شرح فتح المجيد للغنيمان

عبد الله بن محمد الغنيمان

شرح فتح المجيد [1]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [1] التوحيد هو الأمر المطلوب من جميع الخلق، وهو أساس دعوة الرسل، فما من رسول إلا ودعا قومه إلى عبادة الله جل وعلا، ابتداء بنوح عليه السلام وانتهاء بخاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، فمن الناس من أجابهم إلى ذلك ومنهم من أشرك في عبادة الله وتوحيده، وقد توعد الله كل من هذه حاله بالخلود في النار والعياذ بالله.

موضوع كتاب التوحيد

موضوع كتاب التوحيد إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا. أما بعد: فيقول الشيخ الإمام عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب في شرح كتاب التوحيد: [وأما كتابه المذكور فموضوعه في بيان ما بعث الله به رسله من توحيد العبادة، وبيانه بالأدلة من الكتاب والسنة، وذكر ما ينافيه من الشرك الأكبر، أو ينافي كماله الواجب من الشرك الأصغر ونحوه، وما يقرب من ذلك أو يوصل إليه، وقد تصدى لشرحه حفيد المصنف، وهو الشيخ سليمان بن عبد الله رحمه الله تعالى، فوضع عليه شرحاً أجاد فيه وأفاد، وأبرز فيه من البيان ما يجب أن يطلب منه ويراد، وسماه "تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد"، وحيث أطلق شيخ الإسلام فالمراد به أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية، والحافظ فالمراد به أحمد بن حجر العسقلاني]. قال الشارح رحمه الله: [ولما قرأت شرحه رأيته أطنب في مواضع، وفي بعضها تكرار يستغنى بالبعض منه عن الكل، ولم يكمله، فأخذت في تهذيبه وتقريبه وتكميله، وربما أدخلت فيه بعض النقول المستحسنة تتميماً للفائدة، وسميته: "فتح المجيد لشرح كتاب التوحيد"، وأسأل الله أن ينفع به كل طالب علم ومستفيد، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، وموصلاً من سعى فيه إلى جنات النعيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم].

الكلام على البسملة وأحكام الابتداء بها

الكلام على البسملة وأحكام الابتداء بها

الهدي في ابتداء الكلام

الهدي في ابتداء الكلام قال الشارح رحمه الله تعالى: (بسم الله الرحمن الرحيم). ابتدأ كتابه بالبسملة اقتداء بالكتاب العزيز، وعملاً بحديث: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع) أخرجه ابن حبان من طريقين، قال ابن الصلاح: والحديث حسن. ولـ أبي داود وابن ماجة: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله أو بالحمد فهو أقطع)، ولـ أحمد: (كل أمر ذي بال لا يفتتح بذكر الله فهو أبتر أو أقطع)، وللدارقطني عن أبي هريرة مرفوعاً: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بذكر الله فهو أقطع)، والمصنف قد اقتصر في بعض نسخه على البسملة؛ لأنها من أبلغ الثناء والذكر، وللحديث المتقدم، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقتصر عليها في مراسلاته، كما في كتابه لـ هرقل عظيم الروم، ووقع لي نسخة بخطه رحمه الله تعالى بدأ فيها بالبسملة، وثنى بالحمد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وآله. وعلى هذا فالابتداء بالبسملة حقيقي، وبالحمدلة نسبي إضافي، أي: بالنسبة إلى ما بعد الحمد يكون مبدوءاً به]. إن الله جل وعلا خلق العباد لعبادته، وهم ملكه يتصرف فيهم كيف يشاء، فإذا امتثلوا أمره واتبعوا شرعه فإن الله يكرمهم ويثيبهم، ويعطيهم من العطاء الذي لا يتوقعونه، وفوق ما يتصورون، أما إذا عصوا وتمردوا على الله جل وعلا، فلن يفلتوا من الله ولن يعجزوه، فهم في قبضته، وكل شيء ملك له، وهو رب كل شيء، ومالك كل شيء، وبيده كل شيء، وإليه مرجع كل أحد. فالإنسان يجب عليه أن يمتثل أمر الله جل وعلا، وقد أرسل الله جل وعلا الرسل تبين أمره وشرعه للناس، ومن ذلك ما ذكر هنا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بذكر الله فهو أقطع)، ومعنى (أقطع): ناقص غير تام؛ لأنه لم يمتثل فيه أمر الله جل وعلا، فيكون منزوع البركة، ممحوقاً فيما يراد به، فالله أمر العباد أن يستعينوا باسمه تعبداً له في كل شيء، والأمر ذي البال: الأمر الذي يكون له قيمة: (كل أمر ذي بال) يعني: له وقع وقيمة عند الإنسان، ومن هذا القبيل أمر الأكل وأمر النوم ودخول المنزل وغير ذلك، وكلها شرع لنا أن نذكر الله جل وعلا في ابتداء ذلك، وهذا وإن لم يكن واجباً متعيناً على الإنسان فهو مستحب ومندوب إليه، وفيه الفضل والخير، وإذا لم يبارك للإنسان في سعيه وعمله وأكله وشربه، لم يزل في خصاب -نسأل الله العافية-، ومن ذلك ما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر به ويفعله، تعليماً لأمته، وهداية لهم إلى الحق، فكان في فعله الذي هو أسوة للأمة يذكر اسم الله عند كل أمر مستحق مرغوب فيه، وإذا كان الأمر غير مرغوب فيه تعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وهذا معناه داخل في قول الله جل وعلا: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180]، فهو يدخل في هذا المعنى؛ لأن الإنسان إذا قال عند أكله: (باسم الله)، فقد دعا ربه جل وعلا بهذا الاسم الكريم، وطلب نزول البركة وحصول المقصود والمأمول له ببركة هذا الاسم، فهو عبادة يتعبد الله جل وعلا بها، وكذلك إذا أراد دخول المنزل أو دخول المسجد أو النوم أو غير ذلك، وكذلك إذا أراد الذبح مع أن التسمية عليها واجب، فلو تركها الذابح عمداً لصارت ذبيحته ميتة، فهي محرمة لا يجوز الأكل منها؛ فإن الله جل وعلا يقول: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:121]، وعلى هذا يدخل في ذلك من باب أولى كتابة كتب العلم والتأليف، فهو يقول: أفعل ذلك مستعيناً باسم الله وبالله، ذاكراً اسمه الذي به تحصل البركة، وهذا يصدق عليه كل ذكر لله جل وعلا، كقوله: (بسم الله الرحمن الرحيم)، أو (الحمد لله) وما أشبه ذلك، وإذا جمع بينهما فهو أفضل وأتم، وإذا اقتصر على أحدهما كفى، وقد اقتصر البخاري رحمه الله تعالى كتابه الصحيح على البسملة فقط، قال: بسم الله الرحمن الرحيم، كتاب الوحي، باب بدء الوحي، وهذا اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث كان يبدأ كتبه التي يرسلها إلى الملوك وغيرهم بالبسملة فقط، كما ذكر هنا أن هذا في كتابه إلى هرقل، وهرقل هو رئيس دولة الروم في ذلك الوقت، فكل رئيس للروم يسمى هرقل من الكفار، وكل رئيس للفرس من الكفار يسمى قيصر، وكل ملك للحبشة من الكفار يسمى النجاشي، وكل ملك للقبط من الكفار يسمى فرعون، فالمقصود أنه كتب صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، أما بعد: فأسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإن عليك إثمك وإثم الأريسيين {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64]، فهذا نص كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أرسله إليه، ولهذا يقول العلماء: ينبغي أن يقتدى برسول الله فيبدأ المرسل باسمه كما بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم باسمه العلم؛ وذلك لأنه في الدعوة إلى الله وكونه رسول الله، ولهذا وجب على المتشهد الذي يشهد أن لا إله إلا الله، أن يذكر اسمه العلم، "أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله" وكذلك في الصلاة عندما يصلي عليه. فالمقصود أنه اقتصر على البسملة، وهنا المعلق اقتدى بذلك فاقتصر على البسملة، وإذا جاء في بعض النسخ ذكر الحمد، فيكون الابتداء الحقيقي بـ (باسم الله)؛ لأنه يبدأ بها قبل كل شيء، وأما الحمد فهو إضافي، أي: للإضافة إلى الكلام الذي يأتي بعده، وإذا جمع بينهما فهو أولى وأفضل.

تقدير المحذوف المتعلق بالبسملة

تقدير المحذوف المتعلق بالبسملة قال الشارح رحمه الله: [والباء في (باسم الله) متعلقة بمحذوف، اختار كثير من المتأخرين: كونه فعلاً خاصاً متأخراً. أما كونه فعلاً فلأن الأصل في العمل للأفعال. وأما كونه خاصاً فلأن كل مبتدىء بالبسملة في أمر يضمر ما جعل البسملة مبدأً له. وأما كونه متأخراً: فلدلالته على الاختصاص، وأدخل في التعظيم، وأوفق للوجود؛ ولأن أهم ما يبدأ به ذكر الله تعالى. وذكر العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى لحذف العامل فوائد منها: أنه موطن لا ينبغي أن يتقدم فيه غير ذكر الله. ومنها: أن الفعل إذا حذف صح الابتداء بالبسملة في كل عمل وقول وحركة، فكان الحذف أعم. انتهى ملخصاً]. الكلام على كونه متعلقاً بمحذوف أو بفعل أو بمعنى الفعل، هذا لأنه في اللغة العربية لا يجوز إلا كذلك؛ لأن الجار والمجرور قبله لا بد أن يكون له عامل يعمل به، وسواء قدر فعلاً كما قدره الكوفيون، أو قدر اسماً كما قدره البصريون، فكله صحيح، وإذا قدر فعلاً فمعناه: بسم الله أؤلف، أو باسم الله آكل، أو باسم الله أدخل، أو باسم الله أنام، وما أشبه ذلك، ودل على هذا قول الله جل وعلا: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1]، فجعل الجار والمجرور متعلقاً بفعل، وقدم هنا لأن المقام يقتضيه، أما تأخيره فيما ذكر فلأنه ينبغي أن يكون أول ما يطرق اللسان ويواطئ اللسان عليه القلب ذكر الله تعالى فكان أنسب، وأما تقديره اسماً بمعنى الفعل فقد جاء في قول الله جل وعلا: {بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا} [هود:41]، فـ (مجرى): مصدر، ويأتي بمعنى الفعل، فيصح هذا وهذا، والمقصود أن هذا معروف في لغة العرب، وأنه سواء قدر فعلاً أو اسماً فكلاهما صحيح.

دلالة حرف الجر في (باسم الله)

دلالة حرف الجر في (باسم الله) قال الشارح رحمه الله: [وباء (باسم الله) للمصاحبة، وقيل: للاستعانة، فيكون التقدير: باسم الله أؤلف حال كوني مستعيناً بذكره متبركاً به، وأما ظهوره في {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1]، وفي {بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا} [هود:41]؛ فلأن المقام يقتضي ذلك كما لا يخفى، والاسم مشتق من السمو: وهو العلو، وقيل: من الوسم، وهو العلامة؛ لأن كل ما سمي فقد نوه باسمه ووسم]. من دلالات اللغة العربية: أن الاسم هل هو مشتق من السمو وهو الرفعة، أو مشتق من السمة وهي العلامة والوسم الذي يوسم عليه؟ وكلاهما جاءت به الأدلة من اللغة العربية، جاء ما يدل على هذا وهذا، وقد يقال: هما قولان، ويكون كلا القولين تدل عليه الأدلة التي جاءت فيكونان بمعنىً واحد.

معنى لفظ الجلالة وأصل اشتقاقه

معنى لفظ الجلالة وأصل اشتقاقه قال الشارح رحمه الله: [قوله (الله) قال الكسائي والفراء: أصله (الإله)، حذفوا الهمزة وأدغموا اللام في اللام، فصارتا لاماً واحدة مشددة مفخمة. قال ابن القيم رحمه الله: الصحيح أنه مشتق، وأن أصله (الإله)، كما هو قول سيبويه وجمهور أصحابه إلا من شذ، وهو الجامع لمعاني الأسماء الحسنى والصفات العلى]. الاشتقاق هنا ليس معناه أن له مادة متقدمة عليه اشتق منها، كما توهمه بعضهم، وإنما معناه أنه يلاقي المعنى الذي دل عليه، ويكون معناه مثلما جاء عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: (الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين) ذو الألوهية يعني: الذي تألهه القلوب وتعبده وتحبه، وبين سيبويه أن هذا أصله، فأصله (إله)، وأنه مثل الناس، فأصلهم أناس، فأدخلت (أل) على (إله) ثم أدغمت، فأدغمت اللام في اللام ثم فخم فصار (الله)، وهو علم على الذات الإلهية الكريمة المقدسة، تجري عليه جميع الأسماء، وقد قيل: إنه الاسم الأعظم، لأنه في جميع الموارد موارد الأسماء يأتي متبوعاً لا تابعاً، وقد جاء في موضع من القرآن تابعاً، ولكن الغالب الكثير أنه يأتي متبوعاً، كقوله جل وعلا: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} [الحشر:22 - 23]، فصارت كلها تتبع هذا الاسم (الله)، لهذا قالوا: إنه هو اسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب، وإذا استغيث به أغاث، ولكن هذا في الواقع حسب ما يقوم في قلب الإنسان من العبودية والإخلاص والتذلل لله جل وعلا، أما إذا دعا الإنسان وقلبه ساهٍ أو غافل أو معرض، أو هو متلبس بالمعاصي فهذه من موانع الإجابة، وإن سأل بالاسم الأعظم. والمقصود أن أسماء الله جل وعلا أسماء وأوصاف، فهذا معنى الاشتقاق، أنها تكون أسماءً أعلاماً عليه، ولكن في معناها الصفات، والأصل أنها مشتقة من الصفات، والصفات هي الأصل، كما قال سيبويه هنا وجماعة من كبار أهل اللغة كـ الخليل بن أحمد: إن أصله (إله) أو (الإله). وهذا يكون مثلما قالوا في قوله: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} [الكهف:38] يكون أصلها: (لكن أنا هو الله ربي)، فلما حصل الإدغام -إدغام الحرف في الحرف- صار: (لكنَّا هو الله ربي)، وكما مثلنا في قول سيبويه: إن (الناس) أصله (أناس)، فلما جاءت (أل) التقى ساكنان فحذفت الهمزة وأدغم واحد في الآخر فصار (الناس)، فكذلك (الله)، فهو مأخوذ من (الإله) الذي يؤله، وتألهه القلوب وتحبه وتئوب إليه رغبة ورهبة وخوفاً ورجاءً. قال الشارح رحمه الله: [والذين قالوا بالاشتقاق إنما أرادوا أنه دال على صفة له تعالى، وهي الإلهية، كسائر أسمائه الحسنى كالعليم، والقدير، والسميع، والبصير ونحو ذلك، فإن هذه الأسماء مشتقة من مصادرها بلا ريب وهي قديمة، ونحن لا نعني بالاشتقاق إلا أنها ملاقية لمصادرها في اللفظ والمعنى، لا أنها متولدة منه تولد الفرع من أصله. وتسمية النحاة للمصدر والمشتق منه أصلاً وفرعاً، ليس معناه: أن أحدهما متولد من الآخر، وإنما هو باعتبار أن أحدهما يتضمن الآخر وزيادة]. يعني أن المصدر يتضمن ما اشتق منه وزيادة، بخلاف الفعل فإنه لا يتضمن ذلك، وهذا سبب الذي جعلوه مشتقاً، وهذا من مباحث النحو. قال الشارح رحمه الله: [قال أبو جعفر بن جرير: (الله) أصله (الإله)، أسقطت الهمزة التي هي فاء الاسم، فالتقت اللام التي هي عين الاسم، واللام الزائدة وهي ساكنة، فأدغمت في الأخرى، فصارتا في اللفظ لاماً واحدة مشددة، وأما تأويل (الله) فإنه على معنى ما روي لنا عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه، قال: (هو الذي يألهه كل شيء، ويعبده كل خلق)، وساق بسنده عن الضحاك عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه، قال: (الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين)]. معنى قول ابن عباس هذا: (الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين) أنه المستحق أن يؤله ويعبد من جميع الخلق، يعني أن هذا أمر واجب عليهم حتم، فإن تركوه عذبوا؛ لأنهم تركوا الألوهية التي تجب عليهم له أن يعبدوه ويتألهوه، والتأله هو محبة القلب، أن يحبه حب عبادة، يقال: أله يألهه، أي: أنه أحبه حباً يتضمن الذل والتعظيم، هذا هو التأله، وهذا لا يجوز أن يكون إلا لله جل وعلا، ولا يجوز أن يكون لمخلوق من الخلق، فإن وقع لمخلوق فقد وقع الشرك؛ لأن هذا خالص حق الله جل وعلا، أما العبودية فهي بمعنى الإلهية، ولا يوجد بينهما فرق، فالعبودية والألهية شيء واحد مثل التأله والتعبد لا فرق بينهما. قال الشارح رحمه الله: [فإن قال لنا قائل: وما دل على أن الألوهية هي العبادة، وأن الإله هو المعبود، وأن له أصلاً في فعِل ويفْعَل قيل: لا تمانع بين العرب في الحكم، وذكر بيت رؤبة بن العجاج: لله در الغانيات المده سبحن واسترجعن من تألهي يعني من تعبدي وطلبي الله بعملي، ولا شك أن التأله التفعل، من (أله يأله)، وأن معنى أله -إذا نطق به- عبَدَ الله]. ومجرد النطق لا يكفي، وإنما عول عليه هذا الشيء لهذا المعنى، أي: للعبادة. قال الشارح رحمه الله: [وقد جاء منه مصدر يدل على أن العرب قد نطقت منه بـ (فعِل يفعَل)، بغير زيادة، وذلك ما حدثنا به سفيان بن وكيع وساق السند إلى ابن عباس رضي الله عنه أنه قرأ: {وَيَذَرَكَ وَإلِهَتَكَ} [الأعراف:127]، قال: عبادتك ويقول: إنه كان يُعبد ولا يَعبد]. هذه قراءة شاذة (ويذرك وإلهتك) يعني: عبادتك التي تعبد؛ لأنه قد كان يُعبد فرعون، أي أن: موسى يذرك وعبادتك التي جعلتها على قومه، فإنه قال لهم: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، فهو كان يُعبد. أما القراءة المعروفة السبعية فهي: (ويذرك وآلهتْك)، أي: التي تعبدها، فعلى هذه يكون فرعون له آلهة يعبدها غير الله جل وعلا، أما القراءة الأولى فيكون هو المألوه الذي يؤله، والمقصود أن هذا جاء على أن العرب قد نطقوا به، والقراءة الشاذة تكون دليلاً وإن لم تجز القراءة بها ولا تثبت قراءة في الصلاة، فلا يجوز القراءة بها ولا تكون من القرآن حتى تتواتر وتتفق مع رسم المصحف وتشهد لها اللغة العربية، فلا بد من هذه الشروط الثلاثة: أن يثبت التواتر، وتتفق مع رسم المصحف العثماني، وتكون صحيحة المعنى في اللغة العربية، وإذا تخلف واحد من هذه الشروط الثلاثة لا يجوز أن تثبت قراءة، ولكن يستدل بها وتكون دليلاً كأخبار الآحاد التي يرويها فرد عن فرد من الناس. [وذكر مثله عن مجاهد ثم قال: فقد بين قول ابن عباس ومجاهد هذا أن أله: (عَبَد)، وأن الإلهة مصدره، وساق حديثاً عن أبى سعيد مرفوعاً أن عيسى أسلمته أمه إلى الكتاب ليعلمه، فقال له المعلم: اكتب (باسم الله) فقال عيسى: أتدري ما الله؟ الله إله الآلهة]. هذا حديث لا يثبت فهو ضعيف، فلا يصلح أن يكون حجة، وعيسى نبي كريم علمه الله جل وعلا وهو صبي كما جاء نص القرآن بذلك، ثم جاءت به أمه تحمله إلى قومها وهو رضيع صبي: {قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} [مريم:27 - 29]، يعني: قالت: كلموه، {قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} [مريم:29]، فأقبل عليهم وقال: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} [مريم:30] أي: من ذلك الوقت، {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ} [مريم:31]، فأول ما نطق به قوله: (إني عبد الله) يعني: أعبده، وهذا رد له لما فعلوه ولما سيكون بعد؛ لأنهم قالوا: إنه الله أو إنه ابن الله أو إنه ثالث ثلاثة، تعالى الله وتقدس عن قولهم، والمقصود أن هذا الحديث لا يثبت ولا يصلح أن يكون دليلاً.

خصائص اسم الله المعنوية

خصائص اسم الله المعنوية قال الشارح رحمه الله: [قال العلامة ابن القيم رحمه الله: لهذا الاسم الشريف عشر خصائص لفظية ساقها ثم قال: وأما خصائصه المعنوية فقد قال أعلم الخلق به صلى الله عليه وسلم: (لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك)، وكيف نحصي خصائص اسم لمسماه كل كمال على الإطلاق، وكل مدح وحمد، وكل ثناء، وكل مجد، وكل جلال وكل كمال، وكل عز وكل جمال، وكل خير وإحسان وجود وفضل وبر فله ومنه. فما ذكر هذا الاسم في قليل إلا كثره، ولا عند خوف إلا أزاله، ولا عند كرب إلا كشفه، ولا عند هم وغم إلا فرجه، ولا عند ضيق إلا وسعه، ولا تعلق به ضعيف إلا أفاده القوة، ولا ذليل إلا أناله العز، ولا فقير إلا أصاره غنياً، ولا مستوحش إلا آنسه، ولا مغلوب إلا أيده ونصره، ولا مضطر إلا كشف ضره، ولا شريدٍ إلا آواه. فهو الاسم الذي تكشف به الكربات، وتستنزل به البركات، وتجاب به الدعوات، وتقال به العثرات، وتستدفع به السيئات، وتستجلب به الحسنات، وهو الاسم الذي قامت به الأرض والسماوات، وبه أنزلت الكتب، وبه أرسلت الرسل، وبه شرعت الشرائع، وبه قامت الحدود، وبه شرع الجهاد، وبه انقسمت الخليقة إلى السعداء والأشقياء، وبه حقت الحاقة ووقعت الواقعة، وبه وضعت الموازين القسط، ونصب الصراط، وقام سوق الجنة والنار، وبه عبد رب العالمين وحمد، وبحقه بعثت الرسل، وعنه السؤال في القبر ويوم البعث والنشور، وبه الخصام، وإليه المحاكمة، وفيه الموالاة والمعاداة، وبه سَعِد من عرفه وقام بحقه، وبه شقي من جهله وترك حقه، فهو سر الخلق والأمر، وبه قاما وثبتا، وإليه انتهيا. فالخلق به وإليه ولأجله، فما وجد خلق ولا أمر، ولا ثواب ولا عقاب إلا مبتدئاً منه ومنتهياً إليه، وذلك موجبه ومقتضاه: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191] إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى]. ذكر هنا: المعاني التي دل عليها هذا الاسم، ومن المعلوم أن البحث في أسماء الله وطلب معانيها من أعظم ما ينبغي أن يعتني به الإنسان، وهو الفقه الأكبر في الواقع، ليس قريباً من فقه الأحكام وأفعال المكلفين، بل هو أعظم من ذلك بكثير، والناس يتفاوتون عند الله جل وعلا بالدرجات بفقههم، ويتميزون بمعرفتهم لأسماء الله وأوصافه وعبادة الله جل وعلا وطاعته، وهذا الاسم -الذي هو الله- دل على العبادة، والعبادة خلق من أجلها الناس، كما قال الله جل وعلا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، وأرسلت بها الرسل، كما ذكر الله جل وعلا في القرآن أن كل نبي يقول لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]، قال ذلك نوح، وقاله هود، وقاله صالح، وقاله إبراهيم عليه السلام، وقاله لوط، وقاله شعيب، وقاله موسى وعيسى، وقاله أيضاً خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: (لا إله إلا الله)، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله)، وهذا معنى كلام ابن القيم، يعني أنه دل على هذه العبادة -عبادة الله جل وعلا- الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين، والعبادة وعدمها خلقت لأجلها الجنة والنار، وكذلك شرع الجهاد، جهاد الكفار، حتى تعلو كلمة الله، فهذا معنى هذا الاسم، حتى يكون عالياً على الأديان، وحتى ترفع درجات من يقاتل في سبيل الله ويقتل من أجل ذلك، وحتى يهلك من هلك، وعلى ذلك يكون الحساب يوم القيامة، وعليه يبعث الناس، وعنه يسأل المقبور في القبر، فإذا وضع في قبره أتاه ملكان يسألانه، أول ما يقولان له: من كنت تعبد؟ من ربك؟ ومعنى (من ربك) هنا: من المعبود من الذي تعبده؟ فإن أجاب وثبت عن اقتناع وإلا عذب في قبره، وكذلك الله جل وعلا أخبر عنه خلق السماوات والأرض بالحق، والحق الذي أخبر أنه هو كون العبادة له وحده، والملك له وحده، والسلطان له، وهو الذي يتصرف في كل شيء، وكل هذا تابع لكونه الإله جل وعلا، كما سيأتي أن أنواع التوحيد متلازمة، يلزم من الإتيان بواحد منها الإتيان بالبقية، فهذا معنى كلام ابن القيم رحمه الله.

اسما (الرحمن الرحيم) وما لهما من خصائص

اسما (الرحمن الرحيم) وما لهما من خصائص قال الشارح رحمه الله: [قوله: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3]، قال ابن جرير: حدثني السري بن يحيى قال: حدثنا عثمان بن زفر، قال: سمعت العرزمي يقول: الرحمن بجميع الخلق، والرحيم بالمؤمنين. وساق بسنده عن أبى سعيد -يعني: الخدري - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن عيسى ابن مريم قال: الرحمن: رحمن الآخرة والدنيا، والرحيم: رحيم الآخرة)]. هذا هو الحديث السابق وقلنا: إنه ضعيف، بل قالوا: إنه موضوع، فهذا الحديث لا يصلح أن يكون دليلاً، فقول ابن جرير رحمه الله فيما رواه: (الرحمن بجميع الخلق والرحيم بالمؤمنين). هذا روي عن بعض السلف، فيكون الفرق بينهما أن الرحيم أخص، والرحمن أعم، فالرحمن رحمة واسعة تعم الخلق كلهم، والرحيم يكون خاصاً ويختص بالمؤمنين، ولهذا جاء أنه كان بالمؤمنين رحيماً، وما جاء أنه بالمؤمنين رحمن، ولكن يشكل على هذا قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحج:65]، فالناس لفظ مطلق يعم جميع الخلق كافرهم ومؤمنهم، فيكون هذا مخالفاً لما سبق، والصواب في هذا أن (الرحمن والرحيم) كلاهما اسمان ووصفان لله جل وعلا، ولكن الرحمن أكثر معنىً للمبالغة ولزيادة البناء؛ فإن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى في اللغة العربية، و (الرحمن) يدل على تعلق الصفة بالرب جل وعلا، و (الرحيم) يدل على قيام الصفة للمرحوم، فـ (الرحمن) يدل على وصفه القائم بذاته جل وعلا، و (الرحيم) يدل على وصفه الذي يفعله، فهذا هو الفرق بينهما الذي لا يشكل عليه ما ذكر، وقد قال بهذا طوائف من العلماء، هذا والله أعلم بالصواب في ذلك؛ لأنه إذا قيل: إنهما اسمان رقيقان كما جاء عن ابن عباس، وجعل لكل واحد معنى الآخر يكون في ذلك تكرار، وليس في كلام الله وفي أسمائه تكرار جل وعلا، بل لكل واحد منهما معنى يخصه.

استحباب أن يدعى الله بالأسماء الدالة على المعاني المطلوبة

استحباب أن يدعى الله بالأسماء الدالة على المعاني المطلوبة قال الشارح رحمه الله: [قال ابن القيم رحمة الله تعالى عليه: واسمه (الله) تعالى دل على كونه مألوهاً معبوداً يألهه الخلائق محبة وتعظيماً وخضوعاً، ومفزعاً إليه في الحوائج والنوائب، وذلك مستلزم لكمال ربوبيته ورحمته، المتضمنتين لكمال الملك والحمد، وإلهيته وربوبيته ورحمانيته وملكه مستلزم لجميع صفات كماله؛ إذ يستحيل ثبوت ذلك لمن ليس بحي، ولا سميع، ولا بصير، ولا قادر، ولا متكلم، ولا فعال لما يريد، ولا حكيم في أقواله وأفعاله. فصفات الجلال والجمال أخص باسم (الله)، وصفات الفعل والقدرة والتفرد بالضر والنفع والعطاء والمنع، ونفوذ المشيئة، وكمال القوة، وتدبير أمر الخليقة أخص باسم (الرب). وصفات الإحسان، والجود والبر والحنان والمنة والرأفة واللطف أخص باسم (الرحمن)]. هذه من معاني أسماء الله جل وعلا، فالتأله والعبادة والدوام على ذلك تختص باسم (الله) جل وعلا؛ لأنه مأخوذ من (الإله)، والملك والتصرف والعذاب والانتقام والرزق والإحياء والإماتة وجميع الأفعال تختص باسم (الرب) جل وعلا؛ لأن معنى الرب: المالك والمتصرف، والعطاء والإحسان والعفو عن الإساءة ونحو ذلك من الكرم والجود أخص به اسم (الرحمن) و (الرحيم)، فأسماء الله جل وعلا كل اسم له معانٍ تخصه، ويجب أن يدعى الله به، وإذا طلبت منه تلك المعاني يدعى الله بهذا الاسم الدال عليها، ولا ينبغي أن يدعى بشيء لا يناسب المعنى، فإذا طلب التوبة قال: يا تواب، وإذا طلب الرزق يقول: يا رزاق! وإذا طلب المغفرة يا غفور! وهكذا، وهذا من معنى قوله جل وعلا: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180]، وأسماء الله جل وعلا كلها حسنى، ومعنى كونها حسنى أنها قد بلغت غاية الحسن، أي أنها كاملة لا يتطرق إليها نقص ولا عيب في المعاني، بخلاف أسماء المخلوقين فإنها وضعت أعلاماً تميز واحداً عن الثاني فقط، وليس لها من المعاني شيء، ولهذا ضل من قال: إن أسماء الله أعلام عليه، ولم يعرف الله جل وعلا حق المعرفة التي تجب عليه. قال الشارح رحمه الله: [وقال - ابن القيم رحمه الله- أيضاً: الرحمن دال على الصفة القائمة به سبحانه، والرحيم دال على تعلقها بالمرحوم. وإذا أردت فهم هذا فتأمل قوله تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43]، {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:117]، ولم يجيء قط رحمان بهم]. وقد جاء في الحديث: (رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما)، وهذا يناقض ذلك، وكلاهما يدل على صفة تقوم بالله جل وعلا، ولكن هذا يدل على صفة الذات، وهذا يدل على صفة الفعل والعلم لله جل وعلا.

أسماء الله هي أسماء ونعوت دالة على صفات الكمال

أسماء الله هي أسماء ونعوت دالة على صفات الكمال [إن أسماء الرب تعالى هي أسماء ونعوت؛ فإنها دالة على صفات كماله، فلا تنافي فيها بين العلمية والوصفية، فالرحمن اسمه تعالى ووصفه، فمن حيث هو صفة جرى تابعاً لاسم الله، ومن حيث هو اسم ورد في القرآن غير تابع، بل ورود الاسم العلم، كقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، انتهى ملخصاً]. يعني أنه ورد اسم الرحمن وجاء مستقلاً متبوعاً علماً، كقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، وأيضاً جاء تابعاً كما في آية سورة الحشر، بل قد جاء اسم (الله) في قراءة تابعاً، في قوله: {صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اللَّهِ الَّذِي} [إبراهيم:1 - 2]، فيكون على هذه القراءة تابعا، أما على قراءة الرفع فلا يكون تابعاً، وإنما يكون مستقلاً، ولا يكون في هذا إشكال.

الحديث عن الحمد والثناء

الحديث عن الحمد والثناء

الحمد والشكر والعلاقة بينهما

الحمد والشكر والعلاقة بينهما قال الشارح رحمه الله: [قال المصنف رحمه الله تعالى: (الحمد لله). معناه: الثناء بالكلام على الجميل الاختياري على وجه التعظيم، فمورده اللسان والقلب. والشكر يكون باللسان والجنان والأركان، فهو أعم من الحمد متعلقاً وأخص منه سبباً؛ لأنه يكون في مقابلة النعمة، والحمد أعم سبباً وأخص متعلقاً؛ لأنه يكون في مقابلة النعمة وغيرها، فبينهما عموم وخصوص وجهي، يجتمعان في مادة وينفرد كل واحد عن الآخر في مادة]. معنى ذلك أن الشكر يكون متعلقه عاماً، ولكن سببه خاص؛ لأنه يكون مقابلاً للنعمة فقط، و (متعلقه) يعني أنه يتعلق باللسان وبالجوارح، فيتعلق باللسان بالقول والثناء، ويتعلق بالجوارح بالعمل، كما قال الله جل وعلا: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} [سبأ:13]، فجعل العمل شكراً، فيكون الذي يصدر منه الشكر أعم، أما سببه الباعث عليه فيكون أخص من الحمد، والحمد يكون أعم سبباً، فسببه عام ومتعلقه أيضاً أخص، وذلك أن الله جل وعلا يحمد على كل شيء، فيحمد على جميع أفعاله، ويحمد على خلقه، ويحمد على جزائه، ويحمد على فعله، ولهذا أخبر جل وعلا أن له الحمد في المبدأ وفي المنتهى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:1]، هذا في المبدأ، أما المنتهى فإنه جل وعلا لما ذكر جزاءه للكفار والأنبياء وحكمه بين الأنبياء والشهداء والمؤمنين والكفار، وأنه أدخلهم النار وأدخل المؤمنين الجنة فقال: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا} [الزمر:71]، إلى آخر الآيات، ذكر في خاتمة ذلك قوله تعالى: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر:75]، فقوله: (وقيل) يدل على العموم المطلق، فجميع الخلق قالوا هذا القول، حتى أهل النار حمدوه على قضائه بينهم؛ لأنهم لا يستحقون إلا ذلك، ولا يليق بهم إلا ذلك، فهو يحمد على جميع ما يفعله، يحمد على فعله سواء أكان قضاء، أم كان عقاباً، أم كان إثابة وجزاء، أم كان خلقاً وإيجاداً، أم كان حكماً، أم كان شرعاً أم غير ذلك يحمد عليه، فهذا معنى قوله: إنه أعم سبباً، فأسبابه عامة؛ لأن كل ما يصدر من الله جل وعلا يحمد عليه.

الحمد والمدح والعلاقة بينهما

الحمد والمدح والعلاقة بينهما يبقى الفرق بين الحمد وبين المدح، فالمدح يكون في ذكر الصفة التي يستحق عليها الثناء، ولكن لا يلزم أن يكون الحب والتعظيم في المدح، أما الحمد فلا بد أن يكون فيه ذلك، محبة مع تعظيم، ولهذا جاء في الأثر حديث: (أعوذ بك من أن يكون لفاجر علي منة فيوده قلبي)؛ لأن المنة يحمد عليها، والحمد يكون إذا ذكر الوصف الذي هو فعل الجميل الاختياري فإنه يتضمن الحب والتعظيم، ثم الحمد يكون على الفعل الذي يفعله مختاراً، أما المدح فيكون على ذلك وعلى غيره، أي: على الشيء الذي لا دخل له فيه وهو من فعل غيره.

أحكام الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

أحكام الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم قال المصنف رحمه الله تعالى: [وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم] قال الشارح رحمه الله: [أصح ما قيل في معنى صلاة الله على عبده ما ذكره البخاري رحمه الله تعالى عن أبى العالية قال: صلاة الله على عبده ثناؤه عليه عند الملائكة. وقرره ابن القيم رحمه الله ونصره في كتابيه (جلاء الأفهام) و (بدائع الفوائد)]. الثناء قد قيل: إنه صلاة الله، أما صلاة الخلق فمعلوم أنها الدعاء، قال تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103] يعني: ادع لهم، فالصلاة من الخلق الدعاء، أن يدعى الله جل وعلا لهم بالخير والمغفرة أو الهداية، وكان صلى الله عليه وسلم إذا أتاه آت بزكاته صلى عليه، قال عبد الله بن أبي أوفى جاء أبي بالزكاة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (اللهم صل على آل أبي أوفى)، فقوله: (اللهم صل) دخل فيه أمر الله جل وعلا بأن يصلي عليهم، وبأن يسأل الله له أن يصلي عليه، فالمقصود: أنها من العبد السؤال والدعاء، فالرسول صلى الله عليه وسلم يسأل الله أن يصلي على آل أبي أوفى، وكذلك صلاته على الميت تسأل الله أن يغفر له، وكذلك غيره من الخلق. وكذلك من الملائكة، فهم قد أخبر الله جل وعلا عنهم أنهم يقولون: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر:7] إلى آخر الدعاء الذي جاء عنهم، وغير ذلك. وأما الصلاة من الله فلا يجوز أن نقول فيها: الصلاة من الله الدعاء فالله لا يدعو لأحد، فقال قوم: الصلاة من الله الرحمة، ولكن الله جل وعلا فرق بين الصلاة والرحمة، كقوله جل وعلا: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة:156 - 157]، فجعل الرحمة غير الصلاة، مما يدل على أنها غيرها، فكان الأولى بل الصواب والأصح أن يقال: إن صلاة الله على عباده هي ثناؤه عليهم في الملأ الأعلى، أن يثني على عبده عند الملائكة، وإذا أثنى الله جل وعلا على أحد فحسبه ذلك؛ لأنه امتثل أمر ربه وأرضى ربه، فيكون كل شيء راضياً عنه، وكل عباد الله يدعون له، ويسألون له، ويطلبون محبته وموالاته، فهذا من أفضل الأعمال وأعظم الخصائص التي يخص بها ربنا جل وعلا من يشاء من عباده، فإذا قال الإنسان: (اللهم صل على محمد) فمعناه: اذكره مثنياً عليه عند أخص خلقك الذين هم ملائكتك، وهذا يكون أخص من الرحمة، والآية -مثلما قلنا-: دلت على أن الصلاة غير الرحمة. [قلت: وقد يراد بها الدعاء، كما في المسند عن علي مرفوعاً: (الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه)]. وهذا ليس فيه إشكال؛ لأن هذا من المخلوقين، ولكن الإشكال في الصلاة من الله، هل يقال: الصلاة من الله الرحمة أم الدعاء؟ هذا محل إشكال، والصلاة هي الدعاء من جميع الخلق ملائكة، وأنبياء، ومن المؤمنين، والأصل في الصلاة الدعاء، فالصلاة الشرعية التي تفتتح بالتكبير وتختتم بالتسليم وتشتمل على القراءة والركوع والسجود وغير ذلك أصلها مأخوذة من الدعاء، فهذا هو أصلها.

المراد بالآل في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

المراد بالآل في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم قال الشارح رحمه الله: [قوله: (وعلى آله) أي: أتباعه على دينه، نص عليه الإمام أحمد رحمه الله هنا]. هذا هو أرجح أقوال السلف والعلماء، أن آل النبي صلى الله عليه وسلم هم أتباعه على دينه؛ لأنه جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح مسلم وغيره- أنه قال: (ألا إن بني فلان ليسوا لي بآل) وسمى أناساً معينين من الأقرباء نسباً، فمعنى ذلك أنه لما لم يكونوا من أتباعه أخبر صلى الله عليه وسلم أنهم ليسوا له بآل، فكذلك جاء أن أتباعه على دينه هم آله بنص ورد عنه صلى الله عليه وسلم، وهذا لا ينافي كون آله هم الذين حرمت عليهم الصدقة، أو هم أزواجه، وأزواجه يدخلن في ذلك من باب أولى، ولا ينافي ذلك، ولكن هذا عند الصلاة والدعاء يكون عاماً شاملاً.

شرح فتح المجيد [2]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [2] توحيد الألوهية هو أحد نوعي التوحيد، ويعرف بتوحيد القصد والنية والإرادة، وهو الذي طلبه الله عز وجل من الإنسان، ولهذا فهو يسمى توحيد العبادة، أما النوع الثاني من التوحيد فهو توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، وهذا التوحيد يعرف بتوحيد المعرفة والإثبات.

التوحيد وأقسامه

التوحيد وأقسامه قال المصنف رحمه الله: [كتاب التوحيد. كتاب: مصدر: (كتب يكتب كتاباً وكتابة وكتْباً)، ومدار المادة على الجمع، ومنه: تكتب بنو فلان إذا اجتمعوا، والكتيبة لجماعة الخيل، والكتابة بالقلم لاجتماع الكلمات والحروف، وسمي الكتاب كتاباً لجمعه ما وضع له. والتوحيد نوعان: توحيد في المعرفة والإثبات، وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات، وتوحيد في الطلب والقصد، وهو توحيد الإلهية والعبادة]. ذكر المصادر التي أخذ منها الكتاب، وهذا من باب اللغة، والأصل هو أصل الكلمات، وأخذها أمر معلوم، قال: (كتاب التوحيد) والتوحيد معناه: أن يوحد الله جل وعلا، فيعتقد وحدانيته في كل ما يلزم له، وسمي دين الإسلام توحيداً لأن مبناه على هذا، والتوحيد أقسام ثلاثة، وإن شئت قلت: قسمان: توحيد في العلم والمعرفة، وتوحيد في القصد والإرادة فمعنى التوحيد في العلم والمعرفة: أن توحد الله جل وعلا في إثبات ما له من الصفات وأن توحده في ربوبيته، فهذا كله يدخل في المعرفة والعلم. والقسم الثاني: توحيد القصد والنية والإرادة فهو الذي يصدر من الإنسان، وهو المطلوب الذي طلبه الله جل وعلا منه، ولهذا سمي توحيد العبادة، وسمي توحيد الإلهية، وسمي توحيد النية والقصد والإرادة؛ لأنه مبني على كون هذه الأمور خالصة لله جل وعلا. القسم الأول قسم إلى قسمين: توحيد في الربوبية، وتوحيد في الأسماء والصفات، أما توحيد الربوبية فمعناه: أن يعتقد الإنسان جازماً بأن الله واحد في ملكه، وواحد في تدبيره، لا شريك له في ذلك، وواحد في كونه يختص بالإحياء والإماتة، وكونه يملك كل شيء، وبيده كل شيء، وكونه الرازق لكل أحد، وكونه الذي يدبر أمر الكون كله، وكونه جل وعلا على كل شيء قدير. وأما توحيد الأسماء والصفات فأن يعتقد جازماً بأن ما سمى الله جل وعلا به نفسه أو سماه به رسوله صلى الله عليه وسلم يختص به، لا يشاركه فيه أحد من خلقه، فهو بكل شيء عليم، وعلمه أزلي لم يستحدث ولا يستجد، ولم يكن له مبدأ، وهو كذلك سميع بصير: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} [الحشر:23]، {هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [الحشر:22]، الرءوف الرحيم، وكل ما سمى به نفسه يجب أن نعتقد تفرده به بالمعنى الذي يختص به جل وعلا، ونوحده في ذلك، فيكون واحداً في هذا.

مشركو قريش وإقرارهم بتوحيد الربوبية وبعض الأسماء والصفات

مشركو قريش وإقرارهم بتوحيد الربوبية وبعض الأسماء والصفات وهذان القسمان -توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات- ما كان أحد من الخلق ينكرهما إلا مكابر ومعاند، بل الكفار الذين هم جاهلون وبعث الرسول صلى الله عليه وسلم لدعوتهم كانوا يقرون بهذا، وإذا أنكر شيء من ذلك فهو من باب المعاندة والجحود، كما أنكروا اسم الرحمن عناداً وتكبراً، كقوله جل وعلا: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد:30]، وذلك أنهم أنكروا هذا الاسم اتباعاً لآبائهم وما كانت طريقتهم عليه في كتاباتهم، فلما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالكتابة بينه وبينهم يوم الحديبية قال للكاتب: (اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم) قالوا: لا. اكتب كما كنا نكتب: (باسمك اللهم)، أما الرحمن فما نعرفه، فأنزل الله جل وعلا: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد:30]، وهذا عناد وتكبر، وإلا فقد جاء في أشعارهم -من أشعار الجاهلية- إثبات ذلك. وكذلك توحيد الربوبية فأمره ظاهر جداً في كونهم يعرفون هذا، ويؤمنون به ويقرون به، وقد ذكر الله جل وعلا في القرآن آيات كثيرة تدل على هذا، بل جعل هذا جل وعلا دليلاً على وجوب توحيد الإلهية، وألزمهم بهذا، كما قال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة:21]، يعرفون أن الله هو الذي خلقهم، وخلق من قبلهم، ولهذا قال في آخر الآية: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22] يعني: يعلمون أن الله هو الذي خلقهم وخلق من قبلهم، وهو الذي جعل السماء بناء، والأرض فراشاً، وهو الذي أنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقاً لهم، يأكلون منه وتأكل منه أنعامهم، يعلمون هذا تماماً ويقرون به، وأنه لا أحد يشارك الله جل وعلا في ذلك، ولهذا قال: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22] يعني: لا تدعوا معه أحداً في العبادة في دعوتكم، وفي العبادة التي تصدر منكم، وفي التأله في القصد والإرادة، وفي النية، لا تجعلوا له نداً في ذلك وأنتم تعلمون أنه المتفرد بما ذكر. وكذلك ورد في آيات كثيرة: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت:63]، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87]، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9]، {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ} [الزمر:38]، يعلمون أن هذه التي يدعونها ما تملك مع الله شيئاً، ولا تنفع ولا تضر، وإنما يقولون: إننا نتوسل بها للتشفع، ويجعلونها وساطة بينهم وبين ربهم، ويقولون: تتوسط لنا فتسأل لنا ربنا، وكانوا يقولون في تلبيتهم: (لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك) وهم يحجون، وكانوا يخلصون في بعض العبادات مثل الحج والصدقة، يخلصونها لله، وأحياناً الدعاء إذا وقعوا في الضر والشدائد، قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت:65]، يعني: إذا ركبوا في البحر وعصفت بهم العواصف تركوا ما كانوا يعبدون واتجهوا إلى عبادة الله وحده، وإذا كانت معهم أصنام رموها في البحر، وقالوا: إنها لا تنفع، ولا يصلح أن ندعوها في مثل هذا المقام، ولكن إذا جاء الرخاء ونجاهم الله جل وعلا عادوا إلى شركهم اقتداء بآبائهم واتباعا لهم. بل قد جاء أنهم يؤمنون بالحساب، ويؤمنون بالقدر أيضاً، كما قال عنترة في معلقته وهو جاهلي: يا عبل! أين من المنية مهرب إن كان ربي في السماء قضاها جاهلي يؤمن بالقضاء والقدر، وكذلك زهير بن أبي سلمى يقول في قصيدته المشهورة: فلا تكتمن الله ما في صدوركم فمهما يكتم الله يعلم يؤخر فيوضع في كتاب سيدخر ليوم الحساب أو يعجل فينقم فهو يؤمن بالحساب، ويؤمن بأن الله يعلم، وبأن الله يدخر الأعمال، وهكذا جاء في أشعارهم كثيراً من هذا.

الشرك هو الذي أحل دماء المشركين

الشرك هو الذي أحل دماء المشركين فإذا كان الأمر هكذا فما الذي جعلهم خالدين في النار؟ وما الذي جعلهم حلال دمهم وأموالهم ونساؤهم؟ لماذا وهم يؤمنون بهذا؟ يؤمنون بأن الله هو المتفرد بالخلق، وأنه يعلم ما في الصدور، وأنه يجازي العباد على أعمالهم، وأنه هو الذي قضى الأشياء، وهو الذي يحيي ويميت، وهو الذي يتصرف في الكون وحده، ليس معه شريك. نقول: الذي أحل دماءهم، وجعلهم في النار هو كونهم جعلوا وسائط بينهم وبين ربهم يدعونها، ويطلبون منها أن تقربهم إلى الله زلفى، كما قال الله جل وعلا: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ} [الزمر:43] يعني: تتخذونهم وهم لا يملكون شيئاً ولا يعقلون، وتجعلونهم شفعاء لكم؟! {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر:44]، وكذلك في آيات كثيرة جداً، والواجب على الإنسان أن يتدبر كتاب الله، وأن يتدبر سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع هؤلاء، وأن يعرف حكم الله في ذلك، وأن يعرف ما أوجبه الله عليه حتى يخلص من عذاب الله جل وعلا، والله خلق الخلق لهذا الأمر، خلق الجنة والنار لتكون الجنة جزاءً لمن وحد الله وآمن به واتبع أوامره واجتنب نواهيه، وخلق النار لتكون عقاباً لمن لم يفعل ذلك، واتبع هواه، وترك أمر الله وراءه ظهرياً ولم يبال به. ثم إن الإنسان خلق عبداً فلا بد أن يكون عبداً، لا بد أن يعبد، ولا يمكن أن ينفك عن العبادة، فإن لم يعبد ربه ويتبع الطريقة التي رسمها له الرسول صلى الله عليه وسلم عبد هواه أو شهوته أو رؤساءه أو المظاهر الأخرى من مظاهر الدنيا، فلا بد أن يعبد، وقد قال الله جل وعلا: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:23] (اتخذ إلهه هواه) يعني أنه إذا هوي شيئاً فعله بدون مبالاة وبدون نظر إلى أن الله أمر به أو نهى عنه، بل يقدمه على أمر الله ولا يبالي، وكذلك أخبر الله جل وعلا أن أكثر الناس عبدوا الشيطان، فهل هم يصلون للشيطان ويسجدون له؟ كلا. ولكنهم اتبعوه فيما سول لهم وزينه لهم، يقول جل وعلا: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس:60]، وقال جل وعلا: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ} [سبأ:20]، فإبليس ظن لما رأى آدم أن ذريته لا تطيع ربه جل وعلا، إنما يطيعه القليل منهم، فصار يجتهد في دعوتهم إلى أن يكونوا معه في جنهم، وللأسف أكثرهم اتبعه، وهو ليس له سلطان عليهم، وليس له حجةً، بل مجرد تسويل ودعوة فقط، لهذا أخبر الله جل وعلا أنه إذا حكم بينهم ووضعهم في جنهم جميعاً هم ورئيسهم ومعبودهم الشيطان يقوم الشيطان خطيباً في جهنم فيقول لما حكى الله تعالى عنه: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [إبراهيم:22] أي: ما لي عليكم حجة ولا قوة ولا برهان: {إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم:22] يعني: مجرد دعوة عارية من الحجة ومن البرهان والقوة والسلطان {فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ} [إبراهيم:22] يعني: ما أنا بمغيثكم ولا بمغني عنكم شيئاً، {وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم:22] كذلك لا تغنون عني شيئاً: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم:22] يعني: كفرت بطاعتكم وتبرأت منها، هكذا يقول لهم وبذلك تزداد حسراتهم ويزداد عذابهم، ولهذا أخبر أن المنافق مثله مثل الشيطان، فالمنافق الذي يعد الآخر وعوداً لا يفي بها ثم يتبرأ منه في آخر لحظة مثله مثل الشيطان، قال تعالى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر:16]، ما يخاف الله رب العالمين، ولكن ليس بيده شيء. فالمقصود أن الأمر واضح جلي، فتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات أمر ظاهر، ومع ذلك إذا أقر به الإنسان وآمن به لا ينفعه ولا يجزي عنه شيئاً حتى يضم إليه توحيد العبادة، وهو أن يخلص الأعمال التي تصدر منه، أن تكون أفعاله خالصة لله جل وعلا، وسمي توحيد عبادة لأنه يصدر من العبد، وسمي (إلهية) لأن مبناه على المحبة وعلى تأله القلب، وسمي توحيد عبادة لأنه مبني على التعبد لله وحده، وسمي توحيد قصد لأن مبناه على أن يكون القصد لله وحده، فيقصد ربه، وسمي كذلك توحيد إرادة لأن النية والإرادة يجب أن تكون خالصة لله جل وعلا، وكل هذا يصدر من العبد، ولهذا قال في الفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية: توحيد الربوبية: توحيد الله في أفعاله، أن تجعله واحداً بما يفعله هو، وكذلك تعتقد وحدانيته فيما يتصف به جل وعلا، لا شريك له في ذلك، وأما توحيد العبادة أو توحيد الإلهية فمعناه أن توحد الله بما يصدر منك أنت، فتجعله واحداً، وتجعل عملك واحداً لواحد، كما قال ابن القيم في النونية: كن واحداً لواحد في واحد أعني طريق الحق والإيمان (كن واحداً) يعني: كن عبداً لا تكن متفرقاً تعبد هذا وتعبد هذا، كن عبداً لواحد، كن واحداً جامعاً إرادتك وقصدك وعملك غير متفرق، فلا تجعل شيئاً للمال وشيئاً للدنيا وشيئاً للشيطان، (كن واحداً لواحد) لله جل وعلا فقط، هذا الذي يفيد. (في واحد) يعني: في نهج واحد، وفي سبيل واحد الذي هو طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنته، ولا بد من ذلك وإلا كان الإنسان مبتدعاً، ومتبعاً للآراء أو لغير ذلك من الطرق التي تتوزع، فيجب أن يجمع العبد بين هذه الأنواع كلها.

الدليل على أقسام التوحيد الثلاثة

الدليل على أقسام التوحيد الثلاثة قد يقول قائل مثلا: ما الدليل على هذا التقسيم؟ ومن أين أتى؟ هل قاله الرسول صلى الله عليه وسلم؟ هل قال الرسول صلى الله عليه وسلم: إن التوحيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الإلهية، أو قاله الصحابة؟ نقول: قاله الله جل وعلا، فالله قسم هذا التقسيم، ولكن الصحابة والسلف من العلماء وغيرهم كان هذا من الأمر الظاهر الجلي عندهم، لا يحتاج إلى الكلام عليه، فهو أمر ظاهر جلي جداً، لا يجهله الصبيان والنساء والعجائز وغيرهم، يعرفونه تمام المعرفة، وإنما جهل لما فسد اللسان، واختلطت اللغة العربية باللغة الأعجمية، فصار الناس لا يعرفون ما يتكلمون به، فصاروا لا يعرفون معنى الإله، ولا يعرفون معنى العبادة، ولا يعرفون معنى (الرب)، ولا يعرفون معنى (الله)، عند ذلك احتاج العلماء إلى إيضاحه وبيانه وتفصيله، يقول الله جل وعلا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، فـ (الله) تقدم لنا أنه مأخوذ من الإله، أي: التأله، والرب معناه غير معنى الله جل وعلا، فإذاً الله له معانٍ، وهو أن يؤله ويعبد، والرب له معانٍ، وهو أن يكون مالكاً متصرفاً مدبراً بيده كل شيء. {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:2 - 3] (الحمد لله) هذا توحيد الإلهية، (رب العالمين) توحيد الربوبية، (الرحمن الرحيم) توحيد الأسماء والصفات، ثم قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4]، الذي يملك اليوم ويوم الدين، ويجازي ويحاسب، وينفع ويضر، ويعاقب إذا لم يفعل أمره، ويعاقب إذا عصي، ويثيب إذا أطيع هو الرب وهو المالك المتصرف (مالك يوم الدين)، وقرئ: (ملك يوم الدين)؛ لأن يوم الدين ليس فيه من يملك إلا الله جل وعلا وحده، أما في الدنيا فهناك من يدعي أنه يملك وإن كان الملك مؤقتاً، وسوف يسلم ملكه، والواقع أن الملك عارية عنده، وإلا الملك كله لله، في الأولى والآخرة، ولكن يوم الدين كل فرد يأتي كيوم ولدته أمه، لا ثياب ولا نعال، ولا مال ولا ولي، ولا ناصر ولا شافع: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار:19]، وظاهر ذلك، ولهذا قيل: (مالك يوم الدين). وقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] (إياك نعبد): العبادة تصدر من العبد، وهي التأله والذل والخوف كما سيأتي، والاستعانة تكون بالذي يملك ويستطيع أن يعين؛ لأنه بيده الملك، فإذا دعي أجاب، وإذا سئل أعطى، ينفع ويضر، وهذا معنى الرب جل وعلا، وهكذا القرآن مملوء من هذا، كل القرآن من أوله إلى آخره يدل على هذا التقسيم. فإذاً علينا أن نتدبر كتاب ربنا جل وعلا، ونتفهم ونعرف الأمر الذي خلقنا له، ونعرف مصيرنا، فالإنسان لا يجوز له أن يجهل لماذا خلق، أو يجهل مهمته في هذه الحياة، أو يجهل نهايته وإلى أين يكون، لا يجوز هذا، والواقع أن الإنسان إذا جهل هذه الأمور فهو مفرط في نفسه، ومسئول عن ذلك، وسوف يندم يوم لا يغنيه الندم ولا ينفعه.

توحيد العبادة وأهميته

توحيد العبادة وأهميته ثم هذه الأقسام الثلاثة أهمها وأعظمها قسم توحيد العبادة؛ لأنه وقع فيه الشرك، والشرك وقع في بني آدم قديماً، وسبب إرسال الرسل هو وقوع الشرك، وقبل وقوع الشرك ما كان للرسل حاجة، كان الناس على الطريق السوي وعلى الطريق المستقيم، وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: (كان الناس بعد آدم عشرة قرون كلهم على التوحيد، ثم طرأ الشرك فأرسل الله جل وعلا أول رسول إلى الأرض وهو نوح عليه السلام) قص الله جل وعلا علينا قصته، فأخبر جل وعلا في قصصه في مواضع متعددة أنه قال لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]، فما قال: اعتقدوا أن الله متفرد بالكون وبالخلق وبالرزق وبالإحياء وبالإماتة وبالتدبير. لأن هذا أمر معلوم عندهم لا يجهله أحد، قال: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]، وكذلك قال هود الذي جاء بعده، قال لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:65]، وكذلك قال صالح: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:73]، وسائر الأنبياء كلهم قالوا هذا القول، كما قال الله جل وعلا: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ} [النحل:36] يعني: قائلاً لهم: {اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، والطاغوت سيأتي تفسيره ومعناه، وأنه كل ما عبد من دون الله فهو طاغوت، أو كل ما صد عن عبادة الله فهو طاغوت. وأقول: هو من الطغيان، وهو تجاوز الحد، والخلق كلهم حد لهم حد، وهو أن يكونوا عباداً لله جل وعلا، فإذا تجاوزوا هذا الحد إلى ما هو من خصائص الرب جل وعلا صاروا طواغيت، ثم إن أنواع العبادة كثيرة جداً منها المحبة، وسيأتي بيان ذلك، فيجب أن تكون المحبة التي هي محبة التأله خالصة لله جل وعلا، وسيأتي إن شاء الله أن المحبة تنقسم إلى قسمين: محبة مشتركة بين الخلق -وهي أقسام كما سيأتي- مثل محبة المصاحبة والألفة، ومحبة الشفقة، وما أشبه ذلك من المحبة الطبيعية لا لوم على الإنسان في كونها تصدر منه، ولكن المقصود بالمحبة التي يجب أن تكون لله وحده محبة الذل والتعظيم، ولا يجوز أن يكون قلبك خاضعاً ذليلاً معظماً لهذه الأشياء التي تحبهن، هذا لا يجوز أن يكون إلا لله جل وعلا. قال الله جل وعلا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165]، وهذا يدل على أنهم يحبون الله حباً شديداً، ولكنهم أشركوا بهذه الآلهة التي اتخذوها، وصارت المحبة مفرقة موزعة بين الله وبين هذه الأنداد {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [البقرة:165 - 166]، والأسباب: المودة والمحبة، انقطعت عنهم وزالت، وأصبح بدلها عداوة، وكل واحد يلعن الآخر، العابد يلعن المعبود والمعبود يلعن العابد بعد هذه المحبة. وإذا وجدت هذه المحبة فالذي يموت عليها يكون ممن لا يخرج من النار، كما في تمام هذه الآيات. ومن أنواع العبادة الطواف، ولا يجوز للإنسان أن يطوف إلا بالبيت الحرام الذي أمر الله جل وعلا بذلك عبادةله، ولا نطوف بقبر ولا بحجر ولا بشجر ولا بمخلوق ولا بغير ذلك. ومن ذلك الاعتكاف، فإنه عبادة كما أخبر الله جل وعلا أن العاكفين والراكعين والساجدين يجزيهم ويثيبهم، وقد أمر خليله أن يطهر بيته للعاكفين والراكعين الساجدين. ومن ذلك الخوف، فيجب أن يكون الخوف الذي يسمى الخوف الغيبي -خوف السر الذي في سرك وفي غيبك- من الله وحده فقط، لا تخاف غائباً عنك إلا الله، فلا تخاف ميتاً، ولا تخاف جنياً، ولا تخاف من هو بعيد عنك وتقول: إنه يمكن أن يعرف ما في نفسي، هذا لا يجوز، كالذي يخاف الأموات، أو يخاف الولي الذي في القبر، يخاف -مثلاً- أنه إذا ما قدم له العبادة أنه يضره، والذي في القبر لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، فكيف يملك ذلك لغيره؟! ومنها أيضاً: الذبح، فلا يجوز أن يذبح إلا لله جل وعلا، فإذا ذبح الإنسان لغير الله لجني أو إنسي أو قبر أو غيره فقد وقع في الشرك الأكبر الذي من مات عليه يكون خالداً في النار. ومنها النذر، كأن ينذر نذراً لمخلوق أو لميت أو حي، فإن هذا شرك؛ لأن الله جل وعلا مدح الموفين بالنذر فقال: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان:7]، فالنذر عبادة؛ لأن الله لا يمدح ولا يثني إلا على ما هو محبوب له ويكون عبادة، أما الشيء المباح مثل الأكل والشرب والنوم والجلوس ما يمدح الله عليه؛ لأنه أمر مباح ليس عبادة إلا إذا اقترن به نية طيبة تجعله عبادة. ومن ذلك أيضاً الرجاء والتوكل والإنابة والاستعانة والاستغاثة والتوبة والخشية، وغير ذلك من أنواع العبادة، كلها يجب أن تكون خالصة لله جل وعلا، وسيأتي تفصيل هذا مفرقاً.

الشرك

الشرك يقابل التوحيد الشرك، والشرك يكون في كل قسم من أقسام التوحيد الثلاثة، يكون الشرك في الربوبية، ويكون الشرك في الأسماء والصفات، ويكون الشرك في العبادة والتأله، وكل شرك من هذه الأقسام ينقسم إلى أكبر وأصغر، فعلى هذا تكون أقسام الشرك ستة أقسام على حسب هذا التقسيم، وفي الأصل ينقسم إلى ثلاثة أقسام فقط: شرك أكبر، وشرك أصغر، وشرك خفي، والواقع أنه ينقسم إلى قسمين؛ لأن الشرك الخفي قد يكون أكبر وقد يكون أصغر وهو شرك النية، ولكن التقسيم إلى ستة حسب أقسام التوحيد.

الشرك في الربوبية

الشرك في الربوبية الشرك في الربوبية ينقسم إلى قسمين: قسم يسمى شرك التعطيل، وهو أقبح الأقسام وأعظمها جرماً وأخبثها، وهو شرك فرعون الذي قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، وقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، وقال: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23]، فعندما جاءه موسى قال: (وما رب العالمين)؟ أي: أنه أنكر وجود الله جل وعلا، وهذا على سبيل المكابرة والتجبر والعناد والإيذاء، وإلا فهو في الواقع مقر بذلك؛ لأن الأمر في هذا واضح وظاهر جداً، لا يخفى على من عنده أدنى عقل. فلا يخفى أنه لا موجود إلا وله موجِد، ولو نظر الإنسان إلى نفسه فمن الذي أوجده؟ هل أبوه خلقه أو أمه خلقته أو هو خلق نفسه؟ لابد أن يكون له خالق قدير متصرف كامل الإرادة كامل المشيئة تعالى وتقدس، كما قال الله جل وعلا: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35]، يعني: هل يمكن أن يوجد هذا المخلوق بدون أن يكون له خالق؟ لا يمكن هذا لا يُعقل، ولا يقر به حتى الأطفال، الطفل الصغير إذا ضربه ضارب وبكى فقلت له: ما ضربك أحد لا يقتنع بهذا؛ لأن كل حدث له محدث، وهذا أمر فطري، {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35]، ولهذا أمرنا الله جل وعلا بالنظر إلى أنفسنا: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] يعني: في أنفسكم آيات تفكروا فيها، أفلا تبصرون؟ وأمرنا أن ننظر في أصلنا فقال: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} [عبس:17 - 20]، وجاء هذا مكرراً في القرآن كثيراً، يأمرنا ربنا جل وعلا أن ننظر في أصل خلقنا؛ لأنه كان نقطة من ماء، فكيف يخلق منها لحم وعظام وأعصاب، ثم سمع وبصر وعقل وأرجل وأيدٍ، وذكر وأنثى؟ هل أحد يستطيع ذلك؟ لا. فهو من أكبر الأدلة على وجود الله جل وعلا. وآيات الله في الأنفس ظاهرة وواضحة، كما أن آياته جل وعلا في الآفاق من حولنا ولما يجري حولنا في السماء والأرض والنجوم والجبال والأنهار وغيرها واضحة جلية، فنقول: إن الشرك في هذا لا يكون إلا عناداً أو إعراضاً، والإعراض هو عدم الاهتمام. ومن هذا الشرك شرك ملاحدة اليوم الذي يقولون: الحياة مادة، فلا يوجد خالق، ولا توجد إعادة، ولا توجد جنة ولا نار يكفرون بالله جل وعلا وينكرون وجوده، فهم واقعون في الشرك الأعظم، وهم في الواقع لم يستعملوا عقولهم ولا ما حولهم من الآيات ولم يتفكروا في أنفسهم. ومن ذلك شرك أصحاب وحدة الوجود الذين غلفوا شركهم بشيء من محاسن الإسلام، فخفي أمرهم على خفافيش الأبصار، فجعلوهم من أكابر الأولياء وأكابر الأتقياء والسعداء، وهم من أعظم المجرمين وأكابر الكفار والمشركين، كـ ابن عربي والعفيف التلمساني وابن الفارض والحلاج، ومن أشبه هؤلاء الذين جعلوا الله هو الوجود كله، خنازيره وكلابه وأوادمه وكل شيء، كما يقول رئيسهم: العبد رب والرب عبد يا ليت شعري من المكلف؟ إن قلت عبد فذاك رب وإن قلت رب فأنى يكلف؟ ويقول: وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه لأنه يعتقد أن النظم كلام الله، والشعر كلام الله، واللحن كلام الله، ونبح الكلاب كلام الله، إلى غير ذلك، وهكذا يقول أصحابه، ثم يأتي قوم ويقولون: هؤلاء من أكابر الأولياء والأتقياء! ومن ذلك شرك النصارى الذين قالوا: {الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30]، وكذلك اليهود الذين قالوا: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30]. ومنه شرك المجوس الذي جعلوا التصرف إلى إلهين: إله الظلمة وإله النور، وقالوا: إن الإله المحمود المعبود هو إله النور، فهو الخير الذي يحب الخير ويأمر به ويريده؛ ولهذا يعبدون النار لأنها هي أصل النور عندهم، وهذا شرك في الربوبية. القسم الثاني من شرك الربوبية الشرك الأصغر، مثل شرك الألفاظ، كقول الإنسان: لولا الله وأنت، لولا الله وفلان، وقوله: ما شاء الله وشئت، وكذلك الحلف بغير الله وما أشبه ذلك، فإن هذا شرك في الربوبية، وقد يكون هذا شركاً أكبر على حسب ما يقوم في قلب القائل وعقيدته، فهذا الشرك في الربوبية.

الشرك في الأسماء والصفات

الشرك في الأسماء والصفات والشرك في الأسماء والصفات نوعان أيضاً: النوع الأول: شرك التشبيه كالذين يقولون: يد الله مثل أيدي الناس، وسمع الله مثل أسماع الناس، وبصره مثل أبصار الناس، وعلمه مثل علوم الناس، وهكذا، فهذا شرك في أسماء الله وصفاته، والواجب أن يعتقد أن الله لا شريك له في خصائصه من الأسماء والصفات، وهذا وإن كان قليلاً فقد جاء ذكره في كتاب الله، يقول الله جل وعلا: {فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، ويقول جل وعلا: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65]، ويقول جل وعلا: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4]. فالذي يقول مثل هذا القول يخالف هذه النصوص وغيرها من النصوص الكثيرة في كتاب الله. النوع الثاني من أنواع الشرك في الأسماء والصفات: تسمية المخلوق بما هو من خصائص الله جل وعلا، كالذي يسمي المخلوق -مثلا- حكيماً، عليماً، خبيراً، رءوفاً، رحيماً، وما أشبه ذلك، ومنه الإله أو الآلهة أو الرب، أو ما أشبه ذلك مجرد تسمية، أعني أن يشتق من أسماء الله أسماء للمخلوقين، فيشتق للمخلوق اسماً من اسماء الله جل وعلا، كما فعل المشركون، فإنهم سموا أصنامهم آلهة، فهو كذب وزور، وهو اسم وضع على غير مسماه، ولهذا يقول الله جل وعلا: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} [النجم:23]، يعني: ليس لها من هذه التسمية شيء، فهو مجرد اسم فقط لا حقيقة له. ومن ذلك أنهم سموا بعض أصنامهم بأسماء اشتقوها وأخذوها من أسماء الله، كمناة أخذوها من المنان، واللات أخذوها من اسم الله، والعزى أخذوها من اسم العزيز، وهكذا، وهذا نوع من أنواع الشرك في الأسماء والصفات.

الشرك في العبادة

الشرك في العبادة والشرك في العبادة واسع وكثير جداً، وهو ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: شرك أكبر إذا مات عليه الإنسان يكون خالداً في جهنم، وإذا تاب منه فالله يقبل توبته. القسم الثاني: شرك أصغر، إذا وقع فيه الإنسان يكون قد وقع فيما هو أعظم من الزنا ومن شرب الخمر، ولكنه لا يخرج من الدين الإسلامي، وصاحبه تحت مشيئة الله جل وعلا، إن شاء آخذه وعذبه على ذلك، وإن شاء عفا عنه، ويجب أن نجتبه. الشرك الأكبر كأن يشرك في المحبة، أو في الخوف، أو في التوكل، أو في الإنابة، أو في الركوع، أو في السجود، أو في الطواف، أو في الذبح والنذر، أو غير ذلك. فإذا وقع الإنسان في شيء من ذلك كان يذبح دجاجة لجني كان مشركاً شركاً أكبر -نسأل الله العافية-!، وإذا وقع في شيء من هذا يجب عليه أن يتوب، وأن يتخلص من ذلك. وأما الشرك الأصغر فمثل يسير الرياء، كونه يرائي بعمله الناس ويحب أن ينظروا إليه، أو يزين عمله من أجل رؤية الناس، أما الكثير فهو لا يصدر من مسلم، فكون العمل يبنى على الرياء لا يصدر إلا من المنافقين أو الكفار، قال الله جل وعلا: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:142] أخبر أن صلاتهم هي المراءاة، ولكن المسلم قد يعرض له في عمله عارض الشرك الأصغر فهو يعالجه، وإن أعرض عنه واستطاع أن يخلص في عمله لا يضره ذلك، أما إذا لم يستطع ذلك فالرياء إذا خالط عملاً أفسده وأحبطه، ويكون ذلك العمل فاسداً حابطاً، كما جاء في الحديث القدسي: (من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه)، وجاء أن الله جل وعلا يقول للذين يراءون بأعمالهم يوم القيامة: (اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون جزاءكم عندهم؟)، وسيأتي بإذن الله تعالى تفصيل هذا كله مفرقاً في الكتاب.

شرح فتح المجيد [3]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [3] أعظم ما أمر الله به هو التوحيد، وأعظم ما نهى عنه هو الشرك، والقرآن الكريم كله في التوحيد كما بين ذلك أهل العلم، وأصل دعوة الرسل هي الدعوة إلى التوحيد، ولذا يجب معرفة التوحيد لتحقيقه والقيام به، ومعرفة الشرك للحذر منه واجتنابه.

أنواع التوحيد

أنواع التوحيد

توحيد المعرفة والإثبات

توحيد المعرفة والإثبات قال الشارح رحمه الله: [قال العلامة ابن القيم رحمة الله عليه: وأما التوحيد الذي دعت إليه الرسل ونزلت به الكتب، فهو نوعان: توحيد في المعرفة والإثبات، وتوحيد في الطلب والقصد. فالأول هو: إثبات حقيقة ذات الرب تعالى، وصفاته وأفعاله وأسمائه، وتكلمه بكتبه، وتعليمه لمن شاء من عباده، وإثبات عموم قضائه وقدره وحكمته، وقد أفصح القرآن عن هذا النوع جد الإفصاح، كما في أول سورة الحديد، وسورة طه، وآخر الحشر، وأول تنزيل السجدة، وأول آل عمران، وسورة الإخلاص بكاملها، وغير ذلك]. هذا كثير في القرآن جداً، وقل آية في القرآن إلا وفيها شيء من أسماء الله وصفاته، إما صفة فعل أو صفة ذات أو غير ذلك، والحكمة في هذا أن الناس كانوا يحتاجون إلى هذا؛ لأن من حكمة الله جل وعلا أن الناس إذا احتاجوا إلى شيء يكون وجوده أكثر، مثل الماء، فالناس يحتاجون إلى الماء فصار وجوده كثيراً، ومثل وجود الهواء، ومثل وجود الملح، ومثل وجود النار وما أشبه ذلك، فكل شيء الحاجة إليه عامة شاملة كان وجوده وتيسيره أكثر للناس، وهذه حكمة من الله ورحمة منه. ففي زمن الصحابة ما كانوا بحاجة إلى تكثيره إلا من ناحية أن الله يعرفهم بنفسه، هذا هو الأصل، والله تعرف إلى خلقه بذكر أسمائه وأوصافه، وكل اسم له معنى يدل عليه، فعرف المؤمنون ربهم بهذا؛ لأن الله غير مشاهد، وليس له مثيل يقاس عليه تعالى وتقدس، فليس هناك طريق لمعرفته إلا أن يخبر جل وعلا عن نفسه، هذا هو الأصل في الإكثار من ذكر أسماء الله، وبعدما ذهب عصر الصحابة وعصر التابعين وأتباعهم وجاءت الخلوف حدث في الأمة من يكفر بهذا النوع وينكره، وأصل مجيء هذا الإنكار وهذا الكفر من اليهود والنصارى والمجوس الذين يعادون هذا الدين، فأوجدوا المؤسسات والجمعيات الخبيثة التي تحارب العقيدة، وصاروا يبثون سمومهم في أوساط الناس، وربما في الكتب أيضاً، وبدءوا بتشكيك الناس في معبودهم وإلههم، فصاروا ينكرون الأسماء والصفات، ولو جاءوا إلى الناس وقالوا: إن الله لا يتكلم، إن الله لا يسمع، إن الله لا ينزل إلى السماء الدنيا، إن الله لم يستو على عرشه، إن الله ليس فوقنا، وما أشبه ذلك، بدون أن يذكروا مبررات؛ ما قبل منهم ذلك، فأحكموا الخطة وقالوا: إنكم إذا قلتم هذا، قلتم بالكفر والتشبيه، فيجب أن تنزهوا الله عن هذه الأوصاف والأسماء، فجاءوا من هذا القبيل، فقبل قولهم الذين لا يعلمون، فانبرى العلماء للرد عليهم وإبطال كيدهم، فملأوا الدنيا كتباً، وكلها مأخوذة من كتاب الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم في الرد على مثل هؤلاء، وكتاب الله مملوء جداً بإبطال كيد هؤلاء، ولكن مع هذا كله انطلى هذا الخبث وهذه الدسائس على كثير من الناس، فأصبحوا إلى اليوم متأثرين بهذه الدعايات، فإلى الآن كثير من المسلمين متأثر بذلك، فأنكروا أن الله جل وعلا مستو على عرشه، وأنكروا أن الله جل وعلا فوق عباده، وأنكروا أن الله جل وعلا ينزل إلى السماء الدنيا، وأنكروا أن الله جل وعلا يأتي يوم القيامة لفصل القضاء، وأنكروا أن الله جل وعلا يتكلم ويكلم من يشاء كلاماً حقيقياً، إلى غير ذلك، وهذا كله تأثر بدعاية هؤلاء المبطلين، ولكن الذي يتبع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يعصمه الله جل وعلا بذلك.

توحيد الطلب والقصد

توحيد الطلب والقصد قال الشارح رحمه الله: [النوع الثاني: ما تضمنته سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1]، وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64]، وأول سورة (تنزيل الكتاب) وآخرها، وأول سورة المؤمن ووسطها وآخرها، وأول سورة الأعراف وآخرها، وجملة سورة الأنعام، وغالب سور القرآن، بل كل سورة في القرآن فهي متضمنة لنوعي التوحيد شاهدة به داعية إليه. فإن القران إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله وأقواله، فهو التوحيد العلمي الخبري، وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له، وخلع ما يعبد من دونه، فهو التوحيد الإرادي الطلبي، وإما أمر ونهي وإلزام بطاعته، وأمره ونهيه، فهو حقوق التوحيد ومكملاته، وإما خبر عن إكرام أهل التوحيد وما فعل بهم في الدنيا، وما يكرمهم به في الآخرة، فهو جزاء توحيده، وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا من النكال، وما يحل بهم في العقبى من العذاب، فهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد، فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم. انتهى]. سبق أن ذكرنا أن التوحيد ينقسم إلى قسمين: توحيد في العلم والعقيدة، وتوحيد في النية والإرادة، وقلنا: إن شئت جعلته قسمين، وإن شئت جعلته ثلاثة أقسام، فمن باب البسط والإيضاح يكون ثلاثة من حيث تعلق التوحيد، فإما أن يتعلق بلفظ الرب جل وعلا فيكون توحيد الصفات والأسماء، أو يتعلق بأفعاله تعالى وتقدس فيكون توحيد الربوبية. وهذان القسمان يجوز أن نجعلهما قسماً واحداً؛ لأنهما يتعلقان بالرب جل وعلا صفة وفعلاً، فمن العلماء من يجعله قسماً واحداً، ومنهم من يجعله قسمين. فصفات الله جل وعلا وأسماؤه تثبت بالدليل الذي جاء في كتاب الله جل وعلا، وجاءت به الرسل فقط لا أكثر، ولا دخل للقياس في ذلك، ولا دخل للعقل في هذا، وقلنا: إن السبب في هذا شيئان: أحدهما: أن الله جل وعلا لا مثيل له ولا نظير له فيقاس عليه. الثاني: أنه تعالى وتقدس غيب ليس يشاهده أحد ولم يره أحد، فليس هناك طريق لمعرفته وتسميته ووصفه إلا الوحي فقط، قال الله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3] قال كثير من المفسرين: يؤمنون بالله لأنه غيب، فهو غائب عن كل الخلق، وقد قال جل وعلا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65]، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4]، {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا} [البقرة:22]. فكل هذا يدل على أنه متفرد جل وتقدس، ولهذا اتفق أهل السنة على أن أسماء الله جل وعلا وأوصافه توقيفية، ومعنى (توقيفية): أنه يوقف على النص فيها، فما جاء به النص وجب أن يؤمن به ويعتقد ويقال بمقتضاه، وما لم يأت به النص فلا يجوز أن يشرك بالله شيئاً لم يثبت بنص، والذين ضلوا في هذا الباب لأنهم يعتمدون على عقولهم، فضلوا فيه وتاهوا، فليس هناك طريق يمكن أن يوصل الإنسان إلى الحق إلا الاستمساك بكتاب الله وبسنة رسوله فقط، وهذا في الواقع هو أصل الإيمان، وهو أيضاً أصل دعوة الرسل. فالله جل وعلا تعرف إلى عباده بما يذكره من أوصافه وأسمائه، وكذلك بأفعاله تعالى وتقدس، فالمؤمنون لا يعرفون الله جل وعلا إلا عن هذا الطريق، بالإضافة إلى الفطرة، ولكن هذه مشتركة بين الخلق كلهم، كل الخلق فطروا على معرفة الله جل وعلا، ولكن هذا لا يكفي؛ لأن هذا قد يتغير، فالفطرة يغيرها المعلم الذي يتولى تعليم الإنسان وتربيته، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، أما إذا ترك ونفسه فإنه يكون قابلاً للحق بل طالباً له، ولا يكفي كونه قابلا له؛ لأنه مولود على الفطرة، بل لابد أن يكون طالباً له، فإذا جاء الوحي لا يمكن أن يرده؛ لأنه موافق لما في فطرته، ولكن التربية هي التي تغير هذا. فأقسام التوحيد هي هذه الثلاثة، وليس هناك قسم رابع، كما يقول بعض الناس: توحيد الحاكمية، وبعضهم يأتي بقسم خامس ويقول: توحيد المتابعة، فتكون أقسام التوحيد خمسة: توحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الربوبية، وتوحيد العبادة، وتوحيد الحاكمية، وتوحيد المتابعة، فهذا لا معنى له؛ لأن توحيد المتابعة داخل في توحيد الإلهية، وتوحيد الحاكمية داخل في توحيد الربوبية، لأن الرب جل وعلا هو الذي يحكم بين خلقه، وهو الذي يشرع ويأمر وينهى عباده، فإذا انصرف الإنسان إلى شارع آخر ومحكم آخر فإنه أشرك في توحيد الربوبية، والشرك في توحيد الربوبية يستلزم الشرك في توحيد الإلهية.

توحيد العلم والعقيدة

توحيد العلم والعقيدة المقصود أن أقسام التوحيد ثلاثة أو اثنان إن شئت: فالأول: توحيد في العلم والعقيدة، وتوحيد العلم والعقيدة هو الذي يتعلق بالرب جل وعلا، يتعلق بأسمائه وأوصافه وأفعاله تعالى وتقدس، فيجب على العبد أن يأخذ هذا العلم من كتاب الله جل وعلا ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد أكثر الله جل وعلا من ذكر ذلك في كتابه حتى يعرف عباده ما يستحق، ويقدرونه القدر الذي يستحق، كما قال الله جل وعلا: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]، فذكر بعد قوله: (وما قدروا الله حق قدره) الأفعال التي ينفرد بها والتي تقتضي تعظيمه وتمييزه جل وعلا عن سائر الخلق. وكذلك قوله جل وعلا في قصة نوح: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح:13 - 14]، وذكر أفعاله بعد هذا، كأنه يقول: إن هذه الأفعال تدعوكم إلى أن تعرفوا قدر الله، وتعظموه العظمة التي يستحقها فتبين بهذا أنه جل وعلا يتعرف إلى عباده بذكر أفعاله وأوصافه، وهذا كثير في القرآن جداً، وهذا هو الطريق إلى الاقتناع بالإيمان بالله جل وعلا، وهو الطريق إلى اليقين الحق الذي من وصل إليه أصبح راسخاً في العلم، وأصبح لا يقبل التشكيك ولا يقبل الارتياب مع توفيق الله جل وعلا، وإلا فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف يشاء، إن شاء ثبتها على الحق، وإن شاء أزاغها)، ولكن إذا عرف الإنسان ربه، وخضع وذل له، وعبده؛ فعادته جل وعلا التي جرت في عباده أنه يثبته بالقول الثابت حتى يلقاه.

معنى توحيد الإلهية

معنى توحيد الإلهية النوع الثاني -وإن شئت قلت: النوع الثالث- توحيد الإلهية وهذا الذي صارت فيه الخصومة بين الرسل وأممهم؛ لأنه هو الذي أنكر، وهو الذي دخله الشرك؛ لأن أكثر الخلق اتخذوا وسائط وشفعاء يجعلونهم وسائط بينهم وبين ربهم، ويدعون هذه الوسائط لتقربهم إلى الله زلفى لتشفع لهم، ولا يوجد أحد من الخلق زعم أن صنماً من الأصنام أو معبوداً من المعبودات له شركة في خلق السموات والأرض والجبال والأشجار، أو له قدرة على الإحياء والإماتة، لا يوجد أحد اعتقد هذا أبداً، وإنما زعموا أنهم عباد مقربون، أو أنهم لا ذنوب لهم، وأنهم إذا دعوا الله استجاب لهم، واتخاذهم وسائط أقرب إلى الإجابة وأقرب إلى الطلب من دعاء الله جل وعلا، وأصل هذا بني على تشبيه الرب بالمخلوقين، وليس التشبيه الذي يقوله المتكلمون. والتشبيه ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: تشبيه الخالق بالمخلوق وهذا كثر جداً في الأمم السابقة، ولا يزال إلى الآن كثيراً في الخلق، فيجعلون المخلوق هو الأصل والخالق فرعاً تعالى وتقدس، فوجه التشبيه هنا أنهم رءوا أن الملوك والكبراء والعظماء لا يطلبهم الإنسان حاجته منهم رأساً، فلابد أن يذهب إلى محبيهم وإلى وزرائهم وإلى المقربين لديهم ويسألهم أن يتوسطوا له عند الرئيس والملك حتى تقضى حاجته، ووجدوا هذا أنجع وأسرع في قضاء الحاجة، بخلاف ما إذا ذهب ودخل عليهم بنفسه أو طلب منهم بنفسه فإنه ربما لا يلتفت إليه، فقاسوا رب العالمين الذي هو بكل شيء عليم وعلى كل شيء رقيب وشاهد يسمع ولا يخفى عليه شيء قاسوه على المخلوقين، تعالى الله وتقدس، هذا هو أصل الشرك الذي حدث للأمم في هذا الباب. فاتخذوا الوسائط حسب اختلاف نزعاتهم واتجاهاتهم، فمنهم من يتخذ ملكاً من الملائكة إن كانوا ممن يؤمن بالملائكة، ومنهم من يتخذ جنياً، ومنهم من يتخذ نبياً، ومنهم من يتخذ رجلاً صالحاً، ومنهم من يتخذ شجرة أو حجراً أو غير ذلك، وكلها أصلها هذا، وكل رسول كان يأمر قومه أن يخلصوا الدعوة لله فقط، وألا يدعوا معه أحداً، ولا يكون هناك وسائط: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُه} [الأعراف:59] هكذا كل رسول يقول هذه المقالة لأمته: (اعبدوا الله ما لكم من إله غيره)، والإله هو الذي يألهه القلب بالدعاء والخضوع والذل، فيدعوه ويذل له ويعظمه، فهذا يوجب أن يكون الدعاء لرب العالمين فقط، ولا يجوز أن يكون لأحد من الخلق، سواء أكان عاقلاً أم غير عاقل، حاضراً أم غائباً، فمن جعل لمخلوق من المخلوقات شيئاً من ذلك فقد وقع في الشرك الأكبر الذي كانت الرسل تحذر منه وتدعوا قومها إلى الابتعاد عنه وتركه. القسم الثاني من أقسام التشبيه: تشبيه أوصاف الرب جل وعلا بأوصاف المخلوقين، كأن يقول مثلاً: يد الله كأيدينا، وسمعه كأسماعنا، وبصره كأبصارنا، وكلامه ككلامنا، تعالى وتقدس، وهذا هو الذي يتكلم به المتكلمون، ويجعله العلماء كفراً يخرج الإنسان من الدين الإسلامي، وهو الذي كثرت فيه المؤلفات التي ألفت في هذا الباب، والأصل في هذا قوله جل وعلا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4]، وما أشبه ذلك من الآيات، ولا شك أن التشبيه من أبطل الباطل، والذين قالوا به قلة، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، وليس من هذه الفرق طائفة تقول بهذا التشبيه، وإنما يوجد بعض الأفراد يقولون بذلك. ولكن سبب كثرة الكلام في هذا أن كل من قال مقالة واعتقد عقيدة فمن يخالفه في مقالته وفي عقيدته يرميه بالتشبيه، فيقول: أنت مشبه، فكثر الكلام بهذا السبب؛ ولهذا نجد في كتب المقالات وغيرها من الكتب أنهم يعينون أناساً من الأئمة، فيقولون: هناك طائفة يقال لها (المالكية) إمامهم مالك بن أنس مشبهة، وطائفة يقال لها: (الحنبلية) إمامهم أحمد بن حنبل مشبهة، وهكذا، ويجعلون الذي يأخذون الآثار ويعملون بها من أهل الحديث مشبهة. وهكذا إذا نظرنا إلى الطوائف نفسها، فمثلاً اتباع أبي الحسن الأشعري الذين يسمون الأشعرية، بينهم وبين المعتزلة عداء وخصام، فالمعتزلة يرمون الأشاعرة بالتشبيه؛ لأنهم أثبتوا لله بعض الصفات، والمعتزلة يرون أن من أثبت صفة من الصفات كالسمع والبصر والكلام والإرادة فهو مشبه، فإذا أثبتها قالوا: أنت مشبه، والأشاعرة يجعلون من المشبهة من يثبت النزول لله جل وعلا في الثلث الأخير من الليل إلى السماء الدنيا، أو يثبت العلو لله على خلقه، وكونه مستوياً على عرشه، أو يثبت الضحك لله، وأن الله يفرح ويحب ويرضى ويسخط، فيجعلونه مشبهاً، ويسمونه مشبهاً، ويقولون: هذا مشبه، وهكذا كل طائفة من الطوائف ترمي الطائفة التي خالفتها بالتشبيه، فهذا سبب كثرة الرمي بالتشبيه، وهذا يكون له مقالات معينة في كتب المقالات، ويسمونها طائفة المشبهة، ولكن لو طلبت طائفة معينة لها إيمان تقول بهذا ولها كتب تدافع عن هذا، وتستدل به لم يوجد ذلك أبداً، فليس لهذا وجود، وإنما التشبيه على حسب اعتقاداتهم، وعلى حسب ما يرون أنه باطل، بخلاف القسم الأول فإنه كثير جداً، ولكن لا يسمونه تشبيهاً، وإلا فالذي يأتي إلى القبر ويسأله أن يمده بالنصر وبالإغاثة وبالرزق وبالعطاء وبالنجاة وأن يتوسط له عند الله هذا هو المشبه حقاً، فقد شبه صاحب القبر برب العالمين في دعوته، وفي الطلب منه، وفي طلب ما لا يقدر عليه إلا رب العالمين تعالى وتقدس. ولهذا السبب أخبرنا ربنا جل وعلا عن الذين سموا المعبودات التي يتجهون إليها (آلهة) أن هذا كذب وزور، وأنها مجرد أسماء وضعت على مسماها، فقال: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم:23] يعني: ليس لها من معنى الإلهية شيء أبداً، إنما هو كذب وزور، فوضعت هذه الأسماء من أجل الكذب والتزوير والاعتقاد الباطل، وهذا في الواقع يختلف باختلاف الدعوات والاتجاهات.

وجوب الإخلاص لله

وجوب الإخلاص لله الواجب على الإنسان أن يكون عبداً لله، وأن يخلص العبادة لله جل وعلا، وألا يكون قلبه وعمله مفرقاً بين معبودات شتى، والله لا يقبل من العباد إلا أن يعبدوه وحده، وكل القرآن في هذا المعنى كما ذكر ابن القيم؛ لأن القرآن لا يخلو إما أن يكون في أوصاف الله حتى يدعو ذلك إلى تعظيمه وتوقيره، ويدخل في أوصافه أفعاله تعالى وتقدس، أو يكون الأمر صراحة أن نخلص له العبادة، كقوله: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر:2]، {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} [التوبة:31] في آيات كثيرة، فهذا واضح جداً، أو يكون في الأوامر والنواهي التي هي من حقوق هذا التوحيد، مثل إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم وفعل الخيرات كلها، وهذا كله من مكملات التوحيد، كما قال صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: (لا إله إلا الله)، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله)، (إلا بحقها) يعني: بحق (لا إله إلا الله)، فالذي -مثلاً- يمتنع عن الصلاة لم يؤد حقها، ولم يقم بحقها، وهكذا إذا امتنع من الواجبات الواجبة عليه لم يؤد حقها؛ لأنه أخل بها. أو يكون القرآن في الجزاء وما أعد الله جل وعلا لأهل التوحيد في الجنة، وما وعدهم به من النصر والتأييد في الدنيا، أو يذكر عقاب من خالف هذا التوحيد وتركه، فيذكر عقاب من ترك التوحيد وخالفه وعقابه في الدنيا أو في الآخرة، ويدخل في هذا قصص الأمم، وقصص الأنبياء، ويدخل فيه الوعد والوعيد. إذاً القرآن كله في التوحيد كما قال ابن القيم رحمه الله، وعلى هذا التفسير إذا تأمل الإنسان كتاب الله جل وعلا وجده لا يخرج عن ذلك.

إثبات الإلهية لله وحده

إثبات الإلهية لله وحده قال الشارح رحمه الله: [قال شيخ الإسلام: التوحيد الذي جاءت به الرسل إنما يتضمن إثبات الإلهية لله وحده، بأن يشهد أن لا إله إلا الله، لا يعبد إلا إياه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يوالي إلا له، ولا يعادي إلا فيه، ولا يعمل إلا لأجله، وذلك يتضمن إثبات ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات، قال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة:163]، وقال تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [النحل:51]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون:117]، وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45]، وأخبر عن كل نبي من الأنبياء أنهم دعوا الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وقال: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4]، وقال عن المشركين: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات:35 - 36]، وهذا في القرآن كثير]. وقال الله جل وعلا عنهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات:35 - 36]، فيجعلون الرسول شاعراً، ويجعلونه مجنوناً، وهذا اضطراب وتناقض، فكيف يكون شاعراً ويكون مجنوناً؟! فالمقصود أن الخلل في هذا أنهم يعرفون معنى (لا إله إلا الله)، فإذا قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: (قولوا: لا إله إلا الله)، عرفوا أن معنى ذلك إبطال ما هم عليه من الشرك ومن عبادة الأوثان؛ لأن كلمة (لا إله إلا الله) تتضمن الإثبات والنفي، إثبات إله واحد فقط، أن تثبت الإلهية له، وتنفي ذلك عن كل من سواه، نفى ثم حصر المثبت في إله واحد، وهو الله جل وعلا، فهم عرفوا أن معنى ذلك أنه لابد من الكفر بآلهتهم وإبطالها، ولهذا نفروا وأبوا، بخلاف المشركين في وقتنا -وللأسف- فهم يزعمون أنهم مسلمون، بل يظنون أنهم من أفضل الناس، وهم يأتون الشرك الأكبر، وكذلك كثير من الناس يكتفي بقول (لا إله إلا الله) ويقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة) فيأتي بما يناقض هذه الكلمة لأنه لا يعرف معناها، فهو ما عرف معنى الإله، ولا معنى العبادة، ولو عرف ما عرفه المشركون من هذه الكلمة لاجتنب عبادة القبور والأولياء التي يسمونها توسلاً، ويسمونها محبة الصالحين والتوسل بهم، وهم في الواقع يدعونهم، والدعاء هو العبادة كما جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره: (الدعاء هو العبادة). فهذا هو السبب الذي أوقعهم في الشرك وجعلهم لا يعرفون معنى هذه الكلمة، وقد علموا أنه لابد لقائل هذه الكلمة من معرفة معناها، وإلا فلا تفيد، فيصبح قوله لها -وهو يعمل هذا العمل- مثل الذي يقولوها وهو سكران، أي: يهذي بها هذياناً لا معنى له، ولا يعرف معناها، ومعلوم أن مثل هذا لا يستفيد من قوله لها، ولو كان قولها ينفع مجرد قول لكان ذلك ينفع اليهود، فاليهود يقولون: (لا إله إلا الله)، ولكنهم كفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم من أهل النار، فالذي يقول: (لا إله إلا الله)، وهو يناقضها تماماً ويعبد آلهة أخرى غير الله لا تنفعه، وأي خير في مسلم يكون أبو جهل وأضرابه أعلم منه بكلمة التوحيد؟! ما فيه خير، هذا هو الواقع. فيجب على المسلم أن يعرف أصل دينه وجوباً، فما هي مسألة اختيار وأن الإنسان مخير في هذا، بل إذا ترك هذا عذب وهلك، فيجب على العاقل أن يهتم بهذا، وذلك أن الله جل وعلا يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:116]. فإذا كان هذا الأمر هكذا وأن الله لا يغفر للمشرك فالإنسان قد يقع في الشرك؛ لأنه إذا جهله يوشك أن يقع فيه وهو لا يدري، فيهلك بهذا السبب، وهذا أمر عام (إن الله لا يغفر أن يشرك به)، وكل الشرك أخبر الله أنه لا يغفره جل وعلا، والذنوب الأخرى ما عدا الشرك جعلها الله تحت مشيئته إذا شاء أن يغفرها غفرها، وأما الشرك فقطع قطعاً أنه غير مغفور. يقول كثير من الناس اليوم: أنا لا أسلم بأن التوسل بالصالحين والتشفع بهم شرك؛ لأن الشرك السجود للأصنام أو السجود للشمس، أو أن تعتقد أن هذا الذي تدعوه يحيي ويميت، أما إذا اعتقدت أن الذي يتفرد بالأحياء والإماتة هو الله فلا بأس أن تدعو الصالح من الأموات، فتدعوهم وتجعلهم وساطة بينك وبين الله، هكذا يقولون. فإذا كان إنسان يقول هذا القول وآخر يقول: إن هذا هو عين الشرك الذي جاءت الرسل بالنهي عنه، وهو الذي جعل الكفار في جهنم خالدين، ولا يوجد أحد يقول: إن أحداً من المخلوقين يحيي ويميت، إن شيئاً من الشجر يحيي ويميت أو من الأصنام التي هي حجر، أو أي شيء مصنوع، ما وجد أحد من العقلاء يقول هذا، فمعنى كلامك هذا أن المشركين كانوا يعتقدون أن الحجر الذي يعبدونه أو الشجر ويحيي ويميت، وهذا باطل، فإذا كان الأمر هكذا فيجب على الإنسان أن يبحث ويتأكد ويحتاط لنفسه، ولا يفرط في نفسه، فالنفس لا تعود، ولا توجد حياة أخرى، وإذا مات الإنسان وتبين له الحق لا يقول: أطلب الرجوع لأني عرفت الحق فأبدأ من جديد، هذا ليس لك، إذا فاتتك حياتك هذه فاتك كل شيء. فيجب على العبد أن يتعرف على الحق من كتاب الله جل وعلا، ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومن سيرته، ولا يغتر بالكثرة، ولا يغتر بأي قائل يقول خلاف ما دل عليه كتاب الله كائناً من كان، ولا يغتر بأن هذا يوجد في بلاد المسلمين بكثرة، وأنه يوجد علماء معهم أعلى الشهادات يسكتون عنه ولا ينكرونه، ويقولون: هذا من جهل العوام، وهذا لا يدخل في الكفر. فلا يغتر بمثل هذا، الأمر ليس سهلاً، الله خلق العباد لعبادته وحده فقط، فمن صرف شيئاً من العبادة لغيره وقع في الشرك الأكبر، ثم مما يعين الإنسان على معرفة هذا هذه الآية وأمثالها: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات:35 - 36]، أي: إذا قلنا: (لا إله إلا الله) فمقتضاه أننا نترك آلهتنا، إذا قلنا هذه الكلمة يلزمنا أن نترك آلهتنا، وأن نجعل التأله لله وحده، وهذا الذي يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو المطلوب من كل إنسان، وهو الذي تقوله الرسل كلها، كل رسول يقول: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]. فمعنى قولهم: (اعبدوا الله) هو شطر الكلمة: (إلا الله)، وقولهم: (مالكم من إله غيره) هو معنى: (لا إله)، فهذا معنى: (لا إله إلا الله) الذي جاءت به الرسل، وكلهم اتفقوا على هذا، وآخرهم وخاتمهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين يقول: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله)، ولما سأل هرقل أبا سفيان -وكان مشركاً في ذلك الوقت- ماذا يقول، وما يأمركم به قال: يقول: قولوا: (لا إله إلا الله)، ويأمرنا بعبادة الله، وترك ما كان يعبد آباؤنا، ويأمرنا بصلة الأرحام. والتوحيد أعظم ما أمر الله جل وعلا به، ثم من مقتضى هذا أن يكفر الإنسان بكل معبود عبد من دون الله ويتبرأ منه؛ لأن الذي يعبد من دون الله هو الطاغوت، كما قال الله جل وعلا في هذه الآية: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4]، ثم استثنى جل وعلا من ذلك ما لا يكون لنا أسوة فيه فقال: {إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة:4]، ففي هذا لا تتأسوا به، فلا تستغفروا للمشركين، وهذا جاء صريحاً في قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة:113 - 114]، فالإنسان لا يقول: أنا غير مكلف بمعاداة الناس، بل أنت مكلف بذلك، فالله كلفك أن تعادي أعداء الله؛ لأن الذي يوالي أعداء الله جل وعلا يكون بعيداً عن الله؛ لأن العبادة هي الحب القلبي، حب الخضوع والذل والتعظيم، هذه هي حقيقة العبادة، فكيف تحب عدو الله، هذا لا يمكن؛ ولهذا يقول جل وعلا: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256]، وسيأتينا تفسير الطاغوت

خطأ من يظن أن التوحيد هو توحيد الربوبية فقط

خطأ من يظن أن التوحيد هو توحيد الربوبية فقط قال الشارح رحمه الله: [وليس المراد بالتوحيد مجرد توحيد الربوبية، وهو اعتقاد أن الله وحده خلق العالم، كما يظن ذلك من يظنه من أهل الكلام والتصوف، ويظن هؤلاء أنهم إذا أثبتوا ذلك بالدليل فقد أثبتوا غاية التوحيد، وأنهم إذا شهدوا هذا وفنوا فيه فقد فنوا في غاية التوحيد، فإن الرجل لو أقر بما يستحقه الرب تعالى من الصفات، ونزهه عن كل ما ينزه عنه وأقر بأنه وحده خالق كل شيء لم يكن موحداً حتى يشهد بأن لا إله إلا الله وحده، فيقر بأن الله وحده هو الإله المستحق للعبادة، ويلتزم بعبادة الله وحده لا شريك له، والإله هو المألوه المعبود الذي يستحق العبادة، وليس هو الإله بمعنى القادر على الاختراع، فإذا فسر المفسر الإله بمعنى القادر على الاختراع واعتقد أن هذا المعنى هو أخص وصف الإله، وجعل إثبات هذا هو الغاية في التوحيد، كما يفعل ذلك من يفعله من متكلمة الصفاتية، وهو الذي يقولونه عن أبي الحسن وأتباعه لم يعرف حقيقة التوحيد الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن مشركي العرب كانوا مقرين بأن الله وحده خالق كل شيء، وكانوا مع هذا مشركين، قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106]. قالت طائفة من السلف: تسألهم: من خلق السموات والأرض؟ فيقولون: الله، وهم مع هذا يعبدون غيره، قال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [المؤمنون:84 - 89]]. المتكلمون جعلوا توحيد الربوبية غاية التوحيد، ويستدلون على توحيد الربوبية بالأدلة العقلية التي اتخذها المتكلمون أصلاً في هذا، وبنوا عليها الحكم على الناس، وقالوا: إن أول واجب على العبد النظر في هذا الشيء، يجب عليه أن يتجه للنظر وإثباته بالدليل، فإن لم يفعل هذا فليس بمؤمن. والواقع أن الذي يقولونه لا يكفي في النجاة؛ لأن النظر الذي أرادوه وقالوه وأثبتوه، كله في إثبات الربوبية؛ لأنهم قالوا: هذه المخلوقات تدل على الخالق؛ لأن الإنسان لا يمكن أن يكون أوجد نفسه، ولا يمكن أن يكون أوجده موجد مثله، وكل محدث لابد له من محدث، والمحدث يجب أن ينتهي إلى محدث قادر كامل، أول بلا بداية وآخر بلا نهاية؛ لأنه غني بنفسه عن كل ما سواه، وأدى النظر إلى هذا في النظر في المخلوقات وفي أنفسهم وفيما حولهم من المخلوقات وفي الآفاق، وهذا جعلوه هو الغاية في التوحيد، والواقع أن هذا لا يكفي، والفناء الذي يقوله بعض الصوفية المقصود به أن يكون نهاية عمله وغاية مقصده في هذا، يعني أنه يجتهد كل الاجتهاد في هذا، والواقع أنه قد يفنى في هذا وهو مشرك بالله يعبد غيره؛ ولهذا أدى هذا الأمر بكثير منهم إلى الزندقة والخروج من الدين الإسلامي، فيقول مثلاً: أنا أتقلب في طاعة الله دائماً؛ لأني ما أخرج عن إرادته وعن مشيئته، فمثلاً الصلاة مأمور بها شرعاً، فإذا لم يصل يقول: إن الله شاء ذلك مني وأراده، فإذاً: أنا مطيع لإرادة الله الكونية القدرية، فأنا في طاعة، هذه نتائج النظر، وهل المقصود النظر في هذا فقط؟ لا. يقول ابن إسرائيل الذي يجعلونه من العارفين: أصبحت فعلاً لما يراد بي ففعلي كله طاعات كل فعله طاعات، حتى الكفر يكون طاعة عنده! وكذلك غيره، وهؤلاء المتكلمون يجعلون معنى الإله: القادر على الخلق والإيجاد والإحياء والإماتة، ويسمونه القادر على الاختراع، وهذا هو معنى الإله عندهم، وهذا في الواقع كذب على اللغة وعلى الشرع، وليس هذا معناه، وإنما معنى (الإله) المعبود، وليس معناه الرب؛ لأن الرب هو المالك المتصرف الذي يتصرف في الشيء ويملكه، ويفعل فيه ما يريد، ومعنى الرب غير معنى الله، معنى الله هو الألوهية والعبودية، والله طلب من الخلق أن يعبدوه وأن يوحدوه، فالمقصود أن الذي جعلهم يقولون هذا القول هو كونهم اعتمدوا على عقولهم، والعقول غايتها أن تدل على وجود الله فقط، أما أن تدل على بيان حقوقه، فهذا لا يدل عليه إلا الوحي الذي جاءت به الرسل. وفي الجملة يلزم من كونه الرب أن تعبده وحده، ولكن من يعرف العبادة؟ العبادة تتوقف على الشرع، فمن العبادة الشرعية الإخلاص في كل عمل يصدر من الإنسان، فيريد به الثواب، والعبادة لابد أن يأتي بها الأمر من الله جل وعلا، وهذا يتوقف على الشرع، وهذا في الواقع وإلا فأقسام التوحيد متلازمة، لا ينفك واحد عن الثاني. وقولهم: الإله هو القادر على الاختراع، وإن هذا من أخص خصائص الإله يلزم منه أن يوحدوه، وأن يعبدوه وحده، وألا يتجهوا بقصدهم ونياتهم وأفعالهم إلى شيء آخر، كما قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:21 - 22]، فألزمهم الله جل وعلا بأن تكون العبادة له وحده؛ لإقرارهم بأنه هو الذي خلقهم وخلق من قبلهم، وهو الذي جعل الأرض على هذه الصفة، وهو الذي ينبت النبات، وهو الذي يرزقهم، ألزمهم بإقرارهم هذا أن يعبدوه وحده، وهكذا في آيات كثيرة يجعل ربنا جل وعلا إقرارهم بتوحيد الربوبية ملزماً لهم بأن يعبدوا وحده، كقوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:62]، وهم اتخذوا مع الله آلهة، فالله ينكر عليهم هذا، وهذا في الواقع كثير في القرآن، ولكن الذي جعل المتكلمين يقولون هذا القول هو إعراضهم عن القرآن وعدم تأملهم له، وزعمهم أن في القرآن ظواهر لا تدل على التوحيد، عكس ما كان عليه السلف. فالحقيقية والواقع أن اليقين هو الذي جاء به القرآن، وجاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، لا ما دل عليه العقل، وهم يؤصلون في هذا أصولاً يتبنونها، ويقولون: عرفنا صدق الرسول صلى الله عليه وسلم بعقولنا، فالعقل هو الذي ميز بين الساحر والكاهن والمتنبي والنبي، عرفنا ذلك بعقولنا، فإذا كان أصل معرفة الرسول بالعقل فيكون العقل هو الأصل. فلا يجوز أن يجعل الفرع حاكماً على الأصل، وهذا مبدأ اعتقادهم، هذا من ناحية، وهذا في الواقع ضلال، فالله جل وعلا يأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول: {وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} [سبأ:50]، يعني: هداية الرسول صلى الله عليه وسلم بالوحي الذي جاءه من الله، ولا يمكن لأحد غير الرسول أن يهتدي بغير الوحي، لا يمكن أبداً، فالهدى لا يكون إلا بالوحي، ولكن العقل يكون مساعداً؛ لأن الوحي لا يأتي مخالفاً للعقل. فالمقصود أن الواجب على العبد أن يتعرف على دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويعلم أن نجاته بها، ولن تكون له نجاة وهو يجعل عقله دليلاً، أو يجعل شيخه هو الذي يعرف الحق فقط ويترسم طريقه، والله جل وعلا يقول: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65]، وهذا عام شامل في العقائد وفي الأفعال وفيما يحدث من النزاع والشجار بين الخلق وفي كل شئون الحياة، يجب أن يكون الوحي هو الحاكم والمسيطر على عقيدتك وعلى عملك وعلى سلوكك وعلى معاملتك مع الناس، يجب أن يكون هو الحاكم المسيطر على ذلك، وإلا فيكون الإنسان على خطر شديد.

إقرار المشركين بتوحيد الربوبية وشركهم في توحيد الإلهية

إقرار المشركين بتوحيد الربوبية وشركهم في توحيد الإلهية قال الشارح رحمه الله: [وعامة المشركين أقروا بأن الله خالق كل شيء، وأثبتوا الشفعاء الذين يشركونهم به، وجعلوا له أنداداً، قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الزمر:43 - 44]، وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس:18]]. قوله تعالى في هذه الآية: (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ) الذي لا يعلمه الله جل وعلا ليس له وجود أصلاً، فهذا إبطال بليغ لدعوتهم الشفعاء، يعبدون من دون الله الذين يتخذونهم من الأصنام ومن الأشخاص ومن غير ذلك، ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، ويقول الله جل وعلا آمراً رسوله: (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ)، فهل يمكن أن يكون شيء في السماء أو في الأرض لا يعلمه الله؟ لا يمكن أن يوجد شيء في السماء في الأرض إلا ويعلمه الله، والله جل وعلا لا يعلم آلهة في السماء ولا في الأرض، وأن هناك من يشفع دونه، فمعنى هذا أنه لا وجود له أصلاً. وقوله في الآية الأولى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ} [الزمر:43] يقول المفسرون: كل ما جاء من القرآن (أم) فمعناها: بل، أي: بل اتخذوا من دون الله شفعاء. يقول جل وعلا: (أم تخذوا من دون الله شفعاء) مع أنهم لا يملكون شيئاً ولا يعقلون؛ لأنهم إما حجر وإما شجر وإما ميت لا يسمع ما يقال نحو ويدعى به، ولو سمع ما استطاع أن يجيب، بل لا يستطيع أن ينفع نفسه، فإذاً دعوتهم ذاهبة في ضلال في الواقع، فكيف يجوز للعاقل أن يسلك هذا المسلك؟ ثم يقول جل وعلا بعدها: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر:44]، فهذا عموم لا يخرج منه شيء، كل شفاعة تقع يوم القيامة هي لله، والمعنى أنه لا تقع شفاعة عند الله جل وعلا إلا إذا أمر الشافع أن يشفع، والله جل وعلا لا يأمر الأصنام أن تشفع، ولا يأمر المعبودات دونه أن تشفع لأحد.

شرح فتح المجيد [4]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [4] خلق الله عز وجل الجن والإنس لعبادته سبحانه، وليس معنى هذا أنه محتاج إليهم، بل هو الغني العزيز، وإنما خلقهم ليبتليهم، فمن أطاع فله الجنة ومن عصى فله النار. والعبادة لا تكون صحيحة ومقبولة إلا بشرطين أساسيين هما: الإخلاص والمتابعة.

الحكمة من خلق الثقلين

الحكمة من خلق الثقلين قال المصنف رحمه الله: [وقول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]]. في هذه الآية بيان العلة التي من أجلها خُلق الجن والإنس، وهي أن الله جل وعلا خلقهم ليعبدوه، ولهذا قال بعدها: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:57 - 58]، والمعنى أن الله جل وعلا خلقهم للعبادة، وتكفل بما يلزم لحياتهم من الأرزاق والمعافاة في الأبدان وما يصون حياتهم إلى أن يأتي الأجل الذي قدره الله جل وعلا، وليس الرب جل وعلا في خلقه وإيجاده العباد يُقاس على الذين يكتسبون العباد ليكونوا عزاً لهم وقوة أو يتعززون ويتكثرون بهم عند الحاجة، فالله جل وعلا غني بنفسه عن كل ما سواه، وليس هو جل وعلا بحاجة إلى العباد وإلى عبادتهم، وإنما خلقهم ليبتليهم، كما قال جل وعلا في الآية الأخرى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2]، ومن المعلوم أن الله جل وعلا يعلم كل شيء، وعلمه جل وعلا أزلي لا يمكن أن يستجد له علم بعد أن لم يكن، تعالى وتقدس، فعلمه كامل تام في الأزل، وكل الغيوب عنده مثل المشاهدة، وكل ما سيقع قد علمه أزلاً. يعني أنه علم من يعبد ممن لا يعبد قبل أن يخلقهم، وقد ضل في معنى هذه الآية كثير من المتكلمين الذين يقولون: هذا خبر من الله وقد خالف الواقع، فالله جل وعلا يقول: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، والواقع أن أكثر الناس لا يعبدون، فأين صدق هذا الخبر؟ فنقول: ليس هذا هو المقصود بالآية، بل الآية معناها أن الله جل وعلا أخبرنا أنه خلقنا، وأنه خلقنا لعبادته، ولكن وكَّل العبادة إلينا وطلبها منا، وذلك أن الله جل وعلا جعل في المخلوق عقلاً وفكراً واختياراً وقدرة، وكلفه بالشيء الذي يستطيع فعله، وأمره بأوامر محددة، والناس كلهم بالنسبة للأوامر سواء، فلا تمييز بين كافر ومؤمن. وقد أخبرنا ربنا جل وعلا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أن هذا في أمور خمسة فقط: عبادة الله وحده لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً، وهذه الأمور الخمسة الناس ليسوا فيها سواءً أيضاً؛ لأن بعضهم لا تجب عليه كلها. أما العبادة فلا يخرج منها أحد من الخلق، فما دام الإنسان قد وصل إلى العقل ووجدت عنده المقدرة فإنه يجب أن يلتزم بعبادة الله دائماً وأبداً، وكلما ازداد علم الإنسان بالله جل وعلا زادت العبادة والخشية عنده، كما قال الله جل وعلا: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] يعني: الخشية التي يستحقها. وإلا فالخشية توجد من غير العلماء أيضاً، ولكن الخشية الواجبة، فإذا ازداد علم الإنسان ازداد خشية، ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إني أتقاكم لله وأخشاكم له)، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق بالله جل وعلا، فالخشية الواجبة لا تنفك عن الإنسان، والعبادة هي كل عمل يفعله الإنسان يتقرب به إلى الله، فيجب أن يكون خالصاً لله، كل عمل تفعله تطلب به الثواب وكل شيء تتركه وتخاف أنك لو فعلته لعوقبت فهذا يكون عبادة، فيجب أن تكون العبادة لله وحده، ولا يُشرَك في عبادته شيء لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، وهذا أمر يعم الخلق كلهم. والذين يقولون: إن الإنسان إذا ترقى في العلم ووصل إلى درجة العلم اللدني يسقط عنه التكليف هؤلاء يكونون بهذا القول كفاراً خارجين من الدين الإسلامي باتفاق العلماء، ويستدلون على هذا القول الكفري بقوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] وما أشبه ذلك من التحريفات، ويقولون: اليقين هو العلم اليقيني الذي تصل به إلى درجة أنك تشاهد الأشياء، فتشاهد ربك، وتشاهد الملائكة، وتشاهد الجنة، وتشاهد النار، والواقع أن الإنسان إذا وصل إلى هذه الحالة فمعنى ذلك أنه يشاهد ربه الذي هو الشيطان، يشاهده على كرسي يجلس بين السماء والأرض أو يجلس على البحر ويزين له أشياء، فيقول له: هذه الجنة وهذه النار، وهذا كذا وكذا، هذا هو الواقع، وأما الآية فمعناها: واعبد ربك حتى يأتيك الموت. أما بقية الأمور الخمسة فإنه إذا عقل الإنسان وصار مميزاً أمر بالصلاة، وإن كانت لا تجب عليه تدريباً له وتأنيساً، حتى لا ينفر منها ولا تأتيه الأمور بغتة فلا يستطيع القيام بها، وإنما تجب عليه إذا بلغ سن التكليف، ولا تسقط الصلاة بحال إذا وجبت، وما دام عقله موجوداً، فالصلاة واجبة عليه، وهذا يشمل كل إنسان إلا المرأة الحائض والنفساء، والله جل وعلا رحيم، فإذا استطاع الإنسان أن يصلي الصلاة المطلوبة وهو قائم ويركع ويسجد فهذا فرض، وإن لم يستطع صلى وهو جالس، فإن لم يستطع صلى وهو على جنبه، يومئ برأسه إن استطاع أو بعينه بالنية، وإن استطاع أن يتوضأ وجب عليه، وإن لم يستطع تيمم، فما دام عقله موجوداً فالصلاة واجبة عليه. أما الزكاة فلا تجب إلا على صاحب المال، ولا تجب على المسلمين كلهم، فالذي عنده مال ويبلغ النصاب وحال عليه الحول يجب عليه الزكاة. وأما الصوم فقد خفف الله جل وعلا عن عباده فجعل الصوم الواجب شهراً في السنة فقط، إلا أن يوجب الإنسان على نفسه شيئاً من نذر وما أشبه ذلك، ثم هو لا يجب إلا على المكلفين العقلاء، ثم إذا مرض الإنسان فإن الله جل وعلا قد رخص له أن يفطر ويأكل ويتقوى ويصوم أياماً أخر، وكذلك المسافر. وأما الحج فلا يجب إلا على من يستطيع ببدنه وبماله ويأمن طريقه ويجد النفقة لمن يعولهم حتى يرجع، وإذا تخلف شرط من هذه الشروط فالحج ليس واجباً، ولو مات ولم يحج فليس عليه شيء، ولا يجب أن يُحج عنه، والمرأة تزيد على هذا أن تجد لها محرماً ممن تحرم عليه على التأبيد من ابن أو أخ ونحوهما، وكذلك زوجها، ويشترط أن يذهب معها حتى ترجع، فإذا لم تجد محرماً فلا يجب عليها الحج، ولو ماتت ولم تحج على هذه الحالة فليس عليها حج. فهذه الأمور الخمسة هي التي رُتب عليها دخول الجنة، فإذا جاء بها الإنسان فقد جاء بالحق الواجب عليه الذي أوجبه الله عليه، وهل هذا صعب؟ A لا. بل هو سهل جداً، ولكن على من سهله الله عليه، وهذه الأمور جُعلت للناس عامة لم يُخص بها إنسان دون آخر، فلهذا نقول: إن قوله جل وعلا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] يبين، أن الله خلقهم وأخرجهم من العدم إلى الوجود بالطريقة التي أخبرنا جل وعلا بها، وطلب منهم العبادة، وأخبرهم أنه خلقهم لعبادته، ونهاهم أن يعبدوا غيره، وتوعدهم إذا عبدوا غيره، وأراهم ما حل بالكافرين الذي يعبدون غيره من العقاب والعذاب، وكذلك قدم إليهم بالوحي على ألسنة الرسل أن من عبد غير الله فإنه يخلد في جهنم ما دامت السماوات والأرض، فبعد هذا لا يكون للإنسان أي عذر في تركه العبادة وقد وكِّل الأمر إليه، فقيل له: هذه الأمور المطلوبة منك افعلها إن شئت أو لا تفعلها، فإن فعلتها أكرمت وأثبت ونعمت في الدنيا والآخرة، وإن لم تفعلها أهنت وعوقبت وعذبت العذاب الأليم الذي لا يطيقه أحد حتى الجبال، ثم بعد ذلك خُلي الأمر وتُرك إليه؛ لأن عنده الاختيار وعنده المقدرة وعنده الاستطاعة، ولم يكلف الله نفساً إلا ما يسعها وما تطيقه وما تستطيعه. فإذاً يكون معنى الآية واضحاً، وهو أن الله خلقنا وأوجدنا من العدم وطلب منا أن نعبده، كما قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] يعني أن الغاية من خلقهم والحكمة من إيجادهم هي العبادة، ثم جعل العبادة إليهم فإن فعلوها فقد فعلوا ما طلب منهم وبه تكون سعادتهم، وإن لم يفعلوها فقد توعدوا وسوف يلقون جزاءهم، وهذا كقوله جل وعلا: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء:64] فقوله: (ليطاع) هل كل أحد يطيع الرسول؟! A لا. بل أكثر الناس لا يطيعونه، ولكن هذا لا يمنع أن تكون الحكمة لأجل الطاعة، فعلى هذا يكون المعنى جلياً وواضحاً.

شبهة والرد عليها

شبهة والرد عليها وليس في الآية إشكال، كما يقول كثير من الناس: إن هذه من المشكلات؛ لأن الله أخبر أنه خلق الخلق للعبادة فتخلفت العبادة وما وجدت من أكثر الناس، وإنما وقعت العبادة من بعضهم، فكيف يخبر الرب جل وعلا بشيء خلاف الواقع؟ فنقول كما تقدم: هذا ليس هو المقصود بالآية، وإنما المقصود بالآية أن ربنا جل وعلا يخبرنا أن الذي خلقنا له هو العبادة، ووكل الأمر إلينا، فإن فعلنا العبادة استحققنا جزاء ربنا في الثواب، وإن لم نفعله فإن الله جل وعلا يعاقبنا؛ لأن هذا هو معنى التكليف، ولا ينافي هذا كون الرب جل وعلا علم كل شيء، ولكن لتمام عدله جل وعلا لا يؤاخذ إلا بالفعل الذي يُفعل، ولا يؤاخذ بعلمه، فإنه علم كل شيء قبل وجود الخلق، يعلم أن هذا المخلوق سوف يولد وسوف يعبد أو لا يعبد، وكل هذا مكتوب في اللوح المحفوظ، كتبه الله جل وعلا قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، أما علمه فلا حد له، وعلمه أزلي، علم كل شيء في الأزل تعالى وتقدس، ولكن لتمام عدله فإنه لا يؤاخذ إلا على العمل البارز المشاهد الذي يعمله الإنسان، كما في الحديث الصحيح قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا شبر أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا شبر أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)، يعني: ما أحد يدخل الجنة إلا بعمله، ولا أحد يدخل النار إلا بعمله الذي يعمله، فالله يأخذ الإنسان بعمله؛ لأنه ركب فيه العقل والاختيار والقدرة وأمره بما يستطيعه، فإذا فعل ذلك فهذا عنوان الامتثال والطاعة، وإذا امتنع فهذا عنوان الشقاء والمعصية والإباء، وبهذا يتبين لنا معنى الآية. قال الشارح رحمه الله: [بالجر عطف على التوحيد، ويجوز الرفع على الابتداء]. يعني قوله: [وقوله تعالى] بعد قوله: [كتاب التوحيد]، فكتاب مبتدأ، وهو مضاف والتوحيد مضاف إليه، و (قوله): يكون معطوفاً على المضاف عليه فيكون مجروراً، ويجوز أن يرفع فيكون (وقولُه)، فيكون معطوفاً على الخبر المقدر.

العبادة

العبادة

تعريفها

تعريفها قال الشارح رحمه الله: [قال شيخ الإسلام رحمة الله عليه: العبادة هي طاعة الله بامتثال ما أمر الله به على ألسنة الرسل. وقال أيضاً: العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة. قال ابن القيم رحمه الله: ومدارها على خمس عشرة قاعدة، من كملها كمل مراتب العبودية. وبيان ذلك أن العبادة منقسمة على القلب واللسان والجوارح، والأحكام التي للعبودية خمسة: واجب ومستحب وحرام ومكروه ومباح، وهن لكل واحد من القلب واللسان والجوارح. وقال القرطبي: أصل العبادة التذلل والخضوع، وسميت وظائف الشرع على المكلفين عبادات لأنهم يلتزمونها ويفعلونها خاضعين متذللين لله تعالى]. تعريف العبادة في الحقيقية مهم جداً، لكي يعرف كل إنسان معنى العبادة التي خلق لها؛ لأن الله جل وعلا يقول: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، وكثير من الناس اليوم لا يعرف معنى العبادة، كما أنه لا يعرف معنى الإله، وأكثر ما يقع الضلال في المسلمين الذين هم في بلاد الإسلام بسبب هذين الأمرين: الأول: كونهم لم يعرفوا معنى العبادة. والثاني: كونهم لم يعرفوا معنى الإله، فوقعوا في الشرك لجهلهم بهذين الأمرين. فعلى هذا يجب على الإنسان أن يتنبه لذلك، ويهتم له مخافة أن يقع في الشرك وهو لا يدري؛ لأن الذي يصرف شيئاً من العبادة لغير الله يكون مشركاً، والله جل وعلا أخبرنا أنه أغنى الشركاء عن الشرك، فمن أشرك في عمل غير ربه مع ربه جل وعلا تركه الله لشريكه؛ لأنه غني، وهو لا يقبل الشرك تعالى وتقدس، وقد أمر الله بإخلاص العبادة له في آيات كثيرة، منها قوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة:5]، وهذا أمر العباد كلهم من أولهم إلى آخرهم، فالعبادة عرفها شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، فقوله: (اسم جامع) يعني أن تسمية العبادة عبادة يجمع أشياء كثيرة، يجمع العمل ويجمع القول ويجمع العقيدة؛ لأن الاعتقاد كله عبادة. فالعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، ولا يكون العمل عبادة إلا إذا كان مأموراً به، فالله لا يحب ولا يرضى إلا ما أمر به، والشيء الذي لم يأمر الله جل وعلا به لا يكون عبادة، فلا يتعبد الإنسان برأيه أو بنظره وقياسه، وإن كان هذا العمل عبادة في اللغة، ولكنه في الشرع ليس عبادة. العبادة في الشرع لابد أن يجتمع فيها أمران: أحدهما: أن تكون خالصة لله. والثاني: أن تكون هذه العبادة قد جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرعها، فإن تخلف واحد من هذين الأمرين فليست عبادة في الشرع، وإن كانت عبادة في اللغة. ولهذا قال: العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله من الأقوال، مثل التسبيح والذكر والقراءة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك مما يقال باللسان، والأعمال يدخل فيها أعمال الجوارح، مثل الركوع والسجود والطواف، حتى كَشْفُ الرأس لله جل وعلا في الإحرام عبادة، ويدخل فيه أعمال القلوب، مثل النية والخشية والخوف والرجاء والإنابة والتوبة والندم على الذنب وما أشبه ذلك، فكل هذه من الأعمال، ولهذا قال: من الأعمال الظاهرة والباطنة، فالظاهرة التي تفعل بالجوارح، والباطنة التي تفعل بالقلب، هذا معنى تعريفه هذا، وهو تعريف جامع مانع. وأما التعريف الثاني: فهو الذي ذكره عن القرطبي أن العبادة هي التذلل، فيقال: طريق معبد إذا ذل بوطء الأقدام وأصبح سهلاً مسلوكاً، وطريق غير معبد إذا كان وعراً، وفيه ما يعثر به القدم، ولكن لابد أن يضاف إلى هذا التعريف أنها التذلل لله مع الحب، وليس كل من ذل لأحد يكون عابداً له، فقد يذل الإنسان لظالم وقلبه يلعنه ولسانه يذكر أنه يحبه، فلا يكون هذا عبادة، وإنما العبادة أن يذل القلب مع محبة المذلول له وتعظيمه، وهذا لا يجوز أن يكون إلا لله وحده جل وعلا. إذاً العبادة هي غاية الذل مع الحب والتعظيم لله جل وعلا، ولابد أن يكون هذا في الشيء الذي أُمر به الإنسان؛ لأن العبادة -كما قلنا- توقيفية، والله جل وعلا يقول: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]، فالعمل الصالح هو موافقة سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا وافق العمل السنة صار صالحاً، وإن خالفها فهو فاسد، وقوله تعالى: {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]، يعني: أن تخلص لله عبادتك، وهذا هو معنى ما جاء في عدد من الآيات، من أنه جل وعلا وصف ما جاء به الرسول أنه هدىً وأنه دين الحق، فالهدى هو: العلم اليقيني الذي يكون على ضوء ما جاء به الرسول، ودين الحق هو: العمل بذلك، فلابد أن يكون القلب والجوارح كلاهما قد تحلى بالعبادة، فعلى هذا كل شيء يعمله الإنسان فإنه يرجو ثوابه من الله، فيجب أن يكون خالصاً لله. فمن ذلك: الدعاء، والدعاء هو من أفضل العبادة، وقد جاء في الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الدعاء هو العبادة)، والله جل وعلا إذا لم يُدعَ يغضب، ويقول الله جل وعلا: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، ويقول جل وعلا: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186]، {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60]. فبين بهذا أن الدعاء هو العبادة، فلا يجوز أن ندعو ميتاً أو غائباً أو من لا يستطيع الإجابة، فإن وقع هذا من إنسان فمعنى ذلك أنه عبد غير الله، وهكذا إذا طلب من مخلوق من المخلوقات ما لا يستطيع، أو طلب من غائب لا يسمع، أو من جني لا يدري هل هو موجود أو هو غائب، أو من ملك لا يدري هل هو حاضر أو غائب، أو ميت لا يستطيع أن يجيب، كل هؤلاء إذا وجه الطلب إليهم يكون ذلك في غير محله، ويكون عبادة صرفت لغير الله، فكل ما يطلب من الله جل وعلا ولا يقدر عليه إلا هو جل وعلا فيجب أن يكون عبادة خالصة له ولا يجوز أن يصرف لغيره جل وعلا.

نسبة علم الغيب إلى الله تعالى ومنافاته للعبادة

نسبة علم الغيب إلى الله تعالى ومنافاته للعبادة وأما الإله فهو الذي تألهه القلوب، أي: تحبه وتنيب إليه وتذل له وتعظمه، وبعض الناس قد يعبر عن هذا بالخوف السري، أي: أن الإنسان قد يخاف من مخلوق أن يطلع على ما في ضميره أن يعاقبه، والذي يطلع على الضمائر هو الله فقط، فلا أحد من الخلق يطلع على ما في الضمير أبداً، فمن جعل لمخلوق هذا الشيء فقد أشرك بالله، وإذا جعل للمخلوق الميت الغائب شيئاً من العبادة خوفاً من أنه لو لم يفعل كذا وكذا لأصابه بشيء إما في بدنه أو في ماله أو ما أشبه ذلك فمعنى ذلك أنه أشرك في الخوف الذي يجب أن يكون لله خالصاً، فيكون قد وقع في الشرك، وهذا عام شامل حتى في الرسل، فلا يجوز أن يقول الإنسان: إن الرسول يعلم الغيب؛ لأن الرسول لا يعلم من الغيب إلا ما علمه الله جل وعلا، كما قال الله جل وعلا: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} [الجن:26 - 28]، أي: أنه يطلع بعض رسله على شيء من المغيبات ليكون ذلك دليلاً على صدقه، وعلى نبوته، وعلى أنه جاء بالحق من عند الله، ويكون آية له، أما أن يُعتقد أنه يعلم ما في القلوب، كما يقول الشاعر الذي وقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصار يدعوه وينزل الدموع ويقول: هذه علتي وأنت طبيبي ليس يخفى عليك في القلب داء فهذا في الواقع من الشرك بالله؛ فإن الذي لا يخفى عليه شيء مما القلب هو الله جل وعلا وحده، وكذلك قوله: يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي فضلاً وإلا فقل: يا زلة القدم ولن يضيق -رسول الله- جاهك بي إذا الكريم تحلى باسم منتقم فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم إلى آخر ما قال. وهذا كله في الواقع صرف لما هو من خصائص الله وجعله للرسول صلى الله عليه وسلم، فهو يستغيث بالرسول صلى الله عليه وسلم من الله، ويقول: إذا غضب الله يوم القيامة غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله فأنا أعوذ بك من الله، أعوذ بالله! وقوله في هذه الأبيات (ولن يضيق رسول الله) يعني: (يا رسولَ الله) بالنصب على النداء. يقول: ولن يضيق -رسول الله- وجاهك بي إذا الكريم تحلى باسم منتقم يعني: أنا ألوذ بجاهك من غضب الله، وقوله: (فإن من جودك الدنيا وضرتها) يعني: من جودك الدنيا والآخرة، وقوله: (ومن علومك علم اللوح والقلم) يقول: من جملة علومك -يا رسول الله- علم اللوح الذي كتب فيه كل شيء، وعلم القلم الذي كتب كل شيء، فأشرك بالله جل وعلا، وهذا مثل قول النصارى تماماً حين قالوا: عيسى هو الله -تعالى الله وتقدس عن ذلك علواً كبيراً- والمقصود أن الإنسان عبد يجب أن يعلم حده ويعلم قدره، والله جل وعلا يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:65 - 66]، وقد رميت زوجته صلى الله عليه وسلم بالبهت والكذب فبقي قرابة شهر وهو لا يدري، حتى نزل عليه الوحي ببراءتها، بل كان يسأل الجارية ويستشير حتى نزل الوحي من الله يبين أنها بريئة وأن هذا كذب وبهتان، وكذلك صلت ناقته صلى الله عليه وسلم فأرسل من يطلبها، فقال أحد المنافقين: أهذا يزعم أنه يعلم ما في السماء وهو لا يدري أين ناقته؟! فجاءه الخبر من الله جل وعلا فقال: (إني والله! لا أعلم من الغيب إلا ما علمني الله جل وعلا، وإن فلاناً قال كذا وكذا، وإن الله جل وعلا قد أعلمني أنها في الشعب الفلاني قد أمسكت بزمامها شجرة) فأرسل من يأتي بها، إلى غير ذلك من الأشياء وهي كثيرة وكثيرة جداً، وكثير ممن يزعم أنه هو المتبع للرسول صلى الله عليه وسلم يعتقد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم كل شيء، وأنه يعلم الغيب ويعلم ما يعلمه الله، ويقول: الذي يقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب يكون كافراً؛ لأنه لم يعرف قدر الرسول صلى الله عليه وسلم، يعني: الذي يتبع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يكون كافراً في زعمه. فعلى كل حال ما أعجب ما خلق الله جل وعلا لهذا الإنسان، وما يكون عنده من الأفكار والمحن والاختلافات، والله جل وعلا يقلب القلوب كيف يشاء، فإذا رد الإنسان شيئاً من أمر الله لأجل رأيه أو مذهبه أو اتباع لشيخه فإن الله جل وعلا يعاقبه بأن يزيغ قلبه وبأن يرى الحق باطلاً والباطل حقاً، فيزين له سوء عمله، فمن يهديه؟ لا أحد يهديه، فإذا أضله الله جل وعلا على ذلك يجعله يرى الحسن سيئاً والسيئ حسناً، فلا حيلة فيه إلا أن تطلب له الهداية من الله جل وعلا الذي يستطيع أن يهديه، أما الخلق فلن يستطيعوا، بل ولو بينت له كل البيان ما استطعت أن تهديه، ومع ذلك لا يقال: إنه معذور أو إنه جاهل؛ لأن الله جل وعلا بين لنا والرسول صلى الله عليه وسلم وضح لنا وبلغنا البلاغ المبين، فلا عذر لأحد بعد بلاغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله جل وعلا له: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} [سبأ:50]، وقال: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} [الأعراف:188]، وقد أخبر بهذا جميع الرسل.

معنى الشهادتين

معنى الشهادتين العبادة يجب أن تكون خالصة لله، وأن تكون العبادة بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا هو معنى: (أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله)، فشهادة (أن لا إله إلا الله) يعني: أني لا أعبد إلا الله وحده، وكل معبود من دون الله أكفر به وأتبرأ منه، ومعنى (أشهد أن محمداً رسول الله) أني أتيقن يقيناً أنه رسول من الله جاء بالشرع، وأني لا أعبد الله إلا بالشرع الذي جاء به، فهو الذي بلغني شرع الله وهو الذي أكرمه الله جل وعلا بالرسالة، فهو رسول يطاع ويتبع وليس له من الألهية شيء، فلا يعبد الله إلا بما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم وجاء به، فمعنى شهادة أن محمداً رسول الله طاعته في أمره واجتناب ما نهى عنه، وأنه رسول مكلف من الله بإبلاغ الرسالة وليس له من العبودية شيء، كما أمره الله جل وعلا أن يبلغ هذا فقال له: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]، وهذا هو أصل دين الإسلام الذي لا يجوز لمسلم أن يكون جاهلاً به، وهو الذي يسأل عنه الإنسان في القبر، فكل مقبور إذا دفن في قبره يأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من كنت تعبد؟ وبأي شيء تعبد؟ ومن الذي جاءك بالعبادة؟ ومن أين أخذت العبادة؟ فكل إنسان يسأل هذه الأسئلة الثلاثة التي هي: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فمعنى: (من ربك)؟ أي: من الذي تعبده؟ ومعنى: (ما دينك)؟ أي: ما هو الذي تتعبد به؟ وهل كنت تخلص الدين لله جل وعلا؟ و (من نبيك)؟ معناه: ممن أخذت العبادة؟ ومن هو الذي اتبعته في العبادة؟ فإذا كان موقناً مؤمناً أجاب الجواب الصحيح، وقال: ربي الله، وديني الإسلام، والذي جاءنا بالشرع هو رسول الله محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، وهل يسكتان عند ذلك؟ A لا. وإنما يقولان: وما يدريك؟ أي: ما دليلك؟ فيقول: قرأت كتاب الله وآمنت به، فعند ذلك يقولان له: قد علمنا فيفتح له باب إلى الجنة، ويقولان له: انظر إلى مكانك في الجنة، فإذا رآه قال: دعاني أذهب إليه، فيقولان: نم وأنت ذاهب، فعند ذلك يدعو ويقول: يا رب! أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومنزلي. أما إذا كان مرتاباً أو شاكاً أو مقلداً فإنه يتلعثم ويقول: هاه هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فيضربانه بمطرقة من حديد، ويلتهب عليه قبره ناراً، ويضيق عليه قبره حتى تختلف عليه أضلاعه، ويفتح له باب إلى النار، ويقال: انظر إلى منزلك، عند ذلك يقول: يا رب! لا تقم الساعة؛ لأنه يعلم أن ما بعد وقته هذا أشد منه. والمقصود: أن هذا يسأل عنه كل مقبور بالغ من ذكر وأنثى، فكل بالغ يسأل عن هذا الشيء، فإن كان متيقناً فهذا الذي يقول الله جل وعلا فيه: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]، وإن كان مرتاباً فهو ظالم لنفسه، حيث ترك أمر الله ولم يهتم به.

واجب العباد تجاه الأوامر والنواهي الشرعية

واجب العباد تجاه الأوامر والنواهي الشرعية قال الشارح رحمه الله: [ومعنى الآية: أن الله تعالى أخبر أنه ما خلق الجن والإنس إلا لعبادته، فهذا هو الحكمة في خلقهم. قلت: وهي الحكمة الشرعية الدينية، قال العماد بن كثير: وعبادته هي طاعته بفعل المأمور وترك المحظور، وذلك هو حقيقة دين الإسلام؛ لأن معنى الإسلام: الاستسلام لله تعالى المتضمن غاية الانقياد والذل والخضوع. انتهى. ]. هذا تعريف آخر للعبادة، عرفها ابن كثير رحمه الله بأنها طاعة الله بفعل المأمور وترك المحظور، طاعة الله بفعل ما أمر وترك ما حرم، والاستسلام له والانقياد في ذلك، ومعنى أن يستسلم الإنسان: ألا يكون عنده معارضة لشرع الله، وينقاد له، فلو دعي إلى شرع الله وقيل له: هذا حكم الله فعليه أن يقول: سمعت وأطعت، وكذلك لا يجوز له أن يعترض عليه ويقول: ليت هذا الحكم ما كان كذا، أو يقول -مثلاً-: ليت الله لم يحرم الربا، أو ليت الله لم يحرم كذا وكذا أو ليت الله فعل كذا وكذا، فإن هذا لا يجوز، وقائل هذا ليس عابداً في الواقع؛ لأنه اعترض على الله جل وعلا، وكذلك الذي يُدعى إلى أن يحكم بينه وبين من ينازعه بالشرع فيقول: لا، لن أذهب، أو يقال له -مثلاً-: نذهب إلى الشرع ليحكم بيننا، فيقول: لا لن أذهب، فهذا على خطر عظيم، والمسلم إذا دعي وقيل له: هلم إلى حكم الله، يقول: سمعت وأطعت، ولا يتأذى، ولا يقول: حتى تأتيني بجندي، بل ينقاد لشرع الله؛ فإن الله جل وعلا يقول: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] يعني: لا يكون في نفس أحدهم ضيق من هذا الحكم، فإذا قيل له: هذا حكم الله، يقول: سمعاً وطاعة وأهلاً وسهلاً، وإن كان عليه يفرح به، فهذا الاستسلام والانقياد هو من العبادة؛ لأنه يطيع الله بأمره ويجتنب نهيه ويسلم لشرعه وينقاد له، وهذا هو العبادة في الواقع، فإذا حصل شيء مما يؤثر على ذلك نقصت عبادته. قال الشارح رحمه الله: [وقال أيضاً في تفسير هذه الآية: ومعنى الآية أن الله خلق الخلق ليعبدوه وحده لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب، وأخبر أنه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء في جميع أحوالهم، وهو خالقهم ورازقهم. وقال علي بن أبى طالب رضي الله عنه في الآية: (إلا لآمرهم أن يعبدوني وأدعوهم إلى عبادتي)، وقال مجاهد: (إلا لآمرهم وأنهاهم)، اختاره الزجاج وشيخ الإسلام]. كل هذا الكلام معناه واحد، وقول أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: (إلا لآمرهم وأنهاهم) أي: آمرهم بطاعتي وأنهاهم عن معصيتي، فهذا هو معنى العبادة، يعني: أنه خلقهم ليكلفهم بالعبادة، فمن أطاع فله الجزاء والثواب، ومن عصى فعليه العقاب. فهذه أقوال السلف في الآية واضحة، فقوله سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، يعني: خلقتهم لآمرهم بالطاعة وأنهاهم عن المعصية، وقد فعل جل وعلا الخلق وفعل الأمر والنهي، فعلى العباد فعل الامتثال. والأمور ثلاثة: الأول: خلقهم، والثاني: أمرهم ونهيهم والثالث: الامتثال، فالامتثال عليهم وإليهم، فإن فعلوه وامتثلوا استحقوا الجزاء من الله، وإن أبوا وامتنعوا استحقوا العقاب، فالله خلقهم وأمرهم ونهاهم فعليهم أن يفعلوا الثالث الذي هو الامتثال.

جزاء العبادة وجزاء تركها في الدنيا والآخرة

جزاء العبادة وجزاء تركها في الدنيا والآخرة قال الشارح رحمه الله: [قال: ويدل على هذا قول الله تعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة:36]، قال الشافعي: (لا يؤمر ولا ينهى)]. قوله تعالى: (أَنْ يُتْرَكَ سُدًى) السدى هو: المهمل، وقول الشافعي: (لا يؤمر ولا ينهى) هو معنى الإهمال، فالله لم يهمل خلقه جل وعلا، بل أمرهم بطاعته ونهاهم عن معصيته، وأعظم ما أمر به هو التوحيد، وأعظم ما نهى عنه هو الشرك الذي هو ضد التوحيد، كما قال جل وعلا: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا} [البقرة:256]، هذا هو الذي ينجي الإنسان في الواقع، لا ينجيه كثرة ماله ولا كثرة جمعه وأنصاره، وإنما ينجيه طاعة الله وعبادته وحده؛ فإنه ليس بين الرب جل وعلا وبين الخلق صلة إلا بالطاعة، كما قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، فلا ينفع النسب حتى وإن كان الإنسان ابن نبي، فإذا كان هو عاصياً فلن يستفيد، ولا يستفيد إلا بعمله، كما قال تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، وقال جل وعلا: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39]، ولذا اليهود أبناء أنبياء وهم أخبث خلق الله وأبعدهم عن الهدى -نسأل الله السلامة- فهم من أبناء إبراهيم عليه السلام؛ لأن يعقوب هو إسرائيل، ولذا يقول الله جل وعلا لهم: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) يذكرهم بأبيهم الأواب الطائع النبي الكريم لعلهم يرجعون، ولكن عاندوا وكفروا وتكبروا، فلأجل ذلك أحل الله عليهم لعنته، وأخبر سبحانه أنه سيبعث عليهم من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة وإن كانوا أبناء أنبياء. والمقصود: أن الإنسان مهمته أن يطيع ربه، فإذا أطاع ربه فهذه الطاعة في الواقع سعادته، يسعد بها في الدنيا والآخرة، كما قال جل وعلا: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار:13 - 14]، الأبرار في نعيم في الدنيا وفي الآخرة وفي القبر وبعد البعث، والفجار في جحيم في دنياهم، وإن كانوا يتنعمون في الظاهر فإن في قلوبهم وأكبادهم أشياء تكاد تحرقها، ولهذا بعضهم ينتحر استعجالاً للموت بزعم أنه يستريح، وهو في الواقع ينتقل من عذابه إلى ما هو أشد -نسأل الله العافية-، فالكافر في جحيم وفي عذاب يجد نفسه دائماً في اضطراب وفي نكد وتنغيص، بخلاف المؤمن فإنه وإن كان فقيراً تجده سعيداً راضياً بما هو فيه، ويشكر ربه ويسأله، فهو يرجو أن تكون له السعادة بعد حياته هذه، وإذا مات لقي نعيماً ما كان يتصوره، ويكون على روحه، وإذا اجتمعت الروح بالجسد وبعث فمسكنه الجنة، والجنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، والمقصود: أن الإنسان خلق لعبادة الله، فإن عبد الله فهذه سعادته، وإن لم يعبد الله فهو شقي في حياته الدنيا وبعدها.

عبادة الله وطاعة الرسل واجبان على العباد

عبادة الله وطاعة الرسل واجبان على العباد قال الشارح رحمه الله: [وفي القرآن في غير موضع: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة:21]، {اتَّقُوا رَبَّكُمُ} [النساء:1]، فقد أمرهم بما خلقوا له، وأرسل الرسل بذلك، وهذا المعنى هو الذي قُصد بالآية قطعاً، وهو الذي يفهمه جماهير المسلمين ويحتجون بالآية عليه. قال: وهذه الآية تشبه قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء:64]، ثم قد يطاع وقد يعصى]. معنى قوله تعالى: (بِإِذْنِ اللَّهِ) يعني: بأمر الله، فالرسول يطاع بأمر الله الذي أرسله به الذي هو الشرع، فالرسول أرسل بالشرع الذي أوجب على العباد أن يطيعوه به، ولكن أكثرهم لم يطعه، وأمر الله قد يأتي ويراد به أمره الشرعي، ويأتي ويراد به أمره القدري، كما قال جل وعلا: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} [الإسراء:16] يعني: أمراً قدرياً. أي: مقدر سابق في علم الله وفي كتابته، وكذلك الحكم، وكذلك القضاء فإنه يأتي شرعياً ويأتي قدرياً.

الإرادة الشرعية والكونية

الإرادة الشرعية والكونية قال الشارح رحمه الله: [وكذلك ما خلقهم إلا لعبادته، ثم قد يعبدون وقد لا يعبدون، وهو سبحانه لم يقل: إنه فعل الأول -وهو خَلقهم- ليفعل بهم كلهم الثاني -وهو عبادته- ولكن ذكر أنه فعل الأول ليفعلوا هم الثاني، فيكونوا هم الفاعلين له، فيحصل لهم بفعله سعادتهم، ويحصل ما يحبه ويرضاه منه ولهم، انتهى. ويشهد لهذا المعنى ما تواترت به الأحاديث، فمنها ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله تعالى لأهون أهل النار عذاباً: لو كانت لك الدنيا وما فيها ومثلها معها أكنت مفتدياً بها؟ فيقول: نعم. فيقول: قد أردت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم: ألا تشرك -أحسبه قال: ولا أدخلك النار- فأبيت إلا الشرك)، فهذا المشرك قد خالف ما أراده الله تعالى منه، من توحيده، وألا يشرك به شيئاً، فخالف ما أراده الله منه فأشرك به غيره، وهذه هي الإرادة الشرعية الدينية كما تقدم]. يعني أن الإرادة تنقسم إلى قسمين: إرادة شرعية دينية تتضمن دين الله وأمره ومحبته، وإرادة كونية قدرية لا يلزم أن يحبها ولا يأمر بها، ولكن كل شيء يقع فهو بالإرادة الكونية، فإن كان الواقع محبوباً لله فإن الإرادتين تتفقان فيه، كالطاعة -مثلاً- والإيمان، فطاعة الطائع وإيمان المؤمن اجتمعت فيهما الإرادة الكونية والإرادة الدينية الأمرية الشرعية، ولولا الإرادة الكونية ما حصل شيء؛ لأنه لا يكون في الوجود إلا ما أراده الله جل وعلا، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، كما يقوله المسلمون، كل المسلمون يقولون هذا، يقولون: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فمشيئة الله نافذة عامة لا يخرج منها شيء، وهذه المشيئة هي الإرادة الكونية، فالمشيئة والإرادة الكونية شيء واحد، كما قال جل وعلا: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253]؛ لأن كل شيء بإرادته ومشيئته.

الفرق بين الإرادة الشرعية والإرادة الكونية

الفرق بين الإرادة الشرعية والإرادة الكونية قال الشارح رحمه الله: [فبين الإرادة الشرعية الدينية والإرادة الكونية القدرية عموم وخصوص مطلق، يجتمعان في حق المخلص المطيع، وتنفرد الإرادة الكونية القدرية في حق العاصي، فافهم ذلك تنجُ من جهالات أرباب الكلام وتابعيهم]. يقول المؤلف: إن الإرادة تنقسم إلى قسمين: إرادة قدرية، وإرادة شرعية أمرية، وإن الفرق بينهما لابد منه حتى ينجو الإنسان مما وقع فيه كثير من أصحاب الكلام الذين وقعوا في الخطأ وعدم التفريق؛ لأن عدم الفرقان يوقع في الخطأ، وهذا يتعلق بالقدر ويتعلق بالخلق والأمر، فهو عام شامل. فالإرادة الكونية هي المشيئة التي يقول عنها المسلمون: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وهذه عقيدة المسلمين، فكل مسلم يعتقد أنه لا يوجد إلا ما شاء الله، وأن الشيء الذي لم يشأه الله هو المعدوم الذي لم يوجد، فهذه المشيئة العامة الشاملة هي الإرادة الكونية، ولا فرق بينهما، بل الإرادة الكونية هي المشيئة العامة، قال الله جل وعلا: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253]، فأخبر أن كل شيء يقع من أفعال الناس وغيرهم فإنه يقع بمشيئته، كل حادث يحدث سواء أكان بسبب فعل الإنسان أم كان بسبب آخر فإنه لا يقع إلا بمشيئة الله، ولو شاء الله ما وقع. ويقول جل وعلا: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125]، فهذه الإرادة في هذه الآية هي المشيئة وهي الإرادة الكونية، فهو جل وعلا يخبر أنه لا أحد يهتدي إلا إذا هداه الله، وكذلك الضلال يُضل سبحانه من يشاء ويهدي من يشاء، كما بين ذلك في آيات كثيرة، ثم هذا لا ينافي كون الإنسان له اختيار وله قدرة؛ لأن الله خلقه وخلق له القدرة التي بها يعمل أعماله باختياره وإرادته التي لا أحد يرغمه عليها، وكل إنسان يجد هذا من نفسه، فالله خالقه وخالق البواعث التي تبعثه على العمل، وخالق القوى التي بها يعمل من الفكر والنظر والأيدي والأرجل والسمع والبصر وغير ذلك، فصح بهذا أن الله خالق الإنسان وخالق أفعاله، وأن خلق أفعال الإنسان لا تخرجه عن كونه مختاراً يفعل ما يفعله باختياره وبقدرته وإرادته. ثم إن الله جل وعلا برحمته وإحسانه لم يكلف الإنسان إلا ما يطيقه، فكلفه بتكاليف محدده يستطيع أن يفعلها بكل سهولة إذا انقاد لذلك واختاره، ويستطيع أن يتركها، وجعل الأمر إليه، وبين له جل وعلا طريق الهدى وطريق الضلال، وكذلك أرى خلقه ما فعله بمن سبقهم من المثلات من العظات، ولهذا قص علينا قصص الأمم السابقة لنعتبر بها ونتعظ حتى يكون لنا زاجراً وداعياً، فأكرم المؤمنين أتباع الرسل ونصرهم في الدنيا، وكذلك أخبر أنه يكرمهم في الآخرة ويعلي درجاتهم، وكذلك عذب المجرمين المكذبين وأخذهم بأنواع العقوبات وأنواع العذاب، وأخبر أنهم في الآخرة يصلون في النار عذاباً لا يشبه عذاب الدنيا، كل هذا من الدواعي والدوافع التي تدعو الإنسان إلى فعل المأمور وترك المحظور، وكذلك ما وصف الله جل وعلا من أوصاف الجنة وما فيها من النعيم، وأوصاف النار وما فيها من النكال الأليم، كل هذا ليكون ذلك داعياً ودافعاً لفعل المأمورات وترك المحظورات، فبعد هذا لا يكون للإنسان عذر، أما إذا أعرض الإنسان عن الاعتبار بآيات الله سواء آياته جل وعلا القرآنية السمعية أو آياته الأفقية التي منها أَخْذُ المكذبين وإكرام المطيعين، أو الآيات النفسية يعني: الآيات التي في نفس الإنسان؛ لأن نفسه تدله على ربه جل وعلا، كما قال تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21]، قال: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس:17 - 22]. وقال: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ} [الطارق:5]، ففي هذه الآيات يأمرنا جل وعلا أن نعتبر بأنفسنا وننظر إلى خلقنا؛ لأن الخلق عجيب وعجيب جداً يدل على الرب جل وعلا، وفيه عبرة تجعل الإنسان يعتبر، وتجعله يعبد ربه، وإذا أعرض الإنسان عن هذا كله وأصبح شبيهاً بالبهائم يأكل ويشرب ويلعب ويطرب ويعرض عما خُلق له وينسى ما جاءت به الرسل ثم يقول: أنا جاهل ما أعرف فهذا ليس له عذر، وقد قامت عليه الحجة؛ لأنه قد جاءته الرسل وجاءته الآيات والأدلة، ولكن أعرض بنفسه، فاللوم عليه وهو الملوم؛ لأنه فعل ما يلام عليه، وأعرض عما خلق له وأعرض عن آيات ربه. والمقصود أن الله جل وعلا كل شيء يجري بتقديره وبمشيئته وإرادته، فالمشيئة هي الإرادة الكونية، والإرادة الكونية لا تنافي كون الإنسان مختاراً يفعل باختياره، وكونه يحاسب على عمله إن عمل خيراً جزي به؛ لأنه هو العامل، وإن عمل سوءً عوقب عليه، فلا يكون مثل خصماء الله الذين يخاصمون الله في خلقه اتباع عدوهم الشيطان، فالشيطان خاصم ربه وقال له لما أمره أن يسجد لآدم كما حكى الله عنه: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12]، يعني: إنك ما وضعت الأمور في مواضعها وإنما الصواب ما أراه أنا: أن تأمره أن يسجد لي لأني خير منه؛ لأن أصلي النار وهو أصله الطين، والنار أفضل من الطين هذا قول الشيطان، وهذه خصومة خاصم بها ربه، كذلك المشركون خاصموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في شركهم، فقالوا له كما حكى الله عنهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام:148]، أي: أنهم يقولون: إن شركنا وعبادتنا للأصنام وقعت بمشيئة الله، ولو لم يكن راضياً بذلك ما شاءه، هذا معنى كلام المشركين، أي: أنهم اعترضوا على دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى دين الله بقضاء الله وبمشيئته، فاعترضوا مثل اعتراض الشيطان، فهو الذي هداهم إلى هذا؛ لأن الشياطين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً، فشياطين الجن توحي إلى شياطين الإنس، وبعضهم يوحي إلى بعض، فالواجب على العبد أن يعلم ما أراد الله منه، وأن يعبد الله جل وعلا قدر استطاعته، والله ما كلفه ما لا يستطيع، كما قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وكل ما ذكره الله جل وعلا عبر، ولا يجوز أن يذهب الإنسان إلى ما ذهب إليه المنحرفون سواء أهل الجفاء أو أهل الغلو. والناس دائماً عند أوامر الله وعند أحكامه وأقضيته ينقسمون إلى أقسام ثلاثة: قسم يفرط ويترك ما هو واجب عليه، وقسم يتجاوز الحد ويزيد على الحد المشروع فيقع في الخطأ، وقسم يتوسط فيتبع أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا في كل الدين والشرع، فهنا من الناس من غلا، كما يذكر عن بعض العباد والمجتهدين أنهم يقولون: ما نعبد الله لأجل جنته أو خوفاً من ناره، وإنما نعبده حباً له. وهذا خطأ، بل الإنسان ضعيف مسكين لو مسه العذاب ما استطاع أن يصبر عليه، ولا غنى له عن رحمة الله أبداً، والله جل وعلا ذكر لنا الجنة وذكر لنا النار حتى تكون ذلك حادياً وداعياً يحدو إلى العمل ويدعو إليه، وكذلك ذكر ذلك يمنعنا من المخالفات، ولهذا يذكر عن والشبلي رحمه الله - الشبلي كان من المجتهدين ومن العباد المعروفين- أنه كان يقول مثل هذا القول، فابتلي بحبس البول، وحبس بوله فصار يمشي على الأطفال الذين كان يعلمهم القرآن ويقول: استغفروا لشيخكم الكذاب؛ لأنه لما ذاق الألم عرف أنه ما يستطيع أن يصبر على عذاب الله، ومثل هذا هو موعظة تُقدم للإنسان، فالمؤمن يعبد الله طلباً لثوابه وهرباً من عقابه، ويكون عابداً له مخلصاً له في ذلك، والله غني عن العباد، فلا تزيده طاعتهم شيئاً ولا تنقصه معصيتهم ولا تضره تعالى وتقدس، فإن أطاعوا فلأنفسهم، وإن عصوا فعليها، والله تعالى وتقدس غني عن العالمين، ولهذا جاء في صحيح مسلم من حديث أبي ذر الطويل القدسي الذي يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيه: (إن الله تبارك وتعالى يقول: يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا -إلى أن قال:- يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم ورطبكم ويابسكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم ورطبكم ويابسكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر)، ثم قال في النهاية: (إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)، فالواجب على العبد أن يعرف ربه بأفعاله وأوصافه، ومنها إرادته الكونية، وسميت كونية لأنه يكون الأشياء بها، ويقول للشيء: (كن) فيكون، كما قال سبحانه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] تعالى وتقدس، وقال جل وعلا: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ} [الذاريات:47]، (بأييدٍ) يعني: بقوة، ما هو بمساح ومجارف وبأدوات رفع أو غيرها، وإنما يقول لها: (كوني) فتكون، وقال سبحانه: {

شرح فتح المجيد [5]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [5] أنبياء الله تعالى دينهم واحد وإن اختلفت شرائعهم، فكل واحد منهم جاء بالدعوة إلى توحيد الله، والنهي عن الشرك، والأمر باجتناب الطاغوت، وهو كل ما تجاوز العبد به حده من معبود أو متبوع أو مطاع.

تفسير قوله تعالى: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله)

تفسير قوله تعالى: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله) قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقول الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]]. هذه الآية لها نظائر كثيرة في القرآن {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]. (ولقد): الواو هنا واو القسم، واللام موطئة للقسم، فالله يقسم، وهل نحتاج إلى أن يقسم ربنا لنا؟ الله جل وعلا هو أصدق قيلاً، ولا يمكن أن يخبر عن شيء خلاف الواقع تعالى وتقدس، ولكن الإنسان ظلوم كفور، وظلوم جهول، لهذا تمادى كثير من الخلق بظلمه، فأقسم رب العالمين له: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً)، والبعث في الأصل: هو إثارة الشيء. يقول العرب: بعث فلان البعير. إذا أثاره من مبركه، ويقال: بعث الصيد. إذا أثاره من مكامنه. ويقال: بعثت فلاناً إلى فلان، أي: أرسلته برسالة إليه سواء أكانت الرسالة كلاماً أم غير ذلك، ومنه البعث الذي أخبر الله جل وعلا به: {وأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج:7] يعني: إخراج الموتى أحياءً بعدما كانوا رميماً، بل بعدما كانوا تراباً؛ لأن الإنسان إذا قبر وبقي شهوراً وسنيناً تبلى عظامه وتصبح تراباً، ويبقى منها جزء صغير جداً قد لا يرى بالعين يسمى (عجب الذنب)، جزء صغير جداً في أسفل ظهر الإنسان، منه ينبت الإنسان مثل البذرة التي تكون للشجرة، فلو أتيت إلى أرض هامدة في الصيف مثلاً، وبحثت بكل ما تستطيع أن تبحث عن بذور فيها فلن تجد شيئاً، ثم إذا نزل المطر يخرج النبات بكثرة، كذلك الإنسان يتفتت ويصبح تراباً كما أخبر الله جل وعلا أنه يعيدهم تراباً، وهو ما خلقوا منه، فإن أصل خلقنا من التراب، خُلِق أبونا آدم من تراب كما أخبر الله جل وعلا بذلك، ثم يعاد الإنسان إلى أصل خلقه التراب، إلا الرسل فقد حرم الله عز وجل على الأرض أن تأكل أجسادهم، فلا تبلى أجسادهم بل تبقى طرية كرامة لهم، ومع ذلك يموتون، فكل رسول مات، وما بقي أحد من الرسل، كلهم ماتوا وذهبوا إلى ربهم، ثم يبعثون كما يبعث غيرهم من الخلق، كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة اليهودي الذي لطمه أحد الصحابة، كان يبيع سلعة في سوق المدينة، فجاء أحد الصحابة فقال: أشتريها بكذا، فقال: والذي فضل موسى على العالمين لقد أعطيت بها كذا وكذا، يعني: أكثر من هذا، عند ذلك غضب الصحابي وقال: تقول هذا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أيدينا؟ فلطمه، يعني: إنك تفضل موسى على نبينا، فجاء اليهودي يشتكي من الصحابي، فقال: يا رسول الله! إنه يقول كذا وكذا، عند ذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لا تفضلوني على موسى؛ فإني يوم القيامة أكون أول من تنشق عنه الأرض، فأجد موسى قائماً قابضاً بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أبعث قبلي أم جوزي بصعقة الطور؟)، وفي رواية في صحيح مسلم: (فيصعق الناس الصعقة الثانية، فأكون أول من ينفض التراب عن رأسه، فأجد أخي موسى قائماً بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أبعث قبلي أم جوزي بصعقة الطور؟)، وصعقة الطور هي حينما سأل ربه النظر كما قال الله: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143]، فهذه صعقة الطور التي حصلت له لما تجلى الله جل وعلا للجبل، فتدكدك الجبل وصار دكاً، أي: صار هباء لرؤية الله جل وعلا، مع ذلك وقد تجلى الله تعالى قليلاً جداً جداً، حتى جاء عن بعض السلف أنه قال: مثل ثقب الإبرة. ولهذا ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات)، وهكذا كانت عادته صلوات الله وسلامه عليه إذا تكلم لا يطيل الكلام، ويتكلم بكلام واضح جلي يحفظ عنه، يقول: (قام فينا بخمس كلمات)، يعني: قام يخطب بخمس كلمات، وإذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً صلوات الله وسلامه عليه حتى تحفظ، ولهذا حفظ الصحابة أحاديثه صلوات الله وسلامه عليه، يقول: (قام فينا بخمس كلمات، فقال: إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)، وبصره جل وعلا لا يمكن أن يحول دونه شيء، يبصر كل شيء، ولكن احتجب عن خلقه بالنور، حتى لا يذهب الخلق كله، وسبحات وجهه، أي: نور وجهه وجماله وبهاؤه. هذه سبحات وجهه، لو كشف الحجاب لزال كل شيء، وما يستطيع شيء أن يقوم لنور الله جل وعلا، وقد يقول قائل: إذاً كيف يراه الناس يوم القيامة؟ نقول: الرؤية يوم القيامة غير هذه، رؤية يوم القيامة رؤية نعيم، إلا الرؤية في الموقف فإنها أمر آخر، وقد ثبت أن المؤمنين يرونه، ثم إن الخلق يركبون تركيباً لا يقبل الموت، يركبون بالبعث تركيباً لا تقبل الروح فيه مفارقة الجسد أبداً، يركبون للحياة الأبدية، ولهذا يدخل أهل النار النار ويصلونها دائماً ولا يموتون، ولا يوجد موت، وكذلك أهل الجنة لا يوجد عندهم موت مهما عظمت الكوارث، وأحوال القيامة ما أحد يستطيع أن يقوم لها في تركيب الخلق اليوم أبداً، فسيموتون في أول وهلة لو كانوا على هذه الصورة وهذه الحياة، كيف يقفون ألف سنة على أقدامهم؟ يستطيع الإنسان حينئذ ذلك وهو عار، فلا يوجد ثوب، ولا نعال، ولا أكل، ولا شرب، ألف سنة والشمس فوق رأسه ما تغيب عنه أبداً، ولا يجد إلا موطئ قدميه فقط، وليس هناك جلوس، قال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6]، وهو يوم عسير على الكافرين، ولكننا ننسى هذا الشيء ولا نذكره، والواجب أن يهمنا كثيراً، والمقصود أن حياة الناس بعد البعث غير هذه الحياة، هي حياة أخرى، حياة لا تقبل الموت أبداً، فلو جاءه الموت من كل مكان لا يموت. يقول الله جل وعلا: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا} [النحل:36] البعث هو الإثارة، ومعنى هذا: أن الله أرسل الرسل من الأمم إليهم، كل أمة بعث الله منها رسولاً يعرفونه، يعرفون نسبه، ويعرفون صدقه، ويعرفون أمانته، كل أمة يأتيهم رسول بهذه الصفة، فيعرفون لسانه، ويعرفون أمانته وصدقه؛ لأنه لا يبعث إلا خيار الخلق، وهو فضل الله يتفضل به على من يشاء، فيرسله إلى قومه. وقوله: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} [النحل:36]، كل رسول يقول لقومه هذه المقالة (اعبدوا الله)، كل رسول يقول هذا القول لأمته، فدل هذا على أن دين الله واحد وهو عبادة الله وحده، وأن الخلق خلقوا لهذا، وأنه لا يجوز للإنسان أن يعبد غير الله، وأن سبب شرك المشركين أنهم وزعوا العبادة بين الله تعالى وبين المعبودات الأخرى فحصل الشرك بذلك، وهذا لا يسمى عبادة، فلا تسمى العبادة عبادة إلا إذا كانت خالصة لله، والعبادة سبق تعريفها أنها اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، فالقول الذي يكون باللسان مثل التسبيح والتهليل والقراءة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هذا كله عبادة، وكذلك الأعمال التي تكون بالجوارح مثل الركوع والسجود والمشي إلى المساجد والجهاد والحج، ومنه أيضاً الأعمال التي تؤدى بالأيدي من الصدقات، وكذلك إنكار المنكر الذي يُتناول باليد، وكذلك إزالة المؤذيات عن الطرق، فهذه عبادة يثاب عليها الإنسان، وكذلك الأعمال الباطنة -أعمال القلب- مثل الخشية والخوف والرجاء والحب والإنابة وغير ذلك من أعمال القلوب، هذه كلها عبادة، فالعبادة تشمل كل ما أمر الله جل وعلا به، وأحب وجوده من الإنسان وأثاب عليه، وكذلك تشمل ترك كل ما نهى الله عنه، فإذا ترك الإنسان المعصية خوفاً من الله فهي عبادة، ولا يجوز أن يترك الإنسان شيئاً لأجل الإنسان؛ لأن هذا عبادة، ولا يجوز أن تكون العبادة لغير الله، كما أنه لا يجوز للإنسان أن يفعل شيئاً مما يطلب الثواب عليه من أجل الإنسان؛ لأنه عبادة، والعبادة لا تجوز أن تكون لغير الله، فالمقصود أن دين الرسل واحد، كلهم أمروا أممهم أن يعبدوا الله وحده. {أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، والطاغوت مأخوذ من الطغيان، والطغيان: هو تجاوز الحد. والإنسان إذا تجاوز حده صار طاغوتاً، والحد هو الشيء الذي خلق له الإنسان، والإنسان خلق عبداً ليعبد الله، فإذا نصب الإنسان نفسه ليكون رباً صار طاغوتاً، فإن نصب نفسه ليكون معبوداً، أو نازع الله في حكمه وأصبح يحكم بغير ما أنزل الله صار طاغوتاً، فعن جابر بن عبد الله أنه قال: (الطاغوت الشيطان)، وفي رواية: (كهان ينزل عليهم الشياطين)، فالكاهن هو الذي ينزل عليه الشيطان، وجاء عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (الطاغوت الشيطان)، وجاء عن مالك رضي الله عنه أنه قال: (كل ما عبد من دون الله فهو طاغوت)، فكل المعبودات طواغيت إلا الذي يعبد وهو غير راضٍ، كالصالحين والأولياء والأنبياء، فبعضهم يعبدون ولكنهم لا يرضون بهذا، النصارى يعبدون عيسى، واليهود يعبدون عزيراً، فلا يسمى هؤلاء طواغيت، ولما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن الأصنام أنها وعابدوها في جهنم جاء رجل من الكفار وقال: أنا أخاصمك فأخصمك، قال له: ألم يعبد عيسى؟ ألم يعبد عزير؟ فإذاً يكونون في النار، فأنزل الله جل وعلا: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98]، إلى أن قال: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُون

معنى الطاغوت

معنى الطاغوت قال الشارح رحمة الله عليه: [الطاغوت: مشتق من الطغيان، وهو مجاوزة الحد. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (الطاغوت الشيطان)، وقال جابر رضي الله عنه: (الطاغوت كهان كانت تنزل عليهم الشياطين)، رواهما ابن أبي حاتم، وقال مالك: (الطاغوت كلما عبد من دون الله). قلت: وذلك المذكور بعض أفراده، وقد حده العلامة ابن القيم حداً جامعاً، فقال: الطاغوت: كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع. فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله، فهذه طواغيت العالم إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم أعرض عن عبادة الله تعالى إلى عبادة الطاغوت، وعن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طاعة الطاغوت ومتابعته]. في هذا الكلام الذي ذكره ابن القيم رحمه الله بيان الطاغوت وحده، يقول: كل ما خرج عن طوره وعن المعنى الذي خلق له يكون طاغوتاً أو يكون عابداً للطاغوت. وذلك أن الله جل وعلا خلق العباد لعبادته، وحرم عليهم غير هذا، فحرم كل ما صد عن العبادة، وكل إنسان عبد غير الله فقد أشرك، ويكون العابد لغير الله عابداً للطاغوت، وبين أن هذا يكون في العبادة، ويكون في الطاعة، ويكون في الاتباع، ولا يخرج الإنسان عنها. والعبادة في الواقع ليست هي السجود والركوع في الصلاة وما أشبه ذلك، العبادة هي عبادة القلب، أن يتعبد القلب لشيء، فعبودية القلب يجب أن تكون لله وحده، ومن أجل هذا حرم الله على عبده أن يسأل المخلوق؛ لأن في المسألة ميل للقلب، ومودة لمن أعطى وبذل، ويصبح يحبه القلب ويتعلق به، والله أراد من عبده أن يكون قلبه كله له، وأن يكون حراً، وأن يكون مع الناس الآخرين مثلهم لا يتعبد قلبه لهم، فإذا أنعم أحد عليه بنعمة يقابلها بمثلها أو بأحسن منها، فإذا أحد أعطاه شيئاً يبذل له مثله أو أحسن منه حتى يكون قلبه سالماً لله جل وعلا سليماً من التعبد لغيره، وسبق أن المسألة من المحرمات التي تباح في موطن الضرورة، فالضرورة تبيح المحرمات كما هو معلوم، أما إذا لم يضطر الإنسان فيجب أن يكون عبداً لله، لا يتعبد قلبه لغير الله جل وعلا، وهذا من ناحية عبودية القلب. وكذلك الجوارح، كونه يخضع في ظاهره لغير الله جل وعلا، وإن كان قد يكون هذا تستراً وتقية، وإلا فالقلب يبغض هذا المخضوع له، بل قد يلعنه؛ لأنه إما أن يكون ظالماً يقهره بذلك ويذله، فهذا لا يكون عبادة؛ لأن العبادة لابد أن يجتمع فيها التعظيم والذل والحب، وإذا لم يجتمع فيمن يعبد الذل والخضوع والتعظيم مع المحبة لا يكون عابداً، ولكن كون الإنسان يصد عن عبادة الله ويعرض عنها نهائياً، ويشتغل في غيرها فهذا من الإعراض ومن عدم الاهتمام بعبادة الله جل وعلا، والله خلق عباده ليعبدوه، ولهذا أخبر الله جل وعلا عن الذين يعرضون عن آياته أنهم من أهل النار، نسأل الله العافية، والعلماء يذكرون من نواقض الإسلام أن الإنسان إذا لم يهتم بدينه ولم يرفع به رأساً يكون مرتداً وإن كان مع المسلمين، فلابد أن يهتم بدينه ويهمه مصيره وما خلقه الله له، ويسأل عن ذلك، ويؤدي الواجب عليه، فلابد من الالتزام، والالتزام شرط في صحة الإسلام، كونه يلتزم بالإسلام، ويلتزم بمعنى (لا إله إلا الله)، فيشهد أن لا إله إلا الله ويلتزم بذلك، وإلا فلا يفيده مجرد انتسابه، ومجرد كونه عاش في بلد مسلم وبين مسلمين إذا كان معرضاً عن عبادة الله. ومن الطواغيت من جاوز حده في الاتباع، وكون الإنسان يتبع في دينه شخصاً بعينه في أمور دنياه، لا يدخل في ذلك، بل ذلك في أمر الدين فقط، أما أمور الدنيا فللإنسان أن يفعل كل ما فيه صلاح دنياه إذا لم يكن ذلك محرماً، وهذا مباح له، ولكن كونه في أمر دينه يتبع شخصاً بعينه، فيجعل أقواله هي التي يجب أن يأخذ بها ولو جاءت النصوص من كتاب الله ومن أحاديث رسوله لم ينظر إليها، فيقول: هذا الشخص أعلم بها مني ومن الآخرين. فهذا الذي يخشى عليه؛ لأنه في الواقع جعل هذا الشخص في منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا طاغوت؛ لأنه اتبعه في الدين بلا دليل، وليس الكلام في الذين لا يعرفون الأدلة، الكلام فيمن يعرف الدليل، أما العامي الذي لا يعرف دليلاً، ولا يعرف معاني الآيات ومعاني الأحاديث فهذا فرضه وواجبه أن يسأل من يثق به من أهل العلم؛ لأن الله جل وعلا يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، فهذا الذي يستطيع أن يفعله، ولو استطاع أن يتعلم لوجب عليه ذلك.

جميع الرسل يدعون إلى التوحيد ويحذرون من الشرك

جميع الرسل يدعون إلى التوحيد ويحذرون من الشرك ومن الطاغوت من جاوز حده في الطاعة فيطيع المخلوق في المعصية، يعرف أنها معصية ويأمره بها، ويطيعه في معصية الله، فهذا المطاع في معصية الله يكون طاغوتاً، ومن أطاع مخلوقاً في معصية الخالق فقد اتخذه طاغوتاً، ويدل على هذا ما جاء في قصة عدي بن حاتم عندما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ قول الله جل وعلا: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31]، والآية في اليهود والنصارى، وعدي بن حاتم كان من نصارى العرب، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! إنا لم نعبدهم! فقال: بلى، ألم يحرموا عليكم الحلال فحرمتموه، ويحلوا لكم الحرام فأحللتموه؟ قال: بلى، قال: تلك عبادتهم)، فليست العبادة فقط أن يسجد الإنسان لإنسان، ويحبه محبة الذل والخضوع، يكفي في هذا أن تكون عبادة طاعة، وعبادة الطاعة أن أطاعوهم في معصية الله؛ لأن الذي يترك الواجب ويأمر غيره بتركه هو في الواقع منازع لله جل وعلا محاد لله جل وعلا، وكذلك الذي يفعل المحرم ويدعو غيره إلى فعله ينازع الله جل وعلا في شرعه وفي أمره، ومن هذه الناحية يكون طاغوتاً. قال الشارح: [وأما معنى الآية فأخبر تعالى أنه بعث في كل طائفة من الناس رسولاً بهذه الكلمة {أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، أي: اعبدوا الله وحده واتركوا عبادة ما سواه. كما قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا} [البقرة:256]، وهذا معنى (لا إله إلا الله)، فإنها هي العروة الوثقى، قال العماد ابن كثير في هذه الآية: كلهم -أي: الرسل- يدعو إلى عبادة الله، وينهى عن عبادة ما سواه، فلم يزل سبحانه يرسل إلى الناس الرسل بذلك منذ حدث الشرك في بني آدم في قوم نوح الذين أرسل إليهم، وكان أول رسول بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض إلى أن ختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي طبقت دعوته الإنس والجن في المشارق والمغارب، وكلهم كما قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، وقال تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، فكيف يسوغ لأحد من المشركين بعد هذا أن يقول: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [النحل:35]؟ فمشيئة الله تعالى الشرعية عنهم منفية؛ لأنه نهاهم عن ذلك على ألسنة رسله، وأما مشيئته الكونية وهى تمكينهم من ذلك قدراً فلا حجة لهم فيها؛ لأنه تعالى خلق النار وأهلها من الشياطين والكفرة، وهو لا يرضى لعباده الكفر، وله في ذلك الحجة البالغة والحكمة القاطعة، ثم إنه تعالى قد أخبر أنه أنكر عليهم بالعقوبة في الدنيا بعد إنذار الرسل، فلهذا قال: {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [النحل:36] انتهى. ]. سبق أن مشيئة الله جل وعلا عامة شاملة ما يخرج عنها شيء، وأن المشيئة إذا جاءت تكون مرادفة للإرادة الكونية؛ لأن الإرادة تنقسم إلى قسمين: إرادة كونية وهي المشيئة، ولا يوجد فرق بين أن نقول: إن الله يفعل ما يريد. أو أن نقول: إن الله يفعل ما يشاء. كلها سواء بمعنى واحد، ولكن هناك معنى آخر للإرادة، وهي إرادة دينية، كما قال الله جل وعلا في ذكره للتخفيف والتيسير في الشرع: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:26 - 28]، فالتخفيف ما وقع للناس كلهم، والبيان من الله وقع، والتخفيف كذلك وقع من الله، ولكن كثيراً من الناس ما انتفع به؛ لأنه لم يقبله ولم يرفع به رأساً، فالمقصود أن هذه الإرادة تتعلق بدينه، وتتعلق بكتابه وشرعه، أما الإرادة التي تتعلق بملكه وتصرفه فهي الإرادة الكونية، كقوله جل وعلا: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} [الإسراء:16]، يعني: أمرناهم أمراً قدرياً كونياً ففسقوا فيها فدمرناها تدميراً، فينبغي أن نفرق بين هذه وهذه. ثم سبق أن الإرادة الكونية -وهي المشيئة- لا تنافي كون الإنسان مريداً لما يفعله ومختاراً لما يفعله؛ لأن الله خلق الإنسان وخلق له قدرة وإرادة، وبهذه القدرة والإرادة والاختيار الذي خلقه له يستطيع أن يفعل الشيء الذي يريد أن يفعله، ويستطيع أن يترك الشيء الذي يريد تركه، ولهذا استحق الثواب على فعل الخير والواجب، واستحق العقاب على ترك الواجب وفعل المحرم. ثم إن الله جل وعلا زيادة في الرحمة والإحسان إلى العباد بين لهم ما شرعه من العقوبات على المخالفين، وما أكرم به المؤمنين الذين اتبعوا أمره وأطاعوه، وهذا أمر لا ينكره أحد، فكل الخلق يعرفونه؛ ولهذا يقول الله جل وعلا لنبيه: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:9] قل: لست أول رسول يأتي إلى الناس، فقد سبقني رسل، فينبغي أن تنظروا وتستدلوا. وبهذا يقطع الإنسان قطعا لا يتطرق إليه شك أنه رسول مثل الرسل السابقين؛ لأنه جاء بمثل ما جاءوا به، وقد قص الله جل وعلا علينا قصصهم، وقد أخبرنا ربنا جل وعلا أنه أرسل الرسل للأمر بتوحيد الله وطاعته وعبادته، وتنهى عن عبادة غيره، وأولهم نوح، فنوح عليه السلام هو أول رسول أرسل إلى أهل الأرض، كما قال الله جل وعلا: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء:163]، أما قبل نوح فكان بنو آدم على الحق، لا يحتاجون إلى رسول، فنبيهم هو أبوهم آدم عليه السلام فهم يتبعونه، وبقوا على هذا -كما جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس - عشرة قرون كلها على التوحيد، ثم بعد ذلك طرأ الشرك عليهم، فبعث الله جل وعلا نبيه نوحاً عليه السلام، فبقي فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى توحيد الله، وهذا وقت الدعوة، لبث فيهم يدعوهم هذه المدة الطويلة ويرجو أن الله جل وعلا يبعث من أولادهم من يعبد الله، ولكن في النهاية كأنه يئس فقال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح:26 - 27]، فدعا عليهم بدعوته التي استجاب الله جل وعلا له بها، فأغرقهم الله، ثم صارت ذرية نوح هم الباقين كما قال لنا ربنا جل وعلا، أما الذين معه في السفينة فكلهم فيما يظهر لم يعقب؛ لقوله جل وعلا: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات:77]، ولهذا يقول المؤرخون: أبونا الثاني هو نوح. فكل من على وجه الأرض أبوهم نوح، وهو الأب الثاني، أما الأب الأول فهو آدم عليه السلام؛ لأن أولاده هم الذين صارت لهم الذريات التي انتشرت في الأرض، ثم حدث فيهم الشرك مرة أخرى، وقد صار أولادهم منتشرين في الأرض كلها، فكل إقليم أرسل إليه رسول لكل جهة من الجهات، وقد يكون في آن واحد عدد من الرسل، في وقت واحد يرسل كل رسول إلى بلاد، كما هو واضح في قصص الأنبياء، ومن أوضح ذلك ما جاء في قصة إبراهيم عليه السلام مع من أضافهم من الملائكة، فلما قدم لهم الطعام أوجس منهم خيفة، فأخبروه أنهم أرسلوا إلى قوم لوط، وهذا يدلنا على أن لوطاً أرسل إلى جهة أخرى في وقت إبراهيم، فأخذهم الله جل وعلا بالعذاب، وكان إبراهيم يجادل فيهم. وعلى كل حال فحجة الله قامت على الخلق بإرسال الرسل، والله أخبرنا أنه أرسل رسله تتراً، ومعنى (تتراً): تتتابع. بعضهم في إثر الآخر، كلما احتاج الناس إلى رسول يرسله الله جل وعلا إليهم، وخاتمهم الذي ختموا به هو محمد صلوات الله عليه وعلى إخوانه المرسلين جميعاً، وعلى أمته تقوم الساعة، ولا يوجد بعده رسول؛ ولهذا أخبرنا جل وعلا أن الساعة اقتربت، كما قال جل وعلا: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]، ومن أسمائه صلوات الله وسلامه عليه: (نبي الساعة)؛ لأن الساعة تقوم عقبه على أمته، فليس للخلق حجة، وإذا علم الإنسان أن الله أرسل رسولاً وأنزل كتاباً وجب عليه أن يبحث عن ذلك، ويجب عليه وجوباً، ولا يجلس ينتظر ويقول: حتى يأتيني أحد يبين لي، أو يقول: أنا ما جاءني أحد، ما أحد بين لي، يجب عليك أن تبحث أكثر من طلب الطعام والشراب، فلو أن الإنسان جلس في بيته لا يطلب ما يأكل ولا يشرب ومات، فإنه يعد قاتلاً لنفسه، فكيف إذا جلس وترك دين الله؟! هذا أعظم إثماً من كونه يترك الأكل والشرب، فالذي يحبس نفسه عن الأكل والشرب حتى يموت يقال: إنه قاتل لنفسه. فتارك دين الله أعظم من ذلك، فالله جل وعلا يسأل الناس كلهم، قال تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:6]، كلهم يسألون، وقد جاءت نصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان إذا وضع في قبره يسأل عن ربه وعن نبيه وعن دينه، فيقال: من تعبد؟ وبأي دين تعبد؟ ومن الذي جاء بهذا الذي تتعبد به؟ هل جاءك به أحد أو هو من عند نفسك؟ إن المسألة ليست مسألة اختراع ونظر وقياس ونظر إلى المجتمع وفعل ما يروق له، المسألة تكليف من الله جاءنا من السماء على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجب علينا

دين الأنبياء واحد

دين الأنبياء واحد قال الشارح: [قلت: وهذه الآية تفسير الآية التي قبلها، وذلك قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [النحل:36]، فتدبر! ودلت هذه الآية على أن الحكمة في إرسال الرسل؛ دعوتهم أممهم إلى عبادة الله وحده، والنهي عن عبادة ما سواه، وأن هذا هو دين الأنبياء والمرسلين وإن اختلفت شريعتهم، كما قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48]، وأنه لابد في الإيمان من عمل القلب والجوارح]. الشرائع هي التي تشرع للعمل، وتختلف شرائع الأنبياء، وهي التي يكون فيها النسخ، فشريعة تنسخ أخرى، وقد أنكر اليهود ذلك وقالوا: لا يجوز أن تنسخ شريعة موسى بشريعة عيسى. فأبوا أن يتبعوه، كذلك أبوا أن يتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم من أجل ذلك، أما العبادة والتوحيد فكل الأنبياء دينهم الإسلام، وهو الاستسلام لله بالطاعة والانقياد له وإخلاص الوجه والقلب له، كلهم جاءوا بهذا، وهذا هو معنى (لا إله إلا الله)، فأصل الدين ألا يعبد إلا الله، وأن تكون العبادة بشرعه الذي شرعه لرسله فقط، وهذا أمر تتفق عليه الأديان كلها، وكل نبي جاء به، كما أخبرنا ربنا جل وعلا أنه يرسل الرسل وكل رسول يقول لأمته: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]. أما الشرائع من الحلال والحرام فإنها تختلف، فبعض الشرائع يكون فيها تضييق، وبعضها يكون فيها سعة، وأسمح الشرائع هي الشريعة الإسلامية، فهي سمحة سهلة، إلا أنها في العبادة هي أشد الشرائع لعبادة الله جل وعلا، لهذا سموه الدين الحنيف، والحنيف هو الذي يعدل ويعرض عن جميع الأديان والاتجاهات إلى الله وحده فقط، لهذا بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن كل ما كان فيه شائبة من الشرك فلا يجوز لأمته أن تفعله، حتى الألفاظ في ظاهرها فقط، وإن كان المتكلم لا يعتقد فيها إضافة الأفعال إلى أسبابها، كقول القائل مثلاً: لولا فلان ما كان كذا وكذا، فهذا نهانا عنه صلى الله عليه وسلم، وفي الحديث أنه: (قال له رجل: ما شاء الله وشئت. فقال: أجعلتني لله نداً؟ قل: ما شاء الله وحده)، ولهذا يقال: إنه صلوات الله وسلامه عليه سد طرق الشرك كلها التي توصل إليه، وحمى التوحيد من شوائب الشرك.

تفسير قوله تعالى: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه)

تفسير قوله تعالى: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) قال المصنف: [قال الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:23 - 24]]. هذه الآية من الآيات المحكمات العظيمة التي فيها الأمر بعبادة الله وحده جل وعلا، وفيها الأمر بالإحسان إلى الوالدين، ونظائرها كثير في القرآن، فقوله جل وعلا: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23]، هذا هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله، ألا تعبدوا إلا إياه، فقوله: (ألا تعبدوا) هو معنى: (لا إله)، وقوله: (إلا إياه) هو معنى (إلا الله)، ومعنى (قضى) أمر وأوجب وألزم، أمر بعبادته وأوجبها وألزم عباده بها، وقضى شرعاً وأمراً، وليس قضاءً قدرياً؛ لأنه لو كان قضى قضاء قدرياً لعبده الناس كلهم، والواقع أن أكثرهم لم يعبدوه، ويتعين أن يكون معنى (وقضى) هنا: أمر وأوجب وألزم. أي: شرعاً. وقوله: (ألا تعبدوا إلا إياه) هذا فيه النفي والإثبات، نفي العبادة عن غيره وإثباتها له وحده، وهو الذي قلنا: إنه معنى (لا إله إلا الله) فيجب ألا يعبد إلا إياه. ثم بعد هذا يجب أن نعرف ما هي العبادة؟ إذا كانت العبادة لا تجوز أن تكون إلا لله فيجب علينا أن نعرف ما هي العبادة؟ وقد سبق أن العبادة كل فعل تفعله أو نية تنويها ترجو الثواب أو كل شيء تتركه وإذا تركته ترجو أن الله يثيبك، ولو فعلته تخاف أنه يعاقبك، فالعبادة تشمل أشياء كثيرة، تشمل الشرع كله، فكل الشرع داخل في العبادة.

فضل الإحسان إلى الوالدين

فضل الإحسان إلى الوالدين قوله تعالى: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23] يعني: وأمر أن تحسنوا بالوالدين إحساناً، وهنا حذف الفعل: (أحسنوا) وجاء بالمصدر (إحساناً) ليدل على أن الأمر يلزم منه كل ما يسمى إحساناً. فيدخل فيه كل الإحسان الذي تستطيع أن تفعله. وجاء في آيات متعددة أن الله جل وعلا يقرن الأمر بالإحسان إلى الوالدين بالأمر بعبادته، وهذا يدلنا على تعظيم حق الوالدين؛ ولهذا جاء أن العقوق مدعاة إلى دخول النار، فالذي يعق والديه ويجعل بدل الإحسان إساءة يكون متوعداً بالنار، نسأل الله العافية. وجاءت أحاديث كثيرة توضح هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، منها ما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبر بالكبائر عد منها عقوق الوالدين، فمن أكبر الكبائر عقوق الوالدين، وكذلك حديث علي رضي الله عنه في الصحيح أنه لعن الذي يلعن والديه فقال: (لعن الله من لعن والديه)، وفي رواية: (من سب والديه)، وفي حديث أنهم استغربوا كيف يلعن الرجل والديه! فبين أنه بكونه سبباً للعن والديه فقال: (يسب أبا الرجل فيسب الرجل أباه)، فيكون ملعوناً بهذا الفعل، ومنها أحاديث كثيرة فيها الأمر ببر الوالدين، وكذلك النهي عن عقوقهما، وهي معروفة مشهورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا في الواقع يفرط فيه كثير من الناس، وفي حديث صحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد المنبر وقال: آمين آمين آمين -ثلاثاً- فسئل عن هذا، فقال: أتاني جبريل عليه السلام فقال: رغم أنف عبد ذكرت عنده فلم يصل عليك، قل: آمين، فقلت: آمين. ثم قال: رغم أنف امرئ أدرك رمضان فلم يغفر له، قل: آمين، فقلت: آمين. ثم قال: رغم أنف امرئ أدرك والديه أو أحدهما فلم يدخل الجنة، قل: آمين، فقلت: آمين) يعني أنه لم يبرهما حتى يستحق ببرهما دخول الجنة، وكذلك أحاديث أخر كثيرة ثابتة صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها وجوب طاعة الوالدين في غير المعصية، أما إذا أمرا بمعصية فلا يجوز طاعتهما في ذلك، والقرآن واضح في هذا في آيات متعددة، الله جل وعلا يقول: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان:14]، فقرن شكره بشكر الوالدين، وهذا من آكد ما يبين حق الوالدين على الولد، وهنا يقول جل وعلا: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا} [الإسراء:23] واحد منهما الأم أو الأب أو كلاهما {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء:23]، ذلك أنه إذا كبر الوالد فإنه يكون محلاً للأذى وما يتأفف منه؛ لأنه يعود ضعيفاً كما كان، فقد لا ينزه نفسه، ولا يستطيع أن يستقل بما ينبغي أن يفعله بنفسه، فقال: (ولا تقل لهما: أف)، والأف معناه: أن يتأفف من رائحة أو من قول أو من فعل، أو ما أشبه ذلك. يعني: لا يصدر منك ما يدل على التضجر منهما. وقد قال بعض السلف: لو أن الله جل وعلا علم شيئاً أدنى من التأفف لنهى عنه! {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء:23] أي: لا تنهرهما في الكلام. يعني: ترفع صوتك عليهما. وهذا لا يجوز، وأمر جل وعلا أن يقول لهما قولاً كريماً ليناً سهلاً داعياً لرضاهما، ثم أمر بالاستغفار لهما، سواء كانا حيين أم ميتين، يستغفر لهما، ويحسن إليهما الإحسان الدنيوي والإحسان الأخروي. ونبه جل وعلا على أن الوالدين قد أحسنا إليك سابقاً، وهما يرجوان قوتك ورشدك وشدتك، أما أنت إذا أحسنت فأنت ترجو موتهما وراحتك منهما، فلا ينبغي أن يكون بدل الإحسان إساءة. قال تعالى: {وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:24] يعني: بدل التربية والسهر والكد ينبغي لك أن تحسن إليهما. ويذكر أن عبد الله بن عمر رضي الله عنه -وبعضهم يذكره حديثاً مرفوعاً- رأى رجلاً يحمل أمه وهو يطوف بها في الطواف حاملها على ظهره ويطوف بها، فقال له: أتراني قد أديت حقها؟ فقال: لا، ولا بطلقة يعني: ما كانت تقاس الشدة بوضعك ولا بطلقة مما حدث لها. وما يستطيع الإنسان أن يقوم بحق والديه، ولكن إذا أحسن وقام بما يستطيع فالله جل وعلا يعفو عنه ويثيبه، ولشده حق الوالدين وعظمه على الإنسان فإن الله جل وعلا غالباً يعجل عقوبة العاق مع ما يعد له في الآخرة نسأل الله العافية، وغالباً إذا عق الإنسان والديه فأبناؤه يعقونه، وقد جاء عن ثابت البناني -وهو تابعي من تلامذة أنس بن مالك الذين لازموه وأخذوا عنه الحديث- أنه رأى رجلاً في البصرة يضرب أباه، فاستعظم هذا وأراد أن يعاقبه، فالتفت إليه الوالد المضروب وهو يضرب ورفع رأسه إليه. وقال: دعه. فلقد كنت أضرب أبي في هذا المكان! يعني: كما صنع صنع به، وهل يكفي هذا؟ لا يكفي، ولو كفى لكان أمراً سهلاً، ولكن هناك عذاب الله نسأل الله السلامة، {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23]، وأعظم قطيعة للرحم عقوق الوالدين، ولا أعظم منها في قطيعة الرحم، فليحذر الإنسان كل الحذر من أن يغضب والديه أو يجلب لهما ما يسوؤهما؛ فإن هذا في الواقع أمر يقع لكثير من الناس، كثير من أبناء المسلمين يقع لهم هذا الشيء، نسأل الله العافية، وهو خطير جداً، وقد لا يتنبهون له، وعواقبه وخيمة في العاجلة والآجلة، وآيات الله في هذا واضحة جداً، أعني وجوب مراعاة الوالدين والقيام بحقوقهما وطاعتهما في طاعة الله جل وعلا والإحسان إليهما إحساناً مطلقاً في الحياة وكذلك بعد الممات، ولقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يحرصون حرصاً شديداً على أداء حقوق الوالدين، حتى كان إذا توفي والد أحدهم صار يبر أصدقاءه، وهذا من بره، كما جاء في الحديث: (أن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه). قال رحمه الله: [قال مجاهد (قضى) يعني: وصى. وكذا قرأ أبي بن كعب وابن مسعود وغيرهم، ولـ ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنه: (وقضى ربك) يعني: أمر. وقوله تعالى: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23] المعني: أن تعبدوه وحده دون ما سواه، وهذا معني (لا إله إلا الله)]. كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا إله إلا الله)، ويقول: (سبحان الله)، (الحمد لله)، (الله أكبر)، وما أشبه ذلك من الذكر الذي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقوله ويعلم أمته، وأعظم الذكر ما قاله صلى الله عليه وسلم: (أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)، فهذا هو أفضل الذكر، أفضل ما يذكر الإنسان ربه به، وذلك أن التوحيد هو أفضل العبادة، وكثير من الناس يعدل عن هذا الذكر إلى غيره والفضل فيه في الواقع، وهو أفضل من غيره، ولكن الذكر باللسان فقط دون معرفة القلب ودون العمل فائدته قليلة، وقد لا يفيد، فينبغي للإنسان أن يتعرف على معاني ما يقوله ويعمل به.

من بر الوالدين

من بر الوالدين قال الشارح رحمه الله: [وقول الله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23] أي: وقضى أن تحسنوا بالوالدين إحساناً كما قضى بعبادته وحده لا شريك له، كما قال تعالى في الآية الأخرى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14]. وقوله: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء:23] أي: لا تسمعهما قولاً سيئاً حتى ولا التأفف الذي هو أدنى مراتب القول السيئ، {وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء:23] أي: لا يصدر منك إليهما فعل قبيح، كما قال عطاء بن أبي رباح: لا تنفض يديك عليهما. ولما نهاه عن الفعل القبيح والقول القبيح أمره بالفعل الحسن والقول الحسن فقال تعالى: {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء:23] أي: ليناً طيباً بأدب وتوقير، وقوله: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء:24] أي: تواضع لهما، {وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا} [الإسراء:24] أي: في كبرهما وعند وفاتهما، {كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:24]. وقد ورد في بر الوالدين أحاديث كثيرة، منها الحديث المروي من طرق عن أنس وغيره: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صعد المنبر قال: آمين آمين آمين. فقالوا: يا رسول الله! علام أمنت؟ قال: أتاني جبريل فقال: يا محمد! رغم أنف امرئ ذكرت عنده فلم يصل عليك قل: آمين فقلت: آمين. ثم قال: رغم أنف امرئ دخل عليه شهر رمضان ثم خرج ولم يغفر له، قل: آمين، فقلت: آمين. ثم قال: رغم أنف امرئ أدرك أبويه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة، قل: آمين، فقلت: آمين)، وروى الإمام أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف رجل أدرك والديه أحدهما أو كلاهما لم يدخل الجنة). قال العماد ابن كثير: صحيح من هذا الوجه وعن أبى بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله! قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت) رواه البخاري ومسلم]. الرسول صلى الله عليه وسلم قال لهم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى)، هكذا كثيراً ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يبدأ أصحابه بذكر العلم، وذكر ما ينبغي أن يعلموه، فقال: (الإشراك بالله)، والإشراك بالله هو أكبر الكبائر على الإطلاق، وقد جاء أن القول على الله بغير علم أكبر من الشرك عن بعض السلف، وهو من الشرك لأنه يتضمن ذلك. ثم قال: (وعقوق الوالدين)، فقرن بالشرك عقوق الوالدين، وهذا يوافق ما في هذه الآية: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23]، وضد العبادة الشرك، وكذلك ضد الإحسان العقوق، ثم قال في الحديث: (وقول الزور، ألا وشهادة الزور)، يقول: (وكان متكئاً فجلس)، كان متكئاً لما بدأ بالحديث، فلما جاء إلى ذكر الزور وشهادة الزور استوى جالساً ليكون صوته وتبليغه أبلغ، فصار يكررها: (ألا وقول الزور، ألا وقول الزور)، وقوله: (حتى قلنا: ليته سكت)، يعني: إبقاءً عليه ليته يسكت. وهذا من المبالغة، وهذا يدلنا على أن شهادة الزور أمرها عظيم، وأن كثيراً من الناس قد يقع فيها، فلهذا حذر وكرر صلوات الله وسلامه عليه، وشهادة الزور هي شهادة بالكذب، وكل شهادة بكذب فهي زور، كونه يشهد على شيء لا يعلمه ولم يشاهده، لا سيما إذا كان فيه قطع لحق الآخرين، وإعطاء الآخرين حقوق غيرهم، فإن هذا من أظلم الظلم فيما يتعلق بظلم الناس للناس، فهذه يترتب عليها حقوق الناس، وقد جاء في صحيح مسلم: (من اقتطع حق امرئ مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان)، وفي رواية: (فله النار، فقالوا: وإن كان شيئا قليلا يا رسول الله؟ قال: وإن كان قضيباً من أراك) يعني: وإن كان سواكاً. وفي خطبته صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع لما سألهم وقال: (أي يوم هذا؟ أي شهر هذا؟ أي بلد هذا؟) يسألهم وفي كلها يقول: (أليس الشهر الحرام؟ أليس البلد الحرام؟ أليس يوم الحج الأكبر؟)، ثم قال: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟) فجعل الأموال والأعراض والدماء كلها محرمة لا يجوز تناولها بشيء، وصار يكرر ذلك صلى الله عليه وسلم ويقول: (ألا هل بلغت؟ اللهم! اشهد). فالمقصود أن حقوق الناس ليست بالسهلة، ولهذا قالوا: عند المحاسبة والجزاء حقوق الناس مبنية على المقاصة وعلى الاستقصاء لا يترك منها شيء، كما جاء عن عائشة أن الدواوين ثلاثة: ديوان لا يغفره الله، وديوان لا يترك الله منه شيئاً، وديوان لا يعبأ الله به شيئاً. فأما ما لا يغفره الله فالشرك {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فأي مشرك فإن الله لا يغفر له، كما أخبر الله جل وعلا عن ذلك. وديوان لا يترك الله منه شيئاً، وهو حقوق الناس بعضهم مع بعض، لا يترك منها شيء، فلابد أن تقتص، ولابد أن تستقصى، فكل حق لإنسان لابد أن يؤدى يوم القيامة، وتأديته بالحسنات والسيئات، يؤخذ من حسنات الظالم ويعطى المظلوم حتى يستقصي، فإن انتهت حسناته أخذ من سيئات المظلوم ووضعت على الظالم حتى يقضى حقه، لا يوجد خلاص أبداً، ثم يشدد عليه العذاب، نسأل الله العافية. أما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئاً فهو ما كان بين العبد وبين ربه، فهذا سبيله المغفرة، فإذا شاء ربنا جل وعلا غفر له.

شرح حديث (رضا الرب في رضا الوالدين)

شرح حديث (رضا الرب في رضا الوالدين) قال الشارح رحمه الله: [وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رضا الرب في رضا الوالدين، وسخطه في سخط الوالدين)، وعن أسيد الساعدي رضي الله عنه قال: (بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل من بني سلمة، فقال: يا رسول الله! هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ فقال: نعم. الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما) رواه أبو داود وابن ماجة، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جداً] معنى قوله: (الصلاة عليهما) الدعاء لهما. فإن الدعاء ينفع، وقول الله جل وعلا: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39] لا ينافي ذلك؛ لأن الولد من سعي الإنسان، وفي صحيح مسلم: (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: من صدقة جارية -يعني: الوقف الذي يوقفه الإنسان، فيجعل له وقف -بعده- أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)، أما غير ذلك فينتهي عمله إلا من هذه الثلاث. فدعوة الولد للوالد من بر الولد بوالديه، يدعو لهما مطلقاً، سواء أكان في صلواته أم في غيرها، وكونه ينفذ عهدهما يعني الوصايا التي أوصى بها والداه ينفذها ولا يتساهل فيها فإن هذا من بره، وهذا معلوم أنه مقيد بالشرع، وكذلك صلة الرحم التي لا توصل إلا بهما يصلها فيكون بمنزلتهما، وهذا من برهما، وكذلك صلة صديقهما إذا كان لهما صديق فيكرمه كما كان الوالد يحب ذلك، فهذا من تمام البر بعد ذهاب الوالدين وموتهما. وينبغي للإنسان ألا يتساهل بهذا فإن فيه فضلاً وأجراً، وهو من تمام البر.

شرح فتح المجيد [6]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [6] دين الله تعالى وشرعه هو الصراط الذي يسير عليه عباد الله الصالحون، وهو الصراط الدنيوي الذي من استقام عليه في الدنيا وفق لعبور الصراط الأخروي الممدود على ظهر جهنم، والصراط الأخروي هو صراط حسي بخلاف الصراط الدنيوي الذي هو عبارة عن صراط معنوي

معنى قوله عز وجل: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا)

معنى قوله عز وجل: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً) قال المصنف رحمه الله: [وقوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء:36]]. هذا أمر من الله جل وعلا بعبادته، وأمره واجب الامتثال، وقد سبق أن العبادة هي: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، أي أن كل فعل يفعله الإنسان يتقرب به إلى الله، أو قول يقوله يتقرب به إلى الله، أو نية ينويها في قلبه يتقرب به إلى الله فهو عبادة، ويجب أن يكون هذا العمل خالصاً لله جل وعلا، ولا يجوز أن يكون منه شيء لغيره؛ لأنه سبحانه قال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء:36]. فقوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء:36] يدل على أن العبادة لا تكون عبادة شرعية إلا إذا كانت خالية من الشرك، أما إذا كان فيها شرك فهي ليست العبادة الشرعية التي أمر الله جل وعلا بها وطلب من عباده أن يعبدوه بها، وإن كانت تسمى عبادة في اللغة فهي ليست عبادة في الشرع، فلابد من اجتماع هذين الأمرين: عبادة الله، وعدم الشرك. أي: أن يعبد الله العابد ولا يوجد الشرك، أما إذا وجد الشرك فقد انتفت العبادة وجاء بما يناقضها، هذا هو معنى قوله جل وعلا: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء:36]. يقول العلماء: أول أمر جاء في القرآن -على ترتيب المصحف- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21]، مع أن هذا في الواقع هو دين الرسل من أولهم إلى آخرهم، فكل رسول أرسل إلى قومه أمر قومه بالعبادة، بل أول ما يأمرهم به أن يقول: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]، ومعنى قوله: (ما لكم من إله غيره) هو معنى قوله هنا في هذه الآية: {وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء:36]. وكذلك خاتمهم صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين جاء بهذا، فكان أول ما بعث يقول: (أيها الناس! قولوا: لا إله إلا الله)، ومعنى قوله: (لا إله إلا الله) هو معنى هذه الآية: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء:36]؛ لأن قوله: (لا إله) هو معنى: (ولا تشركوا به شيئاً)، وقوله: (إلا الله) هو معنى: (اعبدوا الله)، فهذا دين الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم اتفقوا على هذا، وهذا هو الذي لا يقبل الله جل وعلا غيره، كما قال جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]. فأخبر أن الذي يأتيه مشركاً أنه غير مغفور له، وأن مأواه جهنم، وأن الذي يلقاه بذنوب ما عدا الشرك فإن الله يغفرها له إذا شاء، أي: بدون أن يعاقب صاحبها، أما الشرك فقد استثناه من جميع الذنوب وبين أنه لا يغفره لصاحبه. وقال جل وعلا في الآية الأخرى في المشركين الذين يتخذون أنداداً يحبونهم كحب الله، قال في نهاية الآيات: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:167]، وقال في آية أخرى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:72]، وبهذا يتبين عظم الشرك وأنه أمر عظيم جداً، فإذا كان صاحب الشرك لا يدخل الجنة، ومأواه جهنم خالداً فيها فيتعين على الإنسان الذي تهمه نفسه ولها قدر عنده أن يتعرف على الشرك خوفاً من أن يقع فيه وهو لا يدري، فلا يعذر بذلك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بينه ووضحه ولم يتركه ملتبساً مشتبهاً حتى لا يحتج محتج ويقول: أنا ما بان لي الأمر. وكون الإنسان يغفل عن هذا أو يعرض عنه فليس هذا عذراً؛ لأن الإنسان مكلف باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، ومكلف بأن يعلم ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم في أصل العبادة، ولهذا كل ميت يسأل في قبره يقال له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ وهي ليست مجرد كلمات لو حفظها الإنسان لاستطاع أن يجيب، بل مضمونها عمل ينطوي عليه القلب وتتحلى به الجوارح من إيمان بالله يقيني لا يتطرق إليه شك، وعمل ينبعث من النية والقصد والإرادة الذي يكون منطوياً عليه القلب وعازماً عليه، وكذلك اتباع للرسول صلى الله عليه وسلم. فمعنى قوله: (من ربك؟) أي: من الذي تعبده؟ ومعنى قوله: (ما دينك؟) أي: بأي دين تتعبد؟ ومعنى قوله: (من نبيك؟) من الذي جاءك بالعبادة؟ وممن أخذت العبادة؟ وهل أخذتها من آبائك وأهل بلدك، ومن المجتمع الذي تعيش فيه؟ فإن أخذها عن هؤلاء فإن هذا لا يجدي لا يفيد، ولهذا قال في نهاية الحديث: (فإن كان موقنا فإنه يجيب -يعني: بلا تلعثم وبلا تردد-، وإن كان مرتاباً أو شاكاً فإنه يتلعثم ويقول: هاه هاه لا أدري، رأيت الناس يفعلون شيئاً ففعلته)، أو قال: (سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته)، فهذا لا يجدي، ولهذا يعذب ويضرب بمطارق من نار يلتهب عليه قبره، ثم يقول له الملك: (لا دريت ولا تليت)، أي: ما علمت العلم النافع الذي يكون يقيناً يبعث على العمل، ولا تلوت كتاب الله حتى تتيقن من ذلك. فإذاً لابد للعبد أن يعبد ربه، ولابد له أن تكون العبادة خالصة لله جل وعلا، ولابد أن تكون العبادة مأخوذة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، هذه أمور ثلاثة لابد منها على كل إنسان، وإن أخل بها فاللوم عليه، والله جل وعلا أنزل كتابه وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم لبين هذا ويوضحه بجلاء، فكيف يجوز للمسلم أن يخفى عليه أمر عبادة ربه، أو يخفى عليه الشرك؟! وكثير من الناس من يلتبس عليه هذا الأمر؛ لأنه يجهل معنى العبادة، ويجهل ما معنى (عبد)، ويجهل معنى (التأله)، ولا يدري ما معنى (الإله)، ولهذا تجد كثيراً ممن يقول: (لا إله إلا الله) يقع في الشرك، فيأتي بما يناقض هذه الكلمة، بأن يطوف على القبر ويدعو الولي، ويمد يديه إليه ويقول: يا سيدي فلان! أعطني كذا وكذا، ويا سيدي فلان! أنا بحسبك، أو: أنا بجوارك، أو: أريد أن تنفعني بكذا، أو: أريد أن تصد عني كذا وكذا، ونحو ذلك من هذه الدعوات التي لا يجوز أن تكون إلا لله، وهذا هو الذي يجب أن يكون التوحيد فيه؛ لأن الدعاء هو: طلب النفع ودفع الضر، والدعاء في كل ما هو من الغيب كدعاء الغائب من ميت أو حي يوقع الإنسان في الشرك. ثم مما يعين على معرفة هذا أن يتأمل الإنسان شرك المشركين السابقين الذي نزل القرآن بتخليدهم في النار والذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسيجد أن الله جل وعلا وضح هذا وبينه، والرسول صلى الله عليه وسلم كذلك وضحه، وأخبر جل وعلا في القرآن في مواضع متعددة بأنهم كانوا إذا سئلوا من الذي خلق السموات والأرض؟ قالوا: الله. أي: ما أحد شاركه في هذا. وإذا سئلوا من الذي ينزل من السماء ماء فيخرج به من الثمرات رزقاً لكم؟ قالوا: الله وحده. وإذا سئلوا: من الذي خلقكم؟ ومن الذي خلق الذين من قبلكم؟ قالوا: الله. وإذا سئلوا: من الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء؟ قالوا: الله. وإذا سئلوا: لمن السماوات والأرض؟ قالوا: لله. وهذا أمر واضح في القرآن، فهل كان شركهم أنهم يقولون: إن مع الله خالقاً؟ A كلا، بل شركهم أنهم كانوا يتوجهون إلى أشجار وإلى أحجار وإلى عباد وإلى كواكب وإلى أنبياء فيدعونهم ويقولون: نجعلهم وسائط بيننا وبين ربنا ليشفعوا لنا، ويقولون: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى. فليوازن الإنسان بين عبادتهم وبين ما يحصل لكثير ممن يدعي الإسلام وهو يتضرع إلى الأموات الذين في قبورهم الذين لا يستطيعون أن يكفوا الدود عن أجسادهم، ويسألهم جلب النفع ودفع الضر، فهذا ليس فيه إشكال ولا خفاء على من نظر في كتاب الله جل وعلا أنه شرك، فيجب على العبد أن يعرف هذا، وأن يتنبه قبل أن يأتيه الموت؛ لأن الله جل وعلا قال لنا في هذه الآية: (اعبدوا الله) وهل يجوز للإنسان أن يخفى عليه أمر الله ويقول: ما أدري ماذا أراد مني ربي؟! والله عز وجل قد قال: (اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً)، فأمر بالعبادة ونهى عن الشرك، وهل للإنسان حجة إذا وقف بين يدي الله أن يقول: يا رب! ما دريت ماذا تريد بقولك: (اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً)؟! وهل يمكن أن ينتفع الإنسان بهذا القول؟! إذاً ما فائدة إنزال الكتاب؟ وما فائدة إرسال الرسول؟ فلابد للإنسان أن يعرف كيف يعبد ربه، وبم يعبد ربه، ومن أين جاءت العبادة، وأصل الدين الإسلامي مبني على هذا، ألا يُعبد إلا الله وألا يشرك به شيء، وأن تكون العبادة مأخوذة من الوحي، لا من الرأي ولا من الذوق، ولا مما وجد الناس بعضهم بعضاً عليه وتوارثوه، وإلا فيكون الإنسان ممن ذكر الله جل وعلا أنهم قالوا: ((إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف:23] يعني: على ملة {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23]، وهل هذا يفيد؟ A كلا. فهذا هو أصل دين الإسلام الذي يتعين على العبد أن يعتني به باهتمام بالغ ولا يفرط فيه، وإلا فيكون مؤاخذاً.

الحقوق العشرة في قوله تعالى: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا)

الحقوق العشرة في قوله تعالى: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً) قال الشارح رحمه الله: [قال العماد ابن كثير رحمه الله في هذه الآية: يأمر الله تعالى عباده بعبادته وحده لا شريك له؛ فإنه الخالق الرازق المتفضل على خلقه في جميع الحالات، وهو المستحق منهم أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئاً من مخلوقاته. انتهى. وهذه الآية هي التي تسمى آية الحقوق العشرة]. الحقوق العشرة هي: الأول: حق الله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء:36]. الثاني: حق الوالدين: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء:36]. الثالث: الوصية بذي القربى: {وَبِذِي الْقُرْبَى} [النساء:36]. الرابع: الوصية باليتامى: بأن يحسن إليهم، ويحفظ مالهم ويقوم عليه بالمصالح التي تصلحه وتنميه، ولا يقربه إلا بالتي هي أحسن كما سيأتي. الخامس والسادس: الوصية بالجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب، فذو القربى هو: الذي بينك وبينه قرابة نسب أو صلة الإسلام. والجار الجنب هو: الذي يكون بجنبك ولو لم يكن من المسلمين، فعليك أن تحترم جواره وتحسن إليه ولا تؤذيه وتبذل نفعك له. الثامن: الوصية بالمساكين. والمساكين: هم الفقراء. التاسع: الوصية بابن السبيل. العاشر: الوصية بملك اليمين، وكذلك الإحسان إلى الخلق جمعياً، فإذا كان أخ لك أحببت له النصح والإرشاد، وتود له ما توده لنفسك، وإن كان غير ذلك فتدعوه إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وإذا احتاج الأمر إلى مجادلة فجادله بالتي هي أحسن، ليس بالشيء الحسن، وإنما بالتي هي أحسن، حتى يكون هذا أدعى لقبوله الحق؛ لأن المقصود من الدعوة نفع الخلق وبراءة الذمة والقيام بأمر الله جل وعلا، فالله جل وعلا يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم -وأمته تبع له بلا شك-: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]، فأتباع الرسول لابد أن يكون لهم نصيب من هديه ومن مسلكه ودعوته، وإلا فكيف يكون أحدهم من أتباعه وهو لا يقوم بما كان يقوم به الرسول صلى الله عليه وسلم.

قوله تعالى: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم) الآيات

قوله تعالى: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم) الآيات قال الشارح رحمه الله: [وفي بعض النسخ المعتمدة من نسخ هذا الكتاب تقديم هذه الآية على آية الأنعام، ولهذا قدمتها لمناسبة كلام ابن مسعود رضي الله عنه الآتي لآية الأنعام، ليكون ذكره بعدها أنسب. وقول الله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:151 - 153]]. هذه الآيات الكريمات جمعت فأوعت، جمعت الأمور التي يجب على العبد أن يراعيها وأن يتحلى بها، ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: (من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمة فليقرأ هذه الثلاث الآيات)، وسيأتي شرح كلامه رضي الله عنه، ومعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يوص إلى أحد، ولم يوص بشيء غير كتاب الله جل وعلا وسنته صلى الله عليه وسلم، كما قال في حجة الوداع: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي كتاب الله)، فجعل يوصي بالأخذ بكتاب الله، وكثير من آيات القرآن جاءت بمعنى هذه الآيات، وهي كثيرة جداً، والله جل وعلا يكرر هذه الأمور في القرآن لعظمها ولتأكيدها، كما مر من الآيات التي في سورة النساء، وكذلك التي في سورة البقرة وغيرها وهي بهذا المعنى، وفي هذه الآيات يأمر الله جل وعلا نبيه بأن يقول للناس: (قل تعالوا) أي: هلموا إليَّ وأقبلوا واستمعوا ما أقول لكم. أي: ليس هو قولاً من عندي ولا من عند فلان، هو قول ووحي من الله اتلوه وأقصه عليكم وأذكركم به وأبلغكم إياه؛ لأنه أمر الله الذي لا يجوز أن يرد ولا يجوز أن يتساهل به.

الوصية بترك الشرك

الوصية بترك الشرك وأول ما أتلوا عليكم من وحي الله أن الله حرم الشرك، (أن لا تشركوا به شيئاً)، والمعنى: اعبدوا الله وحده واجتنبوا الشرك؛ لأنه إذا نُفي الشرك لزم إثبات العبادة لله وحده كما سبق.

بر الوالدين من أعظم الطاعات

بر الوالدين من أعظم الطاعات قال تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة:83] أي: كذلك أتلوا عليكم أن الله أمركم بأن تحسنوا إلى الوالدين إحساناً. وهنا يقول العلماء: حَذَفَ متعلق الإحسان ليدل على العموم. فكل ما سمي إحساناً يشمله هذا الأمر، وكثيراً ما يقرن الله جل وعلا حق والوالدين بحقه. والإحسان إلى الوالدين هو طاعتهما بالمعروف والقيام على خدمتهما، وكذلك مساعدتهما في طاعة الله ومعاونتهما عليه، ودعوة الله لهما بأن يرحمهما وأن يتجاوز عنهما، وكذلك جلب النفع الدنيوي لهما بكل ما يستطيع، وكذلك ألا يترفع عليهما، ولا يقابلهما بالكلام النابي، بل بالكلام الذي يدل على اللين وعلى حسن المعاملة والمعاشرة، كما قال تعالى في الآية الأخرى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:23 - 24] فهذا الذي ذكره الله جل وعلا في آيات الإسراء هو الإحسان الذي ذكره في هذه الآية وأجمله.

قتل الأولاد خشية الفقر من الكبائر العظيمة

قتل الأولاد خشية الفقر من الكبائر العظيمة قال تعالى: (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق) الإملاق: هو الفقر. أي: لا تقتلوهم خوفاً من الفقر، فإن الأمر ليس إليكم؛ فإن الله تكفل برزقهم. ولهذا قال: (نحن نرزقكم وإياهم)، فأخبر أن رزق الوالدين ورزق الأولاد على الله ليس على الناس، فالإنسان لا يجوز أن يكون نظره إلى أن الرزق يأتي من كد يده ومن صنعته ومن حسن تصرفه، كما يقوله كثير من الناس الذين يضيف أحدهم الأمر إليه، بل يجب أن يجعل الأمر لله جل وعلا. وقوله: (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق) جاء هذا لأن بعض العرب -وليس كلهم- كانوا يقتلون أولادهم خوفاً من الفقر، وبعضهم كان يقتل البنات فقط خوفاً من العار، وليس من الفقر، والعار معناه عندهم أنهم يخشون أن تزني، فيصبح هذا عاراً على أبيها وأهلها، فكانوا يئدونها ويدفنونها حية، كما قال الله جل وعلا: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8 - 9] يعني: هل لها ذنب وهي بنت صغيرة حتى تدفن حية؟! ووجه هذا السؤال إليها لعظم الأمر حتى يعرف الظالم مقامه، فكان بعضهم يصنع هذا، فيئدون البنات خوفاً من العار، وبعضهم كان يقتل حتى الذكور خوفاً من الفقر إذا كثروا، وهذه قد أصبح الكفار ينشرونها بين المسلمين، وهي سنة الجاهلية السابقة أصبح الكفار من اليهود والنصارى أعداء الله وأعداء دينه ينشرونها في بلاد المسلمين، ويروجون أن كثرة الأولاد لا تنبغي، وينبغي أن الإنسان يرتب نسله خوفاً من أنه لا يستطيع التربية، ولا يستطيع تعليمهم، ولا يستطيع القيام بحقوقهم، وأن الأرض سوف تضيق بهم، وأن الأرزاق سوف تقل ثم يأتي الجوع فيموت الناس جوعاً فيقولون: بعد كذا سنة سوف يموت كذا وكذا من الآلاف أو من الملايين جوعاً. ويتصرفون في ملك الله، ويظنون أن الأمور بأيديهم، وكل هذا أريد به السوء للمسلمين فقط، أما الكفار فلا يوجد هذا عندهم، بل في بعض دول الكفر يجعلون مكافأة لمن يكون له مولود، وكلما ولد له مولود آخر أوجدوا له مكافأة ووظيفة، فهم يشجعون كثرة المواليد، فكيف يوجهون المسلمين وهم يقتلونهم؟! والأوضاع الحاضرة لا تخفى، فالمسلمون يقتلون في كل مكان كتقتيل الأنعام، وليس لهم قيمة عند هؤلاء الكفار، وكل ذلك لأن المسلمين في الواقع تركوا أمر الله وصاروا غثاء كغثاء السيل، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها. قالوا: أمن قلة نحن يا رسول الله؟! قال: لا، أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، تنزع المهابة من قلوبكم ويقذف في قلوبكم الوهن. قيل: يا رسول! وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت)، وهذا هو الداء الذي وقع فيه كثير من المسلمين اليوم، وهذا خلاف ما كان عليه السلف الصالح وما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم، فلما استعصت بعض الحصون على خالد بن الوليد صار يخاطبهم ويقول: (يا هؤلاء! والله! لقد جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون أنتم الحياة، اصنعوا ما شئتم فلن تفلتوا من أيدينا)، وكان أحدهم إذا سقط قتيلاً بسلاح العدو يهنئونه قائلين: هنيئاً لك الشهادة. وكل واحد يود لو أنه مكانه، وكانوا يحبون الموت كما يحب أعداؤهم الحياة، فإذا وجد هذا في المسلمين اليوم فلن تقوم أمامهم أمريكا ولا غيرها من الدول الكافرة، ولن تستطيع أن تقوم في وجوههم؛ بشرط أن يلتزموا بأمر الله جل وعلا كما قال سبحانه: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، وهذا وعد من الله، والله لا يخلف وعده، فهذا شرط لا يتحقق إلا إذا وجد المشروط، فإذا وجد نصر الله منا والثبات على دينه وجد نصر الله لنا، أما أن نعرض عن دين ربنا جل وعلا ويصبح ديننا بين التهاتر والتباغض والتقاطع وحب الذات وجلب المنافع للإنسان نفسه حتى على حساب الآخرين فالواقع أنه لا يكون لنا ميزة، ولما ذهب عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى قتال الروم في مصر احتاج إلى مدد وزيادة جنود؛ لأن الروم أعدوا أكثر من مائة ألف مقاتل، والذين كانوا معه لا يتجاوزون عشرين ألفاً، فكتب كتاباً إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يستنجده ويقول: أريد عشرين ألفاً. أو قال: أربعين ألفاً، فكتب إليه عمر رضي الله عنه: (ما عندنا أمداد مما تذكر، ونحن لا نقاتل بعددنا ولا بعدتنا، وإنما نقاتل بإيماننا وبوعد الله لنا، ولكن احترس من الذنوب أشد من احتراسك من عدوك، واعلم أن النصر بيد الله، فإذا اتقيتم الله جل وعلا وأخلصتم له فسوف ينصركم، وإني ممدك بأربعة رجال فقط)، فأرسل له أربعة بدل هذا العدد الذي طلبه، وكانت وصيته أنه قال له: احترس من الذنوب أشد من احتراسك من عدوك؛ فإنها هي التي تنصر العدو عليكم، فميزة المسلمين يكونوا ملتزمين بأمر الله جل وعلا، أما إذا فرطوا فقد جاء في أثر يروى يقول الله جل وعلا فيه: (إذا عصاني من يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني)، والذي لا يعرف الله أمرُهُ منتهٍ، ولكن الذي يعرف الله كيف يعصيه؟! فإذا عصى صارت العقوبة أقرب وأسرع إليه، وإن كان مآله في الآخرة ليس كمآل هؤلاء، ولكن يكون عقاباً عاجلاً. والمقصود أن قول الله جل وعلا: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام:151] عام شامل حتى في الذي يخاف أنه إذا ولد له أولاد أنه يحدث له الفقر، أو يحدث له القلة، وأنه لا يستطيع القيام عليهم، وهذا أمر قد تكفل الله جل وعلا به، كما ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد)، فيكتب الرزق وهو في بطن أمه، فكيف يستطيع أحد أن يرد رزقه؟! بل هو مكتوب مفروغ منه، وقد رزقه وهو لم يخلق بعد، ولا يمكن أن يغير أو يبدل ما كتبه الله جل وعلا، ولكن بلا شك أن الله جعل لكل شيء سبباً، وأن الله هيأ الأسباب وأمر بفعلها، فنقول: أنت عليك فعل السبب والأمر، وحصول النتائج على الله، فيجب أن تتكل على ربك في ذلك، ولا يكون الفقر نصب العينين. وجاء في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك. قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك)، ولو سأله أيضاً عن شيء آخر لأخبره، ولكنه سكت. فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أعظم الذنوب أن يشرك الإنسان بالله جل وعلا، وأن يجعل لله نداً وهو خلقه، وهو المتصرف في خلقه المتوحد بذلك ليس له شريك، وهو الذي هيأ له الحياة ومستلزماتها. وقوله بعد هذا: ثم أي؟ يعني: ما هو الذنب الذي يلي هذا في العظم؟ فقال: (أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك)، يعني: خوفاً من الفقر. وذكر هنا أعظم القتل وأشنعه، وإلا فالقتل كله محرم كما سيأتي، ولكن الجبلة التي جبل الله جل وعلا عليها الخلق أن الإنسان يحنو على ولده ويرحمه ويحسن إليه، فإذا جعل بدل الحنو عليه والرحمة له والإحسان إليه إساءة انقلبت الأمور واشتد الذنب وصار العقاب أعظم. وكذلك الزنا، فالزنا فيه من المفاسد ما فيه كما هو معلوم، من اختلاط الأنساب، وإفساد فرش الناس، وإفساد بناتهم وزوجاتهم، وكذلك فيه من الأمراض التي يعرفها من يعرف هذا، ففيه من الفساد الخلقي والفساد الجسدي والفساد الديني الشيء العظيم، فالزنا عظيم، وأعظم الزنا أن يزني الإنسان بذات رحم له، ويليه في العظم أن يزني بزوجة جاره، كما قال هنا: (أن تزاني) وجاء بلفظة (تزاني) لأن هذا يدل على الموافقة من الجانبين، أما إذا كان من جانب واحد ويكون الجانب الآخر مرغم فيتضاعف العذاب أيضاً، والجرم أن تزاني بحليلة جارك، يعني: بزوجة جارك. لأن الواجب في الإسلام أن يحفظ الإنسان حرمة جاره، كما جاءت الأحاديث في ذلك، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: (والله لا يؤمن! والله لا يؤمن! والله لا يؤمن! -هكذا كررها الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثاً- قالوا: من؟ قال: من لا يأمن جاره بوائقه)، فالذي لا يأمن جاره أذاه وخيانته فليس عنده إيمان. ويقول صلى الله عليه وسلم: (لم يزل جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)، أي: يكون له ميراث، فهنا معنى قوله جل وعلا أنه وصاكم بترك الشرك، وبالإحسان إلى الوالدين، وكذلك الإحسان إلى الأقارب ومنهم البنين. قال سبحانه: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام:151].

كل الفواحش الظاهرة والباطنة محرمة

كل الفواحش الظاهرة والباطنة محرمة ثم قال بعد هذا: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام:151]. الفواحش: هي كل فعل يفحش في نفسه، ويقبح في العقل، ولكن الضابط هنا أن يكون فاحشة في الشرع، فكل ما حرمه الله فهو فاحشة، ولكنها تتفاوت، فبعضها أعظم من بعض، وهنا نهي عام شامل عن الباطن والظاهر، وقد اختلف العلماء ما المقصود بالباطن والظاهر هنا؟ فقال قوم: المقصود بالظاهر: ما يفعل علناً أمام الناس وهم يشاهدونه، والباطن: ما يفعل سراً. أي: ما تفعله وتختفي عن الناس في فعله، فالله ينهى عن هذا وهذا. ومنهم من يقول: الباطن ما يفعل بالجوارح بالأيدي والأرجل، واللسان بالقول بالكلام، والباطن ما انطوى عليه القلب وقصده ونواه من الحسد والغل والغيبة وغير ذلك. ومنهم من قال غير هذا، والمعنى أن هذا شامل لكل أمر فيه مخالفة، سواء فعل بالجوارح أو كان بالنية وانطوت عليه القلوب، وسواء أكان ظاهراً يراه الناس أم كان مستوراً، فالله نهى عن هذه كله.

حكم قتل النفس المعصومة

حكم قتل النفس المعصومة قال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأنعام:151]. قوله: (ولا تقتلوا النفس) هذا تعميم بعد تخصيص؛ لأنه نهى عن قتل الأولاد أولاً وهو من قتل النفس، ثم جاء هنا التعميم فقال: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق)، فهذا يشمل حتى الكفار إذا كان لهم عهد ولم يكن هناك حرب بين المسلمين وبينهم، فلا يجوز قتلهم في أي حال من الأحوال، وقد جاء في الحديث: (من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفاً)، والحديث في صحيح مسلم، فقوله: (من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة)، أي: هو كافر. فكيف بالذي يقتل مسلماً؟ فقد جاء أن زوال الدنيا بأسرها أهون على الله من قتل مؤمن، وجاء أن الله جل وعلا يقول: لو اجتمع أهل السموات والأرض على قتل مسلم لأكبهم في النار كلهم، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت مشركاً، والرجل يلقى الله بدم حرام)، ولهذا كان ابن عباس رضي الله عنه يقول: (من قتل مسلماً فلا توبة له)؛ لأن الله جل وعلا يقول: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء:93]، وقد أخبر الله أنه يغضب عليه ويلعنه ويعد له جهنم، ولكن الصواب الذي عليه العلماء أن القاتل إذا تاب تاب الله عليه، ويقول ابن القيم رحمه الله في هذا: إن القتل يتعلق به ثلاثة حقوق: حق لله جل وعلا حيث حرم القتل، فهذا إذا تاب الإنسان منه تاب الله عليه، وحق لأولياء المقتول وهذا يسقط بالقصاص أو بدفع الدية أو بالعفو، وحق للمقتول نفسه فهذا لا يسقط، ولابد من استيفائه يوم القيامة إلا إذا شاء الله؛ فإنه قد يرضي المقتول عن القاتل، ولهذا جاء أن أول ما يُقضى به بين الناس يوم القيامة الدماء، وأن المقتول يأتي يحمل رأسه وأوداجه تشخب دماً متعلقاً بقاتله يقول: يا رب! سل هذا لم قتلني؟ وفي الصحيحين أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار. قالوا: يا رسول الله! هذا القاتل -أي: أمره ظاهر- فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه)، فالقتل محرم عموماً، كما قال تعالى: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32]، فهو أمر عظيم جداً. وقوله: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الإسراء:33] استثنى التي بالحق، وجاء في الحديث الصحيح: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)، و (التارك لدينه) أي: المرتد الذي يرتد ويترك الدين يقتل. وهذا قتله بالحق، والذي يزني وقد من الله جل وعلا عليه بالزوجة الحلال، فإن حكمه الرجم بالحجارة حتى يموت، ويذوق بدنه كله الألم الذي ذاق الشهوة المحرمة، وكذلك النفس بالنفس، فإذا قتل إنسان إنساناً فإنه يقتل به، وكذلك الكفار إذا صار بينهم وبين المسلمين قتال فإن قتلهم بحق؛ فإن الله جل وعلا يقول: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة:36]، فحرض على قتلهم وأمر به لأنه حق. وقوله سبحانه: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام:151] يعني: هذه الأمور هي الوصية التي وصانا بها. والوصية: هي التأكيد على الأمر والإلزام به والاهتمام به أكثر وصانا بهذه لعلنا نعقلها فنحفظها ونعمل بما قال لنا ربنا جل وعلا.

حكم أكل أموال اليتامى

حكم أكل أموال اليتامى ثم بعد هذا يقول جل وعلا: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام:152]، في الآية السابقة يقول: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام:151] وأكل مال اليتيم داخل فيها بلا شك، ثم هنا ينص عليه تأكيداً واهتماماً به أكثر، فقال: (لا تقربوا) بدل (لا تأكلوا) ليعم جميع أنواع التصرف وقربانه، ثم استثنى التي هي أحسن، والتي هي أحسن: القيام على تنميته والتصرف فيه تصرفاً يعود على اليتيم بالخير والنفع، أما ما عدا ذلك فلا يجوز، قال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام:152] و (الأشد) هنا: أن يعقل ويحسن التصرف، كما ذكر ذلك جل وعلا في آيات سورة النساء، وبين أنه إذا أحس منهم الرشد فتدفع إليهم أموالهم، والرشد هو: حسن التصرف في المال، مع بلوغ السن التي يرشد فيها.

من الفواحش التطفيف في المكيال والميزان

من الفواحش التطفيف في المكيال والميزان قال سبحانه: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} [الأنعام:152]، وهذا أيضاً يدخل فيما سبق، فالنهي عن تطفيف الميزان وكذلك بخس الناس أموالهم وحقوقهم يدخل في الفواحش التي سبق ذكرها، وأعاد ذلك ونص عليه تأكيداً له، كما قال تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} [الإسراء:35] يعني أن الإنسان إذا باع واشترى يجب أن يبيع بحق ولا يجوز أن يكون فيه بخس، أو يكون فيه غش، أو يكون فيه نقص، لا في الكمية ولا في الكيفية، ويكون مغشوشاً في الكيفية بأن يخفي العيب عن المشتري، فإن هذا ليس من الحق، فإذا فعل فقد أكل مال الناس بالباطل، وأما الكمية فكأن ينقص الوزن أو الكيل.

الخطأ مع بذل الوسع معفو عنه

الخطأ مع بذل الوسع معفو عنه وقوله تعالى: {لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الأنعام:152] معنى هذا أن الإنسان إذا بذل وسعة واجتهد في أداء الحق الاجتهاد الذي يستطيعه ثم أخطأ في شيء قليل فإنه معفو عنه، (لا نكلف نفساً إلا وسعها)، فإذا أخطأ في الشيء القليل بعد أداء الاجتهاد وبذل الوسع في أداء الحق فإنه معفو عنه، وهذا معنى قوله جل وعلا: (لا نكلف نفساً إلا وسعها) يعني: إلا ما تسعه، ولا نكلفها شيئاً لا تسعه ولا تطيقه، والوسع هو: الطاقة والاستطاعة.

وجوب القول بالعدل ولو على ذوي القربى

وجوب القول بالعدل ولو على ذوي القربى ثم قال جل وعلا: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام:152]، يعني: إذا شهد الإنسان أو تكلم بكلام يجب أن يكون كلامه بالعدل والصدق ولو كان على قريب لك، كإبنك أو أخيك، أو على صديقك، فيجب أن تقول العدل والحق، وألا تأخذك في الله لومة لائم على هذا، وكذلك إذا كان المقول فيه عدواً فلا يجوز أن تتجاوز الحق فيه، فإذا قلت فاعدل، وهذا أمر عام، فيجب على الإنسان إذا تكلم أن يتكلم بالحق، ولا يجوز أن يخفي حقوق الناس لأجل أنه لا يروق له أو لا يناسب مذهبه أو لا يناسب جماعته أو ما أشبه ذلك؛ فإن هذا من أعظم الاغترار نسأل الله العافية.

وجوب الوفاء بالعهد

وجوب الوفاء بالعهد ثم قال: {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} [الأنعام:152]، وهذا عام يعم كل ما سبق، فعهد الله هو كل ما عهد إلينا بحفظه أو باجتنابه، وكل شيء عهد الله جل وعلا إلينا بأن نعمله أو ألا نعلمه يجب أن نفي به، ويكون من الخصوصيات في هذا، والأيمان والمواثيق التي تحدث بين الناس وبين الدول يجب أن يوفى بها، بل من باب أولى أن يوفى بها؛ فإن الله أمر بهذا. وقوله تعالى: {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأنعام:152] يعني: وصية الله تقدم بها إليكم لعلكم تذكرونها ثم تخافون عقاب الله وترجون ثوابه فتفعلونها.

وجوب التمسك بالصراط المستقيم

وجوب التمسك بالصراط المستقيم ثم قال جل وعلا: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} [الأنعام:153]. يعني: ووصاكم بأن هذا الذي تقدم به إليكم هو صراط الله. وصراط الله هو دينه الذي شرعه لعباده: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} [الأنعام:153] يعني: واضحاً جلياً لا اعوجاج فيه ولا خفاء. {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام:153] أي: اسلكوه {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153]، فهذه في الواقع من الآيات العظيمة الجامعة التي من حفظها حفظ دينه، وبُدئت بالنهي عن الشرك؛ لأن النهي عن الشرك يستلزم عبادة الله، وعبادة الله لا تكون إلا باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، فهي تستلزم معرفة الله والعمل بدينه ومعرفة الرسول صلى الله عليه وسلم. [قال العماد ابن كثير رحمه الله: يقول تعالى لنبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم: (قل) لهؤلاء المشركين الذين عبدوا غير الله وحرموا ما رزقهم الله: (تعالوا) أي: هلموا وأقبلوا (أتل) أقص عليكم (ما حرم ربكم عليكم) حقاً لا تخرصاً ولا ظناً، بل وحياً منه وأمراً من عنده، (ألا تشركوا به شيئاً)، وكأن في الكلام محذوفاً دل عليه السياق تقديره: وصاكم ألا تشركوا به شيئاً، ولهذا قال في آخر الآية (ذلكم وصاكم به) اهـ. قلت: فيكون المعنى: حرم عليكم ما وصاكم بتركه من الإشراك به. وفي المغني لـ ابن هشام في قوله تعالى: {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام:151] سبعة أقوال، أحسنها هذا الذي ذكره ابن كثير، ويليه: بين لكم ذلك لئلا تشركوا. فحذفت الجملة من أحدهما -وهي: (وصاكم) - وحرف الجر وما قبله من الأخرى]. لغة العرب التي عرفها من اعتنى بها أفصحها وأعظمها أن يحذف الشيء الذي يعرفه السامع ولا يحتاج البليغ إلى ذكره، فإذا حُذف يكون أبلغ وأفصح، والقرآن سار على هذا النهج.

شرح فتح المجيد [7]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [7] صراط الله المستقيم واحد لا يتعدد، بخلاف سبل الباطل فإنها كثيرة ومتعددة، وصراط الله المستقيم يفضي بصاحبه إلى رضوان الله والجنة، بينما سائر السبل على كل منها شيطان يدعو إليها، فمن سار على واحد منها تولاه شيطانه وسلك به تلك السبيل حتى يهوي به في النار.

السبل التي تعترض الصراط المستقيم، وأنواع الصراط

السبل التي تعترض الصراط المستقيم، وأنواع الصراط قال الشارح رحمه الله: [وقوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]، قال القرطبي: هذه آية عظيمة عطفها على ما تقدم، فإنه نهى وأمر وحذر عن اتباع غير سبيله على ما بينته الأحاديث الصحيحة وأقاويل السلف، و (أن) في موضع نصب، أي: (أتلو أن هذا صراطي) عن الفراء والكسائي، ويجوز أن يكون خفضاً أي: (وصاكم به، وبأن هذا صراطي)، قال: والصراط: الطريق الذي هو دين الإسلام. (مستقيماً) نصب على الحال، ومعناه: مستوياً قيماً لا اعوجاج فيه. فأمر باتباع طريقه الذي طرقه على لسان محمد صلى الله عليه وسلم وشرعه ونهايته الجنة وتشعبت منه طرق، فمن سلك الجادة نجا، ومن خرج إلى تلك الطرق أفضت به إلى النار، قال الله تعالى: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153] أي: تميل. انتهى. وروى الإمام أحمد والنسائي والدارمي وابن أبي حاتم والحاكم -وصححه- عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً بيده، ثم قال: هذا سبيل الله مستقيماً. ثم خط خطوطاً عن يمين ذلك الخط وعن شماله، ثم قال: وهذه سبل ليس منها سبيل إلا وعليه شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام:153] الآية)، وعن مجاهد: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام:153] قال: البدع والشهوات]. هذا الحديث الذي ذكره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدلنا على أن الحق واحد لا يتعدد، بخلاف الباطل فإنه متعدد وكثير، ولهذا جعل طريق الله خطاً واحداً، فقال: (خط خطاً واحداً مستقيماً فقال: هذا صراط الله. ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن شماله فقال: هذه سبل، ليس منها سبيل إلا وعليه شيطان يدعو إلى الله). أي: إذا سلكه الإنسان أفضى به إلى النار، وهذا يدلنا على أنه ليس هناك طريق إلى الجنة ونجاة للإنسان إلا بالسير خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط، ولا يوجد غير هذا، فإن سار الإنسان خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبل ما جاء به واهتدى به عملاً واعتقاداً وقولاً فهو الناجي الذي يكون سعيداً في الدنيا والآخرة، أما إذا مال يميناً وشمالاً عن هذا الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فسوف تتولاه الشياطين وتسلك به المسالك التي تهوي به إلى النار -نسأل الله العافية-، ولهذا وضح الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك بالخطوط. ثم بين صراط الله الذي وصانا الله باتباعه في قوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام:153]، وأمر الله واجبٌ الأخذ به، وقد جاءت عبارة السلف في تفسيره مختلفة الألفاظ متفقة المعاني، فمنهم من قال: صراط الله: كتاب الله القرآن. ومنهم من قال: صراط الله: ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة، ومنهم من قال: صراط الله: الإسلام. وهذا كله حق، وكله يؤول إلى شيء واحد، وأن الصراط الذي أمرنا جل وعلا بالتمسك به واتباعه وسلوكه هو ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن ومن السنة ومن كل ما أُمرنا به، وهذا الصراط معنوي أوجب ربنا جل وعلا أن نسلكه، وهو الذي أوجب علينا في كل ركعة من ركعات الصلاة أن نبتهل إليه ونسأله أن يهدينا هذا الصراط: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7]، وهذا فرض على الإنسان إذا صلى أن يسأل ربه أن يهديه هذا الصراط، وكثير من المفسرين يقول: معنى (اهدنا الصراط): ثبتنا عليه. والواقع أن هذا فيه شيء من القصور؛ لأن الإنسان لا تكمل هدايته كما ينبغي حتى يضع أول قدم له في الجنة، وأما قبل أن يدخل الجنة فهو بحاجة إلى هداية دائماً، وبحاجة إلى زيادة من الهداية، فهو في الدنيا يحتاج إلى زيادة يقين وإيمان، ويحتاج إلى زيادة عمل يرضي ربه جل وعلا به، وكذلك في الآخرة يحتاج إلى زيادة تثبيت أن يثبته الله جل وعلا بالقول الثابت، كما قال الله جل وعلا: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27] يعني: عند السؤال. وليس كما يقول بعض الناس: إن الآخرة ليست محل تكليف، فإذا مات الإنسان انتهى تكليفه، بل ما دام الإنسان لم يدخل الجنة والنار فهو في محل يبتلى ويسأل ويمتحن، فيثبت الله جل وعلا من يشاء، ويضل من يشاء، فالسؤال في القبر افتتان يفتتن الإنسان به، وكذلك في المواقف التي تسمى عرصات القيامة، ولهذا يختلف الناس فيها اختلافاً عظيماً من شدة أو سهولة فيما يلاقونه، فمن كانت -مثلاً- ذنوبه كثيرة اشتد الأمر عليه فيكون ذلك جزاء له، ومنهم من يأكل ويشرب والناس يحاسبون، ومنهم من يكون في ظل العرش والناس في حر الشمس، وكل هذا من التكليف، ثم قد قص الله جل وعلا علينا قصص بعض عباده، وأن من الناس من إذا سألهم الله جل وعلا: ماذا كنتم تعبدون؟ ولماذا أشركتم؟ قالوا -كما حكى الله عنهم-: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23]، فيقسموا بالله ما كانوا مشركين وهم مشركون، فيقول الله: {انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ} [الأنعام:24] وكذلك يقول الله جل وعلا: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [المجادلة:18]، أي: يحلفون لله يوم القيامة كذباً، كما يحلفون للناس اليوم؛ لأنهم جعلوا الحلف جُنة يجتنون به ويستترون به عما قد يعود عليهم باللوم أو بالضرر أو بالعقاب أو بغير ذلك، فليس الأمر على إطلاقه أن الآخرة ليست دار تكليف، نعم الجنة ليست دار تكليف، فإذا دخلوا في الجنة فليس فيها تكليف، وإنما يلهمون التسبيح والتهليل كما يلهمون النفس ثم إن الصراط المعنوي هذا الذي أمرنا بالتمسك به واتباعه، فإذا تمسكنا به ثبتت أقدامنا على الصراط الحسي الذي هو الطريق إلى الجنة، وهو جسر ينصب فوق جهنم لا يوجد أحد ينجو من النار إلا من فوقه، كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم:71]، وقد جاء وصفه بأنه فوق متن النار، أحر من الجمر، وأحد من السيف وأروغ من الثعلب. إذاً: السلوك يكون بالعمل، فمن الناس من يمر كلمح البصر، ومنهم من يمر مثل البرق إذا برق، ومنهم من يكون مثل الريح، ومنهم من يكون مثل جواد الخيل، ومنهم من يركض ركضاً، ومنهم من يحبو، ومنهم من يقوم ويسقط، ومنهم من تخطفه الخطاطيف التي تكون عليه وتلقيه في النار. وأنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقي يخدمه منذ أن قدم المدينة إلى أن توفاه الله جل وعلا، فسأله الشفاعة، فقال: (أنا فاعل إن شاء الله، فقال: أين أجدك؟ قال: اطلبني في ثلاثة أماكن: عند الحوض، فإن لم تجدني فعند الميزان، فإن لم تجدني فعند الصراط) فعند الصراط لا يوجد أحد يتكلم إلا الرسل؛ لأن الرسل يقفون ينظرون مرور أممهم، وكلامهم: اللهم سلم سلم! أما الناس كلهم فهم سكوت، ولا يوجد أحد يتكلم لشدة الأمر وهوله، وتحتهم جنهم تتلظلى، والسلوك على طريق وعر جداً، وعر لا يمكن يُسلك إلا بالعمل، فمن ثبته الله وكان مستقيماً على هذا الصراط الذي هو الإسلام نجا وإلا زلت به قدمه وهوى، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (والصراط عليه كلاليب مثل شوك السعدان -ثم يقول لأصحابه- هل رأيتم السعدان؟ إنها شويكة في عشبة تخرج في نجد)، تكون معكوفة الرأس، ولكن لا يقدر عظمها إلا الله جل وعلا، تخطف من أمرت بخطفه، فمنهم مخدوش مسلم، ومنهم مكردس على رأسه في النار، ومنهم من يحبو مرة ويتعلق بيده أو برجله مرة، فالأمر صعب جداً، وهذا يكون لمن يتعثر على صراط الله الذي جعله مسلكاً لعباده في هذه الدنيا، فمن تعثر عليه ومال يميناً وشمالاً مالت رجله عن ذلك الصراط، وربما سقط وربما تعلق، فالواجب على العبد أن يتبع صراط الله جل وعلا ولا يميل ولا تأخذه السبل الكثيرة، فالسبل الكثيرة هي التي تهوي به إلى النار، فكل من سلك سبيلاً غير السبيل الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لن يستطيع العبور على الصراط.

حقيقة الصراط المستقيم

حقيقة الصراط المستقيم قال الشارح رحمه الله: [قال ابن القيم رحمة الله عليه: ولنذكر في الصراط المستقيم قولاً وجيزاً؛ فإن الناس قد تنوعت عباراتهم عنه بحسب صفاته ومتعلقاته، وحقيقته شيء واحد، وهو طريق الله الذي نصبه لعباده موصلا لهم إليه ولا طريق إليه سواه، بل الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا طريقه الذي نصبه على ألسن رسله وجعله موصلاً لعبادة الله، وهو إفراده بالعبادة، وإفراد رسله بالطاعة، فلا يشرك به أحد في عبادته، ولا يشرك برسوله صلى الله عليه وسلم أحد في طاعته، فيجرد التوحيد ويجرد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا كله مضمون شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فأي شيء فسر به الصراط المستقيم فهو داخل في هذين الأصلين. ونكتة ذلك أن تحبه بقلبك وترضيه بجهدك كله، فلا يكون في قلبك موضع إلا معموراً بحبه، ولا يكون لك إرادة إلا متعلقة بمرضاته، فالأول يحصل بتحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، والثاني يحصل بتحقيق شهادة أن محمداً رسول الله، وهذا هو الهدى ودين الحق، وهو معرفة الحق والعمل به، وهو معرفة ما بعث الله به رسوله والقيام به، وقل ما شئت من العبارات التي هذا آخيتها وقطب رحاها. قال: وقال سهل بن عبد الله: (عليكم بالأثر والسنة، فإني أخاف أنه سيأتي عن قليل زمان إذا ذكر إنسان النبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء به في جميع أحواله ذموه ونفروا عنه وتبرءوا منه وأذلوه وأهانوه) انتهى]. هذا القول الذي ذكره ابن القيم واضح في تفسير الصراط المستقيم في أنه عبادة الله جل وعلا وحده وألا يشرك به شيء، وعبادته تتضمن كمال الحب مع كمال الذل له، فلا يعبد إلا الله جل وعلا، فتكون العبادة خالصة لله جل وعلا، فكل ما تتقرب به وكل فعل تفعله ترجو به ثواباً، وكل ترك تتركه تخاف أنك لو فعلته عوقبت فإن هذا يكون لله وحده، ليس لأحد من الخلق، وتفعل هذه الأمور مع غاية الحب والذل، ثم هذه الأمور التي تفعلها لابد أن تكون جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم يقول: إن هذا مضمون شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ لأن معنى شهادة أن لا إله إلا الله، وكونه يشهد أن لا إله إلا الله: أن الشهادة هي العلم اليقيني الذي يكون عند الإنسان واضحاً جلياً ليس عنده فيه ريب ولا شك ولا تردد؛ لأنه يشاهده بعينه وبقلبه، فهو يشهد بهذا، يشهد أن لا إله إلا الله، ومعنى الإله: المحبوب المألوه الذي يكون الحب كله له مع الذل والخضوع، فيجب أن تحبه وتذل له، وهذا لا يجوز أن يكون لمخلوق، وإنما يكون خالصاً له جل وعلا. وأما معنى شهادة أن محمداً رسول الله فهو: طاعته في أمره، واتباعه فيما جاء به، واجتناب ما نهاك عنه، وألا تعبد الله جل وعلا إلا بما شرعه لك، فأنت تشهد الشهادة اليقينية بأنه رسول من الله أرسله الله بهذا الشرع، فتتعبد الله جل وعلا بالشرع الذي جاء به عن طريقه، فهو الوساطة بيننا وبين ربنا في تبليغ شرعه، ولهذا يقول الله جل وعلا له: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} [الكهف:110]، والعمل الصالح هو الذي يكون على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110] أي: أنك تعبد الله وحده ولا يكون لأحد من الخلق أو المقاصد والأغراض شيء أو نصيب من عبادتك، فإن كان لها نصيب فإن هذه العبادة لا تقبل؛ لأن الله جل وعلا يقول -كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه جل وعلا-: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)، أي: يتركه وعمله لمن أشرك. ولهذا إذا جاء المراءون يوم القيامة الذين يلاحظون أنظار الناس وأقوالهم، يقول الله جل وعلا لهم: (اذهبوا إلى الذين كنتم تراءونهم فاطلبوا أجركم عندهم)، وهل يجدون شيئاً؟ يجدون الخسارة والندامة، وهذا في الواقع من جهل الإنسان وظلمه، وإلا الناس مثله ماذا يغنون عنه؟! فكونه ينظر إلى إنسان ويحسن عمله من أجله قصور -نسأل الله السلامة-، فهو إنسان مثلك فقير بحاجة إلى ما يكمله، بل بحاجة إلى من يحميه من الكوارث والمصائب ويسدده ويوفقه وإلا ضل وهلك، فلا يجوز للإنسان أن يقصد بعمله ونيته غير الله جل وعلا، وهذا هو العلم النافع الذي يؤخذ من الكتاب والسنة، والعمل هو الهدى، والعمل هو دين الحق، والرسول صلى الله عليه وسلم جاء بالهدى ودين الحق، جاء بالعلم النافع وبالعمل الصالح الذي إذا علمه الإنسان اهتدى وتيقن أنه من عند الله، ولابد من هذين الأمرين، لابد من العلم والعمل، يعلم أن لا إله إلا الله، كما قال الله جل وعلا: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19]، فبدأ بالعلم قبل العمل والاستغفار. ويقول جل وعلا لما ذكر أن الكفار والمشركين يدعون غير الله طالبين شفاعتهم نفى هذا جل وعلا وأخبر أن الشفاعة لا تحصل لهم، فقال: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86]، وشهادة الحق: هي أن يشهد أن لا إله إلا الله وهو يعلم هذا المعنى. يعلمه ثم يعمل به، وعلم بلا عمل لا يفيد ولا يجدي، وفي أمره جل وعلا لنا وفرضه علينا أن نسأله في الصلاة قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، والصراط المستقيم هو الصراط الذي بعث به رسوله، وهو دينه، {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7]، والذين أنعم عليهم هم الأنبياء ومن سلك طريقهم، كما قال الله جل وعلا في وصفهم وبيان أنهم الأنبياء والصالحون والشهداء، أي: من سلك طريقهم. وقوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7]، المغضوب عليهم جاء تفسيرهم أنهم اليهود، والضالون هم النصارى، وليس مخصوصاً بهذا اليهود والنصارى فقط، بل كل من كان عنده علم وتركه اتباعاً للهوى فهو ضال وهو مغضوب عليه، وكل من كان عنده علم وتركه اتباعاً للهوى أو للشهوات أو لأغراض من أغراض الدنيا فهو مغضوب عليه ملحق باليهود، وكل من تعبد بغير برهان وبغير طريق الرسول صلى الله عليه وسلم فهو ضال، وإنما قيل: إن المغضوب عليهم هم اليهود، والضالون هم النصارى لأن الغالب على اليهود أن عندهم علم، وليس عندهم عمل، فهم يعلمون ولا يعملون فلهذا صاروا أهل الغضب، وأما النصارى فالغالب عليهم التعبد بالضلال، فهم يتعبدون ويعملون ولكن على غير هدى، فلهذا سموا ضلالاً، فالضال هو الذي يسلك الطريق الذي يهلكه، وضل الطريق يعني: يتعبد على غير حق وعلى غير هدى، وأما المغضوب عليه فهو العاصي الذي عرف الحق وتركه، فكل من صار له هذا الوصف فهو مغضوب عليه وضال، وأهل البدع هم: الذين يتعبدون بالبدع وهم ضالون، وهم المعنيون بقوله جل وعلا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية:2 - 4] أي: تخشع وتبكي وتعمل وتنصب وتجهد والنتيجة أنها تصلى ناراً حامية؛ لأنها تتعبد بغير هدى، وبغير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك قوله جل وعلا: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:103 - 104]، (ضل سعيهم) يعني: عملوا في الحياة الدنيا وهم يظنون أنهم على هدى، وكذلك يظنون أن غيرهم ضال، بل ويرمون غيرهم بالضلال. فالمقصود أنه ليس هناك طريق ينجو به الإنسان إلا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن والسنة، هذا هو خلاصة القول، فمن عرف ما جاء به الرسول وعمل به فهو الناجي السعيد، ومن تخبط في هذه الدنيا إما لأنه يرى الناس يعملون الشيء فيعمله، أو أنه -مثلاً- يحكم عقله أو يحكم ذوقه ووجده أو يحكم مشايخه وأكابر بلده ومن يظن بهم الظنون الجميلة، وإذا قيل له: الهدى كذا أو الحق كذا. قال: لا. هؤلاء أعلم منك. فهذا هو الذي يُخاف عليه، وهذا هو الذي إذا جُمع الناس، وبعثر ما في القبور، وحصل ما في الصدور، يبدو له ما لم يكن يحتسب، ويندم الندامة التي لا تنفعه، بل تكون زيادة في عذابه، نسأل الله العافية.

شرح أثر ابن مسعود: (من أراد أن ينظر إلى وصية محمد)

شرح أثر ابن مسعود: (من أراد أن ينظر إلى وصية محمد) قال المصنف رحمه الله: [قال ابن مسعود: (من أراد أن ينظر إلى وصية محمد صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه فليقرأ قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام:151] إلى قوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} [الأنعام:153]) الآية]. يعني: هذه الثلاث الآيات التي ذكرت من آخر سورة الأنعام، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه هو من أكابر الصحابة وعلمائهم، وقد أمَّره عمر رضي الله عنه على الكوفة حاكماً وقاضياً ومعلماً فيها، وتوفي سنة اثنتين وثلاثين من الهجرة رضوان الله عليه. وقوله: (من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه فليقرأ قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام:151] إلى آخر الآيات). يقول: كأن هذه وصية كتبها الرسول وختمها بخاتمه، فلم تخط ولم تخرج، فالمعنى: أن الرسول صلى الله عليه وسلم وصى بمضمون هذه الآيات؛ لأنه وصى بكتاب الله، ولم يوص الرسول صلى الله عليه وسلم وصاة إلى أحد، وإنما كان يوصي بكتاب الله كما جاء في خطبته التي خطبها في حجة الوداع التي ودع الناس فيها؛ لأنه علم قرب أجله فقال: (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله)، فحث على الأخذ بكتاب الله والتمسك به، هذه هي وصيته، أما الزعم بأنه وصى إلى شخص معين -لا سيما بالخلافة- فهذا كذب وافتراء على الله وعلى رسوله، وقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما كان في أثناء مرضه قال: (ائتوني أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده)، ثم اختلفوا، فمنهم من قال: نأتي به، ومنهم قال: لا نأتي به، ثم قال: (قوموا عني)، ولو كان هذا الكتاب متعينة كتابته ما تركه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا بينته الرواية الأخرى، فإنه قال لـ عائشة رضي الله عنها: (ادعي لي أباك وأخاك لأكتب له كتاباً) حتى لا يختلف الناس ويقول قائل: لو كان فلان لو كان فلان. ثم قال: (يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر)، فترك الكتاب لأنه علم أن ترك الأمة بلا كتابة ولا وصية إلى أحد أنفع وأفضل، وإذا اجتهدوا ونظروا في اجتهادهم لا يخرجون عن الحق، وقد عُلم علماً يقينياً أن الرسول صلى الله عليه وسلم منذ ترك الصلاة بالناس أمر أبا بكر أن يصلي بهم، فقال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس)، فراجعته عائشة رضي الله عنها، وقالت: يا رسول الله! إن أبا بكر رجل رقيق، إذا قام مقامك لا يستطيع أن يُسمِع الناس من البكاء، فلو أمرت عمر بن الخطاب أن يصلي بالناس، فقال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس)، فذهبت عائشة وقالت لـ حفصة: اذهبي وقولي له كذا وكذا، فذهبت حفصة وقالت له ذلك، فغضب صلى الله عليه وسلم وقال: (إنكنَّ صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس)، فبقي أبو بكر رضي الله عنه يصلي بالناس طوال مرضه صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر معلوم، ولهذا قال الصحابة: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رضيه لديننا فنحن نرضاه لدنيانا). فالمقصود: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يوص إلى أحد، وإنما وصى بكتاب الله، وقول ابن مسعود: من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه -كأنه يقول: هذه وصية كتبت ثم ختمت فلم تفتح- فليقرأ هذه الآيات) هذا في الواقع ليس خاصاً بهذه الآيات، ففي كتاب الله كثير من أمثال هذه الآيات الثلاث المحكمات. ثم إن الشيء الذي يحتاج إلى بيان وإيضاح في كتاب الله قد وضحه الرسول صلى الله عليه وسلم وبينه، ولم يترك الناس في التباس أو اشتباه، ولهذا كان يقول لهم في آخر خطبة خطبها في الجمع الكبير يوم عرفة وكذلك يوم النحر: (إنكم مسئولون عني فماذا أنتم قائلون؟)، هكذا كان يقول لهم، فصاروا يقولون: (نشهد أنك بلغت الرسالة وأديت الأمانة ونصحت الأمة. فصار صلى الله عليه وسلم يرفع إصبعه إلى السماء ثم ينكسها عليهم ويقول: اللهم اشهد، اللهم اشهد) يعني: اشهد عليهم أنهم شهدوا لي بالبلاغ. وكثيراً ما كان إذا بلغ الشيء قال: (اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟ اللهم فاشهد)، يستشهد ربه؛ لأن الله جل وعلا يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67]، فإذا كلف الله جل وعلا عبداً في إبلاغ الرسالة ثم توقف عنها فمعنى هذا أنه امتنع، وقد حمى الله جل وعلا رسوله من ذلك وصانه، فكان يحرص كل الحرص على التبليغ. ولهذا يقول العلماء على هذه الآية: كل ما لم يقله الرسول ويأمر به ويفعله فهو باطل بدليل هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} [المائدة:67]؛ لأنه لو كان مما أنُزل إليه لبلغه، فإذا لم يبلغه فهو باطل مردود على صاحبه. والمقصود أن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغ البلاغ المبين ولم يترك شيئاً، حتى إنه لما نزل عليه صلوات الله وسلامه عليه قوله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] كأنه خشي أن يكون قصر، فبادر مسرعاً إلى أقرب جبل قريب منه وهو جبل الصفا فصعد عليه وجعل يرفع صوته ويهتف: (وا صباحاه!)، وكانت هذه عادة العرب إذا رأى أحدهم عدواً قريباً ولا يمكنه أن يخبر قومه يصيح ويقول: (وا صباحاه) يعني: صبحكم العدو فصاروا يهرعون إليه من كل جانب، والذي لم يستطع أن يأتي إليه أرسل من يأتيه بالخبر؛ لأن هذا أمر مهم جداً، فلما اجتمعوا عنده قال: (يا معشر قريش! أرأيتم لو أخبرتكم أن خلف هذا الجبل جيشاً يريد أن يغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك كذباً. فقال: أنقذوا أنفسكم من النار، فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد)، فجعل يعم ويخص، حتى قال صلوات الله وسلامه عليه: (يا فاطمة بنت محمد! أنقذني نفسك من النار، لا أغني عنك من الله شيئاً)، فلم يترك شيئاً إلا وبينه للأمة، ولم يترك مجالاً يقوله ويبلغه إلا قام به في تبليغ شرع الله جل وعلا. ولهذا صار كثير من الكفرة والفجرة يرمونه بالجنون، ويقولون: إنه مجنون من أجل هذا. فالمقصود: أنه ليس للإنسان عذر بعد بلاغ الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما عليه أن يهتم بأمر دينه، أن يعيره شيئاً من الاهتمام، ولا يجوز أن تكون دنياه أكثر اهتماماً عنده من أمر دينه؛ فإنه إذا كان كذلك يوشك أن يهلك.

ترجمة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه

ترجمة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال الشارح رحمه الله: [قوله: (ابن مسعود) هو: عبد الله بن مسعود بن غافل -بمعجمة وفاء- ابن حبيب الهذلي أبو عبد الرحمن، صحابي جليل من السابقين الأولين، وأهل بدر وأحد والخندق وبيعة الرضوان، ومن كبار علماء الصحابة، أمَّره عمر رضي الله عنهما على الكوفة، ومات سنة اثنتين وثلاثين رضي الله عنه]. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رجل ابن مسعود في الميزان أثقل من جبل أحد)؛ وذلك أنه كان جسمه نحيفاً رضي الله عنه، فرآه بعض من رآه وهو يأكل شيئاً من الشجرة فتعجب من دقة ساقيه، فقال صلى الله عليه وسلم: (لهما في الميزان أثقل من جبل أحد) يعني: يوم القيامة. وهل يمكن لأحد أن يزن جبل أحد؟ لا يمكن وإنما هذا يدل على فضله، وهو من السابقين الأولين الذين أثنى الله جل وعلا في كتابه.

معنى الوصية التي تضمنتها الآيات الثلاث التي في سورة الأنعام

معنى الوصية التي تضمنتها الآيات الثلاث التي في سورة الأنعام قال الشارح رحمه الله: [وهذا الأثر رواه الترمذي وحسنه، وابن المنذر وابن أبى حاتم والطبراني بنحوه. وقال بعضهم: معناه: من أراد أن ينظر إلى الوصية التي كأنها كتبت وختم عليها، فلم تغير ولم تبدل فليقرأ: {قُلْ تَعَالَوْا} [الأنعام:151] إلى آخر الآيات، شبهها بالكتاب الذي كتب ثم ختم فلم يُزد فيه ولم يُنقص، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوص إلا بكتاب الله، كما قال -فيما رواه مسلم -: (وإني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله)، وقد روى عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث؟ ثم تلا قوله تعالى: ((قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ)) [الأنعام:151]، حتى فرغ من الثلاث الآيات، ثم قال: من وفى بهن فأجره على الله، ومن انتقص منهن شيئاً فأدركه الله به في الدنيا كانت عقوبته، ومن أخره إلى الآخرة كان أمره إلى الله إن شاء آخذه وإن شاء عفا عنه) رواه ابن أبي حاتم والحاكم وصححه، ومحمد بن نصر في (الاعتصام)]. وهذا أيضاً كان يتكرر من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاء أيضا عن عبادة بن الصامت أنه أمرهم أن يبايعوه على الآيات التي في آخر سورة الممتحنة، وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ} [الممتحنة:12] إلى آخر الآية، وأنهم بايعوه عليهن، وهذا الحديث مثله. والرسول صلى الله عليه وسلم كان يوصي بالآيات الجوامع التي فيها الأمر بعبادة الله والنهي عن عبادة غيره، وكذلك الالتزام بما جاء به وعدم الإخلال به، فكان يوصي بهذا ويَعِدُ الإنسان عليه بالجنة إذا وفى. كما أنه لما قال له معاذ: (يا رسول الله! أخبرني بعمل يدخلني الجنة، قال: لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله -ثم قال:- تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً)، فذكر له هذه الأمور الخمسة فقط، وهذه هي التي يدخل بها الإنسان الجنة، وليس للجنة ثمن غيرها، ولكن الإنسان قد لا يدري هل جاء بها على الوجه المطلوب أو أنه أخل بها؟ ولا أحد يجزم جزماً بأنه جاء بها على الوجه الذي أراده الله، بل لابد أنه قصر فيها: في فعلها أو في صفاتها أو في غير ذلك. ولهذا من تيقن أن الله قبل منه عملاً فهو من السعداء، كما قال عبد الله بن عمر: (لو أعلم أن الله قبل مني حسنة لتمنيت الموت (؛ لأن الله جل وعلا أخبر أنه إنما يقبل من المتقين، كما قال سبحانه: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]. قال الشارح: [قلت: ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوص أمته إلا بما وصاهم الله تعالى به على لسانه، وفى كتابه الذي أنزله: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل:89]، وهذه الآيات وصية الله تعالى ووصية رسوله صلى الله عليه وسلم]. يعني أنه في آخر كل آية يقول: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} [الأنعام:151] فالوصية هي: الأمر المؤكد بأن يؤخذ به ولا يخل به. فهذه وصية الله، والرسول صلى الله عليه وسلم وصى بما وصى به ربه جل وعلا.

شرح فتح المجيد [8]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [8] ما حصل بين الأنبياء وأممهم من الخلاف والخصومة إنما كان على التوحيد، فهم صلوات الله وسلامه عليهم بعثوا لتقرير التوحيد ونفي الشرك، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث دعاته يأمرهم أن يبدءوا بالدعوة إلى التوحيد أولاً، ثم إلى بقية فرائض الدين بعد ذلك.

حق الله على العباد وحق العباد على الله

حق الله على العباد وحق العباد على الله قال المصنف رحمه الله: [وعن معاذ بن جبل قال: (كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال لي: يا معاذ! أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله: ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً، قلت: يا رسول الله! أفلا أبشر الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا) أخرجاه في الصحيحين]. قال الشارح: [معاذ بن جبل رضي الله عنه من علماء الصحابة وأفاضلهم وأكابرهم، ومن السابقين إلى الإسلام، وهو أنصاري من الخزرج، وجاء في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: (يا معاذ! والله! إني لأحبك؛ فلا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن معاذاً يحشر أمام العلماء برتوة)، والرتوة: إما أن تكون المكان المرتفع، أو أن يكون أمامهم بمسافة لفضله؛ لأنه جاء أنه أعلم الأمة بالحلال والحرام، وهذا أفضل العلم. وهو الذي بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم في آخر حياته نائبا عنه في الدعوة والتبليغ والحكم والقضاء إلى اليمن، وقال له لما بعثه: (لعلك لا تراني بعد اليوم)؛ لأنه بعثه في السنة العاشرة للهجرة، فصار يبكي فقال: (لا تبك)، ثم ذهب وبقي في اليمن حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم عاد في خلافة أبي بكر، وذهب للقتال في الشام، ومات في الشام]. سبق أن معاذاً رضي الله عنه كان من أكابر صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمائهم، وأنه أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اليمن في آخر حياته داعياً ومبلغاً عنه حاكماً، ثم إنه بقي في اليمن حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء في خلافة أبي بكر الصديق، ثم ذهب لقتال الروم فتوفي في الشام رضي الله عنه. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له: (والله! إني لأحبك؛ فلا تدعنَ دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)، وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قال: (معاذ يحشر أمام العلماء يوم القيامة برتوة)، يعني: بمرتفع أو بمسافة أمامهم، لما اختص به من علم الحلال والحرام، وهو ممن شهد بدراً وما بعدها من مشاهد الإسلام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى غير ذلك مما جاء في فضله رضوان الله عليه. وقوله هنا: (أتدري ما حق الله على العباد؟)، هذا سؤال من النبي صلى الله عليه وسلم وجهه إليه، وهذه طريقة كان صلوات الله وسلامه عليه كثيراً ما يخرج العلم بها؛ ليكون أدعى إلى قبوله والتنبه له؛ لأن الإنسان إذا سئل وهو لا يدري فإن نفسه تتطلع إلى قبول الجواب، ثم يكون متشوفاً له ومتشوقاً إليه، فيقبله أكثر، ويعلمه أكثر مما لو ألقي عليه إلقاءً، وهذا من حسن تعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحسن تبليغه وطريقته في إيصال العلم إلى صحابته. والدراية هي: المعرفة، فقوله: (أتدري؟) يعني: تعرف ما هو الحق الذي أوجبه الله على عباده؟ ثم إن قول معاذ رضي الله عنه: (الله ورسوله أعلم)، يدل على حسن الأدب من المتعلم، فإذا كان المتعلم لا يعلم ما سئل عنه فليكل علمه إلى عالمه، ولهذا قال: (الله ورسوله أعلم). وهذا لا يلزم منه أن معاذاً رضي الله عنه كان يجهل حق الله على عباده الذي هو التوحيد، ولكن المقام مقام تنزل الوحي، والرسول صلى الله عليه وسلم ينزل إليه من الله ما يشاء الله جل وعلا أن يجعله حقاً زائداً على الحق الذي يعلمه معاذ، فلهذا قال: (الله ورسوله أعلم). وقوله في A ( حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً)، هذا هو الحق الذي خلق الله جل وعلا الخلق له من الجن والإنس ليقوموا به ويلتزموه، وهو عبادته وحده وعدم الشرك. والعبادة مأخوذة من الذل والخضوع، فهي غاية الحب في غاية الذل والخضوع، وإذا كان العبد محباً الحب الذي هو الغاية وذالاً فهذه هي العبادة، فإنه لابد أن يفعل ما أمره به محبوبه ويمتثله ويجتنب ما نهاه عنه، مستلزماً فعل الأمر وترك المنهي عنه. وسبق أن العبادة في الشرع هي: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، فتشمل أفعال القلب وأفعال الجوارح، وكذلك فعل اللسان. وفعل الجوارح مثل: الصلاة والقيام والركوع والسجود، والبذل مثل الصدقة، وإزالة الأذى عن طرق المسلمين، وما أشبه ذلك. والأقوال مثل: قراءة القرآن والذكر والدعاء، وفعل القلب مثل: خشية القلب وخوفه وحبه وما أشبه ذلك. فكل فعل يتقرب به الإنسان جاءه عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو عبادة، وكل فعل أمر الله جل وعلا به وحث عليه فإن فعله عبادة، وكذلك كل شيء أمر الله جل وعلا أن يترك ويجتنب فتركه واجتنابه خوفاً من الله عبادة، فصارت العبادة هي فعل الجوارح من الأيدي والجسد كله، ويشمل ذلك فعل اللسان من الأقوال: كالذكر والقراءة، وكذلك فعل القلب: من الإرادات والنيات والخوف والخشية وما أشبه ذلك، كل هذا داخل في العبادة. فقوله: (يعبدوه) أي: يعبدونه بهذه الأفعال ويوحدونه، والعبادة مبنية على التذلل مع الحب والرجاء، فيعبد ربه ذالاً خاضعاً، ويرجو أن يثيبه على ذلك، والإسلام كله يدخل في العبادة، وهذا حق لازم يسأل عنه الإنسان إذا فرط فيه أو قصر فيه أو ترك منه شيئاً، فهذه هي العبادة التي أوجبها على عباده، ولهذا سماها الحق، والحق في اللغة هو: الشيء الذي يستقر ويثبت، ولهذا يقال: حق في المكان إذا استقر فيه وثبت، فهو أمر ثابت على العباد لله جل وعلا، يسألهم جل وعلا عنه إن تركوه أو فرطوا به. ثم قال: (وحق العباد على الله إذا فعلوا ذلك ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً)، وقال في حق الله: (أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً) K فبين أن العبادة تقتضي ترك الشرك، وأنها تكون فعلاً وتركاً، يعني: فعلاً للتوحيد وتركاً لضده، فإذا لم تكن كذلك فإنها غير معتبرة، ولا تكون عبادة شرعية، فالعبادة الشرعية لابد أن تكون فعلاً وتركاً، فيكون التعبد والتذلل لله بفعل أوامره، وكذلك بترك ما نهى الله عنه، وأعظم ما أمر الله جل وعلا به هو التوحيد، وأعظم ما نهى عنه هو الشرك. والشرك هو: أن يشرك في العبادة التي أمر أن تكون له، وأن يجعل معه فيها غيره، واقتصر على هذا لأن هذا في ضمنه. ويجب الإقرار للرسول صلى الله عليه وسلم بالرسالة، والالتزام بكل ما جاء به التزاماً تاماً، من فعل الصلوات وأداء الزكاة والصوم والحج وغير ذلك، فإنه إذا عبد وذل وخضع فلابد أن يفعل المأمور ويترك المنهي عنه ويجتنبه.

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئا)

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً) ثم قوله: (وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً)، كلمة (شيئاً) هنا نكرة تعم كل ما يدخل تحت هذا الاسم، فإن وقع منه شيء من الشرك وإن كان صغيراً فإنه لم يأت بهذا الشرط، ويجوز أن يعذب؛ لأنه لم يأت بما شرط عليه. وقد اختلف العلماء في قوله صلى الله عليه وسلم: (وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً)، ما المقصود بالحق للعباد على الله؟ فقال قوم: إن للعباد على الله حقاً مستحقاً على سبيل القياس بحقوق العباد، وهذا قول طائفة ضالة وهم المعتزلة، فقاسوا الله جل وعلا على خلقه، ولهذا يقول العلماء: إنهم مشبهة الأفعال ونفاة الصفات، أي: يعطلون صفات الرب جل وعلا ويشبهون أفعال الرب جل وعلا بأفعال خلقه، فيجعلون للعابد أجراً يطلبه من الله، كما أن من عمل عملاً لإنسان فإنه يستحق عليه أجراً، وهذا خطأ محض؛ فإن الله جل وعلا لا يحق عليه أحد شيئاً، فهو المالك لكل شيء، وهو الخالق لكل شيء. وقال فريق آخر: إنه ليس للعباد على الله حق يطلب، وإنما ذلك مجرد وعد فقط، فـ (حقه) يعني: تحقق موعوده. أي أن وعده حق، وما وعد به سيقع، فقد وعد أهل الخير بالإثابة ووعد أهل الشر والشرك بالعقاب، فهذا معنى الحق عندهم، وهذا أيضاً ليس صحيحاً. والصواب هو القول الثالث: أن للعباد على الله حق أحقه هو على نفسه جل وعلا، ولم يلزمه إياه أحد من الخلق، بل هو رحمة منه وفضل وإحسان، كما كتب على نفسه الرحمة، ولهذا يقول جل وعلا: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]، ولا يوجد أحد حقه عليه، ويقول جل وعلا: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54]. فالحق الذي جعله للعباد: أن يثيب الطائع الإثابة التي يستحقها، ولهذا قال: (ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً)، هذا هو الحق الذي أحقه الله جل وعلا على نفسه. وقد حرم جل وعلا على نفسه الظلم، كما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي ذر الحديث القدسي الطويل، وفيه أنه قال جل وعلا: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)، فهو الذي حرم ذلك على نفسه، وهو الذي أحق الحق لعباده المؤمنين على نفسه، لم يحقه عليه أحد من الخلق، فقوله: (ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً) أي: من مات وهو غير مشرك بالله جل وعلا شيئاً، وكلمة (شيئاً) قلنا: يدخل فيها الشرك الأكبر والشرك الأصغر، فإنه لا يمسه شيء من العذاب، وهذا خبر مطلق في جميع أنواع العذاب، لا عذاب الدنيا ولا عذاب القبر ولا عذاب الآخرة. فإنه من سلم من الشرك كبيره وصغيره فإنه يكون من السابقين إلى الجنة، الذين يدخلون الجنة بغير حساب، كما سيأتي بيان ذلك؛ لأن (شيئاً) نكرة عامة يدخل فيها كل ما يسمى شركاً في الشرع. أما الشرك الأكبر فقد عُلم أنه ليس مع صاحبه أمن ولا اهتداء مطلق، فإذا مات عليه فهو من الخالدين في النار، كما قال جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:116]، ويقول جل وعلا في الآية الأخرى في قصة عيسى عليه السلام لما نهى بني إسرائيل عن الشرك: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:72]، فأخبر جل وعلا أن الجنة محرمة على المشرك، وأنه ليس له مصير إلا النار، والشرك الأكبر هو: أن يعبد مع الله غيره، والعبادة أنواع متعددة، فأي عبادة جعلها لغير الله أو جعل العبادة بين الله وبين عباده فإنه يكون واقعاً في الشرك، وقد علم أن شرك المشركين ليس معناه أنهم كانوا يعتقدون أن أصنامهم شريكة لله في التدبير والخلق والإيجاد والتصرف، وإنما كانت عقيدتهم أن أصنامهم ومعبوداتهم من اللات والعزى ومناة وغيرها من الأصنام التي يتجهون إليها كان شركهم أن يجعلوها وسائط بينهم وبين الله يتقربون بها إلى الله، فيدعون الله بواسطتها، ويسألونها أن تشفع لهم عند الله، كما قال الله جل وعلا عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، ولهذا أخبر الله جل وعلا عنهم أنهم إذا سئلوا: من الذي خلقهم وخلق من قبلهم؟ ومن الذي خلق السموات والأرض؟ ومن الذي ينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض وينبت لهم النبات الذي يأكلون منه وتأكل منه أنعامهم؟ إذا سئلوا عن ذلك قالوا: الله. أي: الله وحده ليس معه شريك، ولهذا جعل الله جل وعلا ذلك حجة عليهم بأن يخلصوا العبادة له ما داموا يقرون بأنه المتصرف في هذه الأشياء وحده، المنفرد بإيجادها والتصرف بها وحده. قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:21 - 22] أي: يعلمون أن الله هو الذي يفعل هذه الأشياء المذكورة. يعني: هو الذي خلقهم وخلق من قبلهم وحده، وهو الذي جعل الأرض مستقرة فراشاً لهم يتمكنون من الانتفاع بها والاستقرار عليها، وهو الذي جعل السماء بناءً فوقهم، وهو الذي ينزل من السماء المطر فينبت به النبات وحده لا شريك له في ذلك، ولهذا قال: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22] لأنه المتفرد بفعل ما ذكر، فإذا كان كذلك فلا يجوز أن تتجهوا إلى غيره في الدعاء والتوسل وطلب الشفاعة، فهذه المذكورات التي تجعلونها وسائط بينكم وبين الله لا تستطيع أن تشفع لكم. فهذا في الواقع هو شرك المشركين، يقول جل وعلا في الآية الأخرى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25]، وقال جل وعلا: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87]، وقال جل وعلا عنهم: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62]، و A أنهم يقولون: هو الله وحده، فلا يوجد أحد يجيب المضطر غيره لا الأصنام التي يتجهون إليها ولا غيرها، بل كانوا إذا وقعوا في الشدائد أخلصوا الدعاء لله وحده، وتركوا ما كانوا يشركون به، فهذا هو شركهم الذي إذا ماتوا عليه صاروا خالدين في النار، وإلا فهم يعلمون أن الله جل وعلا ليس معه شريك يدبر ويخلق ويوجد ويعدم ويحيي ويميت، يعلمون هذا، وهذا أمر مقطوع لا شك فيه، فالقرآن واضح جداً في هذا، وآياته كثيرة فيه. وإن من المتعين على العبد المسلم أن يتعرف على ما كان المشركون يفعلونه خوفاً من أن يقع في فعلهم وهو لا يشعر؛ لأن الذي لا يعرف الشر لا يعرف الخير، كما جاء في الحديث عن حذيفة رضي الله عنه قال: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه)، فالذي لا يعرف الشر يوشك أن يقع فيه وهو لا يدري، ويظن أنه خير. وهذا في الشرك الأكبر، أما الشرك الأصغر فهو بحر لا ساحل له، ولكثرته وكونه غير منضبط بضابط يحدده بالعمل المعين جُعل تعريفه بالأمثلة، فهو كيسير الرياء، وكالحلف بغير الله، كأن يحلف -مثلاً- بالنبي، أو بالكعبة، أو بالأمانة، أو بالشرف، أو ما أشبه ذلك، وربما صار من الشرك الأكبر حسب ما يقوم في نية الحالف وقصده وإرادته، فإذا حلف بمخلوق من المخلوقات يعتقد أن هذا المخلوق يستطيع أن يطلع على ما في قلبه ويعاقبه إذا كان كاذباً فإن هذا من الشرك الأكبر وليس من الأصغر، أما إذا كان أمراً جرى على لسانه فهذا من الشرك الأصغر، والشرك الأصغر لا يجعل المسلم كافراً، ولكنه ذنب يستحق العقاب عليه من الله إذا لم يعف عنه، وكذلك يسير الرياء في العمل، والرياء معناه: أن يعمل عملا لله جل وعلا ثم يقصد بعمله أن يراه الناس فيثنون عليه أو يحبونه، فيزين العمل من أجل ذلك أو يحسنه أو يطيله. فإذا كان هذا الشيء الذي بعثه على العمل هو الرياء فهذا لا يكون شركاً أصغر؛ لأن هذا صفة المنافقين والكفار، كما قال الله جل وعلا عن المنافقين: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:142]، وكذلك قال عن الكفار، وأخبر أنهم خرجوا من ديارهم بطراً ومراءاة للناس في أعمالهم. ولكن إذا عرض هذا الشيء في أثناء العمل، فهذا لا يخلو إما أن الإنسان يستدعي ذلك ويستمر معه فهذا يكون شركاً محبطاً للعمل الذي قارنه، أو أنه يدافعه ويعرض عنه فإنه لا يضره، فملاحظة الناس وقصدهم وجلب أنظارهم إلى العمل وتحسينه من أجلهم يكون شركاً، ولكنه من الشرك الأصغر وليس من الشرك الأكبر، وهذا إذا كان يسيراً قليلاً أما إذا كان كثيراً فلا. وكذلك قول الإنسان: لولا الله وفلان. أعني: كونه يضيف الأفعال إلى أسبابها، فإنه يكون من الشرك الأصغر إذا اعتقد أن الفاعل هو الله، وإنما ذلك مجرد سبب، وكذلك كون الإنسان يبخل بالحق حباً للمال، فإن حبه للمال وبخله بالحق الذي وجب عليه يجعله مقدماً حبه المال على حبه لله جل وعلا ولفعل طاعته، فيكون بذلك داخلاً في الشرك الأصغر، وهذا كثير جداً، ولهذا قال: (ألا يشرك به شيئا) أي: فإنه لا يعذر من يشرك به شيئاً، فإذا سلم الإنسان من الشرك قليله وكثيره كبيره وصغيره فإنه يكون سالماً من عذاب الله مطلقاً، ولا يناله عذاب في الدنيا ولا بعد الموت، ولا في القبر ولا بعد البعث، وهو الذي يكون سعيداً سعادة تامة وكاملة، ويكون مهتدياً هدىً تاماً وكاملاً، فصار

ترجمة معاذ بن جبل رضي الله عنه

ترجمة معاذ بن جبل رضي الله عنه قال الشارح رحمه الله: [وهذا الحديث في الصحيحين من طرق، وفى بعض رواياته نحو مما ذكره المصنف. ومعاذ بن جبل رضي الله عنه هو ابن عمرو بن أوس الأنصاري الخزرجي أبو عبد الرحمن، صحابي مشهور من أعيان الصحابة، شهد بدراً وما بعدها، وكان إليه المنتهى في العلم والأحكام والقرآن رضي الله عنه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (معاذ يحشر يوم القيامة أمام العلماء برتوة) أي: بخطوة، قال في القاموس: والرتوة: الخطوة، وشرف من الأرض، وسويعة من الزمان، والدعوة، والفطرة، ورمية بسهم، أو نحو ميل، أو مدى البصر، والراتي: العالم الرباني. انتهى. وقال في النهاية: إنه يتقدم العلماء برتوة أي: برمية سهم، وقيل: بميل، وقيل: مدّ البصر، وهذه الثلاثة أشبه بمعنى الحديث. مات معاذ سنة ثماني عشرة بالشام في طاعون عمواس، وقد استخلفه صلى الله عليه وسلم على أهل مكة يوم الفتح يعلمهم دينهم]. لما حضرت معاذاً الوفاة صار رضي الله عنه يسأل هل أصبحنا؟ فلما قيل له: نعم، قال: (أجلسوني، ورفع يديه وقال: اللهم إنك تعلم أني أحبك، وأني لا أحب البقاء في الدنيا لشق الأنهار وغرس الأشجار، وإنما لظمأ الهواجر ومزاحمة العلماء بالركب، اللهم إني أعوذ بك من ليلة صبيحتها إلى النار)، هكذا حال أهل الخوف وأهل التقى، فهو رضي الله عنه مع ورعه وخوفه من الله جل وعلا وحبه له وإخبار الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يحبه يقول: أعوذ بك من ليلة صبيحتها إلى النار؛ لأن المسلم يحسن ويخشى ربه، بخلاف المسيء فإنه يسيء ويأمن؛ لأنه جاهل بالله جل وعلا، أما المحسن فإنه يعلم قدر الله، ولهذا يقول الله جل وعلا: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، فأهل الخشية هم أهل العلم، وهكذا كان إخوانه من الصحابة رضوان الله عليهم.

تواضع النبي صلى الله عليه وسلم، وحكم الإرداف على الدابة

تواضع النبي صلى الله عليه وسلم، وحكم الإرداف على الدابة قال الشارح رحمه الله: [وقوله: (كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم) فيه جواز الإرداف على الدابة، وفضيلة معاذ رضي الله عنه. قوله: (على حمار) في رواية اسمه (عُفير)، قلت: أهداه إليه المقوقس صاحب مصر. وفيه تواضعه صلى الله عليه وسلم لركوب الحمار والإرداف عليه، خلافا لما عليه أهل الكبر]. بعث صلى الله عليه وسلم كتاباً إلى ملك مصر -واسمه المقوقس - يأمره بالدخول إلى الإسلام واتباعه، وأرسل الكتاب مع دحية الكلبي، فلما جاءه الكتاب وقرأه لم يسلم وضن بملكه كعادة الملوك، ثم أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم هدايا منها مارية القبطية التي ولدت لرسول صلى الله عليه وسلم ولداً سماه إبراهيم، ثم لما بلغ ستة أشهر توفي، وحزن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانكسفت الشمس في ذلك اليوم فقال بعض الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم، فخرج الرسول صلى الله عليه وسلم يجر رداءه وقال: (إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، وإنما هما آيتان يخوف الله بهما عباده، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة)، وأخبر أن له مرضعاً في الجنة تكمل رضاعته، وكذلك أرسل المقوقس للنبي صلى الله عليه وسلم بغلة وحماراً، فهذا الحمار كان صلوات الله وسلامه عليه يركبه -وكذلك البغلة كان يركبها-، وكان يردف على هذا الحمار، وهذا دليل على تواضعه صلوات الله وسلامه عليه، وأنه ليس من الملوك؛ لأن الملوك يأنفون من ركوب الحمار ويتكبرون على ذلك، وأما الرسول صلى الله عليه وسلم فكان يركبه ويردف عليه، فـ معاذ رضي الله عنه ركب خلفه على هذا الحمار، وسأله هذا السؤال وهو راكب، والذي يركب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون له فضل؛ وذلك لأنه يكون رديفاً له، فهذا وجه قوله: (وفيه فضيلة معاذ) وأيضاً لأنه خصه بهذا العلم. وقوله: (حق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً، قال: يا رسول الله أفلا أبشر الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا)، أي: لأنه إذا سمع الإنسان هذا الكلام فقد يظن أنه بمجرد أن يصلي ويصوم ويتعبد فلا يناله شيء من العقاب. أي أنه لم يفهمه الفهم الذي ينبغي، فقوله: (لا تبشرهم) أي: لئلا يدعوا العمل ويعتمدوا على رحمه الله جل وعلا. ولكن هذا لا يكون إلا ممن عنده بعض الجهل، أما الذين يعرفون ويعلمون فإنهم كلما علموا شيئاً من فضل الله ونعمه وإحسانه ازدادوا شكراً وعملاً؛ لأن جزاء الفضل أن يشكر صاحب الفضل، والله جل وعلا لا يستطيع أحد أن يقوم بشكره وبحقه كما ينبغي، فلابد للإنسان أن يكون له شيء من الذنوب وشيء من التقصير أمام الله جل وعلا، ولكن الله عفو كريم يعفو.

التعليم بصيغة السؤال

التعليم بصيغة السؤال قال الشارح رحمه الله: [قوله: (أتدرى ما حق الله على العباد؟) أخرج السؤال بصيغة الاستفهام ليكون أوقع في النفس وأبلغ في فهم المتعلم]. حق الله على العباد هو ما يستحقه عليهم، وحق العباد على الله أنه متحقق لا محالة؛ لأنه قد وعدهم ذلك جزاءً لهم على توحيده {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} [الروم:6]. والصواب أن الحق شيء زائد على ذلك، فهو حق أحقه الله جل وعلا على نفسه، وأنه المثيب الطائع على طاعته، فهو منه جل وعلا تفضل وإحسان، وليس شيئاً ألزمه إياه غيره، بل هو الذي التزم ذلك تفضلاً منه وكرماً وجوداً.

الرد على من يوجب على الله حقا بالمقابلة

الرد على من يوجب على الله حقاً بالمقابلة قال الشارح رحمه الله: [قال شيخ الإسلام: كون المطيع يستحق الجزاء هو استحقاق إنعام وفضل، ليس هو استحقاق مقابلة كما يستحق المخلوق على المخلوق، فمن الناس من يقول: لا معنى للاستحقاق إلا أنه أخبر بذلك، ووعده صدق]. الذين يقولون: إنه لا معنى لذلك إلا أنه أخبر به فخبره يقع هذا القول هو مذهب الجهمية والمرجئة، وكذلك اتباع أبي الحسن الأشعري الذين سلكوا مسلكهم، أما أهل السنة فلا يقولون ذلك، إنما يقولون: هذا الحق حق أحقه الله جل وعلا على نفسه، كما قال شيخ الإسلام، فالحق منه جل وعلا تفضل وإحسان وكرم، وليس حق مقابلة ومعاوضة كحقوق الخلق بعضهم على بعض. ونصوص الرسول صلى الله عليه وسلم واضحة في هذا؛ فإنه قال: (حق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً)، فأثبت حقاً على الله جل وعلا لعباده، وهذا الحق على الله جل وعلا هو الذي أحقه على نفسه، وإحقاقه إياه تفضل وكرم وجود، ولا يوجد أحد يلزمه تعالى وتقدس بذلك. [ولكن أكثر الناس يثبتون استحقاقا زائدا على هذا، كما دل عليه الكتاب والسنة، قال تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]، لكن أهل السنة يقولون: هو الذي كتب على نفسه الرحمة وأوجب على نفسه الحق لم يوجبه عليه مخلوق. والمعتزلة يدعون أنه واجب عليه بالقياس على المخلوق، وأن العباد هم الذين أطاعوه بدون أن يجعلهم مطيعين له، وأنهم يستحقون الجزاء بدون أن يكون هو الموجب، وغلطوا في ذلك، وهذا الباب غلطت فيه الجبرية والقدرية أتباع جهم، والقدرية النافية]. المعتزلة لهم أصول خمسة غير أصول المسلمين الذين يتبعون كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، إن أصول المسلمين: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، هذا الأصل الأول، الأصل الثاني: إقام الصلاة، والثالث: إيتاء الزكاة، والرابع: صوم رمضان، والخامس: حج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً، هذه أصول الإسلام عند المسلمين، أما هؤلاء الضلاَّل فإنهم جعلوا أصولاً خمسة بدل هذه الأصول جاءوا بها من عند أنفسهم، فقالوا: الأصل الأول: التوحيد، والتوحيد عندهم نفي الصفات، فصفات الله جل وعلا لا يثبتونها. والأصل الثاني: إنفاذ الوعيد، ومعناه عندهم أنه يجب على الله أن يعاقب العاصي ويثيب الطائع، وهذه شريعة وضعوها على الله تعالى وتقدس، وهذا في الواقع من جهل الإنسان وظلمه؛ فإن الإنسان جهول ظلوم. والأصل الثالث: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويقصدون بذلك الخروج على ولي الأمر. والأصل الرابع: المنزلة بين المنزلتين، ومعناه أن الفاسق الذي فعل ذنباً لا يكون مؤمناً ولا يكون كافراً، بل يكون بين الإيمان والكفر، ولكنه إذا مات يكون في النار، وقد اتفقوا في مصيره مع الضلاَّل الآخرين الخوارج الذين يكفرون المسلمين بالذنوب، فإنهم يجعلونهم كفاراً ويستحلون دماءهم، فاتفقوا مع الخوارج في حكم الآخرة، وقالوا: إذا مات فإنه يكون في النار. وكل هذه الأصول باطلة؛ لأنها مخترعة من عند أنفسهم بالقياس والعقل الذي يزعمون أنه يحكم على شرع الله جل وعلا، وعلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.

الأمور التي تضمنتها العبادة

الأمور التي تضمنتها العبادة وقوله: (قلت: الله ورسوله أعلم) فيه حسن الأدب من المتعلم، وأنه ينبغي لمن سئل عما لا يعلم أن يقول ذلك بخلاف أكثر المتكلفين. وقوله: (أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً) أي: يوحدوه بالعبادة. ولقد أحسن العلامة ابن القيم رحمه الله، حيث عرف العبادة بتعريف جامع فقال: وعبادة الرحمن غاية حبه مع ذل عابده هما قطبان ومداره بالأمر أمر رسوله لا بالهوى والنفس والشيطان]. يعني أن العبادة تتضمن ثلاثة أمور: الأول: غاية الحب مع غاية الذل مع الفعل. الثاني: فعل الأفعال، وهي أفعال الطاعة. الثالث: أن تكون الطاعة على وفق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. فلابد من اجتماع هذه الأمور الثلاثة، وإلا فإن الإنسان يتعبد بغير هدى، وكذلك الحب يتضمن محبة القلب ونيته وإرادته وخشيته وخوفه ورجاءه، وكذلك الذل، فالإيمان الذي أمر الله جل وعلا به مركب من أشياء: من الحب والخوف والخشية والإنابة، ومن عمل الجوارح، ومن قول اللسان، فلابد للمسلم أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم لابد أن يتفق القلب مع قول اللسان، فيعرف هذا المعنى ويتحلى به ويعتقده حقاً، ثم جوارحه تعمل بذلك، أما لو قال الإنسان هذه الكلمة ولم يعمل فإنه لا يُعد مسلماً، فإذا ترك الصلاة والصوم والحج ولم يلتزم بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فإن هذا إما إن يكون كاذباً وإما أن يكون عاصياً خارجاً عن الطاعة؛ فيكون مستحقاً لعذاب الله جل وعلا.

خصومة الأنبياء مع أممهم كانت من أجل التوحيد

خصومة الأنبياء مع أممهم كانت من أجل التوحيد قال الشارح رحمه الله: [وقوله: (ولا يشركوا به شيئاً) أي: يوحدوه بالعبادة. فلابد من التجرد من الشرك في العبادة، ومن لم يتجرد من الشرك لم يكن آتياً بعبادة الله وحده، بل هو مشرك قد جعل لله نداً، وهذا معنى قول المصنف رحمه الله: (وفيه أن العبادة هي التوحيد؛ لأن الخصومة فيه). وفى بعض الآثار الإلهية: (إني والجن والإنس في نبأ عظيم، أخلق ويُعبد غيري، وأرزق ويُشكر سواي، خيري إلى العباد نازل، وشرهم إلى صاعد، أتحبب إليهم بالنعم ويتبغضون إلي بالمعاصي)]. (فلابد من التجرد من الشرك في العبادة) المقصود به نفي الشرك. وقوله: (لأن الخصومة فيه) مقصوده بالخصومة: الخصومة بين الأنبياء وأممهم التي وقعت]. يعني أن مجادلة الرسل مع أممهم كانت في العبادة، ولم تكن في أمور أخرى، وإنما كان كل رسول يقول لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]، ومعنى (اعبدوه): وحدوه، واجعلوا أفعالكم التي تتقربون بها لله وحده فقط؛ إذ ليس معه أحد شريك، وكل الرسل قالوا هذا، والأمم فهمت ذلك منهم، ولهذا كانوا يقولون: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [الأعراف:70]، فالذي منعهم من اتباع ما قالته الرسل هو ما وجدوا عليه آباءهم من عبادة غير الله، من عبادة الأصنام والأشجار وما تصنعه أيديهم والأموات والكواكب وغيرها، وما كانوا يعبدونها وحدها، بل كانوا يعبدون الله ولكن يجعلون معه في العبادة غيره، وكان كفار قريش أيام الحج يقولون في تلبيتهم: (لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك)، وهم يعلمون أن كل شيء بيد الله ملك لله جل وعلا، وأبوا أن يتركوا هذا الشرك وأن يخلصوا الدين لله وحده؛ لأن آباءهم مضوا على هذا، فهم يعظمون آباءهم، كما قال الله عنهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف:22] يعني: على ملة، {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22] يعني: سالكون آثارهم فقط، ولا يريدون أن يتركوا ما وجدوا عليه آباءهم، فهذا الذي منعهم من اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا القول تقوله كل أمه لرسولها، حتى الكبراء والعظماء، كما قال فرعون لموسى: {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} [طه:51]، يعني: لماذا كانوا يعبدون غير الله مع الله؟ يحتج على موسى بما مضى من الناس، ويقول: إن هذه طريقة كل الناس سلكوها. وكثير من الناس اليوم إذا أمرته بأمر من أمر الله أو أمر رسوله يقول: الناس كلهم يفعلون كذا، أو كل الناس لا يفعلون هذا، فنفس الطريقة التي قالها الكفار القدامى قالها المتأخرون، وسواء يقولها من لا يريد أن يعبد الله وحده أصلاً، أو يقولها العاصي من المسلمين ليحتج بها إذا أمر بأمر من الأمور التي هي من أمر الله وأمر رسوله، فإذا أمر بما يخالف العادة التي وجد الناس عليها يقول: الناس كلهم يفعلون هذا، وهي سنة متبعة، وما أشبه ذلك.

نفي الشرك يستلزم التوحيد

نفي الشرك يستلزم التوحيد قال الشارح: [وقوله: (وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً) قال الحافظ: اقتصر على نفي الإشراك لأنه يستدعي التوحيد بالاقتضاء، ويستدعى إثبات الرسالة باللزوم؛ إذ من كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كذب الله، ومن كذب الله فهو مشرك، وهو مثل قول القائل: ومن توضأ صحت صلاته. أي: مع سائر الشروط. اهـ]. يعني: أن قوله: (يعبد الله ولا يشرك به شيئاً) يستدعي فعل كلما جاء به الرسول؛ لأن هذا أمر معلوم، يعني: فلا يقل قائل: إن هذا ليس فيه ذكر الصلاة، ولا الصوم، ولا الحج، ولا كل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما قال: (أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً). فالعبادة هي أن تفعل ما أمرك الله جل وعلا به على لسان رسوله، وتترك ما نهاك عنه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ولابد في عبادة الله أن تكون مع الذل والخضوع والتعظيم، وترك ما نهى عنه مع الرجاء والخوف، فتخاف أنك لو كنت مجرماً أن يعاقبك، وترجو إذا تركته أن يثيبك، هذه هي العبادة.

شرح فتح المجيد [9]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [9] لقد وعد الله سبحانه وتعالى بالأمن والاهتداء التام لمن لم يظلم نفسه في الدنيا، وقد فسر الظلم في غير ما حديث بأنه الشرك الذي يخلد صاحبه في النار، والله سبحانه وتعالى يغفر الذنوب جميعاً ما لم تكن شركاً، وفي هذا دلالة على أهمية التوحيد وعظيم فضله.

أفضل الأعمال هو التوحيد

أفضل الأعمال هو التوحيد قال المصنف: [باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب. وقول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82]]. قال رحمه الله تعالى: [باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب]. التوحيد واجب، وليس من الأعمال شيء أفضل منه، ولهذا جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)؛ لأن هذا هو التوحيد الذي خلق الله جل وعلا عباده ليعبدوه به، وسبق أن العبادة لا تسمى عبادة إلا إذا كانت توحيداً، أي: إذا كانت خالصة لله جل وعلا، وقوله: (وما يكفر من الذنوب) يعني أنه يكفر جميع الذنوب. كما سيأتي في الأحاديث التي يذكرها، وكما في قوله جل وعلا: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82]. قال الشارح رحمه الله: [(باب) خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذا. قلت: ويجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف تقديره: هذا. و (ما) يجوز أن تكون موصولة، والعائد محذوف، أي: وبيان الذي يكفره من الذنوب. ويجوز أن تكون مصدرية أي: وتكفيره الذنوب. هذا الثاني أظهر].

المراد بالظلم في قوله تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم)

المراد بالظلم في قوله تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82]]. هذه الآية من الأدلة على فضل التوحيد وأنه يكفر الذنوب، فقول الله جل وعلا: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] وجه البيان فيه من جهتين: الأولى: أنه أخبر أن لهم الأمن، والأمن جاء معرفاً باللام، فشمل الأمن في الدنيا وفي الآخرة، أما الأمن في الدنيا فيأمن عذاب الله الذي ينزله على المشركين الذين لا يعملون بالتوحيد، وقد بين الله جل وعلا ذلك في قصص الأنبياء كثيراً. الجهة الثانية: أنه أخبر أنهم هم المهتدون، والاهتداء ينتهي بالسعادة في سكون الدرجات العلى، وهي درجات الجنة. وقوله: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) هذا فصل للخطاب والخصومة التي وقعت بين إبراهيم عليه السلام وبين قومه حينما هددوه وتوعدوه بآلهتهم التي يعبدون من دون الله، فتبرأ منها وقال: كيف تخوفونني بما تشركون به بهذه الأصنام، وأنتم لا تخافون الله وأنتم تشركون، فأي الفريقين أحق بالأمن: المشرك أو المخلص؟ فجاء قول الله جل وعلا: {الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنعام:82] يعني: هم الأحق بالأمن والاهتداء، {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:82]، والإيمان يشمل امتثال أمر الله جل وعلا واجتناب نهيه كله مع اقتران القلب بالخشية والإنابة والذل والخوف من الله جل وعلا. وقوله: (ولم يلبسوا إيمانهم) اللبس هو: الخلط. يعني أنهم لم يخلطوا إيمانهم بظلم، والظلم هنا فسر بالشرك، فقد جاء في الحديث الصحيح أنه لما نزلت هذه الآية قال الصحابة: (أينا لا يظلم نفسه؟)، وهذا أمر شديد؛ لأنهم تصوروا أن المراد مطلق الظلم، وكل معصية ومخالفة تدخل في ذلك، والإنسان لا يمكن أن ينفك عن معصية أو مخالفة، وهذا في كل الناس، وقد استثني من ذلك الأنبياء والرسل فقط، فقالوا: إنهم معصومون. والصواب أن العصمة للرسل فيما يبلغون عن الله جل وعلا، وإلا فقد يقع منهم مخالفات فيعاتبهم الله جل وعلا عليها، ثم تكون حالتهم بعدها أحسن مما قبلها، أي أنهم لا يقرون على المخالفة، بل يعاتبون ويتوبون، ويكون آخر أمرهم أحسن من أوله، أما من عداهم من بني آدم فكلهم يخطئون، وكلهم يذنبون ولابد، وهذا مقتضى أسماء الله جل وعلا وأوصافه، فالله جل وعلا من أسمائه الغفور والرحيم والتواب، وكذلك كونه جل وعلا يستر على عباده، وكونه جل وعلا يرحمهم، وكونه جل وعلا هو البر الرؤوف، فلابد أن تظهر آثار هذه الأسماء، وإذا لم يكن هناك معاصٍ، وذنوب لا تظهر هذه الآثار، ولهذا جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والله لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم)، فهكذا خلق الإنسان، ولما نزلت هذه الآية: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:82] قال الصحابة رضوان الله عليهم: أينا لا يظلم نفسه؟ هذا لا ينفك منه أحد فقال صلى الله عليه وسلم: (ليس ذاكم، وإنما هو الشرك، ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13])، فجعل الشرك هو الظلم في هذا، وليس معنى ذلك أن الذنوب خارجة عن الظلم، لا. ولكن المذنب إذا كان سالماً من الشرك فهو وإن حصل له من عدم الأمن خوف وحصل له شيء من العذاب فمآله إلى الأمن، مآله إلى الجنة ولابد، فإن عذب في الدنيا صار ذلك كفارة له، وإن لم يكف تعذيبه في الدنيا عذب في القبر فصار كفارة له، فإن لم يكف ذلك عذب في الموقف، فإن لم يكف ذلك عذب في النار، وهذا آخر التعذيب، ثم يخرج منها إلى الجنة ولا يبقى في النار أحد من أهل التوحيد، فأهل التوحيد لا ينتفي عنهم الأمن، وإنما ينتفي عنهم مطلق الأمن الذي هو الأمن التام والاهتداء التام إذا كان عندهم ذنوب، وإنما ينتفى الأمن عن المشرك الذي يشرك بالله جل وعلا ويموت على شركه، فليس له أمن ولا اهتداء، فلهذا قال صلى الله عليه وسلم: (هو الشرك)، يعني: الذي يخلط إيمانه بشرك يكون خاسراً، ويكون له العذاب، ولا يناله شيء من الأمن والاهتداء. وهذا يدل على أن الإنسان قد يجتمع له إيمان وشرك كما يجتمع له معاصٍ وبر وطاعة، وقد يكون عنده شيء من الإيمان وشيء من الشرك، كما قال الله جل وعلا: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106]، يقول مجاهد وغيره من المفسرين: إيمانهم أنك إذا سألتهم: من خلقهم؟ ومن خلق السموات والأرض؟ قالوا: الله. وشركهم أنهم يعبدون مع الله غيره, وهذا هو الشرك الأكبر الذي يكون صاحبه خالداً في النار إذا مات عليه ولم يتب قبل موته منه. فهنا يقول: ((الذين آمنوا)) يعني: اتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم وقبلوا ما جاء به واجتنبوا ما نهاهم عنه، فعملوا بالأمر واجتنبوا النهي، ((ولم يلبسوا إيمانهم بظلم)) يعني: لم يخلطوا هذا الإيمان بشرك. ((أولئك لهم الأمن)) الأمن التام الذي لا ينالهم معه عذاب في الدنيا ولا في القبر ولا في الآخرة، ((وهم مهتدون)) في الدنيا باتباع الحق وسلوكهم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك الهداية إلى منازلهم التي أعدها الله جل وعلا لهم في الآخرة، فهذا هو آخر الهداية، فيهدون في الدنيا بأن يعملوا بعد الحسنة حسنة، ويزدادون بعد الخير خيراً، ويهتدون في الآخرة بأن يعرفوا مساكنهم أكثر من معرفتهم مساكنهم في الدنيا قبل أن يروها، وهذا من تمام الهداية. [قال ابن جرير: حدثني المثنى وساق بسنده عن الربيع بن أنس قال: الإيمان الإخلاص لله وحده. وقال ابن كثير رحمه الله في الآية: أي: هؤلاء الذين أخلصوا العبادة لله وحده ولم يشركوا به شيئا هم الآمنون يوم القيامة المهتدون في الدنيا والآخرة. وقال ابن زيد وابن إسحاق: هذا من الله على فصل القضاء بين إبراهيم وقومه. وعن ابن مسعود رضي الله عنه لما نزلت هذه الآية قالوا: فأينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس بذلكم، ألم تسمعوا إلى قول لقمان: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]؟)، وهذا الحديث في الصحيح والمستدرك وغيرهما]. قوله: (هذا على فصل الخطاب من الله جل وعلا بين إبراهيم وقومه) يعني أن هذا الكلام مستأنف، وأن قصة إبراهيم مع قومه انتهت عند قوله: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام:81] إلى هنا انتهت قصة إبراهيم، ثم جاء الحكم من الله فاصلاً بين الفريقين -بين إبراهيم وقومه- بقوله جل وعلا: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:82] إلى آخره، فهذا معنى قوله: (هذا على فصل الخطاب) يعني أنه حكم مستأنف حكم الله جل وعلا به بين الفريقين، بين إبراهيم وقومه الذين خاصمهم. والقول الثاني للمفسرين أن هذا من تمام القصة، وأن هذا من تمام قول إبراهيم: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام:81] قال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82]، ويكون هذا من تمام القصة ومن تمام كلام إبراهيم عليه السلام، وهو كلام حكاه الله جل وعلا عن الفريقين، فهو لا يخرج بذلك عن كونه كلام الله تكلم به حاكياً ما وقع بين إبراهيم وقومه، ومعلوم أن إبراهيم عليه السلام كانت لغته غير عربية، ما كان يتكلم بالعربية، والله جل وعلا ذكر هذا باللغة العربية، فهو كلامه الذي حكاه كما وقع لإبراهيم وقومه. وهكذا سائر قصص الأنبياء، فإنهم ليسوا عرباً، يقول العلماء: العرب من الأنبياء أربعة فقط، وأما بقية الأنبياء فكلهم عجم. فالعرب: هود وصالح وشعيب ومحمد صلوات الله وسلامه عليه، أما بقيتهم فكلهم عجم، وكل قصص الأنبياء جاءت باللغة العربية لأن الله جل وعلا حكى ذلك وتكلم به ناكراً ما وقع لهم، فهو كلامه جل وعلا يذكر ما وقع بين الرسول وقومه، ومنه هذه القصة لإبراهيم.

مكفرات الذنوب غير الشرك

مكفرات الذنوب غير الشرك قال الشارح: [وساقه البخاري بسنده فقال: حدثنا عمر بن حفص بن غياث، قال: حدثنا أبي حدثنا الأعمش، حدثني إبراهيم عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه قال: (لما نزلت {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:82] قلنا: يا رسول الله! أينا لا يظلم نفسه؟ قال: ليس كما تقولون (لم يلبسوا إيمانهم بظلم) بشرك، أو لم تسمعوا إلى قول لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13])، ولـ أحمد بنحوه عن عبد الله قال: (لما نزل قول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:82] شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا يا رسول الله! فأينا لا يظلم نفسه؟ قال: إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] إنما هو الشرك)]. هذا لا يدل على أن الذنوب ليست ظلماً، ولكن يدل على أن الظلم المطلق الذي لا يكون معه أمن ولا اهتداء هو الشرك، أما الذنوب والمعاصي فإن وقعت من الإنسان فإنه يرجى له الخير إذا مات على التوحيد، بل يعلم يقيناً بأنه من أهل الجنة، وأن مآله إليها وإن عذب وإن ناله ما ناله ما دام ليس معه شرك، فمثل هذا لا يقال: إنه ليس له أمن وليس له اهتداء، بل له الأمن والاهتداء؛ لأن مآله إلى ذلك، فإن حدث له تعذيب وعرض له عارض فإنه يزول بخلاف المشرك، فإن الشرك ليس معه لا أمن ولا اهتداء. فصار كلام الرسول صلى الله عليه وسلم موضحاً لهذا ومبيناً له. وفيه أن الإنسان وإن كان وقع في معصية فإنه على رجاء من الله وعلى خير، ويرجى له أن يكون مهتدياً ويكون آمناً، والذنوب -ما عدا الشرك- لها طرق كثيرة لإزالتها ومغفرتها، منها كون الإنسان يتوب منها، فالتوبة تمحو جميع الذنوب التي سبقت التوبة إذا كانت التوبة صادقة ونصوحاً. والتوبة النصوح ما اجتمع فيها شروط التوبة، وشروطها أربعة: أن يندم الإنسان على زلته وعلى ما وقع من الذنب ويود أنه ما وقع منه، وأن يعزم عزماً جازماً على ألا يعود إليه، وأن يقلع عن الذنب ويتركه، وإن كان مع الذنب مظلمة لغيره من الخلق من الناس فيضاف إلى ذلك أنه يستحل صاحب الحق أو يؤدي إليه الحق، فإذا حصلت هذه الأمور فإن الله جل وعلا يتوب عليه، وقد ندب عباده جل وعلا إلى التوبة، قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} [النور:31]، وهذا لأن المؤمن لابد أن يقع له ذنوب، فأمر الله جل وعلا عباده أن يتوبوا، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم:8]، والتوبة النصوح هي هذه التي ذكرناها بالشروط. والأمر الثاني: أن المصائب التي تقع للإنسان سواء في الدنيا وفي نفسه أو في ماله أو في ولده أو في أقربائه، هذه تكفر ذنوبه، تكون كفارات لذنوبه. الأمر الثالث: الطاعات التي تقع منه فإن الحسنات يذهبن السيئات، ويكون ذلك أيضاً من المانع من العذاب بالحسنات التي يعملها. الأمر الخامس: الدعوة التي تحصل له من المؤمنين سواء إخوانه المؤمنون أو الملائكة، فالملائكة يدعون ويستغفرون للمؤمنين، كما أخبرنا الله جل وعلا بذلك، وكذلك المؤمنون بعضهم من بعض، وكذلك منها الصلاة عليه إذا مات، كصلاة المؤمنين عليه واستغفارهم له وشفاعتهم له، فإن هذا قد يكون مانعاً له من أن يعذب، وقد جاءت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم تدل على ذلك. الأمر السابع: ما يصاب به من عذاب القبر وضغطته. فإن هذا يكون تكفيراً له. الأمر الثامن: ما يقع له في المواقف -كموقف القيامة- من الشدائد والأهوال التي تمر عليه، فإنها تكون أيضاً مكفرة لذنوبه. الأمر التاسع: إذا لم يكف هذا فالنار تطهر أهل القاذورات من المعاصي. الأمر العاشر: رحمة أرحم الراحمين التي وسعت كل شيء، فإنه إذا شاء غفر لعبده وإن كانت جرائمه كثيرة جداً، ولا يبالي جل وعلا، فهو غفور رحيم. فكل هذه أسباب لمنع العذاب عن المؤمن، وهناك غيرها مما هو معروف من الشرع. [وعن عمر أنه فسره بالذنب، فيكون المعنى: الأمن من كل عذاب. وقال الحسن والكلبي: أولئك لهم الأمن في الآخرة وهم مهتدون في الدنيا]. هذا لا ينافي تفسيره بالشرك، كونه فسر بالذنب لا ينافي تفسيره بالشرك؛ لأن تفسيره بالشرك وجهه ما ذكرنا، فيكون المعنى: ليس لمن أشرك بالله أمن مطلق، ولا اهتداء مطلق أما المذنب فله نوع من الأمن، وله نوع من الاهتداء، ولا ينفى عنه الأمن ولا الاهتداء، فيكون تفسير هذا متفقاً مع التفسير الأول.

أقسام أهل الاصطفاء

أقسام أهل الاصطفاء قال الشارح: [قال شيخ الإسلام: والذي شق عليهم أنهم ظنوا أن الظلم المشروط عدمه هو ظلم العبد نفسه، وأنه لا أمن ولا اهتداء إلا لمن لم يظلم نفسه، فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم ما دلهم على أن الشرك ظلم في كتاب الله، فلا يحصل الأمن والاهتداء إلا لمن لم يلبس إيمانه بظلم، فإن من لم يلبس إيمانه بهذا الظلم كان من أهل الأمن والاهتداء، كما كان من أهل الاصطفاء في قوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر:32]، وهذا لا ينفي أن يؤاخذ أحدهم بظلمه لنفسه بذنب إذا لم يتب، كما قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8]]. في هذه المعايير جعل المصطفين الذين اصطفاهم الله جل وعلا -والاصطفاء هو الاختيار لجواره جل وعلا في جنة النعيم- جعلهم أقساماً ثلاثة: منهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله. ولهذا فالظالم لنفسه فسر بأنه الذي يترك بعض الواجبات ويفعل بعض المحرمات. هذا الظالم لنفسه، يترك بعض ما يجب عليه مما أوجبه الله جل وعلا عليه، ويفعل بعض ما حرمه الله عليه، وهذه ذنوب ومعاصٍ، فهذا ظالم لنفسه، ومع ذلك هو من أهل الاصطفاء الذين اصطفاهم الله، والمقتصد هو الذي يفعل الواجب ويترك المحرم، ولا يأتي بالنوافل ولا يترك المكروهات والمباحات تورعاً وتقرباً إلى الله. أما السابق بالخيرات فهو الذي يفعل الواجبات ويجتنب المحرمات، ويتقرب إلى الله جل وعلا بعد أداء الفرائض بالنوافل من الصلاة والصوم والصدقة والحج وغير ذلك من أفعال الخير، ولكونهم أقساماً ثلاثة صارت الجنة متفاوتة المنازل على حسب الأعمال، فكل من كان عمله أكثر وصدقه مع الله أعظم وقربه إليه أتم كانت منزلته أرفع وأعلى، وقد ذكر أن الجنة منها ما هو للمقربين، ومنها ما هو للأبرار، ومنها ما صاحبه يغبط عليه، حتى النبيون يغبطونه، فإنه جاء أن أهل الجنة يتراءون أصحاب الغرف كما نرى الكوكب الغابر في أفق السماء، فهي منازل رفيعة عالية جداً في الجنة، وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن في الجنة مائة درجة، ما بين درجة وأخرى كما بين السماء والأرض، أعدها الله جل وعلا للمجاهدين في سبيله)، فهذه لهم خاصة، والدرجة المقصود بها هنا الجنة، فالدرجات جنات واحدة فوق الأخرى، وهذه ليست لمائة شخص فقط، لا. بل لأجناس كثيرة جداً، كل مكان في الجنة يسكنها ما يملؤها ممن يشاء الله جل وعلا. فالمقصود أن الخلق لا يتفقون في الأعمال، منهم المجتهد ومنهم الورع الذي يترك ما هو مكروه أو ملتبس فيه خشية أن يكون حراماً أو ممنوعاً، ومنهم من يفعل ذلك وإنما يجتنب المحرم الصريح ويفعل الواجب الواضح الذي أوجبه الله عليه فقط، والرسول صلى الله عليه وسلم رتب دخول الجنة على أمور خمسة فقط إذا جاء بها الإنسان فإنه من أهل الجنة قطعاً: أحدها: أن يشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. فيعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً. والثاني والثالث والرابع والخامس: أن يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويصوم رمضان ويحج البيت فلما قال له معاذ رضي الله عنه: (دلني على عمل يدخلني الجنة. قال: لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه، تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت)، فقط هذه الأمور الخمسة جعلها هي الطريق إلى الجنة، وإذا أتى الإنسان بما هو زائد على ذلك من أنواع الخير وأنواع البر فإن درجته في الجنة ترتفع ومنزلته تعلو ونعيمه يزداد، ولهذا فاوت الله جل وعلا بين عباده في الجنة من أجل ذلك. والمقصود أن الذي يظلم نفسه هو من أهل الاصطفاء، وهو كذلك من أهل الأمن، وإن ناله ما ناله من عذاب أو مصائب تصيبه، فإن هذا يكون تكفيراً له.

أجناس الظلم الثلاثة

أجناس الظلم الثلاثة [وقد سأل أبو بكر الصديق رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! أينا لم يعمل سوءاً؟ فقال: يا أبا بكر! ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ أليس يصيبك اللأواء؟ فذلك ما تجزون به)، فبين أن المؤمن إذا مات فدخل الجنة قد يجزى بسيئاته في الدنيا بالمصائب، فمن سلم من أجناس الظلم الثلاثة الشرك وظلم العباد، وظلمه لنفسه بما دون الشرك كان له الأمن التام والاهتداء التام]. هذه هي أجناس الظلم، وأما قول أبي بكر رضي الله عنه فهو لما نزل قوله جل وعلا: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء:123]، فـ (من) هنا شرطية، والجزاء يرتب على الشرط، لذلك قال أبو بكر رضي الله عنه: أينا لا يعمل سوءاً؟ يعني: لا يوجد أحد ينفك من عمل السوء. فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن من الجزاء الذي يقع هو ما يقع في الدنيا من الجوع والظمأ، وما يصاب به الإنسان من المشقة والمرض والمصائب وإدالة العدو وما أشبه ذلك، فكل ما أصاب المؤمن ولو كلمة تسوؤه من آخر فإنها تكون كفارة لما اجترح وأصاب، فهذا الذي يجزى به، فالرسول صلى الله عليه وسلم فسره بذلك. وأنواع الظلم التي ذكر هي هذه التي لا يخرج عنها الناس، ظلم يكون بين العبد وبين ربه، وهذا يكون بترك واجب أو فعل محرم، ترك واجب أوجبه الله جل وعلا على الإنسان فيما بينه وبينه، فيما بين العبد وبين ربه جل وعلا، فإذا ترك شيئاً منه فهو ظلم، وهو لله جل وعلا، فله أن يجزي هذا الظالم على ظلمه وله أن يعفو. والنوع الثاني: الظلم الذي يقع بين العباد بعضهم من بعض، من أخذ الأموال أو التعدي على الأعراض والأجساد أو استطالة في العرض بالكلام بأن يقال فيه ما ليس فيه، أو يقال فيه ما فيه في غيبته، فإن هذا من الظلم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما بين الغيبة قال: (ذكرك أخاك بما يكره. قيل له: أرأيت إن كان فيه ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته)، والبهت: هو أشد الظلم وأعظمه فكذلك سائر الحقوق التي تقع من إنسان على الآخر إذا فرط فيها أو ظلمه فيها فإنه يطالب بأدائها، فهذا نوع آخر. أما النوع الثالث فهو أشدها وأعظمها، وهو الشرك، ولهذا جاء في الأثر أن الدواوين ثلاثة: ديوان لا يعبأ الله به شيئاً. ومعنى (لا يعبأ) أنه سهل وهين عند الله، يغفره ولا يبالي. وديوان لا يترك الله منه شيئاً. فالذي لا يعبأ الله به شيئاً هو ظلم العبد لنفسه فيما بينه وبين ربه، إذا شاء أن يغفره غفره جميعاً ولا يبالي به، ولو لم يتب الإنسان منه، وأما الذي لا يترك الله منه شيئاً فهو حقوق العباد بعضهم لبعض، فلابد أن تؤدى، ولابد من أداء الحقوق إلى أهلها، ولابد من القصاص يوم القيامة، حتى المؤمنون من أهل الجنة إذا خلصوا من المناقشة ومن الموقف وخلصوا من الصراط وعبروه أوقفوا في قنطرة بين الجنة والنار فاقتص لبعضهم من بعض وهذبوا وطهروا، فلا يدخلون الجنة حتى تكون قلوبهم صافية ليس فيها غل على أحد. وهؤلاء الذين علم الله جل وعلا أن هذا الذنب لا يقضي على حسناتهم بل تبقى حسناتهم التي يسكنون بها الجنة، وأما المظالم العظيمة فإنها تكون في الموقف قبل العبور على الصراط، كل مظلمة تؤدى إلى صاحبها حسنات، والناس وكل واحد يفرح أن يكون على أخيه حق، حتى الوالدة تتمنى أن يكون لها حق على ولدها وبالعكس، ولهذا يقول الله جل وعلا: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس:34 - 36]، ولماذا يفر من أمه وأخيه وأبيه وزوجته؟! هؤلاء هم أقرب الناس وأحبهم إليه، ومع ذلك يفر منهم ويكره أن يراهم، وفراره منهم خوف المطالبة بالحقوق، والمطالبة بالحقوق تكون بالحسنات، يؤخذ من حسناته ويوفى المظلوم حقه، فإن فنيت حسناته أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار، ولهذا جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أتدرون من المفلس؟) ثم قال: (المفلس من أمتي من يأتي بحسنات كثيرة، ويأتي قد ظلم هذا، وضرب هذا، وأكل مال هذا، فيؤخذ لهذا من حسناته، ولهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار). أما الديوان الثالث الذي لا يغفر الله منه شيئاً فهو الشرك، إذا مات الإنسان مشركاً فهو في النار قطعاً بلا شك لا يغفر له؛ لأن الله جل وعلا يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فأخبر جل وعلا أن المشرك لا يغفر له، ويقول جل وعلا: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:72]، فالشرك هو الظلم المطلق الذي ليس بعده ظلم، وهو الذي أخبر الله جل وعلا أن صاحبه في النار، غير أن الشرك نوعان وقسمان: شرك أكبر: وهو أن يجعل مع الله نداً في العبادة. أن تجعل العبادة مقسومة بين الرب جل وعلا وبين أحد من الخلق، والعبادة كلها ما أمر الله جل وعلا به وما نهى عنه، إذا فعل المأمور لأجل مخلوق أو ترك المنهي عنه لأجل مخلوق فإن هذا من الشرك، أما العبادة القلبية التي فيها الحب والخوف والذل والإنابة فهذه إذا وقعت لمخلوق تكون من أعظم الشرك وأكبره. القسم الثاني: شرك أصغر وهذا لا يخرج الإنسان عن كونه مسلماً، ولا يجعله خالداً في النار، ولكنه من النوع الذي يعذب عليه إذا لم يعف الله جل وعلا عنه، وهو على القول الصواب الصحيح داخل في الكبائر التي تكون تحت المشيئة.

صاحب الذنب معرض للعذاب متوعد بالنار

صاحب الذنب معرض للعذاب متوعد بالنار [ومن لم يسلم من ظلمه لنفسه كان له الأمن والاهتداء المطلق، بمعنى أنه لابد أن يدخل الجنة كما وعد بذلك في الآية الأخرى، وقد هداه الله تعالى إلى الصراط المستقيم الذي تكون عاقبته فيه إلى الجنة، ويحصل له من نقص الأمن والاهتداء بحسب ما نقص من إيمانه بظلمه لنفسه. وليس مراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إنما هو الشرك) أن من لم يشرك الشرك الأكبر يكون له الأمن التام والاهتداء التام؛ فإن أحاديثه الكثيرة مع نصوص القرآن تبين أن أهل الكبائر معرضون للخوف، لم يحصل لهم الأمن التام والاهتداء التام اللذين يكونون بهما مهتدين إلى الصراط المستقيم]. إن النصوص من القرآن مثل قول الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10]، وقوله جل وعلا: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء:93]، وكذلك ذكر جل وعلا قوله: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23]، ويقول جل وعلا: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31]، وما أشبه ذلك من النصوص الكثيرة كلها تدل على أن صاحب الذنب معرض للعذاب ومتوعد بالنار، وكذلك أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فهي كثيرة جداً في هذا، فلو قيل: إن المقصود بهذه الآية الشرك الأكبر لناقض ذلك هذه النصوص، ونصوص الكتاب مع أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم لا تتناقض، بل أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم تفسر الكتاب وتوضحه وتبين مجمله، فيجب أن يجمع بينها وأن يوفق بينها، ولا يضرب بعضها ببعض كما فعل الخوارج الذين حكموا بأن صاحب الذنب كافر، وأنه إذا مات في النار، وهؤلاء في الواقع ضلوا؛ حيث أخذوا جانباً وتركوا الجوانب الأخرى، وهكذا أهل البدع يتمسكون بشيء ويتركون أشياء، وهم يدخلون فيمن يضربون كتاب الله بعضه ببعض، ويؤمن ببعض ويكفر ببعض. [بل معهم أصل الاهتداء إلى هذا الصراط، ومعهم أصل نعمة الله تعالى عليهم، ولابد لهم من دخول الجنة، وقوله: (إنما هو الشرك) إن أراد الأكبر فمقصوده أن من لم يكن من أهله فهو آمن مما وعد به المشركون من عذاب الدنيا والآخرة، وإن كان مراده جنس الشرك يقال: ظلم العبد نفسه كبخله -لحب المال- ببعض الواجب هو شرك أصغر، وحبه ما يبغضه الله تعالى حتى يقدم هواه على محبة الله شرك أصغر، ونحو ذلك]. يعني أن الذنوب كلها تدخل في الشرك الأصغر، فإذا كان كذلك دخلت الذنوب في قوله: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم)، وهذا من باب اللزوم. [فهذا فاته من الأمن والاهتداء بحسبه، ولهذا كان السلف يدخلون الذنوب في هذا الشرك بهذا الاعتبار. انتهى ملخصاً]. قال الشارح: [وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] قال الصحابة: وأينا -يا رسول الله! - لم يلبس إيمانه بظلم؟ قال: (ذلك الشرك، ألم تسمعوا قول العبد الصالح: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13])، فلما أشكل عليهم المراد بالظلم فظنوا أن ظلم النفس داخل فيه، وأن من ظلم نفسه -أيَّ ظلم كان- لم يكن آمناً ولا مهتدياً أجابهم صلوات الله وسلامه عليه بأن الظلم الرافع للأمن والهداية على الإطلاق هو الشرك، وهذا والله هو الجواب الذي يشفي العليل ويروي الغليل؛ فإن الظلم المطلق التام هو الشرك الذي هو وضع العبادة في غير موضعها]. إن الظلم تفسيره عند أهل السنة هو وضع الشيء في غير موضعه، وقد فسره الأشاعرة وغيرهم بأنه التصرف في ملك الغير بغير إذنه، وهذا خطأ، ولهذا قالوا: إن أي شيء يفعله الله جل وعلا ليس ظلماً؛ لأن كل شيء هو ملك له، فلو خلد الطائع طول عمره في النار لا يكون ذلك ظلماً؛ لأن العباد كلهم عبيده، وكلهم ملكه يتصرف فيهم كيف يشاء، ولو جعل الكافر الذي يقتل الدعاة الذين يدعون إلى الله في الجنة ما كان ذلك ظلماً، ولا كان ذلك فيه اختلاف الحكمة؛ لأنه ملكه يتصرف فيه كيف يشاء، وقد أخبر الله جل وعلا أنه لا يجعل المجرمين كالمسلمين، وأن هذا لا يقع في حكمه، وأخبر جل وعلا أنه ليس بظلام للعبيد، وفي الحديث الذي يرويه الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه -كما في صحيح مسلم -: إن الله جل وعلا يقول: (إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً)، فما معنى تحريم الظلم؟ فهل كونه حرم الظلم على نفسه جل وعلا، معناه: حرم التصرف في ملكه؟! لا يمكن. فإنما الصواب في تعريف الظلم أنه وضع الشيء في غير موضعه. كما في لغة العرب. وهو تعريفه في الشرع، فإذا جعل على المطيع ذنوباً لم يعملها كان هذا ظلماً، وإذا أُخذت حسناته وأعطيت غيره بغير جرم فعله كان هذا ظلماً، وهذا لا يقع من الله جل وعلا، بل هو الذي حرمه الله جل وعلا على نفسه، والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، وليس التصرف في ملك الغير بغير إذنه كما يقوله أهل البدع ويفسرون به الظلم. قال الشارح رحمه الله: [والأمن والهدى المطلق هما الأمن في الدنيا والآخرة والهدى إلى الصراط المستقيم، فالظلم المطلق التام رافع للأمن وللاهتداء المطلق التام، ولا يمنع أن يكون الظلم مانعاً من مطلق الأمن ومطلق الهدى، فتأمله. فالمطلق للمطلق والحصة للحصة. انتهى ملخصا]. قوله: (فالمطلق للمطلق) يعني: إذا جاء بالإيمان الكامل المطلق فله الأمن المطلق الكامل، وإذا أتى بإيمان غير مطلق -أي: بإيمان مقيد بالمعصية بأن يكون عاصياً- فله أمن مقيد، وليس له الأمن التام والاهتداء التام المطلق.

شرح فتح المجيد [10]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [10] ظلمات الشرك تبددها كلمة (لا إله إلا الله)، والشرك ظلمة في القلب وظلم للنفس وظلمات في المجتمع، ولهذا أرسل الله عز وجل الرسل ليبينوا للناس خطر الشرك، وليدعوهم إلى توحيد الله عز وجل وإفراده بالعبادة.

حديث عبادة بن الصامت في بيان فضل التوحيد

حديث عبادة بن الصامت في بيان فضل التوحيد قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل) أخرجاه]. عبادة بن الصامت رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من شهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل). فقوله: (من شهد أن لا إله إلا الله) الشهادة معناها: أن ينطق بالشيء الذي يعلمه علماً يقينياً. وشهادة أن لا إله إلا الله تتضمن العمل بعد اليقين والمعرفة، وكذلك تتضمن التسليم والانقياد، التسليم للشرع والانقياد له، والكفار الذين كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعوهم بهذه الكلمة كانوا يعرفون معناها، ولهذا لما قال لهم: قولوا: (لا إله إلا الله) قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:5]، ويقول جل وعلا في الآية الأخرى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات:35 - 36] يعني: علموا أنهم إذا قالوا هذه الكلمة فلابد أن يتركوا آلهتهم، والإله هو المعبود الذي يألهه القلب ويحبه وينيب إليه ويخافه ويرجوه، فالمحبة التي تكون محبة غيبية لابد أن تكون لله جل وعلا، وهي التي يسميها بعض الناس (محبة السر)، أي: أنه يعلم ما في سرك هذا الذي تحبه أو تخافه فهذا لا يكون إلا لله جل وعلا، فيجب أن يكون لله، فهذه الكلمة هي التي يدخل بها الإنسان في الدين الإسلامي، وهي التي بني عليها الدين كله؛ لأن معناها أن يكون الدين خالصاً لله جل وعلا. فقوله: (لا إله) نفي الإلهية، وقوله: (إلا الله) إثباتها لله جل وعلا، ومعلوم أن الآلهة في الأرض كثيرة جداً قديماً وحديثاً، والإنسان خلق عابداً، إذا لم يعبد ربه جل وعلا لابد أن يعبد غيره، فيعبد الشيطان أو يعبد شهواته أو يعبد المظاهر الأخرى، أو قد يعبد الدنيا، وقد يعبد ماله، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم)، فسماه عبداً للدينار والدرهم، وذلك لأنه يؤثر الدينار والدرهم على طاعة الله جل وعلا وعلى مرضاته فصار عبداً له، وليس معنى كونه عبداً له أنه يسجد له ويركع له، بل كونه يقدمه على محاب الله جل وعلا ومرضاته يكفي في ذلك. ثم إنه يجب على العبد أن يعرف معنى هذه الكلمة: (شهادة ألا إله إلا الله) يعرف أن معناها إبطال كل معبود غير الله جل وعلا، وإثبات العبادة له وحده، ثم إنه لابد أن يحب ما دلت عليه هذه الكلمة، ويرتبط به، ويرى أن منة الله جل وعلا عليه فيها -حيث هداه- هي أكبر من كل شيء، فيشكر ربه جل وعلا ويتمسك بهذه الكلمة، ويحبها ويحب أهلها، ويعمل بمقتضاها، فمن شهد الشهادة الحقة، وسلم من الشك والريب، وكذلك أخلص عبادته حسب ما تضمنته هذه الكلمة ودلت عليه فإنه يكون من المخلصين، ويكون من السعداء، ويكون من السابقين، وهذه الكلمة تكفر جميع الذنوب، إذا قالها صادقاً مخلصاً فإنها تكفر الذنوب مهما كانت، حتى الذنوب العظيمة التي هي الشرك؛ لأن هذا هو الإخلاص. أي: قول: لا إله إلا الله هو إخلاص التوحيد لله، فهو يخبر بلسانه، ولابد أن يعمل بقلبه مخلصاً لله جل وعلا، ويعمل بجوارحه مخلصاً لله جل وعلا، ثم العمل يكون تبعاً لذلك. وقوله: (وأن محمداً رسول الله) يعني: يشهد له بالرسالة. ومعنى شهادته له بالرسالة علمه اليقيني بأنه رسول من عند الله جل وعلا جاء بالشرع من الله جل وعلا، وأنه لا يعبد الله جل وعلا إلا بما جاء به هذا الرسول صلوات الله وسلامه عليه، فيعبد الله باتباعه، ويحبه الحب الذي أوجبه الله جل وعلا له؛ لأن الله جل وعلا أوجب محبة رسوله صلى الله عليه وسلم أكثر من محبة الإنسان لنفسه ولأهله وولده، ولابد من هذا، ولكن يجب أن يفرق الإنسان بين محبة الله جل وعلا ومحبة رسوله؛ لأن محبة الله جل وعلا محبة عبادة وذل وخضوع، أما محبة الرسول صلى الله عليه وسلم فهي محبة تابعة لمحبة الله؛ لأن الله يحبه، ولأن الله أمر بحبه فهي محبة لله وفي الله، وليست محبة مع الله؛ لأن المحبة مع الله شرك، كما قال جل وعلا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165]، وكذلك قال جل وعلا في الآية الأخرى مخبراً عن أهل الجحيم أنهم يعود بعضهم على بعضاً باللوم ويلوم بعضهم بعضا وهم في النار: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:97 - 98] يعني: يسوونهم برب العالمين في المحبة، يحبونهم كما يحبون الله. وإلا فليس هناك أحد من الخلق سوَّى مخلوقاً برب العالمين في الخلق والإيجاد والتصرف. قوله: (وأن عيسى عبد الله ورسوله)، وذلك أن عيسى ضل فيه من كان قبلنا من اليهود والنصارى إلا من شاء الله ممن هداهم إلى صراطه المستقيم، فالنصارى اتخذوه إلهاً وجعلوه رب العالمين، أو جعلوه ابن الله -تعالى الله وتقدس-، أو جعلوه ثالث ثلاثة، كما ذكر الله جل وعلا ذلك عنهم في كتابه، وهذا كله كفر، أما اليهود فجفوا في حقه حتى زعموا أنه ابن زانية -لعنهم الله-، فهدى الله جل وعلا عباده إلى الحق، وبين الحق فيه، كما قال جل وعلا: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} [مريم:29] أي: لما جاءت به تحمله إلى قومها: {قَالُوا يَا مَرْيَمُ} [مريم:27] يعني: ينكرون عليها {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} [مريم:28 - 29]، يعني: قالت: كلموه، فقالوا: {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ ?وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي} [مريم:29 - 32] إلى آخر ما ذكر الله جل وعلا عنه، فأول ما تكلم به أنه قال: ((إني عبد الله))، فهو عبد من عباد الله جل وعلا. فقوله صلى الله عليه وسلم (وأن عيسى عبد الله ورسوله) يعني: هو عبد تعبده الله جل وعلا بالعبودية وهذه عبودية خاصة، فالعبودية الخاصة هي أشرف مقامات العبد، وإلا فالخلق كلهم عباد لله جل وعلا بمعنى التذليل والتسخير، وأن حكمه جارٍ عليهم رضوا أم سخطوا، ولكن العبودية الخاصة التي يفعلها الإنسان طوعاً ويكمل مراتبها التي أمره الله جل وعلا بها بأن يعبد الله العبادة التي أمره الله جل وعلا بها. فقوله: (وأن عيسى عبد الله ورسوله) عبد تعبده الله جل وعلا كسائر عباده الذين هم عباد له يعبدونه، وليس له من الإلهية أو الربوبية شيء، وليس لأحد من الخلق لا الملائكة ولا الرسل ولا غيرهم شيء من خصائص الإلهية أو الربوبية، كل مخلوق معبد مسخر، وقد أخبر الله جل وعلا عن الملائكة أنهم عباد مكرمون، وأنهم: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:29]، وأخبر جل وعلا أن عيسى لا يستنكف عن عبادة الله ولا الملائكة -يعني: لا يتكبر عنها-، وأن من استنكف أو تكبر عن عبادته فموعده جهنم. وقوله: (وأن عيسى عبد الله ورسوله) يعني: هو رسول أرسله الله جل وعلا إلى بني إسرائيل، فمن آمن به وأطاعه واتبعه فهو السعيد، ومن عصاه وكذبه فهو الشقي، فهو رسول كسائر الرسل الذين أرسلهم الله جل وعلا، إلا أنه جعله آية، حيث خلقه من أنثى بلا ذكر، كما قال جل وعلا: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59]، والخلق الذين أخبرنا جل وعلا عنهم -أعني خلق آدم وذريته- أقسام أربعة: القسم الأول: من خلقه من طين، وهو أبو البشر كما قص الله جل وعلا ذلك علينا. القسم الثاني: من خلقه من ذكر بلا أنثى، وهو حواء زوج آدم، خلقها الله جل وعلا من ضلعه الأيسر أو الأيمن، خلقها من ضلعه فجعلها بشراً سوياً من ذكر بلا أنثى. القسم الثالث: ما ذكره الله جل وعلا عن عيسى أنه خلقه من أنثى بلا ذكر. القسم الرابع: سائر الخلق خلقهم من ذكر وأنثى، وكل ذلك دليل على تفرده جل وعلا بالتصرف، وأنه على كل شيء قدير، وأنه لا يعجزه شيء، فلابد أن يشهد الإنسان أن عيسى عبد لله جل وعلا تعبده وعبد ربه، وأنه رسول أرسله الله جل وعلا إلى بني إسرائيل ليطيعوه ويتبعوه، وأنه كلمة الله، ومعنى كونه (كلمة الله) أنه خلقه بالكلمة، قال له: (كن) فيكون، كما قال تعالى: {إِنََّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59]، فهو خلق بالكلمة، ولهذا سماه كلمة الله. (وروح منه) يعني أنه روح من سائر الأرواح التي خلقها واستنطقها واستشهدها فقال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى. فهو من الأرواح التي استخرجت من آدم، وأرسلها إلى مريم بواسطة الملك، أرسل إليها جبريل فتمثل لها بشراً سوياً وهي تتعبد متخلية عن أهلها، فقالت: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا} [مريم:18 - 19]، فنفخ في جيب درعها فذ

قوله: (وشهد أن الجنة حق والنار حق)

قوله: (وشهد أن الجنة حق والنار حق) ثم يقول صلى الله عليه وسلم: (وشهد أن الجنة حق، والنار حق) الحق: هو الثابت المستقر الذي لا يتغير، فيشهد الإنسان أن الجنة حق خلقها الله جل وعلا وأعدها لعباده الصالحين.

شرح حديث عبادة: (من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحديث)

شرح حديث عبادة: (من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحديث) قوله صلى الله عليه وسلم: (من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل). الشهادة لابد أن يطابق القلب فيها اللسان، أي: أن تكون عن علم ويقين، وعن معرفة وصدق ومحبة لها وامتثال لما تقتضيه وتدل عليه وليس الشهادة مجرد التلفظ، بل شهادة ألا إله إلا الله معناها نفي الشرك عن جميع العبادات وجعل العبادة خالصة لله جل وعلا، ولهذا لما قال الرسول صلى الله عليه وسلم للكفار: (قولوا: لا إله إلا الله) قالوا -كما حكى الله عنهم-: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:5]؛ لأنهم علموا أن هذه الكلمة تبطل الشرك كله وتجعل العبادة لإله واحد وهو الله جل وعلا، فمعنى قوله: (أشهد ألا إله إلا الله) أعلم علماً يقينياً بأن التأله والتعبد لله وحده، وأن هذا لا يقع مني ولا أفعله. بل يكون تعبده وتألهه خالصاً لله وحده. وقوله: (لا شريك له) هذا تأكيداً للنفي، في قوله: (أشهد ألا إله)، فهذا نفي، وقوله: (إلا الله) إثبات، وقوله: (لا شريك له) ينهي التأله لغير الله ويثبته لله جل وعلا، والشهادة تطلق على العلم اليقيني، وهو الذي تدل عليه هذه الكلمة، ولهذا يقول الله جل وعلا: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86]، يعني: الذين تنالهم الشفاعة. أما من لم يكن كذلك فإنه لا تقع له شفاعة. وقوله: (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) هذه الجملة جملة حالية تدل على أن العلم في الشهادة شرط فيها، فاشترط فيها أن يكون الشاهد عالماً بما يشهد به، أما إذا شهد بشيء لا يعلمه فهذا يكون من شهادة الزور، وتكون الشهادة مجرد تلفظ باللسان، وتكون كذباً. ومما يلزم لشهادة ألا إله إلا الله الإخلاص، وهو مقتضى وضع هذه الكلمة، أن تكون العبادة خالصة لله جل وعلا، ولهذا لما سئل صلى الله عليه وسلم -كما في حديث أبي هريرة - وقيل له: (أي الناس أسعد بشفاعتك -يا رسول الله! - يوم القيامة؟ قال: من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه)، فمن قال هذه الكلمة مخلصاً فهو أسعد الناس بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، أما الذي لا يخلص فإنه لا يدخل في الشفاعة؛ لأن عدم الإخلاص هو الوقوع في الشرك، والمشرك ليس له نصيب مما أعده الله جل وعلا لأهل التوحيد والإخلاص. ومنها الصدق، فعلى الإنسان أن يكون صادقاً في قولها، وضد الصدق النفاق، كأن يقولها الإنسان وهو منافق، يقولها في الظاهر ويعمل كذلك بمقتضاها في الظاهر، ولكن قلبه منطوٍ على التكذيب، ومن كان هذه صفته فهو في الدرك الأسفل من النار تحت الكفار، نسأل الله العافية. فالنفاق هو تكذيب القلب مع عمل الجوارح بخلاف ما في القلب، وكذلك نطق اللسان. وقد أخبر الله جل وعلا أن المنافقين يشهدون أن محمداً رسول الله، ولكن شهادتهم غير معتبرة، قال سبحانه: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1]، فهم في شهادتهم كاذبون؛ لأن قلوبهم لا تتفق مع ما تنطق به ألسنتهم، بل تخالفها. وكذلك من شروط الشهادة المحبة، وتكون المحبة بأن يحبها ويحب ما تدل عليه، ويغتبط بذلك ولا يكره شيئاً من ذلك، وإلا وقع في المتناقضات. وكذلك مما يلزم لها الانقياد والإذعان، بأن ينقاد لها ويذعن، ولا يكون عنده تضجر ولا توقف فيما دلت عليه، بل يلتزم ويعمل. وكذلك مما تقتضيه: القبول والتسليم، بأن يقبل ويسلم وينقاد، وفضلاً عن الانقياد أن يسلم لذلك، والتسليم معناه: ألا يكون في قلبه حرج أو ضيق أو تبرم مما جاءت به هذه الكلمة. كما قال الله جل وعلا: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، أما إذا تخلف شيء من ذلك فمعنى هذا أنه لم يحصل له المنفعة فيما يقول وما يتشهد به. فإذاً: هذا كله يدلنا على أن هذه الكلمة أمرها ليس سهلاً، وقد علم الكفار ذلك، فالرسول صلى الله عليه وسلم لما أتى إلى عمه أبي طالب وهو في سياق الموت قال له: (يا عم! قل: (لا إله إلا الله) كلمة أحاج لك بها عند الله)، فقال له الحاضرون من الكفار: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ وهذا يدلنا على أنهم فهموا أن قولها يخرجه من ملة الكفر ويدخله في ملة الإسلام، وليس المراد من ذلك مجرد اللفظ فقط، بل المقصود به الخروج نهائياً من هذا الدين والدخول في دين آخر، وإلا فلو كان المقصود مجرد اللفظ ما توقف أحد من الكفار بأن يقولوها وهو مقيم على ما هو عليه من الشرك، لكن هذا لا يقبل ولا ينفع. ومن المتناقضات ما يقع اليوم من كثير من المسلمين، فتجد أحدهم يقول هذه الكلمة وهو يطوف على القبر ويستنجد بصاحبه ويدعوه دعاء المضطر ويسأله لأمور دنياه وأمور آخرته مما هو صريح الشرك وواضحه، وهو يقول: لا إله إلا الله. وهذا لأنه جهل معنى (الإله)، وجهل معنى العبادة، وجهل معنى هذه الكلمة وما وضعت له، جهل ذلك كله، وهذا في الواقع تفريط، وإلا فكل عبد من عباد الله يلزمه أن يكون عالماً بهذا المذكور كله.

معنى لا إله إلا الله وأقوال العلماء في ذلك

معنى لا إله إلا الله وأقوال العلماء في ذلك قال الشارح رحمه الله: [فصل: ذكر كلام العلماء في معنى (لا إله إلا الله): وقال شيخ الإسلام: الإله هو المعبود المطاع. فإن الإله هو المألوه، والمألوه هو الذي يستحق أن يعبد. وكونه يستحق أن يعبد هو بما اتصف به من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب، المخضوع له غاية الخضوع. قال: فإن الإله هو المحبوب المعبود الذي تألهه القلوب بحبها وتخضع له وتذل له وتخافه وترجوه وتنيب إليه في شدائدها وتدعوه في مهماتها وتتوكل عليه في مصالحها، وتلجأ إليه وتطمئن بذكره وتسكن إلى حبه، وليس ذلك إلا لله وحده، ولهذا كانت (لا إله إلا الله) أصدق الكلام، وكان أهلها أهل الله وحزبه، والمنكرون لها أعداءه وأهل غضبه ونقمته، فإذا صحت صح بها كل مسألة وحال وذوق، وإذا لم يصححها العبد فالفساد لازم له في علومه وأعماله. وقال ابن القيم: (الإله) هو الذي تألهه القلوب محبة وإجلالاً وإنابة وإكراماً وتعظيماً وذلاً وخضوعاً وخوفاً ورجاءً وتوكلاً. وقال ابن رجب: (الإله) هو الذي يطاع فلا يعصى هيبة له وإجلالاً ومحبةً وخوفاً ورجاءً وتوكلاً عليه وسؤالاً منه ودعاءً له، ولا يصلح هذا كله إلا لله عز وجل، فمن أشرك مخلوقاً في شيء من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلهية، كان ذلك قدحاً في إخلاصه في قول (لا إله إلا الله) وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب ما فيه من ذلك. وقال البقاعي: (لا إله إلا الله) أي: انتفاءً عظيماً أن يكون معبود بحق غير الملك الأعظم، فإن هذا العلْم هو أعظم الذكرى المنجية من أهوال الساعة، وإنما يكون علماً إذا كان نافعاً، وإنما يكون نافعاً إذا كان مع الإذعان والعمل بما تقتضيه، وإلا فهو جهل صرْف. وقال الطيبي: (الإله) فعال بمعنى (مفعول)، كالكتاب بمعنى (المكتوب)، من ألِه إلهةً أي: عُبد عبادة، قال الشارح: وهذا كثير في كلام العلماء وإجماع منهم. فدلت (لا إله إلا الله) على نفي الإلهية عن كل ما سوى الله تعالى كائناً ما كان، وإثبات الإلهية لله وحده دون كل ما سواه، وهذا هو التوحيد الذي دعت إليه الرسل، ودل عليه القرآن من أوله إلى آخره، كما قال تعالى عن الجن: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} [الجن:1 - 2]، فـ (لا إله إلا الله) لا تنفع إلا من عرف مدلولها نفياً وإثباتاً، واعتقد ذلك وقبله وعمل به، وأما من قالها من غير علم واعتقاد وعمل فقد تقدم في كلام العلماء أن هذا جهل صِرْف، فهي حجة عليه بلا ريب]. من أوضح الكلام وأبينه كلمة التوحيد (لا إله إلا الله)، وهي التي كان كل رسول من الرسل يفتتح دعوته إلى قومه بها، ولكن لكون كثير من الناس يعرض عنها ويتعلق بأمور تنافيها صار الجهل بها فاشياً في كثير من البلاد والأحوال، والرسول صلى الله عليه وسلم وضحها إيضاحاً بيناً، وهي واضحة من كلام العرب؛ لأن هذه الكلمة هي أصل الدين، وهي التي لا يصح إيمان أحد -بل إسلامه- حتى يتلفظ بها ويطابق قلبه ما يقوله لسانه، فلابد أن يعتقد معناها ويعمل بما دلت عليه مع قولها لفظاً، وإلا لا يكون الإنسان مسلماً. وهنا يتكلم عن معناها في اللغة ووضعها، فاللغة هي التي نزل بها القرآن، والله جل وعلا أخبرنا في كتابه عن الكفار أنه لما قيل لهم: قولوا: (لا إلا الله) استكبروا. يعني: أبوا أن يقولوها لأنها تبطل ما كانوا يعملونه، وهذا هو السبب في كونهم لم يقولوها، فهم يعلمون أنهم إذا قالوا: (لا إله إلا الله) أنه يجب الاتجاه إلى الله وحده في كل دعوة، وفي كل قصد، وفي كل ما يتقرب به، وألا يكون هناك واسطة تُجعل بين الداعي والقائل لها وبين الله جل وعلا. فهذا هو السبب في كونهم أبوا أن يقولوها؛ لأن دينهم هو الشرك، وهو أنهم جعلوا بينهم وبين الله جل وعلا وسائط، وبهذه الوسائط يتجهون إلى الله بطلب الشفاعة وطلب القربة، وإلا فهم يعتقدون اعتقاداً جازماً يقينياً بأنه لا أحد يملك مع الله شيئاً، كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25]، فهو المالك لما في السموات وما في الأرض وحده، وليس لأحد معه شيء، لا من الملائكة ولا من الرسل فضلاً عن غيرهم، وإنما كان شركهم أنهم جعلوا وسائط بينهم وبين الله، ويقولون: هذه الوسائط تقربنا إلى الله، فإذا دعوناها وتشفعنا بها فهي تدعو الله، وهي لا ذنوب لها فتكون دعوتها أقرب إلى الإجابة. وهذا هو الشرك الذي أخبر الله جل وعلا أنه لا يغفره لمن مات عليه، فجاءت هذه الكلمة مبطلة لذلك؛ فإنه إذا قال قائلها: (لا إله إلا الله) فمعناه أنه لا معبود يتوجه إليه ويطلب منه ما يطلب من الله إلا الله وحده فقط. ومن قالها وهو يعمل بما دلت على إبطاله فقوله لها لغو لا يفيد. ولهذا اشترط أن يكون قولها عن علم بمعناها؛ لأنها تنفي جميع العبادة عن الله جل وعلا، والعبادة أنواع، منها ما يكون باللسان، مثل هذه الكلمة ومثل الذكر والدعاء وغير ذلك. ومنها ما يكون بالقلب، مثل الخوف والرجاء والخشية والإنابة وما أشبه ذلك. ومنها ما يكون بالجسد، مثل السجود والركوع وما أشبهه. وكل هذا يجب أن يكون لله وحده، ولا يكون لأحد من الخلق منه شيء، فإن وجد منه شيء لأحد من الخلق فقد حصل الشرك ووقع الإنسان في الشرك، والشرك يفسد جميع الأعمال، فإن الدين الإسلامي مبني على الإخلاص، والإخلاص معناه أن يكون العمل لله وحده ليس لأحد مع الله فيه شيء أصلاً لا عمل القلب ولا عمل اللسان وقوله ولا عمل الجوارح. وقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5] أي أن كل ما يفعله الإنسان يرجو بفعله ثوباً أو يتركه يرجو بتركه ثوباً أو يخاف أنه لو فعله لعوقب كله عبادة، فكل شيء يفعله الإنسان يرجو بفعله ثواباً، وكل شيء يتركه الإنسان يرجو بتركه ثواباً، أو أنه لو فعله يخاف أن يعاقب يجب أن يكون هذا كله لله وحده، ولا يكون شيء منه لأحد من الخلق، وإلا فقد وقع الإنسان في الشرك، وليس المقصود بهذه الكلمة قولها في التلفظ فقط مع الجهل بمعناها، ولهذا سيأتينا في الحديث: (إن الله حرم على النار من قال: (لا إله إلا الله) يبتغي بذلك وجه الله)، وتقدم في حديث عبادة بن الصامت أنه رتب دخول الجنة على أمور خمسة: على أن يشهد ألا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله، وأنه روح منه، وأن الجنة حق، والنار حق. وهذه الأصول هي أصول الدين الإسلامي، فإذا أتى بها الإنسان فغيرها من سائر فروع الدين الإسلامي يكون تابعاً لها. ومن المعلوم أنه ثبت في أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن كثيراً ممن يقول هذه الكلمة يدخل النار، والرسول صلى الله عليه وسلم كلامه لا يتناقض، ولا يكون بعضه مخالفاً لبعض، بل كله يأتي من الله جل وعلا وحياً وبعضه يصدق بعضاً. فمعنى ذلك أن الناس يتفاوتون في قول هذه الكلمة بالعلم والصدق والإخلاص واليقين وعدم الارتياب، فمنهم من يقولها وهو غير صادق، ومثل هذا قوله لها لا يغني عنه شيئاً، ومنهم من يقولها عن علم ويقين وإخلاص لله جل وعلا، فإذا قالها بهذه المثابة فمعنى ذلك أنه متجه بكليته إلى الله جل وعلا، ولا يكون عنده في مراداته ولا في تصرفاته شيء مما يبغضه الله إلا الشيء الذي لا يستطيعه، فقولها بصدق وإخلاص لا يتفق مع فعل المعاصي وفعل الإجرام فضلاً عن الوقوع في الشرك؛ لأنها هي التي تضاد الشرك وتبطله تماماً، وإذا وجد الشرك فقولها ممن يقولها كالهذيان لا يفيد ولا يجدي؛ لأنها وضعت للمعنى ولم توضع للفظ، ولو كان المقصود منها قولها مع المخالفات فلن يشكل ذلك على الكفار، ولقالوها وهم مقيمون على دينهم، ولكن علموا أنهم إذا قالوها بطل دينهم كله فأبوا قولها، ويوضح هذا تماماً قصة أبي طالب حينما حضرته الوفاة فأتى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلب منه أن يقول هذه الكلمة، فقال له: (يا عم! قل (لا إله إلا الله) كلمة أحاج لك بها عند الله)، فكان عنده قرناء السوء حضوراً، وهم من المشركين الذين أبوا أن يقولوها، فقالوا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فما قالوا: لا تقلها. بل قالوا: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ وهذا يدل على أن قولها يخرجه من ملة عبد المطلب إلى ملة أخرى وهي ملة الدين الإسلامي، فأعاد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم قوله هذا، فأعادوا عليه هذا القول فقط، فأبى أن يقولها وقال: هو على ملة عبد المطلب. وهذا يدلنا على أنه ليس المقصود قولها باللسان، وإنما المقصود الخروج من دين يدين به من يخالفها إلى الدين الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فالدين كله يدور على هذه الكلمة، ولا يجوز للمسلم أن يجهل معناها؛ لأنها هي أصل الدين، وهي أساسه، وهي التي يسأل عنها الأولون والآخرون، فكل الناس وكل الخلق يُسألون: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم به المرسلين؟ فلابد من هذا السؤال لكل أحد، والرسول صلى الله عليه وسلم بين هذا ووضحه غاية البيان، وبين الأمور التي هي من حقوقها، ومن لوازمها أنه يجب على العباد أن يلتزموا ذلك وأن يعملوا به، فلهذا لما أبى بعض العرب بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أداء الزكاة إلى أبي بكر استدل أبو بكر على وجوب قتالهم بهذه الكلمة: (لا إله إلا الله)، فإنه قال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: (لا إله إلا الله)، فإذا قالوها منعوا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها)، وأداء الزكاة من حقها، فإذا امتنعوا عن أداء الزكاة للإمام قُوتلوا؛ لأن ذلك من حق (لا إله إلا الله)، وليس معنى ذلك أنهم يجحدون وجوب الزكاة أو يمتنعون عن إخراج

خطر الشرك وضرره على الإنسان

خطر الشرك وضرره على الإنسان قال الشارح: [فقوله في الحديث: (وحده لا شريك له) تأكيد وبيان لمضمون معناها، وقد أوضح الله ذلك وبينه في قصص الأنبياء والمرسلين في كتابه المبين، فما أجهل عباد القبور بحالهم! وما أعظم ما وقعوا فيه من الشرك المنافي لكلمة الإخلاص (لا إله إلا الله!) فإن مشركي العرب ونحوهم جحدوا (لا إله إلا الله) لفظاً ومعنىً، وهؤلاء المشركون أقروا بها لفظاً وجحدوها معنىً، فتجد أحدهم يقولها وهو يأله غير الله بأنواع العبادة، كالحب والتعظيم، والخوف والرجاء، والتوكل والدعاء، وغير ذلك من أنواع العبادة، بل زاد شركهم على شرك العرب بمراتب، فإن أحدهم إذا وقع في شدة أخلص الدعاء لغير الله تعالى، ويعتقدون أنه أسرع فرجاً من الله، بخلاف حال المشركين الأولين، فإنهم كانوا يشركون في الرخاء، وأما في الشدائد فإنما يخلصون لله وحده، كما قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65] الآية، فبهذا يتبين أن مشركي أهل هذه الأزمان أجهل بالله وبتوحيده من مشركي العرب ومن قبلهم]. الشرك في الواقع من الأمور التي يجب أن يهتم بها، وذلك أن الله جل وعلا أخبر أن المشرك إذا مات على شركه فإنه خالد في النار، كما قال الله جل وعلا: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة:72]، وقال تعالى في الآية الأخرى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، وأخبر أن المشركين في المحبة الذين يجعلون لله أنداداً يحبونهم كحب الله أنهم لا يخرجون من النار، فقال: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:167]، فإذا كان الأمر هكذا فيجب على العبد أن يتنبه لذلك ويهتم به. وكثير من الناس ينكر أن يكون ما يقع من كثير من الذين يطوفون بالقبور أو يعكفون عندها ينكر أن يكون هذا شركاً، ويقول: هذه محبة للصالحين وتوسل بهم، والتوسل مطلوب؛ لأن الله جل وعلا يقول: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة:35]، فهذا من الوسيلة التي تُبتغى إلى الله جل وعلا. وهذا في الواقع من الجهل في دين النبي صلى الله عليه وسلم الذي بينه ووضحه، وذلك أن أصحاب القبور قد فارقوا الحياة، فإذا دعاهم الداعي لا يسمعون دعوته ولا يستطيعون أن يجيبوه بشيء؛ لأن الحي الحاضر يمكن أن يجيبك بما تدعوه إليه أو ببعض ما تدعوه إذا كان قادراً، ولهذا اشترط في الدعاء الموجه إلى المخلوق أن يكون حياً حاضراً عندك يسمع، وأن يكون قادراً على إجابة ما تدعوه به، وأما إذا دعوته بالشيء الذي لا يستطيعه مثل أن تقول: اشف مرضي. أو أصلح قلبي. أو هب لي ولداً. أو ما أشبه ذلك، فإن هذا لا يُدعى به إلا الله وحده جل وعلا، ولكن إذا كان يستطيع أن يقدم لك نفعاً يستطيعه وكان حياً حاضراً فيجوز ذلك ولا يكون شركاً، أما إذا كان ميتاً، أو كان غائباً في بلد آخر فدعوته فذلك شرك بالله؛ لأن هذا يجعله بمنزلة من يسمع قولك ويطلع على ما في نفسك، وهذا لا يكون إلا لله جل وعلا. فكذلك أصحاب القبور عندما يعكفون عندها، أو يأخذون -مثلاً- من ترابها يتبركون به، ويزعمون أنه ينفعهم، أو يؤدون عندها العبادات بأنواعها من صلاة وذكر وقراءة قرآن وما أشبه ذلك، ويقولون: إن فعل هذه العبادات عندها أرجى وأحسن من فعلها في المساجد. فكل هذا إما أن يكون شركاً أكبر بالله جل وعلا، أو يكون وسيلة إلى الشرك، كفعل العبادات عندها بأن يكون -مثلاً- يصلي لله في المقبرة أو يتلو القرآن ويذكر الله يريد وجه الله، وإنما يقول: إن هذا يقبل في هذا المكان. أو إنه أحرى في القبول. فهذا من البدع التي لا يقبل معها العمل؛ لأن كل بدعة ضلالة، والضلالات كلها في النار، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) أي: مردود عليه. والله جل وعلا يقول: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية:2 - 4]، فهي تعمل وتنصب وتخشع، ولكنها في الآخرة تصلى جهنم؛ لأنها تخشع وتعمل بالبدع وبخلاف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فالبدع طريق إلى الشرك ووسيلة إليه، أما إذا كان يرجو أصحاب القبور فلابد أنه يعتقد أنهم يسمعون، أو أنهم -مثلاً- يعلمون ما في القلب، فإذا اعتقد أنهم يسمعون دعوته -والسماع المراد به الإجابة- ويستطيعون أن يجيبوا فهذا من الشرك بالله جل وعلا؛ لأنهم أموات غير أحياء، ولأنهم لا يستطيعون أن يقدموا لأنفسهم حسنة واحدة، ولا أن يضعوا من كتابهم ومن سيئاتهم سيئة واحدة، كما قال الله جل وعلا: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:5 - 6]. وليس معنى قوله جل وعلا: ((مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)) أنهم يوم القيامة يستجيبون لهم ويعطونهم مطلوبهم، ولكن المقصود أنهم لا يستطيعون رد الجواب عليهم ورد الخطاب إليهم حتى يبعثوا ويجمع بينهم ويقال لهم: هؤلاء الذين كنتم تسألونهم وتتقربون إليهم اذهبوا إليهم فليعطوكم مسئولكم. فعند ذلك يكفرون بهم ويتبرأون منهم، وهذا هو معنى قوله: ((مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)) يعني أنهم يوم القيامة تكون إجابتهم لهم الكفر بهم والتبرؤ مما كانوا يفعلونه. ولهذا قال: ((وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ))؛ لأن المدعو قد يكون -إن كان من الصالحين- في نعيم في قبره غافلاً عما يطلب منه، وهو -أيضاً- لا يرضى بهذا، بل يكون كافراً بذلك مبغضاً له عدواً لمن يفعله؛ لأن هذا عبادة لغير الله، والذي يرضى بأن يُعبد من دون الله هو من رؤساء الطواغيت الذين يصدون عن دين الله وعن عبادته ويدعون إلى عبادة الشيطان، فكيف يرضى بذلك من هم صالحون؟! فإذا كانوا صالحين فلا يمكن أن يرضوا بذلك أبداً، ولهذا أخبر الله جل وعلا أن العابد والمعبود من دون الله حصب جهنم، فقال سبحانه: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98]، و (حصب جهنم) يعني أنهم وقودها، يوضعون فيها هم ومن عبدوهم. وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري وحديث أبي هريرة رضي الله عنهما أنه إذا كان يوم القيامة وصار الموقف الطويل الشديد العظيم الذي يقفه الناس لرب العالمين يقومون على أقدامهم طويلاً، فإذا طال وقوفهم واشتد كربهم ألهمهم الله جل وعلا أن يطلبوا الشفاعة من الرسل الذين معهم في الموقف، فإذا طلبوا الشفاعة وشفع الشافع عند رب العالمين ليأتي للقضاء بين عباده ويريحهم من هذا الموقف، فإذا جاء جل وعلا يخاطبهم ويقول جل وعلا لهم جميعاً: أليس عدلاً مني أن أولي كل واحد منكم ما كان يتولاه في الدنيا؟ فكلهم يقولون: بلى. أيستطيع إنسان إذا كان يتولى أحداً أن يقول: لا أريده؟! فعند ذلك يمثل لكل عابد معبوده، فيجاء بذلك المعبود إذا كان حجراً أو شجراً أو صنماً، وأما إذا كان مخلوقاً من المخلوقات العابدة لله كالبشر والملائكة والجن فإن كان من المطيعين لله الذين يعبدون الله وحده فإنه يؤتى بشياطينهم التي زينت للعابد هذه العبادة على صورهم، ثم يقال لهم: اتبعوا معبوداتكم ومن كنتم تولونهم. فيذهب بهم إلى النار فيلقون في جنهم، ثم العابدون لله يلقون ثوابهم، وهذا من معاني قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98]، ولما نزلت هذه الآية قال أحد المشركين: الآن أخصم محمداً فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أرأيت عيسى بن مريم وأمه والملائكة أليسوا من عباد الله الصالحين؟ فكيف تخبر بأنهم حصب جهنم؟ فأنزل الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ} [الأنبياء:101 - 102] يعني أن هؤلاء لا يرضون بهذه العبادة، فالعابد لهم في الواقع عابد للشيطان. فالذي يعبد عيسى لم يعبد عيسى في الواقع وإنما عبد شيطاناً زين له ذلك، فهذا الشيطان الذي زين له هذه العبادة وأمره بها هو الذي يؤتى به يوم القيامة ويقال له: هذا معبودك فاتبعه. وكذلك الذي يطوف بالقبر إذا كان المقبور صالحاً فإنه إذا كان يوم القيامة يجاء بالشيطان الذي زين لهذا العابد العبادة وأمره بها فيقال له: هذا وليك في الدنيا فاتبعه. وإلا فالرسل وأتباع الرسل الصالحين -ولا يكون الإنسان صالحاً إلا إذا كان متبعاً للرسول صلى الله عليه وسلم- برآء من كل شرك ومن كل مخالفة لله جل وعلا ولرسوله، ولا يرضون بها، وليس معنى ذلك إهدار حقوقهم، ولكن حماية لحق الله جل وعلا أن يوضع للمخلوق شيء منه؛ لأن حق الله يجب أن يكون خاصاً به، ولا يكون لأحد منه شيء، والخلق كلهم عباد لله ليس لهم من العبودية شيء، فالعبادة لابد أن تكون خالصة لله جل وعلا، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها)، ولكن لا يجوز لأحد أن يخضع لأحد، فالخضوع لله، والذل لله، والخوف منه، والرجاء منه، فالعبادة له وحده، وكل من ترك من العبادة شيئاً لغير الله جل وعلا فإنه واقع في الشرك الأكبر الذي توعد فاعله بالنار، ويكون خالداً فيها -نسأل الله العافية-، وتكون الجنة عليه محرمة، ولكن الجهل بالعبادة والجهل بمعنى (لا إله إلا الله) هـ

العبودية لله تعالى

العبودية لله تعالى قال الشارح رحمه الله: [وقوله: (وأن محمداً عبده ورسوله) أي: وشهد بذلك. وهو معطوف على ما قبله على نية تكرار العامل، ومعنى العبد هنا: المملوك العابد. أي أنه مملوك لله تعالى، والعبودية الخاصة وصفه، كما قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر:36]، فأعلى مراتب العبد العبودية الخاصة والرسالة، فالنبي صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق في هاتين الصفتين الشريفتين، وأما الربوبية والإلهية فهما حق الله تعالى لا يشركه في شيء منهما ملك مقرب ولا نبي مرسل]. العبودية بمعنى: جريان الأحكام والأقدار والقهر على العبد، فهو مقهور جارية عليه أحكام الله وأقداره، ولا يخرج عن ربوبية الله وقهره وإحاطته وقبضته. وهذا يشمل الخلق كلهم مؤمنهم وكافرهم، برهم وفاجرهم، فكلهم عباد لله بهذا المعنى، بمعنى أنهم تحت قهر الله وتحت قدره وتحت تصرفه، لا يخرجون عن ذلك بحال من الأحوال، وهذا معنى قول الله جل وعلا: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:93] يعني: ذليلاً خاضعاً يجري عليه حكم الله وقضاؤه وقدره، لا يستطيع أن يخرج عن شيء من ذلك والعبادة بهذا المعنى لا تنفع ولا تفيد، وليست مطلوبة؛ لأن هذا فعل الله، فهو الذي قهر الخلق، وهو الذي أجرى أحكامه وسلطانه عليهم، ولا أحد ينازع الله جل وعلا، فالخلق كلهم أضعف من أن ينازعوا الله في شيء من قضائه وقدره أو في ملكه وحكمه. المعنى الثاني: (عَبْد) بمعنى: عابد، تصدر منه العبادة. وهذا هو المطلوب، وهو الذي يمدح الإنسان عليه، فإذا كمله جاء بالمطلوب منه في هذه العبودية، ورسولنا صلى الله عليه وسلم هو أكمل الخلق في تكميل هذه العبودية والإتيان بمرادات الله جل وعلا منها، وهذا معنى كون الله جل وعلا قد أثنى عليه بلفظ العبودية في أشرف المقامات؛ لأنه كملها، ومن تكميلها هذه المقامات التي ذكرها الله عنه، مثل الدعوة إلى الله، قال سبحانه: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن:19]، فهو يدعو الله ويدعو إليه، ويعبد الله ويدعو الخلق أن يعبدوه. المقام الثاني: مقام الإتيان بالآيات التي بها تتبين نبوته وصدقه، كقوله تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة:23]، وأعظم الآيات التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم على الإطلاق القرآن، والآيات المقصود بها الدلائل الباهرة التي تذعن العقول عندها وتصدق بأنه رسول جاء من الله جل وعلا، والقرآن من أعظمها أو هو أعظمها. الأمر الثالث: المنة بالوحي عليه، قال سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان:1]، فـ (عبده) يعني: الذي قام بالعبودية الخاصة له. الأمر الرابع: المنة عليه بالإسراء والمعراج، قال سبحانه: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء:1]. وكل هذه المقامات الأربعة هي من المقامات الخاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم، إلا مقام الدعوة، فإن كل تابع له يجب أن يشاركه فيها حسب مقدرته، فإذا كان متبعاً للرسول صلى الله عليه وسلم فلابد أن يدعو غيره إلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، كما قال الله جل وعلا: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] يعني: أنا أدعو على بصيرة إلى الله، ومن اتبعني كذلك يدعو على بصيرة إلى الله جل وعلا. أما بقيتها من التحدي بالآيات بالدلائل وكذلك نزول الوحي وكذلك المعراج والإسراء فهذه من خصائصه صلوات الله وسلامه عليه، والله ذكره بلفظ العبودية في هذه المقامات وهي أشرفها، وصفة صلوات الله وسلامه عليه بذلك في دعوته إلى الله جل وعلا وإبلاغ رسالته وإبلاغ ما أوحاه إليه. فهذه العبودية التي تصدر من العبد ويكون عبداً لهذا المعنى هي العبودية النافعة، وهي التي يُطلب من الإنسان أن يكون عبداً لله بها، فمعنى (عابد) أي أن العبادة تصدر منه وإذا كان عبداً لله فهو لا يخالف أمره، ولا ينازعه في حكمه، ولا يتجه بالعبادة إلى غيره، بل لابد من هذه الأمور إذا كان عبداً لله، أما إذا وزع نفسه بين ربه جل وعلا وبين غيره من المخلوقات بأن يجعل لله نصيباً وللصالحين نصيباً فهو في الواقع ليس عبداً لله؛ لأن الله أغنى الشركاء عن الشرك، فمن اتجه إليه بعبادة واتجه بتلك العبادة إلى غيره فإن الله يتبرأ منه، ويقول -كما في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه-: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه)، ويأمر جل وعلا يوم القيامة من أشرك في العمل أن يطلب أجره ممن أشرك به. فالمقصود أن هذا أمر لازم على الناس جميعاً، فعليهم أن يعبدوه وحده، وليعلموا أنهم خلقوا لهذا، كما قال جل وعلا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات:56 - 57] يعني أن الله جل وعلا ما خلقهم لشيء يريده لنفسه وإنما خلقهم ليعبدوه وحده والعبادة التي طلبت منهم هي التي تقع باختيارهم، أما الذي يقع عليهم وهم راغمون كالأقدار والقهر فهذا لا ينفع؛ لأنه ما صدر منهم وإنما هو من الله جل وعلا، وإنما الذي ينفعهم أفعالهم الاختيارية التي يفعلونها باختيارهم، وأما إذا لم يفعلوها مختارين مذعنين راغبين في ذلك محبين لفعلها مرتبطين به فمعنى ذلك أنهم ما عبدوا الله جل وعلا العبادة المطلوبة، فلفظ (العباد) هو هذا المقصود به في الواقع، أن يكونوا عباد الله بمعنى: عابدين له.

شرح فتح المجيد [11]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [11] توحيد الله تعالى وترك الشرك به هو أول ما يطلب من المكلف، ولكلمة التوحيد أثر في الآخرة، فهي نجاة لصاحبها من النار إن قالها بإخلاص، كما أنها تنفع صاحبها حتى مع اكتساب الذنوب، ولهذه الكلمة لوازم، ومن لوازمها الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم، والإيمان بالجنة والنار.

الإفراط والتفريط في محبة النبي صلى الله عليه وسلم

الإفراط والتفريط في محبة النبي صلى الله عليه وسلم قال المؤلف رحمه الله: [وقوله: (عبده ورسوله) أتى بهاتين الصفتين وجمعهما دفعا للإفراط والتفريط؛ فإن كثيراً ممن يدعي أنه من أمته أفرط بالغلو قولاً وعملاً، وفرط بترك متابعته، واعتمد على الآراء المخالفة لما جاء به، وتعسف في تأويل أخباره وأحكامه بصرفها عن مدلولها والصدوف عن الانقياد لها مع اطّراحها، فإن شهادة (أن محمداً رسول الله) تقتضى الإيمان به، وتصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، والانتهاء عما عنه نهى وزجر، وأن يعظم أمره ونهيه ولا يقدم عليه قول أحد كائناً من كان، والواقع اليوم وقبله ممن يتنسب إلى العلم من القضاة والمفتين خلاف ذلك، والله المستعان. وروى الدارمي في مسنده عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه أنه كان يقول: (إنا لنجد صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً، وحرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميته المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب بالأسواق، ولا يجزي بالسيئة مثلها، ولكن يعفو ويتجاوز، ولن أقبضه حتى يقيم الملة العوجاء، بأن يُشهد ألا إله إلا الله، يفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً). قال عطاء بن يسار: وأخبرني أبو واقد الليثي أنه سمع كعباًً يقول مثل ما قال ابن سلام]. الإفراط في الواقع: هو التجاوز في فعل الشيء إلى ما لا يشرع. والتفريط: هو الجفاء، بأن يتركه ويجفو عنه. ودين الله وسط بين هذين الأمرين، بين الإفراط والتفريط، فيجب أن يكون الإنسان معتدلاً لا مُفرِطاً ولا مُفرِّطاً. والإفراط وقع فيه كثير من الناس، وكذلك التفريط وقع فيه كثير من أهل الجهل والغفلة والإعراض عن الله جل وعلا، والإفراط أيضاً يقال له: غلو. والغلو في الشيء: هو الزيادة فيه. فيقول المؤلف في هذا: إن هذا وقع فيه كثير من الناس، أفرطوا في محبة النبي صلى الله عليه وسلم وفرطوا في متابعته. والواقع أن محبة النبي صلى الله عليه وسلم واجبة وفرض على كل إنسان، ولكن يجب أن يميز الإنسان بين حق الله وحق رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يخلط حق الله مع حق الرسول صلى الله عليه وسلم، فمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم ليست محبة ذل وخضوع وعبادة، وإنما هي محبة تابعة لمحبة الله جل وعلا، فتحبه لأن الله أمرك بحبه؛ ولأنه رسول إليك أنقذك الله بسببه من الكفر، ولأن الله جل وعلا يحبه، فكل من أحبه الله يجب أن تحبه على حسب محبة الله جل وعلا له، فإذا كانت محبة الله له أتم وأكمل فيجب أن تكون محبتك إياه كذلك، وأما محبة الله فهي محبة الذل والتعظيم والإنابة، فتحبه حب عبادة، فيذل قلبك ويخضع له وتعظمه، وتكون أعمال الجوارح تابعة لهذا الذل، ومن هذا الذل وهذا الحب السجود والركوع والإنابة، وكذلك الخشية والخوف والرجاء، وكل أفعال القلب تتبع هذا، فيجب على العبد أن يفرق بين ما هو لله وبين ما هو لرسوله صلى الله عليه وسلم، فمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم من مكملات محبة الله ومن موجباتها؛ لأنه لا يمكن إذا كان لك محبوب أن تبغض حبيبه، أو ألا تحب حبيبه، كما أنه لا يمكن أن تحب عدوه، وإلا فأنت غير موافق له وغير محب له كما ينبغي، ومحبة الله جل وعلا لا تقاس بمحبة الخلق، فكل مخلوق محبته لصفات تقوم به يتصف بها ويفعلها، وليس لأنه لحم ودم وعظام، أما محبة الله فهي محبة ذاتيه، فتحب الله لذاته جل وعلا، وكل الأمور التي يستلزمها حب المخلوق هي من دواعي المحبة ودوافعها التي تدفعك إلى أن تحبه، ولكن الله يحب لذاته؛ لأنه خلقك وأنت عبده، فيجب أن تحبه حباً خاصاً به وخالصاً له.

الإفراط والتفريط في محبة عيسى عليه السلام وعقيدة أهل الإسلام في ذلك

الإفراط والتفريط في محبة عيسى عليه السلام وعقيدة أهل الإسلام في ذلك [وقوله: (وأن عيسى عبد الله ورسوله) أي: خلافا لما يعتقده النصارى أنه الله، أو ابن الله، أو ثالث ثلاثة -تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً-، قال تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} [المؤمنون:91]، فلابد أن يشهد أن عيسى عبد الله ورسوله على علم ويقين بأنه مملوك لله خلقه من أنثى بلا ذكر، كما قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59]، فليس رباً ولا إلهاً، سبحان الله عما يشركون، قال تعالى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ ?وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا * ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [مريم:29 - 36]، وقال تعالى: {لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} [النساء:172]. ويشهد المؤمن أيضاً ببطلان قول أعدائه اليهود: إنه ولدُ بَغيٍّ. لعنهم الله تعالى، فلا يصح إسلام أحد علم ما كانوا يقولونه حتى يبرأ من قول الطائفتين جميعاً في عيسى عليه السلام، ويعتقد ما قاله الله تعالى فيه أنه عبد الله ورسوله]. هذه العقيدة التي جاء بها الوحي من الله في عيسى تبين أنه يجب على من علم ما قاله اليهود والنصارى أن يتبرأ من هذه الأقوال، أما إذا كان الإنسان خالي الذهن من ذلك وليس عنده شيء ولا علم بما قالته هذه الطائفة ولا تلك فإن إسلامه يصح إذا شهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإذا علم بذلك تبرأ منه، وهذا الذي ذكره بأنه لا يصح إسلام أحد يقيد بأن يكون عالماً بهذا القول الباطل، وبطلان ذلك ظاهر جداً؛ لأن هؤلاء في الواقع أهدروا حتى العقول، حيث ادعوا أن الله دخل في رحم المرأة -تعالى الله وتقدس- أو أن لله ولداً، وهذا كفر ما وصل إليه كفر الأولين، أو أن الله جل وعلا له شريك، وكذلك اليهود قابلوا هؤلاء تماماً، فهؤلاء غلوا في عيسى عليه السلام ورفعوه إلى مقام الربوبية واعتقدوا أنه رب العالمين الذي يخلق ويرزق، وأولئك اليهود جفوا في حقه حتى جعلوا أمه باغية، أي: زانية -قاتلهم الله جل وعلا- وقد نزه الله جل وعلا مريم عليها السلام من قول أعدائها، وجعل عيسى آية دالة على قدرة الله ووحدانيته، كما قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59]، وليس خلق عيسى بأعجب من خلق آدم، ولهذا جعل نظيراً له، فآدم خُلق من التراب لا من دم ولا من لحم ولا من عظم، وإنما خلقه الله من التراب وكوّن منه هذا الحي العاقل المستقيم، وكذلك خلقت زوجته منه، وكون امرأة خلقت من ذكر هذا أعجب من خلق عيسى، فهي خلقت من بضعة من جسده أخذت فخلقت منها امرأة سوية، وهذا هو أصل الخلق، ثم بعد ذلك جعل الله جل وعلا نسل آدم وزوجه من نطفة من ماء مهين، فتعارف عليه الخلق كلهم، فلما جاء شيء خلاف ذلك لم تستوعبه عقولهم القاصرة، فجعلوه الله -تعالى الله وتقدس- ثم كيف استساغت عقولهم أن رب السموات والأرض يُمسك ويُصلب على عيدان، ثم يُقتل وتوضع المسامير في عينيه، ومن ثم يموت؟! هل يعتقد هذا إلا مجانين لا عقلاء؟! ثم بعد ذلك يأتي لينتقم ممن فعله، وأنه وضع نفسه كذلك لأجل أن تحط الخطايا عن بني آدم. أي أن قدرة الله انتهت، ولا يمكن أن يغفر الخطايا حتى يمكن أعداءه من إهانته والتفل في وجهه وصفعه، ولكن الشيطان يتلاعب بعقل الإنسان حتى يجعله ألعوبة -نسأل الله العافية- فلهذا أصبح الإنسان به من الضرورة إلى سؤال الهداية الله جل وعلا بأن يهديه إلى الحق الذي ضل عنه أكثر الناس أشد من ضرورته إلى الأكل والشرب بكثير، والله جل وعلا أبطل هذه العقائد الفاسدة بالنص الذي أوحاه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، كما أبطل إدعاء الظلمة من اليهود، وبرأ عيسى وأمه مما رموهما به. وفي عقائد المسلمين بالإضافة إلى هذا أن عيسى عليه السلام رفع إلى السماء حياً ولم يمت، وأما قوله تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:55] فالوفاة هنا المقصود بها النوم؛ لأن النوم يسمى وفاة، كما قال الله جل وعلا في الآية الأخرى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى} [الزمر:42] يعني: يرسل التي توفيت في النوم. فالنوم يسمى وفاة، ولهذا صحت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو أيضاً من عقائد المسلمين في عيسى- أنه ينزل في آخر الزمان ويكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية، ولا يقبل إلا الإسلام، ويحكم بشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزوله ليس معناه أنه يأتي برسالة، وإنما يأتي مجاهداً لمن أعرض عن اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما كونه لا يقبل الجزية ويضعها فهذا حكم أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم وجاء به، فهو من رسالته وليس نسخاً لشريعته، فهذه الأمور يجب أن يعتقدها الإنسان، وهي كونه عبداً لله جل وعلا، وكونه خلق من أنثى بلا ذكر، وكونه منزهاً عما رماه به أعداؤه، كما أنه مبرأ مما يقوله أعداؤه ممن يزعمون أنهم أتباعه وهم أعداؤه في الواقع، وكذلك كونه رُفع إلى السماء حياً، ثم نزوله في آخر الزمان، ثم يُتوفى ويدفنه المؤمنون، ثم هو روح من سائر الأرواح التي خلقها الله جل وعلا واستنطقها واستشهدها وقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172]، ولهذا قال: وروح منه. يعني: روح خلقها كسائر الأرواح. كقوله جل وعلا: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية:13] أي: (منه): خلقاً وإيجاداً. فهذه الأمور إذا علمها الإنسان وجب عليه أن يتبرأ مما يخالفها وأن يعتقدها، بل علمها واجب؛ لأنها أنزلها الله جل وعلا في القرآن، والقرآن نحن مكلفون بالإيمان به ومعرفة ما جاء فيه، ولا يجوز لنا أن نجهله، بخلاف الأمور التي تفهم فهماً، فإن هذه مجالها واسع، وإذا أخطأ الإنسان فيها فربما يكون لخطئه عذر، أما النصوص التي نص عليها ربنا جل وعلا في كتابه وكذلك رسوله فإنه يجب أن نؤمن بها ونعتقد بمضمونها وما دلت عليه، ولا يجوز تجاهلها أو جهلها.

معنى كون عيسى عليه السلام كلمة الله

معنى كون عيسى عليه السلام كلمة الله [قوله صلى الله عليه وسلم: (وكلمته) إنما سمى عيسى عليه السلام كلمة لوجوده بقوله تعالى: (كن) كما قاله السلف من المفسرين. قال الإمام أحمد في الرد على الجهمية: (بالكلمة التي ألقاها إلى مريم حين قال له: (كن) فكان عيسى بـ (كن)، وليس عيسى هو (كن)، ولكن بـ (كن) كان، فـ (كن) من الله تعالى قول، وليس (كن) مخلوقاً، وكذب النصارى والجهمية على الله في أمر عيسى. انتهى]. معنى هذا الكلام من الإمام أحمد رحمه الله أنَّ هؤلاء شبهوا وقالوا: إن كلام الله مخلوق، وذلك أنه سبحانه أخبر أن عيسى كلمة الله، ومن المعلوم لدى كل الخلق أن عيسى مخلوق مولود من أنثى، ما عدا الضالين من النصارى، فهم الذين خالفوا في هذا وقالوا: إنه الله، وابن الله، وثالث ثلاثة. ولكن هذه ليست من عقائد المسلمين، بل هي منافية تمام المنافاة لعقائد المسلمين. وأما هؤلاء الذين يخاصمون الإمام أحمد من المسلمين فهم يقولون: إن الله لا يتكلم. وهذا تعطيل لله جل وعلا عن صفة الكلام، وجادلوه في هذا واحتجوا عليه بهذه الآية، أي أن عيسى كلمة من الله ألقاها إلى مريم، فقالوا: إذاً الكلام يطلق على المخلوق فمعنى هذا أن كلام الله مخلوق من الله، وإذا قلنا: إن الله يتكلم فمعنى ذلك أنه يخلق الكلام في مكان ما، فيكون هذا هو المعنى الذي يضاف إلى الله جل وعلا للكلام. وهذا من الضلال والانحراف، بل هو بين وواضح أنه ضلال وانحراف عن الحق، وذلك أن الكلام صفة كمال، والذي يتكلم أكمل ممن لا يتكلم، ولهذا عاب الله جل وعلا على عباد الأصنام كونهم يعبدون من لا يتكلم ولا يرد لهم قولاً ولا يجيبهم؛ لأن هذا نقص، وكذلك رسالة الله جل وعلا هي كلامه الذي يسمعه الملك ويأتي به إلى الرسول البشري، ثم يبلغه الرسول البشري أمته، فالذي ينكر الكلام معناه أنه ينكر الشرع وينكر الرسالات، ولكن إذا شبه مشبه بشيء مما في كتاب الله أو في أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم وجب كشف ذلك وإيضاحه لئلا تقع الشبهة في قلب أحد من المسلمين الذين لا يعرفون الأدلة. فبين الإمام أحمد أن معنى كون عيسى كلمة الله أنه مخلوق بكلمة الله، وهذا ليس خاصاً بعيسى، بل كل شيء يريده الله جل وعلا ويريد إيجاده وخلقه يقول له: (كن) فيكون، كما أراد الله جل وعلا من سائر المخلوقات، ولم يباشر الرب جل وعلا شيئاً من المخلوقات بيده إلا ما استثني من كونه خلق آدم بيديه، وغرس جنة عدن بيده، وكتب التوراة لموسى عليه السلام، والتوراة ليست مخلوقة؛ لأنها كلام الله كسائر كتبه، ولكن هذا للتشريف، فهو خصوصية خص بها آدم حيث خلقه بيده كما أخبر جل وعلا في أماكن من القرآن الكريم، وكذلك جنة عدن إكراماً لأوليائه وتخصيصاً للجنة بذلك، أما سائر المخلوقات فهو يقول لها: (كوني) فتكون كما أراد الله جل وعلا. والله جل وعلا يتعالى ويتقدس، فلا تقاس أفعاله وتصرفاته بأفعال خلقه، فهو الذي لا يعجزه شيء ولا يمتنع على قدرته شيء، فعيسى عليه السلام كسائر الأرواح التي إذا أراد وجودها لمجرد إرادته يقول لها: (كوني) فتكون، ولا يمكن أن توجد ذرة من الذرات التي تكون في السماء أو في الأرض إلا بإرادة الله جل وعلا، وسائر المخلوقات هكذا. فيكون عيسى معنى كونه كلمة أنه كون بالكلمة التي هي (كن)، وليس عيسى هو الكلمة، وإنما قيل: إنه كلمة الله لأنه وجد من أنثى بلا ذكر، وهذا خارج عما سن الله جل وعلا في الخلق من كون كل مخلوق لابد أن يكون من ذكر وأنثى، فلما خرج عن ذلك جعل بهذه الصفة بأنه (كلمة الله)، أي أنه يُكوَّن بلا أب بكلمة الله، ولا ينافي ذلك أن سائر المخلوقات تكون بكلمة الله؛ لأنها تولدت بين ذكر وأنثى، فأصبح الأمر لدى الخلق كلهم معلوماً وليس غريباً لديهم بخلاف هذا، ولهذا أضافه الله جل وعلا إليه؛ لأنه كلمته تكون بهذه الكلمة، ولهذا قال له: (كن) فكان. وأما كلام الله فهو معنوي صفة من صفاته، وكل شيء يضاف إلى الله جل وعلا يكون على قسمين: فإن كان المضاف إليه عيناً قائمة بنفسها، كناقة الله، وبيت الله، ورسول الله، وعبد الله، وما أشبه ذلك فهذا إضافته تكون إضافة مخلوق إلى خالقه، وقد تكون الإضافة هذه للتشريف، وهو لا يخرج عن ذلك، أي: لا يخرج عن كونه إضافة مخلوق إلى خالقه كناقة الله ورسول الله وبيت الله، فأضيف إلى الله تشريفاً، ولا يخرج بقية الأشياء هذه الإضافة، فما تخرج بقية الأشياء عن كونها مخلوقة لله، ولكنها ليست لها هذه المعاني التي وضعها الله جل وعلا فيها، فالرسول يأتي بحياة روحية من عند الله جل وعلا، فهو يدعو إلى عبادة الله ويبصر بذلك ويدل على الله، فلهذا أضيف إلى الله، وبيت الله لأنه مثابة للناس وأمناً يثبون إليه لأداء العبادة، ويطوفون به تعبداً لله جل وعلا، فأضيف إلى الله لأنه محل عبادته، وأما ناقة الله فلأنها آية دالة على الله جل وعلا، وهي خاصة -هذه الإضافة- بناقة صالح، وإلا فالنوق كلها نوق الله، ولكن ما أضيفت إلى الله كإضافة هذه التي أصبحت آية باهرة دالة على قدرة الله جل وعلا وعلى عظيم قدرته وسلطانه وأنه لا يعجزه شيء. أما القسم الثاني من المضاف إلى الله فهو أن يكون المضاف معنى، كعلم الله، وسمع الله، وقدرة الله، وكلام الله، وما أشبه ذلك، فهذا إضافته إلى الله إضافة صفة إلى موصوف، والصفة تقوم بالموصوف ولا يجوز أن تفارقه، فكلام الله وصفه، وكذلك علمه وسمعه وبصره، أما الأمور التي تكون خارجة عن الإضافة فلا إشكال فيها، فهي ظاهرة وواضحة، فيتبين بهذا أن كون عيسى أضيف إلى الله بأنه كلمته يكون لشيئين: أحدهما: أنه أوجد بالكلمة. والثاني: أنه آية من آيات الله أضيف إلى الله تشريفاً وإكراماً له. [وقوله صلى الله عليه وسلم: (ألقاها إلى مريم) قال ابن كثير رحمه الله: خلقه بالكلمة التي أرسل بها جبريل عليه السلام إلى مريم عليها السلام، فنفخ فيها من روحه بأمر ربه عز وجل فكان عيسى بإذن الله عز وجل، فهو ناشئ عن الكلمة التي قال له: (كن) فكان، والروح التي أرسل بها هو جبريل عليه السلام]. يقول الله جل وعلا: {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا} [مريم:17 - 19]. فالله جل وعلا أرسل إليها جبريل فتمثل لها بشراً؛ لأن الملك بصورته التي خلقه الله جل وعلا عليها ما يستطيع الإنسان البشر أن يراه أو يقابله، فهو صورة عظيمة جداً، ولهذا الرسول صلى الله عليه وسلم لما رآه على صورته فزع وخاف، وقد رآه مرتين فقط على صورته: مرة في الأرض قبل أن يوحى إليه بالتكليف بالرسالة عندما جاء بنبوته، وقد كان في مكة خالياً ببعض الأودية، فسمع مناديا ينادي: يا محمد! فالتفت يميناً وشمالاً فلم ير شيئاً، ثم سمع المنادي فالتفت فلم ير شيئاً، ثم رفع رأسه فإذا هو قد سد الأفق -أي: سد السماء من جميع الجهات بين السماء والأرض- وله أكثر من ستمائة جناح. والمرة الأخرى رآه في السماء السابعة عندما عرج به صلى الله عليه وسلم إلى سدرة المنتهى، وقد ذكر هذا ربنا جل وعلا في سورة النجم، فذكر أنه رآه مرتين، وسائر المرات التي كان يأتيه فيها في بعضها كان يتمثل له بشراً، كما جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: أنها سألته: من هذا الذي رأيته معك؟ فقال: (أورأيتيه؟ قالت: نعم. قال: فذاك جبريل)، وكانت تقول: ظننت أنه دحية الكلبي، وذلك أن دحية الكلبي كان رجلاً جميلاً من أجمل الناس، فكان جبريل يأتي أحياناً بصورته. كذلك الحديث الذي في الصحيحين، وهو في صحيح مسلم من حديث عمر، وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة أنهم كانوا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فطلع عليهم رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منهم أحد، فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع يديه على فخذيه، ثم قال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام؟ إلى آخره وفي آخر الحديث قال صلى الله عليه وسلم: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم). فهو يأتي متمثلاً بصورة بشر حتى يمكن أن يخاطب من أرسل إليه، أما الرسل فالوحي يأتيهم أحياناً على هذه الصورة، وأحياناً بصورة أخرى لا يرى منها جبريل، وإنما يلقي الكلام إلقاءً ثقيلاً، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا جاءه الوحي يتغشاه شيء يثقل عليه، حتى إنه يرى العرق يتصبب منه في اليوم الشاتي صلوات الله وسلامه عليه. فالمقصود أن الله جل وعلا أرسل جبريل إلى مريم يخبرها بأن الله جل وعلا أراد أن يخلق منها ولداً بغير أب فتعجبت من ذلك، فأخبرها أن قدرة الله جل وعلا ليس فيها عجب، ثم إنه نفخ في درعها -أي: في جيب درعها-، وهذا هو الروح، نفخ جبريل فانحدرت النفخة ودخلت في فرجها، كما قال الله جل وعلا: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} [التحريم:12] أي أن جبريل عليه السلام نفخ في جيب درعها وذهبت النفخة فدخلت في فرجها، فحملت بعيسى عليه السلام، فلما جاءها المخاض علمت أن الناس لا يصدقونها، فتمنت أنها كانت نسياً منسياً وأنه ما حدث لها هذا الشيء؛ لأن هذا شيء خلاف العادة التي يتعارفون عليها، ولكن الله جل وعلا جعله آية، ولهذا ضل فيه النصارى عن الحق، وإن كان منهم طائفة علموا هذا وآمنوا به الذين هم أتباع عيسى على الحقيقة، ولكن اليوم النصارى كلهم ضالون، وإذا ماتوا على ذلك فهم في جنهم بلا شك، وذلك أن دين عيسى عليه السلام قد نسخ بالشرع الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن عيسى عليه السلام جاء مبشراً برسول يأتي من بعده اسمه أحمد، فجاء أحمد صلوات الله وسلامه عليه ناسخاً لجميع الأديان، وأخبر أنه لو كان موسى عليه السلام حياً ما و

بين البدن والروح

بين البدن والروح [وقوله صلى الله عليه وسلم: (وروح منه) قال أبي بن كعب: عيسى روح من الأرواح التي خلقها الله عز وجل واستنطقها بقوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172] بعثه الله إلى مريم فدخل فيها. رواه عبد بن حميد، وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند، وابن جرير، وابن أبي حاتم وغيرهم]. هذا يقتضي أن الأرواح مخلوقة قبل الأبدان، كما هو ظاهر من أثر أبي بن كعب، وقد اختلف في هذه المسألة، اختلف العلماء فيها، وجاء في القرآن قول الله جل وعلا: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172]، وفي قراءة: ((ذرياتههم)). وقالوا: إن هذا يدل على أن الأرواح مخلوقة قبل الأبدان، وأن الله خلقها ثم استنطقها. أي: طلب نطقها، فاستشهدهم قائلاً لهم: (ألست بربكم)؟ فأقروا بذلك، فقالت الأرواح: (بلى) فشهدوا، وتمام الآية: {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف:172 - 173]. فذكر في هاتين الآيتين علتين مانعتين من كونه لا يفعل ذلك: العلة الأولى: لئلا يغفلوا عن أمر الله وعن تكليفه، ((أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين))، يعني: لئلا تقولوا أي: لئلا تحتجوا بالغفلة. فإن الله استنطق هذه الأرواح واستشهدها حتى لا تحتج بأنها كانت غافلة. الثانية: ألا يحتجوا بالتقليد، بأن يقولوا: وجدنا آباءنا مشركين يعبدون غير الله فاتبعناهم على ذلك، وما علمنا أنهم على باطل. ولهذا قال: ((أفتهلكنا بما فعل المبطلون)). ومقتضى هذا أن هذا الاستنطاق وهذا الاستشهاد يكون حجة قائمة عليهم -على الخلق- حتى لا يدعوا أنه ما جاءهم أمر من الله يمنعهم من التقليد ومن الغفلة. ومعلوم أن كل أحد من الناس اليوم لا يشعر بهذا العهد الذي أخذه الله وهذا الميثاق الذي أخذ على روحه، فكيف يكون حجة وهو لا يعلمه ولا يدري عنه شيئاً؟ فهذا مما يرد على هذا القول. والقول الثاني: المراد بأخذ الميثاق الفطرة التي أودعها الله جل وعلا في خلقه، حيث إن كل إنسان فطر على معرفة الله وعلى قبول الحق إذا جاءه، وهذا من الآيات التي تكون مستكنة في الإنسان، ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة)، والفطرة المقصود بها قبول الحق وكونه مستعداً له، وكونه أيضاً سالماً من الانحراف، وكونه محباً لعبادة الله جل وعلا مريداً، فهذه هي الفطرة، وهي في الواقع لا يخلو منها مولود، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما يغير هذه الفطرة المربي من الوالد والوالدة أو المعلم الذي يتولى تربيته، فهم الذين يغيرونها، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في تمام الحديث: (فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه). فمعنى هذا أن أولاد الكفار ولدوا مستعدين لقبول الحق وإرادته وكونهم فطروا على ذلك، فيكون شاملاً عاماً لكل أحد؛ لقوله: (كل مولود)، وهذا ظاهر واضح. وكذلك احتجوا بحديث عبد الله بن مسعود المتفق عليه في الصحيحين، وهو قوله رضي الله عنه: (حدثنا الصادق المصدوق: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً. نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد)، فقوله: (فيبعث إليه الملك فينفخ فيه الروح) معناه أن البدن خلق قبل الروح. وأجاب أهل القول الأول عن هذا بأن هذا لا يدل على أن البدن خلق قبل الروح، بل كانت الأرواح مخلوقة ثم ترسل إلى أبدانها شيئاً بعد شيء، وهناك حجج غير هذه، والمقصود أن هذه مسألة خلافية. والقول الذي ذكره أبي مشهور جداً، وفيه آثار كثيرة عن السلف، وأكثر المفسرين الذين تكملوا على قوله جل وعلا: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف:172] لم يذكروا إلا هذا القول، ولم يذكروا القول الثاني، فيكون ذلك واضحاً وظاهراً في أن روح عيسى عليه السلام كسائر الأرواح التي خلقت يوم خلقها الله جل وعلا واستنطقها واستشهدها. [قال الحافظ رحمه الله: وَوَصفه بأنه منه، فالمعنى أنه كائن منه. كما في قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية:13]، فالمعنى أنه كائن منه، كما أن معنى الآية الأخرى أنه سخر هذه الأشياء كائنة منه، أي أنه مكون ذلك وموجده بقدرته وحكمته تعالى.

المضاف إلى الله تعالى بين كونه معنى وكونه عينا

المضاف إلى الله تعالى بين كونه معنى وكونه عيناً قال شيخ الإسلام رحمه الله: المضاف إلى الله تعالى إذا كان معنىً لا يقوم بنفسه ولا بغيره من المخلوقات وجب أن يكون صفة لله تعالى قائمة به، وامتنع أن تكون إضافته إضافة مخلوق مربوب، وإذا كان المضاف عيناً قائمة بنفسها كعيسى وجبريل عليهما السلام وأرواح بني آدم امتنع أن تكون صفة لله تعالى؛ لأن ما قام بنفسه لا يكون صفة لغيره]. المعنى يكون قائماً بنفسه أو غير قائم بنفسه، ومعنى ذلك أن الذي يكون قائماً بنفسه هو الشيء الذي يشاهد ويرى ويظهر، مثل الجسد، ومثل البيت، ومثل الناقة، وما أشبه ذلك؛ لأنها ترى وتشاهد وتشغل مكاناً، فهي قائمة بنفسها. أما الشيء الذي لا يقوم بنفسه فمثل السمع والبصر والكلام والقدرة والإرادة وما أشبه ذلك من المعاني؛ لأنه لا يوجد كلام مستقل بنفسه من غير متكلم، فكل ما جاء من هذا القبيل -أي: الشيء الذي لا يقوم بنفسه- مضافاً إلى الله يكون صفة له جل وعلا. أما الشيء الذي يقوم بنفسه مثل الناقة والبشر والملك وغير ذلك فإضافته إلى الله -كما سبق- إضافة تشريف، وتكون إضافة مخلوق إلى خالقه تعالى وتقدس أضافه إليه تشريفاً له وتكريماً. قال رحمه الله تعالى عن شيخ الإسلام: [لكن الأعيان المضافة إلى الله تعالى على وجهين: أحدهما: أن تضاف إليه لكونه خلقها وأبدعها. فهذا شامل لجميع المخلوقات، كقولهم: سماء الله وأرض الله. فجميع المخلوقين عبيد الله، وجميع المال مال الله. والوجه الثاني: أن يضاف إليه لما خصه به من معنى يحبه ويأمر به ويرضاه، كما خص البيت العتيق بعبادة فيه لا تكون في غيره، وكما يقال في مال الخمس والفيء: هو مال الله ورسوله. ومن هذا الوجه فعباد الله هم الذين عبدوه وأطاعوا أمره، فهذه إضافة تتضمن ألوهيته وشرعه ودينه، وتلك إضافة تتضمن ربوبيته وخلقه. انتهى ملخصا].

الإيمان بالجنة والنار من لوازم التوحيد

الإيمان بالجنة والنار من لوازم التوحيد [وقوله صلى الله عليه وسلم: (والجنة حق والنار حق) أي: وشهد أن الجنة التي أخبر بها الله تعالى في كتابه أنه أعدها للمتقين حق -أي: ثابتة لا شك فيها- وشهد أن النار التي أخبر بها تعالى في كتابه أنه أعدها للكافرين حق كذلك ثابتة، كما قال تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21]، وقال تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:24]، وفي الآيتين ونظائرهما دليل على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن، خلافا للمبتدعة. وفيهما الإيمان بالمعاد]. من الأمور الظاهرة والواضحة جداً عند جميع المسلمين كون الجنة مخلوقة، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (وأن الجنة حق والنار حق) الحق في اللغة: هو الشيء الثابت المستقر الذي لا يزول. يعني أن الله خلق الجنة والنار وأعدهما، أعد الجنة للطائعين والنار للعاصين، فلابد من الشهادة بذلك يقيناً. وأما كونها مخلوقة الآن فكذلك الأدلة فيها ظاهرة، والذين خالفوا فيها في الواقع ليس لهم مستند إلا عقولهم وقياسهم على أفعال بني آدم، فقاسوا فعل الله جل وعلا على فعل بني آدم، وهذا ضلال في الواقع، وقد أخبر الله جل وعلا أن الجنة والنار كلاهما معدة، والإعداد هو وجود الشيء وتهيئته، والرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا أنه اطلع في الجنة والنار، وأخبر أن أكثر أهل النار النساء، وقال: (إني رأيت أكثر أهل النار النساء)، وأمرهن بالصدقة. وكذلك أخبر أنه رأى فيها عمرو بن لحي الخزاعي يجر قصبه فيها لأنه أول من غير دين إبراهيم، ولأنه أول من سيب السوائب وحمى الحامي وغير دين إبراهيم، وكذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (دخلت امرأة النار في هرة حبستها، لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، فرأيتها تخمشها في النار) أي: تخمش وجهها إلى غير ذلك من النصوص التي جاءت صريحة بوجود الجنة والنار الآن. وفي الحديث الصحيح: (أن الله جل وعلا لما خلق الجنة قال لها: تكلمي. فقالت: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1])، وفي الحديث الصحيح الآخر: (أن الجنة والنار احتجتا، فقالت الجنة: مالي يدخلني الضعفاء والمساكين وسقط الناس؟! وقالت النار: مالي يدخلني الجبارون والملوك؟! فقال الله جل وعلا للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء. وقال للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء، ولكل واحدة منكما علي ملؤها)، فأما الجنة فإنه إذا دخلها أهلها يبقى فيها فضل مساكن، فينشأ الله جل وعلا لها خلقاً فيسكنهم فضل الجنة، وأما النار فإذا ألقي فيها الكفار وأهلها لا تزال تقول: هل من مزيد. ونسأل الله جل وعلا أن نكون من المستمعين المنتفعين.

شرح فتح المجيد [12]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [12] لا يصح إسلام أحد حتى ينطق بكلمة التوحيد، ومع نطقه بها يجب عليه أيضاً الاعتقاد بمعناها، والذي هو إبطال كل مألوه غير الله، والتوجه بالعبادة لله جل وعلا وحده، ثم لابد من العمل بهذا المعنى، وذلك بالتزام ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم والحج.

أثر كلمة التوحيد في الآخرة

أثر كلمة التوحيد في الآخرة

عصمتها لصاحبها من دخول النار وقيد ذلك

عصمتها لصاحبها من دخول النار وقيد ذلك قال المصنف رحمه الله: [ولهما في حديث عتبان: (فإن الله حرم على النار من قال: (لا إله إلا الله) يبتغي بذلك وجه الله)]. حديث عبادة السابق جاء غير مقيد؛ فإنه قال صلى الله عليه وسلم: (من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل)، وحديث عتبان قيد هذا بأن الإنسان يأتي بهذا المشروط بأن يشهد هذه الشهادة عن علم ويقين ومعرفة، وأنها تقتضي العمل، فيعمل بما دلت عليه، فإذا جاء بذلك وإن كانت له ذنوب فإن الله يدخله الجنة، فهو مطلق بدون قيد، وأما في حديث عتبان هذا فإنه قيده بقوله: (لا إله إلا الله) يبتغي بذلك وجه الله، ومعنى (يبتغي بذلك وجه الله) أن يكون مخلصاً في قولها مريداً بذلك النجاة من عذاب الله والفوز بثوابه ونعيمه، لا يريد غير هذا، وهذا معنى ابتغاء وجه الله، فيقولها راغباً في الثواب وهارباً من العذاب. ومعلوم أن الذي يقولها على هذه الصفة تكون رغبته في الآخرة أكثر من رغبته في الدنيا، وأنه يعمل العمل الذي يستطيعه، ولا يدخر عملاً للآخرة؛ لأنه واثق بأنه سيقدم على ربه ويجازيه على عمله فيجتهد في ذلك. فمعنى (يبتغي بذلك وجه الله) أنه يريد من الله جل وعلا ثوابه الذي يثيب به من كان مخلصاً لله جل وعلا في عمله، وكذلك يخشى ضد ذلك، فهو يخشى إن لم يكن مخلصاً في عمله وصادقاً مع ربه أنه يعذب، فيخاف أنه لو لم يقل ذلك صدقاً وإخلاصاً أن يعذبه الله جل وعلا. فإذا كان بهذه المنزلة على هذه الصفة فإن الله جل وعلا يحرمه على النار، وهذا أعظم مما في حديث عبادة؛ لأن الذي في حديث عبادة مجرد وعد بأنه يدخل الجنة على ما كان من العمل، وإدخاله الجنة على ذلك لا ينافي أن يناله ما يناله في مواقف الآخرة أو في القبر أو بعد ذلك، وإنما يدل على أن مآله إلى دخول الجنة، ولابد أن يدخل الجنة، وإن كان عنده أعمال سيئة فهذه الأعمال يتجاوز الله جل وعلا عنها، أو قد يصيبه بعض ما يستحق، أما هذا فإنه يحرم على النار، ومعنى ذلك أنه لا يدخل النار أصلاً، ولكن بشرط أن يكون يبتغي بذلك وجه الله، وابتغاء وجه الله عرفنا أنه الإخلاص، والإخلاص أن يكون العمل خافياً مخلصاً من كل شائبة تلحقه من شوائب الدنيا أو مرادات النفس، أو ما هو مقصود لغير الآخرة، فيكون خالصاً وصافياً ليس فيه شيء. وهذا الذي يكون عمله بهذه المثابة يكون قلبه محباً لله مقبلاً على الله بصدق، وليس فيه إرادة لغير الله جل وعلا، ولا يمكن أن يكون محباً للباطل، ولا يمكن أن يكون محباً لما ينهى الله عنه ويحرمه، ولا يكون مانعاً للواجب الذي أوجبه الله عليه؛ لأنه مخلص لله، ولأنه متجه إلى الله جل وعلا بالمحبة والإخلاص والصدق، فمن كان بهذه المثابة فلا يحول بينه وبين دخول الجنة إلا الموت، فإذا مات فتح له باب إلى الجنة وقيل: انظر إلى منزلك وما أعده الله جل وعلا لك. عند ذلك يقول: يا رب! أقم الساعة حتى أذهب إلى منزلي. لأن الذي خلص من الشرك دقه وجله وكثيره وقليله خلص؛ لأنه قال ذلك ابتغاء وجه الله، ودفعه إلى ذلك محبته التي في القلب لله جل وعلا وإقباله على الله، فهو مغتبط بأمر الله، كاره لكل ما نهى الله عنه مبغض له، ومثل هذا لا يقع في ذنب إلا أن يغره الشيطان وتسول له النفس، ثم إذا وقع في ذلك فسرعان ما يقلع ويتوب، وإلا فلا يوجد أحد ينفك عن الذنوب أبداً، فكل بني آدم خطاء، ولكن مثل هذا لا يستمر على ذنب بإذن الله؛ لما في قلبه من الإقبال على الله ومحبة الله جل وعلا، فهذا معنى كونه يحرم على النار من قال: (لا إله إلا الله) يبتغي بذلك وجه الله. وهناك أحاديث تدل على أن من يقول: (لا إله إلا الله) يدخل النار، وهي أحاديث متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجمع بينها أن الذي يقولها غافلاً ويقولها غير صادق وغير مقبل على الله جل وعلا بكليته فله مجرد وعد فقط، فإنه يدخل النار إذا شاء الله ثم يخرج منها إلى الجنة، أما هذا الذي حرم على النار فلابد أن يكون صادقاً مخلصاً مقبلاً على الله جل وعلا، أو أنه يقولها تائباً مما حدث منه توبة نصوحاً مقلعاً عن كل ذنب مقبلاً على ربه ثم يموت على ذلك بعد قولها، فإنه إذا كان أيضاً بهذه المثابة فإن (لا إله إلا الله) إذا صدرت على هذه الصفة لا تقوم أمامها سيئة أبداً، فتمحو السيئات كلها إذا جاءت على هذه الصفة.

كلمة التوحيد مع اكتساب الذنوب

كلمة التوحيد مع اكتساب الذنوب قال الشارح رحمه الله تعالى: [قال شيخ الإسلام رحمه الله: فمن قال: (لا إله إلا الله) ولم يقم بموجبها بل اكتسب مع ذلك ذنوباً، وكان صادقا في قولها موقناً بها، لكن له ذنوب أضعفت صدقه ويقينه، وانضاف إلى ذلك الشرك الأصغر العملي، فرجحت هذه السيئات على هذه الحسنة ومات مصراً على الذنوب بخلاف من يقولها بيقين وصدق فإنه إما ألا يكون مصراً على سيئة أصلاً، ويكون توحيده المتضمن لصدقه ويقينه رجح حسناته، والذين يدخلون النار ممن يقولها إما أنهم لم يقولوها بالصدق واليقين التام المنافيين للسيئات أو لرجحانها، أو قالوها واكتسبوا بعد ذلك سيئات رجحت على حسناتهم، ثم ضعف لذلك صدقهم ويقينهم، ثم لم يقولوها بعد ذلك بصدق ويقين تام؛ لأن الذنوب قد أضعفت ذلك الصدق واليقين من قلوبهم، فقولها من مثل هؤلاء لا يقوى على محو السيئات فترجح سيئاتهم على حسناتهم. انتهى ملخصا. وقد ذكر هذا كثير من العلماء، كـ ابن القيم وابن رجب وغيرهما، قلت: وبما قرره شيخ الإسلام تجتمع الأحاديث. قال: وفي الحديث دليل على أنه لا يكفي في الإيمان النطق من غير اعتقاد وبالعكس]. المعنى أن الإنسان لا يصح إسلامه ودخوله في الإسلام حتى ينطق بهذه الكلمة، فيتكلم بها ويتلفظ بها، وكذلك لابد أن يعتقد صحة معناها ويعمل بهذا المعنى، فلابد أن يعرف المعنى، وأن معناها إبطال كل مألوه غير الله، والتوجه بالتأله الذي هو العبادة لله وحده جل وعلا، وأن كل عبادة تصرف لغير الله شرك، وأن صاحبها عمله يحبط بذلك، فإذا مات عليه فهو من أهل النار. فهذا لابد من اعتقاده، ولابد من العمل بألا يشرك بالله جل وعلا، وأن يلتزم ما جاء به الرسول من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم والحج، وهي أركان الإسلام الخمسة التي أعلمنا صلوات الله وسلامه عليه أن الإسلام بني عليها، فلابد من الالتزام بذلك. أما أن يقول هذه الكلمة وهو لا يصلي ولا يصوم، أو لا يحرم المحرمات مثل الزنا والربا وما أشبه ذلك فقوله إياها لا يفيد؛ لأنه في الواقع ما عمل بما دلت عليه، وما عمل بمقتضاها، فلابد من اعتقاد ما دلت عليه مع قولها والعمل، ولهذا اتفق أهل السنة أن الإيمان يتكون من أمور ثلاثة، من قول وعقيدة في القلب وعمل، ولو تخلف واحد من هذه الأمور الثلاثة لا يكون الإيمان صحيحاً، فأما الذين خالفوا في هذا فهم في الواقع ضالون؛ لأنهم تركوا ما دل عليه الكتاب والسنة بالنص. فلو أن إنساناً اعتقد في قلبه أنه لا إله إلا الله، وأن كل آلهة غير الله باطلة، ولكنه لم ينطق بذلك ومات على هذا باتفاق العلماء يكون كافراً ليس بمسلم، فلابد من النطق؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من شهد)، فلابد من الشهادة، والشهادة تقتضي الإخبار بالكلام عما اعتقده في قلبه، ولهذا كان صلوات الله وسلامه عليه يدعو الناس إلى النطق بها وإلى قولها، وكان يقول لهم: قولوا: (لا إله إلا الله) و (اشهدوا ألا إله إلا الله)، ولما تبعه رجل من المشركين كان معروفاً بالنجدة والشجاعة يوم بدر فلحقه ليقاتل معه ففرح به أصحابه لأنه عرف بشجاعته وإقدامه وقال: إني جئت لأنصرك. ولقال له: (أتشهد ألا إله إلا الله وأني رسول الله؟) قال: لا. قال: ارجع؛ فإني لا أستعين بمشرك. فلابد من الشهادة حتى يبنى عليها العمل، فيشهد أنه (لا إله إلا الله)، ثم بعد ذلك الأعمال تبنى عليها، وإلا فتكون الأعمال كلها باطلة غير معتد بها.

أثر كمال التوحيد ونقصانه في الآخرة

أثر كمال التوحيد ونقصانه في الآخرة قال الشارح رحمه الله تعالى: [وفيه تحريم النار على أهل التوحيد الكامل]. التوحيد الكامل هو الذي يكون مع الإخلاص بالصدق واليقين والعلم والمحبة والإقبال، يعني أن يتحلى الإنسان بهذه الأمور والاستسلام لله جل وعلا، والواقع أن التوحيد الكامل يكون في الذين أخبر الله جل وعلا عنهم أنهم يأتون بقلوب سليمة، كما قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:89]، فالقلب السليم هو الذي سلم من التعلق بغير الله جل وعلا، فهو صاحب التوحيد الكامل، وهذا هو الذي يحرم على النار، أما إذا كانت عنده ذنوب فالذنوب إما أن تلحق بالشرك الأصغر أو تلحق بالأكبر، فبخل الإنسان بشيء من زكاة ماله كونه إنما دعاه إليه محبة المال، وحبه للمال قدمه على محبة الله وعلى أمر الله، وهذا نوع من الشرك، وكذلك كون الإنسان يقدم على فعل الباطل حباً له إما شهوة تدعوه إلى ذلك، أو ألفة، أو تسويف من الشيطان وهو يعلم أن الله نهى عنه، فهذا في الواقع قدم هوى نفسه، أو أمر مخلوق قدمه على أمر الله جل وعلا وهو نوع من الشرك، وهكذا في جميع الذنوب. فالإنسان إذا كان مرتكباً للذنوب ليس توحيده كاملاً من كل وجه، بل ناقص، ولهذا يدخل النار ثم بعد ذلك يخرج منها بحسب ذنوبه وإجرامه، ولكنه إذا مات على التوحيد ولو لم يكن توحيده كاملاً وكان ناقصاً فإنه لابد من إخراجه من النار، أما الذي لا يخرج من النار فهو الذي يموت وليس معه توحيد، إنما هو مشرك، والتوحيد لا يمكن أن يجتمع مع الشرك الأكبر أبداً، فإذا وجد الشرك الأكبر انتفى التوحيد تماماً. كإنسان يتقدم إلى عبادة مقبور يسأله ويتضرع إليه ويقول: اكشف الضر عني أو: ادفع عني أذى العدو. أو اشف مرضي. أو هب لي رزقاً. أو: هب لي ولداً. أو ما أشبه ذلك من السؤال الذي لا يجوز أن يكون إلا لله جل وعلا، ويموت على هذا، فإن هذا هو الشرك الأكبر، ولو كان يصلي ويصوم ويتصدق ويعمل الأعمال فعمله مردود؛ لأن الله لا يغفر أن يشرك به، وبقية الذنوب غير الشرك الأكبر علقها ربنا جل وعلا بمشيئته فقال: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فكل الذنوب -ما عدا الشرك- معلقة بمشيئة الله، ومعنى كونها معلقة بمشيئة الله أنه إذا شاء أن يغفرها بدون مؤاخذة غفر، وإن شاء أن يؤاخذ عليها ويعاقب عليها عاقب عبده، ثم بعد ذلك مآله إلى الجنة. ولهذا فكل من مات على الإسلام وليس عنده شرك أكبر وإن كانت عنده ذنوب كثيرة فهو يرجى له الخير، ويكون مآله إلى الجنة وإن ناله ما ناله، والذي يناله كله يكون مكفراً لهذه الذنوب، فيكون عقاباً لما ارتكبه من المعاصي.

شرط صلاح العمل وقبوله

شرط صلاح العمل وقبوله

الأخلاص لله تعالى

الأخلاص لله تعالى قال الشارح رحمه الله تعالى: [وفيه أن العمل لا ينفع إلا إذا كان خالصا لوجه الله تعالى على ما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم]. هذان الأمران لابد منهما في جميع الأعمال، أي: كون العمل يكون خالصاً لله، وكونه يكون على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل عمل، أما إذا تخلف شرط من هذين في عمل من الأعمال فهو مردود على صاحبه، كما إذا وجد الشرك في العمل، وليس معنى هذا أن الإنسان إذا أشرك في عمل من الأعمال يكون جميع عمله حابطاً، وإنما يكون ذلك العمل الذي قارنه الشرك حابطاً باطلاً، وإذا تاب تاب الله عليه، وإذا عمل أعمالاً خالصة لله قبلها الله جل وعلا بشرط ألا يكون فيها شرك. أما العمل الذي يقارنه شرك، مثل إنسان أخرج صدقة ولكنه يريد بإخراجه أن يمدح ويثنى عليه فيقال: هو يتصدق، وهو جواد، وهو كريم فإن مثل هذا غير مقبول، ولا يقبله الله جل وعلا؛ لأنه أراد قول الناس، وأراد ثناءهم ومدحهم، فصدقته هذه حابطة ليس له منها شيء. وكذلك لو صلى وحسَّن صلاته لأن الناس ينظرون إليه فيثنون عليه ويمدحونه فيقولون: هو يصلي بخشوع، وهو تقي، وهو يقبل على صلاته بأدب. فهو يريد مدح الناس، ويريد أن يثنوا عليه ويمدحوه، ثم يريد أن يحبوه على ذلك، فإنه ليس له إلا ما أراد، فصلاته مردودة عليه؛ لأنه جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله جل وعلا يقول: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه). أي: تركت ذلك العمل وشركه. أي: وشريكه الذي أشرك. فيصير العمل خالصاً لذلك الشريك، ولهذا إذا كان يوم القيامة يقول الله له: (اذهب إلى من أشركته في العمل فاطلب أجرك منه)، فليس له شيء، فلا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً لله جل وعلا. ثم لو حدث مثل هذا، كإنسان حسن صلاته وزينها وتأدب فيها لأجل نظر آخر فليس معنى ذلك أن أعماله كلها حابطة، ولكن هذا العمل الذي زينه لأجل نظر الإنسان مردود عليه، أما إذا عمل أعمالاً خالصة لله فهي مقبولة تقبل، وإن كان يعاقب على كونه يشرك بالله جل وعلا؛ لأن هذا من المحرمات العظام، فلا يجوز أن يقصد بالعمل غير الله جل وعلا.

موافقة الشرع

موافقة الشرع أما الشرط الثاني فهو موافقة السنة، ومعنى ذلك أن الإنسان لا يجوز له أن يقدم على عمل من الأعمال إلا وهو مشروع، ولهذا يقول العلماء: إن الأصل في العبادات التوقيف حتى يأتي الدليل على أنها مشروعة. ولا يجوز للإنسان أن يقدم على عبادة من العبادات وهو لا يعرف أنها مشروعة، وإلا كان ممن يشرع برأيه أو نظره، ويكون مبتدعاً. فإن البدع هي العبادات التي لم يأت بها الرسول صلى الله عليه وسلم، فكل عبادة لم يأت بها الوحي فهي بدعة، والبدع مردودة على أصحابها، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، فقوله: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا) يعني: ليس على الشرع، وليس مأموراً به بالكتاب والسنة؟ (فهو رد) مردود على صاحبه. فلابد لكل عمل من هذين الشرطين، أي: أن يكون العمل مراداً به وجه الله خالصاً لله جل وعلا، وأن يكون مأموراً به شرعاً ومشروعاً شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإلا كان الإنسان يعمل عملاً حابطاً، كما قال الله جل وعلا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية:2 - 4] فعندها خشوع، وعندها نصب للعمل، ولكن في الآخرة تصلى ناراً حامية؛ لأنها تتعبد الله جل وعلا بالبدع، وإن كانوا يبكون ويخشعون فبكاؤهم وخشوعهم خسارة، فعندهم الخشوع والنصب التعب، ولكن الواقع في الآخرة أنه تصلى وجوههم ناراً حامية، ويسقون من عين آنية؛ لأنهم تعبدوا الله بالبدع لآرائهم وأقوال الناس التي ليس عليها دليل، فلابد أن يكون الإنسان في عبادته متبعاً لا مبتدعاً. [تنبيه: قال القرطبي في تذكرته: وقوله في الحديث: (من إيمان) أي: من أعمال الإيمان التي هي من أعمال الجوارح، فيكون فيه دلالة على أن الأعمال الصالحة من الإيمان، والدليل على أنه أراد بالإيمان ما قلناه ولم يرد مجرد الإيمان الذي هو التوحيد ونفي الشركاء والإخلاص بقول لا إله إلا الله، ما في الحديث نفسه من قوله: (أخرجوا)، ثم بعد ذلك يقبض سبحانه قبضة فيخرج قوماً لم يعملوا خيراً قط، فيريد بذلك التوحيد المجرد من الأعمال. انتهى ملخصاً من شرح سنن ابن ماجة]. قول القرطبي هذا لأن العلماء اتفقوا على أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن، كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه بعث منادياً ينادي أنه لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة. وهذا عام شامل، فكذلك الأعمال تبع للإيمان، فإذاً يكون معنى قوله: (أخرجوا من النار من قال: (لا إله إلا الله) وفي قلبه مثقال حبة من خير)، وجاء في لفظ آخر: (من إيمان) أنه الشيء الزائد على هذا القول، فهو أمر زائد على أصل الإيمان، أما أصل الإيمان فهو موجود، وهو الذي به يخرج من النار ويدخل الجنة، ولكن لابد من عمل وإن قل؛ فأن الله جل وعلا يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النساء:40] يعني: مثقال الذرة إن يك حسنة يضاعفه. وإذا كان للإنسان حسنة ولو مثقال ذرة زائدة على سيئاته فإن الله جل وعلا يضاعف هذا المثقال ويدخله به الجنة، فهذا فضل عظيم. وهكذا في هذا الحديث الذي فيه أنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة، أي: مثقال الذرة زائداً على قول (لا إله إلا الله) أصل الإيمان، حتى لا يكون هذا مكرراً فيكون آخره هو أوله، فالرسول صلى الله عليه وسلم ينزه كلامه عن ذلك، وهذا شيء معقول في الواقع، ولهذا قال: إن الدليل عليه هو ما في نفس الحديث.

شرح فتح المجيد [13]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [13] الله تعالى هو المعبود بحق، فلا معبود بحق سواه، وهذا هو معنى كلمة التوحيد (لا إله إلا الله)، ولعظم هذه الكلمة وما دلت عليه جاءت الأحاديث ببيان فضلها، وأي فضل لها أعظم من أنها لو وضعت المخلوقات كلها في كفة ووضعت هذه الكلمة في كفة لمالت بهن؟ ولهذا كانت أفضل ما قاله النبيون عليهم الصلاة والسلام.

حديث موسى عليه السلام ودلالاته

حديث موسى عليه السلام ودلالاته

فضل كلمة التوحيد والدلالة على علو الله تعالى

فضل كلمة التوحيد والدلالة على علو الله تعالى قال المصنف رحمة الله عليه: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قال موسى عليه السلام: يا رب! علمني شيئا أذكرك وأدعوك به. قال: قل يا موسى: (لا إله إلا الله). قال: كل عبادك يقولون هذا! قال: يا موسى! لو أن السموات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة، و (لا إله إلا الله) في كفة مالت بهن (لا إله إلا الله)) رواه ابن حبان والحاكم وصححه]. هذا فيه أيضاً فضل لهذه الكلمة وعظم ثوابها، وأن قولها إذا كان بإخلاص وصدق لا يقاومه شيء، لا في الوزن، ولا في الفضل؛ فإنه قال: (لو أن السموات السبع وعامرهن غيري)، فاستثنى نفسه جل وعلا ممن في السماء، وهذا دليل على أن الله جل وعلا في العلو في السماء.

السماء وما تطلق عليه

السماء وما تطلق عليه السماء إذا جاءت في كلام العرب تحتمل شيئين: أحدهما: مطلق العلو، فكل ما فوقك سماء, والثاني: السماء المبنية التي أخبر الله جل وعلا بها، وكله جاء في القرآن. أما المعنى الأول فمثل قوله جل وعلا: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ} [الحج:15]، فالسبب الذي يمده إلى السماء يجعله في السقف، والمعنى: إذا كان الإنسان يظن أن الله لا ينصر رسوله فليعجل بقتل نفسه بأن يجعل حبلاً في سقف البيت الذي فوقه، ثم ليضعه في حلقه، ثم ليقطع حياته وينتحر، فإن الله لابد أن ينصر رسوله. فإذاً السماء في هذا المقصود بها ما فوق رأس الإنسان، فكل ما فوق رأس الإنسان يسمى سماء، وكذلك قول الله جل وعلا: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16]، وأما كونها جاءت في السماء المبنية فقوله جل وعلا: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} [ق:6] في آيات كثيرة جداً. فهنا قوله في هذا الحديث: (لو أن السماوات السبع) قصد بها السماوات المبنية، وأنها سبع سماوات، وهذا جاء في آيات متعددة كثيرة، وكل سماء فوق الأخرى، وأعلاهن السماء السابعة، فجاء في حديث المعراج أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما ذهب بصحبة جبريل عليه السلام كان جبريل يستفتح -أي: يطلب أن يفتح له باب السماء- ثم يسأل فيقال له: من؟ فيقول: جبريل. فيقولون: ومن معك؟ فيقول: محمد. فيقولون له: أوبعث؟ فيقول: نعم. فيفتح له، وهكذا في جميع السماوات كان يقول ويقال له. وكذلك في حديث البراء بن عازب في قصة الاحتضار، وأن الإنسان إذا كان في إقبال من الآخرة وإدبار من الدنيا نزل إليه -إذا كان مؤمناً- ملائكة بيض الوجوه معهم حنوط من الجنة وكفن من الجنة فجلسوا منه مد البصر، ثم جاء ملك الموت وصار يخاطب روحه ويقول: أيتها الروح الطيبة في الجسد الطيب! أخرجي إلى روح وريحان ورب غير غضبان. فتخرج تنسل كما تخرج قطرة الماء من في السقاء، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها ويضعوها في ذلك الكفن وذلك الحنوط، فيصعدون بها إلى السماء فيستفتحون لها باب السماء فيفتح لها. وهكذا إلى أن تصل إلى السماء السابعة، فإذا وصلوا إلى السماء السابعة واستفتحوا فتح لها، فيقول الله جل وعلا لملائكته: (اكتبوا كتابه في عليين، وأعيدوه إلى الأرض؛ فإني منها خلقتهم وإليها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى). أما إذا كان فاجراً فإنه إذا جاءه ملك الموت يقول له: أيتها الروح الخبيثة في الجسد الخبيث! اخرجي إلى سخط وغضب من الله فتتفرق في بدنه وتتشبث بعروقه وأعصابه، فينتزعها انتزاعاً شديد كما ينتزع السفود إذا أدخل في الصوف المبلول، والسفود: هو الحديدة التي يشوى عليها اللحم، إذا أدخلت في صوف مبلول وهي محماة يلتف عليها الصوف، فينتزعها ويخرج معها ما يخرج من شدة التشبث والتمسك؛ لأنها علمت بالعذاب أنه وصلها، فإذا استخرجها لا يدعها الملائكة الذين نزلوا معهم مسوح من النار وكفن من النار وحنوط من النار، فلا يدعونها في يده طرفة عين حتى يأخذوها ويضعوها في ذلك الكفن وذلك الحنوط، ثم يصعدون بها إلى السماء، ويخرج منها أخبث رائحة وجدت على وجه الأرض، نسأل الله العافية. فإذا وصلوا إلى السماء الدنيا واستفتحوا لم يفتح له، ولهذا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ} [الحج:31]، فيؤمر أن تطرح طرحاً، وقد قال تعالى: {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف:40]، وكون الجمل يدخل في ثقب الإبرة لا يمكن، يعني أنه مستحيل دخولهم الجنة، فالمقصود أن السماء لها أبواب مبنية. وقوله في هذا الحديث: (عامرهن غيري) يدل على أن كل سماء لها عمار، والعمار هم الذين يكونون فيها للعبادة والعمل، والذين في السماء ملائكة الله، وكل سماء مملوءة من الملائكة الذين خلقوا للعبادة، والله غني بذاته عن كل ما سواه، فلا يتقوى بملائكته ولا يستنصر بهم، ولكنه خلقهم ليأمرهم وينهاهم، وهم يعبدون الله لا يعصونه طرفة عين. وقد جاء في الحديث ما يدل على كثرتهم الكاثرة؛ فإنه جاء قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أطت السماء وحق لها أن تئط)، والأطيط: هو صوت الشيء المحمول فإذا حمل على خشب أو على غيره حمل ثقيل صار له صرير، فهذا الصرير يسمى أطيطاً، فمعنى ذلك أن السماء محملة بكثرة الملائكة. فيقول: (أطت السماء وحق لها أن تئط؛ ليس فيها موضع قدم إلا وملك ساجد أو راكع أو قائم)، وهذا إلى قيام الساعة، فإذا قامت الساعة قالوا: سبحانك ربنا! ما عبدناك حق عبادتك. ولما عرج بالرسول صلى الله عليه وسلم رأى البيت المعمور، والبيت المعمور في السماء السابعة على غرار الكعبة، وهو في السماء السابعة مثل الكعبة في الأرض، تزوره الملائكة وتطوف به تعبداً لله جل وعلا. يقول صلى الله عليه وسلم: (رأيت إبراهيم عليه السلام مسنداً ظهره إليه)؛ لأن إبراهيم عليه السلام هو الذي بنى الكعبة، فجوزي بأن جعل في هذا المكان العالي الرفيع الذي يتعبد فيه لله جل وعلا في السماء السابعة، يقول: (فإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة لا يعودون إليه أبداً) يعني: ما تحصل لهم فرصة لأن يعودوا مرة أخرى لكثرة الملائكة، وإنما كل ملك لا يأتي إلى هذا البيت إلا مرة واحدة فقط لكثرتهم، وهذا يدل على الكثرة الكاثرة. وقد أخبرنا جل وعلا عن بعض وظائفهم، فمنهم من يحفظ على بني آدم أعمالهم ويحصيها عليهم، يقول الله جل وعلا: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:10 - 12]. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن معكم من لا يفارقكم فاستحيوهم)، يعني: استحيوا منهم، فهم يستحيون من الأمور التي لا تناسبهم، مثل النظر إلى العورات وما أشبه ذلك، ولهذا لا يجوز للإنسان إذا دخل الحمام أن يتكلم؛ لأنه إذا تكلم يضطر الملك الكريم أن يأتي ليكتب كلامه ويسجله وهو لا يدخل الحمام؛ لأن أماكن القاذورات وأماكن النجاسات أماكن للشياطين، وهي التي تليق بهم، أما الملائكة فلا يدخلونها. وكذلك إذا كشف الإنسان عن عورته لا ينظرون إليه، بل يفارقونه، ولهذا جاء النهي عن كون الإنسان يتعرى وحده، فعليه أن يستتر استحياء من الله ومن عباده من ملائكته، فهذا معنى قوله: (استحيوهم) يعني: استحيوا منهم، ولا تعملوا الأعمال التي تثقلهم ويكرهونها لأنهم لابد أن يكتبوا كل شيء، فكل ما صدر من الإنسان وكل ما قاله الإنسان وتلفظ به يكتبونه، وكذلك ما عمله، كما قال الله جل وعلا: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] أي: يراقبه ومستعد للكتابة فهؤلاء مع كل إنسان، وإذا مات الإنسان طووا صحائفهم، ثم إما أن يجلسوا على قبره يستنصرون له، أو يذهبون إلى حيث شاء الله، والذي يولد يكون له ملائكة أخر غير السابقين، فكل إنسان ليس له إلا كاتبين فقط لا يشاركون غيره في الكتابة، فما يكتبون إلا لواحد فقط، فإذا جاءوا يوم القيامة جاءوا بصحائفهم التي سجلوها وأحضروها بين يديه، وهي -على القول الصواب من أقوال العلماء- الصحائف التي تنشر وتعطى الإنسان يوم القيامة، كما قال تعالى: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:13 - 14] يعني: حاسب نفسك تجد فيه أنك في يوم كذا في مكان كذا في ساعة كذا قلت كذا وكذا، أو عملت كذا وكذا. وما يستطيع أن ينكر، ومع ذلك فبعض الناس ينكر، فيقول: يا رب! ظلمتني الكتبة أو يقول: يا رب! لا أقبل شهادة هؤلاء. فيقال له: ومن تقبل؟ فيقول: لا أقبل إلا شاهداً من نفسي فيختم الله جل وعلا على فيه، ويقول لأعضائه: تكلمي. فيتكلم الجلد، ويتكلم السمع، ويتكلم البصر، وتتكلم الأيدي والأرجل وتنطق، ثم بعد ذلك يخلى بينه وبينها ويقال له: تكلم. فيعود على أعضائه باللوم والشتم ويقول: بعداً لكن! فعنكن كنت أنافح. قال تعالى: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ} [فصلت:20 - 22] إلى آخر الآية. فقوله تعالى: ((ما كنتم تستترون)) يعني: ما كنتم تخافون الله وتفعلون أمره وتجتنبون معاصيه حتى لا تشهد عليكم هذه الأعضاء {وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} [فصلت:22 - 23]. فالمقصود أن الملائكة الذين يكتبون أعمال الإنسان لا يشاركون في كتابة أعمال إنسان آخر، فكل واحد يكتب له اثنان، وكذلك الملائكة الذين وكلوا بقبض الروح وحملها، ومنهم الملائكة الذين وكلوا بنفخ الروح في رحم المرأة وكتابة ما يستقبله من العمل والأجل والرزق والشقاوة والسعادة. وكذلك منهم الحفظة غير الذين يحفظون الأعمال، وهم الذين يقول الله فيهم: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْ

معنى تسبيع الأرض

معنى تسبيع الأرض قوله: (والأرضين السبع) جعل الأرضين سبعاً، وقد اختلف العلماء في كون الأرض سبعاً ما معناه؟ فمنهم من يقول: إن الأرضين سبع مفتوقة، وكل أرض فيها سكان، ومعنى أنها مفتوقة أن كل واحدة تحت الأخرى وبينها وبين التي فوقها فضاء إلى سبع طبقات في الأرض. وهذا قول مرجوح، وقد جاء عن ابن عباس أثر في ذلك وعن غيره، والظاهر أن الذي جاء عن ابن عباس مأخوذ عن أهل الكتاب من خرافاتهم التي لا يجوز تصديقها، وإنما الصواب أن الأرضين السبع طبقات غير مفتوقة، فالأرض سبع طبقات كل طبقة تحت الأخرى، ولكن ليس بينها فضاء، وقد قال بعض العلماء: المقصود بسبع أراضين السبعة الأقاليم. يعني القارات السبع، فكل قارة تسمى أرضاً، وهذا ليس بشيء. وقد جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين) ومعنى هذا أنه يجعل طوقاً له بالسبع الطبقات، فتأتي واحدة تحت الأخرى، ومركز الأرض هو أسفل هذه الطبقات، ومركز الأرض نار تلتهب، ونار شديدة جداً. ولهذا يري الله جل وعلا عباده من ذلك بعض الآيات تخويفاً، فقد يخرج من البراكين التي ترى من قعر الأرض نيران لا تطاق تذيب الصخور، ولا يمكن أن يقوم لها شيء، وهذا في الأرض كلها، فمركز الأرض الأسفل كله نار تلتهب، وهذا يجده الناس ويشاهدونه، فإذا حفروا فكلما نزلوا اشتدت الحرارة، إلى أن يصلوا إلى مكان لا أحد يستطيعه من شدة حرارته، ثم تكون النار الملتهبة. فالمقصود أن الأرضين السبع معناها طبقات سبع خلقها الله جل وعلا، طبقات الواحدة فيها مميزة عن الأخرى، ولا يلزم أن يكون لها فتوق وبينها فضاء، بل كلها واحدة فوق الأخرى بدون فضاء، ولكنها تتغير عن التي فوقها، فهي سبع. ولهذا لما جاء ذكر الأراضين في القرآن فذكر تعالى أنه خلق سبع سماوات قال: {وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق:12] أي: طبقات سبع. ولا يلزم أن يكون بينها وبين الأخرى فضاء مثل الذي بين السماء والأرض، فإن بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام، وبين كل سماء والتي فوقها مسيرة خمسمائة عام. أما الأرض فهي مثل البيضة في قلب السماء، والسماء تحيط بها من جميع الجهات -أي: السماء الدنيا-، والسماء التي فوقها كذلك تحيط بالسماء الدنيا من جميع الجهات، والواقع أنه ليس هناك جهات حقيقة إلا جهة الفوقية والسفل فقط، ولهذا تكون السماء دائماً فوق الأرض، ولا يتصور أن السماء تكون تحت الأرض أبداً وإن كانت محيطة بها من جميع الجهات، ولكن الإنسان أينما كان فالسماء فوقه، فأينما كان من الأرض فالسماء فوقه دائماً.

عظم شأن كلمة التوحيد وصيغتها الشرعية

عظم شأن كلمة التوحيد وصيغتها الشرعية قوله في هذا الحديث: (لو أن السموات السبع وعامرهن غيري والأراضين السبع وضعت في كفة و (لا إله إلا الله) في كفة) الكِفَّة -بكسر الكاف- هي كفة الميزان، ولله جل وعلا ميزان يزن به أعمال بني آدم عظيم كبير جداً يسع الشيء الذي قد لا يتصوره الإنسان. فلو أتى إنسان بهذه الكلمة صادقاً مخلصاً من قلبه مقبلاً على الله، وقدر أن له ذنوباً تزن السماوات والأرض فإن هذه الكلمة تثقل بهذه الذنوب، فهي لا يقاومها شيء، وهذا دليل واضح على فضل هذه الكلمة، وأنه لا ينبغي للإنسان أن يعدل إلى غيرها في الذكر فيتركها ويذهب يطلب غيرها. ومن فضل الله جل وعلا أنه كلما كان الناس إلى شيء أكثر حاجة كان وجوده أكثر والعلم به أظهر، فمن الجهل كون الإنسان يذهب إلى الأذكار الأخرى التي هي مفضولة ويترك هذا الذكر. وفي هذا الحديث أن الذاكر يأتي بها كلها، فيقول: (لا إله إلا الله)، ولا يقتصر على قول (الله) كما يقوله بعض الناس. قال بعض العلماء: قول: (الله) هذا ليس ذكراً. فكون الإنسان يقول: (الله الله) ليس ذكراً؛ لأنه لا يفيد شيئاً، وكذلك كون الإنسان يقول -كما يقول بعض الضلال-: (هو هو)، فيقولون أولاً: (لا إله إلا الله)، ثم يتدرجون فيسقطون بعضها إلى أن يصلوا إلى كلمة (هو هو). وقد ألف ابن عربي الصوفي المحترق كتاباً سماه (كتاب الهو)، يعني أن الإنسان يذكر بهذا الكلام (هو)، ويزعم أن هذا هو الأفضل؛ لأنك تجعل لسانك لا ينطق إلا بكلمة (هو)، فهي عبارة عن أنك نزهت لسانك عن كل ما هو حشو، وهذا ضلال، وإنما يجب على الإنسان أن يقولها كاملة تامة مفيدة؛ لأنها وضعت لنفي الإلهية عن غير الله جل وعلا وإثباتها لله وحده، أما إذا ترك بعضها فإن هذا المعنى يضيع ويذهب ولا يدل على ذلك، والفضل جاء من هذا المعنى، من كونها نفت الإلهية عن غير الله وأثبتتها لله جل وعلا، وهذا لا يكون إلا على هذا الترتيب (لا إله إلا الله). ولهذا صارت هي أصل الدين وأساسه، ولا يقبل من إنسان الدين إلا إذا تكلم بها، ومعلوم أنه لابد من فهمها حتى يحصل الإنسان على فضلها، فلابد أن يفهم معناها وأن يطبقها عملاً واعتقاداً، وهي مبنية على كون التأله يكون لله وحده، ولا يكون التأله لغيره جل وعلا، وأن كل تأله جعل لغير الله يكون محبطاً للعمل لأنه هو الشرك. فهي بنيت على النفي والإثبات، نفي الإلهية عن غير الله جل وعلا وإثباتها لله وحده، وهذا هو أصل دعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم، فكل رسول يأتي إلى قومه يقول: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [هود:50]، ومعلوم أن الإنسان لا ينفك عن التأله، فإن لم يكن تألهه لمولاه الذي لا غنى له عنه صار تألهه لمخلوق مثله ولابد، فيصير تألهه لمخلوق لا يغني عنه من الله شيئاً؛ لأن الإنسان عبد خلقه الله عبداً، فلابد أن يكون عبداً، فإن لم يكن عبداً لله كان عبداً للشياطين شياطين الجن والإنس، أو كان عبداً لشهواته ومرادات نفسه. ثم إنه يجب أن يعرف معنى (الإله) ومعنى (العبادة)، فالإله الذي تألهه القلوب تعظيماً وخوفاً وحباً ورجاءً وإنابة، وأنه هو الذي يملك ما يحتاج إليه العبد في الدنيا والآخرة، وأن غيره فقير إلى الله جل وعلا، فمهما أعطي من أمور الدنيا أو من القوة أو من غيرها فإنه فقير، فيجب ألا يكون له شيء من حقوق الله، ثم إن التأله خاص بالله جل وعلا، لا يجوز أن يكون لنبي ولا لملك ولا لولي. ولهذا صارت هذه الكلمة هي أصل الإسلام ومعناه الذي تبنى عليه جميع الأعمال، ومن هنا صارت أعظم كلمة، وصار الناس إلى معرفة معناها والعمل بها أحوج منهم إلى الأكل والشرب الذي إذا فقدوه ماتوا؛ لأن الإنسان إذا فقد ما يحتاجه بدنه صار أمره إلى أن يموت في هذه الحياة، ولكن إذا فقد التأله لله جل وعلا مات موتاً لا ترجى معه سعادة، موتاً يؤديه إلى الشقاوة الأبدية ليكون خالداً في النار؛ لأن الإنسان ما خلق ليفنى وإنما خلق ليبقى، إلا أنه ينتقل من دار إلى أخرى حتى يصل إلى داره الأبدية، إما في الجنة أو في النار.

أصل العبادة وتقسيم الدعاء

أصل العبادة وتقسيم الدعاء قول موسى عليه السلام: (أذكرك وأدعوك به) فسره الشارح بأن معنى: (أذكرك) أثني عليك به. و (أدعوك) أسألك. فجعل الذكر ثناءً وجعل الدعاء سؤالاً، والواقع أن هذا هو العبادة؛ لأن العبادة لا تخرج عن الثناء والمسألة، والثناء -الذي هو ذكر الله- سواءٌ أكان باللسان أم بالأركان هو في الواقع سؤال؛ لأن العبد يفعل ذلك رجاء الإثابة وهرباً من العذاب والعقاب، فإذا صلى أو تصدق فمعنى ذلك أنه يذكر الله بهذا الفعل حتى يثاب على ذلك، أما إذا سأل فهو يسأل شيئاً معيناً، سواءٌ أكان من أمور الدنيا أم الآخرة. فإذاً العبادة كلها لا تخرج عن الذكر والدعاء، عن كون الإنسان يذكر ربه بأن يفعل ما أمره به ويجتنب ما نهاه عنه راجياً بذلك ثوابه وخائفاً -لو لم يفعل ذلك- من عقابه، أو أنه يظهر حاجاته وفقره، فيسأل سؤالاً معيناً سواءٌ من أمور الدنيا أم من أمور الآخرة. فهذا هي العبادة التي يجب أن تكون لله وحده خالصة ليس لأحد فيها شيء، ولهذا قسم العلماء الدعاء إلى قسمين: قسم يكون دعاء عبادة، وقسم يكون دعاء مسألة، فأما دعاء العبادة فهو شامل عام يدخل فيه ذكر الله وتلاوة القرآن والصلاة والصوم والحج وسائر العبادات؛ لأن الإنسان لا يفعل هذه الأفعال إلا ويرجو ربه أن يثيبه على ذلك، ويخاف منه أنه لو لم يفعل ذلك عاقبه. أما دعاء المسألة فهو أن يسأل شيئاً معيناً، مثل الجنة، ومثل الرزق، ومثل الولد، ومثل النصر على الأعداء، ومثل العلم وما أشبه ذلك، فكل شيء تسأله فهو دعاء مسألة، وكلاهما جاء القرآن به، قال الله جل وعلا: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، فقيل في تفسيرها: اسألوني أعطكم. وقال بعضهم: اعبدوني أزدكم. فالذي قال: المعنى اعبدوني أزدكم معناه أنه يقول: هذا الدعاء -دعاء العبادة- يدخل فيه كل فعل يفعله الإنسان متقرباً به إلى الله إذا كان قد شرع. والذي قال: المعنى: سلوني أجبكم معناه أنه جعله دعاء مسألة. والواقع أن الآية تشمل هذا وهذا، أي: أنها تدل على دعاء العبادة ودعاء المسألة، وكذلك غيرها مما جاء في القرآن، ومثله هذا الحديث: (اذكرك وادعوك به) يعني: أتعبد به لك خوفاً من عذابك ورجاء لثوابك الذي تعطيه من عبدك، وأما (أدعوك) فمعناه أني إذا احتجت إلى شيء معين أتوسل به إليك حتى أنال مقصودي، فهو كله عبادة، إلا أن دعاء المسألة أخص من الذكر وأخص من دعاء العبادة.

حاجة البشر إلى كلمة التوحيد

حاجة البشر إلى كلمة التوحيد وقوله: (يا رب كل عبادك يقول هذا) روي بلفظ (يقولون) و (يقول)، وكلاهما جارٍ على القواعد العربية؛ لأن لفظة (كل) تدل على العموم، فإذا قال: (يقولون) فهو لمراعاة هذا المعنى، وإذا قال: (يقول) فهو مراعاة للفظ (كل)؛ لأن لفظها مفرد، فراعى لفظها معرضاً عن معناها، وكل هذا جائز لغة، ولكن المقصود المعنى، والمعنى أن كل عبادك يعرف هذا ويدعوك به ويذكرك به، فأنا أريد شيئاً اختص به لا يعرفه أكثر خلقك أو كلهم تخصني به. فهذا الذي قصده، ولهذا جاء صريحاً في بعض الروايات أنه قال: أريد شيئاً تخصني به. ومعلوم أن الإنسان يفرح بالشيء الذي يختص به دون غيره، ولكن هذا الذكر وهذا الدعاء ما أحد يستغني عنه، وهو أفضل من كل ذكر يذكر الإنسان ربه به مع حاجته إليه. ولهذا يقال بناءً على هذا: إن هذا يدل على أن أنبياء الله وأولياء الله يحتاجون إلى التنبيه إلى فضل هذه الكلمة وعظمها، لهذا كان فيه تنبيه لموسى عليه السلام إلى عظم هذه الكلمة، فكيف بمن عداه؟! كيف بالذين قد لا يفهمون حتى المعاني اللغوية التي دلت عليها فضلاً عن المعاني الشرعية التي جاءت بها الرسل بهذه الكلمة؟ فإنها تتطلب دراسة وبحثاً وفهماً لدعوة الرسل وما جاؤوا به.

أسماء الله وصفاته وتقسيماتها

أسماء الله وصفاته وتقسيماتها ثم إن هذا أيضاً يدلنا على أن الله جل وعلا يسأل ويعبد بأسمائه وأوصافه التي يتوسل بها إليه حتى يرضى وحتى يعفو عن السيئات ويثيب، ويدلنا أيضاً على أن أسماءه وأوصافه تعالى لا حصر لها، وأن منها ما يعلمه العباد ومنها ما لا يعلمه إلا الله جل وعلا، وقد جاء هذا المعنى واضحاً في بعض الأحاديث، كالحديث الذي يرويه الإمام أحمد وغيره حيث يقول صلى الله عليه وسلم: (ما من عبد يصيبه هم ولا غم فيقول: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك اللهم بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم نور صدري) إلى آخره. فجعل أسماءه تعالى ثلاثة أقسام: قسم علمه من يشاء من خلقه، وقسم أنزله في كتبه؛ لأن قوله: (أو أنزلته في كتابك) المقصود فيه بـ (كتابك) اسم الجنس، يعني: كتبك التي أنزلتها على رسلك وقسم لم يعلمه أحداً من خلقه ولم ينزله في كتبه، بل استأثر به في علم الغيب عنده. فموسى عليه السلام يطلب من هذا القسم، ومن هذا النوع الذي استأثر الله جل وعلا به في علم الغيب عنده ما يخصه به، فأرشده الله جل وعلا إلى عظم هذه الكلمة التي هي معروفة لكل أحد، معروفة اللفظ، أما المعنى فالإنسان يحتاج إلى إدراك معناها وإلى تفهمه وإلى معرفته حتى يعمل به، فمن كان لمعناها أعرف وله ألزم وأكثر عملاً فهو أقرب إلى الله وأرفع درجة عنده، وهو من الذين يسبقون إلى الجنة ويدخلونها بغير حساب؛ لأن هذا هو تحقيق التوحيد كما سيأتي في الباب الذي بعد هذا. وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر)، إلى هنا انتهى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المتفق عليه، ورواه الترمذي وأهل السنن والإمام أحمد وغيرهم، ثم سردوا تسعةً وتسعين اسماً، والحفاظ يقولون: إن سرد الأسماء مدرج، وليس مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ومعنى الإدراج أن يكون كلاماً من الراوي أدخله في الحديث فيتوهم السامع أنه من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ليس منه. وقد يقول بعض من لم يفهم الفهم الذي يجب: إن هذا يدل على أن أسماء الله جل وعلا تسعة وتسعين والواقع أنه لا يدل على حصر أسماء الله جل وعلا في تسعة وتسعين، وإنما يدل نصاً على أن لله هذه الأسماء، فمن أحصاها وعبد الله بها فإن الله يعده بأن يدخله الجنة، ومعنى إحصائها إطاقة العمل بها على القول الصواب الصحيح، كما قال الله جل وعلا في كتابه: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} [المزمل:20] يعني: تطيقون العمل به. وأما كون الإنسان يحفظها مجرد حفظ فهذا لا يكفي، وقد قال البخاري بعد إخراجه هذا الحديث: أحصاها: حفظها. ولكن ليس المراد مجرد الحفظ، وإنما المراد الحفظ مع معرفة المعنى وسؤال الله جل وعلا وعبادته بها حتى يحصل على هذا الموعود، وليس هذا المقصود من ذكره، وإنما المقصود من ذكره أنه لا يتعارض مع ما قلنا في مفهوم هذا الحديث من أنه يدل على أن لله جل وعلا أسماء وأوصافاً لا حصر لها؛ لأن موسى عليه السلام طلب شيئاً يخص به لم ينزل عليه في التوراة، وقد أعلمه الله جل وعلا ما أنزله عليه في كتابه، وكذلك أعلمه ما يشاء مما لم ينزله عليه في التوراة مما أنزله على أنبيائه السابقين. وإنما معنى هذا الحديث: (إن لله تسعة وتسعين اسماً) أن الإنسان إذا حفظ هذه الأسماء وعبد الله جل وعلا بها فإنه موعود بدخول الجنة، ولا يدل على أن الله جل وعلا حصرت أسماؤه في تسعة وتسعين، فهذا مثل ما لو قال القائل: عندي مائة ألف أعددتها للجهاد في سبيل الله أو للدعوة إلى الله. أو قال: عندي مائة كتاب أعددتها للمطالعة أو العارية، فما ينافي أن يكون عنده غيرها، إنما يذكر هذا الشيء للغرض الذي بينه، وهو الجهاد أو الدعوة أو الإعارة. كذلك هذا الحديث معناه أن من تعبد الله جل وعلا بالتسعة والتسعين اسماً فإنه موعود بدخول الجنة، فهذا المقصود، وليس المقصود حصر الأسماء؛ فإن أسماء الله لا حصر لها.

كلمة التوحيد مع الإخلاص منجاة لصاحبها من النار

كلمة التوحيد مع الإخلاص منجاة لصاحبها من النار ثم في هذا الحديث من المعاني ما يدل -فضلاً على ما تقدم- على عظم هذه الكلمة، وأن المخلوقات كلها لو وضعت في كفة ميزان مَنْ في السماوات ومن في الأرض، ثم وضعت هذه الكلمة في كفة أخرى لرجحت هذه الكلمة، ولكن ليس من كل أحد، وإنما ممن قالها صادقاً مخلصاً موقناً عالماً عاملاً بما تقتضيه وتدل عليه، فإذا صدرت ممن هذه صفته فلا يقاومها شيء. وقد جاء في سنن الترمذي، وفي المسند، وغيرهما كصحيح ابن حبان، وغيرها من كتب الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبره أنه يصاح برجل من أمته يوم القيامة على رؤوس الناس وهم مجموعون في مكان واحد، يعني يدعى باسمه: يا فلان بن فلان! هلم تعال. فيأتي والناس ينظرون إليه. وإتيانه هنا إما أن يكون فضيحة يفضح بها على رؤوس الناس، أو يكون شرفاً وذكراً وفضلاً وسعادة يسعد بها تنشر في العالم كله من أولهم إلى آخرهم، فيؤتى به، فإذا حضر بين يدي الله نشر له تسعة وتسعون سجلاً، والسجل كتاب مسجل عليه، أي: تسعة وتسعون كتاباً، وأما كبره وطوله فالله أعلم. فيقال له: أتنكر من هذا شيئاً؟ -وكل أعماله سيئات من أولها إلى آخرها- فيقول: لا يا رب، هذه أعمالي. فيقول الله جل وعلا له: أظلمتك الكتبة؟ فيقول: لا يا رب. فيقول: ألك عذر؟ فيقول: لا. فيقول الله جل وعلا له: ألك حسنة؟ فيهاب ويقول: لا. فيقول الله جل وعلا: بلى. إن لك عندنا حسنة واحدة فيخرج له بطاقة صغيرة مكتوب فيها: أشهد ألا إله إلا الله. فيقول: يا رب! ما هذه البطاقة أمام هذه السجلات -أي ماذا تصنع-؟ فيقال: إنك لا تظلم شيئاً. ويؤتى بالميزان فتوضع السجلات في كفة الميزان وتوضع البطاقة في الكفة الأخرى فتطيش السجلات وترتفع وتثقل البطاقة بهذه السجلات الكثيرة، فهي كلمة واحدة رجحت بهذه السئات المسجلة في تسعة وتسعين كتاباً كل كتاب مملوء. وهذا يكون لأفراد، ويجوز ألا يكون لرجل واحد، فيكون له نظراء على هذا المنوال، ولكن قد صحت الأحاديث الكثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كثيراً ممن يقول لا إله إلا الله يدخل النار ويبقى فيها وقتاً طويلاً وهو في النار تأكله، ومنهم من يكون حمماً يحترق فيها، ومنهم من يبقى أثر السجود لا تأكله النار، وكل أهل الإسلام واتباع الرسل يقولون هذه الكلمة، وكثير منهم يدخلون النار مع قولهم هذه الكلمة، وخروجهم من النار يتفاوت تفاوتاً عظيماً، ومنهم من تأخذه النار إلى كعبيه فقط، ومنهم من تأخذه النار إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه النار إلى حقويه، ومنهم من تأخذه النار إلى ثدييه، ومنهم من تأخذه إلى رأسه وترقوته، ومنهم من يكون في النار في غمرات النار مغموراً فيها، وكله على تفاوت الأعمال، وكلهم يقولون: (لا إله إلا الله)؛ لأن الذي لا يقولوها لا يكون مسلماً أصلاً. ثم إخراجهم من النار يتفاوت تفاوتاً عظيماً، فمنهم من يغمس فيها غمسة ويخرج، ومنهم من يبقى مدة طويلة كعمر الدنيا منذ خلقت إلى أن تنتهي، ومنهم من هو أقل من ذلك، حسب جرائمهم مع قولهم هذه الكلمة، فدل هذا على تفاوت الناس في قولها، وكل التفاوت يرجع إلى ما يكون في القلوب من العلم واليقين والإخلاص، ويتبع ما في القلب العمل. فالذي يقولها بعلم وصدق وإخلاص ومحبة وقبول واستسلام لا يمكن أن يكون محباً لمعصية أو مخالفاً لأمر الله وهو يقدر، أو تاركاً لواجب من واجبات الله وهو يستطيعه، بخلاف الذي يقولها بلسانه؛ فإنه قد يقولها وهو يشرب الخمر، وقد يقولها وهو يزني، وقد يقولها وهو يأكل أموال الناس بالإثم والباطل، ويقولها وهو يحارب أولياء الله وربما يشتمهم ويلعنهم، إلى غير ذلك. فالمقصود أن معرفة هذه الكلمة والعمل بما دلت عليه هو الذي يتفاوت فيه أهل الإسلام في الدرجات يوم القيامة، وقد أخبر الله جل وعلا في كتابه أن أهل الجنة أقسام ثلاثة: قسم ظالم لنفسه، وقسم مقتصد، وقسم سابق بالخيرات بإذن الله، فقال الله جل وعلا: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:32]، ففُسر الظالم لنفسه بمن يفعل بعض المنكرات ويترك بعض الواجبات، فيفعل بعض المحرمات التي حرمت عليه ويترك بعض ما أوجبه الله عليه، ولكنه ملتزم بـ (لا إله إلا الله ومعناها)، ولكنه مقصر في الفهم والعلم والعمل، فهذا ظالم لنفسه. والقسم الثاني: المقتصد. والمقتصد هو الذي اقتصر على فعل ما أوجبه الله عليه وامتنع عن فعل ما حرمه الله عليه، ولم يتقرب إلى الله جل وعلا بالنوافل والمستحبات وباجتناب المكروهات، بل يفعل المكروه ولا يفعل المستحب، فاقتصر على فعل الواجب وترك المحرم، ومثاله الذي يقيم الصلوات الخمس ويؤدي زكاة ماله بعد كونه لا يعبد غير الله، ويصوم شهر رمضان فقط، وحج في عمره مرة واحدة فقط. فإذا تمسك بهذه الأمور الخمسة التي هي أركان الإسلام الخمسة فهو من أهل الجنة بلا شك، ولكن تفوته الدرجات في الجنة؛ لأن الدرجات تقتسم بالأعمال، فمن كان عمله أزكى وأكثر فدرجته أرفع عند الله جل وعلا، ولا يجوز للمسلم أن ينافس غيره في الدنيا في المال وأمور الدنيا، أو العمارات وحسنها، أو السيارات، أو ما أشبه ذلك فلا يريد أن يكون غيره أحسن منه بيتاً، ولا أكثر منه مالاً، ولا أحسن منه مركباً وما أشبه ذلك ويترك منافسة المؤمنين في الدرجات العالية يوم القيامة، فهذا لا ينبغي، وهذا من الخسارة. أما القسم الثالث فهم الذين يسبقون إلى الدرجات العالية، بأن يتقربوا إلى الله جل وعلا بعد أداء الفرائض بالنوافل التي لم تجب، ويتقربون إليه جل وعلا بعد اجتناب المحرمات باجتناب المكروهات التي يخشى أحدهم أنه يكون فيها مترخصاً أو متبعاً نفسه شهواتها ولو في بعض الأشياء. وقد جاء عن السلف تحذيرهم من كون الإنسان يتتبع الشهوات وإن كانت مباحة، كما جاء عن عمر رضي الله عنه أنه رأى رجلاً يشتري لحماً فقال: أوكلما اشتهيتم شيئاً اشتريتموه؟! لقد ذكر الله قوماً فنعى عليهم بأنهم أذهبوا طيباتهم في حياتهم الدنيا. أما إذا خرج الناس عن هذه الأقسام الثلاثة فمعنى ذلك أنهم من أهل النار، فالظالم لنفسه ليس معنى ذلك أنه يدخل الجنة من أول وهلة، بل إما أن يعذب في الدنيا فيكون ذلك كفارة له، كأن يصاب بمصائب وكوارث تكفر عنه، وهذا من حظه إذا حصل له ذلك، وأما إذا لم يصب في الدنيا فقد تكون مصائبه في القبر بأن يعذب في قبره، وقد لا يكفي تعذيبه في قبره فيمتد العذاب إلى أن يبعث، ثم يعذب في الموقف وشدائده؛ لأن الوقوف في الموقف يتفاوت على حسب أعمال الناس، فمنهم من يكون عليه كألف سنة، ومنهم من يكون عليه كخمسين ألف سنة وهو واقف على قدميه، ومن يطيق هذا؟ فهو وقوف لا يوجد معه جلوس، ومع ذلك هو عريان ليس عليه ثوب ولا نعال، ولا هناك ظل يستظل به، والشمس واقفة فوق رأسه، ومنهم من يكون وقوفه كأنه ساعة، والعجيب أن منهم من يأكل ويشرب والناس في شقاء وفي عذاب. فتفاوت الناس في الموقف أمره على حسب أعمالهم، ثم منهم من لا يكفيه ذلك، فلابد أن يدخل النار ويطهر؛ لأن هذه الأمور التي مرت عليه وهذه النيران نار عذاب القبر ونار الموقف ما كفت في تطهيره، فلابد أن يدخل جهنم حتى يطهر وتأكل الخبث منه، فكل الخبث الذي في جسده تأكله النار حتى يخلص ويكون صالحاً لدخول الجنة، ثم بعد ذلك يخرج، والأمر ليس سهلاً، الأمر صعب جداً، ولكن في الواقع كأننا لا نعنى بذلك، فكأن المعني غيرنا، وكأننا خلقنا لشيء آخر وإنما يراد بذلك قوم آخرون، وكما قيل: ستعرف إذا انجلى الغبار أفرس تحتك أم حمار فهل أنت شقي أو سعيد؟ وهذا قريب جداً، وما بين الإنسان وبينه إلا أن يقال: مات فلان. وما أقرب ذلك، فإذا مات الإنسان فقد قامت قيامته؛ لأن عمره الذي يكتسب به العمل انقطع وانتهى، ولهذا كان السلف يبكون البكاء الشديد المر المؤلم الذي يمنعهم من الأكل والشرب والنوم، ويقول أحدهم: أنا خلقت للجنة أو النار فما أدري ما مصيري. ويقول آخر: إني عبارة عن أنفاس وأيام، فإذا انقضت انقضى عملي، فمن يصلي لي؟ ومن يذكر عني؟ ومن يدعو الله عني؟ لأنه ليس للإنسان إلا ما سعى، فلابد للإنسان أن يفكر في هذه الأمور، ولهذا يقول لنا الناصح الأمين صلوات الله وسلامه عليه: (لا تنسوا العظيمتين الجنة والنار)، ولابد لنا منهما، لابد لنا من واحدة منهما، فهل نصل إلى الجنة سالمين أو نحبس في جهنم أبد الآبدين؟ العلم عند الله، والإنسان لا يستطيع أن يعمل لنفسه على حسب إرادته، فلابد أن يتعلق بالله جل وعلا ويسأله دائماً بفقر وإلحاح وحاجة لا ينفك عنها أبداً. ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا عن أخف أهل النار عذاباً الذي يبقى في النار أبداً، وهو رجل يجعل في أخمصه جمرة من النار يغلي منها دماغه، فهذا هو أخف أهل النار عذاباً، فيطأ على جمرة من جمرات جهنم ولكنه يغلي من هذه الجمرة دماغه، وهو أبو طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم جزاء إحاطته لرسول الله صلى الله عليه وسلم ودفاعه عنه، ولكنه لا يخرج من النار، ويرى أنه أشد الناس عذاباً وهو أهونهم، فهو في نفسه يرى أنه أشد أهل النار عذاباً وهو أهونهم عذاباً، فهذا هو أهون أهل النار عذاباً -نسأل الله العافية- فكيف بالذي يكون في طبقات جهنم؟ قال تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ * إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} [الهمزة:1 - 9]. أي: مغلقة الأبواب، وموضوع عليها عمد من حديد ممددة فهي أعمدة من حديد، فهل يستطيعون أن يخرجوا من الأبواب؟ أبداً. ولو لم توضع هذه الأعمدة، ولكن نكالاً وإبلاغاً في النكاية بهم

علو الله تعالى وملكه وعظمته

علو الله تعالى وملكه وعظمته قال الشارح رحمه الله تعالى: [وقوله: (وعامرهن غيري) هو بالنصب عطف على السموات، أي: لو أن السموات السبع ومن فيهن من العمار غير الله تعالى والأرضين السبع ومن فيهن وضعوا في كفة الميزان، و (لا إله إلا الله) في الكفة الأخرى مالت بهن لا إله إلا الله]. هذا أيضاً يدلنا على أن السماوات فيها عمار، أي: عباد يعبدون الله جل وعلا ويعمرونها بالعبادة لأن عمارة السموات والأرض بالعبادة، أما المعاصي فهي إفساد في الأرض، كما قال الله جل وعلا عن أهل المعاصي: {الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} [الشعراء:152]، وهذا عجيب؛ لأن غير العقلاء لا يعصون الله، ولهذا أخبرنا ربنا جل وعلا أن الشجر والدواب والجبال تسجد لله، وأن كثيراً من الناس حق عليهم العذاب، فأهل العقل والفكر هم الذين يتنكرون لله جل وعلا ويعرضون عن عبادته، فعمارة الأرض هي بعبادة الله جل وعلا واتباع وحيه واجتناب مناهيه. ويدلنا أيضاً على أن ربنا جل وعلا في السماء، ومعنى كونه في السماء أنه في العلو، ولا يجوز أن يعتقد أن الله في السفل تعالى وتقدس. فالسماء إذا جاءت في مثل هذا الكلام فإما أن يراد بها السماء المبنية التي هي السبع الطقات التي ذكر الله جل وعلا أن لكل واحدة منهن مكاناً معيناً، وبينها وبين التي تليها مسافة معينة وفضاء، وأن فيها عماراً يعمرونها بامتثال أمر الله وفعل ما أمروا به. وإما أن يراد بها مجرد العلو، كقوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] يعني: من في العلو. فهذا معناه، وليس (في) هنا تدل على الظرفية، كقول القائل: الماء في الإناء. قوله: (لو أن السموات السبع وعامرهن غيري) الله جل وعلا يعمر كل شيء، بمعنى أنه هو الذي أوجده، وهو الذي يقوم على مصالحه، كما في الحديث الذي في صحيح مسلم: عن أبي موسى الأشعري قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات) يعني أنه قام خطيباً، وهذه عادته صلوات الله وسلامه عليه، فيعلم أصحابه الأصول والكلمات الجامعة البليغة، ولا يزيدهم كثيراً، وهنا قام فيهم خطيباً بخمس كلمات فقط، فقال: (إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلق)، فهو القائم على خلقه بما يصلحهم، وهو الذي يقيم السماوات والأرض، فهو قيوم السموات والأرض، ولو أراد إذهاب السماء ومن فيها بلحظة فعل، ولو أراد تغييرها إلى ما يشاء فعل، ولكنه أقامها على هذا الوضع المعين المنسق المتقن الذي لا يختل حتى يشاء جل وعلا، وليس الملائكة ولا غيرهم ولا الطبيعة ولا غير ذلك، فهو جل وعلا فوق، وهو مستوٍ على عرشه، كما قال الله جل وعلا: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} [الأعراف:54]. يعني أنه يتصرف في الكون كله حسب إرادته جل وعلا، فهو القائم على كل شيء بما يصلحه، السماء وما فيها والأرض وما فيها، فاستثنى نفسه في هذا الحديث. فنص على أن السموات سبع، ثم استثنى نفسه فقال: (غيري)؛ لأنه جل وعلا أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، ولا يمكن أن يقاس بشيء من خلقه، وإن كان هذا من صفاته، أي: قول (لا إله إلا الله) من صفاته التي يستحقها، فليس مخلوقاً، وإنما المخلوق عمل الإنسان، فعمل الإنسان هو المخلوق، ولو وضعت كل المخلوقات في مكان لكانت صغيرة حقيرة بجانب الله جل وعلا، وقد جاء قول الله جل وعلا: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر:67]، يعني: ما عظموا الله حق تعظيمه، وما عرفوه حقه حق المعرفة، {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]. فيوم القيامة يفعل ذلك، وإلا فلو شاء لقبض كل مخلوقاته بيده السموات والأرض ومن فيهما وصارت بيده كلها صغيرة حقيرة ليست بشيء، وعلى هذا فكيف يسوغ لإنسان أن يقول في مثل قول الله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد:4]: إنه معنا في البيوت وفي الأرض وفي الأمكنة؟ تعالى الله وتقدس، فهل هذا عرف الله؟ كلا -والله- لم يعرفه، فضلاً عن أن يقدره حق قدره. فالله جل وعلا لا يعرفه من لم يتعرف عليه بأوصافه التي وصف بها نفسه، أما إذا رجع إلى فكره أو إلى شيخه أو إلى ما تلقاه ممن هو نظير له فلن يعرف الله أبداً؛ لأن العقل لا يوصله إلى هذا، وكذلك الأفكار البشرية لن توصله إلى هذا، وإنما هذا يكون من الله جل وعلا، قال تعالى: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة:140]، فالله جل وعلا هو الذي يجب أن يكون الإنسان متبعاً لقوله، ويتعرف على ربه بما عرف به نفسه وتعرف به إلى عباده. فإذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله يمهل حتى إذا بقي ثلث الليل الأخير نزل إلى السماء الدنيا فبسط يده وقال: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ هل من تائب فيتاب عليه؟)، فمن يقول: هذا النزول معناه عبارة عن نزول أمره أو نزول رحمته أو نزول ملك من الملائكة من يقول ذلك لم يعرف به. وكذلك إذا سمع قول الله جل وعلا: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} [البقرة:210] قال: (يأتي) أي: يأتي أمره وقضاؤه، أو يأتي حكمه، أو يأتي ملكه، أو ما أشبه ذلك، أما إتيانه فهو مستحيل؛ لأن الانتقال من مكان إلى مكان من خواص الأجسام هكذا يقول، فنقول: هل عرف هذا ربه؟ كلا والله، الذي يقول هذا القول لم يعرف ربه، لم يعرف إلا الرب الذي يعتقده هو، فليس هو الله، أما لو تعرف على الله لعلم أنه ينزل وهو على عرشه، ويأتي يوم القيامة وهو فوق كل شيء، وأنه لا يمكن أن تكون سماء تظله أو تقله تعالى وتقدس، بل هو أكبر وأعظم من كل شيء؛ حيث إنه جل وعلا يقبض جميع مخلوقاته بيده، كما قال ابن عباس رضي الله عنه في تفسير هذه الآية: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر:67]: قبض السماوات السبع والأراضين ومن فيهن بيمينه، وبقيت يده الأخرى فارغة ليس فيها شيء، وإنما يستعين بيده الأخرى من شغلت إحدى يديه، هكذا جاء عنه رضي الله عنه وهو حبر الأمة، والرسول صلى الله عليه وسلم بين لنا هذا ووضحه، فيجب على الإنسان أن يؤمن بربه وفق ما أخبر عن نفسه وأخبرت عنه رسله وإلا زل وضل. فقوله هنا: (لو أن السموات السبع وعامرهن غيري) استثنى نفسه لأنه أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، ولا يمكن أن يكون المخلوقات كلها بالنسبة إلى الله شيئاً أبداً.

الميزان حق يجب الإيمان به

الميزان حق يجب الإيمان به ويدلنا هذا على أن الميزان له كفتان، وله لسان كذلك، وهذا اللسان يعرف به ميل أحد الكفتين ورجحانها بالأخرى، وأن الأعمال توضع فيه، وقد جاءت الأحاديث دالة على أن الأعمال توضع فيه، وجاءت أحاديث أخرى تدل على أن الإنسان نفسه يوزن، فيجوز أن يكون هذا وهذا، ثم لسنا بحاجة أن نقول: إن الأعمال تقلب وتجعل أجساداً حتى تظهر مشاهدة في الميزان، لسنا بحاجة إلى هذا، فأمور الآخرة -والله على كل شيء قدير- على خلاف المعهود لنا، ويكفينا أن نعلم أن الأعمال توضع في الميزان، وأنها توزن، كما قال تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:8]، فلابد من الوزن، ولهذا ينص العلماء على وجوب الإيمان بالميزان في عقائدهم، والسبب في هذا أن بعض أهل البدع أنكر ذلك، وإلا فالعقائد يجب أن تكون مشتملة على كل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس معنى كونهم نصوا على مسألة معينة وتركوا الأخرى أن هذه أهم، أو أن هذه يجب اعتقادها وتلك لا يجب، ولكن العلماء هذه طريقتهم، فإذا أُنكِر شيء مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم نصوا عليه في العقائد. ولهذا تجد في كثير من كتب العقائد أنهم ينصون على أن المسح على الخفين سنة؛ لأن بعض أهل البدع أنكر ذلك فنصوا عليه، وهكذا الميزان، وهكذا حوض النبي صلى الله عليه وسلم، والصراط؛ لأن بعض أهل البدع أنكر هذه الأشياء فنصوا عليها، وإلا فالواجب أن يعتقد الإنسان كل ما جاء به الوحي، سواءٌ أكان في كتاب الله، أم ما بلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الذي أوحاه الله جل وعلا غير القرآن، وكل ما يلقى إليه وما يقوله صلوات الله وسلامه عليه فهو وحي، قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4].

تفاضل القلوب في اعتقاد كلمة التوحيد

تفاضل القلوب في اعتقاد كلمة التوحيد قال الشارح رحمه الله تعالى: [وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن نوحاً عليه السلام قال لابنه عند موته: آمرك بـ (لا إله إلا الله)؛ فإن السموات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة و (لا إله إلا الله) في كفة رجحت بهن لا إله إلا الله، ولو أن السموات السبع والأرضين السبع كن حلقة مبهمة لقصمتهن لا إله إلا الله)، وقوله: (في كِفة) هو بكسر الكاف وتشديد الفاء، أي: كفة الميزان. وقوله: (مالت بهن) أي: رجحت. وذلك لما اشتملت عليه من نفي الشرك، فتوحيد الله الذي هو أفضل الأعمال وأساس الملة والدين، فمن قالها بإخلاص ويقين وعمل بمقتضاها ولوازمها وحقوقها واستقام على ذلك فهذه الحسنة لا يوازنها شيء، كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأحقاف:13]، ودل الحديث على أن (لا إله إلا الله) أفضل الذكر، كحديث عبد الله بن عمرو مرفوعاً: (خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) رواه أحمد والترمذي، وعنه أيضاً مرفوعا: (يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر له تسعة وتسعون سجلا كل سجل منها مد البصر، ثم يقال: أتنكر من هذا شيء؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب. فيقال: أفلك عذر أو حسنة؟ فيهاب الرجل فيقول: لا. فيقال: بلى. إن لك عندنا حسنة، وإنه لا ظلم عليك اليوم. فيخرج له بطاقة، فيقول: يا رب! ما هذه مع هذه السجلات؟ فيقال: إنك لا تظلم شيئاً. فيخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله. فيقول: يا رب! ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال: إنك لا تظلم. فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة) رواه الترمذي وحسنه، والنسائى، وابن حبان، والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم. وقال الذهبي في تلخيصه: صحيح. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: فالأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب، فتكون صورة العملين واحدة وبينهما من التفاضل كما بين السماء والأرض. قال: وتأمل حديث البطاقة التي توضع في كفة ويقابلها تسعة وتسعون سجلا كل سجل منها مد البصر، فتثقل البطاقة وتطيش السجلات فلا يعذب، ومعلوم أن كل موحد له هذه البطاقة، وكثير منهم يدخل النار بذنوبه. قوله: رواه ابن حبان والحاكم) ابن حبان اسمه محمد بن حبان -بكسر المهملة وتشديد الموحدة- بن أحمد بن حبان بن معاذ أبو حاتم التميمي البستي الحافظ صاحب التصانيف كالصحيح والتاريخ والضعفاء والثقات وغير ذلك، قال الحاكم: كان من أوعية العلم في الفقه واللغة والحديث والوعظ، ومن عقلاء الرجال. مات سنة أربع وخمسين وثلاثمائة بمدينة بست -بضم الموحدة وسكون المهملة-، وأما الحاكم فاسمه محمد بن عبد الله بن محمد النيسابورى أبو عبد الله الحافظ، ويعرف بـ ابن الربيع، ولد سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، وصنف التصانيف كالمستدرك وتاريخ نيسابور وغيرهما، ومات سنة خمس وأربعمائة].

شرح فتح المجيد [14]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [14] من رحمة الله تعالى بعباده أن فتح لهم باب المغفرة، وقبول دعاء الداعي ورجاء الراجي مهما كان ذنبه عظيماً، ومن رحمته بهم أن جعل التوحيد سبباً للنجاة من النار يوم القيامة، إما نجاة أولية بحيث إن الموحِّد لا يدخلها، وإما أن يعذبه بقدر ذنوبه ثم يدخله الجنة، وبهذا فارق أهل التوحيد أهلَ الشرك.

حديث قدسي في المغفرة ودلالاته

حديث قدسي في المغفرة ودلالاته

الاستغفار والرجاء عبادتان تكفران الذنوب

الاستغفار والرجاء عبادتان تكفران الذنوب قال المصنف رحمه الله: [وللترمذي -وحسنه- عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله تعالى: يا بن آدم! إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة)]. في هذا الحديث حديث أنس يخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه جل وعلا أنه قال: (يا ابن آدم! إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة)، وأول هذا الحديث: (إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي)، و (قراب الأرض): ملؤها أو قرب ملئها. وهذا على سبيل الفرض، فلو أن إنساناً تحمل من الذنوب والخطايا ما يملأ الأرض ثم استغفر ربه ومات ولم يشرك بالله شيئاً فإن الله يغفر له مغفرة أوسع من ذنوبه وأكثر وأعظم، فمعنى (لقيتك بقرابها مغفرة): قابلتك بأكثر من ذنوبك مغفرة وأعظم مغفرة وهذا معلق بالاستغفار والرجاء، والاستغفار المقصود به التوبة، أي أن الإنسان يتوب إلى الله جل وعلا، والتوبة لابد فيها من ترك الذنب حسب الاستطاعة، والعزم على أنه لا يعود إليه، والندم على كونه وقع فيه، وأن يعزم في قلبه على أنه يطيع الله جل وعلا ولا يعود إلى ذلك الذنب، فهذا هو الاستغفار المقصود هنا. وأما كونه يرجو فمعنى ذلك أنه أيضاً عبادة تتعلق بقلبه من رجاء الله جل وعلا وكونه جل وعلا واسع المغفرة، وأن رحمته وسعت كل شيء، فيتعلق بهذا، ويكون رجاؤه في ذلك أعظم من خوفه من ذنوبه، فيرجو الله جل وعلا أعظم من خوفه من أن الله يعاقبه على ذنوبه، فيلقى الله على هذه الحال، فإذا لقيه على هذه الحال فإن الله جل وعلا يغفر له مهما كانت ذنوبه بشرط أن يكون غير مشرك.

الشرك وتقسيماته والموجب منه للخلود في النار

الشرك وتقسيماته والموجب منه للخلود في النار قوله: (يا ابن آدم! إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً)، معنى قوله: (لا تشرك بي شيئاً)، أنه ليس هناك شرك معه قليل ولا كثير، ولا كبير ولا صغير. فهو شرط صعب في الواقع؛ لأن الذي يسلم من الشرك قليله وكثيره وكبيره وصغيره هو القلب السليم الذي أخبر الله جل وعلا أنه في يوم القيامة لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم سالم من الشرك، سالم من عبادة غير الله، مستسلم لله منقاد له، ولكن الشرك ينقسم إلى قسمين: شرك أكبر كعبادة غير الله مع الله العبادة الظاهرة، فهذا لا ينفع معه عمل، وإذا مات الإنسان عليه فمقطوع بأنه في النار وخالدٌ فيها؛ لأن الله جل وعلا يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فجعل الشرك غير مغفور وغير قابل للمغفرة، وأما ما عداه فعلقه بمشيئته، فإذا شاء أن يغفره غفره وإذا شاء أن يؤاخذ عليه أخذ عليه وعاقب، ولكن تكون هذه صفته، فمآله إلى الجنة ولو عوقب ولو أدخل النار. فهو بعد يخرج ويدخل الجنة، وهذا يرجى له الخير؛ لأن الذي لا يرجى له خير أصلاً هو الذي يموت مشركاً، فإنه يبقى في النار أبداً ما دامت السموات والأرض. القسم الثاني: شرك أصغر. والشرك الأصغر مثل قليل الرياء، مثل كون الإنسان يدخل في عمله شيئاً مما ينويه للدنيا، ولكن في بعضه ليس كله، فلا يكون العمل من أصله مقصوداً به شيء من الدنيا، ومثل الحلف بغير الله، ومثل قول الرجل: لولا الله وفلان. وما أشبه ذلك، فهذا من الشرك الأصغر؛ لأن إسناد الأعمال والأفعال والحوادث إلى أسبابها التي جعلها الله سبباً في وجودها من الشرك الأصغر. وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم لرجل قابله بقوله: ما شاء الله وشئت. فقال: (أجعلتني لله نداً؟! بل ما شاء الله وحده)، مع أنه له مشيئة يتصرف فيها حسب ما أعطاه الله جل وعلا ذلك، فهذا الشرك الأصغر لا يخلو إما أن يكون كثيراً يتجمع عند الإنسان بكثرة فإذا وزن مع حسناته رجح على حسناته فهذا يدخل النار، ويكون من أهل النار، ولكن لا يخلد فيها، أو يكون الشرك الأصغر قليلاً وحسناته أغلب وأكثر، فمثل هذا يغفر له، ولكن المغفرة معلقة بمشيئة الله إن شاء أن يغفر غفر وإن شاء أن يأخذ بالذنب أخذ وعاقب، ثم بعد ذلك يكون مآله إلى الجنة. وقد قال بعض العلماء: إن الشرك الأصغر لا يغفر منه شيء؛ لقول الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فجعل الشرك عامة غير مغفور، ومعنى هذا القول أن الذي يكون عنده شرك أصغر لابد أن يعاقب، وليس معنى هذا أن الذي يكون عنده شرك أصغر يكون خارجاً من الإسلام ويكون خالداً في النار، لا. فقوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] يقول هذا القائل: إنه يقصد به ما عدا الشرك، أما الشرك فإذا كان كبيراً فصاحبه من أهل النار، وإن كان صغيراً فصاحبه معذب، ثم بعد ذلك إذا عذب وهذب يكون من أهل الجنة ولكن القول الأول -والله أعلم- هو الأقرب والأصوب؛ لأنه ما دام أنه بهذا الشرك لم يخرج من الدين الإسلامي فيكون ذنبه هذا مثل سائر الذنوب يوزن مع الحسنات، فإن كانت الحسنات أثقل وأكثر فإنه يكون من أهل السعادة وأهل الفوز، وإن رجحت سيئاته عذب حسب ما عنده من السيئات.

الدعاء وفضله وآدابه

الدعاء وفضله وآدابه وقوله في هذا الحديث -وهو حديث قدسي-: (إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة) يدلنا على أن الدعاء عند الله جل وعلا أمره عظيم، فالدعاء من العبادة التي يحبها الله جل وعلا. وقد جاء في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الدعاء هو العبادة)، وجاء في حديث آخر: (إن الله يغضب إذا لم يدع)، والله جل وعلا يقول: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، فأمر بدعوته، وقال: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف:55] في آيات كثيرة يأمر الله جل وعلا عباده أن يدعوه. فالدعاء هو الافتقار إلى الله وإظهار الحاجة، أن يظهر الإنسان حاجته إلى ربه بفقره، ويتوسل إليه بفقره، ويطلب غناه وفضله، وأن يكون خاضعاً لربه مقبلاً عليه، وإذا فتح للإنسان باب الدعاء فينبغي أن ينتهز الفرصة؛ فإن الله كريم لا يرد عبده إذا دعاه، ولهذا كان السلف رضوان الله عليهم يقولون: إنا لا نهتم للإجابة وإنما نهتم للدعاء فكون الإنسان يفتح له باب الدعاء فيدعو فإن الإجابة قريبة؛ لأن الله وعد عباده بذلك فقال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، وهو لا يخلف وعده جل وعلا، وإن كان الدعاء له آداب وله شروط ينبغي للداعي أن يتعرف عليها وأن يعمل بها. فقد جاء في الحديث -وهو حديث من جوامع كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم- أنه ذكر الرجل يطيل السفر أشعث رأسه مغبرة قدماه يرفع يديه إلى السماء يقول: يا رب يا رب ومطعمه حرام، ومشربه حرام، فأنَّى يستجاب لذلك؟! فأخذ من هذا الحديث شيء من آداب الدعاء، وهو أن الإنسان يكون مظهراً فقره إلى الله لقوله: (أشعث أغبر)، وأن يكون مظهراً الحاجة والذل والافتقار والتبذل لله جل وعلا. وقد روي عن بعض السلف أنه كان له ابن أخ في الجهاد، فأسره العدو، وكان الرجل من العلماء الكبار، فظهر بثياب رثة وفي مسكنة، فقيل له: لماذا تصنع هذا؟ فقال: استكين لربي حتى يعطيني مطلبي. فأطلق قريبه وجاء. فإذا كان السائل موقناً مقبلاً لم يخالف أمر الله جل وعلا فإن الله يعطيه مسألته، بل إذا سأل الإنسان باضطرار فإنه يجيبه وإن كان بعيداً عن الله جل وعلا، ولهذا يقول جل وعلا للكفار الذين يحتج عليهم بأن شركهم غير مقبول شرعاً ولا عقلاً ولا وضعاً، يقول جل وعلا: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62]، يعني أنكم أنتم المشركون تعرفون ذلك، أن الذي يجيب المضطر ويكشف السوء هو الله وحده. وهذا يدلنا على أن كل عبد من عباده يقع في ضرورة وفي كرب فيتجه إليه فإنه يجيبه وإن كان بعيداً عن الله جل وعلا. والمقصود أن هذا من الآداب التي إذا فعلها الإنسان كان حرياً بالإجابة، وهو أن يكون خاشعاً لله خاضعاً له. الثاني: رفع اليدين إليه جل وعلا، أن يرفع يديه في الطلب. وقد جاء في الحديث: (إن الله حيي كريم يستحيي من عبده المؤمن أن يرفع يديه إليه فيردهما صفراً) يعني: بلا عطية. بل إذا رفع يديه أعطاه جل وعلا، ورفع اليدين يكون عند الدعاء العام، أما الأدعية التي جاءت مخصصة ومقيدة مثل الدعاء في صلاة الفرض أو بعد الفرض فهذه يجب أن يتبع فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يجيء أنه رفع يديه في هذه الأماكن، وإنما في النوافل وفي الدعاء عموماً في غير ذلك. الأمر الثالث: قوله: (يا رب يا رب)، فكونه يسأل ربه بهذا الاسم الكريم ويكرره فإن هذا من أسباب الإجابة، وقد جاء في القرآن -لمن تأمل القرآن- أدعية الرسل الذين ذكر الله قصصهم وغالبها بهذا الاسم الكريم العظيم، وقد قيل: إنه هو اسم الله الأعظم (رب)، فكذلك الله يعلمنا، ويعلمنا ذلك أيضاً في قوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] إلى آخر الآية، ففيها التعليم بأن نسأله جل وعلا بهذا الاسم: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] إلى آخره. وكذلك في آخر سورة آل عمران وغيرها كثير في القرآن، فأكثر الأدعية التي جاءت عن الرسل كانت هذا الاسم. الأمر الرابع الذي يؤخذ من هذا الحديث من آداب الدعاء التي ينبغي للإنسان أن يحرص عليها: اجتنابك للحرام ولبس الحرام لهذا قال: (ومطعمه حرام وملبسه حرام، فأنى يستجاب له؟) يعني: هذا هو المانع من الإجابة، وهو أكل الحرام ولبس الحرام. فإذا اجتنب الإنسان ذلك فإن دعاءه يستجاب بإذن الله، ثم إنه جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم -وهو حديث صحيح- أن سعداً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني مجاب الدعوة فقال له: (يا سعد! أطب مطعمك تجب دعوتك)، فما سأل له، وإنما أرشده إلى الطريق الذي به إجابة الدعوة، وكان سعد رضي الله عنه مجاب الدعوة، فإذا دعا بدعوة أجيبت. وكثير من السلف كانت تجاب دعوته حتى وإن كانت في الشيء الذي قد لا يقصده، كما روي عن سعيد بن جبير رضي الله عنه أنه كان له ديك يوقظه لصلاة آخر الليل، فإذا صاح قام، وليس هناك ساعة ولا منبهات، وفي ليلة لم يصح هذا الديك حتى طلع الفجر، فلما نظر وإذا الفجر قد طلع قال: ماله قطع الله عنقه؟ فانقطع عنقه، عند ذلك قالت له والدته: يا بني لا تدع على مسلم. فالمقصود أن إجابة الدعوة في هذه الأمور وغيرها كثير. ثم ليعلم الإنسان الداعي أنه إذا دعا ولم تظهر الإجابة لا يجوز له أن يترك الدعاء وأن يقول: دعوت فلم يستجب لي. أو يقول: إن الله جل وعلا صرف عني الإجابة أو ما أشبه ذلك؛ لأنه قد أخبر صلوات الله وسلامه عليه أنه لا يدعو المسلم بدعوة إلا حصل له واحدة من ثلاث خلال: إما أن تعجل دعوته وتستجاب، أو يصرف عنه من البلاء ما هو أعظم من ذلك، أو تدخر له يوم القيامة. فالداعي على خير على كل حال، وقد يكون الأمر في إجابة الدعوة ليس من مصلحة الداعي -والله أعلم بحال عبده- فيصرف ذلك عنه لمصلحته، وهو العليم الخبير جل وعلا، ولهذا جاء النهي عن كون الإنسان إذا دعا يعجل فيقول: دعوت فلم يستجب لي. فينبغي له أن يوقن بأن الله جل وعلا يعطيه ما فيه الخير، أو يصرف عنه ما هو أعظم، أو يدخر له ذلك. ثم يتبع الدعاء الرجاء، والرجاء: هو الرغبة فيما عند الله جل وعلا. وتزيد الرغبة والتعلق به والإقبال عليه وإيقان القلب بأن الله جل وعلا لا يخيب رجاءه، ولهذا جاء إرشاد الرسول صلى الله عليه وسلم لنا بقوله: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه)، وجاء في الحديث القدسي: (أنا عند ظن عبدي بي)، فإذا ظن خيراً لقيه ووجده، وإذا ظن خلاف ذلك وجده، فينبغي أن نعظم الرغبة في الله جل وعلا، ولهذا حرم على الإنسان أن يعلق مسألته بالمشيئة -كما سيأتي- فيقول: يا رب! أعطني كذا إن شئت. فهذا من المحرمات التي لا يجوز للإنسان أن يفعلها، والسبب قوله صلوات الله وسلامه عليه: (فإن الله لا مكره له)، فإذا أراد أن يفعل شيئاً فعله، فلا حاجة إلى التعليق، فهذا شيء. الشيء الثاني: أن التعليق يشعر بالاستغناء عن هذا الدعاء، كأن القائل يقول: إن أعطيتني ذلك وإلا فلا يلزم وهذا الذي يستغني عن الله جل وعلا يكون غير عارف بوضعه وبحال نفسه، وغير عالم بالله جل وعلا وبكرمه وجوده، فيجب أن يُعظم الرغبة، وأن يعظم الرجاء في الله جل وعلا، ثم يتبع هذا كله كونه حاضر القلب صادقاً فيما يقول، يواطئ لسانه قلبه، فإن الله جل وعلا لا يستجيب دعاء من قلب لاه غافل يدعو بكلام يتكلم به وقلبه سارح في أماكن أخرى بعيد عما يقوله، فجدواه قليلة، وهذا قد يكون شبيهاً بالهذيان الذي يقوله النائم أو غيره، فالمقصود أن هذه الأمور ينبغي للإنسان أن يعملها، ويثق بأن الدعوة مستجابة، ويعظم الرغبة في الله جل وعلا.

ذكر اللقاء ودلالته

ذكر اللقاء ودلالته قوله في هذا الحديث: (لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة) يقول العلماء: كل ما جاء من هذا النوع في كتاب الله وفي أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم من ذكر لقاء الله، كقوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ} [البقرة:46] وما أشبه ذلك كله يدل على رؤية الله، أن العبد سيرى ربه يوم القيامة، وأنه يقف بين يديه، وقد جاء في الصحيحين من حديث عدي بن حاتم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا سيكلم ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة)، فيكلم ربه ليس بينه وبينه ترجمان ولا حجاب يحجبه، وهذا خلاف ما يقوله أهل البدع الذين هم في الواقع يتبعون أهواءهم وزعموا أنهم يتبعون عقولهم، ولكن العقول قاصرة لا تغني من الحق شيئاً، وإنما الواجب اتباع كتاب الله وما أرشد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله: (لقيتني لا تشرك بي شيئاً) هذا هو الشرط الذي علق عليه أنه يأتيه بأكثر من ذنوبه مغفرة، ثم هذا أيضاً يكون معلقاً بمشيئته، ولا يقال: يلزم أن يكون مغفوراً له. بل ذلك معلق بمشيئة الله جل وعلا؛ لأنه قال جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، وهذا عام في كل من كان مذنباً ولقي الله بذنوب، فإن الأمر يتعلق بمشيئة الله جل وعلا.

عموم المغفرة وعموم شرطها

عموم المغفرة وعموم شرطها قال الشارح رحمه الله تعالى: [ذكر المصنف رحمه الله تعالى الجملة الأخيرة من الحديث، وقد رواه الترمذي بتمامه، فقال: عن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله تعالى: يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت على ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم! إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة) الحديث، والترمذي اسمه محمد بن عيسى بن سورة -بفتح المهملة- ابن موسى بن الضحاك السلمي أبو عيسى، صاحب الجامع، وأحد الحفاظ، كان ضرير البصر، روى عن قتيبة والبخاري وخلد، ومات سنة تسع وسبعين ومائتين، وأنس هو ابن مالك بن النضر الأنصاري الخزرجي، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، خدمه عشر سنين، وقال له: (اللهم أكثر ماله وولده، وأدخله الجنة)، مات سنة اثنتين -وقيل: ثلاث- وتسعين وقد جاوز المائة. والحديث قد رواه الإمام أحمد من حديث أبي ذر بمعناه، وهذا لفظه: (ومن عمل قراب الأرض خطيئة ثم لقيني لا يشرك بي شيئاً جعلت له مثلها مغفرة)، ورواه مسلم وأخرجه الطبراني من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم]. من المعلوم أن هذا النداء (يا ابن آدم) عام وشامل لكل هذا النوع وهذا الجنس من الناس، فلا يخص قوماً دون آخرين، فكل من جاء بهذا الشرط فاستغفر ودعا ورجا ربه فإن الله جل وعلا يعطيه ما ذكر، وكذلك كل من أتى بالخطايا الكبيرة التي تكون ملء الأرض أو قريباً من ملئها ثم مات غير مشرك بالله فإنه يكون مغفوراً له إذا شاء الله جل وعلا، ثم ليس معنى هذا أنه يلزم أن يكون عدم الشرك طول عمره، بل يكفي أن يكون حال وفاته مات وهو لا يشرك بالله شيئاً، فتاب مما وقع منه توبة صادقة ومات على هذا، وإن لم يعمل أعمالاً صالحة بعد ذلك فإنه يصدق عليه هذا الوعد، بشرط أن يتوب توبة صادقة ويموت غير مشرك بالله جل وعلا، فيشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خالصاً صادقاً من قلبه، فمات على هذه الشهادة فإنه يدخل في هذا الوعد وعد الكريم.

تفاوت أهل التوحيد والرد على الخوارج والمعتزلة

تفاوت أهل التوحيد والرد على الخوارج والمعتزلة قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: (لو أتيتني بقراب الأرض) بضم القاف، وقيل: بكسرها والضم أشهر، وهو ملؤها أو ما يقارب ملأها. وقوله: (ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً) شرط كفيل في الوعد بحصول المغفرة، وهو السلامة من الشرك كثيره وقليله، صغيره وكبيره، ولا يسلم من ذلك إلا من سلم الله تعالى، وذلك هو القلب السليم، كما قال تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89]. قال ابن رجب رحمه الله: إن جاء مع التوحيد بقراب الأرض خطايا لقيه الله بقرابها مغفرة. إلى أن قال: فإن كمل توحيد العبد وإخلاصه لله تعالى فيه، وقام بشروطه بقلبه ولسانه وجوارحه، أو بقلبه ولسانه عند الموت أوجب ذلك مغفرة ما قد سلف من الذنوب كلها، ومنعه من دخول النار بالكلية، فمن تحقق بكلمة التوحيد قلبه أخرجت منه كل ما سوى الله محبة وتعظيماً وإجلالاً ومهابة وخشية وتوكلاً، وحينئذ تحرق ذنوبه وخطاياه كلها وإن كانت مثل زبد البحر. انتهى ملخصاً. قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في معنى الحديث: ويعطى لأهل التوحيد الذين لم يشوبوه بالشرك ما لا يعطى لمن ليس كذلك، فلو لقي الموحد الذي لم يشرك بالله شيئاً البتة ربه بقراب الأرض خطايا أتاه بقرابها مغفرة، ولا يحصل هذا لمن نقص توحيده؛ فإن التوحيد الخالص الذي لا يشوبه شرك لا يبقى معه ذنب؛ لأنه يتضمن من محبة الله وإجلاله وتعظيمه وخوفه ورجائه وحده ما يوجب غسل الذنوب ولو كانت قراب الأرض، فالنجاسة عارضة والدافع لها قوي. انتهى. وفي هذا الحديث كثرة ثواب التوحيد، وسعة كرم الله وجوده ورحمته، والرد على الخوارج الذين يكفرون المسلم بالذنوب، وعلى المعتزلة القائلين بالمنزلة بين المنزلتين وهي الفسوق، ويقولون: ليس بمؤمن ولا كافر، ويخلد في النار والصواب قول أهل السنة والجماعة: إنه لا يسلب عنه اسم الإيمان ولا يعطاه على الإطلاق، بل يقال: هو مؤمن عاص، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، وعلى هذا يدل الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة]. الذنوب كلها أخبرنا ربنا جل وعلا أنه إذا شاء أن يغفرها غفرها، كما قال الله جل وعلا: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53]، فما ترك شيئاً، حتى الشرك دخل في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا)، ولهذا يقول العلماء: هذه الآية في التائب من الذنب، فمهما كان ذنبه فإن الله يغفره، ولكن في الآية التي ذكرناها سابقاً في سورة النساء: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] هذا لمن مات غير تائب، سواءٌ أكان مشركاً أم غير مشرك، فإذا مات على ذنوب ولم يتب منها فإن كانت شركاً فإن الله لا يغفرها، وإن كانت غير شرك فهي معلقة بمشيئة الله جل وعلا، إذا شاء أن يغفرها غفرها. أما ما ذكر أن الحديث فيه الرد على الخوارج فالخوارج سموا (خوارج) لأنهم خرجوا عن الحق إلى الباطل، وخرجوا على أهل الحق لأنهم أهل باطل، وهم في الواقع أناس جهلة أرادوا أن ينزلوا كتاب الله على مفاهيمهم القاصرة، فاقترحوا أن الناس قسمين فقط: بر تقي، أو فاجر شقي، ولا ثالث لهما، فصاروا يحكمون هذا الرأي الذي رأوه، فكل من وقع في ذنب، جعلوه كافراً، ثم بحثوا عن هذا المنهاج في كتاب الله فوجدوا بعض الآيات التي تعلقوا بها وهم لم يفهموها، مثل قول الله جل وعلا: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار:19]، وكقوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93]، وكقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10]، وما أشبه ذلك من الآيات التي جاء فيها توعد العصاة بأنهم في النار، وأنهم مغضوب عليهم، أو أنهم ملعونون، فجعلوا كل من فعل كبيرة من الكبائر يكون هذا حكمه. ثم صاروا يقتلون من فعل هذا؛ لأنهم حكموا بأنه كافر، فلهذا صاروا يقتلون المسلمين ويدعون الكافرين، فلما ظهروا صاروا يرفعون أسلحتهم في وجوه الناس، وظهر الكلام في صاحب المعصية والكبيرة، وكان من الناس من يسأل عن حكمه هل هو مؤمن أو كافر، وممن سئل عنها الإمام الحسن البصري، وكان عنده رجل يقال له: واصل بن عطاء الغزال من تلامذته، فبادر وأجاب السائل بقوله: لا كافر ولا مسلم. ثم اعتزل حلقة الحسن، وجعل يقرر هذا المبدأ، فصار هذا هو مبدأ الاعتزال؛ لأن الحسن قال له: اعتزلنا. فسمي معتزلاً، ثم سمي أتباعه معتزلة، ثم صاروا فرقة كبيرة من الفرق التي خالفت الحق، فصار من قولهم أن الذي يرتكب ذنباً من الذنوب كالكبيرة يخرج من الإيمان ولكنه لا يدخل في الكفر، فيبقى بمنزلة بين الإيمان والكفر، وجعلوا هذا من أصول دينهم؛ فإنهم بنوا دينهم على أصول خمسة بدل الأصول التي ذكرت في حديث عبد الله بن عمر: (بني الإسلام على خمس: شهادة ألا إله إلا الله) إلى آخره، وهم بنوه على خمس جاؤوا بها من عندهم هذا أحدها، وهو المنزلة بين المنزلتين. فمرتكب الكبيرة حكمه في الدنيا عندهم أنه خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر، أما حكمه في الآخرة عندهم فإنه في النار، فاتفقوا مع الخوارج في حكم الآخرة، واختلفوا معهم في حكم الدنيا، والواقع أنهم اختلفوا في التسمية واتفقوا في الحكم، والتسمية لا قيمة لها إلا أنهم لا يقاتلون ويقتلون من كان هذا وصفه، بخلاف الخوارج. وأهل الحق في هذه المسألة على أن مرتكب الكبيرة لا يقال له مؤمن كامل الإيمان، ولا يقال: مؤمن دون قيد، فلا بد أن يقيد، فيقال: مؤمن فاسق. أو: مؤمن عاصٍ، أو: مؤمن ناقص الإيمان حسبما جاء في النصوص؛ لأنا إذا قلنا مؤمن أو هو المؤمن فإن هذا يدخل الإيمان فيه كله، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم وهو مؤمن)، فهنا قيد هذه الحالة بأنه ليس مؤمناً، وليس معنى ذلك أنه لو سرق ثم مات يكون كافراً، أو زنى ثم مات يكون كافراً، لا. ليس هذا مراد الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما مراده صلوات الله وسلامه عليه أنه في هذه الحالة ليس عنده إيمان يمنعه من اقتراف هذه المعاصي، وليس عنده الإيمان الذي يمنع صاحبه من الوقوع في المعصية، وإلا فأصل الإيمان لا يخرج منه ولا يفارقه؛ إذ لو كان مقصوده أنه سلب الإيمان نهائياً لأصبح كافراً، ووجب عليه أن يرجع إلى الإسلام مرة أخرى، ويكون ذلك موافقاً لمنهج أهل الباطل الخوارج والمعتزلة وغيرهم، فلا بد من تقييده بأنه ناقص الإيمان، أو أنه عاصٍ، أو أنه فاسق أو ما أشبه ذلك، حتى لا يفهم أنه عنده الإيمان كله وأنه كامل الإيمان، ومعلوم أن الناس يتفاوتون في هذا تفاوتاً عظيماً، وعلى هذا التفاوت تفاوتت منازلهم في الجنة، فمنهم من يكون بجوار الرسل، ومنهم من يكون في أدنى الجنة، والتفاوت في منازل الجنة أعظم من التفاوت بين السماء والأرض، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن في الجنة مائة درجة، ما بين درجة وأخرى مثل ما بين السماء والأرض، أعدها الله للمجاهدين في سبيله)، فهذه فقط للمجاهدين، والدرجة المقصود بها هنا المنزلة، يعني: منزلة ينزلها فإذا كان هذا في المجاهدين فكيف بغيرهم؟ فالمقصود أنه يجب أن يجتنب قول أهل البدع الذين يكفرون بالمعاصي، أو يخرجون المسلمين بكونهم وقعوا في معاصٍ من الإسلام ويجعلونهم كفرة، أو يستحلون دماءهم وأموالهم، وهذا من أكبر الباطل، وقد حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من هؤلاء، وقال: (يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية)، وأمر بقتلهم لأنهم يقتلون الناس، فكل من كانت هذه صفته يجب أن يقاتل، ثم إنه جاء في حديث أن آخرهم يكون مع الدجال الذي هو من أعظم الفتن، الذي يخرج فتنة للناس فيزعم أنه مصلح وأنه يريد أن يصلح في الأرض ويقضي على الظلم، ثم بعد ذلك تتدرج به الأمور ويقول: إنه نبي. ثم تتدرج به الأمور ويرتقي في باطله حتى يقول: أنا ربكم. ويكون معه من الأمور التي يلبس بها على كثير من الناس شيء كثير. فالمقصود أنه من الباطل الواضح كونهم يكفرون الناس ويدخلونهم النار أو يستحلون دماءهم.

التوحيد ومغفرة الكبائر

التوحيد ومغفرة الكبائر قال الشارح رحمه الله تعالى: [وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى أعطي ثلاثاً: أعطي الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئاً المقحمات) رواه مسلم]. المقحمات معناها الذنوب الكبيرة التي تقحم صاحبها في النار، فيغفر لمن لا يشرك بالله من أمته هذه الذنوب المقحمات، أما الصغائر فإن الله جل وعلا يغفرها في اجتناب الكبائر، كما صحت بذلك أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودل عليه كتاب الله، قال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31]، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (الصلاة إلى الصلاة، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر). أما الكبائر فهي التي قصد بها المقحمات هنا، فيغفر لمن مات لا يشرك بالله شيئاً المقحمات، ثم هذا معلق بمشيئة الله إن شاء غفر وإن شاء آخذ به. قال الشارح رحمه الله تعالى: [قال ابن كثير في تفسيره: وأخرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة والنسائي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر:56] وقال: قال ربكم: أنا أهل أن أتقى، فلا يجعل معي إله، فمن اتقى أن يجعل معي إلهاً كان أهلاً أن أغفر له)، قال المصنف رحمه الله: تأمل الخمس اللواتي في حديث عبادة، فإنك إذا جمعت بينها وبين حديث عتبان تبين لك معنى قول (لا إله إلا الله)، وتبين لك خطأ المغرورين. وفيه أن الأنبياء يحتاجون للتنبيه على فضل لا إله إلا الله، والتنبيه لرجحانها بجميع المخلوقات مع أن كثيراً ممن يقولها يخف ميزانه، وفيه إثبات الصفات خلافاً للمعطلة، وفيه أنك إذا عرفت حديث أنس وقوله في حديث عتبان: (إن الله حرم على النار من قال (لا إله إلا الله) يبتغي بذلك وجه الله) تبين لك أنه ترك الشرك، ليس قولها باللسان فقط].

شرح فتح المجيد [15]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [15] لقد أعد الله عز وجل للموحدين ثواباً جزيلاً عظيماً بالإضافة إلى تكفير ذنوبهم، وعلاوة على هذه الفضيلة التي ينالها الموحدون فإن هناك فضائل أخر أوردها المصنف في مسائل هذا الباب.

مسائل في باب فضل التوحيد

مسائل في باب فضل التوحيد

سعة فضل الله تعالى

سعة فضل الله تعالى قال المصنف رحمه الله: [فيه مسائل: الأولى: سعة فضل الله]. هذا واضح في سائر النصوص التي ذكرها، ففيها أن من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل، فإذا جاء بهذا وإن كانت ذنوبه كثيرة فإن الله يدخله الجنة، وهذا فيه سعة فضل الله وكرمه وسعة مغفرته، وكذلك في غيره من النصوص التي ذكرها الشارح.

كثرة ثواب التوحيد وتكفيره للذنوب

كثرة ثواب التوحيد وتكفيره للذنوب [المسألة الثانية: كثرة ثواب التوحيد عند الله. ] وهذا أيضاً واضح ظاهر، وهو كون ثواب التوحيد فضله وثوابه كثير جداً، وأن الله يغفر لمن لقيه موحداً وإن كانت ذنوبه ملء الأرض، فأي شيء أفضل من هذا؟ فما هناك شيء أفضل من التوحيد، والتوحيد معناه أن يكون عمله خالصاً لله ليس فيه شيء لغيره، فالتوحيد عبادة الله وترك الشرك، وأن تكون العبادة مقصوداً بها وجه الله وحده جل وعلا رجاء ثوابه وخوفاً من عقابه. [المسألة الثالثة: تكفيره مع ذلك للذنوب]. يعني أنه إذا جاء بالتوحيد فله الفضل العظيم ويكفر الذنوب، ومعنى تكفيرها: إزالة أثرها.

تفسير الظلم في آية سورة الأنعام

تفسير الظلم في آية سورة الأنعام [المسألة الرابعة: تفسير الآية الثانية والثمانين التي في سورة الأنعام]. يعني بذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82]، فعرفنا أن المقصود بالآية أن الذي وحد الله جل وعلا وعبده ولم يخلط عبادته بشيء من الشرك فإنه يحصل له الأمن والاهتداء في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فباتباع الرسل والطمأنينة بالله جل وعلا، وبكونه يأمن من العذاب الذي يحصل للكفار المخالفين للرسل، وأما في الآخرة ففي القبر أول منازل الآخرة يحصل له النعيم، ثم ما بعد القبر خير له منه، فهو آمن من عذاب الله ومهتد إلى الطمأنينة والحياة السعيدة.

خمس حديث عبادة وثمرتهن

خمس حديث عبادة وثمرتهن [المسألة الخامسة: تأمل الخمس اللواتي في حديث عبادة رضي الله عنه]. الخمس هنا قوله صلى الله عليه وسلم: (من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له) فهذه واحدة، (وأن محمداً رسول الله) هي الثانية، وإن كانتا في الواقع كلتاهما واحدة؛ لأن شهادة أن (لا إله إلا الله) لا تفرق عن شهادة أن (محمداً رسول الله)، ولكنها شرط في الإتيان بها، فلا بد منها، ومن شهد أنه (لا إله إلا الله) ولم يشهد لمحمد صلوات الله وسلامه عليه بالرسالة وأنه رسول إلى الثقلين الجن والإنس جميعاً، وأنه خاتم الرسل، وأنه ليس بعده رسول فإن شهادته مردودة، وهو ليس بمسلم، بل هو من أهل النار إذا مات على ذلك، فلا بد مع شهادة ألا إله إلا الله أن يشهد أن محمداً عبده ورسوله، وهكذا جاء (عبده ورسوله)، أي أنه عبد تعبده الله جل وعلا بعبوديته، وليس له من الإلهية شيء، وليس له من الربوبية كذلك شيء. الثالثة قوله: (وأن عيسى عبد الله ورسوله)، وهذا يقتضي أنه لا بد من أن يشهد للرسل كلهم؛ لأن عيسى عليه السلام واحدٌ منهم، فكذلك بقيتهم، وإنما زاد عيسى على الرسل بأنه كلمة الله ألقاها إلى مريم، وأنه روح منه، يعني أنه ليس إلهاً، وليس شريكاً لله جل وعلا، ولا ثالث ثلاثة، وليس ابناً لله، تعالى الله وتقدس عما يقول الضالون، فلا بد أن يتبرأ من قول أهل الضلال في ذلك، وإذا كان الإنسان الذي يشهد بهذا نصرانياً فلا بد من ذلك، وإلا فتكون شهادته باطلة؛ لأنه يعتقد شيئاً من هذا النوع، وهو باطل مناف للتوحيد. الرابعة قوله: (وأن الجنة حق والنار حق) الجنة والنار اثنتان، ومعنى أن الجنة حق أنها موجودة مستقرة، وأن الله خلقها وأعدها لأوليائه، والنار كذلك موجودة مستقرة حيث شاء الله جل وعلا، وأنه أعدها لأعدائه، وسوف يسكنونها ولا يخرجون منها، فهؤلاء هن الخمس اللاتي يجب الإيمان بهن، وإذا تأمل الإنسان ذلك وجد أن الإسلام يدل على ذلك كله.

شرط النجاة بكلمة التوحيد

شرط النجاة بكلمة التوحيد [المسألة السادسة: أنك إذا جمعت بينه وبين حديث عتبان وما بعده تبين لك معنى قول (لا إله إلا الله)، وتبين لك خطأ المغرورين]. حديث عتبان قوله: (من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله)، فقيد قول (لا إله إلا الله) بابتغاء الوجه، أما حديث عبادة الذي فيه: (من شهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) إلى آخره فلم يقيد ذلك، بل جاء مطلقاً، فاغتر كثير من الناس بأن كل قائل لهذا الكلام إذا قاله صدق عليه الوعد الذي وعد بآخره: (أدخله الله الجنة على ما كان من العمل)، ولو كان لا يصلي، ولو كان لا يزكي، ولو كان يعمل الفجور، بل ولو كان يطوف بالقبور، هكذا يقولون، وهؤلاء هم المغرورون الذين قصدهم بقوله: (وليتبين لك خطأ المغرورين)، وهذا القول يقصد به البراءة من الشرك والبعد عن المشركين ومعاداتهم، وأنه ليس منهم لا في المكان ولا في القصد والعمل، ولا في المحبة والإرادة، بل هو مفارقٌ لهم مكاناً، مبغضٌ لهم عقيدة، منافح ومكافح لشركهم، وداعٍ إلى الله جل وعلا، ولا بد أن يكون على هذا؛ لأن قوله في حديث عتبان: (يبتغي بذلك وجه الله) قيد هذا كله؛ لأنه لا بد من الإخلاص في ذلك، فلا بد أن يكون مخلصاً، والذي يعمل شيئاً من المعاصي إما أن يكون عمله ناتجاً عن قلة إيمانه وبعده الذي يقتضي أنه لم يحقق التوحيد، أو يكون مبطلاً لقوله بالكلية، بمعنى أنه لا بد أن يكون قد نقص قوله أو أبطله، فإذا كان مجرد معصية فهو منقص لقوله: (لا إله إلا الله)، أما إذا كان شركاً فإنه يكون مبطلاً لقوله؛ لأن التوحيد لا يجامع الشرك، فلا يجتمع توحيد وشرك في إنسان؛ لأن الشرك مبطل لجميع الأعمال، قال الله جل وعلا: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65]، والخطاب لسيد الخلق لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليتبين للإنسان عظم هذا الأمر، ولما ذكر أصفياءه وأنبياءه قال: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:88]، وهم الرسل، فإذاً معنى هذا أنه لا بد للإنسان أن يكون مخلصاً عمله لله جل وعلا، متبرئاً من الشرك تاركاً له قصداً، وليس بدون قصد، بل بالقصد والفعل، فيتركه ويتبرأ منه ويبتعد عنه. [المسألة السابعة: التنبه للشرط الذي في حديث عتبان]. الشرط هو قوله: (يبتغي بذلك وجه الله)، وكرر ذلك للاهتمام به؛ لأنه مهم جداً، وهو الذي يقول: إنه يبين خطأ المغرورين.

الأنبياء وحاجتهم إلى الله تعالى

الأنبياء وحاجتهم إلى الله تعالى [المسألة الثامنة: كون الأنبياء يحتاجون للتنبيه على فضل لا إله إلا الله. ] هذا واضح من الحديث الذي رواه ابن حبان في صحيحه وغيره، وهو (أن موسى عليه السلام قال: يا رب! علمني شيئاً أذكرك وأدعوك به. فقال: يا موسى! قل: (لا إله إلا الله) قال: يا رب! كل عبادك يقولون هذا. وإنما أريد شيئاً تخصني به! فقال: يا موسى! لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري، والأرضين السبع وضعت في كفة و (لا إله إلا الله) في كفة مالت بهن (لا إله إلا الله))، فهذا واضح؛ لأن فيه التنبيه على فضل هذه الكلمة لكليم الله جل وعلا الذي كلمه واصطفاه بكلامه، فهو على هذا، فإذاً الأنبياء لا يعلمون، إنما علمهم الله جل وعلا العلم الذي لم يوحه الله جل وعلا إليهم، فهم بحاجة إلى تعليم الله جل وعلا لهم، ولم يستغنوا عن الله جل وعلا طرفة عين، ولم يستغن أحد من خلق الله عنه، بل إذا حصل خير فمن الله، وقد قال الله جل وعلا لنبيه: {إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} [سبأ:50]؛ لأن الضلال من عند النفس والفعل، وأما الاهتداء فبالوحي الذي اهتدى به رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك غيره، وهذا لا يقتضي عدم التعظيم للرسل، بل يجب معرفة حقوق الرسل ومعرفة قدرهم، ولكن لا يجوز أن يعطوا شيئاً مما هو لله جل وعلا، فيجب على الإنسان أن يكون متبعاً لربه جل وعلا، ويكون عبداً له، ولا يكون عبداً لمخلوق مهما كان رسولاً أو ملكاً أو غير ذلك، وهذا في الواقع يبين أن كثيراً من الناس اغتر وغلا حتى خلط بين حق الله وحق الرسول، بل جعل بعض خصائص الله أو كثيراً منها أو كلها لغير الله جل وعلا، ولا سيما الشعراء الذين صار حظهم من اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم المدح والإطراء الذي حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما يقول صاحب البردة: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم يقول: إذا حدث أمر يعم الخلق بالكرب والعذاب فليس لي ملجأ إلا أنت ألجأ إليك من هذا الكرب فإلى أين يذهب عن الله جل وعلا؟ يقول: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم يعني: إن لم يأخذ بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدمه تزل لأنه هالك ومذنب. ويقول: فإن من جودك الدنيا وضرتها. وضرة الدنيا هي الآخرة، و (من) هذه تبعيضية، يعني: من بعض جود الرسول صلى الله عليه وسلم الدنيا والآخرة. فماذا بقي لله؟! فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم ويا للعجب! القلم الذي كتب الله به كل شيء، واللوح المحفوظ الذي فيه كل شيء من جملة علوم النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا ما وصل إليه شرك المشركين الذين عبدوا اللات والعزى وغيرهم، وكثير من هذا القبيل، ثم إن كثيراً من الناس يجعل هذه القصيدة شبه الورد، ويحفظها مثلما يحفظ الفاتحة لأجل هذا الإطراء وهذا الغرور، ولن ينفعه ذلك، وإنما ينفعه الاتكال على الله جل وعلا وإخلاص الدعوة له، وإلا فهو صلوات الله وسلامه عليه يقول لأقرب الناس إليه -وهي ابنته فاطمة رضي الله عنها-: (لا أغني عنك من الله شيئاً، سلني من مالي ما شئت)، ويقول لأصحابه: (لا ألفين أحدكم يوم القيامة يأتي وعلى رأسه بعير له رغاء فيقول: يا رسول الله! أغثني. فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً، قد أبلغتك)، فهو صلوات الله وسلامه عليه أفضل الخلق، ولكنه ليس له مع الله شيء، والشفاعة التي يزعم البوصيري أنه يملكها كذب على الله جل وعلا، فما يملك من الشفاعة إلا إذا أذن الله له، والله جل وعلا يقول: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، وهم يطلبون الشفاعة منه، والشفاعة لا تطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما تطلب من الله، يقول جل وعلا: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ} [الزمر:43]، ويقول: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر:44]، فليس لأحد شيء من الشفاعة، فالشفاعة لله، ولكنه إذا أراد رحمة أحد من أهل التوحيد أذن لمن يريد أن يكرمه بأن يشفع، والأمر له، ولهذا بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بياناً واضحاً كما سيأتي، فليس لهؤلاء الذين غلوا وضلوا وجانبوا الحق متعلق بالشفاعة؛ فإن الله جل وعلا وضح ذلك وبينه.

شرط رجحان كلمة التوحيد بجميع المخلوقات

شرط رجحان كلمة التوحيد بجميع المخلوقات [المسألة التاسعة: التنبه برجحانها لجميع المخلوقات مع أن كثيراً ممن يقولها يخف ميزانه]. يعني أنها ترجح بجميع المخلوقات على الإطلاق، كما في هذا الحديث الذي ذكرناه: (لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع وضعت في كفة و (لا إله إلا الله) في كفة مالت بهن (لا إله إلا الله))، وهل هذا يكون لكل أحد؟ أبداً. بل يكون للخواص من خلق الله الذين اصطفاهم الله جل وعلا، والذين أتوا الله بقلب سليم، أما أكثر الخلق فهم يقولون: (لا إله إلا الله) ويدخلون النار، ويخف ميزانهم؛ لأنهم لم يحققونها ولم يعرفوا معناها ولم يعملوا بمقتضاها، فهذا بين واضح، وقد جاءت الأحاديث متواترة أن كثيراً ممن يصلي ويصوم ويزكي يدخل النار ثم يخرج منها، وهؤلاء ليسوا مشركين؛ لأن المشرك محرمة عليه الجنة، وإنما توحيدهم ناقص، وذنوبهم رجحت بحسناتهم، ومن أعظم حسناتهم قول (لا إله إلا الله)، فلم تكن عندهم ترجح بالسيئات، بل السيئات رجحت بها، فهذا كله يدلنا على أن رجحان (لا إله إلا الله) ليس لكل أحد، بل للخواص، بل لمن يقولها مخلصاً وصادقاً وموقناً ومستسلماً لله وقابلاً للحق ومعرضاً عن كل ما سواه، ثم لا يلتفت عن هذا، فيبقى متمسكاً بهذا المنهج إلى أن يموت، فهذا هو الذي إذا قالها بهذه الصفة تكون راجحة على جميع المخلوقات، فلو أتى بملء الأرض خطايا رجحت بهن (لا إله إلا الله) إذا كان قالها على هذه الصفة. وقد يقال: كيف يأتي بملء الأرض خطايا وهذه الكلمة إذا قالها لا يصمد لها شيء؟ والجواب أنه إذا قدر أنه عمل الخطايا ثم أقبل على الله صادقاً وتائباً وقال هذه الكلمة فإنه يكون بهذا المنزلة.

تسبيح الأرض ومعناه

تسبيح الأرض ومعناه [المسألة العاشرة: النص على أن الأرضين سبع كالسماوات]. يقول الله جل وعلا: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق:12]، والمثلية في العدد، أي: كونها سبعاً. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين) يعني: جعل طوقاً لعنقه يحمله يوم القيامة. وهل كل أرض مثل هذه الأرض التي نحن فوقها، أو أنها طبقات سبع كل طبقة تحت الأخرى مثل السماوات، كما قال الله جل وعلا: (وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ)؟ والصواب الرأي الثاني، ولا يلزم أن يكون فيها سكان, ولا يلزم أن تكون هناك فتوق، أي: أن يكون هناك فضاء بين أرض وأخرى. ليس لازماً، وإنما خلقها الله جل وعلا كذلك لحكمة، أما ما يذكر عند تفسير هذه الآية أن كل أرض فيها مثل هؤلاء الخلق بأسمائهم وأوصافهم وألوانهم وأجناسهم فهذا مروي عن بني إسرائيل الذين يريدون أن يفسدوا عقائد المسلمين بخرافاتهم وكذبهم الذي يضعونه على الله جل وعلا، وليس عليه من دليل، نعم صح هذا القول عن ابن عباس، ولكن الظاهر أنه أخذه عن بني إسرائيل.

عمار السموات والأرض

عمار السموات والأرض [المسألة الحادية عشرة: أن لهن عماراً]. أي: لهن عمار حيث يشاء الله ويعلمه، وعمار السماوات واضح أنهم الملائكة، وأما الأرضين -ما عدا الأرض العليا- فالله أعلم بعمارهن، والله جل وعلا يسبح له كل شيء حتى الجمادات، فكل شيء يسبح بحمده، فإذا كان كل شيء يسبح بحمده حتى الجبال والجماد والشجر والدواب والماء والحصى وكل شيء فمعنى ذلك أن هؤلاء هم عمارها، فهذه الأمور هي عمارها.

إثبات صفات الله تعالى

إثبات صفات الله تعالى [المسألة الثانية عشرة: إثبات الصفات خلافاً للمعطلة]. قصده في إثبات الصفات هنا أنه يجب أن يوصف الله جل وعلا بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، لا يحرف الكلام عن وضعه الذي وضع له ولا يعطل عن معانيه التي دلت عليها اللغة العربية، ولا يكيف فيقول: هذه الصفة على كذا وكذا ومثل كذا وكذا. وكذلك لا يمثل فيقول: مثل كذا وكذا. فإن هذا بالنسبة لله ممنوع؛ لأن الله جل وعلا غيب لم يشاهده أحد، ولم ينظر إليه أحد، وهو جل وعلا لا سمي له ولا كفء له ولا ند له فيقاس عليه -تعالى وتقدس-، فلم يبق طريق إلى معرفة الله جل وعلا إلا ما أخبر به عن نفسه فقط، فنحن نتعرف على الله جل وعلا بالخبر الذي جاءنا عنه بالأوصاف التي وصف بها نفسه، فهذا الذي يجب على المسلم أن يفعله، وهذا في الواقع ضل أكثر الناس فيه، فأكثر الخلق اليوم لا يصفون الله جل وعلا بما وصف به نفسه، بل يحرفون، بالتحريف الذي يسمونه تأويلاً، وكثير منهم يعتقد أن ظاهر النصوص كفر، وأن القرآن لو أخذنا بظاهره لقادنا إلى الكفر، كثير منهم يقول هذا ويصرح به، والذي لا يصرح به يكون ذلك مستكناً في نفسه، ولهذا إذا قرأت كتب هؤلاء القديمة والحديثة وجدت أنه إذا تمكن من التصريح صرح، وإذا لم يتمكن قال: هذه متشابهات. يعني قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، وقوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64]، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:4]، وما أشبه ذلك، فهذه عنده يسميها متشابهات، والمتشابه يجب أن يرد إلى المحكم، والمحكم عنده أن الله لا يوصف بهذه الصفة؛ لأنه ليس كمثله شيء، ولا سمي له ولا ند له، فيأخذ العمومات ويجعلها هي المحكمات، ويرد النصوص الجلية التي نص عليها عكس فعل أهل السنة؛ لأن أهل السنة قاعدتهم أن العموم والشمول جاء في النفي، أما النصوص التي تخص كل صفة بنص من النصوص فهذه تكون في الإثبات، وهي طريقة القرآن وطريقة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما عرف به ربه إلى عباد الله، فهو يحدث في كل مقام يناسب ذلك، ويخبر بأن الله يعجب، وبأن الله يضحك, وبأن الله ينزل إلى سماء الدنيا، وبأن الله يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، وأن الله يأخذ الصدقة بيمينه فيربيها للمتصدق إذا كان مخلصاً كما يربي أحدكم فلوه -يعني: ولد فرسه الذي يعتني به كما يعتني بولده في ذلك الوقت-، إلى غير ذلك من الأوصاف التي يصف بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه، ويعلم أمته ذلك، ثم يأتينا بعد القوم الذين زعموا أنهم أعلم وأحكم من الصحابة، وأن الصحابة لم يحكموا هذا الباب ولم يعلموه حق العلم، وإنما علمه الذين تلقوه من الفلاسفة ومن اليونان وحكماء الهند وغيرهم من الأعاجم، وهم الذين أحكموا ذلك، وإذا كان الأمر هكذا فإننا نقول: إن من عقيدة المسلم التي لا بد أن يعتقدها كل مسلم، وإلا فلا تكون عقيدته صحيحة -بل لا يكون مسلماً- من عقيدة المسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغ عن الله جل وعلا، ولا بد للمسلم أن يعتقد هذا، فيعتقد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغ عن الله، فأين تبليغه بأن الله ليس مستوياً على عرشه، وأنه لا يجوز أن يوصف بأن له يدين، وأن ليديه أصابع، وأنه جل وعلا لا يبسط يده، وأنه جل وعلا ليس فوق عباده، وأنه جل وعلا لا يحب أحداً، ولا يحبه أحد، إلى غير ذلك من أقوال هؤلاء الضلال، أين تبليغ الرسول صلى الله عليه وسلم؟ كذلك من عقيدة المسلمين التي لا بد لكل مسلم أن يعتقدها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أعلم الخلق بالله، وهو أعرف الخلق بالله، وهو أتقى الخلق لله، وأنه صلوات الله وسلامه عليه أقدر على البيان من كل أحد، وأنه صلوات الله وسلامه عليه أفصح الخلق وأنصحهم للخلق، فإذا وجد هذا اقتضى ذلك أنه لا يترك شيئاً نحتاج إليه في ديننا -لا سيما في عقائدنا- إلا ويبينه لنا ويوضحه نصحاً وإبلاغاً وامتثالاً لقول ربه جل وعلا {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67] يعني: إن لم تبلغ فأنت متوعد من الله جل وعلا بأنك لم تبلغ الرسالة. ولهذا جعل العلماء هذه الآية دليلاً على إبطال كل بدعة يأتي بها المبتدع؛ لأن هذه البدعة ما بلغها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كانت ديناً لبلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه العقيدة تكفي في إبطال قول هؤلاء النفاة الضلال، وهي عقيدة لازمة، والذي لا يعتقدها معناه أنه ما شهد الشهادة بالرسول صلى الله عليه وسلم على الوجه الذي ينجيه من عذاب الله جل وعلا ويخلصه من التبعة. ثم إن الذي ذكر في هذه النصوص أن الله جل وعلا يتكلم جاء في عدد منه أنه يتكلم ويخاطب ويجزي، وأنه يحب من يشاء من خلقه، وأنه يبغض من يشاء من خلقه، وأنه كذلك يرحم من يشاء، وأنه يثيب، وأنه يعاقب، وكل هذا من صفات الله جل وعلا التي يوصف بها، وهي كلها مرت معنا في هذه النصوص، وكذلك منها أنه في السماء؛ لأنه قال: (لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري) فاستثنى نفسه، فدل على أنه في السماء، والسماء يقصد بها العلو، وكذلك غير هذا من الصفات، وستأتي الإشارة إلى شيء منها فيما بعد. [المسألة الثالثة عشرة: أنك إذا عرفت حديث أنس رضي الله عنه عرفت أن قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عتبان: (فإن الله حرم على النار من قال (لا إله إلا الله) يبتغي بذلك وجه الله) أنه تَرْكُ الشرك ليس قولها باللسان]. يقصد بهذا أن يبين أن النصوص لا تتعارض، وأنها كلها خرجت من مشكاة النبوة، وكلها بعضها يتفق مع بعض، فإخباره أن من قال (لا إله إلا الله) يحرم على النار، وقوله: إنه يدخل الجنة، وإخباره أن كثيراً ممن يقول (لا إله إلا الله) يدخل النار ثم يخرج منها، وكذلك كون كثير من المصلين يدخل النار ويبقى يصلاها وقتاً حتى يمن الله جل وعلا عليه بإخراجه منها كل هذه لا تتعارض؛ لأنها كلها صدرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتحمل كل طائفة منها على طائفة من الناس في الحالة التي تكون فيهم، ويستمرون عليها من إخلاص وعدمه، ومن صدق وعدمه، ومن يقين وعدمه، ومن محبة وعدمها، وما أشبه ذلك، ومعلوم أن التفاوت بين الناس في هذا لا يعلمه إلا الله جل وعلا، فهو تفاوت عظيم، فتجد واحداً يكون مؤمناً صادقاً موقناً لا يتزعزع الإيمان من قلبه، وإيمانه يمنعه من اقتراف المعاصي، ويمنعه من ترك شيء من الواجبات، وتجد آخر يسارع إلى المعاصي وهو يقول: (لا إله إلا الله)، وتجد آخر يحجم عن فعل بعض الواجبات، وهكذا، وهذا شيء مشاهد في الناس كلهم، ومن هنا تفاوتت هذه الجزاءات وهذه الإخبارات عنه حسب تفاوتهم في الإيمان والصدق مع الله جل وعلا.

حقيقة محمد وعيسى صلى الله عليهما وسلم ومنزلتهما عند الله

حقيقة محمد وعيسى صلى الله عليهما وسلم ومنزلتهما عند الله [المسألة الرابعة عشرة: تأمل الجمع بين كون عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم عبدي الله ورسوليه]. يقصد بهذا أنه حصل الغلو في كل منهما -أي: عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم-، أما الغلو في عيسى فقد ذكره الله جل وعلا في القرآن، وهو معلوم إلى اليوم، فالذين يزعمون أنهم نصارى يجعلونه الله، أو يجعلونه ابن الله، أو يجعلونه شريكاً لله جل وعلا وتعالى وتقدس عن قولهم، وهذا الذي عليه النصارى اليوم في جميع الأرض إلا من شاء الله، ومعلوم أن كل من زعم أنه متبع لنبي من الأنبياء يجب عليه -لو كان صادقاً- أن يتبع محمداً صلوات الله وسلامه عليه، وإن لم يفعل ذلك فهو في النار في جهنم، حتى وإن اتبع عيسى كما جاء فلم يقل: إنه ابن الله، ولا ثالث ثلاثة. ولا هو الله، وإن قال: إنه عبد الله ورسوله واتبعه وآمن به واتبع كتابه الذي جاء به، فإذا لم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ويتبعه فهو في جهنم خالداً مخلداً فيها، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (والله لو كان أخي موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي) يعني: ما تسعه شريعته أن يقول: أنا جئت بشريعة وأبقى عليها. فلا بد أن يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أرسل إلى الناس كافة. وبهذا المعنى استدل العلماء على ابطال قول الصوفية -أو كثير منهم-: إن الخضر موجود، وإنه يأتي ويحضر بعض المجالس؛ لأن الخضر لو كان موجوداً وجب أن يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويؤمن به ويجاهد معه ويتعلم ما جاء به؛ لأنه لا يسعه إلا ذلك، وليس الأمر كما كان للرسل الذين قبل رسولنا صلى الله عليه وسلم، وقد كان كل رسول يرسل إلى قومه خاصة، ولهذا يوجد في آن واحد عدد من الرسل كل رسول في بلد، وكل رسول يأتي بشرع، فيكون له دعوة مستقلة، أما رسولنا صلوات الله وسلامه عليه فإنه من خصائصه أنه أرسل إلى الجن والإنس كافة، ولم يشذ شيء عن ذلك، وهذا الذي يجب أن يعتقد. وكيف وهؤلاء النصارى دينهم الذي يدينون به كفر وضلال وشرك مخالف لما جاء به عيسى عليه السلام مخالفة ظاهرة جلية، وإن زعموا أنهم أتباعه، فهم أتباع الشيطان في الواقع، وهو الذي زين لهم هذا الدين. فمعنى كلامه أن عيسى ادعيت فيه الربوبية والإلوهية والشركة والبنوة -تعالى الله عن ذلك-، وهذا ينافي كونه عبداً، وإذا كان عبداً لا يكون له شيء من ذلك، ومحمد صلوات الله وسلامه عليه ادعيت فيه مشاركة الله في المعنى، فما أحد قال: إنه ابن الله. أو: إنه شريك لله جل وعلا في الملك، مثلما تقوله النصارى في عيسى: إنه ثالث ثلاثة. وقد يقول ذلك بعض الجهال هذا، فيقول: أنا أعبد الله وأعبد محمداً. ويقول: أنا أتوكل على الله وعلى رسول الله. كثير من الجهال يقول هذا، وهذا شرك ظاهر جلي واضح. ولكن المقصود أن كثيراً من العلماء الذين يؤلفون ويكتبون شروحاً للحديث وشروحاً للتفسير وقعوا في المعنى الذي وقعت فيه النصارى؛ حيث غلوا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعلوه يعلم الغيب، وجعلوه يملك لداعيه النفع ويصرف عنه الضر، وجعلوا الدعوة له، فيدعونه وهم علماء يكتبون للناس ويوجهونهم، ولكنهم دعاة للوثنية في الواقع، ودعاة للشرك، وقد تبرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون شريكاً لله في شيء، ولذلك قال: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، وإنما أنا عبد الله ورسوله فقولوا: عبد الله ورسوله)، وقال: (لا يستجرينكم الشيطان) يعني: لا يتخذكم مطايا يجريكم في الباطل فتدخلوا في الشرك من هذا الطريق. فهذا مقصود المؤلف في قوله: [تأمل الجمع بين كون عيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهما عبدي الله ورسوله]، وهذا من ناحية العبودية، أما من ناحية الرسالة فإن اليهود -عليهم لعائن الله- أنكروا رسالة عيسى، بل رموه بالبهت هو وأمه مقابلة لقول النصارى: إنه ابن الله أو إنه ثالث ثلاثة. فقالوا: هو ابن زانية وابن بغي؛ لأنها جاءت به بغير أب. ولم يصدقوا أنه رسول الله، وهذا يقابل قول النصارى، ومحمد صلوات الله وسلامه عليه أهل الجفاء والفجور أبوا أن يقروا له بالرسالة، فلا بد من الجمع بين هذين الوصفين لهذين الرسولين، وهما من أولي العزم من الرسل، وهذا أمر معلوم تظافرت عليه النصوص.

ما اختص به عيسى عليه السلام ومالم يختص به مما جاء في حديث عبادة

ما اختص به عيسى عليه السلام ومالم يختص به مما جاء في حديث عبادة [المسألة الخامسة عشرة: معرفة اختصاص عيسى عليه السلام بكونه كلمة الله]. اختص عيسى عليه السلام بذلك لأنه تكون بالكلمة التي قال الله جل وعلا له: (كن) فكان، فيكون بدون أب، بخلاف غيره من الخلق، فكل مخلوق يقول الله جل وعلا له: (كن)، ولكنه يتكون بسبب وبواسطة جعلها الله سبباً في إيجاده، وهو ماء الرجل والمرأة، أما عيسى فاختص من بين هؤلاء الناس كلهم في كونه وجد بالكلمة تكون بها بغير أب. [المسألة السادسة عشرة: معرفة كونه روحاً منه]. معرفة كونه روحاً منه هذا لا يخصه، ولكن المعنى أنه روح من الأرواح التي خلقها، ثم أودعها في مريم، ولهذا أخبر أنه نفخ فيها من روحه، فقال تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} [التحريم:12]، يعني: في فرجها جاءت النفخة ودخلت فيه فتكون عيسى. يقول أهل التفسير: إن الله أرسل إليها جبريل -كما أخبر في سورة مريم أنه تمثل لها بشراً سوياً -فتعوذت بالله منه، فقال: {إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا} [مريم:19]، فتعجبت وقالت: كيف يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغياً؟ أي: ما كنت زانية حتى يكون لي ولد! فأخبرها أن الله جل وعلا على كل شيء قدير، يقول أهل التفسير: نفخ في جيب درعها فذهبت النفخة إلى فرجها ودخلت فيه. ولهذا احتج النصارى بهذا على بعض العلماء وقالوا: هذا كتابكم يدل على ما نقوله، وهو أن عيسى روح منه! فقال هذا العالم: إن الله جل وعلا يقول: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية:13]، فليس هذا من الله إلا من باب التسخير والخلق والإيجاد والتكوين، وليس هذا خاصاً بعيسى.

الإيمان بالجنة والنار

الإيمان بالجنة والنار [المسألة السابعة عشرة: معرفة فضل الإيمان بالجنة والنار]. يعني أنه نص على وجوب الإيمان بالجنة والنار، فقال: (والجنة حق والنار حق)، فدل على الاهتمام بذلك، وأنه يجب أن يؤمن بالجنة والنار، وأن الإنسان لا يكون مؤمناً إلا إذا آمن بهما، والجنة والنار في الواقع يدخل في الإيمان بهما الإيمان بكل ما يكون بعد الموت وأخبر به الوحي من فتنة القبر، ومن عذابه، ومن البعث، ومن الجزاء، والجمع بين يدي الله، وتطاير الصحف، والمحاسبة، والوزن، والحوض الذي يكون في الموقف لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والصراط، وغير ذلك من كل ما جاءت به النصوص يدخل في الإيمان بالجنة والنار.

التوحيد ودخول الجنة على ما كان من العمل

التوحيد ودخول الجنة على ما كان من العمل [المسألة الثامنة عشرة: معرفة قوله صلى الله عليه وسلم: (على ما كان من العمل). ] عرفنا أن معنى قوله: (على ما كان من العمل) أنه إذا جاء بما شرط وإن كانت له ذنوب فإنه يدخل الجنة على ما كان من العمل، فإن جاء بالذنوب مع وجود هذا الشرط يدخل الجنة، ولكن دخوله الجنة هنا لا يدل على أنه لا يجازى بذنوبه، بل يدل على أنه لا بد من دخوله الجنة وإن ناله ما ناله في الموقف أو بعد الموقف أو في القبر قبل الموقف، بخلاف ما في حديث عتبان؛ فإنه يقول: (من قال (لا إله إلا الله) يبتغي بذلك وجه الله حرمه الله على النار)، فإن الله حرم على النار من قال: (لا إله إلا الله) يبتغي بذلك وجه الله، فإن هذا إذا جاء بهذا الشرط فقالها مبتغياً بها وجه الله فإنه لا تناله النار بأذى، لكن معنى (يبتغي) أنه لا بد من الإخلاص.

الإيمان بالميزان وكفتيه

الإيمان بالميزان وكفتيه [المسألة التاسعة عشرة: معرفة أن الميزان له كفتان]. كون الميزان له كفتان هذا بالنص؛ لأنه قال: (لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع وضعت في كفة و (لا إله إلا الله) في كفة)، والله جل وعلا خاطبنا بلغة العرب، ولغة العرب الميزان فيها يطلق على ما يكون له الكفتان اللتان يوزن بها، فيوضع في جانب منه شيء وفي الجانب الآخر شيء آخر، ثم هل نَصِفُ الميزان بأن له لساناً؟ و A لا يلزم؛ لأنه إذا جاء النص بذلك لزم، وإذا لم يأت فأمور الآخرة لا تقاس على أمور الدنيا، وأحوال الآخرة وما يقيمه الله جل وعلا لعباده لا يقاس بما نتعارف عليه في الدنيا حتى يأتي النص.

إثبات الوجه لله جل جلاله

إثبات الوجه لله جل جلاله [المسألة العشرون: معرفة ذكر الوجه]. قوله: [يبتغي بذلك وجه الله] يدل على أن المقصود بابتغاء الوجه أنه يكون مخلصاً لا يصدر منه العمل إلا لله خالصاً ليس فيه شيء لغيره. كما يدل على أن لله وجهاً جل وتقدس، وهو وجهه الكريم الذي النظر إليه أعلى نعيم في الآخرة، وقد فسر الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك جلياً، كما جاء في صحيح مسلم من حديث صهيب: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] فقال: الحسنى الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله جل وعلا)، وجاءت الأحاديث متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في حديث جرير بن عبد الله البجلي، وحديث أبي هريرة، وحديث أنس، وحديث أبي سعيد الخدري، وأحاديث كثيرة جداً، وهي ثابتة في الصحيحين وغيرهما أن الصحابة قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: (هل تضارُّون في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ قالوا: لا. قال: إنكم ترونه كما ترون القمر ليلة البدر)، وجاء هذا في روايات كثيرة متعددة وألفاظ مختلفة، فهذا مما يجب الإيمان به. والنظر إليه إلى وجهه جل وعلا، وإلا فهو أكبر من كل شيء وأعظم من كل شيء، وقد جاء الدعاء المشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم: (وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم)، وهذا دعاء ينبغي للمسلم أن يدعو به، فالنظر إلى وجهه جل وعلا له لذة أعظم من لذة الجنة، وأخبر جل وعلا عن أعدائه أنهم يعذبون بالحجاب عنه، قال تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]، فالحجاب: ضد الرؤية، فيحجب أعداءه وينظر إلى أوليائه وينظرون إليه، أما نظره هو جل وعلا فهو لا يحول دونه حائل، ولا يمكن أن يستر نظره شيء جل وتقدس، ولكن العباد ينظرون إليه في الجنة فقط، وأما في الدنيا فلا أحد ينظر إليه، كما قال صلوات الله وسلامه عليه في حديث الدجال الذي أخبرنا أنه يأتي ويزعم أنه الله رب العالمين، وهو من أكذب الكاذبين، يقول لنا الرسول صلى الله عليه وسلم: (واعلموا أن أحداً منكم لن يرى ربه حتى يموت) يعني: إلى أن يأتي يوم القيامة. فإن كان من أهل الجنة رأى ربه، أما قبل ذلك فلا يمكن. وقد يلتبس على بعض الناس أنه جاء في المسند وفي غيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رأيت ربي في أحسن صورة)، فهذه الرؤية المقصود بها رؤية النوم، رآه في المنام، ورؤية النوم ليست هي الرؤية الحقيقية، وإنما هي مثل يضربه الملك الموكل بالرؤيا، فالرائي يرى شيئاً يليق بإيمانه واتباعه للرسول صلى الله عليه وسلم وحبه لله وطاعته له، فإن كان إيمانه كاملاً وصحيحاً وحسناً رأى صورة تناسب هذا، وإن كان ناقصاً رأى كذلك؛ لأنها ليست رؤية حقيقية، فعلى هذا يجوز للمؤمن أن يرى ربه في النوم، ولكن يراه على حسب إيمانه، وتكون الرؤية مثلاً يضربه الملك الموكل بالرؤيا، والرؤيا قسمها العلماء إلى أقسام ثلاثة: قسم ليس برؤيا، وإنما هي أضغاث أحلام، بل هي حديث النفس وما تشتغل به، فإذا كان الإنسان منهمكاً في عمل من الأعمال، أو في فعل من الأفعال، سواءٌ أكان خيراً أم شراً فغالباً إذا نام يجد أنه يزاول ذلك العمل، ولو كان حديثاً بينه وبين أصحابه يجد أنه يزاول ذلك العمل ويراه؛ لأن نفسه منهمكة فيه، وأصبحت كأنها لا تتجزأ ولا تنفصل عنه، فهذه ليست رؤيا، ولكن هذا يخاف منه في الواقع، لأن النوم شبيه بحضور الموت، فيخاف أن الإنسان إذا حضره الموت يكون مشغولاً بهذه الأمور، ويموت على ذلك، والمفروض أنه يموت على (لا إله إلا الله) والإيمان بالله واليقين به والإقبال على الله والإقلاع عن كل ذنب. القسم الثاني: تخويفات تأتي من الشيطان يخوف بها الإنسان، ويمثل له تمثيلاً يخيفه، وهذا الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا رأى أحدكم ما يكره فلينفث عن يساره ثلاثاً وليستعذ بالله من الشيطان، ثم ليتحول إلى الجنب الآخر، ولا يحدث بما رأى أحداً، فإن ذلك لا يضره)؛ لأن هذا من تخويف الشيطان، والشيطان يطرده الذكر والاستعاذة بالله جل وعلا، وعمله يبطل بذلك. القسم الثالث: الرؤيا التي يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيها: (الرؤيا جزء من بضع وأربعين جزءاً من النبوة)، وذلك لأنه يأتي بها الملك الموكل بالرؤيا، والوحي يأتي به الملك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا شيء جزئي، فهي أمثال يضربها الملك لما سيفعل الإنسان وما سيستقبله، فيمثله له ويقربه له، وقد يكون التقريب والتمثيل ظاهراً جلياً يفهمه الإنسان، وقد يكون فيه خفاء لا يعرفه إلا أهل العلم بذلك، ولهذا لا يجوز أن تقص الرؤيا إلا على عالم ومحب، فلا تقص على جاهل ولا على عدو أو على كاره؛ لأنها قد تأول فتقع على التأويل الذي أولت عليه وهو الشيء المكروه، وقد جاء أن الرؤيا على جناح طائر ما لم تأول، فإذا أولت وقعت، وجاء في التفسير أن الفتيين اللذين أخبرا يوسف في السجن أن أحدهما رأى أنه يعصر خمراً والآخر يحمل خبزاً في النهاية قالا: لم نر شيئاً، وإنما نحن كاذبين فقال: {قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [يوسف:41]، يعني: وقع كما أخبرتكما. فإذا أولت الرؤيا وقعت.

شرح فتح المجيد [16]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [16] على قدر تحقيق العبد للتوحيد يكون ثوابه وأجره، فمن حقق التوحيد على وجهه كان أهلاً لدخول الجنة بغير حساب، ويتم تحقيق التوحيد بما ذكره الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام الذي كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يكن من المشركين، كما يتم بتحقيق ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من أوصاف السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب في كونهم لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون.

تحقيق التوحيد

تحقيق التوحيد

تحقيقه في أنواعه الثلاثة

تحقيقه في أنواعه الثلاثة قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب]. أي: بلا عذاب، والتوحيد هو أن يكون العمل موحداً لله جل وعلا، وألا يكون لأحد فيه شيء، والتوحيد حق الله جل وعلا الذي أوجبه على عباده بأن يكون خالصاً لله جل وعلا، ويكون التوحيد أيضاً فيما يخص الله جل وعلا من الأسماء والصفات والأفعال، فيجب أن يوحد الله جل وعلا في أمور ثلاثة: الأول: في حقه الذي أوجبه على عباده، بأن يُجعل واحداً لله جل وعلا، ولا يوزع بين الله وبين مقاصد أخرى. الثاني: أن يوحد الله جل وعلا بخصائصه من أوصافه وأسمائه التي اختص بها فسمى بها نفسه أو سماه بها رسوله صلى الله عليه وسلم، فيجب أن يوحد فيها وألا يشرك معه أحد من الخلق في ذلك. الثالث: أن يوحد في أفعاله وملكه الذي يفعله ويملكه، فالملك كله لله وحده، والفعل الذي يفعله من الخلق والإحياء والإماتة وغير ذلك يكون خاصاً به، ولا يجوز أن يُلحق به غيره من الخلق. وهذه الأمور الثلاثة دل عليها القرآن في مواضع متعددة, وكذلك دعوات الرسل كلها التي قصها الله جل وعلا علينا دلت على ذلك، فيجب أن يوحد الله جل وعلا في هذه الأمور، وأن يحقق التوحيد، وتحقيقه أن يؤتى بحقائقه، وحقائقه تتطلب العلم به والاطلاع عليه ثم العمل به، ويلزم من ذلك أن يخلص من جميع شوائب الدواخل التي قد تدخل عليه من الرياء والمقاصد التي لا يراد بها الله جل وعلا، وكذلك يلزم من ذلك اجتناب المعاصي والبدع، فإذا وجدت هذه الأمور فصاحبها من الذين يسبقون إلى الجنة بغير حساب ولا عذاب، فهذه هي حقيقة تحقيق التوحيد، أن يأتي به الإنسان عالماً بحقائقه مطلعاً عليها، ثم يتحلى بها عملاً وعلماً، ثم يلزم منه أن يجتنب جميع شوائب الدواخل من المعاصي والبدع وغيرها؛ لأن من حقق التوحيد انجذب بكليته إلى الله فأصبح يحبه الحب كله، وأصبح يوافق أمره موافقة لا ينفك عنها، ولا يجد في نفسه مخالفة لأمر الله جل وعلا، ويكره كل ما نهاه الله عنه أشد كراهة، فمن حقق التوحيد كان بهذه المثابة، ولهذا تحقيق التوحيد صار عزيزاً في الناس، وإن كان في صدر هذه الأمة موجوداً بكثرة، ولكنه فيما بعد أصبح قليلاً، ومن تحلى بذلك فهو لا يحاسب ولا يعذب، ويكون من السبعين ألفاً الذين يسبقون إلى الجنة بغير حساب ولا عذاب.

بم يحقق التوحيد

بم يحقق التوحيد قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب أي: ولا عذاب. قلت: تحقيقه تخليصه وتصفيته من شوائب الشرك والبدع والمعاصي. قال المصنف رحمه الله تعالى: قال الله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:120]]. استدل بهذه الآية على تحقيق التوحيد، وأن من فعل واتصف بما اتصف به خليل الرحمن فقد حقق التوحيد، والله جل وعلا وصفه بأربع صفات في هذه الآية: فوصفه بأنه كان حنيفاً، والحنيف: المائل قصداً عن غير مراد الله إلى مراده. فإبراهيم هذه صفته، كان متجهاً إلى ربه جل وعلا بكليته قاصداً ذلك، أي أنه كان راغباً فيه مقبلاً عليه بعزم ونشاط وجد وقوة، وهذا معنى كونه حنيفاً، وأما كونه أمة فالأمة جاء تفسيرها في هذه الآية عن السلف بمعنيين: المعنى الأول: القدوة في الخير. أي أنه كان قدوة في الخير والدعوة إليه، فهو قدوة في عبادة الله وحبه والإقبال عليه والدعوة إلى ذلك، وهذه القدوة لا تنال إلا باليقين والصبر، فإذا أيقن العبد بأمر الله جل وعلا وبواجباته التي أوجبها عليه وصبر عليها عملاً ودعوة فإنه يكون قدوة. التفسير الثاني: أنه كان واحداً في الحق، ليس معه أحد غيره؛ لأنه كان هو الذي على طريق الحق، وهو الذي اتخذه الله خليلاً، وأما من عداه من قومه فكلهم كفار وكلهم مشركون، ولهذا جاء في الصحيح أنه قيل للطاغية أحد الجبابرة: إنه قدم عليك رجل معه امرأة فيها من الجمال ما لا يصلح إلا أن تكون زوجة لك. وعلم أنه لو قال: إنها زوجتي لأخذها، فقال لما سأله: هي أختي. لأنه علم أنه إذا قال: أختي لا يأخذها، فلما رجع إليها قال: لا تكذبيني، فإني قلت: إنك أختي وأنت أختي في الإسلام، ليس اليوم مسلم غيري وغيرك. وهذا يشهد لقولهم بهذا القول أنه كان وحده على الحق، أمة وحده على الحق والتوحيد، وهذا في الواقع لا ينافي القول الأول، فهو كان في أول أمره واحداً في الحق، وهو أيضاً القدوة، ولهذا أمرنا الله جل وعلا بالتأسي به، قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الممتحنة:4]، فأمرنا بالتأسي به لأنه هو القدوة في ذلك، وهو إمام الحنفاء وإمام الموحدين الذين حققوا التوحيد. الصفة الثالثة: أنه كان قانتاً. والقنوت في اللغة: هو دوام الطاعة، فمن داوم على الطاعة مستقيماً عليها فإنه يكون قانتاً، وكذلك إذا أطال الإنسان الصلاة وأطال الركوع والسجود فإنه يكون قانتاً، قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9]، وسماه قانتاً، فالقنوت هو المداومة على الطاعة ولزومها مع الخشوع والذل والخضوع لله جل وعلا. الصفة الرابعة: أنه ما كان من المشركين، فما كان معهم في القصد والإرادة، ولا كان في المكان، وما كان في الدين والعمل معهم، بل كان مفارقاً لهم في جميع الأحوال، وهو كذلك لم يقع في الشرك، ولهذا أخبر الله جل وعلا عنه في مواضع متعددة أنه ما كان يهودياً ولا نصرانياً ولا كان مشركاً، وكل من الخلق يدعي أنه على طريقته، فاليهود يدعون أنهم أتباعه وعلى نهجه وعلى ملته، والنصارى كذلك، والمشركون كذلك، والله جل وعلا برأه من الجميع، وأخبر أن أولى الناس بإبراهيم اَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ، وهو نبينا صلوات الله وسلامه عليه، فهؤلاء هم أولى الناس به وأقربهم إليه. فهذه الأوصاف الأربعة إذا تحلى بها العبد فقد حقق التوحيد وكان أسوته خليل الرحمن، ويصير ممن لا يعذب يوم القيامة ولا يحاسب، بل يسبق إلى الجنة مع الذين يسبقون إليها.

أوصاف إبراهيم عليه السلام في تحقيق التوحيد

أوصاف إبراهيم عليه السلام في تحقيق التوحيد قال الشارح رحمه الله تعالى: [قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:120] وصف إبراهيم عليه السلام بهذه الصفات التي هي الغاية في تحقيق التوحيد: الأولى: أنه كان أمة. أي: قدوة وإماماً معلماً للخير، وما ذاك إلا لتكميله مقام الصبر واليقين الذين تنال بهما الإمامة في الدين]. هذا أحد المواضع التي وردت في القرآن في (الأمة) يقصد بها القدوة الذي يقتدى به؛ لأن القرآن ورد فيه لفظ (الأمة) في معان عدة هذا أحدها، والمعنى الثاني: الجماعة من الناس. كقوله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} [القصص:23] يعني: جماعة، وهذا كثير، والمعنى الثالث: أنه يقصد بالأمة طائفة من الزمن. كما قال الله جل وعلا في قصة يوسف: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف:45] يعني: بعد وقت وبعد مدة تذكر ما حدث معه ومع يوسف، وما حدث من تأويل الرؤيا. وكذلك قوله: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ} [هود:8] يعني: إلى طائفة من الزمن. الرابع: أنه يقصد بالأمة الدين والملة، كقوله تعالى عن الكفار: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22]، فهذه المعاني التي وردت بلفظ الأمة، أحدها: القدوة. والثاني: الجماعة من الناس. والثالث: الطائفة من الزمن والوقت. والرابع: الملة والدين. قال الشارح رحمه الله تعالى: [الصفة الثانية كونه قانتاً. قال شيخ الإسلام رحمه الله: القنوت: دوام الطاعة. والمصلي إذا أطال قيامه أو ركوعه أو سجوده فهو قانت، قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9] انتهى ملخصاً. الثالثة: أنه كان حنيفاً. قلت: قال العلامة ابن القيم: الحنيف المقبل على الله المعرض عن كل ما سواه. انتهى] لا بد لكل مقبل على الله أن يكون إقباله قصداً وإرادة واختياراً، وأن يكون معرضاً عن كل ما سواه، ويتضمن هذا الحب والارتباط بذلك، وكراهة ما عداه كراهة شديدة، ويكون بذلك فاعلاً للخير تاركاً للشر رغبة فيما عند الله وحباً له وبغضاً للابتعاد عن الله جل وعلا ومخالفته، فلا بد أن يكون بهذه الصفة. قال الشارح رحمه الله تعالى: [الصفة الرابعة: أنه ما كان من المشركين، أي: لصحة إخلاصه وكمال صدقه وبعده عن الشرك. قلت: ويوضح هذا قوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الممتحنة:4] أي: على دينه من إخوانه المرسلين. قاله ابن جرير رحمه الله تعالى، {إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة:4]. الاستثناء في الآية: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الممتحنة:4] إلى قوله تعالى: {إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة:4] يعني: لا تتأسوا بقول إبراهيم حين قال لأبيه: ((لأستغفرن لك))، فهذه لا يجوز لكم أن تتأسوا بها؛ لأنها ما كانت إلا عن موعدة وعدها إياه، يعني أن إبراهيم وعد أباه أن يستغفر له، ولكن لما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه وأصبح معادياً له ومبغضاً له وكارهاً له. فهذا معنى الاستثناء، ولهذا أخبر الله جل وعلا بذلك لما حصل ما حصل من النبي صلى الله عليه وسلم واستغفاره لعمه لما حضرته الوفاة وجاء إليه وقال له: (ياعم! قل: (لا إله إلا الله) كلمة أحاج لك بها عند الله جل وعلا). فقال له جلساء السوء: أترغب عن ملة عبد المطلب فأبى أن يقولها ومات على ملة عبد المطلب، وملة عبد المطلب الشرك، عند ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والله لأستغفرن لك ما ألم أنه)، فصار يستغفر له؛ لأنه كان يحوطه ويحميه، فلما سمع المسلمون الذين مع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك صاروا يستغفرون لآبائهم الذين ماتوا على الشرك يقتدون بالرسول صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله جل وعلا: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة:113] إلى آخرها، ثم قال لهم: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:114]، وفي هذه الآية استثنى الله جل وعلا استغفاره لأبيه من أن نتأسى به في ذلك، فنتأسى به فيما عدا استغفاره لأبيه. [وذكر تعالى عن خليله عليه السلام أنه قال لأبيه آزر: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا} [مريم:48 - 49]، فهذا هو تحقيق التوحيد، وهو البراءة من الشرك وأهله واعتزالهم والكفر بهم وعداوتهم وبغضهم، فالله المستعان]. الواقع أنه لا يحصل التوحيد إلا بالكفر بالطاغوت، والطاغوت: اسم لكل ما يصد عن عبادة الله جل وعلا، سواءٌ أكان معنوياً أم كان حسياً. فكل ما صد عن عبادة الله من المعاني والحسيات فهو طاغوت، ولا يمكن أن يتحلى الإنسان بعبادة الله وتوحيده إلا إذا تبرأ مما يضاد ذلك، لهذا بدأ الله جل وعلا بالكفر بالطاغوت أولاً، فقال: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256]، فهذان أمران متضادان لا يجتمعان أبداً، أي: حب الكفار والمشركين وموالاتهم مع توحيد الله جل وعلا وإخلاص العبادة له. فلا يجتمع هذا مع هذا أبداً، كما قال الله جل وعلا: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22] يعني: ولو كانوا أقرب الناس إليهم لا بد أن يبغضوهم ويعادوهم ويتبرأوا منهم ويزايلوهم ويفارقوهم، ولا يلتقون بهم إلا عند الجهاد أو الدعوة، أي: حين يدعونهم إلى الله جل وعلا. ولهذا جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا بريء من رجل بات بين ظهراني المشركين)، ثم قال: (لا تتراءى ناراهما إلا في سبيل الله) يعني: لا تكون نار مسلم بجوار نار مشرك، فلا بد أن يزايله ويفارقه. والمزايلة والمفارقة أمر حتمي لا بد منه، إلا إذا اضطر الإنسان اضطراراً لا يستطيع معه المفارقة فحينئذ كما قال تعالى: {فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} [النساء:99]، وإذا كان الإنسان في بلاد الكفار يستطيع أن يظهر دينه، ويستطيع أن يدعو إلى ربه، ويستطيع أن يفعل العبادات بكل حرية ولا يخاف أن يصد عن دين الإسلام ويرد، فإن كان كذلك فلا بأس، أي: لا يمنع من كونه يكون في بلاد الكفار إذا كان بهذه الصفة، ولكن يمنع إذا كان يخاف عليه أن يرتد عن دينه، أو أنه يمنع من إقامة شعائر الدين مثل الصلاة والصوم وسائر العبادات، فإذا كان يمنع فتجب الهجرة، ويجب أن يفارق هذا البلد إلى بلد الإسلام، وإلا كان ممن تعرض للوعيد، حيث يقول الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:97]، فيجب أن يتركوا ويهجروا البلد الذي يمنعهم الكفار فيه من إقامة دينهم.

أوصاف للخليل عليه السلام بحلة جديدة

أوصاف للخليل عليه السلام بحلة جديدة قال الشارح رحمه الله تعالى: [قال المصنف رحمه الله في هذه الآية: (إن إبراهيم كان أمة)، لئلا يستوحش تارك الطريق من قلة السالكين، (قانتاً لله) لا للملوك ولا للتجار المترفين، (حنيفاً) لا يميل يميناً ولا شمالاً كفعل العلماء المفتونين، ((ولم يك من المشركين)) خلافاً لمن كثر سوادهم وزعم أنه من المسلمين. انتهى]. هذا كلامه على الآية وفوائدها، وهو في الواقع يتكلم من باب اللوازم، ويذكر الأدنى منبهاً على ما هو الأعلى، فقوله: (إن إبراهيم كان أمة لئلا يستوحش سالك الطريق من قلة السالكين) يشير بهذا إلى أنه كان وحده على الحق، وهذا هو المعنى الثاني الذي يروى عن ابن مسعود أن إبراهيم عليه السلام كان وحده على الحق، وجاء عن غيره أيضاً من السلف المعنى الثاني الذي ذكرناه. وقوله: (لئلا يستوحش السالك من قلة السالكين) يدلنا على أن الإنسان يجب أن يتعرف على الحق، وأنه ليست الكثرة دليلاً على أن الحق يكون معها، بل قد يكون الحق مع الأقلين، وأن الإنسان لا يستوحش من ذلك، بل يجب عليه أنه إذا عرف الحق يتمسك به ولو كان وحده، فهذا معنى كلامه. وأما قوله: (قانتاً لله لا للملوك ولا للتجار المترفين) فيعني أنه بذلك يشير إلى وجوب الإخلاص، وأن يكون العمل خالصاً لله، لا يقصد به منافع دنيوية ولا أحد من الناس، وإنما يقصد به رب العالمين جل وعلا. وأما قوله: (حنيفاً لا يميل يميناً ولا شمالاً كفعل العلماء المفتونين) فيعني أن الذي يعلم الحق يجب عليه أن يتبعه ويحذر من الفتنة، ولا يغتر بمن مال عن ذلك وإن كان من العلماء؛ فإن العلماء منهم من يفتن ويكون مؤثراً للحياة الدنيا على الآخرة، لهذا قال: (كفعل العلماء المفتونين) الذين فتنوا بالدنيا، أو فتنوا بالجاه، أو فتنوا بالمناصب أو ما أشبه ذلك، فالإنسان لا يغتر بمن جانب الحق، ويجب عليه أن يتعرف على الحق ويتبعه، ولا يغتر بمن مال وحاد عنه وإن كان عالماً. وقوله: (وما كان من المشركين خلافاً لمن كثر سوادهم وزعم أنه من المسلمين) يقصد بهذا أن يكون بعيداً عن الشرك وأهله، لا يكثرهم ولا يكون معهم، وهذا في المكان، وكونه أيضاً في العمل أولى من هذا بكثير، فلا يكون على نهجهم وعلى طريقتهم، ولا يكون موافقاً لهم فيما يفعلونه، بل هذا أولى من الأول، فهو نبه بالأدنى على الأعلى. قال الشارح رحمه الله تعالى: [وقد روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل:120] على الإسلام ولم يكن في زمانه أحد على الإسلام غيره. قلت: [ولا منافاة بين هذا وبين ما تقدم من أنه كان إماماً يقتدى به في الخير] هذا في أول الأمر، ففي أول دعوته وأول أمره ما كان على الإسلام غيره، ثم إنه آمن له لوط وهو ابن عمه، فأرسله الله جل وعلا إلى أمة من الناس كما قص الله جل وعلا علينا ذلك، ثم وهبه الله جل وعلا الأبناء الذين صاروا هم آباء الرسل، فكل رسول جاء بعد إبراهيم من أولاده، إلى خاتمهم، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، إلا أن الرسل السابقين من بني إسرائيل كلهم من أولاد إسحاق، وأما محمد صلوات الله وسلامه عليه فهو من ولد إسماعيل، فإسماعيل الذي هاجر به هو ابن هاجر التي وهبتها زوجته سارة له، فلما حصل الحمل ووجد غارت؛ لأنها لم تحمل بعد، فغارت من ذلك، فأمره الله جل وعلا أن يهاجر بها، فذهب بها ومعها ابنها طفل يرضع إلى مكة، ولم يكن فيها أنيس ولا جليس، فوضعهما عند مكان البيت وولى راجعاً إلى الشام، وصارت تناديه يا إبراهيم! إلى من تتركنا؟! فلما لم يجبها قالت له: آلله أمرك بهذا؟ فقال: نعم. عند ذلك رجعت وقالت: إذاً لا يضيعنا الله. فرجعت، وكان معها جراب فيه تمر وسقاء فيه ماء، فصارت تأكل من التمرات وتشرب من الماء حتى نفد، فلما نفد التمر والماء نشف ضرعها، فعطش الصبي فأدركه الموت وصار يعاني شدة، فكرهت أن تجلس عنده تنظر وهو يموت، فنظرت فإذا أقرب مرتفع إليها هو الصفا، وصعدت لعلها ترى أحداً وتطلع، فلما لم تر أحداً نزلت متجهة إلى المروة، ولما وصلت إلى بطن الوادي ركضت ركض المجهود، وسعت سعياً شديداً إلى أن وصلت إلى المروة، وصعدت فصارت تتطلع فما رأت شيئاً، وفعلت هذا سبع مرات، وفي السابعة سمعت صوتاً فقالت لنفسها: صه. ثم سمعت فقالت: لقد أسمعت، فإن كان عندك فأغث. فنظرت فإذا جبريل عليه السلام عند الصبي، فذهبت إليه، فبحث الأرض فنبع الماء، فصارت تكفكف التراب عليه لئلا يسيل، وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (رحم الله أم إسماعيل، لو تركت زمزم لكانت عيناً معيناً)، ثم صارت تشرب وتدر على صبيها، ثم جاء قوم من جرهم ونزلوا في أسفل الوادي، ورأوا الطير تحوم، فأرسلوا واردهم فأخبرهم بالماء، فجاؤوا يستأذنونها أن ينزلوا عندها فأذنت وقالت: لا حق لكم في الماء تعني: ما تملكون شيئاً منه، وتشربون ولا تملكون. فشب إسماعيل عليه السلام، وتزوج منهم، وتعلم العربية منهم.

السابقون إلى الجنة وكيف حققوا التوحيد

السابقون إلى الجنة وكيف حققوا التوحيد قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون:59]]. هذا أيضاً من أوصاف المؤمنين الذين يسبقون إلى الجنة، حيث قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} [المؤمنون:57]، والخشية: هي انفعال القلب تأثراً بحب الله جل وعلا وإقبالاً عليه ورجاء لثوابه وخوفاً من عذابه، ثم التزام أوامره والابتعاد عن نواهيه. ثم قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:58]، والإيمان يقتضي العمل، والآيات يقصد بها الآيات الكونية والآيات الشرعية، والكونية تستلزم الإيمان بالأقدار وأنها تكون لله جل وعلا، وأن كل شيء يوجد فهو بقدر الله جل وعلا وتكوينه وإرادته، فهم يؤمنون بذلك، والشرعية تستلزم التزام الأمر واجتناب النهي ثم قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون:59]، فمدحهم باجتناب الشرك وتركه، وهذا يدلنا على أن الذي يجتنب الشرك كله دقه وجله قليله وكثيره يكون من خواص المؤمنين، فيكون من الذين حققوا التوحيد فيسبقون إلى الجنة، وهذا هو وجه الاستدلال بالآية على الباب، وهو أن من حقق التوحيد دخل الجنة؛ لأنه أثنى عليهم باجتناب الشرك، فدل على أن اجتناب الشرك كله يقتضي أن يكون الإنسان محققاً للتوحيد، ويكون توحيده خالصاً لله جل وعلا، فيكون من السبعين ألفاً الذين يسبقون إلى الجنة. قال الشارح رحمه الله تعالى: [وصف المؤمنين السابقين إلى الجنة فأثنى عليهم بالصفات التي أعظمها أنهم بربهم لا يشركون، ولما كان المرء قد يعرض له ما يقدح في إسلامه من شرك جلي أو خفي نفى ذلك عنهم، وهذا هو تحقيق التوحيد الذي حسنت به أعمالهم وكملت ونفعتهم. قلت: قوله: حسنت وكملت. هذا باعتبار سلامتهم من الشرك الأصغر، وأما الشرك الأكبر فلا يقال في تركه ذلك، فتدبر. ولو قال الشارح: صحت لكان أقوم]. يعني أن الشرك الأكبر اجتنبوه فسلموا من الكفر والخلود في النار فقط، وليس فيه أنهم دخلوا في السبعين ألفاً وسبقوا إلى الجنة؛ لأن اجتناب الشرك الأكبر لا يقتضي اجتناب الأصغر، ولا ترك الذنوب التي يعاقب عليها الإنسان. قال الشارح رحمه الله تعالى: [قال ابن كثير رحمه الله: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون:59] أي: لا يعبدون مع الله غيره، بل يوحدونه، ويعلمون أنه لا إله إلا الله، أحد صمد لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، وأنه لا نظير له]. يعني أن هذا يقتضي التوحيد بأقسامه، فقوله: (يعبدونه وحده) مع قوله: (وأنه أحد صمد لا نظير له) يشير بالأول -أنهم يعبدونه- إلى الإخلاص في العبادة وتوحيد الإلهية، ويشير بالثاني إلى الإخلاص في توحيد الصفات والأسماء، وأنه جل وعلا أحد صمد لا شريك له في أحديته وصمديته أيضاً، فيسلم من الشرك في الأقسام الثلاثة كلها.

شرح فتح المجيد [17]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [17] هناك سبعون ألفاً من هذه الأمة يدخلهم الله عز وجل الجنة بلا حساب ولا عذاب، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أبرز الصفات التي ميزت هؤلاء لينالوا هذا الفضل العظيم، فذكر عليه الصلاة والسلام أنهم لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون.

حديث حصين بن عبد الرحمن ودلالاته

حديث حصين بن عبد الرحمن ودلالاته

الرقية من العين والحمة وشرط الراقي

الرقية من العين والحمة وشرط الراقي قال المصنف رحمه الله: [وعن حصين بن عبد الرحمن قال: كنت عند سعيد بن جبير، فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ فقلت: أنا. ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاة، ولكني لدغت. فقال: فما صنعت؟ قلت: ارتقيت. قال: فما حملك على ذلك؟ قلت: حديثٌ حدثناه الشعبي. قال: وما حدثكم؟ قلت: حدثنا عن بريدة بن الحصيب أنه قال: (لا رقية إلا من عين أو حمة) قال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم، فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه. فنظرت إلى سواد عظيم فقيل لي: هذه أمتك، ومعهم سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب. ثم نهض فدخل منزله، فخاض الناس في أولئك، فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئاً. وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه، فقال: هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون. فقام عكاشة بن محصن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. قال: أنت منهم. ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: سبقك بها عكاشة). في الحديث فوائد كثيرة في الواقع، وفيه تحقيق التوحيد، وحصين بن عبد الرحمن من تلامذة سعيد بن جبير، وسعيد بن جبير من كبار التابعين وعلمائهم المشهورين الذين تتلمذوا على ابن عباس وتلقوا عنه التفسير والعلم في كتاب الله جل وعلا، ولهذا اشتهر بالتفسير سعيد بن جبير، ورواياته في التفسير كثيرة جداً، وقد قتله الحجاج بن يوسف ظلماً، وكان هو آخر من قتل الحجاج، وكان رحمه الله مجاب الدعوة، فدعا وقال: اللهم لا تسلطه على مسلم بعدي، فهلك بعد قتله سعيداً، والله جل وعلا يأخذ الظلمة أخذ عزيز مقتدر، وقد جاء في قصته معه أنه لما جيء به قال: ما اسمك؟ قال: اسمي سعيد. قال: بل أنت شقي. قال: أمي أعلم حين سمتني فصار بينه وبينه كلام، ولم يخف منه، ولما أراد قتله قال: دعني أصلي ركعتين. فقال: صل. فصلى وقال: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً. فقال: اصرفوه عن القبلة. ولما صرفه استمر في صلاته، ثم انتهى وقال: لولا أن تقول إنك خائف من الموت لأطلتها، فاصنع ما شئت فقتله، وكان معروفاً بكونه مجاب الدعوة، حتى إنه مرة دعا على ديك كان يوقظه للصلاة، فكان يصيح آخر الليل، فإذا أذن هذا الديك قام وتهجد، وفي ليلة من الليالي لم يؤذن هذا الديك، فما شعر إلا بطلوع الصبح، عند ذلك قال: ما له قطع الله عنقه؟! فانقطعت عنقه، فلما رأته والدته قالت: يا بني: لا تدع على مسلم. فـ سعيد كان في حلقة التعليم يعلم تلامذته، فقال لهم: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ والبارحة يقول أهل اللغة: هي اسم لليلة التي مضت، فإن كنت قبل زوال الشمس تقول: الليلة، وأما إذا زالت الشمس بعد الظهر تقول: البارحة؛ لأنها برحت ومضت، والكوكب الذي انقض معناه أنه سقط، وهو شهاب، وهو يذكر ذلك ليعلمهم علماً بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال حصين بن عبد الرحمن: أنا ثم إنه خشي أن يذم بأنه لما رآه كان يتهجد يصلي ويتعبد؛ لأن انقضاض الكوكب كان في وسط الليل، فلما خشي أن يذم بذلك نفى هذا، وقال: أما إني ما كنت في صلاة، ولكني لدغت. يعني: أكرهت على السهر، ولم أسهر أتهجد وأتعبد وهذا يدلنا على بعد السلف عن الرياء والسمعة ومدح الإنسان بما ليس فيه، خلافاً لمن يقول: فعلت وفعلت، ويذكر الأشياء للناس ولو لم يكن إليها حاجة حتى يعلمهم بأنه عنده شيء من الصلاح، فهذا يدل على الفساد ولا يدل على الصلاح في الواقع؛ لأن المخلص المؤمن يحرص على ألا يظهر عمله للناس، بل يكون بينه وبين الله خشية أن يلحق العمل النقص؛ لأن النفس في الواقع جبلت على حب المدح والثناء، وجبلت على كونها تترفع على الناس وتترأس، ولهذا قال حصين بن عبد الرحمن: أما إني ما كنت في صلاة، ولكن لدغت. عند ذلك سأله سعيد شيخه: ما صنعت؟ أي: حين لدغت ماذا فعلت؟ وهذا يدل على طلب العلاج، وأنه أمر مستقر عند السلف، فكانوا إذا حصل لهم مرض أو أمور تتطلب العلاج يبحثون عن الدواء ويتداوون كما سيأتي. فقال: ارتقيت. وفي رواية مسلم: (استرقيت) يعني: طلبت من يرقيني والرقية هي القراءة على المصاب حتى يزول الألم أو يخف، عند ذلك قال له شيخه سعيد: فما حملك على ذلك؟ وهذا فيه أن السلف لا يفعلون شيئاً إلا بدليل، وأنه إذا فُعل شيء يسألون الفاعل: ما دليلك؟ وما الذي جعلك تعمل هذا؟ وما مستندك؟ وأما قول: رأيت فلاناً أو رأيت الناس يفعلون هذا أو: كل الناس يفعلون هذا فهذا لا يجوز عندهم، ولا يسوغ عندهم أبداً، فلا بد من الاستناد إلى دليل، والدليل يكون من قول الله جل وعلا، أو من قول رسوله صلى الله عليه وسلم، لهذا قال حصين: حديث حدثناه الشعبي. والشعبي أحد التابعين -أيضاً- الكبار الذين اشتهروا وعرفوا بكثرة الحفظ، حتى إنه يذكر عنه أنه قال: ما كتبت سوداء في بيضاء. وكل ما كان يسمعه يحفظه، حتى إنه ذكر عنه أنه كان إذا ذهب إلى السوق يضع في أذنيه كرسفاً لئلا يدخل شيء من كلام الناس الذي لا يريده؛ لأنه ما سمع شيئاً إلا حفظه. فقال له: وما حدثكم الشعبي؟ قال: حدثنا عن بريدة وهو - بريدة بن الحصيب صحابي مشهور رضي الله عنه- أنه قال: (لا رقية إلا من عين أو حمة). فالظاهر أن هذا موقوف هنا، وهكذا في الصحيحين، ولكن هذا جاء في مسند الإمام أحمد وفي الترمذي وغيرهما مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في مسند الإمام أحمد بسندٍ جيد، فقال: (لا رقية إلا من عين أو حمة)، ومعنى قوله: (لا رقية إلا من عين أو حمه) أن الرقية تكون من العين والحمة أشفى وأبلغ وأنجح من غيرها، وليس معنى ذلك أنه لا تجوز الرقية إلا من هذين المرضين، وإنما تكون في هذين الأمرين أنفع، والعين إصابة العائن بعينه، وهو الحاسد، والعين تقع من إنسان ولو لم يقصد؛ لأن كثيراً من الناس تكون نفسه مجبولة على الحسد -نسأل الله العافية- والتطلع إلى ما عند الناس، ويخرج من نفسه شيء شبه السم متكيف مع وساوس الشيطان وإرادته، فيصيب صاحب النعمة، فمن أصابه شيء من ذلك يمرض وقد يموت، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (العين حق)، ويجب على الإنسان إذا كان مبتلى بشيء من ذلك ألا يحقق هذا، بل إذا حصل شيء من ذلك يبارك على من حصل له من ذلك، ويقول: اللهم بارك عليه فإنه تزول الإصابة بإذن الله، وقد ذكر العلماء الفقهاء أن الإنسان إذا عرف بإصابته بالعين وكان لا يمتنع من ذلك أنه يجب على ولي الأمر أن يسجنه حتى يموت؛ لأنه يؤذي الناس بذلك. فالمقصود أن العين قد تكون عند بعض الناس أمراً مستقراً في قرارة نفسه، وكلما غبط إنساناً أو رأى عنده نعمة قد يصيبه بإذن الله جل وعلا، والعجيب أنها لا تصيب العدو، وإنما تصيب من ليس عدواً له، أما العدو فلا تصيبه، وقد قال الله جل وعلا في وصف الكفار: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} [القلم:51] أي: كادوا أن يصيبوك بأعينهم، ولكن الله جل وعلا يحفظ نبيه. فالرقية من هذا المرض -الحسد- نافعة جداً، فمن أنفع علاج العين الرقية، وإذا كان الراقي من المؤمنين الموقنين الذين عندهم قوة في الإيمان وقوة التمسك بالحق ومدافعة الوساوس الشيطانية والنفوس الشريرة فإنه يبرأ بإذن الله. وأما الحمة فالمقصود بالحمة ذوات السموم التي إذا أصابت ضربت بحمتها، والحمة هي إما العقرب -أي: إبرة العقرب تسمى حمة-، وكذلك ناب الحية، وكذلك إبرة الزنبور؛ لأنه يحدث بسببها الحمى والألم الشديد، فالرقية أيضاً من هذا النوع نافعة جداً، بشرط أن يكون الراقي ممن يؤمن بآيات الله، وعنده قوة الإيمان وقوة مدافعة الشرور والنفوس الشريرة؛ لأن هذه تتعاون مع الشياطين، فالحمة وما أشبهها يستعين بها الشيطان، فإذا حصلت الرقية شفي بإذن الله. وثبت في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث سرية في أمر من أموره صلوات الله وسلامه عليه للجهاد في سبيل الله، وكانت السرية قليلة، فاستضافوا حياً من العرب فلم يضيفوهم، فلدغ سيده هذا الحي لدغته حية، فسعوا له بكل ما يمكن فلم يفده شيء، فقال بعضهم لبعض: لو ذهبتم إلى أولئك الركب فلعل عندهم راقياً. فذهبوا إليهم فقالوا: هل فيكم من راقٍ؛ فإن سيدنا قد لدغ؟ فقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: نعم. ولكنكم لم تضيفونا، فلا أرقي إلا بجعل. فاتفقوا على قطيع من الضأن، فأقبل يقرأ الفاتحة وينفث عليه، فانطلقت رجله وصار يمشي كأن لم يصب بشيء، ثم قال أبو سيعد لأصحابه: لا نقرب هذا القطيع بشيء، فلا نأكل منه ولا نشرب منه ولا ننتفع منه بشيء حتى نقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسأله عن ذلك، فما ندري هل هو حلال أم حرام فلما قدم عليه سأله، فقال صلوات الله وسلامه عليه: (وما يدريك أنها رقية؟) يعني الفاتحة. فأمرهم أن يقتسموا فاقتسموا هذا الجعل، وجاء أيضاً في الحديث الآخر: (أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله)، ويدخل في هذا الرقية، ولكن إذا كان الإنسان يرقي بآيات الله أو بأسمائه وأوصافه، وليس من الدجالين الذين يحتالون على أكل أموال الناس من كل سبيل، و

حال الموحدين يوم القيامة

حال الموحدين يوم القيامة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عرضت علي الأمم). وكل أمة يأتيها نبي من أنبياء الله تأتي يوم القيامة مع نبيها، ولكن الذي يأتي مع النبي هم المؤمنون فقط، أما الذين كفروا به فالكفار بعضهم مع بعض كلهم يجمعون ثم يلقون في جهنم من أولهم إلى آخرهم، ولكنهم يأتون أفواجاً، فكلما ألقي فيها فوج أو أمة لعنت أختها التي سبقتها، وقالت: أنتم الذين عملتم هذا العمل واقتدينا بكم في العمل. ثم تلعن أولاهم أخراهم، وهكذا يصبحون متلاعنين قبل دخولهم جهنم، بخلاف أهل الجنة، فإنه ينزع ما في صدورهم من غل قبل دخول الجنة، ويدخلون الجنة إخواناً متحابين متآلفين، وذلك أن الخير كله في الجنة، وأن الشر كله بحذافيره في النار في جهنم. وعرض الأمم على النبي صلى الله عليه وسلم يحتمل أن يكون يقظة وأنها مثلت له إذا أتت يوم القيامة كما مثلت له الجنة والنار في مسجد صلوات الله وسلامه عليه لما قام يصلي صلاة الكسوف، يقول: (لقد عرضت علي الجنة والنار دون هذا الحائط حتى خشيت أن تأتي عليكم، فقلت: يا رب! وأنا فيهم؟ وأما الجنة فإني هممت أن أتناول منها قطفاً، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، ثم بدا لي ألا أفعل)، فهي مثلت له، ويجوز أن يكون التمثيل أمراً حقيقياً؛ لأنه شاهد النار وفيها من يعرفهم، وهو يقول: (مثلت لي الجنة والنار)، ويقول: (ورأيت فيها امرأة في هرة حبستها لا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، فرأيتها تخمش وجهها في النار)، وقال: (رأيت فيها عمرو بن لحي الخزاعي يجر قصبه في النار)؛ لأنه أول من غير دين إبراهيم، مع أنه يقول: مثلت. فتمثيلها بمن فيها. وكذلك يجوز أن يكون تمثيل رؤيته للأمم مع أنبيائها من هذا القبيل، مثلت له فصار يشاهدها كهيئتها وهي تعرض على الله جل وعلا يوم القيامة، والمؤمنون هم الذين يأتون للعرض على ربهم جل وعلا مع أنبيائهم. ويجوز أن يكون ذلك رؤيا منام، كما جاء في الصحيحين أنه ذكر رؤيا عجيبة فيها مناظر وأشياء ذكرها، فرأى النار، ورأى الجنة، ورأى آدم، ورأى غير ذلك رؤية منام، ومنام الأنبياء وحي يجب العمل به وتطبيقه، وتثبت الأحكام به، فهو نوع من أنواع الوحي الذي يوحى إليه صلوات الله وسلامه عليه، وأي نوع كان فهو حق لا شك فيه، وصدق أتى من عند الله جل وعلا. قال صلى الله عليه وسلم: (فرأيت النبي ومعه الرهط) الرهط: هم العشرة فأقل، ما بين الثلاثة إلى العشرة، فإذا زادوا على ذلك فهم جماعة، فمعنى ذلك أنه رأى بعض الأنبياء ليس معه إلا هذا العدد القليل. ثم قال: (ورأيت النبي ومعه الرجل والرجلان) يعني أنه يأتي إلى قومه فيدعوهم إلى الله جل وعلا بالوحي الذي أوحاه الله إليه فلا يتبعه إلا رجل أو رجلان. وهذا عجيب، وأعجب منه قوله: (ورأيت النبي وليس معه أحد) يعني أنه يأتي إلى قومه فيدعوهم فيردون عليه دعوته كلهم، ولا يتبعه واحد منهم، وهذا دليل على أن أكثر الناس هالكون، وأن أكثر بني آدم في النار؛ لأنهم عصوا الرسل، ويدل على هذا نصوص كثيرة، منها ما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله ينادي آدم فيقول: يا آدم! أخرج بعث النار من ذريتك، فيقول: يا رب! وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون)، فمن كل ألف لا يبقى إلا واحد فقط، فمن كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون هم بعث النار يبعثون إليها، ويبقى واحد فقط، وقد قال الله جل وعلا: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ} [الأنعام:116]؛ لأنهم ضالون، وقال: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سبأ:20] في نصوص كثيرة تدل على ضلال الناس، فلهذا يجب على العبد أن يتعرف على الحق، ولا يغتر بالكثرة، فيتعرف على الحق مع من سيتبعه، ولا يغتر بأن الكثيرين خالفوا ذلك؛ فإن الحق عليه نور تطمئن إليه القلوب، وإذا عرفه الإنسان اطمأن إليه، أما قبل أن يعرفه فهو ينكره، ويتصور أن الحق مع الكثرة. ثم يقول صلى الله عليه وسلم: (ورفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي) السواد معناه أنه يرى أشخاصهم ولا يميز أعيانهم، وإلا فهو صلوات الله وسلامه عليه يعرف أمته لو كانوا من قرب، ولكنه ما ميز أعيانهم، ولهذا ظن أنهم أمته، وقد جاء في الصحيحين أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أخبرهم أنه يقف عند الحوض يذود عنه من ليس من أمته قالوا: كيف تعرف أمتك؟ فأجابهم بأنه لو كان لإنسان خيل غر محجلة بين ظهراني خيل بهم دهم ألا يعرف خيله؟ قالوا: بلى. قال: (فإن أمتي يأتون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء). ثم في هذا دليل واضح على فضل بني إسرائيل وفضل موسى، وعلى كثرتهم حتى ظن أنهم هم أمته، فقيل له: هذا موسى وقومه. وهذا فيما يظهر خاص بموسى وبمن دعاهم واتبعوه، وأما بعد ذلك فقد غيروا وتفرقوا، وقد قال صلوات الله وسلامه عليه: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة -يعني فرق بني إسرائيل الذين هم اليهود والنصارى وفرق هذه الأمة- فقيل: من هم يا رسول الله -أي: الفرقة الواحدة الناجية من هي-؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي)؛ لأنه صلوات الله وسلامه عليه هو القدوة، وأصحابه هم الذين تلقوا الحق عنه وقبلوه تمام القبول، وبلغوه الأمة، وبلغوه إلى من بعدهم، فهم الواسطة بين الأمة وبين رسولها صلوات الله وسلامه عليه الذين نقلوا الدين غضاً طرياً كما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم العدول باتفاق أهل الهدى؛ لأن الله عدلهم في كتابه، وما عدله الله وأثنى عليه وأخبر أنه رضي عنه يجب أن يعدل وأن يترضى عنه وأن يتبع وأن تعلم هدايته، وأما الذين يقدحون فيهم فهم في الواقع يقدحون في الشرع؛ لأن من قدح في الواسطة بيننا وبين رسوله فقد قدح بشرعنا، كما قال الإمام أبو زرعة: إنما يريدون أن يقدحوا في الشرع.

صفات أهل التوحيد الذين لا حساب عليهم

صفات أهل التوحيد الذين لا حساب عليهم قال: (فقيل لي: انظر إلى الأفق) الأفق: هو أن تنظر أمامك أو يمينك أو شمالك أو خلفك فترى السماء وصلت إلى الأرض، فهذا الذي تشاهده يسمى الأفق، وفي رواية: (قيل لي: أنظر إلى الأفق. فنظرت فإذا وجوه الرجال قد سدت الأفق، ثم قيل لي: أنظر إلى الأفق الآخر. فنظرت كذلك. فقيل لي: هذه أمتك، ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب). إلى هنا نهض رسول صلى الله عليه وسلم فدخل منزله، وبقي الصحابة يتساءلون لحرصهم على الخير عن هؤلاء السبعين ألفاً، ويسأل بعضهم بعضاً: من ترى منهم؟ فمنهم من قال: لعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا لأنهم علموا فضل الصحابة، وفضائلهم معلومة في كتاب الله وفي أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن ليس هذا خاصاً بالصحابة. وقال بعضهم: لعلهم الذين ولدوا في الإسلام. فيقولون: نحن كنا مشركين ووقع منا الشرك، أما أبناؤنا فقد ولدوا في الإسلام فلم يقع منهم شرك، فيجوز أن يكونوا هم، وذكروا أشياء، منها أنهم قالوا هم الشهداء. وقد جاء هذا أيضاً، وهو أنهم قالوا: هم الشهداء. وكل هذه لها أوجه من النظر والأدلة، عند ذلك خرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يتناظرون ويتساءلون، وهذا دليل واضح على مشروعية المناظرة في مسائل العلم، وطلب المعاني التي يذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بألفاظه أو يذكرها الله جل وعلا، فخرج عليهم فأخبروه بما قالوا، وفيه أيضاً عرض المسائل التي يكون فيها خلاف على العالم والرجوع إليه في ذلك حتى يفصل في المسائل ويبين الحق فيتبع، فقال صلوات الله وسلامه عليه: (هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون)، ذكر أربع صفات لهم، وهي عامة: الأولى: أنهم لا يسترقون، يعني لا يطلبون من غيرهم الرقية إذا احتاجوا إليها من مرض أو غيره. وهذا هو الشاهد الذي ساق سعيد بن جبير الحديث من أجله، ساقه ليستدل به على تلميذه الذي ارتقى لما لدغ، فقال: (هم الذين لا يسترقون).

حكم الرقية

حكم الرقية اختلف العلماء في حكم الرقية، فمنهم من كرهها لهذا الحديث وأشباهه، ومنهم من استحبها وقال: هي مستحبة. وإذا كانت مستحبة فالإنسان يثاب عليها، ومنهم من فصل، ولكن مع هذا كله يجب أن تكون الرقية مأذوناً بها شرعاً، فتكون بآيات الله والأدعية التي يدعى بها الله جل وعلا بأسمائه وأوصافه، وقد قال السيوطي رحمه الله: أجمعوا على أن الرقية إذا اجتمع فيها ثلاثة شروط أنها جائزة: الشرط الأول: أن تكون باللغة العربية، وبما يعرفه الناس. الثاني: ألا يكون فيها شيء ممنوع مما يكون شركاً أو وسيلة إلى الشرك. الثالث: أن يكون معتمداً على الله ولا يعتقد أنها تؤثر بنفسها، وإنما بإذن الله جل وعلا. وسيأتي الكلام في الرقية، والصواب أن الرقية مستحبة إذا كان الإنسان يرقى نفسه، أو كانت رقية بلا طلب فلم يطلب من غيره أن يرقيه، وأما الذي يمنع من السبق إلى الجنة هو الاسترقاء، وهو طلب الرقية من الآخرين، وكونه يأتي إلى غيره ويسأله؛ لأن المسألة فيها افتقار القلب إلى غير الله جل وعلا، وهو نوع من الحاجة لغير الله، والحاجة قد تكون شركاً، والمسلم يجب أن يكون غنياً عن الخلق كلهم لله جل وعلا، ويكون فقره إلى الله وحده، ويكون افتقاره إلى ربه وحده، أما الخلق فيستغني عنهم جميعاً حتى يكون عبداً لله حقاً، فلا يؤخذ من قلبه ما يأخذه صاحب المنة والفضل عليه؛ لأن كما قيل: احتج إلى من شئت تكن فقيره أو أسيره، وأنعم على من شئت تكن أميره. فقد جبلت القلوب على الميل والخضوع لمن أحسن إليها، فهذا في الواقع هو السبب في المنع من الاسترقاء، أما الرقية بنفسها فهي جائزة، بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم رقى ورقي، رقاه جبريل عليه السلام ولكن بدون طلبه، وإنما عرض عليه عرضاً فقبل العرض، وهو صلوات الله وسلامه عليه رقى الحسن والحسين وغيرهما، والراقي محسن إلى غيره، والإحسان هو الطريق للسبق إلى الجنة، أما ما وقع في صحيح مسلم من هذا الحديث أنه قال: (لا يرقون ولا يسترقون) فقد حكم الحفاظ على كلمة (يرقون) أنها وهم من الراوي، وإنما الصواب: (يسترقون)؛ لأن الراقي محسن إلى غيره، والإحسان ما يكون مانعاً من السبق إلى الجنة، والعلة في ذلك هي ما ذكرنا فقط.

المقصود بقوله: (لا رقية إلا من عين أو حمة)

المقصود بقوله: (لا رقية إلا من عين أو حمة) الحديث الذي ذكره حصين بن عبد الرحمن عن بريدة أنه قال: (لا رقية إلا من عين أو حمة) فالعين المقصود بها إصابة الإنسان الحاسد غيره بعينه وهي حق، فالعين حق كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، والرقية منها نافعة، والحمة معناها: ذوات الحموم. أي: ذوات الإبر التي تضرب بإبرتها، كالعقرب ونحوها مما يحدث بسبب ذلك حمى وألم ومرض وشدة، فالرقية من هذا نافعة جداً، سواءٌ أكانت عقرباً أم حية أم غيرها، ولكن ليس كل راق تنفع رقيته؛ لأنها تتوقف على الإيمان، وعلى قوة النفس والتوكل على الله، وتصديق خبر الله وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم واليقين بذلك، أما إذا كان الإنسان متردداً أو شاكاً يقول: تنفع أو لا تنفع فغالباً لا تنفع، فإذا كان متردداً وشاكاً وليس عنده جزم فرقيته لا تنفع، ولهذا تفاوت الناس في الرقية من هذا القبيل تفاوتاً عظيماً، فمنهم من يشفى بمجرد رقية شفاءً عاجلاً، كما ثبت في الصحيح عن أبي سعيد الخدري في قصة اللديغ. وأما قوله: (لا رقية إلا من عين أو حمة) فمعنى ذلك أنه لا رقية شافية ومجدية ونافعة أكثر منها في العين والحمة، وإلا فالرقية تنفع من جميع الأمراض، ولكن نفعها من هذين المرضين -العين والحمة- أنفع وأكثر من غيرهما، وذلك لأن هذه الأمور غالباً تحدث بواسطة النفوس الشريرة، سواءٌ من الإنس أم من الجن؛ لأن الجن يشتركون مع الإنس، ويشتركون مع الدواب الخبيثة كالحية والعقرب، فإذا جاء الإيمان من نفس خيرة متأثرة بآيات الله وبالطمأنينة به فإنها تكون مضادة لهذه النفوس الخبيثة، فيحصل الشفاء بإذن الله، وكل شيء بأمر الله جل وعلا، والإنسان ليس عنده شيء، والأمر كله يعود إلى الله، ولكن للتفاوت بين الناس في قوة الإيمان والثقة بالله يحصل ذلك.

التطير ومعناه

التطير ومعناه وقوله: (ولا يتطيرون) التطير: هو التشاؤم بالطيور. وهو عادة قديمة من عادات الجاهلية، ومعلوم أن الطيور ليس عندها تصرف, ولكن يستدلون على الأمور المستقبلة بطيرانها وبأصواتها، وقد علمت طريقتهم بالتواتر، حتى إنهم كانوا إذا خرج أحدهم يريد سفراً أو غزواً أو طلب رزق فشاهد غراباً فإنه يرجع ويقول الغراب: يدل على الغربة. ويتشاءم بذلك، وإذا نعق صار الأمر أشد عندهم، فيقول: نعى إلي نفسي. أو: نعاني إلى أهلي، والغراب ليس عنده شيء، وليس عنده من التصرف شيء، ولا يغير شيئاً، فهو شرك، إن أضيفت الأسباب إلى غير مسببها، وكذلك الحيوانات، فبعض الأشخاص يتشاءمون ويتطيرون بها، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الطيرة شرك)، وسيأتي كلام في الطيرة في بابها إن شاء الله، فهذا أعظم من الذي قبله.

الكي وحكمه

الكي وحكمه وقوله: (ولا يكتوون) الكي بالنار من الأدوية المشهورة عند العرب، وقد جاءت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بوصف الكي بأن فيه شفاءً، كما وصف العسل بأن فيه شفاءً، وجاء أن الشفاء في ثلاث: في لعقة عسل، ومشرط حجام، وكية بنار. ولكن بعده قال: (ولا أحب الكي)، وفي رواية: (وأكره لأمتي الكي)، وجاء أنه صلوات الله وسلامه عليه أمر بكي بعض أصحابه، فدعا له طبيباً فأمره بكيه، وجاء عن الصحابة عن بعضهم أنهم فعلوا ذلك، مثل أنس فإنه أخبر أنه فعل ذلك، وكذلك عمران بن الحصين كانت تسلم عليه الملائكة فاكتوى من بواسير كانت فيه فلم يرهم لما اكتوى، ثم ترك ذلك وتاب فعادت تسلم عليه. فهذا يدلنا على جواز الكي وأنه جائز. وقد ورد في حكم الكي أحاديث على أنواع: النوع الأول: أنه مكروه. والحديث الذي معنا يدل على ذلك؛ لأنه قال: (ولا يكتوون)، وهو سبب من الأسباب التي سبقوا بها إلى الجنة. كما أنه جاء أيضاً أن الرسول صرح بكراهته فقال: (ولا أحب الكي)، وقال: (وأكره لأمتي الكي). النوع الثاني: الإذن به -أي: بالكي-، والإذن يدل على الجواز. النوع الثالث: فعل الكي. النوع الرابع: وصفه بأنه فيه شفاء، ولم يمنع منه وقد قال صلوات الله وسلامه عليه: (لم يجعل الله شفاء أمتي فيما حرم عليها)، ولهذا لما سئل عن الخمر قال: (هي داء وليست بدواء، ولم يجعل الله شفاء أمتي فيما حرم عليها). وقد اختلف العلماء في التداوي به على مذاهب، فمنهم من أجاز ذلك وقال: تركه أفضل توكلاً على الله. وهذا المشهور في مذهب الإمام أحمد وطوائف من العلماء، ومنهم من استحبه استحباباً مأكداً حتى دنا به من الوجوب، وهو المشهور عن الإمام الشافعي رحمه الله، وقال النووي رحمه الله: مذهب جمهور العلماء أنه مستحب ومنهم من جعله مستوي الطرفين، يعني: تركته أو فعلته فكلاهما سواء، والصواب أنه مستحب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن أمورٍ يُتداوى بها فقال: (تداووا عباد الله؛ فإن الله لم ينزل داءً إلا وأنزل له شفاءً علمه من علمه وجهله من جهله)، وفي رواية: (تداووا؛ فإن الله ما أنزل داءً إلا أنزل له شفاء إلا داءً واحداً وهو الهرم). فإذاً التداوي جائز، ولا يكون ممنوعاً.

التوكل وفعل الأسباب

التوكل وفعل الأسباب الصفة الرابعة: أنهم على ربهم يتوكلون، وهذا هو الجامع لما سبق، فهذه هي الصفة التي جمعت ما سبق، كونهم يتركون الطلب من الناس وسؤال الرقية وغيرها، وكونهم لا يتطيرون، بل يعلمون يقيناً أنهم لا يصيبهم إلا ما قدره الله وقضاه، وأن الأمور كلها بيد الله، وأن الطيور والحيوانات وغيرها لا دخل لها في تدبير شيء وتغيير أمر من الأمور، وأنها مسخرة مدبرة، فهم يعتمدون على ربهم جل وعلا موقنين بأن ما كتب الله عليهم لا بد أن يقع، وما لم يكتبه فلن يأتي إليهم. وكذلك كونهم لا يفعلون الأسباب المكروهة، والأسباب تنقسم إلى ثلاثة أقسام، ومن هذه الثلاثة قسم وضع سبباً على حصول المطلوب -المسبب- ولا بد منه، ككون الإنسان يطلب العلم فيحصل له ذلك، فلو جلس في بيته بدون طلبه ما حصل له شيء، وكون الإنسان يتزوج ليحصل له الولد، وأن الإنسان متى جلس وقال: أتوكل على ربي فإذا قدر لي شيئاً سيأتي من الرزق ومن الولد ومن العلم ومن غير ذلك فهو إما أن يكون مجنوناً عقله ذاهب، أو يكون جاهلاً جهلاً مركباً قد ترك الشرع وترك العقل؛ لأن الشرع جاء بفعل الأسباب والأمر بالأخذ بالسبب، ثم بعد ذلك التوكل على الله في حصول المطلوب بعد فعل السبب، فلهذا أمرنا جل وعلا أن نأخذ حذرنا من الكفار، وأن نعد لهم ما استطعنا من قوة، فإنه جل وعلا أخبرنا أنه يصل المؤمنين، وأنه مع المحسنين ومع المتقين، فلا بد من فعل الأسباب، وليس التوكل هو تعطيل السبب والإعراض عنه، بل هذا يسمى عجزاً، فترك الأسباب عجز وليس بتوكل، فالتوكل هو فعل الأسباب ثم الاعتماد على الله في حصول المقصود، أي أن الإنسان لا يعتمد على السبب ولا يعطله، فالاعتماد على السبب شرك، وتعطيله قدح في العقل والشرع، فلا بد أن يفعل الإنسان السبب ولا يعتمد عليه، بل يعتمد على ربه جل وعلا في حصول المطلوب، فهذه هي حقيقة التوكل، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً). يعني: تذهب في الصباح من أوكارها جائعة وترجع في المساء قد ملأت حواصلها فأثبت لها الغدو والرواح، فلم تجلس في أوكارها، بل لا بد أن تروح؛ لأن هذا هو السبب، والله جعل لكل شيء سبباً. وليس معنى ذلك أن الأسباب تؤثر بطبائعها وذواتها، كلا فهذه حكمة الله، وإلا فلو شاء لعطل السبب، ولو شاء لأوجد مضاداً له يمنع من حصول المطلوب، وإنما المقصود أن هذه سنته جل وعلا في خلقه أن رتب المسببات على أسبابها، وأمر بفعل السبب والاعتماد عليه في حصول المطلوب، فهذه هي حقيقة التوكل، ولهذا ذكر الله جل وعلا في القرآن أشياء عجيبة خلاف ما تعاهد عليه الناس. فقد ذكر عن موسى عليه السلام أنه لما أدركه فرعون وقومه وقد حال البحر بينه وبين المضي قال له جل وعلا: {اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ} [الشعراء:63] فوقف كأنه جبال، وأصبح قاع البحر يبساً ليس فيه مدحضة ولا مزلة، قاع يابس، فسار فيه الناس، وما قيمة العصا؟ ومن ذلك أيضاً لما كان قومه في التيه بسبب عنادهم فاستسقى لقومه قال له جل وعلا: ((اضرب بعصاك الحجر))، فانفجر من الحجر اثنتا عشرة عيناً، لكل سبط من أسباط بني إسرائيل عين معينة، وهو حجر يحمل باليد، فمن أين يخرج الماء؟! فليست الأسباب هي التي توجد المسببات، ولكن الله رتب وجودها على فعل هذا السبب، ومن ذلك كونه جل وعلا خلق عيسى من أنثى بلا ذكر، وهذا خلاف المتعاهد عليه والمعروف في خلق بني آدم، وكونه جل وعلا خلق زوج آدم من رجل بلا أنثى، فخلقت من قطعة من جسده أنثى كاملة الخلقة، كل هذا ليبين لنا جل وعلا تمام قدرته، وأنه على كل شيء قدير، وأنه لا يعجزه شيء، ولكنه يضع الأسباب التي صارت هي سنته بالأمر بفعلها ويختبر عباده هل يعبدون الله أو يعبدون الأسباب، وكثير منهم يعبد السبب، وكثير منهم يضيف الأمر إلى نفسه، فيقول: أنا ماهر في وجوه التجارة، وأعرف كيف أتصرف. وهكذا يقول كثير من الناس، يعني أنه يضيف حصول ما يحصل له إلى نفسه، وينسى ربه الذي لو شاء لأعمى بصيرته وعطل كل سبب يفعله فلا يكون سبباً. فالمقصود أن التوكل لا ينافي فعل الأسباب، بل يقتضيها، فيقتضي فعل السبب، ولكن الذي يفعل السبب يجب عليه ألا يعتمد على السبب، بل يعتمد على ربه جل وعلا. فهذه الأوصاف الأربعة هي التي جعلت هؤلاء يسبقون إلى الجنة بلا حساب. وقد جاء في أحاديث زيادة على السبعين ألفاً، مثل الحديث الذي رواه الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه وصححه غيرهما أن مع كل ألف سبعين ألفاً، ومنها ما هو أكثر من ذلك، فجاء أن معهم ثلاث حثيات من حثيات ربنا جل وعلا، وهذا شيء عظيم جداً، وجاء في حديث -وإن كان الضعيف لا ينبغي ذكره لأنه لا يعتمد عليه- أن السبعين ألفاً من مقبرة البقيع، ثم إن الصحابة رضوان الله عليهم لحرصهم على الخير كانوا يعلمون أن هذا بعمل وليس بدون عمل، ولهذا بحثوا عن الأسباب.

خلاصة صفات السبعين ألفا

خلاصة صفات السبعين ألفاً صفات الذين يسبقون إلى الجنة بغير حساب ولا عذاب أربع: الأولى: أنهم لا يسترقون أي: لا يطلبون من يرقيهم. وعرفنا أن معنى ذلك أن المحذور هو الطلب وليست الرقية، أما الرقية بنفسها فهي جائزة بل مستحبة, والرسول صلى الله عليه وسلم كان يرقي نفسه وغيره، وقد رقاه جبريل، وسيأتي الكلام في الرقية إن شاء الله. والصفة الثانية: أنهم لا يتطيرون. والتطير نوع من الشرك، وذلك هو التشاؤم بأفعال الطيور وبأصواتها، بأن يستدلوا بأفعالها على ما سيقع لهم، وهذه أمور يلقيها الشيطان في نفوسهم، وهي وهمية لا حقيقة لها، ولكن قد يبتلى الإنسان بما يعتقده وكله فتنة وبلوى، والذي يتعلق بغير الله جل وعلا يوكل إلى ذلك الذي تعلق به، فهذا معناه أنهم لا يعملون شيئاً من الشرك فـ (لا يتطيرون): لا يعملون شيئاً من الشرك. الصفة الثالثة: أنهم لا يكتوون. والكي جائز في الجملة، وهو سبب، ولكنه من الأسباب المكروهة؛ لأن الأسباب التي يطلب بها حصول المسبب قسمها العلماء إلى أقسام ثلاثة: قسم منها ممنوع محرم، وهذا كل ما حرمه الله جل وعلا وإن كان سبباً لحصول منفعة ما، فمثلاً الخمر قد يقال: إنها سبب للصحة أو ما أشبه ذلك، فهذا ممنوع محرم، وكذلك التداوي بالأمور المحرمة لا يجوز. والقسم الثاني: أسباب مكروهة، مثل كون الإنسان يكتسب الرزق بسبب مكروه مثل الحجامة وما أشبه ذلك مما ذكر في الحديث، ومثل ذلك الكي طلباً للشفاء؛ فإنه قد يكون سبباً ولكنه سبب مكروه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كره الكي، وقد أخبر أن فيه الشفاء، ومع ذلك قال: (وأكره لأمتي الكي)، وفي رواية: (ولا أحب الكي)، فهذا لأن العلة -كما يقول بعض العلماء- فيه أن الألم فيه أمر محقق، وأما الشفاء فهو أمر مظنون، فاستعجل الأمر المحقق الذي هو الألم بشيء مظنون مما يدل على تشبثه بالدنيا وتمسكه بها ورغبته فيها، فهنا قال: إنه يكره. وكذلك ما أشبهه، ولكن لا يدخل في هذا -مثلاً- إجراء العمليات التي قد علم أن الغالب عليها السلامة والشفاء، فإنها ليست من هذا الباب، بل هي من باب العلاج الذي سبق أن بعض العلماء يقول: إنه مستحب استحباباً يداني به الوجوب. الصفة الرابعة: أنهم على ربهم يتوكلون، وحقيقة التوكل: فعل السبب الذي أمر به والاعتماد على الله جل وعلا في حصول المطلوب المقصود. وليس ترك الأسباب من التوكل في شيء، فترك الأسباب عجز في الإنسان وقدح في عقله، وكذلك هو قدح في الشرع؛ لأن الشرع أمر بفعل السبب، وأخبر الله جل وعلا أنه جعل لكل شيء سبباً، فيجب أن يفعل ذلك السبب، ولكن يجب أن يكون سبباً أباحه الله، ويجب ألا يكون الإنسان معتمداً على السبب، وألا يضيف إليه الأمر الذي سيقع، بل يضيفه إلى الله، ويعتمد على الله في حصول ذلك، والتوكل من أفضل الأعمال وأجلها، أعني أعمال القلوب، ولهذا صارت هذه الخصلة الرابعة هي الجامعة لما سبق، تجمع ما سبق كله، فلتمام توكلهم لا يطلبون الرقية من أحد، والطلب في غير الرقية من باب أولى، فهم لا يطلبون شيئاً من أمور الدنيا، ولا يتطيرون؛ لأنهم يعلمون أن ما أصابهم لم يكن ليخطئهم، وما قدره الله لا بد من وقوعه، وأن الله قضى ما هو كائن إلى يوم القيامة، وأن الطيور ليس عندها تصرف، وليس عندها نفع ولا ضر، ولا خير ولا شر، وإنما هي مسخرة مخلوقة كسائر العوالم التي خلقها الله جل وعلا لحكمة، فليس عندها مما يزعمه المشركون فيها. وكذلك كونهم لا يكتوون، فيرضون بما قدر الله لهم، ولكن ليس معنى هذا أنهم يتركون العلاج؛ لأن العلاج قد جاء الأمر به في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (تداووا عباد الله؛ فإن الله ما أنزل داءً إلا وأنزل له شفاءً علمه من علمه وجهله من جهله إلا داءً واحداً وهو الهرم)، فأمر بالتداوي وحث عليه، وهو صلوات الله وسلامه عليه كان يتداوى مما أصابه من السم ومن السحر ومن غير ذلك.

استعمال المعاريض والتنافس على الآخرة

استعمال المعاريض والتنافس على الآخرة بعدما ذكر تلك الأمور قام رجل من الصحابة يقال له: عكاشة بن محصن الأسدي ممن سبق إلى الإسلام قديماً، ومن المهاجرين الذين هجروا بلادهم وأموالهم وأقاربهم لله تعالى، وهاجر إلى الله والرسول صلى الله عليه وسلم، وكان من الفوارس الشجعان، وكان أيضاً من أحسن الناس وجهاً، وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سائر المشاهد التي قاتل فيها، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتد من ارتد من العرب، ومنهم بنو أسد، حيث زعموا أن واحداً منهم نبي، وهو طليحة الأسدي، ادعى النبوة، فذهب الصحابة لقتالهم فهزمهم الله جل وعلا، وكان طليحة الأسدي شجاعاً مقداماً معروفاً بالشجاعة والإقدام، فركب فرسه هارباً فأدركه عكاشة فرجع إلى عكاشة وقتله، فقتل شهيداً، ثم إن طليحة الأسدي تاب وأسلم، وذهب لقتال الفرس، وصارت له وقائع مشهورة ومواقف معلومة في الشجاعة والبسالة والإقدام على العدو، ثم إنه قتل في وقعة الحيرة. فـ عكاشة قام طالباً من النبي صلى الله عليه وسلم الشفاعة بأن يدعو الله له أن يجعله من السبعين ألفاً، ففي رواية قال: (أنت منهم)، وفي رواية: (اللهم اجعله منهم)، وجاء في رواية في الصحيح: (أأنا منهم يا رسول الله؟ قال: نعم)، وهذه تحمل على أنه بعدما طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم الدعاء استفسر مرة أخرى: هل أجيبت دعوته؟ فأخبره أن: نعم. ثم بعدما قال عكاشة ذلك قام رجل آخر وقال: (يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: سبقك بها عكاشة)، وهذا من باب المعاريض التي لا تجرح أحداً، ويظهر أنه صلوات الله وسلامه عليه خشي أن يتتابع الناس في ذلك، فربما يقوم من ليس أهلاً لأن يكون منهم، وكونه يقول: أنت لست منهم قد يكون فيه سوء للإنسان الذي يواجه بهذا، والرسول صلى الله عليه وسلم يكره مقابلة الناس بما يكرهون، فهذا يدلنا على حسن أدبه صلوات الله وسلامه عليه وتربيته، فقال: (سبقك بها عكاشة)، عند ذلك أحجم الناس كلهم، وصار هذا سداً لباب الطلب، وليس الأمر كما يقول بعضهم: إن هذا الذي قام منافق. فهذا بعيد جداً؛ لأن المنافق ما يكون في قلبه دافع يدفعه لأن يطلب أن يجعل منهم، بل هو لا يؤمن بذلك، بل يكره هذا، فهذا بعيد جداً، بل هو باطل؛ لأن هذا الذي قام لا بد أن يكون عنده دافع قلبي ورجاء يدفعه إلى أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يسأل الله، ولكن العلة هي ما ذكرنا -والله أعلم- أنها خشية التتابع في ذلك، فسد الباب بقوله: (سبقك بها عكاشة)، فصار جواباً لا يخدش شعور أحد، ويكفي في منع الإقدام والطلب من كل واحد، وهذا من حكمته صلوات الله وسلامه عليه. والشاهد في هذا الحديث قوله في هؤلاء السبعين ألفاً: (لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون)، وهذا يدلنا على أن الإنسان ينبغي له أن يطلب الفضل والأمور العالية وإن كان غيرها جائزاً، فإن سعيداً رحمه الله لما أخبره حصين أنه استرقى لحديث بلغه في ذلك قال له: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع. يعني: أحسن من عمل بما علم، ولكن هناك شيء أفضل مما صنعت، فينبغي لك أن تبحث عن الأفضل وتترك المفضول وهذا من باب التسابق في درجات الآخرة، وهي التي في الواقع ينبغي أن يتسابق فيها ويتنافس فيها لا أمور الدنيا، فإن أمور الدنيا؛ إما أن تذهب وتترك الإنسان أو الإنسان يذهب ويتركها، ولا بد من واحدٍ من هذين الأمرين ومن هاتين الخصلتين، والأمر يذهب كأن لم يكن، بخلاف الشيء الباقي الأبدي، ولهذا أمرنا الله جل وعلا بالتنافس في الدرجات، فقال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُون} [المطففين:26] يعني: كل واحد ينافس الآخر في أن يكون أقدم منه وأرفع درجة في العمل الصالح، ويجتهد في العمل الصالح وفي طاعة الله جل وعلا وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم. قال الشارح رحمه الله تعالى: [هكذا أورده المصنف غير معزو، وقد رواه البخاري مختصراً ومطولاً، ومسلم واللفظ له، والترمذي والنسائي. قوله: [عن حصين بن عبد الرحمن] هو السلمي أبو الهذيل الكوفي، ثقة، مات سنة ست وثلاثين ومائة وله ثلاث وتسعون سنة، وسعيد بن جبير هو الإمام الفقيه، من جملة أصحاب ابن عباس، روايته عن عائشة وأبي موسى مرسلة، وهو كوفي مولى لبني أسد، قتل بين يدي الحجاج سنة خمس وتسعين ولم يكمل الخمسين. وقوله: (انقض) هي بالقاف والضاد المعجمة، أي: سقط. والبارحة: هي أقرب ليلة مضت. قال أبو العباس ثعلب: يقال قبل الزوال: رأيت الليلة. وبعد الزوال: رأيت البارحة. وكذا قال غيره، وهي مشتقة من (برح) إذا زال. وقوله: (أما إني لم أكن في صلاة) قال في مغني اللبيب: (أما) بالفتح والتخفيف على وجهين: أحدهما: أن تكون حرف استفتاح بمنزلة (ألا)، فإذا وقعت (أنَّ) بعدها كسرت. الوجه الثاني: أن تكون بمعنى (حقاً) أو (أحق) وقال آخرون: هي كلمتان: الهمزة للاستفهام و (ما) اسم بمعنى: (شيء)، أي: ذلك الشيء حق، فالمعنى: أحقٌ هذا؟ وهو الصواب، و (ما) نصب على الظرفية، وهذه تفتح أن بعدها. انتهى. والأنسب هنا هو الوجه الأول. والقائل هو حصين، خاف أن يظن الحاضرون أنه رآه وهو يصلي، فنفى عن نفسه إيهام العبادة، وهذا يدل على فضل السلف وحرصهم على الإخلاص وبعدهم عن الرياء والتزين بما ليس فيهم. وقوله: (ولكني لدغت) بضم أوله وكسر ثانيه، قال أهل اللغة: يقال لدغته العقرب وذوات السموم: إذا أصابته بسمها، وذلك بأن تأبره بشوكتها. وقوله: (قلت: ارتقيت) لفظ مسلم: (استرقيت) أي: طلبت من يرقيني. وقوله: (فما حملك على ذلك؟) فيه طلب الحجة على صحة المذهب. وقوله: (حديث حدثناه الشعبي) اسمه عامر بن شراحيل الهمداني، ولد في خلافة عمر، وهو من ثقاة التابعين وفقائهم، مات سنة ثلاث ومائة. وقوله: (عن بريدة) بضم أوله وفتح ثانيه، تصغير بردة (ابن الحصيب) -بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين- ابن الحارث الاسلمي، صحابي شهير، مات سنة ثلاث وستين، قاله ابن سعد. وقوله: (لا رقية إلا من عين أو حمة)، وقد رواه أحمد وابن ماجه عنه مرفوعاً، ورواه أحمد وأبو داود والترمذي عن عمران بن حصين به مرفوعاً، قال الهيثمي: رجال أحمد ثقات. والعين: هي إصابة العائن غيره بعينه. والحمة -بضم المهملة وتخفيف الميم-: سم العقرب وشبهها قال الخطابي: ومعنى الحديث: لا رقية أشفى وأولى من رقية العين والحمة، وقد رقى النبي صلى الله عليه وسلم ورقي]. قد رقى النبي صلى الله عليه وسلم الحسن والحسين رضي الله عنهما، ورقاه جبريل، ودل هذا على جواز الرقية، وأنها جائزة، وأما الذي ينهى عنه ويكره فليس من نوعه، بل هو مكروه فقط، فهو من باب الكمال، وهو كون الإنسان يطلب من الإنسان، وليس هذا خاصاً بالرقية، بل كل طلب يطلبه الإنسان من الآخر مكروه، وذلك لأن الطلب فيه ذل وفيه افتقار للقلب، وقلب العبد الذي يعبد الله حقاً عبادة كاملة يجب أن يكون خالصاً لله ليس لأحد فيه شيء، ولهذا لما اتخذ الله جل وعلا إبراهيم خليلاً وجاءه الولد فأحبه صار له شعبة من حب قلبه، فأراد الله أن يبتليه لينظر هل يكون لهذا الولد اشتراك في الحب الذي هو خالص لله جل وعلا؟ فأمره بذبحه، فأقدم على ذبحه غير مبال، حين ذلك بين أن حبه خالص لله، وليس معنى هذا أنه لم يتبين لله تعالى وتقدس، ولكن المقصود أن يبرز ويظهر للناس وللمبتلى نفسه، وإلا فالله عالم بكل شيء لا يخفى عليه شيء، ولهذا قد كتب الله جل وعلا كل ما يقع من الناس، وعلمه قبل وجودهم، ولا يمكن أن يقع شيء على خلاف علمه، ومع ذلك لا يؤاخذهم بعلمه، بل لا بد من كتابة الأعمال، فالملائكة تكتب أعمالهم، ولا بد أن يسألوا يوم القيامة، كل واحد يسأله الله جل وعلا عن عمله، عملت يوم كذا كذا وكذا فهل تنكر؟ وربما ينكر الإنسان، فإن أنكر جاءت الشهود من كل مكان، تشهد عليه أعضاؤه والأرض وكل شيء، فالأرض تشهد أنه عمل كذا وكذا وتنطق، وأعضاؤه كذلك تنطق. والمقصود أن الله جل وعلا من كمال عدله وحبه للعذر وأن يعذر الناس لا يأخذ بمقتضى علمه، بل لا بد من العمل الظاهر البارز الذي يشاهد ويسجل، فهذا كله يدل على كمال عدل الله جل وعلا.

العمل بالعلم

العمل بالعلم قال الشارح رحمه الله تعالى: [وقوله: (قد أحسن من انتهى إلى ما سمع) أي: من أخذ بما بلغه من العلم وعمل به فقد أحسن، بخلاف من يعمل بجهل أو لا يعمل بما يعلم، فإنه مسيء آثم وفيه فضيلة علم السلف وحسن أدبهم]. هذا في الواقع أمر جليل، وهو كون الإنسان إذا ما علم يأثم ويجب عليه أن يعلم، أي: بالأمور التي يقدم عليها ويعملها، فيجب أن يكون على علم، فإنه إن لم يكن على علم فإما أن يقع في بدع وانحرافات فيضل في نفسه ويضل غيره، وإما أن يقصر ويترك الواجب عليه الذي وجب عليه، وكلا الأمرين مضر، ويترتب عليه إثم، فإذاً العلم أولاً ثم العمل ثانياً، كما قال الله جل وعلا: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19]، فبدأ بالعلم قبل الاستغفار والعمل، فدل هذا على وجوب العلم، ومعنى ذلك أن كل إنسان لزمه عمل من الأعمال يجب عليه أن يعرف حكم الله فيه، سواءٌ أكان العمل مما يخص نفسه، أم كان يتعدى إلى غيره كالمعاملات والعقود، وسواءٌ أكانت عقود أنكحة، أم عقود بيع أم غيرها؛ لأنه يوشك أن يقع في محرم وهو لا يدري إذا كان لا يعلم، فإذا أقدم على علم فإنه يسلم بإذن الله إذا كان متقياً، أما إذا كان غير متق فيجوز أن يتعمد المخالفة، وهذا أعظم أيضاً، أعظم من الجاهل؛ لأنه ربما عفي عن الجاهل ما لا يعفى عن العالم. فالواجب على الإنسان أن يقوم بما أوجب الله عليه، وقد جاء أن طلب العلم فريضة على كل مسلم، والمقصود بقوله: (فريضة) الشيء الذي يلزمه، وليس كل علم، فالشيء الذي يلزمه مثلاً يلزمه أن يعرف كيف يتطهر للصلاة، ويلزمه أن يعرف كيف يصلي، ولو وقع في سهو كيف يصنع، وما الذي يعمله في صلاته، ويلزمه أن يعرف كيف يؤدي زكاة ماله إذا كان عنده مال، ويلزمه أن يعرف كيف يصوم، وكيف يحج، وقبل هذا كله يلزمه أن يعرف كيف يعبد الله، وكذلك يتعرف على رسوله صلى الله عليه وسلم المعرفة التي تثبت في القلب، ويكون موقناً بأنه رسول من الله، وهذا لا يكون إلا بعلم وبآياته التي جاء بها التي تدل يقيناً على أنه رسول من عند الله جل وعلا، أما إذا كان يسير على ما يفعله الناس، ويصنع كما يصنعون فهذا في الواقع مسلم في الظاهر، ولكنه يخشى عليه أن يفتن عن دينه، ويخشى عليه أن يقع في المخالفات، ويخشى عليه في قبره أيضاً أنه إذا سئل قال: رأيت الناس يصنعون شيئاً فصنعته. كما ورد في الحديث. فالأمور التي يجب على العبد العلم بها هي التي يزاولها وتلزمه، أما الأمور التي ليس له بها صلة فما يلزمه أن يعلمها، كما إذا لم تكن له صلة بالبيع والشراء، وإنما يلزمه الشيء الذي يعمله في الصلاة وفي الطهارة والصوم والحج ونحو ذلك.

عمق فهم السلف في توافق النصوص

عمق فهم السلف في توافق النصوص قال الشارح رحمه الله تعالى: [وقوله: (ولكن حدثنا ابن عباس) هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، دعا له فقال: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) فكان كذلك، مات بالطائف سنة ثمان وستين. قال المصنف رحمه الله: وفيه عمق علم السلف؛ لقوله: (قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن كذا وكذا) فعلم أن الحديث الأول لا يخالف الثاني]. ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم لا يضرب بعضه بعضاً، ولا يناقض بعضه بعضاً؛ لأنه كله وحي، ولكن فهوم الناس قد تختلف، وقد يبدو للإنسان أن هذا معارض للنص الآخر وما أشبه ذلك، فإذا بدا له ذلك فليتهم رأيه ونظره وفهمه، وليعلم أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم كله حق، وكذلك قول الله جل وعلا. وهنا يقول: إن فيه عمق علم السلف. يعني أن علمهم علم محيط بالأشياء والأحكام الدقيقة، فلما ذكر له الحديث علم أنه لا يخالف الحديث الذي سيذكره، ولكن الدرجات تختلف، فهذا في الأمر الجائز المباح الذي ليس محرماً، وهذا في الأمر الفاضل الذي يكون من صدق السابقين، وهو يطلب منه أن يكون مع السابقين.

عرض الأمم على النبي صلى الله عليه وسلم ومتى كان

عرض الأمم على النبي صلى الله عليه وسلم ومتى كان قال الشارح رحمه الله تعالى: [وقوله: (عرضت علي الأمم)، وفي الترمذي والنسائي من رواية عبثر بن القاسم عن حصين بن عبد الرحمن أن ذلك كان ليلة الإسراء. قال الحافظ رحمه الله: فإن كان ذلك محفوظاً كان فيه قوة لمن ذهب إلى تعدد الإسراء وأنه وقع بالمدينة أيضاً. قلت وفي هذا نظر]. نعم هذا فيه نظر، بل هذا غير صحيح، فالإسراء لم يقع إلا في مكة فقط، وبعضهم قال: إنه وقع ثلاث مرات. والاختلاف فيه بين علماء في أمور: الأمر الأول: التعدد، فاختلفوا في تعدده، والصواب أنه لم يتعدد، وإنما وقع مرة واحدة في مكة، وفرضت فيه الصلاة مرة واحدة ولم تفرض مرتين ولا ثلاثاً. الأمر الثاني: من حيث ما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم، فهل كان بروحه وجسده معاًَ، أو كان بروحه دون جسده؟ والصواب أنه بروحه وجسده يقظة غير منام، فأسري به يقظاً غير نائم، وفرض عليه ما فرض، ولم يذكر من الفرائض التي فرضت عليه إلا الصلاة فقط، وفرضت عليه أول ما فرضت خمسين صلاة في كل يوم وليلة، فلم يزل يطلب ربه جل وعلا التخفيف بمشورة موسى عليه السلام إلى أن صارت خمساً. أما قوله الحافظ: (إذا ثبت هذا دل على تعدده وأنه وقع في المدينة) فليس كذلك، حتى لو ثبت ما يدل على ذلك، وهذا الذي وقع فيه النظر، أي أنه يجوز أن النبي صلى الله عليه وسلم حدث عن ليلة الإسراء التي وقعت في مكة وفي المدينة، وما المانع من ذلك؟ وليس فيه -أيضاً- دلالة تدل على أن هذا وقع في المدينة، وهذا كما يقول ابن القيم رحمه الله: ضعاف النظر ضعاف الفقه والحديث إذا جاءت ألفاظ مختلفة لحديث لجأوا إلى التعدد، وهذا كثير جداً، والواجب أن الإنسان يبحث عن الحق، وإذا تبين له علم أن بعض الألفاظ قد يتصرف فيها الرواة، وبعضها لا تخالف ما قاله سابقاً، وهذا منه، ولا يلزم أن يكون ذلك في الإسراء، وهذا الحديث الذي ذكره عن الترمذي أنه كان في ليلة الإسراء إذا ثبت فمعنى ذلك أنها عرضت عليه الأمم ليلة أسري به وهو في مكة، وحدث بهذا في المدينة، وكان كثيراً ما يحدث بأنه رأى ليلة أسري به كذا وكذا، وكثيراً ما جاءت الأحاديث عن ذلك، وبعضها في المدينة، ولو قلنا مثلما يقول الحافظ رحمه الله لكثر التعدد، وهذا غير وارد.

ما ينافي التوكل من الرقية وحكم الاكتواء

ما ينافي التوكل من الرقية وحكم الاكتواء قال الشارح رحمه الله تعالى: [وقوله: (رأيت النبي ومعه الرهط) الذي في صحيح مسلم: (الرهيط) بالتصغير لا غير، وهم الجماعة دون العشرة، قاله النووي. وقوله: (والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد) فيه الرد على من احتج بالكثرة. وقوله: (إذ رفع لي سواد عظيم) المراد هنا الشخص الذي يرى من بعيد. وقوله: (فظننت أنهم أمتي) لأن الأشخاص التي ترى في الأفق لا يدرك منها إلا الصورة، وفي صحيح مسلم: (ولكن انظر إلى الأفق)، ولم يذكره المصنف، فلعله سقط من الأصل الذي نقل الحديث منه، والله أعلم. وقوله: (فقيل لي: هذا موسى وقومه) أي: موسى بن عمران كليم الرحمن. وقومه: أتباعه على دينه من بني إسرائيل. وقوله: (فنظرت فإذا سواد عظيم فقيل لي: هذا أمتك ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب) أي: لتحقيقهم التوحيد. وفي رواية ابن فضيل: (ويدخل الجنة من هؤلاء من أمتك سبعون ألفاً). وفي حديث أبي هريرة في الصحيحين أنهم (تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر). وروى الإمام أحمد والبيهقي في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (فاستزدت ربي فزادني مع كل ألف سبعين ألفاً) قال الحافظ: وسنده جيد. وقوله: (ثم نهض) أي: قام. وقوله: (فخاض الناس في أولئك) (خاض) بالخاء والضاد المعجمتين، وفي هذا إباحة المناظرة والمباحثة في نصوص الشرع على وجه الاستفادة وبيان الحق، وفيه عمق علم السلف لمعرفتهم أنهم لم ينالوا ذلك إلا بعمل، وفيه حرصهم على الخير، ذكره المصنف. وقوله: (فقال: (هم الذين لا يسترقون)) هكذا ثبت في الصحيحين، وهو كذلك في حديث ابن مسعود في مسند أحمد، وفي رواية لـ مسلم: (ولا يرقون) قال شيخ الإسلام ابن تيمية: هذه الزيادة وهم من الراوي، لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا يرقون)، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن الرقى: (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه)، وقال: (لا بأس بالرقى ما لم تكن شركاً). قال: وأيضاً فقد رقى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، ورقى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه. قال: والفرق بين الراقي والمسترقي أن المسترقي سائل مستعط ملتفت إلى غير الله بقلبه، والراقي محسن. وقال: وإنما المراد وصف السبعين ألفاً بتمام التوكل، فلا يسألون غيرهم أن يرقيهم ولا يكويهم. وكذا قال ابن القيم رحمهما الله. وقوله: (ولا يكتوون) أي: لا يسألون غيرهم أن يكويهم، كما لا يسألون غيرهم أن يرقيهم استسلاماً للقضاء وتلذذاً بالبلاء. قلت: والظاهر أن قوله: (لا يكتوون) أعم من أن يسألوا ذلك أو يفعل بهم ذلك باختيارهم، أما الكي في نفسه فجائز، كما في الصحيح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى أبي بن كعب طبيباً فقطع له عرقاً وكواه) وفي صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه أنه كُوي من ذات الجنب والنبي صلى الله عليه وسلم حي، وروى الترمذي وغيره عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كوى أسعد بن زرارة من الشوكة، وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه مرفوعاً: (الشفاء في ثلاث: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية نار، وأنا أنهى عن الكي)، وفي لفظ: (وما أحب أن أكتوي). قال ابن القيم رحمه الله: قد تضمنت أحاديث الكي أربعة أنواع: أحدها: فعله. والثاني: عدم محبته والثالث: الثناء على من تركه، والرابع: النهي عنه. ولا تعارض بينها بحمد الله؛ فإن فعله له يدل على جوازه، وعدم محبته له يدل على المنع منه، وأما الثناء على تاركه فيدل على أن تركه أولى وأفضل، وأما النهي فعلى سبيل الاختيار والكراهة]. مراد ابن القيم أن النهي عنه إنما هو من باب التنزيه، يعني: مكروه تنزيهاً. وأما قوله: وعدم محبته له يدل على المنع منه فغير صواب؛ إذ عدم محبته لا يدل على المنع منه، وإنما هو لا يحبه ولا يمنعه، فهو مثلما قال في الضب: (لا آكله ولا أحرمه) لما سئل عنه، وفي حديث آخر: (ليس بأرض قومي فأجدني أكرهه)، فالمقصود أنه قال: (لا آكله ولا أحرمه)، فهذا لا يدل على أنه مكروه أو أنه ممنوع، بل هو كرهه، والكي مثله، فكرهه وقال: (وما أحب أن أكتوي)، أو: (أنهى أمتي عن الكي)، وقد علم أنه أذن فيه فدل على أنه جائز، ولكنه -مثلما قلنا- سبب من الأسباب المكروهة، إذا تركه الإنسان فهو من باب التنزه والترفع عن الأمور الجائزة التي غيرها أفضل منها، وإذا فعله الإنسان فلا لوم عليه؛ فإنه جائز، ولا يكون آثماً؛ لأنه مباح.

مباشرة الأسباب، وحكمها مع التوكل

مباشرة الأسباب، وحكمها مع التوكل قال الشارح رحمه الله تعالى: [وقوله: (ولا يتطيرون) أي: لا يتشاءمون بالطيور ونحوها. وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان الطيرة وما يتعلق بها في بابها. وقوله: (وعلى ربهم يتوكلون) ذكر الأصل الجامع الذي تفرعت عنه هذه الأفعال والخصال، وهو التوكل على الله وصدق الالتجاء إليه والاعتماد بالقلب عليه الذي هو نهاية تحقيق التوحيد الذي يكمل كل مقام شريف من المحبة والرجاء والخوف والرضا به رباً وإلهاً والرضاء بقضائه. واعلم أن الحديث لا يدل على أنهم لا يباشرون الأسباب أصلاً؛ فإن مباشرة الأسباب -في الجملة- أمر فطري ضروري لا انفكاك لأحد عنه، بل نفس التوكل مباشرة لأعظم الأسباب، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3] أي: كافيه. وإنما المراد أنهم يتركون الأمور المكروهة مع حاجاتهم إليها توكلاً على الله تعالى، كالاكتواء والاسترقاء، فتركهم له لكونه سبباً مكروهاً، لا سيما والمريض يتشبث -فيما يظنه سبباً لشفائه- بخيط العنكبوت. وأما مباشرة الأسباب والتداوي على وجه لا كراهة فيه فغير قادح في التوكل، فلا يكون تركه مشروعاً؛ لما في الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعاً: (ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاءً علمه من علمه وجهله من جهله). وعن أسامة بن شريك قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وجاءت الأعراب، فقالوا: يا رسول الله! أنتداوى؟ قال: (نعم -يا عباد الله- تداووا؛ فإن الله لم يضع داءً إلا وضع له شفاءً، غير داءٍ واحد. قالوا: وما هو؟ قال: الهرم) رواه أحمد. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وقد تضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسببات، وإبطال قول من أنكرها، والأمر بالتداوي، وأنه لا ينافي التوكل كما لا ينافيه دفع ألم الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله تعالى مقتضية لمسبباتها قدراً وشرعاً، وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل كما يقدح في الأمر والحكمة، ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى في التوكل؛ فإن تركها عجز ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله تعالى في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه ودفع ما يضره في دينه ودنياه، ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب، وإلا كان معطلاً للحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلاً ولا توكله عجزاً. وقد اختلف العلماء في التداوي: هل هو مباح وتركه أفضل، أو مستحب، أو واجب، فالمشهور عن أحمد الأول؛ لهذا الحديث وما في معناه، والمشهور عند الشافعية الثاني، حتى ذكر النووي في شرح مسلم أنه مذهبهم ومذهب جمهور السلف وعامة الخلف واختاره الوزير أبو المظفر، قال: ومذهب أبي حنيفة أنه مؤكد، حتى يداني به الوجوب. قال: ومذهب مالك أنه يستوي فعله وتركه؛ فإنه قال: لا بأس بالتداوي ولا بأس بتركه. وقال شيخ الإسلام: ليس بواجب عند جمهور الأئمة، وإنما أوجبه طائفة قليلة من أصحاب الشافعي وأحمد]. عند الذين يقولون: إن التداوي واجب لو أن الإنسان ترك التداوي لكان آثماً؛ لأنه ترك ما يجب عليه، أما الذين يقولون إنه مستحب فإنه إذا تداوى أثيب على ذلك، وإن لم يتداو لم يثب على هذا، فيثاب على الدواء، ولكن إذا كان عنده التوكل فالثواب يكون على التوكل من باب آخر، وأما عند الأولين كما ذكر أنه مذهب أحمد فتركه عندهم يكون أفضل، فإذا تركه يكون مأجوراً؛ لأنه ترك مكروهاً، والمكروه يثاب على تركه تديناً لله جل وعلا، كما أن المستحب يثاب على فعله ابتغاء وجه الله، أما ما ذكره عن مذهب الإمام مالك فكلاهما سواء، فلا ثواب ولا عقاب، تداويت أم لم تتداو. قال الشارح رحمه الله تعالى: [وقوله: (فقام عكاشة بن محصن) هو بضم العين وتشديد الكاف، -ومحصن- بكسر الميم وسكون الحاء وفتح الصاد المهملتين ابن حرثان -بضم المهملة وسكون الراء بعدها مثلثة- الأسدي، من بني أسد بن خزيمة، كان من السابقين إلى الإسلام ومن أشجع الرجال، هاجر وشهد بدراً وقاتل فيها، واستشهد في قتال الردة مع خالد بن الوليد بيد طليحة الأسدي سنة اثنتي عشرة، ثم أسلم طليحة بعد ذلك، وجاهد الفرس يوم القادسية مع سعد بن أبي وقاص، واستشهد في وقعة الجسر المشهورة] طليحة الأسدي هو من أسد بن خزيمة الذين عكاشة منهم، وهذه القبيلة الآن لا يوجد منها أحد، نزحت في وقت فتوح الشام والعراق إلى تلك البلاد، فتفرقت، فلا يعلم منها أحد اليوم، واستشهد طليحة في وقعة الجسر، وقيل: وقعة الحيرة. وكلتاهما قريبتان.

فضيلة عكاشة، وحسن رد النبي صلى الله عليه وسلم

فضيلة عكاشة، وحسن رد النبي صلى الله عليه وسلم قال الشارح رحمه الله تعالى: [وقوله: فقال يا رسول الله: ادع الله أن يجعلني منهم قال: (أنت منهم)، وللبخاري في رواية: فقال: (اللهم اجعله منهم) وفيه طلب الدعاء من الفاضل. وقوله: (ثم قام رجل آخر) ذكره مبهماً، ولا حاجة بنا إلى البحث عن اسمه. وقوله: فقال: (سبقك بها عكاشة) قال القرطبي: لم يكن عند الثاني من الأحوال ما كان عند عكاشة، فلذلك لم يجبه؛ إذ لو أجابه لجاز أن يطلب ذلك كل من كان حاضراً فيتسلسل الأمر، فسد الباب بقوله ذلك. انتهى]. الأولى أن لا يقال: ليس عند الثاني ما عند عكاشة من الأحوال التي تقتضي أن يكون من السابقين ولكن الظاهر قوله الأخير، وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم منع من ذلك لئلا يتتابع الناس، فكل واحد سيطلب؛ لأن كل واحد يحب ذلك -بلا شك- من الصحابة، فلما قال هذا القول امتنعوا كلهم وأحجموا عن ذلك. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وفيه استعمال المعاريض، وحسن خلقه صلى الله عليه وسلم]. المعاريض هي أن يعرض بالشيء ولا يصرح به، كما قال هنا: (سبقك بها عكاشة) يعني بذلك أنه لن يدعو له، فما قال: لا أدعو لك. أو: لا أسأل لك. بل قال: (سبقك بها عكاشة)، فهذا تعريض بالمنع من الدعاء له، وهكذا ينبغي للإنسان أن يستعمل المعاريض في الأمور التي لو واجه بها الغير لأثرت في شعوره، فيستعمل المعاريض التي يحصل بها المقصود ويحصل بها حسن الأدب، وكذلك القول اللين الذي لا يكون داعياً ودافعاً إلى النفرة.

شرح فتح المجيد [18]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [18] الناس في التوحيد على مراتب، فمنهم من حقق التوحيد باجتناب المعاصي، ومنهم من قصر فيه بارتكاب المعاصي، وقد أثنى الله تعالى على محققي التوحيد وامتدحهم؛ وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن حال الموحدين يوم القيامة وقلتهم في عموم الناس، فأخبرنا عن أنبياء يأتون في قلة من الموحدين المتبعين، وهؤلاء الموحدون هم المستحقون لأن تنالهم رحمة الله تعالى.

مسائل في باب من حقق التوحيد دخل الجنة بلا حساب ولا عذاب

مسائل في باب من حقق التوحيد دخل الجنة بلا حساب ولا عذاب

مراتب الناس في التوحيد

مراتب الناس في التوحيد قال المصنف رحمه الله: [فيه مسائل: المسألة الأولى: معرفة مراتب الناس في التوحيد]. معرفة مراتب الناس في التوحيد لأن من ذُكر من السبعين ألفاً الذين يسبقون إلى الجنة بغير حساب ليسوا كغيرهم من الذين يحاسبون، وإنما ذلك لكونهم حققوا التوحيد، وكذلك كونه أثنى جل وعلا على الذين تركوا الشرك، قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون:59]، وكذلك كونه أثنى على إبراهيم وجعله أمة، كما قال تعالى: {أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ} [النحل:120] يعني: قدوة يقتدى به ويسلك طريقه لتحقيقه التوحيد.

معنى تحقيق التوحيد

معنى تحقيق التوحيد [المسألة الثانية: ما معنى تحقيقه]. معنى تحقيقه هو علمه أولاً، أن يعلم التوحيد، ثم يتحلى به قلبه وجوارحه، ثم يجتنب ما يقتضي التوحيد تركه من الذنوب والبدع فضلاً عن الشرك؛ لأن الشرك إذا وقع فيه فإن كان كبيراً فهو مناف للتوحيد، وإن كان صغيراً فهو مناف لكماله، وكذلك الذنوب والمعاصي، فيكون تحقيقه هو تخليصه وتصفيته من البدع وشوائب الشرك والذنوب، فيخلصه بأن يكون عمله خالصاً لله على طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأتي به على الوجه الأكمل الذي أمر الله به بأن يكون عمله ما يقصد به إلا وجه الله جل وعلا، ولا يلتفت إلى غيره من معانٍ دنيوية، ولا من وجوه الناس ولا غيرهم، فمعنى ذلك أنه يقبل على الله بكليته، ولا يكون ملتفتاً بقلبه إلى غير الله جل وعلا من المؤثرات والأسباب، فمن كان كذلك فقد حقق التوحيد.

إبراهيم عليه السلام والثناء عليه بترك الشرك

إبراهيم عليه السلام والثناء عليه بترك الشرك [المسالة الثالثة: ثناؤه تعالى على إبراهيم بكونه لم يك من المشركين]. قوله تعالى: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:123] دليل على إبطال قول اليهود والنصارى والمشركين؛ لأن كل طائفة تدعي أنه منهم وأنهم منه، فالمشركون يزعمون أنهم على ملته، والنصارى يزعمون أنهم على ملته، واليهود يزعمون كذلك، فبرأه الله جل وعلا من ذلك، وقال: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ} [آل عمران:68] يعني محمداً صلوات الله وسلامه عليه، فهو أولى الناس به، وهو أقربهم إليه طريقة ونهجاً وسلوكاً.

الثناء على الأولياء بترك الشرك

الثناء على الأولياء بترك الشرك [الرابعة: ثناؤه على سادات الأولياء بسلامتهم من الشرك]. قوله: ثناؤه على سادات الأولياء بسلامتهم من الشرك يعني قول الله جل وعلا: {وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون:58 - 59]، فأثنى عليهم باجتناب الشرك، فدل على أن تحقيق التوحيد هو اجتناب الشرك، أن يجتنب الإنسان الشرك دقيقه وجليله كبيره وصغيره، والذي يجتنب الشرك لا بد أنه يعبد الله وحده، فيحقق عبادة الله جل وعلا وحده.

تحقيق التوحيد بترك الرقية والكي

تحقيق التوحيد بترك الرقية والكي [الخامسة: كون ترك الرقية والكي من تحقيق التوحيد]. الاسترقاء غير الرقية، فالاسترقاء هو طلب الرقية، أن يطلبها من غيره؛ لأن الطلب فيه افتقار لغير الله جل وعلا، فتركه استغناءً بالله جل وعلا من تحقيق التوحيد، وكذلك الكي. أما وجه كون الكي تركه من تحقيق التوحيد فهو ما ذكره العلماء بأن الكي فيه ألم محقق ومستعجل، وأما الشفاء فيه فهو مظنون، وقد يكون وهماً لا حقيقة له، فالذي يقدم عليه غالباً يكون راغباً في الدنيا أكثر من رغبته في الآخرة، فمن هنا صار فعل الكي ليس من تحقيق التوحيد، وتركه توكلاً على الله يكون من تحقيق التوحيد، أما فعله فيدل على الرغبة في الدنيا أكثر، وليس معنى هذا أن الكي محرم، لا. بل الكي مباح، فهو علاج جائز، فإذا أراد الإنسان أن يكتوي فله ذلك، ولكن تركه أفضل فقط، هذا هو المقصود، فالذين يسبقون إلى الجنة بغير حساب هم الذين يفعلون الواجبات ويتركون المحرمات والمكروهات، ويفعلون المستحبات، وهؤلاء هم الذين ذكرهم الله جل وعلا في أحد أقسام الذين أورثهم الله جل وعلا الكتاب، وهم الذين اصطفاهم الله، فهم السابقون بالخيرات بإذن ربهم؛ لأن الله جل وعلا قسمهم ثلاثة أقسام: قسم ظالم لنفسه، وقسم مقتصد، وقسم سابق بالخيرات بإذن الله. فهؤلاء الذين يسبقون بالخيرات بإذن الله جل وعلا هم الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فيسبقون إليها قبل غيرهم، وهذا أيضاً لا يلزم منه أن الذين يحاسبون ولا يسبقون إليها يكونون أقل منهم درجة، فقد يكون الذين يحاسبون منهم من إذا دخل الجنة كان أعلى من السابقين الذين دخلوها بلا حساب، كما إذا كان الإنسان عنده جهاد وعنده أموال، ولكنه ينفق في سبيل الله وينفع عباد الله بأمواله، فهو يحاسب عن ماله: من أين جمعه وفيم أنفقه، ولا بد من المحاسبة، ولكن بعد المحاسبة قد تكون درجته أرفع من درجة الذين يسبقون إلى الجنة بغير حساب. فإذاً هؤلاء الذين يتركون الكي ويتركون الاسترقاء ليس معنى ذلك أنهم يكونون أفضل من غيرهم على الإطلاق، فقد يكون الذي يفعل شيئاً من ذلك عنده حسنات أكثر من حسنات هذا الذي ترك هذا الأمر توكلاً على الله، فإذا دخل الجنة كان أرفع ممن سبق إليها.

التوكل وجمعه لخصال السبعين ألفا

التوكل وجمعه لخصال السبعين ألفاً [السادسة: كون الجامع لتلك الخصال هو التوكل]. ذلك لأنه قال: (وعلى ربهم يتوكلون)، فالخصال التي ذكرها أربع خصال، والذي جمع هذه الأربع هو التوكل، فالخصلة الأولى: كونهم لا يسترقون. يعني: لا يطلبون الرقية. وتبين لنا أن الرقية مستحبة في نفسها، أي: كون الإنسان يرقى نفسه، أو كونه يرقى غيره، أو كونه يُرقى بلا طلب منه، فهذا لا يدخل في ذلك، بل هذا جائز؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يرقي نفسه، وكان يرقي غيره، وجبريل عليه السلام رقى رسول الله صلى الله عليه وسلم. والثانية: كونهم لا يتطيرون. والطيرة نوع من الشرك، وهي التشاؤم بأفعال الطيور أو بأصواتها، وكذلك بالحيوانات، ومن المعلوم أن الطيور والحيوانات وجميع المخلوقات لا تدبير لديها ولا تصريف في الكون، وليس عندها من الخير شيء، وليس عندها من دفع الشر شيء، وإنما تلك أوهام يلقيها الشيطان في نفس الإنسان، فإذا سمع شيئاً من ذلك فقد يقع في نفسه أمر فيثنيه عن مقصوده، فيكون في هذه الحال قد وقع في شيء من الشرك، وهؤلاء لا يلتفتون إلى ذلك، بل يمضون في كل ما أرادوا اعتماداً على الله، وعلماً منهم أن الطيور وغيرها لا تؤثر في شيء من الأشياء، وإنما المؤثر هو الله، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. ثم إن الممنوع من الطيرة -كما سيأتي- هو ما أمضى الإنسان أو رده، أما أن يقع في نفسه شيء ثم يعرض عنه ولا يلتفت إليه فهذا لا يضره، ولا يقال: إنه تطير. وإنما الذي يضر كونه يحقق هذا الشيء الذي يقع في نفسه بأن يمنعه من المضي، فإذا سمع شيئاً يكرهه على حسب اعتقاده أو يجعله يقدم إذا سمع شيئاً أو رأى شيئاً يحبه ويريده فهذه هي الطيرة، أما إذا وقع في نفسه شيء ثم لم يثنه عن مراده أو لم يزد من عزيمته ومن مراده وإنما شيء عرض في نفسه فأعرض عنه فهذا لا يضره، ولهذا جاء في الحديث: (الطيرة ما أمضاك أو ردك)، فهذه الطيرة التي منع منها. والخصلة الثالثة: كونهم أيضاً لا يكتوون كما سبق. والخصلة الرابعة: أنهم على ربهم يتوكلون. فلكونهم يعتمدون على الله في جميع أمورهم جعلهم لا يفعلون هذه الأمور الثلاثة، والتوكل معناه الاعتماد على من بيده كل شيء، وهو الله جل وعلا، فيفعل السبب ويعتمد على ربه في حصول مقصوده ومراده.

نيل الدرجات بالعمل هو فهم الكرام

نيل الدرجات بالعمل هو فهم الكرام [السابعة: عمق علم الصحابة رضي الله عنهم بمعرفتهم أنهم لم ينالوا ذلك إلا بعمل]. يعني أنه لما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم أن السبعين ألفاً يسبقون إلى الجنة علموا أنهم ما نالوا هذه السابقة إلا بعمل، فصاروا يبحثون عن هذا العمل، فقال بعضهم: لعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا لعلمهم بأن الصحابة أفضل الأمة، بل أفضل الناس بعد الأنبياء، كما جاءت الأحاديث في ذلك، ولأن الله جل وعلا أثنى عليهم في كتابه، وذكر أنه رضي عنهم، ومعلوم أن الذي تلقى العلم والإيمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة وقاتل بين يديه وامتثل أمره لا يكون مثل من يأتي بعده لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتلق منه ولم يمتثل أمره المباشر، فلا يكون مثله ولا قريباً منه، بل الذين سبقوا بصحبتهم ما يكونون مثل الذين تأخروا، كما حدث بين عبد الرحمن بن عوف وخالد بن الوليد رضي الله عنهما، فـ خالد بن الوليد كان متأخر الإسلام، وقد أسلم قبل الفتح، لكن عبد الرحمن بن عوف كان من السابقين، فحدث بينهما شيء، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (دعوا لي أصحابي. لا تؤذوا أصحابي. فوالله لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)، هذا الكلام يوجه إلى بعض الصحابة فكيف بمن عداهم؟ وكيف بالذين أتوا بعدهم؟ ولهذا لما قيل لبعض العلماء: أرأيت عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد ومعاوية رضي الله عنهما أيهما أفضل؟ قال: غبار دخل في منخر معاوية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من عمر بن عبد العزيز لأن الصحبة لا يعدلها شيء، صحبة الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعدلها شيء، فلا شك أن هذا القول منهم بأنهم لعلهم الصحابة له وجه في النظر. وقال بعضهم: لعلهم الذين ولدوا في الإسلام. لأن الصحابة كانوا مشركين قبل أن يسلموا، أما الذين ولدوا في الإسلام فلم يقع منهم شرك، وذكروا أشياء، منها -في غير هذه الرواية- أن بعضهم قال: لعلهم الذين قتلوا في سبيل الله. يعني الشهداء. وهذا دليل على جواز المناظرة في مسائل العلم والتفقه فيها والبحث، ولو لم يكن الإنسان عنده ضرورة في ذلك، أي: عنده من يبين له المراد، فإنه يجوز أن يبحث بنفسه وإن كان عنده من يبين؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم عندهم، فإذا سألوه أخبرهم، وهم خاضوا في هذه الأمور وصاروا يبحثون فيها وهو موجود صلوات الله وسلامه عليه.

حرص الصحابة رضي الله عنهم على الخير

حرص الصحابة رضي الله عنهم على الخير [الثامنة: حرصهم رضي الله عنهم على الخير]. حرصهم على الخير وعلى طلبه شيء معروف، فهم أحرص من غيرهم، أحرص من غيرهم على الخير، وهم إذا سمعوا شيئاً من الفضائل لا يتركونه حتى يعملوا به، ولهذا يقول ابن عمر رضي الله عنهما: تعلمت سورة البقرة في ثمان سنوات وما كان هذا لأنه غير قادر أن يحفظها في يوم أو يومين، لا. ولكن ما كان يهمهم التعلم، وإنما يهمهم العمل، فلهذا يقول: (فتعلمنا العلم والإيمان والعمل معاً) يعني: كلما تعلموا شيئاً عملوا به، فما يتعلمون مثلنا للحفظ فقط، أو لغير نفسه، لا، وإنما يتعلم لنفسه، ويتعلم ليعمل، ولهذا لما جيء بصدقة الفطر في آخر رمضان، وعادة الصحابة رضوان الله عليهم أن يأتوا بالزكاة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي يتولى قسمتها، فجمعوها في المسجد، فوكل أبا هريرة بحفظها، فصار يحفظها، فجاءه رجل في وسط الليل فصار يحمل من التمر فأمسكه، قال: مالك؟ قال: دعني؛ فإني ذو حاجة وعيال. يقول رضي الله عنه: فرحمته. لأن هذه زكاة، وهي للفقراء ولذوي الحاجة فتركه، ثم جاء الليلة الثانية فأمسكه وقال: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: دعني فإني ذو حاجة وعيال. قال: فرحمته. ولكن لما غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: ما فعل أسيرك يا أبا هريرة؟ قال: زعم أنه ذو حاجة وعليه عيال فتركته. قال: أما إنه سيعود. قال أبو هريرة: فعلمت أنه سيعود لقول الرسول صلى الله عليه وسلم، فصرت أترصد له، فجاء فأمسكته في الثالثة وقلت: لن أفلتك. فهذه ثالث مرة وأنت تزعم أنك ذو حاجة وعليك عيال. فقال: دعني أعلمك شيئاً ينفعك الله به قال: نعم. قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي؛ فإنه لا يزال عليك من الله حافظ حتى تصبح، ولا يقربك شيطان. فتركه من أجل ذلك، فلما غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له هذا الكلام، قال: صدقك وهو كذوب. أتدري من تخاطب منذ ثلاث؟ يقول: قلت: لا. قال: ذاك الشيطان. فالشيطان أتاه في صورة إنسان محتاج؛ لأنه لم يستطع أن يضر الصحابة في أديانهم وفي أخلاقهم فأراد أن يضرهم ولو بأكل شيء من الزكاة، ولو بهذا القدر. المقصود أنهم حريصون على الخير أكثر من غيرهم، فإذا سمعوا بشيء عملوا به، ولهذا لما سمعوا هذا ذهبوا يتساءلون ويبحثون حتى يعلموا من يسبق إلى الجنة، ولهذا كانوا لا يفعلون هذه الأشياء التي ذكرت، لا الطيرة، ولا الاسترقاء، ولا الكي، وهم المتوكلون على الله جل وعلا.

فضيلة هذه الأمة كما وكيفا

فضيلة هذه الأمة كماً وكيفاً [التاسعة: فضيلة هذه الأمة بالكمية والكيفية]. أما الكمية فمعناها الكثرة، وهذا مأخوذ من قوله: (ولكن انظر إلى الأفق)، والأفق هو أنك إذا التفت يميناً أو شمالاً أو أمامك أو خلفك رأيت السماء. فقيل له: انظر إلى الأفق. ثم قيل له: انظر إلى الأفق الآخر فكلما نظر إلى جهة إذا بالرجال قد سدوا الأفق من كثرتهم، فهذه الكمية، أما الكيفية فلأن فيهم السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب. وقد جاءت أحاديث جيدة الإسناد في أن مع كل ألف سبعين ألفاً، فيكون العدد أكثر، وجاء في أحاديث أخرى فيها ضعف أن مع كل واحد سبعين ألفاً، فتصبح سبعين ألفاً مضروبة في سبعين ألفاً، فيكون هذا عدداً كبيراً جداً، وجاء ما هو أكثر من هذا، وهو أن الصحابة قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال ذلك: (ألا استزدت ربك يا رسول الله؟ قال: بلى. استزدته فزادني بأن أعطاني ثلاث حثيات من حثياته جل وعلا. فقال قائل: ألا استزدته يا رسول الله؟ فقال عمر: حسبك، إذا شاء ربنا جل وعلا أدخل عباده كلهم بحثية واحدة من حثياته، قال صلى الله عليه وسلم: صدق عمر)، والحديث فيه ضعف، ولكن فضل الله واسع جل وعلا. وهذه الأمة هي أفضل الأمم على الإطلاق، غير أنه لا يلزم من كونها أفضل الأمم أن تكون السابقة منها؛ لأنه جاء في سورة الواقعة لما ذكر الله جل وعلا السابقين قوله تعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:14]، و (الأولون) لا يطلق على الأمة هذه، ولهذا يقول المفسرون: (ثلة من الأولين) يعني: من الأنبياء السابقين وأتباعهم. وجاء في سورة آل عمران قوله جل وعلا: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا} [آل عمران:146]، وهذا يدل على فضلهم وعلى كثرتهم أيضاً. والمقصود أن هذه الأمة في الجملة أفضل من غيرها إطلاقاً، ولا يلزم أن تكون أفضل من الكل مطلقاً، فإنه يوجد في الأمم السابقة من هو أسبق إلى الجنة وأحسن سابقة، ولكن بالنسبة إليهم فقط لا بالنسبة للأمة هذه، أما من يلي هذه الأمة في الصفات فهم بنوا إسرائيل، ولهذا ظن الرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى بني إسرائيل أنهم أمته لكثرتهم، فقيل له: هذا موسى وقومه. فهذا يدل على فضيلتهم، وقد قال الله جل وعلا فيهم: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان:32]، وقوله: (على العالمين) يعني: عالمي زمانهم، فقد فضلوا عليهم، فهذا يدل على فضلهم في الجملة أيضاً.

فضيلة أصحاب موسى عليه السلام وعرض الأمم على محمد صلى الله عليه وسلم

فضيلة أصحاب موسى عليه السلام وعرض الأمم على محمد صلى الله عليه وسلم [العاشرة: فضيلة أصحاب موسى عليه الصلاة والسلام. الحادية عشرة: عرض الأمم عليه عليه الصلاة والسلام]. قلنا: إن العرض يجوز أن يكون في المنام، ويجوز أن يكون في اليقظة، وهو تمثيل، فمثلوا له كهيئة مجيئهم يوم القيامة، كما مثلت له الجنة والنار وهو يصلي صلاة الكسوف صلوات الله وسلامه عليه، فأخبر أصحابه أنه رأى فيها أشياء، وأخبرهم أنه رأى عمرو بن لحي الخزاعي فيها، ورأى امرأة دخلت النار في هرة حبستها حتى ماتت، فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، ورأى أشياء أخبرهم فيها، وقال: (إني لم أر منظراً كاليوم)، وخطبهم وقال: (إن الله يغار أن تزني أمته أو يزني عبده)، ولهذا يقول العلماء: إذا حدث الكسوف فمعنى ذلك أن الله يستعتب عباده، فيجب أن يخافوا، ويجب أن يهرعوا إلى الصلاة والاستغفار والتوبة والصدقة، ولا ينافي هذا أن الكسوف يحدث في أشياء معينة يعرفها أهل الفلك، ولكن عند ذلك الله جل وعلا يحدث ما يستعتب به عباده، فالرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى ذلك خشي أن تكون الساعة، وأشار بهذا الكلام إلى أن هذا بأسباب تحدث من بني آدم، وإن كان بالحساب فيكون بأسباب، وهكذا كل ما يقع، مثل ما يسميه الناس اليوم: الكوارث الطبيعية. فهي ليست كوارث طبيعية كما يقولون، بل هذه عقوبات وأحداث يأخذ بها من يشاء من عباده، ولعل بعضهم يتوب ويستعتب ويرجع إلى الله، سواءٌ أكانت مطراً، أم كانت رياحاً وعواصف، أم كانت زلازل، أم كانت براكين، أم غير ذلك، ولا يجوز أن نقول: هذه كوارث طبيعية وننسى الأسباب، وننسى مسبب الأسباب جل وعلا، بل يجب أن نرجع إلى أنفسنا، ولهذا في خلافة عمر رضي الله عنه حدث زلزال في المدينة وإن كان ليس كبيراً، فقال عمر رضي الله عنه: (والله لئن عادت لا أساكنكم فيها)؛ لأنها لا تحدث إلا بذنوب العباد، فالله جل وعلا يحدث ذلك لعلهم يتوبوا ويرعووا، وهكذا غير الزلازل من الأمطار الجارفة والرياح العاصفة والبراكين، ولكن الذين نسوا الله ينسيهم الله جل وعلا أنفسهم لئلا يتذكروا ولا يرجعوا إلى الله، فيضيفون هذه الأمور إلى الطبيعة، إلى الأرض وطبيعتها، وينسون الله جل وعلا فلا يتوبون، وهذا من نسيان الله لهم، بخلاف المؤمن، فإنه يهرع إلى الله ويضرع إليه ويتوب ويستعتب، ويترك ما هو فيه من المعاصي، وهذا المقصود في احداث هذه الأمور، ومن ذلك كسوف الشمس وخسوف القمر فإنه من هذا النوع.

كيفية الحشر مع الأنبياء عليهم السلام

كيفية الحشر مع الأنبياء عليهم السلام [الثانية عشرة: أن كل أمة تحشر وحدها مع نبيها]. هذا واضح من قوله: (فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد)، فكل نبي أرسل إلى قومه يأتي يوم القيامة فيمن آمن معه، وإذا لم يؤمن به أحد أتى وحده، وذلك أن الكفار كلهم يجمعون جميعاً من أولهم إلى آخرهم فيلقون في جهنم، وكلما دخلت أمة من الأمم لعنت التي تقدمتها، لأنهم يقولون: أنتم الذين سننتم لنا هذا الطريق، وسننتم لنا الكفر والشرك وعصيان الرسل. فيعود عليهم أولئك أيضاً باللعن فيقولون: هذه هي أفعالكم وأعمالكم أنتم، ونحن ما لنا عليكم من سلطان، ولكن أنتم الذين اخترتم هذا المسلك وسلكتموه فعليكم اللعنة.

الأنبياء وقلة أتباعهم

الأنبياء وقلة أتباعهم [الثالثة عشرة: قلة من استجاب للأنبياء. الرابعة عشرة: أن من لم يجبه أحد يأتي وحده]. يعني من الأنبياء. فالذي لم يجبه أحد يأتي وحده، وهذا مثل لوط عليه السلام؛ فإنه لم يستجب له رجل واحد من قومه، فخرج من بلاد قومه التي كان يدعوهم فيها هو وبناته فقط، حتى زوجته كفرت به، ولهذا أخبر الله جل وعلا أنها في الغابرين وفي المدمرين، وأمره أن يخرج ويسري في قطع من الليل ببناته، وأن يتبع أدبارهم، فيكون خلف البنات، وألا يلتفت خلفه خوفاً من أن يصيبه ما أصابهم؛ لأن الالتفات يكون فيه شيء من العطف عليهم أو التعلق بهم، والله قطع العلاقة بهم، وقطع أن يكون بينه وبينهم صلة بالعطف أو بغيره، فقال له: {وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} [الحجر:65]، وهذا في الواقع بعدما وقع في أشد الكرب من قومه، وهكذا الأنبياء إذا ضاقت الأمور إلى آخر حد جاءهم النصر وهلاك القوم، وهؤلاء كانوا -في الواقع- في فعلة ما فعلها أحد قبلهم، فكانوا يأتون الذكران من العالمين، فانتكست أخلاقهم، وانتكست أذواقهم، فأصبحوا يتركون الشيء الطيب الطاهر ويبحثون عن الخبيث المنتن القبيح لقبحهم، فلما تمادوا بهذا الشيء. ولوط عليه السلام يدعوهم وينهاهم عن ذلك وهم يعيبون عليه بأنه من المتطهرين كان من تمام البلاء أن الله جل وعلا أرسل إليه جماعة من الملائكة في صور شباب حسان الوجوه، فلما علموا بذلك جاؤوا يهرعون إليه يريدون أن يفعلوا الفاحشة بهؤلاء، ولوط لا يدري أنهم ملائكة؛ لأنهم جاؤوا بصورة أضياف، كما كانوا عند إبراهيم كذلك، وصار يدافعهم ويعرض عليهم بناته، كما قال تعالى عنه: {قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [الحجر:71]، وقال تعالى عنه: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود:78]، فقالوا: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} [هود:79]، فلما انتهى به الأمر والكرب والشدة قال: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80]، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رحم الله لوطاً؛ لقد كان يأوي إلى ركن شديد)؛ لأنه يأوي إلى ركن الله جل وعلا، وأي ركن أشد من ركن الله؟ فلهذا لما وصل إلى هذا الحد قال له جبريل عليه السلام وهو معهم: {يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} [هود:81]، عند ذلك قال: متى عذابهم؟ قال: {مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ} [هود:81]، فقال: أريده الآن. فقال له: {أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود:81]، ثم أمره أن يمضي في الليل مع بناته ويخرج، عند ذلك تولى تعذيبهم جبريل عليه السلام، فاقتلع مدائنهم من أسفل الأرض، من تخوم الأرض، وطار بها على طرف جناحه وهي سبع مدن، حتى كانت الملائكة الذين في عنان السماء يسمعون نباح الكلاب وصياح الديكة، فقلبها وجعل عاليها أسفلها، ثم أمطروا بحجارة من سجيل، وصار لكل واحد حجر يصيبه ويقتله، ثم خسفت بهم الأرض، وصارت أبدانهم في الغرق ولكن أرواحهم في الإحراق في جهنم، ويوم القيامة أشد وأنكى، نسأل الله العافية. فقال الله جل وعلا لما ذكر عقابهم: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83] يعني: هذه العقوبة ما هي من ظالمي هذه الأمة ببعيد، فإذا فعلوا كهذا الفعل سوف يصيبهم مثلما أصاب أولئك؛ لأن الله جل وعلا من كفر بأفضل الأنبياء عذبه أشد مما عذب من سبق، لا سيما وقد أبلغوا وأنذروا وحذروا، والله جل وعلا يمهل ولا يهمل، وإذا أخذ لم يفلت، وإذا أخذ فأخذه أليم شديد، نسأل الله العافية.

ثمرة العلم

ثمرة العلم [الخامسة عشر: ثمرة هذا العلم وهو عدم الاغترار بالكثير]. يعني أن ثمرة هذا العلم -الذي هو مقصود هذا الحديث- ألا يغتر الإنسان بالكثرة؛ لأن فيه أن أكثر الناس هالكون، وأن كثيراً من الأنبياء لا يأتي إلا معه رهط -أي: عشرة فأقل- وقد يأتي وليس معه إلا رجل أو رجلان، فإبراهيم عليه السلام ما آمن له إلا لوط، وهو خليل الرحمن، ولوط ابن عمه، ثم أرسل لوط إلى هذه القرى التي كفرت به، وهكذا كثير من الرسل ما يكون معه إلا قلة، وأكثر الخلق كافرون، مع أنَّ كفرهم ما هو كفر جحود بالله جل وعلا بحيث لا يعرفونه، ولكن عناداً وتكبراً واتباعاً لما تهواه الأنفس، ولهذا قوم صالح تبين لهم الحق تماماً وجاءهم ما طلبوا حيث اقترحوا على نبيهم أن يخرج لهم ناقة من الجبل تكفيهم كلهم إذا أرادوا شرب الحليب منها، فلما أخذ مواثيقهم على ذلك خرجت الناقة من الجبل، وصارت كما أرادوا، ثم إن بعض الكفرة منهم تقاسموا بالله وتعاهدوا بالله على قتله، وهذا يدل على أنهم يؤمنون بالله، ويعرفون أن الله هو الذي يدبر الكون كله، وهو الذي يصرف الأمور كله، قال تعالى: {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [النمل:49]، فتعاهدوا وتعاقدوا على ذلك، فحصل ما حصل من عقرهم الناقة ومحاولتهم قتل صالح عليه السلام، فجاءتهم الكارثة التي أهلكتهم. فالمقصود أنه ليس كفر الكافرين لأنه خفي عليهم معرفة الله جل وعلا، ولكنه عناد وتكبر، ولهذا لما قيل لـ أبي جهل: أكنتم تتهمون محمداً صلى الله عليه وسلم بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: والله لقد عرفناه بالأمين في شبابه، ولا يمكن إذا خطه الشيب أن يذهب يكذب على الله جل وعلا. فقيل له: ولماذا لا تؤمنون به وتتبعونه؟ فقال: تنازعنا نحن وبنو هاشم الشرف، أطعموا فأطعمنا، وأكرموا فأكرمنا، حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، ومتى يكون لنا ذلك؟ والله لا نؤمن به أبداً. هكذا الحسد الذي يمنع أكثر الناس. ولهذا يقول العلماء: إن غالب الكفر هو كفر الجحود والعناد، أو كفر الإعراض، وليس كفراً لخفاء دليل وتعمية الأمر؛ لأن الرسل كلهم جاؤوا بالبينات الواضحات التي لا تبقي للإنسان شكاً في أنهم رسل من عند الله جل وعلا، أما الإعراض فنعم، وكفر الإعراض كثير، وذلك لأن الإنسان يعرض عن النظر فيما جاء به الرسول والتفكر فيه، مثلما وقع لبني عبد يا ليل الذين أتى إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم وكانوا ثلاثة، وذلك بعد أن لم يجد إجابة قريش له، واشتدوا عليه، وذلك بعد وفاة عمه أبي طالب؛ لأنه كان يحوطه ويحميه، فلما توفي تسلطوا عليه أكثر، وخرج إلى الطائف لعله يجد من يستجيب له ويناصره، فكان أول من لقي ثلاثة إخوة هم بنو عبد يا ليل، فدعاهم إلى الله جل وعلا، وقال لهم: إني رسول الله جئت بكتابه، وإنه من آواني ونصرني فله الجنة. فقال له أحدهم: هو يسرق أستار الكعبة إن كان الله أرسلك. أي: أنه سارق ثياب الكعبة إن كنت رسولاً. فهو تكذيب مباشر بدون نظر، أما الآخر فجاء بأمر أعظم من هذا استهزاء وسخرية وقال: ما وجد الله أحداً غيرك يرسله؟! وأما الثالث فقال له: والله لا أكلمك كلمة، لئن كنت رسولاً فأنا أحقر من أرد عليك شيئاً، ولئن كنت كاذباً فلأنت أحقر من أكذبك. فهذا الإعراض لأن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بالآيات الباهرات البينات الواضحات، وإذا نظرت بعقلك وفكرت تبين لك أنه رسول أو غير رسول، ومعلوم أن الإنسان إذا قال: أنا رسول الله فإما أن يكون هو أبر الناس وأصدقهم، أو أفجر الناس وأكذبهم، وهل يلتبس أكذب الناس بأصدق الناس؟ أبداً. ولا يمكن هذا؛ لأن الكاذب يتبين من وجهه وحاله ومنطقه وعمله وكل ما يحيط به، لهذا عبد الله بن سلام رضي الله عنه لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قال: وأتيت إليه ورأيت وجهه فعلمت أن وجهه وجه الصادق، وأنه لا يكذب. فقبل أن يتكلم، ومنذ رأى وجهه علم أن وجهه وجه صادق لا يكذب، فالذي يعرض معناه أنه يصرف نظره وفكره عما جاءت به الرسل، وهذا في الواقع كفر بالله جل وعلا وإعراض عن دينه وعن رسله، وهذا يقع كثيراً، واليوم كفر الناس أكثره من هذا القبيل، فأكثر كفر الكافرين اليوم بالإعراض، فلا يتأملون كتاب الله وآيات رسوله صلى الله عليه وسلم التي جاء بها، بل يعرضون عن سماع ذلك بآذانهم ورؤيته بأعينهم، ويحاولون أن يصدوا الناس عن الإيمان به بكل ما يستطيعون، كل ذلك عناداً من العالمين واستكباراً، وأكثرهم معرض لا يتبين له ذلك، والذين يسمعون ويشاهدون تعرض عليهم أمور مزيفة، أمور في الواقع مشوهة، أمور الإسلام والمسلمين تشوه لديهم، فيصدقون ذلك ويتبعونه، وهذا من الإعراض، ولا يجوز أن يفعلوا هذا، ويجب عليهم أن ينظروا؛ لأن الله أعطاهم عقولاً، وأعطاهم أفكاراً وأنظاراً، فلماذا تعطل العقول والأفكار والأنظار؟ ثم يتبعون سادتهم وكبراءهم ولن يغنوا عنهم شيئاً.

الرقية من العين والحمة

الرقية من العين والحمة [السادسة عشرة: الرخصة في الرقية من العين والحمة]. الواقع أن الرخصة من الرقية عامة وليست من العين والحمة فقط، وسبق لنا أن العين هي إصابة الحاسد بعينه، وأن الحمة هي إصابة ذوات السموم بحمتها التي تحدث المرض والحمى، ولكن المعنى أن الرقية من هذين المرضين أشفى وأنجح من غيرهما من الأمراض الأخرى، وإلا فالرقية مستحبة، هذا هو الصحيح، ولكن الممنوع هو الافتقار إلى الناس وطلبهم.

عمق علم السلف في العمل بالدليل

عمق علم السلف في العمل بالدليل [السابعة عشرة: عمق علم السلف رحمهم الله بقوله: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع ولكن كذا وكذا. فعلم أن الحديث الأول لا يخالف الثاني]. هذا هو الواجب على الإنسان، فإذا جاءه من آيات الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم شيء يبدو منه التعارض يجب عليه أن يبحث عن وجه الجمع، فإن تمكن من ذلك وإلا فعليه أن يتهم رأيه ونظره وأنه قاصر المعرفة، أما كتاب الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم فهي لا تتضارب ولا تتعارض، ولكن لها أوجه قد لا يدركها الإنسان، ثم إذا عجز الإنسان عن ذلك يجب عليه أن يكل العلم إلى أهله، فالعلماء يعرفون كيف يجمعون بين أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم التي يبدو لكثير من الناس أنها متعارضة، فالسلف ما كان يحدث عندهم تعارض من هذا القبيل لعمق علمهم.

من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، وفضل عكاشة

من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، وفضل عكاشة [التاسعة عشرة: قوله صلى الله عليه وسلم: (أنت منهم) علم من أعلام النبوة]. أما كونه علماً من أعلام النبوة فالأمر كما قال الإمام ابن حزم رحمه الله، حيث يقول: الصحابة كلهم في الجنة، ولكن هذا لأن عكاشة بن محصن قتل شهيداً في سبيل الله، ومعلوم أن هذا من أفضل الأعمال، والله أخبر جل وعلا عن الشهداء أنهم أحياء عنده يرزقون جل وعلا، وأنهم ليسوا أمواتاً، ولا يجوز لنا أن نسميهم أمواتا، فالله نهانا عن ذلك فقال: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ} [البقرة:154]، وفي الحديث الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لـ جابر: (أما إن الله جل وعلا قد كلم أباك كفاحاً، فقال له: يا عبدي! تمن علي. فقال: يا رب! وماذا أتمنى؟ فأعاد عليه، فلما رأى أنه لا بد من ذلك قال: تحييني مرة أخرى فأقتل في سبيلك. قال: أما هذه فلا. فقال: إذاً أبلغ عنا من خلفنا أنا قد لقيناك فأرضيتنا)، فأنزل الله جل وعلا بعض الآيات التي في سورة آل عمران، ولكن الأمر الذي حقق أن الشهيد هو أفضل الناس، فمن أفضل الأعمال الشهادة، ولهذا جاء أنه لا يحس الموت إلا كعضة جراد، وأنه يزوج من الحور العين سبعين، وأنه يؤمن من فتنة القبر وعذابه، في أشياء كثيرة جاءت خاصة بالشهداء، والله جل وعلا يقول في كتابه: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ} [الزمر:69]، فجعل الشهداء مع النبيين أول ما يجاء بهم، وكذلك في آيات أخر مما يدل على فضل الشهادة في سبيل الله، فهذا من باب هذه الأدلة فقط، ولكن أعظم من هذا كله قوله صلى الله عليه وسلم: (أنت منهم)، فهذا يجب أن يؤمن به ويصدق ولو لم يقتل في سبيل الله، فهو منهم لخبر الرسول صلى الله عليه وسلم. [العشرون: فضيلة عكاشة رضي الله عنه]. المعلوم أن كثيراً من الصحابة أفضل منه، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا خص إنساناً بشيء معين فكل يفرح أو يحب أن يكون له شيء من ذلك، وإلا فـ أبو بكر أفضل منه بالاتفاق، وعمر أفضل منه، وعثمان أفضل منه، وعلي أفضل منه، وكذلك عبد الرحمن بن عوف والزبير وطلحة وأبو عبيدة وسعد بن أبي وقاص وغيرهم من العشرة الذين شهد لهم بالجنة، وغيرهم من السابقين، ولكن إذا خص الإنسان بشيء معين من بين الناس فكل واحد يحب أن يكون له شيء من ذلك، وهذا فضل بلا شك.

جواز استعمال المعاريض

جواز استعمال المعاريض [الحادية والعشرون: استعمال المعاريض]. استعمال المعاريض مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم: (سبقك بها عكاشة)، والمعاريض: هي ألا يصرح بالمنع من الشيء أو إجابة الإنسان إلى الشيء، وإنما يؤتى بكلام عام يكون صرفاً له لئلا يخدش شعوره، ولا يكون به في الواقع إجابة صريحة وقد جاء: (إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب)، فالإنسان قد يطلب منه شيء فيذهب يقول كلاماً ليس بصحيح، بل كذب، فما يجوز له، ولكن يأتي بأشياء تخرجه من كون الإنسان يجد عليه في نفسه ولا تضره ولا تضر غيره، فهذا في الواقع من حسن خلق الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلا فكان يستطيع أن يقول: لا أسأل لك. ولا يغضب الإنسان إذا قال له ذلك، ولكنه لا يقول مثل هذا؛ لأنه يتألف الناس ويتحبب إليهم بما أعطاه الله جل وعلا من حسن الخلق، لهذا قال: (سبقك بها عكاشة). [الثانية والعشرون: حسن خلقه صلى الله عليه وسلم]. حسن الخلق من أفضل الأعمال، بل جاء أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ما شيءٌ أثقل في ميزان العبد من تقوى الله وحسن الخلق)، لهذا يسن للإنسان أن يقول: (اللهم اصرف عني سيء الأخلاق لا يصرفها إلا أنت)، ويقول: (اللهم اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت)، فيسأل ربه هذا الشيء، وقد جاء تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك لعظمه، فما هناك أحسن من خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا لما سئلت عنه عائشة قالت: كان خلقه القرآن. فتخلق بالقرآن، فكان يحلم على الجاهل، وكان يسع بحلمه من يتطاول عليه، كما روى أنس في الصحيح أن أعرابياً لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عليه كساء غليظ الحاشية، فأخذ يجبذه إليه حتى أثر ذلك في صفحة عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أنس: فرأيتها تكاد يصب الدم منها. فالتفت إليه الرسول صلى الله عليه وسلم وضحك، وما نهره، بل أمر بأن يعطى ويحسن إليه ويزاد على حقه، وهكذا صلوات الله وسلامه عليه كان عظيم الخلق حسن الخلق، وكان يأمر بهذا ويحض عليه، ولا سيما مع الأهل؛ فإنه قال: (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي) صلوات الله وسلامه عليه.

شرح فتح المجيد [19]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [19] الشرك بالله تعالى هو الذنب الذي لم يعص الله تعالى بمثله، فهو منازعة لله تعالى في خصائص إلهيته، إذ بالشرك يجعل ما للخالق للمخلوق، ويشبه المخلوق بالخالق، ولذا كان جريمة وكان عند الله عظيماً، وقد أخبر الله تعالى أنه لن يغفر الشرك به يوم القيامة، مع سعة رحمته تعالى يومئذٍ للعاصين، وذلك لعظم هذا الذنب الذي لا يساويه ذنب.

الشرك وما جاء فيه

الشرك وما جاء فيه

الخوف من الشرك وأسباب كونه عظيما

الخوف من الشرك وأسباب كونه عظيماً قال المصنف رحمه الله تعالى: (باب الخوف من الشرك) وقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]]. قال الشارح رحمه الله: [قال ابن كثير رحمه الله تعالى: أخبر تعالى أنه (لا يغفر أن يشرك به) أي: لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك، (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) أي: من الذنوب لمن يشاء من عباده. انتهى. فتبين بهذه الآية أن الشرك أعظم الذنوب؛ لأن الله تعالى أخبر أنه لا يغفره لمن لم يتب منه، وما دونه من الذنوب فهو داخل تحت المشيئة، إن شاء غفره لمن لقيه به، وإن شاء عذبه به وذلك يوجب للعبد شدة الخوف من الشرك الذي هذا شأنه عند الله؛ لأنه أقبح القبيح وأظلم الظلم، وتنقص لرب العالمين، وصرف خالص حقه لغيره، وعدل غيره به، كما قال تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1]، ولأنه مناقض للمقصود بالخلق والأمر، مناف له من كل وجه، وذلك غاية المعاندة لرب العالمين والاستكبار عن طاعته والذل له والانقياد لأوامره التي لا صلاح للعالم إلا بذلك، فمتى خلا منه قامت القيامة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله الله)، ولأن الشرك تشبيه للمخلوق بالخالق تعالى وتقدس في خصائص الإلهية من ملك الضر والنفع والعطاء والمنع الذي يوجب تعلق الدعاء والخوف والرجاء والتوكل وأنواع العبادة كلها بالله وحده، فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق، وجعل من لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً شبيهاً لمن له الحمد كله، وله الخلق كله، وله الملك كله، وإليه يرجع الأمر كله، وبيده الخير كله، فأزمة الأمور كلها بيده سبحانه، ومرجعها إليه، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، الذي إذا فتح للناس رحمة فلا ممسك لها، وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم، فأقبح التشبيه تشبيه العاجز الفقير بالذات بالقادر الغني بالذات]. قول المصنف رحمه الله: (باب الخوف من الشرك) يعني: خوف الإنسان أن يقع في الشرك وهو لا يدري؛ فإن الإنسان قد يظن أمراً من الأمور حسناً ومحبوباً إلى الله جل وعلا، ويكون بخلاف ذلك، وذلك لقصور العلم؛ فإن الإنسان لا يستطيع أن يحيط بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما عليه أن يستن بالأهم، فما كان أهم فعليه أن يبدأ به، وهو معرفة حق الله جل وعلا عليه، وهذا لا يتم حتى يعرف ضده، لأن الأشياء تتبين بأضدادها، ومن المعلوم أن الإنسان إذا ما عرف الأمور التي نهى الله جل وعلا عنها فإنه كثيراً ما يقع فيها وهو لا يشعر، وأعظمها الشرك بالله جل وعلا، ووجه الخوف منه من جهتين: الجهة الأولى أن فيه خفاء، كما سيأتينا في الحديث أن الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النملة على صفاة صماء في ظلمة الليل، ويقصد بهذا شرك النيات، الشرك الذي يقع في النية والمقصد، وليس الشرك الذي يحدث بالفعل كالسجود والدعاء وما أشبه ذلك؛ فإن هذا ظاهر جلي، فالإنسان إذا تعلم ما يجب عليه ما يكون عليه خفياً، وإنما الخفي الذي يكون في النية؛ فإن النيات بحر لا ساحل له، والنية تحتاج إلى جهاد دائماً، فالإنسان يعالج نيته دائماً لتكون النية صالحة، وليكون مقصوداً بالعمل وجه الله جل وعلا، ولهذا قد يبدأ الإنسان بعمل يكون عملاً صالحاً ثم يحدث في أثنائه ما يغير ذلك، ثم يتغير في آخره إلى أن يكون صالحاً، حسب جهاد الإنسان نفسه ومكابدته ذلك، ولا بد من المجاهدة، فهذا من جهة. الجهة الأخرى: كونه مخوفاً لأن الله جل وعلا أخبر أنه لا يغفره لمن مات عليه، وقد يكون هناك من مسائل الشرك الأكبر ما يخفى على بعض الناس، وقد وقع فيها من خواص الناس خلق كثير، فيظنون أنها توحيد وأنها طاعة وهي في الواقع شرك بالله جل وعلا، فقد قال الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] وهذه الآية لا تتعارض مع قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53]؛ لأن هذه التي في سورة الزمر في التائب من الذنوب، فكل تائب من أي ذنب كان سواءٌ أكان شركاً أم زناً، أم سرقة، أم شرب خمر، أم ترك صلاة، أم غيرها من أنواع الذنوب، فالتائب من الذنب الله جل وعلا يتوب عليه، وهو المقصود بهذه الآية: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53] أما آية سورة النساء: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] في موضعين منها فإنها لمن مات على ذلك، فالإنسان الذي يفعل الشرك فيموت، أو يفعل المعاصي كلها فيموت إن كانت هذه المعاصي التي يفعلها غير شرك فهي تحت مشيئة الله جل وعلا، أي أنه إن شاء أن يغفرها بلا عذاب غفرها، وإن شاء أخذه بها فعذبه، هذا إذا كانت غير شرك، ثم بعد التعذيب تكون عاقبته إلى الجنة، أما إذا كانت شركاً فهو ميئوس منه، فيكون في النار خالداً مخلداً لا يناله من رحمة الله شيء؛ لأن الله جل وعلا قال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، وفي الآية الأخرى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة:72]، فأخبر جل وعلا أن الجنة عليه حرام، فمن هنا جاء الخوف من الشرك، ويدل على هذا ما سيذكره من قول الله جل وعلا عن إبراهيم: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم:35]، فإبراهيم الذي اتخذه الله خليلاً يدعو الله ويتضرع إليه أن يجعله في جانب بعيد عن عبادة الأصنام هو وبنيه، ومعلوم أن عبادة الأصنام من الشرك الأكبر، فهو يدعو ربه أن يجنبه الشرك الأكبر، ولهذا يقول إبراهيم التيمي رحمه الله: ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم يعني: حيث إن إبراهيم عليه السلام خاف الوقوع في الشرك فكيف بمن هو دونه بمنازل كثيرة جداً في الإيمان والوفاء بعهد الله جل وعلا والقيام بأمره، فإنه يخاف عليه أكثر، ومن هذا القبيل ما سيذكره من أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: (أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر)، فسئل عنه فقال: (الرجل يقوم يصلي فيزين صلاته من أجل نظر رجل)، وهذا مثال، وإلا فهذا يسري في جميع الأعمال، ولا سيما الأعمال الظاهرة التي ترى وتشاهد، مثل الصلاة والزكاة والصدقات والحج وغيرها، فإن هذا يحتاج إلى مجاهدة متواصلة مع العمل حتى يكون خالصاً وصافياً لله جل وعلا، والله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً، فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم خاف على سادات الأمة وأولياء الله الذين هم صحابته خاف عليهم من الشرك الأصغر فكيف بمن هو بعيد جداً عن مقامهم وعن أحوالهم وعن علمهم وعن إيمانهم؟ فيخاف عليه أكثر. ولهذا ذكر هذا الباب لينبه على أن الإنسان يجب عليه أن يحذر من ذلك، يحذر من الوقوع في الشرك، أما الشرك الأكبر فالغالب أن المسلم لا يقع فيه إذا عرف الإسلام حقيقة، فالشرك الأكبر الغالب أنه لا يقع فيه إلا من باب الجهل أو المعاندة أو الهوى، وأما الشرك الأصغر فهو الذي قد لا يسلم منه إلا النادر، والشرك الأصغر وإن كان غير مخرج للإنسان من الدين الإسلامي فإذا وقع في الشرك الأصغر فهو مسلم، إلا أنه من أكبر الكبائر، أعني كونه يقع منه الرياء أو السمعة أكبر من أن يقع منه الزنى نسأل الله العافية، ولهذا قال كثير من العلماء: إنه لا يغفر وإن كان أصغر؛ لأنه داخل في عموم الآية في قوله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فقيد الشرك بأنه غير مغفور لصاحبه، وليس معنى كونه غير مغفور له أنه يكون خالداً في النار، لا. ولكن معناه أنه لا بد أن يعذب على هذا الشرك الأصغر، ولأنه لا يكون به خارجاً من الدين الإسلامي لا يخلد في النار، وإنما الذي يخلد في النار من يكون غير مسلم، والإنسان يخرج بالشرك الأكبر عن الإسلام، فلا يكون مسلماً به، أما الشرك الأصغر -وسيأتي ما هو الشرك الأصغر- فإنه لا يخرج به عن الدين الإسلامي، ولكن بعض العلماء يقول: إنه لا يغفر لصاحبه. يعني أنه لا بد أن يعذب عليه، ثم بعد ذلك بعد ما يلقى جزاءه ويقوم به العذاب الذي يستحقه يخرج من النار إلى الجنة، وهو يكون غير داخل في قوله: (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)، وإنما يدخل في هذا الاستثناء غير الشرك من سائر المعاصي، فدل هذا على عظم الشرك وإن كان أصغر، وإن كان في الواقع أن الإنسان على خطر وإن كان سالماً من الشرك، فإذا وقع في الذنوب فإنه على خطر، والإنسان ضعيف، فكيف يقوم في عذاب الله؟ وعذاب الله جل وعلا لا يشبه العذاب في الدنيا والعذاب المعهود المعروف لنا، والنار ليست كالنار التي بين أيدينا؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (فضلت نار جهنم على ناركم هذه بسبعين ضعفاً)، ولو كانت هي نفس نار الدنيا لكفت بشدة العذاب، فكيف إذا كانت مضاعفة عليها سبعين مرة بشدة الإحراق وشدة الحرارة، ولهذا يخبر الله جل وعلا عنها بما يكاد الإنسان -إذا صدق به وآمن به- أن يتقطع قلبه خوفاً منها، فعلى الإنسان أن يحذر جميع الذنوب، وأيضاً عليه أن يقوم على نفسه ويحاسبها ويتوب كل وقت، فعندما يأوي إلى فراشه يعلم أنه يموت في هذا الفراش، ويجوز أن يكون موتاً حقيقياً، فعليه أن يحاسب نفسه ويتوب إلى الله جل وعلا، فربما لا يقوم من فراشه، فيحاسب نفسه قبل أن يلقى ربه فيجد الحساب، ويج

الشرك منازعة في الخصائص الإلهية

الشرك منازعة في الخصائص الإلهية قال الشارح رحمه الله تعالى: [ومن خصائص الإلهية الكمال المطلق من جميع الوجوه، الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه] أما كون الشرك كبيراً وعظيماً فمن عدة وجوه، منها أنه تشبيه للمخلوق بالخالق، حيث جعل المخلوق إلهاً يعبده، ويجعل له شيئاً من العمل، وهذا وقع في بني آدم كثيراً أكثر من عكسه الذي هو تشبيه الخالق بالمخلوق، فهذا قليل، وأما الكثير فتشبيه المخلوق بالخالق، وهذا من أعظم المحرمات، وذلك أنهم جعلوا بعض المخلوقات بمنزلة الرب جل وعلا فسموها آلهة، أو سموها معبودة، أو سموها قابلة للعبادة وقابلة للنذر، ولو لم يسموها فإنهم يضعون لها العمل، كالذي يقصد القبر ويقول: إنه قبر ولي. ويطلب منه نفعاً أو دفعاً، سواءٌ من أمور الدنيا أو من أمور الآخرة، فهذا في الواقع جعله بمنزلة الله جل وعلا؛ لأن هذا النفع أمر غيبي لا يملكه هذا المقبور، والمقبور لا يستطيع أن يملك شيئاً، ولا يستطيع أن يسمع دعاء الإنسان، ولو سمع ما استجاب وما استطاع أن يستجيب، فدعوته ضلال، والداعي الذي يدعو مشرك، كما قال الله جل وعلا: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:5 - 6]، وهذا ينطبق تماماً على الذي يدعو المقبور الذي يزعم أنه ولي، فإن هذا لا يدري عن دعوته شيئاً؛ لأنه مشغول إما بالعذاب يعذب وإما بنعيم ينعم، وغافل عن دعوته تمام الغفلة، ولا شعور له بدعائه، وإنما يشعر بدعائه إذا حشر هو وداعيه يوم القيامة، وإذا بعث من قبره وجمع مع داعيه يوم القيامة وقيل له: إن هذا كان يدعوك فهل أنت أمرته؟ عند ذلك يتبرأ منه ويبغضه ويلعنه ويكفر به، كما قال الله جل وعلا في الآية الأخرى: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [العنكبوت:25]؛ لأن كل عابد مع معبوده هذه منزلته يوم القيامة، حتى الملائكة والرسل، فإن الله يحضرهم ويقول لهم: {أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} [سبأ:40] يعني: من الجن والإنس. فيتبرأون ويقولون: يا ربنا! (أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن) أي: الشياطين (أكثرهم بهم مؤمنون)، فالشياطين التي أمرتهم بها فصاروا عابدين لها، وفي حديث أبي سعيد الخدري وكذلك حديث أبي هريرة الطويل الذي ذكر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم الشفاعة وذكر فيه محاسبة الله جل وعلا لعباده، وهو حديث متفق عليه في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أنه في أثناء الحديث يأتي الله جل وعلا لمحاسبة لعباده فيقول: (أليس عدلاً مني أن أولي كل واحد منكم ما كان يتولاه في الدنيا؟)، فيسأل الخلق جميعاً وهم يسمعون كلامه، فيقول: (أليس عدلاً مني أن أولي كل واحد منكم ما كان يتولاه في الدنيا؟). والجواب أنهم كلهم يقولون: بلى يا رب. فيؤتى بكل معبود ويقال لعابده: هذا معبودك اتبعه. أما الذين يعبدون الأنبياء والملائكة فيؤتى بشياطين على ما يتصور العابدون، فيقال لهم: اتبعوا معبوداتكم فيتبعونها، وهذا قبل أن يقضى بين الناس، وهذا أول القضاء، ويتبعونها إلى جهنم، فتلقى في جهنم ويتبعونها فيها، كما قال الله جل وعلا: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98]، فهذا قبل كل شيء. فإذا كان الإنسان يعبد غير الله فهو مشبه ذلك المعبود بالله جل وعلا، وصارف حق الله الذي أوجبه على عباده إلى ذلك المخلوق الذي لا يجديه شيئاً، بل يضره، بل يلعنه ويتبرأ منه إذا حصحص الحق وجيء بالناس للمحاصة والمقاصة والمحاسبة، فكل واحد يتبرأ من الثاني، ولكن لا تفيد البراءة واللعن في ذلك المقام والندامة، انتهى الأمر، وحقت الحاقة. وكذلك من جهة أخرى كونه تعطيلاً لخلق الله، وذلك أن الله خلق السماوات والأرض، وخلق الجن والإنس ليعبد هو وحده، وإن كان جل وعلا وكل هذا إليهم؛ لأنهم عقلاء وضعت فيهم العقول والأفكار، وجعل الأمر إليهم حتى يفعلوا ذلك عن اختيار فيستحقوا الثواب إذا فعلوه، أو يتركوه عن اختيارهم فيستحقوا العقاب، وليس لهم عذر عند الله، وإلا فالله قادر على أن يجعل الناس كلهم عابدين له، وإنما هذا حتى يبرز ظاهراً للناس كلهم، فمن يستحق الكرامة يكرم، ومن يستحق الإهانة يهان؛ لأنه عند الامتحان يكرم المرء أو يهان، ولا بد من الامتحان، وهذه الدار دار امتحان بالعمل، والعمل يجب أن يكون خالصاً لله جل وعلا، فإذا جاء الإنسان للعمل على الوجه المطلوب على وفق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم جاء به للناس فقد نجح، فيكرم لنجاحه، أما إذا تقاعس عنه أو أعرض عنه ولم يهتم به، أو علم وخالف فهو يستحق الاهانة، وهو خاسر خسارة لا تشبهها خسارة؛ لأن خسارته في جهنم -نسأل الله العافية-، فلهذا يقول الله جل وعلا: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين:5]، فرد في أسفل سافلين، وإن كان في الواقع يدخل السفل في الخلق في الدنيا، ولكن يظهر في الآخرة بكونه في جهنم؛ لأن جهنم أسفل سافلين، فيرد إليها بعدما كان مخلوقاً في أحسن تقويم له العقل وله الصورة الجميلة وله الفكر، ويتميز عن سائر المخلوقات بهذه الأمور، ولكن ما نفعته إذا ترك أمر الله، فيرد إلى أسفل سافلين، وتصبح الحيوانات أفضل منه، فأخبر الله جل وعلا عن كثير من الناس وكثير من الجن أنه ذرأهم لجهنم، وأن لهم عقولاً لم ينتفعوا بها، ولهم أسماع لم ينتفعوا بها، وأبصار لم ينتفعوا بها، وأن الأنعام أفضل منهم، وأنهم أضل من الأنعام، والأنعام أفضل منهم، فهذا جزاء الذي لا يقبل نعمة الله جل وعلا، لا يقبلها ولا يضعها في مواضعها، فيرد إلى أسفل سافلين، وكل أصل هذا أن يتجه بالعبادة لغير الله جل وعلا، وليست العبادة مقصورة على السجود والركوع والدعاء والتسبيح والتهليل والتكبير وما أشبه ذلك، فالعبادة أعظمها عبادة القلب، حبه وإرادته، وخوفه وذله، وخشوعه وخشيته، فإذا كان القلب متعلقاً بمخلوق من المخلوقات فإنه غالباً يغلب عليه ذلك المخلوق، حتى إنه ربما كان يلعب اللعب الذي يلعبه من كرة أو غيرها ويصبح قلبه عابداً لتلك اللعبة، فيموت عابداً لغير الله جل وعلا، حيث صرف عمله وصرف عمره في هذا الشيء تاركاً وناسياً ما خلق له، وقد تكون عبادته لشهواته لبطنه أو لفرجه أو لوظيفته، وربما تعلق الإنسان بالشيء الذي فرض أن يخدمه وأن يكون خادماً له، مثل المال، فالمال المفترض فيه أن يكون خادماً للإنسان، لا أن يكون الإنسان خادماً له، فالمفترض أن يكون ماله خادماً له لا أن يكون خادماً لماله، وكثير من الخلق يعبد المال، وتكون عبادة المال هي الغالب عليه، كما جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميلة، تعس عبد الخميصة)، فيسجدون للدنانير والدراهم، ويسجدون للأكسية والفرش؛ لأن الخميلة كساء، والخميصة كذلك فراش يوطأ بالأقدام، فكيف بالعاقل يكون عبداً لما يدوسه بقدميه؟ ويكون عبداً لها إذا كان قلبه متعلقاً بها وآثرها على طاعة الله، فليست العبودية السجود أو الركوع أو الدعاء، أو كونه يعتقد أن غير الله يؤثر في الكون وفي جلب المنافع ودفع المضار، فالعبادة في الواقع عبادة القلب، وقد يكون الإنسان عبداً لزوجته، وقد يكون عبداً لرئيسه، فإذا أصبح يطيع الزوجة في معاصي الله، وأصبح يترك طاعة الله من أجلها أصبح عابداً لها، فكل من عصى الله في طاعة مخلوق فقد عبد ذلك المخلوق، كما قال الله جل وعلا: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31]، ولما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية عند عدي بن حاتم -وكان نصرانياً- قال عدي بن حاتم: يا رسول الله! ما عبدناهم! قال: (بلى. ألم يحرموا عليكم الحلال ويحلوا لكم الحرام فاتبعتموهم؟ قال: بلى. قال: تلك عبادتهم) يعني بعبادتهم طاعتهم في معاصي الله، فهذا معناه، وليست عبادتهم السجود لهم والتضرع لهم. فهكذا يجب على العبد أن يتفقد نفسه، وأن يخلص نفسه من عبادة المظاهر وعبادة الأغراض والأشخاص، وأن يكون عبداً لله حقاً، وتكون عبوديته لله لربه جل وعلا حتى يكون ممن أتى الله جل وعلا بقلب سليم، فهذا هو الذي يكون خالصاً يوم القيامة وسالماً من جميع المخاوف والعذاب. وأجمع العلماء على أن من مات مشركاً فهو خالد في النار، كما أجمعوا على أن الذي يحكم له بأنه من أهل القبلة من اعتقد الإسلام في قلبه من غير شك أو تردد، ونطق بالشهادتين، وعمل الفروض التي فرضت عليه إذا كان متمكناً، مثل الصلاة والزكاة والصوم والحج، فهذا هو الذي يكون من أهل القبلة، وإذا مات على هذه يكون مسلماً، ويحكم له بأنه من أهل الجنة في الجملة، أما إذا كان مقصراً وعاملاً للذنوب فإن كانت هذه الذنوب غير شرك أكبر فيخاف عليه أن يعذب في النار، ولكن يحكم بأنه مآله في النهاية إلى الجنة ولو بقي في النار أحقاباً، وقد يطول البقاء لبعض الناس في النار، فقد علمنا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم أن أهون أهل النار رجل -وهو أبو طالب - يوضع في أخمصه جمرات من جهنم يغلي منها دماغه من شدة حرها، وهو يطؤها بقدمه، ولا يستطيع أن يحيد عنها أبداً، فهذا هو أهون أهل النار عذاباً، فكيف بالذي يكون في دركات جهنم؟ وكيف بالذي يكون في أسفلها في الدرك الأسفل منها؟ لأنها دركات بعضها فوق بعض، أليس هذا يستطيع أن يطأ جمرة من جهنم يغلي منها دماغه؟ فهو يرى أنه أشد الناس عذاباً وهو أهونهم، وسبب هذا الشرك والكفر بالله جل وعلا. ومما جعل الشرك عظيماً كونه عطل أمر الله واستهان به

جناية الشرك تحجب المغفرة عن صاحبها

جناية الشرك تحجب المغفرة عن صاحبها قال الشارح رحمه الله تعالى: [فلهذه الأمور وغيرها أخبر سبحانه وتعالى أنه لا يغفره، مع أنه كتب على نفسه الرحمة، هذا معنى كلام ابن القيم رحمه الله]. الله تعالى كتب على نفسه الرحمة جل وعلا، وكتب أن رحمته تغلب غضبه، كما صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب كتاباً فوضعه على العرش فهو عنده على عرشه: إن رحمتي تسبق غضبي)، فرحمته أسبق من غضبه، ورحمته أخبر أنها وسعت كل شيء، ولكن المشرك خرج منها، فالمشرك إذا مات على الشرك فهو خارج من أن تناله رحمة الله جل وعلا، وهذا ليس من باب العقل، وليس من باب الفطرة، بل هو من باب الخبر عن الله جل وعلا، إخبار الله جل وعلا وحكمه، خبر حكم به على من أشرك به أنه لا يغفره، ثم كذلك الله جل وعلا أخبرنا أنه كما أنه غفور رحيم أخبرنا أنه شديد العقاب، فيجب على الإنسان ألا يتعبد لله من ناحية التعلق بالرجاء والرحمة، ويجب ألا ينسى أنَّ ربه شديد العقاب، فالله جل وعلا أخرج أبانا آدم من الجنة بذنب واحد وأهبط إلى الأرض، فيجوز أنه جل وعلا يدخل عبده النار بذنب واحد، وقد جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر رجلين فيمن كان قبلنا أخوين في الله، وكان أحدهما مقصراً والآخر مجتهداً، وكان المجتهد كلما رأى أخاه على ذنب من الذنوب نصحه وزجره ونهاه شفقة عليه، وفي يوم من الأيام رآه على ذنب استعظمه، فقال: والله لا يغفر الله لك. فقال الله جل وعلا: من هذا الذي يتألى علي ألا أغفر لفلان؟! قد غفرت له وأحبطت عملك. وفي رواية أنه قبضهما الله جل وعلا فأوقفهما بين يديه، فقال للقائل: أتستطيع أن تحجر رحمتي عن خلقي؟ فقال: لا يا رب. فقال للمقصر: اذهب فادخل الجنة. وقال لهذا المجتهد: اذهب إلى النار. يقول أبو هريرة رضي الله عنه: تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته. وهذه الكلمة قالها غيرة وغضباً لله جل وعلا وشفقة على هذا الإنسان، فاجتهد ولكنه اجتهاد خاطئ، فالإنسان قد يعمل عملاً يدخله الله جل وعلا به النار، وقد يكون كلمة، وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار سبعين خريفاً)، وفي حديث آخر: (يكتب الله عليه بها غضبه إلى يوم يلقاه)، فالله غضب عليه من أجل كلمة واحدة، وبالعكس، فقد يتكلم بكلمة من الخير يكتب له رضوان الله بها، ولهذا جاء أيضاً في الحديث (الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك)، فالإنسان يجب عليه أن يخاف دائماً، ويجب عليه أن يحذر؛ لأنه عبد لله جل وعلا، وإذا العبد خالف سيده يوشك أن يأخذه ولا يبالي، والله جل وعلا يلقي في النار من يشاء من عباده بغير مبالاة؛ لأنه هو القهار المالك لكل شيء، مع أنه جل وعلا حكم عدل، ولكن لا أحد يستطيع أن يقوم بحقه كما ينبغي. فالمقصود أن الإنسان يجب أن يكون حذراً فلا يتساهل، وكون رحمة الله جل وعلا وسعت كل شيء فهو أخبرنا أنه يكتبها للمحسنين، قال تعالى: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56]، وليست قريبة من المسيئين ومن العاصين ومن المشركين، والمشرك من أبعد خلق الله عن رحمة الله.

رد الآية على الفرق الضالة

رد الآية على الفرق الضالة قال الشارح رحمه الله تعالى: [وفي الآية رد على الخوارج المكفرين بالذنوب، وعلى المعتزلة القائلين بأن أصحاب الكبائر يخلدون في النار، وليسوا عندهم بمؤمنين ولا كفار]. الناس في هذا انقسموا إلى أقسام: قسم تصرف في أمر الله ودينه، فقال: يكفي الإنسان أن يصدق بقلبه ولو لم يعمل فلا يضره. وهؤلاء يسمون المرجئة، وأصلهم الجهمية، ولهذا فسروا الإيمان بأنه المعرفة، معرفة القلب، وبهذا القول كفرهم العلماء، قالوا: لأن الإسلام جاء بنية وعمل وقول لا بد منه، فالله جل وعلا يقول: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة:136]، وأمرنا بالقول، وهم يرون أن هذا ليس بلازم، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله)، وأجمع العلماء على أن الإنسان لا يدخل الإسلام حتى يتشهد شهادة الحق (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، فإن كان صادقاً من قلبه فهو المسلم ظاهراً وباطناً، وإن قال ذلك بلسانه فهو مسلم في الظاهر فقط، وأما في الباطن فهو في النار، وهؤلاء قالوا: إن الإيمان المعرفة. فقيل لهم: إبليس يعرف ربه، فهل يكون مؤمناً؟! فإبليس يعرف الله، ويعرف الإيمان، ويعرف الكفر، فيلزمكم أن تقولوا بأنه مؤمن، ومعلوم أن هذا من أكبر الخطأ، ومن أبعد الأقوال عن الصواب. وقابلهم فريق آخر فقالوا: الإيمان هو القول والعمل كله والنية التي يجب أن تكون مصاحبة للعمل، فلا بد أن يأتي بالأعمال كلها المأمور بها ولا يترك منها شيئاً، فإن ترك منها شيئاً فهو كافر. وهؤلاء هم الخوارج الذين كفَّروا الناس بالمعاصي، وهم مقابلون لهذا الفريق. وفريق آخر قريب منهم، إلا أنهم اختلفوا معهم في حكم الدنيا فقط، فقالوا: من ترك بعض الواجبات أو ارتكب بعض المحرمات خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر، فصار في منزلة بين المنزلتين. وهذه خصيصة اختص بها المعتزلة من بين الناس، ولكن في الآخرة عندهم يتفقون مع إخوانهم الخوارج في ذلك، فقالوا: إذا كان يوم القيامة هذا الذي ترك بعض الواجبات وارتكب بعض المحرمات يكون خالداً في النار. فإذاً الخلاف بينهما في التسمية، وفي حكم الدنيا فقط، أما في الآخرة فبينهما اتفاق. والفريق الثالث -أو الرابع إذا جعلنا المعتزلة فريقاً ثالثاً- أهل الحق الذين توسطوا بين هؤلاء وهؤلاء، وقالوا: إن الإيمان يتفاوت بتفاوت فعل الناس، فالإنسان إذا أتى بالواجب عليه واجتنب المحرمات مع القول والنية فإنه يكون مؤمناً كامل الإيمان، وإن أخل بشيء من ذلك يكون مؤمناً ناقص الإيمان، على حسب كثرة ما أخل به أو كثرة ما ارتكبه من المحرمات، فلا يعطى الإيمان كله ولا يسلب الإيمان كله، بل يقال: مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته. أو: إنه مؤمن عاصٍ. أو: إنه مؤمن ناقص الإيمان. ولا يكون بذلك كافراً، وهذا هو الحق الذي دلت عليه النصوص؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن الزاني لا يزني حين يزني وهو مؤمن، وهم يقولون: هذا دليل على أنه كافر. ولكن أهل السنة يقولون: لو كان كافراً ما أقام عليه الحد ولا صلى عليه ودفنه في مقابر المسلمين، فإذا كان محصناً فإنه يرجم ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين؛ لأنه يكون حكمه حكم المسلمين؛ لأن إقامة الحد عليه تطهيرٌ له من هذا الذنب، كذلك السارق، فلما قال: (لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن) قطع يده وحكم بأنه مسلم من المسلمين، وكذلك شارب الخمر، وقد قال: (لا يشربها حين يشربها وهو مؤمن)، ومع ذلك لما قال رجل: لعنه الله؛ ما أكثر ما يؤتى به! نهاه الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال: (لا تعن عليه الشيطان)، وقال: (إنه يحب الله ورسوله)، مع أنه شارب للخمر، فدل على أن إيمانه نقص مجرد نقص، وأنه ما خرج من الدين، والله جل وعلا يقول في قاتل النفس: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:178]، ويقول جل وعلا في آية أخرى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9]، ويقول بعد ذلك: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10]، فمع القتال ومع كونهم يتقاتلون سماهم إخوة، وسماهم مؤمنين، فدل على أن الإيمان لم يسلب منهم، ولكن بارتكابهم المعاصي نقص إيمانهم، فهذا هو الحق الذي دلت عليه النصوص، أما هذه الطوائف الثلاث فكلها ضالة، فالمكفرون والذين يتهاونون بالمعاصي ويقولون ليست بشيء، والإنسان إذا عرف بقلبه فهو مؤمن وإن ترك الصلاة والزكاة وغيرهم ضلال خالفوا كتاب الله وسنة رسوله من الجانبين، والحق هو الوسط بين الغالي والجافي.

التوبة من الشرك مقبولة

التوبة من الشرك مقبولة قال الشارح رحمه الله: [ولا يجوز أن يحمل قول الله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] على التائب؛ فإن التائب من الشرك مغفور له]. يعني: قول الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء:48] يقول: لا يجوز أن نحمل قوله جل وعلا: (ويغفر ما دون ذلك) ما دون الشرك (لمن يشاء) على التائبين؟ لأن التائب من الشرك مغفور له، ولو كان الأمر كما يقول هذا القائل لأصبح الاستثناء ليس له فائدة، وهذا إهدار للنص، وإنما المقصود من هذا الاستثناء الذي يموت على الذنوب بدون توبة، فمن مات على الذنوب بدون توبة فإنه داخل في هذا الاستثناء، فهو تحت المشيئة، إذا شاء الله تعالى غفر له بدون عقاب، وإن شاء عاقبه ثم بعد ذلك أخرجه من عذاب النار إلى الجنة. قال الشارح رحمه الله: [كما قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53]، فهنا عمم وأطلق؛ لأن المراد به التائب، وهناك خص وعلق؛ لأن المراد به من لم يتب، هذا ملخص قول شيخ الإسلام]. هذا هو الذي يظهر من كلام الله جل وعلا، ولا يجوز أن يقال غير ذلك؛ لأن كلام الله لا يتناقض، ولا ينقض بعضه بعضاً، وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم مفسرة لهذا ومبينة له.

شرح فتح المجيد [20]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [20] أخوف ما يخاف على الصالحين الشرك الأصغر، وهو الرياء، وهو أعظم من كبائر الذنوب كالزنا والربا، فيجب على المسلم معرفة التوحيد ليحقق الإخلاص الذي هو طريق الخلاص.

الخوف من الشرك الأصغر

الخوف من الشرك الأصغر قال المصنف رحمه الله: [وقال الخليل عليه السلام {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم:35]، وفي الحديث: (أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، فسئل عنه، فقال: الرياء)]. قال الشارح رحمه الله: [أورد المصنف هنا الحديث مختصراً غير معزو، وقد رواه الإمام أحمد والطبراني والبيهقي، وهذا لفظ أحمد، قال: حدثنا يونس، قال: حدثنا ليث عن يزيد -يعني: ابن الهاد - عن عمرو عن محمود بن لبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟! قال: الرياء، يقول الله تعالى يوم القيامة إذا جازى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاءً؟)، قال المنذري: ومحمود بن لبيد رأى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يصح له منه سماع فيما أرى، وذكر ابن أبي حاتم أن البخاري قال: له صحبة. ورجحه ابن عبد البر والحافظ، وقد رواه الطبراني بأسانيد جيدة عن محمود بن لبيد عن رافع بن خديج، مات محمود سنة ست وتسعين -وقيل: سنة سبع وتسعين- وله تسع وتسعون سنة].

تعريف الصحابي وبيان فضله

تعريف الصحابي وبيان فضله الصحابي هو من رأى النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به مات على ذلك، وقد يكون الصحابي صغيراً، وقد يراه ولا يسمع منه، فما يحمل عنه العلم، ولكنه يحمل عن الصحابة. والصحابة كلهم عدول بتعديل الله إياهم، فلا يجوز النظر في أحدهم هل هو ثقة أو غير ثقة؛ لأن الله رضيهم لصحبة نبيه، وأثنى عليهم في كتابه، فتعديل الله أولى وأحق من تعديل الخلق، وإنما يكون النظر فيمن عداهم، وهذا الحكم في الصحابة ينطبق عليهم سواءٌ تحمل أحدهم الحديث بنفسه أو تحمله عن غيره؛ لأنه لا يتحمل إلا عن الصحابة، أما لو قدر أن صحابياً أخذ عن تابعي فهذا لا بد من النظر فيه هل التابعي هذا ثقة أو غير ثقة، أما الصحابة فلا ينظر فيهم؛ لأنهم كلهم عدول بتعديل الله جل وعلا لهم، وإذا كان محمود بن لبيد قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مؤمن به فهو من الصحابة، ولكن إذا كان -كما قال بعض العلماء- لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم فتكون أحاديثه بواسطة الصحابة قد سمعها من غيره، فإذا قال: قال الرسول كان قد أسقط الواسطة، ولا حاجة إليها؛ لأنه أخذ عمن هو عدل، ولا ينظر فيه، فيكون الحديث في ذلك صحيحاً لا مطعن فيه. فالقول الصحيح في تعريف الصحابي عند العلماء أنه: من رأى النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على ذلك، وهذا القيد الأخير يخرج الذين ارتدوا إذا وجد ذلك، ولم يعلم أن أحداً من الصحابة ارتد إلا اثنين أو ثلاثة فقط خذلهم الله جل وعلا وماتوا كفاراً، أحدهم كان يكتب الوحي، فكان إذا جاء مثل (وكان الله عزيزاً حكيماً) يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: أكتب (عزيزاً حكيماً) أو (سميعاً عليماً) أو (سميعاً بصيراً)؟ فيقول: اكتب ما تشاء فوقع في نفسه أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما يدري، فصار يقول: أنا الذي أكتب ما أريد، والرسول لا يعلمني شيئاً. فوقع في نفسه الغرور، وجاءه الشيطان وغره، فارتد وهرب إلى الكفار، فأدركه الموت فصار كلما دفنوه لفظته الأرض، حتى أصبح آية من آيات الله، كلما دفن أخرجته الأرض ولفظته، فترك على وجه الأرض تأكله الكلاب، وهذا واحد. أما الثاني فهو ابن أبي السرح، وقد رجع وتاب، ولا أعلم أحداً غيرهما، أما قوله صلى الله عليه وسلم الذي في الصحيحين: (إني أكون قائماً على الحوض أذود عنه رجالاً، فيأتي قوم أعرفهم، فإذا عرفتهم حال بيني وبينهم رجل، فأقول: إلى أين؟ فيقول: إلى النار والله. فأقول: أليسوا بأصحابي؟! فيقول: إنك لا تعرف ما صنعوا بعدك، إنهم لم يزالوا مرتدين على أدبارهم، فأقول: سحقاً سحقاً) فالمقصود أنه عرفهم من أمته، وليسوا من أصحابه، وقد عرفهم بآثار الوضوء، ولا يلزم أن يكونوا في جهنم خالدين، ولكنهم يحرمون من ورود الحوض ويدخلون في النار، ثم بعد ذلك يخرجون إذا لم يكن معهم شرك كغيرهم. أما الصحابة فقال أبو زرعة رحمه الله -وكذلك ابن حزم -: إنهم في الجنة قطعاً، وهم أولى من يكونوا فيها؛ لأنهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راض عنهم، وهم الذين نشروا الدين وبلغوه الأمة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم. ولهذا ما تجد منهم من مات في المدينة أو في بلده إلا النادر، ولو حسب الذين ماتوا في المدينة ما يتجاوزون مائة من الصحابة، هذا مع أن الصحابة كثير، قال أبو زرعة: كانوا مائة ألف الذين مات عنهم الرسول، وقال غيره: ثلاثمائة ألف الذين مات عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكلهم أين ماتوا؟ بعضهم في شرق الأرض، وبعضهم في غربها، وبعضهم في شمالها، كلهم خرجوا إلى الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله، فماتوا في بلاد شاسعة جداً، يتعجب الإنسان كيف وصلوا إلى تلك البلاد وهم على أرجلهم وعلى خيولهم وعلى ركائبهم، وذلك لأن أحدهم يخرج ولا يريد أن يرجع، يخرجون إلى الجهاد في سبيل الله وهم يقولون: قد حملنا ربنا جل وعلا رسالة لا بد أن نبلغها خلقه أو نقضي دونها. أي: نموت دونها. هذا شأنهم، وهذا ما كانوا يقولونه دائماً رضوان الله عليهم، فلهذا حبهم إيمان وبغضهم كفر ونفاق.

الشرك الأصغر مخوف على الصحابة

الشرك الأصغر مخوف على الصحابة قال الشارح رحمه الله: [وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر. فسئل عنه فقال: الرياء) قال الشارح رحمه الله: هذا من شفقته صلى الله عليه وسلم بأمته ورحمته ورأفته بهم، فلا خير إلا دلهم عليه وأمرهم به، ولا شر إلا بينه لهم وأخبرهم به ونهاهم عنه، كما قال صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: (ما بعث الله من نبي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم) الحديث، فإذا كان الشرك الأصغر مخوفاً على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كمال علمهم وقوة إيمانهم فكيف لا يخافه وما فوقه على من هو دونهم في العلم والإيمان بمراتب؟ خصوصاً إذا عرف أن أكثر علماء الأمصار اليوم لا يعرفون من التوحيد إلا ما أقر به المشركون، وما عرفوا معنى الإلهية التي نفتها كلمة الإخلاص عن كل ما سوى الله! وأخرج أبو يعلى وابن المنذر عن حذيفة بن اليمان عن أبي بكر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الشرك أخفى من دبيب النمل، قال أبو بكر: يا رسول الله! وهل الشرك إلا ما عبد من دون الله أو ما دعي مع الله؟ قال: ثكلتك أمك! الشرك فيكم أخفى من دبيب النمل) الحديث، وفيه: (أن تقول: أعطاني الله وفلان، والند أن يقول الإنسان: لولا فلان قتلني فلان). انتهى من الدر]. الشرك الخفي قسيم للشرك الأصغر، وقد يكون قسماً ثالثاً؛ لأن الخفي قد يكون كبيراً وقد يكون صغيراً، وسمي خفياً لأنه لا يعلمه إلا الله، فالمقصود بهذا شرك النيات، الشرك الذي يكون في المقاصد والنية، فهذا تنطوي عليه نية الإنسان، لهذا قد يكون أكبر وقد يكون أصغر، مثل الآية التي هي قوله جل وعلا: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} [هود:15 - 16]، فهذا من الشرك الخفي وهو شرك أكبر، كما جاء تفسيره عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم فسروه بمن يعمل أعمالاً ظاهرها صالح يراد بها وجه الله وهو في نيته لا يريد بها إلا الدنيا فقط، ومثل العلماء لذلك بأشياء كثيرة، كمن يصلي إماماً للناس من أجل الراتب الذي يأخذه، ولو انقطع ذلك لترك الإمامة، ومقصودهم بذلك إذا كان هذا الشيء الذي يأخذه من الناس أنفسهم وليس من بيت المال؛ لأن هذا من الأمور التي ينفق عليها بيت المال؛ لأنها من مصارف المسلمين العامة، ولكل أحد حق فيها، ولكن إذا قدر أن أناساً يقومون بالتبرع لإمام يصلي، فهذا الذي يصلي لأجل ذلك في الواقع يصلي لأجل الدنيا، وإن كان ظاهر عمله أنه صالح وأنه يريد نيل الآخرة؛ لأنه إذا صار العمل فيه اشتراك بين الرب جل وعلا وبين مقاصد أخرى أو وجوه الناس فهو متروك، فالله يتركه لصاحبه، فهذا شرك خفي، وكذلك إذا كان الإنسان يعلم وقصده في التعليم أن يظهر على الناس ويشار إليه ويعظم ويقال: إنه عالم. إنه كذا وكذا. فهذا مراده، ولكن هذا في نيته، فنيته خفية ما يعلمها إلا الله، وهذا بينه وبين الله، والناس ليس لهم إلا الظاهر، فمثل هذا أيضاً من الشرك الخفي، وقد يكون أكبر، وقد يكون أصغر إذا كان الأمر تابعاً، والعمل لا يقبل إلا إذا كان خالصاً لله جل وعلا، أما إذا كان فيه إشراك لغير الله جل وعلا فهو مردود على صاحبه، والله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً لوجهه، فهو طيب لا يقبل إلا طيباً تعالى وتقدس. يقول الله في الحديث القدسي الذي يرويه رسوله صلى الله عليه وسلم عنه: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)، وسبق الحديث أنه يقول جل وعلا للمرائي يوم القيامة: (اذهب إلى من كنت ترائيهم في الدنيا فاطلب أجرك عندهم)، ومعنى هذا أنه يرد العمل على صاحبه، وهذه مشكلة في الواقع، فيجب أن تخلص الأعمال كلها لله، أما إذا جاءت أمور أخرى فيجب ألا تكون مقصودة، كالذي -مثلاً- يأخذ المال ليحج يريد الحج ويريد المال، فالذي يأخذ هذا المال والأمر في نيته خفي ونيته خفية إن كان قصده بالحج المال وما يريد إلا المال فهذا حج باطل وعمل شركي، ولا يقبل منه، أما إن كان يأخذ المال ليتقوى به وليذهب إلى المناسك والمشاعر المعظمة، ويدعو الله لعل الله جل وعلا أن يقبله ويقبل من دفع المال فهذا حجه صحيح ونيته سليمة، فالمقصود أن هذا من الشرك الخفي، فهو يتعلق بنية الفاعل، فالذي يفعل الأفعال التي ظاهرها صالحة، ولكن النية لا يعلمها إلا الله، ولهذا سمي شركاً خفياً. ومنه أيضاً حب الرئاسات، وحب المدح والثناء، فإن هذا يسمى الشهوة الخفية؛ لأن النفوس تحب ذلك وتشتهيه، وغالباً مثل هذه الأمور يتوصل إليها بالأعمال الصالحة، وإذا كان الإنسان يقصد بالعمل الصالح أن يصل إلى هذه المقامات فعمله شرك، وهو على حسب ما يقوم في نفسه، إن كان يريد بقصده ونيته هذا الشيء فهو من الأمور المعظمة، أما إن كان الأمر مشتركاً بين هذا وهذا فهذا للغالب عليه، وقد يكون العمل مردوداً لهذا الاشتراك.

حديث: (من مات وهو يدعو من دون الله ندا دخل النار)

حديث: (من مات وهو يدعو من دون الله نداً دخل النار) قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وهو يدعو من دون الله نداً دخل النار) رواه البخاري]. الند هو المنادد، أي: المناظر والمماثل ولو في صفة من الصفات و (ند الشيء) نظيره ولو في صفة من الصفات، ولا يمكن أن يكون المخلوق مماثلاً للخالق في وجوه شتى، وإنما قد يكون المشرك يجعله مماثلاً له في الفعل الذي يفعله، ولا يلزم أن يعتقد أنه منادد لله، بل إذا جعل له شيئاً مما يجب لله فقد جعله نداً، كما قال الرجل للرسول صلى الله عليه وسلم: (ما شاء الله وشئت. فقال: أجعلتني لله نداً؟ بل ما شاء الله وحده)؛ لأنه شرك بينه وبين الله بالواو التي تقتضي الجمع والمشاركة، ولو بالفعل، وإن كان فعله متميزاً وفعل الله متميزاً عنه، ولكن الجمع الظاهر يقتضي ذلك، ولهذا قال: (أجعلتني لله نداً؟). وكذلك إذا أضاف الإنسان الأمور إلى الأسباب الظاهرة، فإنه يكون قد جعل لله نداً، ولهذا جاء في الحديث عندما أمطروا ليلة الحديبية وصلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم الصبح وقال: (أتدرون ماذا قال ربكم البارحة؟ قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذاك مؤمن بالكوكب وكافر بي)، ومعلوم أن الناس لا يعتقدون أن الكواكب هي التي تنزل المطر، ولكن يضيفون المطر إلى طلوعها أو غروبها فقط، ويقصدون بذلك أن هذا الوقت جاء فيه المطر، فأضافوه إلى الكوكب وإلى النوء، فأصبحت هذه الإضافة -وإن كانت بهذه المثابة- من الكفر؛ لأنها تنديد، وذلك أنهم أضافوا رحمة الله ونعمته إلى غيره من المخلوقات، ومثله أن يقول: لولا الله وفلان لصار كذا وكذا. أو يقول مثلاً: لولا البط في الدار لدخل اللصوص. ولكن البط ينبه، ومثل أن يقول مثلاً: لولا أن السيارة جديدة ما وصلنا في هذا الوقت إلى هذا المكان. وما أشبه ذلك من إضافة النعم التي تحصل للإنسان إلى الأسباب، فهذا من التنديد بالألفاظ، وهو نوع من أنواع الشرك؛ لأن الشرك يكون باللفظ، ويكون بالفعل، ويكون بالنية والقصد، وإذا سلم الإنسان من هذه الأمور من الأفعال التي تكون مُشّرَّكة بين الله وبين المظاهر الأخرى من المقاصد والأقوال، إذا سلم من الأفعال المشركة والمقاصد والأقوال فقد سلم من الشرك دقيقه وجليله، فالشرك جليل ودقيق، وظاهر وخفي، ويجب على الإنسان أن يعتني بهذا الأمر أشد العناية، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يعتني بذلك، ويعلم الأمة هذه الأمور، ويحذرهم من الشرك، كما قال في هذا الحديث: (أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر)، وكذلك الحلف بغير الله فإنه من هذا القبيل، كأن يحلف بالنبي أو يحلف بأبيه أو بأمه أو بالأمانة أو بالكعبة أو ما أشبه ذلك؛ فإن الحلف بغير الله من التنديد وشرك الألفاظ، وإن كان لم يقصد بالحلف أن هذا المحلوف به يستطيع أن يوقع العذاب به إذا كان كاذباً، أما إذا كان يعتقد هذا فهذا من الشرك الأكبر؛ لأن هذا معناه أنه جعل لهذا المحلوف به ما لله جل وعلا، والله وحده هو الذي يطلع الغيب ويعلم ما في النفوس، وإذا كان الإنسان كاذباً فإن الله جل وعلا يعاقبه ويعذبه على ذلك، إذا كان الإنسان إذا حلف بالمخلوق يعتقد أن المخلوق بهذه المثابة صار حلفه ليس من الشرك الأصغر بل من الشرك الأكبر، ولهذا يقول ابن عباس في قوله جل وعلا: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22] يقول: أتدري ما الأنداد؟ الأنداد أن تقول: لولا الله وفلان، لولا البط في الدار لدخل اللصوص. لولا الكلب لعدى علينا السبع. لولا كذا لصار كذا. وهذا يقوله الناس ويكثر في أقوالهم، فهم يجعلون ما يحصل لهم من الخير بسبب أمر من الأمور التي قد تكون سبباً وقد لا تكون سبباً، والأسباب كلها بيد الله هو الذي جعلها أسباباً، وإذا شاء أن يعطلها عطلها، وإذا شاء أن يوجد موانع تمنع حصول ما يترتب على السبب أوجد ذلك، فالأمر بيده، ويجب أن يرد الشيء إليه، ولهذا يستحب إذا أراد الإنسان أن يضيف شيئاً إلى شيء أن يقول: لولا الله ثم كذا وهذا في الأمر الذي يكون سبباً لحصوله، أما الأمر الذي يتعلق بنفس الإنسان وبفعله فالشيء الذي مضى لا يعلق، فلا يقال لمن يسأل: متى قدمت؟ أو على أي شيء قدمت؟ فيقول: قدمت إن شاء الله أمس. أو قدمت إن شاء الله على الطائرة. أو قدمت إن شاء الله على السيارة. هذا ما يعلق بالمشيئة؛ لأن هذا قد حصل، والأمور التي حصلت ومضت قد علمنا أن الله شاءها، ولولا مشيئة الله ما حصلت، فيقول: قدمت على كذا وكذا بدون أن يقول: إن شاء الله، وإنما يقال هذا في الأمور المستقبلة، وكذلك إذا كان السبب الذي يذكر لا يجوز أن يكون مستقلاً، فيجب أن يقول: لولا الله ثم فلان، ثم كذا وكذا؛ لأن هذا فعل وقع بسبب، بخلاف الشيء الذي يقع من الإنسان نفسه وقد مضى، فإن هذا علمنا أن الله شاءه، ولولا مشيئته ما حصل.

معنى الند

معنى الند قال الشارح رحمه الله: [قال ابن القيم رحمه الله: الند الشبيه، يقال: فلان ند فلان ونديده أي: مثله وشبيهه انتهى]. المقصود شبيهه بالفعل أو شبيهه بالحق الذي جعل له، أو شبيهه بالقصد الذي قصد إليه، أما أن أحداً يقول: إن المخلوق شبيه لله جل وعلا فهذا لا يقوله مؤمن، لا أحد يقول ذلك، فالمخلوق لا يكون نداً لله، والكفار المشركون الذين بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم ما كانوا يقولون: إن الأشجار والأحجار والمقبورين والملائكة والجن والأنبياء إن أحداً منهم شبيه لله، ما كانوا يقولون هذا أبداً، ولكن كانوا يقولون: هؤلاء وسائطنا إلى الله، ويسمونها آلهة، بمعنى أنها تقبل الوساطة وتشفع، فهم يتألهونها من هذا المعنى، ولهذا يقول الله جل وعلا عنهم: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم:23]، ومعنى هذا أنها ليس لها شيء من معنى هذا الاسم، فتسميتها آلهة كذب وضعوه على غير موضعه؛ لأن الإله هو الذي يملك ويخلق ويرزق، يملك للمتأله النفع والضر، أما هؤلاء فليس لهم من ذلك شيء، وكذلك قوله جل وعلا عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] يعني: ما نقصد عبادتهم لأنهم يستحقون العبادة، أو لأنهم آلهة يعبدون، أو لأنهم شركاء مع الله، لا. بل كما يقول كثير ممن يتوسل بالقبور اليوم: نجعلهم وسيلة لنا، نتوسل بهم، هذا معنى كلام أهل الجاهلية: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) يعني: يشفعوا لنا. هذا معناه وحقيقته، والشرك الذي وقع في بني آدم أصله طلب الشفاعة فقط، لا أحد أبداً من بني آدم اعتقد أن مخلوقاً يساوي الله جل وعلا ويشابهه، ولا يعقل هذا، وإنما لما صرفوا ما هو من حق الله إلى هذه المخلوقات صاروا بذلك مؤلهين لها عابدين لها جاعلينها أنداداً لله في هذا الفعل فقط، هم الذين اعتقدوا هذا، وإلا فهي في الواقع ليس لها من هذا المعنى شيء، وهو كذب وزور. فمعنى قول ابن القيم أن يجعله شبيهاً ونظيراً لله في عقيدته أن يجعل له ما لله، هذا هو المقصود، وإلا هو في نفسه لا يعتقد أن أحداً من الخلق يكون شبيهاً لله جل وعلا وتقدس. فمعنى قوله جل وعلا: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22] يعني: في الدعاء، وفي الشفاعة، وفي التشفع ولهذا قال قبل ذلك: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21] يعني: إنكم تعترفون أنه ليس مع الله خالق خلقكم، ولا معه خالق خلق من قبلكم، فكيف إذاً تدعون معه غيره؟ فالدعاء يجب أن يكون لمن يتصرف التصرف الكامل بالإيجاد وبالنفع، وكذلك بدفع الضر، أما إذا كان الذي يقصد بالدعاء ما يستطيع أن يفعل ذلك فهذا ضلال. ثم قال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [البقرة:22] يعني: هل أحد مع الله تعالى فعل ذلك؟ هم يعترفون تماماً أن هذا مما انفرد الله جل وعلا به وحده، ثم قال: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [البقرة:22] يعني: إنكم تعترفون أن هذا فعل الله وحده، وليس معه من يفعل ذلك. ثم بعد هذا يقول: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22] يعني: أنتم تعلمون أنه هو الفاعل لما ذكر وحده، ولا مشارك له في ذلك، وإذا كان ليس له مشارك في ذلك فكيف تدعون غيره؟ هذا المدعو فقير مثلكم، لا يستطيع أن يجلب لنفسه نفعاً ولا يدفع عنها ضراً، فهو مثلكم، فلماذا تتجهون إليه بالدعاء وتزعمون أنه يشفع لكم؟! فهذه الأنداد قصدت في الدعاء وفي الشفاعة، وكونهم يدعونهم ليشفعوا لهم؛ ولهذا يقول العلماء في قوله جل وعلا عن الكفار لما كانوا في جهنم يخاطبون من كانوا يدعونهم: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:97 - 98] يقولون: ما سووهم برب العالمين في الخلق والإيجاد والفعل والصفات، وإنما سووهم برب العالمين في المحبة والدعاء فقط، وهذا هو التنديد الذي وقع للمشركين قديماً وحديثاً. وفي الآية الأخرى يقول جل وعلا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165]، فأخبر أن الأنداد في الحب فقط، (يحبونهم كحب الله) ليس في الخلق والإيجاد والتصرف، أما هذا فما قاله أحد من الخلق، وكثير من الناس اليوم يعتقد أن المشركين كانوا يعتقدون أن الحجارة تخلق وترزق وتحيي وتميت وكذلك الشجر، هذا ما اعتقده عاقل أبداً، والمشركون القدامى أعقل من هؤلاء بكثير، ولهذا كانوا إذا وقعوا في الشدائد ووقع لهم اضطرار أخلصوا الدعاء لله جل وعلا وتركوا كل ما يقصدونه من دون الله، كما قال الله جل وعلا: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت:65]، يخلصون له الدعوة وحده، أما هؤلاء ففي الواقع أنهم إذا وقعوا في الكربات أخلصوا الدعاء لغير الله، فتجد أحدهم يبكي ويضرع ويخشع عند القبر، يبكي بكاءً ما يكون في المسجد بين يدي الله؛ لأنه يخاف صاحب القبر أكثر من خوفه من الله! فهؤلاء ما فعل مثل فعلهم أحد من المشركين كـ أبي جهل وإخوانه. وعلى كل حال فالتشبيه والتنديد يجب أن يفهم أنه في الدعاء وفي الطلب وفي المحبة، لا في كونهم شبهوا المخلوق بالله جل وعلا وجعلوه شبيهاً له في الإيجاد والإعدام والتصرف، أو في الصفة أو الذات، هذا ما قاله أحد من الخلق.

التحذير من الشرك الأكبر

التحذير من الشرك الأكبر قال الشارح رحمه الله: [وقوله صلى الله عليه وسلم: (من مات وهو يدعو من دون الله نداً -أي: يجعل لله نداً في العبادة، يدعوه ويسأله ويستغيث به- دخل النار)، قال العلامة ابن القيم رحمه الله: والشرك فاحذره فشرك ظاهر ذا القسم ليس بقابل الغفران وهو اتخاذ الند للرحمن أياً كان من حجر ومن إنسان يدعوه أو يرجوه ثم يخافه ويحبه كمحبة الديان]. إذا جاء الرجاء والخوف فلا بد أن يكون هناك محبة، إذا كان الإنسان يرجو الشيء أو يخافه فلا بد أن يكون معه محبة، إلا أن يكون المخوف ظالماً متجبراً فإنه يخافه وقلبه يلعنه، فمثل هذا ليس فيه شيء من العبادة، وخوفه هذا يكون خوفاً طبيعياً ليس خوف عبادة، وإنما هو الخوف إذا كان مخالطاً له الحب والرجاء، وكذلك إذا كان يرجو شيئاً ولا يحبه قلبه فإن هذا لا يكون عبادة، وإنما هذا لأنه سبب فقط، والإخلاص أن يكون الإنسان خوفه ورجاؤه لربه جل وعلا لا يخاف غيره. ومعنى ذلك أنه ينظر إلى الأسباب على أنها أسباب جعلها الله جل وعلا أسباباً، ويجوز أن يوجد بها ما رتب عليها ويجوز ألا يوجد، وإذا حصل شيء من الأمور بسبب من الأسباب على يد إنسان يشكره لأنه سبب، لا لأنه هو الذي استقل بذلك، بل يشكره ويحمده لأن الله جل وعلا جعله سبباً، ولكن حبه ونظره في التصرف والإيجاد والنعمة إلى الله وحده جل وعلا، فالأسباب لا تنافي الإخلاص في النظر إليها، فالاعتماد على السبب شرك، وتعطيل السبب وعدم الالتفات إليه قدح في الشرع وفي العقل؛ لأن الله جل وعلا جعل لكل شيء سبباً، وأمرنا ببذل الأسباب، ولكن أمرنا أن نعتمد عليه ونعلم أن الإيجاد والإعدام والإنعام وكذلك المنع والعطاء من الله، فلا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا راد لما قضى جل وعلا. فأما أن يكون الإنسان يخاف من سبع أو من حية أو من ظالم أو ما أشبه ذلك فهذا أمر جبلي طبعي طبع الإنسان عليه، ولا يلام على ذلك؛ لأن المحذور هو أن يكون مع الخوف محبة وتأله، بأن يتألهه قلبه، وهذا الذي لا يجوز أن يكون إلا لله وحده، ومثله الحب، ومثله الرجاء، بل كل أفعال القلب من هذا القبيل، فيجب أن يفرق بين ما هو جائز وما هو ممنوع، فربنا جل وعلا أخبرنا عن موسى عليه السلام أنه خرج من بلد فرعون وقومه خائفاً يترقب، خائفاً منهم يترقب وينظر ويتلفت، وهذا من الأسباب، وخوفه منهم ليس عبادة لله، ولكن لأنهم ظلمة، ولأنهم يستطيعون أن ينفذوا ما يقولون وما يفعلون وما يريدون فعله، فهو يخافهم لأنهم ظلمة، وكثير من الناس يقول: الذي لا يخاف الله خف منه، فهذا الكلام باطل، فلا تخف منه، لا تخف إلا من الله جل وعلا، ولكن إذا كان الإنسان تحت يدي ظالم متسلط فإن خوفه منه خوف طبيعي، ولا يكون ذلك ضائراً له، وليس خوفه خوفاً قلبياً يختلط بالحب وبالرجاء، بل هو يخافه وقلبه يلعنه.

نوعا اتخاذ الند

نوعا اتخاذ الند قال الشارح رحمه الله: [واعلم أن اتخاذ الند على قسمين: الأول: أن يجعله لله شريكاً في أنواع العبادة أو بعضها -كما تقدم-، وهو شرك أكبر. والثاني: ما كان من نوع الشرك الأصغر، كقول الرجل: ما شاء الله وشئت، ولولا الله وأنت، وكيسير الرياء، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له رجل: (ما شاء الله وشئت قال: أجعلتني لله نداً؟ بل ما شاء الله وحده)]. النوع الثاني لا يخرج الإنسان من الدين الإسلامي، النوع الثاني يكون تنديداً ولكنه شرك أصغر، وإذا وقع من الإنسان فالإنسان يكون مسلماً، وليس خارجاً من الإسلام بذلك، ولكنه في الواقع ارتكب ذنباً عظيماً يجب عليه أن يتوب منه، فإن مات وهو غير تائب بل مصر على هذا الأمر فأمره إلى الله، ولا يقال: إنه في النار. بل يكون أمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه بدون عذاب، ثم مآله إلى الجنة، بخلاف القسم الأول الذي هو الشرك الأكبر، فمن مات عليه فهو في النار قطعاً خالداً فيها، ولا يمكن أن يدخل الجنة؛ لأن الله جل وعلا أخبرنا أن الجنة حرام على المشركين، {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة:72]، فالجنة حرام على من يموت على الشرك الأكبر، فالله جل وعلا أخبرنا أن من يموت على الشرك أن الله لا يغفر له، ففي هذا الحال نقطع قطعاً يقينياً بأن من يموت على الشرك الأكبر أنه خالد في النار، وإن كان يصلي، وإن كان يزكي، وإن كان يقول: (لا إله إلا الله)، لا يفيده كل هذا؛ لأن المقصود بـ (لا إله إلا الله) وبالأفعال هذه أن تقوم على الإخلاص، فالذي يفعل الشرك ويكفر ويقول: (لا إله إلا الله) معناه أنه ما عرف معنى (لا إله إلا الله)، ولم يأت بما دلت عليه، وإنما جاء بالمتناقضات، فهذا لا يفيده، مع أن اليهود يقولون: (لا إله إلا الله)، وهم في النار. ولا يغتر الإنسان بما يفهمه بعض الجهلة من أن من قال: (لا إله إلا الله) حرم على النار، وأنه يخرج من النار من قال: (لا إله إلا الله)، فالمقصود في هذا غير مشرك؛ لأن من شرط (لا إله إلا الله) أن تقع من غير مشرك؛ لأنها تنفي الشرك، وإلا فما هي الفائدة في قولها إذا كان الإنسان يقولها وهو يشرك؟ وقد علم هذا في وضعها، ولكن يعلمه أهل اللغة، أما الذين فسدت ألسنتهم وأصبحوا لا يفهمون معنى الكلام فهم يقولون: (لا إله إلا الله) وهم يعبدون أصحاب القبور، فيأتون بالمتناقضات، وقد مر معنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لعمه عند موته: (قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله)، فقال له جلساء السوء أصحابه المشركون: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ وما معنى هذا؟ معنى هذا أنه لو قال هذه الكلمة لخرج من دينهم ودخل في دين آخر، وهذا هو الذي تنفعه كلمة (لا إله إلا الله)، الذي يفهم أنه إذا قالها خرج من دين الكفار كله ومن دين المشركين كله ودخل في دين محمد صلوات الله وسلامه عليه الذي جاء به، فلما أعاد عليه أعادوا عليه الكلام، ففي النهاية قال: هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقولها ومات على ذلك. فلا يجوز للمسلم أن يكون أبو جهل وعتبة بن ربيعة أعلم منه بمعنى (لا إله إلا الله)، وللأسف فإن كثيراً ممن يدعي الإسلام أولئك أعلم منهم بـ (لا إله إلا الله)؛ لأنهم أهل اللغة الذين نزل القرآن بلغتهم فعلموه، لهذا لما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (قولوا: لا إله إلا الله) قالوا: أجعل الآلهة إلهاً واحداً. أنكروا هذا لأنهم يعلمون أنهم إذا قالوا هذه الكلمة اتجهوا إلى إله واحد فقط وهو الله وحده.

دعاء غير الله شرك أكبر

دعاء غير الله شرك أكبر قال الشارح رحمه الله: [وفيه بيان أن دعوة غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله شرك جلي، كطلب الشفاعة من الأموات؛ فإنها ملك لله تعالى وبيده، ليس بيد غيره منها شيء، وهو الذي يأذن للشفيع أن يشفع فيمن لقي الله بالإخلاص والتوحيد من أهل الكبائر، كما يأتي تقريره في باب الشفاعة إن شاء الله تعالى]. الشفاعة في الواقع هي أصل الشرك قديماً وحديثاً؛ لأنه لا أحد من الخلق يقول: إن أحداً من هذه التي تدعى ويتجه إليها مثل الله في التصرف وفي الإيجاد وفي الخلق أو في الذات أو في الصفات، لا أحد يقول هذا، وإنما يعتقدون أنها مقربة لهم عند الله، وأنهم إذا طلبوا منها شيئاً فهي تطلب بدورها من الله، والله يعطيها لكرامتها عليه، هذا هو أصل عقيدة المشركين قديماً وحديثاً، وقد بين الله جل وعلا أن هذا باطل، وأن الشفاعة لا تقع إلا بإذنه ولمن رضيه. فالشفاعة التي جاءت في القرآن جاءت على قسمين: شفاعة منفية، وهي التي يزعم المشركون أنها تقع لأصنامهم ولمن يدعونه ولو لم يأذن الله جل وعلا، فهذه نفيت، قال الله جل وعلا: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر:43 - 44]، فأخبر أن الشفاعة كلها له، ولا يوجد شفاعة يملكها غيره، وهذا لا ينافي كون الله جل وعلا يأذن لمن يشاء أن يشفع، ولكن إذنه بشفاعة الشافع لا يقع إلا بشرطين قد ذكرهما الله جل وعلا في القرآن: الشرط الأول: إذنه لمن يشفع أن يشفع كما قال جل وعلا: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، وهذا استفهام إنكاري، يعني: لا يمكن أن يقع هذا الشيء من شافع يشفع إلا أن يأذن الله له. فهذا شرط. الشرط الثاني: أن يكون الله راضياً عن المشفوع له، كما قال جل وعلا: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26]. فالإذن والرضا شرطان، يقول الله: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ:38]، فقوله: (إلا من أذن له الرحمن) يعني: في الشفاعة، وقوله: (وقال صواباً) يعني المشفوع له قال صواباً، يعني: قال الحق وقال التوحيد، ورضي الله عنه. فلا بد من هذين الشرطين، وبذلك يبطل ما يتعلق به هؤلاء الذين يزعمون أن أحداً من الخلق يشفع لهم ولو لم يأذن الله جل وعلا، وكثير من الناس يزعم أنه إذا اتجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ودعاه يكفيه هذا، وقد نشرت بعض الكتب التي يكتبها بعض من يعد من العلماء، وقال فيها: نحن نعبد الله ونعبد الرسول. يصرح صراحة ويقول: نعبد الله ونعبد رسوله؛ لأن الله جل وعلا يقول: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ} [الفتح:9]، فجعل التسبيح للرسول كالتعزير والتوقير، وهذا فهم عجيب وكذلك يقول: إننا نتجه إلى الله وإلى رسوله، وإننا نطلب الشفاعة من الرسول. ويجعلها مستقلة، وكذلك يقول هذا بعض الشعراء وغيرهم الذين جعلوا حظهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم يمدحونه، كما يقول صاحب البردة: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم وأين الله؟ يعني: إذا ما أخذ الرسول بيده زلت قدمه. ثم يقول: فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم عجيب! يعني الدنيا والآخرة من جملة جود النبي صلى الله عليه وسلم، ومن جملة جوده ما خط في اللوح المحفوظ، وما خطه القلم الذي أمره الله جل وعلا أن يكتب كل شيء، إذاً: فماذا بقي لله جل وعلا؟! ما بقي له شيء، ثم يقول: ولن يضيق رسول الله جاهك بي إذا الكريم تحلى باسم منتقم معناه: إني ألوذ بك من غضب الله. وهذا شيء ما وصل إليه شرك المشركين، نسأل الله العافية، والعجيب أن كثيراً من الناس يجعل هذه القصيدة ورداً له يقولها مساء وصباحاً، ويتقرب بقولها وذكرها وحفظها وتلاوتها إلى الله جل وعلا، وهي شرك صريح، نسأل الله العافية، وكثير من الشعراء غير هذا هكذا يقولون، يأتي عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويكشف رأسه تعبداً ويقول في شكواه: هذه علتي وأنت طبيبي ليس يخفى عليك في القلب داء يجعل الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم ما في القلوب، وهو يزعم أنه من العلماء، وإذا أنكر عليهم منكر قالوا: هذا لا يحب الرسول، هذا لا يرى شفاعة الرسول وهذا مصداق قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: فمن) حتى قال: (لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)، ولماذا ذكر جحر الضب دون الجحور الأخرى؟ لأن الضب جحره من أعسر الجحور؛ فإنه يكون ملتوياً ويكون نازلاً إلى أسفل مع تلويه، فالدخول فيه صعب جداً، ويقول: لو دخلوا في هذا الحجر لدخلتم خلفهم، ويقول في الرواية الأخرى: (لو أن أحداً منهم أتى أمه على قارعة الطريق لكان من هذه الأمة من يفعل ذلك)، وهم قالوا: إن عيسى ابن الله، وقالوا: إنه الله، وقالوا: إنه ثالث ثلاثة، قالوا ذلك، ولكن هؤلاء ما تجرءوا أن يصرحوا بذلك، وإنما أخذوا المعاني التي هي لله جل وعلا وجعلوها للنبي صلى الله عليه وسلم دون الألفاظ، فهذا في الواقع أمر صعب، وصعوبته من هذا التركيب في هذا الكلام: (من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة) فكلمة (شيئاً) هنا نكرة عمت الشرك كله كبيره وصغيره وجليه وخفيه، تعم الكبير والصغير والخفي والظاهر، جميع الشرك، فمن لقي الله غير مشرك به في شيء من هذه الأمور دخل الجنة بدون أن يعذب؛ لأنه رتب الدخول على اللقاء، واللقاء يكون بعد المحشر، إذا بعثهم الله جل وعلا من قبورهم وجمعهم في صعيد واحد يقفون وقوفاً طويلاً في يوم عسير ثقيل، كما أخبر الله جل وعلا بأنه يوم عسير ويوم ثقيل، ولكننا ننساه، ثم بعد ذلك يأتي الله جل وعلا ليقضي بينهم، فكل واحد يلاقي ربه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان) كل واحد يكلمه على كثرة الخلق، والعجيب أنه يكلمهم في لحظة واحدة كلهم، فهو سريع الحساب جل وعلا، وكل واحد يرى أنه يكلمه وحده وهو يكلم الخلق كلهم؛ لأنه جل وعلا لا يقاس تكليمه ولا فعله بفعل الخلق تعالى وتقدس، فإذا لقي الله وهو لم يشرك به شيئاً فبعد هذه المكالمة يذهب إلى الجنة بلا عذاب إذا كان لا يشرك بالله شيئاً. الوجه الثاني الخطر كونه قال: (ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار)، وهذا من الأدلة التي استدل بها من يقول: إن الشرك كبيره وصغيره غير مغفور لمن مات عليه، أما إن كان كبيراً فصاحبه خالداً في النار، وأما إن كان صغيراً فلا بد من تعذيبه، ولهذا قال في هذا الحديث: (ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار)، فدل على أن الذي يلقى الله ومعه شيء من الشرك وإن كان صغيراً أنه يدخل النار، ثم بعد ذلك إذا كان الشرك صغيراً يخرج من النار إلى الجنة، أما إن كان كبيراً فيبقى فيها أبداً. وهذا في الواقع يخاف منه، وهذا سبب إيراد المؤلف له في باب الخوف من الشرك؛ لأنه أخبر أن من لقي الله ومعه شيء من الشرك فإنه يدخل النار، وهو نص صريح واضح في هذا، ولكن هذا لمن مات من غير توبة، ولهذا قال: (من لقيه يشرك به شيئاً دخل النار) يعني أنه لقيه مصراً على هذا الشرك الصغير فإنه يدخل النار، أما إذا كان الشرك كبيراً فيكون خالداً فيها.

فضل جابر بن عبد الله وأبيه رضي الله عنهما

فضل جابر بن عبد الله وأبيه رضي الله عنهما قال الشارح رحمه الله: [قوله: عن جابر هو ابن عبد الله بن عمرو بن حرام -بالمهملتين- الأنصاري ثم السلمي -بفتحتين- صحابي جليل هو وأبوه، ولأبيه مناقب مشهورة رضي الله عنهما، مات بالمدينة بعد السبعين وقد كف بصره وله أربع وتسعون سنة]. أبوه عبد الله بن حرام قتل في غزوة أحد، وقد كان تخلف عن غزوة بدر فأسف على ذلك، وقال: إن قدر الله جل وعلا غزوة أخرى فسيرى ما أصنع. فهاب أن يقول شيئاً غير هذا، فلما جاءت غزوة أحد قال لولده: يا بني! ما يصلح أن أخرج أنا وأنت ونترك البنات -وقد كان له سبع بنات-، ولست بمؤثرٍ لك الخروج يعني: أنا أولى منك بأن أخرج فخرج مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما حصل ما حصل من انتكاس الصحابة وقتل من قتل منهم وصاح الشيطان بأعلى صوته: قتل محمد، تقدم إلى الكفار فقاتل حتى استشهد رضي الله عنه، فلما أتي به عند رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جابر يبكي والناس ينهونه، يقول: والرسول صلى الله عليه وسلم يبصرني ولا ينهاني. ثم إنه قال لي: (أتدري ماذا قال الله لأبيك؟ إنه لما لقيه قال: يا عبدي! تمن علي. فقال: كيف أتمنى وقد أعطيتني ما أريد، وما لا أتصور؟ فقال: تمن. فلما رأى أنه لا بد قال: يارب! أريد أن تحييني مرة أخرى فأقتل في سبيلك. قال: أما هذه فليس إليها من سبيل. قال: فأبلغ عني من خلفي)، فنزل قول الله جل وعلا: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} [آل عمران:169] إلى آخر الآية، فالمقصود أن الله كلمه بدون واسطة بعد موته.

حديث: (من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة)

حديث: (من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة) قال الشارح رحمه الله: [وقوله: (من لقي الله لا يشرك به شيئاً) قال القرطبي رحمه الله: أي: لم يتخذ معه شريكاً في الإلهية، ولا في الخلق، ولا في العبادة، ومن المعلوم أن من الشرك المجمع عليه عند أهل السنة أن من مات على ذلك فلا بد له من دخول الجنة وإن جرت عليه قبل ذلك أنواع من العذاب والمحنة، وأن من مات على شرك لا يدخل الجنة ولا يناله من الله رحمة، ويخلد في النار أبد الآباد من غير انقطاع عذاب ولا تصرم آماد. قال النووي رحمه الله: أما دخول المشرك النار فهو على عمومه، فيدخلها ويخلد فيها، ولا فرق فيه بين الكتابي اليهودي والنصراني وبين عبدة الأوثان وسائر الكفرة، ولا فرق عند أهل الحق بين الكافر عناداً وغيره، ولا بين من خالف ملة الإسلام وبين من انتسب إليها ثم حكم بكفره بجحوده وغير ذلك، وأما دخول من مات غير مشرك الجنة فهو مقطوع له به، لكن إن لم يكن صاحب كبيرة مات مصراً عليها دخل الجنة أولاً، وإن كان صاحب كبيرة مات مصراً عليها فهو تحت المشيئة، فإن عفا الله عنه دخل الجنة أولاً وإلا عذب في النار ثم أخرج من النار وأدخل الجنة]. هذا في الأمور الأخرى غير الشرك، وكلام النووي هذا مما أجمع عليه، أي: أن من مات وهو مشرك أو كافر من أي صنف كان فنقطع قطعاً جازماً للآيات وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم القطعية أنه خالد في النار، أما الذي يموت بغير شرك فإن لم يكن صاحب كبائر وكان صاحب صغائر فإنه يدخل الجنة بلا عذاب، أما إن كان مصراً على كبائر الذنوب ومات عليها فهذا أمره إلى الله إن شاء عذبه على الكبائر وإن شاء عفا عنه وأدخله الجنة بلا عذاب. ومعلوم أن العذاب الذي يقع للإنسان كله تكفير، والعذاب قد يكون في القبر، وقد يكون في بعض الأوقات في قبره ثم ينقطع عذابه في القبر إذا كان ذنبه ليس كبيراً، والله جل وعلا لا يعذب إلا على قدر الذنب، ولكن الذنوب قد تكون عند الإنسان صغيرة وهي عند الله كبيرة، ثم بعض الناس قد لا يكفي تعذيبه في القبر طيلة ما كان في قبره وإن كان تراباً؛ لأن المقبور يصبح بدنه تراباً بعد سنوات، ولكن الروح ما تموت، فتعذب الروح مع حبات التراب التي صارت تراباً من البدن، فيذوق بدنه العذاب مع الروح، وهذا من أمور الآخرة التي أخبرنا بها، ويجب أن نؤمن بها. ثم بعض الناس يتصل تعذيبه بالموقف؛ لأن الموقف أيضاً نوع من العذاب، فالناس يقفون فيه حفاة عراة عطاشاً جائعين، والشمس فوق رءوسهم، ويعرقون عرقاً عظيماً، وهذا كرب شديد، فهو نوع من العذاب يكون مكفراً للذنوب، ولهذا جاء أن بعض الخلق يكون الموقف عليه سهلاً ميسوراً وليس طويلاً، فما كلهم يكون بهذه الصفة، وبعضهم لا يكفي كونه يعذب في الموقف، وأهل الموقف يقولون فيه: ربنا اقض بيننا ولو إلى النار. هكذا يقولون من شدة الوقوف والكرب، يرون أن المصير إلى النار أسهل منه، وإن كانت القاعدة أن كل ما بعد الموت أشد مما يلقى الإنسان إذا كان كافراً، فالنار أشد من الوقوف بلا شك، ولكن هكذا يتصورون، فإذا كان لا يكفي تعذيبه في الموقف أدخل النار، ثم دخول النار يتفاوت، فمن الناس من يكون دخوله مجرد دخول فقط، يغمس فيها فيخرج، ومنهم من يبقى وقتاً، والوقت يتفاوت أيضاً، فمنهم من يطول بقاؤه، ومنهم من يبقى طوال الدنيا منذ خلقت إلى أن تفنى ثم بعد ذلك يخرج، ومنهم من يكون أقل من ذلك بحسب ذنوبهم، فالأمر في هذا يتفاوت تفاوتاً عظيماً جداً حسب الإجرام والكبائر العظيمة، ولكن إذا كان الإنسان مات على التوحيد وهو يشهد أن لا إله إلا الله وليس عنده شرك، وإن كان قد أتى بمعاصٍ كثيرة وكبائر كثيرة فمآله إلى الجنة وإن عذب.

مسائل باب الخوف من الشرك

مسائل باب الخوف من الشرك قال المصنف رحمه الله: [فيه مسائل: المسألة الأولى: الخوف من الشرك. المسألة الثانية: أن الرياء من الشرك]. المسألة الأولى: الخوف من الشرك، يعني: أن الخوف من الشرك يجب أن يهتم الإنسان به؛ لأن الشرك -كما سبق- فيه أشياء خفية قد يقع فيها الإنسان وهو لا يدري، فينبغي أن يهتم الإنسان به، ويتعرف على مسائل الشرك وما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم من تحذيره أمته من الشرك، فإنه صلوات الله وسلامه عليه حريص على هداية الأمة، ويعز عليه عنتها، الشيء الذي يشق عليها يشق عليه صلوات الله وسلامه عليه، فلهذا بين كل ما يخاف أن يقعوا فيه، بينه ووضحه، فإذا رجع الإنسان إلى بيان الرسول صلى الله عليه وسلم تبين له ذلك، فليس فيه خفاء في الواقع، وإنما الخفاء عند الجاهل الذي يجهل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، والجاهل يخاف عليه أن يقع فيه. وأما قوله: إن الرياء من الشرك فهذا الرياء قد يكون من الشرك الأصغر، وقد يكون من الأكبر، إن كان الرياء يسيراً قليلاً فهذا من الشرك الأصغر الذي يقول العلماء عنه: إذا خالط عملاً من الأعمال أبطل ذلك العمل خاصة، وأما سائر عمل الإنسان فإنه لا يبطل، وإنما يبطل العمل الذي قارنه، هذا إذا كان يسيراً، وإذا كان الرياء عرض للإنسان ثم أعرض عنه وجاهد نفسه في تركه فمثل هذا لا يضره، ولكن الذي يضره إذا استرسل معه، أي: استدعاه واستمر معه في عمله، فهذا يبطل العمل بلا شك؛ لأن الأحاديث جاءت فيه صريحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أما إذا كان الرياء كثيراً أو كان هو الباعث على العمل فهذا يكون من الشرك الأكبر، ولكن هذا لا يقع للمسلم، المسلم لا يبعثه على العمل الرياء، وإنما يكون هذا للمنافق، نسأل العافية، كما أخبر الله جل وعلا عن المنافقين بقوله: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:142]، ومن علامة ذلك أنهم إذا كانوا عند الناس جدوا في العمل وأدوه، وإذا صاروا وحدهم لم يعملوا، فهذا من صفات المنافقين، أما المسلم الموحد فإنه لا يقع منه ذلك، وإنما يخاف عليه الرياء اليسير، أي: الشرك الأصغر. [المسألة الثالثة: أنه من الشرك الأصغر. المسألة الرابعة: أنه أخوف ما يخاف منه على الصالحين]. وذلك أن الخطاب وجهه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه، وأصحابه هم أصلح الأمة على الإطلاق، فإذا خافه صلوات الله وسلامه على أصحابه فغيرهم أولى أن يخاف عليهم، ولهذا قال: إنه يخاف منه على الصالحين.

قرب الجنة والنار

قرب الجنة والنار [المسألة الخامسة: قرب الجنة والنار]. يعني قرب الجنة والنار من العبد، وهذا مأخوذ من قوله: (من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار)، فليس بين الإنسان والجنة أو النار إلا الموت على نوع من هذه الأنواع، موت على التوحيد وعدم الشرك، وموت على الشرك بالله جل وعلا -نسأل الله العافية-، فالذي يموت على التوحيد مخلصاً لا يشرك بالله شيئاً يدخل الجنة بعد الموت، وليس معنى ذلك أنه منذ مات يذهب به إلى الجنة لا. فالجنة ما تكون إلا يوم القيامة، ولا يدخلها الناس إلا بعد الحساب، وأول من يستفتح باب الجنة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تفتح لأحد قبله، وإنما يشفع للمؤمنين في دخولهم الجنة، أي: الذين خلصوا من النار ومن الحساب. ولكن معنى ذلك -كما جاء في الحديث- أنه إذا وضع في قبره وجاءه الملكان يحاسبانه يقولان له: من ربك؟ وما نبيك؟ وما دينك؟ وفي رواية: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فأما المؤمن الموقن فإنه يجيب بغير تردد وتلعثم، وإذا أجاب وثبته الله جل وعلا بالقول الثابت فإنه يفتح له باب إلى الجنة، ويقال له: انظر إلى مسكنك في الجنة. ثم يأتيه من هذا الباب من ريحها وروحها ما يستأنس به، ولهذا يقول إذا رأى ذلك: يا رب! أقم الساعة حتى أذهب إلى منزلي. ولا يذهب إليه إلا بعد قيام الساعة وبعد الحساب، فهذا معنى دخول الجنة، أي: أنه بعد الموت والحساب سيكون مآله إلى الجنة، ويكون في القبر آمناً من العذاب، وكذلك يوم يبعث ويوقف بين يدي الله لا يخاف العذاب كما يخافه غيره. وأما صاحب النار فكذلك، ولكن يأتيه نصيبه من النار في القبر، فيكون القبر ناراً نسأل الله العافية! وليست النار على ما نعهدها نحن، قد يقول قائل: أنا أذهب إلى القبور، وكثيراً ما تحفر المقابر التي قبر بها الناس، ولا يرى فيها أثر عذاب ولا أثر نعيم، نقول: نعم ما يرى هذا ولا يشاهد؛ لأنه أمر غيبي؛ ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لولا ألا تدافنوا، لدعوت الله أن يريكم من عذاب القبر)، ولكن لو رأينا شيئاً من عذابه ما استطاع أحد أن يدفن أحداً من الهول العظيم، وأحياناً يظهر الله جل وعلا لبعض من يشاء من عباده شيئاً من ذلك، إما موعظة له ورحمة به ليتعظ، وإما آية يظهرها حتى يرتدع غيره، ويكون عظة لغيره، وقد شاهد الناس أشياء كثيرة جداً من هذا النوع، من عذاب القبر ونعيمه، وأما كونه يشاهد النار أو آثار النار فلا، فما تشاهد، وهذه النار جعلها الله جل وعلا أمراً غيبياً، وإلا فالتراب نفسه الذي يهال عليه يصبح ناراً لا تطاق، ومع ذلك أهل الدنيا لا يشاهدون هذا، وقدرة الله لا تحد بشيء، وإذا ظهرت الأمور وصارت تشاهد بطل المعنى الذي يكون الإنسان مستحقاً للثواب عليه إذا آمن بالغيب، وهذه ثمرة الإيمان بالغيب بالأخبار التي نخبر بها غيباً، بل قد يقبر اثنان في قبر واحد أو ثلاثة، فيكون أحدهما منعماً والآخر معذباً، وهذا لا يصل إليه من عذاب هذا شيء، وهذا لا يصل إليه من نعيم هذا شيء، وهم في قبر واحد. فالله جل وعلا قدرته فوق هذا كله، والمقصود أنه إذا مات فإنه يعرض على النار، ويفتح له باب إلى النار مثلما يفتح للمؤمن باب للجنة، ويقال: انظر إلى مقعدك من النار، ثم يأتيه من حرها ومن لهبها ومن عذابها من هذا الباب ما يأتيه، مما يعذبه ويحرقه إلى قيام الساعة؛ ولهذا إذا شاهد ذلك يقول: يا رب! لا تقم الساعة؛ لأنه يعلم أن ما بعد يومه أشد من يومه هذا، فهذا معنى قوله: (من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار) يعني: يكون بعد موته ولبثه في القبر مآله إلى الجنة أو النار، والمقصود أن ما يكون للناس في القبر أمر قد كثرت الأدلة عليه من الكتاب ومن السنة؛ ولهذا فرض علينا رسولنا صلى الله عليه وسلم أن نقول في كل صلاة: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر)، وإن كان ليس فرضاً لازماً لا تصح الصلاة إلا به، ولكنه من الواجب على المصلي الذي علمنا إياه رسولنا صلى الله عليه وسلم، فقال: (إذا تشهد أحدكم التشهد الأخير فليقل: اللهم إني أعوذ بالله من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال)، فهذا مما شرعه لنا رسولنا صلى الله عليه وسلم، وقد جاءت أحاديث كثيرة في إثبات عذاب القبر والاستعاذة منه، كما أنه ظهر لخلق كثير ما يظهره الله جل وعلا لمن يشاء من عذاب القبر، أشياء كثيرة جداً، ومن تتبع الأموات ونظر أحوالهم وجد ذلك لا محالة، يجد ويشاهد، ولكن هذا لا يكون متعظاً به إلا من يريد الله جل وعلا هدايته.

من لقي الله وهو يشرك به شيئا دخل النار ولو كان من أعبد الناس

من لقي الله وهو يشرك به شيئاً دخل النار ولو كان من أعبد الناس [المسألة السادسة: الجمع بين قربهما في حديث واحد. المسالة السابعة: أنه من لقيه لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار ولو كان من أعبد الناس]. عرفنا أن (شيئاً) نكرة تعم القيل والكثير، والدقيق والجليل، فإذا قال: (لا يشرك به شيئاً)، فمعنى ذلك أنه يدخل فيه حتى الرياء، حتى الشرك الأصغر، وإذا كان الإنسان عنده شرك أصغر يشمله هذا ويدخل فيه، وقوله كذلك: (يشرك به شيئاً) نفس المعنى، فكلمة (شيء) نكرة تعم كل ما أطلق عليه أنه شرك، سواء أكان كبيراً أم صغيراً.

سؤال الخليل له ولبنيه الوقاية من عبادة الأصنام

سؤال الخليل له ولبنيه الوقاية من عبادة الأصنام [المسألة الثامنة: المسألة العظيمة سؤال الخليل له ولبنيه وقاية عبادة الأصنام]. أي أن الخليل صلى الله عليه وسلم يقول: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم:35] يدعو ربه جل وعلا أن يجعله في جانب بعيد عن عبادة الأصنام هو وبنيه، وعلل هذا بقوله: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم:36] فخاف -وهو نبي كريم يوحي الله جل وعلا إليه- أن يقع في الشرك، وذلك أن الله جل وعلا خلق الإنسان، وخلق له قوى وفكراً، وجعل الأمر إليه، وقال له: هذا طريق الخير فافعله، وهذا طريق الشر فاجتنبه، فالجزاء يتعلق بأفعاله الاختيارية التي يفعلها باختياره، والإنسان قد لا يملك نفسه، فقد يزين له شيء هو من أسوء الأمور عند الله فيتبعه، فهو إن لم يهده الله ضال، وإن لم يجعل الله جل وعلا له نوراً يهتدي به فإنه يتخبط في الظلمات، وإن كان يعمل بحريته حسب ما أعطيه من الأفكار والنظر والقوة على العمل أو الإحجام عنه، فهذا جعله الله إليه، وهو الذي صار مناط التكليف، ومناط التكليف كونه يفعل باختياره، وإذا فقد الاختيار صار غير مكلف، ولكن هذا الاختيار لقصور الإنسان في الإرادة وفي القوة وفي المآل يخاف أنه يجني، ويقع في الأمور التي تعرض له وتزين له من الباطل، سواء من شهوات أو أهواء أو دنيا أو شيطان، والشيطان قد يكون من شياطين الإنس، وقد يكون من شياطين الجن، فأسباب الانحراف كثيرة جداً تحيط بالإنسان إن لم يعافه الله جل وعلا من ذلك ويتفضل عليه وإلا ضل، فإبراهيم صلوات الله وسلامه عليه شاهد هذه الأمور، واستحضر هذا المشهد أنه إن لم يهده الله ويعصمه فإنه يقع فيما وقع فيه الكثير من الناس. والإنسان إذا نظر إلى الناس اليوم رأى أن أكثرهم على الضلال، وإن كانوا يسمون الوقت هذا وقت النور ووقت العلم ووقت الازدهار والحضارة، ولكنها حضارة في أمور معينة مادية، أمور الدنيا، وهذه لا تجدي عن الآخرة شيئاً، أما السعادة التي يسعد بها الإنسان في حياته الدنيا وفي آخرته فأكثر الخلق أخطأها وما استطاع أن يصل إليها، وهذه بيد الله، والإنسان عليه أن يسأل ربه هدايته، مع أن الله لا يظلم أحداً، وكل الخلق بالنسبة للأوامر والنواهي سواء، فما خص قوماً دون آخرين بأن خفف عنهم شيئاً من الأوامر أو أباح لهم بعض المنهي عنه، فالخلق كلهم سواء، وإنما المهتدي من هداه الله جل وعلا وحبب إليه الإيمان وزينه في قلبه وكره إليه المعاصي والذنوب وجعله راشداً، وهذا فضل الله يعطيه من يشاء، وإذا منع الله جل وعلا فضله عبداً وكله إلى نظره وإلى قوته وبصيرته وعلمه، فلا يستطيع أن يهتدي بذلك.

عدم الاغترار بالكثرة

عدم الاغترار بالكثرة [المسألة التاسعة: اعتباره بحال الأكثر؛ لقوله: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم:36]]. هذه مسألة ليست سهلة، لا يتساهل بها الإنسان، كونه يرى أكثر الناس على عمل من الأعمال فيقتدي بكثرة الناس، وهذا معروف الآن، فالإنسان يقول: الناس كلهم يفعلون هذا، فكيف لا أفعل شيئاً يفعله الناس؟! فأصبحت حجة، وهذه الحجة توارثها العالم كله من أوله إلى آخره، كما قالت الأمم لرسلها: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23]، وفرعون يقول لموسى: {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} [طه:51] يعني: لماذا عملت الشيء الذي تنهانا أنت عنه، فهي أشركت فما بالها؟ فإذا قال له: إنهم ضالون قال: كيف الناس كلهم يضلون وتبقى أنت وحدك؟! ويصعب على الكثير من الناس اتباع الحق؛ لأن تابعه قليل، فهذا الذي يشير إليه ما ذكره الله جل وعلا عن الخليل: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم:36]، فالناس ينظرون إلى الكثرة غالباً ويتبعونها، وما يميزون بين الأمر هذا والأمر هذا، كما هو فعل أهل الحق، ولهذا يقول العلماء: لا تستوحش من الحق لقلة السالكين نهجه، ولا تغتر بالباطل لكثرة الهالكين. أي: لا يغرك كثرة الناس فتغتر بهم، وكذلك لا يغرك قلة من يعمل بالحق، اعمل الحق وأحبه واتبعه، وإن كان الذي معه قليل؛ فإن الله جل وعلا فرق بين الحق والباطل، فإذا عرف الإنسان الحق وجب عليه أن يتمسك به ولو كان وحده، ولو بقي وحده.

تفسير (لا إله إلا الله)

تفسير (لا إله إلا الله) [المسألة العاشرة: فيه تفسير (لا إله إلا الله) كما ذكره البخاري]. مقصوده: أن معنى (لا إله إلا الله): ترك الشرك رأساً مع عبادة الله، هذا هو التفسير الذي يشير إليه، وليس تفسير (لا إله إلا الله) أن يقول الإنسان: (لا إله إلا الله)، وهو يأتي بخلاف ما وضعت له، بأن يكون -مثلاً- يتعلق بأصحاب القبور، ويدعوهم ويطلب منهم المدد والعون، ويتوسل بهم وهو يقول: (لا إله إلا الله)، فهذا أفعاله تناقض أقواله، فتفسيرها هو ترك الشرك كله، والإتيان بعبادة الله جل وعلا.

فضيلة من سلم من الشرك

فضيلة من سلم من الشرك [المسألة الحادية عشرة: فضيلة من سلم من الشرك]. يشير إلى الآية التي أثنى الرب جل وعلا على الذين هم بربهم لا يشركون، فقال سبحانه: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون:59]، فأثنى عليهم لكونهم اجتنبوا الشرك.

شرح فتح المجيد [21]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [21] يجب على الداعية إلى الله أن يبدأ بالأهم فالأهم، وأهم شيء هو التوحيد، فهو أصل الأصول، فعلى من يدعو إلى الله أن يصحح توحيده وعقيدته أولاً، ثم يدعو الناس إلى التوحيد ثانياً، فالتوحيد هو لبُّ دعوة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم.

وجوب الدعوة إلى التوحيد

وجوب الدعوة إلى التوحيد قال المصنف رحمه الله: [باب: الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله]. قوله: [باب: الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله] يعني الدعاء إلى توحيد الله جل وعلا، والمصنف لما ذكر وجوب هذا الأمر على المسلمين عموماً، وأنه يجب على كل مكلف أن يعبد ربه وحده، وأن يجتنب الشرك -وهذا واجب عيني يتعين على كل فرد من المسلمين ذكورهم وإناثهم- ذكر فضل من حقق هذا، وأن من حقق التوحيد يدخل الجنة بلا حساب ولا عذاب، ثم ذكر الخوف من كون الإنسان إذا فعل ذلك وعلم أنه ينبغي له أن يخاف أن يناله الشيطان في شيء ينقص توحيده أو يدخل عليه ما يضعف إيمانه. ثم بعد هذا يقول: إذا تحلى الإنسان بهذا الأمور فهو الكامل في أمور التوحيد؛ لأنه عرف وعمل وحقق وخاف، والإنسان إذا خاف من شيء اجتنب الأسباب التي تؤدي إلى ذلك المخوف، وإذا وصل إلى هذا الحد فهو قد تمسك بالتوحيد. وبقي أنه لا يجوز أن يقصُر هذا على نفسه، بل يجب عليه أن ينشره، وأن يدعو إليه؛ لأن السعادة التي ذكرها الله جل وعلا للذين ذكرهم في قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] ذكر فيها التواصي بالحق والتواصي بالصبر، وهو الدعوة إلى التوحيد، وإلى الخير، فهم يعرفون المعروف ويدعون إليه، ويعرفون المنكر ويدعون إلى تركه وينهون عنه. ثم يصبرون على ما ينالهم في طريق الدعوة؛ لأن الذي يدعو لابد أن يؤذى سواء بالكلام أو بالفعل، بل قد يضرب وقد يسجن، وقد يهدد بالقتل وقد يقتل، فعليه أن يصبر؛ لأن هذا هو الطريق إلى الله، وهو طريق الرسل، وليس معنى هذا: أن هذا يجب على طائفة معينة، بل يجب على كل أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم الدعوة، ولكن بحسب حالهم، كما قال سبحانه: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، فلا يقال للإنسان الذي لا يستطيع أن يدعو: يجب عليك أن تدعو. ولكن الذي عرف وعمل يجب عليه أن يدعو على قدر المستطاع، وقد قال صلوات الله وسلامه عليه: (بلغوا عني ولو آية)، فلا يكون الإنسان قاصراً الخير على نفسه، بل يجب أن يبدأ بنفسه ثم بالأقرب فالأقرب إلى أن يُوصِل الخير إلى عباد الله، ولا يحصره على قوم معينين. فمن هنا أتى المصنف بهذا الباب، فقال: [باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله]، وقصده بالدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله الدعاء إلى الإسلام، والدعاء إلى التوحيد؛ لأن الإسلام مبناه على هذه الكلمة -شهادة أن لا إله إلا الله-، والرسل صلوات الله وسلامه عليهم كلهم كانوا يدعون إلى هذه الكلمة، بل أول ما يبدءون به هو هذه الكلمة، وهذا هو الذي يجب على الداعي، وهو أن يدعو الإنسان إلى تصحيح عقيدته أولاً، وإلى تصحيح العلم الذي ينطوي عليه قلبه، بأن يعتقد الحق ويعلمه، ثم يبعث الجوارح للعمل بهذا العلم؛ لأن العلم قبل القول والعمل، كما قال الله جل وعلا: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [محمد:19]، فبدأ بالعلم أولاً. فيجب على الداعي أن يبدأ بالأهم فالأهم، والأهم هو: الأصل الذي يبنى عليه غيره، والذي يبنى عليه غيره هو التوحيد شهادة أن لا إله إلا الله، وقد اتفق العلماء على أنه لا يعتبر الإنسان مسلماً حتى يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ولابد أن ينطق بها، أما لو علم بقلبه أن الإسلام هو الدين الصحيح وأحبه في قلبه ورأى أنه هو الحق ولكنه لم ينطق بالشهادتين فهو كافر، وإذا مات على ذلك فهو في النار، ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله)، فلابد من القول. ويبني على هذه الشهادة سائر الأعمال، فإذا كان الإنسان -مثلاً- مخلاً بمعنى هذه الشهادة، كأن يتوسل بالصالحين، أو يدعو أصحاب القبور ويرى أنهم يشفعون له، وأنهم يسمعون دعاءه ويستجيبون له فلا يصح أن تذهب إليه وتقول: صل الصلوات. أو: قم الليل وتصدق وصم. لأن صلاته وصومه وصدقته باطلة وهو يدعو غير الله، فلابد أن يخلص أولاً عقيدته، وأن تكون خالصة لله، ويعلم أنه لا يجوز أن يُصرف من الدعاء شيء لغير الله جل وعلا، بل يكون الدعاء خالصاً لله جل وعلا، فالدعاء الغيبي النفعي أو الخوف الغيبي لا يكون لغير لله جل وعلا، فإذا لم يكن مخلصاً فهو ما عرف التوحيد كما ينبغي، فيجب أن يدعى إليه أولاً، كما سيأتي في الأحاديث التي تنص على هذا.

شروط الدعوة إلى الله

شروط الدعوة إلى الله ثم الدعوة إلى الله جل وعلا لها شروط ثلاثة لابد منها: الشرط الأول: أن تكون الدعوة مراداً بها وجه الله جل وعلا، ولا يُراد بها الظهور أمام الناس ليقال: هذا داعية ناجح، وهذا متكلم فصيح وبليغ، وهذا يعرف من العلم ما لا يعرفه غيره، فإنه إذا أراد شيئاً من ذلك فعمله لنفسه، وهو يدعو الناس إلى نفسه في الواقع، وإن أظهر أنه يدعو إلى الله فهو كاذب في دعوته، بل هو يدعو إلى عبادة نفسه وأن الناس يعظمونه، وهو بهذا يدعو إلى شهواته ومراده، فلابد أن يكون الداعي مريداً بدعوته وجه الله لا يريد جزاءً غير ذلك من عرض الدنيا ولا من ثناء الناس ومحبتهم له وقربهم إليه، فلا يجوز أن يريد شيئاً من ذلك، فإن أراد شيئاً من ذلك فهو لا يدعو إلى الله وإنما إلى غير الله. الشرط الثاني: أن يكون الداعي متبعاً في ذلك طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يدعو على حسب أوضاع يضعها هو أو جماعته، أي: لا يضع قوانين أو أنظمة أو قواعد يقعدها بعقله ونظره ويسميها (منهج الدعوة)، فإن هذا باطل، بل الدعوة يجب أن تكون على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويجب أن يُترسَّم طريقه، والرسول صلى الله عليه وسلم بقي عشر سنوات يدعو إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأول ما دعا يبدأ الناس إلى ذلك، ودعوته صلى الله عليه وسلم محفوظة، فكل ما قاله وما قيل له أو جله، ما ذهب عن الأمة منه شيء، بل حُفِظ والحمد لله، فعلى الداعية أن يعرف سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يترسم طريقه. الشرط الثالث: أن يكون الداعي على بصيرة بدعوته، بأن يكون على علم، ويدعو على علم، ويعرف ماذا يدعو إليه، وماذا يجب أن يترك ويجتنب، وإن لم يكن كذلك صارت دعوته تفسد أكثر مما تصلح.

الواجبات على الداعية في دعوته

الواجبات على الداعية في دعوته هناك واجبات على الداعية منها: أن يكون رفيقاً في دعوته، فلا يدعو الناس بالعنف والكلام البذيء والكلام المنفر، أو التحكم بالناس، أو استنقاصهم وما أشبه ذلك، بل يجب أن يكون عنده بصيرة في ذلك، وعنده رفق بالناس، والإنسان -مثلاً- قد يفعل أفعالاً قد أقام عليها أكثر عمره، فإذا جئت إليه من أول وهلة قلت له: هذا حرام وهذا لا يجوز أن تقيم عليه. أو: أنت لم تفعل شيئاً وما أشبه ذلك فقد يستصعب هذا القول، بل يجب أن يأخذه الداعية بالرفق شيئاً فشيئاً، حتى يحبب إليه الطاعة وطريق اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، بعد أن يعرفه الأصل الذي هو شهادة أن لا إله إلا الله، ثم يعلمه الواجبات. أن يكون حليماً، فلابد أن يكون الداعية حليماً، فإذا وقع له كلام يخدش شعوره أو يسيء إليه، ولا يعجل، يحلم ويصبر، ولو كانت دعوته لله فلا يستعجل على الناس، ولا يغضب عليهم؛ لأن الأذى الذي يسمعه من الناس أو يناله منهم يحتسبه عند الله، ويرجو أن الله يثيبه عليه. ويكون كذلك رحيماً، فمن الواجبات أن يكون رحيماً، فهو عندما يدعو الناس يدعوهم شفقة عليهم من أن يدخلوا النار، ثم هذا لا يدعوه إلى أنه يود العصاة ويحبهم، بل يبغضهم في الله جل وعلا، ولكن في دعوته إياهم يرحمهم؛ لأنه يعرف أن الناس لا يستطيعون مقاومة النار ومقاومة عذاب الله جلا وعلا، فهو يرحمهم خوفاً عليهم من أن يقعوا في عذاب الله، ويبين لهم الحق من خلال هذه الأمور. وأصل الدعوة في هذا ما سيأتينا في الآية التي سيذكرها المؤلف، وهي قول الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]. هذا هو الأصل الذي ينبغي للداعية أن يتبناه دائماً، وهو ما دلت عليه هذه الآية الكريمة، فالله جل وعلا يأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول هذا القول: ((قل هذه سبيلي))، فهذه الإشارة هي إلى دعوته صلى الله عليه وسلم التي يدعوا الناس إليها، أي: هذه الدعوة التي أدعو الناس إليها هي سبيلي التي أرسلت من أجلها، وهذا الطريق هو الذي أحيا عليه، وأموت عليه، فأعمل له ما حييت، ولا أنافس أهل الدنيا في دنياهم، أو أطلب ملك الدنيا أو غيرها، وإنما أحيا لدعوة لله جل وعلا.

أقسام الناس المدعوين

أقسام الناس المدعوين ويلزم أن يكون الداعية حاصلاً على القوة؛ حتى يمكن أن يدعو بطريقة ناجحة، وذلك أن الناس الذين يدعون يكونون ثلاثة أقسام غالباً: قسم يكون جاهلاً بالحق ولو تبين له لاتبعه، فهذا دعوته فقط لبيان الحق، فيبين له ويزاح عنه ما يعترض سبيل الحق إذا كان عنده شبهه فقط. وقسم آخر قد تلبَّس بأمور يصعب عليه تركها من دنيا أو رئاسة أو ما أشبه ذلك، فهذا يُدعى بالحكمة والموعظة، بالترهيب والترغيب، فيؤتى له بالترهيب والترغيب، أي: بالنصوص التي تتوعد المعرض والذي يفعل المعاصي وهذا القسم يكفيه ذلك. قسم ثالث لا يكون عنده عناد، ولكن عنده تكبر وعنده إباء عن قبول الحق، فمثل هذا يحتاج إلى قوة، فأن أفادت معه المجادلة وبيان الحكمة وبيان العظات والزواجر والوعيد فهذا هو المطلوب، وإن لم يفد معه ذلك ينتقل معه إلى السلاح فيقاتل، ولهذا ذكر الله جل وعلا في بعض الآيات في القرآن الحديد مقروناً بالكتاب؛ ليبين أن الذي يعرض عن الكتاب ولا يقبله يصار معه إلى الحديد وإلى القوة قوة السلاح، فالذي يقف بوجه الدعوة ويصد عنها ويتكبر ويتجبر، ليس أمام أهل الدعوة الذين يدعون إلى الله معه إلا استعمال القوة، فلهذا الداعي الناجح يجب أن يكون متصفاً بهذه الأمور، وإلا فتكون الدعوة ناقصة قاصرة، أن يكون عنده العلم، وعنده الحلم، وعنده المقدرة على إبطال الشبهة وإيصال العلم إلى من عنده شبهة، وإزاحة ما أمامه من غشاوة، ثم كذلك يكون عنده قوة إذا أرادوا أن يبطلوا دعوته أو يقاتلوه أو يصدوه عن دعوته، فيقاومهم كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك.

بيان بداية دعوته صلى الله عليه وسلم

بيان بداية دعوته صلى الله عليه وسلم الرسول صلى الله عليه وسلم في مبدأ دعوته كان مثل ما قال صلوات الله وسلامه عليه: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ)، وذلك أن الإسلام بدأ بالرسول صلى الله عليه وسلم وحده فقط، وواحد كيف يعمل أمام أمة كافرة كلها لا تعرف شيئاً من الحق، بل هي على الباطل وعلى الكفر والشرك والظلم؟! وإن كان عندهم عقول في الواقع، والإنسان الذي يتأمل بعقله يعلم أنهم ليسوا على شيء. كما ثبت في صحيح مسلم عن عمرو بن عبسة قال: (كنت في الجاهلية أرى أن الناس ليسوا على شيء وهم يعبدون الأصنام والشجر والحجر)، فهو رجل في البادية ما عنده علم ولا تعلم، ومع ذلك يقول: (كنت أرى أن الناس ليسوا على شيء)؛ لأن عقله وفطرته دلته على ذلك، قال: (فكنت أتخبر الأخبار وأسأل الناس الذين يأتون من هنا وهنا، وآتي موارد الماء وأسألهم: هل من خبر؟ هل من علم؟ وكل من سألت لم يخبرني بشيء، وفي يوم من الأيام جاء قوم من قبل مكة فقلت لهم: هل من خبر؟ قالوا: نعم. رجل يخبر خبر السماء. قال: فقعدت على راحلتي) يعني أنه ما استراح لما هم عليه، بل هو قلق مما هم فيه، فالله فطر الناس على كونهم يعبدونه. قال: (فقعد ت على راحلتي- أي: ركب راحلته -وذهبت إلى مكة، فلما جئت إلى مكة إلى هذا الذي يخبر خبر السماء: وسألت عنه فإذا الناس عليه جرآء) أي: كل واحد عليه جريء يعني أنهم يؤذونه ويشتمونه ويتكلمون فيه. يقول: (فخفت وتلطفت -أي: صار لا يسأل، وإنما يتحسس يبحث عنه وهو مختف صلوات الله وسلامه عليه- حتى دخلت عليه فوجدته مختفياً في بيت، فقلت: ما أنت؟ قال: (أنا نبي. قلت: وما نبي -أي: أنه لا يعرف كلمة نبي-؟ فقال: أرسلني الله. فقلت: وبم أرسلك؟ قال: أرسلني بأن يُعبد الله وحده، وبمحق الأصنام والأزلام. فقلت: ومن معك على هذا؟ فقال: معي حرٌ وعبد، ومعه يومئذ أبو بكر وبلال، فقلت له: إني متبعك) فرجع إلى قومه حتى سمع أن الرسول صلى الله عليه وسلم هاجر إلى المدينة فجاء إليه. قال: فقلت له: أتعرفني؟ فقال: (نعم، أنت الذي أتيتني بمكة)، وذكر بقية الحديث. والمقصود أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء إلى قومه وحده على الإسلام، فهل يسوغ أنه يؤمر بالقتال أو يؤمر بالقوة؟! لو قاومهم بالقوة لقضوا عليه، ولقتلوه عند أول وهلة، مع أنه واثق بوعد الله جل وعلا له تمام الثقة، ولهذا توعدهم وهو وحده، وقال: والله! إن لم تؤمنوا بي فسوف ينصرني الله جل وعلا عليكم، وأقتل رجالكم وآخذ أموالكم. وهل يمكن أن يقول هذا عاقل وهو غير واثق؟! بل هو وحده، وليس معه جنود ولا دولة تحميه، ولكن كان معه الله جل وعلا، وهو الذي يحميه، ولكن المقصود: أن الإنسان إذا جاء وحده بهذا الأمر وصدع به بدون خوف فإنه يدل على أنه نبي من عند الله، كما قال هود عليه السلام لما قال له قومه: {مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ} [هود:53] يقولون: لماذا نترك عبادة الآلهة والأصنام وغيرها والأشجار وغيرها؟ ألأنك قلت لنا: هذا شرك، اعبدوا الله؟ لا نتركها عن قولك. ثم قالوا في مجادلتهم إياه: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود:54]، أي: هذا قولنا: إن آلهتنا أصابتك بجنون فأصبحت تخالفنا كلنا وتأتي بشيء غريب عند ذلك قال لهم: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} [هود:54 - 55]، يعني: اجتمعوا أنتم كلكم مع آلهتكم فافعلوا ما تستطيعون فعله نحوي من قتل أو سجن أو تعذيب، لن تصلوا إلي، لهذا {فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} [هود:55]، تحداهم جميعاً مع أنهم عاد الذين أوتوا من القوة ومن الجبروت ومن عظم الأجسام ما ذكره الله عنهم، ومع ذلك ما استطاعوا أن يفعلوا به شيئاً. وكذلك الله جل وعلا أمر رسوله أن يقول لمشركي قريش هذا. ويتحداهم بذلك، وكل رسول يتحدى قومه بأن يكيدوه ولا ينظرونه، أما كونهم حاولوا قتله فنعم، ولكن هذا هي سنة الله، ولما جاءهم بالدعوة تبين لهم الحق كلهم إلا إنسان معرض، والمعرض لا عبرة به، أما الذي يتأمل قوله ويتأمل ما جاء به، فلابد أن يتبين له الحق. ولهذا يقول المسور بن مخرمة رضي الله عنه -والمسور بن مخرمة خاله أبو جهل -: قلت لخالي: يا خال! أكنتم تتهمون محمداً قبل أن يقول مقالته بالكذب؟ فقال: يا ابن أخي! والله لقد كنا نسميه وهو شاب الأمين، ووالله ما جربنا عليه كذبة واحدة، ولم يكن عندما خطه الشيب ليكذب على الله جل وعلا يقول المسور: فقلت: يا خال! ولمَ لا تتبعونه؟ فقال أبو جهل: إننا وبنو هاشم تسابقنا، أطعموا فأطعمنا، وسقوا فسقينا، وأجاروا فأجرنا، فلما تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي. متى ندرك هذا؟ والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه. يعني: ما منعه إلا الحسد والكبر، وكل من لم يسلم كان على هذه الطريقة. ذكر ابن إسحاق رحمه الله في السيرة والبيهقي في الدلائل وغيرهما من العلماء عن عدد من كبراء قريش مثل: أبي جهل، والأخنس بن شريق، وأبي سفيان، وغيرهم ممن سماهم ابن إسحاق من كبراء قريش، قال: كانوا إذا جنّهم الليل ذهبوا يستمعون قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، وكل واحد يكون في مكان لا يدري عنه الثاني في ظلمة الليل، فيبقون يستمعون له إلى الصباح، وفي أول مرة استمعوا له حتى أصبحوا فرجعوا فالتقوا في الطريق فلام بعضهم بعضاً، وقالوا: لو رآكم سفهاؤكم لتسارعوا إلى اتباعه فلا تعودوا إلى مثلها. وفي الليلة الثانية عادوا، وكل واحد يقول: لعل الآخر لا يعود. فالتقوا ثم تلاوموا، ثم عادوا في الليلة الثالثة، ثم تلاوموا كذلك، ثم عادوا في الليلة الرابعة، وبعد ذلك تماسكوا. وقالوا: لا نبرح من هنا حتى نتعاهد على ألا نعود. فتعاهدوا وتعاقدوا على أنهم لا يأتون مرة أخرى يستمعون إليه خوفاً من أن يراهم الناس الذين ليسوا رؤساء فيقتدون بهؤلاء ويتبعون الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم مشى بعضهم إلى بعض فقال كل واحد للآخر: ما ترى؟ فيقول: والله إني لأسمع شيئاً أعرفه، ووالله إنه لحق فيعترفون أنه حق، وفي النهاية قالوا: لن نتبعه فلم يتبعوه لأنه ليس من قومهم، وقد كانوا يتنافسون الشرف فأبوا اتباعه. والمقصود أن الرسول صلى الله عليه وسلم بقي في مكة ما يقرب من اثنتي عشرة سنة وهو يدعو إلى توحيد الله جل وعلا، وهو يتحمل الأذى ويصبر على ما يناله، ولم يؤمر بالقتال، بل يقول الله جل وعلا له: {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا} [المعارج:5] يأمره بالصبر، ويأمره بالتحمل والدفع بالتي هي أحسن، حتى هاجر إلى المدينة وصار له قوة وأنصار ودولة، وصار له رجال يدافعون عن الحق معهم قوة عند ذلك أمره الله بالقتال. وهكذا ينبغي للداعية أن يكون على نهج النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يذهب إلى قومٍ يتحداهم ويهددهم ويتوعدهم وهو لا يستطيع أن يملك شيئاً، بل يجب أن يترسم طريق الرسول صلى الله عليه وسلم في المنهج، وكذلك فيما يدعو إليه في القول والعمل، فإن فعل ذلك فهو في الواقع ناجح. وليس مهمة الداعية أن الناس يستجيبون له، فالاستجابة إلى الله، وإنما مهمته أن يبين الحق، فإن قُبل حمد الله على ذلك، وإن لم يُقبل الحق منه صبر واحتسب وعلم أن العباد عباد الله هم ملك الله يتصرف فيهم، فهو يتصرف في الجميع جل وعلا كيف يشاء.

السبيل في الدعوة إلى الله تعالى

السبيل في الدعوة إلى الله تعالى قال الشارح رحمه الله: [وقوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108] يأمره جل وعلا بأن يبين طريقته التي أرسله الله بها، وأن يبلغها الناس، وأن يبين: هذه سبيل الدعوة التي أدعو بها إلى عبادة الله وحده، إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله]. قل: هذه سبيلي التي أحيا من أجلها، وأموت عليها، وهي أنه يدعو إلى الله على بصيرة، والبصيرة هي العلم اليقيني الذي تكون نسبة العلم فيها للقلب كنسبة المرئي للبصر، هذا معناها، وهذه البصيرة التي يقول العلماء: اختص بها الصحابة فالصحابة كان علمهم علم بصيرة على بصيرة، حتى صارت المعلومات في قلوبهم كالمشاهدات التي نشاهدها بأبصارنا، فقوله: ((ادعو إلى الله على بصيرة)) يعني: على علمٍ يقيني بأن الله جل وعلا سيؤيدني وينصرني وأرجع إليه ويثيبني على ذلك. وقوله: ((أنا ومن اتبعني)) يعني: أتباعي كذلك يدعون إلى الله على بصيرة. فكل من كان اتباعه الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر تكون دعوته إلى الله بهذه الصفة أعظم. وقوله: ((وسبحان الله)) يعني: تنزيهاً لله وإبعاداً له أن يشرك به وهذا يدل على أن الداعية يجب أن يبدأ بما هو تنزيه لله جل وعلا، وهو الدعوة إلى ترك الشرك، ولا يكون ذلك إلا بتوحيد الله جل وعلا. وقوله: ((أدعو إلى الله)) يؤخذ من هذه الكلمة -أدعو إلى الله- أن الدعوة يجب أن تكون لله، ولا تكون لدنيا، ولا لملك، ولا لأرض، ولا لمنفعة دنيوية، وإنما تكون لله جل وعلا، أما إن استعملت الدعوة لشيء من هذه الأمور وهذه الأغراض فإنها تكون فاسدة في الواقع، ولا تكون على طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم. ولهذا سيذكر لنا الشيخ رحمه الله من الفوائد على هذه الجملة قوله: [فيه تنبيه على الإخلاص في الدعوة] لأن كثيراً من الناس وإن دعا في الظاهر إلى الله فهو في الحقيقة يدعو إلى نفسه، فيكون عنده غرض معين. ثم إن صاحب الدعوة إلى الحق لابد أن يعتريه ما يعتريه من الأذى، وربما النفي، وربما السجن، وربما القتل، كما أخبر الله جل وعلا عن الرسل أن أممهم قالت لهم: {لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [إبراهيم:13] يعني: ترجعون إلى الكفر والشرك وإلا نفيناكم وأخرجناكم. وكذلك ذكر الله جل وعلا عن خليله إبراهيم أن قومه لما لم يكن لهم حجة عليهم المضائق فاضطرهم إلى أن يقفوا بدون حجة وبدون أن يعارضوا دعوته بشيء لجأوا إلى القوة كعادة المحاربين دائماً، فجمعوا له حطباً كثيراً وأججوا النار وألقوه فيها، ليس ذلك إلا لأنه قام بالحق ودعاهم إليه وأبطل حججهم، وبين أنهم ليسوا على شيء، فأرادوا أن ينتقموا منه بقوتهم. وكذلك فرعون لعنه الله لما جاءه موسى أصبح يموه على الناس، ثم حاول أن يقتل موسى ويقتل أتباعه ويترك النساء اللآتي لا يقاتلن، وهذا أكثر الله جل وعلا من ذكره في قصص الأنبياء ليكون أسوة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه سيلاقي الأمور والشدائد في ذلك. ولهذا أخبر الله جل وعلا أنه يقص عليه من أنباء الرسل ما يكون له فيه تسلية، كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام:34]، ويقول جل وعلا: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} [فصلت:43] فهكذا ينبغي للداعي الذي يدعو إلى الله، أن يدرس سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدرس ما ذكره الله جل وعلا عن الأنبياء والأصفياء من القصص مع أممهم، فيتخذ ذلك نبراساً له وطريقاً، ويعلم أن الدعوة إلى الله محفوفة بالمخاطر دائماً، وأن الداعي لا يمكن أن يواجه بكل قبول وبكل تسليم، بل لابد أن يكون له من يعارضه ومن يرد عليه ومن يؤذيه، ولاسيما إذا كانت النفوس قد أُشربت حب الفساد والشهوات، فإن الداعي إلى الله يريد أن ينقلهم من حالة إلى أخرى، وهذا صعب على كثيرٍ من الناس. والإنسان لا يريد أن يكون مهزوماً دائماً في الحجة وفي النهج وفي الظاهر، وإن كان على باطل، بل يريد أن يبرر نفسه ويبرر ما هو عليه، ولهذا قال الذين خالفوا الرسل لرسولهم -كما حكى الله عنهم-: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود:54] ويقول بعضهم وهو ينتقد الرسول الذي أرسل إليه -كما حكى الله عنه-: {مَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود:27] وكم نسمع الآن من كثيرٍ من الناس من يقول: هؤلاء المتخلفون، وهؤلاء المتزمتون. يعني أن الأمور تشابهت، وكأن بعضهم يوصي بعضاً، كما قال الله جل وعلا: {أَتَوَاصَوْا بِهِ} [الذاريات:53] يعني: بهذه التي يقولونها للأنبياء، ويكذبون الرسل بها: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات:53] أي: بل كل قوم له وارد. والمقصود أن الله جل وعلا ذكر هذه الآية لتكون متمسكاً للداعي الذي يدعو إلى الله، ليكون صابراً محتسباً ينتظر أجره من الله، ولا ينظر إلى وجوه الناس، ولا إلى قولهم، وإنما يقوم لله جل وعلا، مقتفياً أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]، ذكر ابن القيم أن الآية فيها تقديران: أحدهما: أن تكون الواو في قوله: (أنا ومن اتبعني) عاطفة على الضمير البارز الظاهر. الثاني: أن تكون عاطفة على الضمير المستتر المرفوع في قوله (أدعوا). فإذا كانت عاطفة على الضمير البارز فمعنى ذلك أن أتباعه أهل الدعوة هم أهل البصائر، فقوله تعالى: (أدعو إلى الله على بصيرة أنا) يعني: أنا على بصيرة في دعوتي، وكذلك أتباعي هم على بصيرة في دعوتهم. وإذا كانت الواو عاطفة على الضمير المستتر المرفوع فالمعنى أن أتباعه هم أهل الدعوة، فأهل الدعوة التي تكون لله جل وعلا خالصة وصادقة هم أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وسبق أن الداعي إلى الله جل وعلا يحتاج إلى أمور، كما أن الدعوة إلى الله لها شروط منها: الأول: أن تكون الدعوة خالصة لله. يدعو إلى الله جل وعلا ولا ينتظر شيئاً آخر غير إثابة الله له. الثاني: أن تكون الدعوة على منهج رسول صلى الله عليه وسلم وطريقته، فلا تكون بالبدع والآراء والمناهج التي يستحدثها الناس. الثالث: أن يكون الداعي ذو علم وبصيرة، فلا يكون جاهلاً، فإن الجاهل يفسد أكثر مما يصلح، بل لابد أن يكون عالماً بما يدعو إليه، عارفاً بالأمور التي يجب أن ينهى الناس عنها، فيعرف أنها لا تجوز وأنها محرمة بالأدلة الشرعية، لا بالآراء والأنظار والقياسات. ثم هو كذلك يحتاج إلى أن يكون حليماً على من يجهل عليه، فإذا جهل عليه أحد يحلم عنه، وإذا آذاه أحد يعفو ويصفح عنه، وإذا أساء إليه أحد يحسن إليه، فإنه إذا فعل هذا قبلت دعوته غالباً، وكذلك هو بحاجة إلى أن يكون رحيماً؛ الناس لأن دعوته تكون لإنقاذ الناس من عذاب الله، يرحمهم أن يقعوا في عذاب الله، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يمثل به لنفسه وللأمة: (مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً، فصارت الفراش والجنادب تتهافت فيها، وهو يحول بينها وبين أن تقع في النار، فأنا آخذ بحجزكم وأنتم تقتحمون النار) يعني: بفعل المعاصي. فلابد أن يكون الداعي رحيماً الراعي بهم، يرحمهم أن يقعوا في النار، ويبين لهم أن الله غني عنهم وعن طاعتهم، وإنما يطيعون لأنفسهم؛ لأن الناس كلهم -كما قال النبي صلى الله عليه وسلم-: (غادٍ ورائح، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها)، فالخلق واحد منهم يموت أول النهار والآخر يموت آخر النهار، فلابد من الموت، فإذا مات، فإما ِأن يكون قد عمل بطاعة الله وأمسك نفسه عن معاصيه فيكون بذلك قد اشترى نفسه بطاعة الله وتقواه وسيلقاه الله جل وعلا بما يسره، أو يكون قد أتبع نفسه شهواتها وأتبع قلبه هواه، فيكون عندما يلاقي الله كالعبد الآبق المجرم، فيؤخذ ويغل ويوضع في أعظم عذاب، والناس كلهم ما أحقرهم إذا عصوا الله فالله جل وعلا لا ينتفع بطاعة الطائعين كما أنه لا يتضرر بمعصية العاصين، ولكن الطاعة لأنفسهم والمعصية عليها، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت. المهم أن ينظر الداعي إلى هذا المعنى، ثم يجب أن يكون رفيقاً في دعوته، فلا يكون عنده عنف وشدة، فإن الله جل وعلا يقول لنبيه: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] يعني: لتفرقوا وتركوك، فإذا كان الله جل وعلا يقول لنبيه هذا فكيف بآحاد الناس؟! فيجب أن يكون الإنسان رفيقاً بالناس ويحبب إليهم الخير ويكره إليهم الشر، ويأتيهم بالطرق التي يألفونها في اتباع الخير، أما إذا كان شديداً وقاسياً فالغالب أنهم ينصرفون عنه ويعرضون عنه ولا يستفيدون من دعوته، ويكون قد جنى على الدعوة ولم يجن لها. وكثيراً من الدعاة يفسد أكثر مما يصلح، فالواجب أن يكون الإنسان متحلياً بما دلت عليه هذه الآية، يدعو إلى الله باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وبدراسة سيرته ونهجه، فإنه صلوات الله وسلامه عليه كان يأتي إلى الرجل المشرك ويقول له: يا أبا فلان! يدعوه بكنيته، ثم يقول له: يا أبا فلان! ألا تسمع مني؟ فيعرض عليه عرضاً هكذا: يا أبا فلان! ألا تسمع مني؟ فإن قال: بلى كلّمه، وإن قال: لا أعرض عنه وتركه، فهو لم يبعث مسيطراً على الناس، وإنما عليه البلاغ فقط، وعلى الله الهداية، وهكذا ينبغي لأتباعه الدعاة، ثم إذا خالفه من خالفه فلا يكن عنده التضجر وضيق النفس، وربما يدعو على الناس أو يلعنهم، بل يترك الأمر لله جل وعلا. فعليه أن يدعو إلى الحق ويبينه فإن اسُتجيب له حمد الله، وإن لم يُستجب له فالأمر إلى الله جل وعلا، وليس

أهمية الإخلاص في الدعوة إلى الله جل وعلا

أهمية الإخلاص في الدعوة إلى الله جل وعلا قال الشارح رحمه الله: [قال المصنف رحمه الله تعالى: فيه مسائل، ومنها: التنبيه على الإخلاص؛ لأن كثيراً ولو دعا إلى الحق فهو يدعو إلى نفسه]. هذا مأخوذ من قوله: ((أي: أن الدعوة يجب أن تكون خالصة لله. ويقول: إن كثيراً من الدعاة وإن أظهر أنه يدعو إلى الحق فإنه في الواقع يدعو إلى نفسه، وهذا أمر قد تنطوي عليه النية فلا يُدرى، والله جل وعلا هو الذي يحاسب ولكن الأمور غالباً تظهر، فالأمور التي تكون باعثة على العمل قد تظهر من فلتات اللسان ومن تصرف الإنسان، ولهذا يظهر الرياء ومداراة الناس وغيرها. فكثير من الناس إذا سمع أو رأى من هذه طريقته قال: هذا مراءٍ، أو: هذا يدعو إلى غير الله، وهذا مما ظهر له، وإن كان الإنسان يتخيل أن هذا يخفى، والله جل وعلا هو الذي يحاسب الإنسان على نيته، فإذا كان الإنسان -مثلاً- يريد الظهور على الناس بأن يكون رأساً فيهم يشار إليه، أو يقال: إنه عالم. أو: إنه يحسن الكلام أو يحسن الدعوة وما أشبه ذلك من الثناء إن كان يريد ذلك فبئس ما أراد، وهو يدعو إلى نفسه، وهي دعوة فاشلة، والغالب أنه لا ينتفع بدعوته، وقد ينتفع به غيره، كما جاء في الحديث، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل يؤتى به فيلقى في النار فتندلق أقتابه فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع عليه أهل النار فيقولون: يا فلان! ألم تكن تأمرنا المعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: بلى. كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه)، فهذا هو أشقى الناس بدعوته. لهذا يقول الحسن البصري رحمه الله: (أشقى الخلق رجلان: أحدهما: رجلٌ جمع مالاً فشقي به وسعد به غيره، فيرى الذي سعد بماله يوم القيامة فيتحسر ويقول: كيف سعد بمالي وأنا شقيت به؟! والآخر: رجل تعلم علماً فانتفع به غيره وشقي هو به). فلا يجوز للإنسان أن يكون هو أشقى الخلق بدعوته أو بعلمه. والإنسان قد لا يملك الهداية، فعليه أن يعود إلى الله جل وعلا، ويتعلق برجائه ودعائه دائماً، ويبتهل وينطرح بين يديه أن لا يكله إلى نفسه، فإن نفس الإنسان ضعيفة، كما قال جل وعلا في آخر سورة الحشر: {كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [الحشر:15 - 17]، فالشيطان الذي جاء بصورة ناصح للإنسان، لما كفر وتورط بكفره تبرأ منه، ويقول الله جل وعلا: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الحديد:17]، وليس المراد من هذه الآية نزول المطر ونبات الأرض، بل الآية أعم من ذلك، فالله جل وعلا يحيي بالعلم الميت بالجهل والكفر بعد ما كان ميتاً، كما أنه يميت من كان حياً بالعلم والتقى، فقد يتبدل علمه ويكون غير نافع، فيصبح عاصياً لله جل وعلا. والمقصود أن الدعوة يجب أن تكون خالصة لله، وليست الدعوة فقط، بل كل الأعمال التي يراد بها الآخرة يجب أن تكون خالصة لله، فلا يراد بها أمر آخر، لا زيادة مال، ولا رفعة على الناس، ولا جاه، ولا غير ذلك. فإن جاء الاشتراك في العمل الذي يرجى به الثواب فإن هذا الاشتراك بهذه النية يبطل ذلك العمل، وهنا يقول: فيه التنبيه على أن الدعوة يجب أن تكون لله جل وعلا خالصة، فإن كثيراً ممن يدعو إلى الحق في الظاهر يدعو إلى نفسه في الواقع، كأن يدعو إلى أن يكون له أنصار وأتباع كثيرون، وكأن يدعو -مثلاً- ليكون منافساً لمن يراه داعياً فقط، وليكون كلامه أحسن من كلام غيره ويستطيع أن يرد عليه، وما أشبه ذلك من الأغراض السيئة.

البصيرة في الدعوة واجبة

البصيرة في الدعوة واجبة [ومنها أن البصيرة من الفرائض]. يعني قوله: ((على بصيرة أنا)) فأخبر أن الرسول صلى الله عليه وسلم على بصيرة، ثم عطف على ذلك أتباعه، فدل على أن البصيرة متعينة، فيجب على الداعية أن يكون على بصيرة، ولهذا قلنا: إن من شروط الداعية أن يكون على علم، وأن يكون عالماً بما يدعو، وهنا يقول: إن البصيرة من الفرائض. أي: من الفرائض في الداعي الذي يدعو إلى الله، وإذا ترك الفريضة فهو آثم.

تنزيه الله عز وجل من دلائل حسن التوحيد

تنزيه الله عز وجل من دلائل حسن التوحيد [ومنها: أن من دلائل حسن التوحيد أنه تنزيه لله تعالى من المسبة]. هذا مأخوذ من قوله: ((وسبحان الله))، ولهذا كثيراً ما يأتي تنزيه الله مقروناً بما يتعالى ويتقدس عنه مما يفعله المشركون، كما قال تعالى: (سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الطور:43]، وقال: (سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون:91]، أي: عن وصفهم أن الله له شريك. ولو لم يقولوا هذا الكلام ففعله كذلك، فهذا دليل على أن التسبيح هنا المقصود به تنزيه الرب جل وعلا عما يفعله كثير من الخلق مما يتعبدون به، حيث إنهم يتجهون إما إلى حجر أو إلى شجر أو إلى وثن من الأوثان أو إلى غير ذلك، وهذا مسبة وتنقص لله جل وعلا، لهذا أخبر جل وعلا أنهم لم يقدروا الله حق قدره فقال: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67] بعد قوله: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:65 - 66]، ثم قال: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر:67] يعني: الذين وقعوا في الشرك ما قدروا الله وما عرفوا قدره، وما عرفوا عظمته، فجعلوا له شريكاً في الحق، والشريك في الحق يعني: في حقه الذي أوجبه على الخلق ولهذا يحتج الله جل وعلا عليهم بذلك.

وجوب الابتعاد عن المشركين

وجوب الابتعاد عن المشركين [ومنها أن من قبح الشرك كونه مسبة لله تعالى. ومنها: إبعاد المسلم عن المشركين لا يصير منهم ولو لم يشرك أ. هـ. ]. هذا مأخوذ من قوله: ((وما أنا من المشركين))، يقول: إنه ينبغي للمسلم أن يكون بعيداً عن المشركين، لا في الدار والمسكن، ولا في الاجتماع، ولا في الرأي، فضلاً عن الدين والعقيدة، فإن هذا شيء معروف أنه كفر.

مراتب الدعوة

مراتب الدعوة قال الشارح رحمه الله تعالى: [وقال العلامة ابن القيم في معنى قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125] ذكر سبحانه مراتب الدعوة وجعلها ثلاثة أقسام بحسب حال المدعو، فإنه إما أن يكون طالباً للحق محباً له مؤثراً له على غيره إذا عرفه فهذا يدعى بالحكمة ولا يحتاج إلى موعظة وجدال]. الحكمة هي العلم، فليس هناك حكمة إلا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فيبين للمدعو الوحي الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا بين له فإنه يكتفي بذلك ويتبعه؛ لأنه يطلبه ولكنه يجهله، فهذا الذي يريد الحق وهو يجهل الحق إذا تبين له أن هذا وحي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه لا يؤثر غيره عليه، بل يتبعه. [وإما أن يكون مشتغلاً بضد الحق، لكن لو عرفه آثره واتبعه، فهذا يحتاج إلى الموعظة بالترغيب والترهيب، وإما أن يكون معانداً معارضاً فهذا يجادل بالتي هي أحسن، فإن رجع وإلا انتقل معه إلى الجلاد إن أمكن. انتهى]. القسم الثاني: أن يكون المدعو مريداً للحق ولكنه مشتغلاً بغيره لدنيا يحبها أو لرئاسة يؤثرها أو ما أشبه ذلك من أمور الدنيا، فهذا يحتاج إلى أن يدعى بالترهيب والترغيب، ويذكر له الأمور التي تترتب على إيثار الدنيا على الآخرة، فإذا ذكر له ذلك فالغالب أنه يرجع ولا يحتاج إلى قتال. القسم الثالث: أن يكون المدعو معانداً، فيكون واقفاً في طريق الدعوة ويكون مجادلاً وعنده شبهة، وإذا أقيمت عليه الحجج لا يقتنع بها، بل لا يقبلها، بل يردها، ومثل هذا إذا أقيمت عليه الحجج فردها ووقف في وجهها فإن أمكن أن ينتقل معه إلى القتال فعل ذلك، وذا لم يمكن يصبر الداعية ويحتسب، كما كان الله جل وعلا يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالتحمل والصبر، وهذا لما كان في مكة، أما لما انتقل إلى المدينة وصار له دار إسلام وله أنصار وله قوة أُمر بقتال من لا يقبل الحق ومن يقف في وجهه معترضاً وصاداً وراداً يقاتل، فإذا أمكن أن الإنسان يفعل ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم أخيراً فعل ذلك.

معنى حديث: (إنك تأتي قوما من أهل الكتاب)

معنى حديث: (إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب) قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له: (إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله -وفي رواية: إلى أن يوحدوا الله-، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنياءهم فترد على فقراءهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)، أخرجاه]. هذا الحديث في الصحيحين، وهو عن ابن عباس في قصة بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن، وبعثه صلوات الله وسلامه عليه كان في السنة العاشرة كما ذكر ذلك البخاري رحمه الله في كتاب المغازي، ولم يكن معاذاً وحده، بل بعث معاذاً وأبا موسى وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم، ولكن كل واحد بعثه إلى جهة من اليمن، وبعثه داعياً ونائباً عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحكم والقضاء، ولهذا قال: لما بعث معاذاً وكلمة البعث جاءت ويراد بها أمور في اللغة، فقد يراد بها بعث البعير، أي: إثارته. وكذلك (بعث الصيد): إذا أثاره ليصطاده، وقد يراد به إحياء الموتى، كما قال تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج:7]، و (الله يبعث من في القبور) يعني: إخراجهم أحياءً بعدما صاروا رفاتاً وتراباً ويراد به الإرسال إلى جهة من الجهات، فيقال: بَعث فلان فلاناً ومنه أن الله بعث رسله، أي: أرسلهم، وهذا مثل قوله هنا: (لما بعث معاذاً) أي: لما أرسله إلى اليمن رسولاً له فـ معاذ هو رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبلغ عنه وينوب عنه في الحكم والدعوة إلى الله. ثم أرشده إلى ما ينوب فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب)، وقد عرفنا أنه بعثه في السنة العاشرة من الهجرة، وهي السنة التي توفي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه توفي في ربيع في تلك السنة. ولهذا جاء في هذا الحديث في بعض الروايات أنه لما خرج معه يودعه -ومعاذ راكب والنبي صلوات الله وسلامه عليه يمشي- قال معاذ: يا رسول الله! إما أن تركب وإما أن أنزل. فقال: (لستَ بنازل ولستُ براكب. ثم قال له: لعلك لن تراني بعد اليوم)، فعند ذلك بكى معاذ رضي الله عنه، وعرف أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قرب أجله، فقال له: (لا تبك)، ثم أوصاه. ومعاذ رضي الله عنه من سادات الصحابة وكبرائهم وعلمائهم، وقد جاء في سنن النسائي وسنن الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (يا معاذ! إني أحبك)، فهو ممن يحبهم الرسول صلى الله عليه وسلم زيادة على غيرهم، وقال له في حديث آخر: (إني أحبك فلا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)، وجاء أنه صلوات الله وسلامه عليه قال: (يحشر معاذ أمام العلماء برتوة يوم القيامة). والرتوة: قيل: إنها المكان المرتفع فهو في مرتفع عليهم، وقيل: إنها رمية حجر، أي: يتقدم العلماء. ولهذا جاء أنه أعلم الأمة بالحلال والحرام، وثبت عن ابن مسعود أنه كان يقول: (إن معاذاً أمة قانت لله)، فقيل له: إن إبراهيم كان أمةً قانتاً فقال: (كنا نشبه معاذاً بإبراهيم)، وهو أنموذج من النماذج الكثيرة لصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم. فلما أرسله إلى اليمن بقي فيها حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم رجع في خلافة أبي بكر لما استخلف، ثم ذهب إلى الشام للقتال في سبيل الله، فمات في الشام في الوباء الذي حدث فيه والذي سمي (طاعون عمواس)، مات هو وولده عبد الرحمن، وكان ولده من أحب الناس إليه، ولما سارع بعض الناس ليفر قال: مالكم؟ أتفرون من قدر الله؟! هذه رحمة يرسلها الله جل وعلا على عباده يرحم بها من يشاء، ثم قال: اللهم اجعل لي من رحمتك نصيباً، اللهم اجعل لآل معاذ من رحمتك نصيباً. فأصيب ولده فمات، وكان ممن يلازمه ومن الذين يأخذون عنه العلم، ثم أصيب هو رضي الله عنه. ولما قربت وفاته صار يسأل من عنده ويقول له: انظر هل أصبحنا؟ فقال: لا، ثم سأله مرة أخرى، ثم سأله ثالثة، فقال: نعم، فقال: أجلسني. فأخذ بيده وأجلسه فرفع يديه إلى الله وقال: اللهم إني أعوذ بك من ليلة صبيحتها إلى النار، اللهم إنك تعلم أني أحبك، اللهم إنك تعلم أني لا أحب البقاء في الدنيا لحفر الأنهار ولا لغرس الأشجار، وإنما لظمأ الهواجر ومزاحمة العلماء بالركب). والمقصود أن بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن كان في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا بالاتفاق، غير أنهم اختلفوا فمنهم من قال: في السنة العاشرة. ومنهم من قال: في السنة التاسعة. كـ الواقدي، وكذلك ابن سعد، والصواب أنه في السنة العاشرة. ثم قوله: (إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب) المقصود بأهل الكتاب اليهود والنصارى، وهذا هو الذي تعورف عليه، وهم أهل كتاب، أي: أهل كتاب سماوي جاء من السماء، وإن كان وقع فيه من التحريف والتبديل، ولكن عندهم علم، وهذا يدلنا على أن دعوة العالم للذين عندهم علم لا تكون كدعوة الجهال الذين ليس عندهم علم، والسبب في هذا أن الذي عنده علم يكون عنده حجج وعنده شبه فيحتاج إلى المجادلة وإلى كشف الشبه عنه، ولهذا ذكر ذلك له ليتهيأ ويستعد. ومعلوم أن أهل الكتاب ليسوا كالوثنيين العرب الذين في اليمن، وإن كان أكثر من كان في اليمن هم من الوثنيين العرب، وأهل الكتاب أقل منهم، وسواء أكانوا يهوداً أم نصارى، والنصارى جاؤوا من الحبشة، واليهود قيل: إنهم ذهبوا من المدينة إلى اليمن وبقوا هناك وتكاثروا، ولا تزال بقاياهم إلى اليوم في اليمن. والمقصود أنه قال: (فليكن أولَ ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله)، وهذا يدلنا على أن الذي يجب على الداعية أن يصحح العقائد أولاً، فلا يذهب إلى الناس ويقول: صلوا وزكوا وحسنوا أخلاقكم واتصلوا بالله بالتهجد وغير ذلك وعقائدهم خاربة؛ لأن أي عمل يعملونه إذا كانت العقيدة ليست صحيحة فلن يفيد، بل العمل عمل فاسد، ومعلوم أن الذي يريد أن يبني بيتاً يبدأ أولاً بالأساس ويقويه ويجعله متيناً ثابتاً قابلاً لما يوضع عليه، فإذا كان الأساس غير صحيح فإنه ينهار البناء ويفسد، والذي ليس عنده عقيدة ليس عنده أساس، فبناؤه مثل الذي يبني على الماء، والبناء على الماء لا يثبت أبداً، ولهذا ذكر الله جل وعلا لنا هذا عن جميع الرسل، وأن كل رسول كان يقول لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]، فكان أول ما يقول لهم: (اعبدوا الله)، وخاتمهم صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين يقول: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولو الا إله إلا الله)، وقبل أن يؤمر بالقتال كان يقول لهم: (قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا) هكذا كان يقول لقريش، ويقول: (بعثني ربي بأن يعبد وحده ولا يشرك به شيء)، وكان يمشي بهذا على الناس في موسم الحج؛ لأن العرب وإن كانوا مشركين، فقد كانوا يأتون إلى الحج في الموسم، وكانوا قبائل كل قبيلة تكون في مكان منحازة عن القبيلة الأخرى، فكان يمشي على القبائل قبيلة قبيلة ويقول: (من رجل يأويني إلى قومه حتى أبلغ رسالة ربي -وفي رواية: كلام ربي-؟ وإذا سئل فقيل له: ما هي الرسالة يقول: جئت بأن يعبد الله وحده لا يشرك به شيء)، فهذا الذي يجب على الداعية أن يعتني به كثيراً، فهذا هو أول ما يبدأ به إقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم وامتثالاً لأمر الله جل وعلا في قوله {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]، فهذه هي دعوته صلوات الله وسلامه عليه. ثم إذا الإنسان ترسم هذا الطريق الذي رسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يسير عليه فإنه يكون على بصيرة من ذلك، بخلاف الذي يبتدع طرقاً ويأتي بها ويسميها (منهج الدعوة) أو ما أشبه ذلك، فإن هذا غالباًَ يكون غير مجد، وإذا نفع نفعاً ما فيكون نفعه في شيء معين. والمهم أن الداعية يجب أن يدعوا إلى التوحيد والإخلاص وترك الشرك، والأمور التي تقدح في عبادة الله جلا وعلا يبينها للناس ويوضحها وينهاهم عنها بالعلم والبيان الذي يُقتنع به، ولهذا قال: (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله)، وفي رواية يقول: (إلى أن يوحدوا الله -أو إلى أن يعبدوا الله-)، وهذا أراد به أن يبين فيه معنى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن تكون العبادة له وحده، وأن يجعل العمل لله وحده، ولا يكون العمل لأحد غيره. ثم بعد ذلك قال: (فإن هم أجابوك إلى ذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات)، فرتب دعوتهم لإقامة الصلاة وأداء فرض الله فيها على إجابتهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، فدل على أنهم إذا لم يستجيبوا إلى ذلك لا يدعون إلى الصلاة، وهكذا ما بعدها: (فإن هم أجابوك إلى ذلك) أي: إلى شهادة أن لا إله إلا الله. وقد عرفنا ما معنى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن معناها أن يعبد الله وحده، وأن يكون الإنسان متألهاً بقلبه وحبه وتعظيمه لله وحده، لا يحب حب الذل والخضوع والتعظيم إلا الله، ولا يتجه بالدعاء والرجاء والخوف والإنابة إلا إلى الله وحده، فهكذا جميع العبادة داخلة في هذه الكلمة (لا إله إلا الله).

شرح فتح المجيد [22]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [22] مدار الإسلام على النطق بالشهادتين، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وقد خص النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأركان الثلاثة بالذكر -كما في حديث معاذ رضي الله عنه- لأهميتها ومكانتها من الدين، فلا يكون الدين كاملاً إلا بها.

شرح حديث معاذ عند بعثته إلى اليمن

شرح حديث معاذ عند بعثته إلى اليمن يقول المصنف رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له: إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة ألا إله إلا الله -وفي رواية: إلى أن يوحدوا الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) أخرجاه. ].

مخاطبة الناس بما يناسب حالهم

مخاطبة الناس بما يناسب حالهم بعث معاذ رضي الله عنه كان في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وبعث معاذاً معلماً وداعياً ونائباً عنه في الحكم وإبلاغ الرسالة التي أرسل بها إلى أهل الأرض، وقال له: (إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب) يعني: في اليمن. ولا يعني ذلك أن أهل اليمن من أهل الكتاب كلهم، ولكن فيهم أهل الكتاب الذين هم اليهود والنصارى، وأكثرهم ليسوا منهم، بل هم أهل أوثان من العرب، يعبدون الأوثان، ولكنه نبهه إلى أن مخاطبة أهل الكتاب وكلامهم ليس كمخاطبة الجهال أهل الأوثان الذين ليس عندهم علم، فهؤلاء قد تكون عندهم شبه ومجادلات، فنبهه لذلك ليستعد لما عساهم أن يلقوه عليه من الشبه، أو يجادلوه في علوم قد يكون منها ما هو مأخوذ من كتب الله السابقة. هذا هو السر في قوله صلى الله عليه وسلم: (إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب) يعني: لتستعد لذلك، وتعد نفسك وتتهيأ، ويكون عندك ما تستطيع أن تجيبهم به. ثم إن هذا يدلنا أن مخاطبة الناس ليست سواء، وكل الإنسان يخاطب بما يناسبه، ولا يخاطبون خطاباً واحداً؛ لأن بعضهم قد يكون -مثلاً- عنده علوم وأفكار ليست عند الأخرين، والآخر لا يصل إلى هذا، ويخاطب هذا بما يناسبه وهذا بما يناسبه. ثم قال له: (فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة ألا إله إلا الله)، وهم أهل كتاب، ومعلوم أن أهل الكتاب الذين هم اليهود -خصوصاً- ما كانوا يعبدون أوثاناً، بل كانوا يعيبون على العرب ذلك، وكان يهود المدينة يقولون للعرب: آن وقت نبي سيبعث نتبعه ثم نقتلكم معه قتل عاد وإرم، لأنكم كفرة أصحاب أوثان. ولكن الله يمن على من يشاء، ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم آمن به أصحاب الأوثان وكفر به أصحاب العلم الذين يتوعدونهم، وذلك لأنهم ما كانوا يظنون أنه من العرب، فقد كانوا يظنون أنه يبعث منهم، فلما بعث من العرب حسدوه وأبغضوه، وتركوا الحق من أجل الحسد والبغضاء. وهذا يدلنا على أن العلم ليس كل شيء، فإن الإنسان قد يكون عالماً ويكون ضالاً على علم، إما لحسد وإما لمنافع معينة يريد أن يتحصل عليها من رئاسات أو أموال أو غير ذلك، وهذه معروفة، وعلل الناس التي يتعللون بها لكونهم لا يتبعون الحق إما لأنه يخالف أهواءهم، أو لأنه يمنعهم من شهواتهم، كما قال أحد النصارى لما قيل له: لماذا لا تسلم وتترك النصرانية لأنها ضلال، ولأن في دينك ما يلزمك باتباع محمد صلى الله عليه وسلم؟ فقال: كيف أسلم وأترك شرب الخمر وأنتم في دينكم تحريم الخمر؟ لا أستطيع. وقيل لنصراني آخر: لماذا لا تُسلم وتَسلم من عذاب جهنم وما يترتب على كفرك وبقائك على دينك الفاسد؟ فقال: أنا محتاج إلى الأموال، وأقاربي يعطونني الأموال، ولو أسلمت لمنعوني ذلك. وكذا علل الناس من هذا القبيل. ومنهم من يمنعه الملك، مثل ما منع هرقل ملك الروم لما جاءه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلم أنه الحق؛ لأنه تيقن وقال: والله لو أستطيع لأتيته ولغسلت نعليه ولحملتها، والله إن كان ما تقوله الحق -يقوله لصاحب الكتاب الذي جاء به- ليملكن ما تحت قدمي هاتين. وهو على سرير ملكه. يقسم ويحلف، ثم بعد ذلك أمر بمن عنده بأن يخرجوا، وأمر بالأبواب التي تصل إليه أن تغلق وتوصد، وأمر بقواده وكبرائه أن يوضعوا في مكان قريب منه ولكن لا يصلون إليه. فلما فعلوا ذلك قال: هل لكم في السعادة؟ هل لكم في الرشد والهدى؟ فقالوا: وما هو؟ قال: نتبع هذا النبي. فأسرعوا ذاهبين إلى الأبواب يريدون أن يقتلوه، فوجدوها موصدة، ثم قال: ردوهم عليّ، فلما ردوهم عليه قال: إنما قلت ما قلت لأختبر دينكم وصلابتكم فيه، وقد رضيت منكم بذلك ونحن على ديننا. أي أنه اختبرهم ليرى ماذا لو أسلم هل يبقى على ملكه ويتركونه أو لا يتركونه، فلما رأى أنهم لا يتركونه بقي على كفره معتاضاً به عن الإسلام. ومنهم من رضي باتباع العادات واتباع ما وجد عليه قومه وما وجد عليه أبناء جنسه، وهذا هو الذي منع كثيراً من المشركين، ومنهم عم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو طالب، فإنه لما دعاه قال: لولا أن أجر على أشياخي وكبرائي مسبة لاتبعتك وانقدت لقولك. والمسبة التي يزعمها هي أنه يحكم عليهم بالضلال؛ لأنهم كانوا يعبدون الأوثان. فالمقصود أنه ليس من كان عالماً يلزم أن يكون مهتدياً، بل كثيرٌ ممن يكون عالماً يكون ضالاً على علم، ولهذا يقول علماء التفسير في قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7] لما ذكروا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أن المغضوب عليهم اليهود، والضالين هم النصارى؛ لأن النصارى يتعبدون على جهل فضلوا، وأما اليهود فهم أهل عناد وتكبر وأهل علم قال العلماء: من ضل من علمائنا فهو شبيه باليهود، ومن ضل من عبادنا فهو شبيه بالنصارى.

قوله: (إنك تأتي قوما)

قوله: (إنك تأتي قوماً) قوله: (إنك تأتي قوماً من أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة ألا إله إلا الله) يعني: يبدأهم في الدعوة بأن يشهدوا ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. فهذا أول ما يبدأهم به، مع أنهم ما كانوا يعبدون الأوثان، ومع ذلك يدل هذا على أنهم يجب أن يشهدوا ألا إله إلا الله قبل كل شيء، وأنهم لا يصح دخولهم في الإسلام ولا يقبل منهم حتى يتشهدوا هذه الشهادة وينطقوا بها؛ لأن هذه الكلمة وضعت لكون الإنسان يتحقق أن العبادة لله وحده، وأنه يكفر بكل معبود سوى الله جل وعلا؛ لأن عبادة الله لا تستقيم إلا بالكفر بما يعبد من دونه، كما قال الله جل وعلا: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256]، والعروة الوثقى هي (لا إله إلا الله)، فإذا قالها الإنسان مؤمناً بها مصدقاً موقناً محباً لها قابلاً بها عاملاً بما تقتضيه فقد استمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، وهذا هو أصل الدين الذي جاءت به الرسل كلها من أولها إلى آخرها، فكل رسول يأتي بهذا إلى قومه ويدعوهم إليه أول شيء، ودين الرسل كلها هو دين الإسلام، كما قال الله جل وعلا: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، وذكر الله جل وعلا عن الرسل أن كل واحد منهم يقول: ((أسلمت لك)) يسلمون لله، ويأمرهم بالإسلام، فالإسلام معناه الاستسلام لله جل وعلا بالإنقياد والطاعة التامة والخضوع له. وهو مقتضى (لا إله إلا الله)، أن يكون القلب متحليّاً بالتأله لله جل وعلا وحده، والتأله هو عبادة القلب عبادة الحب والذل والتعظيم، كما سيأتي تقسيم المحبة، وأنها يجب أن تكون لله وحده؛ لأنها هي التألة، وهي محبة مشتركة بين الخلق كلهم.

معنى الشهادتين

معنى الشهادتين ثم يضاف إلى شهادة التوحيد ووجوب التشهد بها شهادة أن محمداً رسول الله. ومعناها: أنه رسول من عند الله جاء بالدين الذي يلزم كل إنسان قبوله والعمل به، وأنه ليس هناك طريق يسلك إلى الله جل وعلا إلا ما جاء به هذا الرسول صلى الله عليه وسلم، أما الطرق الأخرى سواءٌ أزعم أنها موروثة عن الأنبياء وأنها وحي أوحي به إليهم أم لا، كلها يجب مجانبتها وتركها، واتباع محمد صلوات الله وسلامه عليه الذي هو خاتم الرسل، كما قال صلى الله عليه وسلم: (والله لو كان أخي موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي) موسى عليه السلام كليم الله لو كان حياً موجوداً لاتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو خاتم الرسل الذي بعث للخلق كلهم. فمعنى شهادة أن محمداً رسول الله: العلم اليقيني بأنه رسول من الله جل وعلا، أوحى إليه شرعه، وأكرمه بذلك، وهو عبد يعبد الله جل وعلا، ليس له من الإلهية ولا من الربوبية شيء، وإنما قام بعبادة الله جل وعلا حسب أمر الله جل وعلا، وألا يُعبد الله جل وعلا إلا بما جاء به صلوات الله وسلامه عليه. هذا هو معنى: (أشهد أن محمداً رسول الله) رسول أوحي إليه بالشرع، كلف الناس بطاعته وتوقيره وتعظيمه واتباعه في ذلك، وألا نعبد الله جل وعلا إلا بما جاء به عن الله، وكل ما يقوله ويأمر به من الرسالة التي أرسل بها؛ لأن الله جل وعلا يقول: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:3 - 5] الذي هو جبريل عليه السلام هو الذي جاءه بالوحي. ثم هذا ليس خاصاً بأهل الكتب، فهذا يُدعى به الناس كلهم، ولكن هذا يدل على أنه لا يقبل من إنسان يريد الدخول في الإسلام حتى يتلفظ بهاتين الشهادتين، والتلفظ يلزم منه أن يعلم معناهما، فيعرف معنى الشهادتين، ويعلم أن التلفظ بغير معنى يتضمنه الكلام لا يفيد شيئاً، فيكون شبه هذيان، وشبه كلام النائم السكران الذي لا يعقل ما يقول. ومعلوم أن الكلام: اسم للفظ والمعنى، والكلام لا يكون في للفظ دون المعنى، ولا للمعنى دون اللفظ، وهذا هو الحق الذي دل عليه كتاب الله ولغة العرب، وكذلك إجماع أهل الحق على هذا، ولهذا لابد من معرفة هاتين الشهادتين حتى يكون الإنسان مسلماً حقاً، أما إذا نطق بهما وهو لا يعرف معناهما فيحكم له بالإسلام ظاهراً، وأما الباطن فإن كان لا يعرف معناهما ولا يعمل بهما فليس بمسلم، ولا بد من معرفة معناهما والعمل بهما، فإذا فعل ذلك وجب عليه قبول كلما جاء به الرسول، والالتزام بالصلاة والزكاة والصوم والحج وسائر الأوامر التي أوجبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك ينبغي اجتناب ما نهى عنه، فإن فعل ذلك فهو من المؤمنين المتقين السعداء في الدنيا والآخرة، وإن كان على ظاهره وترك بعضها، والتزم ببعضها فأمره إلى الله جل وعلا إن شاء آخذه وعذبه، وإن شاء عفا عنه، إلا أنه لا بد من شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقامة الصلاة. أما البقية التي هي أداء الزكاة وصوم رمضان والحج فالكلام فيها يختلف عن هذا؛ لأن الزكاة أمر يتعلق بذمة الإنسان وبماله الظاهر الذي يرى ويشاهد، أما المال الباطن الذي لا يعلمه إلا صاحبه فهذا إليه، إن كان عنده إيمان وتقى ومخافة من الله دفع زكاته، وإن لم يفعل ذلك فالله الذي يحاسبه، إلا أنه يجب على الإمام -إمام المسلمين- إذا كان ظاهر الإنسان الإسلام، وله أموال ظاهرةٌ فيجب عليه أن يأخذ الزكاة منه، فيضعها حيث أمر الله جل وعلا كما سيأتي، أما الأموال الباطنة فموكولة إلى إيمان الإنسان نفسه. وأما الصوم وهو ركن من أركان الإسلام كما هو معلوم فهو موكول إلى إيمان الإنسان وأمانته، إن كان عنده أمانة وإيمان صام، وإلا لم يفعل. فالصيام بين العبد وبين ربه جل وعلا؛ لأن الإنسان يمكن أن يظهر أمام الناس أنه صائم، وهو يأكل ويشرب ويفعل ما يريد، ويذهب إلى البيت أو إلى أي مكان ويفعل ما يشاء، ولا يراقبه إلا الله، ولهذا السبب لم يذكر الصوم في هذا الحديث، وفي بعض الأحاديث لم يذكر في الأركان. وأما الحج فالحج له أمر آخر، وهو أنه لا يجب على كل أحد، وإنما يجب على المستطيع القادر، وكذلك هو لا يجب في كل عام، وإنما يجب في العمر مرة، فإذا كان كذلك فليس كبقية الأركان. ولهذا السبب أيضاً لم يذكر الحج في هذا الحديث، وهذا هو الصحيح من أقوال العلماء في كون الصوم والحج لم يذكرا في هذا الحديث، وليس كما يقول بعضهم: إن بعض الرواة اختصر الحديث. لأن هذا طعن برواة الحديث، ولو قبل مثل هذا الطعن لأمكن لكل مبطل أن يقول: هذا الحديث مختصر، وهذا محذوف منه كذا ومزيد فيه كذا، وما أشبه ذلك. وإنما الرسول صلى الله عليه وسلم يذكر عندما يذكر أركان الإسلام فيقول: (بني الإسلام على خمس: شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً)، وكذلك إذا سئل عن الإسلام فإنه يذكر أركان الإسلام كاملة، وإذا ذكر الإيمان ذكر أركان الإيمان كاملة، أما إذا جاء الأمر ويترتب على الأمر القتال أو الحكم بالإسلام أو الضلال فإنه يذكر ذلك حسب ما يناسب المقام؛ لأن الخطاب بالصوم ليس لكل أحد، وهو أمانة بين العبد وبين ربه، فمثلاً الحائض لا يلزمها الصيام، وإنما تقضي أياماً بعدما يزول المانع، وكذلك المسافر لا يلزمه، وإنما يقضي أياماً بعد زوال المانع، وكذلك الكبير الذي لا يستطيع الصوم لا يلزمه، وإنما يفطر ويأكل ويطعم بدل كل يوم مسكيناً، وكذلك الحامل إذا خافت على ولدها فإنه لا يلزمها، فإنها تأكل ثم تطعم وتصوم، وكذلك المرضع، وهكذا. بخلاف الصلاة؛ فإن الإنسان ما دام فيه عقله وما دام قد كلف لا تسقط عنه الصلاة بحال من الأحوال، سواءٌ أكان صحيحاً أم مريضاً، وسواءٌ أكان يستطيع أن يجلس أم لا يستطيع الجلوس، يستطيع القيام أم لا يستطيع، فيجب عليه أن يصلي حسب حاله، ولا تسقط الصلاة بحال من الأحوال. وكذلك شهادة ألا إله إلا الله، شهادة التوحيد، وشهادة أن محمداً رسول الله ملازمة دائماً للقلب والعلم، وكذلك الاعتقاد، يعتقد ذلك، فتلازمه دائماً وأبداً لا تسقط بحال من الأحوال. وبهذا يتبين الفرق بين هذه التي يذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في سائر الأحاديث وبين الأركان التي قد لا يذكرها في بعض الأحاديث، وليس الأمر كما قيل: إن ذكرها وعدم ذكرها حسب تنزل الفرائض. ففي أول الأمر نزلت الصلاة، ثم بعد ذلك الزكاة، فصارت تذكر الصلاة ثم تذكر الزكاة، ثم بعد ذلك الصوم، وقد مر معنا أن الصوم فرض في السنة الثانية للهجرة، أي: فرض في المدينة، بخلاف الصلاة فإنها فرضت قديماً في مكة. وأما الحج فقد اختلف فيه كثيراً، وقد علم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحج إلا في السنة العاشرة السنة التي توفي فيها صلوات الله وسلامه عليه، وبهذا يتبين الفرق، ولكن ليس الأمر كما يقول هذا القائل: أنه حسب تنزل الفرائض، وإنما الصواب هو ما ذكرنا من الفرق أن الشهادتين والصلاة تلازم المسلم دائماً وأبداً، ولا تنفك عنه بحال من الأحوال ما دام عقله معه وما دام مكلفاً، بخلاف الصوم والحج فليس الأمر كذلك.

فرضية الصلاة

فرضية الصلاة ثم قوله صلوات الله وسلامه عليه: (فإن هم أطاعوك لذلك) يعني: استجابوا وقبلوا منك بأن شهدوا ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله: (فأعلمهم -مرتباً على ذلك- أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة)، وهذا دليل واضح على أنه لا يلزم المسلم إلا خمس صلوات في كل يوم وليلة، ولا يلزمه تحية المسجد ولا الرواتب التي قبل الظهر وبعدها، والتي بعد المغرب وقبل العشاء وبعدها، ولا الوتر ولا غير ذلك، وإنما هذه كلها سنن إذا أتى بها الإنسان فله الفضل والجزاء، له الفضل من الله يتفضل عليه بالإحسان بأن يجزيه على ذلك، وإن لم يأتِ بها فليس ظالماً وليس عاصياً بترك ذلك، إذا أتى بالصلوات الخمس فقط يكون قد أتى بما يلزمه. ولهذا ثبت في صحيح مسلم: (أن رجلاً أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فصار يتكلم وهو رجل كبير السن، يقول الصحابي-: نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول، حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يسأل عن فرائض الإسلام وشرائعه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تشهد ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ولا تشرك به شيئاً -وصار يمسك بأصابعه- ثم قال: أخبرني عن شرائع الإسلام؟ فقال: خمس صلوات في كل يوم وليلة. فأمسك بإصبعه فقال: هل علي غيرها شيء؟ قال: لا إلا أن تطوع -يعني: تأتي بشيء من عند نفسك تطوعاً-، ثم قال: تزكي المال -تؤدي الزكاة- فقال: هل علي غيرها؟ قال: لا. إلا أن تطوع. ثم قال: فماذا؟ فذكر الصوم -صوم شهر رمضان- فقال: هل علي غيره؟ قال: لا إلا أن تطوع. ثم قال: وماذا بعد ذلك؟ فقال: تحج البيت؟ فقال: وهل علي غيره؟ قال: لا إلا أن تطوع فأمسك بأصابعه وقال: والله لا أزيد عليها ولا أنقص منها شيئاً ثم ولى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن صدق دخل الجنة). وجاء في رواية: (من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا) أمسكها بأصابعه وقال: والله لا أزيد عليها شيئاً ولا أنقص عليها شيئاً. فإذا جاء الإنسان بهذه ولم ينقص منها شيئاً فهو من أهل الجنة. ولما قال معاذ رضي الله عنه: (يا رسول الله! دلني على عمل يدخلني الجنة؟ قال: لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه)، عظيم لأن دخول الجنة ليس سهلاً؛ ولأن الإنسان إذا دخل الجنة يبقى فيها ما دامت السموات والأرض منعماً، وملائكة الرحمن تدخل عليه من كل باب قائلة له: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:24]، وإلا صار في الدار الأخرى في جهنم. فقال له: (لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه، ثم قال: تعبد الله ولا تشرك به شيئاً -هذه واحدة- وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت)، فقط هذه الخمس التي دله عليها لما سأله عن عمل يدخله الجنة، وأخبره بهذه الأمور الخمسة، فالجنة مرتب دخولها على الإتيان بهذه الخمسة الأشياء: شهادة ألا إله إلا الله، وهي التي يقول فيها: (تعبد الله ولا تشرك به شيئاً)، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والحج مرةً واحدة في العمر، وما عدا ذلك فليس بلازم على الإنسان، إلا أن يلزم نفسه به، كالذي ينذر مثلاً، والنذر هو إلزام الإنسان لنفسه ما ليس بلازم له. فإذا كان الأمر هكذا فلا يلزم الإنسان إلا خمس صلوات في اليوم والليلة كما هو واضح، وقد علمنا أن بعث معاذ إلى اليمن كان في السنة العاشرة من الهجرة. في السنة التي توفي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد عُلم أن معاذاً رضي الله عنه لما ذهب إلى اليمن توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في اليمن، وما جاء إلى المدينة إلا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في خلافة أبي بكر الصديق.

الصلاة المفروضة خمس وما عداها سنة وتطوع

الصلاة المفروضة خمس وما عداها سنة وتطوع هذا متفق عليه بين أهل العلم، فدل هذا على أن هذا القول من رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر الأمر، فلا يتأتى على ذلك قول من يقول: إن فرضية الوتر وغيره صارت بعد قوله لـ معاذ. لا يتأتى هذا، وهذا يشكل عليه ما جاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الوتر حق على كل مسلم)، أو نحو ذلك، وقال (أوتروا -أهل القرآن- فإن الله وتر يحب الوتر) وقال في حديث يروى عنه صلى الله عليه وسلم: (لا تتركوا ركعتين قبل الفجر وإن طلبتكم الخيل)، وهذا الأمر قال كثير من العلماء: إنه يدل على الوجوب. والجواب أن هذا أمر دل على أنها سنة مؤكدة، وقد يعبر عن السنة المؤكدة بالوجوب، كما قال: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم)، وقد علم أنه ليس حتماً وفرضاً، وإنما هو سنة؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم فهموا هذا وعملوا به، فقد ثبت أن عثمان رضي الله عنه لم يغتسل يوم الجمعة، وجاء وعمر يخطب فأنكر عمر عليه، وقال: أنتم قوم يقتدى بكم فلماذا لا تتقدمون. فأخبره أنه كان في شغل، وأنه ما زاد على أن توضأ، فقال: وهذه. وجاء في صحيح مسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل)، فهذا أيضاً يدل على أن الغسل ليس بواجب، وهكذا الكلام في الوتر وفي ركعتي الفجر وغيرها مما جاء من الأحاديث، وكلها ترغيب في الصلوات. أما قول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} [المزمل:1 - 4]، وكذلك في آخر السورة، والعفو عن كونهم لا يقومون أكثر الليل، وكذلك قوله جل وعلا: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79] فهذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال: (نَافِلَةً لَكَ) يعني: ليست على أمتك. ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم في رمضان يصلي ويجتهد، وفي آخر عمره صلى التراويح جماعة ليلتين أو ثلاث، وفي اليوم الثالث امتلأ المسجد وذهب الناس إليه فلم يخرج عليهم، واليوم الرابع لم يخرج عليهم، حتى صاروا يتكلمون ويتنحنحون، وربما حصبوا الباب، ثم قال لهم بعد ذلك: (لقد علمت مجيئكم ومكانكم ولكني خشيت أن تفرض عليكم)، فدل هذا أنها ليست فرضاً، بل هي سنة، وهكذا صلاة الاستسقاء، وصلاة العيدين، وصلاة الكسوف، كلها ليست واجبة بنص هذا الحديث، وأنه لا يجب على المسلم إلا خمس صلوات في اليوم والليلة، فالكسوف، والعيدان والاستسقاء وصلوات التطوع كلها ليست واجبة، وإنما هي سنة إذا فعلها الإنسان أجر عليها، وإن لم يفعلها فليس عليه إثم، غير أنه ينبغي للإنسان أن لا يزهد في الخير، وينبغي عليه أن يرغب فيما عند الله؛ لأن الجنة درجاتها تقتسم بالأعمال الصالحة، ولا ينبغي للإنسان أن يرضى بالدون، وينبغي له أن يكون له نصيب من التطوع، من الذكر، ومن القراءة، ومن الصلاة، ومن الصوم، ومن الحج، وهكذا، هذا أمر. الأمر الثاني: أنه جاء في بعض الأحاديث أن الإنسان أول ما يحاسب عليه صلاته، فإن كانت كاملة فقد أفلح، وإن كانت ناقصة فإنه يقال: انظروا هل له من تطوع فتكمل به صلاته. إذاً كان الأمر هكذا، فينبغي للإنسان أن يكثر من التطوع، ولا سيما نحن، فلسنا كالصحابة ومن بعدهم من السلف، إذا قام أحدهم إلى الصلاة أصبح كأنه بين يدي الله جل وعلا يشاهده ويخاطبه، أما نحن فتجد الجسم في المسجد في الصفوف، والقلب تجده سارحاً في مكان آخر، يفكر في أمور أخرى، وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يكتب للإنسان من صلاته إلا ما عقل منها) الشيء الذي يعقله، فقد يكتب للإنسان كل صلاته، وقد يكتب له نصفها، وقد يكتب له ثلثها، وقد يكتب ربعها، وقد لا يكتب له إلا عشرها، وقد يخرج من الصلاة ما عقل منها شيئاً فتلف كما يلف الثوب الخلق فيضرب بها وجه صاحبها فتقول: (ضيعك الله كما ضيعتني). أما إذا أداها بخشوع وحضور قلب وطمأنينة فإنها تصعد ولها نور، وتقول: (حفظك الله كما حفظتني). فنحن في الواقع بحاجة إلى أن نرقع صلاتنا؛ لأنها مخرقة بل ممزقة صلواتنا تكون ممزقة، بكثرة التفكير في أمور الدنيا، وبكثرة كون القلب يسرح في أماكن أخرى، وربما إذا انتهى الإمام لا ندري ماذا قرأ، ولا ندري أي سورة وأي آية، وهذه مشكلة، وربما الإنسان لا يدري صلى ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً، فهو سارح، وإذا كان الأمر هكذا فنحن بحاجة إلى أن نكمل صلاتنا. وفضل من الله جل وعلا كونه يقبل منا أن تجبر الفريضة بالتطوع، فضل يتفضل به على من يشاء، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول فيما يروى عنه: (الصلاة خير موضوع، فازدد منها ما شئت)، ولهذا كان الصحابة رضوان الله عليهم يكثرون من الصلاة، مع ما ذكرنا من حضور قلوبهم في الصلاة وخشوعهم، حتى إن أحدهم يضرب بالرماح وتسيل الدماء منه وهو في صلاته لا يقطعها، ولما عوتب على ذلك قال: كنت في آيات كرهت أن أقطعها. أأقطع المعاني المترتب بعضها على بعض؟ ثم قال: (والله لولا أني خشيت أن يؤتى المسلمون من قبلي ما أيقظتك)، وهذا في رجلين جعلهما الرسول صلى الله عليه وسلم حارسين وهم في غزوة من الغزوات، فوكل الحراسة إلى رجلين، فقال أحدهما للآخر: كوننا نبقى مستيقظين ليس له فائدة، اختر إن شئت أن تنام أول الليل أو آخر الليل. فقال لصاحبه: أنام الآن وأقوم آخر الليل. فصار صاحبه يصلي وهو ينظر، فجاء أحد الأعداء فرأى شخصه فصوب إليه السهم فضربه فلم يتحرك، ثم صوب إليه السهم الثاني وضربه، فصارت الدماء تسيل، ثم الثالث، عند ذلك خاف أن يموت فأيقظ صاحبه، فلما استيقظ صاحبه قال: سبحان الله! ما الذي حملك على هذا؟ لماذا لم تيقظني من أول الأمر؟ فقال: والله لولا أني خشيت أن يؤتى المسلمون من قبلي ما أيقظتك؛ لأنني كنت في آيات كرهت أن أقطعها أي: قبل إكمالها. فالمقصود أن هذه حالتهم ولهذا: (كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر- أي: أصابه أمر شديد- فزع إلى الصلاة)، والله جل وعلا يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:153]. فالصلاة يستعان بها؛ لأنها صلة بين العبد وربه، إذا وقف الإنسان متجهاً إلى ربه ورفع يديه قائلاً: (الله أكبر) يجب أن يعلم ما يقول، وأنه ليس هناك شيء أكبر من الله، لا مال ولا أولاد، ولا مناصب، ولا منافع، ولا أي شيء في الكون، ويحب أن يقبل على الله ويشتغل بالله، ولا يلتفت بقلبه يميناً ولا شمالاً، وقد جاء في الحديث: (أن الله ينصب وجهه في وجه المصلي ما لم يلتفت، فإذا التفت أعرض الله عنه)، فأي مسلم يود أن الله يعرض عنه؟! وجاء في حديث آخر أن الإنسان إذا التفت في صلاته أعرض الله عنه، وقال: (أإلى خير مني) يعني: تلتفت إلى خير مني؟! تعالى الله وتقدس. والالتفات ينقسم إلى قسمين: التفات أصغر والتفات أكبر، فالالتفات الأصغر هو التفات البدن بالرقبة أو بالبدن، وقد علم من أقوال العلماء أن الالتفات عن القبلة بالجملة بالجسد كله يبطل الصلاة؛ لأن الله أمرنا بالتوجه إلى الكعبة فقال: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144]، وهذا يدل على الوجوب، فنستقبله دائماً في الصلاة، والالتفات هاهنا اختلاس من الشيطان، وكون الإنسان يلتفت برقبته أو ببدنه عن القبلة فهذا نقول: إنه التفات أصغر. أما الالتفات الأكبر فهو الالتفات بالقلب، وكون القلب يلتفت إلى غير الله ويسرح ويمرح ويشتغل بالأمور الأخرى. إذاً: فالصلاة من أعظم أركان الإسلام، ولهذا بدأ بها بعد الشهادتين، فقال: (فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة).

صلاة الجماعة

صلاة الجماعة وقد فرض الله الصلوات جماعة، فمن واجبات الصلاة كونها في الجماعة، وواجب على المسلمين أن يصلوها جماعة، كما قال عبد الله بن مسعود: (إن نبيكم سن سنن الهدى، وإن الجماعة من سنن الهدى، فلو تركتم الجماعة وصليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم)، ويقول في حديث آخر: (لقد رأيت أحدنا يؤتى به يهادى بين اثنين حتى يجلس في الصف) من شدة ما يحافظون على الجماعة، وجاء في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لقد هممت بالصلاة فتقام، ثم أخالف إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرّق عليهم بيوتهم بالنار)، وجاء في رواية أنه قال: (لولا ما في البيوت من الذرية والمتاع لحرقتها عليهم)، وهذا لا يكون إلا لترك واجب متعين، فالمقصود أن الصلاة جماعة من سنن الهدى التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوجبها على المسلمين، فعليهم أن يصلوها جماعة في المساجد. ثم إذا فاتت الإنسان الجماعة فعليه أن يحرص بأن يؤدي صلاته في جماعة، سواءٌ في المسجد الذي فاتته صلاة الجماعة إذا وجد من لم يصل جماعة، أم في غيره من المساجد إذا كان يستطيع أن يدرك جماعة ولو لم يكن معه من صلى فريضته، فقد جاء أن رجلاً دخل المسجد وقد صُليت الصلاة فأراد أن يصلي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يتصدق على هذا فيصلي معه) (يتصدق عليه) حتى تكون صلاته جماعه، ولما كان صلى الله عليه وسلم في مسجد الخيف يصلي وانتهت الصلاة رأى رجلين جالسين فقال: (علي بهما فجيء بهما ترتعد فرائصهما، فقال: ما منعكما أن تصليا معنا، ألستما بمسلمين؟ قالا: بلى -يا رسول الله- ولكننا صلينا في رحالنا -أي: صلينا مع جماعتنا في المكان الذين نحن نازلون فيه- فقال: لا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما إلى جماعة فصلوا معهم تكن لكم نافلة)، وهذا نوع من الإعادة. والمقصود أنه يجب على المسلمين أن يحافظوا على الصلاة، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لئلا يطالبهم الله جل وعلا لمخالفة خالفوها، ومن طالبه الله أدركه، ومن أدركه أخذه، ولن يفوت أحد من الخلق ربه جل وعلا، ولهذا يقول: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية:25 - 26]. (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ): أي: رجوعهم. سيكون رجوع الخلق كلهم إلى الله ثم يحاسبهم.

فرضية الزكاة

فرضية الزكاة فبعد ذلك يقول: (فإنهم أجابوك إلى ذلك)، يعني: أدوا الصلاة وأقاموها (فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم)، وهذا دليل على أن الزكاة لا تجب إلا على الأغنياء، وهذا نوع مما تفارق به الصلاة، فالصلاة تجب على الفقير والغني، وعلى المرأة والرجل، وعلى العبد الحر، وعلى كل بالغ، وعلى المريض والصحيح، تجب على كل مكلف حسب استطاعته، بخلاف الزكاة فإنها لا تجب إلا على الأغنياء، وفيه دليل على أن الزكاة تجب أيضاً في مال الصغير ومال المجنون؛ لأنه يدخل في عموم قوله: (صدقة تؤخذ من أغنيائهم)، وفيه دليل على جواز صرف الزكاة لنوع من أنواع الزكاة؛ لأنه قال: (فترد على فقرائهم)، وقد اختلف العلماء في هذا الضمير هل يراد به فقراء المسلمين أو فقراء أهل اليمن؟ فإن أريد به الأول جاز نقل الزكاة من بلد إلى آخر، وإن قيل: إنه يقصد بها ضمير القوم فلا يجوز نقل الزكاة، وهي مسألة خلافية بين العلماء، والصواب في هذا أنه إذا كان في نقلها مصلحة وفائدة وحاجة لمن تنقل إليه أعظم فإنها تنقل، أما إذا لم يكن ذلك فلا، بل تفرق في البلد التي أخذت منه. ثم فيه دليل على أن الزكاة تؤخذ من الأغنياء، ويأخذها الإمام أو عامله الذي يكل إليه ذلك. وقوله أيضاً (على أغنيائهم) استدل به بعض العلماء على أن من كان عليه دين، وعنده أموال ولكن الدين يستغرقه أنه ليس عليه الزكاة؛ لأنه ليس غنياً.

أخذ كرائم الأموال زكاة ظلم

أخذ كرائم الأموال زكاة ظلم ثم قال: (فإنهم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم) وكرائم المال أحاسنه وأطايبه، لأن الكرم معناه السعة والجمال والحسن والخير، ولهذا قالوا: كريمة الغنم أحسنها منظراً، وأكثرها صوفاً وأكثرها لبناً وأسمنها وأكبرها. فهذه كرائمها، وفيه دليل على أن الزكاة لا تجب في أطايب المال، كما أنه لا يجوز لصاحب المال أن يخرج الزكاة من أراذله وأسافله وأشراره. فلا يخرج التيوس، أو يخرج الجرباء، وكذلك إذا كان غير حيوانات، فلا يذهب يقصد الرديء من التمر أو الحب فيخرجه، وعليه أن يتقي الله، وكذلك العامل لا يجوز له أن يأخذ أحسن المال، فإن هذا ظلم، فإن فعل ذلك فإن صاحب المال يطالبه عند الله يوم القيامة لأنه ظلمه، ولكن لو أن صاحب المال جادت نفسه بأن يخرج أحسن الأموال فإنه يجوز أن يأخذها بعد أن يعلمه بأن هذا ليس واجباً عليه، ويقول له: ليس هذا بواجب عليك، الواجب عليك أن تخرج من أوسط المال لا من شراره ولا من خياره، وإنما تخرج من أوسطه، سواءٌ أكان المال من الحبوب أم التمور أم الحيوانات. والحيوانات معروفة، منها الإبل والغنم والبقر، والغنم تشمل الماعز والضأن، كما أن البقر يشمل الذكور والإناث، وعلى الإنسان أن يتقي ربه جل وعلا في ذلك فيخرج ما تبرأ به الذمة وتطيب نفسه به؛ لأنه فريضة من فرائض الله، يخرجه طيبة به نفسه يرجو ثواب الله ويخاف عقابه لو منعه وأمسكه؛ لأنه فريضة.

اتقاء دعوة المظلوم

اتقاء دعوة المظلوم ثم قوله: (واتق دعوة الظلوم) يعني: اجعل بينك وبين دعوة المظلوم وقاية. وقوله: (واتق دعوة المظلوم) بعد قوله: (وإياك وكرائم أموالهم) يدل على أن أخذ محاسن الأموال وكرائمه ظلم يخشى أن يدعو صاحب المال عليه فيصاب به. ومعنى: (اتق دعوة المظلوم) أي: امضِ على العدل الذي به تتقي أن تظلم فيترتب على الظلم الدعاء الذي يصدر من المظلوم. والظلم قد حرمه الله جل وعلا في جميع كتبه، وحرمه على نفسه، وجعله بين العباد محرماً.

أقسام الظلم

أقسام الظلم

الظلم بين العباد

الظلم بين العباد والظلم أقسام ثلاثة: قسم منه ظلم يكون بين العباد، وهذا كثير جداً، يقع في الأعراض والأموال والدماء، ويقع في غير ذلك، فهذا مبناه على التقصي وأن لا يُترك منه شيء؛ لأن الإنسان ضعيف ويريد حقه، ولكنه إذا وقف بين يدي الله فإنه يود لو يكون على والدته له حق فيأخذه أو على والده، أو يود الوالد أن يكون على ولده له حق فيأخذه، ولهذا يقول الله جل وعلا في كتابه: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس:34 - 36]. لماذا يفر منهم؟ خوفاً من المطالبة بالحقوق، ولأن الأمر عظيم، فكل واحد له شأن يغنيه، ويشتد الأمر شدة عظيمة، حيث يصبح الإنسان لا يهمه إلا نفسه وتخليصها، ولهذا جاء في الأثر: إن الرجل تأتي إليه والدته وتقول له: يا بني! ألم يكن بطني لك وعاء، وثديي لك سقاء، وحجري لك غطاء؟ ألم أكابد الشدائد وأسهر الليالي في مصالحك؟ فيقول: بلى. فتقول: أريد منك حسنة واحدة، فيقول: لا. نفسي نفسي. لا أحد ينفع أحد يوم القيامة: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار:19]. فهذا الظلم الذي يكون بين العباد بعضهم لبعض لا بد من أخذه واستقصائه، ولا يكون هذا إلا بالحسنات والسيئات فقط، فيؤخذ من حسنات الظالم فيعطى المظلوم حتى يستعفي وحتى يوفى حقه، فإن نفذت حسنات الظالم أخذ من سيئات المظلوم فطرحت على الظالم ثم طرح في النار. هذه هي الطريقة الوحيدة التي تؤخذ الحقوق فيها يوم القيامة. والحقوق كثيرة، منها: ظلم في المعاملات، فالإنسان قد يعامل ولا يسلم من المعاملة، فإذا أخفى عيب السلعة التي يبيعها فسوف يسأل عنها يوم القيامة ويطالبه الذي اشترى منه فيقول: أخفى علي العيب وظلمني، خذ لي يا رب حقي منه. وقد يكون في غير ذلك بالكلام واستطالة العرض، ويتكلم عليه، ويقول فيه ما ليس فيه، أو يقول فيه ما هو فيه وهو غائب فيذكره بما يكره، وهذا من أعظم الظلم، وهو كثير جداً، حتى -وللأسف- بين طلبة العلم يوجد هذا بكثرة، كل واحد يتكلم في الثاني في غيبته بالشيء الذي يسوؤه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الغيبة: (ذكرك أخاك بما يكره) فقال قائل: أرأيت إن كان فيه ما أقول؟ قال: (إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته)، والبهت هو أشد الظلم، فيرميه بالشيء الذي ليس فيه فهذا ظلم.

ظلم العبد لنفسه

ظلم العبد لنفسه ثم القسم الثاني من الظلم ظلم العبد لنفسه، وهذا هو أسهل أنواع الظلم، ما عدا ظلمه للعباد فإنه يخرج من هذا؛ لأنه أمر عظيم، بمعنى أنه لا يترك منه شيء، ولا بد من استقصائه، ولكن ظلم العبد لنفسه فيما بينه وبين ربه في تقصيره في أوامر الله، وفي ارتكابه لنواهي الله التي لا يتعلق بها أمر مخلوق من الناس، فهذا الظلم هو الذي يقول الله جل وعلا فيه: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فقد علق المغفرة بمشيئته، ما عدا الشرك وما عدا ظلم العباد بعضهم مع بعض، ولهذا نقول: هذا أسهل أنواع الظلم وأيسرها؛ لأن الله غفور رحيم، وبر كريم جل وعلا، إذا شاء أن يعفو عن ذنب عبده عفا ولا يبالي، وقد مر معنا في الحديث القدسي قوله جل وعلا في الحديث الذي يرويه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم: (يا ابن آدم! لو لقيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً للقيتك بقرابها مغفرة) يعني: بملئها أو ما يقارب ملئها مغفرة. فالله أوسع وأجود جل وعلا.

الشرك بالله

الشرك بالله القسم الثالث من أقسام الظلم الشرك، وهو من أعظم الظلم، وهو الذي أخبر جل وعلا أنه لا يغفره لمن مات عليه، فإذا سلم الإنسان من هذه الأقسام الثلاثة فهو الغانم السالم الذي يسبق إلى الجنة أول وهلة بلا عذاب، ولكن الغالب أن الناس لا يسلمون من نوع من هذه الأنواع. فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول لـ معاذ: (واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) يعني: اجعل واقياً يقيك منها. والواقي الذي يقي هو تقوى الله جل وعلا، كون الإنسان يتقي الله ويخافه ويراقبه، كلما أقدم على عمل صارت تقوى الله تمنعه أن يفعله إذا كان معصية، ويحول بينه وبين ذلك، فيكون واقياً له.

دعوة المظلوم مستجابة

دعوة المظلوم مستجابة وقوله: (فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) يعني: فإن الأمر والشأن أن دعوة المظلوم مستجابة. ومعنى (ليس بينها وبين الله حجاب) أنها تستجاب وأن الله يستجيبها، ويوقع في الظالم ما دعا على المظلوم. وهذا وإن كان مقيداً بقوله جل وعلا فيما أخبر بأنه يستجيب لمن يشاء فإنه خبر صدق عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد جرب ذلك لأكثر العالمين، أن المظلوم إذا دعا يصاب الظالم بالدعوة ولو كان المظلوم فاجراً، ولو كان فاجراً ففجوره على نفسه، ولكن الله جل وعلا لا يقر الظلم، ولهذا يقول العلماء: من عادة الله جل وعلا أن الله لا يترك ظالماً يتمادى في حياته وفي سعيه، حتى الدول، فالدول إذا صارت تظلم الشعوب وتظلم الناس فإن مدتها لن تطول، وسوف تزول، بخلاف الدول العادلة التي تعدل وإن كانت كافرة فإن مدتها قد تطول وإن كانت كافرة، وذلك أن الظلم لا يقره الله جل وعلا في حالة من الحالات، فقد حرمه على نفسه وجعله بين عباده محرماً، ومن أعظم الإجرام أن يتطاول متطاول بقوته وسلطته على ضعيف ليس له ناصر ولا حيلة له إلا أن يرفع يديه إلى السماء ويقول: يا رب يا رب. ولهذا لا يتركه الله جل وعلا، فمن فعل به ذلك لم يفلت الله جل وعلا الظالم. ثم هذا يدلنا على أن أخذ الزائد على الحق في الزكاة ونحوها يكون ظلماً؛ لأن هذا هو سبب ورود هذه الكلمة؛ لأنه قال: فإذا بذلوا لك ما طلبت منهم في الزكاة فإياك وكرائم أموالهم. والكرائم من المال عرفنا أنها أطايبه وأحاسنه، فأخذها زكاة ظلم يستحق عليه الآخذ الدعاء من المظلوم وقمن أن يستجاب له.

الاحتجاج بخبر الواحد

الاحتجاج بخبر الواحد ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يخص معاذاً في بعثه إلى اليمن، وقد علم أنه بعث معاذاً، وبعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وبعث أبا موسى الأشعري، كلهم بعثهم إلى اليمن وكلهم ملتهم واحدة، يدعون إلى الله ويبلغون عن رسوله صلى الله عليه وسلم، ويحكمون نيابة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكل واحد منهم جعله على مخلاف من مخاليف اليمن، والمخلاف كقولنا: مقاطعة. وكذلك كان صلوات الله وسلامه عليه يبعث الرسل ويبعث الدعاة الذين يبلغون عنه، وفي هذا دلالة واضحة أنه يجب على الأمة قبول خبر الواحد العدل، فإذا جاء بخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال له كذا، أو أنه سمعه يقول كذا، أو أنه أمر بكذا وجب قبول ذلك؛ لأن هؤلاء أفراد بعثهم إلى اليمن، كما كان صلوات الله وسلامه عليه يبعث إلى الرسل والملوك وإلى البلاد النائية، فقد بعث رسله إلى قيصر رسولاً، وبعث إلى المقوقس ملك مصر، وبعث إلى ملك الروم هرقل، وفي هذا كله يبعث رجلاً واحداً، وأحياناً قد يرسل اثنين، وكتبه كذلك، أعني كونه يكتب الكتاب ويرسله مع شخص، وإذا بلغ الإنسان كتابه أو رسوله وجب عليه قبول ذلك وقامت عليه الحجة، فالذين يقولون: إن أخبار الآحاد لا تفيد العلم ولا تقبل ضلاّل أهل بدع، أما أهل الحق وأهل السنة الذين اتبعوا الصحابة رضوان الله عليهم فلا إشكال عندهم في ذلك. والأدلة على هذا كثير جداً غير ما ذكرنا. منها: أنه لما نزلت الآيات التي فيها نسخ القبلة من الشام إلى الكعبة كانت أطراف المدينة بعيدة عن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فكان بنو عوف في قباء، فأتاهم آت وهم يصلون مستقبلين الشام، فقال: أشهد لقد أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم قرآن فأمر بالتوجه إلى الكعبة. فاستداروا وهم في الصلاة نحو الكعبة، وبقوا على صلاتهم السابقة، مما يدل على سرعة امتثال الصحابة رضوان الله عليهم وانقيادهم الكامل للأمر الذي يأتيهم بسرعة، وهذا ليس سهلاً، وانحرافهم وهم في الصلاة، وكذلك تغيير القبلة، وغير ذلك، أشياء كثيرة تدل على أن مثل هذا يجب قبوله وتقوم به الحجة.

العلة من تخصيص ذكر اليهود والنصارى

العلة من تخصيص ذكر اليهود والنصارى قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله صلى الله عليه وسلم: (إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب) قال القرطبي: يعني به اليهود والنصارى؛ لأنهم كانوا في اليمن أكثر من مشركي العرب أو أغلب، وإنما ينبه على هذا ليتهيأ لمناظرتهم]. والأمر في الواقع ليس كذلك، ولا أن أهل الكتاب في اليمن أكثر، بل أهل الأوثان من العرب أكثر من اليهود والنصارى، ولكن السبب في ذلك أن أهل الكتاب عندهم حجج وعلوم، وليسوا كعبّاد الأصنام العرب الجهلة، فأمره أن يستعد لمحاجتهم ولكشف الشبه التي ربما ألقوها عليه، وقد وقع لبعض الصحابة شيء من ذلك، فلما أرسله إلى نجران -ونجران فيها نصارى كما هو معروف- قالوا له: إنكم تقرأون في كتابكم في مريم: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم:28]، وبين مريم وهارون مئات السنين أو آلآف السنين، فكيف تقولون هذا؟ فما درى ماذا يقول، حتى رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فقال: (ألا أخبرتهم أنهم يتسمون بأسماء أنبيائهم) يعني أن هارون الذي ذكر أن مريم أخته ليس هو هارون أخو موسى، وإنما هو اسم على اسمه، يتسمون بأنبيائهم. فالمقصود أنهم يدلون بحجج وبشبهات، فيجب على الداعية الذي أرسل إليهم أن يكون عنده تسلح بالعلم وكشف الشبه التي قد يلقونها، وليس السبب أن اليهود والنصارى كانوا أغلب في اليمن، لا. وعند المؤرخين أن الأغلب والأكثر هم العرب، وهؤلاء دخلاء عليهم.

معنى العروة الوثقى

معنى العروة الوثقى وقال الشارح رحمه الله تعالى: [وقال الحافظ رحمه الله: هو كالتوطئة للوصية، ليجمع همته عليها. قوله: (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة ألا إله إلا الله) (شهادة) رفع على أنه اسم (يكن) مؤخر، و (أول) خبرها مقدم، ويجوز العكس. وقوله: وفي رواية: (إلى أن يوحدوا الله) هذه الرواية ثابتة في كتاب التوحيد من صحيح البخاري، وأشار المصنف بذكر هذه الرواية إلى التنبيه على معنى شهادة ألا إله إلا الله، فإن معناها توحيد الله تعالى بالعبادة ونفي عبادة ما سواه. وفي رواية: (فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله)، وذلك هو الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، كما قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا} [البقرة:256]، والعروة الوثقى هي (لا إله إلا الله)]. قوله: [العروة الوثقى هي: لا إله إلا الله] يعني: ما دلت عليه واقتضته. ومعلوم أنها تدل على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، أي: الإسلام كله، وليس المعنى أنه من قالها فقد استمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها ولو لم يعمل، فإن هذا لا يفيد، ولهذا سيأتي أن القتال لا يكف عمن قالها إذا لم يعمل بفرائض الإسلام وشرائعه، فلو قال: (لا إله إلا الله) وهو لا يصلي، ولا يؤدي الزكاة، ولا يصوم، ولا يمتثل ذلك، ولا يحج فإنه يقاتل حتى يمتثل أمر الإسلام، ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها). يعني: بحق (لا إله إلا الله)، وكل الإسلام حق لها، لأن معناها الانتقال من دين إلى دين آخر، أي: ترك الدين الذي يكون عليه الإنسان والدخول في دين الإسلام، وهذا ما كان يفهمه الكفار تماماً، ولهذا مر معنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما دخل على عمه أبي طالب وهو في مرض الموت قال له صلى الله عليه وسلم: (يا عم! قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج بها لك عند الله؟) فقال له جلساء السوء الكفار الذين عنده: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فهو يعلم أنه إذا قال هذه الكلمة خرج من ملتهم ودخل في ملة جديدة، وهي التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الذي يجعلها العروة الوثقى، كون الإنسان يترك جميع الكفر والشرك ويتباعد عنه ويقبل على عبادة الله وطاعته وامتثال ما جاء به، وهذا هو العروة الوثقى.

شروط (لا إله إلا الله)

شروط (لا إله إلا الله) قال الشارح رحمه الله تعالى: [وفي رواية للبخاري: فقال: (ادعهم إلى شهادة ألا إله إلا الله وأني رسول الله). قلت: لا بد في شهادة أن لا إله إلا الله من سبعة شروط، لا تنفع قائلها إلا باجتماعها: أحدها: العلم المنافي للجهل. الثاني: اليقين المنافي للشك. الثالث: القبول المنافي للرد. الرابع: الانقياد المنافي للترك. الخامس: الإخلاص المنافي للشرك. السادس: الصدق المنافي للكذب. السابع: المحبة المنافية لضدها]. هذه شروط لنفع (لا إله إلا الله)، ويكون قائلها ممن يسبق إلى الجنة. الأول: العلم. أن يعلم معناها فلا بد من ذلك. والثاني: اليقين. أي يتيقن من كون ما جاءت به وما اقتضته أنه حق، وهو دين الله الذي لا يجوز التردد والشك فيه. الثالث: الصدق الذي ينافي الكذب في قولها. فإذا قال لا إله إلا الله يكون صادقاً، وإلا لم يكن صادقاً بل كان منافقاً، ولا ينفعه قولها، فإن الله جل وعلا يقول: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1] يشهدون ومع شهادتهم وكونهم يقولون: (نشهد إنك لرسول الله) يقابلونه ويقولون: نشهد إنك لرسول الله، والله يعلم إنك لرسوله. وهذا نفي للشهادة، ولو قالوا بألسنتهم وشهدوا وتكلموا وقلوبهم فارغة من ذلك فهم كذبة. إذاً فلا بد من الصدق. والرابع: القبول المنافي للرد. كونه لا يرد شيئاً من الإسلام ولا يقبله. والخامس: الانقياد المنافي للترك. أن ينقاد ويستسلم لذلك، والانقياد معناه أنه يكون راغباً ذالاً لذلك، ولو قيل: إن حكم الله كذا وكذا فلا يتوقف فيه، ولا بد أن ينقاد له، فلا يكون مثل كثير من الناس إذا صار عليه حق من الحقوق وقيل له: نذهب إلى الشرع يقول: لا حتى تأتيني بجندي. فهذا ليس إنقياداً في الواقع؛ لأنه يدله إلى الشرع. والذي يدعى إلى الشرع يجب أن ينقاد، ولا يجوز أن يتوقف بحال من الأحوال، ولا يقول: ائتني بجندي. فالحق لله في هذا، وإذا كان غير صادق فيتبين بالحجج، وإنما أنت تدعى إلى حكم الله فلابد من الانقياد. السادس: المحبة المنافية للبغضاء. أن يحب هذه الكلمة وما دلت عليه، ويغتبط بذلك. والسابع: الإخلاص. أن يخلص في القول والعمل لله جل وعلا، فلا يريد بذلك غير ولا يقصد بعمله غير الله. ويضاف شرط ثامن لا بد منه، وهو الكفر بكل ما يعبد من دون الله، فلا بد أن يكفر بكل ما يخالفها، ولذلك يقول الله جل وعلا: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} [البقرة:256]، فيبدأ بالكفر بالطاغوت أولاً. [وفيه دليل على أن التوحيد الذي هو إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له وترك عبادة ما سواه هو أول واجب، ولهذا كان أول ما دعت إليه الرسل عليهم السلام: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]، وقال نوح عليه السلام: {أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [هود:26]، وفيه معنى لا إله إلا الله مطابقة]. أي: مطابقة {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:40]، فقوله (ألا تعبدوا) هو معنى (لا إله)، وقوله (إلا إياه) هو معنى (إلا الله) مطابق في المعنى، وهذا كثير في القرآن في دعوات الرسل كلهم، فكل رسول يقول لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]، فقوله: (اعبدوا الله) هو معنى (إلا الله)، وقوله: (ما لكم من إله غيره) هو معنى: (لا إله)، وهذا يرد في القرآن كثيراً، فدعوة الرسل واحدة من أولهم إلى آخرهم، وقول رسولنا صلى الله عليه وسلم للمشركين: (قولوا: لا إله إلا الله) هو معنى قول نوح: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]، هو معناه تماماً.

منزلة الشهادتين من الدين

منزلة الشهادتين من الدين قال الشارح رحمه الله تعالى: [قال شيخ الإسلام رحمه الله: وقد علم بالاضطرار من دين الرسول صلى الله عليه وسلم واتفقت عليه الأمة أن أصل الإسلام وأول الإسلام وأول ما يؤمر به الخلق شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فبذلك يصير الكافر مسلماً، والعدو ولياً، والمباح دمه وماله معصوم الدم والمال، ثم إن كان ذلك من قلبه فقد دخل في الإيمان، وإن قاله بلسانه دون قلبه فهو في ظاهر الإسلام دون باطن الإيمان]. أي: يكون منافقاً. والمنافق مسلم في الظاهر، بمعنى أنه تجري عليه أحكام الإسلام، ويعامل معاملة المسلم مع المسلمين من المناكحة والمعاملة وغيرها، وفي الباطن هو كافر أمره إلى الله جل وعلا، وإذا مات على نفاقه فهو في الدرك الأسفل من النار تحت الكفار، بل أشد عذاباً من الكفار، وذلك لأنه جعل مخافة الناس أشد من مخافة الله، وصار يفعل ويقول من أجل الناس لا يخاف الله، وأما في باطنه فهو يعتقد أن دين الإسلام باطل. ولهذا إذا خلا وحده أو انفرد مع أصحابه بدأ بالاستهزاء والتهكم والكفر والسخرية وعدم المبالاة، وكذلك التخطيط والمؤامرة في تدمير الإسلام والمسلمين. وهذا في الواقع من أضر الأمور على الإسلام والمسلمين، كونه يندس في صفوفهم من ليس على دينهم بل هو عدو لهم، وهو في الظاهر يظهر الموافقه، ولكنه في الباطن قد أبطن المنافقة والكفر، ولهذا لما ذكر الله جل وعلا أقسام الناس في أول سورة البقرة ذكر المؤمنين في أربع آيات، ثم ذكر الكافرين في آيتين، ثم ذكر المنافقين في بضع عشر آية، وذلك لشدة خطرهم، وكذلك لما ذكرهم في سورة المنافقين قال عنهم: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} [المنافقون:4] يعني: لهم مناظر جميلة وهيئة. {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون:4] يعني إنهم عندهم فصاحة وعندهم لسان. إذا قالوا قولاً أعجبك قولهم وسمعت له، ولكن داخلهم خبيث. وقوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:4] لماذا شبهوا بالخشب المسندة؟ لأن الخشبة إذا أسندت صارت حملاً على غيرها، ولا فائدة فيها أصلاً، ومادامت الخشبة في شجرتها فهي تتحمل وتقوم بنفسها، وقد تنفع بظلها وغير ذلك، أما إذا قطعت وصارت خشبة مسندة فإنها تصير عبئاً على غيرها، وهكذا المنافق عبء على غيره لا خير فيه، ومع ذلك ذكرهم بالخوف والهلع: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} [المنافقون:4]، فإذا سمعوا شيئاً من حولهم خافوا، ولهذا يبادرون إلى تخطيطاتهم وإلى تنفيذها خوفاً من أن يأتيهم الضرر. ثم قال: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون:4]، ثم بين جل وعلا أنهم لا يبالون بالأعمال الصالحة، ولا تهمهم ولا يلتفتون إليها: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ} [المنافقون:5] مستكبرين ومعرضين ومستهينين لا يبالون بذلك. فالمقصود أن الله جل وعلا بين أوصافهم هنا بياناً شافياً، وكذلك في سورة التوبة، ولهذا سماها الصحابة (الفاضحة) لأنها فضحت المنافقين حيث بينت أوصافهم، قالوا: لم يزل الله جلا وعلا يقول: ومنهم ومنهم ومنهم حتى تبين أمرهم جلياً. والحاجة شديدة إلى معرفتهم، فهم مندسون بين صفوفنا بكثرة، ويجب على المسلم أن يتنبه لهم، فإنهم في الواقع ضرر عظيم جداً، ولهذا السبب أكثر الله جل وعلا من أوصافهم وجلاها وبينها حتى يكون المسلم على بينة منهم.

كفر من لم ينطق بالشهادتين

كفر من لم ينطق بالشهادتين [وأما إذا لم يتكلم بها مع القدرة فهو كافر باتفاق المسلمين باطناً وظاهراً عند سلف الأمة وأئمتها وجماهير العلماء. اهـ]. يعني: إذا كان الإنسان يستطيع أن يقول: (لا إله إلا الله) ولم يقلها، وإن اعتقد في باطنه أن الإسلام هو الدين الحق، وإن أحب الإسلام في باطنه، ولكنه لم ينطق بهذه الكلمة وهو يستطيع فهو كافر ظاهراً وباطناً، وكذلك لو نطق بها، ولكن نطقه ليس عن علم، ولا عن يقين، ولا عن اقتناع بها، فإنه يكون منافقاً، ولا ينفعه ذلك في الآخرة، وإن منع ذلك عنه القتل، ولهذا لما غزا بعض الصحابة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة ولاقوا عدوهم وصار بينهم القتال، وكان من الكفار رجل لا يترك أحداً من المسلمين إلا وأخذه يقتله، يغير من هنا وهنا ويقتل، فتبعه رجلان من المسلمين واحد من الأنصار والآخر من المهاجرين وهو أسامة بن زيد بن حارثة، فلما أدركاه ورفعا عليه السيف قال: (لا إله إلا الله) عند ذلك كف عنه الأنصاري، ولكن أسامة ضربه فقتله، فلما بلغ ذلك رسول صلى الله عليه وسلم عظّم الأمر، فجاء أسامة يقول: (يا رسول الله! إنما قال هذه الكلمة تعوذاً من السيف) يعني قالها لأجل أن يمتنع من القتل فقط، وإلا فهو كافر، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (هلا شققت عن قلبه)، فلم يزل يكرر الأمر عليه ويعظمه حتى قال أسامة رضي الله عنه: (وددت لو أني لم أسلم قبل ذلك اليوم) يعني: مما سمع من قول الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: (كيف تصنع بـ (لا إله إلا الله) إذا جاءت يوم القيامة؟)؛ لأنه إذا تكلم الإنسان بشيء فأمره إلى الله، ولا يدري ذلك حتى الرسول صلى الله عليه وسلم ما يعلم الغيب إلا ما علمه الله إياه، ولهذا قال: (ما أمرت أن أشق عن قلوب الناس)، ولما قيل له عن فلان: إنه منافق. أو أنه ليس على ديننا. قال: (أليس يشهد ألا إله إلا الله؟ قالوا: بلى يشهد. ولا شهادة له. قال: أليس يصلي؟ قالوا: بلى يصلي ولا صلاة له. قال: أولئك الذين نهيت عن قتالهم) أي: إذا شهدوا وصلوا فقد جاء النهي عن قتالهم؛ لأن الله جل وعلا يقول: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5] يعني: لا تقاتلوهم، ويوكل أمرهم إلى الله، فإن كانوا صادقين صارت بواطنهم -نياتهم ومقاصدهم- مثل ظواهرهم، فهؤلاء هم المسلمون حقاً، وإن كان ظاهرهم الموافقة فقط وباطنهم مخالف لما أظهروه فهؤلاء هم المنافقون، وسوف يأخذهم الله جل وعلا ولا يتركون، فالأمر على الظاهر في أحكام الدنيا، وهي تجرى على الظاهر، وليس للإنسان إلا ما يظهر، إلا إذا تبين خلاف الظاهر بالأدلة فنعم، أما إذا لم يتبين فيوكل باطنه إلى الله، ويعمل بما أظهر، إذا أظهر أنه موافق مسلم قبل منه ذلك، وإذا كان إذا خلا وحده في بيته أو في غير بيته يبارز الله جل وعلا بالكفر والمعاصي فهذا معناه أنه أسلم من أجل الناس ومن أجل الدنيا فقط.

شرح فتح المجيد [23]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [23] بعث النبي عليه الصلاة والسلام معاذاً إلى اليمن داعياًً ومعلماً وقاضياً وجابياً، وأوصاه بوصايا عظيمة، وقد أخذ منها العلماء أحكاماً كثيرة وفوائد عديدة، فينبغي الحرص على فهم هذا الحديث والتفقه فيه.

بعض العلماء لا يعرف معنى لا إله إلا الله أو لا يعمل بما دلت عليه

بعض العلماء لا يعرف معنى لا إله إلا الله أو لا يعمل بما دلت عليه قال الشارح رحمه الله تعالى: [وفيه: أن الإنسان قد يكون عالماً وهو لا يعرف معنى (لا إله إلا الله)، أو يعرفه ولا يعمل به. قلت: فما أكثر هؤلاء لا كثرهم الله تعالى!]. هذه من المسائل التي أخذت من الحديث السابق؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بعد قوله: (إنك تأتي قوم أهل كتاب) قال: (ادعهم إلى شهادة ألا إله إلا الله)، وهذا معناه أنهم لا يعرفون شهادة ألا إله إلا الله وهم من أهل الكتاب وهم علماء، ولهذا يقول الشارح: [فما أكثر هؤلاء لا كثرهم الله]، وهو يشير إلى الذين يعبدون غير الله وهم يقولون: (لا إله إلا الله)، تجد أحدهم -مثلاً- يطوف بالقبر، ويستنجد بصاحبه، ويسأله كشف الكروب، ويسأله ربما غفران الذنوب، ويسأله إزالة الخطوب التي قد تقع، ويدعوه بما لا يقدر عليه إلا الله جل وعلا، وهو يقول: (لا إله إلا الله)! فهذه مناقضة تمام المناقضة؛ لأن معنى (لا إله إلا الله): إبطال كل دعوة لغير الله جل وعلا، ومعناها أن الدين كله لله، وقوله لهذه الكلمة يكون مثل المستهزئ الذي يستهزئ بهذا القول؛ لأنه يأتي بفعله ما يناقضها، والفعل أبلغ من القول بغير شك، فلهذا لا يقع أحد من المسلمين في الاستنجاد بالأموات وسؤالهم إلا وهو مناقض لهذه الشهادة تمام المناقضة مهما كانت، سواءٌ سموا الاستنجاد والدعوة توسلاً أو شفاعةً أو محبةً للصالحين، أو غير ذلك من الأسماء التي يزينون بها الشرك، وإلا فهي شرك صريح أعظم من شرك مشركي العرب الذين بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم بدرجات، وذلك أن مشركي العرب ما كانوا يدعون الأصنام والأشجار والأحجار عند الكربات، وما يدعونها لكشف الخطوب، وإذا وقع خطب فإنهم يقبلون على الله جل وعلا يدعونه وحده، كما قال الله جل وعلا محتجاً عليهم: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62] يعني أنهم يعتقدون أنه لا يكون ذلك إلا لله وحده، ويعلمون هذا تماماًَ. ولهذا احتج الله به عليهم، بخلاف هؤلاء الذين يدعون المقبورين ويتجهون إليهم، عندما يقعون في الشدائد يخلصون الدعاء لهم، وينسون الله جل وعلا، وهذا لم يقع للمشركين الأولين، بل شرك هؤلاء أعظم بكثير من شرك الأولين، هذا وهم يقولون: (لا إله إلا الله)، والسبب في هذا أنهم ما علموا معنى (لا إله إلا الله)، ولا علموا معنى العبادة، ولا علموا معنى التأله، لا يعرفون ما معنى الإله، ويظنون أن الإله هو الذي يخلق ويرزق وهو الذي يدبر الكون فقط، وليس هو الذي تألهه القلوب وتدعوه وترجوه وتخافه وتحبه، ما عرفوا هذا، فلكونهم جهلوا اللغة العربية التي جاء بها القرآن وجاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم وقعوا في المتناقضات، ووقعوا في الشرك فهذا هو السبب.

الصلاة أعظم واجب بعد الشهادتين

الصلاة أعظم واجب بعد الشهادتين قال الشارح: [وقوله صلى الله عليه وسلم: (فإن هم أطاعوك لذلك) أي: شهدوا وانقادوا لذلك: (فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات) فيه أن الصلاة أعظم واجب بعد الشهادتين. قال النووي ما معناه: إنه يدل على أن المطالبة بالفرائض في الدنيا لا تكون إلا بعد الإسلام، ولا يلزم من ذلك ألا يكونوا مخاطبين بها، ويزاد في عذابهم بسببها في الآخرة، والصحيح أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة المأمور به والمنهي عنه، وهذا قول الأكثرين. اهـ]. ما الفائدة بكونهم مخاطبين بفروع الشرع؟ ليس هناك فائدة إلا زيادة عذابهم فقط، ومعنى مخاطبتهم بها أنهم يعذبون على ترك الواجبات، ويعذبون على فعل المحرمات، هذا معنى المخاطبة، أي: أنه إذا فعل محرماً أو ترك واجباً يكون مرتكباً لجريمة، ويدل على هذا قوله جل وعلا في ذكر الكافرين عندما سئلوا وهم في النار: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر:42]؟ كان الجواب {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المدثر:43 - 46]، فذكروا أنهم ما يصلون، ولا يؤدون الزكاة، وكانوا لا يتركون محرماً إلا وفعلوه: {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} [المدثر:45]، فبين بهذا أنهم يعاقبون على ترك الصلاة وترك الزكاة وغيرها، وأن هذا هو الذي سلكهم في سقر، وإن كان الأصل في هذا هو الكفر وعدم الإيمان، هذا هو الأصل، ولكنهم يعذبون على البقية. أما كون الصلاة هي أعظم الواجبات بعد الإيمان بالله وشهادة ألا إله إلا الله فهذا تدل عليه أدلة كثيرة من الشرع، منها: أن الله جل وعلا قرن الصلاة بحقه في مواضع متعددة، كقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [الأنفال:2 - 3]، وقال في سورة المؤمنون: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1] إلى أن قال: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون:9]، بدأ الأعمال بالصلاة وختمها بالصلاة، وكذلك في سورة سأل: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج:19 - 23]، ثم ذكر أوصافهم وختمها بقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} [المعارج:24 - 35]، فهذا كله يدلنا على عظم الصلاة، حيث إنها تبدأ في ذكر الأعمال الصالحة ويختم بها ذكر الأعمال الصالحة.

كفر تارك الصلاة

كفر تارك الصلاة في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)، وهذا يدل على أن ترك الصلاة كفر، ولا فرق بين تركها كسلاً وتهاوناً أو تركها جحوداً وكفراً بها؛ لأن كل من جحد ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يكون كافراً، حتى سنية السواك، فإذا ثبت عند إنسان أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالسواك وجعله سنة، ثم جحد ذلك فإنه يكون كافراً وإن جحد سنة، فلا فرق بين الشيء الواجب والشيء المسنون في الجحود، وإنما الكلام في التهاون والكسل، فالصلاة إذا تركها تهاوناً بها وكسلاً وعدم مبالاة فإنه يكون خارجاً من الدين -نسأل الله العافية- وكثيرٌ من الناس يتهاونون بالصلاة وللأسف، وبعضهم قد يصلي إذا فرغ من شغله، وبعضهم لا يصلي ولا يبالي، فالذي لا يصلي ليس بمسلم، ولا يجوز أن تكون زوجته مسلمة، وإن كانت عنده زوجة مسلمة فيجب أن تؤخذ منه ويفرق بينه وبينها؛ لأنه ليس كفؤاً لها، ولا يجوز أن يكون الكافر زوجاً لمسلمة، كما أنه لا يجوز للمسلم أن يكون زوجاً لكافرة إلا ما استثني من أهل الكتاب.

تعظيم قدر الصلاة

تعظيم قدر الصلاة جاءت أحاديث كثيرة تدل على تعظيم الصلاة، منها قوله صلوات الله وسلامه عليه: (أول ما يحاسب عنه العبد الصلاة، فإن صلحت صلاة فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت لم ينظر في سائر عمله)، ومنها أنه صلاة الله وسلامه عليه كان في سياق الموت يوصي بها ويقول: (الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم)، والأحاديث في هذا كثيرةٌ جداً عن النبي صلى الله عليه وسلم في تعظيم الصلاة، فيجب على المسلمين أن يهتموا بها غاية الاهتمام، وألا يتهاون المسلم في شيء من صلواته؛ لأن الصلاة -كما جاء في الحديث- آخر ما يفقد من الدين، وإذا فقدت الصلاة فقد ذهب الدين كله، (أول ما يفقد من الدين الأمانة، وآخر ما يفقد الصلاة)، والأمانة ما كلٌ يستطيع القيام بها، وقد أخبر الله جل وعلا أن الأمانة عرضت على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان لأنه ظلوم جهول، لهذا السبب، وإذا اجتمع الظلم والجهل أصبح كل شر يحتمل أن يكون في شخص ظلوم جاهل لا يبالي ولا يقدر الأمور ولا ينظر في العواقب، فيجتمع عليه كل شيء، نسأل الله العافية. والمقصود أن الصلاة أمرها عظيم جداً، ومن ذلك ما جاء في الحديث أن الله يسأل الملائكة الذين وكلوا بحفظ أعمالنا في الليل والنهار؛ لأنه يتعاقب جماعة منهم علينا بالليل وجماعة منهم بالنهار، فيجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، فيصعد الذين باتوا ويبقى الذين يريدون أن يبقوا في النهار حتى تأتي صلاة العصر، فإذا صعدوا سألهم الله جل وعلا وهو أعلم: (كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون)، والمشكلة إذا كانوا نياماً أو يلعبون فما الجواب؟ هذه مشكلة، أتيناهم وهم يلعبون. أو تركناهم وهم يلعبون أو نائمون، وهذا في المصلين فقط، أما غيرهم فقد علم ماذا يكون مصيرهم عند الله جل وعلا. والمقصود أن هذا يدل أيضاً على تعظيم الصلاة، ولهذا أمر بإقامتها في آيات كثيرة، وكلما جاء ذكر الصلاة يقول جل وعلا: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [الأنفال:3]، {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الأنعام:72]، وما جاء في القرآن (صلوا) أو (أدوا الصلاة)، بل (أقيموا)، فالإقامة يقصد بها أن يؤتى بها تامة بشروطها وما يلزم لها، لا مجرد قيام كل إنسان فيها؛ لأن الصلاة صلة بين العبد وربه، وإذا دخل في الصلاة فقد دخل على الله جل وعلا، وإذا رفع يديه عند التكبير وقال: (الله أكبر) يقول العلماء: هذا عبارة عن رفع الحجاب بينه وبين ربه، فإنه يخاطب ربه جل وعلا، فليتأدب مع الله وليحضر قلبه؛ لأن الله ينظر إليه ويسمع كلامه، وهو قريب منه، ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)، فعلى الإنسان أن يهتم بصلاته.

مصارف الزكاة

مصارف الزكاة قال الشارح: [وقوله صلى الله عليه وسلم: (فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) فيه دليل على أن الزكاة أوجب الأركان بعد الصلوات، وأنها تؤخذ من الأغنياء وتصرف إلى الفقراء، وإنما خص النبي صلى الله عليه وسلم الفقراء لأن حقهم في الزكاة آكد من حق بقية الأصناف الثمانية]. من الأصناف الثمانية الفقراء والمساكين، والمساكين صنف آخر، وقد اختلف العلماء في الفرق بين الفقير والمسكين، فمنهم من يقول: إن المسكين أكثر حاجة. ومنهم من يقول: الفقير أكثر حاجة. والذين قالوا: إن المسكين أكثر حاجة يستدلون بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان، وإنما المسكين الذي لا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يسأل الناس) وهذا معناه أنه ما عنده شيء. واستدل الذين قالوا: إن الفقير أكثر حاجة بأن الله بدأ به، والله جل وعلا لا يبدأ إلا بما هو أهم، ولأنه جلا وعلا قال في سورة الكهف: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف:79]، فأخبر أنهم مساكين ولهم سفينة، فدل على أن المسكين يكون عنده مال. ولهذا قالوا: الفقير أشد حاجة. فعرفوه وقالوا: الفقير الذي لا يجد شيئاً، والمسكين الذي يجد نصف الكفاية. مثلاً نصف كفاية السنة، وأما الفقير فهو الذي لا يجد إلا أقل من ذلك. والعاملون هم الذين يعملون على الزكاة، فمن أرسلوا لجباية الزكاة وأخذها من أصحابها فإنهم يعطون أجر عملهم من الزكاة. وقوله: ((وفي سبيل الله)) يعني: في الجهاد. يشتري بالزكاة أسلحة، وكذلك يشري بها ما يحمل الناس، ويعطى منها الذين يجاهدون. وقوله: ((وابن السبيل)) يعني: المسافر الذي يترك بلده ويسافر وتنقطع نفقته أو تقل. فإنه يعطى من الزكاة وإن كان غنياً في بلده، فيعطى منها الشيء الذي يوصله. وقوله: ((والغارمين)) الغارم هو الذي يتحمل الأموال في سبيل الإصلاح وغير ذلك. والمؤلفة قلوبهم هم رؤساء الكفار، وهذا خاص بهم فقط، ولا يجوز إعطاء كافر من الزكاة إلا هؤلاء، فإذا كان للكفار رؤساء ولو أسلموا أسلم بهم ناس كثير فإنهم يعطون منها تأليفاً لهم وترغيباً لهم في الدخول في الإسلام. (وفي الرقاب): أي: يشترى الرقيق من مالكيهم ويعتقون من الزكاة. فهؤلاء هم أهل الزكاة.

من أحكام صرف الزكاة

من أحكام صرف الزكاة قال الشارح رحمه الله: [وفيه: أن الإمام هو الذي يتولى قبض الزكاة وصرفها إما بنفسه أو نائبه، فمن امتنع من أدائها إليه أخذت منه قهراً]. هذا يدل عليه حديث فيه أن الإمام من المسلمين هو الذي يأخذ الزكاة أو نائبه الذي ينيبه، ثم إذا أخذها فقد برئت ذمة صاحبها. [وفي الحديث دليل على أنه يكفي إخراج الزكاة في صنف واحد، كما هو مذهب مالك وأحمد. وفيه أنه لا يجوز دفعها إلى غني، ولا إلى كافر غير المؤلَّف، وأن الزكاة واجبة في مال الصبي والمجنون، كما هو قول الجمهور؛ لعموم الحديث]. الحديث يدل على أن الزكاة لا تجوز للغني، ولذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله جل وعلا هو الذي تولى قسمة الزكاة بين الأصناف الثمانية، فلا يجوز أن يتعدى المسلم بزكاته أحد هذه الأصناف. أما كونه يجوز أن يدفع الزكاة لصنف واحد منها فقد أخذ من قوله صلى الله عليه وسلم: (فأخبرهم أن الله جلا وعلا افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم)، والفقراء صنف واحد من أصناف الصدقة؛ فإن الله جل وعلا قال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:60] ثم عطف عليهم بقية الثمانية. وكونها لا تجوز لكافر فقوله: (تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم)، فالضمائر تعود على المسلمين، فالكافر لا تؤخذ منه الصدقة، وكذلك لا يعطاها، ولكن خص من ذلك الكافر الذي يتألف لدخوله في الإسلام، وليس كل كافر، وإنما الرؤساء الذين إذا أسلموا أسلم بإسلامهم أناس كثير؛ لأن الله جل وعلا يقول في الآية: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} [التوبة:60] يعني أنهم يعطون ولو كانوا كفاراً تأليفاً لهم وترغيباً لهم في الدخول في الإسلام. قال الشارح: [والفقير إذا أفرد في اللفظ تناول المسكين، وبالعكس كنظائره كما قرره شيخ الإسلام]. يعني أنه إذا قيل: (الفقير) دخل فيه المسكين، وإذا قيل: (المسكين) دخل فيه الفقير، أما إذا اقترنا كما في الآية: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:60] فكل واحد يفسر بنوع من أنواع الناس، ولا يكون هذا داخلاً في هذا، فيكون هذا مثل الإيمان والإسلام، فإذا جاء أحدهما دخل فيه الآخر، أي: إذا جاء مفرداً دخل فيه الآخر، كقوله جل وعلا: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] فهذا يدخل فيه الإيمان كله، أما إذا اجتمعا -كما في حديث جبريل- فإن لكل منهما معنىً، فإنه سأله عن الإسلام أولاً، ثم سأله عن الإيمان، ففسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، وفسر الإيمان بالأعمال الباطنة التي تكون في القلب، وهكذا الفقير والمسكين، وهذا له نظائر في لغة العرب.

حرمة أخذ كرائم أموال الناس عند قبض الزكاة

حرمة أخذ كرائم أموال الناس عند قبض الزكاة قال الشارح: [قوله: (وإياك وكرائم أموالهم) بنصب (كرائم) على التحذير، جمع كريمة، قال صاحب المطالع: هي الجامعة للكمال الممكن في حقها من غزارة لبن، وجمال صورة، وكثرة لحم وصوف، ذكره النووي. قلت: وهي خيار المال وأنفسه وأكثره ثمناً]. الكرائم لا يجوز أن تؤخذ في الزكاة؛ فإنه ظلم، وإنما المتعين أن يؤخذ من الوسط، لا يؤخذ من نفائس الأموال وخياره، ولا من شراره وأردئه، وهذا يكون في الأموال إذا كانت حبوباً أو ثماراً أو كانت ماشية، أما إذا كانت من الذهب والفضة أو ما يقوم مقامهما فهذا غالباً لا يكون فيه تفاوت. قال الشارح: [وفيه: أنه يحرم على العامل في الزكاة أخذ كرائم المال، ويحرم على صاحب المال إخراج شرار المال، بل يخرج الوسط، فإن طابت نفسه بالكريمة جاز.

التحذير من الظلم

التحذير من الظلم قوله: (واتق دعوة المظلوم) أي: اجعل بينك وبينها وقاية بالعدل وترك الظلم. وهذان الأمران يقيان من رُزِقَهُما من جميع الشرور دنيا وأخرى. وفيه تنبيه على التحذير من جميع أنواع الظلم. قوله: (فإنه -أي: الشأن- ليس بينها وبين الله حجاب) هذه الجملة مفسرة لضمير الشأن، أي: فإنها لا تحجب عن الله فيقبلها. وفي الحديث أيضاً قبول خبر الواحد العدل، ووجوب العمل به، وبعث الإمام العمال لجباية الزكاة، وأنه يعظ عماله وولاته، ويأمر بتقوى الله تعالى، ويعلمهم، وينهاهم عن الظلم ويعرفهم بسوء عاقبته، والتنبيه على التعليم بالتدرج، قاله المصنف. قلت: ويبدأ بالأهم فالأهم]. قوله: (واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) فسر عدم الحجاب بأنها تقبل، فالمظلوم إذا دعا أجابه الله جل وعلا. والتقوى المقصود بها مخافة الله وإقامة العدل، فإذا كان الإنسان يخاف ربه جل وعلا فإنه يفعل المأمور ويترك المحذور، فمن رزق ذلك فإنه يكون عنده وقاية تقيه من عذاب الله جل وعلا. ومن أسباب العذاب العاجل -وليس الآجل- الظلم، والظلم أنواع: قد يكون بأخذ الأموال، وقد يكون بالاستطالة في الأعراض، وقد يكون بالاحتقار والازدراء، أي أنه قد يكون بالفعل وقد يكون بالقول، وقد يكون بغير ذلك، فالواجب على العبد أن يتقي ربه، وألا يرى نفسه فوق الناس وأحسن من الناس، فإنه إذا رأى نفسه بهذه الصورة فإنه يزدري كثيراً من الناس ويظلمهم، سواءٌ بالفعل أو بالقول، ومعلوم أنه ليس كل أحد يستطيع الظلم بالفعل، وإنما يستطيع ذلك من كان بيده شيء من أمور المسلمين العامة، ولو لم يكن الأمر له فيه استقلال، فإنه إذا كان بهذه المثابة استطاع أن يظلم، فيظلم نفسه أولاً بعدم أداء الواجب، ثم يظلم عباد الله لعدم قضاء الأمور التي أنيطت به، والسبب في هذا عدم مخافة الله جل وعلا، ثم كونه لا يتقي أسباب العذاب الذي سوف يكون عاجلاً. وقد يقول قائل: إننا نرى كثيراً من الناس يظلمون وما رأينا عذاباً عاجلاً يصيبهم! ف A جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله ليملي الظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) يملي له ليزداد عذابه، ما يملي له لأنه ترك معاقبته، بل ليزداد عذاباً، ولكن لو رجع وتاب إلى الله فإن الله تواب رحيم جل وعلا، ولهذا ذكر في كتابه المشركين ثم عرض عليهم التوبة فقال: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ} [المائدة:74]، يقول لهم هكذا: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ} بعدما ذكر طغيانهم مما يدل على كرمه وجوده جل وعلا. فالمقصود أن الظلم سبب عاجل للعذاب، وإذا وقع الظالم في شدة لم يفلت منها، فيأخذه الله جل وعلا أخذاً قريباً جداً، ومهما امتد به العمر أو فسح له في الأجل فهو قريب، وإذا أخذه لم يفلته، فأخذ الله أليم شديد جل وعلا.

معنى قوله: (ليس بينها وبين الله حجاب)

معنى قوله: (ليس بينها وبين الله حجاب) فسر قوله صلى الله عليه وسلم: (فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) بأنها تستجاب، وهذا مقتضى سياق الحديث؛ لأنه لما قال: (اتق دعوة المظلوم) أردفه بقوله: (فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)، وتقوى دعوة المظلوم. بأن يجتنب الظلم ويتقي الله جل وعلا، وليس معنى ذلك إبطال الحُجُب لله جل وعلا، فقد ثبت أن لله حُجُباً يحتجب بها عن خلقه، وهي مما يجب الإيمان به، ففي صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات، فقال: إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)، وقد سأل أبو ذر رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم لما عرج به إلى السماء فقال له: هل رأيت ربك؟ فقال: (نور أنى أراه؟)، وفي رواية: (رأيت نوراً) يعني أنه رأى الحجب التي أخبر عنها بقوله: (حجابه النور)، والله جل وعلا لا أحد يراه في الدنيا، فقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن الدجال الكذاب الأكبر الذي سيخرج ويزعم أنه رب الناس، ثم قال صلوات الله وسلامه عليه: (واعلموا أن أحداًَ منكم لن يرى ربه حتى يموت)؛ لأن تركيب الخلق كلهم في هذه الحياة الدنيا تركيب ضعيف، ما يستطيع أحد أن يقوم برؤية الله جل وعلا، فإنه لو كشف الحجاب لأحرق نور وجهه وبهائه وجماله كل الخلق، كما قال: (لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره)، وسبحات وجهه أي: بهاؤه وجماله جل وعلا. فالحجب ثابتة كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي حجب حقيقية يجب الإيمان بأن الله جل وعلا احتجب بها عن خلقه.

رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة

رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة في يوم القيامة يكشف الله هذه الحجب، فينظر إليه عباده المتقون الأبرار فيرونه، يرون وجهه جل وعلا، وهو أعلى نعيمٍ في الجنة، وقد جاء هذا متواتراً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء في القرآن، يقول جل وعلا: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] ثبت في صحيح مسلم من حديث صهيب أن الرسول صلى الله عليه وسلم فسر الحسنى بالجنة، والزيادة بالنظر إلى وجه الله جل وعلا، ويقول جل وعلا: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]، فهؤلاء المحجوبون عن الله هم الكفرة والفجرة، فإذا حجب الفجرة والكفرة فإن المؤمنين والمتقين يرون ربهم ولا يحجبون عنه. ويقول جل وعلا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23] فـ (ناضرة): بهية جميلة، ظهر بهاؤها ونعيمها. فهي ناضرة من (النضرة)، (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) من النظر، فهي تنظر إلى الله جل وعلا، فهذا أعلى نعيم لأهل الجنة. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة أن الصحابة سألوه فقالوا: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: (هل تضامون في القمر ليلة البدر -يعني: ليلة أربع عشرة- ليس بينكم وبينه حجاب؟ قالوا: لا. قال: فإنكم ترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر)، فهذا كلام واضح جلي، ولو تكلف أحد من الناس أن يأتي بكلام أبلغ من هذا وأوضح منه وأفصح منه ما استطاع، فالذي ينكر الرؤية بعد هذا قد ضل.

خطر مخالفة أمر النبي عليه الصلاة والسلام

خطر مخالفة أمر النبي عليه الصلاة والسلام من ترك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على خطر عظيم، بل يجوز أن يكون في جهنم، فقد جاء ما يؤيد هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء في قصة فتح خيبر قضيتان كلاهما تؤيد هذا: الأولى: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما خرج من المدينة قال لمن معه: (من كان معه بعير ضعيف أو صعب فليرجع) يعني: من كان معه بعير ضعيف أو صعب لا يستطيع أن يتحكم به فليرجع. فأبى رجل كان معه بعير صعب أن يرجع، فشرد به فسقط فاندق عنقه، فجيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه فقال: (ماله؟ قالوا: كان على بعيرٍ صعب. فقال لـ بلال: ألم آمرك أن تؤذن في الناس: من كان معه بعير ضعيف أو صعب فليرجع؟ فقال: بلى. أذنت فيهم. فقال: لا أصلي عليه. ثم قال: لا يدخل الجنة من عصى رسول الله صلى الله عليه وسلم). الثانية: لما حضر القتال مع اليهود في خيبر صف أصحابه وقال: (لا يقاتلن أحد منكم حتى آمره)، فخرج يهودي ليبارز فانتدب له واحدٌ من المسلمين فقتله اليهودي، فقالوا: شهيد. فجاؤوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال (هل قتل بعد ما قلت: لا يقاتلن أحد؟ قالوا: نعم. قال: لا يدخل الجنة من عصى رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فكيف إذا جاء أمر صريح واضح جلي وخالفه مسلم؟! فإنه على خطر عظيم، فالأمر ليس سهلاً، وكثير من الناس يتساهل في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والواجب على المسلم أن يعظّم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من أمر أي أحد من الخلق، وأن يمتثل أمره ويجتنب نهيه، وإلا فهو على خطر عظيم، فكيف بالذي يخالفه صراحة وعناداً لأجل أن مذهبه لا يتبنى هذا القول فقط؟ فمعنى ذلك أنه قدم إمامه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن كان كذلك يجوز أن يذهب به يوم القيامة إلى جهنم ويقال له: اتبع ما كنت تعظمه. ففي يوم القيامة كل من كان يتولى شيئاً يؤتى به فيساقان معاً إلى جهنم. قوله في هذا الحديث: (إنه ليس بينها وبين الله حجاب) معناه: إن الله قريبٌ سميعٌ، إذا دعاه المظلوم استجاب دعوته. وأوقع في الظالم هذه الدعوة التي صدرت من المظلوم. وهذا يدلنا على أن الظلم وإن كان قليلاً فإن الله يستجيب للمظلوم؛ لأن كون الساعي الذي أُمر بأخذ الصدقة يأخذ شاة حسنة جميلة وقد أمر أن يأخذ شيئاً متوسطاً، فهذا أظلم والفرق ليس كثير، فيمكن أن الفرق شاة فقط؛ لأن بعض الشياه تساوي اثنتين، فكون مثل هذا ظلم، مع أنه لا يأخذها لنفسه وإنما يأخذها للفقراء، ومع ذلك يكون ظالماً يستحق أن الله يستجيب لمن أُخذ منه ذلك ويوقع به عقابه، فكيف بالذي يظلم الناس ظلماً صريحاً ليس له فيه شبهة؟ فهذا أحق بأن يعاقب، وأحق بأن يُجاب للمظلوم عليه، وهذا في الواقع محاربة لله جل وعلا، ومن يحارب الله فإن الله يغلبه تعالى الله وتقدس.

سبب عدم ذكر الصوم والحج في حديث معاذ

سبب عدم ذكر الصوم والحج في حديث معاذ قال الشارح: [واعلم أنه لم يذكر في الحديث الصوم والحج، فأشكل ذلك على كثير من العلماء، قال شيخ الإسلام رحمه الله: أجاب بعض الناس أن بعض الرواة اختصر الحديث، وليس كذلك؛ فإن هذا طعن في الرواة؛ لأن ذلك إنما يقع في الحديث الواحد، مثل حديث وفد عبد القيس، حيث ذكر بعضهم الصيام وبعضهم لم يذكره، فأما الحديثان المنفصلان فليس الأمر فيهما كذلك. ولكن عن هذا جوابان: أحدهما: أن ذلك بحسب نزول الفرائض، وأول ما فرض الله تعالى الشهادتين، ثم الصلاة، فإنه أمر بالصلاة في أول أوقات الوحي، ولهذا لم يذكر وجوب الحج كعامة الأحاديث، إنما جاء في الأحاديث المتأخرة. الجواب الثاني: أنه كان يذكر في كل مقام ما يناسبه، فيذكر تارة الفرائض التي يقاتل عليها كالصلاة والزكاة، ويذكر تارة الصلاة والصيام لمن لم يكن عليه زكاة، ويذكر تارة الصلاة والزكاة والصوم، فإما أن يكون قبل فرض الحج، وإما أن يكون المخاطب بذلك لا حج عليه. وأما الصلاة والزكاة فلهما شأن ليس لسائر الفرائض، ولهذا ذكر الله تعالى في كتابه القتال عليهما؛ لأنهما عبادتان ظاهرتان، بخلاف الصوم فإنه أمر باطن من جنس الوضوء والاغتسال من الجنابة ونحو ذلك مما يؤتمن عليه العبد، فإن الإنسان يمكنه ألا ينوي الصوم وأن يأكل سراً، كما يمكنه أن يكتم حدثه وجنابته، وهو صلى الله عليه وسلم يذاكر الأعمال الظاهرة التي يقاتل الناس عليها. ويصيرون مسلمين بفعلها]. لا يصلح أن يقال: (يذاكر)؛ فالرسول لا يذاكر أحداً، والمعنى: يذكر لهم الأعمال التي يقاتل عليها. قال الشارح رحمه الله: [فلهذا علق ذلك بالصلاة والزكاة دون الصوم وإن كان واجباً، كما في آيتي براءة نزلت بعد فرض الصيام باتفاق الناس، وكذلك لما بعث معاذاً إلى اليمن لم يذكر في حديثه الصوم؛ لأنه تبع وهو باطن، ولا ذكر الحج؛ لأن وجوبه خاص ليس بعام، ولا يجب في العمر إلا مرة. انتهى بمعناه. وقوله: (أخرجاه) أي: البخاري ومسلم، وأخرجه أيضاً أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه].

شرح فتح المجيد [24]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [24] لقد أثنى الله جل وعلا على الصحابة في كتابه ثناء كثيراً، وشهد لهم بأنهم مؤمنون متقون سابقون، وأخبر أنه رضي عنهم وأنهم رضوا عنه، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من المناسبات التحذير من بغض أصحابه وسبهم وتنقصهم، وبين أن الذين يبغضون الصحابة هم في الأصل يبغضونه صلى الله عليه وسلم ويبغضون ما جاء به من عند الله تعالى.

حديث: (لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله)

حديث: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله) قال المصنف رحمه الله: [ولهما عن سهل بن سعد رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه، فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها. فقال صلى الله عليه وسلم: أين علي بن أبي طالب؟ فقيل: هو يشتكي عينيه. فأرسلوا إليه، فأتي به فبصق في عينيه ودعا له، فبرأ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية فقال: انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) (يدوكون) أي: يخوضون]. هذا الحديث كسابقه في الصحيحين. قوله: (لهما) أي: للبخاري ومسلم عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه، فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها، فلما أصبحوا غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل واحد منهم يرجو أن يعطاها، فقال: أين علي بن أبي طالب؟ فقالوا: هو يشتكي عينيه -أي أرمد- فأرسل إليه فأتي به يقاد، فبصق في عينيه فبرأ، ثم دفع إليه الراية وقال: انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)، وفسر المؤلف (يدوكون) بـ (يخوضون). غزوة خيبر وقعت في أول السنة السابعة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ذهب لعمرة الحديبية في السنة السادسة في ذي القعدة ورجع في ذي الحجة، فحال المشركون بينه وبين دخول مكة أنفة وحمية، وقد ساق الرسول صلى الله عليه وسلم إبلاً كثيرة يريد أن ينحرها عند البيت هدياً، فأبوا أن يدخل مكة، فحصل صلح بينه وبينهم بأن توضع الحرب بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش عشر سنوات، فحصلت مهادنة وكتبوا الصلح، وفي هذا الكتاب: من أراد أن يدخل في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده دخل -أي: من قبائل العرب- ومن أراد أن يدخل في عقد قريش وعهدها دخل. فدخل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض القبائل القريبة من مكة، وهم خزاعة، وبعضها دخل مع قريش وهم بنو بكر، ثم بعد انقضاء كتابة الصلح ورجوعه إلى المدينة أنزل الله عليه: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1] إلخ السورة، وفيها وعد الله جل وعلا للمسلمين بغنائم يأخذونها، وأنه عجل لهم هذه -لغنائم أشار إليها- فأخبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأن هذه الغنائم هي غنائم خيبر، وأنها قريبة، وأمره الله جل وعلا ألا يخرج معه إلا من حضر الحديبية، ولهذا لما خرج من المدينة أبى على الأعراب الذين جاؤوا يستأذنونه للخروج معه لأمر الله جل وعلا، يقول ابن إسحاق: فبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة بقية ذي الحجة عشرين يوماً وأول المحرم، ثم خرج إلى خيبر، وكانت حالتهم ضعيفة، حتى إن بعض اليهود الموجودين في المدينة لما علموا بذلك صاروا يتعلقون بكل من لهم عليه دين حتى لا يخرج، وحصلت أشياء من هذا القبيل ذكرت في الأحاديث والسير، وكل ذلك ليمنعوا من يستطيعون خروجه إلى أصحابهم. وكان اليهود بالعكس عندهم قوة واستعداد، وقد كانوا يتدربون لما سمعوا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم سيغزوهم، فصاروا كل يوم يخرجون ألفاً منهم يتدربون على القتال والسلاح الذي معهم، وكانوا يرون أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يستطيع لهم لكثرتهم؛ لأنهم يبلغون أضعاف أهل المدينة، وهم أقوياء، ولهم أيضاً حلفاء وهم غطفان. فوصل الرسول صلى الله عليه وسلم قرب خيبر بعد العصر، فأمر بالأزواد أن يؤتى بها فلم يوجد إلا السويق، فجئ بالسويق فعجن بالماء فأكل من أكل، وكان عندهم عوز شديد، ثم قال للأدلاء: من الذي يذهب بنا فنأتي خيبر من جهة الشام حتى نحول بينهم وبين حلفائهم. وذكر القصة، وأنه قاتل أول يوم وثاني يوم وثالث يوم.

قصة فتح خيبر

قصة فتح خيبر كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه أرمد، وقد تخلف في المدينة، ثم بعد ذلك لام نفسه وقال: كيف أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فخرج وهو أرمد راكباً، وفي صحيح مسلم عن سلمة بن الأكوع قال: ما كنا نرجو أن يأتي علي، فلما كانت تلك الليلة إذا هو قد جاء وعيناه لا يرى بهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم بعد مضي بعض الأيام في القتال: (لأعطين الراية غداً)، وهذا يدلنا على أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم راية، وقد جاء أن الراية اتخذت في تلك الغزوة، وأنها سوداء، وأنها من ثوب لـ عائشة رضي الله عنها، وأنه مكتوب فيها: (لا إله إلا الله، محمد رسول الله)، وجاء أن له لواء أيضاً، وأن لواءه أبيض، وقد تعددت الرايات في تلك الغزوة، حتى صار للأنصار راية ولغيرهم راية، فعندما قال هذه المقالة وهي بشرى، والمسلمون بحاجة إلى الفتح حاجة شديدة؛ لأنهم بأمس الحاجة إلى الطعام، ثم قد أصيبوا بالحمى الشديدة؛ لأن خيبر كانت موبوءة، وهم نزلوا في أرض رطبة بين أشجار نخيل، فأكلوا من بعض الثمار الرطبة الطرية فأصيبوا بالحمى، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرهم أن يبردوا الماء بالقرب، فإذا كانوا بين صلاة المغرب وصلاة العشاء أفاضوه على أنفسهم، فشفوا بسبب ما وصف لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان هذا الخبر مفرحاً جداً؛ لأنه قال: (يفتح الله على يديه)، فالفتح يفرحهم، ولكنهم نسوه اشتغلوا عنه بما هو أهم عندهم منه، واشتغلوا بقوله صلى الله عليه وسلم في وصف هذا الرجل: (يحبه الله ورسوله)، أما كونه يحب الله ورسوله فهذا وصف للمسلمين كلهم، فالمؤمنون يحبون الله ورسوله، فلا فرق بين واحد وآخر في ذلك إلا تفاوت المحبة على حسب تفاوت الإيمان وقوته، وإنما الشأن عندهم في قوله صلى الله عليه وسلم: (يحبه الله ورسوله)، ومعلوم عند الصحابة أن الله يحب المؤمنين ويحب المتقين، وكذلك رسوله، فقد أخبر الله جل وعلا عن ذلك في آيات كثيرة في القرآن، ولكن سبب حرصهم على هذا أن الرجل عين بعينه، وكل يحب أن يعينه الرسول صلى الله عليه وسلم بالشهادة له بمحبة الله أو الشهادة له بالجنة؛ لأن الإنسان لا يثق بعمله مهما كان اجتهاده، ومهما كانت قوة إيمانه، فإنه يجوز على الإنسان أن يخالف بعض المخالفات فيبطل عمله، أو أن الله جل وعلا يرد عمله ولا يقبله، قال عبد الله بن عمر: لو أعلم أن الله تقبل مني حسنة لتمنيت الموت؛ لأن الله جل وعلا يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]. فإذا شهد للإنسان بالتقوى وتيقن ذلك أحب أن يلقى الله على هذه الصفة، فلما سمعوا هذا الكلام فمن شدة حرصهم على الخير ورغبتهم فيما عند الله صار كل يتطلع إلى أن تدفع إليه الراية، وجاء في صحيح مسلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ما أحببت الإمارة إلا ذلك اليوم. وقال: لقد رأيتني أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم أتطاول لعله يراني فيدفع إلي الراية. ما هو لأجل أن يكون قائداً، أو يكون أميراً، بل لأجل هذا الخبر، أنه (يحبه الله ورسوله)، وكلهم أراد هذا، وهذا دليل واضح على مسابقة الصحابة رضوان الله عليهم إلى ما يحبه الله ورسوله، وإلى ما وعد الله جل وعلا به في الآخرة، وعدم رغبتهم في الدنيا، هذه صفتهم رضوان الله عليهم.

ثناء الله على الصحابة والتحذير من بغضهم وسبهم

ثناء الله على الصحابة والتحذير من بغضهم وسبهم وقد أثنى الله جل وعلا على الصحابة في كتابه ثناءً كثيراً، وشهد لهم بأنهم مؤمنون ومتقون وسابقون، وأخبر أنه رضي عنهم وأنهم رضوا عنه، قال الله جل وعلا: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29]، وليست السيما التي تكون في الجبهة مختلفة اللون عن لون الجلد، ليس هذا هو المقصود، إنما المقصود بالسيما أثر الخشوع والذل والخضوع والنور الذي يعلو وجوههم من الإيمان ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد أخبر الله جل وعلا نبيه بأنه سيأتي من يسب أصحابه ويلعنهم، فروي عنه أنه قال: (إذا لعن آخر هذه الأمة أولها فمن كان عنده علم فليظهره) يعني: علم في ذلك. وإن كان العلم يجب أن يظهر دائماً، ولكن عند الحاجة يتعين أكثر. وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من بغضهم ومسبتهم وقال (الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضاً، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم)، وهذا هو الواقع، فالذين يبغضونهم إنما يبغضون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن لا يجرؤون أن يصرحوا بأنهم يبغضون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيصبون البغض على الصحابة، وإلا فالواقع أن البغض يقع للرسول وللإسلام؛ لأن الواسطة بين الأمة وبين الرسول صلى الله عليه وسلم هم الصحابة، فهم الذين نقلوا الإسلام إلينا، وهم الواسطة بيننا وبين رسولنا صلى الله عليه وسلم، فإذا كانوا -كما يزعم الضلال- كفرة مرتدين أصبحنا نحن ضالين؛ لأننا أخذنا ديننا عن كفار، وهذا هو المقصود من الطعن فيهم، فهذا شيء من صفتهم. وتوجد أشياء كثيرة يجب على المسلم أن يتعرف عليها، فالمسلم اليوم يغزى من كل مكان، وتدبر له المؤامرات لصده عن دينه، فيجب عليه أن يتعرف على سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيرة من كان يناصره ويواليه ويقاتل بين يديه بأمر الله جل وعلا ويبذل ماله ونفسه حتى أظهر الله جل وعلا هذا الدين، فيتولى الصحابة، ويصبح ممتثلاً أمر الله في قوله جل وعلا: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10]، فيجب أن يكون المسلم بهذه الصفة وعلى هذا النهج الذي بينه الله جل وعلا، وإلا فهو على خطر عظيم، وقد يكون ممن كفر بالله جل وعلا، ولهذا يقول الله عز وجل: {وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29] يقول الإمام مالك رحمه الله: من غاضه شأن الصحابة فهو كافر؛ لقوله جل وعلا: (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ). وهو شيء ظاهر من الآية.

حرص الصحابة على الخير

حرص الصحابة على الخير لما قال النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة: (لأعطين الراية غداًَ رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله) باتوا يدوكون ليلتهم، وما ناموا، ومعنى (يدوكون) يخوضون ويتساءلون: من ترون سيعطاها؟ ومنعهم ذلك من النوم، فصاروا يشتغلون بهذا، وكل واحد يرجو أن يكون هو الذي تدفع إليه، فنسوا بشارة النبي صلى الله عليه وسلم بالفتح، ثم لما غدوا إليه في الصباح كان كل واحد عنده أمل أن تدفع إليه الراية حتى يكون هو الذي يحبه الله ورسوله، ولكن لم تحصل لواحدٍ من الحاضرين، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أين علي بن أبي طالب؟) يسأل عنه، وهذا يدلنا على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب، ولا يعلم من الغيب إلا ما علمه الله، وما عرف أن علي بن أبي طالب كان أرمد يشتكي عينيه، ولهذا سأل عنه: أين هو؟ واستبعد أن يكون ليس في الحاضرين، ولكن غاب لسبب، فأخبروه فقالوا: هو يشتكي عينيه. فأرسل إليه، وفي صحيح مسلم أن الذي ذهب وجاء به هو سلمة بن الأكوع، جاء به يقوده وهو لا يرى شيئاً؛ لأنه أرمد العينين، فأحضره بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتفل في عينيه فزال الألم، وصار ينظر كأحسن ما يكون، وجاء عن علي رضي الله عنه أنه قال: بعد تفلة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أشتك عيني، ولم أشتك الصداع. ما أصيب بمرض العينين ولا مرض الصداع لبركة تفلة الرسول صلى الله عليه وسلم ودعائه، فتفل في عينيه ودعا له فبرأ وزال عنه المرض، وهذه علامة من علامات النبوة، وآية من آيات الله، وإلا فغير النبي صلى الله عليه وسلم لو تفل في عين إنسان أرمد لزاد مرضه، وكذلك كونه أخبر بأنه يفتح الله على يديه، وهذه بشارة وعلم آخر من أعلام النبوة.

الدعوة إلى الله قبل القتال

الدعوة إلى الله قبل القتال لما برأ علي دفع إليه النبي صلى الله عليه وسلم الراية وقال له: (امض على رسلك) يعني: على تؤدة وسكينة بغير عجلة ولا صراخ ولا صياح (حتى تنزل بساحتهم -وفي رواية ولا تلتفت-) حتى يكون هذا دليل التصميم وقوة العزيمة وعدم النكوس، ولهذا لما أخذ علي رضي الله عنه الراية وسار قليلاً وقف فصرخ: علام أقاتلهم يا رسول الله؟! فقال: (امض على رسلك حتى تنزل بساحتهم، فإذا نزلت بساحتهم فادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه) أي: من حق الله في الإسلام. وهذا هو المقصود في القتال والدعوة إلى الله جل وعلا، من أجل أن الكفار يدخلون في الإسلام ويعرفون حق الله الذي عليهم، وهو ما ذكر في الحديث الذي قبل هذا، أن يشهدوا ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن يقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ويصوموا، ويحجوا، هذا هو المطلوب منهم، فإذا امتثلوا ذلك واستجابوا له وجب الكف عنهم، وصاروا مسلمين لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، فيترك المجاهدون أموالهم وبلادهم، ولا يجوز أن يتعرضوا لهم بشيء، وفي هذا دليل واضح على وجوب الدعوة إلى الله جل وعلا، وأن الدعوة تكون إلى الإسلام أولاً، إلى الأصول، إلى شهادة ألا إله إلا الله كما سبق، ولهذا قال: (ادعهم إلى الإسلام)، ولا يمكن أن يكون الإنسان مسلماً حتى يشهد ألا إله إلا الله، وقبل أن يشهد ألا إله إلا الله فإن صلى وتصدق وعمل أي عمل من أعمال البر ما يقبل منه، ولا يعتد به حتى يشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. وفي هذا دليل على أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى يجب أن يدعوا إلى شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولا بد أن يشهدوا أن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، والنار حق، بالإضافة إلى شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وهكذا كل من كان يدين بدينٍ قد اتخذه مصدر ديانة وتمسك به وزعم أنه هو الحق، فلابد أن يبرأ منه مع شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولكن هنا ما ذكر ذلك لأسباب، منها: أن اليهود علموا علماً يقينياً بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، ومع ذلك ما اكتفى صلوات الله وسلامه عليه بأن يقاتلهم دون دعوة، بل دعاهم قبل المقاتلة، وهذه الدعوة التي تكون قبل المقاتلة قال العلماء فيها: إنها ليست حتماً واجباً على الإمام قبل المقاتلة إلا إذا لم تبلغهم الدعوة، أما إذا كانت الدعوة قد بلغتهم فيجوز مداهمتهم وأخذهم على غرة، وقتل من يقاتل منهم، وسبي الأموال والذرية، ثم بعد ذلك إذا أسلم من أسلم منهم فهو في حكم المماليك. والدليل على هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارّون -أي: غافلون- يسقون على مياههم، فما علموا برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دهمهم وأغار عليهم، وقتل مقاتلتهم وسبى أموالهم وذريتهم؛ لأن الدعوة قد بلغتهم، وكان قد بلغه أن رئيسهم يجمع لرسول الله صلى الله عليه وسلم يريد مقاتلته، فباغته الرسول صلى الله عليه وسلم قبل ذلك، وهذه سنته صلوات الله وسلامه عليه التي سنها لأمته، إذا علم أن قوماً يستعدون لقتاله فإنه يغزوهم في بلادهم قبل أن يغزوه؛ لأن الذي يغزى في بلاده يذل، وفي الأثر: (ما غزي قوم في بلادهم إلا ذلوا)، فالنبي صلوات الله وسلامه عليه يفعل ذلك امتثالاً لأمر الله. وقوله: (حتى تنزل بساحتهم) الساحة: هي الفناء القريب من البيوت. حيث يسمعون الكلام ويتحققونه إذا دعاهم وكلمهم، فأمره ألا يكلمهم حتى يكون قريباً منهم ليتحققوا كلامه، وأنه لا يبدأهم بالقتال، بل يدعوهم أولاً إلى الدخول في الإسلام، وأن يشهدوا ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويخبرهم بما هو حق لله عليهم في الإسلام، وهو ما ذكرنا من وجوب الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم والحج، وغير ذلك مما هو فرض متعين، وهذه الأمور الخمسة هي أركان الإسلام التي لا بد منها، ثم إن مما يخبرهم به أنهم إذا قبلوا ذلك فإنه يكف عنهم، ويتركهم وبلادهم وأموالهم، ولا يكون له عليهم من سبيل.

شرح فتح المجيد [25]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [25] حديث سهل بن سعد في بيان (لا إله إلا الله) والدعوة إليها حديث عظيم، جمع من أخلاق التعامل مع الأعداء ومن الفضائل الشيء الكثير، وفيه بيان فضل هداية الناس ودعوتهم، وأن هداية الناس إلى الدين ليست أمراً سهلاً؛ فعلى الإنسان عندما يدعو الناس إلى الله أن يستحضر ما في ذلك من الفضل والأجر العظيم.

حديث: (لأعطين الراية) في بيان الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله

حديث: (لأعطين الراية) في بيان الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولهما عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه. فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها، فلما أصبحوا غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: أين علي بن أبي طالب؟ فقيل: هو يشتكي عينيه. فأرسلوا إليه، فأتي به فبصق في عينيه ودعا له. فبرأ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية فقال: انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) يدوكون: أي: يخوضون]. مضى الكلام على هذا الحديث، وبقي قوله: (انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)، والحديث سيق من أجل وجوب الدعوة إلى الإسلام وإلى توحيد الله جل وعلا. ولا شك أن الله جل وعلا كلف عباده بعبادته، ومن عبادته جل وعلا الدعوة إليه، بل هذا من أفضل العبادة، كون الإنسان يدعو إلى الله على بصيرة. ولا يكون الإنسان له نصيب وحظ من اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يأخذ شيئاًَ مما كان يتحلى به صلوات الله وسلامه عليه من الدعوة إلى الله تعالى؛ لأن الله جل وعلا يقول: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]، فأتباعه كذلك يدعون إلى الله على بصيرة، أما الذي يتخلى عن الدعوة نهائياً فليس من أتباعه في الحقيقة، وإن كان من أتباعه في الظاهر؛ لأن أتباعه في الحقيقة هم الذين يناصرونه في دعوته ويترسمون خطاه. وقوله هنا: (انفذ على رسلك) مضى أن هذا يدل على أن المسلم يكون عنده الطمأنينة والسكينة وعدم الخوف من الخلق؛ لأنه يكون واثقاً بوعد الله جل وعلا وبنصره، ولأنه متيقن أنه يحصل على إحدى الحسنيين، إما النصر والتأييد في الدنيا والظفر، وإما الشهادة والفوز بها عند الله جل وعلا. وكان الصحابة رضوان الله عليهم يستبشرون بأن يفوز أحدهم بالشهادة، فإذا قتل أحدهم قالوا: هنيئاً لك الشهادة، وإذا حصل لأحدهم شيء من هذا القبيل قال: فزت ورب الكعبة. فكانوا يتمنونها ويطلبونها؛ لأنهم واثقون بوعد الله جل وعلا، فلهذا لا يكون عنده طيش، ولا يكون عنده خوف، وإنما يكون على تؤدة وبأدب وسكينة، ولهذا قال: (امض على رسلك حتى تنزل بساحتهم)، وساحة القوم: هي ما يقرب من أفنية بيوتهم، فناء البيت الذي أمامه قريباً منه، بمعنى أنك تصل إليهم حتى تسمع كلامهم ويسمعون كلامك حينما تدعوهم، فتسمعهم وتسمع جوابهم وما يردون عليك.

شهادة أن لا إله إلا الله مفتاح الواجبات

شهادة أن لا إله إلا الله مفتاح الواجبات ثم قال: (ثم ادعهم إلى الإسلام)، والدعوة إلى الإسلام هي الدعوة إلى شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله كما مضى، ولا يدخل الإنسان في الإسلام إلا بهذا، وإن كان من مثل هؤلاء الذين يزعمون أنهم أهل علم وأهل كتاب، فلا بد أن يدعون إلى شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسوله الله، ومضى أن معنى شهادة ألا إله إلا الله: العلم اليقيني الذي يكون في القلب ثم يتلفظ به اللسان؛ لأن الله جل وعلا هو المعبود وحده، وأنه لا يتوجه بعبادته قلباً وقالباً إلا إلى الله وحده -تعالى وتقدس-، ثم يلزم على هذا أن يأتي بكل ما كلفه الله جل وعلا وفرضه عليه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الذي يقصده صلوات الله وسلامه عليه بقوله: (وأخبرهم، بما يجب عليهم من حق الله فيه)، فهذه الشهادة إذا تشهدوها وقالوها يخبرهم بالواجب الذي يكون عليهم، والواجب الذي يكون عليهم بعد أداء هذه الشهادة والعلم بها والارتباط بها ومحبتها وقبولها والاستسلام لها والانقياد لها أن يقيم الصلاة، ويؤدي الزكاة المفروضة طيبةً بها نفسه، راجياً ثواب الله، خائفاً -لو منعها- أن يعاقبه الله جل وعلا. وكذلك الصوم، أن يصوم رمضان، ويحج إلى بيت الله الحرام في عمره مرة، هذا هو الحق الذي يجب على من دخل في الإسلام، أما ما عدا ذلك فليس بواجب، إنما هو تطوع، فإذا جاء به فإنه يكون له الثواب عند الله جل وعلا، الحسنة بعشر أمثالها، وإن لم يأت به لا يطالب ولا يعاقب، بشرط أن يأتي بهذه الأمور الخمسة شاملة غير منقوصة، فإن نقص منها شيء فأمره إلى الله جل وعلا يحاسبه على ذلك، إن شاء عفا عنه وإن شاء أخذه به. أما شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فلا بد منها لكل من يدخل الإسلام، ولا بد من العلم بها والعمل بمقتضاها، ولا يجوز أن يجهلها المسلم، فإن جهلها فاللوم عليه، وهو غير معذور؛ لأن الله جل وعلا أرسل رسوله بها صلوات الله وسلامه عليه، وأنزل كتابه شارحاً لها ومبيناً لها، فيجب على المسلم أن يتعرف على ذلك، على أمر الله فيها، ولا يسعه الجهل في ذلك، فالذين يصدون عن مقتضى ذلك ويأتون بما يناقضه من كونهم يعبدون أمواتاً لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، ويتوجهون إليهم بالدعاء، والاستغاثة بهم وطلب الحاجات، ويطلبون النصر على الأعداء منهم فإن هذا يناقض شهادة ألا إله إلا الله تمام المناقضة، وإذا زعم أنه وجد الناس على هذا وما وجد من يبين له فالجواب أنه معرض عن دين الله، ولا يلزم الإنسان أن يأتيك ليبين لك، بل أنت يلزمك أن تتعرف على رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كلفك الله به من عبادته، يجب على كل إنسان ذلك. ولهذا إذا وضع الإنسان في قبره فكل مقبور يأتيه الاختبار يسأل ثلاثة أسئلة إن أجاب عنها سئل عن البقية وإلا عذب لأنه هالك، يقال له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ والمعنى أنه يقال: من الذي كنت تعبده؟ وبأي شيء كنت تعبد؟ وعمن أخذت هذه العبادة التي تتعبد بها؟ هذه الأسئلة لابد منها لكل إنسان، وإذا قال: أنا وجدت أهل بلدي. أو وجدت الشيخ الفلاني يقول لي كذا وكذا فهذا ليس جواباً وليس عذراً، فأهل البلد والناس كلهم ليسوا رسلاً، وإنما الإنسان مكلف باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، ومكلف بمعرفة كتاب الله جل وعلا، ولهذا أخبر جل وعلا أنه أنزل الكتاب عربياً مبيناً، أي: بيناً واضحاً. فمن عرف اللغة لابد أن يعرف المعاني، وإن كان القرآن فيه معانٍ دقيقة ومعانٍ جليلة ومعانٍ كثيرة، ولكن الظاهر من الخطاب كل من عرف اللغة يعرفه، وهذا هو المطلوب من كل أحد، أما ما وراء ذلك من الدقائق والأمور التي تتطلب الفهم فهذه إلى العلماء، وليست لعامة الناس، وإذا كان الإنسان محتاجاً إلى ما يكون من نصيب العلماء فقد أمر الله جل وعلا بسؤالهم فقال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] أما ما يعم الناس فكلهم يستطيع أن يدركه، بشرط أن يعرف اللغة التي نزل بها القرآن، والعلماء يذكرون أن من الواجب المتعين على كل مسلم أن يعرف اللغة العربية؛ لأنه لا يفهم عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم إلا إذا عرف اللغة.

أحكام ما بعد الشهادتين

أحكام ما بعد الشهادتين ثم إذا أجابوه إلى هذا فالقتال ينتهي ويتوقف، ولا يقاتلهم، بل أصبحوا إخواناً للمسلمين لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، فينصرفون عنهم ويتركونهم وبلادهم، أما إذا أبوا فلابد من المقاتلة. ثم بعد هذا يقسم صلوات الله وسلامه عليه: (والله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)، وقسم الرسول صلى الله عليه وسلم هنا لتعظيم الأمر وتضخيمه لدى السامع، وإلا فالرسول صلى الله عليه وسلم صادقٌ مصدوق فيما يخبر به، لو أخبر بخبر بدون قسم يجب قبوله وتصديقه، ولكن جاء بالحلف والقسم لتعظيم الأمر حتى يُتنبه له ويرغب فيه. فهداية رجل واحد خيرٌ لمن دعا إلى الهدى من حمر النعم، وحمر النعم هي النوق الحمر، وهي أنفس ما لدى العرب من الأموال، والمعنى -كما يقول العلماء- أن هداية رجل واحد خيرٌ لك من أموال الدنيا وما طلعت عليه الشمس، ثم الأمر مثلما يقول النووي رحمه الله في شرحه لهذا الحديث، يقول: هذا تمثيل تقريبي للأفهام، وإلا فذرةٌ من الآخرة تساوي ما في الأرض ومثله معه. يعني أن الأموال التي في الدنيا لا تساوي هداية الرجل الذي يهتدي على يدي الداعية، بل ولا ما هو أقل من ذلك، بل إنما هذا هو تقريبٌ للأفهام، ومن المعلوم أن الناس يحرصون على أمور الدنيا، ويرغبون فيها، وأكثرهم يزهد في أعمال الآخرة، فيحتاجون إلى تبيين وإيضاح وإلى ضرب الأمثال، من أجل ذلك جاء ضرب المثل؛ لأن أكثر الناس تكون رغبته وتعلقه في أمور الدنيا، ويغفل عن أمور الآخرة. فقد جاء أن مكان سوط في الجنة أفضل من الدنيا مائة مرة؛ لأن الدنيا زائلة وذاهبة، ومهما حصل للإنسان من الأموال والأغراض التي يريدها فسوف تنقطع وتذهب كأن لم تكن، بخلاف ما يحصل عليه من أسباب رضا الله جل وعلا، فإنه يوصله إلى السعادة الأبدية التي لا تفنى، ومعلوم أن الإنسان يتنقل من دار لأخرى، وجعل في هذه الدار ليزرع ويعمل ثم يموت، فلابد من الموت، وبعد الموت يكون جزاؤه على قدر عمله في هذه الحياة، إن كان امتثل أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وأطاع الله جل وعلا فهو السعيد الذي يلقى ما لا عين رأته، ولا أذن سمعت به، ولا خطر على قلب بشر، أما إذا كان أطلق لنفسه العنان وأصبح لا يبالي بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعه فإنه أمده قصير ومرجعه إلى الله، وسوف يعذبه العذاب الذي لا يتصور، فعذاب الله ليس كعذاب الخلق، الخلق مهما أوتوا من البطش والظلم. ومن عدم الرأفة والرحمة فإن عذابهم ينقطع بموت المعذب، فمهما أوجدوا له من أنواع العذاب سوف يموت، ولكن رب العالمين يعذب بغير موت، يعذبه العذاب الذي لا يطاق، ولا يأتيه الموت، بل كما يقول الله جل وعلا في وصف المُعذب: {يَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [إبراهيم:17] يعني: أسباب الموت تأتيه متنوعة ولكن لا يموت فيها ولا يحيا، لا حياة ولا موت، عذاب أبدي: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56]، وهذا أبد الآباد ما دامت السماوات والأرض، وينساهم الله جل وعلا في جهنم، نارٌ أوقد فيها حتى صارت لا تطاق: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]. إذا قال الله جل وعلا: خذوه -أي: المجرم- تبادره من الملائكة من لا عدد لهما -فما يعلم عددهم إلا الله- أيهم يأخذه ويلقيه في جهنم. فالمقصود أن الإنسان أعد لأمر عظيم: قد هيأوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل الإنسان خلق لأمر عظيم، خلق للجنة أو للنار، ولهذا الناصح الأمين صلوات الله وسلامه عليه يقول: (لا تنسوا العظيمتين الجنة والنار) لا يجوز للعاقل أن ينساهما؛ لأن مصيره إلى واحدة منهما ولابد، لا يوجد مكان ثالث، إما أن تكون في الجنة أو تكون في النار فقط، ثم بعد هذا إذا استقر الإنسان في واحدة منهما يجاء بالموت في صورة كبش، فيقال لأهل الجنة: يا أهل الجنة فينظرون ويشرئبون وهم يرجون فضلاً على فضل، فيقال لهم: أتعرفون هذا؟ فيقولون: نعم. هذا الموت. ثم ينادى أهل النار: يا أهل النار فيشرئبون كأنهم يرجون فرجاً، فيقال لهم: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم. هذا الموت. فيذبح بين الجنة والنار، ويقال: خلود ولا موت. انتهى الموت، فلو أن أحداً يموت من الحسرة منهم لماتوا عند ذلك؛ لأنهم يطلبون وينادون: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77]، فمالك خازن النار يدعونه: ((ليقضِ علينا ربك)) أي: ليمتنا حتى نرتاح من هذا العذاب. جاء أنهم يدعون سنين طويلة، وبعد آلاف السنين يقال لهم: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108] فالجواب يأتي بعد وقت طويل جداً جواباً شديداً جداً: ((اخسئوا فيها ولا تكلمون))، فعند ذلك لا يبقى إلا الزفير والشهيق، {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [هود:106] خالدين أبداً. فكيف يهنأ الإنسان بالنوم والأكل والضحك وهو يعرف أن مصيره إلى هذا؟! إن الأمر مثلما قال أحد السلف لما كان يبكي ويدع النوم فعوتب على البكاء فقال: والله لو توعدني ربي أن يسجنني في حمام لحق لي أن أبكي وأن أقلق، فكيف وقد توعدني إن عصيته أن يسجنني في جهنم،؟! والإنسان ما له عمر آخر، فإذا مات وانقضت حياته لا يعود. فإذاً لابد إذا كان له نصيب من السعادة أن يقبل عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم بكل ما يستطيع.

فوائد من هذا الحديث

فوائد من هذا الحديث

مشروعية قتال أعداء الله

مشروعية قتال أعداء الله أولاً: مشروعية القتال للمسلمين، وأنه سنة المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، وأن أعداء الله قتالهم من أفضل الأعمال، وليس هناك ما يسعد به الإنسان أفضل من الشهادة التي يتمنى بها إذا مات أن يعاد مرة أخرى فيقتل، إلا القتال في سبيل الله فقط، فكل ميت إذا مات من أهل الإيمان وأهل الحق ما يحب أن يرجع إلى الدنيا، إلا الشهيد لما يرى من الفضل، ولما يرى من نعم الله عليه، يتمنى أن يعاد مرةً أخرى ثم يقتل.

ما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم من ابتلاء في خيبر

ما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم من ابتلاء في خيبر وفيه أيضاً العبرة بما حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة التي قال فيها ما قال، فقد حصل له الأمور العجيبة من الحاجة والجوع، وكذلك مضايقة الأعداء الشيء الكثير لمن قرأ سيرته، ولاسيما في هذه الغزوة، ومن المعلوم أنه صلوات الله وسلامه عليه أفضل خلق الله، وخير من مشى على الأرض صلوات الله وسلامه عليه، ثم أصحابه خير الخلق بعد الأنبياء، أفضل الأمة على الإطلاق، ويحصل لهم هذا الأمر، حتى حصل لهم من المرض والوباء الشيء الذي اشتكوا منه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع، يبقى أحدهم ثلاثة أيام لا يأكل في هذه الغزوة، وهم أولياء الله فلماذا؟ كل هذا يدلنا على أن التصرف كله لله جل وعلا، وأنه ليس للخلق معه نصيب في التصرف والربوبية تعالى وتقدس، وأن الدنيا لا تساوي شيئاً، لو كانت تساوي شيئاً ما حجبها ومنعها من أوليائه ومعهم سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه.

فضيلة علي بن أبي طالب

فضيلة علي بن أبي طالب وفيه أيضاً فضيلة علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومنقبة له عظيمة، والشهادة له بأن الله يحبه ورسوله، فمن أحبه فهو لأنه يحبه الله، وحق على كل مؤمن أن يتولاه، ولكن هذا الحديث وهذه المنقبة لا تتم على قول من يزعم أن الصحابة ارتدوا بعد إيمانهم، بل تكون باطلةً، ولا يمكن أن يستدلوا به على النواصب الذين آذوا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأبغضوه، وربما كفروه كالخوارج ونحوهم؛ لأنهم يقولون: وهذا كذلك كان قبل أن يرتد، أما لما ارتد ما حصل له ذلك. ومن المعلوم عند جميع المسلمين الذين يؤمنون بالله وبرسوله حقاً أن الله جل وعلا ورسوله لا يمدح ويثني على من يعلم أنه يرتد ويموت كافراً، وإلا يكون مدحاً كذباً، تعالى الله وتقدس.

وجوب إرسال الدعاة إلى الله من قبل الوالي

وجوب إرسال الدعاة إلى الله من قبل الوالي وفيه أيضاً وجوب إرسال الدعاة، فعلى المسلمين أن يرسلوا الدعاة إلى دين الله، وأن يختار من يكون أهلاً للإمارة والتولية، هذا أيضاً واجب عليهم. وفيه علم من أعلام النبوة؛ لأنه صلوات الله وسلامه عليه تفل في عينه وهو أرمد لا يبصر فزال الألم في لحظة، وأصبح يبصر بصراً أحسن مما كان أول، وقد جاء عنه رضي الله عنه -أي: علي - أنه قال: لم أشتك عيني بعدما تفل فيهما رسول الله صلى الله عليه وسلم.

من أعلام النبوة إخباره صلى الله عليه وسلم بالفتح

من أعلام النبوة إخباره صلى الله عليه وسلم بالفتح وفيه أيضاً علم آخر من أعلام النبوة، وهو إخباره صلواته وسلامه عليه بالفتح قبل حصوله، قال: (يفتح الله على يديه)، وقد حصل كما أخبر صلوات الله وسلامه عليه.

فضل من اهتدى على يديه رجل

فضل من اهتدى على يديه رجل وفيه أيضاً فضل من اهتدى على يديه رجل، وأن له من الأجر الشيء العظيم، فكيف بمن يهتدي على يديه آلاف الناس، مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم، كل إنسان اهتدى بدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فله من الأجر مثل أجر ذلك المهتدي إلى قيام الساعة. فهذا يدلنا على أنه ليس هناك حاجة للإنسان إلى أن يعمل عملاً ويقول: أهديه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسوف يحصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم مثل عملك بدون أن تُهدي؛ لأنه هو الذي دل على الهدى ودعا إليه، ومع ذلك إذا قام من يدعو إلى الله متصفاً بصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومتحلياً بما أمر به وحض عليه فإنه يحصل له ذلك، وهذا نص صريح عنه صلى الله عليه وسلم: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء)، وبالعكس من دعا إلى بدعة كان عليه من الوزر والإثم مثل أوزار من اتبعه إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أوزارهم شيء. ولهذا جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أن كل نفس تقتل إلى يوم القيامة يكون على ابن آدم الأول الذي سن القتل كفل من هذا -أي: نصيب- لأنه أول من سن القتل.

سنة الدعوة قبل المباشرة بالقتال

سنة الدعوة قبل المباشرة بالقتال ثم إن فيه أيضاً سنة الدعوة قبل المباشرة بالقتال، وإن كان الناس فهموا الدعوة وعرفوها، إلا أنه يسن أن تعاد عليهم الدعوة قبل أن يبدأ في القتال، وهذه سنة وليست واجباً، بخلاف ما إذا كان القوم ما بلغتهم الدعوة، فلا يجوز قتالهم بحال من الأحوال حتى تبين لهم الدعوة ويدعون، فإذا أصروا على الكفر وأبوا الدخول في الإسلام هناك يقاتلون، ونصر الله جل وعلا مع المؤمنين. ولهذا كان الصحابة رضوان الله عليهم أول ما يبدأون بالدعوة وإن كان القوم قد بلغتهم الدعوة، ولكن إذا كانوا يستعدون لقتال المسلمين وقد بلغتهم الدعوة فيجوز أن يباغتوا، بل هذا هو المستحب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غافلون، فقتل مقاتلتهم وسبى أموالهم ونساءهم؛ وهذا لأنهم كانوا يستعدون لمقاتلته صلوات الله وسلامه عليه.

الكرامات وما حصل منها للصحابة

الكرامات وما حصل منها للصحابة قال الشارح: [قوله: عن سهل بن سعد. أي: ابن مالك بن خالد الأنصاري الخزرجي الساعدي أبي العباس، صحابي شهير، وأبوه صحابي أيضاً، مات سنة ثمان وثمانين وقد جاوز المائة. قوله: (قال يوم خبير)، وفي الصحيحين عن سلمة بن الأكوع قال: كان علي رضي الله عنه قد تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في خيبر، وكان أرمد، فقال: أنا أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فخرج علي رضي الله عنه، فلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان مساء الليلة التي فتحها الله عز وجل في صباحها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لأعطين الراية -أو ليأخذن الراية- غداً رجلاً يحبه الله ورسوله)]. هذا هو الفتح، وليس القتال الذي حدث في خيبر ليلة أو ليلتين أو ثلاث أو عشر ليال، بل بقي رسول الله ما يقرب من شهر أو أكثر وهو يقاتلهم، وهم حصون متفرقة كلما فتح حصناً ذهب إلى الآخر، فهذا الخبر وقع في حصن من حصونهم وليس في كل حصون خيبر. [(أو ليأخذن الراية غداً رجلٌ يحبه الله ورسوله. -أو قال: يحب الله ورسوله- يفتح الله على يديه. فإذا نحن بـ علي وما نرجوه، فقالوا: هذا علي، فأعطاه رسول صلى الله عليه وسلم الراية، ففتح الله عليه). من الأمور التي تذكر ويلهج بها كثير من الناس ويعتقدون فيها اعتقادات باطلة مما جاء في السيرة في هذه القصة ما ذكره ابن إسحاق وغيره أنه لما حضر علي رضي الله عنه إلى هذا الحصن ضرب بالدرقة التي كانت عليه يتقي بها السلاح فسقطت منه، فكان عنده باب من أبوابهم فأخذه واتقى به السلاح، ثم لما انتهى القتال -يعني: فتح الحصن- يقول: حاول ما يقرب من أربعين رجلاً أن يقلبوا هذا الباب فما استطاعوا، هذا يذكره بعض الناس ويقولون: إن هذا من خصائص علي بن أبي طالب. وهو جاء في السيرة بدون سند، أي: مرسلاً ليس له سند صحيح، ولكن إذا صح هذا فليس غريباً، فإن هذا من آيات رسول الله صلى الله عليه وسلم، والآيات التي حدثت للصحابة كثيرة جداً، حتى إنه جاءت أشياء غريبة جداً، مثل كونهم يخوضون البحر وهم على خيولهم فلا تبتل ثيابهم، بل إن خيلهم كانت تقع على الماء وكأنها تقع على الرمال، كما ذكر عن سعد بن أبي وقاص في غزوته للفرس في القادسية، وكذلك ابن الحضرمي حصلت له نفس القصة، وأنهم أيضاً فقدوا الماء فدعوا الله فجاءهم الغيث من السماء فاستقوا وارتووا، ثم وقف المطر، فلما ساروا قليلاً وجدوا الأرض يابسة، ثم إنه لما حضرت أحدهم الوفاة سأل الله ألا يراه أحد حتى لا يرى عورته، فطلبوه عندما أرادوا دفنه فما وجدوه. وكذلك ما حصل لـ ثابت بن قيس بن شماس يوم القادسية، وآيات كثيرة خارقة للعادة، بل جاء ما هو من أعجب من هذا وهو إحياء الموتى، فبعضهم حيي بعدما مات وصار يتكلم ويخاطبهم، ثم بعد ذلك مات، وكل هذا من آيات رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل على معجزاته وصدقه وما جاء به؛ لأنها حصلت لأتباعه الذين يتبعونه ويؤمنون بأن هذا من آياته، وأن الله أعطاهم ذلك كرامةً لهم على اتباعهم دينه، ومعلومٌ أن الإيمان بكرامات الأولياء من أصول أهل السنة، ولكن لا تدل على أن هذا الفعل من الرجل نفسه، أو أنه يتخذ إلهاً من دون الله جل وعلا لأجل أنه عنده كرامة، كما حدث لكثيرٍ من الناس إذا سمعوا أن هذا العالم أو هذا الرجل له كرامات اتخذوا قبره صنماً يعبد، وصاروا يدعونه، كما حصل لـ عبد القادر الجيلاني لما ذكر له من الكرامات صار قبره من أكبر الأوثان التي تعبد اغترارا وجهلاً بالواقع، فالواقع أن هذا ليس للإنسان فيه دخَل، وإنما هو من الله جل وعلا، وإذا حصل له شيءٌ من ذلك فهو لحاجته حين احتاج إليه فأكرمه الله جل وعلا بذلك، وهو من الله ولا يحصل إلا بالإيمان، وقد يحصل شيء من هذا النوع أو قريب منه لمن هو ليس على الهداية والدين، ولهذا يقول العلماء: لا تغتر بما يحصل على يد الرجل وإن رأيته يطير في الهواء أو يمشي على الماء حتى تنظر إلى وقوفه عند محارم الله وحدوده، وكيفية اتباعه لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك لكتاب الله، فإذا رأيته متبعاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكتاب الله وقافاً عند حدوده فعالاً قواماً بالواجب عند ذلك يعتقد أنه من الأولياء؛ لأن الله جل وعلا يقول: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63]، هؤلاء هم الأولياء ((الذين آمنوا وكانوا يتقون)). وقد قص الله جل وعلا علينا من كرامات الأولياء في كتابه أشياء كثيرة، مثل ما حصل لمريم عند ولادتها، وكذلك قبل الولادة، كانت تأتيها فواكه لا تعرف: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:37] في وقت لا تعرف فيه الفاكهة تأتيها، فكل ذلك من الله جل وعلا، ويكون إكراماً للعبد، ولكن إذا كان طائعاً لله جل وعلا، أما إذا كان عاصياً فقد يحصل له شيء من هذا النوع ويكون إهانة واستدراجاً ومكراً به فيتمادى في المعصية ويضل فيضل من اتبعه، ولهذا السبب قال العلماء: لا يغتر بالشخص وما يحصل له حتى ينظر إلى سلوكه وعمله هل هو متبع أو مبتدع. فإن كان متبع علم فهو ولي، وإن كان مبتدعاً علماً فهو شقي، وهذا غالباً يكون من الشيطان.

اتخاذ الراية عند القتال

اتخاذ الراية عند القتال قوله: (لأعطين الراية) قال الحافظ في رواية بريدة: (إني دافعٌ اللواء إلى رجل يحبه الله ورسوله): وقد صرح جماعة من أهل اللغة بترادفهما. لكن روى الإمام أحمد والترمذي من حديث ابن عباس: (كانت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء ولواءه أبيض)، ومثله عند الطبراني عن بريدة، وعند ابن عدي عن أبي هريرة رضي الله عنه، وزاد (مكتوبٌ فيه لا إله إلا الله محمد رسول الله). هذا شيءٌ معروفٌ من قديم الزمن، أنه عند القتال إذا تقاتل فريقان كل فريق يكون له راية، وتكون علامةً للمقاتلين ينظرون إليها، وما دامت الراية مرفوعة فهم يقاتلون بقوة، فإذا سقطت فهو علامةٌ انهزامهم وعلى أنهم ضعفوا، والأمر في هذا معروف من قديم الزمن، كل قوم يتخذون لهم راية، والرسول صلى الله عليه وسلم اتخذ راية يجعلها في الجيش، بل كان يتخذ عدداً من الرايات، ولكل قوم يدفع لهم راية يقاتلون تحتها، ويجعل لهم علامةً أيضاً في الكلام يتكلمون حتى يعرف بعضهم بعضاً؛ لأنه عند القتال في ذلك الوقت يختلط بعضهم ببعض، فإذا تكلم أحدهم بالكلام عرف أنه من أصحابه وإلا قد يقتل بعضهم بعضاً؛ لأن الاختلاف يحصل عند الالتحام والقتال، فهذا هو سبب اتخاذ الراية، وإلا فهي لا تنصر ولا تغني شيئاً، وإنما هي علامةٌ يعرف بها المسلم المقاتل أصحابه، وإذا جال في الأعداء رجع إليها، فتكون محلاً للكر والفر.

محبة الله ورسوله لعلي ليس خاصا به

محبة الله ورسوله لعلي ليس خاصاً به قال الشارح: [وقوله: (يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله) فيه فضيلة عظيمة لـ علي رضي الله عنه. قال شيخ الإسلام رحمه الله: ليس هذا الوصف مختصاً بـ علي ولا بالأئمة؛ فإن الله ورسوله يحب كل مؤمن تقي يحب الله ورسوله، لكن هذا الحديث من أحسن ما يحتج به على النواصب الذين لا يتولونه أو يكفرونه أو يفسقونه كالخوارج، لكن هذا الاحتجاج لا يتم على قول الرافضة الذين يجعلون النصوص الدالة على فضائل الصحابة كانت قبل ردتهم، فإن الخوارج تقول في علي مثل ذلك، لكن هذا باطلٌ، فإن الله تعالى ورسوله لا يطلق هذا المدح على من يعلم الله أنه يموت كافراً]. لأن الله جل وعلا علام الغيوب لا يخفى عليه شيء لا يمكن أن يثني على إنسان يرتد ويموت كافراً جل وعلا، ثم إن هذا -أي: كون الله جل وعلا يحب بعض عباده وكذلك رسوله- كثيرٌ جداً، وقد أخبر أنه يحب التوابين ويحب المتطهرين، والذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيانٌ مرصوص، في أشياء كثيرة، ولكن إذا نص الرسول صلى الله عليه وسلم على رجل بعينه أن هذا يحبه الله ورسوله فكل إنسان يود أن يكون هو ذلك المنصوص عليه؛ لكونه صار منقبةً عظيمة، وقد جاء أن الرسول صلى الله عليه وسلم نص على أقوام أنهم في الجنة، فمن ذلك أنه شهد لـ أبي بكر أنه في الجنة، وشهد لـ عمر أنه في الجنة، وشهد لـ عثمان ولـ علي ولـ عبد الرحمن بن عوف وللزبير ولـ طلحة ولغيرهم كثير، وكذلك مثل الحسن والحسين، ومثل ثابت بن قيس بن شماس، ومثل عبد الله بن سلام، بل جاء أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما حصل ما حصل من حاطب بن أبي بلتعة حيث كتب ذلك الكتاب وأرسله إلى قريش يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فقال له عمر: دعني أضرب عنقه فإنه منافق قال: (إنه من أهل بدر، وما يدريك لعل الله اطلع عليهم وقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) عند ذلك ذرفت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم. وجاء غلام من غلمانه فقال: (يا رسول الله! والله ليدخلن حاطب النار. قال: كذبت؛ إنه من أهل بيعة الرضوان)، وبيعة الرضوان هي التي حدثت في السنة السادسة للهجرة، وكان عدد الصحابة الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يقرب من ألف وأربعمائة، وأخبر الله جل وعلا أنه رضي عنهم ورضوا عنه، فقال: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18]، فهذه بيعة الرضوان، ولهذا يقول الإمام ابن حزم: كل من بايع تحت الشجرة فنحن نشهد له بالجنة بشهادة الله جل وعلا وشهادة رسوله صلى الله عليه وسلم. وغير ذلك كثير. فصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أولى هذه الأمة بكرامة الله جل وعلا؛ لأنهم هم الذين ناصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم الذين بلغوا الدين بعد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الخلق، فهم الواسطة بين الأمة وبين رسولها صلوات الله وسلامه عليه، نقلوا القرآن والدعوة، ونقلوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قاله.

إثبات صفة المحبة لله عز وجل

إثبات صفة المحبة لله عز وجل قال الشارح: [وفي الحديث إثبات صفة المحبة لله تعالى خلافاً للجهمية ومن أخذ عنهم]. المحبة من الصفات التي ذكر الله عز وجل كثيراً أنه يتصف بها، ولكن الجهمية أنكروها، وفي الواقع لا ينظرون إلى كتاب الله ولا إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصلهم زنادقة دخلوا إلى الإسلام ليفسدوه، هذا هو أصلهم، فاغتر بهم من اغتر، كسائر الدعوات التي تأتي دخيلة كل الناس يكون عنده بصيرة في النظر، ويغتر فيظن أن كل داع وقائم يريد الحق، فيغتر ويتبعه على ذلك وهو لا يدري. فاتبعهم على قولهم الباطل خلائق ليسوا منهم ولكنهم ضلوا؛ لأنهم أضلوهم بذلك، فصاروا مما ينكرونه كون الله جل وعلا يتصف بالصفات، بل جعلوا التوحيد عندهم أن لا يوصف الله جل وعلا بصفة، سواءٌ أكانت صفة فعل، أم صفة ذات -تعالى الله وتقدس- ويقولون: لا يكون الإنسان موحداً حتى يعطل الله جل وعلا من أوصافه. ولا شك أن هذا من أعظم الضلال، ولهذا كثير من العلماء كفرهم وأخرجهم من الدين الإسلامي، وقال: ليسوا من الاثنتين والسبعين فرقة التي أخبر الرسول الله صلى الله عليه وسلم عنها حيث قال: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، فقالوا: من هي؟ فقال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) فالثنتان والسبعون كلها ضالة، والناجية هي أمة الإجابة، الأمة التي استجابت للنبي صلى الله عليه وسلم، وليست من الأمة التي بعث النبي صلوات الله وسلامه عليه إلى دعوتها؛ لأن هذا للخلق كلهم، فيقول العلماء الذين كتبوا في الفرق: هؤلاء ليسوا من الاثنتين والسبعين. أي أنهم ليسوا من المسلمين، هذا معناه؛ لأن الاثنتين والسبعين من المسلمين إلا أنها فرق ضالة توعدت بدخول النار، وأمرها إلى الله جل وعلا. وكذلك فرق الباطنية التي تبطن الكفر وتظهر الإيمان، كلهم من هذا القبيل، فهم أنكروا أن يكون الله جل وعلا يحب أحداً، والعجيب أنهم أنكروا المحبة من الجانبي، أي أن الله لا يحب ولا يُحب -تعالى الله وتقدس- فإذن ما هو الإيمان؟ وما هي العبادة؟ العبادة هي التأله الذي هو حب يصل إلى الغاية والنهاية من الذل والتعظيم، والذي ينكر ذلك ينكر دين الإسلام أصلاً، فالله جل وعلا إذا أخبر عن نفسه بخبر وجب قبوله وتصديقه، وكذلك كونه جل وعلا مخالفاً لخلقه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] تعالى وتقدس، فهو يحب، ولكن محبته ليست كمحبة العباد التي تكون مقتضية للحاجة والفقر، فالرب جل وعلا يحب، وهو غني عن كل ما سواه، والخلق كلهم فقراء إليه، ولكنه كريم جواد، فهو يحب المتقين والمؤمنين، ويحب التوابين، ويحب الصابرين، ويحب من اتبع رسوله، وكذلك يحب من امتثل أوامره واجتنب نواهيه، ولذلك من أنكر المحبة كهؤلاء فالواقع أنه ينكر الإسلام عموماً. وشبهتهم التي زعموا هي مبنية على التشبيه الذي ارتسم على أذهانهم ولم ينطقوا به، وزعموا أنهم ينزهون الله، وذلك أنهم قالوا: المحبة هي الميل إلى الملائم، والميل إلى الملائم يقتضي الفقر، فلو لم يكن عنده فقر ما مال إلى الملائم. فعلى هذا قالوا: لا يجوز أن نصف الله جل وعلا بالمحبة؛ لئلا يكون متصفاً بالميل إلى الملائم. فيقال لهم: هذه المحبة التي تكون فيكم أنتم، وهي محبة الخلق، أما محبة الله جل وعلا فهي تليق به بجلاله وعظمته، لا يجوز أن تكون مثل محبة المخلوق، تعالى الله وتقدس. فالذين يؤولون المحبة هم الأشعرية، فهم لا ينكرونها مثل الجهمية، ولكنهم يؤولونها، والتأويل يقول بعض العلماء: هو شر من فعل الجهمية. لأن كثيراً من المسلمين اغتر بقولهم؛ لأنهم زعموا أن الحق معهم، وأن هذا هو معنى ما أخبر به الله جل وعلا عن نفسه بأنه يحب. وتأويلهم إياها يكون على نوعين: أحدهما: أن يؤولوها بصفة أخرى كالإرادة، فيقولون: (يحب المتقين) معناه: يريد منهم التقوى، و (يحب المحسنين) يريد منهم الإحسان. النوع الثاني: يؤولونها بشيء مخلوق لا يتصف الله جل وعلا به، وهو إرادة الإثابة، أي: يثيبهم، فـ (يحبهم) يعني: يثيبهم ويجزيهم. ومعلوم أن الإثابة والجزاء شيء منفصل عن الله جل وعلا، بل هو شيء مخلوق، فلا يجوز أن يكون المخلوق صفة لله جل وعلا، كل هذا باطل، بل المحبة يجب أن يوصف الله جل وعلا بها على ظاهرها، مع تنزيه الله جل وعلا عن خصائص المخلوقين، وأنه ليس كمثله شيء تعالى وتقدس.

معجزات النبي صلى الله عليه وسلم

معجزات النبي صلى الله عليه وسلم قال الشارح: [قوله: (يفتح الله على يديه) صريح في البشارة بحصول الفتح، فهو علم من أعلام النبوة. وقوله: (فبات الناس يدوكون ليلتهم) بنصب (ليلتهم)، و (يدوكون) قال المصنف: يخوضون. أي: فيمن يدفعها إليه. وفيه حرص الصحابة على الخير واهتمامهم به، وعلو مرتبتهم في العلم والإيمان]. قوله: (يفتح الله على يديه) فيه علم من أعلام النبوة، والمقصود بأعلام النبوة: العلامات الدالة على نبوته صلى الله عليه وسلم بإخباره بالمستقبل. فمثل هذا أمر مستقبل لا يعلمه إلا علام الغيوب، فالله جل وعلا يعلم الغيب، ويطلع على بعض الغيب رسله؛ ليكون ذلك دليلاً على أنهم صادقون في إرسالهم من عند الله جل وعلا، كما قال الله جل وعلا: {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ} [الجن:27 - 28]، بهذا يتبين أنهم رسل من عند الله، أي أنهم إذا أخبروا بالأمور التي لا قدرة على البشر للوصول إليها كأخبار المستقبل علم صدقهم. وهذا شيء كثير جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبار نبوته واضحة جداً، ومن أول دعوته إلى آخر دعوته كلها علامات بينة وظاهرة. والنبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى قوم كفار مخالفين له في العقيدة والاتباع، ثم عادوه أشد المعاداة حينما دعاهم إلى ترك ما كانوا عليه، فصار يتوعدهم وهو وحده ليس معه قوة ولا أعداد، ويقول: إن لم تؤمنوا بما جئت به وتتبعوني وإلا سوف أقتلكم ثم تكون عاقبتكم إلى النار. وهذا لا يمكن أن يقوله إلا من هو واثق بالله جل وعلا، وبأنه أخبره بأن هذا سيقع ولا بد، إن العاقل لا يمكن أن يأتي إلى قوم أعداء له وهو ليس معه قوة وليس بيده سلطان ثم يتحداهم ويتهددهم ويتوعدهم، فربما يتسلطون عليه فيقتلونه ويؤذونه بأدنى سبب، فيقتلونه لو كان غير واثق، وهذا من علامات نبوته صلوات الله وسلامه عليه. وهذا أتى عن الرسل كلهم، فقد قال الله جل وعلا عن هود لما توعدوه، وقالوا: إن قولك هذا مخالف لجميع الناس وأنت يجوز أن تكون مجنوناً وقالوا: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود:54] أي: بجنون. وآلهتهم: أصنامهم. يقولون: أصابتك بعض أصنامنا بسوء. فتحداهم وقال: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} [هود:54 - 55] يعني: كل الكيد الذي عندكم اجتمعوا عليه، واستعينوا بأصنامكم وآلهتكم ثم لا تمهلوني ساعة، يقول هذا الكلام وهو وحده، وهكذا الرسل كلهم من نوح إلى محمد صلوات الله وسلامه عليهم يأتون بالتحدي لقومهم وأحدهم وحده؛ لأنه واثق بأن الله ناصره وهو معه، ولن يصلوا إليه، فهذا من أعظم علامات ودلائل النبوة.

انشقاق القمر إلى فلقتين

انشقاق القمر إلى فلقتين ومن ذلك الأمور التي وقعت خارقة للعادة، مثل كون القمر انشق فلقتين، فصار قسم منه إلى جهة الجنوب وقسم إلى جهة الشمال، وصار كل الناس ينظرون إليه، وهو يقول: هذه دليل على أني من عند الله. وقد أخبرهم بهذا قبل وقوعه.

إخباره أنه سيقتل أبي بن خلف

إخباره أنه سيقتل أبي بن خلف كذلك أخبر أناساً بأعيانهم بأنه سوف يقع لهم كذا فوقع كما أخبر، فإن أبي بن خلف لما كان يستعد ويصلح سلاحه ويقول: لأقتلن محمداً فقيل له صلى الله عليه وسلم: إنه يقول هذا قال: (بل أنا سوف أقتله)، فجزع جزعاً عظيماً، وصار عنده خوف، فقالت له زوجته: أكل هذا من خبر جاءك عن محمد؟ فقال: إنه والله ما أخبر بشيء إلا وقع. ثم لما أتت وقعة أحد وجاء على فرسه يقول: أروني محمداً سوف أقتله قال صلى الله عليه وسلم: (بل أنا سأقتله)، فتناول حربة فطعنه في لبته-خلال درعه- فصار يخور منها ويجزع جزعاً شديداً، فقال له أصحابه: ما بك من بأس! فقال: بل والله لو كان الذي بي في كذا وكذا لمات. ثم مات من تلك الطعنة قاتله الله، وقد جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أشد الخلق عذاباً من قتل نبياً أو قتله نبي)؛ لأن النبي لا يقتل إلا من هو متناهٍ في الكفر والضلال.

ما حصل في تبوك من تكثير مزادتي المرأة

ما حصل في تبوك من تكثير مزادتي المرأة ومنها أيضاً كونه صلوات الله وسلامه عليه يؤتى بالماء القليل في إناء فيضع فيه يده فينبع الماء من بين أصابعه، ثم يتوضأ منه القوم كلهم وهو إناء صغير. ومنها أنه صلوات الله وسلامه عليه لما كان في غزوة تبوك ونفد الماء منهم أرسل اثنين من صحابته يطلبان الماء، فلقيا امرأة من المشركين معها راويتين-قربتين مملوءتين- فقالا لها: أين الماء؟ فقالت: عهدي به أمس في هذا الوقت. تعني أنه بعيد، فجاءا بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر أن يؤخذ من مائها في إناء، فأخذ من الماء، فصار الناس يشربون ويتوضأون ويقضون حاجتهم بالماء، ثم بعد ذلك نظروا إليها وإذا هي أشد امتلاء مما كانت أول، فقال لها: هل رزأناك من مائك بشيء؟ قالت: لا. وأعطوها من الطعام ما حمل راحلتها.

ما حصل في تبوك من تكثير الطعام

ما حصل في تبوك من تكثير الطعام ومنها أنه في نفس الغزوة لما انتهت أزودتهم واستأذنوه في نحر إبلهم جاء إليه عمر رضي الله عنه وقال له: يا رسول الله! لو دعوت بما معهم من الطعام، ثم دعوت الله جل وعلا أن يبارك فيه؛ فإنهم إذا نحروا إبلهم فعلى أي شيء يحملون أمتعتهم وأنفسهم؟! فقال: نعم. فدعي بما معهم من طعام ووضع على نطع -جلد يفرش- يقول: فجاء الجيش بكل ما معه حتى صار مثل العنز إذا ربضت، فهذا يأتي بتمرة، وهذا يأتي بتمرتين، وآخر يأتي بطحين ملء كفه، وأكثرهم ما عندهم شيء، عند ذلك تفل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأل الله جل وعلا، ثم قال: احملوا. فجاؤوا بكل إناء معهم فملأوه وهو كما هو باق لم ينقص، وهذا لا يكون إلا آية من آيات الله جل وعلا.

ما حصل له صلى الله عليه وسلم من تكثير اللحم والخبز في الخندق

ما حصل له صلى الله عليه وسلم من تكثير اللحم والخبز في الخندق كذلك ما كان في حفر الخندق، كانوا في حاجة شديدة، فرأى أحد الصحابة ما بالرسول صلى الله عليه وسلم من الجوع قد ربط على بطنه حجرين، فقال: لا صبر على هذا. ثم استأذن من النبي صلى الله عليه وسلم وانصرف إلى أهله، فلما جاء زوجته قال: هل عندك شيء؟! قالت: عندي صاع من شعير. فأمرها أن تطحنه، وذهب إلى شاة صغيرة فذبحها، فقال: أدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم واثنين معه فقط. أي: أن الطعام يكفي ثلاثة فقط، ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره فقال: تأتي أنت واثنين معك عند ذلك قال صلوات الله وسلامه عليه لكل المسلمين: إن فلاناً يدعوكم. فذهبوا كلهم، فتقدم إلى زوجته -الأنصاري- وقال: جاءك رسول الله والمسلمون كلهم. قالت: هل أعلمت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قالت: إذن لا علينا. لأنها واثقة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يأتي إلا لشيء، ثم قال: لا تبدأوا بالخبز حتى آتي. فصار يتفل على العجين، ثم قال: اخبزوا. وتفل في اللحم الذي على النار، ثم صاروا يتقدمون عشرة عشرة ويأكلون فيشبعون إلى أن أكل المسلمون كلهم وهو باق كما هو، وكلها علامات ودلائل على نبوته صلوات الله وسلامه عليه.

من دلائل صدقه صلى الله عليه وسلم

من دلائل صدقه صلى الله عليه وسلم والواقع أن العلامات كثيرة وهي لا تخفى على العاقل، مثلما قال عبد الله بن سلام: (لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ورأيت وجهه علمت أنه صادق. فما أن رأى وجهه حتى علم أنه صادق؛ لأنه إذا قال إنسان: أنا نبي أرسلني الله فلا يخلو إما أن يكون أصدق الناس وأبرهم، أو هو أفجر الناس وأكذبهم، فهل يلتبس أفجر الناس وأكذبهم بأصدق الناس وأبرهم؟! أبداً لا يلتبس؛ لأن الذي يقول: أنا نبي إما أن يكون صادقاً فيكون هو أبر الناس وأعلمهم بالله وأقربهم إليه، أو يكون كاذباً فيكون هو أكذب الناس وأفجرهم؛ لأن الذي يكذب على الله لا يبالي أن يكذب على الخلق. ولهذا لما أرسل كتابه صلوات الله وسلامه عليه إلى هرقل ملك الروم يدعوه إلى الإسلام أرسله بلغته صلوات الله وسلامه عليه، فكتب كتاباً وصورته: (بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، أما بعد: فأسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإن عليك إثمك وإثم الأريسيين، {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64]). هذه صورة كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، فلما جاءه أمر بالترجمان فقرأه ثم اهتم به كثيراً، ثم قال: اطلبوا لي أناساً من قومه ممن يعرفونه. فطلبوا فوجدوا أبا سفيان ومعه بعض أصحابه، وكان مشركاً في ذلك الوقت لم يسلم، كان أبو سفيان على دين قومه، وكان يجب أن لا ينتصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أن يظهر أمره، ويسعى إلى ذلك، فجيء به إلى هرقل، وأجلسه قريباً منه وأجلس أصحابه خلفه، وقال لترجمانه: قل لهم: إني سائله، فإن صدقني فصدقوه، وإن كذبني فكذبوه. فصار يسأله، فقال: أخبرني عن هذا الرجل هل هو ذو نسب فيكم؟ فقال: هو من أشرفنا نسباً. فقال: هل كنتم تتهمونه قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا. بل كنا نسميه الأمين، ولم نجرب عليه كذبة واحدة. فقال: هل كان سبقه أحد دعا إلى قوله؟ فقال: لا. فقال: هل كان في آبائه من ملك؟ فقال: لا. فقال: من يتبعه؟ قال: يتبعه ضعفاء الناس وسقطهم، وأما أشرافهم وكبراؤهم فأبوا. فقال: فكيف الأمر بينكم وبينه؟ فقال: الأمر بيننا وبينه سجال، مرة يدال علينا ومرة ندال عليه. وهذا كان فيما يظهر بعد وقعة أحد إلى آخر الكلام، ثم بعد ذلك قال له هرقل: لئن كنت صادقاً فيما تقول والله ليملكن ما تحت قدمي هاتين -وهو بالشام-، ولو أقدر عليه لذهبت إليه حتى أغسل رجليه وأحمل نعليه. ثم قال له: سألتك هل كنتم تهتمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فزعمت أن لا. فعلمت أنه لن يترك الكذب على الناس ويذهب فيكذب على الله، ثم سألتك: هل هو ذو شرف ونسب في قومه فأخبرتني أن: نعم. وهكذا الأنبياء تبعث في أشراف قومها، وسألتك: هل سبقه أحد بأن دعا مثل دعوته أو قال مثل قوله فزعمت أن: لا. فقلت: لو أن أحداً سبقه إلى هذا لقلت رجل يقتدي بمن سبقه، وسألتك: هل كان في آبائه من ملك فأخبرتني أن لا، فقلت: لو كان في آبائه ملك لقلت: رجل يطلب ملك آبائه، وسألتك من يتبعه؟ فأخبرتني أنهم الضعفاء. وهكذا الأنبياء أتباعهم الضعفاء، أما الكبراء والملأ فإنهم يكفرون بهم؛ لأن الله جل وعلا يقول له: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:9] يعني: لست أول من يأتيكم، انظروا إلى دعوة الرسل السابقين، انظروا فيها وقايسوا. وكل هذا يدل على رجاحة عقله، وأن في الواقع نظراً صحيحاً، والمقصود أن دلائل نبوته صلوات الله وسلامه عليه كثيرة.

قصة النبي صلى الله عليه وسلم مع خديجة

قصة النبي صلى الله عليه وسلم مع خديجة وكذلك خديجة رضوان الله عليها لما أخبرها بما يرى، وأنه رأى الملك أول ما رآه فارتاع منه، قال لها: (إني أخاف على نفسي) ماذا قالت له؟ كلا. والله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف إلخ. خفاستدلت على أنه سوف يلقى الخير والسعادة بما يفعل؛ لأنه -كما قلنا- ما يلتبس أمر الكاذب بأمر الصادق، وهذا يدلنا على أن المتكلمين ما اهتدوا إلى شيء من ذلك عندما قالوا: إنه لابد أن يقترن بدلائل النبوة التحدي، وإلا فإنه يلتبس الأمر بالنبي والمتنبي والساحر وغيره. وهذا بعيد جداً؛ لأن المتنبي كاذب والنبي صادق، بل المتنبي أكذب الخلق وأخبثهم، والنبي أصدق الخلق وأفضلهم، ولا يمكن أن يلتبس أصدق الخلق بأكذبهم، وكذلك الساحر مثل المتنبي أو أخبث، وهكذا. والمقصود أن دلائل النبوة كثيرة جداً، ومن قرأ السيرة اطلع على الشيء الكثير، ولهذا نحث كثيراً على قراءة سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها تزيد الإنسان إيماناً وتثبت اليقين عنده تماماً. ومن أعظم الآيات التي جاء بها صلوات الله وسلامه عليه هذا القرآن الذي يتلى ونسمعه كثيراً، وفيه من العجائب ومن الآيات والدلائل على صدقه في كل آية. وعلى كل حال فهذه من الأمور الواجبة على المسلمين، كونهم يتعرفون على دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم. والإنسان سيسأل عن هذه الأمور، فإنه إذا وضع في قبره سئل ثلاثة أسئلة: الأول منها يقال له: من ربك؟ ولا بد أن يعرف ربه بالدلائل اليقينة، وليس بالتقليد، والسؤال الثاني يقال له: من هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ ولا يكفي كونه يقول: محمد بن عبد الله. لابد أن يعرفه بالدلائل أنه نبي حق وأنه صادق وأنه جاء بالهدى، والثالث: يقال له: ما دينك؟ أي: ما الذي تتعبد به؟ فإذا أجاب سئل عن الدليل، فيقال له: ما يدريك أن هذا هو الحق؟! فلو قال -مثلاً-: ربي الله، وهذا هو رسول الله، وديني الإسلام يقال له: وما يدريك؟ فإما أن يذكر الدليل الذي يقنع به الملائكة أو يتلعثم ويقول: لا أدري سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته. فيعذب، فالمقصود أن هذا مما يجب على الإنسان معرفته، وأنه يسأل عنه في قبره، يسأل عن ذلك، وإذا لم يعرف ربه ودينه ونبيه باقتناع فإنه يخشى عليه أن لا يجيب الجواب الصحيح، ويخاف عليه.

شهادات النبي صلى الله عليه وسلم لكثير من الصحابة بالإيمان والجنة

شهادات النبي صلى الله عليه وسلم لكثير من الصحابة بالإيمان والجنة قال الشارح: [وقوله: (أيهم يعطاها) هو برفع (أيُ) على البناء؛ لإضافتها وحذف صدر صلتها. قوله: (فلما أصبحوا غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها). وفي رواية أبي هريرة عند مسلم أنَّ عمر رضي الله عنه قال: (ما أحببت الإمارة إلا يومئذ). قال شيخ الإسلام: إن في ذلك شهادة النبي صلى الله عليه وسلم لـ علي بإيمانه باطناً وظاهراً، وإثباتاً لموالاته لله تعالى ورسوله، ووجوب موالاة المؤمنين له، وإذا شهد النبي صلى الله عليه وسلم لمعين بشهادة أو دعا له أحب كثير من الناس أن يكون له مثل تلك الشهادة ومثل ذلك الدعاء، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم يشهد بذلك لخلق كثير، ويدعو لخلق كثير، وهذا كالشهادة بالجنة لـ ثابت بن قيس وعبد الله بن سلام، وإن كان قد شهد بالجنة لآخرين، والشهادة بمحبة الله ورسوله للذي ضرب في الخمر]. ثابت بن قيس بن شماس هو خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان جهوري الصوت، يتكلم فيكون صوته عالياً، فلما نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2] عند ذلك خاف وقال: إذاً أنا المعني بهذه الآية؛ لأني أجهر بصوتي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذاً قد حبط عملي. فجلس يبكي في بيته، ففقده النبي صلى الله عليه وسلم، فسأل عنه فقيل له: إنه يقول كذا وكذا. فقال: (بل هو من أهل الجنة)، وأمر به أن يؤتى به، فصارت هذه شهادة من النبي صلى الله عليه وسلم بأنه من أهل الجنة. وكذلك عبد الله بن سلام شهد له أيضاً عند رؤيا رآها فقال: (هو من أهل الجنة). وغير هذا كثير حين شهد لأناس فأخبرهم بأنهم في الجنة، فقد قال صلى الله عليه وسلم، (أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة) حتى عد عشرة، ولهذا يسمونهم العشرة المشهود لهم بالجنة، بل جاء أنه قال: (لا يدخل النار من بايع تحت الشجرة)، وهذه شهادة لهم بالجنة، والذين بايعوا تحت الشجرة ألف وأربعمائة من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك لما كتب حاطب بن أبي بلتعة إلى الكفار يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم سأل الله جل وعلا أن يعمي على قريش أمره حتى يبغتهم في بلادهم؛ لأنهم نقضوا عهده الذي كتبه بينه وبينهم في الحديبية، حيث ظاهروا على حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من خزاعة، وقتلوهم ركعاً وسجداً كما قال شاعرهم، ثم جاؤوا يطلبون تمديداً؛ لأنهم أحسوا أنهم نقضوا العهد فأرادوا تجديده وتمديد الوقت، فلم يجبهم بشيء، ولم يكلم رسولهم بشيء، بل كل الصحابة لم يكلموه، جاء أبو سفيان إلى أبي بكر فلم يكلمه بشيء، ثم جاء إلى عمر فقال له: والله لو لم يكن معي إلا الذر لقاتلتكم. وجاء إلى علي فقال له: اذهب إلى المسجد فقل: إني مددت الوقت ووضعت كذا وكذا ثم اذهب. فجاء إلى المسجد فتكلم بهذا الكلام، فلما رجع إلى قومه قالوا: ماذا وراءك؟ فقال: ما وجدت من يجيبني غير أن علي بن أبي طالب قال لي كذا وكذا ففعلته فقالوا: ما زاد على أن ضحك عليك. فتجهز الرسول صلى الله عليه وسلم وسأل ربه أن يعمي عليهم أمره حتى يبغتهم في بلادهم، فكتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً وأعطاه امرأة فيه: أما بعد: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاكم والمسلمون بجنود لا قبل لكم بها، فجاءه الخبر من السماء، جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر الكتاب، فأمر الزبير وعلي بن أبي طالب ودعاهما وقال: (اذهبا إلى روضة خاخ تجدان فيها ظعينة معها كتاب، فائتياني بالكتاب)، فذهبا على فرسيهما إلى تلك الروضة، فوجدا المرأة معها غنم له، فقالا لها: الكتاب. فقالت: ما معي من كتاب. فقالا لها: والله ما كَذَبْنا ولا كُذِّبنا، لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب. أي: نخلع ثيابك ونفتشك؛ لأنه لابد أن معها الكتاب. فلما رأت الجد أخرجت الكتاب من عقيلتها من تحت شعرها قد وضعته هناك، فجاءا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بقراءته، ثم استدعى حاطباً فقال: ما هذا؟ فقال: يا رسول الله! لا تعجل، والله ليس شكاً مني ولا حباً لهم، ولكني رجل ملصق فيهم، وكل من معك لهم من أقربائهم من يحمي ذويهم وأموالهم إلا أنا، فأردت أن أتخذ عندهم يداً وقد علمت أن الله ينصرك. فقال عمر رضي الله عنه: دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك؟ إنه شهد بدراً، وإن الله قال لأهل بدر: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، فأهل بدر كذلك. ومرة جاء إليه صلوات الله وسلامه غلام لـ حاطب فقال: (والله ليدخلن حاطب النار فقال: (كذبت. لا يدخل النار؛ إنه من أهل بدر)، ومعلوم أن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أفضل الأمة، وهذا معلوم عند المسلمين من أهل السنة، فإنهم أفضل الأمة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك وقال: (خيركم القرن الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يأتي قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته، يقولون ما لا يفعلون، ويشهدون قبل أن يستشهدوا، ويظهر فيهم السمن)، وكذلك ذكر الله جل وعلا في كتابه بأنه رضي عنهم ورضوا عنه في آيات كثيرة، والله جل وعلا لا يثني على من يعلم أنه يكفر وأنه سيرتد؛ لأنه جل وعلا علام الغيوب. والمقصود أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا شهد لإنسان بعينه وقال: إنه من أهل الجنة. أو إنه يحبه الله ورسوله فكل الذين يسمعون يودون أن يكونوا مثل هذا؛ لأن هذه شهادة معينة، وإلا فالله يخبرنا أنه يحب المتقين وكذلك رسوله، ويحب التوابين ويحب المتطهرين، ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص، وهم كلهم بهذه الصفة، وإذا أذنب أحدهم تاب، وهم متطهرون من الشرك ومن الأدناس، وهم كذلك متقون ومحسنون، فلا شك أن الله يحبهم، ولكنهم كانوا إذا جاءت شهادة لمعين بعينه فكل واحد منهم يحب أن يكون كذلك؛ لأن شأن المؤمن ليس كشأن المنافق، وإن أحسن وإن أكثر من العمل فهو على وجل، ويخاف ألا يقبل عمله، ويخاف أن تأتي مؤثرات، فإذا جاءت الشهادة له بعينه اطمأن وأحب ذلك، هذا هو السبب في كونهم كلهم رغبوا في أن تدفع إليهم الراية، ورغبة كل واحد منهم في أن تدفع إليه الراية ليست حباً في الإمارة، كما قال عمر: (ما أحببت الإمارة إلا يومئذ)، وذلك لأجل قوله صلى الله عليه وسلم: (يحبه الله ورسوله)، لأجل هذا فقط حتى يتحلى بذلك، ومثل هذا الحديث الذي تقدم، والذي فيه أنه لما ذكر الذين يدخلون الجنة بغير حساب قام عكاشة بن محصن فقال: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم فقال: (اللهم اجعله منهم)، ثم قام رجل آخر وقال: ادع الله أن يجعلني منهم الحديث. إذاً فمعنى هذا أن كل واحداً يحب هذا الفضل، وليس معنى ذلك أن هذا من خصائص علي بن أبي طالب رضي الله عنه، بل المؤمن المتقي التواب الصادق هو ممن يحبه الله ورسوله، وكذلك المقاتل في سبيل الله الصابر المقبل المحتسب يحبه الله ورسوله.

شرح فتح المجيد [26]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [26] الجهاد في سبيل الله باقٍ إلى قيام الساعة، والغرض من الجهاد هو الدعوة إلى الله عز وجل وإدخال الناس في دين الله، وللجهاد شروط وآداب وضوابط يجب معرفتها، ومن تلك الضوابط أنه لابد أن يعرض المسلمون على الكفار قبل قتالهم الدخول في الإسلام، فإن أبوا فالجزية، فإن أبوا فالقتال.

من علامات نبوة النبي صلى الله عليه وسلم

من علامات نبوة النبي صلى الله عليه وسلم قال الشارح رحمه الله: [وقوله: فقال: (أين علي بن أبي طالب؟) فيه سؤال الإمام عن رعيته وتفقد أحوالهم. قوله: (فقيل: هو يشتكي عينيه)، أي: من الرمد. كما في صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فقال: (ادعوا لي علياً. فأتي به أرمد) الحديث، وفي نسخة صحيحة بخط المصنف: (فقيل: هو يشتكي عينيه، فأرسل إليه) مبني للفاعل، وهو ضمير مستتر في الفعل راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ويحتمل أن يكون مبنياً لما لم يسم فاعله. ولـ مسلم من طريق إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه رضي الله عنه قال: (فأرسلني إلى علي فجئت به أقوده أرمد). فقوله: (فبصق) بفتح الصاد، أي: تفل. وقوله: (ودعا له فبرأ) هو بفتح الراء والهمزة، أي: عوفي في الحال عافيةً كاملة كأن لم يكن به وجع من رمد ولا ضعف بصر. وعند الطبراني من حديث علي رضي الله عنه: (فما رمدت ولا صدعت منذ دفع النبي صلى الله عليه وسلم إليَّ الراية). ]. هذا أيضاً من علامات النبوة، كونه لما تفل في عينيه وهو أرمد ودعا له زال الرمد في الحال وذهب، حتى أفضل العلاجات الناجحة لا تعمل هذا العمل، فلابد أن يكون هذا من الله جل وعلا. والتفل والبصاق من غير النبي صلى الله عليه وسلم قد يزيد الرمد رمداً، ويزيد المرض مرضاً، كما يذكر عن الكذاب مسيلمة الذي زعم أنه نبي فصار أضحوكة للناس، ذكر بعض المؤرخين عنه أنه جيء له بمريض حتى يبارك عليه أو يدعو له فتفل عليه فأصيب بالقرع وذهب شعر رأسه، وكذلك ذكروا أن عمرو بن العاص -وكان صديقاً له في الجاهلية- جاء إليه فسأله: ماذا أنزل على صاحبكم؟ فقال: لقد أنزل عليه سورة وجيزة عظيمة بليغة، فقال: ما هي؟ فقال: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3] ففكر مسيلمة قليلاً ثم قال: وأنا أنزل علي مثلها. فقال: ما هي؟ فقال: يا وبر! يا وبر! إنما أنت رأس وصدر، وباقيك حقر نقر. ماذا تقول يا عمرو؟! فقال له عمرو: والله إنك لتعلم أني أعلم أنك كاذب. فهذا كلام الرب جل وعلا، وهذه الآيات الباهرة المعجزة التي يجريها الله على يد رسوله صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن تلتبس.

وجوب الإيمان بالقدر

وجوب الإيمان بالقدر قال الشارح: [وفيه دليل على الشهادتين. وقوله: (فأعطاه الراية) قال المصنف: فيه الإيمان بالقدر؛ لحصولها لمن لم يسع ومنعها عمن سعى]. الإيمان بالقدر أصل من أصول الإيمان. وقوله (فيه الإيمان بالقدر؛ لحصولها لمن لم يسع، ومنعها عمن سعى) أي: الذين تعرضوا لها وجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وصاروا يتطاولون عنده لعله يراهم فيدفع لهم الراية، فمنعوها، وسأل عن علي الذي لم يكن موجوداً فقال: (أين علي بن أبي طالب؟) فدفعت إليه وهو ليس مع الموجودين، يقول: إن هذا يدلنا على وجوب الإيمان بالقدر؛ لأن الشيء الذي قدره الله لابد من حصوله، وهذا لا ينافي فعل الأسباب، بل يدعو إلى أن الإنسان يفعل السبب؛ لأن الإنسان مأمور بفعل السبب، وفعل السبب لا يتأتى به المطلوب على كل حال؛ لأنه إن كان قدر الله جل وعلا ذلك وقع المسبب مطابقاً للسبب ووقع كما قدره الله، وإن لم يقدره الله أتت أمور وأسباب أخرى تمنع وقوعه. ثم إن الإنسان إذا عمل السبب ولم يحصل له المراد فلا يجوز أن يلوم نفسه، ولا أن يقول: لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا؛ لأنه فعل الذي في مقدوره، ثم تبين أنه ما استطاع؛ لأن هذا ليس بقدرته، بخلاف ما إذا جلس ولم يعمل السبب فإنه يكون عاجزاً؛ لأن ترك الأسباب عجز، بل ومنافٍ ومخالف للشرع؛ لأن الله أمر بفعل الأسباب، والقدر عبارة عن الإيمان بعلم الله الأزلي، فإنه علم كل شيء، وكتابته للأشياء التي تقع؛ لأنه جاء في الحديث: (إن الله كتب مقادير الأشياء قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة) والكتابة هي لكل شيء، فكل صغيرة وحقيرة قد كتبت، وكل ما يقع فهو مكتوب، فلا يقع شيء إلا ما كتب في ذلك الكتاب، ثم كذلك الله جل وعلا هو الذي مشيئته نافذة، فإذا شاء وجود شيء وجد، وإذا شاء ألا يوجد لا يوجد، كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30]، ثم كذلك الله جل وعلا هو الخالق وحده، وكل ما سواه مخلوق، تعالى الله وتقدس.

مراتب القدر

مراتب القدر فهذه الأمور الأربع هي التي تحقق إيمان الإنسان بالقدر. الأمر الأول: الأيمان بعلم الله الشامل القديم الأزلي لكل شيء، وأنه لا يفوت علمه شيء. الأمر الثاني: كونه سبحانه وتعالى كتب ما سيقع، فكل ما سيقع مكتوب في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة. الأمر الثالث: أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. الأمر الرابع: أنه خالق لكل شيء، وما سواه مخلوق. وهذه تسمى درجات الإيمان بالقدر، ولا بد من الإيمان بها.

العمل بالأسباب لا ينافي الإيمان بالقدر

العمل بالأسباب لا ينافي الإيمان بالقدر إذا آمن الإنسان بالقدر فلا ينافي أنه يعمل، بل أُمر الإنسان بالعمل فقيل له: افعل الأسباب. كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، فإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل)؛ فإن (لو) تفتح عمل الشيطان، فالتوكل في الواقع هو فعل السبب، ثم الاعتماد على الله جل وعلا في حصول المقصود المطلوب. وحقيقة التوكل أن تفعل السبب ثم تعتمد بعد فعلك السبب في حصول مطلوبك على الله جل وعلا، فلا يعتمد الإنسان على علمه، ولا على قوته، ولا على ماله أو سلطانه أو غير ذلك، بل يعتمد على ربه جل وعلا؛ فإن الله جل وعلا قد يجعل السبب غير مؤثر، وقد يجعل للسبب موانع كثيرة إذا شاء، كما جعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم؛ لأن مثل هذا لا يعهد، وكما جعل مريم عليها السلام تلد بلا اتصال ذكر بها، وكذلك الأمور التي هي أدنى من هذا إذا شاء جل وعلا أن يمنع السبب منعه، فلابد من الاعتماد على الله؛ لأن كل شيء بيده. إذاً لابد من فعل السبب، وليس الجلوس في البيت -مثلاً- وتعطيل الأسباب من التوكل في شيء، بل هذا عجز يلام الإنسان عليه، وهذا أمر العقلاء لا يقبلونه، فهل يمكن للإنسان أن يقول: إذا كان قد قدر لي ولد فسوف يحصل بلا زواج؟! لو قال الإنسان هذا لقيل: إنك مجنون فلابد من فعل الأسباب، لذلك لا يجوز للإنسان أن يجلس في البيت ويقول: إذا قدر لي أكون عالماً فسأكون، ولا داعي للذهاب والتعلم. لأن في هذا الفعل مخالفة للشرع، ومخالفة للأسباب التي جبل الله جل وعلا الناس عليها، فلا بد من فعل السبب، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً)، فالطير ليست جالسة في أوكارها، بل تغدو لطلب الرزق وتروح، فأخبر أنها تغدوا جياعاً خماصاً ليس في حواصلها شيء، ثم ترجع إلى أوكارها في آخر النهار، تروح بطاناً قد شبعت وهي لا تزرع ولا تعمل ولكن يرزقها الله، فأثبت الغدو والرواح لها، فهكذا العاقل يجب أن يعمل، ولا يكون توكله عجزاً، كما يدعي بعض الذين لا يعرفون الشرع ولا يعرفون سنن الله جل وعلا، فالتوكل هو أن تفعل السبب وتعتمد على ربك جل وعلا في حصول المطلوب. وقد أخبر الله جل وعلا أنه ينصر رسله والمؤمنين، ومع ذلك يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60]، فلابد من الإعداد، ولا نقول: قد أخبرنا صلى الله عليه وسلم فلا داعي لأن نستعد. بل يجب أن نعد أنفسنا ونتجهز ونطلب السلاح الذي يجب أن يُطلب، كذلك يقول الله تعالى في آية أخرى: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء:102] فأمرهم أن يأخذوا أسلحتهم في الصلاة، وأن يقسموا أنفسهم، فقسم يصلي وقسم يحرس ينظر العدو، ومع ذلك حذرهم.

حقيقة الإسلام، ومعنى الشهادة

حقيقة الإسلام، ومعنى الشهادة قال الشارح رحمه الله تعالى: [فلابد من أخذ الأسباب، فالأسباب لا تنافي التوكل، بل فعل الأسباب هو التوكل، ولكن لا يجوز أن يعتمد على السبب، فالاعتماد على السبب شرك، وتعطيل السبب عجز وقدح في العقل، فالمؤمن يفعل السبب ويعتمد على الله جل وعلا. قوله: (فقال: انفذ على رسلك) بضم الفاء. أي: امض، و (رسلك) بكسر الراء وسكون السين، أي: على رفقك من غير عجلة. و (ساحتهم) فناء أرضهم وهو ما حولها. وفيه الأدب عند القتال، وترك العجلة والطيش والأصوات التي لا حاجة إليها. وفيه أمر الإمام عماله بالرفق من غير ضعف ولا انتقاض عزيمة، كما يشير إليه قوله: (ثم ادعهم إلى الإسلام) أي: الذي هو معنى شهادة أن لا إله ألا الله وأن محمداً رسول الله. وإن شئت قلت: الإسلام: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وما اقتضته الشهادتان من إخلاص العبادة لله وحده، وإخلاص الطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم. ومن هنا طابق الحديث الترجمة كما قال تعالى لنبيه ورسوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64]. قال شيخ الإسلام رحمه الله: والإسلام هو الاستسلام لله، وهو الخضوع له والعبودية له. كذا قال أهل اللغة]. هذه الجملة من الحديث هي محل الشاهد للباب؛ لأن الباب باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله. وهنا يقول: (انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم لله فيه)، فقوله: (ادعهم إلى الإسلام) هذا هو المراد من سياق الحديث. وشهادة أن لا إله ألا الله هي الإسلام في الواقع؛ لأن معناها: ألا يكون للمسلم مألوه غير الله، وألا يكون المسلم منقاداً ومطيعاً في الحلال والحرام وما يتقرب به إلى الله إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله، فلابد يكون الدين كله لله خالصاً. وقوله: (وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه) يعني: في الإسلام، مثل وجوب الصلاة، ووجوب الزكاة، وصوم رمضان، والحج على من استطاع إليه سبيلاً، هذا هو الذي يجب عليهم لله جل وعلا فيه، فدل هذا على أن الصلاة والزكاة وصوم رمضان وحج البيت واجبات في الإسلام. وأما حقيقة الإسلام فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والإسلام هو: استسلام القلب بالطاعة، والانقياد لله جل وعلا بالإخلاص، وكذلك متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي: طاعته فيما جاء به من عند الله جل وعلا، وألا يُعبد الله جل وعلا إلا بشرعه الذي شرعه، هذا هو الذي يجب على المسلمين عموماً أن يعلموه ويعملوا به، ويدعوا الناس إلى أن يكون المعبود هو الله، والمشرع هو الله الذي يأمر وينهى في كل ما يتصل بهم في حياتهم من التحليل والتحريم؛ لأن المسلم مقيد بشرع الله لا يجوز أن يخرج عن شرع الله، فإن خرج عن شرع الله سواء في المعاملات أو فيما هو خاص بنفسه من العبادات فإنه يكون مخلاً بشهادة أن لا إله إلا الله، فإما أن يكون ذلك منافياً لها، أو يكون قادحاً في كمالها منقصاً لها، فيكون مستوجباً للعذاب، وقد يعذبه الله وقد يتوب عليه، أما إذا جاء بالمنافي فإنه يكون من أهل النار -نسأل الله العافية! - وذلك فيما إذا جاء بالشرك؛ لأن الذي ينافي شهادة أن لا إله إلا الله هو أن يعبد غير الله، والعبادة لغير الله جل وعلا أنواع يفعلها الإنسان وهو لا يدري، مثل الذي يتجه إلى الضريح ويسأله النفع، أو يسأله أن يدفع عنه ضراً من مرض أو عدو أو ما أشبه ذلك، ويقول: إن هذا توسل، وإن صاحب الضريح يدعو الله فيحصل المراد فقط وإلا فهو لا يملك شيئاً مع الله. وهذا شرك أكبر؛ لأن هذا هو شرك المشركين الذين كانوا يجعلون أصنامهم وأوثانهم وسائط بينهم وبين الله ويزعمون أنها تشفع لهم فقط، ولم يكونوا يعتقدون أن الأصنام والمعبودات التي جعلوها معبودات لهم وسموها آلهة لم يكونوا يعتقدون أنها تتصرف مع الله، وإنما كانوا يقولون: إنها تشفع لنا عند الله، فهذه الشفاعة التي يزعمونها هي الشرك بعينه. والمقصود أن معنى الإسلام هو ما اقتضته شهادة أن لا إله إلا الله؛ لأن قول الإنسان: أشهد أن لا إله إلا الله معناه: أن لا أعبد إلا الله. والأفعال التي يفعلها تكون تبعاً للعبادة، سواء في المعاملات التي تكون في البيع والشراء، أو المعاملات التي تكون مع الناس، أو غير ذلك، أي أنه لا يجوز أن يحل حراماً أو يحرم حلالاً ويقول: إنني حر أتصرف كيف أشاء فإنه ليس حراً، بل هو عبدٌ لله، يجب أن يمتثل لأمر الله جل وعلا وينقاد مطيعاً خاضعاً له، فإذا خرج عن ذلك فإنه يخرج عن عبادة الله إلى عبادة هواه أو الشيطان.

القلب أصل الإيمان والأعمال

القلب أصل الإيمان والأعمال قال الشارح رحمه الله: [وقال رحمه الله: ودين الإسلام الذي ارتضاه الله وبعث به رسله هو الاستسلام له وحده، فأصله في القلب، والخضوع له وحده بعبادته وحده دون ما سواه، فمن عبده وعبد معه إلهاً آخر لم يكن مسلماً، ومن استكبر عن عبادته لم يكن مسلماً، وفي الأصل هو من باب العمل عمل القلب والجوارح، وأما الإيمان فأصله تصديق القلب وإقراره ومعرفته، فهو من باب قول القلب المتضمن عمل القلب. انتهى]. قول القلب وعمل القلب: هو عبارة عن الأمور التي تكون في القلب من العلم والخشوع والخشية والخوف الرجاء والإنابة والاستسلام والانقياد. فهذه هي أعمال القلب، ثم تنبعث هذه على الجوارح، ويأتي العمل تبعاً للقلب؛ فلهذا قال: (الأصل في القلب) يعني: أصل الإيمان في القلب. بل أصل الأعمال كلها في القلب؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات) والنية هي: عمل القلب.

وجوب تخيير الكفار قبل قتالهم إذا لم تكن الدعوة قد بلغتهم

وجوب تخيير الكفار قبل قتالهم إذا لم تكن الدعوة قد بلغتهم قال الشارح رحمه الله: [فتبين أن أصل الإسلام هو التوحيد ونفي الشرك في العبادة، وهو دعوة جميع المرسلين، وهو الاستسلام لله تعالى بالتوحيد والانقياد له بالطاعة فيما أمرهم به على ألسن رسله، كما قال تعالى عن نوح أول رسول أرسله: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} [نوح:3]. وفيه مشروعية الدعوة قبل القتال، لكن إن كانوا قد بلغتهم الدعوة جاز قتالهم ابتداءً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارُّون، وإن كانوا لم تبلغهم الدعوة وجبت دعوتهم. قوله: (وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه) أي: في الإسلام، إذا أجابوك إليه فأخبرهم بما يجب من حقوقه التي لابد لهم من فعلها، كالصلاة والزكاة، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها)، ولما قال عمر لـ أبي بكر في قتاله مانعي الزكاة: (كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها؟ قال أبو بكر: فإن الزكاة حق المال، والله! لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها). وفيه بعث الإمام الدعاة إلى الله تعالى، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون يفعلون، كما في المسند عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال في خطبته: (ألا إني والله! ما أرسل عُمالي إليكم ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم وسننكم). قوله: (فوالله! لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) (أن) مصدرية، واللام قبلها مفتوحة لأنها لام القسم، و (أن) والفعل بعدها في تأويل مصدر رفع على الابتداء، والخبر (خير)، و (حمر) بضم المهملة وسكون الميم، جمع أَحْمر. و (النعم) بفتح النون والعين المهملة، أي: خير لك من الإبل الحمر، وهي أنفس أموال العرب. قال النووي: وتشبيه أمور الآخرة بأمور الدنيا إنما هو للتقريب إلى الأفهام، وإلا فذرة من الآخرة خير من الأرض بأسرها وأمثالها معها. وفيه فضيلة من اهتدى على يديه رجل واحد، وجواز الحلف على الخبر والفتيا ولو لم يستحلف]. هذا الحديث سيق لأجل قوله: (ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب لله عليهم فيه، فإن هم فعلوا ذلك) معنى هذا: أنه يكف عنهم. وقوله: (إن هذا يدل على وجوب الدعوة إذا لم تكن قد بلغتهم) معنى هذا: أنه إذا كان المسلمون يقاتلون كفاراً، فإن كان الكفار لم تصل إليهم دعوة المسلمين والمعرفة بدينهم فلا يجوز أن يبدءوهم بالقتال حتى يعلموهم ويبينوا لهم ذلك، فإن قبلوا الدين وجب أن يكفوا عنهم؛ لأن القتال شرع حتى لا يكون في الأرض شرك، كما قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة:193]، والفتنة هي الشرك، فالقتال شُرع لهذه الغاية، فإذا تركوا الشرك وجب أن يكف عنهم. هذا بالنسبة لمن يقاتل من الكفار الجاهلين بالدين الإسلامي، فإنه يجب أن يدعوهم إلى الإسلام أولاً، ويبين لهم أن هذا أمر متعين يجب قبوله على كل عبد، فإن أبوا عن قبوله وجب على عباد الله أن يقاتلوا عباد الشيطان، والله جل وعلا جعل العداوة بين أوليائه وأولياء الشيطان، ثم المقاتلة لابد منها، فإن لم يحصل القتال حصلت الفتنة والفساد العريض في الأرض، فإذا أصبح المسلم مخالطاً للمشرك، وأصبح لم يتبرأ منه ولم يظهر له العداوة، فسينتشر الفساد العريض في الأرض، كما أخبر الله جل وعلا في آخر سورة الأنفال لما ذكر أن المؤمنين أولياء المؤمنين وأن بعضهم ينصر بعضاً. وإذا استنصر المؤمن أخاه المؤمن وجب عليه أن ينصره، ثم ذكر أن الكافرين بعضهم أولياء بعض فقال: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ} [الأنفال:73] يعني: إلا تفعلوا هذا الشيء بأن يكون المؤمن ولي المؤمن {تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73]، والفساد الكبير في الأرض هو بأن تفسد الأخلاق وتفسد الأديان، ولهذا يقول في الآية الأخرى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22]. فالمقصود أن مشروعية القتال هي لأجل أن يكون الدين كله لله، وليس من أجل أموال يحصل عليها المسلمون، أو بلاد يستغلونها، أو تكون تحت أيديهم، أو فدية تدفع لهم، أو ما أشبه ذلك من أمور الدنيا، ولهذا كان الصحابة رضوان الله عليهم عند أن كانوا يقاتلون الفرس والروم وغيرهم في بلاد الله كانوا يخيرونهم بين ثلاث، وكانوا يبينون لهم أنهم كانوا في جاهلية وكانوا فقراء وكانوا من أضعف الناس فمنَّ الله جل وعلا عليهم بأن أرسل إليهم نبياً يعرفون نسبه وصدقه وأمانته، وأنزل عليهم كتابه، فآمنوا به واتبعوه، فأبدلهم بالقلة كثرة، وبالذلة عزة، وصاروا يقولون للناس: إن قبلتم هذا الدين فلكم ما لنا وعليكم ما علينا، وأنتم إخواننا، ونرجع عن بلادكم، ولن ندخل في شئونكم وإن أبيتم فأمامكم أمران -هذا إذا كانوا من أهل الكتاب-: إما أن تدفعوا الجزية وأنتم صاغرون أذلاء، وإما القتال بيننا وبينكم، ويد الله مع من شاء، ونصره لعباده المؤمنين. هكذا كانوا يقولون لمن أتوه ليقاتلوه، وهذا هو الذي تلقوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

استحباب تخيير الكفار الذي قد بلغتهم الدعوة

استحباب تخيير الكفار الذي قد بلغتهم الدعوة وأما قوله: (فإن كانت الدعوة قد بلغتهم) أي: فإن الدعوة تكون مستحبة. وهذا لأن يهود خيبر الذين ذكر فيهم هذا الحديث كانوا قد بلغتهم الدعوة، وكثير منهم أُخرج من المدينة؛ لأنهم حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، وحاولوا قتله وحاولوا مظاهرة الكفار عليه، وحاولوا بكل وسيلة أن يقضوا على الإسلام وعلى رسول الإسلام صلوات الله وسلامه عليه، ثم أجلي بعضهم إلى الشام وبعضهم إلى خيبر، فهم كانوا عارفين بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم وبالإسلام، ومع هذا قال صلى الله عليه وسلم لـ علي رضي الله عنه لما دفع له الراية: (امض على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام). ولابد في الدعوة إلى الإسلام من أن يبين ما هو الإسلام، ولا يكفي أن يقول: أدعوك إلى الإسلام، بل يبين له أن الإسلام هو عبادة الله وحده، وترك عبادة كل معبود سواه، وأنه اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته في كل ما أمر واجتناب كل ما نهى عنه، وأنه إقامة الشرائع التي شرعها الله جل وعلا، فإذا بين لهم فعند ذلك يقاتلهم إذا امتنعوا من القبول. فأخذ من هذا أن تكرار الدعوة للكفار قبل القتال مستحبة، وإن كانوا قد دعوا قبل هذا فتعاد عليهم الدعوة مرة ومرة لعلهم يدخلون في الإسلام؛ لأن هذا هو المقصود، وأما القتال فليس مقصوداً لذاته، وإنما يقصد القتال لتكون كلمة الله هي العليا ويظهر دينه وينكف من يمنع انتشار الدين الإسلامي، فالذين يقومون في وجه الدعوة يجب أن يقاتلوا حتى ينكفوا عن ذلك ويتركوا الدعوة تمضي إلى عباد الله في الأرض كلها.

الجهاد باق إلى قيام الساعة وهو سبب عزة المسلمين

الجهاد باقٍ إلى قيام الساعة وهو سبب عزة المسلمين ثم من المعروف من شرع الإسلام وعليه علماء الإسلام أن الجهاد مشروع إلى آخر من يكون على هذا الدين من هذه الأمة إلى أن يرث الله جل وعلا الأرض ومن عليها، فما دام الدين الإسلامي قائماً فمشروعية الجهاد قائمة لم تنسخ، حتى إذا نزل عيسى عليه السلام في آخر الزمان فإنه ينزل حاكماً بهذا الدين، ولا يأتي بشرع جديد، بل يكون من أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعند أن ينزل يقاتل الكفار بهذا الشرع الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا الدين هو آخر الأديان وهو خاتمها، كما أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو خاتم الرسل فليس بعده رسول. والله جل وعلا يحكم ما يريد ويفعل ما يشاء، إذا شاء نصر عباده أظهرهم وصار الجهاد ظاهراً، وجعل راية الإسلام مرفوعة، وإذا شاء ضعف المسلمين جعلهم تحت حماية الكفار، وجعل الكفار هم الظاهرين، ولكن هذا لا يكون إلا بسبب أفعال المسلمين أنفسهم، وبسبب عدم تمسكهم بدينهم وبسبب رغبتهم في الدنيا، كما قال صلوات الله وسلامه عليه: (إذا رضيتم بالزرع واتبعتم أذناب البقر وتركتم الجهاد في سبيل الله سلط عليكم ذلاً لا ينزعه حتى تراجعوا دينكم). وفي الحديث الآخر قال صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكله على قصعتها، قالوا: أمن قلة نحن يا رسول الله؟! قال: لا؛ أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، تُنزع من قلوبكم المهابة ويُقذف فيها الوهن، فقالوا: وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت)، فإذا أحب المسلمون الدنيا ورضوا بها وكرهوا الموت في سبيل الله فهنا يأتي الذل وتأتي المهانة، ويأتي تسلط العدو عليهم، ولا يكون العز إلا إذا سلكوا مثل مسلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان قائدهم إذا أتى الكفار يقول لهم: يا هؤلاء! والله لقد جئتكم بقوم يحبون الموت، كما تحبون الحياة. هكذا كانوا يحبون الموت في سبيل الله، يحبونه كما يحب الكفار الحياة، وكانوا إذا قُتل واحد منهم يهنئونه، ويقولون: هنيئاً لك الشهادة. وكل واحد يودُّ لو أنه هو الذي قُتل، فإذا كانوا بهذه المثابة كانوا أعزاء وأقوياء، ونصر الله معهم. ولما ذهب عمرو بن العاص رضي الله عنه لافتتاح مصر وحصل ما حصل بينه وبين الروم جمعوا له جمعاً كثيراً قيل: إنهم بلغوا ما يقرب من أربعمائة ألف مقاتل. وكان معه عدد قليل لا يمكن أنه يصمد بهؤلاء أمام الروم، فكتب إلى عمر رضي الله عنه يخبره بالأمر ويستحثه بأن يرسل له مدداً ويقول: أقل ما ترسل إلي أربعة آلاف. فكتب إليه عمر رضي الله عنه يعاتبه ويقول له: احترسوا من المعاصي أشد من احتراسكم من عدوكم؛ فإنكم لا تنصرون بعددكم وعدتكم، وإنما تنصرون بطاعتكم لربكم جل وعلا وإتباعكم لسنة رسولكم صلى الله عليه وسلم، فإذا حصلت المعصية تسلط على المسلمين عدوهم ثم أرسل له أربعة رجال فقط بدل أربعة آلاف؛ ومع ذلك نصره الله جل وعلا نصراً ظاهراً على الكفار. فالمقصود أن الله جل وعلا وعد عباده النصر بشرط التقوى والطاعة، فإذا اتقوه وأطاعوه فإن الله جل وعلا ينصرهم، وقد كان الأمر في أول الإسلام أنه لا يجوز أن يفر المسلم من عدد ضعفه مرات، فكان العشرون مأمورين بمغالبة مائتين في أول الأمر، ثم خفف عنهم وصار الضعف، فإذا كان أمام المسلمين ضعفهم فهذا أمر قد وعد الله جل وعلا بأن النصر لهم، ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لن يُغلب عشرة آلاف من قلة)، أي: مهما كانوا أعداؤهم لأن الكثرة ليس لها معنى إذا لم يكن فيها تأييد من الله، فلابد أن يكون هناك ثقة بالله، والتأييد والنصر لا يكون إلا مع الطاعة والإتباع، فإذا وجد هذا فالنصر لابد منه بإذن الله تعالى؛ لأن وعد الله حق، والله لا يخلف وعده. وإذا ترك الجهاد في سبيل الله فالمسلمون ضعفاء ولابد، ولهذا من السنة الدعاء بإعلاء كلمة الله وإقامة الجهاد في سبيله، بل من الأمور الواجبة على المسلم أن يهتم بهذا؛ لأن الذي لا يهتم بأمر المسلمين ليس منهم، والمسلمون اليوم تمزق أشلاؤهم في كل مكان وتنتهك أعراضهم وتمتهن كرامتهم، ولا أحد ينتصر لهم مع الأسف، وهذا بسبب إعراضنا عن ديننا، أما لو كنا مهتمين بذلك فلن يتجرأ أعداء الله على شيء من ذلك، وقد عرف أن الإسلام يبني الرجال الأبطال الذين لم يسبق لهم نظير في التاريخ، ولهذا الصحابة رضوان الله عليهم فتحوا البلاد في وقت وجيز حتى وصلوا إلى المحيط الأطلسي وإلى حدود الصين، فدخلت تحت حكمهم هذه البلاد الواسعة العريضة، مع أنهم ليسوا كثرة كاثرة، بل كانوا يواجهون قوماًً يفوقونهم في أسلحتهم وفي كل إمكانياتهم، وكانت أسلحة المسلمين سيوفاً مؤثرة بالقد، وخيولهم مخطومة بالليف، وثيابهم قصيرة، وهؤلاء -أحياناً- يقاتلونهم على الفيلة، ومع ذلك نصرهم الله جل وعلا؛ لأن من صبر وأطاع الله ورسوله ينتصر على عدوه بلا شك، وهكذا إذا عاد المسلمون إلى ربهم جل وعلا وراجعوا دينهم فستعود لهم الكرة، ويصبحون قادة وسادة الدنيا؛ لأن وعد الله باقٍ، وكما كان لأول الأمة فهو لسائر الأمة بشرط الصبر والمتابعة والتقوى. هذا مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقاتل مقاتلة عظيمة، وكان إذا اشتد القتال تدرع به الأبطال، كما جاء أنهم رضوان الله عليهم كانوا إذا اشتد القتال يتقون برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يباشر القتال بنفسه صلوات الله وسلامه عليه، وكان يقول: (لولا أن أشق على أمتي ما تركت سرية تخرج إلا وخرجت معها)، ومن باب أولى ولا جيش ولا غيره؛ ومع ذلك خرج خرجات كثيرة جداً يقاتل بنفسه صلوات الله وسلامه عليه، ولما كان في غزوة حنين كان مسروراً، والكفار قد كمنوا لهم دون علمهم، فسار المسلمون في الوادي على غفلة فرشقوهم بالنبل وهم غافلون ما استعدوا ففروا وهزموا، فعند ذلك نزل الرسول صلى الله عليه وسلم من على بغلته وصار يقول: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب، هلم إلي) فصار المسلمون يرجعون إليه شيئاً فشيئاً حتى حمي القتال، وصاروا يأتون بالأسرى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا غاية الشجاعة، فكون الصحابة ينهزمون ثم يترجل عن دابته ويعلن للناس: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب يعني: كأنه يقول: هلم إليّ إذا كان عندكم قوة وشجاعة

الواجب على المؤمن أن يكون واثقا بالله

الواجب على المؤمن أن يكون واثقاً بالله وهكذا المؤمن يجب أن يكون قوياً واثقاً بالله، ويكون أيضاً ضعيفاً إلى ربه جل وعلا ومستنصراً يدعوه بكل افتقار ولهف، كما كان صلوات الله وسلامه عليه كذلك، فإنه يوم بدر صار يمد يديه إلى السماء ويقول: (يا رب يا رب! وعدك الذي وعدتني، يارب! أنجزني وعدك) حتى سقط رداؤه من على كتفه من شدة مبالغته في رفع يديه في الدعاء، فأخذ رداءه أبو بكر ووضعه على كتفيه، وقال: حسبك مناشدتك لربك، والله! لينصرنك الله. وهذا ثقة بوعد الله جل وعلا؛ لأنه وعد رسوله والمؤمنين بالنصر.

فضل الجهاد والشهادة في سبيل الله

فضل الجهاد والشهادة في سبيل الله وعلى كل حال فالجهاد في سبيل الله أفضل الأعمال، كما قال صلوات الله وسلامه عليه في الإسلام: (وذروة سنامه الجهاد) فذروة سنام الإسلام هو الجهاد في سبيل الله، أي: أعلى خصال الإسلام الجهاد في سبيل الله. ومن دخل الجنة لا يتمنى أن يرجع إلى الدنيا إلا الشهيد؛ فإنه إذا رأى من الكرامة التي أعدت عند ربه يتمنى أنه يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى حتى يحصل له أيضاً مما يرى من الشيء العظيم، أما غيره من الأموات من أهل الخير فإذا مات فما عند الله خير له مما خلف، فلا يتمنى الرجوع إلى الدنيا.

الدعوة إلى الله تكون بالجهاد وبغيره

الدعوة إلى الله تكون بالجهاد وبغيره ثم إن الدعوة إلى الله مطلقة في غير الجهاد على حسب طاقة الإنسان، فيتعين على المسلمين أن يقوموا بها، فإذا قام بها من يكفي تسقط عن البقية وإلا أثموا جميعاً، وأهم من يقوم بهذا هم أهل المقدرة في المال، وكذلك من كان في السلطة، فهؤلاء الذين يستطيعون أن يقوموا بهذا، فإذا لم يقوموا بهذا فإنه أيضاً واجب على جميع المسلمين كل بحسبه وقدرته.

أجر الداعي إلى الله جل وعلا وإثم الداعي إلى الضلال

أجر الداعي إلى الله جل وعلا وإثم الداعي إلى الضلال فيجب أن يدعو الإنسان إلى الله عز وجل، وفي الدعوة الخير الكثير. ومما بين لنا صلوات الله وسلامه عليه في هذا الحديث قوله (فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) أي: خير لك من النوق الحمر، وهذا في وقته صلوات الله وسلامه عليه؛ لأن في وقته كان أفضل الأموال وأنفسها هي النوق الحمر، أما في هذا الوقت فقد تغير الحال، وكما قال النووي: هذا تقريب للأذهان فقط، وإلا فذرة من أمور الآخرة خير مما طلعت عليه الشمس. يعني: خير من الأرض كلها وما عليها، وإنما يقول صلوات الله وسلامه عليه ذلك تقريباً للأفهام فقط، يقول: لرجل يهتدي على يديك فيدخل في الإسلام خير لك من الدنيا لو قدر أنها تحصل لك هذا معنى الكلام، وذلك أن بهدايته يحصل لك من الأجر مثل الأجر الذي يتحصل عليه هو من غير أن ينقص من أجره شيء، وزيادة في ذلك أنك أنقذت إنساناً من النار. وقد قال الله جل وعلا في قتل الأنفس: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32] أي أن الذي يحيي النفس كأنما أحيا الناس جميعاً، وليس المقصود بالحياة هنا البعث بعد الموت، فهذا ليس إلى الخلق، ولكن المقصود أن يحول بينها وبين الموت، ومن أعظم الموت موت الكفر، فكل إنسان كافر فإنه ميت، وإذا دخل في الإسلام فقد حيي، كما قال جل وعلا: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122] يعني: كان ميتاً كافراً فأحياه الله بالهداية إلى الإسلام، وجعل له نوراً يهتدي به إلى الله. فمن اهتدى على يده رجل يكون بهذه المثابة، وكأنما أحيا الناس جميعاً، كما أن الذي يضل على يديه رجل فيخرج من الإسلام إلى الكفر فإن يكون كأنه قتل الناس جميعاً، فبدل كونه يحصل على الفضل يحصل على الإثم العظيم، وذلك أن الله جل وعلا خلق الناس لعبادته وبين لهم طرق الخير وطرق الشر، وجعل الأمر إليهم باختيارهم؛ لأن هذا هو الذي يستحق عليه الإنسان الثواب أو العقاب، فإذا فعل الخير واقتدى بالرسول صلى الله عليه وسلم واتبعه استحق الجنة والثواب العظيم، أما إذا أبى وزُين له سوء عمله وصُد عن هدى الله فإنه لن يعجز الله، وله العقاب الشديد الذي ينتظره بعد الموت. وقد بين ربنا جل وعلا لنا شيئاً من ذلك، أخبر أن الكفار لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها شيئاً، بل يبقون خالدين فيها أبداً ما دامت السماوات والأرض، وجهنم نارٌ تتلظى لا ينطفئ لهبها ولا ينقطع عذابها -نسأل الله العافية! - كما قال سبحانه: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56] والإنسان لو سقط في النار لحظات لمات، ولكن في الآخرة ليس هناك موت، والله جل وعلا القادر على كل شيء يمنع الموت منه، وإلا فالموت يأتيه من كل مكان، ولهذا ينسى الدنيا، وينسى كل ما حصل له من النعيم؛ ولهذا يخبرنا ربنا جل وعلا أنهم إذا وقفوا بين يدي الله يسأل بعضهم بعضاً: كم لبثتم في الدنيا في الأرض؟ فواحد يقول: لبثنا يوماً وبعضهم يقول: لبثنا ساعة، وواحد يقول: لبثنا بعض ساعة. لأن هذا العذاب العظيم لا يُتصور أنه مثل عذاب الدنيا، وهكذا النعيم لا يتصور أنه مثل نعيم الدنيا، بل هو أعظم بمرات، لكن هذا من باب التقريب للأذهان والأفهام، ثم إن الإنسان ليس له أن يقول: لست مكلفاً بالدعوة. كلا، بل الله كلفك، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)، وهل هذا يخص قوماً دون قوم أم يعم الأمة كلها؟ يعم الأمة كلها.

الواجب على الداعي إلى الله جل وعلا

الواجب على الداعي إلى الله جل وعلا يجب على الذي يدعو أن يكون عارفاً بالدعوة، وأن يكون عالما ً بما يدعو إليه، عالماً بأن هذا منكر فيدعو إلى تركه، وأن هذا معروف فيدعو إليه، ولا يدعو بالعادات أو بالجهل؛ فإنه إذا كان بهذه المثابة فإنه يفسد أكثر مما يصلح، بل يجب أن يبدأ بنفسه فيعرف دين الله، فإذا عرفه فلا يقتصر على نفسه، وإنما يدعو الخلق على حسب حاله، والله جل وعلا لم يكلف الإنسان شيئاً لا يستطيعه، فإن استطعت أن تغير بيدك فذاك إليك، وإن لم تستطع فبلسانك، فإن لم تستطع فاسكت عنه، ويبقى الإنكار في القلب، فهو كراهة المنكرات وبغضها وكراهية أهلها وبغضهم، هذا هو إنكاره في القلب، وهذا لا يسقط بحال من الأحوال؛ لأن القلب ليس لأحد عليه سلطة. فالمقصود أن الدعوة واجبة على حسب المقدرة، وبحسب الحال، سواء كانت دعوة الكفار أم دعوة الفسقة والعصاة، كلٌ على حسب المقام والوضع والمكان الذي أنت فيه، ولو أن المسلمين تظافروا على الدعوة إلى الله لتبدلت مجتمعاتهم خيراً، ولكانت أحوالهم أحسن من أحوالهم اليوم، ولكنهم يتساهلون في هذا أو يقصرون فيه أو يجهلونه أو لا يبالون به فحصل بذلك التقصير والنقص كما هو الحال، والله المستعان.

شرح فتح المجيد [27]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [27] الدعوة إلى الله طريق من اتبع الرسول صلى الله عليه وسلم، والإخلاص من أهم مقومات هذه الدعوة، كما أن الدعوة إلى الله على بصيرة من الفرائض، وباب الدعوة إلى الله يستخرج منه الكثير من الفوائد والأحكام، جمع بعضها المصنف في مسائل هذا الباب.

مسائل باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله

مسائل باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله قال المصنف رحمه الله: [فيه مسائل: الأولى: أن الدعوة إلى الله طريق من اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم]. هذا مأخوذ من قوله عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]، فكل من كان له نصيب من اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فلابد أن يكون له نصيب من الدعوة حسب اتباعه، فإن كان اتباعه كاملاً كانت دعوته إلى الله كاملة، وإن كان الاتباع فيه نقص فستكون الدعوة فيها نقص؛ لأنه سبحانه قال: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] يعني: ومن اتبعني يدعو إلى الله علي بصيرة. وهذا يدلنا على أن الداعي إلى الله يجب أن يكون في دعوته على بصيرة. والبصيرة هي العلم فيما يدعو إليه، وكذلك هي الفهم والفقه في هذا الأمر، فيجب عليه أن يُرجع الأمور إلى القواعد الشرعية والكليات التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يكون على حسب ما يزين له نظره يتخبط تخبطاً، فإن هذا لن تنجح دعوته، ثم على هذا ستكون الجدوى فيها قليلة، وقد لا يكون مأجوراً فيها.

الدعوة إلى الله جل وعلا يجب أن تكون خالصة له سبحانه وتعالى

الدعوة إلى الله جل وعلا يجب أن تكون خالصة له سبحانه وتعالى [الثانية: التنبيه على الإخلاص؛ لأن كثيراً من الناس لو دعا إلى الحق فهو يدعو إلى نفسه]. هذا مأخوذ من قوله: {أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ} [يوسف:108]، فقوله: ((إلى الله)) يدلنا على أن الدعوة يجب أن تكون لله، ولا تكون للأنفس ولا للمصالح ولا لغير ذلك، فهنا يقول: فيه التنبيه على وجوب الإخلاص في الدعوة؛ لأن كثيراً من الناس وإن كان ظاهر دعوته أنها إلى الله فهي إلى نفسه، كأن يريد -مثلاً- أن يتبوأ منصباً عندهم، أو أن يعرفوه، أو أن يقال: إنه عالم. أو إنه داعية. أو ما أشبه ذلك مما هو من حظوظ النفس؛ لأن النفس تحب الترأس، وتحب أن ترتفع على الناس وأن يكون لها مقام في قلوبهم، فإذا كان الإنسان يريد هذا الأمر فبئس ما أراد، وستكون دعوته إلى نفسه، وإذا وقف بين يدي الله فسوف يكون ممن ذكر في الحديث الذي في الصحيح: (أول من تسجر بهم النار ثلاثة: رجل قتل في سبيل الله، والآخر أنفق أمواله في سبيل الله -يعني: في الظاهر- وعالم أو متعلم، فيؤتى بالعالم ويقرر بنعم الله عليه، فيقول الله جل وعلا: ماذا صنعت؟ فيقول: يارب! تعلمت فيك العلم وعلمته. فيقول الله: كذبت. وتقول: الملائكة كذبت. ولكنك تعلمت ليقال: هو عالم، فقد قيل. فيؤمر به فيسحب إلى النار)، فهؤلاء ثلاثة أعمالهم من أفضل الأعمال، المجاهد والمتصدق والمتعلم (فيؤتى بالمجاهد الذي قتل في سبيل الله -في الظاهر- فيقرره الله جل وعلا بنعمه فيقر بها، فيقول الله: ماذا عملت؟ فيقول: يا رب! بذلت نفسي في سبيلك حتى قتلت في سبيلك. فيقول الله: كذبت -والله علام الغيوب يعلم ما في قلبه وما في نيته- ولكنك قاتلت ليقال: هو جريء، هو شجاع. فقد قيل) يعني: قد لقيت أجرك وأخذت نصيبك من العمل، وهو قول الناس وقول الناس قد ذهب وانتهى. (ويؤتى بالذي تصدق فيقول الله جل وعلا: ألم أنعم عليك؟ ألم أصح بدنك؟ ألم أهبك المال؟ فيقول: بلى يارب. فيقول: ماذا عملت؟ فيقول: يارب! ما تركت طريقاً من طرق الخير إلا بذلت فيه المال وأنفقته في سبيلك. فيقول الله: كذبت، ولكنك بذلت ليقال: هو جواد، هو كري. وقد قيل، فيؤمر به فيسحب إلى النار) هؤلاء الثلاثة هم أول من تسجر بهم النار -نسأل الله العافية- قبل عباد الوثن؛ لأنهم في الواقع صارت مراءاة الناس والنظر إليهم أعظم عندهم من الله، فهذا الإنسان الذي يدعو ويريد أن يظهر أمام الناس بأنه داعية وأنه عالم وأنه متكلم يستطيع البيان وأنه ذو مقدرة فإنه في الواقع يدعو إلى نفسه لا يدعو إلى الله، وإنما الشيء الذي ينفع ويجدي إذا كان الأمر خالصاً لوجه الله جل وعلا، ومن سنة الله جل وعلا أن المرائي ينكشف، وأن كلامه لا يجدي شيئاً، وأنه لا يدخل القلوب ولا ينفع، وهذا في الغالب وإلا فقد ينفع؛ فإنه جاء في الحديث: (يؤتى بالرجل فيلقى في جهنم فتندلق أقتابه فيدور حولها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع عليه أهل النار، فيقولون: ما بالك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى. كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه) فقد انتفع به، لكنه كان هو المتضرر، فأشقى الناس هو الذي يضل بعلمه وينتفع بعلمه غيره، كالذي يجمع المال من أوجه حرام ويمنع حق الله فيه، ثم يرثه بعده غيره فيطيع الله فيه فيدخل بهذا المال الجنة، والذي جمعه يدخل به النار، فكيف تكون حسرة هذا يوم القيامة وهو يرى غيره قد سعد بماله وهو شقي به؟! هذا كالذي يرى أن غيره سعد بعلمه وهو شقي به، فهؤلاء يتحسرون حسرات عظيمة جداً، بل أشد الناس حسرة هو من كان بهذه المثابة. فالواجب على العبد أن يخلص أعماله لله في كل ما يعمل، والدعوة من أعظم الأعمال وأفضلها.

الدعوة إلى الله جل وعلا يجب أن تكون على بصيرة

الدعوة إلى الله جل وعلا يجب أن تكون على بصيرة [الثالثة: أن البصيرة من الفرائض]. البصيرة من الفرائض، وإذا كانت من الفرائض فالتفريط بها يعاقب عليه الإنسان؛ لأن الفريضة يلزم الإنسان أن يمتثلها، ولكن البصيرة هنا تكون على حسب حال الإنسان، فالإنسان يجب أن تكون عنده بصيرة في عبادته لربه، فيعبد الله على بصيرة، ويجب أن يكون عنده بصيرة في المعاملات التي يتولاها وإلا فسوف يسقط في الحرام؛ لأن الإنسان مكلف في أن يكون تصرفه وفق الشرع الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا لم يكن عنده بصيرة في ذلك فإن يكون آثماً، ويكون واقعاً في المخالفة، ثم ينجر بأسباب ذلك إلى وقوعه في المحرمات، فيستحق بذلك العذاب، وإذا كان الإنسان من ذوي المقدرة في العلم والتعلم ازداد الواجب عليه أكثر من غيره، وهكذا تختلف البصيرة باختلاف المقدرة والاستطاعة، فالذي يجب على العالم ليس مثل ما يجب على العامي، والذي يدخل نفسه في المعاملات وفي شئون المسلمين يجب عليه أكثر ممن لا يكون كذلك، وهكذا، فهذه البصيرة في كل ما يكون منوطاً بالإنسان من الأعمال، سواء الأعمال التي تتعلق بخاصة نفسه وأهله وأولاده، أو الأعمال عامة، فإنه يجب عليه أن يكون عنده بصيرة في الدين لئلا يقع في المخالفات، ولئلا يقع في خلاف الشرع، فإنه إذا وقع في خلاف الشرع فإنه آثم، وليس كونه يقول: أنا جاهل، وأنا ما أعرف يبرر فعله؛ لأن هذا ليس بعذر؛ لأن كتاب الله موجود وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم التي بلغها إلينا موجودة، ولكن إذا حصل تقصير في عدم معرفة ذلك فبسبب تقصير الإنسان في التعلم، فلا يجوز للإنسان أن يقحم نفسه في أمر من الأمور إلا وهو يعرف حكم الله فيه، ولهذا كان من القواعد التي قعدها العلماء قاعدة يقولون فيها: الأصل في العبادات الحرمة حتى يتبين لك أنها مشروعة. وليس معنى ذلك الأصل في العبادات المعلومة مثل الصلاة والصوم والزكاة والحج، لا. وإنما الأصل في الأعمال التي يُتعبد الإنسان بها والتي يرجو بها الثواب من الله جل وعلا، فهي كأنها ممنوعة حتى يأتي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك؛ لأنه صلوات الله وسلامه عليه يقول: (كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد) أي: مردود وهذا في الأعمال التي يتعبد بها، فإذا عمل الإنسان عملاً لم يشرع فهو مردود، فتبين بهذا أنه يجب على الإنسان أن يتعرف على أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى شرعه حتى لا يُرد عمله، ولا يجوز أن يتعبد بالبدع والشيء الذي لم يأت به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإن هذا من المحرمات، بخلاف الأمور التي أصلها الإباحة، فإنها تكون مباحة حتى يأتي الدليل على أنها ممنوعة، مثل المطعومات والمشروبات والمعاملات. فالمقصود أن الإنسان عبدٌ لله، يجب أن يكون ممتثلاً أمر الله ونهيه، وليس هو بعبد لنفسه ولا عبد لغير الله جل وعلا، بل هو عبد لله، والعبد لا يكون خارجاً عن طاعة سيده.

التوحيد تنزيه لله عز وجل

التوحيد تنزيه لله عز وجل [الرابعة: من دلائل حسن التوحيد أنه تنزيه الله تعالى عن المسبة]. وذلك أن الإنسان إذا عمل العمل لله وحده فمعنى ذلك أنه نزه الله عن المسبة، والمسبة معناها أن يُدَّعى أن لله شريكاً، فهذه المسبة المقصود بها أن الإنسان يدعو مع الله أو من دون الله شريكاً، سواءً زعم أنه ولي من أولياء الله أو نبي أو ملك أو حجر أو شجر، أو غير ذلك مما هو موجود في الناس، فكل من طلب منه ما ليس قادراً عليه فإنه يكون بهذا الطالب جاعلاً له شريكاً مع الله جل وعلا، وهذا التنزيه مأخوذ من قوله جل وعلا: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]، ((وسبحان الله)) يعني: تنزيهاً لله أن أقع في الشرك. فدل هذا على أن التوحيد تنزيه لله، وهذا من محاسنه، ولا شك أنه لن ينجو أحد من عذاب الله إلا بالتوحيد، ويكفي في كونه واجباً على الإنسان أن الله خلق الإنسان ليكون موحداً، كما قال الله جل وعلا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].

الشرك مسبة لله سبحانه وتعالى

الشرك مسبة لله سبحانه وتعالى [الخامسة: أن من قبح الشرك كونه مسبة لله]. معنى كون الشرك مسبة لله أن يجعل مع الله من يُدعى ومن يُرجى ومن تُطلب منه الشفاعة؛ لأن الله أخبرنا أنه مالك كل شيء، وليس لأحد معه تصرف، كما قال سبحانه: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ:22] فنفى أن يكون لهم ملك في السموات والأرض، وهذا عام في جميع المدعوين من دون الله، ثم نفى أن يكونوا شركاء للمالك بهذا القدر، ثم نفى أن يكونوا معاونين أو مساعدين للمالك، فماذا بقي؟ لم يبق إلا الشفاعة، فنفاها وقال: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:23]، فكون الإنسان يدعو غير الله جل وعلا ويطلب منه الشيء الذي يطلب من الله أو بعضه يكون بهذا قد تنقص الله جل وعلا، وقد جعل ما هو حق الله للمخلوق الضعيف، وهذا هو معنى مسبة الله جل وعلا، والإنسان يؤذي ربه بكونه يجعل له شريكاً، لهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا أحد أصبر على أذىً سمعه من الله، يدعون له ولداً ويرزقهم ويعافيهم) يدعون له شريكاً ويرزقهم ويعافيهم! أليس هذا عجيباً؟! والله جل وعلا لا يفوته شيء، فمرجعهم إليه، وسوف يجازيهم بما يستحقون، كما قال سبحانه: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية:25 - 26]، ثم بعد المحاسبة إما ثواب وإما عذاب.

أهم الأشياء على المسلم الابتعاد عن الشرك

أهم الأشياء على المسلم الابتعاد عن الشرك [السادسة: -وهي من أهمهما- إبعاد المسلم عن المشركين لا يصير منهم ولو لم يشرك]. هذا مأخوذ من قوله: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]. يقول: إن من أهم المسائل كون المسلم يبتعد عن المشركين، والابتعاد يكون معنوياً ويكون حسياً، فالمعنوي يكون بالاتجاه والديانة والاعتقاد، فلا يجوز للمسلم أن يكون على شيء مما عليه المشرك، وأما الحسي فبالمكان وبالديار، فعلى المسلم أن يكون مبتعداً عنهم، وليقل كما قال الله سبحانه: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108] لا عقيدة وعملاً ونهجاً، ولا موطناً وداراً، بل لابد أن يكون المسلم متميزاً عن المشرك بعيداً عنه، وهذه هي الحنيفية دين إبراهيم الذي أُمرنا بالإقتداء به، كما قال ربنا جل وعلا: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4].

التوحيد أول واجب على العبيد

التوحيد أول واجب على العبيد [السابعة: كون التوحيد أول واجب]. التوحيد هو أول واجب، وهو أول ما يُدعى إليه، فعندما يبدأ الداعي إلى الله جل وعلا بالدعوة فإنه يبدأ بالأصل الذي يُبنى عليه غيره، وكل الأعمال تبنى على التوحيد، والتوحيد معناه أن يكون العمل لله وحده، وأن تُخلص العبادة لله جل وعلا وحده، ولذلك الإنسان إذا كان يعبد الله ويبعد معه غيره فعمله غير مقبول بل كل عمله مردود؛ لأن المشرك لا يقبل منه عمل، فلابد أن يبدأ بما يصحح العمل أولاً، ثم بعد ذلك يبنى على أساس صحيح، فإذا جاءت الأعمال من المخلص الموحد ولو كانت قليلة فهي نافعة، أما الأعمال الكثيرة ممن لا يخلص دعوته وعبادته لله جل وعلا فهي مردودة غير مقبولة. وهذا معنى قول العلماء: إن الإسلام مبني على أصلين: أحدهما: أن تكون العبادة لله وحده، ولا يكون فيها شيء لغيره. الأصل الثاني: أن تكون العبادة بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. وإذا تخلف واحد من هذين الأصلين فإن العبادة مردودة غير معتبرة وغير مقبولة، فإن كانت على غير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فقد تكون بدعة، وقد تكون شركاً فتكون مردودة؛ لأن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً لوجهه. ثم إن كون أول ما يبدأ به هو التوحيد هذا إقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه أول ما بدأ دعوته قال للناس: (قولوا: لا إله إلا الله)، وقال: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) وكذلك الرسل قبله كانوا أول ما يبدأون دعوتهم به هو أن يدعوا إلى عبادة الله وحده جل وعلا، كما قص الله علينا في القرآن أن كل واحد منهم كان يقول: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]، وهذا معنى قولنا: لا إله إلا الله. فقوله جل وعلا الذي ذكره عنه عن الرسل: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} [المؤمنون:32] قوله ((اعبدوا الله)) هو معنى (إلا الله)، وقوله: ((ما لكم من إله غيره)) معنى (لا إله). فالرسل من أولهم إلى آخرهم أصل دينهم واحد، وكلهم جاؤوا بالدعوة إلى عبادة الله وحده جل وعلا، ودليل قول المصنف ما تقدم في هذا الحديث أنه قال لـ معاذ: (إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة ألا إله إلا الله)، وكذلك قوله لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما أعطاه الراية قال له: (انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام)، فالدعاء إلى الإسلام هو الدعاء إلى التوحيد وإلى شهادة ألا إله إلا الله، وهذا هو الذي يجب على الداعي الذي يترسم خطا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعله وأن يبدأ به أولاً، أما قول القائل: إني أبدأ بتحسين أخلاق الناس وبسلوكهم، ثم بعد ذلك يمكن أن يعرفوا التوحيد فإن هذا لا يصلح؛ لأن العمل إذا لم يكن على التوحيد وعلى دين صافٍ فإنه محبط وباطل ولا فائدة فيه، بل يكون تعباً بلا فائدة، كما قال الله جل وعلا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية:2 - 4]، وهذا في الذين يتعبدون على غير أساس، إما لأنهم غير مخلصين لله جل وعلا، أو لأنهم لا يتعبدون على طريقة النبي صلى الله عليه وسلم ويتعبدون بالبدع، وكل واحد من هذين الأمرين يكفي في إحباط العمل، وإن كان الإنسان يخشع وإن كان يتعب وهو على هذه الطريقة فعمله مردود، فكل الاهتمام يجب أن يكون في إخلاص العمل، وفي كونه صواباً، كما قال جل وعلا: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود:7] قال بعض السلف في تفسير هذه الآية: يعني: أيكم أصوبه وأخلصه؛ فإن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لا يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لا يقبل يعني أنه إذا كان على السنة ولم يكن خالصاً لله فهو مردود، وإن كان خالصاً لله وليس على السنة فهو مردود، فلابد أن يكون خالصاً موافقاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.

التوحيد يبدأ به قبل الأعمال

التوحيد يبدأ به قبل الأعمال [الثامنة: أن يبدأ به قبل كل شيء حتى الصلاة]. لأن التوحيد هو الأصل، وعليه تبنى سائر الأعمال كلها، فيجب أن يكون الأساس صحيحاً مكيناً معتبراً وإلا فسوف يكون البناء فاسداً كما هو معلوم في العقل والشرع والنظر.

التوحيد هو معنى شهادة (أن لا إله إلا الله)

التوحيد هو معنى شهادة (أن لا إله إلا الله) [التاسعة: أن معنى أن يوحدوا الله معنى شهادة ألا إله إلا الله]. توحيد الله هو ما دلت عليه شهادة ألا إله إلا الله؛ لأن معنى (لا إله) نفي لتأله لغير الله، و (إلا الله) إثبات التأله لله وحده، فصار في هذا النفي والإثبات، فتوحيد العمل العبادة والالتجاء إلى الله وحده، والعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، سواءٌ أعمال القلوب أو أعمال الجوارح، كلها يجب أن تكون على وفق الشرع، وأن تكون خالصة لله، وأن يكون التأله لله وحده، وإذا حصل تأله لغير الله فإن هذا هو الشرك، والتأله معناه تأله القلب بالحب والخضوع والذل، ويجب أن يكون الحب والخضوع والذل والتعظيم في أداء العبادات لله وحده.

جهل أهل الكتاب بكلمة التوحيد

جهل أهل الكتاب بكلمة التوحيد [المسألة العاشرة: أن الإنسان قد يكون من أهل الكتاب وهو لا يعرفها، أو يعرفها ولا يعمل بها]. المقصود بقوله: [من أهل الكتاب] يعني: من العلماء. فيمكن أن يكون من العلماء وهو لا يعرف معنى هذه الكلمة، أو أنه يعرفها ولكن لا يعمل بها، والعلم إذا لم يهتد به صاحبه فهو شر، ويكون حجة عليه وزيادة عذاب، وعذابه أشد من عذاب الذي لا يعلم، فالذي لا يدعوه العلم إلى أن يكون عبداً لله ولم يكن كلما علم شيئاً زادت عبوديته لله وزاد ذله وخضوعه له وزادت سكينته وتواضعه فإنه لا يزداد بعلمه إلا بعداً من الله جل وعلا. وقد يكون لا يعرف الحق الذي أوجبه الله عليه، وليس المقصود أنه يكون من أهل الكتاب من اليهود والنصارى فقط، فقد قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة)، فلما سئل عن الواحدة قال: (من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)، فأخبر أن هذه الأمة تزيد على التفرق السابق بواحدة. والمقصود بالأمة اليهودية التي افترقت على إحدى وسبعين، وبالأمة النصرانية التي افترقت على اثنتين وسبعين، وبأمة محمد صلى الله عليه وسلم التي افترقت على ثلاث وسبعين هي التي استجابت للرسل، ما هي بالأمة التي بعث فيها الأنبياء، بل الأمة المستجيبة، فالمسلمون أنفسهم يفترقون إلى هذه الفرق، أما غيرهم فما يقال: إنهم يفترقون على كذا وكذا. أو إنهم في النار. لأنه مفروغ منهم، فهم كفار في الأصل، فالكفر مهما تعددت طرقه ومناهجه فهو ملة واحدة، الكفر كله ملة واحدة، فإذا كان الأمر هكذا فكل من تشبه باليهود أو بالنصارى من هذه الأمة فهو ملحق بهم، وقد أخبرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة ستترسم طريق اليهود والنصارى شبراً بشبر فقال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة)، والقذة: هي ريشة السهم. يعني: مثل الرصاصة التي توضع الآن في البندق، هل الواحدة تختلف عن الأخرى؟ لا تختلف، كل واحدة مثل الأخرى، يعني أنكم تسيرون خلفهم متبعين لهم كما ساروا (حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)، ومثل صلوات الله وسلامه عليه بجحر الضب لأن جحر الضب من أصعب الجحور؛ لأنه يحفر جحراً ملتوياً، فهو يتلوى في حفره، لا يحفر جحراً مستوياً كما في سائر الجحور، فالدخول فيه صعب جداً، فيقول: لو قدر أنهم يسلكون هذا المسلك المعوج الضيق الصعب لسلكتم خلفهم. حتى إنه جاء في بعض الروايات: (حتى لو كان فيهم من يأتي أمه علانية لكان في هذه الأمة من يفعل ذلك) مبالغة في اتباعهم، والواقع يشهد لما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، فإننا نرى المسلمين -وللأسف- يتأسون باليهود والنصارى في كل شيء، في اللباس، وفي المركب، وفي الهيئة، وفي المأكل، وفي المشرب، حتى تجد أن كثيراً من الناس يأكل بشماله؛ لأنه رآهم يأكلون بشمائلهم، يقتدي بهم، وربما يتدين بأنه يأكل بالشمال، ويرى أن هذا تقدم وأن هذا تطور، ويتزين بذلك -نسأل الله العافية-، وهذا انحطاط في الواقع ومهانة، فإن المسلم يجب أن يكون معتزاً بإسلامه، وتجد بعضهم يأتي بالكلاب ويضعها في البيت أو يضعها في السيارة، وما هناك حاجة لها إلا أنه رأى أولئك يصنعون هذا الشيء فصار يقتدي بهم. وهكذا في كل شيء إذا نظر الإنسان بعينه واعتبر فإنه يرى ما وقع في الأمة مما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، والذي لم يقع سيقع، فالرسول صلى الله عليه وسلم يخبرنا بهذا من باب التحذير، يحذرنا ويقول: إياكم أن تسلكوا هذه المسالك، لا تفعلوا كما فعلوا. وفي مسند الإمام أحمد رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بعثت بين يدي الساعة، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم). فالواقع يشهد بما نطق بهذا الحديث، فالمسلمون لما كانوا مترسمين طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا أعزة وأقوياء ولهم هيبة وسيطرة، فكلما ابتعدوا عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلوا وسقطت هيبتهم وتسلط عليهم الأعداء وكثر تفرقهم وتشتت القلوب؛ فإن من أعظم المصائب أن تصاب قلوب المسلمين، ويصبح كل واحد يبغض الآخر، ويصبح كل واحد عدواً للآخر، وقد يكون نهجهم سواء في العلم وفي العمل، ولكن تنافسوا في الدنيا أو في المناصب أو في غير ذلك فسلط الله جل وعلا عليهم الذلة لكونهم تركوا السنة التي جاء بها رسولهم صلى الله عليه وسلم، وكلما تركوا سنة استحدثوا بدعة أو مخالفة يعاقبون بها؛ فإن سنة الله جل وعلا أنه يعاقب من يعرفه أكثر من عقاب من لا يعرفه، كما في الأثر القدسي: (إذا عصاني من يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني) -نسأل الله العافية- فيصبحون -مثلما قال في الحديث الآخر-: (غثاء كغثاء السيل)، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها. قالوا: أومن قلة نحن يا رسول الله؟! قال: لا. أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل)، وغثاء السيل هل فيه نفع وفائدة؟ لا. والغثاء الذي يرمي على جانب الوادي ما فيه خير، يقول: (ولكنكم غثاء كغثاء السيل، تنزع من قلوبكم المهابة ويقذف فيها الوهن. قالوا: وما الوهن -يا رسول الله-؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت) كراهية الموت للرغبة في الدنيا، إذا حصلت رغبة في الدنيا كره الناس الموت؛ لأنهم عمروا دنياهم وأفسدوا آخرتهم، ومن كان بهذه المثابة يكره الموت؛ لأنه يعرف أن مستقبله غير مرضي عنه، فما يرضى بعمله الذي عمله للمستقبل، يخاف ويكون كالهارب الذي يؤتى به مقيداً إلى سيده، أو يؤتى به مقيداً إلى سلطانه، يكون مثل هذا خائفاً. والمقصود أن العباد يجب عليهم أن يتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن من كان يريد العزة فالعزة لله، العزة في طاعة الله، وطاعة الله في اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم.

التعليم بالتدرج

التعليم بالتدرج [المسألة الحادية عشرة: التنبيه على التعليم بالتدريج. المسألة الثانية عشرة: البداءة بالأهم فالأهم]. وهذا ظاهر من حديث معاذ بن جبل، حيث قال: (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة ألا إله إلا الله، فإن هم أجابوك إلى ذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات) إلى آخره، فبدأ بالأهم ثم ما يليه ثم ما يليه، وهذا معنى التدريج، أن يبدأ بالشيء المهم. وهكذا ينبغي لطالب العلم أن يبدأ في طلبه العلم بالأهم، ثم بما هو مهم وإن كان قليلاً، ثم بالشيء الذي يليه في الأهمية، وهكذا وإن كان قليلاً، ومعلوم أن الإنسان إذا كان يريد أن يبني أو ما أشبه ذلك لا يأتي من آخر الشيء فيبدأ -مثلاً- بالسقف أو بالحيطان، لا بد أن يبدأ بالتأسيس أولاً، والتأسيس يكون قوياً، ولا يكون قوياً إلا بالأصول، فيبدأ بالأصل شيئاً فشيئاً ويثبته، فإذا ثبت يبني عليه، وكلما ازداد البناء كثر، فهكذا في الأعمال وفي طلب العلم وفي غيرها، أعمال الدين يجب أن تكون على هذا الأساس، على وفق ما أرشدنا إليه رسولنا صلى الله عليه وسلم.

مصارف الزكاة

مصارف الزكاة [الثالثة عشرة: مصرف الزكاة]. ذلك من قوله: (تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم)، وقد عرفنا أن الله جل وعلا هو الذي تولى صرف الزكاة بنفسه، حيث قال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ} [التوبة:60]، فذكر أهل الزكاة وهم ثمانية: أولهم الفقراء والمساكين. وقد اختلف فيهم، فقيل: إن الفقير هو الأكثر حاجة؛ لأن الله جل وعلا يبدأ بما هو أهم، فقال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ}، ثم عطف عليهم المساكين ومن بعدهم. وقالوا: إن المسكين هو الذي يجد بعض الحاجة أو يجد حاجة سنته فقط، والفقير الذي لا يجد الكفاية، يجد بعضها ولكن لا يجد ما يكفي، والمسكين قد يكون عنده مال، وقد يكون عنده أشياء، ولكن هذه التي عنده لا تكفي، وقد أخبرنا الله جل وعلا في قصة موسى والخضر أنه قال: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف:79]، أخبر أنهم مساكين ولهم سفينة، فدل هذا على أن المساكين أقل حاجة من الفقراء، هذا إذا جاء ذلك في مثل هذه الأسلوب، أي: عطف واحد على الآخر. أما إذا ذكر الفقراء وحدهم أو قيل: المساكين، فهم عبارة عن شيء واحد، فالفقراء والمساكين يكونون كلهم داخلين في هذا الخطاب، مثل الإسلام والإيمان، فإذا قيل: (الإسلام) دخل فيه الإيمان، وإذا قيل: (الإيمان) دخل فيه الإسلام. وأما العاملون فهم السعاة الذين يسعون في جباية الزكاة، إذا لم يكن لهم مرتبات من بيت المال فإنهم يعطون منها بقدر عملهم. وأما المؤلفة قلوبهم فقد اختلف العلماء فيهم، قيل: هذا كان في وقت النبي صلى الله عليه وسلم وانتهى، واليوم لا يجوز أن يعطى أحد من الكفار رؤساء القبائل. وقد كان رؤساء القوم الذين إذا أسلموا صار لإسلامهم أثر في الإسلام بأن يسلم بإسلامه أناس كثير، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يعطيهم من الصدقة ويكثر لهم، حتى قد يعطي الواحد مائة من الإبل، ويتألفهم، والتألف معناه أن يعطون من الدنيا ترغيباً لهم بأن يدخلوا الإسلام، فإذا دخلوا الإسلام وتمكن من قلوبهم عندها يرغبون فيه ولا يرغبون في الدنيا، ويتركون ما دخلوا الإسلام من أجله، وإذا دخل الإسلام في قلب الإنسان أصبح لا يهتم بزينة الدنيا. فمن العلماء من يقول: إن الحكم باقٍ. ومنهم من يقول: انتهى في وقت النبي صلى الله عليه وسلم. فالذين يقولون: إنه انتهى يقولون: إن الله جل وعلا قد أعز الإسلام، وتبين الحق والهدى، فلسنا بحاجة إلى تأليف الكفار على الإسلام، والصواب أن الحكم باقٍ إذا وجدت الحالة التي تشابه الحالة في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، فلو وجد من لو أعطي من الزكاة لكان هذا يرغبه في دخول الإسلام بشرط ألا يكون فرداً، فالفرد الواحد ما يعطى لأجل أنه فرد، وإنما يعطى لأن بإسلامه يسلم غيره، فيكون رئيساً لإسلامه أثر، والرئاسة تختلف، قد يكون مثلاً قدوة لغيره يقتدى به، وإذا أسلم أسلم غيره، أو يكون مطاعاً إذا أمر غيره اتبعه، وما أشبه ذلك، فهؤلاء هم المؤلفة قلوبهم. وأما الغارمون فالغارم هو الذي يتحمل المال للإصلاح، كأن يجد من يتشاجرون أو يتقاتلون من المسلمين فيصلح بينهم ويتحمل أموالاً في سبيل ذلك، إما لشيء قد أتلفه أحدهم، أو يبذل لهذا حتى يترك ما يتشبث به من أن له حقاً، فمثل هذا لأنه سعى بالإصلاح يعطى من الزكاة؛ لئلا تجحف التحملات أصحاب المعروف الذين يبذلون معروفهم، ومثل هذا يعطى وإن كان غنياً، يعطون من الزكاة ترغيباً لهم في الإصلاح، فهؤلاء هم الغارمون الذين يغرمون، ويدخل في الغارم المدين الذي تدين ديناً, وأصبح لا يتمكن من أداء دينه وإن كان هذا داخلاً في الفقير. وأما في سبيل الله فهو القتال في سبيل الله، فيشتري به السلاح، أو يُعطَى المقاتلون أو غير ذلك. وأما ابن السبيل فهو المسافر الذي انقطع به سفره وما تمكن من مواصلة السفر، فانتهت نفقته وانتهى ماله، وإن كان في بلاده غنياً فإنه يعطى الشيء الذي يمكنه من بلوغ غايته. وأما في الرقاب فهو المملوك الذي يكون مملوكاً، يجوز أن يعتق من الزكاة. فهذه هي المصارف التي تولى الله جل وعلا توزيعها بنفسه، فلا يجوز أن تصرف الزكاة في غير هؤلاء. ثم هل يجوز أن تكون الزكاة لنوع واحد من هذه الأنواع؟ A إنه يجوز أن يكون للفقراء أو للمساكين وإن لم تستوعب سائر الأصناف، وإذا وجد الفقير لا يبحث عن غيره، لكن لا يعطي الفقير إذا كان أصلاً له أو فرعاً له، فإذا كان الفقير أباه أو أمه أو جده أو جدته فإنه لا يجوز أن يعطيهم من زكاته. وكذلك إذا كان الفقير ابنه أو ابن ابنه لا يعطيهم من زكاته؛ لأن هؤلاء تجب نفقتهم عليه، فما يحتاجون إلى الزكاة لوجوب نفقتهم عليه، ولا يجوز أن الإنسان يجعل الزكاة لأقربائه وقاية لماله عن الحقوق التي تتعلق بماله، فيعطي أقرباءه الأدنين الزكاة حتى لا يتطلعون إلى الحق الذي لهم عليه، فيجب على الإنسان أن يتقي الله في أداء زكاته، ثم إنه يجب عليه أن يخرجها طيبة بها نفسه. راغباً فيما عند الله، خائفاً لو منعها أن يعاقبه الله جل وعلا. [المسألة الرابعة عشرة: كشف العالم الشبهة عن المتعلم]. هذا مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم: (إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب)، وهذا ما كان معاذ رضي الله عنه يعرفه، فقال له هذا القول ليستعد وليعد نفسه، فهيأه لذلك، وكشف له ما كان خافياً عليه.

شرح فتح المجيد [28]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [28] حديث: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه) من أعلام النبوة، وفيه دلالة على فضل علي رضي الله عنه باختياره لحمل الراية، وكذلك فيه دلالة على فضل سائر الصحابة لحرصهم على الخير وتطلعهم إلى تحصيله، وفيه فوائد أخرى مذكورة في هذا الباب.

مسائل مستفادة من حديث بعث معاذ رضي الله تعالى عنه

مسائل مستفادة من حديث بعث معاذ رضي الله تعالى عنه

النهي عن كرائم الأموال

النهي عن كرائم الأموال قال المصنف رحمه الله: [المسألة الخامسة عشرة: النهي عن كرائم الأموال]. كرائم الأموال هي أطايبه وأحاسنه، وهذا يكون في زكاة بهيمة الأنعام، وكذلك في الثمار، أما النقود فهي تتساوى، والزكاة تجب في الخارج من الأرض، وتجب في الإبل وفي الغنم وفي البقر، وتجب كذلك في عروض التجارة، وتجب في النقدين الذهب والفضة، وكذلك أبدال الذهب والفضة من الأوراق النقدية، فهذه هي الأموال التي يجب فيه الزكاة، فتزكى الثمار والحبوب والتمور وغيرها مما فيه الزكاة، وهكذا سائمة الأنعام؛ لأن الزكاة في الأنعام ما تجب إلا إذا كانت سائمة في الحول أو أكثره، والسوم معناه ان ترعي بنفسها وما تتطلب علفاً، فلو كان إنسان له أغنام وضعها في حوش وصار ينفق عليها ويأتيها بالأعلاف فهذه ليست سائمة، ولا تجب فيها الزكاة، وإنما تجب فيها إذا باعها وصارت تجارة، وإنما التي يجب فيها الزكاة إذا كانت ترعى الحول أو أكثره. ثم هذه هي التي فيها الكرائم لا يجوز للمُصَّدِّق العامل الذي يأخذ الزكاة أن يأخذ أطيبها وأكرمها، سواءٌ أكانت غنماً أم إبلاً أم بقراً، بل يجب عليه أن يأخذ الأوسط، لا يأخذ الأدنى الرديء، ولا يأخذ الأعلى الجيد، إلا أن يجود صاحب المال بما هو أجود وأطيب، فإذا جادت نفسه بذلك وأخرجه هو بنفسه وقال: خذوا هذا فيقول له العامل: هذا لا يجب عليك، والذي يجب عليك أقل من هذا. فيقول له: هذا ولا بد. فإذا قال: وإن كان فأنا طيبة نفسي بهذا فخذوه لأنه لله يأخذه العامل ولا يرده عليه. أما إذا أخذ شيئاً طيباً بدون اختياره فهذا ظلم، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (وإياك وكرائم أموالهم) يعني: لا تأخذ في الزكاة من الكرائم والنفائس. وقالوا: الكريمة: هي كبيرة الجرم، وكثيرة الشعر، وكثيرة اللحم والشحم، وغزيرة اللبن، وحسنة المنظر، فهي تكون أكثر قيمة من غيرها. هذه هي الكريمة، فلا يجوز أن تؤخذ وإنما يؤخذ الوسط. وكذلك في الثمار مثل الحبوب والتمور لا يأخذ من الأعلى ولا يأخذ من الأدنى، بل يأخذ من الوسط، وإذا كانت متنوعة يخرج من كل نوع قدره، هذا هو العدل، فمثلاً التمور بعضها قد يساوي الكيلو مائة ريال، وبعضها يساوي خمسة ريالات، فلا يأخذ من هذا ولا من هذا، وإنما يأخذ من هذا قدره ومن هذا قدره فقط، فإن كانت تموره أغلبها جيدٌ يجعل الرديء على حِدَة ويأخذ منه بقدره إذا كان يبلغ نصاباً، وإلا أخذ من المتوسط فقط. وهكذا في الغنم لا يأخذ التيس الرديء أو العنز الجرباء، لا يجوز هذا، ولا يأخذ الكريمة الغالية الجيدة كثيرة اللبن، وإنما يأخذ الوسط، هذا هو العدل، والعدل هو الذي يحبه الله جل وعلا وقامت به السماوات والأرض، ومن العدل اتقاء الله، واجتناب مواقع العذاب التي هي دعاء المظلومين؛ فإن دعاء المظلوم مستجاب.

دعوة المظلوم لا تحجب

دعوة المظلوم لا تحجب [المسألة السادسة عشرة: اتقاء دعوة المظلوم. السابعة عشرة: الإخبار بأنها لا تحجب]. اتقاء دعوة المظلوم هذا مطلقة، ليست في الزكاة فقط، يجب على العبد أن يتقي الظلم مطلقاً، سواء بالقول أو بالفعل، والظلم في الواقع كثير من الناس، ولكن بعض الناس ما يتنبه له، وإلا فما يخلو إنسان من ظلم إلا نادراً وقليلاً، فقد يكون الظلم في كلمة يتكلمها الإنسان، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)، هذا هو المسلم، أما الذي لا يسلم المسلمون من لسانه ولا من يده فهو مسلم إسلامه غير كامل، وإيمانه ضعيف، وإلا فما يخرج الإنسان عن الإسلام بكونه يظلم الناس بلسانه أو يده، ولكن الإسلام الذي يكون الإنسان به سالماً من الظلم هو أن يكف لسانه ويده عن أذية المسلمين، مثل الكلام في الأعراض، فلان فيه كذا، وفلان يقول كذا، فهذا من أعظم الظلم، وهذا الذي قد لا يسلم منه أحد، وأناس كثير يشتغلون فيه، وبعض الناس يقول: إن هذا جائز لأنه واقع فيه. وهذا في الواقع ظلم وإن كانوا واقعين فيه، فلا يجوز لأحد أن يتكلم في أخيه بالشيء الذي يكره وإن كان فيه، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الغيبة هي ذكرك أخاك بما يكره. قالوا له: يا رسول الله! أرأيت إن كان فيه ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته)، والبهت هو أعظم الظلم -نسأل الله العافية- أن يقول فيه ما ليس فيه. وربما يتعدى الأمر إلى النميمة، والنميمة أصعب من الغيبة، وقد جاء في الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة نمام)، وفي رواية: (لا يدخل الجنة قتات)، والقتات هو النمام، والنميمة هي نقل الحديث للغير على وجه الإفساد، مثلاً يريد أن يضره فينقل كلامه إلى من يستطيع أن يضره، أو ينقله إلى صديق له أو غير صديق ولكن ليوغر صدره عليه ويجعله معادياً له مبغضاً له، فإذا كان ينقل الحديث على هذا الوجه فهو نمام -نسأل الله العافية-، وهذا كثير جداً. ويجب أن يحرص الإنسان على سلامة نفسه، ولا يجوز للإنسان أن يوزع حسناته على الناس، يعمل بحسنات ثم يهديها إلى الناس؛ لأن القصاص يوم القيامة سيكون بالحسنات، يؤتى بالإنسان الذي قد عمل حسنات كثيرة فتؤخذ منه وتوزع على الناس الذين ظلمهم وتكلم فيهم بما يكرهون. أما إذا تعدى الأمر إلى اليد وأصبح -مثلاً- يضرب أو يأخذ المال فهذا أمر عظيم، وقد جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه)، أنه من اقتطع حق امرئ مسلم بغير حق فقد استوجب النار، فقيل له: وإن كان شيئاً يسيراً! قال: (وإن قضيباً من أراك) أي: وإن كان سواكاً. فحقوق الناس بعضهم مع بعض مبنية على التقصي، وعلى ألا يترك منها شيئاً، وكل واحد يوم القيامة سيقاصص مع صاحبه، جاء في الأثر أن الإنسان يمسك الإنسان ويقول: يا ربي! خذ لي حقي من هذا. فيقول الآخر: يا ربي! والله ما أعرفه، ما ظلمته بمال ولا بشيء! ما يعرفه، ولكنه ظلمه، وكيف عرف هذا أنه ظلمه؟ الله جل وعلا لا يخفى عليه شيء، أخبره بأن لك حقاً عند فلان، فيطلبه حتى إنه يقول: ما ظلمته بمال ولا بشيء! فيقول: نعم. ولكنه رآني على منكر فلم ينهني عنه، فخذ لي حقي منه. لأن حق المسلم على المسلم أن يناصحه (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) لا يؤمن الإيمان الواجب الكامل حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، وكذلك يحب لإخوانه المسلمين ما يحب لنفسه، فهذا هو المؤمن المسلم. والمقصود التنبيه على هذا الأمر؛ لأنه يتساهل فيه، ويقع فيه حتى طلبة العلم وللأسف، فطلبة العلم يقعون فيه كثيراً، يكون واحدٌ يتكلم في الثاني، وربما صار ظلماً وإن كان يتكلم بشيء واقع. وفي المجالس وفي الاجتماعات كثيراً ما يحدث الكلام في فلان وفلان، ويجب أن يتحاشى الإنسان الكلام في الشيء الذي فيه إثم، لماذا يكتسب الإثم بالشيء الذي لا يجدي شيئاً ولا ينفعه؟! الله جل وعلا يأمر المؤمنين بأن يجتنبوا الظن السيئ، وألا يأكل بعضهم لحم بعض، ويخبرهم أن مثل هذا كمثل المؤمن الذي يجد أخاه ميتاً فيجلس يأكل من لحمه بعد موته، فالكلام في عرضه مثل هذا، مثله الله جل وعلا بهذا، وهذا من أبشع ما يستبشع، كيف يكون هذا زاجراً ومانعاً للإنسان من أن يقع في ذلك؟ والقالة التي هي الغيبة منتشرة في الناس كثيراً، ويجب على الإنسان إذا جلس في مجلس، أو سمع من يتكلم في هذا أن ينصحه ويقول: دعوا هذا، تكلموا في الشيء الذي ينفع. فإن لم ينتصحوا يجب عليه أن يقوم ويتركهم؛ لئلا يكون شريكاً لهم. أما كون دعوة المظلوم لا تحجب فمعناه أنها تستجاب، أي أنها لا ترد، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب، فالله جل وعلا سميع عليم لا يخفى عليه شيء، وسمعه يأتي على جميع الأصوات، حتى إنه يسمع دبيب النملة على الصفاة في ظلمة الليل -تعالى وتقدس-، وكذلك نظره لا يستره شيء، ولكن ما كل دعاء يستجيبه، وإن كان الإنسان في دعائه لا يخيب، بشرط أن تجتمع فيه مقتضيات الإجابة، والله عليم قدير، ولكن المظلوم يستجاب دعاؤه وإن كان فاجراً؛ لأن الله جل وعلا لا يقر الظلم؛ فإن الله حرم الظلم على نفسه، وجعله بين العباد محرماً، فقال لهم: (لا تظالموا)، فإذا وجد الظلم فإن الله جل وعلا يستجيب للمظلوم إذا دعاه وينتصر له. والدعاء كله مطلوب، ولكن هناك دعوة مستجابة مثل دعوة المظلوم، ومثل دعوة الوالد على ولده، فإنها تستجاب إذا دعا الوالد على ولده، وقد نهي أن يدعو الوالد على ولده. وكذلك دعوة المسافر، ودعوة المنكسر القلب الذي يضطر ويقع في ضرورة، فإن هذا من مقتضيات ما يجب لربوبية الله جل وعلا، يقول جل وعلا: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62]، لا أحد إلا هو جل وعلا. ثم إن المسلم إذا دعا فهو على خير، مطلق الدعوة فيها الخير، فالله جل وعلا كريم، وهو أعلم بمصالح العبد من نفسه، ولهذا جاء في الحديث أن كل داع ما يخيب، إما أن تستجاب دعوته، وإما أن يصرف عنه من السوء ما هو أعظم من الدعوة التي دعا بها، وإما أن تدخر له يوم القيامة، إحدى ثلاث خصال تكون حاصلة له، فلا يقول الإنسان: أنا دعوت ودعوت فما استجيب لي. وإنما الكلام في كونه يقبل على الله، وكونه يقوم بمقتضى الدعاء، فإن الله يستجيب له وإن كان فاجراً؛ لأن الظلم محرم والله لا يقره، ولهذا يقول العلماء: إن الدولة إذا كانت ظالمة فإنه لا يبقى لها زمن طويل وإن كانت مسلمة، والدولة إذا كانت عادلة فإنه يطول وقتها وإن كانت كافرة. وهذا عجيب؛ لأن العدل هو الذي قامت به السماوات والأرض، فالظلم يعاقب عليه المسلم، والعدل يجازى به حتى الكافر، هذا لأن الله لا يقر الظلم، تعالى الله وتقدس. فهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)، وليس المعنى أن أدعية الناس غير مسموعة لله وأنه لا يراهم ولا يعلم حالهم، لا. ولكن معناه أن دعاء المظلوم مستجاب.

من أدلة التوحيد حصول المشقة والمصائب على النبي صلى الله عليه وسلم

من أدلة التوحيد حصول المشقة والمصائب على النبي صلى الله عليه وسلم [المسألة الثامنة عشرة: من أدلة التوحيد ما جرى على سيد المرسلين وسادات الأولياء من المشقة والجوع والوباء]. هذا مأخوذ مما وقع له بغزوة خيبر صلوات الله وسلامه عليه، فإنه وقع لأصحابه جوع ومرض ووباء، ووقع لهم تعب وشدة، مع أنهم سادة أولياء الله مع سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه. يقول: إن هذا من أدلة التوحيد. كيف يكون هذا من أدلة التوحيد؟ لأن معناه أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليس عندهم تصرف في الكون في جلب الرزق ودفع الضر وإزالة الكرب، فإنه وقع فيهم هذا الشيء وما استطاعوا إزالته، واستسلموا وانقادوا لأمر الله جل وعلا، ورضوا بما هم فيه حتى فرج الله عنهم، فدل على أن التصرف كله لله وحده، والأمر كله لله، والعباد كلهم راجعون إليه وكلهم يتجهون إليه، حتى سيد الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم هو عبد مكلف أمره الله جل وعلا بالعبودية، يعبد الله وهو أعظم الناس عبادة لله جل وعلا، فهذا معنى قوله: إن هذا من أدلة التوحيد. فليس مع الله مدعو يكون له عبادة، فالعبادة تكون لله وحده، وهذا معنى التوحيد؛ إذ إن العبادة لا تجوز أن تكون إلا لمن يملك النفع والضر إذا عبده أثابه وإذا لم يعبده عاقبه، ويعلم ما في قلب الإنسان، ويستطيع دفع المضرات عنه وصرفها، وجلب المنافع إليه، سواءٌ أكانت غيبية أم كانت ظاهرة، أما إذا كان ليس كذلك فلا يصلح أن يكون معبوداً، وهذا لا يكون إلا لله وحده، فهذا معنى كون الذي وقع للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه من أدلة توحيد الله جل وعلا. وقد ذكر أنهم كانوا في شدة الحاجة في هذه الغزوة حتى طبخوا الحمير، أمسكوها وذبحوها وصاروا يطبخونها، فالرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى النيران قال: (ما هذه النيران؟ قالوا: إنها حمر. -وجدوها فذبحوها فهم يطبخونها ليأكلوها- فأمر منادياً ينادي: لتكسر الأواني التي فيها هذه الحمر. فقالوا: يا رسول الله! نغسلها قال: نعم)، ولهذا جاء عن علي رضي الله عنه (أن الرسول صلى الله عليه وسلم حرم الحمر الأهلية يوم خيبر)، وهو لهذه القصة، فمن شدة حاجتهم طبخوها، ولكن ما أكلوا منها شيئاً، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن تكفأ. وكذلك كانت خيبر أرضاً موبوءة، فأصيبوا بالحمى وبالمرض حتى اشتكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرهم أن يبردوا الماء بالقرب ثم يصبوه على أبدانهم بين الصلاتين، أي: بين صلاة المغرب والعشاء، فشفوا بذلك. والمقصود أن هذا كله يدل على أن الأمر كله بيد الله جل وعلا، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يملك مع الله شيئاً، وإنما الأمر لله، وفي أحد شج رأسه، وكسرت البيضة التي على رأسه صلوات الله وسلامه عليه، وقتل من أصحابه سبعون رجلاً، وصار الدم يسيل على وجهه، فقال وهو يسلته: (كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى الله؟)، ثم صار يدعو عليهم في القنوت في الصلاة، يقنت في الصلاة في الركعة الأخيرة بعد الركوع أو قبل الركوع، ويرفع يديه ويدعو: اللهم! العن فلاناً وفلاناً وفلاناً. يسميهم بأسمائهم في الصلاة، والصحابة خلفه يقولون: آمين. أي: اللهم استجب. ومعلوم أن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ليس كدعاء غيره، ثم بعد ذلك ينزل الله جل وعلا عليه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128]، فتاب الله على أكثر الذين فعلوا هذه الأفاعيل، فأسلموا ودخلوا في الإسلام بعدما كانوا يسعون جهدهم في قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم. والمقصود أن الله جل وعلا وحده هو المتصرف في الكون كله، وهذا معنى كون التوحيد يجب أن يكون لله وحده.

من أعلام النبوة

من أعلام النبوة [المسألة التاسعة عشرة: قوله صلى الله عليه وسلم: (لأعطين الراية) إلى آخره علم من أعلام النبوة]. سبق أن أعلام النبوة كثيرة، وأعلام النبوة علاماتها الدالة عليها؛ لأن الذي يخبر بالأمور الغائبة فتقع كما أخبر يكون هذا من الوحي، ولا يكون هذا لمشعوذ أو لساحر أو لكاهن أو ما أشبه ذلك، فإنه لا يتمكن من ذلك، وإن صدق مرة فإنه يكذب مائة مرة. أما الذي يقع الواقع على وفق خبره فهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك ما يعلم الغيب صلوات الله وسلامه عليه، وإنما يعلم ما علمه الله جل وعلا فقط، فهو رسوله يأتيه الوحي، وقد انفلتت ناقته مرة فحبس الصحابة عليها يبحثون عنها، فتكلم أحد المنافقين كلاماً خبيثاً، فقال: هذا يزعم أنه يأتيه خبر السماء ويأتيه كذا وكذا وهو لا يدري أين ناقته! فنزل عليه خبر السماء بأن فلاناً يقول كذا وكذا، وإن ناقتك في مكان كذا قد حبستها شجرة أمسكت بخطامها. فقال لهم: (إني -والله- لا أعلم من الغيب إلا ما علمنيه الله جل وعلا، وإن فلاناً قد قال كذا وكذا، وإن الله جل وعلا قد أعلمني أن ناقتي في مكان كذا قد أمسكتها شجرة، فاذهبوا وائتوا بها)، فالمقصود أنه صلوات الله وسلامه عليه لا يعلم من الغيب إلا ما علمه الله. ولما رميت أفضل نسائه وأحبهن إليه -بل أحب الناس إليه عائشة رضي الله عنها- بالفاحشة، وصار المنافقون يشيعون هذا بقي ما يقرب من شهر وهو لا يدري بالحقيقة، حتى نزل عليه الوحي ببراءتها، وقد استشار أسامة واستشار علياً، فأما علي فقال: النساء كثير، وما جعل الله عليك من حرج. وأما أسامة فقال: والله ما علمنا إلا خيراً، أًهلَك، واسأل الجارية فإنها تصدقك. والمقصود أنه ما كان يعلم من الغيب إلا ما علمه الله. [المسألة العشرون: تفله صلى الله عليه وسلم في عينيه رضي الله عنه علم من أعلامها أيضاً]. يقول رحمه الله تعالى: تفله صلوات الله وسلامه عليه في عيني علي بن أبي طالب علم من أعلام النبوة، وسبق أن العلم معناه: الدلالة والآية الواضحة الدالة على صدقه صلوات الله وسلامه عليه، وأنه رسول من رب العالمين. وذلك أن هذا شيء لا تناله قوى البشر ولا العادات التي جرت عليها أنظار الناس وتجاربهم، بل هو شيء خارق، فهو من قدرة الله جل وعلا، فالتفل في العين المريضة ما يزيدها إلا مرضاً، ومع ذلك لما تفل فيها صلوات الله وسلامه عليه برئت في الحال، وما احتاجت إلى وقت، بل في الحال، كأنها كانت محزومة فأطلقت، وهذا لا يكون إلا آية من آيات الله جل وعلا. حتى العلاج الناجح ما يأتي ثماره في لحظه، ما يأتي إلا بعد وقت، فلا بد أن يكون هذا أمر لا تأثير له في للعلاج فيه ولا للبشر فيه، وإنما هو يكون من الله جل وعلا، وهذا معنى الآية ومعنى العلم، أي: شيء لا تأثير للبشر فيه، بل هو من الله جل وعلا بقدرته. وسبق ذكر الشيء من أعلام نبوته صلوات الله وسلامه عليه، وقلنا: إنه ينبغي للمسلم أن يحرص على قراءة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يزداد بذلك إيماناً ومحبة للرسول صلى الله عليه وسلم.

فضيلة علي رضي الله عنه

فضيلة علي رضي الله عنه [الحادية والعشرون: فضيلة علي رضي الله عنه]. فيه فضيلة لـ علي بن أبي طالب رضوان الله عليه, لكونه قال: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله)، فأخبر صلوات الله وسلامه عليه أن علياً يحبه الله ورسوله، وهذا من أعظم الفضائل، غير أنه سبق أن هذا ليس من خصائص علي بن أبي طالب رضي الله عنه، بل كل مؤمن تقي يحبه الله ورسوله، والصحابة أتقياء، ولكن السبب في كونهم حرصوا على ذلك أنه إذا شهد الرسول صلى الله عليه وسلم لمعين بأنه يحبه الله ورسوله فكل واحد يحرص أن يكون ذلك؛ لأن الإنسان ما يثق بعمله وإن جاء بأحسن عمل حتى يأتيه الخبر من الله ورسوله صلوات الله وسلامه عليه. ثم إن فضائل علي كثيرة غير هذا، ولكن أبا بكر أفضل منه، وعمر أفضل منه، وثبت في صحيح البخاري عن عبد الله بن عمر أنهم كان يفضلون الصحابة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فيقولون: أفضلهم أبو بكر ثم عمر. وفي رواية: ثم عثمان ثم يسكتون. والرسول يسمع ذلك ويسكت. وليس في هذا ما يدل على أن علي بن أبي طالب هو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل الدلائل الدالة على أن الخلافة لـ أبي بكر كثيرة وواضحة، أما مجرد الدعاوى فإنها لا تغني من الحق شيئاً، وكل أحد يستطيع أن يدعي كما يدعي المدعي، وإنما الشأن في الدلائل الثابتة من النقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم الثابت الصحيح. فمن المعلوم أنه صلوات الله وسلامه عليه لما مرض قال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس)، وقد روجع في هذا وقيل له: إن أبا بكر رجل يكثر البكاء، فإذا قام في مقامك لن يسمع الناس من البكاء. قالت له ذلك عائشة، وكانت تكره أن يقوم أبو بكر مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده؛ لأنه ما يقوم أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقامه فيكون مثله، فربما كره الناس من قام مقامه بعده، فلهذا كانت تحاول أن يكون الذي يصلي بالناس عمر، فقالت للرسول صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! إن أبا بكر رجل أسيف كثير البكاء إذا قام مقامك ما يملك نفسه من البكاء فلا يسمع الناس، لو أمرت عمر أن يصلي بالناس. فقال صلى الله عليه وسلم: (مروا أبا بكر فليصل بالناس)، ثم ذهبت وأمرت حفصة أن تقول له مثل هذا القول، فذهبت حفصة وقالت له ذلك، فغضب صلوات الله وسلامه عليه وقال: (إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس)، ثم بقي أبو بكر يصلي بهم طوال وقت مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد خرج مرتين وهو يصلي بهم، وعلي موجود، وما قال: مروه أن يصلي بكم. وكذلك الرؤيا التي رآها صلوات الله وسلامه عليه، قال: (رأيت كأني على بئر أنزع منها الماء فنزعت ما شاء الله أن أنزع، فجاء أبو بكر فنزع دلواً أو دلوين، وفي نزعه ضعف والله يغفر له، ثم جاء بعده عمر فتحولت الدلو غرباً، فما رأيت عبقرياً يفري فريه، فنزع حتى روي الناس وضربوا بعطن). وكذلك لما جاءته امرأة فكلمته في شيء فأمرها بأمر فقالت: أرأيت -يا رسول الله- إن لم أجدك -كأنها تعني الموت-؟ فقال: (إذا لم تجديني فأتي أبا بكر)، وأشياء كثيرة جداً.

فضل الصحابة

فضل الصحابة [المسألة الثانية والعشرون: فضيلة الصحابة في دوكهم تلك الليلة وشغلهم عن بشارة الفتح]. فضائل الصحابة رضوان الله عليهم متوافرة وموجودة، وبنصوص، وفيها رد على من يدعي أن الصحابة كفروا وارتدوا؛ لأن هذه الفضائل هم الذين نقلوها، فلا تثبت لهؤلاء، وإنما تثبت لمن يرى أن الصحابة على الحق، فهم يتمسكون بالحق وأهل حق، أما المرتد فما هو أهل لأن يؤخذ عنه، وليس أهلاً لأن يصدق، فالذي ينقله يكون كذباً، والدين ما يقبل من المرتدين والكفرة، وإنما يقبل من أهل الحق المتمسكين به. ولا شك أن الثناء على الصحابة رضوان الله عليهم كثير في كتاب الله، كما قال جل وعلا: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران:110]، وقوله: {كَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143]، وكذلك قوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} [الفتح:29]، وكذلك قوله: {والسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} [التوبة:100]. فهل يقال -مثلاً-: إن الله يثني على قوم وقد علم أنهم يكفرون؟! أو إن الله لا يعلم فيثني على قوم وهم فيما بعد يكفرون ويرتدون، فيبقى ثناء الله على هؤلاء ليس في محله تعالى الله وتقدس؟!. لو أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بأن يكون فلان هو الخليفة فهل يمكن أحداً أن يمنع هذا، وهم يقاتلون ويبذلون أنفسهم وأموالهم دون رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي طاعته؟ لا أحد يستطيع أن يمنع ذلك أبداً. أما ما جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً) ثم ترك ذلك، ثم قال مرة أخرى وقد اشتد مرضه: (ائتوني بكتاب أكتب لكم) فاختلفوا عنده، منهم من يقول: نأتي بالكتاب. ومنهم من يقول: اشتد مرضه، فكيف يكتب؟! فعند ذلك قال: (قوموا عني، فما أنا فيه خير مما أنتم فيه) يعني الخلاف، فترك الكتاب. والمقصود بالكتاب أنه يكتب لـ أبي بكر لئلا يقول قائل ويختلف مختلف، كما جاء صريحاً أنه قال لـ عائشة: (ادعي لي أباك وأخاك أكتب لهما كتاباً لئلا يقول قائل أو يدعي مدع)، ثم بعد ذلك قال: (يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر)، فترك الكتابة، وتركها أولى لما أراد الله جل وعلا، حتى يتفق المسلمون على شيء يرونه بإجماعهم، وحصل ما أخبر عنه صلوات الله وسلامه عليه. والواجب على المسلم محبة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عموماً، فيحبهم ويقدرهم ويعظمهم وينزههم عن المطاعن، وأن يعلم أنهم خير الأمة، ما كان في الأمة ولا يكون مثلهم، لا في أول الأمة ولا في آخرها؛ لأن الله أكرمهم بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم وبالقتال معه. أما ما يروى عنهم من مطاعن في كتب التاريخ، وينقله بعض الذين في قلوبهم مرض، فهذه المطاعن التي تروى في كتب التاريخ أو غيرها لا تخلو إما أن تكون كذباً صريحاً، أو يكون لها أصل ولكن زيد فيها وغير الكلام عن مواقعه، أو نقص منها الشيء الذي يبين الصواب. والواقع منها هم معذرون فيه، مأجورون في فعلهم، والخطأ مغفور لهم؛ لأنهم مجتهدون، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن المجتهد إذا اجتهد وأصاب الحق فله أجران، وإن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد، هذا هو الذي يجب اعتقاده، وهذه عقيدة المسلمين نحو صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم.

الإيمان بالقدر

الإيمان بالقدر [المسألة الثالثة والعشرون: الإيمان بالقدر لحصولها لمن لم يسع لها ومنعها عمن يسعى]. الإيمان بالقدر من أركان الدين الإسلامي، لا بد منه، والقدر هو عبارة عن قدرة الله جل وعلا، وهو في الواقع علم الله وقدرته وفعله، هذا هو القدر، وليس القدر إرغام الإنسان أن يفعل شيئاً وهو لا يريده كما يتصوره بعض الجهلة، وربما ترك العمل أو رضي بالمعاصي وأقام عليها، ثم يصبح يحتج بالقدر ويقول: هذا قدر. وهذا لا يجوز. الله جل وعلا ذم الذين احتجوا على شركهم بالقدر، الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام:148]، وأخبر أن هذا معارضة لشرع الله بقدره، فهم يقولون: إن مشيئة الله شاملة، فهو الذي جعلنا مشركين، ولو شاء لجعلنا موحدين، فنحن نرضى بمشيئته التي شاءها لنا. فهذا الإنسان يعاند الله جل وعلا، مثل قول الشيطان لما أمر الله جل وعلا أن يسجد لآدم: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] أبى أن يسجد لآدم، لماذا؟ لأنه يرى أن رأيه أفضل مما يقوله الله جل وعلا ويأمر به، عناد ومكابرة واعتراض على الله جل وعلا، وكذلك الذي لا يؤمن بالقدر وينفي القدر -والقدر قدرة الله- أو يكفر به، وإن أقر بأن الله قدره لا يمتثل لذلك ولا يؤمن به، وكله شر. والواجب على المسلم أن يجتهد في الشيء الذي ينفعه، سواءٌ أكان أمراً شرعياً، أم أمراً عادياً مما يخصه في معيشته وعمله، فيفعل السبب المشروع الذي شرعه الله له، فإن تخلف مراده ولم يحصل له مراده فلا يصبح يلوم نفسه، أو يلوم الأيام، أو يلوم الآخرين، وربما يغضب ويقول: فلان السبب، وفلان السبب، ولولا كذا لصار كذا. عليه أن يعلم أن هذا هو الذي قدر، فيسلم للقدر، ويقول: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، لو شاء الله لكان ذلك. كما جاء في حديث أنس يقول: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنوات، وما سمعته يقول لي لشيء لم أصنعه: لمَ لم تصنع هذا؟ ولا لشيء صنعته: لمَ صنعت هذا؟! وإنما إذا تخلف الشيء الذي يريده قال: (ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وليس معنى هذا أن الإنسان يترك العمل، لا. بل يعمل، ولكن يكون حسب ما أراد الله جل وعلا له وأراده منه رسوله صلوات الله وسلامه عليه، كما قال: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، فإن أصابك ما تكره فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن (لو) تفتح عمل الشيطان)، وعمل الشيطان هو التأسف على الفائت، وكذلك من لوم القدر التحسر عليه، والشيء الذي وقع لا يمكن رده ولا يمكن استدراكه، والشيء الذي قدره الله لا بد منه، وفي وصيته صلى الله عليه وسلم لابن عمه عبد الله بن عباس يقول: (واعلم أن الناس لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك لم ينفعوك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يضروك، رفعت الأقلام وجفت الصحف). فالقدر ركن من أركان الإيمان يجب الإيمان به، وهو عبارة عن كون الإنسان يؤمن بأن الله علم كل شيء قبل وجوده، فعلمه محيط بكل شيء، علم الأشياء في الأزل قبل وجودها، ثم كتبها، فكل ما يقع مكتوب في كتاب محفوظ عند الله، ثم هو الذي شاء وجودها وخلقها. والقدر عبارة عن هذه الأمور: علم الله وقدرته ومشيئته، وكتابته التي لا يمكن أن تتخلف، وليس معنى هذا أن هذا العبد يكون مجبوراً على ذلك، بل العبد ما يدري ما كتب عليه، وما له علم بهذا، وقد أمر بالاجتهاد، فإن ترك العمل وترك الأسباب فهو الملوم واللوم عليه، وإن فعل الأسباب واجتهد فيها فلا لوم عليه، والشيء الذي يفوته ولم يفرط فيه يكون مأجوراً عليه، وإذا انضاف إلى ذلك الرضا بالقدر والتسليم فإنه يزداد أيضاً أجراً على هذا، {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11] يعني: يؤمن بأن هذه المصيبة من عند الله ويسلم وينقاد لذلك ولا يعترض، فيزيده الله هداية في قلبه. ولوم القدر لا يجدي شيئاً، وإنما يزيد الإنسان تحسراً، ويزيده أيضاً خسارة وإثماً بذلك، ولا يضر الله شيئاً، فإنه -مثلاً- لو أصيب الإنسان بمصيبة فمات ابنه أو أبوه أو أخوه أو زوجته أو قريبه، وصار يخمش وجهه ويشق ثوبه ويلطم أو يلعن أو يتأسف هل يفيده ذلك شيء؟ هل يرد عليه الفائت؟ بل يكون قد عصى الله، وإذا صبر واحتسب وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها. فإنه يكون راضياً بهذا ويثيبه الله ويخلف عليه، ويكون حصل على الخير، ويفوته ما أراده الشيطان منه، الشيطان يريد أن يخرجه عن طاعة الله، بخلاف ما إذا فعل كفعل الجهلة، فإنه يأثم ولا يحصل له شيء من الفائت، فالفائت فات. ثم الأوامر التي يؤمر بها الإنسان مثل الصلاة وترك المعصية لا يجوز للإنسان أن يحتج على فعل المعصية أو ترك الطاعة بأن يقول: هذا قدر! لأن هذا عناد ومعاندة، أنت أمرت بهذا الفعل فامتثل، ولا تتركه وتقول: قدر. وما يدريك أنه قدر قبل أن يقع؟! ولكن قولك: قدر معناه المعاندة وتبرئة نفسك، أي أنك تريد أن تبرر فعلك، وتجعل اللوم على الله، هذا هو الواقع، أنه يجعل اللوم على الله؛ لأنه هو الذي قدر هذا، وهذا يكون محاجة لله، بل مخاصمة، ولهذا الذين يحتجون بالقدر هم خصوم الله جل وعلا. والإيمان بالقدر يكتسب به العبد زيادة إيمان وطمأنينة، وكذلك يكتسب به أيضاً صلة بالله، ويزداد خيراً، وربما خلف عليه أفضل مما أخذ، جاء في الصحيح أن أم سلمة لما توفي زوجها، وكانت قد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من أصيب بمصيبة فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها إلا آجره الله وخلف عليه خيراً منها) قالت: لما توفي أبو سلمة قلت هذا الذي سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قلت لنفسي: وأي أحد خير من أبي سلمة؟! لن أجد أحداً خيراً من أبي سلمة فجاءها من هو خير منه، جاءها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهكذا الإنسان إذا امتثل أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ورضي حصل له الأجر، وحصل له الخير العاجل مع الآجل، بخلاف ما إذا تسخط ذلك وأبى قبوله فإنه يحصل له الوزر ولا يحصل على شيء من مطلوبه. ثم إن هذا يكون عند أول الأمر، أما إذا تمادى الأمر فإن الإنسان يسلو كما تسلوا البهائم، يمر يوم ويومان وثلاثة أيام ثم ينسى مصيبته، مر الرسول صلى الله عليه وسلم على امرأة تبكي وعلم أنها تبكي على فقد ولدها، فقال: (اتقي الله واصبري)، فلم ترض بهذا، وقالت: إليك عني؛ إنك لم تصب بمصيبتي. وهي ما عرفت الرسول صلى الله عليه وسلم، فتركها صلوات الله وسلامه عليه، ثم قيل لها: إن هذا الذي كلمك هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. فندمت على هذا وجاءت إليه وقالت: يا رسول الله! أصبر. فقال: (إنما الصبر عند الصدمة الأولى)، أما إذا مضى الوقت فإن الإنسان ينسى شيئاً فشيئاً، ثم يسلو كما تسلوا البهائم، البهيمة إذا فقدت ولدها صارت تصيح عليه ثم تخف شيئاً فشيئاً، والإنسان مثل ذلك، فيصبح مأزوراً غير مأجور، ولا اعتاض شيئاً مما فقد. فالعاقل يجب عليه أن يتميز، لا سيما المؤمن يجب أن يتميز عن غيره، وأن يعلم أنه يصاب بما وقع له، وينبغي للمؤمن إذا أصابته مصيبة أن يتذكر مصيبته برسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي فوق جميع المصائب فيتسلى بذلك.

من آداب الجهاد

من آداب الجهاد [المسألة الرابعة والعشرون: الأدب في قوله صلى الله عليه وسلم: (على رسلك)]. الأدب في القتال من آداب الإسلام التي علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته، فما يكون هناك ضجيج، ولا يكون هناك طيش ولا تهور، وإنما يكون هناك سكينة وطمأنينة وثقة بالله جل وعلا؛ لأن الله وعد المؤمنين بنصره، فإذا ترسموا طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاروا خلفه لا بد أن ينصروا على كل حال، أما إذا خالفوا وأبوا السير على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم فالأمر يأتي من قبل أنفسهم، فالأدب يؤخذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً. [المسألة الخامسة والعشرون: الدعوة إلى الإسلام قبل القتال. المسألة السادسة والعشرون: أنه مشروع لمن دعوا قبل ذلك وقوتلوا]. يعني أنه مستحب وليس واجباً، إذا بلغت القوم الدعوة يستحب أن يدعوا مرة أخرى قبل أن يُبدأوا بالقتال، ويجوز أن يُبدأوا بالقتال قبل أن يدعوا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم دهم بني المصطلق وهم غافلون، ما دعاهم بل أغار عليهم، فقتل مقاتلتهم وسبى نساءهم وأخذ أموالهم وهم غافلون؛ وذلك لأن الدعوة سبقت إليهم، دعوا فأبوا أن يقبلوها، فيجوز هذا، ولكن يستحب أن يدعوا مرة أخرى، والمؤمنون إذا كانوا متبعين للحق فهم لا يرهبون من عدوهم، بل يكون عندهم ثقة بنصر الله جل وعلا، وهم لا يمكن أن يصيبهم إلا إحدى الحسنين: إما الشهادة وهي أعلى ما يطلبه المؤمن، وإما النصر والظفر، فلا بد من واحدة من هاتين الخصلتين، وكل واحدة منها محبوبة إلى المؤمنين. فلا يرهبون من كونهم يُعلِمون الكافرين بأنهم سيقاتلونهم، ويحذرونهم من سطوة الله جل وعلا التي تكون بأيدي عباده المؤمنين، يحذرونهم أولاً، ويطلبون منهم أن يدخلوا في الإسلام؛ لأن هذا هو المقصود بالقتال، المقصود في القتال في قتال الناس إيصال الإسلام إليهم، فإذا امتنعوا من ذلك قوتلوا.

الدعوة بالحكمة

الدعوة بالحكمة [المسألة السابعة والعشرون: الدعوة بالحكمة بقوله صلى الله عليه وسلم: (أخبرهم بما يجب)]. الدعوة بالحكمة، والحكمة مطلوبة في كل شيء حتى مع عدوك، وكما أن العدل مطلوب حتى مع العدو فلا يجوز أن يأتي الإنسان بخلاف الحكمة فإنه لا ينجح، وإنما ينجح إذا أتى بالحكمة، ومعنى الحكمة: أن يوقع الأمور مواقعها. فيضع الأمور في مواقعها من الكلام والفعل، يضعها في مواضعها التي تليق بها، هذه هي الحكمة. ودعوة الناس تختلف، فمنهم من يكون يريد مجرد بيان الحق، فهذا يبين له الحق ويوضح، وإذا وضح له الحق رضي به واتبعه، ومنهم من يكون عنده أمور وموانع كرئاسة أو ما أشبه ذلك، فهذا يدعى بالترغيب والترهيب، ومنهم من يكون عارفاً للحق ومعانداً فمثل هذا الكلام معه ما يجدي، وإنما تجدي معه القوة، فهذا يقاتل، ولكن مع ذلك يبين له الحق لعل الله جل وعلا أن يهديه، ويكون مراد الإنسان الداعي أن يقوم بالواجب الذي أوجبه الله عليه، وأن يجتهد في أن ينقذ الله على يده من يشاء الله إنقاذه من النار، هذا هو المقصود بالدعوة والجهاد.

حق الله في الإسلام

حق الله في الإسلام [المسألة الثامنة والعشرون: المعرفة بحق الله في الإسلام]. معرفة حق الله في الإسلام هو من واجبات الإسلام التي أوجبها الله جل وعلا، يجب على الإنسان أن يعرف ذلك، ويعرف لوازمه ويعرف شروطه، ويختلف باختلاف الناس، فمن الناس من تجب عليه الزكاة فيجب أن يعرف وجوب الزكاة ونصابها والشيء الذي يخرجه ولمن يخرجه. وكذلك بعضهم يحتاج إلى المعاملات، فيجب عليه أن يعرف أحكام المعاملة، وهكذا حقوق الإسلام تختلف باختلاف الناس.

ثواب من اهتدى على يده رجل واحد

ثواب من اهتدى على يده رجل واحد [المسألة التاسعة والعشرون: ثواب من اهتدى على يده رجل واحد]. يقول: (لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)، رجل واحد، فكيف إذا اهتدى به خلق كثير، ماذا يكون له؟! تكون الفضائل والأجور التي يكتسبها ما لها قدر، وإنما يعرفها الله جل وعلا، إذا اهتدى على يديه رجل واحد خير له من أموال الدنيا الحسنة الجميلة، فكيف إذا اهتدى على يده مئات أو عشرات؟! يكون هذا الخير لا يمكن أن يقاس بالدنيا أبداً، فهو ينقذ هؤلاء من النار، والله جل وعلا يخبرنا أن الإنسان إذا أحيا نفساً واحدة فكأنما أحيا الناس جميعاً، ومعلوم أن الحياة في الواقع هي حياة الإيمان، ما هي الحياة الطبيعية البهيمية، إن الحياة الحقيقة هي حياة الإيمان {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122]، فهذا مثل المؤمن مع الكافر، فالمؤمن مثله مع الكافر كمثل الحي والميت، والذي يُضل على يده رجلاً فكأنه قتل الناس جميعاً، الذي يُضل رجلاً واحداً فيخرجه من الإسلام كمن يقتل الناس جميعاً، عليه من الإثم قدر هذا كله، ومعلوم أن من قتل رجلاً واحداً مؤمناً بلا حق فإن الله قد توعده باللعن والغضب ودخول جهنم خالداً فيها.

الحلف على الفتيا

الحلف على الفتيا [المسألة الثلاثون والأخيرة: الحلف على الفتيا]. الحلف يكون لمصلحة، والرسول صلى الله عليه وسلم أقسم في هذه القضية وقال: (والله لئن يهدي الله بك)، فهذا يدل على مشروعية الحلف ولو لم يطلب منك الحلف، إذا كان هناك شيء واثق منه الإنسان، فيذكره للتأكيد، وقد يكون المخاطب عنده تردد، أو يكون هذا الأمر عظيماً فيحلف عليه لعظمته وتأكيده، وإنما يكون الحلف لمصلحة السامع الذي يسمع.

شرح فتح المجيد [29]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [29] سبب وقوع الشرك في بني آدم هو الغلو في الصالحين والتعلق بهم، واتخاذهم شفعاء عند الله، كما وقع لقوم نوح عندما صوروا الصالحين، ثم طال عليهم الأمر فعبدوهم من دون الله، وصور الشرك كثيرة، وقد حذرنا الله منها ورسوله صلى الله عليه وسلم، وبين ذلك أهل العلم رحمهم الله.

تفسير التوحيد

تفسير التوحيد قال المصنف رحمه الله: [باب: تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله]. التفسير: هو الكشف والإيضاح والبيان. تفسير الشيء بيانه وإيضاحه، وقوله: [وشهادة أن لا إله إلا الله] عطف على التوحيد، و (لا إله إلا الله) هي التي دلت على التوحيد، وهي التوحيد، فيكون هذا من عطف الدال على المدلول؛ لأن الدال هو شهادة أن لا إله إلا الله، والمدلول هو التوحيد، وتوحيد الله يحصل بشهادة ألا إله إلا الله؛ لأن شهادة ألا إله إلا الله وضعت لإخلاص العبادة لله وحده، وإذا كانت العبادة غير خالصة لله جل وعلا فليس في العبادة توحيد وليست عبادة شرعية، وإن كانت عبادة لغوية ولكنها لا تكون شرعية؛ لأن العبادة الشرعية هي المقبولة التي أمر الله جل وعلا بها، والله يقبل الخالص ويأمر به، وينهى عن الشرك، فالعبادة الشركية محبطة للعمل.

المشركون يقرون بأن الله خالقهم

المشركون يقرون بأن الله خالقهم ومن المعلوم أن جميع المشركين الذين بعثت فيهم الرسل كانوا يعبدون الله، ولكنهم كانوا يعبدون معه غيره، ما كانوا يعبدون أصنامهم فقط غير عارفين بالله، بل كانوا مؤمنين بالله، ويعلمون أنه المتصرف في الكون كله، وأنه لا أحد يشاركه في الخلق والإيجاد والإحياء والإماتة، وأنه لا أحد يشاركه في إنزال المطر وإنبات النبات وإيجاد الرزق وكشف الكربات وإجابة المضطرين، كل الكفار يعلمون هذا {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25]، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87]، {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} [الزمر:38] يعلمون قطعاً أنها لا تفعل ذلك. وكذلك يعلمون أن الله جل وعلا وحده هو الذي ينزل المطر وينبت النبات ويرزقهم {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:21 - 22] كيف يعلمون؟ يعلمون أن الله هو المتوحد بما ذكر؛ لأنه هو الذي خلقهم وحده، وخلق من قبلهم، وهو الذي جعل لهم الأرض فراشاً، وجعلها على هذا الشكل يستطيعون الانتفاع بها والسكون عليها، وهو الذي أنزل المطر من السماء، وأنبت به ما يأكلون منه وتأكل منه أنعامهم، يعلمون هذا تماماً، فكيف يجعلون له نداً وهم يعلمون أنه المتفرد بذلك، وأن الأصنام التي يسمونها آلهة -سواءٌ أكانت أحجاراً أو أشجاراً أو أمواتاً أو ملائكة أو جناً أو أنبياء أو غيرهم- لا تملك من ذلك شيئاً، ويعلمون هذا قطعاً؟! إذاً: فشرك المشركين وقعوا فيه، هو أنهم يسألون الشفاعة من غير الله، ويقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، يقولون: ندعوا هذه المدعوات حتى تدعوا الله لنا. هذه حقيقة شركهم، وإلا ما كانوا يعتقدون أن الحجر يملك النفع ويدفع الضر، ما كانوا يعتقدون هذا، ولا أحد منهم، ولا كانوا يعتقدون أن الميت يستطيع أن يعطيهم الجنة وينجيهم من النار، وإنما يقول أحدهم: أنا أسأله، فهو بدوره يسأل الله لي؛ لأنه هو صالح مقرب عند الله. فيجعله شافعاً له فقط، وهذا قياس منهم على المعهود لهم في الدنيا، إذا كان هناك ملك أو رئيس فما كل واحد يستطيع أن يصل إليه ويطلب منه، فيتوسط إليه الطالب بمن هو مقرب عنده، وعلى هذا القياس وقعوا في الشرك، فأصل الشرك هو طلب الشفاعة. فالإخلاص هو أن تكون الدعوة لله وحده، ولا يكون هناك واسطة، ويكون العمل لله وحده، ولا يقصد بالعمل غير الله، ويكون العمل بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا هو التوحيد الذي دلت عليه كلمة الإخلاص (لا إله إلا الله).

وجوب التعلق بالله وحده

وجوب التعلق بالله وحده قال الشارح: [قوله: باب تفسير التوحيد وشهادة ألا إله إلا الله. قلت: هذا من عطف الدال على المدلول. فإن قيل: قد تقدم في أول الكتاب من الآيات ما يبين معنى (لا إله إلا الله) وما تضمنته من التوحيد، كقوله تعالى {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23] وسابقها ولاحقها، وكذلك ما ذكره في الأبواب بعدها فما فائدة هذه الترجمة؟ قيل: هذه الآيات المذكورات في هذا الباب فيها مزيد بيان بخصوصها لمعنى كلمة الإخلاص وما دلت عليه: من توحيد العبادة، وفيها: الحجة على من تعلق على الأنبياء والصالحين يدعوهم ويسألهم لأن ذلك هو سبب نزول بعض هذه الايات كالآية الأولى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الإسراء:56] أكثر المفسرين على أنها نزلت فيمن يعبد المسيح وأمه وعزيراً والملائكة، وقد نهى الله عن ذلك أشد النهي كما في هذه الآية من التهديد والوعيد على ذلك، وهذا يدل على أن دعاءهم من دون الله شرك بالله ينافي التوحيد وينافي شهادة أن لا إله إلا الله؛ ومضمون هذه الكلمة نفي الشرك في العبادة والبراءة من عبادة كل ما عبد من دون الله؛ فإن التوحيد أن لا يدعى إلا الله وحده، وكلمة الإخلاص نفت هذا الشرك؛ لأن دعوة غير الله تأله وعبادة له، و (الدعاء مخ العبادة). وفى هذه الآية: أن المدعو لا يملك لداعيه كشف ضر ولا تحويله من مكان إلى مكان، ولا من صفة إلى صفة، ولو كان المدعو نبياً أو ملكاً، وهذا يقرر بطلان دعوة كل مدعو من دون الله، كائناً من كان؛ لأن دعوته تخون داعيه أحوج ما كان إليها؛ لأنه أشرك مع الله من لا ينفعه ولا يضره، وهذه الآية تقرر التوحيد ومعنى لا إله إلا الله. قوله: وقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ} [الإسراء:57]. يبين أن هذا سبيل الأنبياء والمرسلين ومن تبعهم من المؤمنين قال قتادة: تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه، وقرأ ابن زيد: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء:57] قال العماد ابن كثير: وهذا لا خلاف فيه بين المفسرين، وذكره عن عدة من أئمة التفسير. قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: في هذه الآية ذكر المقامات الثلاثة: الحب وهو ابتغاء التقرب إليه والتوسل إليه بالأعمال الصالحة، والرجاء والخوف، وهذا هو التوحيد وهو حقيقة دين الإسلام كما في المسند عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (والله يا رسول الله ما أتيتك إلا بعد ما حلفت عدد أصابعي هذه: أن لا آتيك، فبالذي بعثك بالحق ما بعثك به؟ قال: الإسلام. قال: وما الإسلام؟ قال: أن تسلم قلبك وأن توجه وجهك إلى الله، وأن تصلي الصلوات المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة) وأخرج محمد بن نصر المروزي من حديث خالد بن معدان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن للإسلام صوى ومناراً كمنار الطريق، من ذلك أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وهذا معنى قوله تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [لقمان:22]. يجب على المسلم أن يجعل خوفه ورجاءه وتعلقه بالله وحده فقط، ويعلم أن جميع الخلق لا يملكون ضراً ولا نفعاً من دون الله جل وعلا، قال الرسول صلى الله عليه وسلم في وصيته لـ ابن عباس: (واعلم أن الخلق لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك)، فالأمر كله بيد الله جل وعلا، فيجب أن يكون تعلق القلب والتوجه إليه وحده، وأن تكون العبادة خالصة له وحده. والعبادة تكون بالقلب وتكون بالجوارح، وتكون بهما جميعاً، فمثلاً القيام تعبداً يجب أن يكون لله، والركوع يجب أن يكون لله، والسجود يجب أن يكون لله، والتوبة يجب أن تكون لله، والنذر والدعاء والرجاء والخوف وغير ذلك من أنواع العبادة الكثيرة كلها يجب أن تكون خالصة لله جل وعلا، ولا يجوز أن يتعلق العابد لله بغير الله جل وعلا في دعاء ولا في خوف ولا في رجاء، إلا أن الخوف يكون خوفاً طبيعياً ويكون خوفاً غيبيا، فالخوف الطبيعي كالذي يخاف من السبع أو من الحية أو من الظالم المقتدر على أذاه أو تعذيبه، فهذا لا يضر الإنسان شيئاً، وليس عليه في ذلك شيء. ولكن الخوف الذي يضر إذا خاف من غائب عنه، فهو يخافه وهو ميت، أو يخافه في أمر ليس من الأسباب الظاهرة، فإن هذا لا يجوز أن يكون إلا لله وحده جل وعلا، فإن حصل للإنسان شيء من ذلك -والعياذ بالله- فقد وقع في الشرك، وهذا الشرك يكون من الشرك الأكبر. وكذلك المحبة يجب أن تكون لله وحده، فالحب هو لب العبادة وهو التأله، وهو معنى (لا إله إلا الله)، فيجب أن يكون لله وحده، إلا أن الحب -كما سيأتي- ينقسم أيضاً إلى حب طبيعي وحب خاص، فالحب الطبيعي كحب الجائع للطعام والظمآن للشراب، وكذلك حب الألفة والأنس والمصاحبة، وكذلك حب الحنان والرحمة كحب الوالد لولده وما أشبه ذلك فهذا لا ضير فيه، ولا يلام الإنسان عليه، وإنما الحب الذي يكون لله هو الحب الخاص الذي يتضمن الذل والتعظيم، فهذا لا يجوز إلا أن يكون لله؛ إذ كان الحب في ضمنه ذل للمحبوب وتعظيم له، فهذا يكون عبادة لا يجوز أن يكون للمخلوق، وكذلك هذه الآية، حيث استثنى إبراهيم الله جل وعلا فقال: {إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي} [الزخرف:27] مما يدل على أنه لا يكفي في عبادة الله جل وعلا أن يقر الإنسان بأن الله هو ربه، مع أنه يوزع عبادته بين الله جل وعلا وبين المخلوقين، فإنه بذلك يكون مشركاً، فإذا قال الإنسان: إن الله هو ربي، وهو خالقي، وهو المتصرف في كل شيء والمالك لكل شيء، وهو المحيي والمميت، وهو الضار النافع، ومع ذلك يدعو غيره من الأموات فهذا الإقرار لا يفيده شيئاً ولا ينفعه، وذلك لأن المشرك لا يقبل منه عمل، والشرك يفسد العمل كله، فلابد في قبول العمل وصحته من الإخلاص، أن يكون الإنسان مخلصاً في عبادته ودعوته واتجاهه إلى الله جل وعلا.

معنى قوله تعالى: (وجعلها كلمة باقية في عقبة لعلهم يرجعون)

معنى قوله تعالى: (وجعلها كلمة باقية في عقبة لعلهم يرجعون) قال المصنف رحمه الله: [وقول الله تعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف:28] أي: لا إله إلا الله. فتدبر كيف عبر إبراهيم عليه السلام عن هذه الكلمة العظيمة بمعناها الذي دلت عليه ووضعت له من البراءة من كل ما يعبد من دون الله من المعبودات الموجودة في الخارج كالكواكب والأصنام التي صورها قوم نوح على صور الصالحين ود وسواع ويعوق ويغوث ونسر، وغيرها من الأمثال والأنداد التي كان يعبدها المشركون بأعيانها. ولم يستثن من جميع المعبودات إلا الذي فطره، وهو الله وحده لا شريك له، فهذا هو الذي دلت عليه كلمة الإخلاص مطابقة، كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} [الحج:62] فكل عبادة يقصد بها غير الله تعالى من دعاء وغيره فهي باطله، وهي الشرك الذي لا يغفره الله، قال تعالى: {ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ} [غافر:73 - 74]]. يعني: هذا في الآخرة، حيث ضلوا في الدنيا فيضلهم الله في الآخرة إلى سوء الظنون، ويظنون أنهم على شيء وهم كاذبون، ومعنى قوله: {ضلوا عنا} يعني: ذهبوا لا نراهم ولا وجود لهم حيث اعتقدوا في الدنيا أنهم يشفعون لهم، وشرك المشركين السابقين كله من هذا القبيل، أي: التشفع فقط. يتخذون الأصنام والصالحين شفعاء، مثلما ذكر في قصة نوح عندما صاروا يدعون وداً وسواع ويغوث ويعوق ونسراً، يقول العلماء: إن هذه الأسماء لرجال صالحين كانوا فيهم، وكانوا قدوة لهم، فماتوا في وقت متقارب، فأسفوا على فقدهم لأنهم يقتدون بهم ويهتدون بهديهم، وهم علماؤهم وعبادهم، فجاءهم الشيطان بصورة ناصح وقال لهم: ألا تصوروا صورهم فتضعونها في أماكنهم التي كانوا يجلسون فيها ويتعبدون فيها، فإذا رأيتم صورهم تذكرتم أفعالهم فاجتهدتم كاجتهادهم؟! فاستحسنوا هذا وصنعوه وصاروا على هذا العمل وقتاً إلى أن ماتوا، فجاء الذين بعدهم، ونسوا السبب الذي من أجله صوروا، فجاء إليهم الشيطان فقال: آباؤكم ما صوروا هؤلاء إلا لأنهم يتشفعون بهم، ويطلبون شفاعتهم عند الله ويجعلونهم شفعاء. فهذا هو أصل الشرك، وهذا أول شرك وقع في الأرض، أما قبل ذلك فكان الناس كلهم على منهج أبيهم آدم عليه السلام موحدين يعبدون الله وحده، ولهذا فنوح هو أول الرسل، وقبل ذلك لم تكن حاجة إلى إرسال الرسل؛ لأن الناس كانوا عابدين لله جل وعلا متبعين الحق مقتدين بأبيهم آدم الذي هو نبي مكلم كلمه الله جل وعلا. فلما وقع هذا الأمر بعث نوح عليه السلام، وصار يدعوهم إلى عبادة الله وحده، يقول الله جل وعلا: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ} [نوح:1] يعني: يأمرهم أن يعبدوا الله وحده. قال لهم هكذا: ((اعبدوا الله مالكم من إله غيره))، وهكذا الرسل كلهم يقولون هذا القول.

سبب وقوع الشرك

سبب وقوع الشرك السبب في وقوع الشرك هو التعلق بالصالحين، وهكذا غير الصالحين مثل الأصنام التي يعبدها الكفار، سواء الكفار الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الكفار الذين بعث إليهم إبراهيم عليه السلام، أو غيرهم الذين بعث إليهم جميع الرسل، كلهم كان لهم أصنام يتشفعون بها فقط، وما كان أحد يعتقد أن الصنم شريك لله جل وعلا في خلق السموات والأرض وفي التدبير وفي الإحياء والإماتة وإنزال المطر وإنبات النبات وغير ذلك، هذا ما وجد في الناس أصلاً، وإنما عبادتهم لهم أنهم يجعلونهم شفعاء، كما قال الله عنهم: {أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ} [الزمر:43] يعني: هذه المعبودات اتخذوها شفعاء وزعموا أنها تشفع لهم عند الل. وقال الله عنهم في الآية الأخرى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] يعني: يشفعوا لنا عند الله. فهذا هو الشرك الذي وقع فيه المشركون، ولا يتصور أن شركهم أنهم يسجدون للأصنام والحجارة ويعتقدون أنها تدبر الأمور وتتصرف في الكون، هذا ما وقع، وهم أعقل من ذلك، بل كانوا إذا وقعوا في الشدائد والكروب تركوا هذه الأصنام أصلاً ولجاؤا إلى الله وحده، وعلموا أنه لا يجيبهم ويكشف ما بهم إلا الله وحده، ولهذا احتج الله عليهم بذلك، كما قال الله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62] يعني: هل أحد غير الله؟ أقروا أنه الله وحده، وكذلك أخبر الله جل وعلا أنهم إذا سئلوا: من خلق السموات والأرض؟ قالوا: الله. وإذا سئلوا: من خلقكم؟ قالوا: الله. وإذا سئلوا: من بيده ملكوت السموات والأرض؟ قالوا: الله. فهم مقرون أن الذي يملك ما في السموات وما في الأرض هو الله، وكل هذا ظاهر جلي في القصص التي قصها ربنا علينا في القرآن عن الأمم السابقة والأنبياء. إذاً: فشرك المشركين هو في كونهم يدعون المعبودات التي يعبدونها ويدعونها لتشفع لهم فقط، سواءٌ أكانت المعبودات حجارة أم أشجاراً أم مياهاً أم أشخاصاً أم أمواتاً أم ملائكة أم جناً أم أنبياءً أم غير ذلك، فهذه هي عبادتهم، وهذا يجب على المسلم أن يتعرف عليه ويعرفه؛ لأن الله جل وعلا أخبرنا أنه لا يغفر أن يشرك به، وأن المشرك إذا مات مشركاً فهو خالد في النار، وأن الجنة عليه حرام، وأنه ليس بخارج من النار، وهذا أمر عظيم جداً، فإذا كان الأمر هكذا فيتعين على العاقل أن يتعرف على الشرك خوفاً من أن يقع فيه وهو لا يدري؛ لأنه قد يقع الإنسان في الباطل وهو لا يظن أنه باطل لجهل الأمر، والعاصم من ذلك فهم كتاب الله واتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإنسان يعتصم بهذا -إذا عصمه الله جل وعلا- بفهمه وعلمه، وإلا فالإنسان قد يستطيع أن يفسر كلام الله ويبين دليله من اللغة وهو مخالف له، فقد وقع في هذا كثير من الناس، فالأمر ليس سهلاً. فالمقصود أن شرك المشركين هو من هذا القبيل فقط، ما كان أحدهم يتصور -فضلاً عن الاعتقاد- أن شيئاً من المخلوقات يحيي أو يميت أو ينزل المطر أو ينبت النبات ويتصرف مع الله جل وعلا. وكل هذا من باب القياس، وذلك أن بني آدم علموا أن العظماء والرؤساء والملوك عندهم من يقوم بتوصيل ما يحتاجون إليه، وأكثر الناس لا يستطيع أن يواجههم وأن يأتي إليهم، وإذا أتى إليهم قد لا يحصل على شيء، فقالوا: لابد من اتخاذ الوسائط والشفعاء الذين لهم مقام عند الرئيس وعند الملك حتى يكلموه وحتى يشفعوا عنده، وبذلك يحصل المقصود. فهم جعلوا هذا لرب العالمين، وقاسوا الخالق جل وعلا على المخلوق، وهذا هو الشرك الأكبر، هو تشبيه الخالق جل وعلا بالمخلوق، أو تشبيه المخلوق بالخالق، فهذا يتعالى الله عنه ويتقدس؛ إذ ليس بينه وبين عبده واسطة، أينما كنت اتجه إلى ربك فهو يراك ويسمعك، وهو أقرب إليك من كل أحد إذا أخلصت له ودعوت، ولا تجعل بينك وبين ربك وساطة، ولا يجوز أن يكون بين العبد وبين ربه وسائط إلا واسطة واحدة وهي الرسول صلى الله عليه وسلم في بادئ الأمر في تبليغ أمر الله فقط، في تبليغ شرع الله ودينه؛ لأن الله جل وعلا يوحي إلى من يشاء من الرسل فقط، ولا يكلم أحداً من الناس، وإنما يكلم الرسل إذا شاء من وراء حجاب أو بالوحي، فهم الوساطة بين الخلق وبين ربهم جل وعلا في تبيلغ أمره ودينه وشرعه. أما في الدعاء والتوجه والطلب فليس بين الله جل وعلا وبين الخلق وسائط، فمن جعل وسائط بينه وبين الله فقد وقع فيما وقع فيه المشركون الذين عبدوا مع الله غيره.

معنى قوله تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله)

معنى قوله تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) قال المصنف: [وقوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة:31]]. هذه الآية أيضاً من الآيات التي توضح معنى (لا إله إلا الله) وتبين ذلك، فهي في أهل الكتاب من اليهود والنصارى، {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31]، والأحبار: هم العلماء، والرهبان: هم العباد الذين يتعبدون لله جل وعلا. والله يخبرنا عن اليهود والنصارى أنهم اتخذوا هذين النوعين من البشر أرباباً من دون الله، وقد جاء تفسيرها التفسير الواضح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عدي بن حاتم، فإن عدياً كان نصرانياً، فقدم على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان في رقبته صليب، فقال له: (ألق عنك هذا الوثن، ثم سمعه يقرأ هذه الآية، فقال: إنهم لم يعبدوهم! فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ألم يحللوا الحرام فيتبعوهم على ذلك، ويحرموا عليهم الحلال فيتبعوهم على ذلك؟ قال: بلى. قال: تلك عبادتهم) يعني: اتباعهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال. وباختصار: هو طاعتهم في معصية الله. فإذا أطاعوهم في معصية الله فقد اتخذوهم أرباباً، والرب: هو المالك المتصرف المعبود الذي يجب أن يعبد وحده، وهو الذي يملك الأمر والنهي ويملك التشريع، ويجب أن يكون له التحليل والتحريم، فلا يجوز أن يكون إلا لله جل وعلا؛ لأن من مقتضى الربوبية أن الرب هو الذي يأمر عباده ويحلل لهم ويحرم عليهم، ولا أحد من الخلق يملك شيئاً من ذلك، فإن اتبع مخلوقاً في شيء من ذلك فقد اتخذه رباً، والرب هو الذي يكون معبوداً. ولكن في هذا شيء من التفصيل، فإن هذا الأمر ينقسم إلى قسمين، فإذا اتبع الإنسان مخلوقاً في التحريم والتحليل فلا يخلو الأمر إما أن يكون عالماً بأنه حلل الحرام وحرم الحلال ويعلم ذلك فيتبعه مع علمه أنه فعل ذلك، فمن اتبعه على هذا الوصف فهو كافر مشرك خارج من الدين الإسلامي. وأما إن كان جاهلاً لا يدري، بل أحسن به الظن فاتبعه فإن هذا عاص له حكم أمثاله من العصاة، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، إنما الطاعة بالمعروف) والمعروف هو ما جاء به الشرع أنه أمر بكذا ونهى عن كذا. إذاً: فمعنى هذه الآية أن اليهود والنصارى اتبعوا علماءهم وعبادهم الذين تركوا أمر الله وارتكبوا المحرمات، وتركوا ما هو أمر إلزامي من الله تبارك وتعالى، فاتبعوهم على هذا فكانوا أرباباً لهم. وهكذا إذا اتبع الإنسان من هذه الأمة هذا السبيل، اتبع من يحلل الحرام ويحرم الحلال، فإن له حكمه، وذلك أن القرآن ذكر هذه الأشياء عن اليهود والنصارى حتى نجتنبها ونبتعد عنها، وإلا فإنهم في الغالب لا ينتفعون بهذا، وإنما المقصود نحن المسلمين، حتى لا نقع فيما وقع فيه أولئك. إذاً: فالتحريم والتحليل والاتباع هذا من خصائص الله، ومن معنى (لا إله إلا الله)، فإن معنى (لا إله إلا الله) أن تعبد الله، وعبادة الله تكون باتباع أمره الذي أمرك الله به واجتناب نهيه الذي نهاك الله عنه، أما إذا اتبعت أمر مخلوق وتركت أمر الله فإن هذا ينتقض، وتكون هذه العبادة لذلك المخلوق.

الحديث المفسر لهذه الآية

الحديث المفسر لهذه الآية قال الشارح: [وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه تلا هذه الآية على عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله! لسنا نعبدهم. قال: أليسوا يحلوا لكم ما حرم الله فتحلونه، ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟ قال: بلى. قال النبي صلى الله عليه وسلم: فتلك عبادتهم) فصارت طاعتهم في المعصية عبادة لغير الله تعالى، وبهذا اتخذوهم أرباباً كما هو الواقع في هذه الأمة، وهذا من الشرك الأكبر المنافي للتوحيد الذي هو مدلول شهادة ألا إله إلا الله، فتبين بهذه الآية أن كلمة الإخلاص نفت هذا كله لمنافاته لمدلول هذه الكلمة، فأثبتوا ما نفته من الشرك، وتركوا ما أثبتته من التوحيد]. يكون الاتباع شركاً أكبر إذا كان الإنسان عالماً بأنهم عملوا هذا الشيء -أي تحليل الحرام وتحريم الحلال- فعلم بذلك واتبعهم على هذا، فيكون قد وقع في الشرك الأكبر. أما إذا كان جاهلاً فإنه يكون عاصياً من العصاة، يستحق العقاب إن لم يعف الله عنه، وإلا فهو معرض لعقاب الله جل وعلا، ولكن لا يكفر.

معنى قوله تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله)

معنى قوله تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله) قال المصنف: [وقوله تعالى: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165]]. وهذه الآية أيضاً تبين معنى لا إله إلا الله، وذلك أن الإله هو المألوه الذي تألهه القلوب حباً وخوفاً ورجاءً. وفي هذه الآية يقول الله تعالى: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165]، والند: هو المثيل والشبيه والنظير. فما هناك أحد من الخلق يعتقد أن شخصاً من بني آدم أو صنماً من الأصنام أو شجرة أو حجراً شيئاً يصنعه بيده يكون مثيلاً لله جل وعلا في التصرف والإيجاد والخلق وجميع الأمور، وإنما التنديد في الحب فقط،، اتخذوهم أنداداً في المحبة، أما في التصرف والفعل فهم يعلمون علماً يقينياً بأنه ليس لهم منه شيء، وأن هذا خاصٌ بالله جل وعلا. إذاً: فيكون معنى ذلك: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165] أي: في المحبة فقط. فالتنديد هنا في المحبة فقط، والحب هو الذي قلنا: إنه الحب الخاص الذي يتضمن الذل والتعظيم. ومعلوم أن الحجر أو الشجر لا يجوز أن يخاف منه، فإذا خاف الإنسان منه أو رجاه فلابد أنه يحبه، وهذا أمر ضروري، ومن وقع في ذلك فقد وقع في الشرك، وهذا يكون من الشرك الأكبر الذي يكون مخرجاً من دين الإسلام، وإذا مات عليه صار من أهل النار، ولهذا قال الله جل وعلا في آخر هذه الآية: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ} [البقرة:166]، والأسباب -كما يقول ابن عباس - هي المودة والمحبة التي بينهم، انقطعت وانتهت، وكل واحد تبرأ من الآخر، العابد تبرأ من المعبود، والمعبود تبرأ من العابد {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} [البقرة:166 - 167] يعني: يقولون: يا ليت لنا كرة. يا ليت لنا رجعة إلى الدنيا. هذا معناه: {فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ} [البقرة:167]، فهذا لأنهم أحبوهم حب الإلهية والتعظيم، وهذا هو التنديد، وهذا هو التسوية التي ذكرت في الآية الأخرى التي ذكرت أن أهل النار يخاطبون معبوداتهم وهم في النار فيقولون: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:97 - 98]، والمعنى: لقد كنا ضُلّالاً ضلالاً واضحاً لا يخفى لما كنا نسويكم برب العالمين. أي: في الحب فقط، ما هو في التصرف، وهذه التسوية هي المذكورة في هذه الآية: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165]، فيجب أن يكون الحب الخاص الذي يتضمن الذل والتعظيم لله وحده، ولا يجوز أن يكون لغير الله. وقد يشتبه الأمر على بعض الناس أن بعض المخلوقين يحب أكثر من محبة النفس، كالرسول -مثلاً- صلوات الله وسلامه عليه، فإنه يجب على المسلم أن يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من محبته لنفسه وأهله وماله والناس أجمعين، وإلا فلا يكون مؤمناً الإيمان الذي ينجيه، فيجب أن يعلم أن هذا الحب-حب الرسول صلى الله عليه وسلم- يكون تابعاً لحب الله، وليس حباً مع الله، بل هو يتبع محبة الله جل وعلا، فالمسلم يحب الله حباً أكثر، ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك تكون أعظم وأكثر؛ لأنه يحب ما يحبه الله، فالله يحب رسوله، فهي تبع لمحبة الله، وليست محبة مع الله أنها ليست محبة ذل وتعظيم وعبادة، وإنما يحب الرسول لأن الله جل وعلا يحبه، فأنت تحب محبوبات حبيبك، فهي مكملة لمحبة الله جل وعلا ومتممة لها، وهذا يتبين في قوله صلى الله عليه وسلم: (من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله فقد استكمل عرى الإيمان) أو نحو ما قال، فمحبته تكون تبعاً لمحبة الله جل وعلا، فإذا رأيت من يطيع الله تحبه، لا لذاته، ولا لأنه شخص أو لأنه قريب، لا، تحبه لعمله، تحبه لأجل فعله، وتحبه لأجل العمل الذي عمله وهو طاعة الله، وكلما زادت طاعته لله تزداد محبته لدى المؤمنين. وهكذا العكس، فإذا عصى الإنسان ربه يبغضه المؤمن، وإذا زادت معصيته زاد بغضه، والكافر يجب أن يتبرأ منه، كما سبق في الآية أن إبراهيم تبرأ من أبيه وقومه لأجل أنهم كفار، وذلك أن الله جل وعلا بريء من المشركين ورسوله، فيجب أن يكون المسلم كذلك بريئاً من المشركين، كما قال الله جل وعلا: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22] أي: لو كان ابنك أو أباك أو أخاك أو زوجك أو أحداً من قومك ما يجوز أن توده وهو عدو لله. إذاً: فالحب الذي يكون للمخلوقين ما هو حب ذات، حب الذات لا يكون إلا لله وحده؛ لأنه لا يوجد شيء يحب لذاته إلا الله جل وعلا، أما المخلوقون كلهم فيحبون لصفاتهم وأفعالهم فقط، فإذا كان مطيعاً لله حب لأجل ذلك، ما يحب لأنه بشر، وسواءٌ أكانوا أنبياء أم ملائكة أم غير ذلك، وإنما الذي يحب لذاته هو الله وحده، وذلك أنه جل وعلا هو الإله الحق وحده، وهو المالك وحده، وهو الموجد وحده، وهو المنعم وحده على العباد، والعبادة تكون تبعاً لذلك.

الشرك في حب الله يكون شركا منافيا للتوحيد

الشرك في حب الله يكون شركاً منافياً للتوحيد قال الشارح رحمه الله: [وكل من اتخذ نداً لله يدعوه من دون الله ويرغب إليه ويرجوه لما يؤمله منه من قضاء حاجاته وتفريج كرباته كحال عباد القبور والطواغيت والأصنام فلابد أن يعظموهم ويحبوهم لذلك؛ فإنهم أحبوهم مع الله، وإن كانوا يحبون الله تعالى ويقولون: (لا إله إلا الله) ويصلون ويصومون فقد أشركوا بالله في المحبة بمحبة غيره وعبادة غيره، فاتخاذهم الأنداد يحبونهم كحب الله يبطل كل قول يقولونه، ويبطل كل عمل يعملونه؛ لأن المشرك لا يقبل منه عمل ولا يصح منه، وهؤلاء وإن قالوا: لا إله إلا الله فقد تركوا كل قيد قيدت به هذه الكلمة العظيمة من العلم بمدلولها؛ لأن المشرك جاهل بمعناها، ومن جهله بمعناها جعل لله شريكاً في المحبة وغيرها، وهذا هو الجهل المنافي للعلم بما دلت عليه من الإخلاص، ولم يكن صادقاً في قولها؛ لأنه لم ينفٍ ما نفته من الشرك، ولم يثبت ما أثبتته من الإخلاص، وترك اليقين أيضاً؛ لأنه لو عرف معناها وما دلت عليه لأنكره أو شك فيه، ولم يقبله وهو الحق، ولم يكفر بما يعبد من دون الله، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165]؛ لأنهم أخلصوا له الحب فلم يحبوا إلا إياه، ويحبون من أحب، ويخلصون أعمالهم جميعاً لله، ويكفرون بما عبد من دون الله. فبهذا يتبين لمن وفقه الله تعالى لمعرفة الحق وقبوله دلالة هذه الآية العظيمة على معنى شهادة ألا إله إلا الله، وعلى التوحيد الذي هو معناها الذي دعا إليه جميع المرسلين، فتدبر]. يعني أن الحب مع الله يكون شركاً منافياً للتوحيد، فيجب أن يكون الحب خالصاً لله جل وعلا، وحب عباد الله الصالحين متعين، ولكن مثلما سبق أن عباد الله الصالحين يحبون لله لا يحبون معه، فمعنى محبتهم أنها مكملة لمحبة الله جل وعلا. وأما قوله: (فقد تركوا كل قيد قيدت به هذه الكلمة العظيمة) فالقيود التي قيدت بها هذه الكلمة جاءت في الأحاديث الصحيحة وفي الآيات، كقوله جل وعلا: {إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86] يعني: لابد أن يكون عالماً بمعنى هذه الكلمة، (شهد بالحق) الذي هو لا إله إلا الله، (وهم يعلمون) هذه الشهادة ومعناها وحقيقتها حتى لا يخالفوها. وكذلك قيدت باليقين، فيكون الإنسان موقناً بذلك، والذي يدعو مع الله غيره يكون غير موقن، بل يكون غير عالم بها، وكثير من الناس يغتر؛ لأنه جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة)، والمقصود بقول: (لا إله إلا الله) نفي العبادة عن غيره جل وعلا وإثباتها له، فمن مات وهو لا يعبد إلا الله وحده فإنه يكون من أهل الجنة، ولكن إذا كان يقول: (لا إله إلا الله) وهو يدعو غير الله معه فهذه الكلمة تكون لا فائدة في قوله لها؛ لأنه يأتي بالفعل الذي ينافي هذا القول. وكذلك كونه لا يكفر بما يعبد من دون الله، فإن هذا قيد من القيود التي قيدت به هذه الكلمة، لابد لمن يقول: (لا إله إلا الله) أن يكفر بما يعبد من دون الله، أما إذا آمن بالمعبودات من دون الله فقد ناقض هذا القول. والمقصود أنه يجب على العبد أن يتعرف على معنى كلمة التوحيد، وعلى القيود التي قيدت بها وشروطها، ومنها أنه لابد أن يكون القائل لها عالماً بها ولمدلولها، صادقاً فيها، والصدق معناه أن يقولها صادقاً لا متردداً أو شاكاً فيها. ولابد أن يكون محباً لها الحب الذي ينافي البغض لمدلولها وما دلت عليه، فمن أبغض شيئاً مما دلت عليه فهو لم يأت بهذه الكلمة على الوجه المطلوب. وكذلك لابد أن يكون مخلصاً في قولها، فمن وقع في الشرك وقالها لا تفيده، ولابد أن يكون أيضاً منقاداً لها مذعناً، فلو قال -مثلاً-: (لا إله إلا الله) ولم ينقده لما دلت عليه من الفرائض والواجبات التي أوجبها الله جل وعلا فهذا لم يأت بها على الوجه المطلوب، ولم يحصل على ما وعد من دخول الجنة لمن قالها، إلى غير ذلك من القيود التي قيدت بها هذه الكلمة.

معنى قوله: (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب)

معنى قوله: (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب) قال المصنف رحمه الله: [وقول الله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء:57]]. قبل هذه الآية يقول الله: {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} [الإسراء:56] (ادعوا الذين زعمتم) يعني أنهم كانوا يدعون المخلوقين غير الله جل وعلا، وقوله: (ادعوا) هذا أمر تعجيز وتهديد لهم، يقول: إنكم إذا دعوتموهم فإن دعوتهم لا تنفع بل تضركم، {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ} [الإسراء:56] لا يملكون كشف الضر الذي تدعونهم لكشفه ولا تحويله من مكان إلى آخر، والمعنى أنهم لا يملكون شيئاً. ثم بعد ذلك قال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [الإسراء:57] يكاد يجمع المفسرون على أن هذه الآية نزلت في الذين يدعون المسيح وأمه وعزيراً والملائكة، يقول: إن هؤلاء الذين تدعونهم عباد مثلكم يتسابقون في طاعة الله والتقرب إليه أيهم يكون أقرب إلى الله بالعمل الصالح الذي يعمله، فهم لا يجوز أن يدعون، فدعوتكم إياهم ضلال وخسران، وهي تضركم ولا تنفعكم. وقيل: إنها نزلت في قوم من الجن كان بعض المشركين يدعونهم، وكان من عادة المشركين أنهم يعبدون الجن، فقال الله جل وعلا عنهم: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [الجن:6] كان أحدهم إذا آواه الليل وهو في البر ينادي ويقول: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه. أستجير بسيد هذا الوادي-يعني رئيس الجن- أستجير وأستعين به -وهذه عبادة- من سفهاء قومه أن يعتدوا علي ((فزادوهم رهقاً)) يعني: خوفاً وذلاً. فأذلوهم حيث تسلطوا عليهم بسبب هذا الدعاء الذي هو العبادة؛ لأن الذي يتعلق بغير الله يسلط الله عليه ذلك المخلوق الذي تعلق به بخلاف الذي يتجه إلى ربه جل وعلا فإنه لا يضره شيء، والله يحميه. فقوله: ((أولئك الذين يدعون)) يعني: هؤلاء. وقرأ بعض القراء: ((أولئك الذين تدعون)) خطاباً للكفار، أنهم يدعون بعض من يدعونهم من دون الله، سواءٌ أكانوا ملائكة أم غيرهم، فإن فريقاً من مشركي العرب كانوا يعبدون الملائكة كما أخبر الله جل وعلا عنهم في كتابه، وإذا جمعهم يوم القيامة فإن الله يخاطب الملائكة ويقول: {أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} [سبأ:40]، فتتبرأ الملائكة منهم ويقولون: {قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} [سبأ:41] أي: الشياطين التي أمرتهم بذلك {أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ:41]، ومنهم من يعبد المسيح، ومنهم من يعبد عزيراً وهو نبي، وكذلك أم المسيح مريم عليها السلام، فقد كان بعض الناس يعبدها وهي ليست نبية، وإنما هي صديقة كما أخبر الله تعالى عنها، فهؤلاء المعبودون يخبر الله جل وعلا عنهم أنهم كانوا يتقربون إلى الله ويسارعون إلى مرضاته أيهم يكون أقرب عند الله، والوسيلة التي يبتغونها هي الإسلام، هي الدين الذي أوحاه الله جل وعلا إلى أنبيائه. وقوله تعالى: ((يبتغون إليه الوسيلة)) يعني: يعتنقون الدين ويؤمنون به ويتبعونه؛ لأنه هو الوسيلة التي تقربهم إلى الله جل وعلا. ويتبين بهذا أن الدعاء من العبادة يجب أن يكون خالصاً لله جل وعلا وحده.

معنى قوله: (قل ادعوا الذين زعمتم من دونه)

معنى قوله: (قل ادعوا الذين زعمتم من دونه) قال الشارح: [يتبين معنى هذه الآية بذكر ما قبلها وهو قوله تعالى: {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} [الإسراء:56]. قال ابن كثير رحمه الله: يقول تعالى: (قل) يا محمد للمشركين الذين عبدوا غير الله {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ} من الأصنام والأنداد، وارغبوا إليهم ((فإنهم لا يملكون كشف الضر عنكم)) أي: بالكلية ((ولا تحويلا)) أي: ولا أن يحولوه إلى غيركم. والمعنى أن الذي يقدر على ذلك هو الله وحده لا شريك له، الذي له الخلق والأمر. قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنه فى الآية: كان أهل الشرك يقولون: نعبد الملائكة والمسيح وعزيراً. وهم (الذين يدعون) يعنى: الملائكة والمسيح وعزيراً. وروى البخاري فى الآية عن ابن مسعود رضى الله عنه قال: ناس من الجن كانوا يعبدون فأسلموا. وفى رواية: كان ناس من الإنس يعبدون ناساً من الجن فأسلم الجن وتمسك هؤلاء بدينهم]. يعني أن المعبودين من الجن أسلموا فصاروا يتقربون إلى الله ويتسارعون لطاعته أيهم أقرب إليه زلفى، وبقي الإنس المشركون على عبادتهم، يقول: أولئك الذين تدعون يبتغون عند ربهم الوسيلة. يعني أنهم أسلموا واتبعوا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه الوسيلة إلى الله جل وعلا. قال الشارح: [وقول ابن مسعود هذا يدل على أن الوسيلة هي الإسلام، وهو كذلك على كلا القولين. وقال السدي عن أبي صالح عن ابن عباس فى الآية قال: عيسى وأمه وعزيراً. وقال مغيرة عن إبراهيم: كان ابن عباس يقول في هذه الآية: هم عيسى وعزير والشمس والقمر. وقال مجاهد: عيسى وعزير والملائكة] الصواب أن هذه الآية عامة في كل من يدعى من دون الله، سواءٌ أكان صالحاً من عباد الله سواء من البشر أو من الملائكة أو من الجن، أم كان صنماً أم شجراً أم غير ذلك، فكل ما دعي من دون الله فهو لا يملك كشف الضر ولا تحويله، أي: لا يملك شيئاً، وهو أيضاً إذا كان عاقلاً خاضعاً لله جل وعلا ذالاً له عابداً له بالعبادة التي سخره الله تعالى ليعبده بها، فإنه جل وعلا كل من في السموات والأرض من غير بني آدم والجن يعبد ربه، أما الجن والإنس فهم الذين حق على كثير منهم القول؛ لأنهم كفروا بالله جل وعلا. فالمقصود أنه إذا وقعت العبادة لغير الله سواءٌ أكانت لعاقل أم لغير عاقل فهي شرك وضلال، وذلك المعبود سوف يتبرأ من العابد أحوج ما كان إليه، وسوف يكفر بعبادته، كما أخبر الله جل وعلا بذلك بقوله جل وعلا: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:5 - 6] وهذا عام في كل معبود من دون الله.

لا تتم العبادة إلا بالخوف والرجاء

لا تتم العبادة إلا بالخوف والرجاء قال الشارح: [وقوله: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء:57] لا تتم العبادة إلا بالخوف والرجاء، فكل داع دعا دعاء عبادة أو استغاثة لابد له من ذلك، فإما أن يكون خائفاً، وإما أن يكون راجياً، وإما أن يجتمع فيه الوصفان. قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في هذه الآية الكريمة لما ذكر أقوال المفسرين: وهذه الأقوال كلها حق؛ فإن الآية تعم من كان معبوده عابداً لله، سواءٌ أكان من الملائكة أم من الجن أم من البشر، والسلف في تفسيرهم يذكرون تفسير جنس المراد بالآية على نوع التمثيل، كما يقول الترجمان لمن سأله: ما معنى الخبز؟ فيريه رغيفا فيقول: هذا. فالإشارة إلى نوعه لا إلى عينه، وليس مرادهم من بذلك تخصيص نوع دون نوع مع شمول الآية. فالآية خطاب لكل من دعا من دون الله مدعواً وذلك المدعو يبتغي إلى الله الوسيلة ويرجو رحمته ويخاف عذابه، فكل من دعا ميتاً أو غائباً من الأولياء والصالحين، سواءٌ أكان بلفظ الاستغاثة أم غيرها فقد تناولته هذه الآية الكريمة كما تتناول من دعا الملائكة والجن، فقد نهى الله تعالى عن دعائهم، وبين أنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعين ولا تحويله، ولا يرفعونه بالكلية ولا يحولونه من موضع إلى موضع كتغيير صفته أو قدره، ولهذا قال: ((ولا تحويلاً)) فذكر نكرة تعم أنواع التحويل. فكل من دعا ميتاً أو غائباً من الأنبياء والصالحين أو دعا الملائكة فقد دعا من لا يغيثه ولا يملك كشف الضر عنه ولا تحويله]. يعني: من دعا حاضراً في شيء لا يقدر عليه. فلا يلزم أن يكون ميتاً، أما دعوة الميت والغائب فهي شرك مطلقاً، لأنه في دعوته هذه لا يسمع وليس قادراً على ذلك، أما إذا كان حاضراً فيشترط أن يكون دعاؤه فيما يستطيع أن يجيبه، أما إن كان في الشيء الذي لا يجيبه، مثل أن يدعوه أن يشفي مريضه أو يصلح قلبه أو أن يهب له مولوداً أو ما أشبه ذلك فهذا شرك أكبر بالله جل وعلا؛ لأنه من خصائص الله جل وعلا، وكل من جعل شيئاً مما هو لله جل وعلا للمخلوق فقد وقع في الشرك الأكبر. قال الشارح: [وفي هذه الآية رد على من يدعو صالحاً ويقول: أنا لا أشرك بالله شيئاً، الشرك عبادة الأصنام!] الذي يدعو صالحاً سواءٌ أكان حياً أم ميتاً، ويقول: دعائي ليس شركاً وإنما هذا توسل به فالواقع أن هذا هو الشرك، وإن غير الاسم فهو لا يجدي شيئاً.

شرح فتح المجيد [30]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [30] لقد أوجب الله على المؤمنين البراءة من الكافرين وإخبارهم بذلك؛ لأن الله عز وجل قطع الصلة بين المسلم والكافر، حتى وإن كانت هذه القرابة تصل إلى حد الأبوة أو البنوة أو الأخوة، وقد أثنى الله على نبيه إبراهيم لبراءته من أبيه وقومه، كما أثنى على الصحابة الأولين الذين تبرءوا من قرابتهم واحتسبوا ذلك عند الله، فأثابهم الله على ذلك إيماناً في قلوبهم وتأييداً ونصرة.

معنى قوله تعالى: (وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إني براء مما تعبدون)

معنى قوله تعالى: (وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إني براء مما تعبدون) قال المصنف رحمه الله: [وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي} [الزخرف:26 - 27]] في قول الله جل وعلا عن إبراهيم عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:26 - 28] في هذه الآية يبين الله جل وعلا أن المسلم يجب عليه أن يتبرأ من الكافر، وأن يعلمه بأنه بريء منه؛ لأن الله جل وعلا قطع الصلة بين المسلم والكافر، انقطعت الصلة وإن كان أباه أو أخاه أو ابنه كما قال الله جل وعلا في الآية الأخرى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22]، ثم ختم الآية بالثناء على الصحابة الذين تبرءوا من أقربائهم: {أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة:22]، وهذه -كما يقوله بعض المفسرين- نزلت في أبي عبيدة لما حاول قتل أباه حينما رآه في بدر. فالمسلم بريء من المشركين، يتبرأ منهم ويعلمهم أنه عدو لهم، فلا صلة بين المسلم والمشرك الكافر عموماً، ولهذا قال الله جل وعلا في الآية الأخرى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4] ثم استثنى الله جل وعلا عدم التأسي بقول إبراهيم لأبيه: (لأستغفرن لك)، فقال: {إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة:4] يعني: لا تتأسوا به. لأن الله أخبر في الآية الأخرى أنه وعد أباه بذلك، فلما تبين له أن أباه عدو لله تبرأ منه، وهكذا يكون الموحد، ولا يتم توحيد الإنسان إلا بأن يكون ولاؤه لله جل وعلا، وكذلك من كان على هذا النهج من عباد الله جل وعلا. وفي هذه الآية توضيح لمعنى شهادة أن لا إله إلا الله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف:26 - 27] وتوضيح ذلك أن إبراهيم عليه السلام تبرأ من جميع المعبودات لأنها باطلة وضلال، واستثنى منها الذي فطره وهو الله جل وعلا. ومعنى (فطرني): خلقني بعد أن لم أكن شيئاً، وهذا يدل على أن قوم إبراهيم كانوا يعبدون الله ويعبدون معه غيره، فتبرأ من المعبودات كلها واستثنى منها إلهه وربه جل وعلا الذي يجب أن تكون العبادة كلها له. فمعنى (لا إله إلا الله) هو هذا الولاء والبراء، أن يتبرأ من كل المعبودات ويخلص عبادته لله وحده، فكل العبادة لمعبود واحد هو الله جل وعلا، ويكفر بكل ما يعبد من دون الله. ثم إن العبادة كل ما يتقرب به الإنسان إلى ربه جل وعلا من فعل أو قول يرجو بذلك الثواب ويخاف إن لم يأت به أن يعاقب، أو يسأله مطلباً معيناً سواء أكان من أمور الدنيا أم من أمور الآخرة، فهو عبادة، بل الدعاء هو مخ العبادة وأصلها وأساسها، والله جل وعلا أوجب الدعاء على عباده فقال: {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي} [غافر:60] وهذا القول يقتضي أنه يجب، {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] وسواء كان الدعاء لمسألة معينة ونفع معين من أمور الدنيا والآخرة أم يخص الآخرة، فكله يكون من أفضل العبادة، فلا يجوز أن يكون الدعاء لغير الله جل وعلا، وهكذا جميع أنواع العبادة يجب أن تكون خالصة لله جل وعلا، وهذه الآية موضحة لمعنى شهادة أن لا إله إلا الله. وكثير من آيات القرآن يوضح ذلك توضيحاً جلياً، غير أن كثيراً من الناس يعرض عن فهم القرآن وتدبره، وقد ذم الله جل وعلا الذين لا يفهمون القرآن ولا يتدبرون، فقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]، فيجب على المسلم أن يتفهم كتاب ربه؛ لأن الله يخاطب عباده بالخطاب الذي يدعوهم فيه إلى أن يفهموه ويعملوا به.

كلام ابن كثير في تفسير هذه الآية

كلام ابن كثير في تفسير هذه الآية قال الشارح رحمه الله: [قال ابن كثير رحمه الله تعالى: يقول تعالى مخبرا عن عبده ورسوله وخليله إمام الحنفاء، ووالد من بعث بعده من الأنبياء الذي تنتسب إليه قريش فى نسبها ومذهبها: إنه تبرأ من أبيه وقومه فى عبادتهم الأوثان فقال: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:26 - 28] أي: إن هذه الكلمة -وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وخلع ما سواه من الأوثان، وهي لا إله إلا الله- جعلها فى ذريته يقتدي به فيها من هداه الله من ذرية إبراهيم عليه السلام (لعلهم يرجعون) أي: إليها]. قوله جل وعلا عن إبراهيم عليه السلام: {فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف:27] يبين الله فيه أن على المسلم ألا يعتمد على نفسه وعلى فعله وقوته، وإنما يلجأ إلى ربه في كل ما يصدر منه، ويبرأ من الحول والقوة؛ فإن الهداية بيد الله، فالإنسان لا يملكها إذا لم يهده الله جل وعلا، {فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف:27] يقول: إذا اتجهت هذا الاتجاه فأنا أرجو هدايته وأطلبها منه، وليست الهداية مني وإنما هي من الله جل وعلا، فهو يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وهذا من مقتضى العبودية، أن يكون الإنسان مستسلماً منقاداً لله جل وعلا، وألا يكون لنفسه مع الله جل وعلا منازعة ينازعه فيما يصدر من الله جل وعلا ولا فيما يصدر من العبد، غير أن العبد مكلف بامتثال الأمر واجتناب المنهي عنه، ثم هو إذا لم يعنه الله جل وعلا ويهده لذلك لا يستطيع أن يعمل شيئاً، ولهذا وجب علينا أن ندعو الله جل وعلا بهذا الدعاء في كل ركعة من ركعات الصلاة، فنقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] أي: إذا لم تعنا على عبادتك لا نستطيع أن نعمل شيئاً. فالعبد يكون مستسلماً منقاداً لله بارئاً من الحول والقوة، وإنما هو عبد لله يتصرف فيه كيف يشاء، فهو يسأل ربه مفتقراً إليه، مظهراً فقره في عبادته التي يتقرب بها إلى الله بأن يوفقه الله جل وعلا فيها وفي مستقبله وفي جميع أحواله، يجب أن يكون العبد بهذه المثابة، وأن يعلم أن الخلق كلهم لا يغنون عنه شيئاً، أما إذا أصبح ينازع ربه في التصرفات فإنه يكون له نوع من التكبر على الله جل وعلا وعلى عبادته، فيخذل في ذلك، ويعرض الله جل وعلا عنه ويكله إلى نفسه، ومن وكل إلى نفسه تولاه الشيطان وضل، نسأل الله العافية. ففي هذا دليل على أن العبادة مقترنة بالاستعانة، وأنها لا تصح العبادة حتى تقترن بعون الله جل وعلا وتوفيقه، فالإنسان يعبد ربه ويسأله التوفيق والعون على ذلك.

معنى قوله: (وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون)

معنى قوله: (وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون) قال الشارح رحمه الله: [قال عكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة والسدي وغيرهم في قوله: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:28] يعنى: (لا إله إلا لله)، لا يزال في ذريته من يقولها]. وقد كانت هذه الكلمة وقت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرفونها، ففي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله تعالى نظر إلى أهل الأرض فمقتهم إلا بقايا من أهل الكتاب)، والمقت: شدة البغض والكراهة، يمقتهم لأنهم على الشرك، وكان العقلاء منهم -وهم قلة- يرون أنهم على ضلال، ولكن لا يهتدون إلى دين؛ ولهذا ذهب منهم جماعة يطلبون الدين وكانوا يقولون: إن لله ديناً هو أرضى من دينكم هذا، فذهبوا إلى النصارى، فوجدوهم ضلالاً، وذهبوا إلى اليهود فوجدوهم على غضب من الله تعالى، فاعتزلوا الكل وصاروا يعبدون الله على حسب ما تهديهم إليه عقولهم.

أنواع التوحيد

أنواع التوحيد قال الشارح رحمه الله: [وروى ابن جرير عن قتادة: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي} [الزخرف:26 - 27] قال: كانوا يقولون: إن الله ربنا: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87] فلم يبرأ من ربه. رواه عبد بن حميد. وروى ابن جرير وابن المنذر عن قتادة: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف:28] قال: الإخلاص والتوحيد، لا يزال في ذريته من يعبد الله ويوحده]. هذا أمر اتفق عليه الخلق كلهم، كونهم يقرون بأن الله ربهم، ولكن اختلفوا في كونهم يعبدون معه غيره، أما إقرارهم بأنه هو الذي يخلقهم وهو الذي يرزقهم وينعم عليهم، وإذا وقعوا في شدة يجيب دعوتهم ويكشف الشدائد عنهم فهذا أمر اتفق عليه جميع الخلق، وما شذ عنه إلا شواذ الناس الذين فسدت عقولهم وأصبحت عقولهم مغطاة بالتقليد الأعمى الذي وجدوا عليه الضلّال، وهذا لا يفيد شيئاً، كون الإنسان يقر بأن الله ربه وخالقه وأنه المحيي المميت المتصرف ما يفيد شيئاً حتى تضاف إليه عبادة الله وحده بالأمور التي تصدر من الإنسان، ومن هنا قسم العلماء التوحيد إلى قسمين أو ثلاثة أقسام، فيجوز أن نقول: إنه ينقسم إلى قسمين. ويجوز أن نقول: إنه ينقسم إلى ثلاثة: توحيد أفعال الله جل وعلا، أي: الأفعال التي تصدر منه، مثل الخلق والرزق وإنزال المطر والإحياء والإماتة، وكل ما يتصرف الله جل وعلا به فإنه ينفرد به، وهذا الشرك فيه قليل، وإنما وقع الشرك فيه من أفراد من الناس إما عناداً وتكبراً، أو جهلاً قد غطى على العقل تماماً، كما وقع في بعض هذه الأمة. أما العناد فمثل ما وقع من فرعون، حيث قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] وقال: {أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى} [النازعات:24] فهذا تكبر، وإلا فهو يعلم يقيناً أن الله ربه وهو خالقه، ولكنه يريد أن يموه على الناس لأنه في منصب يخوله ذلك ويدعوه إلى الكبر ويجعل الناس يتبعونه، فلهذا استولى على قومه فأطاعوه في الباطل وهم يعلمون أنه باطل، وهو نفسه قد أخبر الله جل وعلا أنه استيقن الآيات أنها من عند الله -استيقنتها أنفسهم- ولكنه دعاهم إلى الظلم والعلو، كما قال فرعون ووزراؤه وخبراء دولته الذين يساعدونه على ذلك، ومع ذلك لما عاين العذاب وعاين مصيره الأخير من حياته قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90] لكن هذا لا يفيد شيئاً، لهذا قال له الملك: {أَالآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:91] تؤمن الآن؟ ما ينفعك: {أَالآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:91] يعني: في هذا الوقت ما ينفعك الإيمان، أنت أصبحت في عداد الأموات، ومن كان بهذه المثابة لا يفيده الإيمان. أما النمرود فهو مثله تكبر أيضاً وقال: إنه ربهم لما قال له إبراهيم عليه السلام: {رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:258] عجيب كيف يحيي ويميت ويخلق من العدم حياً؟! ما يستطيع، لكن يريد أن يموه على الناس، فقال: أنا آتي برجلين فآمر بهذا فيقتل، وهذا الموت، وآمر بهذا فيترك، وهذه هي الحياة. وهذه مغالطة، ومع ذلك لما رأى إبراهيم هذه المغالطة جاءه بشيء لا يستطيع أن يخرج منه، ولا يستطيع أن يغالط فيه، قال: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:258] إن كنت صادقاً اعكس مسيرها: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة:258] يعني: ما استطاع أن يجيب بشيء. وهكذا الكفرة والظلمة وهؤلاء الذين ذكر عنهم أنهم ادعوا أنهم هم الذين يتصرفون مع الله وأنهم شركاء له في التصرف، وهذا شذوذ في الخلق، وشذوذ في التفكير والنظر والادعاء والعناد والتكبر، أما سائر الخلق فكلهم يقرون بأن الله هو الرب الخالق المحيي المميت المتصرف في الكون كله، وأنه لا شريك له في ذلك، ولهذا يقول الله جل وعلا مخاطباً الناس: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:21]، ففي هذا أمر يقرون به، وهو أنه هو الذي خلقهم وخلق الذين قبلهم، لا أحد ينكره، {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشاً} [البقرة:21 - 22] وأيضا يقرون أن الذي خلق الأرض وجعلها ممهدة يستطيعون الاستقرار عليها والمشي على متنها وحرثها والتصرف فيها مما ينفعهم هو الله، الله الذي جعلها بهذه المثابة وجعلها لهم فراشاً، {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [البقرة:22] يعني: رفعها فوقهم يشاهدونها، وهذه السماء هي التي نشاهدها فوقنا، وليست كما يقول الكفار اليوم، فالكفار اليوم ينكرون السماء، ويقولون: إنما هو الفضاء، فيعبرون بالفضاء عن العلو، ويقولون: إن هذه الزرقة من إفرازات الأبخرة والأثير وما أشبه ذلك. وهذا كفر بالله جل وعلا، فالله جل وعلا يقول لنا: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} [ق:6] يأمرنا بالنظر إليها والاعتبار بها، ويأمرنا بأن نرجع البصر فيها ونكرره، وأننا إذا كررناه يعود إلينا خاسئاً وهو حسير، وكذلك يخبرنا بأنه هو الذي رفع السماء بلا عمد نراها فوقنا، فهذه هي السماء، ولكن لشدة بعدها ما ترى إلا لمن يكون على الأرض، أما إذا ارتفع الإنسان إلى جهتها ذهبت هذه التي ترى، وفي حديث جابر أن الميت إذا مات وخرجت روحه أن الملائكة تتولاها وتصعد بها، فإن كان مؤمناً استفتحوا لها باب السماء ففتح، وإن كان كافراً أو فاجراً أغلقت دونه أبواب السماء، ثم يقال لهم: (اطرحوها طرحاً) من السماء الدنيا، فتطرح طرحاً، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31]، ومع ذلك لا تضيع الروح، وإنما تأتي إلى الجسد وتكون فيه فتذوق العذاب الأليم مع الجسد، كما أن روح المؤمن تنعم مع جسدها. فالمقصود أن الله جل وعلا يخبرنا أنه هو الذي خلق الأرض وبنى السماء وجعلها لنا بناء، وأنزل من السماء ماء، والسماء يطلق على السماء المبنية التي هي السبع السموات، ويطلق على كل ما فوقنا، فكل ما فوقنا فهو سماء، ولهذا قوله: {وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً} [البقرة:22] لا يلزم أن يكون المطر ينزل من السماء المبنية بل ينزل من فوق، فالله يخلقه بين السماء والأرض. فهكذا يقرر الله جل وعلا للناس: {وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22] يعلمون ماذا؟ يعلمون أن الله هو المتفرد في خلق هذه الأمور المذكورة، هؤلاء المشركون يعلمون هذا يقيناً: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25]، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87] في آيات كثيرة.

توحيد الربوبية والأسماء والصفات

توحيد الربوبية والأسماء والصفات فالمقصود أن التوحيد ينقسم إلى قسمين: قسم هو توحيد الله بأفعاله التي يفعلها، وهذا يسمى توحيد الربوبية؛ لأن الرب هو الخالق المالك المتصرف، وهذا وحده لا يفيد، لابد أن ينضم إليه التوحيد الثاني، وهو توحيد الأسماء والصفات؛ لأن الأسماء والصفات تختص بالله جل وعلا.

توحيد الألوهية

توحيد الألوهية القسم الثاني: التوحيد الذي يطلب من العبد أن تكون أفعاله واحدة لواحد، واحدة لله جل وعلا لا يكون له فيها شريك، أن يكون الدعاء لله، والنذر لله، والصلاة لله، والركوع له، والسجود له، وكل ما يتعبد به الإنسان من صوم وتوبة واستغفار وغير ذلك وطلب نفع وكشف ضر يجب أن يكون كله لله وحده، وإلا فلا يقبل منه شيء، فالذي يشرك في هذه العبادة يكون عمله حابطاً؛ فإن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً، وهذا الذي خلق له الناس، فيجب عليهم أن يتعرفوا على هذا، ويجب عليهم أن يعلموا ذلك ويتعرفوا عليه، فالخطر شديد جداً، فقد جاء في الصحيح في حديث عبد الله بن مسعود أنه قال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وهو يشرك بالله شيئاً دخل النار، ومن مات وهو لا يدعو لله نداً دخل الجنة) فالأمر ليس سهلاً، فعلى الإنسان أن يتعرف على هذا الأمر ولا يستهين به، ويجب عليه أن يهتم به غاية الاهتمام أكثر من اهتمامه بجسده وبيته الذي ينظفه وينظمه ويؤثثه، يجب أن يهتم بدينه وبعبادته أكثر من ذلك وأعظم؛ لأن الدين هو رأس المال في الواقع، الدنيا ستزول، والبدن سينتهي أجله ويموت، ولكن إذا كان الإنسان على التوحيد فأمامه الحياة السعيدة الأبدية، أما إذا كان على غير ذلك فأمامه الحياة الأبدية التعيسة التي لا يخفف عنه فيها العذاب ولا يقضى عليه فيموت، خالداً فيها أبد الآباد، فيجب على العبد ألا يغفل عن هذا ولا يتساهل به. قال الشارح رحمه الله: [قلت: فتبين أن معنى (لا إله إلا الله) توحيد العباد بإخلاص العبادة له والبراءة من كل ما سواه. قال المصنف رحمه الله: وذكر سبحانه أن هذه البراءة وهذه الموالاة هي شهادة أن لا إله إلا الله، وفي هذا المعنى يقول العلامة الحافظ ابن القيم رحمه الله في الكافية الشافية: وإذا تولاه امرؤ دون الورى طرا تولاه العظيم الشان]. وبعد هذا يقول فيها: كن واحداً في واحد لواحد أعني طريق الحق والإيمان يقول: إنه لا يقبل إلا هذا، (كن واحداً) يعني: عبداً لله، لا تكن عبداً لله ولغيره، كن واحداً لواحد، والواحد هو الله، وقوله: (في واحد) يعني: في طريق واحد، وهو طريق الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله لا يقبل من الدين إلا ما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ولذا قال: أعني طريق الحق والإيمان، يعني: الحق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم والإيمان.

شرح فتح المجيد [31]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [31] لقد تعبدنا الله عز وجل بجميع العبادات، فلا يجوز صرف أي نوع منها لغيره سبحانه، ومن تلك العبادات الخوف والذل، والحب والتعظيم، والاستغاثة، فمن صرف شيئاً من ذلك لغير الله فإنه يكون قد اتخذ نداً مع الله، يحبه كحب الله أو أشد حباً، وهذا هو الشرك بالله.

قوله تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) وما جاء فيها من تفصيلات

قوله تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) وما جاء فيها من تفصيلات قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: وقول الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31]]. هذه الآية سبق أن بينا أنها في النصارى واليهود، وأن الأحبار هم العلماء، والرهبان هم العباد، وأن طاعة المخلوق في المعصية تكون عبادة له، ويكون ذلك المطاع رباً لهذا المطيع. قال الشارح: [الأحبار: هم العلماء، والرهبان: هم العباد، وهذه الآية قد فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ عدي بن حاتم، وذلك أنه لما جاء مسلماً دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه هذه الآية قال: (فقلت: إنهم لم يعبدوهم. فقال: بلى، إنهم حرموا عليهم الحلال، وحللوا لهم الحرام فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم) رواه أحمد والترمذي وحسنه، وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والطبراني من طرق]. ظن عدي أن العبادة هي السجود أو الركوع، أو الخضوع والذل، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنها أعم من هذا، وأنه يكفي في العبادة أن يكون المخلوق مطاعاً في معصية الخالق، فمن أطيع في معصية الخالق تكون تلك عبادة له. قال الشارح: [قال السدي: استنصحوا الرجال ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم. ولهذا قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31] فإن الحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله، والدين ما شرعه الله. فظهر بهذا أن الآية دلت على أن من أطاع غير الله ورسوله، وأعرض عن الأخذ بالكتاب والسنة في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحله الله، وأطاعه في معصية الله، واتبعه فيما لم يأذن به؛ الله فقد اتخذه رباً ومعبوداً، وجعله لله شريكاً، وذلك ينافي التوحيد الذي هو دين الله الذي دلت عليه كلمة الإخلاص: (لا إله إلا الله)، فإن الإله هو المعبود، وقد سمى الله تعالى طاعتهم عبادة لهم، وسماهم أرباباً كما قال تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً} [آل عمران:80] أي: شركاء لله تعالى في العبادة {أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:80] وهذا هو الشرك، فكل معبود رب، وكل مطاع ومتبع على غير ما شرعه الله ورسوله، فقد اتخذه المطيع المتبع رباً ومعبوداً كما قال تعالى في آية الأنعام: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121]، وهذا هو وجه مطابقة الآية للترجمة. ويشبه هذه الآية في المعنى قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21] والله أعلم. قال شيخ الإسلام في معنى قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31] وهؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً -حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله- يكونون على وجهين: أحدهما: أن يعلموا أنهم بدلوا دين الله فيتبعونهم على هذا التبديل، فيعتقدون تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله اتباعاً لرؤسائهم، مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل، فهذا كفر، وقد جعله الله ورسوله شركاً، وإن لم يكونوا يصلون لهم ويسجدون لهم، فكان من اتبع غيره في خلاف الدين -مع علمه أنه خلاف للدين- واعتقد ما قاله ذلك دون ما قاله الله ورسوله مشركاً مثل هؤلاء الثاني: أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحرام وتحليل الحلال ثابتاً، لكنهم أطاعوهم في معصية الله كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاصي، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب كما قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما الطاعة في المعروف) ثم ذلك المحرم للحلال والمحلل للحرام، إن كان مجتهداً -قصده اتباع الرسل لكن خفي عليه الحق في نفس الأمر، وقد اتقى الله ما استطاع- فهذا لا يؤاخذه الله بخطئه، بل يثيبه على اجتهاده الذي أطاع به ربه، ولكن من علم أن هذا أخطأ فيما جاء به الرسول، ثم اتبعه على خطئه، وعدل عن قول الرسول؛ فهذا له نصيب من هذا الشرك الذي ذمه الله، لا سيما إن اتبع في ذلك هواه، ونصره باليد واللسان، مع علمه أنه مخالف للرسول، فهذا شرك يستحق صاحبه العقوبة عليه. ولهذا اتفق العلماء على أنه إذا عرف الحق لا يجوز له تقليد أحد في خلافه، وإنما تنازعوا في جواز التقليد للقادر على الاستدلال وإن كان عاجزاً عن إظهار الحق الذي يعلمه، فهذا يكون كمن عرف أن دين الإسلام حق وهو بين النصارى، فإذا فعل ما يقدر عليه من الحق لا يؤاخذ بما عجز عنه، وهؤلاء كـ النجاشي وغيره، وقد أنزل الله في هؤلاء آيات من كتابه كقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ} [آل عمران:199]، وقوله: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ} [المائدة:83] وقوله تعالى: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف:159] وأما إن كان المتبع للمجتهد عاجزاً عن معرفة الحق على التفصيل، وقد فعل ما قدر عليه مثله من الاجتهاد في التقليد، فهذا لا يؤاخذ إن أخطأ كما في القبلة. وأما من قلد شخصاً دون نظيره بمجرد هواه، ونصره بيده ولسانه من غير علم أن معه الحق، فهذا من أهل الجاهلية، وإن كان متبوعه مصيباً لم يكن عمله صالحاً، وإن كان متبوعه مخطئاً كان آثماً، كمن قال في القرآن برأيه، فإن أصاب فقد أخطأ، وإن أخطأ فليتبوأ مقعده من النار. وهؤلاء من جنس مانع الزكاة الذي تقدم فيه الوعيد، ومن جنس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، فإن ذلك لما أحب المال ومنعه من عبادة الله وطاعته؛ صار عبداً له، وكذلك هؤلاء. فيكون فيهم شرك أصغر، ولهم من الوعيد بحسب ذلك، وفي الحديث: (إن يسير الرياء شرك) وهذا مبسوط عند النصوص التي فيها إطلاق الكفر والشرك على كثير الذنوب. انتهى].

أن يكون المتبع عالما بما يفعله المتبوع من مخالفات

أن يكون المتبع عالماً بما يفعله المتبوع من مخالفات في هذا التفصيل الذي ذكره الشيخ رحمه الله أقسام المتبوع والتابع، فالمتبوع إذا كان عالماً بأن ما فعله أو قاله كفر بالله ومخالف لدين الله، وأحل ما هو حرام في الشرع، أو حرم ماهو حلال في الشرع، مع علمه بأن الله حرم هذا وأحل هذا، وخالف ذلك لغرض من الأغراض التي يريدها، فإن هذا يكون كفراً مخرجاً من الدين الإسلامي. والذي يتبعه فهو على التفصيل الذي ذكر، إما أن يكون المتبع عالماً بأن الذي فعله هذا المتبَع مخالف للدين، ومخالف لنصوص الله جل وعلا، فإنه يكون كافراً خارجاً من الدين الإسلامي لاتباعه هذا الشخص الذي حرم الحلال وحلل الحرام، وهذا هو معنى الآية التي تلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم على عدي بن حاتم، وهي التي استشهد بها المؤلف في هذا، وهي قوله جل وعلا في أهل الكتاب من اليهود والنصارى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً} [التوبة:31] فالأرباب جمع رب، فالرب من خصائصه التحليل والتحريم، والأمر والنهي الذي يجب فيه الاتباع، فمن فعل ذلك فقد نازع الله جل وعلا فيما هو من خصائصه؛ فاستحق بذلك أن يكون مبعداً من الله جل وعلا.

أن يكون المتبع جاهلا بما يفعله المتبوع من مخالفات

أن يكون المتبع جاهلاً بما يفعله المتبوع من مخالفات إذا كان المتبع جاهلاً بأن متبوعه على باطل، وإنما اتبعه على حسن نية وقصد، ويظن أنه لم يخالف أمر الله في التحليل والتحريم، فهذا يكون آثماً عاصياً يستحق العقوبة، ولكنه لا يكون خارجاً من الدين الإسلامي؛ لأنه قصر في التعرف على دين الله جل وعلا؛ لأن الله جعل في الإنسان عقلاً وفكراً ونظراً، وأناط التكليف في عقله ونظره وفكره، فهو يميز بذلك، فإذا اتبع غيره في هذه الأشياء فهو مقصر يستحق العقوبة، ويكون مثل أصحاب الجرائم من الكبائر وغيرها، فإن شاء الله جل وعلا عفا عنه دون عقاب، وإن شاء أخذه بعقابه. والمتبوع الذي يفعل الخطأ إن كان مجتهداً وهو أهل للاجتهاد، فإنه يعذر، والاجتهاد لا يكون لكل أحد، لكن يكون جاهلاً بشيء، ولم يأل جهداً فخفي عليه الصواب، فإذا فعل ذلك فإنه غير معاقب بل يثاب على اجتهاده فقط، وخطؤه الذي أخطأ فيه يكون معفواً عنه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر) وهذا يكون في الحاكم الذي يكون أهلاً لذلك.

المقلد لغيره في الباطل أو الحق

المقلد لغيره في الباطل أو الحق المقلد الذي يقلد غيره: إما أن يكون المقلد يستطيع أن يميز بين الأمر والنهي، ويستطيع أن يعرف الدليل؛ فهذا لا يجوز له التقليد، ويجب عليه أن يعرف الحق بنفسه إلا في الأمور التي لا يستطيع لها، فهذا منوط بالتكليف، فإن الله جل وعلا لا يكلف نفساً إلا وسعها، والوسع هو الطاقة والاستطاعة، فالله لا يكلف الإنسان ما لا يستطيعه، وقد قال الله جل وعلا: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] لأنه لا يستطيع أن يعرف الأدلة، ويعرف مناط الحكم، ويعرف مراد الله في هذا النص، أو أنه يدخل هذا الحكم في هذا النص أو غير ذلك، فهو يلجأ إلى أهل العلم يسألهم عن ذلك. وعليه أن يتقي الله في هذا، ويبحث عن الأعلم والأتقى، فما اطمأنت إليه نفسه فإنه يكلف به.

أن يقلد عالما لأنه قال ما يهواه

أن يقلد عالماً لأنه قال ما يهواه المقلد الذي يتبع شهواته فيسأل هذا، فإذا أفتاه بشيء لا يلائمه ذهب يسأل الآخر، حتى يجد من يفتيه بالشيء الذي يريده هو، فهذا معناه أنه يطلب هوى نفسه، وهو ليس معذوراً في هذه الأمور، بل هو مأزور وعليه أن يتقي الله، وإذا أفتي بما ظاهره الحق وعليه الدليل فعليه أن يعمل بذلك؛ لأن الله جل وعلا أمر بسؤال أهل العلم، وأهل الذكر هم أهل العلم. فهذا وهذا كلاهما سواء، لكنه ربما اتبع هذا لغرض، وأعرض عن هذا لغرض آخر، فمثل هذا هو الذي يكون مثل الجاهلية؛ لأنه يتبع ما تهواه نفسه، ولأنه ينتصر لمن يحبه ويريده، وإن كان الثاني مساوياً له في العلم والتقى، فعلى الإنسان أن يكون اتباعه ونظره طلباً للحق، وطلباً لمتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكلما تبين له ذلك فرح به وشكر من حصل على يده البيان. فهذه في الواقع أمور يجب على الإنسان أن يعتني بها؛ لأن كثيراً من الناس يخطئ فيها، والمسألة في هذا أن الله جل وعلا بعث رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنزل كتابه بجوامع الكلم، وبالكليات العامة الشاملة التي يدخل في الجملة منها أحكام كثيرة، فليس كل أحد يستطيع فهم هذه المسألة من هذا النص أو من هذه القاعدة أو من هذه الكلية؛ لأن الله فاوت بين العباد في الفهوم والإدراكات، وهذا هو سبب اختلاف العلماء، فاختلاف الفقهاء من أهل السنة لاختلاف إدراكاتهم وفهومهم؛ لأن الحوادث التي تجري على أيدي الناس والأفعال والأعمال التي يعملونها ما يمكن أن يأتي الشرع بالنص على كل واحدة منها، فهذه صلاة حكمها كذا، وإخراج زكاة هذا حكمها كذا، وهذا العمل حكمه كذا، يعني: لا يكون منصوصاً عليه، وإنما أتت الكليات فأصبحت محلاً للنظر والاجتهاد الذي يسميه العلماء مناط الحكم؛ فلهذا اختلفوا هذه الاختلافات، وعلى الإنسان أن يتقي الله.

أحوال الناس في انتفاعهم بالعلم

أحوال الناس في انتفاعهم بالعلم جاء في حديث أبي موسى الذي في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مثل أمته وما بعثه الله به مثل الغيث-المطر- يقع على الأرض، فتكون على طوائف ثلاث: طائفة منها تربتها طيبة، فقبلت الماء وأنبتت الكلأ، فرعى الناس وانتفعوا. وطائفة أخرى من الأرض لا تنبت، ولكنها أمسكت الماء، فورد الناس واستقوا وانتفعوا بالماء. وطائفة أخرى لا تقبل الماء ولا تمسكه، مثل: السباخ، لا نبات ولا إمساك، فهذه أحوال الذين لا يهتمون بالدين الإسلامي، ولا يرفعون به رأساً، وهم أكثر الناس. أما الأولى فهي مثل الفقهاء الذين إذا علموا نصاً للنبي صلى الله عليه وسلم استنتجوا منه الأحكام الكثيرة، التي ينتفعون بها وينفعون بها غيرهم، والطائفة التي تمسك الماء مثل الحفاظ الذين حفظوا على الأمة النصوص والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فحفظوها وأدوها إلى من هو أفقه منهم، فنفعوا بهذا الحفظ. أما الطائفة الثالثة: فهي لا تنتفع في نفسها ولا تنفع غيرها، فهؤلاء هم الخاسرون في الدنيا والآخرة، وأما الناجون فهم الطائفة الأولى والثانية. فالمقصود اختلاف الناس في الفهوم والحفظ، وبسبب ذلك حدثت الخلافات بين المسلمين. ويجب على الإنسان أن يتقي الله إذا كان له إمام أو شيخ فقال قولاً خالف الحق، وتبين لمتبوعه أنه مخالف للحق، فإنه يجب عليه ألا يتبع شيخه أو إمامه؛ لأنه تبين له أنه خالف الحق؛ لأن الإنسان مكلف باتباع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، لا بقول فلان ولا بقول فلان، وإنما استعانوا بأقوال العلماء إلى الوصول إلى الحكم الذي حكم به الله جل وعلا، وحكم به رسوله، وهذا من أصول العقيدة التي يجب على العبد أن يهتم بها، وذلك التحليل والتحريم من خصائص الله جل وعلا، فمن جعل هذا إلى مخلوق من الناس فقد اتخذه مع الله رباً يحكم ويأمر وينهى، ويحلل ويحرم، فلهذا عدي بن حاتم لما سمع الرسول صلى الله عليه وسلم يتلو هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31] قال: إنهم لم يعبدوهم، يعني: النصارى، فقال: (بلى، ألم يحللوا لهم الحرام فيتبعوهم على ذلك، ويحرموا لهم الحلال فيتبعوهم على ذلك؟ قال: بلى، قال: فتلك عبادتهم) فليست العبادة تكون فقط بالسجود والركوع والاستغاثة بهم، ودعوتهم لتفريج الكروب وما أشبه ذلك، بل أي نوع من أنواع العبادة إذا صرف إلى مخلوق من الناس صار معبوداً له وصار رباً له. كذلك الذي يتبع عالماً لأنه قال ما يهواه، أو لأنه وافق طائفته التي ينتمي إليها قال: يكون هذا مثل عابد الدينار والدرهم، ومثل الذي يجاهد في سبيل الله في الظاهر أو يتصدق أو يؤدي أعمالاً في ظاهرها خالصة، ولكنه يريد نفعاً معيناً، إن حصل له ذلك النفع استمر في عمله وإلا نكص وفشل وترك العمل، وهو يشير بهذا إلى حديث أبي هريرة الذي في صحيح البخاري أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميلة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش) ثم ذكر رجلاً آخر يكون مقابلاً تماماً لمن عبد الدينار والدرهم الذي إن أعطي رضي، وإن منع سخط، إذا أعطي ما أراد من الدرهم والدينار والخميصة والخميلة رضي واستمر في عمله، أما إذا منع ذلك فإنه يسخط ويترك العمل، فهذا معناه أنه يعمل للدينار والدرهم، ويعمل للباسه ولمفروشه، ولما ينتفع به دنيا، فيكون بذلك عابداً له وإن لم يسجد له ويدعوه ويركع له، هل يوجد أحد عاقل يسجد للدينار والدرهم؟! لا، وإنما قصد بذلك أنه يعمل من أجله؛ لأن المسلم يجب أن يكون عمله لله وحده، يرجو به ثواب الله جل وعلا، ويخاف لو لم يعمل أن يعاقبه الله جل وعلا والذي يقابل هذا هو ما ذكره في آخر الحديث، قال: (طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن شفع لم يشفع له، وإن أذن لم يؤذن له)، يعني: أنه لم يبالِ عرفه الناس أم لم يعرفوه، بل يحب أنهم لا يعرفونه؛ ولهذا لو شفع عندهم ما شفعوا له، ولو استأذن على الكبراء والأمراء لا يأذنون له؛ لأنه غير معروف، وليس له قيمة، فهو يعمل لله جل وعلا، وهكذا كل من كان قصده وجه الله لا يلتفت إلى رضا الناس ولا سخطهم، ولا يبالي بهم، فعند ذلك لا يعرفونه. وقوله: (إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة) يعني: أنه أي مكان وضع فيه أدى العمل الذي أنيط به كما ينبغي ولا يبالي؛ لأن قصده وجه الله، والفوز برضاه، بخلاف الأول تماماً، وبضدها تتبين الأشياء. لهذا يأتي في القرآن ذكر أهل الجنة وصفاتهم، ثم بعد ذلك يأتي ذكر أهل النار وصفاتهم، أو يأتي -مثلاً- ذكر صفات أهل النار وأعمالهم وجزائهم، ثم يأتي بعد ذلك ذكر أهل الجنة وصفاتهم وجزائهم، فمثلاً: يذكر الله جل وعلا أنه إذا جمع العباد بعد النفخ في الصور أنهم ينقسمون إلى قسمين: كفار يؤتى بهم، ويقررون بأعمالهم، فيقرون ويعترفون، ثم يساقون إلى جهنم، ويعترفون أنهم يستحقونها، فيقال لهم: {فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر:71]. والفريق الثاني: الذين اتقوا ربهم يساقون إلى الجنة زمراً، فإذا جاءوها استقبلتهم الملائكة فيها، وصاروا يدخلون عليهم من كل باب يسلمون عليهم ويقولون لهم: {فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:24] هذا جزاؤكم بما صبرتم. ثم ذكر بعد هذا أن الله جل وعلا قضى بين الخلق عموماً بالحق، حتى الملائكة: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر:75] هذا هو آخر شيء، قضي بين الفجار وبين المتقين وبين الملائكة (وقيل) هذا يدل على أن الخلق كلهم قالوا هذا القول: الحمد لله رب العالمين على قضاء الله وحكمه، حتى أهل النار يحمدون الله جل وعلا على ذلك؛ لأن هذا هو مكانهم الذي يستحقونه ولا يستحقون غيره، والله هو أحكم وأعدل الحاكمين، فالذي يعبد الدنيا، ويكون عمله لها سوف يلقى جزاءه، والدنيا ستذهب كلها ومن عليها، فيصبح قد خسر العمل، وأصبح عمله حسرات عليه.

قوله تعالى: (وتجعلون له أندادا)

قوله تعالى: (وتجعلون له أنداداً) قال الشارح: [قال أبو جعفر بن جرير رحمه الله في معنى قول الله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا} [فصلت:9] أي: وتجعلون لمن خلق ذلك أنداداً -وهم الأكفاء من الرجال- تطيعونهم في معاصي الله. انتهى قلت: كما هو الواقع من كثير من عباد القبور]. قوله: {وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا} [فصلت:9] الند: هو المثل والنظير ولو بوجه من الوجوه، لا يلزم أن يكون مثله من كل وجه، فهذا ما يقوله أحد من الخلق، لا يوجد أحد من خلق الله فيه شيء من العقل يقول: إن الصنم أو المقبور مثل الله من كل وجه، لا أحد يقول هذا، لكنهم جعلوه نداً بوجه من الوجوه، مثل: الدعاء، فهذا ند له في الدعوة، ومثل الحب، فهذا المحبوب يكون نداً له في المحبة، والمحبة تقتضي التعظيم والإجلال، ومثل الخوف، وهو الذي يسمونه خوف السر، وهو الخوف الغيبي، يخافه وهو في قبره، يخافه وهو بعيد عنه، من وقع له شيء من ذلك فقد عبد ذلك المخوف؛ لأن الخوف يجب أن يكون لله وحده، فهو الذي يطلع على ما في القلوب، وهو الذي لا يخفى عليه شيء، وهو الذي يكون مع الإنسان أينما كان، في جماعة أو في سر وحده أو ما شابه ذلك، وليس هذا لأحد من خلق الله، فمن جعل للمخلوق شيئاً من ذلك فقد جعله نداً لله جل وعلا. فالمقصود أن قوله: (الأكفاء من الرجال) معناه: أنه جعل الرجال أكفاء لله، والله ليس له كفؤاً تعالى وتقدس، والأكفاء في هذا يكون في مسألة من المسائل فقط، وليس في كل شيء؛ لأنه لا أحد يقول: إن رجلاً من الناس مثل الله من كل وجه، مثله في الخلق، مثله في الرزق، مثله في العلم، مثله في القدرة، مثله في الاطلاع، هذا لا يقوله عاقل، فعلم بهذا أن المقصود بالند أنه يكون في مسألة من مسائل العبادة. ولهذا ذكر الله عن الكفار أنهم يلعن بعضهم لبعض وهم في النار بعد التبكيت واللوم والتقريع من بعضهم لبعض لأنه من تمام العذاب أن يجعل كل واحد عدواً للآخر، وكل واحد يلعن الآخر، يقول بعضهم لبعض، التابع يقول للمتبوع والعابد يقول للمعبود: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الشعراء:97] يعني: يقسمون بالله، (تالله): معناها والله، (لقد كنا في ضلال مبين) متى؟ {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:98] وقت تسويتنا لكم برب العالمين، كنا في ضلال مبين، أي: بين واضح، والتسوية ليست في الخلق والقدرة، ليست في التدبير، ليست في الملك، بل في المحبة فقط، أحبوهم كما أحب المؤمنون الله، كما في الآية التي ذكرها المؤلف: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165] فبين أن الندية في الحب فقط، يحبونهم كحبهم لله، فهذا تنديد، وهو جعل المخلوق كفؤاً لله جل وعلا في هذا الشيء. ومثله أن يدعوه، ومثله ما لو ذبح له أو نذر له أو استغاث به أو طلب منه أن يخلصه من مشكلة من المشكلات التي يقع فيها، يطلب منه وهو في قبره، يطلب منه وهو غائب، قد يقع في مشاكل ثم يلجأ إلى من يعتقد أنه ولي ويسأله أن يخرجه من تلك المشكلة، فهذا سواه برب العالمين في هذا الدعاء وهذه الاستغاثة، وهذا هو التنديد الذي قصد في مثل هذه الآية: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً} [البقرة:22].

شرح فتح المجيد [32]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [32] المحبة أنواع: منها محبة طبيعية مثل محبة الولد والوطن ونحوها، ومحبة عبادة، وهي التي تتضمن الخضوع والذل، فهذه يجب أن تكون خالصة لله وحده، وصرفها لغير الله تعالى شرك به سبحانه.

قوله تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا)

قوله تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً)

حرمة المحبة لغير الله

حرمة المحبة لغير الله قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165]]. قوله تعالى: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ} [البقرة:165 - 167] هذا كله في هؤلاء الذين اتخذوا من المخلوقين محبوبين يحبونهم كمحبتهم لله جل وعلا، والمحبة هذه -التي جعلت المخلوق نداً لله- هي محبة فيها ذل وتعظيم، وليست محبة إلفة أو محبة حنان أو محبة تقدير وإجلال كمحبة الوالد أو الولد، وليست محبة طبيعية كمحبة الجائع للطعام والظمآن للشراب وما أشبه ذلك، هذا لا لوم على الإنسان فيها، ولكن هذه محبة مقصودة ومرادة، وليست الطبيعة والحاجة تبعث عليها، وإنما هي محبة عبادة، تدعو إلى الدعاء والاستغاثة والاستنصار، وإلى أن يعطى ذلك المحبوب شيئاً من خصائص الله؛ ولهذا قال: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165] يعني: يجعلون حباً موزعاً بين هؤلاء وبين الله، وهذا هو الشرك الأعظم الذي إذا مات عليه الإنسان يكون من حطب جهنم، ويكون خالداً فيها؛ لأن هذا الحب يجب أن يكون خالصاً لله، ولا يجوز أن يكون مع الله فيه شريك، لا سيد، ولا نبي، ولا ملك، ولا أي مخلوق من مخلوقات الله، الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (والله لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وأهله وولده ومن الناس أجمعين)، ومع ذلك لا يحب هذا الحب، وليس له نصيب من حب التعظيم والخوف والذل، وإنما يحب لله، ومن أجل الله، فإن الله يحبه، ومن أجل أن الله أمر بحبه، فتحبه طاعة لله؛ لأن الحبيب يحب حبيب حبيبه، يحب ما يحبه، ويبغض ما يبغضه، هذا من تمام الحب؛ ولهذا صارت محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم من كمال محبة الله ومتمماتها، ومن مكملاتها كما سيأتي.

حب الذل والتعظيم لله وحده

حب الذل والتعظيم لله وحده حب الذل والتعظيم والخضوع لا يجوز أن يكون إلا لله وحده، حب العبادة يكون خالصاً لله، لا يحب معه أحد، وهذا يكون عند الحاجة ظاهراً جلياً، عندما يحتاج الإنسان ويقع في شدة أو حاجة ملحة، فإنه يدعو بذل وخضوع وتعظيم وحب، والعبادة لابد أن تكون مشتملة على الحب والتعظيم والخوف، فالمؤمنون يدعون ربهم خوفاً وطمعاً، والخوف والذل والتعظيم من أركان العبادة، ولا يجوز أن يكون هذا في محبة المخلوق، أما إذا أحب مخلوقاً فذل له وخضع له فإنه يكون عابداً له، مثلما يحصل لكثير من الناس يحب امرأة أو معشوقاً فيترك في سبيل حبه طاعة الله، ويقول: إن وصلك أشهى إلي من عبادة ربي، كما يقوله بعض الفجرة الذين خرجوا من طاعة الله إلى عبادة شهواتهم وفروجهم، فيكون بذلك خارجاً من الدين الإسلامي نهائياً، ومبعداً عن الله جل وعلا، مثلما ذكر عبد الحق الإشبيلي عن رجل كان واقفاً في بلد ما عند باب داره، قد فتح الباب ووقف أمامه، وكان بابه قريباً من حمام ترتاده النساء، فجاءت امرأة جميلة تسأل وتقول: أين باب حمام منجاب؟ فأشار إلى باب داره وقال: هذا، فدخلت المرأة، فلما دخلت دخل خلفها، فلما رأت أنها وقعت في فخه وكيده ومكره أظهرت الموافقة والسرور، وقالت له: ينبغي أن يكون معنا في هذه اللحظات شيء نأكله ونتلهى به ما هو هكذا فقط، فقال: الآن آتيك بما تريدين، فخرج مسرعاً إلى السوق ولم يغلق الباب، فخرجت ولم تخونه في شيء، وتخلصت بهذه الحيلة من هذا الماكر، فلما رجع لم يجدها، فهام على وجهه وهو يقول: ورب قائلة يوماً وقد تعبت أين الطريق إلى حمام منجاب فمرض من أجل ذلك، فلما حضره الموت صاروا يقولون له: قل: لا إله إلا الله، فأخذ يردد هذا البيت، فمات وهو يردده نسأل الله العافية! صار عابداً لهذه المرأة، وهذا يقع كثيراً في الناس، فهذه عبادة حب، ومثل هذا ما يقع إلا في القلب الفارغ من حب الله جل وعلا، إذا كان يحب الشهوات والدنيا فإنه يكون عرضة لعبادة غير الله، ولعبادة الشهوات ومنها صور النساء والمردان وغير ذلك، فتكون بذلك خاتمته أسوأ الخواتم، نسأل الله العافية. والمقصود: أن العبد يجب أن يكون عبداً لله، ولا يكون عبداً للمظاهر، وقد أجرى الله جل وعلا سنته في أن من لم يعبده لابد أن يعبد غيره شاء أم أبى، من أعرض عن عبادة الله لابد أن يعبد الشيطان على حسب مظاهره، قد يكون الشيطان في مظهر امرأة، وقد يكون في مظهر مال، وقد يكون في مظهر شهوات، وقد يكون في مظهر مبدأ ونحلة يدعو إليها، وهكذا سنة الله جل وعلا، فإن من لم يعبد الله عبد غيره؛ لأن الإنسان عبد، وهذه صفة ملازمة له لا ينفك عنها، ولهذا تجد الذي لا يتعلق بالله جل وعلا ويحب عبادته من الصلاة والزكاة وذكر الله تجد قلبه معلقاً بالملاهي والأغاني ومشاهدة الصور، لا يصبر عن ذلك، يكون عابداً لها، فمقل ومستكثر من الناس، كل بحسبه. فالذي يجب على العبد أن يكون عبداً لله مخلصاً عبادته لله، وأن يحمي قلبه من أن يكون محلاً لغير الله جل وعلا في الحب والإرادة، يجب أن تكون محبته لله وحده، محبة الذل والخضوع: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً} [البقرة:165] يعني: نظراء يكونون محبوبين مع الله من أي جهة كانت، سواء كانت من الناس أو كانت من الأصنام أو كانت من المال حتى الزوجة، زوجته قد تكون معبوداً له، إذا صارت تأمره بالمعصية فيتبعها، وتنهاه عن الطاعة فيطيعها، صارت هي أشد حباً له من الله، وصار أكثر متابعة لها من أوامر الله. وبالعكس فالمخلوق لا يجوز أن يطاع في معصية الخالق: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) وإلا صار معبوداً لذلك المطيع، والناس يتفاوتون في هذا، وهذا قد يرتقي إلى الشرك الأكبر الذي يكون مخرجاً من الدين، وقد يكون شركاً أصغر، وقد يكون مجرد معصية يستحق عليها الإنسان العقاب، مثل: بخل الإنسان عن شيء من الواجب حباً للمال، إما زكاة وإما حقاً للغير يتعلق بماله، فيمنعه حب المال من إخراج ذلك، فهذه كبيرة من كبائر الذنوب، وهي نوع من العبادة؛ لأنه هو الذي منع من إخراج هذا الحق، أما لو كان مثلاً عبداً لله يعبده حق العبادة، فإنه لن يقدم على مرضاة الله وعلى محاب الله وطاعته شيئاً لا مالاً ولا ولداً ولا أهلاً، ولا أصدقاء ولا غيرهم، والإنسان أعلم بنفسه من غيره، فيجب أن يعرض أعماله على أوامر الله ونواهيه، فيعرف مقامه عند الله جل وعلا في هذا. ولا يجوز للإنسان أن تكون عبادته موزعة، فيكون له أرباب كثيرون، يجب أن تكون عبادته لله جل وعلا وإلا فسيكون على خطر شديد، ومن المعلوم كما جرت سنة الله أن من جزاء السيئة السيئة بعدها، كما أن من جزاء الحسنة الحسنة بعدها، يعني: أن الإنسان قد يتهاون بهذه المعصية، فتجر هذه المعصية إلى معصية أخرى، ثم تجر إلى أخرى، ثم يألف المعاصي وتصبح عنده محبوبة، فإذا صار بهذه المنزلة كره الطاعات وأبغضها وابتعد عنها، وهنا يستحكم الشقاء نسأل الله العافية. والعبد أمام أوامر الله له مقامان: إما أن يحصل له ما يحبه، فإن كان هذا حصل له من طريق شرعي فعليه أن يشكر الله ويزداد له بذلك عبادة. وإما ألا يحصل له، فعليه أن يصبر ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الأمور كلها بمشيئة الله وإرادته، هو الذي يتصرف في خلقه وملكه. المقام الثاني: عند إصابة الذنوب، فإذا أصاب ذنباً فعليه أن يعترف ويقر ويستغفر، فهذه أمور ثلاثة إذا حصلت للعبد فهي عنوان السعادة. إذا حصلت له نعمة شكر الله عليها، وازداد بذلك عبادة، وإذا حصلت له مصيبة صبر واحتسب، وإذا حصل له ذنب تاب واستغفر، هذا هو شأن المؤمن، وهو الذي ينبغي أن يكون عليه العبد، أما إذا خرج عن ذلك فقد خرج عن عبودية الله جل وعلا، وإن تمادى زاد خروجاً حتى يستحكم البعد فيصبح مطروداً عن الله جل وعلا، نسأل الله العافية.

مآل المشركين في الآخرة

مآل المشركين في الآخرة قال المؤلف رحمه الله: [قال العماد ابن كثير رحمه الله تعالى: يذكر الله حال المشركين به في الدنيا ومآلهم في الدار الآخرة حيث جعلوا لله أنداداً أي: أمثالاً ونظراء يعبدونهم معه ويحبونهم كحبه، لا إله إلا هو، ولا ضد له ولا ند له ولا شريك معه، وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قلت: (يا رسول الله! أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك). وقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165]، ولحبهم لله تعالى وتمام معرفتهم به وتوقيرهم وتوحيدهم لا يشركون به شيئاً، بل يعبدونه وحده، ويتوكلون عليه، ويلجئون في جميع أمورهم إليه، ثم توعد تعالى المشركين به الظالمين لأنفسهم بذلك فقال تعالى: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [البقرة:165] قال بعضهم: تقدير الكلام: لو عاينوا العذاب لعلموا حينئذ أن القوة لله جميعاً أي: إن الحكم لله وحده لا شريك له، فإن جميع الأشياء تحت قهره تعالى وغلبته وسلطانه {وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} [البقرة:165] كما قال تعالى {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [الفجر:25 - 26] يقول: لو علموا ما يعانون هناك وما يحل بهم من الأمر الفظيع المنكر الهائل على شركهم وكفرهم، لانتهوا عما هم فيه من الضلال. ثم أخبر تعالى عن كفرهم بأعوانهم وتبرؤ المتبوعين من التابعين فقال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} [البقرة:166] تبرأت منهم الملائكة الذين كانوا يزعمون أنهم يعبدونهم في الدار الدنيا فتقول الملائكة: {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} [القصص:63]. ويقولون: {سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ:41] والجن أيضاً يتبرءون منهم ويتنصلون عن عبادتهم لهم كما قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:5 - 6] انتهى كلامه رحمه الله]. هذا الذي ذكره العماد ابن كثير رحمه الله تضافرت عليه الأدلة من كتاب الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو واضح وجلي من كلام الله جل وعلا في هذه الآية وغيرها من الآيات الكثيرة، ومضمونه أن كل من أحبّ أحداً -سواء كان ذلك المحبوب عاقلاً أو غير عاقل- في غير طاعة الله فإن هذا الحب يعود عليه بالعداوة، والبعد عن الله جل وعلا، والعذاب، وسوف يتبرأ منه ويصبح عدواً له، وكل واحد يلعن الآخر كما ذكر الله جل وعلا حاكياً عن إبراهيم في قصة إبراهيم: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [العنكبوت:25] يعني: العابد يلعن المعبود، والمعبود يلعن العابد. وكذلك إذا حشرهم الله جل وعلا يوم القيامة، يقول: {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:22] يسألهم أن يأتوا بالذين جعلوهم شركاء لله، لكن من أين يأتون بهم؟ {ادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الأعراف:194] فتبرءوا منهم، وكفروا بهم، وأصبحوا أعداء لهم، هذا في العقلاء. أما غير العقلاء فإنهم كما أخبر الله جل وعلا يكونون حصب جهنم هم والعابدون: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98]. وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إذا اجتمع الناس كلهم في مقام واحد، وسألوا الله جل وعلا أن يفصل بينهم، وطلبوا شفاعة الشافعين في هذا، وجاء الله جل وعلا للقضاء بينهم، يخاطبهم، فيقول لهم: أليس عدل مني أن أولي كل واحد منكم ما كان يتولاه في الدنيا؟ فكلهم يقول: بلى يا رب! عند ذلك يمثل لكل عابد معبوده، أو يؤتى به بعينه، فيقال: اتبع معبودك، فيتبعونهم إلى جهنم -فيبقى المؤمنون في الموقف وفيهم المنافقون -لأن المنافقين يعبدون الله في الظاهر كما يعبدون معه غيره في الباطن- فيأتيهم الله جل وعلا ويقول لهم: ما الذي أبقاكم وقد ذهب الناس؟ -وهذا يدلنا على أن أكثر الناس ذهبوا من الموقف إلى جهنم- فيقولون: إن لنا رباً ننتظره، فيقول لهم: أنا ربكم) إلى آخره. وفيه: فإذا تبين لهم خروا له سجداً إلا المنافقين فإنهم لا يستطيعون السجود، يبقى ظهر أحدهم طبقاً واحداً ما يستطيع الانحناء، كلما أراد أن يسجد خر على قفاه؛ لهذا يقول الله جل وعلا: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ} [القلم:42 - 43] يعني: في الدنيا {وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم:43] والسجود يجب أن يكون لله وحده، وهم كانوا يسجدون مخافة من المؤمنين، حتى يكونون معهم فيما ينالهم، ويتقون بأسهم، فما كانوا يسجدون لله؛ فلهذا ما استطاعوا. والمقصود: أن كل عابدٍ سوف يتبرأ من معبوده وكل معبود سوف يتبرأ من عابده. وقول الله جل وعلا: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [البقرة:166]، الأسباب هنا قال العلماء: هي المودة والمحبة التي بينهم، انقطعت وذهبت واستبدلت بعداوة وبغضاء.

حب المشركين لأندادهم كحب الله

حب المشركين لأندادهم كحب الله قال المصنف رحمه الله تعالى: [روى ابن جرير عن مجاهد رحمهما الله في قوله تعالى: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165] مباهاة ومضاهاة للحق سبحانه بالأنداد {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165] من الكفار لأوثانهم. قال المصنف رحمه الله تعالى: ومن الأمور المبينة لتفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله: آية البقرة في الكفار الذين قال تعالى فيهم: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:167] ذكر أنهم يحبون أندادهم كحب الله، فدل على أنهم يحبون الله حباً عظيماً فلم يدخلهم في الإسلام، فكيف بمن أحب الند أكبر من حب الله؟! فكيف بمن لم يحب إلا الند وحده؟! انتهى كلامه رحمه الله]. قول الله جل وعلا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165] تقدم أن الند يكون في صفة من الصفات، ولا يلزم أن يكون مماثلاً لله جل وعلا من كل وجه، وهذا لا يقوله أحد. وهذه الآية بينت أن الند الذي يتخذ هو في الحب فقط؛ ولهذا قال: (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ) والمعنى: يحبون هذه الأنداد كمحبتهم لله تعالى، وهذا هو الشرك الذي جعلهم إذا ماتوا عليه خالدين في النار، وأحل دماءهم وأموالهم، فهم قسموا الحب الواجب لله جل وعلا الذي يتضمن الذل والخضوع والتعظيم، وجعلوه لمخلوق، فصاروا مشركين بذلك، وسبق أنه ليس في العالم من يقول: إن أحداً من الخلق يساوي الله جل وعلا في التصرف من الإيجاد أو الإحياء أو في الملك أو في المشيئة أو في القدرة أو ما أشبه ذلك، وإنما يكون في جزء، وهو الأمر الذي يصدر من الناس. أما الأمور الصادرة من الله جل وعلا التي يفعلها وحده فليس هناك من بني آدم من جعل لله فيها نداً، وإنما الند يكون فيما يصدر من المخلوق نفسه، مثل الحب والدعاء والخضوع والذل والذبح والنذر، وما أشبه ذلك من الأمور التي يتعبد بها الإنسان، فإذا جعل شيئاً منها لغير الله جل وعلا فقد اتخذ ذلك الذي جعل له هذا الشيء نداً لله؛ لأن العبادة يجب أن تكون لله وحده، فهي خالص حق الله جل وعلا، والله جل وعلا خلق العباد، ليخلصوا له العبادة، كما قال جل وعلا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23] قضى: أمر وأوجب وألزم أن تكون العبادة له وحده، ولا يكون لغيره شيء منها. وقوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) هذا مركب على المعنى السابق، وذلك أن المؤمنين أخلصوا حبهم لله جل وعلا، ولم يوزعوه بين ربهم جل وعلا وبين المخلوقات، فصار الحب الذي هو لله وحده أشد من الحب الذي يكون موزعاً مقسوماً بين الرب جل وعلا وبين المعبودات الأخرى، هذا من جهة. ومن جهة أخرى أن أصل الحب الذي يكون عند المؤمن لا يمكن أن يكون مساوياً للحب الذي يكون عند المشرك، وذلك أن المؤمن عرف حق الله، وعرف وجوب محبته الحب الخضوعي، الحب الذي يتضمن الخوف والذل والتعظيم، عرف أن هذا يجب أن يكون لله، وأنه خالص حق الله، فصار لو خير بين أن يجعل شيئاً من هذا الحب لغير الله وأن يقتل لاختار القتل، ولو خير إما أن يجعل هذا الحب لغير الله أو يلقى في النار لاختار أن يلقى في النار، ولا يجعل شيئاً من هذا الحب لغير الله، فحب الله في قلبه عظيم جداً، ولا يساوي الحب الذي يصدر من المخلوق للمخلوق، وذلك أن هذا حب للعبادة الذي إذا تحلى القلب به أصبح يختاره على نفسه، وعلى ما دون النفس من جميع ما يملكه في الدنيا؛ فلهذا بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن المؤمن إذا وصل الإيمان إلى قلبه أن الله جل وعلا ورسوله يكون أحب إليه مما سواهما، وأنه يحب أن يلقى في النار ولا يكفر بالله جل وعلا؛ من هذه المحبة التي تحلى القلب بها، فالذين آمنوا لا يقاس حبهم مع من أحب صنماً أو قبراً أو شخصاً أو غير ذلك من الحب الذي يكون قادحاً في محبة الله جل وعلا وفي عبادته. قال المصنف رحمه الله تعالى: [روى ابن جرير عن مجاهد رحمهما الله في قوله تعالى: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165] مباهاة ومضاهاة للحق سبحانه بالأنداد {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165] من الكفار لأوثانهم. قال المصنف رحمه الله تعالى: ومن الأمور المبينة لتفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله: آية البقرة في الكفار الذين قال تعالى فيهم: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:167] ذكر أنهم يحبون أندادهم كحب الله فدل على أنهم يحبون الله حباً عظيماً فلم يدخلهم في الإسلام فكيف بمن أحب الند أكبر من حب الله؟! فكيف بمن لم يحب إلا الند وحده؟! انتهى كلامه رحمه الله]. في هذه الآية يعني: قول الله جل وعلا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165] تقدم أن الند يكون في صفة من الصفات ولا يلزم أن يكون مماثلاً لله جل وعلا من كل وجه، وهذا لا يقوله أحد. وهذه الآية بينت أن الند الذي يتخذ هو في الحب فقط؛ ولهذا قال: (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ) والمعنى: يحبون هذه الأنداد كمحبتهم لله تعالى، وهذا هو الشرك الذي جعلهم إذا ماتوا عليه خالدين في النار، وأحل دماءهم وأموالهم، فهم قسموا الحب الواجب لله جل وعلا الذي يتضمن الذل والخضوع والتعظيم، وجعلوه لمخلوق، فصاروا مشركين بذلك، وسبق أنه ليس في العالم من يقول: إن أحداً من الخلق يساوي الله جل وعلا في التصرف من الإيجاد أو الإحياء أو في الملك أو في المشيئة أو في القدرة أو ما أشبه ذلك، وإنما يكون في جزء وهو الأمر الذي يصدر من الناس. أما الأمور الصادرة من الله جل وعلا التي يفعلها فليس هناك من بني آدم جعل لله فيه نداً، وإنما الند يكون فيما يصدر من المخلوق نفسه، مثل الحب والدعاء والخضوع والذل والذبح والنذر، وما أشبه ذلك من الأمور التي يتعبد بها الإنسان، فإذا جعل شيئاً منها لغير الله جل وعلا فقد اتخذ ذلك الذي جعل له هذا الشيء نداً لله؛ لأن العبادة يجب أن تكون لله وحده، فهي خالص حق الله جل وعلا، والله جل وعلا خلق العباد لهذا، ليخلصوا له العبادة، كما قال جل وعلا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23] قضى: أمر وأوجب وألزم أن تكون العبادة له وحده، ولا يكون لغيره شيء منها. وقوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) هذا مركب على المعنى السابق، وذلك أن المؤمنين أخلصوا حبهم لله جل وعلا، ولم يوزعوه بين ربهم جل وعلا وبين المخلوقات، فصار الحب الذي هو لله وحده أشد من الحب الذي يكون موزعاً مقسوماً بين الرب جل وعلا وبين المعبودات الأخرى، هذا من جهة. ومن جهة أخرى أن أصل الحب الذي يكون عند المؤمن لا يمكن أن يكون مساوياً للحب الذي يكون عند المشرك، وذلك أن المؤمن عرف حق الله، وعرف وجوب محبته الحب الخضوعي، الحب الذي يتضمن الخوف والذل والتعظيم، عرف أن هذا يجب أن يكون لله، وأنه خالص حق الله، فصار لو أنه مثلاً خير بين أن يجعل شيئاً من هذا الحب لغير الله وأن يقتل لاختار القتل، ولو خير إما أن يجعل هذا الحب لغير الله أو يلقى في النار لاختار أن يلقى في النار، ولا يجعل شيئاً من هذا الحب لغير الله، فحب الله في قلبه عظيم جداً، ولا يساوي الحب الذي يصدر من المخلوق للمخلوق، وذلك أن هذا حب للعبادة الذي إذا تحلى القلب به أصبح يختاره على نفسه، وعلى ما دون النفس من جميع ما يملكه في الدنيا؛ فلهذا بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن المؤمن إذا وصل الإيمان إلى قلبه أن الله جل وعلا ورسوله يكون أحب إليه مما سواهما، وأنه يحب أن يلقى في النار ولا يكفر بالله جل وعلا من هذه المحبة التي تحلى القلب بها، فالذين آمنوا لا يقاس حبهم مع من أحب صنماً أو قبراً أو شخصاً أو غير ذلك من الحب الذي يكون قادحاً في محبة الله جل وعلا وفي عبادته.

أنواع الظلم

أنواع الظلم قال الشارح رحمه الله: [ففي الآية بيان أن من أشرك مع الله تعالى غيره في المحبة فقد جعله شريكاً لله في العبادة، واتخذه نداً من دون الله، وأن ذلك هو الشرك الذي لا يغفره الله تعالى كما قال تعالى في أولئك: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:167] وقوله: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} [البقرة:165] المراد بالظلم هنا الشرك كقوله تعالى: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:82] كما تقدم. فمن أحب الله وحده وأحب فيه وله فهو مخلص، ومن أحبه وأحب معه غيره فهو مشرك كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:21 - 22]. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ما معناه: فمن رغب إلى غير الله في قضاء حاجة أو تفريج كربة لزم أن يكون محباً له، ومحبته هي الأصل في ذلك. انتهى كلامه رحمه الله]. كون الظلم في هذه الآية هو الشرك أظهر منه في آية سورة الأنعام: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:82]؛ لأن الآية هذه مبدأها في نفي الحب الذي يكون لوجه الله جل وعلا، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ)) [البقرة:165]، وقوله: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} [البقرة:165] يعني: الذين وزعوا محبتهم بين الله جل وعلا وبين هذه المتخذة آلهة من دونه. والظلم يطلق على كل معصية يخالف بها الإنسان أمر الله جل وعلا سواء بارتكاب منهي أو ترك واجب، فإنه ظلم، وقد علم أن الظلم ينقسم إلى أقسام: ظلم بين العبد وبين ربه كأن يترك واجباً من الواجبات أو يرتكب محرماً من المحرمات مما لا يتعلق بإنسان كأخذ مال، أو استطالة عرض وما أشبه ذلك، فهذا يكون بين العبد وبين ربه فقط، وهذا هو أسهل أنواع الظلم وأيسرها؛ لأن الله جل وعلا غفور رحيم، وإذا قدم العبد على ربه وكان ظالماً وغير مشرك، فإن كل ظلمه سوف يغفره الله جل وعلا إذا شاء ولا يبالي. كله معلق بمشيئته، إذا شاء غفره بدون مؤاخذة ومعاقبة، وإذا أخذ به فمجرد عقاب مؤقت، ثم بعد ذلك يكون مآله إلى الجنة، هذا إذا كان الظلم في ترك واجب أو فعل محرم. أما النوع الثاني من الظلم فهو الظلم الذي يكون بين العباد بعضهم لبعض، وهو أيضاً إما أن يكون بفعل محرم أو الامتناع من أداء واجب وجب عليه لأخيه، فهذا مبناه على المشاحاة والمقاصاة، ولا يترك الله منه شيئاً إلا أن يعفو صاحب الحق، فإن لم يعف صاحب الحق فلا بد من أداء الحق إلى صاحبه حتى الذين يكونون من أهل الجنة وينجون من الحساب، فإن الذين يبقى عليهم حقوق لبعضهم البعض، ولو جاوزوا الصراط فإنهم لا يدخلون الجنة حتى تحصل المقاصاة، وأخذ المظالم من بعضهم لبعض كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أن أهل الجنة إذا عبروا الصراط، وصاروا إلى باب الجنة، حبسوا في قنطرة بين الجنة والنار، يحبسون ولا يدخلون الجنة حتى يؤخذ لبعضهم من بعض، وينزع ما في صدورهم من غل، فإذا صاروا إخواناً متحابين دخلوا الجنة، ولا يدخلون الجنة ولأحد على أحد شيء، فهذا أقل أنواع الظلم التي تكون لبعضهم على بعض. أما أصحاب المظالم العظيمة فلا يأتون إلى الصراط ولا يتجاوزنه حتى يؤخذ لصاحب الحق حقه، وقد جاءت أحاديث كثيرة تحذر عن الوقوع في مثل هذا، فقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل يوماً أصحابه: (أتدرون من المفلس فيكم؟ قيل: المفلس من لا درهم عنده ولا دينار، قال: كلا، المفلس من يأتي يوم القيامة بحسنات كثيرة أمثال الجبال، ولكنه يأتي وقد شتم هذا، وقد استطال على عرض هذا، وقد أكل مال هذا، فيؤخذ لهذا من حسناته، ولهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته أخذ من سيئاتهم، ثم طرحت عليه، ثم طرح في النار) هذا هو المفلس، يأتي بالحسنات ولكن تكون لغيره، الحسنات التي يعملها تكون للناس الآخرين وليست له؛ لأنه كان يظلمهم، وتمتع في دنياه بظلمهم، إما بتمزيق أعراضهم، أو بأكل أموالهم، أو بمنع حقوقهم التي وجبت لهم عليه، فإنهم لا بد أن يطالبوه بذلك، ولا بد أن تؤدى الحقوق إلى مستحقيها. أما النوع الثالث فهو أشد أنواع الظلم وأعظمها وهو ظلم الشرك، فهذا الظلم إذا مات عليه الإنسان فإنه ليس معه اهتداء ولا أمن، منفي عنه الأمن مطلقاً؛ لأن الله جل وعلا قد فصل الأمر في هذا ووضحه، وأخبر أن من يموت مشركاً فإن مأواه جهنم، وأنه من أهل النار، وليس بخارج منها، وأن الله جل وعلا يغفر كل ذنب إذا شاء أن يغفره إلا الشرك، قال جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] هذا عام شامل حتى يدخل فيه ظلم العباد بعضهم مع بعض، إذا شاء الله جل وعلا أرضى صاحب الحق عمن ظلمه، يرضيه فيعفو عنه، ويغفر الله جل وعلا لهذا الظالم، أما إذا كان مشركاً فإنه لا يغفر له. ومن هنا يتبين لنا شدة الحاجة إلى معرفة الشرك لئلا يقع الإنسان فيه وهو لا يدري، وكم وقع فيه من يكتب مثلاً تفسيراً لكتاب الله، أو يكتب شرحاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يكتب في الأصول أو في غيرها، ومع هذا يقع في الشرك الأكبر! نسأل الله العافية؛ وذلك لأن الإنسان إذا عاش في مجتمعٍ لا يعرف الشرك، فإنه ربما دخل عليه وهو لا يدري كما جاء عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أنه قال: أتدري متى تنقض عرى الإسلام عروة عروة؟ قيل له: متى؟ قال: إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية، يعني: أنهم يقعون في المخالفات وفي المنكرات، وهم يظنون أنها ليست كذلك. فيتعين على العبد -لما ذكر الله جل وعلا أنه لا يغفر هذا الذنب- أن يتعرف على الشرك خوفاً من الوقوع فيه، فهذا هو أعظم أنواع الظلم؛ وذلك لأن الإنسان إذا وقع فيه، ومات عليه؛ فإنه ميئوس منه نهائياً، ومقطوع بأنه من أهل النار قطعاً لخبر الله جل وعلا بذلك الخبر البين الذي ليس فيه إشكال. أما قول الله جل وعلا: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53]، فقوله: {يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} هذا ما ترك شيئاً: الشرك وغير الشرك، فهذه الآية في الإنسان الذي يتوب، فالتائب من الذنب مهما كان الذنب فإن الله يغفره بالتوبة إذا كانت التوبة صحيحة، فإذا كانت صحيحة مجتمعة فيها الشروط فإن الله جل وعلا يغفر لهذا المذنب وإن كان ذنبه شركاً. وشروط التوبة هي: أن تكون التوبة في الحياة قبل أن يعاين الموت. وأن تكون التوبة تتضمن: الندم، والإقلاع عن الذنب، والعزم ألا يعود إلى الذنب أبداً ما دام حياً. إذا اجتمعت هذه الأمور فإن التوبة تكون نصوحاً، ويقبلها الله جل وعلا، ويحب جل وعلا من اتصف بها. وإذا كان الذنب في حق للغير، فإنه يشترط أيضاً إرجاع هذا الحق إلى صاحبه، وإلا لا تصح هذه التوبة منه، لا تصح إلا أن يرجع الحق إذا استطاع إلى صاحبه، أو يتحلله حتى يجعله في حل، فيسامحه من قلبه أما أن يحله بلسانه وقلبه مصر على عدم مسامحته فهذا لا يفيد. فالمقصود أن هذه هي أنواع الظلم، وهنا الظلم المذكور هو الشرك؛ لأن الكلام في الشرك.

معنى كلمة الإخلاص

معنى كلمة الإخلاص قال الشارح: [فكلمة الإخلاص لا إله إلا الله تنفى كل شرك في أي نوع كان من أنواع العبادة وتثبت العبادة بجميع أفرادها لله تعالى، وقد تقدم بيان أن الإله هو المألوه الذي تألهه القلوب بالمحبة وغيرها من أنواع العبادة فلا إله إلا الله نفت ذلك كله عن غير الله، وأثبتته لله وحده، فهذا هو ما دلت عليه كلمة الإخلاص مطابقة، فلابد من معرفة معناها، واعتقاده، وقبوله، والعمل به باطناً وظاهراً، والله أعلم] يعني: لا بد من معرفة معناها وقبوله، أي: قبول هذا المعنى والعمل به في الظاهر أي: في الجوارح، وفي الباطن يعني: في القلب، حتى يتحصل قائلها على الوعد الذي جاءت به الأحاديث، فإن من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة؛ لأن قولها: ليس مجرد الكلام اللفظي، فمجرد الكلام اللفظي بدون اعتقاد المعنى أو العمل بما دلت عليه لا يفيد، فاليهود يقولون: لا إله إلا الله، وهم كفار، ولا يفيدهم قول: لا إله إلا الله، وهم أصناف، ومنهم من لا يشرك، بل يعيب على المشركين الشرك، ومع ذلك هم في جهنم؛ لأنهم لم يقبلوا ما دلت عليه، ولم يعملوا بها. وكذلك الجزء الآخر من الشهادتين، وهو شهادة أن محمداً رسول الله، لم يقبلوا ذلك، ولم يؤمنوا به، ولم يعملوا به، مع أنهم في باطن أمرهم متيقنون أنه رسول الله، كما قال الله جل وعلا: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146]، يعرفون أن الرسول صلى الله عليه وسلم رسول من الله كما يعرف أحدهم ابنه أنه ولده، وقد جاء عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه أنه قال: والله إننا لنعرفه أكثر من معرفتنا لأبنائنا؛ وذلك أن أحدنا يخرج من بيته فلا يدري ماذا تصنع زوجته، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس عندنا أي ارتياب أو شك في أنه رسول من عند الله بالصفات التي عرفناها بكتاب الله جل وعلا. ومع هذه المعرفة هم كفار بالله؛ لأنهم لم يقبلوا ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يعملوا به. وقد اتفق العلماء على أن من لم يقبل ما دلت عليه لا إله إلا الله فإنه كافر ويقاتل، ولو كان ما لم يقبله من الواجبات، فإن كل واجب في الإسلام هو من حق لا إله إلا الله، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله -جل وعلا-) فلهذا لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظهر من الناس أمور عجيبة، منهم من قال: لو كان نبياً ما مات، ومنهم من قال: كنا نؤدي إليه الزكاة في حياته، أما بعد وفاته فلن نؤديها وأبى من دفعها، ومنهم من ارتد نهائياً وعاد إلى الشرك؛ فلم يفرق الصحابة بين هؤلاء كلهم، بل جعلوا قتالهم كله قتال ردة، وقاتلوهم حتى رجعوا إلى الإسلام، ومع ذلك لما انتصر عليهم الصحابة، وأظهر من أظهر منهم التوبة من الذين بقوا واستسلموا؛ لم يقبل منهم الصحابة بقيادة أبي بكر الصديق حتى يشهدوا بأن قتلاهم في النار، وأن قتلى الصحابة في الجنة؛ لأنهم ارتدوا عن دين الله جل وعلا، وارتكبوا أموراً عظيمة، ولما روجع في هذا وقيل له: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله) فقال لهم: ألم يقل: (إلا بحقها)؟ فوالله! لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه، فأجمع الصحابة بعد ذلك على هذا، فعلى هذا لو أن إنساناً قال: لا إله إلا الله، وعبد الله، وأدى الصلاة، ولكنه امتنع من الوضوء، أبى أن يتوضأ، وصار يصلي بلا وضوء؛ فإنه يكفر بلا إله إلا الله، فإن الإسلام كله مرتبط بهذه الكلمة، وكل ما فيه من حقها، والذي يمتنع من واجب من الواجبات يجب على إمام المسلم أن يقاتله حتى يلتزم بالحق، ويجب على المسلمين أن يعاونوه على ذلك حتى يلتزم بأمر الله جل وعلا ويقبله، وينقاد له، وهذا أمر متفق عليه بين العلماء لا خلاف بينهم فيه. وهذا يدلنا على جهل الذين يتجهون إلى القبور ويعبدونها، ويدعون أصحابها ويتضرعون إليهم، ثم يقولون: إننا نقول: لا إله إلا الله، فنحن مسلمون موحدون، ولا يجوز أن نرمى بشيء من الشرك أو من المخالفات التي تجعل صاحبها خارجاً عن الدين الإسلامي، هذا يدل على جهلهم، وأنهم لم يعرفوا الإسلام في الواقع.

توحيد المحبوب وتوحيد المحبة

توحيد المحبوب وتوحيد المحبة قال الشارح رحمه الله: [قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: فتوحيد المحبوب ألا يتعدد محبوبه -أي: مع الله تعالى- بعبادته له، وتوحيد الحب ألا يبقى في قلبه بقية حب حتى يبذلها له، فهذا الحب وإن سمي عشقاً فهو غاية صلاح العبد ونعيمه وقرة عينه، وليس لقلبه صلاح ولا نعيم إلا بأن يكون الله ورسوله أحب إليه من كل ما سواهما، وأن تكون محبته لغير الله تابعة لمحبة الله تعالى، فلا يحب إلا الله، ولا يحب إلا لله كما في الحديث الصحيح (ثلاث من كن) الحديث]. العشق لا يجوز أن يستعمل مع الله جل وعلا، فالحب الذي يكون لله لا يجوز أن يقال: إنه عشق أو يقال: عشيق الرحمان أو ما أشبه ذلك؛ وذلك أن العشق حب يتضمن شهوة، فلا يجوز أن يكون لله جل وعلا، تعالى وتقدس، ومحبة الله فوق هذا وأعظم منه، وهي محبة عبادة؛ ولهذا اشترط فيها أن تكون متضمنة للذل والتعظيم، أن يذل ويخضع ويعظمه. أما محبة العشق فهي لأجل الشهوة، وهذا يكون من مخلوق مع مخلوق، فلا يجوز أن يستعمل هذا في المحبة التي تكون لله جل وعلا.

محبة الرسول من محبة الله

محبة الرسول من محبة الله قال الشارح رحمه الله: [ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي من محبة الله، ومحبة المرء إن كانت لله فهي من محبته، وإن كانت لغير الله فهي منقصة لمحبة الله مضعفة لها، ويصدق هذه المحبة بأن تكون كراهيته لأبغض الأشياء إلى محبوبه -وهو الكفر- بمنزلة كراهيته لإلقائه في النار أو أشد، ولا ريب أن هذا من أعظم المحبة، فإن الإنسان لا يقدم على محبة نفسه وحياته شيئاً، فإذا قدم محبة الإيمان بالله على نفسه بحيث لو خير بين الكفر وبين إلقائه في النار لاختار أن يلقى في النار ولا يكفر، كان أحب إليه من نفسه، وهذه المحبة هي فوق ما يجده العشاق المحبون من محبة محبوبيهم، بل لا نظير لهذه المحبة كما لا مثل لمن تعلقت به، وهى محبة تقتضى تقديم المحبوب فيها على النفس والمال والولد، وتقتضى كمال الذل والخضوع والتعظيم والإجلال والطاعة والانقياد ظاهراً وباطناً، وهذا لا نظير له في محبة المخلوق، ولو كان المخلوق من كان؛ ولهذا من أشرك بين الله وبين غيره في هذه المحبة الخاصة كان مشركاً شركاً لا يغفره الله كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165] والصحيح أن معنى الآية: إن الذين آمنوا أشد حباً لله من أهل الأنداد لأندادهم، كما تقدم أن محبة المؤمنين لربهم لا يماثلها محبة مخلوق أصلاً كما لا يماثل محبوبهم غيره، وكل أذى في محبة غيره فهو نعيم في محبته، وكل مكروه في محبة غيره فهو قرة عينٍ في محبته، ومن ضرب لمحبته الأمثال التي في محبة المخلوق للمخلوق كالوصل والهجر والتجني بلا سبب من المحب وأمثال ذلك مما يتعالى الله عنه علواً كبيراً فهو مخطئ أقبح الخطأ وأفحشه، وهو حقيق بالإبعاد والمقت. انتهى كلامه رحمه الله]. يجب أن يفرق الإنسان بين محبة الله جل وعلا الواجبة له، وبين محبة عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، محبة الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة على المسلم، يجب عليه أن يقدم محبة الرسول صلى الله عليه وسلم على محبة نفسه فضلاً عن محبة ولده أو أهله أو ماله، بل يكون أحب إليه من نفسه، وإلا لم يحصل له الإيمان الواجب الذي ينجو به من عذاب الله. وهذه المحبة التي تكون للرسول صلى الله عليه وسلم ليست هي المحبة التي تكون لله، بل هي محبة أخرى، وهي محبة لله وفي الله، وليست محبة مع الله، فإن المحبة مع الله شرك بالله جل وعلا؛ لأنها تكون محبة عبادة، محبة ذل وتعظيم، أما محبة الرسول صلى الله عليه وسلم فهي حب لله، تحبه لأن الله يحبه؛ لأنه أحبُّ خلقه إليه، فيجب عليك أن تقدم محبة محبوبك على كل محبوب لك. فأولاً تؤدي حق الله الذي هو العبادة، فتحبه المحبة التي هي عبادة لله، ثم تحب ما يحبه الله، ومن ذلك كون الله جل وعلا يحب رسوله؛ ولأنه صلوات الله وسلامه عليه هو السبب في حياتك الحياة الحقيقة، التي هي حياة الروح، وهي الحياة التي تتصل بالله جل وعلا لهذا وجب أن يحب أكثر من غيره لله وبالله وفي الله. وهذا الحب الذي يكون لله وفي الله يكون مكملاً لمحبة الله جل وعلا ومتمماً لها، وليس هذا الحب مشاركاً لله في العبادة؛ لأن المخلوق لا يعبد، ولا يحب حب العبادة، وإنما يحب حيث أمر الله جل وعلا بحبه. فهو بهذه النظرة يكون مكملاً ومتمماً لمحبة الله جل وعلا محبة العبادة، فهذا يجب أن يعلم، وأن يفرق بين محبة الرسول صلى الله عليه وسلم ومحبة الله. ثم لهذه المحبة لوازم وعلامات، ومن لوازمها: تقديم قول الرسول صلى الله عليه وسلم على قول كل أحد، ومن علاماتها: الحرص على اتباعه صلوات الله وسلامه عليه أكثر من اتباع غيره، بل لا يجوز اتباع غيره في أي شيء هو في الدين عبادة؛ لأن العبادة مبناها على أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ونهيه، فهذا الذي قد يغلط فيه بعض الناس.

المحبة الخالصة لله وحده

المحبة الخالصة لله وحده قوله: إن المحبة الخاصة يجب أن تكون لله، قصده بالخاصة التي يختص بها الله جل وعلا، وهي محبة العبادة وقلنا: إن المحبة التي تكون لله يجب أن تتضمن الذل والتعظيم، لأن الإنسان قد يحب محبوباً فإذا كان يحبه وهو ذال له معظم له، فهذا يكون عبادة، أما إذا كان يحبه لحظ نفسه، لأمر من الأمور، ولكنه لا يخضع له، ولا يعظمه، ولا يذل له ويستكين له، فإن هذا حب لا يكون عبادة. وسبق أن قلنا: إن الحب ينقسم إلى قسمين: حب يكون خاصاً، وهذا يجب أن يكون خالصاً لله، وهو حب العبادة الذي فيه الذل والتعظيم. وحب يكون مشتركاً بين الخلق كلهم حتى البهائم، وهذا أقسام: منه -مثلاً- حب الألفة والمصاحبة، إذا صاحب إنسان إنساناً وألفه، وكان معه في عمل من الأعمال أو في مكان من الأمكنة، وطال التردد وكثر الاجتماع؛ فإنه تحصل محبة بينهم، وهذا مشترك بين الخلق كلهم حتى البهائم، البهيمة إذا أخذت من بين البهائم صارت تصيح وتحن إلى إلفها، ولا تسكن حتى ترجع إلى المكان الذي أخذت منه، فالمقصود أن هذا مشترك بين الخلق. ونوع آخر من الحب وهو حب يتضمن حاجة كحب الطعام، وحب الشراب، فإذا حصل له حاجته أصبح لا يحبه. وحب يتضمن رحمة ورأفة كحب الصغير وحب الضعيف وحب المسكين، ومنه حب الولد، فإن هذا حب حنان ورحمة. ومنه أيضاً: حب تقدير وإجلال كحب الوالد مثلاً، يقدره ويجله، ولكنه لا يتضمن الذل والخضوع، يقدر ويجل بحيث يعمل معه الأدب، ولكن لا يسجد له، ولا يخضع له، ومن هذا القبيل أيضاً حب الزوج مع زوجته، والزوجة مع زوجها، فهذه الأنواع كلها لا لوم على الإنسان في شيء منها، فهي مشتركة بين الخلق، ولا بد منها. وإنما الذي يجب أن يكون لله هو الحب الخاص، وهو حب العبادة، حب الذل والتعظيم والخضوع الذي يتضمن استكانة القلب وذله، وخضوع الجسم والجوارح، فهذا يجب أن يكون خالصاً لله جل وعلا، ولا يجوز أن يكون لمخلوق من المخلوقات، أحد الصحابة رجع من سفر رأى فيه بعض الأعاجم يسجدون لعظمائهم وملوكهم، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ألا نسجد لك فأنت أولى من أولئك؟ قال (لا، السجود لله، ولو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها؛ لعظم حقه عليها) ولكن العبادة يجب أن تكون لله وحده، لا يكون لمخلوق منها شيء، والعبادة إذا خلت من الحب والذل والتعظيم فليست عبادة، ولا تكون عبادة إلا بذلك. أما كون الإنسان يحب ما يحتاجه فهذا من الحب الطبيعي الذي لا يؤاخذ عليه؛ لأن الله جل وعلا خلق الناس على هذا الشيء، وعين العبادة وحددها وبينها حتى يعمل عباد الله على أمر الله، ويجتنبون نهيه، وكل هذا مأخوذ من معاني النصوص التي دلت عليه من كتاب الله، وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم.

شرح فتح المجيد [33]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [33] حديث: (من قال: لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه) من أعظم ما يبين معنى لا إله إلا الله، فإنه لم يجعل التلفظ بها، ولا معرفة معناها، ولا الإقرار بها عاصماً للدم والمال، إلا إذا صاحب ذلك الكفر بما يعبد من دون الله تعالى.

الكفر بما يعبد من دون الله

الكفر بما يعبد من دون الله قال المصنف رحمه الله: [وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله؛ حرم ماله ودمه وحسابه على الله)]. هذا الحديث يبين معنى لا إله إلا الله بياناً شافياً؛ فهو من جنس الآيات السابقة، والباب يقول فيه: باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله. فهذا الحديث يفسر شهادة أن لا إله إلا الله؛ وذلك لأنه لم يكتف الرسول صلى الله عليه وسلم بقول لا إله إلا الله، بل قيد الأمر بشيئين: الأول: قول لا إله إلا الله. الثاني: الكفر بما يعبد من دون الله، فإذا حصل أحدهما وتخلف الآخر لم يحصل المقصود الذي قصده الرسول صلى الله عليه وسلم، والكفر بما يعبد من دون الله معناه: بغضه والابتعاد عنه بعد التخلي عنه نهائياً، قال الله: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4] فهذا هو معنى الكفر بما يعبد من دون الله، أول شيء يتخلى عنه إذا كان يعمل شيئاً منه، ثم يبغضه ويعاديه، ويبغض ويعادي من يفعله، ويتبرأ منه، وإذا لم يحصل ذلك فمعنى ذلك أنه لم يأت بالكفر المطلوب، وقد قال الله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} [البقرة:256] فقدم الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله، مما يدل على أن هذا شرط في صحة قول لا إله إلا الله. فإذا لم يكفر الإنسان بما يعبد من دون الله لا ينفعه قول: لا إله إلا الله، وهذا قيد من القيود التي قيدت به هذه الكلمة، والقيود التي قيدت بها هذه الكلمة كثيرة، ومنها أن يعلم معناها، فيقولها عن علم، كما قال الله جل وعلا: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86] وشهادة الحق هي شهادة أن لا إله إلا الله، وقوله جل وعلا: (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) جملة حالية، يعني: حالة كونهم يعلمون ما يشهدون به. وأيضاً الإخلاص فقد جاءت مقيدة به كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أسعد الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه)، فالإخلاص ينافي الشرك والرياء. أيضاً اليقين الذي ينافي الشك والتردد. والانقياد بحيث إن الإنسان يقولها وينقاد لما دلت عليه، أما أن يقولها ويأبى أن يعمل، فهذا لا يفيد. ومنها الاستسلام والتسليم. ومنها: الرضا بما دلت عليه. ومنها: المحبة، أن يحب ذلك ويرضاه، فإذا وجدت هذه القيود فيمن يقول: لا إله إلا الله فهذا الذي يموت مخلصاً، ويلقى الله جل وعلا خالصاً ليس معه شيء من الشرك، ويكون من الذين يسلكون إلى الجنة؛ لأنه إذا قالها بهذه القيود لا يمكن أن يقوم به شرك من الأعمال.

الرغبة فيما عند الله

الرغبة فيما عند الله ما ذكره المؤلف قبل هذا يدلنا على أن العبد يجب في عبادته أن يحب الله وأن يخشاه، وأن يكون في عبادته طالباً للنجاة من الله جل وعلا، طالباً لثوابه وجزائه، هارباً من عقابه، وليس كما يقول من يقوله من المغرورين: أنا لا أعبد الله ولا أحبه لأجل جنته أو خوفاً من ناره، فإن هذا غرور وجهل بالواقع، فالإنسان ضعيف، ولو أن الإنسان أصيب بعذاب فإنه سوف يظهر ضعفه بسرعة، وسوف يتنصل مما يقول، وقد ذكر عن بعض السلف الذين كانوا معروفين بالتصوف -وهو الشبلي رحمه الله- أنه كان يقول: أنا لا أعبد الله طلباً لجنته، فابتلي بحبس البول، انحبس البول فصار يمشي إلى الصبيان ويقول: استغفروا لشيخكم الكذاب، فإنه تبين كذبي؛ إذ إني لا صبر لي على العذاب. وهذه موعظة وعظ بها. أما ما ذكر عن رابعة العدوية أنها كانت تقول: أنا لا أعبده لجنته ولا خوفاً من ناره، وإنما أعبده لحبه، فهذا لا يصح عنها، وإنما هو من قول الذين لهم شطحات ممن هم غير عارفين بالشرع، وإلا فالله جل وعلا قد أكثر من ذكر الجنة وذكر النار في كتابه، حتى يكون هذا حادياً على العبادة الرغبة والرهبة، وقد أخبر عن سادات أوليائه الذين هم الأنبياء أنهم كانوا يعبدونه رغباً ورهباً، رغباً في ثوابه، ورهباً من عقابه جل وعلا، ولا تستقيم العبادة إلا بهذا، فلا صبر للعبد على عذاب الله، كما أنه لا غنى له عن رحمته، فهو ضعيف مسكين محتاج إلى ربه جل وعلا، والله جل وعلا غني عنه من كل وجه، وطاعة الطائعين لا تنفع الله، كما أن معصية العاصين لا تضر الله جل وعلا، وإنما الطائعون يطيعون لأنفسهم، ويجتنبون المعاصي وقاية لأنفسهم من عذاب الله، وإلا فقد قال الله جل وعلا في الحديث القدسي: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل سائل مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر). والمقصود بالمخيط الإبرة، فالإبرة إذا أدخلت في البحر ثم نزعت هل تنقص من البحر شيئاً؟ لا، ذلك أنه جل وعلا إذا أراد شيئاً قال له كن فيكون، وكل شيء في ملكه. ثم يقول الله جل وعلا في آخر الحديث: (إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه)، فالعمل لأجل النجاة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (كل الناس يغدو: فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) كيف يبيعها ويعتقها؟ بائع هنا معناه مشتري، بائع نفسه يعني: مشتريها، إما أن يشتريها بطاعة الله جل وعلا، واجتناب المعاصي، فيعتقها من عذاب الله، أو يبيعها في طاعة الشيطان فيوبقها، وإباقها كونه يعمل بالمعاصي ثم يجزى شراً. فلا غنى للعبد عن محبة الله وعبادته، ومحبة الله تكون خوفاً من عذابه، ورجاءً لثوابه، العبادة مبناها على الخوف والرجاء، فيجب أن يكون العبد خائفاً راجياً دائماً. أما إذا عبد الله جل وعلا بالخوف وحده فإنه -كما قال السلف- يكون حرورياً، والحروري معناه: الخارجي، فالخوارج يكفرون المسلمين بمجرد الذنوب، ويخلدونهم في النار، فمن فعل ذنباً من الذنوب قالوا: إنه كافر يجب قتله، وإذا مات فهو خالد في جهنم؛ لأنهم عبدوا الله بالخوف. وإذا عبد الإنسان ربه بالرجاء صار مرجئاً، والمرجئة أضل من هؤلاء، فإنهم تركوا الأعمال وقالوا: يكفي الإيمان القائم في القلب، فلا بد للعبد أن يكون ممتثلاً لأوامر الله جل وعلا مع ما يقوم في قلبه من حب الله وتعظيمه والذل له والإخلاص له، ويقصده بالعمل كله.

شرح حديث: (من قال: لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله)

شرح حديث: (من قال: لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله) قال الشارح رحمه الله: [قوله: في الصحيح: أي: صحيح مسلم، عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره، وأبو مالك اسمه سعد بن طارق، كوفي ثقة، مات في حدود الأربعين ومائة، وأبوه طارق بن أشيم - بالمعجمة والمثناة التحتية وزن أحمر - ابن مسعود الأشجعي صحابي له أحاديث، قال مسلم: لم يرو عنه غير ابنه]. الصحابة رضوان الله عليهم كثيرون جداً ,ليس كل صحابي عرف اسمه، أو عرفت روايته أو نقل عنه، المنقول عنهم قلة، والذين عرفوا ما يتجاوزون اثني عشر ألفاً من الصحابة الذين رويت عنهم الأحاديث، وقد قال أبو زرعة: الذين اجتمعوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع أكثر من ثلاثمائة ألف، فيكون كلهم من الصحابة، وهؤلاء أكثرهم لم يعرف اسمه، ومعرفة الأسماء تكون برواية الأحاديث، والأحاديث دونت وسجلت بعد ذهاب الصحابة رضوان الله عليهم، ثم هم رضوان الله عليهم ما كانوا يحرصون على التحديث كثيراً كما جاء في الصحيح أن رجلاً صحب الزبير من المدينة إلى مكة فقال: ما سمعته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله فقال: إن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عظيم، فقد سمعته يقول: (من كذب عليّ فليتبوأ مقعده من النار) هم يقولون: (متعمداً) والله ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (متعمداً) يعني: أنه ذكر هذا مطلقاً، فامتنع من التحديث من أجل ذلك، ولكن إذا وجب الأمر لا بد أن يذكروا ذلك، إذا احتاجوا إلى ذكر العلم ذكروه ولا يكتمونه. ثم هم رضوان الله عليهم كانوا يهتمون بالعمل أكثر؛ ولهذا كانت دعوتهم بأعمالهم أكثر من دعوتهم بأقوالهم. وقد سبق أن قول: لا إله إلا الله شرط في صحة الإسلام، وأن الإنسان ما يدخل دين الإسلام إلا بقول: لا إله إلا الله، والقول وحده لا يكفي. وهذا الحديث بين المراد من الأحاديث الأخرى التي فيها أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة) وما في معنى ذلك، وأنه ليس المراد مجرد القول، وإنما يجب أن ينضاف إلى القول العلم والاعتقاد الجازم، ويتبع العلم العمل. وكذلك الكفر بما يعبد من دون الله، فإذا اختل شيء من هذه الأمور في الإنسان لم يصح دينه وإسلامه، فلا بد أن يقول: لا إله إلا الله، وأن يقولها عن علم واعتقاد، وأن يعمل بمقتضاها وما دلت عليه، وأن يكفر بالمعبودات التي تعبد من دون الله جل وعلا.

تفسير هذا الحديث لمعنى لا إله إلا الله

تفسير هذا الحديث لمعنى لا إله إلا الله هذا الحديث بيان وشرح لقول لا إله إلا الله؛ لأنه قال: (وكفر بما يعبد من دون الله)، والكفر بما يعبد من دون الله يقتضي مجانبته وبغضه وكراهيته، ويتبرأ منه ومن عابده، فلا بد أن يكون الإنسان عاملاً بذلك حتى يصح دينه ويسلم، ويتحصل على الموعود الذي وعد به من قال: لا إله إلا الله بأن يدخل الجنة. وبهذا يتبين أن الذين يتعلقون بغير الله جل وعلا، ويزعمون أنهم لم يأتوا بمخالفٍ مغرورون، قد اغتروا بجهلهم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بيّن غاية البيان، ووضح الأمر، فلا عذر لهم؛ لأنهم لم يعتنوا ببيانه الذي كلفه الله جل وعلا به، وقام به كما ينبغي صلوات الله وسلامه عليه. ولهذا تجد كثيراً من الناس يتعلق بالصالحين أو بقبورهم أو بغير ذلك، ويزعم أنه لم يأت بمخالف؛ لأنه يعد هذا توسلاً، ويقول: التوسل مشروع، وقد سبق أن التوسل الذي أمر الله به هو فعل الطاعة ابتغاء الوسيلة إلى الله، فيطيع الله جل وعلا ويتبع رسوله صلى الله عليه وسلم، أما التعلق بغير الله جل وعلا فهو تأله، والتأله يجب أن يكون لله وحده، ولا يجوز أن يتعلق القلب بغير الله تعالى، فإن وجد التعلق بغير الله جل وعلا فإما أن يكون ذلك منافياً للتوحيد بالكلية، أو منقصاً له وخادشاً له، ويصبح الإنسان معرضاً لعذاب الله جل وعلا. يعني: إذا كان التعلق من نوع الشرك الأكبر فهو منافياً للتوحيد، ومن مات على الشرك الأكبر فهو من أهل النار بلا تردد قطعاً؛ لأن الله جل وعلا يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء:48] أما إذا كان ليس من الشرك الأكبر كتعليق التميمة، وطلب البركة من موضع أو ما أشبه ذلك، فإن هذا قد يكون أكبر وقد يكون أصغر كما سيأتي، ويكون بحسب ما يقوم بقلب الإنسان، ويترتب عليه النقص أو المنافاة بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. والواجب على العبد أن يخلص دينه لله جل وعلا، وأن يكون الدين خالصاً لله جل وعلا، وتعلق القلب كله بالله جل وعلا، وألا يتعلق بشيء من المخلوقات التي لا تنفع ولا تضر، فكلها مخلوقة ضعيفة، والله جل وعلا يتصرف فيها كيف يشاء، وكل مخلوق لا يملك لنفسه ولا لغيره دفعاً ولا نفعاً، ولكن كثير من الجهال يغترون بالأوضاع التي يجدون عليها أهل زمانهم، والأوضاع ليست دليلاً على الدين، الدين هو ما جاء به رسول صلى الله عليه وسلم، فعلى الإنسان أن يتعرف على ذلك ويحرص عليه.

رواية: (من وحد الله)

رواية: (من وحد الله) قال الشارح: [وفي مسند الإمام أحمد عن أبى مالك قال: وسمعته يقول للقوم: (من وحد الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله عز وجل) ورواه الإمام أحمد من طريق يزيد بن هارون قال: أخبرنا أبو مالك الأشجعي عن أبيه، ورواه أحمد عن عبد الله بن إدريس قال: سمعت أبا مالك قال: قلت: لأبى: الحديث، ورواية الحديث بهذا اللفظ تفسير: لا إله إلا الله] وذلك أنه قال: (من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله فقد حرم ماله ودمه) فدل على أنه لا يحرم مال الإنسان ودمه على المؤمنين الذين يقاتلون في سبيل الله إلا بذلك، قال الله جل وعلا: {قَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة:193]؛ لأن الفتنة هي الشرك، فلا يحرم ذلك حتى يوجد هذا الذي ذكر في الحديث، فالفتنة التي ذكرها الله جل وعلا هي الشرك، وإذا وجد الشرك فإنه قد أمر بقتالهم، وأموالهم تكون حلالاً، ودماؤهم كذلك، ويشرع قتلهم حتى يحصل ما شرطه الرسول صلى الله عليه وسلم. ولهذا يتبين أنه لو قال: لا إله إلا الله وهو يعبد غير الله ويتعلق بغيره، أنها لا تنفعه لا إله إلا الله، وإنما تنفع الذي يقولها عن علم، ويعمل بما دلت عليه، ويكفر بما يعبد من دون الله جل وعلا، وقد قال الله جل وعلا: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256] فبين أن الكفر بالطاغوت واجب متعين على المسلم، والطاغوت كل ما عبد من دون الله، فكل المعبودات من دون الله طواغيت؛ لأن الطاغوت مأخوذ من الطغيان وهو تجاوز الحد، والمخلوقات كلها حدها أن تكون خاضعة ذليلة لله، ما تكون معبودة وما تكون آلهة، فإذا كانت آلهة فقد تعدت حدها، وتجاوزت طورها، فأصبحت من الطواغيت، فالحديث دل على ما دلت عليه الآية من أنه لا بد من الكفر بما يعبد من دون الله، ولا بد من الكفر بالطواغيت كلها، أما إنسان يقول: أنا لا أكفر بالطاغوت ولا أتبرأ منه، وإنما أعبد الله، فهذا لا تفيده عبادته؛ لأن هذا شرط لا بد منه، وإذا قال ذلك فإن ماله ودمه لم يحرم؛ لأنه لم يأت بالعاصم الذي يعصم دمه وماله.

مجرد التلفظ بلا إله إلا الله لا يعصم الدم والمال حتى يكفر بما يعبد من دون الله

مجرد التلفظ بلا إله إلا الله لا يعصم الدم والمال حتى يكفر بما يعبد من دون الله قال الشارح رحمه الله: [قوله: (من قال: لا إله إلا الله وكفر يما يعبد من دون الله) اعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم علق عصمة المال والدم في هذا الحديث بأمرين: الأول: قول: لا إله إلا الله عن علم ويقين كما هو قيد في قولنا في غير ما حديث كما تقدم والثاني: الكفر بما يعبد من دون الله، فلم يكتف باللفظ المجرد عن المعنى، بل لابد من قولها والعمل بها. قلت: وفيه معنى {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا} [البقرة:256] قال المصنف رحمه الله تعالى: وهذا من أعظم ما يبين معنى لا إله إلا الله، فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصماً للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله، فإن شك أو تردد لم يحرم ماله ودمه، فيا لها من مسألة ما أجلها، ويا له من بيان ما أوضحه وحجة ما أقطعها للمنازع! قلت: وهذا هو الشرط المصحح لقوله: لا إله إلا الله، فلا يصح قولها بدون هذا الخمس التي ذكرها المصنف رحمه الله أصلاً]. الخمس هي: الأول: القول، أن يقول: لا إله إلا الله. الثاني: العلم، أن يكون عالماً بمعناها. الثالث: العمل، أن يعمل بما دلت عليه. الرابع: الإقرار؛ لأنه قد يقول الإنسان هذا الشيء عن علم، ولكن يجحده بلسانه ظاهراً، وإن تيقن قلبه، فلا بد من الإقرار والانقياد والإذعان. والخامس: الكفر بما يعبد من دون الله، فلا بد أن يجمع الإنسان هذه الأمور الخمسة، وإلا لا يصح إسلامه، فإذا اجتمعت فيه فهذا هو المراد الذي أراده الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلا فاليهود يقولون: لا إله إلا الله، ويعلمون أنه لا إله إلا الله، وقد لا يقع منهم شرك، ومع ذلك لا تنفعهم لا إله إلا الله؛ لأنهم لم يكفروا بما يعبد من دون الله، ولم يتبرءوا منه؛ ولأنهم لم يقروا للرسول صلى الله عليه وسلم بالرسالة، ولم يتابعوه، فلا بد من اجتماع هذه الأمور الخمسة.

وجوب العمل بما دلت عليه كلمة الإخلاص

وجوب العمل بما دلت عليه كلمة الإخلاص قال الشارح رحمه الله: [قلت: وهذا هو الشرط المصحح لقوله: لا إله إلا الله، فلا يصح قولها بدون هذا الخمس التي ذكرها المصنف رحمه الله أصلاً، قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة:193] وقال: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5] أمر بقتالهم حتى يتوبوا من الشرك، ويخلصوا أعمالهم لله تعالى، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإن أبوا عن ذلك أو بعضه قوتلوا إجماعاً. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة مرفوعاً: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله)]. وهذا أيضاً من أعظم ما يبين شهادة أن لا إله إلا الله ويشرحها ويوضحها إذ إن المقصود ليس مجرد التلفظ بها، فالتلفظ بلا عمل لا يفيد شيئاً. وإنما المقصود العمل بمعناها الذي دلت عليه، ومعناها: هو أن يكون التأله كله لله، وتكون العبادة لله وحده، ولا يكون شيئاً منها لغيره، فإن وجد من الإنسان عبادة لغير الله جل وعلا فهو لم يأت بما دلت عليه لا إله إلا الله. وقد علم أن المشركين الذين بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعث بلسانهم، وجاءهم بلغتهم؛ أنهم طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم مطالب منها: أن يسكت عنهم، ولا يقدح في دينهم وفي دين آبائهم، ويسكتوا عنه، وما يتعرضوا له بشيء، فأبى صلوات الله وسلامه عليه ذلك، وذكر أنه لا بد من بيان فساد دينهم والتبرؤ منه، والكفر به، وبغضه، ومعاداته، ومعاداة أهله، فلا بد من ذلك، الله جل وعلا يقول: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22]؛ لأن هذا من معنى لا إله إلا الله. وأخبرنا ربنا جل وعلا أن لنا أسوة في إبراهيم والذين معه، فإبراهيم تبرأ من قومه وما يعبدون، واستثنى من ذلك ربه جل وعلا فقال: {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [الزخرف:26 - 27] يعني: الذي خلقني، وهو الله، وهذا يدل على أن قوم إبراهيم يعبدون الله، ويعبدون معه غيره، فتبرأ من المعبودات غير الله، واستثنى ربه جل وعلا؛ لأنه هو الذي يجب أن تكون له العبادة وحده. وكل الأنبياء جاءوا بهذا الأمر، يدعون قومهم إلى أن يخلصوا عبادتهم لله وحده. والشأن في معرفة العبادة ما هي؟ ومعرفة الإله ما هو؟ وما معنى الإله في اللغة؟ فالإله هو الذي يؤله ويعبد، كل ما ألهه القلب بالحب والخوف والذل فهو إله، فيجب هذا أن يكون لله وحده. والعبادة أنواعها كثيرة جداً، منها الدعاء، ومنها الذبح، ومنها النذر، ومنها طلب البركة، ومنها الخوف والرجاء، وغير ذلك من أنواع العبادة، وكلها يجب أن تكون لله وحده، وكلها دلت عليها كلمة لا إله إلا الله، فلا إله إلا الله دلت على أن العبادة يجب أن تكون لله وحده، فإذا وجد شيء من العبادة لغير الله فإن الإنسان لم يأت بالعبادة لله، فالذي يقول ذلك أو يفعله لم يأت بما دلت عليه لا إله إلا الله، ولم يصحح إيمانه، بل لم يدخل في الإسلام وإن زعم أنه مسلم؛ لأن الإسلام كلٌ لا يتجزأ، إذا وجد بعض منه وبعض تخلف فكأنه لم يأت بشيء، فالله هو أغنى الشركاء عن الشرك، من أشرك معه شيئاً من المخلوقات فإنه يكون لذلك الشريك، والله بريء منه كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك. قال الشارح: [وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله)]. حق لا إله إلا الله هو كل واجب جاء به الرسول، كل ما وجب في دين الإسلام فهو من حق لا إله إلا الله، وإذا ترك الإنسان الواجب فمعنى ذلك أنه يقاتل حتى يأتي به سواء الصلاة والزكاة والصوم والحج وغير ذلك، بل حتى ولو ترك قوم الأذان الذي هو من الأمور الكفائية في الشرع، فلو اتفق أهل بلد على ترك الأذان فإنهم يقاتلون حتى يلتزموا ذلك ويأتوا به باتفاق العلماء؛ لأن هذا من حق لا إله إلا الله، فليست المسألة مجرد قول لا إله إلا الله، ثم يصبح الإنسان يفعل ما يريد كما يغتر بذلك كثير من الجهال، ويظنون أن من قال: لا إله إلا الله فهو موعود بدخول الجنة ويكفي، وقد يترك الصلاة وقد يترك الصوم، وقد يعبد غير الله، بأن يتعلق بالمقبورين، ويسألهم النفع ودفع الضر، أو يتبرك بقبورهم، أو يقدم لهم النذور أو ما أشبه ذلك؛ لأن هذا من الشرك الأكبر الذي ينافي قول لا إله إلا الله، وسبب وقوع ذلك هو جهل الإنسان بمعنى لا إله إلا الله، وكذلك جهله باللغة التي خاطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، ولو عرف ذلك لفهم؛ لأنه من المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال للمشركين: لا إله إلا الله، أبوا ونفروا، وليس المراد عرفوا أنه ليس المراد مجرد التلفظ بها، بل قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:5]، و {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ} [الأعراف:70]، لأنه كان يقول: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]. وهكذا جميع الرسل جاءت بهذا، فلا خير في إنسان مسلم يكون الكفار أعلم منه بمعنى لا إله إلا الله، يجب أن يكون عالماً بمعناها وما دلت عليه، وكذلك بما ينافيها ويناقضها أو ينقص ما دلت عليه من توحيد الله جل وعلا. الإنسان إذا ما عرف الشر لم يعرف الخير، والأمور قد تتبين بأضدادها، فاعتماد هذا الأمر مهم جداً على المسلم، لأن الله جل وعلا أخبرنا أن الإنسان إذا مات على الشرك فهو غير مغفور له، ويجوز للإنسان أن يقع في شيء يظنه عبادة مرضية لله وهي شرك، يجوز أن يقع الإنسان في مثل هذا إذا لم يتعرف على الدين الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبهذا خسر الإنسان نفسه، ومعنى ذلك أنه هلك الهلاك الذي لا يرجى معه سعادة أو صلاح أبداً. ليست المسألة مجرد ذنب من الذنوب، إذا كان الإنسان لا يعبد إلا الله فأمر الذنوب سهل، ولكن المشكل أن يقع الإنسان في الشرك؛ لأن الشرك قطع الله جل وعلا رجاء من وقع فيه نهائياً إذا مات عليه، وأخبر أنه يكون خالداً في النار وما هو بخارج منها، وأن الجنة عليه حرام، إذا كان الأمر هكذا فإن من أشد ما يتعين على الإنسان ويجب عليه أن يعتني به ويتعرف عليه؛ الشرك وأنواعه وأقسامه حتى يتجنبه، وبضدها تتبين الأشياء. ولهذا لما كان الصحابة رضوان الله عليهم قد عرفوا الشرك تماماً صاروا من أبعد الناس عنه، وصاروا يبغضون الشرك أشد البغض، وينفرون منه أشد النفرة، بخلاف الذي يجهله، فإنه قد يقع فيه ويظنه عملاً صالحاً، كما وقع فيه كثير من الناس، بل وقع فيه بعض خواص الناس ممن يفسر كتاب الله ويشرح حديث رسوله صلى الله عليه وسلم؛ بسبب البعد عن عهد النبوة، والجهل باللغة، وإلف الشيء الذي وجد عليه الآباء والأجداد وأهل البلد، فيستبعد أن يكون هذا شركاً فيقع فيه، والإنسان لا يعذر بذلك، لا يقال: إنه جاهل؛ لأن الله جل وعلا قطع الحجة وقطع العذر بإرسال الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنزال القرآن، يقول جل وعلا: {لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19] فمن بلغه القرآن فقد قامت عليه الحجة؛ لأن عليه أن يتعرف على معانيه وما دل عليه، وليس المراد منه أن يقرأه مجرد ألفاظ يتلوها وما يدري ماذا تدل عليه، فهذا لا يجدي شيئاً، ولا يفيد شيئاً، وليس هذا مطلوباً {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء:82]، فالقرآن أنزل للتدبر والعمل. ويجب على الإنسان أن يعتني بهذه الأمور كثيراً؛ ولهذا نرددها ونكررها لأهميتها، وعظم الحاجة إليها.

شرح فتح المجيد [34]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [34] كلمة الإخلاص تعني البراءة من كل ما يعبد من دون الله، وصرف العبادة لله وحده لا شريك له، وقد دل على هذا المعنى آيات كثيرة من كتاب الله، وأحاديث صحيحة من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

العمل بما دلت عليه كلمة الإخلاص

العمل بما دلت عليه كلمة الإخلاص قال الشارح رحمه الله: [وهذان الحديثان تفسير الآيتين: آية الأنفال وآية براءة، وقد أجمع العلماء على أن من قال: لا إله إلا الله، ولم يعتقد معناها، ولم يعمل بمقتضاها؛ أنه يقاتل حتى يعمل بما دلت عليه من النفي والإثبات. قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله في قوله: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله) معلوم أن المراد بهذا أهل عبادة الأوثان دون أهل الكتاب لأنهم يقولون: لا إله إلا الله، ثم يقاتلون ولا يرفع عنهم السيف. وقال القاضي عياض: اختصاص عصمة المال والنفس بمن قال: لا إله إلا الله تعبير عن الإجابة إلى الإيمان، وأن المراد بذلك مشركو العرب وأهل الأوثان، فأما غيرهم ممن يقر بالتوحيد فلا يكتفى في عصمته بقول: لا إله إلا الله إذ كان يقولها في كفره. انتهى ملخصاً. وقال النووي: لابد مع هذا من الإيمان بجميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كما جاء في الرواية (ويؤمنوا بي وبما جئت به) وقال شيخ الإسلام لما سئل عن قتال التتار فقال: كل طائفة ممتنعة عن التزام شرائع الإسلام الظاهرة من هؤلاء القوم أو غيرهم فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين، وملتزمين بعض شرائعه كما قاتل أبو بكر والصحابة رضي الله عنهم مانعي الزكاة، وعلى هذا اتفق الفقهاء بعدهم، قال: فأيما طائفة امتنعت عن بعض الصلوات المفروضات أو الصيام أو الحج أو عن التزام تحريم الدماء أو الأموال أو الخمر أو الميسر أو نكاح ذوات المحارم أو عن التزام جهاد الكفار أو غير ذلك من التزام واجبات الدين ومحرماته التي لا عذر لأحد في جحودها أو تركها التي يكفر الواحد بجحودها؛ فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها، وإن كانت مقرة بها، وهذا مما لا أعلم فيه خلافاً بين العلماء، قال: وهؤلاء عند المحققين ليسوا بمنزلة البغاة، بل هم خارجون عن الإسلام. انتهى. قوله: (وحسابه على الله) أي: الله تبارك وتعالى هو الذي يتولى حساب الذي يشهد بلسانه بهذه الشهادة، فإن كان صادقاً جازاه بجنات النعيم، وإن كان منافقاً عذبه العذاب الأليم، وأما في الدنيا فالحكم على الظاهر، فمن أتى بالتوحيد، ولم يأت بما ينافيه ظاهراً، والتزم شرائع الإسلام وجب الكف عنه]. هذا يدل على أن الحكم على الظاهر في الدنيا، أما ما في القلب فأمره إلى الله جل وعلا، إن كان الإنسان صادقاً في قوله وعمله، فهذا هو المخلص الذي يكون فائزاً بوعد الله جل وعلا، وبجزائه يوم الدين. أما إن كان في قلبه خلاف ما يظهره بعمله وبقوله، فسوف يحاسبه الله جل وعلا على ذلك يوم يلقاه، وليس له من أجر ثوابه وعمله شيء، وإنما يعاقب عقاب الكفار والمنافقين؛ لأن الأعمال الظاهرة تكون تبعاً لما في القلب الباطن. ولهذا أخبر الله جل وعلا أن الذي يريد الدنيا وزينتها ليس له في الآخرة من نصيب، ومعنى يريد: أن تكون نيته وقصده، وإن عمل بخلاف ما في قلبه موافقاً ما جاء به الشرع، فإنما العبرة عند الله جل وعلا بالإرادة وبالنية والقصد، والعبرة عند المسلمين على الأحكام الظاهرة، فمن أظهر خيراً وجبت محبته وأخوته، وإن كان مبطناً شراً فالله يتولى حسابه، فهو الذي يحاسبه على ذلك فيصبح من المنافقين الذين يظهرون الخير ويبطنون الشر، وهم شر من الكفار الذين يصرحون بالكفر ويظهرونه، وإذا كان يوم القيامة صاروا تحتهم في طبقات النار كما قال الله جل وعلا: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145]، وقد كانوا يصلون مع المسلمين ويجاهدون ويؤدون الزكاة ومع ذلك يكونون في الدرك الأسفل من النار؛ لأنهم أظهروا وفاقاً وأبطنوا نفاقاً، وهم يخادعون الله والذين آمنوا ولا يخدعون إلا أنفسهم، يظنون أنهم يخادعون وأنهم أهل العقل، وهم في الواقع أطاعوا شياطينهم وغروا أنفسهم، وسولت لهم أنفسهم أمراً قادهم إلى جهنم -نسأل الله العافية-. وعلى هذا فالكفار الأصليون الذين لم يدخلوا في الإسلام إذا قال أحدهم: لا إله إلا الله وجب الكف عنه حتى ينظر هل يلتزم بما دلت عليه هذه الكلمة أو لا يلتزم؟ فإن التزم بذلك وحكم بإسلامه، وإلا لم يفده مجرد قوله: لا إله إلا الله، فمجرد القول لا يكفي، وإنما العبرة بالعمل الذي يتبع العقيدة، والعلم الذي في القلب.

بيان ما تدل عليه كلمة الإخلاص

بيان ما تدل عليه كلمة الإخلاص قال الشارح رحمه الله: [قلت: وأفاد الحديث أن الإنسان قد يقول: لا إله إلا الله، ولا يكفر بما يعبد من دون الله، فلم يأت بما يعصم دمه وماله كما دل على ذلك الآيات المحكمات والأحاديث. قوله: وشرح هذه الترجمة ما بعدها من الأبواب]. يعني: أنه سيذكر بعد هذا الباب أبوباً كثيرة كلها توضح هذا المعنى وتبينه، والترجمة هي قوله: باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله، ثم لما ذكر الآيات والحديث قال: وشرح هذه الترجمة ما بعدها من الأبواب يعني: أن الأبواب التي ستأتي بعضها في ذكر بعض الشركيات، وبعضها في ذكر بعض التعلقات على غير الله، وكلها تبين معنى لا إله إلا الله وتفسره؛ لأن الأمور تتبين بأضدادها، وسيبدأ بعد ذلك بحكم الذي يعلق تميمة أو يتبرك بشجرة أو حجر أو قبر، يطلب نفعه أو دفع الضر، بدء بهذا لأن هذا من الشرك الواضح الجلي، وهو أيضاً يفسر لا إله إلا الله كما سيأتي. قال الشارح رحمه الله: [قلت: وذلك أن ما بعدها من الأبواب فيه ما يبين التوحيد ويوضح معنى: لا إله إلا الله، وفيه أيضاً: بيان أشياء كثيرة من الشرك الأصغر والأكبر، وما يوصل إلى ذلك من الغلو والبدع مما تركه من مضمون لا إله إلا الله، فمن عرف ذلك وتحققه تبين له معنى لا إله إلا الله، وما دلت عليه من الإخلاص ونفي الشرك، وبضدها تتبين الأشياء، فبمعرفة الأصغر من الشرك يعرف ما هو أعظم منه من الشرك الأكبر المنافي للتوحيد، وأما الأصغر فإنما ينافي كماله، فمن اجتنبه فهو الموحد حقاً، وبمعرفة وسائل الشرك -والنهي عنها لتجتنب- تعرف الغايات التي نهى عن الوسائل لأجلها، فإن اجتناب ذلك كله يستلزم التوحيد والإخلاص بل يقتضيه، وفيه أيضاً من أدلة التوحيد إثبات الصفات وتنزيه الرب تعالى عما لا يليق بجلاله، وكل ما يعرف بالله من صفات كماله وأدلة ربوبيته يدل على أنه هو المعبود وحده، وأن العبادة لا تصلح إلا له، وهذا هو التوحيد، ومعنى شهادة أن لا إله إلا الله]. الله جل وعلا أخبر أنه هو الخالق وحده، وهو الذي خلق السماوات والأرض، وهو الذي ينزل المطر وينبت النبات، وهو الذي يجب أن تكون العبادة له، وكل هذا من الكمالات التي يجب أن تعتقد لله جل وعلا. وإذا صرف من ذلك شيء لغيره فإنه تنقص لله جل وعلا، فالمشرك الذي يدعو غير الله من مقبور أو أحجار أو غيرها هو يتنقص الله جل وعلا بما ينافي كماله؛ لأنه هو الإله وحده، وكونه يتعلق بغيره فإنه يصرف حقه لغيره؛ ولهذا إذا ذكر الله جل وعلا الشرك يقول: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الطور:43] ينزه نفسه عن شركهم؛ لأن الشرك تنقص لله جل وعلا، ودل على أنه يجب أن تثبت له صفات الكمال، وهذا من باب المفهوم، وقد جاءت نصوص من كتاب الله جل وعلا وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم في وجوب اعتقاد اتصاف الرب جل وعلا بالصفات التي نص عليها، والتي تعرف بها إلى عباده؛ لأنه جل وعلا غيب، لا يطلع عليه أحد، ولم يره أحد، وإنما تعرف إلى عباده بأوصافه التي يصف نفسه بها، أو يصفه رسوله صلى الله عليه وسلم. ومنها: كونه جل وعلا الإله وحده، والتأله له وحده، ومنها: كونه جل وعلا الخالق وحده، والرازق وحده، لا شريك له في ذلك، ومنها كونه جل وعلا مستوياً على عرشه، عالياً على خلقه، ومنها كونه جل وعلا عالماً بكل شيء لا يخفى عليه شيء، يعلم ما في ضمائر عباده، وما يكنون في قلوبهم، ومنها: كونه جل وعلا يحب المؤمنين، والتوابين، والمتطهرين، ومنها: كونه جل وعلا كلم رسله وأنزل كلامه عليهم الذي هو نور وهدى لمن آمن به واتبعه، إلى غير ذلك من أوصافه التي جاءت في كتاب الله جل وعلا وفي أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم وهي من التوحيد. ولهذا السبب قسم العلماء التوحيد إلى أقسام ثلاثة: القسم الأول: توحيد الربوبية الذي يدل على أنه من فعل الله جل وعلا وحده كالخلق والرزق والأمر والنهي والشرع أي: أنه هو الذي يشرع وحده، فمن نازع الرب جل وعلا في شرع يضعه للناس فقد جعل نفسه شريكاً لله جل وعلا، ومن اتبع الشرع الذي يشرعه المخلوق فقد اتخذ رباً غير الله جل وعلا، فهذا من خصائص الربوبية. القسم الثاني: توحيد الأسماء والصفات، مثل عليم وحليم وكريم، وكونه جل وعلا يسمع ويرى، وأنه مع عباده جل وعلا، يعلم ما في ضمائرهم ويشاهدهم، ولا يخفى عليه خافية، وهو محيط بهم، وهم في قبضته، وكونه جل وعلا له وجه كما وصف جل وعلا نفسه بذلك، وله يدان، وأنه يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، وأن الإنسان إذا تصدق بصدقة من كسبٍ طيب -والله لا يقبل إلا طيباً- فالله يتقبلها بيمينه جل وعلا فيربيها لصاحبها حتى تكون مثل الجبل وإن كانت تمرة، إلى غير ذلك من الأوصاف التي يذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم للمؤمنين ليؤمنوا بها، هذا يسمى توحيد الأسماء والصفات. القسم الثالث: توحيد العبادة التي تصدر من العباد أنفسهم: نحو الدعاء والرجاء والخوف والإنابة والنذر وغير ذلك. وهذه الأقسام مترابطة، لا ينفك بعضها عن بعض؛ فمن أتى بقسم منها ولم يأت بالبقية لا يصح دينه، ولا يصح إسلامه، فلا بد منها جميعاً.

معنى قوله تعالى: (قل ادعوا الذين زعمتم من دونه)

معنى قوله تعالى: (قل ادعوا الذين زعمتم من دونه) قال الشارح رحمه الله: [بيان أن هذا هو الشرك الأكبر]. آية الإسراء هي قوله جل وعلا: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:56 - 57] وقد ذكر المؤلف رحمه الله ما روى أهل التفسير من أن هذه الآية نزلت في عيسى ابن مريم وأمه والعزير، وعيسى عليه السلام نبي كريم، بل هو من أولي العزم من الرسل، وأمه صديقة، وعزير نبي من الأنبياء، فمن الناس من يدعو عيسى، ومنهم من يدعو العزير، ومنهم من يدعو مريم، ويدعونهم للشفاعة، وليس ذلك لأنهم ينزلون المطر، وينبتون النبات، ويحيون الموتى، لكن يدعونهم للشفاعة، ويطلبون منهم الشفاعة، ويقولون: اشفعوا لنا عند الله. أخبر الله جل وعلا عن هؤلاء المدعوين أنهم يتسابقون بالخيرات، كل واحد منهم يجتهد في العمل الصالح لعله يكون أقرب إلى الله من الآخر، يعني: أنهم يتنافسون في فعل الطاعة، ويتسابقون بفعل الطاعات ليسبق كل واحد منهم الآخر، وكل واحد يريد أن يكون هو الأقرب إلى الله. والمعنى أنهم فقراء ما يملكون شيئاً مما يدعون من أجله، بل هم عباد يدعون الله كما أنكم أنتم عباد تدعونهم وتدعون الله، فهم مثلكم، فتبين بهذا أن الدعوة وطلب الشفاعة عبادة يجب أن تكون موجهة إلى الله جل وعلا وحده. والقول الثاني: أنها نزلت في قوم من الجن كانوا مشركين، وأناس من الإنس يدعونهم، فأسلم الجن والإنس لم يعلموا بذلك، فبقي الإنس على دعوتهم وشركهم، وقد أسلم الجن وصاروا يتقربون ويتسابقون إلى الله جل وعلا بالعبادة. والمعنى واحد سواء نزلت في هؤلاء أو هؤلاء، وكل مدعو يدعى من دون الله فهو لا يستطيع كشف الضر الذي نزل بالداعي، ولا يستطيع تحويله من موضع من جسده إلى موضع آخر، لا يستطيع إزالته بالكلية، ولا يستطيع تخفيفه، والمعنى أنهم لا يملكون شيئاً مما يدعون من أجله، فتصبح دعوة الداعي سبهللاً ضائعة لا فائدة فيها، بل فيها الضر لأنها شرك يعود على الداعي بالضر، وهذا في كل مدعو من دون الله جل وعلا، وإن كانت الآية نزلت في قوم صالحين كما قال المؤلف سواء كانوا من الأنبياء أو كانوا من الجن الذين كان الإنس يعبدونهم قبل إسلامهم، قال الله جل وعلا: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6]، وسواء كان هذا أو هذا فكل مدعو من دون الله جل وعلا فإنه لا يملك نفع الداعي ولا يملك دفع الضر عنه، وإذا نزل به الضر ما يستطيع رفعه، ولا تخفيفه، ولا تحويله من مكان إلى آخر.

معنى قوله تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله)

معنى قوله تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) قال الشارح رحمه الله: [ومنها آية براءة بين فيها أن أهل الكتاب اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، وبين أنهم لم يؤمروا إلا بأن يعبدوا إلهاً واحداً مع أن تفسيره الذي لا إشكال فيه: طاعة العلماء والعباد في المعصية، لا دعاؤهم إياهم]. الآية في أهل الكتاب من اليهود والنصارى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31] والأحبار هم العلماء، والرهبان هم العباد الذين يتعبدون لله جل وعلا. وبين أن تفسيرها الواضح جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث عدي بن حاتم، وفسرها بأنها طاعتهم في معصية الله، وكان عدي بن حاتم نصرانياً، فسمع الرسول صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية، فقال له: يا رسول الله! إننا لم نعبدهم، قال: (بلى، ألم يحرموا عليكم الحلال فحرمتموه، ويحلوا لكم الحرام فأحللتموه؟ قال: بلى، قال: فتلك عبادتهم) فتبين بهذا أن طاعة المخلوق في معصية الخالق جل وعلا عبادة لذلك المخلوق، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الله جل وعلا، فمن أطاع مخلوقاً في معصية الله وهو يعلم أنها معصية فقد اتخذه رباً كما في هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا} [التوبة:31] والأرباب جمع رب، والرب معناه هنا: المعبود الذي يعبد ويتأله، فدل على أن الشرك يكون في الطاعة، وأن الطاعة يجب أن تكون لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولمن أمر بطاعة الله وطاعة رسوله. وأما إذا أمر المخلوق بمعصية الخالق جل وعلا فلا طاعة له، مهما كان سواء كان والداً أو غير والد، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الله جل وعلا، فمن أطاع ذلك المخلوق في معصية الله، فقد اتخذه رباً من دون الله جل وعلا، وليس المعنى أنهم يعبدونهم بمعنى يصلون لهم ويسجدون لهم، لكن يكفي كونهم يطيعونهم في تحليل الحرام، وتحريم الحلال، هذه هي عبادتهم.

معنى قوله تعالى: (وإذا قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون) الآية

معنى قوله تعالى: (وإذا قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون) الآية قال الشارح رحمه الله: [ومنها: قول الخليل عليه السلام للكفار: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [الزخرف:26 - 27] فاستثنى من المعبودين ربه، وذكر سبحانه أن هذه البراءة وهذه الموالاة تفسير شهادة أن لا إله إلا الله فقال: {وإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:26 - 28]. والكلمة عبارة عن هذا المعنى الذي هو التبرؤ من المعبودات غير الله جل وعلا، واتخاذ الرب جل وعلا معبوداً وحده، وهذا هو معنى لا إله إلا الله؛ لأن قول القائل: (لا إله) نفي، والنفي في ضمنه التبرئ، وقوله: (إلا الله) إثبات الإلهية لله جل وعلا وحده، فهو ينفيها عن كل ما سوى الله، ويثبتها لله وحده، فهذه هي الكلمة التي جعلها الله جل وعلا باقية في عقب إبراهيم في ذريته؛ لأن ذرية إبراهيم فيهم الأنبياء، وآخرهم وخاتمهم محمد صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين هو من ذرية إبراهيم. وقد بعث الله جل وعلا في العرب قبله أباه إسماعيل بن إبراهيم فإنه نبي أرسله الله جل وعلا إلى العرب يعني: أهل مكة وغيرهم، فدعاهم إلى توحيد الله، ونبينا صلى الله عليه وسلم من ولده من ذريته. وهذه الكلمة لم تزل باقية من وقت إبراهيم إلى اليوم في ذريته، جعلها كلمة باقية فيهم، وهي التبري من الشرك وأهله، والإخلاص لله جل وعلا وحده.

معنى قوله تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله)

معنى قوله تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله) من المسائل التي توضح معنى لا إله إلا الله وتفسرها: الآية التي في سورة البقرة وهي قوله جل وعلا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:165 - 167] أخبر أنهم لا يخرجون من النار بسبب أنهم اتخذوا مع الله أنداداً يحبونهم كحبهم لله تعالى، وهذا الحب هو حب التأله الذي يتضمن الخوف والرجاء والذل وطلب الرغبة من هذا المحبوب؛ لأن هذا لا يجوز أن يكون لغير الله جل وعلا، فحب التأله الذي يتضمن الذلة والخوف والرغبة والرهبة لا يجوز أن يكون لمخلوق، ويجب أن يكون خالصاً لله جل وعلا، فإذا جعل هذا الحب أو بعضه لغير الله جل وعلا صار هذا الذي عمل ذلك مشركاً شركاً أكبر، وإذا مات عليه يكون خالداً في النار كما أخبر الله جل وعلا في هذه الآيات، وهذا هو معنى قول: لا إله إلا الله يعني: أن الحب الذي فيه الذل والخوف والرغبة يجب أن يكون لله وحده، وهذا هو التأله، وهذا هو الذي نفي عن غير الله جل وعلا في كلمة الإخلاص وأثبت لله وحده. وأخبر أن هؤلاء يحبون أندادهم كحبهم لله، فدل على أنهم يحبون الله حباً شديداً، ولكن هذا الحب لم ينفعهم لأنه حب شركي، أشركوا مع الله غيره في هذا الحب، فصار هذا الحب غير نافع بل هو ضار، بل هو الشرك الذي يفعله المشركون، ولم يذكر الله جل وعلا في كتابه ولا ذكر المؤرخون الذين يذكرون أحوال الناس من القدم أن أحداً من الخلق اعتقد أن مخلوقاً من المخلوقات شريكاً لله في الخلق والإحياء والإماتة والتصرف، وإنما الشرك الذي وقع في بني آدم هو شرك إما في الحب أو في الوساطة بأن يتخذ هذه المحبوبات أو المدعوات وسائط يسألها أن تقربه إلى الله زلفاً يعني: يطلب منها الشفاعة كما هو الواقع عند كثير من الناس، يتجهون إلى من هو رميم في قبره، وقد أكله الدود، وتفتت عظامه، ويسألونه أن يشفع لهم عند الله، وربما سألوه أموراً في الدنيا، ويعتقدون أنه يستطيع أن يفعل ما يطلبونه منه، وهذا أمر توارثوه وليس لهم عليه أي دليل، بل الأدلة من العقل ومن كتاب الله ومن سيرة الرسل تدل على أنهم ضلوا ووضعوا السؤال في غير موضعه، وقد قال الله جل وعلا: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:5 - 6] يعني: أن الاستجابة تحصل لهم إذا حشروا وبعثهم الله جل وعلا، وجمع الداعي والمدعو، فيسأل المدعو ويقال له: هؤلاء الذين يدعونك اتخذوك شركاء مع الله، هل أمرتهم بذلك؟ فيكفر بهم ويتبرأ منهم، ويعلن بأنه غافل عن ذلك وليس له علم، وأنه كافر بهذه الدعوة، ثم يكون عدواً لهذا الداعي، فيصبح بعضهم يلعن بعضاً، هذه هي نتيجة من يتجه بالدعاء أو بالحب الذي هو حب الخضوع والذل إلى غير الله جل وعلا كما قال الله جل وعلا في قصة إبراهيم: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [العنكبوت:25] يعني: أن المدعو يلعن الداعي، والداعي يلعن المدعو كما في هذه الآية {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} [البقرة:167] ((لَوْ أَنَّ)) يعني: يا ليت لنا كرة، يا ليت لنا رجعة إلى الدنيا فنتبرأ من هؤلاء الذين كنا ندعوهم كما تبرءوا منا، ولكن هيهات انتهى الأمر! فهذا خبر من الله جل وعلا بما سيقع لهؤلاء الذين يدعون غير الله، ومن أصدق من الله خبراً، تعالى الله وتقدس. فالمقصود أن هذه الآية من الآيات التي توضح معنى لا إله إلا الله وتبينه، وما أكثر الآيات التي توضح ذلك وتبينه؛ لأن هذا هو أصل الدين، وأصل دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد بين هذا غاية البيان حتى لا يبقى للناس حجة، وقد قامت حجة الله على خلقه بإرسال الرسول، وإنزال الكتاب عليه، فإذا وقع الإنسان في شيء من هذه الأمور فاللوم عليه؛ لأن التقصير حصل منه، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فقد وضح وبلغ، وبين غاية البيان، وقامت الحجة على جميع الخلق.

الأمور الواجبة على من يتكلم بكلمة الإخلاص

الأمور الواجبة على من يتكلم بكلمة الإخلاص قال الشارح رحمه الله: [ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم (من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه وحسابه على الله) وهذا من أعظم ما يبين معنى لا إله إلا الله، فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصماً للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله، فإن شك أو توقف لم يحرم ماله ودمه. فيا لها من مسألة ما أعظمها وأجلها، ويا له من بيان ما أوضحه، وحجة ما أقطعها للمنازع]. هذا أيضاً من الأمور التي توضح معنى لا إله إلا الله وتبينه، وذكر المؤلف رحمه الله خمسة أمور لا بد أن تجتمع فيمن يتكلم بهذه الكلمة حتى ينتفع بقول: لا إله إلا الله: الأمر الأول: النطق بها، لا بد أن ينطق ويتكلم بها، أما لو علم معناه واعتقده في قلبه، ولم يتلفظ بها، فإنه لا يعد مسلماً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله)، وفي رواية: (حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله) لا بد من قولها، والله جل وعلا يقول: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة:136]، والإيمان بالله جل وعلا هو عبادته، أن يعبد ويمتثل أمره، ويجتنب نهيه جل وعلا. ثم مع النطق بها لا بد من معرفة معناها؛ لأنه لو تكلم بها وهو لا يعرف المعنى فإنه لا يفيده شيئاً، لا بد من معرفة أن معناها: نفي التأله عن غير الله، وإثبات التأله لله وحده، وأنه لا يجوز أن يكون شيء من التأله الذي هو العبادة لغير الله، فإن حصل تردد في هذا أو شك فإسلام الإنسان غير صحيح. الأمر الثالث: الإقرار، أن يقر بذلك، والإقرار ضد الجحود، فإن الإنسان قد يكون قائلاً لها وعالماً بمعناها، ولكن يجحد ذلك تكبراً أو عناداً أو لأمور أخرى غير ذلك. والأمر الرابع: أن يكفر بما يعبد من دون الله، والكفر بما يعبد من دون الله معناه: مفارقته وبغضه، وكراهته والتبري منه ومن عابده، هذا معناه كما قال الله جل وعلا: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256]. الأمر الخامس: الانقياد والتسليم، يسلم بذلك وينقاد، ولا يكون عنده تردد أو تضجر من هذا أو رغبة في غيره، بل يسلم وينقاد ويذعن لذلك ويغتبط به، يفرح به ويكون محباً لهذا، ويكون متيقناً بصحته، وأن النجاة لا تكون إلا بذلك. فلابد من هذه الأمور حتى ينتفع الإنسان بهذه الكلمة العظيمة التي تفرق بين المؤمن والكافر، وهي التي أرسل بها الرسل من أولهم إلى آخرهم، وهي التي من أجلها خلقت الجنة والنار، وهي التي عليها يثيب الله جل وعلا، ويعاقب على هذه الكلمة؛ ولهذا أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه أُمِر بقتال الناس حتى يقولوها، فإذا قالوها امتنع من قتالهم، وحرمت أموالهم ودماؤهم إلا بحقها، وحق هذه الكلمة كل واجب أوجبه الله جل وعلا على عباده؛ لأنها في الواقع هي الدين كله، فلهذا احتيج إلى إيضاحها لمن لا يعرفها، وإلا فهي واضحة وجلية، ولكن قد يكون الإنسان غافلاً أو يكون جاهلاً أو يكون في بيئة لا تساعده على معرفتها فيحتاج إلى بيانها له، وبيان معناها، وإيضاح ذلك، وهذا أمر حتمي، فواجب على من عرف ذلك أن يوضحه ويبينه، ويجب على من لا يعرفه أن يبحث عنه ويطلبه، ويطلب من يبين له ويوضحه، وهو -والحمد لله- واضح جلي من كتاب الله، وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، وسيرته.

شرح فتح المجيد [35]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [35] من الشرك بالله لبس الحروز والتمائم، واعتقاد أنها تدفع الضر أو ترفعه، وقد يكون تعليقها شركاً أكبر أو أصغر بحسب ما يقوم في قلب من تعلقها، وقد جاءت الأحاديث الكثيرة في التحذير من ذلك وبيان أنه شرك بالله تعالى يجب الابتعاد عنه.

من صور الشرك لبس الحلقة والخيط لرفع البلاء ودفعه

من صور الشرك لبس الحلقة والخيط لرفع البلاء ودفعه قال المصنف رحمه الله: [باب: من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه]. بعد ما انتهى المؤلف من باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله قال في آخره: وشرح هذه الترجمة ما بعدها من الأبواب، وهذا أول باب بدأ فيه بالشرح، فهو يذكر ما ينافي التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله أو ينافي كمالها، وبدأ بلبس الحلقة أو الخيط لأجل دفع البلاء الذي لم ينزل، أو لأجل رفعه إذا كان نازلاً في الإنسان. فمن لبس شيئاً من الملبوسات سواء كان خيطاً، أو خرزات أو نحاساً أو فضة أو تمائم فيها طلاسم أو قراءات أو غير ذلك لأجل هذا، فقد وقع في المحذور، وقع إما فيما ينافي أصل التوحيد أو فيما ينافي كماله الواجب الذي يجب على كل عبد، فيصبح معرضاً لعقاب الله أو معرضاً للخلود في النار، فذكر هذا، وسيأتي ذكر أشياء كثيرة كلها توضح هذا المعنى وتبينه. وهذه الأمور مما يجب على عموم المسلمين جميعاً أن يعرفوها ويعلموها ويجتنبوها؛ لأنها تنافي أصل دينهم، وقد حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وطريقة المؤلف أنه إذا ذكر هذه الأشياء استدل عليها بآيات من كتاب الله، ثم أتبع ذلك بما يوضح الآيات من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس بعد ذلك استدلال، لأن هذا هو الأصل الذي يجب أن يرجع إليه المسلمون: كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والإنسان لا يسأل عن غير ذلك، فلا يسأل عن عقله ولا عن قياسه وفكره، ولا عن أوضاعه التي يتعارف عليها الناس ويجد عليها أهل بلده، بل هذه قد تضره ولا تنفعه، وإنما السؤال عن معرفة الله جل وعلا، من يعبد؟ وبأي شيء يعبده؟ ومن الذي جاءه بما يتعبد به؟ هذه الأمور الثلاثة هي التي يسأل عنها كل إنسان يوضع في قبره، يقال له: من ربك؟ وما دينك؟ وما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فإن كان متيقناً عارفاً عالماً بذلك فإنه يجيب بكل طمأنينة فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا ينتهي السؤال عند ذلك، بل يقال له بعد ذلك: وما يدريك؟ يعني: هات الدليل على قولك! فيقول: قرأت كتاب الله وآمنت به واتبعت، عند ذلك يكون هذا دليل مقنعاً، وهذا هو الدليل، ولا يقول: نظرت بعقلي، أو نظرت في فكري، أو أخذت ذلك عن شيخي، أو عن أهل بلدي، أو غير ذلك، وإذا قال ذلك فهو هالك. أما إذا كان غير عالم بذلك، وغير موقن به، فإنه يتلعثم في الجواب ويتردد ويقول: ها ها لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، عند ذلك يقال له: لا دريت ولا تليت، يعني: لا تعلمت وعرفت، ولا قرأت كتاب الله القراءة التي تعلم بها ما خلقت من أجله، فيكون هذا مبدأ العذاب، فيضربه الملك الذي يسأله بمطراق من النار يلتهب عليه قبره ناراً، ويصيح صيحة يسمعه كل من يليه من المخلوقات إلا الجن والإنس فإنهم لا يسمعونه؛ لأن عذاب القبر أخفي عن الجن والإنس لأنهم هم المكلفون وهم المرادون به، ولو ظهر ما استطاع أحد أن يدفن أحداً كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لولا ألا تدافنوا لدعوت الله أن يريكم عذاب القبر)، ولكن لو ظهر ذلك لما استطاع أحد أن يذهب إلى المقابر لشدة الهول! والمقصود أن هذا أمر واجب متعين حتمي لا بد منه، ويجب على الإنسان أن يعتني به أشد العناية، وقد كثرت هذه الأمور الشركية في الناس من تعليق التمائم ولبس الخيوط والحلق وما أشبه ذلك، ويزعمون أن بها الشفاء أو بها دفع الجن أو دفع عيون الناس أو ما أشبه ذلك، وهذا كله اعتقاد باطل، بل هو إما أن يكون منافياً لأصل الدين الإسلامي أو منافياً لكماله الواجب الذي يجب على الإنسان أن يعمله ويكمل به دينه. فبدأ بذلك تفسيراً له، وقوله: لدفع البلاء أو رفعه، يعني: أنه إذا لبس هذه الأمور من أجل دفع الشر الذي يتوقع نزوله أو من أجل رفعه بعد حصوله، أما دفعه قبل أن ينزل فبأن يعتقد أن هذا يمنع من إصابة العين أو إصابة الجن أو إصابة حسد الحاسد أو ما أشبه ذلك، أو أنه يمنع الروماتيزم كما يقوله الجهلة الذين لا يعرفون شيئاً من دين الله، أو أنه يزيل المرض الذي يسمى واهنة أو يسمى ريحاً أو غير ذلك، فمن فعل ذلك فإنه قد وقع في الشرك، فإما أن يكون شركاً أكبر منافياً للتوحيد أو يكون شركاً أصغر، فإن كان يعتقد أن هذه الملبوسات من خيوط أو خرزات وحروز وما أشبه ذلك تنفع بنفسها وتدفع، فهذا شرك أكبر يكون منافياً لأصل التوحيد، وإن اعتقد أنها مجرد سبب، والنافع والدافع هو الله جل وعلا؛ فهذا شرك أصغر يكون منافياً لكمال التوحيد، وإن كان اعتقد أن هذا قد يكون سبباً فإن الأسباب لا يجوز تعاطيها إلا إذا كانت مباحة، والأسباب المحرمة لا يجوز فعلها، وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن شفاء هذه الأمة ليس فيما حرم عليها، وإنما فيما أباحه الله جل وعلا.

معنى قوله تعالى: (قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر)

معنى قوله تعالى: (قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر) قال المصنف: [وقوله تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر:38]]. بعد ما أخبر الله عن الكفار أنهم إذا سئلوا: من خلق السماوات والأرض؟ فإنهم يقرون بأنه الله جل وعلا لا شريك له في ذلك، ولا معين له ولا مظاهر له في ذلك. أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسألهم من باب التقرير والتحدي وإبطال دعوتهم عن المدعوات التي يدعونها من الآلهة بأنواعها، وقد علم أن آلهتهم التي يدعونها مختلفة، منها: ما هو شجر، ومنها ما هو حجر، ومنها ما هو ميت مقبور، ومنها ما هو ملك من الملائكة، ومنها ما هو كوكب من الكواكب، ومنها ما هو نبي أو ولي من الأولياء، وكلها داخلة فيما أمر الله جل وعلا به نبيه أن يوجه السؤال إليهم، يقول: ((أَفَرَأَيْتُمْ)) أي: أخبروني عن هذه المدعوات التي تدعونها من دون الله، إن أرادني الله بضر، أي: بمرضٍ أو ألمٍ أو مصيبة أو غير ذلك؛ هل تستطيع أن ترد هذا وتمنعه؟! أو أرادني برحمة، أي: بخير وإحسان وصحة ونصر وتأييد وقوة وعزة وعلم وخير؛ هل تستطيع أن تمنع ذلك؟! الرسول صلى الله عليه وسلم وجه إليهم هذا السؤال فسكتوا؛ لأنهم يعلمون أنها لا تنفع ولا تدفع، وما استطاعوا أن يقولوا: نعم، بل علموا يقيناً أنها لا تنفع، وفي هذا إبطال دعواهم، فإذا كانت هذه المدعوات لا تنفع في منع البلاء، ولا تدفعه بعد حصوله، فأي فائدة في دعوتها؟! ثم أخبر أن الكافي والحسيب الذي يكفي عبده ويدفع عنه البلاء قبل وقوعه، ويرفعه عنه إذا وقع فيه هو الله وحده، وقد اعترفوا بهذا وأقروا به، اعترفوا بأن الذي يكشف الضر ويجيب المضطر هو الله وحده لا شريك له في ذلك، وبهذا تبطل دعوتهم ويبطل شركهم، ولكنهم يكابرون ويعاندون، ويأبون أن يتركوا ما هم عليه؛ لأنهم قد وجدوا آباءهم كذلك يفعلون، وليس لهم حجة إلا أنهم وجدوا آباءهم عليه، فضرهم تعظيم الآباء وتقليدهم، فمنعهم ذلك من قبول الحق واتباعه، هذا هو السبب فقط وإلا فقد تيقنوا أنها لا تنفع لا في دفع البلاء ولا في رفعه بعد حصوله. والخيوط والخرز والتمائم شرك من أي نوع كانت، سواء كانت من فضة كما يفعلها بعض الناس، ويزعم أن فيها بركة، أو من نحاس وصفر كما يفعله بعض الناس ويزعم أنها تشفي من الروماتيزم أو أنها مثلاً تنفع من عين الإنسان، أو تنفع من إصابة الجن، أو ما أشبه ذلك كما يعتقده كثير من الجهلة، وهي سنة المشركين الذين كانوا يتعلقون بغير الله جل وعلا، ومن فعل شيئاً من ذلك فهو داخل في هذه الآية؛ لأن هذه الآية عامة في كل ما فيه شيء من هذا المعنى من الدعوة أو الاعتقاد أو الادعاء، وإلا فهي لا تنفع في جلب شيء من الخير، ولا في دفع شيء من الشر، وأمرها في هذا ظاهر وواضح. فتبين بهذا أن من فعل ذلك فإنه مشابه للمشركين في دعوتهم غير الله جل وعلا، وإن كان هذا ليس من الشرك الأكبر إذا اعتقد أن هذا مجرد سبب كما مضى، أما إذا اعتقد أن هذه المعلقات بنفسها تدفع وتمنع فإن هذا كالذي يدعو اللات والعزى فمكون مشركاً شركاً أكبر، ولكن هذا لا يحصل من عاقل ولا من مسلم، وإنما جهلة المسلمين قد يظنون أنها أسباب، أو فيها شيء من الخصائص جعلها الله فيها وما أشبه ذلك، ومع ذلك فهذا من الشرك الأصغر الذي يجب أن يجتنب، ويجب أن ينزه الإنسان دينه ويطهره من ذلك، وإلا فقد تعرض لعقاب الله جل وعلا، ويكون ذلك وسيلة إلى الشرك الأكبر، ويجب أن يعلق رجاءه وطلبه بالله وحده جل وعلا، وأن يتخلى عن كل مخلوق من مخلوقات الله جل وعلا، فهي لا نفع فيها، وإنما هي متعبدة أو مخلوقة للمنافع التي ينتفع بها فيما أباحه الله جل وعلا وأذن فيه.

حديث: (رأى رجلا في يده حلقة من صفر)

حديث: (رأى رجلاً في يده حلقة من صفر) قال المصنف: [عن عمران بن حصين رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً في يده حلقة من صفر فقال: ما هذه؟ قال: من الواهنة فقال: انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهناً، فإنك لو مت وهى عليك ما أفلحت أبداً) رواه أحمد بسند لا بأس به]. هذا الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده، ورواه الحاكم في مستدركه، وقال: على شرط الشيخين، وأقره الإمام الذهبي على ذلك، ورواه ابن حبان في صحيحه، ورواه غيرهم من أئمة العلم، وأكثر رواياته تدور على المبارك بن فضالة، قال الإمام أحمد فيه: إنه يرفع ما كان موقوفاً؛ ولهذا قال الذي حشى على الكتاب: إنه ضعيف، وهذا خطأ فاحش، فالحديث صحيح، وقد جاء من غير رواية مبارك بن فضالة، فقد رواه الطبراني بأسانيد عدة من طريق هشيم عن منصور عن الحسن عن عمران بن حصين وهذا سند صحيح لا مطعن فيه، وكذلك رواه من طرق أخرى، فهو حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى في عضد الرجل حلقة من صفر أو حلقة -يعني: أنها من غير الصفر- فقال: (ما هذه؟)، فيحتمل أن الاستفهام عن السبب، ولكن جاء في رواية أنه قال: (ويحك! ما هذا؟!)، فدل على أن هذا إنكار من أول الأمر، وأنه منكر، ولا يجوز وضع مثل هذه الأشياء في الأيدي، ولا في الأرجل، ولا على أي شيء من أعضاء الإنسان؛ لأنها لا نفع فيها، فلما قال له: إنها من الواهنة، والواهنة مرض يعتقد أهل الجاهلية أنه يصيب الإنسان ويأخذه في كتفه، أو في عضده، وأنه يصيب الرجال دون النساء، وأن اتخاذ هذه الحلق والخرزات تخفف ذلك أو تزيله، وهو اعتقاد جاهلي شركي. ثم قال له: (انزعها) والنزع هو الأخذ بقوة، (فإنها لا تزيدك إلا وهناً) والوهن هو الهلاك، يعني: أنها تزيدك شراً وهلاكاً؛ لأنها تعلق بغير الله جل وعلا وهو شرك، شرك بالله، وفي رواية أنه قال: (فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً)، وهذا يدلنا على أنها ليست من الشرك الأصغر؛ لأن الذي لا يفلح أبداً يكون ممن استحكم هلاكه، ومنع من دخول رحمة الله وجنته، وهذا لمن اعتقد أنها تدفع البلاء قبل نزوله أو ترفعه بعد حصوله، فمن اعتقد ذلك فإنه إذا مات وهو يفعل هذا الشيء فإنه لا يفلح أبداً. فدل هذا على أنه يحرم على الإنسان أن يعلق بفعله شيئاً من الخيوط أو من النحاس أو من غيرها من التمائم مما يفعله أهل الجاهلية وأهل الشرك أو أشباههم الذين يتشبهون بهم، وهذا أمر يوجد في الناس إلى الآن، ويعتقدون أن هذا المرض الذي تسميه الجاهلية واهنة موجود، وأن هذه التي تعلق من الخيوط والخرزات أو من الفضة والنحاس والسلاسل التي يعلقها الجهال وأشباههم أنها تنفع من ذلك، وهذا -كما سمعنا في هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم- لا يزيد الإنسان إلا وهناً أي: لا يزيده إلا هلاكاً، وإذا كان معتقداً فيه النفع بنفسه أو أنه يرفع البلاء والمرض الذي ينزل بالإنسان فإنه إذا مات على ذلك لا يفلح أبداً. وهذا أمر صعب جداً، ويجب على من تهمه نفسه أن يعتني بذلك، وأن يتجنبه، وأن ينصح أخاه الذي يقع في مثل هذا، والرسول صلى الله عليه وسلم بين ذلك ووضحه في هذا الحديث.

كلام ابن كثير في تفسير قوله تعالى: (أفرأيتم ما تدعون من دون الله)

كلام ابن كثير في تفسير قوله تعالى: (أفرأيتم ما تدعون من دون الله) قال الشارح: [قوله: باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه، رفعه: إزالته بعد نزوله، ودفعه: منعه قبل نزوله قال: وقول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} [الزمر:38]، قال ابن كثير: أي: لا تستطيع شيئاً من الأمر {قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ} [الزمر:38] أي: الله كافي من توكل عليه {عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر:38] كما قال هود عليه السلام حين قال قومه: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:54 - 56]. قال مقاتل في معنى الآية: فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم فسكتوا أي: لأنهم لا يعتقدون ذلك فيها]. هكذا المشركون يخوفون أهل التوحيد وأهل الإيمان بآلهتهم؛ لهذا تجد الذي يتعلق بالأولياء أو بالمقبورين يسلك هذا المسلك، وإذا قيل له: لا تدع هؤلاء! قال: هل أنت لا تخاف من الصالحين أن يصيبوك بمرض أو بألم أو بشيء لأنك تعاديهم وتبغضهم؟ فهذا كقول قوم هود له: ((إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ)) يعني: أنه أصابك بعض الآلهة بجنون أو بخبل فأصبحت تدعونا أن نترك عبادة هذه الآلهة، فقال مجيباً لهم: ((إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ)) أي: مما تشركون من دون الله، ((فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ)) يعني: اجتمعوا أنتم وآلهتكم واستعينوا بمن تريدون فوجهوا لي الشيء الذي تستطيعونه من الضر أو الجنون أو غير ذلك، فلن تصلوا إليّ؛ لأني ((تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ))، فهذا شأن الموحد المؤمن الذي لا يتعلق إلا بالله جل وعلا، أما المشرك فإنه يخاف من المخلوق الضعيف، بل من الميت الرميم المرتهن في قبره بعمله. والميت نفسه مرتهنة {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38] رهينة لا تستطيع أن تعمل شيئاً أو تتصرف أو تذهب أو تأتي أو تجيء، فإن كان من أهل السعادة، ومن أهل التقى؛ فهي منعمة في قبره، وإن كان من أهل الشقاوة فهو مشغول بالعذاب، وكلاهما مشغول عمن يناديه ويدعوه. أما إذا كانت أحجاراً أو أشجاراً فالأمر في ذلك واضح وجلي، وقد علمنا أن هؤلاء الذي يدعون الآلهة من دون الله ما كانوا يعتقدون أنها تتصرف بالعطاء والمنع وإنزال المطر وإنبات النبات ودفع العدو، وإنما كانوا يتبركون بها، ويتخذونها شفعاء عند الله. ومن اعتقد أن الأموات يتصرفون ويستطيعون أن يأتوا بالخير ويمنعوا العدو؛ فقد ضل في عقله بعد ضلاله في دينه، فأصبح لا عقل له ولا دين، وهذا ما كان أبو جهل وأبو لهب وأشباههما يعتقدونه، بل عقولهم تمنعهم من ذلك. فعلى هذا فدعوة غير الله جل وعلا من أي نوع كانت هي ضلال وخروج عن الصراط المستقيم الذي بعث به رسل الله، فكل رسول بعث بالإنذار من هذا الشيء، والتحذير منه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، كل رسول يقول هذا، وهذا هو معنى لا إله إلا الله التي أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه أمر أن يقاتل الناس عليها حتى يذعنوا لها ويقولوها. وفي هذا إبطال لدعوة هؤلاء بالأمثلة والتقديرات والإيضاح الذي يقرون به، ولا يستطيعون إنكاره، فيكون هذا إلزاماً لهم في إبطال معبوداتهم، ووجوب عبادة الله وحده، ومع هذا الإلزام وهذا الإيضاح الجلي عاندوا وكابروا، وامتنعوا من اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبقوا على شركهم مع علمهم العلم اليقيني أنه ضلال، وأن هذه المعبودات لا تنفع ولا تضر.

شبهة المشركين في عبادة غير الله أنهم اتخذوها وسائط وشفعاء عند الله

شبهة المشركين في عبادة غير الله أنهم اتخذوها وسائط وشفعاء عند الله قال الشارح رحمه الله: [وإنما كانوا يدعونها على معنى أنها وسائط وشفعاء عند الله، لا على أنهم يكشفون الضر ويجيبون دعاء المضطر، فهم يعلمون أن ذلك لله وحده كما قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ * ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [النحل:53 - 54]]. ((إِلَيْهِ تَجْأَرُونَ)) أي: تدعونه بتضرع ورفع صوت، وإلحاح وحاجة شديدة. إذا مسهم الضر كان هذا شأنهم، فهم لا يلتفتون إلى آلهتهم التي يعبدونها، وهذا من الأمور التي فارق فيها المشركون الأوائل أهل الشرك المتأخرين، فإنهم إذا مسهم الضر ازداد شركهم ودعوتهم لغير الله جل وعلا، وهرعوا إلى القبور يدعونها، ويلجئون إليها، والأمر كما قلنا: لا عقل ولا دين عندهم، ذهبت عقولهم، وأديانهم، وجهلوا اللغة، وبعد ذلك جهلوا دينهم، فصار الشرك عندهم أعظم وأشد. أما المشركون القدامى فإنهم إذا وقعوا في الشدة فإنهم يخلصون الدعاء لله وحده؛ لأنهم يعلمون يقيناً أنه لا ينجيهم من الشدائد ويكشف عنهم الضر إلا الله وحده: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت:65] أي: إذا ركبوا البحر وهاجت بهم الرياح أخلصوا الدعوة لله وحده، وكفروا بآلهتهم، وإذا كان معهم شيء من أصنامهم ألقوها في البحر، وقالوا: إنها لا تنفع، ولا ينجيكم في مثل هذه المواطن إلا الإخلاص، ودعوة الله وحده، وهذا أمر معروف ومتقرر. ذكر المؤرخون أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة فاتحاً فر من فر من المشركين ومنهم عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه، فقد كان مشركاً وكان يأبى أن يقبل الإسلام، ففر هارباً وترك مكة وأهله وزوجته، فوفق له أنه وجد أهل سفينة يريدون اليمن قرب جدة، فركب معهم فهاجت بهم الريح عند ذلك، فقال بعضهم لبعض: أخلصوا الدعاء لله، وألقوا ما معكم من الأصنام، فإنه لا ينجيكم في هذه الحالة إلا الإخلاص، ودعوة الله وحده، عند ذلك فكر في نفسه فقال: إذاً: إلى أين أهرب؟! لئن أنجاني الله جل وعلا من هذه الكربة لأذهبن إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وأضع يدي في يده فليصنع بي ما شاء، وهذا سبب إسلامه. والمقصود أن هذا أمر واضح، وقد ذكر الله جل وعلا عنهم في القرآن أنهم إذا وقعوا في الشدائد أخلصوا لله جل وعلا، وقد قال الله جل وعلا مستدلاً على وجوب توحيده وحده، وإلزامهم بذلك: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62]، وكلهم يقرون بأنه الله وحده، لا اللات ولا هبل، ولا مناة ولا العزى، ولا غير ذلك من الآلهة التي كانوا يدعونها، بل يعترفون أنه الله جل وعلا وحده، وهذا لا يحتاج إلى استدلال عليه؛ لأنه أمر ظاهر جلي، وإنما احتيج إلى ذلك لما جهل الذين يدعون غير الله هذا الأمر، وصاروا يعتقدون أن الشرك هو أن يدعو الإنسان من يعتقد أنه يخلق ويرزق ويحيي ويميت، فيقول: إذا دعوت المقبور وأنت لا تعتقد أنه يخلق ويرزق ويحيي ويميت فليس في هذا شرك، هذا ما قاله أحد من خلق الله، وإنما قاله هؤلاء الذين خرجوا عن المعقولات بعد خروجهم عن المشروعات التي جاءت بها الرسل، وهو أمر واضح جلي جداً. فالمقصود أن دعوة غير الله جل وعلا كلها من باب اتخاذ الوسائط والتبركات والشفاعة. قال رحمه الله: [قلت: فهذه الآية وأمثالها تبطل تعلق القلب بغير الله في جلب نفع أو دفع ضر، وأن ذلك شرك بالله، وفي الآية بيان أن الله تعالى وسم أهل الشرك بدعوة غير الله، والرغبة إليه من دون الله، والتوحيد ضد ذلك، وهو ألا يدعو إلا الله، ولا يرغب إلا إليه، ولا يتوكل إلا عليه، وكذا جميع أنواع العبادة لا يصلح منها شيء لغير الله كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها كما تقدم].

معنى حديث: (انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنا)

معنى حديث: (انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهناً) قال الشارح: [قال الإمام أحمد: حدثنا خلف بن الوليد، قال: حدثنا المبارك عن الحسن قال: أخبرني عمران بن حصين رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم أبصر على عضد رجل حلقة -قال: أراها من صفر- فقال: ويحك ما هذه؟ قال: من الواهنة، قال: أما إنها لا تزيدك إلا وهناً، انبذها عنك، فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً) ورواه ابن حبان في صحيحه فقال: (فإنك إن مت وكلت إليها)، والحاكم وقال: صحيح الإسناد وأقره الذهبي، وقال الحاكم: أكثر مشايخنا على أن الحسن سمع من عمران وقوله في الإسناد: أخبرني عمران يدل على ذلك. قوله: عن عمران بن حصين أي: ابن عبيد بن خلف الخزاعي أبو نجيد - بنون وجيم - مصغر، صحابي ابن صحابي، أسلم عام خيبر ومات سنة اثنتين وخمسين بالبصرة]. وكان من علماء الصحابة وأفاضلهم، والصحابة كلهم رضي الله عنهم فضلاء وعلماء؛ لأنهم تعلموا وتربوا على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنالوا البركة من رؤيته وسماع كلامه، وكذلك امتثال أوامره؛ فلهذا أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم خير قرون هذه الأمة، وأنه بعث في خير هذه الأمة، وحذر من الكلام فيهم أو سبهم، وأخبر أن أحداً لن يبلغ مد أحدهم ولا نصيفه، ولو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ في ذلك مد أحدهم ولا نصيف المد. وهذا تمثيل ومخاطبة لمن جاء بعدهم، فكيف بمن يأتي متأخراً ثم يحط من شأنهم وربما سبهم وذمهم؟! فهذا من الضلال الأكبر، ومن الخروج عن السنن التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعمران بن حصين رضي الله عنه كان ممن تسلم عليه الملائكة، فإنه رضوان الله عليه أصيب ببواسير، فاكتوى من أجل ذلك، فامتنعت الملائكة من التسليم عليه، ثم ترك الكي فعادت إلى السلام عليه، وقد أخبر بعض تلامذته بذلك وقال: لا تخبر بهذا حتى أموت. وفضائل الصحابة وكراماتهم معروفة ومشهورة، ويجب على المسلم أن يحبهم ويتبعهم ويعرف قدرهم؛ لأنهم هم الوساطة بيننا وبين رسولنا في إبلاغ الدين، ونقل أحاديثه صلوات الله وسلامه عليه، فديننا أخذناه عنهم، وهم الذي بلغونا إياه عن رسولنا صلى الله عليه وسلم. قال الشارح: [قوله: (رأى رجلاً) في رواية الحاكم: (دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عضدي حلقة صفر فقال: ما هذه؟) الحديث، فالمبهم في رواية أحمد هو عمران راوي الحديث. قوله: (ما هذه؟) يحتمل أن الاستفهام للاستفصال عن سبب لبسها، ويحتمل أن يكون للإنكار، وهو أظهر. قوله: (من الواهنة) قال أبو السعادات: الواهنة عرق يأخذ في المنكب واليد كلها فيرقى منها، وقيل هو مرض يأخذ في العضد، وهي تأخذ الرجال دون النساء، وإنما نهى عنها؛ لأنه إنما اتخذها على أنها تعصمه من الألم، وفيه اعتبار المقاصد. قوله: (انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهناً) النزع هو الجذب بقوة، أخبر أنها لا تنفعه بل تضره وتزيده ضعفاً، وكذلك كل أمر نهي عنه فإنه لا ينفع غالباً، وإن نفع بعضه فضره أكبر من نفعه]. وقد يكون الشيء المحرم فيه منفعة، ولكن ليس كل ما فيه منفعة يجوز استعماله أو فعله، وقد قال الله جل وعلا في الخمر والميسر: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219] فأخبر أن فيها من المنافع، ولكن الضر أكبر. وهكذا المحرمات، قد ينتفع الزاني بالزنا وهو محرم، فليس كل شيء فيه نفع يجوز فعله، بل يجب أن يتبع الإنسان في ذلك شرع الله، فما أباحه الله جل وعلا وأذن فيه فعله، وما منع منه يجب أن يمتنع منه سواء كان فيه نفع أو ليس فيه نفع، والغالب أن ما نهى الله جل وعلا عنه ونهى عنه رسوله أن نفعه مستغرق في مضراته، وضره أعظم وأشد وأكثر.

مسألة العذر بالجهل

مسألة العذر بالجهل قال الشارح: [قوله: (انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهناً) النزع هو الجذب بقوة، أخبر أنها لا تنفعه بل تضره وتزيده ضعفاً، وكذلك كل أمر نهي عنه فإنه لا ينفع غالباً، وإن نفع بعضه فضره أكبر من نفعه قوله: (فإنك لو مت وهو عليك ما أفلحت أبداً)؛ لأنه شرك، والفلاح هو الفوز والظفر والسعادة. قال المصنف رحمه الله تعالى: فيه شاهد لكلام الصحابة رضي الله عنهم أن الشرك الأصغر أكبر الكبائر، وأنه لم يعذر بالجهالة، وفيه الإنكار بالتغليظ على من فعل مثل ذلك]. ذكر المؤلف أنه لا يعذر بالجهل أحد؛ لأنه قال صلوات الله وسلامه عليه: (إنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً)، وهذا الخطاب موجه إلى الصحابي رضوان الله عليه، فيقول: إن هذا يدل على أن الإنسان لا يعذر بالجهل؛ لأنه كان جاهلاً بالحكم، ولو كان يعلم أن هذا من الشرك لم يكن ليقدم عليه، ومع ذلك يقول له: (إنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً) فدل على أن الإنسان لا يعذر بالجهل، في الأمور التي تعبد الله جل وعلا بها عباده، مثل تعلق ودعاء وطلب النفع، ودفع الضر، وما أشبه ذلك مما هو من توحيد الله جل وعلا. الإنسان لا يعذر بجهله في ذلك، فكيف بمن صرف أصل العبادة لله جل وعلا في السجود والنداء وطلب كشف الكربات وإجابة الدعوات، وما أشبه ذلك مما يفعله كثير ممن هو في بلاد المسلمين ويصلي ويصوم، ويزعم أنه مسلم في ذلك؟! إذا قارنا بين فعل هؤلاء مع ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث تبين البون الشاسع. وذلك أن الله جل وعلا خلق عباده لعبادته، وفطرهم على ذلك، فالعبادة أمر مفطور عليه الإنسان؛ ولهذا السبب تجد أن الذي لا يعبد الله لا بد أن يعبد غيره، فلا يمكن أن يوجد بنو آدم منفكين عن العبادة نهائياً حتى الملاحدة، الملاحدة الذين يزعمون أنه لا إله والحياة مادة، وأن الأديان كلها خرافة هم يتعبدون، ولكن للشيطان! ويعبدون شهواتهم من فروجهم وبطونهم وساداتهم الذين يوجهونهم ويأمرونهم وينهونهم، فهم عباد لهؤلاء، فسنة الله جل وعلا في خلقه أن الذي لا يعبد الله يعبد الشيطان باختلاف مظاهره. فالشيطان له مظاهر كثيرة، قد يظهر في مظهر صورة بارزة، وقد يظهر بمظهر شخص، وقد يظهر بمظهر شهوة وهوى، إلى غير ذلك، فالمقصود أن عبادة الله جل وعلا لا يجوز أن يكون الإنسان جاهلاً فيها، بل لا بد أن يكون على علم ويقين. يدل على هذا أنه جاء في حديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن كل ميت يسأل في قبره عن ثلاث: يقال له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ وإذا تلعثم أو تردد أو قال: ما أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته؛ لم يقبل ذلك منه، بل يعذب ويقال له: لا دريت ولا تليت، ومعنى ذلك أنك كنت مقلداً ليس عندك علم، وليس عندك يقين وبرهان من هذا الدين الذي جاءت به الرسل، وكنت لا تعبد إلا الله جل وعلا. فهذا لا يعذر فيه إنسان، ولا بد من مساءلة الميت عن ذلك، فإن كان موقناً عن علم ويقين فإنه يجيب، وإذا كان متردداً جاء بالتردد، ويقول: ها ها لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، عند ذلك يعذب، فيضربه الملك بمطراق من حديد يلتهب عليه قبره ناراً -نسأل الله العافية-، وهذا يدلنا على أنه غير معذور بجهله في أصل الدين، فعلى الإنسان أن يهتم بهذا.

التوبة تجب ما قبلها

التوبة تجب ما قبلها مما نستفيده من قوله صلى الله عليه وسلم: (إنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً)، أن الرجل إذا ترك الذنب وتاب منه لم يضره، وأن أولياء الله يقعون في الذنوب، فإن عمران بن حصين من أولياء الله، وقد مر معنا أن الملائكة كانت تسلم عليه، وهو أخبر بذلك رضوان الله عليه، قال: كان بي بواسير فاكتويت، فذهبت ثم تركت ذلك فعادت، والصحابة رضوان الله عليهم كلهم من أولياء الله، بل هم أفضل أولياء الله من هذه الأمة، بل هم أفضل أولياء الله على الإطلاق بعد الأنبياء والرسل، فما كان مثلهم، هم الذي صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعلموا الإيمان منه، وتربوا على يديه، وقاتلوا مطيعين له ناشرين لدين الله، ثم أخذوا الدين عن نبيهم صلوات الله وسلامه عليه، وبلغوه لمن بعده. فلهذا يكون لهم أجر من أتى بعدهم وأخذ عنهم، والذين أخذوا عن الذين أخذوا عنهم، يكون لهم من الأجر مثل أجور هؤلاء، وربما امتد الأمر إلى يوم القيامة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن من دعا إلى هدى فله من الأجر مثل أجر من عمل به من غير أن ينقص من أجر المهتدين شيئاً. ولا يمكن أن يكون الإنسان منفكاً عن الذنوب؛ ولهذا جاءت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون، فيغفر الله لهم)؛ وذلك أنه لا بد أن تظهر آثار أسماء الله جل وعلا وصفاته، فهو الغفور الرحيم التواب البر الذي يرحم ويعفو ويغفر ويستر ويجبر، فآثار أسمائه وأوصافه لا بد أن تظهر على عباده، فالذي يقترح أن المؤمن لا يقع في الذنوب فهو جاهل في الواقع، وهو اقتراح لا يمكن وجوده، فكل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، الذين يتوبون ويرجعون. وفي الحديث الصحيح عن أنس أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول عن الله جل وعلا: (إن عبداً من عباد الله أذنب فقال: ربي! إني أصبت ذنباً فاغفر لي، فقال الله جل وعلا: عبدي علم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لك، ثم أذنب ذنباً فقال: أي رب اغفر لي، فقال الله جل وعلا: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لك، ثم أذنب ذنباً فقال: أي رب اغفر لي، قال الله جل وعلا: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لك، اعمل ما شئت) يعني: كل ما أصبت ذنباً فاستغفرت فإن الله يغفره، ولو تكرر ذلك مراراً، ولكن ليس معنى ذلك أن الإنسان يصر على فعل الذنوب، ويصير الذنب محبوباً إليه، ويصير عزمه الإقامة على فعله، ولا يريد تركه، وإنما يستغفر بلسانه، فإن هذا يسمى استغفار الكاذب، ولكن المعنى أنه يندم إذا وقع في الذنب وتركه وأسف على وقوعه فيه وعزم على ألا يعود إليه، وإذا كان بهذه المثابة ولو يقع في اليوم في ذنوب كثيرة، ويتصف بهذه الصفة؛ فإن الله يغفر له ولا يبالي. فالمقصود أن أولياء الله لا ينفكون عن الذنوب، ولكن يوفقهم الله جل وعلا للتوبة.

ترجمة الإمام أحمد بن حنبل

ترجمة الإمام أحمد بن حنبل قال الشارح: [قوله: رواه الإمام أحمد بسند لا بأس به، هو الإمام أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس بن عبد الله بن حسان بن عبد الله بن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان - الإمام العالم أبو عبد الله الذهلي ثم الشيباني المروزي ثم البغدادي، إمام أهل عصره، وأعلمهم بالفقه والحديث، وأشدهم ورعاً ومتابعة للسنة، وهو الذي يقول فيه بعض أهل السنة: عن الدنيا ما كان أصبره، وبالماضين ما كان أشبهه، أتته الدنيا فأباها، والشبه فنفاها.

شيوخ الإمام أحمد وتلامذته

شيوخ الإمام أحمد وتلامذته خرج به من مرو وهو حمل فولد ببغداد سنة أربع وستين ومائة في شهر ربيع الأول، وطلب الإمام أحمد العلم سنة وفاة الإمام مالك، وهي سنة تسع وسبعين ومائة، فسمع من هشيم وجرير بن عبد الحميد وسفيان بن عيينة ومعتمر بن سليمان ويحيى بن سعيد القطان ومحمد بن إدريس الشافعي ويزيد بن هارون وعبد الرزاق وعبد الرحمن بن مهدي، وخلق لا يحصون بمكة والبصرة والكوفة وبغداد واليمن وغيرها من البلاد، روى عنه ابناه صالح وعبد الله والبخاري ومسلم وأبو داود وإبراهيم الحربي وأبو زرعة الرازي وأبو زرعة الدمشقي وعبد الله بن أبي الدنيا وأبو بكر الأثرم وعثمان بن سعيد الدارمي وأبو القاسم البغوي وهو آخر من حدث عنه، وروى عنه من شيوخه عبد الرحمن بن مهدي والأسود بن عامر، ومن أقرانه علي بن المديني ويحيى بن معين، قال البخاري رحمه الله: مرض أحمد ليلتين خلتا من ربيع الأول، ومات يوم الجمعة لاثنتي عشرة خلت منه، وقال حنبل: مات يوم الجمعة في ربيع الأول سنة إحدى وأربعين ومائتين وله سبع وسبعون سنة، وقال ابنه عبد الله والفضل بن زياد: مات في ثاني عشر ربيع الآخر رحمه الله تعالى].

محنة الإمام أحمد

محنة الإمام أحمد الإمام أحمد رضي الله عنه ممن جعل الله جل وعلا له لسان صدق في الآخرين؛ بسبب تقواه وقيامه بأمر الله جل وعلا، وصبره على البلاء؛ لأن الإمامة في الدين لا تنال إلا بالصبر واليقين، وقد تحلى هو بذلك رضي الله عنه. وقد ابتلي في دولة المعتزلة، وذلك لما كانت المعتزلة لهم الدولة، وكانوا هم الذين تخرج على أيديهم خلفاء المسلمين، فغروا خلفاء المسلمين، وزينوا لهم الباطل، ثم أمروهم بفتنة الناس وابتلائهم، وكان إذا تردد الخليفة في شيء من الأمر جاءوا إليه يقسمون له، ويحلفون له، ويقولون: إذا كان في هذا الأمر إثم فهو علينا، نحن نتحمله عنك، ويحلفون له بذلك، وقد يقولون: اقتل هذا الرجل وأنت مأجور، وإذا كان فيه إثم فهو علينا. وقد أمروه بقتل الإمام أحمد وقالوا له مثل ما قالوا لغيره، وصار الأمر صعباً جداً، فهم أمروا الخليفة بأن يمتحن الناس بخلق القرآن، وكل من لم يقل: إن القرآن مخلوق يجب أن يقتل، ولا سيما العلماء، فبدءوا بالعلماء الكبار؛ لأنهم قدوة الناس، فقتلوا خلقاً على ذلك بهذه الفتنة. أما الموظفون في الجيش أو في القضاء أو في غير ذلك، فإذا لم يجب أحدهم إلى ذلك فإنه يعزل ويطرد ويمنع من العطاء يعني: من بيت المال الذي هو حق لجميع المسلمين، هذا إن لم يقتل، فصارت فتنة عظيمة. لهذا صار الإنسان يؤتى به مقيداً بالحديد من أول الأمر وإن كان من كبار العلماء، ويؤتى به إليهم في مجالسهم التي فيها من الأبهة ومن الأمور التي تبهر، وليس بينه وبين أن يقتل إلا أن يقال: اقتلوه فقط؛ فلهذا أجاب كثير من العلماء بالقول بأن القرآن مخلوق، وهم يعتقدون أنه كلام الله صفة من صفاته خوفاً من القتل. وصبر الإمام أحمد على ذلك، وضرب حتى أغمي عليه مراراً، يضرب حتى تسيل الدماء من جسده كله، ثم سجن ما يقرب من سنتين، وكل ذلك وهو صابر، ويقول: القرآن كلام الله، وبذلك جزاه الله جل وعلا في الدنيا قبل الآخرة الذكر الحسن، وكذلك القبول في جميع الأمة، فلا تجد من يتكلم فيه وإن كان مخالفاً له وعدواً له لهذا السبب، وهذا من نصر الله جل وعلا؛ لأنه وعد جل وعلا أن من ينصر الله ينصره. وقد قتل من نظرائه خلق من العلماء بهذا السبب، قتلوا لأنهم قالوا: إن القرآن كلام الله، ولكن الإمام أحمد لما كان له من الشهرة ومن العلم والقبول عند الناس ثم صبر وقاوم هذه الفتنة العارمة العظيمة؛ جعل الله جل وعلا له من الذكر والقبول ما يناسب ذلك.

شرح فتح المجيد [36]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [36] حرم الله تعالى الشرك به صغيره وكبيره، ومن ذلك تعليق التمائم والخيوط لدفع الضر أو تخفيفه، وقد أنكر ذلك الصحابة، وعدوه شركاً، والشرك وإن كان من النوع الأصغر؛ إلا أنه أعظم جرماً من الكبائر.

معنى حديث: (من تعلق تميمة فلا أتم الله له)

معنى حديث: (من تعلق تميمة فلا أتم الله له) قال المصنف رحمه الله: [وله عن عقبة بن عامر مرفوعاً: (من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له) وفي رواية: (من تعلق تميمة فقد أشرك)].

حكم التعلق بالتمائم ومعناه

حكم التعلق بالتمائم ومعناه التعلق يقصد به تعلق القلب، ويقصد به تعلق الفعل، يقصد به هذا وهذا، ومن يعلق تميمة لا بد أن يكون قلبه تعلق بها، وهذا شرك. والتميمة هي كل ما يعلقه الإنسان على بدنه أو في سيارته أو في بيته، أو في متجره، أو في مصنعه، يريد بذلك أن يدفع عنه عين الإنسان أو أذى الجان أو ينفعه في شيء من المنافع، سواء كان المعلق من القرآن، ومن أسماء الله وصفاته، أو من أسماء الشياطين والجن، أو من الحروف والطلسمات التي يفعلها الكهنة والسحرة وأشباههم من الجهال. ولكن إذا كان المعلق من القرآن، ومن صفات الله جل وعلا وأسمائه فقد اختلف العلماء في ذلك كما سيأتي، منهم من جوزه وقال: إنه جائز، ومنهم من منعه، وجعله من قسم الممنوع الذي لا يجوز فعله، وسيأتي بحث ذلك في الباب الذي بعد هذا إن شاء الله. والتميمة سميت تميمة من باب التفاؤل -كعادة العرب- تفاؤلاً بأن من علقها يتم له أمره، كما أنهم يسمون اللديغ سليماً تفاؤلاً بأنه سيسلم، ويسمون الأرض المهلكة التي ليس فيها لا ماء ولا أناس ولا قرى مفازة تفاؤلاً بأن الذي يسلكها سيفوز وينجو، وهذا كثير في كلام العرب، ومنه تسميتهم التميمة تفاؤلاً بأنه سيتم مقصوده، ولهذا دعا النبي صلى الله عليه وسلم على من فعل ذلك ألا يتم الله له أمره، فقال: (من تعلق تميمة فلا أتم الله له) فهذا دعاء من النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعامل بنقيض قصده ومراده، وفي هذا دليل على أن من ارتكب معصية أنه يستحق الدعاء، وأنه يعاقب بنقيض ما أراد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا عليه. وأما الودع فهو شيء يستخرج من البحر، وهو معروف، ويعلقونه على أولادهم زعماً منهم أنه يقي من أذى الجن، أو يقي من عين الإنسان، وقد يعلقونه على البهائم، وقد يعلق على غير ذلك، ولكن تختلف الأحوال الآن فهناك أمور جدت، المعنى واحد والأسماء اختلفت، فقد يعلق بعضهم الآن سلسلة من صفر أو من فضة، أو خاتماً يوضع فيه فص، أو نحو ذلك، ويزعم أنه ينفع من أمراض معينة، ومن أذى الجن، وأذى الإنسان الذي يصيب بالعين، وقد يؤخذ مثلا ًحلقة من فضة، ويزعم أنها تمنع من البواسير، وقد يجعل في عضده حلقة من صفر، أو سلسلة من نحاس، ويزعم أنها تنفع من الروماتيزم، أو تنفع مما يسمى واهنة، وهي نوع من الروماتيزم، ولكن فيها عقائد جاهلية، كل هذه من أمور الشرك، ومن أمور الجاهلية، ويجب على المسلم أن يطهر نفسه واعتقاده منها، وكذا من له به صلة من أهله وأولاده؛ لئلا تصيبه دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولئلا يعاقبه الله جل وعلا على الشرك.

مرتبة الشرك الأصغر بين الذنوب

مرتبة الشرك الأصغر بين الذنوب وقد مر معنا حديث عمران أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: (لو مت وحلقة الصفر عليك ما أفلحت أبداً)، وإن كان هذا قد يكون شركاً أصغر، والشرك الأصغر لا يخرج الإنسان من الدين الإسلامي، ولكنه أكبر من الكبائر، فهو أكبر من الزنا ومن السرقة، فيستحق عليه العذاب إن لم يتب منه، أو يعفو الله جل وعلا عنه. وقد قال بعض العلماء: إن من وقع في ذلك ولم يتب منه فإنه لا بد من تعذيبه، وأن ذلك لا يدخل تحت المشيئة التي قال الله جل وعلا فيها: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] فجعل الذنوب كلها تحت مشيئته جل وعلا إن شاء عفا عنها بدون مؤاخذة، وإن شاء عاقب صاحبها، ثم بعد ذلك يكون مآله إلى الجنة، أما الشرك فإنه لا يغفره. ويقول البعض: إن الشرك الأصغر داخل في الأكبر، فلا يوجد شيء يخرجه؛ لأن هذا عموم يشمل الأكبر والأصغر: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ))، ولبس الحلقة من الشرك، فهو لا يغفر إلا بالتوبة منه. فإذا كان الأمر هكذا فيتعين على الإنسان أن يبتعد عن هذه الأمور الجاهلية، وهذه الاعتقادات الفاسدة، وليعلم أنه لا يضر ولا ينفع إلا الله جل وعلا، وإن كان الإنسان يقول: أنا أعلم ذلك ولكن هذا سبب، قد يقول قائل هذا القول، ولاسيما إذا وصف ذلك الأطباء مثلاً، فربما ركن إلى ذلك أكثر، فيقال: الأطباء ليسوا مرجعاً في هذا، المرجع في هذا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأكثر الأطباء جهلة بدين الله لا يعرفون شيئاً منه. وليس كل ما فيه نفع يكون جائز الفعل، فعبادة الشيطان قد يكون فيها نفع لمن يعبد الشيطان، مثلاً إذا عبد أحد الشيطان يذهب الشيطان ويأتيه بشيء مما يريده ويطلبه من أمور الدنيا أو المنافع المعنوية، وهذا يقع كثيراً وهو من أعظم المحرمات، فليس الشيء الذي فيه منفعة مباحاً، بل يجب على الإنسان أن يتقيد بشرع الله جل وعلا، ويتقيد بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، مع أن هذه الأمور في الواقع لا تنفع ولا تضر، قال الله جل وعلا: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر:38] يعني: هو كافي من توكل عليه، فمن يكون حسبه فهو يكفيه وحده. وهؤلاء المشركون يعلمون أنها لا تملك النفع الذي يرسله الله جل وعلا إلى عبده، ولا تدفع عنه الضر الذي يريد الله جل وعلا به عبده، وإنما كانوا يتعلقون بها يطلبون شفاعتها هذا هو أصل عبادتهم؛ وذلك لأنهم عندهم عقول أدركوا بها أن الله جل وعلا هو الذي خلق كل شيء، وهو الذي ملك كل شيء، وهو الذي يتصرف بكل شيء، ولكن لما فقدوا نور النبوة دخل عليهم النقص شيئاً فشيئاً حتى صاروا مشركين لأوثانهم وأصنامهم من الأشجار والأحجار وغيرها، ويقولون فيها كلها: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، والعبادة هي اتجاه إلى الشيء بدعاء أو تعلق بالقلب. فلا يجوز للإنسان أن يفعل شيئاً من ذلك، وأهم ما لدى الإنسان دينه، وإذا سلم له دينه فهو السعيد، أما إذا فسد الدين فلو أتته الدنيا كلها بحذافيرها فإنها لا تغني عنه شيئاً.

معنى قوله: (ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له)

معنى قوله: (ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له) وقوله صلى الله عليه وسلم: (ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له)، هذا أيضاً دعاء عليه، ومعنى (ودع له) يعني: ما جعله الله في دعة وسكون، والدعة هي الراحة، يعني: دعاء عليه بالقلق وعدم السكون بنقيض ما أراد وقصد. ويحتمل أن يراد بهذا الخبر وبالذي قبله أن الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر أن من تعلق تميمة فإن الله لا يتم له مراده، بل يعاقبه بنقيض قصده، وكذلك من علق ودعة، فإن الله لا يدعه في دعة وسكون وراحة، بل يعامله بنقيض ما أراد فيكون سقيماً قلقاً، أصيب بنقيض ما طلب جزاءً عادلاً قبل الآجل، وسواء كان خبراً أو كان دعاء فإنه يدل على أن هذا من المحرمات. وأما في الرواية الأخرى التي فيها: (من تعلق تميمة فقد أشرك) فهذا صريح بأن تعليق التميمة شرك، وقد يكون شركاً أصغر، وقد يكون أكبر بحسب ما يقوم بقلب الإنسان وفعله من التعلق بذلك، إن كان يعتقد أن هذه التميمة تدفع بنفسها وتنفع، فهذا من الشرك الأكبر، وإن كان يعتقد أن الله جعلها سبباً، فهذا من الشرك الأصغر، ومعلوم أن الشرك الأكبر ينافي التوحيد مطلقاً، أما الشرك الأصغر فلا يكون الإنسان خارجاً به من الدين الإسلامي.

تخريج الحديث وكلام العلماء في ألفاظه ومعناه

تخريج الحديث وكلام العلماء في ألفاظه ومعناه قال الشارح: [الحديث الأول رواه الإمام أحمد كما قال المصنف ورواه أيضا أبو يعلى والحاكم وقال: صحيح الإسناد وأقره الذهبي. قوله: وفي رواية، أي: من حديث آخر رواه الإمام أحمد فقال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث حدثنا عبد العزيز بن أسلم قال: حدثنا يزيد بن أبي منصور عن دخين الحجري عن عقبة بن عامر الجهني (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل إليه رهط فبايع تسعة، وأمسك عن واحد، فقالوا: يا رسول الله! بايعت تسعة وأمسكت عن هذا! فقال: إن عليه تميمة، فأدخل يده فقطعها فبايعه، وقال: من تعلق تميمة فقد أشرك) وروى الحاكم نحوه ورواته ثقات. قوله: عن عقبة بن عامر صحابي مشهور فقيه فاضل، ولي إمارة مصر لـ معاوية رضي الله عنه ثلاث سنين، ومات قريباً من الستين. وقوله: (من تعلق تميمة) أي: علقها متعلقاً بها قلبه في طلب خير أو دفع شر، قال المنذري: خرزة كانوا يعلقونها يرون أنها تدفع عنهم الآفات، وهذا جهل وضلالة إذ لا مانع ولا دافع غير الله تعالى. وقال أبو السعادات: التمائم جمع تميمة، وهى خرزات كانت العرب تعلقها على أولادهم يتقون بها العين في زعمهم، فأبطلها الإسلام. وقوله: (فلا أتم الله له) دعاء عليه. وقوله: (ومن تعلق ودعة)، الودع: بفتح الواو وسكون المهملة قال في مسند الفردوس: شيء يخرج من البحر يشبه الصدف يتقون به العين. وقوله: (فلا ودع الله له) بتخفيف الدال أي: لا جعله في دعة وسكون، قال أبو السعادات: وهذا دعاء عليه]. التميمة مثل ما يكون من خرزات، بل من أي نوع كان، فإذا علق الشيء سواء من خرزات أو من حجر أو من نحاس أو من صفر أو من فضة وذهب أو غير ذلك، لهذا الغرض فإنه يكون تميمة. وكذلك إذا كان فيه كتابة في ورق، أو في جلد، أو في خرقة، وما أشبه ذلك، وعلق فإنه تميمة، ولكن إذا كان هذا الذي علق من القرآن، أو من أسماء الله جل وعلا، والأدعية التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا فيه خلاف كما سيأتي، هل يجوز أو لا يجوز؟ من العلماء من جوزه، ومنهم -وهم الأكثر والجمهور- من منعه، وسيأتي ذكر الأدلة على ذلك والترجيح في هذا. [قوله: وفي رواية: (من تعلق تميمة فقد أشرك) قال أبو السعادات: إنما جعلها شركاً لأنهم أرادوا دفع المقادير المكتوبة عليهم، وطلبوا دفع الأذى من غير الله الذي هو دافعه]. الواقع أنهم أرادوا الدفع مطلقاً، ولا يلزم أنهم أرادوا منع المقادير، وإنما أرادوا أن ينتفعوا بذلك، وأن يمتنع عنهم الشر، ويكون ذلك سبباً. ومعلوم أنهم يعلمون أن الذي يقدر المقادير ويخلق هذه الأمور هو الله، ولكن يرون أن هذا سبب، والواقع أنه ليس سبباً، ولهذا خرجوا عن الأمر المعتدل الذي يدركون به مرادهم إلى عكس ما أرادوا من النفع، ووقعوا في الضر من ذلك، فهم أرادوا النفع مطلقاً والدفع مطلقاً. أما إضافة رد المقادير فقد لا يخطر في بالهم مثل هذا، فإذا انضاف إليه فهو زيادة شر على شر؛ لأن ما قدره الله لا بد أن يقع، ولكن الإنسان لا يدري ماذا قدر له، فهو يفعل سبباً، والسبب الشرعي المباح مأمور بفعله، ولكن هذا ليس منه، هذا أمر محرم لا يجوز فعله.

أثر حذيفة أنه رأى رجلا في يده خيط من الحمى فقطعه

أثر حذيفة أنه رأى رجلاً في يده خيط من الحمى فقطعه قال المصنف رحمه الله: [ولـ ابن أبي حاتم عن حذيفة رضي الله عنه أنه رأى رجلاً في يده خيط من الحمى فقطعه وتلا قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106]].

قطع حذيفة للخيط واعتباره له من الشرك

قطع حذيفة للخيط واعتباره له من الشرك حذيفة بن اليمان رضي الله عنه دخل على رجل مريض يزوره، فمس عضده كعادة الزائر يضع يده على يد المريض أو على رجله أو على رأسه حتى يكون في ذلك مواساة له، ولينظر في بدنه هل فيه حمى؟ حتى يدعو له، فسقطت يده على خيط مربوط في عضده فقال: ما هذا؟ فقال: من الحمى، فقطعه، وتلا هذه الآية، وفي رواية أنه قال: لو مت وهو عليك ما صليت عليك، لأنه ارتكب شركاً، فتلا قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}. معلوم أن هذه الآية نزلت في الشرك الأكبر، يعني: في عبادة اللات والعزى ومناة وغيرها من الأصنام والأوثان، وسبق أن عرفنا أن عبادة المشركين لهذه الأصنام هي طلبهم الشفاعة منها، وما كانوا يعتقدون أنها شريكة مع الله، وأنها تتصرف وتنزل المطر أو تحيي الموتى، أو أنها تأخذ بيد عابدها وتضعه في الجنة وتمنعه من النار، ما كان أحدهم يعتقد شيئاً من ذلك أبداً. وإنما كانوا يعتقدون أنها تشفع لهم عند الله فقط -هذا هو شركهم وعبادتهم- وأنهم ينالون البركة بالجلوس عندها، والطواف عليها؛ فلهذا أخبر الله جل وعلا أنهم إذا سئلوا: من خلقهم؟ قالوا: الله، وإذا سئلوا: من خلق السماوات والأرض؟ قالوا: الله، وإذا سئلوا: من الذي ينزل المطر وينبت النبات؟ يقولون: الله، ولهذا قال العلماء: إيمانهم هو قولهم: إن الله هو الذي خلقهم، وخلق كل شيء، وشركهم كونهم يطلبون الشفاعة من غير الله جل وعلا، ويدعون هذه الأصنام لتقربهم إلى الله زلفى. حذيفة رضي الله عنه استدل بهذه الآية على أن تعليق الخيط من أجل الحمى شرك، وقوله: من الحمى، أي: حتى يخفف هذا الخيط ألم الحمى، أو يمنعها، أو يرفعها. فأخبره أن هذا شرك بالله جل وعلا واستدل بهذه الآية، وفي هذا دليل على أن الصحابة رضوان الله عليهم يدخلون الشرك الأصغر في الأكبر، ويستدلون على منعه وحرمته بما نزل في الشرك الأكبر، وهو دليل على معرفة الصحابة بالشرك دقيقه وجليله، ولم يزل العلماء يستدلون بهذا الشيء. وما ذكر من الحكم يدل على أن هذا من أعظم المحرمات، المقصود أن كل شيء يفعله الإنسان من هذا النوع يكون له هذا الحكم بخلاف الأدوية الطبيعية التي تكون مركبة سواء كيماوية أو غير كيماوية؛ لأنها ليست من هذا الباب، وإنما هي تقاوم المرض بشيء ظاهر معروف وليست من باب الاعتقاد، أما هذه فهي لا تنفع، بل تضر.

سند الأثر وترجمة حذيفة

سند الأثر وترجمة حذيفة قال الشارح: [قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن الحسين بن إبراهيم بن أشكاب قال: حدثنا يونس بن محمد قال: حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم الأحول عن عروة قال: دخل حذيفة على مريض فرأى في عضده سيراً فقطعه أو انتزعه ثم قال: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106] وابن أبي حاتم هو الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم محمد بن إدريس الرازي التميمي الحنظلي الحافظ صاحب الجرح والتعديل والتفسير وغيرهما]. وفي هذا دليل على أن الإنسان إذا رأى مثل هذا الشيء يقطعه ويزيله، ولو لم يرض صاحبه؛ لأن هذا من المنكرات التي تجب إزالتها، ولهذا قطعه حذيفة بدون أن يأخذ رأيه أو يستشيره، بل نزعه بقوة ورماه؛ لأنه في الواقع يخلص هذا المسكين مما وقع فيه من الشرك، فهو ناصح له في ذلك، وهكذا الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يريد في ذلك خلاص من وقع في هذا المنكر، وإذا كان من هذا القبيل فهو شرك، والشرك من أعظم المنكرات.

سبب تسمية حذيفة بصاحب السر

سبب تسمية حذيفة بصاحب السر قال الشارح: [مات سنة سبع وعشرين وثلاثمائة، وحذيفة هو ابن اليمان، واسم اليمان: حسيل بمهملتين مصغراً، ويقال: حسل -بكسر ثم سكون- العبسي بالموحدة حليف الأنصار، صحابي جليل من السابقين، ويقال له: صاحب السر، وأبوه أيضاً صحابي، مات حذيفة في أول خلافة علي رضي الله عنه سنة ست وثلاثين]. سبب تسميته بصاحب السر: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة تبوك كان معه منافقون في تلك الغزوة، وكانوا يتربصون برسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان سائراً في الليل وأمامه عقبة، يعني: طريقاً في جبل سيسلكه، فقال للناس: إني ذاهب! فلا يذهب أحد في هذه العقبة، وذهب معه حذيفة وعمار بن ياسر، حذيفة يقود ناقته، وعمار يسوقها، فلما علم المنافقون أنه سيسلك هذا الطريق ذهبوا وكمنوا له في عرض جبل يريدون أن ينفروا ناقته به لعله يسقط في هذا الجبل فيموت، فلما سار وصار في أثناء العقبة نفذوا مؤامرتهم، فصار حذيفة يضرب وجوه رحائلهم، وخافوا أن يعرفهم فهربوا في الليل، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (هل عرفت القوم؟) قال: لا، القوم متلثمون، ولكن عرفت رحل فلان وفلان، فأخبره الرسول صلى الله عليه وسلم بأسمائهم، وقال: (هؤلاء منافقون، فلان وفلان وفلان وفلان) وصار يسرد عليه أسماءهم، ثم قال له: (لا تخبر أحداً). فهذا سبب تسميته صاحب السر، فكان عمر رضي الله عنه وبعض الصحابة إذا مات الإنسان ينظرون إلى حذيفة: هل يصلي عليه؟ فإن صلى عليه صلوا عليه، وإن لم يصل عليه امتنعوا؛ لئلا يكون من الذين أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأنهم منافقون، والله جل وعلا يقول: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة:84] أي: المنافقون. وأما ما يقوله الصوفية من أنه أعطي السر اللدني، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطاه من الأسرار كما أعطي الخضر الشيء الذي لا يعرفه موسى، فهذا من الخرافات التي لا أصل لها، وإنما سمي صاحب السر لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبره بأسماء هؤلاء. وجاء في بعض الأحاديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم أسر إليه أموراً ستقع من الفتن، مثل كون المسلمين يقتلون خليفتهم، وما أشبه ذلك، وذكر أناساً سيتولون، ويكون في توليتهم شر على الإسلام والمسلمين، من تأخير الصلاة وغير ذلك. جاء في بعض الآثار أن الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً أخبره بهذا، ولكن هذا ليس خاصاً به، فقد أخبر به غير حذيفة، وأحاديث الفتن كثيرة منتشرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جرابين: أما أحدهما فبثثته فيكم، وأما الآخر فلو أعلمتكم به لقطعتم هذا البلعوم، ويشير إلى حلقه) قيل: إنه يقصد بذلك أنه لو أخبرهم أنهم يقتلون خليفتهم لم يصدقوه وربما آذوه، فهذا منه. والمقصود: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يخص هذه الأمور برجل بعينه، وإنما أسر إلى حذيفة أسماء المنافقين.

إنكار المنكر بالقول والفعل

إنكار المنكر بالقول والفعل قال الشارح: [قوله: أنه رأى رجلاً في يده خيط من الحمى أي: عن الحمى، وكان الجهال يعلقون التمائم والخيوط ونحوها لدفع الحمى. وروى وكيع عن حذيفة: أنه دخل على مريض يعوده فلمس عضده فإذا فيه خيط فقال: ما هذا؟ قال: شيء رقي لي فيه، فقطعه وقال: لو مت وهو عليك ما صليت عليك. وفيه إنكار مثل هذا، وإن كان يعتقد أنه سبب، فالأسباب لا يجوز منها إلا ما أباحه الله تعالى ورسوله مع عدم الاعتماد عليها. وأما التمائم والخيوط والحروز والطلاسم ونحو ذلك مما يعلقه الجهال فهو شرك يجب إنكاره وإزالته بالقول والفعل، وإن لم يأذن فيه صاحبه. قوله: وتلا قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106] استدل حذيفة رضي الله عنه بالآية على أن هذا شرك، ففيه صحة الاستدلال على الشرك الأصغر بما أنزل الله في الشرك الأكبر لشمول الآية له، ودخوله في مسمى الشرك، وتقدم معنى هذه الآية عن ابن عباس وغيره في كلام شيخ الإسلام وغيره، والله أعلم. وفي هذه الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم ما يبين كمال علمهم بالتوحيد، وما ينافيه أو ينافي كماله].

مسائل باب: من الشرك لبس الحلقة والخيط لرفع البلاء أو دفعه

مسائل باب: من الشرك لبس الحلقة والخيط لرفع البلاء أو دفعه قال المصنف رحمه الله: [فيه مسائل: المسألة الأولى: التغليظ في لبس الحلقة والخيط ونحوهما لمثل ذلك]. يعني: مثل ذلك في النفع أو الدفع، فإذا كان الإنسان يلبس شيئاً من ذلك فهو مشرك، وسواء كان شركاً أكبر أو أصغر حسب ما يقوم بقلبه. [المسألة الثانية: أن الصحابي لو مات وهى عليه ما أفلح. فيه شاهد لكلام الصحابة: أن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر. المسألة الثالثة: أنه لم يعذر بالجهالة. المسألة الرابعة: أنها لا تنفع في العاجلة بل تضر، لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تزيدك إلا وهنا)]. قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تزيدك إلا وهناً) يعني: أن هذه الحلقة تضر، وإن زعم أنها تنفع فهي لا تزيده إلا وهناً، والوهن هو الضعف، أي: يزداد مرضاً إلى مرضه، هذا في العاجل، أما في الآجل فهي شرك يعاقبه الله عليه. [المسألة الخامسة: الإنكار بالتغليظ على من فعل مثل ذلك. المسألة السادسة: التصريح بأن من تعلق شيئاً وكل إليه. المسألة السابعة: التصريح بأن من تعلق تميمة فقد أشرك. المسألة الثامنة: أن تعليق الخيط من الحمى من ذلك. المسألة التاسعة: تلاوة حذيفة الآية دليل على أن الصحابة رضي الله عنهم يستدلون بالآيات التي في الشرك الأكبر على الأصغر كما ذكر ابن عباس في آية البقرة]. وسبق أن التعلق يكون في القلب، ويكون بالفعل، ولكن إذا حصل بالفعل لا بد أن يكون صدر من القلب، إلا أن يكون الإنسان غبياً، أو لا يعقل، أما إذا كان عاقلاً فالعاقل إنما يبعثه على عمله ما في القلب من نية، وهذا هو تعلق القلب، فمن علق شيئاً من ذلك فقد وقع في الشرك، والشرك وإن كان أصغر فأمره عظيم ليس سهلاً، فلا يجوز التساهل في مثل هذه الأمور، والإنسان إذا اعتمد على الله جل وعلا وتوكل عليه فإنه يكفيه. وإذا وقع في مرض أو في أمر من الأمور التي يخشاها فعليه أن يلجأ إلى الله، وعليه أن يدعو ربه، ويتجه إليه، ويتوكل عليه، وينزل به حاجته، هذا هو الذي ينفعه في الواقع، مع أنه لا مانع من فعل الأسباب المباحة من الأدوية وغيرها، فإنه يجوز أن يتداوى إن لم يكن ذلك مستحباً كما مضى، فإذا لم يكن الدعاء ممنوعاً محرماً فإنه يكون من الأسباب المباحة، أو الأسباب المسنونة المستحبة.

شرح فتح المجيد [37]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [37] لا تجوز الرقى والتمائم إلا ما استثناه أهل العلم بشروطه، أما التولة فلا تجوز مطلقاً؛ لأنها نوع من السحر، والرقية بالقرآن والأذكار جائزة، بل مستحبة، وقد جاء الوعيد الشديد لمن علق وتراً أو غيره معتقداً أن ذلك يدفع العين، وحرمت تلك الأشياء لأنها تنافي التوحيد.

ما جاء في الرقى والتمائم

ما جاء في الرقى والتمائم قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في الرقى والتمائم]. يقول رحمه الله: باب ما جاء في الرقى والتمائم، الرقى: جمع رقية، والتمائم: جمع تميمة، والرقى منه ما هو ممنوع وشرك، ومنها ما هو مشروع ومستحب. وكذلك التمائم منها ما هو منصوص عليه بأنه من الشرك، ومنها ما هو مختلف فيه، ولهذا جعل الترجمة مبهمة فقال: ما جاء في الرقى والتمائم، يعني: من النهي ومن الجواز، وهذا الباب من الأبواب التي يفسر بها التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله؛ لأنه يذكر في هذا الباب ما يضاد التوحيد، أو ما ينقصه ويذهب بكماله، ويكون هذا من باب التفسير. والرقى المحرم منها: هو ما كان بغير أسماء الله جل وعلا مثل: أسماء الشياطين وأسماء الجن وغير ذلك مما هو ممنوع، أو مثل: الاستعاذة بغير الله، والاستعانة بغير الله، وكذلك ما كان من كلام لا يعرف معناه. والتمائم كذلك، فإذا كانت التميمة التي تعلق يكتب بها كتابات لا يعرف معناها، أو كتابات بأسماء الجن وأسماء الشياطين، أو أسماء الذين يستعان بهم، أو بحروف مقطعة وكلمات لا تؤدي إلى معنى مفهومٍ واضح أو بكلامٍ غير عربي، وما أشبه ذلك؛ فهذا ممنوع، وهو من المحرمات التي لا يجوز أن يستعملها المسلم. وأما إن كانت التميمة بآيات من القرآن، وبأدعية، وبأسماء الله وأوصافه: فإن هذا فيه خلاف بين العلماء، منهم من أباح ذلك وأجازه، ومنهم من منعه، وسيأتي ذلك. وسبق أن قلنا: إن التميمة سميت تميمة من باب التفاؤل، حتى يتم لصاحب المقصد مقصده، وهذا من عادة العرب في التسمية، والرسول صلى الله عليه وسلم -كما سبق- دعا على الذي يعلق تميمة بأن الله لا يتم له مراده، سواء كان ما قاله النبي دعاء أو خبراً -كما سبق. وسيأتي: أن الرقية جائزة في أمور نص عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثل: العين والحمى، وتجوز في غيرهما أيضاً، ولكن بشروط ثلاثة: الشرط الأول: أن تكون بأسماء الله وصفاته. الشرط الثاني: أن تكون بكلام مفهوم معروف. الشرط الثالث: ألا يعتقد أنها تؤثر بنفسها، وإنما المؤثر هو الله جل وعلا، فيكون ذلك من الأسباب المشروعة. وأما التميمة: فقد تكون مكتوبة أو غير مكتوبة كأن تكون من خرز وودع ومما يعتقد بأن فيه نفعاً كأن يكون من نحاس، أو من فضة، أو من صفر، وقد تكون من حبال، والناس يختلفون في هذا كثيراً، حتى إن بعضهم يعلق نعلاً! ويزعم أن هذا النعل إذا علقه في السيارة أو في البيت أو في الدكان، أو المصنع أو غير ذلك؛ فإنه يمنع من عين الحاسد، وبعض الناس يعتقد أنه يمنع وصول الجن، وهي عقائد جاهلية موروثة عن الجاهلية. وبعضهم يجعل ذلك لأمور معينة يعني: أمراضاً معينة، حتى لا يصيبه هذا المرض المعين، وهذه أيضاً وراثة عن الجاهلية، وقد سبق أنه كان في الجاهلية ناس يعلقون حبالاً بأعضادهم وأيديهم، ويقولون: إنها تمنع من الواهنة، وبعضهم يجعل ذلك حلقاً من الصفر ويقول: إنها تمنع من الواهنة، والواهنة شيء يشبه الروماتيزم، قد يصيب الإنسان في كتفه، وبعضهم يقول: هي ما يسمى بعرق النسا، ولكن ليس ذلك، والإنسان قد يتوهم أمراضاً وهمية، ويكون الوهم أشد مرضاً من المرض العادي الحقيقي، ثم إذا تعلق بشيء من ذلك، ووجد الشفاء توهم أنه بسبب ذلك، فيتعلق بهذا الأمر، وقد يأتي الشيطان ويفتن كثيراً من الناس كما سيأتي، فإنه قد يمسك عضواً من أعضاء الإنسان أو يؤلمه بشيء مما يستطيعه، فإذا تعلق بشيء أو علق شيئاً زال عنه ما يجده، ومن ثم استمر في هذا الشيء المعلق، فيصبح قد تعلق بغير الله، فيقع في الشرك؛ لأن الشيطان حريص جداً على إغواء الإنسان. والله جل وعلا يخبرنا أنه من يتوكل على الله فإنه يكفيه جل وعلا، ومن يتوكل على الله فهو حسبه وكافيه، ولا يضره شيء، ولكن الذي يتعلق قلبه بغير الله، يوكل إلى ذلك الشيء الذي تعلق عليه ويضره، ويتسلط عليه الشيطان، وتتسلط عليه العوارض الأخرى؛ جزاءً لكونه أعرض عن الله جل وعلا. فأراد المؤلف رحمه الله أن يبين شيئاً من هذه الأمور في هذا الباب؛ لأن هذا قد يقع فيه كثير من العوام ومن الجهلة، ولا سيما النساء، فإنهن يعلقن على الأطفال هذه الأمور، وقد يغترون بمن يدعي شيئاً من المعرفة، فيذهبون إليهم، ويكتبون لهم طلاسم فيها أسماء شياطين، وفيها استعانة بجن، وقد يأمرونهم بأمور شركية، فأراد أن يبين -رحمه الله- أن هذا من الأمور التي قد تنافي التوحيد، وقد تقدح فيه وتنقصه، فيكون ذلك من تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله.

حكم تعليق القلادة إذا كان من أجل الدفع أو النفع

حكم تعليق القلادة إذا كان من أجل الدفع أو النفع قال المصنف: [في الصحيح عن أبي بشير الأنصاري رضي الله عنه (أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بعض أسفاره، فأرسل رسولاً: ألا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر، أو قلادة إلا قطعت)]. كان أبو بشير رضي الله عنه -راوي هذه القصة- في مسير من مسيرات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل رسولاً كلفه بأن يعلم الناس ويبلغهم بألا يبقى في رقبة بعير قلادة -أو قال: قلادة من وتر- إلا قطعت وأزيلت، يعني: أن الراوي شك: هل قال الرسول صلى الله عليه وسلم: قلادة مطلقاً بدون قيد، أو أنها قيدت بأنها قلادة من وتر؟ وهذا سئل عنه الإمام مالك فقال: لا أعرف كراهتها إلا أن تكون من وتر؛ وذلك أن القلائد قد تتخذ للزينة، فقد توضع على البعير لأجل الزينة، وتكون من حبل أو من غير ذلك، وقد يوضع حبل في الرقبة حتى يمسك البعير به أو غير ذلك، فإذا كان لأجل ذلك فهذا لا مانع منه، ولهذا قال: إلا إذا كانت من وتر، فإنها تتخذ للاعتقاد. والضابط في هذا: أن القلادة إذا وضعت في البعير، أو في غير البعير من آدمي وغيره، إن كان يرجى من وضعها نفع، أو دفع لما يتوقع من الضر، فلا يجوز وضعها مطلقاً من أي نوع كان؛ لأن هذا تعلق بغير الله جل وعلا. أما إذا كانت للزينة أو لغرض بأن تقاد هذه الدابة به، أو أن يعلق على رقبتها حبلاً، حتى إذا احتيج إلى ربطها به، أو عقلها به صنع ذلك، فهذا لا بأس به. فيكون المعنى أنها مقيدة بالوتر وبما أشبه ذلك مما يقصد به النفع أو الدفع، فإذا كان كذلك فهي ممنوعة، ويكون من نوع الشرك، وهو تعلق بغير الله؛ لأن هذا لا يمنع ولا يدفع، قلادة تعلق بالرقبة أو بغير ذلك أي فائدة فيها من دفع الضر أو منع وقوع الضر؟! ومن اعتقد أن الضر يرفع بعد وقوعه أو يدفع قبل وقوعه، فقد وقع في الشرك، فهو محرم من أي نوع كان من القلائد، هذا بالنسبة للقلادة وهي نوع من أنواع التمائم. قال الشارح رحمه الله: [قوله: باب ما جاء في الرقى والتمائم أي: من النهي وما ورد عن السلف في ذلك. قوله: وفي الصحيح عن أبي بشير الأنصاري (أنه كان مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بعض أسفاره، فأرسل رسولاً: ألا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر -أو قلادة- إلا قطعت) هذا الحديث في الصحيحين. قوله: (عن أبي بشير) بفتح أوله وكسر المعجمة، قيل: اسمه قيس بن عبيد قاله ابن سعد، وقال ابن عبد البر: لا يوقف له على اسم صحيح، وهو صحابي شهد الخندق، ومات بعد الستين، ويقال: إنه جاوز المائة. قوله: (في بعض أسفاره) قال الحافظ: لم أقف على تعيينه. قوله: (فأرسل رسولاً) هو زيد بن حارثة روى ذلك الحارث بن أبي أسامة في مسنده قاله الحافظ. قوله: (ألا يبقين) بالمثناة التحتية والقاف المفتوحتين، وقلادة مرفوع على أنه فاعل، والوتر -بفتحتين- واحد أوتار القوس، وكان أهل الجاهلية إذا اخلولق الوتر أبدلوه بغيره، وقلدوا به الدواب؛ اعتقاداً منهم أنه يدفع عن الدابة العين. قوله: (أو قلادة إلا قطعت) معناه: أن الراوي شك هل قال شيخه: قلادة من وتر أو قال: قلادة وأطلق ولم يقيده؟ ويؤيد الأول ما روي عن مالك أنه سئل عن القلادة؟ فقال: ما سمعت بكراهتها إلا في الوتر، ولـ أبى داود (ولا قلادة) بغير شك. قال البغوي في شرح السنة: تأول مالك أمره عليه الصلاة والسلام بقطع القلائد على أنه من أجل العين، وذلك أنهم كانوا يشدون تلك الأوتار والتمائم والقلائد، ويعلقون عليها العوذ، ويظنون أنها تعصمهم من الآفات، فنهاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنها، وأعلمهم أنها لا ترد من أمر الله شيئاً. قال أبو عبيد: كانوا يقلدون الإبل الأوتار؛ لئلا تصيبها العين فأمرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإزالتها؛ إعلاماً لهم بأن الأوتار لا ترد شيئاً، وكذا قال ابن الجوزي وغيره. قال الحافظ: ويؤيده حديث عقبة بن عامر رفعه: (من تعلق تميمة فلا أتم الله له) رواه أبو داود، وهى ما علق من القلائد خشية العين ونحو ذلك انتهى].

حديث: (إن الرقى والتمائم والتولة شرك)

حديث: (إن الرقى والتمائم والتولة شرك) قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الرقى والتمائم والتولة شرك) رواه أحمد وأبو داود]. ابن مسعود رضي الله عنه دخل على زوجته ومد يده إليها ووجدها ربطت بيدها خيط فقطعه، وقال: ما أغنى آل عبد الله عن الشرك، فقالت: تقول هذا وعيني لا تزال تقذف، فأختلف إلى اليهودي الفلاني فيرقى لي فيها فيذهب، يعني: القذف، قال: ذاك الشيطان يضع أصبعه في عينك، فإذا ذهبتِ إليه ورقى لك أزاله، يكفيك أن تقولي: أذهب البأس رب الناس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، ثم ذكر الحديث وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الرقى والتمائم والتولة شرك). المقصود بالرقى التي فيها الاستعانة بغير الله -كما سبق- أو فيها ذكر الشياطين والجن، أو فيها مثلاً طلسمات لا تعرف، مثل الخطوط التي يخطها بعض الناس، أو فيها التصريح بالاستعانة بأسماء معينة من أسماء الشياطين، كما يفعله كثير ممن يأكل أموال الناس بالباطل، ويستعمل الشرك في ذلك. أما التمائم فهنا أطلق، قال: التمائم مطلقاً، والتمائم كل ما علق ويقصد به الشفاء من مرض وقع، أو يقصد به منع ما يتوقع من عين أو ألم أو غير ذلك، كل ذلك تميمة. أما التولة فهي: نوع من أنواع السحر، يسميه النساء محبب، ويزعمن أنه إذا اتخذ حبب الزوج إليها، أو يحببها إلى الزوج، والسحر لا ينفك عن الشرك، ويكون بواسطة الشياطين، فأخبر أن هذه الأمور الثلاثة شرك، فيكون هذا إما منافياً للتوحيد أو يكون قادحاً فيه ومنقصاً له، بحسب ما يقوم في قلب الإنسان وفعله. وسيأتي التفصيل في الرقى، وأن السلف اختلفوا فيه، وقد سبق في الباب الثاني أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الذين يدخلون الجنة بغير حساب وهم من السبعين ألفاً، أخبر أنهم: هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون، فجعل الاسترقاء -الذي هو طلب الرقية من الغير- من موانع السبق إلى الجنة بغير حساب، ولكن هذا لا يدل على أنه إذا قام بالإنسان ذلك، وسعى له أنه يكون مشركاً، أو يكون ممنوعاً من دخول الجنة، وإنما يدل على أنه لا يدخل الجنة بغير حساب، وقد قيل: إن السبب في ذلك تعلق قلبه بغير الله في كونه طلب من غير الله جل وعلا -من المخلوقين- أن يرقيه، بخلاف ما إذا رقى نفسه أو رقي له بغير أن يطلب، فإنه ليس ممنوعاً بالشروط السابقة للرقية. وقد تكون الرقية مستحبة، ويؤجر عليها الإنسان، إذا رقى نفسه موقناً ومستعيناً بالله، بأسمائه وبصفاته وبآياته، ومستعيذاً بذلك، وسيأتي أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالاستعاذة بكلمات الله التامات، وقال: (من نزل منزلاً وقال: أعوذ بكلمات الله التامة لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك) وكلمات الله يقصد بها: الكلمات الشرعية التي يأمر بها وينهى، وهي كلامه الذي في القرآن، ويقصد بها: كلماته الكونية التي تكون بها الأشياء، وهي التامة التي لا يجاوزها بر ولا فاجر، بخلاف الشرعية، فإن أكثر الخلق يجاوزونها يعني: يعصون ما أمرت به، ويخالفون مقتضاها، أما الكونية فلا أحد يجاوزها. ويدل هذا على جواز الاستعاذة بكلام الله، فهو من صفات الله جل وعلا.

الخلاف في تعليق القرآن حرزا

الخلاف في تعليق القرآن حرزاً جاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه إذا كان الحرز من القرآن ومن آيات الله جل وعلا وأسمائه وصفاته فلا بأس به، وكان يكتب تعويذات من الآيات التي فيها المعاني العظيمة، مثل آية الكرسي، ومثل المعوذتين، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ويعلقها. وجاء كذلك عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ما يدل على جواز هذا، وفي رواية عن الإمام أحمد قال: إن هذا يجوز، وابن القيم رحمه الله في كلامه -في زاد المعاد- ما يدل على أنه يجوز ذلك عنده، وهو قول طائفة من السلف. القول الثاني: أنه ممنوع مطلقاً، وهذا قول ابن مسعود وأصحابه الذي تعلموا عليه، وكذلك يدل عليه ما جاء عن حذيفة وعبد الله بن عكيم وغيرهم من الصحابة، وهذا القول هو الراجح، وهو رواية عن الإمام أحمد أيضاً، وهو الصواب لأمور ثلاثة: الأمر الأول: أن النصوص التي جاءت في المنع من التميمة مطلقة، ليس فيها تقييد أنه إذا كان من كذا وكذا فهو جائز، ويجب أن تؤخذ النصوص على إطلاقها، وعلى الذي يقيدها أن يأتي بالدليل، ولا دليل على ذلك، وهذا إذا أخذناه وحده يكفي في المنع. الأمر الثاني: أن تعليق شيء من آيات الله وأسمائه وأوصافه لا يخلو المعلق له من امتهانه، فقد ينام ويضعه تحت رأسه، وقد يدخل به إلى مكان قضاء الحاجة، ولا سيما إذا كان على صبي، أو من لا يعقل، أو من لا يقدر الله حق قدره، فيكون فيه امتهان، حتى آل الأمر بكثير من الناس أنهم يكتبون مصاحف صغيرة جداً، فيضعونها على رقابهم أو في جنوبهم على أنها تمائم، وهذا موجود ويباع في المكاتب، ويتخذ لهذا الغرض، فهذا من امتهان كلام الله جل وعلا وكتابه -نسأل الله العافية. الأمر الثالث: أن هذا قد يكون وسيلة إلى تعليق ما لا يجوز. لهذه الأمور الثلاثة نقول: إن الراجح والصواب المنع مطلقاً من تعليق التمائم، وهذا أسلم للإنسان، وأبعد له من الوقوع في المحرمات، وهي أيضاً داعية لغيره لأن يفعل شيئاً من ذلك فيقع المحذور؛ لهذا جاءت النصوص كلها تدل على أن التميمة ممنوعة مطلقاً، والعلم عند الله جل وعلا.

الرقية: حكمها وأقسامها

الرقية: حكمها وأقسامها قال الشارح: [وعن ابن مسعود رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الرقى والتمائم والتولة شرك) رواه أحمد وأبو داود، وفيه قصة، ولفظ أبي داود: عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت: إن عبد الله رأى في عنقي خيطاً فقال: ما هذا؟ قلت: خيط رقي لي فيه، قالت: فأخذه ثم قطعه، ثم قال: أنتم آل عبد الله لأغنياء عن الشرك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الرقى والتمائم والتولة شرك) فقلت: لقد كانت عيني تقذف، وكنت أختلف إلى فلانٍ اليهودي، فإذا رقى سكنت، فقال عبد الله: إنما ذاك عمل الشيطان كان ينخسها بيده، فإذا رقي كف عنها، إنما كان يكفيك أن تقولي كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أذهب البأس رب الناس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً) ورواه ابن ماجة وابن حبان والحاكم وقال: صحيح، وأقره الذهبى]. وهذا يدل على أمرين: الأمر الأول: جواز الرقية، فهي جائزة كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (أذهب البأس، رب الناس، واشف أنت الشافي) وهذه رقية، وسبق أنه صلوات الله وسلامه عليه جاء عنه في الحديث أنه قال: (لا رقية إلا من عين أو حمة) وسبق أن معنى هذا الحديث أن الرقية من هذين الأمرين -من العين والحمة- تنفع أكثر من غيرهما، وأن هذا مثل قول الإنسان: لا فتى إلا فلان، ولا كريم إلا فلان، وليس المعنى أنه ينفي الكرم عن جميع الناس أو الفتوة عن جميع الفتيان، وإنما يريد أن يخبر أن هذا هو الكامل في فتوته، وهو الكامل في الكرم، ولا ينفي أن يكون غيره كريماً أو فتى، فهذا مثله، والمعنى أن الرقية الناجحة الشافية الكاملة من شيئين: الأول: العين وهي إصابة العائن للآخر بعينه، وأن الرقية من ذلك تنفع وتجدي، وهذا أمر مجرب ومعلوم. والثاني: الحمة، والحمة: هي ذوات السموم كالعقرب والحية وما أشبه ذلك، فإن الرقية منها من أنجح ما يكون، ولا سيما إذا صدرت من مؤمن مخلص موقن بما يقول، وقد جاء في الصحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه ذهب مع طائفة من الصحابة في سرية، أرسلهم الرسول صلى الله عليه وسلم لغرض من الأغراض في سبيل الله، وأنهم استضافوا حياً من العرب، فأبوا أن يضيفوهم، فلدغ سيد ذلك الحي، فسعوا له بكل ممكن، فلم يجدوا له شفاءً، ثم قال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط -يقصدون أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم- لعل أن يكون عندهم رقية، فجاءوا إليهم يطلبون ذلك، فقال لهم أبو سعيد: نعم أنا أرقي، ولكن أنتم لم تضيفونا، فلن أرقيه إلا بجعل تجعلونه لنا، قالوا: نعم، واتفقوا على أن يجعلوا له قطيعاً من الضأن، فأقبل يقرأ الفاتحة ويتفل عليه، فقام كأنما كانت يده مربوطة بحبل فانحل الحبل، وصار يمشي لا بأس به، شفي تماماً! ثم لما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبروه، فأخبره أنه رقاه بفاتحة الكتاب، فقال: (وما يدريك أنها رقية؟) يعني: الفاتحة رقية ناجحة، فهذا يدل على أن ما قاله صلوات الله وسلامه عليه يشفى به الإنسان عاجلاً، وهذا أمر مجرب. ولكن ليس كل راق يحصل منه هذا الأمر، وإنما يحصل من المؤمن الموقن الصادق، فإذا رقى من كانت هذه صفته، لا يمكن أن يتخلف الشفاء المرغوب فيه، وإن كان المرقى عليه كافراً، ولا يلزم أن يكون مؤمناً كما في هذه القصة.

أقسام الرقية

أقسام الرقية الأمر الثاني الذي يدل عليه حديث ابن مسعود: أن التمائم والرقى التي فيها تعلق بغير الله جل وعلا نوع من الشرك، فتحمل الرقية على الشيء الشركي الذي فيه الاستعانة بغير الله، ويستنتج من ذلك أن الرقية تنقسم إلى أقسامٍ ثلاثة: القسم الأول: رقية جائزة بل مستحبة، وهي الرقية بأسماء الله وصفاته وآياته، فإذا رقى الإنسان بذلك على نفسه أو على غيره فلا بأس، وأما إذا طلب الرقية فإنها تكون جائزة أيضاً، ولكن ذلك يمنع من دخول الجنة بلا حساب. القسم الثاني: الرقية الشركية، وهي ما كانت بأسماء الشياطين، أو بأسماء الجن، أو ما أشبه ذلك من الاستعانة بغير الله. القسم الثالث: الرقية التي يتوقف فيها حتى يتبين أمرها، وهي ما كانت مجهولة المعنى، فهذا يكون ممنوعاً في الجملة، ولا تجوز أن تكون الرقية إلا بالشيء المفهوم الذي يعرف ما هو. وأما التمائم فليس فيها تفصيل على القول الصحيح. وأما التولة فهي نوع آخر خارج عن ذلك، ولا أحد يجيز شيئاً من السحر إلا ما سيأتي من قول ابن المسيب رحمه الله في النشرة، والنشرة هي: حل السحر عن المسحور، فقد قال: إن ذلك لا بأس به إذا أريد به النفع، يعني: إذا أرادوا به الإصلاح وإزالة الأذى، هذا نقل عن ابن المسيب، وسيأتي الكلام على ذلك في بابه إن شاء الله. قال الشارح: [قوله: (إن الرقى) قال المصنف: هي التي تسمى العزائم، وخص منها الدليل ما خلا من الشرك، فقد رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من العين والحمة. يشير إلى أن الرقى الموصوفة بكونها شركاً هي التي يستعان فيها بغير الله، وأما إذا لم يذكر فيها إلا أسماء الله وصفاته وآياته والمأثور عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهذا حسن جائز أو مستحب. قوله: فقد رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من العين والحمة كما تقدم ذلك في باب من حقق التوحيد]. وجاء الترخيص أيضاً في غير العين والحمة، ولا يفهم من الترخيص أنه مجرد رخصة، بل جاء ما يدل على أنها مستحبة يثاب الإنسان عليها، وجاء الترخيص أيضاً من الدم، والمقصود بالدم الرعاف، وجاء أيضاً من النملة، وهي بثرة تخرج في جسد الإنسان، والأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الترخيص في الرقية ليست خاصة بالعين والحمة، بل جاءت أيضاً في غيرهما. قال الشارح: [قوله: فقد رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من العين والحمة كما تقدم ذلك في باب من حقق التوحيد، وكذا رخص في الرقى من غيرها كما في صحيح مسلم عن عوف بن مالك قال: (كنا نرقي في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله! كيف ترى في ذلك؟ فقال: اعرضوا عليَّ رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم تكن شركاً) وفي الباب أحاديث كثيرة. قال الخطابي: وكان عليه السلام قد رقى ورقي، وأمر بها وأجازها، فإذا كانت بالقرآن وبأسماء الله فهي مباحة أو مأمور بها، وإنما جاءت الكراهة والمنع فيما كان منها بغير لسان العرب، فإنه ربما كان كفراً أو قولاً يدخله شرك]. قوله: (إنه رقى) فكان يرقي بعض أهله صلوات الله وسلامه عليه، وأما كونه رقي فإن جبريل عليه السلام رقى النبي عليه الصلاة والسلام، جاء إليه وقال: باسم الله أرقيك، الله يشفيك. . إلى آخره. فالرقية حصلت له بدون طلب منه، فهذا يدل على الجواز مطلقاً إن لم يكن مستحباً، والإنسان عليه أن يتحصن بأسماء الله وصفاته، وينبغي أن يكون له ورد من ذلك في أول النهار وآخره، يذكر من آيات الله، ومن أسماء الله ما يكون له حصناً، وقد جاءت أحاديث كثيرة جداً في أن من قال حين يمسي كذا وكذا لم يضره شيء، ومن قال حين يصبح كذا وكذا لم يضره شيء، وقد أفرد هذه الأمور العلماء بكتب مؤلفة، ومن أفضل ما كتب في ذلك وأحسنه ما كتبه الإمام النووي رحمه الله في كتابه الأذكار، فإن هذا الكتاب مما لا يستغني عنه المسلم، وينبغي له أن يراجعه دائماً، ويقرأ فيه، ويحفظ ما ينبغي حفظه منه. فالمقصود: أن هذا من الباب الذي يتزود به المؤمن ويتحصن به، كونه يلجأ إلى الله بأسمائه وصفاته جل وعلا، ويتعوذ بها ويتحصن به، فهو أمر مرغوب فيه، وفيه فضل عظيم؛ لأنه عبادة لله جل وعلا. قال الشارح: [قلت: من ذلك ما كان على مذاهب الجاهلية التي يتعاطونها، وأنها تدفع عنهم الآفات، ويعتقدون أن ذلك من قبل الجن ومعونتهم، وبنحو هذا ذكر الخطابي. وقال شيخ الإسلام: كل اسم مجهول فليس لأحد أن يرقي به فضلاً عن أن يدعو به، ولو عرف معناه؛ لأنه يكره الدعاء بغير العربية، وإنما يرخص لمن لا يحسن العربية، فأما جعل الألفاظ الأعجمية شعاراً فليس من دين الإسلام]. يكره الدعاء بغير العربية أو -مثلاً- طلب مسائل العلم؛ لأن الإنسان لا يفهم خطاب الله جل وعلا، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم إلا بالعربية؛ ولهذا صار تعلم اللغة العربية واجب من واجبات الدين؛ لأنه لا يمكن للإنسان أن يفهم كلام الله، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم إلا بذلك، وإذا كان الإنسان لا يعرف اللغة العربية، والأمر ضروري يضطر إليه، فيجب عليه أن يتعلم.

شروط جواز الرقية

شروط جواز الرقية قال الشارح: [وقال السيوطي: وقد أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط: أن تكون بكلام الله أو بأسمائه وصفاته، وباللسان العربي وما يعرف معناه، وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بتقدير الله تعالى. قال المصنف رحمه الله: التمائم: شيء يعلق على الأولاد يتقون به العين، لكن إذا كان المعلق من القرآن فقد رخص فيه بعض السلف، وبعضهم لم يرخص فيه، ويجعله من المنهي عنه، منهم ابن مسعود رضي الله عنه، والرقى: هي التي تسمى العزائم، وخص منها الدليل ما خلا من الشرك، فقد رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من العين والحمة، والتولة: شيء يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها، والرجل إلى امرأته]. التولة من أنواع السحر الذي يصنعه من لا خلاق له، والسحر لا يكون إلا بواسطة الشيطان، بأن يطيعه الإنسان، وقد يسجد له، وقد يقرب له قرباناً، فينتفع بذلك، وهو من استمتاع بعض الجن ببعض الإنس، كما أخبر الله جل وعلا أنهم يقولون يوم القيامة: {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} [الأنعام:128] يعني: بعضهم ينتفع ببعض، هذا يقدم منفعة، وهذا يقدم منفعة، وهذا نوع منه، وقد ذكر العلماء أن السحر لا يمكن أن يحصل من دون شرك؛ لأن السحر كله بواسطة الشيطان. قال الشارح: [قوله: (التمائم) قال المصنف: شيء يعلق على الأولاد من العين، وقال الخلخالي: التمائم: جمع تميمة، وهى ما يعلق بأعناق الصبيان من خرزات وعظام لدفع العين، وهذا منهي عنه؛ لأنه لا دافع إلا الله، ولا يطلب دفع المؤذيات إلا بالله وبأسمائه وصفاته]. التمائم تكون من الخرزات أو من العظام، وكل ما علق من أي نوع كان ويقصد به النفع فهو تميمة؛ لأن العبرة بالمقاصد، وليس بذوات الأشياء، مقاصد القلوب والنيات هي العبرة، فيعتبر مقصد الإنسان ونيته، فإذا علق شيئاً يقصد به دفع المؤذي من مرض أو ما أشبه ذلك، أو رفعه بعد نزوله فهو تميمة، وهو نوع من الشرك.

ترجيح المنع من تعليق التمائم ولو كانت من القرآن

ترجيح المنع من تعليق التمائم ولو كانت من القرآن قال الشارح رحمه الله: [اعلم أن العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم اختلفوا في جواز تعليق التمائم التي من القرآن وأسماء الله وصفاته، فقالت طائفة: يجوز ذلك، وهو قول عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو ظاهر ما روي عن عائشة، وبه قال أبو جعفر الباقر وأحمد في رواية، وحملوا الحديث على التمائم التي فيها شرك. وقالت طائفة: لا يجوز ذلك، وبه قال ابن مسعود وابن عباس، وهو ظاهر قول حذيفة وعقبة بن عامر وابن عكيم، وبه قال جماعة من التابعين منهم أصحاب ابن مسعود، وأحمد في رواية اختارها كثير من أصحابه، وجزم بها المتأخرون، واحتجوا بهذا الحديث وما في معناه. قلت: هذا هو الصحيح لوجوه ثلاثة تظهر للمتأمل: الأول: عموم النهي ولا مخصص للعموم. الثاني: سد الذريعة؛ فإنه يفضي إلى تعليق ما ليس كذلك. الثالث: أنه إذا علق فلابد أن يمتهنه المعلق؛ لحمله معه في حال قضاء الحاجة، والاستنجاء ونحو ذلك. وتأمل هذه الأحاديث وما كان عليه السلف رضي الله تعالى عنهم يتبين لك بذلك غربة الإسلام، خصوصاً إن عرفت عظيم ما وقع فيه الكثير بعد القرون المفضلة من تعظيم القبور، واتخاذ المساجد عليها، والإقبال إليها بالقلب والوجه، وصرف جل الدعوات والرغبات والرهبات وأنواع العبادات التي هي حق الله تعالى إليها من دونه كما قال تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ * وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس:106 - 107] ونظائرها في القرآن أكثر من أن تحصر]. مقصده بهذا القول، أنه إذا كانت التمائم منعت لكونها تعلقاً بغير الله جل وعلا، وجعلت من الشرك؛ فكيف بمن يذهب إلى القبور، ويدعو أصحابها، أو يعكف عندها طلباً للبركة من تربتها، أو ممن سكنها، وهم رفات رميم مرتهنون بأعمالهم، أو يذهب يطوف بها تعبداً وتقرباً، أو يظن أن العبادة عندها أفضل من عبادة الله عند غيرها؟! فإن كل هذا إما شرك أو وسيلة للشرك الأكبر الذي يكون منافياً للتوحيد، فالتوحيد يكون بأن الإنسان لا يتعلق بغير الله جل وعلا، ويخلص اتجاهه وعمله لله وحده، في فعله وفي نيته ومقصده، والذي يكون بهذه المثابة هو الذي يكون مخلصاً، ويكون سالماً من التعلقات بالمظاهر الأخرى سواء كانت تمائم أو غير تمائم. ويقول: إن هذا الموحد يكون غريباً؛ لأن هذه الأمور من التعلق بالقبور وقعت حتى من بعض العلماء الذين هم قدوة، فإذا كان هذا يقع منهم فكيف بالعامة؟! وهذا مما يجعل الدين الإسلامي غريباً، وقد جاء في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ)، ومعلوم أنه بدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم فقط، ثم كان الناس يدخلون في الإسلام واحداً بعد آخر. وفي هذا الحديث جاء ذكر ثلاثة أشياء: الرقى والتمائم والتولة، وقد فسرت في الحديث من كلام عبد الله بن مسعود راوي الحديث، وأخبر أن الرقى والتمائم معروفة، وهي كل رقية بقراءات وتعويذات سواء كانت بأسماء الله أو آياته أو بغير ذلك، فهذا يطلق عليه أنه رقية، ولكن الشرك هو ما كان فيه تعوذ بغير الله جل وعلا، أو فيه طلب شفاء لمرض نزل أو لشيء يتوقع من غير الله جل وعلا. وأما التمائم: فهي الحروز التي يكتب فيها أو بدون كتابة، سواء كانت توضع على موضع معين كاليد والرجل أو الرقبة، أو يؤتى بالحرز ويوضع في الجيب أو غير ذلك، وسواء كانت فيه كتابة أو ادعي أنه بطبعه وخاصيته يدفع وينفع. والتولة نوع من السحر، وهي التي تسمى بالعاطف، يعني: يعطف الإنسان على غيره بأن يحببه إليه، ولا سيما بين الزوجين، فإن هذا معروف إلى اليوم، تصنعه المرأة وتزعم أنه يعطف زوجها عليها، ويجعلها محبوبة له، وهو نوع من السحر. والسحر لا يكون إلا بواسطة الشياطين، وله تأثير في الأبدان وفي الأفكار والعقول، قد يفسد العقل وقد يفسد البدن وقد يقتل، ولكنه كما قال الله جل وعلا: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة:102]، فالشياطين هم الذين يعلمون الناس السحر، وهو صنعة يمكن تعلمه، ولكن بواسطة الشيطان وهو أنواع كثيرة، وكل نوع منه محرم، وسيأتي وصفه والكلام فيه في باب مستقل، وكذلك العلاج منه والذي يسمى بـ (النشرة) سيأتي له باب مستقل. فهذه الأمور الثلاثة أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أنها شرك، والشرك هو أعظم الذنوب على الإطلاق، كما أخبر الله جل وعلا أن كل ذنبٍ تحت مشيئته قد يغفره إذا شاء إلا الشرك، فإن الله لا يغفره لمن يموت عليه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء:48]، فالمشرك الذي يموت على الشرك هو في النار قطعاً بدون استثناء. والشرك أنواع: منه الشرك الأكبر، ومنه الشرك الأصغر، والشرك الأصغر كيسير الرياء، وكالحلف بغير الله جل وعلا، ومثل هذا إذا مات الإنسان عليه لا يكون من أهل النار، ولكنه يأثم، ويستحق أن يعاقب؛ لأن هذا أعظم من الكبائر، أعظم من الزنا، ومن السرقة كما قال العلماء، ومع ذلك لا يخرج الإنسان من دين الإسلام. والتمائم سبق أنها سميت تمائم أخذاً من أنه سيتم مراد الواضع لها، فهي سميت بذلك من باب التفاؤل، يعني: تفاءلوا عندما وضعوا هذا الشيء بأنه سيتم مقصود الواضع لدفع الأذى أو لجلب النفع، فمن هذا المعنى سميت تميمة، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من تعلق تميمة فلا أتم الله له)، وسبق أن هذا إما أن يكون دعاء وإما أن يكون خبراً، وكلاهما يدل على نقيض مراد الواضع لذلك؛ وذلك أن من وضع التميمة فإن قلبه قد تعلق بغير الله، والتفت إلى غيره، وهذا نوع من الشرك، ونوع من رجاء النفع من المخلوق، والتعلق به، والنفع والدفع لا يكون إلا من الله جل وعلا، فهذا هو وجه كون التميمة شركاً. أما الرقية: فإنها إذا كانت بتعوذ بالشياطين أو بالملائكة أو بالأولياء والصالحين الغائبين أو الميتين الذين لا يقدرون على أن يوصلوا إليه ما طلب منهم، أو يعيذوه مما استعاذ منه؛ فإن هذا من الشرك. وإذا كانت الرقية بآيات الله وأوصافه جل وعلا فهي مستحبة كما سبق، وقوله: خص الدليل منها ما كان بآيات الله وأوصافه فإنه جائز، بل هو مستحب، وأما التميمة التي فيها القرآن أو صفات الله جل وعلا فقد اختلف فيها العلماء على قولين: أحدهما: أنه جائز بالشروط التي ذكرها السيوطي وقال: إنها بالإجماع، وهي ثلاثة: الأول: أن تكون بآيات الله وأسمائه. الثاني: أن تكون بكلام عربي معروف المعنى. الثالث: أن يكون الذي وضعها يعتقد أنها لا تؤثر بنفسها، وإنما المؤثر هو الله جل وعلا. فذكر أن عبد الله بن عمرو بن العاص يريد هذا النوع، وقال: إنه ظاهر ما روي عن عائشة، وجمهور السلف والتابعين على أنه لا يجوز، ورجح هذا بأمور ثلاثة: أحدها: أن الأدلة مطلقة لم تخص شيئاً من ذلك، فمن ادعى الخصوصية فعليه الدليل، ولا دليل على هذا. الأمر الثاني: إذا قيل بالجواز فإنه يجر إلى ما لا يجوز، فيكون وسيلة إلى المحرم، والوسائل لها أحكام المقاصد، إذا كان المقصد محرماً فالوسيلة محرمة، وإذا صارت النتيجة تئول إلى شيء محرم، فالسبب أن الذي يجر إليها يكون حراماً، وهذه قاعدة معروفة قررها العلماء، وقد دل كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على هذه القاعدة كقوله جل وعلا: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108] يعني: لا تسبوا أصنامهم وتذموها وتعيبوها؛ فإنهم إذا سمعوا ذلك سبوا إلهكم الذي هو الله، فنهوا عن هذا من أجل ما يئول إليه. وفي الحديث الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ل عائشة: (لولا أن قومك حديثي عهد بالشرك لنقضت الكعبة، وجعلتها على أساس إبراهيم، وجعلت لها باباً لاصقاً في الأرض من الشرق، وآخر من الغرب؛ لأن قومك لما أرادوا بناء البيت قصرت بهم النفقة، ورفعوا الباب حتى لا يدخلها إلا من يريدون) فذكر أن ذلك كان فيه مصلحة، وأمر محبوب، ولكن منعه من ذلك كون المشركين حديثي العهد بالشرك، فخاف أنه إذا نقضها صار ذلك فتنة لهم، فترك ذلك، إلى غير ذلك من الأدلة الدالة على هذه القاعدة. الأمر الثالث: أن المعلق لا يخلو من الامتهان، كأن يستنجي الإنسان وهو عليه، أو يدخل به الحمام ليقضي حاجته، وما أشبه ذلك، ولا سيما إذا كان على طفل أو إنسان لا يفقه، فإنه لا يخلو من هذا. فهذه الأمور الثلاثة رجح بها المنع، يقول: وهو مذهب جمهور العلماء، وهذا أحوط للإنسان، وأسلم لدينه، فالإنسان إذا توكل على الله واعتمد عليه فإن الله جل وعلا يكفيه ويشفيه من كل ما يقع فيه {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق:2]. قال الشارح: [قوله: التولة، فسرها ابن مسعود راوي الحديث كما في صحيح ابن حبان والحاكم قالوا: يا أبا عبد الرحمن! هذه الرقى والتمائم قد عرفناها فما التولة؟ قال: شيء تصنعه النساء، يتحببن به إلى أزواجهن. قال الحافظ: التولة: بكسر المثناة وفتح الواو واللام مخففاً، شيء كانت المرأة تجلب به محبة زوجها، وهي ضرب من السحر، والله أ

حديث: (من تعلق شيئا وكل إليه)

حديث: (من تعلق شيئاً وكل إليه) قال الشارح: [وعن عبد الله بن عكيم مرفوعاً: (من تعلق شيئاً وكل إليه) رواه أحمد والترمذي]. سبق أن لفظة تعلق تكون بفعل القلب، وتكون بفعل الجوارح، وغالباً تطلق على فعل القلب، ولا سيما في مثل هذا الذي يرجى منه النفع الغيبي ومن الأمر الذي لا يشاهد، فإن هذا يراد به تعلق القلب. (من تعلق تميمة) يعني: تعلق قلبه بها، بأن رجا أنها تدفع عنه الضر أو تجلب له النفع، ومن فعل هذا فقد رجا غير الله، والتفت إلى غيره، وهذا كما سبق نوع من الشرك. قال الشارح: [وعبد الله بن عكيم هو بضم المهملة مصغرة، ويكنى أبا معبد الجهني الكوفي، قال البخاري: أدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرف له سماع صحيح، وكذا قال أبو حاتم، قال الخطيب: سكن الكوفة وقدم المدائن في حياة حذيفة، وكان ثقة، وذكر ابن سعد عن غيره أنه مات في ولاية الحجاج. قوله: (من تعلق شيئاً وكل إليه) التعلق يكون بالقلب، ويكون بالفعل، ويكون بهما (وكل إليه) أي: وكله الله إلى ذلك الشيء الذي تعلقه]. قوله: (شيئاً) هذا عام، (من تعلق شيئاً وكل إليه)، والمقصود أن الذي يتعلق بغير الله فإن الله يكله إلى ذلك الغير، وإذا وكل الإنسان إلى غير الله فإنه يوكل إلى عوره وإلى ضيعة، فلا يحصل له مقصوده، بخلاف الذي يتعلق بالله جل وعلا، فإنه يكون ناجحاً يحصل له مراده، ويكون مطيعاً في ذلك لله جل وعلا، ويأتيه الخير من حيث لا يحتسب. ففرق بين من تعلق بالله ومن تعلق بالمخلوقات التي لا تنفع نفسها فضلاً عن غيرها من الأمور التي يتوقع نفعها، أو الأمور التي يتوقع ضررها بأن تدفع، فإن هذا لا يكون إلا بيد الله جل وعلا كما في حديث عبد الله بن عباس: (واعلم أن الخلق لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك لم يقدروا على ذلك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا على ذلك) فالأمور كلها بيد الله. ولكن إذا كان الإنسان يقينه ضعيفاً، وإيمانه ضعيفاً، فإن تعلقه بالله يصبح ضعيفاً، وتجده يتشبث بأدنى سبب يتوهمه، فإذا كان هكذا فإن الله لا يبالي في أي وادٍ هلك. بخلاف الذي يكون إيمانه قوياً، وثقته بالله قوية، فإنه لا يضره أي توهم يمر به من الشيطان أو من غيره، فإنه يعتمد على الله بعد فعل السبب، فالأسباب مطلوب فعلها، ولكن لا يعتمد عليها، وإنما الاعتماد على الله جل وعلا، فهو إذا شاء جعل السبب مؤثراً، وإذا شاء أبطل السبب وإن كان قوياً، ويصبح لا تأثير له. فالمقصود أن الأمور كلها بيد الله، فما حصل لك من خير فهو من الله، وإن كان هناك أسباب فالأسباب سببها الرب جل وعلا. فيجب على العبد أن يكون تعلقه بالله وحده، وألا يلتفت إلى المخلوقات، ولا يعلق قلبه بها، فلا يرجو نفعها أو أن تدفع عنه ضراً، وهذا لا ينافي كونك تستعيذ بمن يقدر على إعانتك ممن هو حاضر عندك، ويستطيع أن يساعدك على عمل ما، فإن هذا غير ممنوع (من استطاع أن ينفع أخاه فلينفعه)، والمسلمون كالجسد الواحد يشد بعضه بعضاً، فلا بد من التعاون، ولكن المقصود بالمنع الأمور الغيبية التي يتوقع نفعها كالشفاء من المرض، وكدفع الآفات، وما أشبه ذلك، فهذه يجب أن يكون التعلق فيها بالله وحده. قال الشارح: [فمن تعلق بالله، وأنزل حوائجه به، والتجأ إليه، وفوض أمره إليه؛ كفاه، وقرب إليه كل بعيد، ويسر له كل عسير؛ ومن تعلق بغيره، أو سكن إلى رأيه وعقله ودوائه وتمائمه ونحو ذلك؛ وكله الله إلى ذلك، وخذله، وهذا معروف بالنصوص والتجارب قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3]]. معنى حسبه: يعني: كافيه، من يتوكل على الله فإن الله يكفيه كل ما خافه، ويعطيه ما أمله ورجاه. قال الشارح: [وقال الإمام أحمد: حدثنا هشام بن القاسم قال: حدثنا أبو سعيد المؤدب قال: حدثنا من سمع عطاء الخراساني قال: لقيت وهب بن منبه وهو يطوف بالبيت فقلت: حدثني حديثاً أحفظه عنك في مقامي هذا وأوجز، قال: (نعم، أوحى الله تبارك وتعالى إلى داود: يا داود! أما وعزتي وعظمتي! لا يعتصم بي عبد من عبادي دون خلقي أعرف ذلك من نيته فتكيده السماوات السبع ومن فيهن، والأرضون السبع ومن فيهن، إلا جعلت له من بينهن مخرجاً، أما وعزتي وعظمتي! لا يعتصم عبد من عبادي بمخلوق دوني أعرف ذلك من نيته، إلا قطعت أسباب السماء من يده، وأسخت الأرض من تحت قدميه، ثم لا أبالى بأيّ أوديتها هلك)].

حديث: البراءة ممن عقد لحيته أو تقلد وترا أو استنجى برجيع دابة أو عظم

حديث: البراءة ممن عقد لحيته أو تقلد وتراً أو استنجى برجيع دابة أو عظم قال الشارح: [وروى أحمد عن رويفع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رويفع! لعل الحياة ستطول بك، فأخبر الناس أن من عقد لحيته أو تقلد وتراً أو استنجى برجيع دابة أو عظم فإن محمداً بريء منه)]. هذا من أحاديث الوعيد التي يتوعد من فعل ما ذكر فيها بأن الرسول صلى الله عليه وسلم برئ منه، أو بأن الله يفعل به كذا وكذا، إما أن يلقيه في النار، أو يغضب عليه، أو يلعنه، أو أن من فعل كذا وكذا فليس منا، وما أشبه ذلك، وللعلماء في هذا مذهبان سنذكرهما إن شاء الله. قوله: (لعل الحياة ستطول بك) قد وقع ما ترجاه الرسول صلى الله عليه وسلم، ومثل هذا الأسلوب قد يأتي لأمر مجزوم به متيقن، ومع ذلك يقول: لعله كذا وكذا، وهو عارف أنه سيقع؛ لأن هذا أسلوب عربي استعمله القرآن، وكذلك استعمله الرسول صلى الله عليه وسلم. وقوله: (أخبر الناس) هذا ليس خاصاً بـ رويفع، وإنما هو عام لكل من كان عنده علم من شرع الله جل وعلا مما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه يجب أن يخبر الناس بذلك، إذا كانوا محتاجين إليه، ومثل هذا إذا كان واحداً فإنه يتعين عليه، أما إذا كانوا جماعات عندهم هذا العلم، فإن الأمر يكون بالنسبة إليهم من فروض الكفاية، يعني: إذا قام به من يكفي للبيان والإيصال فيسقط الإثم عن البقية، ولا يلزم كل واحد بعينه أن يبين ويوصل ذلك إلى الناس. وهذا عام في كل ما احتاج إليه الناس من أمر دينهم، والخطاب وإن كان لشخص بعينه فقد علم من قواعد الشرع أنه يقصد به كل من حمل شيئاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فيجب عليه أن يبينه للناس إذا كانوا محتاجين إليه.

حرمة تقلد الوتر

حرمة تقلد الوتر وقوله: (أخبر الناس أن من تقلد وتراً، أو عقد لحيته أو استنجى برجيع دابة فإن محمداً برئ منه)، أما الوتر: فقد تقدم أنه أحد أوتار القوس، وهو السلاح المعروف قديماً، فإذا اخلولق الوتر الذي يرمون به علقوه على دوابهم، وربما علق على الصبيان، ويزعمون أنه يدفع عنهم عين الإنسان، وكذاك أذى الجان، وهذا هو النفع الغيبي الذي قلنا: إنه إذا علق لأجل النفع الغيبي، أو الدفع الغيبي فإنه يكون من الشرك؛ فلهذا أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه برئ ممن فعل هذا، ومن تبرأ منه الرسول صلى الله عليه وسلم فأقل ما يقال فيه: إنه فعل جريمة من الجرائم التي يستحق عليها عقاب من الله جل وعلا.

حرمة عقد اللحية

حرمة عقد اللحية الأمر الثاني: عقد اللحية، وعقد اللحية فسره العلماء بشيئين: أحدهما: ما كان من فعل بعض المتكبرين والمتجبرين من الأعاجم ومن العرب، فكانوا في القتال يعقدون لحاهم ويفتلونها ويعقدونها على هيئة معينة؛ ليكون ذلك شوهة بحيث من رآهم خاف، ويكون منظرهم مخيفاً، وهم يفعلون هذا تكبراً وتجبراً. المعنى الثاني: أن المقصود معالجة الشعر حتى يتعقد ويتجعد، ويكون له عقد من نفسه؛ ليكون هذا من باب التجمل والتزين بتعقيد الشعر، وقد جاء في حديث آخر النهي عن عقد اللحية في الصلاة؛ لما فيه إما من الكبر والتجبر على عباد الله، أو لما فيه من التأنث والتأنق والتشبه بالنساء التي تتجمل وتتزين وليس هذا من شأن الرجال.

حرمة الاستنجاء برجيع دابة أو عظم

حرمة الاستنجاء برجيع دابة أو عظم المقصود برجيع الدابة: روث الدواب من الإبل والبقر وغيرها، فلا يجوز للإنسان إذا قضى حاجته أن يتمسح بروث الدواب؛ فإن هذا من المحرمات، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه بريء ممن فعل هذا، وقد جاءت علة النهي في أحاديث معروفة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وفيها أنه أخبر أن الرجيع علف دواب الجن من المسلمين، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أنه التقى بالجن، ودعاهم إلى الله، وأنهم أسلموا، وسألوه الطعام لهم ولدوابهم، فقال صلى الله عليه وسلم لهم: (لكم كل عظم ذكر عليه اسم الله جل وعلا، تجدون عليه لحماً أوفر ما كان) هذا لهم، فلهذا حرم الاستنجاء بالعظام من أجل ذلك؛ لأن هذا يفسدها على الجن. وأما دوابهم فأرواث دواب الإنس يكون علفاً وطعاماً لدوابهم، وهذا خاص بالمؤمنين من الجن، أما الكافرون منهم فإنهم لا يجدون من ذلك شيئاً، وإنما يطعمون ما يطعمهم الله جل وعلا حلالاً أو حراماً. أما ما يجيء من الوعيد في الحديث كأن يقول: فإن محمداً صلى الله عليه وسلم برئ منه أو يقول: فإنه ليس منا، أو يقول: من فعل كذا وكذا فقد كفر، كما في السنن: (من أتى كاهناً فصدقه بما يقول: فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)، وكذلك قوله: (من أتى امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)، وكذلك: قول الله جل وعلا: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93]، وكذلك قوله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10] وما أشبه ذلك كثير؛ فإن للعلماء في هذا مذهبين مشهورين: المذهب الأول: أنه لا بد من تأويل ذلك؛ لأن الفاعل لهذه الأمور لا يكون كافراً، فقالوا في مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (إن محمداً بريء منه) يعني: بريء من فعله، أو أنه برئ منه في هذه الحال، فإذا راجع ربه، وتاب، وأقلع عن ذلك الذنب، فإنه لا يكون بريئاً منه، وفي مثل قوله: (من أتى امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم) يعني: أنه كفر دون كفر، لا يكون كفراً مخرجاً من الملة والدين رأساً، وقالوا: في قوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} يعني: لو جازاه، ولكن الله يعفو، وهكذا: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} وما أشبه ذلك، وهذا مشهور في كتب التفسير، وفي شروح الأحاديث إذا نظرت فيها، فإنهم يشرحونها بمثل هذه الألفاظ. المذهب الثاني: مذهب كثير من المحققين يقولون: هذا التأويل خطأ، وإنما الواجب أن تبقى هذه النصوص كما جاءت مع اعتقاد أن الفاعل لها لا يكون كافراً، ولا يكون خارجاً من الملة، ولكن لا يجوز لنا أن نتأولها؛ لأن تأويلها يكون فيه محذوران: الأول: الخطر في ذلك، لأننا لا ندري مراد الله ومراد الرسول صلى الله عليه وسلم من هذا، فإذا عينا شيئاً فإننا نكون على خطر، فقد يكون هذا الشيء الذي عيناه ليس هو مراد الله ولا مراد رسوله عليه الصلاة والسلام. الثاني: أن هذه النصوص إذا تركت كما جاءت فإن هذا يكون أدعى للانزجار والابتعاد عن اقتراف مثل هذه الذنوب، وهذا هو الراجح، فإذا جاءت مثل هذه الأخبار فإنها تترك كما جاءت، مع الاعتقاد بأن الفاعل لهذه الأمور ليس كافراً وليس خارجاً من الدين، والله أعلم. قال الشارح: [الحديث رواه الإمام أحمد عن يحيى بن إسحاق والحسن بن موسى الأشيب كلاهما عن ابن لهيعة، وفيه قصة اختصرها المصنف، وهذا لفظ الحسن: قال: حدثنا ابن لهيعة قال: حدثنا عياش بن عباس عن شييم بن بيتان قال: حدثنا رويفع بن ثابت قال: كان أحدنا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ جمل أخيه على أن يعطيه النصف مما يغنم، وله النصف، حتى إن أحدنا ليصير له النصل والريش وللآخر القدح، ثم قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث. ثم رواه أحمد عن يحيى بن غيلان قال: حدثني المفضل قال: حدثنا عياش بن عباس أن شييم بن بيتان أخبره أنه سمع شيبان القتباني الحديث. ابن لهيعة فيه مقال، وفي الإسناد الثاني شيبان القتباني قيل فيه: مجهول، وبقية رجالهما ثقات. قوله: (لعل الحياة ستطول بك) فيه علم من أعلام النبوة، فإن رويفعاً طالت حياته إلى سنة ست وخمسين، فمات ببرقة من أعمال مصر أميراً عليها وهو من الأنصار، وقيل: مات سنة ثلاث وخمسين. قوله: (فأخبر الناس) دليل على وجوب إخبار الناس، وليس هذا مختصاً بـ رويفع، بل كل من كان عنده علم ليس عند غيره مما يحتاج إليه الناس وجب إعلامهم به، فإن اشترك هو وغيره في علم ذلك فالتبليغ فرض كفاية قاله أبو زرعة في شرح سنن أبي داود. قوله: (أن من عقد لحيته) بكسر اللام لا غير، والجمع لحى بالكسر والضم قاله الجوهري. قال الخطابي: أما نهيه عن عقد اللحية فيفسر على وجهين: أحدهما: ما كانوا يفعلونه في الحرب، كانوا يعقدون لحاهم، وذلك من زي بعض الأعاجم يفتلونها ويعقدونها قال أبو السعادات: تكبراً وعجباً. ثانيهما: أن معناه معالجة الشعر ليتعقد ويتجعد، وذلك من فعل أهل التأنيث، وقال أبو زرعة العراقي: والأولى حمله على عقد اللحية في الصلاة كما دلت عليه رواية محمد بن الربيع وفيه: أن من عقد لحيته في الصلاة. قوله: (أو تقلد وتراً) أي: جعله قلادة في عنقه أو عنق دابته، وفي رواية محمد بن الربيع (أو تقلد وتراً) يريد تميمة. فإذا كان هذا فيمن تقلد وتراً فكيف بمن تعلق بالأموات، وسألهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات الذي جاء النهي عنه وتغليظه في الآيات المحكمات؟! قوله: (أو استنجى برجيع دابة أو عظم فإن محمداً بريء منه) قال النووي: أي: بريء من فعله، وهذا خلاف الظاهر، والنووي كثيراً ما يتأول الأحاديث بصرفها عن ظاهرها فيغفر الله تعالى له. وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً: (لا تستنجوا بالروث ولا العظام فإنه زاد إخوانكم من الجن)، وعليه لا يجزئ الاستنجاء بهما كما هو ظاهر مذهب أحمد؛ لما روى ابن خزيمة والدارقطني عن أبي هريرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يستنجى بعظم أو روث وقال: إنهما لا يطهران)] يعني: لو أن الإنسان استنجى بالعظم أو بالروث فإن طهارته غير مجزئة، هذا إذا اقتصر على الاستجمار، أما إذا استنجى بالماء، فإن هذا لا أثر له، وإن كان فعله محرماً؛ لأن نهي الرسول صلى الله عليه وسلم يدل على الفساد، فكل ما نهى عنه من هذا القبيل، ثم ارتكب ذلك النهي، فإنه لا يجزئه إذا رتب عليه عبادة. والاستجمار يكفي الإنسان إذا استجمر بثلاثة أحجار أو بغير الأحجار مما يزيل وينقي، ولا يجب الاستنجاء بالماء، بل يتوضأ ويبدأ بوجهه بعد الاستجمار، ويغسل يديه، ويمسح رأسه، ويغسل رجليه، وبهذا يكون قد كمل وضوءه. وهذا أمر كان مشهوراً عند الصحابة، بل كثير منهم ما كان يعرف إلا هذا، وما كانوا يعرفون الاستنجاء بالماء، حتى أن الله جل وعلا لما أنزل قوله لأهل قباء: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108] قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد أحسن عليكم الثناء، فما هذه الطهارة؟ قالوا: ما هو إلا أننا رأينا اليهود يغسلون أدبارهم بعد قضاء الحاجة، ففعلنا ذلك، فقال: هو ذاكم فعليكموه)، والمقصود أن الإنسان يجزئه في الوضوء الاستجمار إذا استعمل الشيء الطاهر المأذون فيه، أما إذا استجمر بعظم أو بروث وإن كان منقياً مزيلاً للخارج، ثم تطهر بعد هذا ولم يستنج، فإن طهارته باطلة؛ لنهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك.

أثر ابن جبير: (من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة)

أثر ابن جبير: (من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة) قال الشارح: [وعن سعيد بن جبير قال: (من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة) رواه وكيع، وهذا عند أهل العلم له حكم الرفع؛ لأن مثل هذا لا يقال بالرأي، فيكون هذا مرسلاً؛ لأن سعيداً تابعي، وفيه فضل قطع التمائم؛ لأنها شرك. ووكيع هو ابن الجراح بن وكيع الكوفي ثقة إمام صاحب تصانيف منها الجامع وغيره، روى عنه الإمام أحمد وطبقته، مات سنة سبع وتسعين ومائة]. وفي هذا الحديث الحث على إزالة المنكر، والإنسان إذا أزاله فإنه يؤجر على ذلك، ولا سيما إذا كان من نوع الشرك، ولهذا قال: (من قطع تميمة من إنسان كانت كعدل رقبة) يعني: مثل الذي يعتق الرقبة، وليس المقصود قطع التميمة فقط، بل المقصود بقطع التميمة أيضاً تنبيه الذي علقها، وتعليمه أن هذا قد يؤدي به إلى الخلود في النار إذا أشرك بالله ومات على هذا، فهو ينقذه من هذا الفعل الذي قد يكون سبباً لخلوده في النار، فيكون بذلك كمن أعتق رقبة، وعتق الرقبة فضله عظيم، حث الله جل وعلا عليه، وأخبر أن من أعتق إنساناً فإن الله يعتقه من النار. فإذا كان الأمر هكذا فكيف بمن ينقذ خلقاً كثيراً من هذه الورطات؟ فإنه يكون له أجر عظيم، له أجر بعددهم، كأنه أعتق هؤلاء الذي أرشدهم وأخبرهم بأن هذا الأمر الذي وقعوا فيه شرك، وأنهم لو استمروا على ذلك وماتوا عليه لكانوا هالكين، ففي هذا الترغيب لدعوة من يقع في المحذورات، ولكن الدعوة يجب أن تكون برفق وبحكمة وبعلم، ومعرفة بالأحكام التي تترتب على هذا؛ لأن الإنسان إذا لم يدع بحكمة وبرفق فإنه قد يفسد أكثر مما يصلح، وإذا كان يدعوهم بقوة وعنف فإنهم يأبون قبول كلامه، ويكون ذلك داع لهم بالتمسك بما هم عليه؛ ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم في أول الأمر يأتي إلى أحد الكفار، ويعرض عليه الدعوة عرضاً فيقول: يا أبا فلان! ألا تسمع مني؟ فإن قال: بلى، كلمه، وإن قال: لا، تركه، فهكذا ينبغي للإنسان أن يتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أمره الله جل وعلا بأن يصبر صبراً جميلاً، وأن يصفح عمن أذاه، سواء كانت الأذية بالكلام أو بالفعل، حتى يكون عنده قوة يستطيع أن يمنع المعاند بها بعد أن تبين له الحق، فإن مثل هذا لا يفيد معه الكلام، وإنما يفيد معه الحديد الذي قرنه الله جل وعلا بالكتاب، فإن الله أنزل الكتاب وأنزل الحديد، فالحديد للمعاند المتكبر الذي تبين له الحق فأبى قبوله وحاربه، أما الإنسان الذي يكون جاهلاً، وربما يكون قصده الحق ولكن أخطأه؛ فمثل هذا يجب أن يستعمل معه اللين والرفق والبيان بأسلوب يجعله يقبل ما معه، ولا سيما إذا كان بينه وبينه، ليس على رءوس الأشهاد، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى من أحد أمراً فيه مخالفة لا يخصه بعينه، بل يقول: (ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا) فيأتي بالكلام مجملاً عاماً حتى لا يكون على من وجه إليه ذلك حرج، فمن نصح أمام الناس فإنه يتضايق من ذلك، فالمسلم يجب عليه أن يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجب عليه أن ينظر في المصلحة التي قصد منها الأمر بالمعروف، والمقصود من الأمر بالمعروف ثلاثة أمور: أحدها: أن تبرأ ذمتك؛ لأنك إذا رأيت منكراً ولم تغيره، فإن الله سوف يسألك عنه يوم القيامة، فإذا قال الإنسان: خفت الناس، يقول الله جل وعلا: أنا أحق أن تخافني، ففي هذا خلاص نفسه. الأمر الثاني: امتثال أمر الله جل وعلا، وأداء للدعوة تأسياً بالرسول صلى الله عليه وسلم، فإن الله جل وعلا يقول له: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] فأتباع الرسول لا بد أن يكون لهم نصيب من دعوته صلى الله عليه وسلم. الأمر الثالث: رحمة بهذا الإنسان الذي وقع في هذه المخالفة، فترحمه وتخشى عليه أن يقع في العذاب، فأنت تحاول أن تنقذه، هذا هو مقصود الأمر بالمعروف، وليس المقصود به فضيحة الناس وتشهيرهم بأمور لا يريدونها، فإن هذا لا يجوز. لهذا كان من أعظم ما يفيد ويجدي في الأمر بالمعروف أن تأتي إلى الإنسان وتنصحه بينك وبينه، وتقول له بنصح وحسن نية سراً بينك وبينه: اتق الله، هذا لا يجوز، وتأتيه أيضاً بأسلوب ليس خشناً حتى يقبل منك، فالله جل وعلا يقول لموسى لما أمره أن يذهب إلى فرعون هو وأخوه هارون: {فقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44]؛ لأن فرعون كان يقول: أنا ربكم الأعلى، ومع هذا يأمر الله جل وعلا موسى أن يقول له قولاً ليناً؛ ولهذا امتثل موسى ذلك، وعرض عليه عرضاً فيه اللين والهدوء، أما القسوة وخشونة الكلام فهذا لا يجدي شيئاً.

أثر إبراهيم: كانوا يكرهون التمائم كلها من القرآن وغير القرآن

أثر إبراهيم: كانوا يكرهون التمائم كلها من القرآن وغير القرآن قال الشارح: [وله عن إبراهيم قال: كانوا يكرهون التمائم كلها من القرآن وغير القرآن]. إذا جاء مثل هذا عن السلف: كانوا يكرهون كذا وكذا، فإن المقصود بذلك التحريم؛ لأن عندهم الكراهة للشيء تعني التحريم، وليس الكراهة التي اصطلح عليها المتأخرون وهي كراهة التنزيه، فهذه لم تكن معروفة عند السلف، وإنما هذا اصطلاح حادث فيما بعد، فإن الفقهاء المتأخرين قسموا الكراهة إلى قسمين: كراهة تحريم، وكراهة تنزيه، أما بلسان السلف فهي قسم واحد، وهي للتحريم فقط. [وإبراهيم هو الإمام إبراهيم بن يزيد النخعي الكوفي يكنى أبا عمران ثقة من كبار الفقهاء، قال المزي: دخل على عائشة، ولم يثبت له سماع منها، مات سنة ست وتسعين وله خمسون سنة أو نحوها. قوله: كانوا يكرهون التمائم إلى آخره، مراده بذلك أصحاب عبد الله بن مسعود كـ علقمة والأسود وأبي وائل والحارث بن سويد وعبيدة السلماني ومسروق والربيع بن خثيم وسويد بن غفلة وغيرهم، وهو من سادات التابعين وهذه الصيغة يستعملها إبراهيم من حكاية أقوالهم كما بين ذلك الحافظ العراقي وغيره].

مسائل باب ما جاء في الرقى والتمائم

مسائل باب ما جاء في الرقى والتمائم قال المصنف رحمه الله: [فيه مسائل: المسألة الأولى: تفسير الرقى والتمائم. المسألة الثانية: تفسير التولة. المسألة الثالثة: أن هذه الثلاث كلها من الشرك من غير استثناء. المسألة الرابعة: أن الرقية بالكلام الحق من العين والحمة ليس من ذلك. المسألة الخامسة: أن التميمة إذا كانت من القرآن فقد اختلف العلماء هل هي جائزة أم لا؟ المسألة السادسة: أن تعليق الأوتار على الدواب من العين لا يجوز أيضاً. المسألة السابعة: الوعيد الشديد على من تعلق وتراً. المسألة الثامنة: فضل ثواب من قطع تميمة من إنسان. المسألة التاسعة: أن كلام إبراهيم لا يخالف ما تقدم من الاختلاف؛ لأن مراده أصحاب عبد الله].

شرح فتح المجيد [38]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [38] قد يستحسن الإنسان فعلاً يظن أنه يقربه إلى الله، وهو في الحقيقة يبعده من رحمته ويقربه من سخطه، ولا يعرف هذا على الحقيقة إلا من عرف ما وقع في هذه الأزمان من كثير من العلماء والعباد مع أرباب القبور، من الغلو فيها وصرف العبادة لها، ويحسبون أنهم على شيء، وهو الذنب الذي لا يغفره الله تعالى.

حديث: (اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط)

حديث: (اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط) قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: (قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138]) شبه مقالتهم هذه بقول بني إسرائيل؛ بجامع أن كلاً طلب أن يجعل له ما يألهه ويعبده من دون الله، وإن اختلف اللفظان فالمعنى واحد، فتغيير الاسم لا يغير الحقيقة. ففيه الخوف من الشرك، وأن الإنسان قد يستحسن شيئاً يظن أنه يقربه إلى الله، وهو أبعد ما يبعده من رحمته ويقربه من سخطه، ولا يعرف هذا على الحقيقة إلا من عرف ما وقع في هذه الأزمان من كثير من العلماء والعباد مع أرباب القبور، من الغلو فيها وصرف جل العبادة لها، ويحسبون أنهم على شيء، وهو الذنب الذي لا يغفره الله]. في هذه الجملة في قوله صلوات الله وسلامه عليه: (قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138]) الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر أن هذه المقالة هي كمقالة الذين طلبوا الشرك صراحة؛ لأنهم قالوا: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}، أما هؤلاء فقالوا: (اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط) وسبق أن بينا أن معنى ذات أنواط: شجرة تعلق بها الأسلحة لتحصل منها البركة، وكانوا يجلسون عندها تعظيماًَ لها، وهذا يعد من العبادة، ففي هذا دليل واضح على أن طلب التبرك بالشجر ومثله الأبنية أو الأضرحة أو الحجارة أو البقاع أو الأماكن يكون شركاً، ويكون من الشرك الأكبر، وهذا واضح جداً من هذا النص الجلي.

السبب في عذر الصحابة وعدم تكفيرهم بقولهم: (اجعل لنا ذات أنواط)

السبب في عذر الصحابة وعدم تكفيرهم بقولهم: (اجعل لنا ذات أنواط) وقد يأتي سؤال هنا ويقال: ما دام أن الطلب الذي قاله هؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم -وهو طلبهم من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم شجرة يعلقون بها أسلحتهم- كقول بني إسرائيل لموسى: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} فلماذا لم يترتب -على ذلك- الحكم عليهم بالشرك؟ A لم يترتب عليهم الحكم بالشرك لسببين: الأول: ما أشار إليه من أنهم يجهلون هذا؛ لأنه قال: (ونحن حدثاء عهد بشرك) وهذا دليل أن غيرهم لا يجهله وأنه واضح، والجاهل إذا جهل الشيء وفعله على سبيل الاجتهاد يعذر بجهله ولو كان من الأمور الكبيرة العظيمة التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم نصاً وبياناً وإيضاحاً، فعبادة الله جل وعلا وكون الدين لا يكون إلا بما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم كان متقرراً عندهم؛ ولهذا قالوا له: ((اجْعَل لَنَا)) وهذا أمر واضح لا يخفى، فإذا كان خافياً مثل هذا فإنهم يعذرون بذلك. الأمر الثاني: أنهم لم يفعلوا ذلك، ولو فعلوه لكانوا -بلا إشكال- قد وقعوا في الشرك، ولكنهم استأذنوا وطلبوا أن يجعل لهم شيئاً يفعلونه، فبين لهم أن هذا الطلب لا يجوز، فامتنعوا، ولا يمكن أن يقال: إنهم طلبوا شيئاً يريدونه استحساناً؛ لأنهم أعظم من أن يخالفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يخالفوا الله جل وعلا، ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم في قسمه قال: (قلتم والذي نفسي بيده) ومعنى قوله: (والذي نفسي بيده) قسم بالله؛ لأن النفوس بيد الله جل وعلا، يتصرف فيها كيف يشاء، إن شاء أن يقبضها قبضها وإن شاء أن يرسلها أرسلها، كما قال الله جل وعلا: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر:42] أي: إلى أجل مسمىً فقط، وإلا فسوف يقبضها، فالنفوس بيد الله، ولهذا قد يكون الإنسان صحيحاً معافاً ثم يسقط في لحظة ويموت، فالأمر بيد الله، هذا شيء. الشيء الثاني: أنه جل وعلا هو الذي يصرف القلوب كيف يشاء، فالأمر إليه جل وعلا من شاء أن يهديه هداه، ومن شاء أن يضله أضله، ولكن الله جل وعلا -وله المنة والفضل- جعل للإنسان عقلاً واختياراً، وجعل له قدرة، ثم كلفه على حسب مقدرته بالأوامر والنواهي، ووكل الأمر إليه، وقال له: إن فعلت ما أمرت به، جوزيت الجنة والسعادة العاجلة والآجلة، أما إن خالفت ما أمرت به وعاندت، وفعلت خلاف الأمر، فإنك لن تفوت الله، وسوف يجزيك العذاب، والعاقل يعرف الذي ينفعه من الذي يضره. وهذا هو مقتضى الجزاء، وإلا لو أن الإنسان ليس له اختيار فلا يكون حينئذٍ فائدة للجزاء والعقاب! ومع ذلك الله يعلم قبل وجود الخلق أن هذا المخلوق سوف يوجد ويعمل هذه الأعمال التي يعملها باختياره ومقدرته، وهذا شيء يجده الإنسان من نفسه، وكل واحد يشعر من نفسه أنه يأتي ويذهب إلى أيّ مكان باختياره، وقد كتب هذا وقدر وعلمه الله سابقاً. كذلك يجد من نفسه أنه يذهب إلى أغراضه التي يطلبها لنفسه مختاراً، مع أنها مكتوبة ومقدرة، ولا يمكن أن يقع حدث إلا وقد كتب وسجل. فالمقصود إذاً: أن الله يعلم أن هذا المخلوق سيوجد ويفعل كذا وكذا باختياره ومقدرته، والله هو الذي خلق له الاختيار والمقدرة، فيكون فعله مخلوقاً لله جل وعلا كما أنه هو مخلوق، فليس في هذا متعلق لأهل البدع الذين يزعمون أن العباد شركاء مع الله؛ لأنهم يخلقون أفعالهم، كما تقوله القدرية. وكذلك ليس فيه متعلق للجبرية الذين زعموا أن العبد بمنزلة الآلة التي تدار ليس له أيّ تصرف.

هل الإنسان مسير أم مخير؟

هل الإنسان مسير أم مخير؟ وكثيراً ما يسأل الناس ويقولون: هل العبد مسير أم مخير؟ فالجواب عن هذا: أن هذا كلام مجمل، وبجملته باطل، فلا يجوز أن نقول: لا مسير ولا مخير، فإذا قلت: مسير فهو خطأ، وإن قلت: مخير على الإطلاق فهو خطأ، بل العبد عبد لله جل وعلا، جعل الله جل وعلا له قدرة وله اختيار، وكلفه بما يستطيعه، فقال سبحانه: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، ومع هذا ليس العبد حراً يفعل ما يشاء، وليس الأمر باختياره، بل يقول الله جل وعلا: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30] يعني: لا يقع فعل من العبد إلا بإرادة الله ومشيئته، وإن كان بقدرته واختياره، وهذا من تمام قدرة الله جل وعلا أنه جعل هذا العبد يفعل ما كتبه الله جل وعلا عليه باختياره، وبهذا يتبين لدى العاقل أنه يجب عليه أن يفتقر إلى ربه، ويخضع له، ويذل له، ويسأله الهداية دائماً، ويظهر فقره إلى الله وذله وخضوعه؛ لأنه يعلم أنه لا غنى له عن ربه جل وعلا، وأنه إذا لم يهده ربه جل وعلا فليس له من غيره هادياً، ولهذا من فضله وكرمه وجوده فرض علينا أن نعبده بهذا السؤال في كل ركعة من ركعات الصلاة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، وإذا لم يهدنا ربنا فلا هداية لنا من أنفسنا، {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7]، وكذلك أوجب علينا أن نقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] يعني: أنه إذا لم تحصل لنا الإعانة منه جل وعلا على عبادته فإنها لا تقع، وهذه لابد منها، فأنت تعبد ربك وتستعين على عبادته به جل وعلا. والخلاصة: أن الملك كله لله، والخلق كلهم لله يتصرف فيهم كيف يشاء، فيجب على العبد أن يعلم هذه الأمور ويعترف لله جل وعلا بها، ويعبده على ضوئها ذالاً خاضعاً مفتقرًا يُظهِر فقره، ويعلم أنه إذا لم يهده الله جل وعلا فإنه ضال، كما قال تعالى في الحديث القدسي: (يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي! كلكم فقير إلا من أغنيته فاسألوني أعطكم، يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته) إلى آخره.

من هو إسرائيل؟ ومن هم بنوه؟

من هو إسرائيل؟ ومن هم بنوه؟ قوله صلى الله عليه وسلم: (قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل) بنو إسرائيل: يقصد بهم هنا أتباع موسى، وإلا فإسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، ومعنى إسرائيل: عبد الله، وهكذا كل اسم آخره جاء في (يل) فإنه معبد لله مثل: جبريل وميكائيل وإسرافيل، فكلهم معبدون لله، وإسرائيل هذا هو أبو الأسباط الذين جعلهم الله جل وعلا أنبياء، ثم إن ذريته هم الذين صاروا أتباعاً لموسى، وموسى أرسل إليهم والى القبط أيضاً، وكان القبط أتباع فرعون وقومه، وكانوا مستعبدين بني إسرائيل بمصر، والذي أدخلهم إلى مصر في ذلك الوقت هو يوسف، كما ذكر الله جل وعلا لنا في القرآن أن إخوة يوسف هددوه على كون أبيه يحبه حباً كثيراً أكثر منهم، فتآمروا على أنهم يبعدونه عنه، فحصل ما ذكره الله جل وعلا، ثم ذهب إلى مصر، فلما منَّ الله جل وعلا عليه بالملك طلب من إخوته أن يأتوا بأهلهم، كما ذكره الله جل وعلا في قصة يوسف، فسكنوا في مصر وتكاثروا.

قصة موسى مع فرعون

قصة موسى مع فرعون ثم جاء فرعون بعد ذلك واستعبد بني إسرائيل، وصار يقتل أبناءهم ويبقي نساءهم للخدمة. ثم إن قومه سخروا بني إسرائيل في الأعمال العظيمة التي ألهبوا ظهورهم بالسياط من أجلها، كبناء الأهرامات وغيرها بالقهر والقوة والظلم والجبروت، وأرادوا أن يبقوا تحت أيديهم مقهورين مذللين، فقالوا: إذا قتلنا كل مولود فلن يبقى عندنا عمال نسخرهم، فاتفقوا على أنهم يقتلون الأولاد سنة ويبقونهم سنة، حتى يبقى عندهم من يعمل ومن يستخدمونه، والسبب في هذا: أنه قيل لفرعون - قبحه الله وأخزاه وقد فعل: إن ملكك سيكون زواله على يد رجل من بني إسرائيل، فهذا هو السبب في كونه كان يفعل هذه الأفاعيل. ومن حكمة الله جل وعلا وتمام مقدرته أن هذا الرجل -من بني إسرائيل- يتربى في بيته، يأكل من طعامه، ويشرب من شرابه إلى آخر القصة التي ذكرها الله جل وعلا في كتابه، وهذا فيه معتبر، ولكن العجيب الذي ينبغي أن يؤخذ منه عبرة هو: الآيات الباهرة التي جاء بها موسى، حتى لا يكاد يشك من رآه بأنه نبي مرسل من عند الله جل وعلا، وقد تيقن فرعون وقومه بهذا كما أخبرنا الله جل وعلا، وكذلك بنو إسرائيل تيقنوا يقيناً أنه رسول؛ لأنهم شاهدوا الآيات العظيمة. ومن العبرة التي ينبغي أن نتفطن لها في هذه القصة: أن الله جل وعلا لما أمر موسى عليه السلام بأن يسري بقومه ليلاً من مصر، هارباً من فرعون وقومه، علم فرعون بخروجهم، فحشد جنوده وقال لهم: هؤلاء شرذمة قليلون، فلحقهم إلى أمام البحر، فصار البحر أمامهم وفرعون وجنوده خلفهم، عند ذلك قالوا لموسى: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61] يعني: أدركنا فرعون، كيف الطريق؟ ولكن موسى عليه السلام واثق بأمر الله ووعده، ولهذا قال: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62]، فأمره الله جل وعلا أن يضرب البحر، فضربه بعصاه فانفلق، فكان سبعة طرق، كل طريق مثل السوق العظيم الكبير، والماء واقف، وأرضه يابسة ليس فيها مدحضة ولا مزلة كأنه لم يجر عليها ماء. ثم من تمام المنة والحكمة كما يقول المفسرون: أن جعل البحر الذي بين كل طريق وآخر لا يستر من يسلكه، حتى يروا أصحابهم، فكل واحد في طريقه يرى أصحابه الذين في الطريق الآخر فيطمئن، ثم مع هذه الآية الباهرة العظيمة في كونهم يسلكون البحر تبعهم فرعون وسلك هذه الطرق -والبحر هو: البحر الأحمر- ثم لما خرج بنو إسرائيل وتكامل خروجهم وقد تكامل جند فرعون في البحر أمر الله جل وعلا البحر فالتحم عليهم وأغرقهم. وذكر المفسرون أن بعض بني إسرائيل شكوا في موت فرعون، وقالوا: لم يمت، فألقى الله جل وعلا ببدنه، فلما رأوه وشاهدوه عرفوا أنه قد مات، قال الله جل وعلا: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:92]. ومع هذا كله مروا -بعد خروجهم بقليل- على قوم يعكفون على أصنام لهم -وهذا هو المقصود الذي نعتبر به- فسألوا موسى عليه السلام أن يجعل لهم آلهة يعكفون عليها، كما عكف أولئك المشركون عليها، وهذا شرك ظاهر جلي لا خفاء فيه، بل قد يظهر للإنسان الذي يتأمل أن هذا فيه نوع من العناد والمكابرة، وكثيراً ما حصل العناد منهم لنبيهم، حتى قالوا له: {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] لما أمرهم الله جل وعلا على لسان رسوله أن يدخلوا على الجبارين، ووعدهم النصر، قالوا هذه المقالة، وهذا تحدٍ ومكابرة وعناد وعدم ثقة بوعد الله وأمره. ثم مع هذا كله يقول رسولنا صلوات الله وسلامه عليه لهؤلاء الذين قالوا له هذه المقالة: (قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138]) والرسول صلى الله عليه وسلم إذا حلف وأقسم إنما يقسم على ما فيه مصلحة، وذلك حتى نتأكد ونعلم مطابقة الأمر، وإن كان فيه تفاوت، فالنتيجة واحدة، وهي أن طلب البركة وكذلك العكوف على شيء مخلوق كالشجرة ونحوها -تعبداً وتألهاً- لغير الله شرك، وإن كان الشرك يتفاوت، فبعضه أعظم من بعض، ولكن هذا يدلنا على أن ذلك من الشرك الأكبر وليس من الشرك الأصغر. فعلى هذا إذا تقدم إنسان إلى صاحب قبر -سواء قال: إنه نبي أو ولي- يطلب منه العون والمساعدة والمدد، أو جلس عند قبره يتبرك به، أو أخذ من ترابه يتبرك به، أو ما أشبه ذلك فإن هذا من الشرك الأكبر، وإن مات على هذا فهو من المشركين. أما إذا تاب فباب التوبة مفتوح، والتوبة تكون من كل ذنب، ولكن هذا هو الذي نريد أن نعتبر به، ونأخذ الدرس منه من هذه الناحية، وهذا هو وجه الشبه الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم.

من هو إسرائيل؟ ومن هم بنوه؟

من هو إسرائيل؟ ومن هم بنوه؟ قوله صلى الله عليه وسلم: (قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل) بنو إسرائيل: يقصد بهم هنا أتباع موسى، وإلا فإسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، ومعنى إسرائيل: عبد الله، وهكذا كل اسم آخره جاء في (يل) فإنه معبد لله مثل: جبريل وميكائيل وإسرافيل، فكلهم معبدون لله، وإسرائيل هذا هو أبو الأسباط الذين جعلهم الله جل وعلا أنبياء، ثم إن ذريته هم الذين صاروا أتباعاً لموسى، وموسى أرسل إليهم والى القبط أيضاً، وكان القبط أتباع فرعون وقومه، وكانوا مستعبدين بني إسرائيل بمصر، والذي أدخلهم إلى مصر في ذلك الوقت هو يوسف، كما ذكر الله جل وعلا لنا في القرآن أن إخوة يوسف هددوه على كون أبيه يحبه حباً كثيراً أكثر منهم، فتآمروا على أنهم يبعدونه عنه، فحصل ما ذكره الله جل وعلا، ثم ذهب إلى مصر، فلما منَّ الله جل وعلا عليه بالملك طلب من إخوته أن يأتوا بأهلهم، كما ذكره الله جل وعلا في قصة يوسف، فسكنوا في مصر وتكاثروا.

قصة موسى مع فرعون

قصة موسى مع فرعون ثم جاء فرعون بعد ذلك واستعبد بني إسرائيل، وصار يقتل أبناءهم ويبقي نساءهم للخدمة. ثم إن قومه سخروا بني إسرائيل في الأعمال العظيمة التي ألهبوا ظهورهم بالسياط من أجلها، كبناء الأهرامات وغيرها بالقهر والقوة والظلم والجبروت، وأرادوا أن يبقوا تحت أيديهم مقهورين مذللين، فقالوا: إذا قتلنا كل مولود فلن يبقى عندنا عمال نسخرهم، فاتفقوا على أنهم يقتلون الأولاد سنة ويبقونهم سنة، حتى يبقى عندهم من يعمل ومن يستخدمونه، والسبب في هذا: أنه قيل لفرعون - قبحه الله وأخزاه وقد فعل: إن ملكك سيكون زواله على يد رجل من بني إسرائيل، فهذا هو السبب في كونه كان يفعل هذه الأفاعيل. ومن حكمة الله جل وعلا وتمام مقدرته أن هذا الرجل -من بني إسرائيل- يتربى في بيته، يأكل من طعامه، ويشرب من شرابه إلى آخر القصة التي ذكرها الله جل وعلا في كتابه، وهذا فيه معتبر، ولكن العجيب الذي ينبغي أن يؤخذ منه عبرة هو: الآيات الباهرة التي جاء بها موسى، حتى لا يكاد يشك من رآه بأنه نبي مرسل من عند الله جل وعلا، وقد تيقن فرعون وقومه بهذا كما أخبرنا الله جل وعلا، وكذلك بنو إسرائيل تيقنوا يقيناً أنه رسول؛ لأنهم شاهدوا الآيات العظيمة. ومن العبرة التي ينبغي أن نتفطن لها في هذه القصة: أن الله جل وعلا لما أمر موسى عليه السلام بأن يسري بقومه ليلاً من مصر، هارباً من فرعون وقومه، علم فرعون بخروجهم، فحشد جنوده وقال لهم: هؤلاء شرذمة قليلون، فلحقهم إلى أمام البحر، فصار البحر أمامهم وفرعون وجنوده خلفهم، عند ذلك قالوا لموسى: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61] يعني: أدركنا فرعون، كيف الطريق؟ ولكن موسى عليه السلام واثق بأمر الله ووعده، ولهذا قال: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62]، فأمره الله جل وعلا أن يضرب البحر، فضربه بعصاه فانفلق، فكان سبعة طرق، كل طريق مثل السوق العظيم الكبير، والماء واقف، وأرضه يابسة ليس فيها مدحضة ولا مزلة كأنه لم يجر عليها ماء. ثم من تمام المنة والحكمة كما يقول المفسرون: أن جعل البحر الذي بين كل طريق وآخر لا يستر من يسلكه، حتى يروا أصحابهم، فكل واحد في طريقه يرى أصحابه الذين في الطريق الآخر فيطمئن، ثم مع هذه الآية الباهرة العظيمة في كونهم يسلكون البحر تبعهم فرعون وسلك هذه الطرق -والبحر هو: البحر الأحمر- ثم لما خرج بنو إسرائيل وتكامل خروجهم وقد تكامل جند فرعون في البحر أمر الله جل وعلا البحر فالتحم عليهم وأغرقهم. وذكر المفسرون أن بعض بني إسرائيل شكوا في موت فرعون، وقالوا: لم يمت، فألقى الله جل وعلا ببدنه، فلما رأوه وشاهدوه عرفوا أنه قد مات، قال الله جل وعلا: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:92]. ومع هذا كله مروا -بعد خروجهم بقليل- على قوم يعكفون على أصنام لهم -وهذا هو المقصود الذي نعتبر به- فسألوا موسى عليه السلام أن يجعل لهم آلهة يعكفون عليها، كما عكف أولئك المشركون عليها، وهذا شرك ظاهر جلي لا خفاء فيه، بل قد يظهر للإنسان الذي يتأمل أن هذا فيه نوع من العناد والمكابرة، وكثيراً ما حصل العناد منهم لنبيهم، حتى قالوا له: {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] لما أمرهم الله جل وعلا على لسان رسوله أن يدخلوا على الجبارين، ووعدهم النصر، قالوا هذه المقالة، وهذا تحدٍ ومكابرة وعناد وعدم ثقة بوعد الله وأمره. ثم مع هذا كله يقول رسولنا صلوات الله وسلامه عليه لهؤلاء الذين قالوا له هذه المقالة: (قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138]) والرسول صلى الله عليه وسلم إذا حلف وأقسم إنما يقسم على ما فيه مصلحة، وذلك حتى نتأكد ونعلم مطابقة الأمر، وإن كان فيه تفاوت، فالنتيجة واحدة، وهي أن طلب البركة وكذلك العكوف على شيء مخلوق كالشجرة ونحوها -تعبداً وتألهاً- لغير الله شرك، وإن كان الشرك يتفاوت، فبعضه أعظم من بعض، ولكن هذا يدلنا على أن ذلك من الشرك الأكبر وليس من الشرك الأصغر. فعلى هذا إذا تقدم إنسان إلى صاحب قبر -سواء قال: إنه نبي أو ولي- يطلب منه العون والمساعدة والمدد، أو جلس عند قبره يتبرك به، أو أخذ من ترابه يتبرك به، أو ما أشبه ذلك فإن هذا من الشرك الأكبر، وإن مات على هذا فهو من المشركين. أما إذا تاب فباب التوبة مفتوح، والتوبة تكون من كل ذنب، ولكن هذا هو الذي نريد أن نعتبر به، ونأخذ الدرس منه من هذه الناحية، وهذا هو وجه الشبه الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم.

تخليق الحيطان والعمد

تخليق الحيطان والعمد قال الشارح رحمه الله: [قال الحافظ أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل الشافعي المعروف بـ أبي شامة في كتاب البدع والحوادث: ومن هذا القسم أيضاً ما قد عم الابتلاء به من تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد]. قصده بتخليق الحيطان والعمد: وضع الخيوط عليها، فالخيوط والخرق كانت توضع -مثلاً- على الشجر أو غيرها لأجل البركة، وكانوا يميزونها فيقولون: هذا الخيط الفلاني وهذا الخيط لفلان، وكذلك كانوا يضعون عليها خرق وما أشبه ذلك، خرقة فلان وخرقة فلان، فتبقى في هذه الشجرة وقتاً، ثم يأتي صاحبها ويأخذها، فتكون قد اكتسبت البركة في زعمهم. وهذا في الواقع وثنية جاهلية، وللأسف أنه يوجد في بلاد المسلمين وممن يصلي ويصوم ويتصدق ويزعم أنه موحد يوجد ذلك منه، وهذا مخالف للتوحيد، وما زال العلماء ينكرون هذه الأمور ويبينون أنها مثل ذات أنواط تماماً، وأن الإنسان يجب أن يطهر قلبه وعمله من كونه يلتف في ذلك إلى غير الله، بل يجب أن يكون عبداً خالصاً لله، وما زال العلماء يعلمون هذا، وينكرون من خالفه بأشد ما يملكون من الإنكار، إن استطاعوا باليد -كقطع الشجر وهدم البناء- فعلوا، وإن لم يستطيعوا بينوا بالقول والكتابة.

دعاء القبور شرك، والإسراج عليها وسيلة إليه

دعاء القبور شرك، والإسراج عليها وسيلة إليه [وإسراج مواضع مخصوصة في كل بلد، يحكي لهم حاكٍ أنه رأى في منامه بها أحداً ممن شهر بالصلاح والولاية، فيفعلون ذلك، ويحافظون عليه، مع تضييعهم لفرائض الله تعالى وسننه، ويظنون أنهم متقربون بذلك، ثم يتجاوزون هذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم؛ فيعظمونها ويرجون الشفاء لمرضاهم وقضاء حوائجهم بالنذر لها، وهي من عيون وشجر وحائط وحجر، وفي مدينة دمشق من ذلك مواضع متعددة كعوينة الحمى]. أبو شامة كان في القرن السابع أو السادس ومع هذا يقول: كانت هذه الأشياء موجودة، وحتى قبل ذلك الوقت وجد هذا الشيء، وقصده بالعيون: المياه التي تنبع، وتسمى الآن (مياه طبيعية)، ولا يزال الناس يستشفون بها، وقد يتعلق بها بعض الجهال، ويقصدها من أماكن متعددة، ويرى أن فيها الشفاء، والواقع أنه لا شفاء فيها، وإنما الشيطان يزين ذلك حتى يتعلق الإنسان بغير الله جل وعلا. وقد يشفى الإنسان من باب القدر وليس من باب أن هذا يؤثر، وإنما هو من باب تقدير الله جل وعلا، كما أنه قد ينال مطلبه عندما يتوجه إلى صاحب قبر يدعوه ويستغيث به من باب القدر، أي: أن الله قدر هذا، فيكون في هذا ابتلاء له، فيتسلط عليه الشيطان، ثم يرسخ هذا الشيء في قلبه ويصبح ثابتاً ومتعلقًا به أكثر، وكثير من الناس إذا حصل له ضر أو مرض أو اعتداء من أحد أو مصيبة أو ما أشبه ذلك ذهب يستنجد بهذا المقبور الميت، فإن حصل له مقصوده نسب ذلك إلى الميت السيد الفلاني، وإن لم يحصل له مقصوده يعود على نفسه باللوم، ويقول: أنا اعتقادي بالسيد ليس جيداً، ولو كان اعتقادي بالسيد جيداً وتاماً لوجد مقصودي، فوصل بهم هذا الأمر إلى هذا الحد، وقد حدثني بعض طلبة العلم في بعض البلاد التي زارها: أنه لقي بعض الناس من هذا النوع، فصار يجادلهم ويقول لهم: القبور لا تفيد أحداً، ولا يصلح للإنسان أن يستغيث إلا بالله جل وعلا الذي يملك كل شيء، يقول: في النهاية قالوا لي: لا تجادلنا؛ فعندنا الاقتناع التام بما نحن فيه، ونحن لا نصدقك ولا نقبل كلامك؛ لأننا جربنا هذه الأمور فرأيناها واقعة، فقلت لأحدهم: كيف؟ قال: إنه كان في وقت ما وذهبنا إلى بلد ما فلم نجد من يستقبلنا ولا من يأوينا، وكان الوقت بارداً، فاستغثنا بالشيخ عبد القادر الجيلاني وطلبنا منه الغوث، فجاء إلينا بنفسه يحمل معه بطانيات، فوزع علينا لكل واحد بطانية، يقول: فقلت لهم: ليس هذا عبد القادر الجيلاني، هذا شيطان ذهب وسرق من بعض الحوانيت هذه البطانيات وجاءكم بها ليفتنكم، وهذا هو الواقع، وإلا فـ عبد القادر ميت، لا يخرج من قبره، ولا يستطيع أن يغيث أحداً، وكل ميت هذه صفته، وكل ميت مرتهن في قبره وروحه كذلك لا تأتي ولا تتجدد، ولكن الشيطان هو الذي أضلكم، وتصور لكم بهذه الصورة؛ حتى يثبت الشرك بقلوبكم، وهذا هو الواقع. فالمقصود: أن الإنسان يفتن في هذه الأشياء، وإذا لم يكن عنده يقين بالله وإيمان به وصدق مع الله فقد يضل، وينبغي للإنسان أن يسأل ربه السلامة والهداية دائماً، وإذا كان الإنسان في بيئة من هذا القبيل تربى فيها وعاش فيها فقد يقتنع بهذا، ويصبح غير قابل لما يقال له.

من المشاهد الشركية في مدينة دمشق

من المشاهد الشركية في مدينة دمشق [وفي مدينة دمشق من ذلك مواضع متعددة كعوينة الحمى خارج باب توما، والعمود المخلق داخل باب الصغير، والشجرة الملعونة خارج باب النصر في نفس قارعة الطريق]. يقول: الشجرة الملعونة؛ لأنها تعبد من دون الله، وهو يقول: إنها ملعونة، وإلا فالناس لا يسمونها ملعونة، بل يسمونها شجرة مباركة، ومع ذلك هي شجرة يابسة هامدة، وهذه مواضع قد زالت، ولكن يعقبها غيرها كثير من هذا النوع، وأكثر القبور التي تعبد من هذا القبيل، فيأتي إنسان ويقول: أتاني آتٍ في النوم فأخبرني أن في هذا المكان ولي من الأولياء، وقد يعين له كـ الحسين رضي الله عنه، أو فلان وفلان، فيبنى عليها البناء، ويعظم، ويتوارث، إلى أن يصبح كأنه أمر واقعي، والآن نعرف أن الحسين رضي الله عنه له أماكن متعددة في العراق وفي سوريا وفي مصر، والإنسان لا يكون له قبور متعددة! والغريب أن هذا أيضاً يقال في غيره. على كل حال هذه طرق الشيطان يضل الناس بها، والعجيب أن هذا يقع ممن عندهم كتاب الله وعندهم سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعلمون أنهم عبيد الله، وأنه يجب أن تكون عبادتهم لله، ومع ذلك يتعلقون بهذه الخرافات وهذه الترهات، ويتركون الأمر الواضح الجلي، مما يدل على ميل النفوس إلى الباطل وحبها التعلق بغير الله جل وعلا، فإذا لم تترب على دين الله وعلى الوحي فإنها قد تضل، وهذا كثير في بعض البلاد.

تسارع أهل الشرك إلى اتخاذ الأوثان

تسارع أهل الشرك إلى اتخاذ الأوثان قال الشارح رحمه الله: [وذكر ابن القيم رحمه الله نحو ما ذكره أبو شامة، ثم قال: فما أسرع أهل الشرك إلى اتخاذ الأوثان من دون الله]. أبو شامة في القرن السادس وابن القيم في القرن الذي بعده وتوفي في القرن الثامن، وما زال العلماء قبلهم وبعدهم يذكرون من هذه الأشياء أشياء كثيرة، والإنسان إذا نظر الآن في بلاد المسلمين -وللأسف- يجد أشياء كثيرة موجودة من هذا النوع، إما قبراً أو ما أشبه ذلك، والقبر يتعلق به وقد يطاف به ويسأل صاحبه، وقد يسمون هذا توسلاً أو يسمونه تشفعاً أو يسمونه تبركاً، أو يسمونه حباً للصالحين وتعلقاً بهم، أو يسمونه بأسماء مختلفة، أما أن يسمى شركاً فهم لا يقبلونه، ويقولون: هذا ليس بشرك؛ لأنهم يقولون: الشرك هو أن تدعو من تعتقد أنه يحيي ويميت، أو أنه يتصرف مع الله، وأما نحن فنقر بأن هؤلاء عبيد لله، ولكن الله جل وعلا أكرمهم بأن أعطاهم الشفاعة، فنحن ندعوهم لأجل ذلك. و A أن هذا هو قول المشركين بحروفه ومعناه، فهم كانوا يقولون: الشجر والحجارة مملوكة لله، ولا تتصرف مع الله، ولكن نحن قوم لنا ذنوب فندعو الله بواسطة هذه؛ لأنها لا ذنوب لها حتى تشفع لنا، وتقربنا إلى الله زلفاً، فهذا هو الشرك بعينه، وما وجدت الدنيا من بني آدم من يقول: إن حجرًا أو شجراً أو ميتاً يحيي ويميت، وينزل المطر من السماء، ويتصرف مع الله جل وعلا، فهذا لا وجود له، ولا يقوله عاقل، فالشرك هو الشرك، سواء سمي شركاً أو سمي تشفعاً أو سمي توسلاً أو تعلقاً بالصالحين أو حباً لهم أو غير ذلك.

النذر عبادة لا تكون إلا لله، والنذر للقبور شرك

النذر عبادة لا تكون إلا لله، والنذر للقبور شرك قال الشارح رحمه الله: [ويقولون: إن هذا الحجر وهذه الشجرة وهذه العين تقبل النذر، أي: تقبل العبادة من دون الله، فإن النذر عبادة وقربة يتقرب بها الناذر إلى المنذور له]. معنى قولهم: تقبل النذر، يعني: إذا نذر لها حصل بالمنذور الذي طلبه الناذر، هذا معنى قولهم: تقبل النذر، يعني: أننا إذا سألناها وقدمنا إليها بما يقدم لها من ذبح أو مال أنه يحصل لنا مطلوبنا، فمعنى ذلك: أنها تستجيب، وأنها تسعدنا بمطلبنا، وهذا هو الشرك الأكبر بعينه، فالعبادة يجب أن تكون لله جل وعلا، ولا يجوز أن تكون لغيره مهما كانت كبيرة أو صغيرة، بل يجب أن تكون لله وحده، وإلا وقع الإنسان في الشرك والمخالفات. قال الشارح رحمه الله: [وسيأتي ما يتعلق بهذا الباب عند قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد)]. المقصود بهذا أنه صلوات الله وسلامه عليه سأل ربه أن لا يكون قبره وثناً يعبد، فمفهوم هذا أنه لو قدر -ولا يكون إن شاء الله- يعبد قبره فسيكون وثناً. فإذاً: قبور غيره بنبغي من باب أولى أن تسمى أوثاناً، والواقع أن العبادة ما تقع عليه، وإنما تقع على من زين هذا وأمر به، وإلا فالعابد والمعبود إذا كان قد رضي بهذا فكلاهما سواء، ولهذا يقول الإمام مالك رحمه الله: (الطاغوت كل من عبد من دون الله) وإن كان بعض الناس استدرك عليه، وقال: ينبغي أن يقيد هذا، وأن يقال: كل من عبد من دون الله وهو راضٍ؛ لأن كثيراً من الرسل كعيسى عليه السلام وعزير، وكذلك كثير من الأولياء يُعَبدون من دون الله وليسوا طواغيت، ولكن مقصود القائل بهذا أن من تقع عليه العبادة بالصورة أنه طاغوت؛ لأنه معبود، ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة وحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما في ذكر الشفاعة الكبرى؛ عندما يقف الناس الوقوف الطويل العظيم ثم يلهمهم الله جل وعلا -إذا أراد أن يرحمهم- بأن يطلبوا الشفاعة، فيطلبون الشفاعة من الرسل، وكل واحد يدفعها إلى من بعده من أولي العزم حتى تصل إلى سيد الخلق محمد صلوات الله وسلامه عليه، فيشفع، وذكر صفة الشفاعة أنه يذهب إلى مكان معين تحت العرش فيخر ساجداً، ويفتح الله عليه من المحامد والثناء الشيء الذي يرضى الله جل وعلا به. ثم بعد ذلك يقول له: اشفع، وقبل أن يقول له: اشفع لا يشفع؛ لأن الله جل وعلا يقول: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، فيسأل ربه أن يأتي ليفصل بين خلقه ويحاسبهم، هذه هي الشفاعة الكبرى، وهي شاملة لجميع الأمم ليست خاصة بالأمة هذه، ولهذا سمي هذا المقام بالمقام المحمود التي يحمده عليه الأولون والآخرون، وهذا مثل ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في حقيقة الشفاعة: إن في الشفاعة إرادة رحمة الله بالمشفوع وإظهار كرامة الشافع، هذه حقيقتها، وإلا فهي لله كما قال جل وعلا: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر:43 - 44]. والمقصود: أنه إذا جاء ربنا جل وعلا ليحاسب عباده فهو الذي يتولى المحاسبة جل وعلا، كما ثبت في الصحيحين من حديث عدي بن حاتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (واعلموا أن كل واحد منكم سيلقى ربه فيكلمه ليس بينه وبينه ترجمان، فيقول: يا عبدي! ألم تفعل كذا وكذا في وقت كذا وكذا) إلى آخره. ولكن هذا للمؤمنين الذين يحاسبون هذه المحاسبة، ويسألون هذه المساءلة، أما الخلق وعموم الكفار والمشركين فإنه إذا جاء جل وعلا ليفصل بينهم، يكلمهم جميعاً، ويقول تعالى وتقدس: (أليس عدلاً مني أن أولي كل واحد منكم ما كان يتولاه في الدنيا؟) فكلهم يقولون: بلى يا رب! هذا عدلك، عند ذلك قال صلوات الله وسلامه عليه: (فيؤتى بكل معبود في الدنيا إلى عابده، ومن كان يعبد المسيح وعزير والملائكة، يؤتى بشياطين على صور تلك المعبودات، ثم يقال لهم: اتبعوهم إلى جهنم، فيتبعونهم) وهذا كما قال الله جل وعلا في كتابه: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98] أي: العابد والمعبود، أما إذا كان المعبود نبياً أو صالحاً فإن الله جل وعلا يقول: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101]، لأنهم في الواقع ما عبدوهم، وإنما عبدوا شيطاناً زين لهم هذا الشيء، ولهذا يؤتى بذلك الشيطان على صورة ما يتخيله العابد، فيقال له: هذا معبودك فاتبعه.

شرح فتح المجيد [39]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [39] الدلائل على معرفة الله جل وعلا كثيرة ومبثوثة في الإنسان وفي الكون، وكذلك الدلائل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم كثيرة ومتوافرة، ومنها: القرآن الكريم الذي تحدى به عمالقة البيان، وأرباب الفصاحة، ومنها إخباره بأمور غيبية، تحققت في حياته، وجاءت كما أخبر، وغير ذلك من الآيات الدالة على صدقه ونبوته عليه الصلاة والسلام.

التبرك بالأشجار والقبور والأحجار شرك

التبرك بالأشجار والقبور والأحجار شرك قال الشارح رحمه الله: [وفي هذه الجملة من الفوائد: أن ما يفعله من يعتقد في الأشجار والقبور والأحجار من التبرك بها، والعكوف عندها، والذبح لها هو الشرك، ولا يُغتر بالعوام والطغام، ولا يستبعد كون الشرك بالله تعالى يقع في هذه الأمة، فإذا كان بعض الصحابة ظنوا ذلك حسناً وطلبوه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حتى بين لهم أن ذلك كقول بني إسرائيل: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138]، فكيف لا يخفى على من دونهم في العلم والفضل بأضعاف مضاعفة، مع غلبة الجهل وبعد العهد بآثار النبوة؟! بل خفي عليهم عظائم الشرك في الإلهية والربوبية، فأكثروا فعله واتخذوه قربة]. هناك كثيرون ممن اشتغلوا بالكلام وبالعلم والكتابة، بل وبتفسير القرآن، وبشرح الحديث أخطئوا في هذا المعنى، وضلوا فيه؛ بسبب بعد عهدهم بالنبوة، وبسبب كثرة الواقعين في ذلك، فتوارثوا هذا الشيء وصار كأنه أمر مسلم لا خطأ فيه، ولا ينكره أحد، فقبلوه، وهذا مثل ما يقول كثير من المتكلمين: معنى الإله: هو القادر على الاختراع، وهذا من أكبر الخطأ؛ لهذا يقول بعض العلماء: من اعتقد هذا فهو مشرك، والإله ليس معناه: القادر على الاختراع، بل الإله معناه الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم: ألا يعبد إلا هو جل وعلا، أما القادر على الاختراع فهو معنى الرب، وكذلك بعض المفسرين -الذين تفاسيرهم مشهورة- أكثروا من ذكر هذا المعنى في تفاسيرهم، حتى إن أحدهم لما جاء إلى قصة بني إسرائيل مع موسى حرف الكلام، وقال: هذا لا يعقل أن يقع، فجاء بأمور عجيبة! والسبب أنه اعتقد أن قول بني إسرائيل: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138] أن معناه: اجعل لنا رباً مثل الله، وهذا هو الذي دعاه إلى التحريف والتأويل، وهذا خطأ من الأصل: خطأ في الفهم، وخطأ في الشيء الذي بنى عليه، فإذا كان مثل هذا يقع من علماء كبار، فيخشى أن يقع ممن لم يصل إلى ما وصلوا إليه في العلم. فالمقصود: أن الإنسان يجب أن يعتني بهذا الأمر كثيراً، وألاّ يفرط في ذلك بعدم السؤال وعدم البحث؛ لأن هذا أمر مهم جداً، الإنسان ليس له إلا عمر واحد وحياة واحدة، فإذا ذهبت حياته وهو على غير الهدى فمن أين له أن يستدرك ذلك؟! فينبغي أن يهتم بنفسه قبل فوت الأوان.

العبرة بالمعاني والأحكام لا بالأسماء

العبرة بالمعاني والأحكام لا بالأسماء قال الشارح رحمه الله: [وفيها: أن الاعتبار في الأحكام بالمعاني لا بالأسماء؛ ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم طلبتهم كطلبة بني إسرائيل، ولم يلتفت إلى كونهم سموها ذات أنواط، فالمشرك مشرك وإن سمى شركه ما سماه، كمن يسمى دعاء الأموات والذبح والنذر لهم ونحو ذلك تعظيماً ومحبة، فإن ذلك هو الشرك، وإن سماه ما سماه، وقس على ذلك. قوله: (لتركبن سنن من كان قبلكم) بضم الموحدة وضم السين أي: طرقهم ومناهجهم، وقد يجوز فتح السين على الإفراد أي: طريقهم، وهذا خبر صحيح، والواقع من كثير من هذه الأمة يشهد له، وفيه علم من أعلام النبوة من حيث إنه وقع كما أخبر به صلى الله عليه وسلم. وفي الحديث: النهى عن التشبه بأهل الجاهلية وأهل الكتاب فيما كانوا يفعلونه، إلا ما دل الدليل على أنه من شريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم]. يعني: أن ما يفعله اليهود والنصارى -سواءً كان من الأمور الدينية أو من الأمور الاعتيادية- لا يجوز لمسلم أن يتشبه بهم ويقتدي بهم في ذلك، إلا إذا جاء الدليل من الكتاب والسنة على أن هذا مشروع لنا، فلا ننظر إلى فعلهم، يعني: وافقونا أو لم يوافقونا، بل نتبع كتابنا وسنة رسولنا صلى الله عليه وسلم، أما إذا لم يأت دليل على مشروعيته؛ فإنه لا يجوز لنا أن نفعل ذلك؛ لأنه يكون تشبه بهم.

المسائل التي يسأل عنها الإنسان في قبره

المسائل التي يسأل عنها الإنسان في قبره قال الشارح رحمه الله: [وفيه التنبيه على مسائل القبر أما: من ربك؟ فواضح، وأما: من نبيك؟ فمن إخباره بأنباء الغيب، وأما: ما دينك؟ فمن قولهم: (اجعل لنا إلهاً) إلخ]. قوله: فيه التنبيه على مسائل القبر، أما: من ربك؟ فواضح، وأما: من نبيك؟ فمن إخباره بأنباء الغيب، وأما ما دينك؟ فمن قولهم: اجعل لنا إلهاً، المقصود بهذا: أن يقول: إن الأصول الثلاثة كانت معروفة وواضحة، والأصول الثلاثة هي التي يسأل عنها الإنسان في قبره، وهي معرفة الإنسان لربه، ومعرفته لنبيه صلى الله عليه وسلم، ومعرفته لدينه، ويقول: إن هذا شيء متقرر عندهم وواضح، وإن كان التنبيه على ذلك جاء من الوحي، ولكن فيه ما هو واضح وجلي، فاتفق الوحي والفطرة والعقل عليه، وهذا معنى قوله: أما من ربك؟ فواضح، يعني: أن الدلائل على معرفة الله جل وعلا متواترة ومتكاثرة، وموجودة في النفوس بالفطر، وموجودة في الآيات، وموجودة في المخلوقات، وكذلك دعت إلى ذلك الشرائع التي جاءت بها الرسل، هذا معنى قوله: أما: من ربك؟ فواضح، يعني: وضوح من ناحية الدلائل الظاهرة البينة، ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ({كل مولود يولد على الفطرة).

بعض الدلائل على معرفة الله عز وجل

بعض الدلائل على معرفة الله عز وجل والمقصود بالفطرة التي ذكرها في هذا الحديث -على القول الصواب الصحيح: أنها ما خُلق عليه الإنسان من حبه للدين وإيثاره وقبوله له، وكما أنه فطر على التقام ثدي أمه إذا خرج من بطنها فكذلك فطر على دين الله، فهي خلقة خلقه الله جل وعلا عليها، وخلقها فيه، وإنما يغير هذه الفطرة المربي الذي يربيه، فإذا تركت فإنه عارف قابل، وليس معنى ذلك أنه يخرج من بطن أمه عالماً بالإسلام عارفاً به، ولكنه مؤثراً له وقابلاً له ومستعداً لقبوله، بل يكون استكنانه به في قلبه ومحبته له مثل استكنان قبوله لثدي أمه، فهو مفطور على هذه الفطرة. ولهذا إذا وقع الإنسان في كرب وفي شدة يهرع إلى ربه جل وعلا ويسأله، ويرفع يديه إليه متضرعاً داعياً مستغيثاً، فهذا من ناحية الفطرة وناحية النفس. أما من ناحية الآيات المشاهدة في المخلوقات فهي كثيرة جداً: في الأرض، وفي السماء، وفي النبات، وفي الأنفس، وفي غير ذلك، وقد نبه الله جل وعلا على شيء من ذلك فقال: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53]، والأمر في هذا واضح، وقال سبحانه: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] يعني: هناك آيات في الأنفس، ولهذا أكثر الله جل وعلا من تنبيه الناس إلى النظر إلى خلقهم، فقال: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ} [الطارق:5]؛ لأن هذه من أكبر العبر، وأكبر الأدلة على الله جل وعلا، فكون أصله ماء مهين، قطرة ماء ثم يخلق منها عظام وأعصاب ولحم، ويفتح له جوف فيه قلبه، وفيه الأشياء التي لا يمكن أن يكون للأب أو من الخلق في ذلك تصرف، ثم يكون بعد ذلك ذكراً أو أنثى، ويجعل فيه السمع والبصر والعقل وأشياء كثيرة، كل هذا ليعتبر الإنسان في خلقه، فإن فيه هذه الآيات الباهرة التي تدل على وجود الله، ولهذا نبه عليها جل وعلا. وكذلك المخلوقات: في السماء، وفي الأرض، وفي اختلاف الليل والنهار، وفي النجوم، وفي الشمس، والقمر، والجبال، والسحاب، والمطر وغيرها، إذا نظر الإنسان إليها بعقله فإنه يتبين له ذلك، وجاءت الرسل بالوحي مؤيدة في هذا، ولهذا لما أعرض بعض الكفار عن رسلهم، وكذبوا ما قالوا لهم، قال لهم رسلهم: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ} [إبراهيم:10]، يعني: هذا أمر مسلم، فهذا معنى قوله: (أما: من ربك؟ فواضح) أي: جلي لكل عاقل يبصر ذلك أو يضطر إليه، ولكن الإعراض والتكبر والعادات قد يغفل الإنسان بسببها عن هذا.

بعض المعجزات والدلائل على صدق نبوة النبي صلى الله عليه وسلم

بعض المعجزات والدلائل على صدق نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: (وأما من نبيك؟ فمن إخباره بأنباء الغيب) يعني: معرفة النبي جاءت بالآيات التي جاء بها، وبالمعجزات التي دلت على صدقه صلوات الله وسلامه عليه، وهي كثيرة؛ لهذا قال: (فمن إخباره بأنباء الغيب) يعني: هذا شيء منها، وإلا فهي كثيرة جداً، منها: ما هو متصف به صلوات الله وسلامه عليه بنفسه من الصدق والأمانة ومراقبة الله جل وعلا، ومنها التحدي، فكونه يأتي إلى قوم كفار فيخالفهم في دينهم، ويخبرهم بأنه منابذ لهم ومعادٍ لهم على هذا الدين، وأنه يلزمهم ترك دينهم ومتابعته، فإن لم يفعلوا فإنه سوف يكون عذابهم في الدنيا والآخرة، ويتوعدهم على هذا وهو وحده، وليس معه سلطان ولا جيش ولا قوة، وحده يقوم أمام أمة تخالفه وتعاديه وتنابذه فيتحداهم بهذا الشيء، ويقول لهم: إنكم لن تصلوا إليَّ بسوء، إذا لم يرده الله جل وعلا بي. وهكذا كانت الرسل، كما قال هود عليه السلام لقومه لما قالوا له: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:54 - 56]، وهكذا الرسل كلهم قالوا هذه المقالة، وآخرهم وخاتمهم محمد صلوات الله وسلامه عليه، فهذا دليل من أعظم الأدلة على صدقه حيث تبين ثقته وصدقه: ثقته بالله جل وعلا بتحدي هؤلاء الذين يعاديهم ويعادونه، ثم يخبرهم أنهم لن يصلوا إليه، وإذا قام أحدهم يريد به كيداً أو أذىً وتوعده وقال له: سوف أقتلك؟ يقول صلى الله عليه وسلم له: بل أنا الذي أقتلك، ثم يصبح خائفاً من هذا القول؛ لأنهم عرفوا صدقه، وعرفوا أنه لا يقول قولاً إلا ويرون صدقه. ولهذا لما أنزل الله جل وعلا عليه: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] خشي صلوات الله وسلامه عليه أن يكون قصر في الإنذار والدعوة، فقام مسرعاً، وصعد على الصفا، وصار يهتف: (واصباحاه) وكانت عادة العرب إذا دهم الإنسان أمر قريب يقول كذا، فاجتمعوا إليه، والذي لم يأت إليه بنفسه أرسل من ينوب عنه من ولد أو أخ أو غير ذلك، فلما اجتمعوا قال لهم: (أرأيتم لو أخبرتكم أن خلف هذا الجبل جيشاً يريد أخذكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك كذبة واحدة) فهم كانوا يعرفون صدقه وأمانته. ثم كذلك الآيات الأخرى، مثل: انشقاق القمر، فلما طلبوا منه آية انشق القمر، وصار فلقتين: فلقة من جهة الشمال، وفلقة من جهة الجنوب في السماء، فصار يريهم ويقول: (اللهم اشهد) ومع ذلك قالوا: هذا سحر، يا للعجب، السحر يصل إلى القمر؟!! لكنه التكبر والعناد والإباء. وكذلك إجابة دعوته، فقد كان يدعو بالدعاء فيُستجاب. وكذلك القرآن الذي نزل عليه، تحداهم -وهم أمراء البيان في البلاغة والفصاحة- أن يأتوا بأقصر سورة من سوره فلم يستطيعوا وعجزوا، والعاقل من الناس من لم تسول له نفسه أن يفعل شيئاً من ذلك؛ لأنه أمر لا يطاق، كما قال الله جل وعلا: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء:88]، وهذا يدخل فيه بعضه ليس كله. أما سخفاء العقول الذين تزين لهم شياطينهم، ويزين لهم توهمهم وطغيانهم في السيطرة والرئاسة إذا جاءوا بشيء من هذا صاروا أضحوكة للعقلاء، مثل ما فعل مسيلمة فقد ذكر ابن كثير رحمه الله وغيره من المؤرخين: أن عمرو بن العاص قبل أن يسلم كان صديقاً لـ مسيلمة، وأنه اجتمع به فسأله: ماذا أنزل على صاحبكم؟ فقال: لقد أنزل عليه سورة بليغة وجيزة، قال: ما هي؟ قال: بسم الله الرحمن الرحيم: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر} [العصر:1 - 3] ففكر في نفسه قليلاً ثم قال: وأنا أنزل عليّ مثلها، قال: ما هي؟ قال: يا وبر يا وبر! إنما أنت رأس وصدر، وباقيك حقر نقر، ماذا تقول يا عمرو؟! قال: والله! إنك لتعلم أني أعلم أنك كاذب! فلم يكتف أن يخبر عن علمه هو، بل قال: أنت تعرف في نفسك أني أعلم أنك كاذب، يعني: أنك تكذب كذباً واضحاً جلياً، وهكذا كل من تحاول له نفسه أن يأتي بشيء من ذلك يصبح أضحوكة للناس، فهذا من أعظم الآيات التي أوتيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكن لا يعرف هذا على الوجه المطلوب إلا الذي يعرف لغة العرب، ويعرف الفصاحة والبلاغة. ومنها: الأمور التي تقع على خلاف العادة التي أجراها الله جل وعلا في خلقه على يد رسوله صلى الله عليه وسلم، مثل: كون الماء القليل يكفي الجيش بأكمله، وخروج الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم، وينبع منها كأنها عيون، فيشربون ويتوضئون من هذا الإناء، وكذلك الطعام القليل الذي يكون مصنوعاً لثلاثة فقط يكفي الجيش بأكمله، ثم يبقى كما هو كأنه لم يؤكل منه شيء إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي وقعت له صلوات الله وسلامه عليه. ومن المعلوم -عند كل إنسان له عقل يفكر- أن الذي يأتي إلى الناس ويقول: أنا نبي، أنه أحد رجلين: إما أن يكون أتقى الناس وأبر الناس وأصدق الناس وأقرب الناس إلى الله، أو يكون أكذب الناس وأفجر الناس وأبعدهم من الله جل وعلا، ولا يمكن أن يلتبس هذا بهذا، بل مستحيل أن يلتبس هذا بهذا؛ لأنه إما أن يكون صادقاً براً رسولاً حقاً، أو يكون كاذباً على الله، {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ} [الزمر:32] أي: قد تناهى في الظلم، وهذا معنى قوله: (وأما من نبيك؟ فمن إخباره بأنباء الغيب). وقوله: (وأما ما دينك؟ فمن قولهم: ((اجعل لنا إلهاً)) يعني: أنه متقرر عندهم أن الدين مبني على وروده من الرسول صلى الله عليه وسلم، على الأمر والنهي، وليس بالاستحسان ولا بالعقل ولا بالأوضاع التي وجد عليها الناس، وهذا هو الذي يسأل عنه الإنسان في قبره، ويقال له: ما دينك؟ فإذا أجاب الإنسان، قيل له: وما يدريك أن هذا هو دينك؟ فإما أن يقول: وجدت الناس على شيء ففعلت مثل فعلهم، أو يقول: قرأت كتاب الله وآمنت به، فإن كان الأول: فهو الضال المرتاب الذي يعذب، وإن كان الثاني: فهو المؤمن، هذا هو معنى ما ذكره في هذا التنبيه. قال الشارح رحمه الله: [وفيه: أن الشرك لابد أن يقع في هذه الأمة خلافاً لمن ادعى خلاف ذلك]. هذا مأخوذ من قوله: (لتتبعن سنن من كان قبلكم) والذين قبلنا وقعوا في الشرك، ووقعوا في أشياء كثيرة، والرسول صلى الله عليه وسلم إذا أخبر بخبر فلابد من وقوعه؛ لأنه صلوات الله وسلامه عليه لا ينطق عن الهوى.

غضب النبي صلى الله عليه وسلم إذا انتهكت محارم الله

غضب النبي صلى الله عليه وسلم إذا انتهكت محارم الله قال الشارح رحمه الله: [وفيه: الغضب عند التعليم، وأن ما ذم الله به اليهود والنصارى فإنه قاله لنا لنحذره، قاله المصنف رحمه الله]. أما الغضب عند التعليم فهذا إذا اقتضى الأمر ذلك، وهذا يؤخذ من قوله: سبحان الله، أو قوله: الله أكبر على حسب ما جاء في الرواية، ففي رواية أنه قال: (الله أكبر! الله أكبر!)، وفي رواية أنه قال: (سبحان الله! سبحان الله!) وهذا يدل على أنه غضب؛ لأن هذا تنزيه لله جل وعلا وتكبير له، أن يجعل لهم سدرة يعكفون عندها ويعلقون فيها أسلحتهم ويتبركون بها، وقد وقع له صلوات الله وسلامه عليه نظير هذا في بعض المسائل، كما سيأتي في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد في القصة التي سيذكرها المؤلف وهي: (أن أعرابياً أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله! استسق لنا، فقد جاع العيال، ومات الحلال، وانقطعت السبل، فإنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك، فأكبر صلوات الله وسلامه عليه ذلك القول، وقال: ويحك أتدري ما الله؟!.) إلى آخره، فهذا مثله أيضاً، وهكذا صلوات الله وسلامه عليه إذا انتهك شيء من حقوق الله فإنه يغضب، ولا أحد يقوم لغضبه صلوات الله وسلامه عليه. أما عند التعليم دون أن يكون هناك انتهاك لمحارم الله فهو أكمل الناس خلقاً، وأتمهم حلماً، ويسع الجاهل ما لا يسعه غيره، ولهذا لما دخل الأعرابي إلى المسجد فأناخ بعيره في المسجد، ثم جلس يبول في المسجد انتهره الناس، فقال لهم صلوات الله وسلامه عليه: (دعوه، لا تزرموه، فتركه حتى انتهى ثم دعاه، فقال: إن المساجد لا تصلح لهذ، اوأمر بأن يصب على البول ذنوباً من ماء)، وفي الحديث الصحيح من حديث أنس أن أعرابياً لقيه صلوات الله وسلامه عليه، وعليه درع غليظ الحاشية، فأمسك بالنبي صلى الله عليه وسلم وجبذه جبذة شديدة، يقول أنس: حتى رأيت أثرها في رقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: يكاد الدم يخرج، يقول: فلم يعنف عليه، وأمر أن يحسن إليه، إلى غير ذلك. فصلوات الله وسلامه عليه كان يعلم الجاهل برفق ولين، وأما إذا انتهكت المحارم فإنه يغضب لله جل وعلا، ولما جاءه الذي يشفع في المرأة المخزومية التي سرقت غضب، والمرأة المخزومية هي من قريش، فثقل ذلك على بعض رجالات قريش، وقالوا: كيف تقطع يدها وهي شريفة وهي كذا وكذا؟! ثم قالوا: من يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: ما أحد يجرأ على كلامه إلا ابن حبه أسامة بن زيد، فكلموه، فذهب وكلمه فغضب صلوات الله وسلامه عليه وقال: (تشفع في حد من حدود الله؟ وأيم الله! لو أن فاطمة بنت محمد -صلى الله عليه وسلم- سرقت لقطعت يدها، إنما جاء النقص على بني إسرائيل أنهم كانوا إذا سرق الشريف فيهم تركوه، وإذا سرق الوضيع فيهم أقاموا عليه الحد) والمقصود: أن غضبه ليس دائماً، وإنما هو عند انتهاك المحارم. وأما قوله: وأن ما ذم الله به اليهود والنصارى فإنه قاله لنا لنحذره فهذا واضح؛ لأن اليهود في قصتهم مع نبيهم شيء قد مضى أمره وانتهى، وهم أيضاً لم يؤمنوا برسولنا صلوات الله وسلامه عليه، وإنما الذي آمن به منهم-في وقته- قلة لا يتجاوزون عدد أصابع اليد الواحدة، فهذا في وقته، وكونه جل وعلا يذكر ذلك الأمر إنما أراد به أن يبين ما فعلوه وذموا عليه لئلا نقع في ذلك، وهذا في جميع القرآن وليس خاصاً ببني إسرائيل، بل كل القصص التي جاءت عن الأمم وعن الأنبياء نحن المقصودون بها؛ لأن هذه سنة الله لا تتغير ولا تتبدل، من خالف الرسل وكذبهم وعصاهم فإن مصيره إلى ما صار إليه أولئك المخالفون لرسلهم، ومن أطاع الرسل واتبعهم ونصر الله ودينه، فالعاقبة تكون له في الدنيا والسعادة في الآخرة، هذا هو مضمون القصص الذي قصه الله جل وعلا علينا في القرآن، سواء عن بني إسرائيل أو عن غيرهم.

الأدلة على عدم جواز التبرك بآثار الصالحين

الأدلة على عدم جواز التبرك بآثار الصالحين قال الشارح رحمه الله: [وأما ما ادعاه بعض المتأخرين من أنه يجوز التبرك بآثار الصالحين فممنوع من وجوه: منها: أن السابقين الأولين من الصحابة ومن بعدهم لم يكونوا يفعلون ذلك مع غير النبي صلى الله عليه وسلم، لا في حياته ولا بعد موته، ولو كان خيراً لسبقونا إليه، وأفضل الصحابة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، وقد شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن شهد له بالجنة، وما فعله أحد من الصحابة والتابعين مع أحد من هؤلاء السادة، ولا فعله التابعون مع ساداتهم في العلم والدين وأهل الأسوة، فلا يجوز أن يقاس على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد من الأمة، وللنبي صلى الله عليه وسلم في حال الحياة خصائص كثيرة لا يصلح أن يشاركه فيها غيره. ومنها: أن في المنع عن ذلك سداً لذريعة الشرك كما لا يخفى]. يقول بعض المتأخرين مثل الإمام النووي رحمه الله وغيره: قد جاءت بعض الأحاديث التي فيها أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يوزع شعره على صحابته للتبرك به، وكذلك كان إذا توضأ سارعوا إلى فضلة وضوئه يتبركون بها، وإذا تفل أو تنخم صلوات الله وسلامه عليه أحب كل واحد منهم أن تكون بيده حتى يدلك بها وجهه؛ تبركاً به صلوات الله وسلامه عليه، وكذلك إذا أمكن أحدهم أن يأخذ شيئاً من ثيابه التي تلي جسده أخذها، وبعض الصحابيات التي لها صلة بالرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا عرق تأخذ عرقه وتضعه في الطيب؛ لأن عرقه صلوات الله وسلامه عليه أحسن من الطيب، والمقصود أن هذا شيء مشهور ومعروف، فكانوا إذا جاءوا إلى مثل هذه القضايا قالوا: هذا فيه جواز التبرك بالصالحين وبآثارهم، والمؤلف هنا يقول: هذا خطأ من وجوه: الوجه الأول: أن هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، بدليل أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يفعلوا هذا مع أحد منهم، فما فعلوه مع أبي بكر ولا مع عمر ولا مع عثمان ولا مع علي، ولا مع غيرهم من سادات الصحابة، وهم أعلم برسول صلى الله عليه وسلم وبما أنزل عليه، ولو كان خيراً لسبقونا إليه. الوجه الثاني: أنه لا يجوز أن يقاس غير الرسول صلى الله عليه وسلم عليه، وهذا لا يقول به من يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز أن يقاس آحاد الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا، بل ولا يجوز أن يدان به، وهذا قياس مع الفارق البعيد جداً، فإذا جاء القياس مع الفارق فهو قياس باطل غير معتبر شرعاً. الوجه الثالث: أن هذا فيه سد للذرائع كما قال المؤلف، وهي قاعدة معروفة في الشرع، والمعنى: أننا لو أجزنا ذلك لجر هذا إلى ما لا يجوز، ولصار طريقاً إلى الشرك وإلى سؤاله والتوسل به، وما أشبه ذلك، وكل ما كان وسيلة إلى ما هو محرم فممنوع. وهناك أيضاً وجه رابع لم يذكره المؤلف وهو: أن الصلاح أمر لا يعرف إلا من قبل الوحي؛ لأنه في القلب وليس للإنسان إلا الظاهر، فيجوز أن يكون في الباطن غير ما هو في الظاهر، ويجوز أن يتبدل في آخر حياته ويتغير، بخلاف الذين أخبر الله جل وعلا -كالصحابة- أنه رضي عنهم؛ فإن الله لا يخبر جل وعلا عن شيء يتبدل ويتغير. فإذا قال قائل: هذا من التبرك بالصالحين قلنا: هذا أمر مظنون غير متيقن، وإنما هو من باب الظن، وباب الظن لا يجوز أن تبنى عليه الأحكام في مثل هذا، إلى غير ذلك من الأوجه التي تمنع ذلك، وكل وجه من هذه الأوجه يكفي في منع ذلك. والخلاصة: أن التبرك بالآثار ومماسة الجسد وما أشبه ذلك خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو من خصائصه لا يجوز أن يقاس عليه أحد من الناس. وأما والذين استدلوا بفعل ابن عمر، ففعل ابن عمر كان اتباع آثار الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس من هذا الباب، وإنما هو اتباع آثاره، يعني: كان يتتبع الأثر الذي صلى فيه الرسول فيصلي فيه، والمكان الذي جلس فيه فيجلس فيه، وما أشبه ذلك؛ لأنه كان يرى أن هذا سنة، وأنه اتباع للرسول صلى الله عليه وسلم، فليس من باب التبرك، وإنما الكلام في التبرك بما لامس جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو انفصل عنه، وهذا شيء معروف عند الصحابة رضوان الله عليهم حتى أنه جاءت الأحاديث فيه إلى حد التواتر.

مسائل باب: (من تبرك بشجرة أو حجر ونحوها)

مسائل باب: (من تبرك بشجرة أو حجر ونحوها) قال المصنف رحمه الله: [وفيه مسائل: المسألة الأولى: تفسير آية النجم]. المقصود بآية النجم قوله جل وعلا: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى} [النجم:19 - 21]، فهذه الآيات إلى آخرها قد مر معناها. [المسألة الثانية: معرفة صورة الأمر الذي طلبوا]. يعني: معرفة صورة الأمر الذي طلبوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أنهم ظنوا أن هذا أمر مقرب إلى الله، وأنه محبوب لله جل وعلا ولرسوله، أما لو كانوا يعرفون أنه منكر، وأنه داخل في أقسام الشرك، ويناقض معنى لا إله إلا الله فلا يمكن أن يقدموا عليه ويطلبوه، ومعنى ذلك: أن الإنسان لا يعذر بالجهل في مثل هذه الأبواب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أنكر عليهم وأغلظ لهم في ذلك. [المسألة الثالثة: كونهم لم يفعلوا]. يعني: أنهم طلبوا ولم يفعلوا حتى لا يقال: إن هذا فيه العذر للجاهل، وإنه معذور في هذا الباب؛ وسبق أنه يضاف إلى هذا أنهم حدثاء عهد بشرك، يعني: عهدهم بالشرك قريب، ولم يعرفوا ما يعرفه غيرهم ممن سبقهم إلى الدين، وأن غيرهم يعرف أنه لا يجوز. [المسألة الرابعة: كونهم قصدوا التقرب إلى الله بذلك لظنهم أنه يحبه]. هذا يدلنا على أن التقرب إلى الله جل وعلا لا يجوز إلا بالشرع الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، يعني: إذا كان الإنسان قصده حسناً، ولكن فعل ما هو مخالف للشرع، فإن هذا لا يبرر الفعل المخالف، بل يجب إنكاره، ويعاقب عليه ولا يثاب؛ لأن الله جل وعلا قد أنزل الكتاب، والرسول صلى الله عليه وسلم قد بلغ، فليس للناس عذر في جهلهم دينهم الذي جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم، والعلماء أخذوا من هذا قاعدة وهي: أن العبادات ممنوعة -أصلها ممنوع- حتى يأتي الأمر بها، فالأصل في العبادة المنع والتحريم حتى يأتي الشرع بالإذن بها، بخلاف الأمور المباحة: مثل المعاملات والمأكولات والمطعومات وغيرها، فإن الأصل فيها الحل حتى يأتي الشرع بتحريمها، يعني: عكس العبادات. قال الماتن رحمه الله: [المسألة الخامسة: أنهم إذا جهلوا هذا فغيرهم أولى بالجهل]. يقصد الناس الذين جاءوا بعدهم وليسوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن صحبة الرسول صلى الله عليه وسلم بركة، ولا يمكن أن يكون من يأتي بعدهم مثلهم، ولهذا أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن خير الخلق بعد الأنبياء هم الذين صحبوه فقال: (خير الناس القرن الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم). [المسألة السادسة: أن لهم من الحسنات والوعد بالمغفرة ما ليس لغيرهم]. قصده بهذا: أنه لو قدر أن هذا من الإثم ومن الشرك فإنهم ليسوا كغيرهم، فلهم من السوابق والحسنات ما لا يصل إليه غيرهم، ولكن الإنسان إذا جاء بشرك لا ينظر إلى حسناته؛ لأن الله جل وعلا يقول لنبيه ولمن سبقه من الأنبياء: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65]، والله ليس بينه وبين أحد من الخلق نسب ولا صلة إلا بالطاعة والعبادة، ولما ذكر أفضل الخلق وهم الأنبياء قال بعد قصصهم والثناء عليهم: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:88]، فالشرك يحبط الأعمال كلها، وهو أعظم الذنوب التي يعصى بها الله جل وعلا، نسأل الله العافية، ولهذا أخبر جل وعلا أن الذي يموت عليه يكون خالداً في النار، لكن الإنسان -مثلاً- قد يقع في مخالفة ثم يكون معذوراً لأسباب: إما لأنه لم يبلغه الأمر، أو أنه جهل وظن أن هذا مشروعاً ووقع فيه، أما إذا كان لا يجهل ذلك فهذا لا يعذر. [المسألة السابعة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعذرهم في الأمر، بل رد عليهم بقوله: (الله أكبر! إنها السنن، لتتبعن سنن من كان قبلكم) فغلظ الأمر بهذه الثلاث]. يعني: تغليظه لهم في قولهم ذلك، فإنه ذكر الآية بعد قوله: (لتتبعن سنن من كان قبلكم) وهذا من باب التغليظ لهم للأمر، وهو الواقع الظاهر، ويكفي في هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى).

ترك الشرك من معاني (لا إله إلا الله)

ترك الشرك من معاني (لا إله إلا الله) [المسألة الثامنة: الأمر الكبير وهو المقصود: أنه أخبر أن طلبهم كطلب بنى إسرائيل لما قالوا لموسى {اجْعَل لَنَا إِلَهًا} [الأعراف:138]. المسألة التاسعة: أن نفى هذا من معنى (لا إله إلا الله)، مع دقته وخفائه على أولئك]. يعني: أن ردّ هذا الطلب وبيان أنه من الشرك من معاني (لا إله إلا الله)؛ لأن معنى (لا إله إلا الله) أن لا يؤله ويعبد إلا الله، وطلب البركة والعكوف من العبادة، والعبادة كلها يجب أن تكون لله، وكلها داخلة في قوله: لا إله إلا الله، فلهذا قال الصحابة: إن الدين كله من الأوامر والنواهي والأحكام من حق لا إله إلا الله.

جواز الحلف على الفتيا

جواز الحلف على الفتيا [المسألة العاشرة: أنه حلف على الفتيا، وهو لا يحلف إلا لمصلحة] هذا ليبين المطابقة، ويبين أن هذا القول يماثل ما قال أولئك لموسى، وأنه لا فارق في المعنى بين هذا وهذا، وإن اختلف اللفظ. وكذلك ليبين أن هذا من الشرك، وأن نفيه من التوحيد، وأن هذا واجب على الإنسان؛ لأنه أكد هذا بالحلف.

الشرك قسمان: أكبر وأصغر

الشرك قسمان: أكبر وأصغر [المسألة الحادية عشرة: أن الشرك فيه أكبر وأصغر؛ لأنهم لم يرتدوا بهذا]. كأنه يشير إلى أن هذا من الشرك الأصغر، وليس كذلك، بل هذا من الشرك الأكبر، فطلب الإنسان أن يكون له شجرة يتبرك بها أو يعكف عندها أو يعلق بها ثوبه أو ما أشبه ذلك حتى تحصل له البركة هذا يعد من الشرك الأكبر، وليس من الأصغر، وهذا أمر واضح. وأما ما وجه كونهم لم يرتدوا بذلك؟ فلم يرتدوا بذلك للأمرين اللذين سبق ذكرهما: لأنهم لم يفعلوا، ولأنهم كانوا جاهلين هذا؛ لقرب عهدهم بالشرك، ولأنهم لم يعرفوا التوحيد كما ينبغي، كما عرفه الذين سبقوهم، هذا هو وجه كونهم لم يرتدوا.

التكبر عند التعجب

التكبر عند التعجب [المسألة الثانية عشرة: قولهم: (ونحن حدثاء عهد بكفر) فيه أن غيرهم لا يجهل ذلك. المسألة الثالثة عشرة: التكبير عند التعجب خلافاً لمن كرهه]. بعض العلماء كره ذلك، ولكن لا دليل له على هذه الكراهة، فالسنة واضحة في هذا، وهي جاءت في أكثر من حديث.

التشبه بالكفار من الذرائع التي يجب سدها

التشبه بالكفار من الذرائع التي يجب سدها [المسألة الرابعة عشرة: سد الذرائع. المسألة الخامسة عشرة: النهي عن التشبه بأهل الجاهلية]. هذا مأخوذ من قوله: (لتتبعن سنن من كان قبلكم) فإنه يفهم منه أن هذا القول فيه التحذير من اتباعهم، وقد جاء هذا صريحاً في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تشبه بقوم فهو منهم)، وكذلك التشبه بأهل الكتاب.

اتباع المتأخرين للمتقدمين سنة كونية

اتباع المتأخرين للمتقدمين سنة كونية [المسألة السادسة عشرة: الغضب عند التعليم. المسألة السابعة عشرة: القاعدة الكلية لقوله صلى الله عليه وسلم: (إنها السنن)]. قصده بالقاعدة الكلية أن الناس يتبع بعضهم بعضاً، وأن هذه سنة، ولهذا ذكر الله جل وعلا عن الأولين والآخرين أن الأنبياء إذا جاءوهم يدعونهم إلى عبادة الله جل وعلا وترك الشرك قالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23]، وكذلك كل رسول يأتي قومه يردون عليه بهذا القول، وهذا لا يزال في الناس ولن يزال، فأنت -مثلاً- إذا وجدت إنساناً ودعوته إلى أمر لا يعرفه يقول: الناس على خلاف ما تقول، فقول هذا مثل قول أولئك، يعني: أنهم وجدوا الناس قبلهم يعملون هذه الأعمال فاتبعوهم، وحجتهم هي كما قال فرعون لموسى: {مَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} [طه:51] يعني: لماذا لم يعملوا بما تقول، واتبعوا خلاف ما تقول؟! فهذه هي الحجة المطّردة عند الكفار كلهم. وإبراهيم عليه السلام لما كسر الأصنام وجعلها جذاذاً، ثم علق الفأس في رقبة الكبير ولم يكسره؛ حتى يكون ذلك حجة عليهم، فلما قالوا: أنت فعلت هذا بآلهتنا؟ قال: كلا، بل الذي فعله كبيرهم هذا، فسألوهم إن كانوا ينطقون؟ فعند ذلك جاء دور العقل، فنظروا ورجعوا إلى أنفسهم فقالوا: الواقع أننا ظلمة! كيف نعبد هذه وهي لا تستطيع أن تدفع عن نفسها، ولا تنطق، ولا ترد كلاماً، ولا تخبر بمن فعل بها هذا الشيء؟! ثم نكسوا، وقالوا: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ} [الأنبياء:65]، فقال لهم: {أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء:67] يعني: طلب منهم الحجة، كيف تعبدون هؤلاء؟ فجاء أتباع الآباء والتقليد فقالوا: {بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء:74]، فهذه هي الحجة التي يملكون: (وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) وهل هذه حجة؟! هذه ليست حجة، وإن كانت حجة فهي حجة باطلة. ولهذا يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وغيره من الصحابة: (لا يكن أحدكم إمعة) يعني: إمعة مع الناس، فإن اهتدى الناس اهتدى، وإن ضل الناس ضل، بل عليه أن يستعمل عقله، ويستعمل الدليل، وينظر ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فيتبعه. هذا معنى قوله: إنها قضية عامة في الناس، يعني: أنهم يتبعون بعضهم بعضاً، وينظرون إلى الكثرة وإلى الإرث الذي توارثوه، والعادة التي اعتادوها فيتبعونها.

تقليد المسلمين لأهل الكتاب علم من أعلام النبوة

تقليد المسلمين لأهل الكتاب علم من أعلام النبوة [المسألة الثامنة عشرة: أن هذا علم من أعلام النبوة، لكونه وقع كما أخبر]. يعني: أن قوله: (لتتبعن سنن من كان قبلكم) علم من أعلام النبوة، وهذا لا يزال يقع على حسب التتبع، والناس اليوم يتبعون اليهود والنصارى شبراً بشبر، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فالشيء الذي أخبر به لابد أن يقع، وليس معنى ذلك أن في هذا الخبر إقراراً له، بل هو من باب التحذير، وأن نحذر هذا ونبتعد عنه، ومع ذلك لابد من وقوعه؛ لأن الجهل يغلب والمعاصي تكثر في الأمة، فالناس يتبعون أهل الكتاب ويكثر اتباعهم لهم، وتقليدهم لهم، وهذا الآن يزداد، فإذا نظر الإنسان في وضع الناس يجد أن أكثرهم يقلد الغرب تماماً في كل شيء، حتى أصبح الأمر أنهم يقلدونهم في الأمور السخيفة والسافلة، مثل جعل الكلاب في البيوت أو في السيارات، ومثل الأكل باليد الشمال والشرب بها، حتى صار التقليد في اللباس والمساكن وفي كل شيء، فهذه ظاهرة وقعت كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم.

تحريم اتباع اليهود والنصارى مأخوذ من ذم الله لهم

تحريم اتباع اليهود والنصارى مأخوذ من ذم الله لهم [المسألة التاسعة عشرة: أن ما ذم الله به اليهود والنصارى في القرآن أنه لنا. المسألة العشرون: أنه متقرر عندهم أن العبادات مبناها على الأمر، فصار فيه التنبيه على مسائل القبر: أما من ربك؟ فواضح، وأما من نبيك؟ فمن إخباره بأنباء الغيب، وأما ما دينك؟ فمن قولهم: (اجْعَل لَنَا) إلى آخره. المسألة الحادية والعشرون: أن سنة أهل الكتاب مذمومة كسنة المشركين]. ولهذا نهينا عن اتباعهم، وهذا في الأمور التي لم يأت شرعنا بها، أما ما جاء شرعنا به فلا ننظر إلى موافقتهم لنا أو مخالفتهم، بل نتبع الشرع. [المسألة الثانية والعشرون: أن المنتقل من الباطل الذي اعتاده قلبه لا يؤمن أن يكون في قلبه بقية من تلك العادة، لقولهم رضي الله عنهم: (ونحن حدثاء عهد كفر)]. وهذا معناه واضح.

شرح فتح المجيد [40]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [40] الذبح عبادة من العبادات التي يتقرب بها العبد إلى الله سبحانه وتعالى، ولعظم هذه العبادة وأهميتها قرنها الله عز وجل بالصلاة في مواضع من كتابه الكريم، ولهذا كان صرفها لغير الله شرك، فإذا ذبح العبد لغير الله تقرباً إليه -كما يفعل عباد القبور في ذبحهم لقبورهم- فقد وقع في الشرك، والعياذ بالله.

حكم الذبح لغير الله عز وجل

حكم الذبح لغير الله عز وجل قال المصنف رحمه الله: [باب: ما جاء في الذبح لغير الله وقوله الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]. وقول الله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2]]. قوله: باب: ما جاء في الذبح لغير الله يعني: ما جاء من المنع، وأنه من الشرك؛ لأن الذبح عبادة لله جل وعلا، بل من أجل العبادات، ولهذا استدل بقول الله جل وعلا: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]، وقوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2].

وجه اقتران النسك بالصلاة

وجه اقتران النسك بالصلاة قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} وجه الدلالة من ذلك أن الله جل وعلا قرن النسك بالصلاة، والنسك هو: الذبيحة التي تذبح تقرباً إلى الله. فإذا ذبحت الذبيحة تقرباً إلى الله فهي عبادة من أفضل العبادات، وقد قرنت بأشرف العبادات وأعظمها التي هي الصلاة، فيكون جعلها لغير الله جل وعلا من الشرك الأكبر، ووجه الدلالة من ذلك واضح، وقد تكلم العلماء على هذه الآية وما أشبهها وكون الذبائح تقرن بالصلاة، وقالوا: إن الصلاة من أعظم الأفعال والأعمال التي يتقرب بها إلى الله؛ لأنها تشتمل على الدعاء بأنواعه، وتشتمل على القيام والركوع والسجود والقراءة والتكبير والتحميد وغير ذلك، وهي في الواقع صلة بين العبد وبين ربه، وهي أيضاً ما وصل الله جل وعلا به رسوله صلوات الله وسلامه عليه لما قربه إليه وعرج به إلى السماء، ففرض عليه الصلاة، وهذا مما يدل على عظمها وأن شأنها كبير وعظيم جداً، فهي الصلة الكبرى التي وصل الله جل وعلا بها حبيبه صلوات الله وسلامه عليه يوم قربه ورفعه إلى فوق السماوات، ففرضها عليه وأمره بها. ثم جاءت النصوص الكثيرة التي تحث عليها، وتبين أنها الصلة بين العبد وبين ربه، وأنه إذا قام فيها فإنه يناجي ربه، وإذا رفع يديه وكبر فكأنه يستأذن في الدخول على الله، فهو يقف بين يديه، وعليه أن يعلم أنه يناجي ربه، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم إذا قام في الصلاة فإنما يناجي ربه فلا يبصقن أمامه). فالصلاة من أعظم القربات إلى الله، ولهذا يبدأ بها جل وعلا في ذكر الأعمال، ويختم الأعمال بها كما في أول سورة المؤمنين وكذلك في سورة المعارج وغيرهما، وذكر أن الذين هم في صلاتهم خاشعون هم الذين يرثون الفردوس، إلى غير ذلك. كذلك كونه قرن النسك بها يدل على عظم هذه العبادة، يقول العلماء: يجتمع للإنسان في هاتين العبادتين ما لا يجتمع له في غيرهما؛ لأن في الذبح تقرب إلى الله جل وعلا بإزهاق الأرواح، مع كونه يحب ذلك ويؤثر المال، ومع ذلك يحب أن يتقرب ويكثر من ذلك، والذبح يجعل قلب الإنسان فرحاً بهذا الأمر، ويجعله موقناً بالله، ويجعله مستغنياً بالله، ويحصل له من الحياة ما لا يحصل للذين لا يفعلون ذلك. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير الذبح لله، وكثيراً ما يقرب القرابين لله جل وعلا، ففي حجته نحر مائة من الإبل، وكذلك في عمرة الحديبية، وأحياناً كان يرسل الهدي وهو في المدينة ليذبح في مكة، ويوكل من يذبحه، وكذلك كان يضحي في الأضحى، ويتقرب إلى الله جل وعلا بهذا النسك، فكل هذا يدل على أنها عبادة من أشرف العبادات، فكونها تُجعل لغير الله جل وعلا يكون هذا من الشرك الأكبر، لهذا قرنها بالصلاة في قوله جل وعلا: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي) ومعنى الصلاة والنسك ظاهر، وأما قوله: (وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي) فمعنى ذلك: ما أحيا عليه من الأعمال وآتيه كله أتقرب به إلى الله (وَمَمَاتِي) يعني: ما أموت عليه من الإيمان، والرجاء والخوف، كله لله جل وعلا نيته وفعله وباطنه وظاهره. وأما قوله جل وعلا: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) فهو مثلها تماماً، أمر الله جل وعلا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يصلي وينسك له وحده، وقد قال بعض العلماء: إن هذه الصلاة المقصود بها: صلاة العيد، ولكن الظاهر أنها عامة في كل صلاة، فإن الصلاة يجب أن تكون لله جل وعلا، وكذلك النسك يجب أن يكون لله، فإذا كان هكذا فصرفه لغير الله من الشرك الأكبر، وهذه الآية هي كآية سورة الأنعام. وقوله: (فَصَلِّ) جاءت الفاء مقرونة بالأمر بالصلاة، والسبب: أن الله أنعم عليه وتفضل عليه بقوله: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] يعني: الخير الكثير في الدنيا والآخر، فشكر الله جل وعلا هو بالصلاة والنحر له سبحانه. وأما ما رواه الحاكم عن علي بن أبي طالب أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لجبريل لما نزلت هذه الآية: (ما هذه النحيرة التي أمرت بها؟ فقال له: ليست هذه نحيرة) إلى آخره، فالحديث هذا موضوع.

الذابح لغير الله داخل في وعيد المشركين

الذابح لغير الله داخل في وعيد المشركين قال الشارح رحمه الله: [قوله: باب ما جاء في الذبح لغير الله، أي: من الوعيد وأنه شرك بالله. وقوله الله تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ) الآية. قال ابن كثير: يأمره تعالى أن يخبر المشركين الذي يعبدون غير الله ويذبحون له: بأنه أخلص لله صلاته وذبيحته؛ لأن المشركين يعبدون الأصنام، ويذبحون لها، فأمره الله تعالى بمخالفتهم والانحراف عما هم فيه، والإقبال بالقصد والنية والعزم على الإخلاص لله تعالى، قال مجاهد: النسك الذبح في الحج والعمرة، وقال الثوري عن السدي عن سعيد بن جبير: (ونسكي) أي: ذبحي وكذا قال الضحاك: وقال غيره (وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي) أي: وما آتيه بحياتي وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح (لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) خالصاً لوجهه (لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ) الإخلاص (أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) أي: من هذه الأمة لأن إسلام كل نبي متقدم. قال ابن كثير: وهو كما قال فإن جميع الأنبياء قبله كانت دعوتهم إلى الإسلام، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] وذكر آيات في هذا المعنى. ووجه مطابقة الآية للترجمة: أن الله تعالى تعبد عباده بأن يتقربوا إليه بالنسك، كما تعبدهم بالصلاة وغيرها من أنواع العبادات، فإن الله تعالى أمرهم أن يخلصوا جميع أنواع العبادة له دون كل ما سواه، فإذا تقربوا إلى غير الله بالذبح أو غيره من أنواع العبادة فقد جعلوا لله شريكاً في عبادته، وهو ظاهر في قوله: (لا شَرِيكَ لَهُ) نفى أن يكون لله تعالى شريك في هذه العبادات، وهو بحمد الله واضح. وقوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: أمره الله أن يجمع بين هاتين العبادتين وهما: الصلاة والنسك الدالتان على القرب والتواضع والافتقار وحسن الظن وقوة اليقين وطمأنينة القلب إلى الله وإلى عدته، عكس حال أهل الكبر والنفرة وأهل الغنى عن الله الذين لا حاجة لهم في صلاتهم إلى ربهم، والذين لا ينحرون له خوفاً من الفقر، ولهذا جمع بينهما في قوله: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي) الآية. والنسك: الذبيحة لله تعالى ابتغاء وجهه. فإنهما أجل ما يتقرب به إلى الله، فإنه أتى فيهما بالفاء الدالة على السبب؛ لأن فعل ذلك سبب للقيام بشكر ما أعطاه الله تعالى من الكوثر. وأجل العبادات البدنية: الصلاة، وأجل العبادات المالية: النحر. وما يجتمع للعبد في الصلاة لا يجتمع له في غيرها كما عرفه أرباب القلوب الحية، وما يجتمع له في النحر إذا قارنه الإيمان والإخلاص من قوة اليقين وحسن الظن: أمر عجيب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم كثير الصلاة كثير النحر. انتهى. قلت: وقد تضمنت الصلاة من أنواع العبادات كثيراً، فمن ذلك: الدعاء والتكبير، والتسبيح والقراءة، والتسميع والثناء، والقيام والركوع، والسجود والاعتدال، وإقامة الوجه لله تعالى والإقبال عليه بالقلب، وغير ذلك مما هو مشروع في الصلاة، وكل هذه الأمور من أنواع العبادة التي لا يجوز أن يصرف منها شيء لغير الله، وكذلك النسك يتضمن أموراً من العبادة كما تقدم في كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى عليه].

الذابح لغير الله ملعون

الذابح لغير الله ملعون قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن علي بن أبي طالب قال: (حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات: لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثاً، لعن الله من غيَّر منار الأرض) رواه مسلم]. يقول رحمه الله تعالى: (باب ما جاء في الذبح لغير الله)، يعني: ما جاء فيه من الآيات من كتاب الله، والأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبين أنه من الشرك الأكبر الذي إذا مات عليه الإنسان مصراً على ذلك بغير توبة يكون من أهل النار، بل يكون خالداً فيها، ويكون من الذين قال الله جل وعلا فيهم: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:167]؛لأنهم أشركوا بالله جل وعلا، والذين يقول الله جل وعلا فيهم: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] فأخبر أن المشرك مقطوع يأسه من رحمة الله جل وعلا، وأنه إذا مات على الشرك فإنه يكون هذا جزاءه. ووجه الدليل من الآيتين على أن الذبح لغير الله جل وعلا شرك واضح جلي؛ وذلك أن الله جل وعلا قرن بين الصلاة وبين النسك. وقوله جل وعلا آمراً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) * (لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ) يعني: كونه يجعل العبادة كلها لله جل وعلا، ومنها: النسك الذي قرن بالصلاة، والنسك المقصود به: كل ما يذبح ويتقرب به، سواء تقرب بها إلى الله، أو إلى غيره فهي نسك. وكون النسك قُرن بالصلاة يدل على عظمه عند الله جل وعلا؛ لأن الصلاة هي عماد الدين، وهي من أعظم ما يتقرب به عباد الله إليه، وقد جُعلت الصلاة قرة عين رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لما فيها من العبادات المتنوعة، وأعظمها الإقبال على الله والخشوع له، وتوجيه الوجه إليه مقبلاً خاشعاً، ثم فيها الدعاء بنوعيه؛ لأن الدعاء يأتي على نوعين: دعاء مسألة، ودعاء عبادة، وكلاهما موجود في الصلاة، وكلاهما من أعظم العبادات التي أمر الله جل وعلا بها، كما قال جل وعلا: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، وقال جل وعلا: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي} [البقرة:186] فالله جل وعلا يأمر رسوله أن يقول هذا، وأمته تبع له، فكل من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم يجب أن يكون هذا دينه، والصلاة المقصود بها: كل صلاة يتعبد بها سواء كانت فريضة أو نفلاً، وفي أي وقت كانت، فالصلاة من أعظم العبادة، ولا يجوز أن تكون لغير الله جل وعلا، وكذلك الذبح قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} [الأنعام:162] يعني: ذبيحتي الذي أذبحها لله جل وعلا.

الذبح عبادة، وصرفها لغير الله شرك

الذبح عبادة، وصرفها لغير الله شرك النسك مأخوذ من النسك وهو: التعبد، فإذا تعبد الإنسان قيل: إنه ناسك ومتنسك، والتعبد يكون بأنواع شتى، وجامع العبادة: أن تكون مأموراً بها، سواء أمر إيجاب أو أمر استحباب، أو يكون يثنى على صاحبها ويكون ممدوحاً، مما يدل على أن الله يحبه، وكل فعل أثنى الله جل وعلا على فاعله فهو داخل في العبادة؛ لأنه يحبه ويرضاه، فالذبيحة لا يجوز أن تكون مأكولة وحلالاً حتى تشتمل على التعبد لله جل وعلا بأي نوع كان، سواء كانت مما يذبح في مناسك الحج أو مما يذبح في أي مكان كان، فلابد أن يكون فيها عبادة لله جل وعلا، بأن يسمي الله جل وعلا عند ذبحها، وأن يكون الذابح أهلاً للذبح، ويكون مسلماً أو يكون ممن يؤمن بالله واليوم الآخر وله دين ثابت مثل اليهود والنصارى إذا لم يكونوا ملاحدة مشركين، وإلَّا لا تحل الذبيحة بحال من الأحوال، فإذا ذبحها مرتد لا يصلي أو ذبحها مشرك أو ملحد -وإن قال: باسم الله- فإن ذبيحته تكون حراماً؛ لأنه ليس من أهل الذبح. إذاً: الذبيحة فيها تعبد لله، وكل عمل يعمله المسلم يجب أن يكون متعبداً فيه، وكل عمل يجب أن يكون لله وإن كان من أمور الدنيا، حتى الأكل إذا أكل الإنسان فينبغي أن يسمي الله، وأن يشكر الله على نعمته؛ لأنه هو الذي وهبه، وهو الذي أسداه لك، وهو الذي أساغه، وهو الذي يبقي فيك منفعته ويذهب عنك مضرته، فوجب أن تشكره على ذلك. وأما الذبيحة إذا أريد بها التقرب فهي عبادة محضة، وإذا جعلت لغير الله فهي من الشرك الأكبر، فمراد المؤلف أن يبين أن هذا منافٍ لقول: لا إله إلا الله، فإذا ذبح الذابح عند قبر يرجو نفعه أو لولي أو لجنيٍ أو ما أشبه ذلك -وإن قال: باسم الله- فالذبيحة مهل بها لغير الله جل وعلا فهي شرك، وهذا الذابح يكون مشركاً، وهذه الذبيحة حرام أكلها؛ لأنها أولاً: مما أهل به لغير الله، وثانياً: أنها أصبحت ذبيحة مرتد أرتد عن الإسلام بهذا الذبح، وإن كان قبل ذلك مسلماً. وهذا بين واضح في كتاب الله وفي أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد كان المشركون يذبحون عند أصنامهم متقربين إليها، وهل تقربهم لهم بأن يذبحوا هذه الذبيحة ولا يأكلونها؟ A لا، بل يريقون الدماء تقرباً إلى هذا المعبود، ثم يأكلون الذبيحة ولا يدعونها لهذا الصنم أو لغيره، ومع ذلك تكون عبادة تُوجه لغير الله جل وعلا، ويكون الذابح بذلك مشركاً. ثم إن هذه العبادة من أعظم العبادات، ولهذا شرع للمسلمين أن يتقربوا إلى الله جل وعلا بالذبح في الأضاحي وفي الهدايا التي تهدى إلى البيت، والواقع أنها تهدى لله، ولكنها تذبح هناك في المشاعر التي شرعها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لنذبح فيها. وكذلك العقيقة، والنذر، وغير ذلك مما يفعله الإنسان متقرباً به إلى الله، فهذا من أجل العبادات وأعظمها؛ وذلك لأنه إذا بذل ماله وأقدم على ذبح الحيوان متقرباً به إلى الله مع رحمته له ومع محبته للحيوان فإن حب الله وعبادة الله له تدعوه إلى أن يقدم على ذلك مختاراً مغتبطاً، ويكون بذلك عابداً لله جل وعلا بهذه الذبيحة. ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير الذبح لله جل وعلا كما كان كثيراً ما يصلي لله جل وعلا، وهذا هو سر قرن الذبيحة بالصلاة، وقوله تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي) يعني: ذبائحي التي أذبحها لله، فأنا أتبرأ مما يفعله المشركون وأراغمهم حيث إنهم يذبحونه لأصنامهم، وأنا أذبح لربي متقرباً بذلك إليه، ومخالفاً لهم، ومعادياً لهم على فعلهم ذلك. وقوله: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ) يعني: كل أعمالي التي أفعلها في حياتي أفعلها تعبداً لله جل وعلا، وكذلك: (وَمَمَاتِي) أي: ما أموت عليه وما أقدمه بعد حياتي هو خالص لله، لا شريك له في كل أعماله وتصرفاته الظاهرة والباطنة. وقوله: (وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ) يعني: أن هذا أمر من الله، وأنه يتعين، وليس للعبد في ذلك اختيار، فإذا لم يفعل ذلك فقد عصى الله جل وعلا، وسوف يعاقبه. وقوله: (وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ) أي: أمر من الله حتم يجب أن يطاع ويتبع، وإلا فسيكون الإنسان ضالاً وخاسراً، وسوف يلاقي الله جل وعلا، ثم يعاقبه على ذلك. وقوله: (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) الإسلام معناه: هو الاستسلام والانقياد لله، وأن يسلم وجهه وقواه وجوارحه لله منقاداً مطيعاً غير معترض على الله، وغير متمرد عن أمره، بل يفعل أمره مذعناً خاضعاً ذالاً معظماً لله جل وعلا، هذا هو معنى الإسلام: (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) أي: الذين يفعلون ذلك على هذه الصفة؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أول من أطاع الله من هذه الأمة، وإلَّا فالرسل الذين قبله كلهم على الإسلام كما أخبر الله جل وعلا عن ذلك في كتابه، وأن كل رسول يقول لأمته: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] وهذا هو الإسلام. وقوله في الآية الأخرى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2] هذه مثل التي قبلها، حيث قرن النحر بالصلاة، وهو النسك المذكور في الآية السابقة؛ ولهذا قال بعض المفسرين: إن المقصود بالصلاة هنا: صلاة العيد خاصة؛ لأنها هي التي يعقبها النحر، والصواب: أن هذا عام في كل صلاة، وكذلك النحر عام في كل نحيرة، يجب أن يكون لله جل وعلا، وأن يكون خالصاًً له. وأما ما روي في الحديث الذي رواه الحاكم في مستدركه أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل جبريل لما نزلت هذه الآية فقال: (ما هذه النحيرة التي أمرت بها؟ فقال جبريل: إنها ليست نحيرة وإنما هي وضعك يديك في الصلاة على نحرك) فهذا حديث موضوع مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله الواضعون الكذابون الذين يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هي نحيرة يعرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي: كل ذبيحة يذبحها متقرباً بها إلى الله جل وعلا، وكذلك إذا ذبحها للأكل فإنها تكون لله؛ لأنه يذبحها لله، ولكن الذبيحة التي تقدم إما نذراً أو أضحية أو نسيكة في الحج تكون أكمل وأعظم من الذبيحة التي تذبح لأجل أن يؤكل لحمها؛ لأنها عبادة محضة قدمت لله جل وعلا. فهذا واضح جلي في كون الذبائح إذا ذبحت لغير الله فهذا الذبح شرك، وهذا مثل الصلاة إذا صليت لغير الله، فلا فرق بين هذه وهذه حيث قرنت الذبيحة بالصلاة، وأمر الله أن تكون له وحده جل وعلا. فعلى هذا إذا ذبح الإنسان عند القبر أو ذبح للجني كأن يقول له دجال من الدجاجلة الذين يأكلون أموال الناس بالباطل: إن هذا المريض فيه جني لا يخرج حتى تذبحوا له ذبيحة، وقولوا: باسم الله، وفرقوها على كذا وكذا، وعلى الفقراء أو غيرهم، فهذا شرك أكبر؛ لأنها قصد بها الجني، وذبحت له، فيجب أن تكون الذبيحة لله وحده، مراداً بها وجه الله، وسواء كانت الذبيحة بعيراً أو بقرة أو شاة أو دجاجة أو غير ذلك من أي نوع كان مما يذبح؛ إذا ذبح وقصد به غير الله جل وعلا فإنه يكون شركاً. وكذلك الذين يذبحون عند القبور، ويقصدون التقرب إلى الأموات والنفع الذي يرجونه منهم، وإن كانوا يذبحونها ويأكلونها أو يفرقونها؛ فإنها تكون مما أهل به لغير الله، ومما تقرب به لغير الله، وإن كان يذكر عليها اسم الله عند الذبح؛ لأن المراد النية، والألفاظ والأسماء لا تغير من المعنى شيئاً، فإذا ذبح الإنسان ذبيحة وقال: باسم الله، ولكن نيته أنها لغير الله فإنها تكون مما أهل به لغير الله، كما أن النصراني -مثلاً-: إذا ذبح للمسيح وقال: باسم الله فإن ذبيحته حرام، وهي مما أهل لغير الله جل وعلا، وهذا باتفاق العلماء لا أحد يخالف في ذلك، وهو واضح وظاهر من النصوص ومنها هاتين الآيتين.

شرح حديث: (لعن الله من ذبح لغير الله)

شرح حديث: (لعن الله من ذبح لغير الله) في صحيح مسلم أنه قيل لـ علي رضي الله عنه: (هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء لم يقله للناس؟ فقال: لا، ما خصنا بشيء لم يقله للناس، ولكني سمعته يقول: لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من سب والديه، ولعن الله من آوى محدثاً، ولعن الله من غير منار الأرض) واللعن من الله جل وعلا ومن رسوله صلى الله عليه وسلم هو: الطرد والإبعاد من رحمة الله، والملعون هو: من لعنه الله أو لعنه رسوله صلى الله عليه وسلم، أو من حق عليه ذلك وطرد ولو لم يواجه بهذا، أو يقال فيه: ملعون، والله جل وعلا يلعن من يشاء، كما أنه يرحم من يشاء، فبعض عباده يلعنهم الله جل وعلا، وإذا لعن الله إنساناً لعنته الملائكة وعباد الله، ويلعنه اللاعنون في السماءً وفي الأرض، فيكون طريداً بعيداً. وهنا لعن أربعة أجناس من الناس وهم: الجنس الأول: الذابح لغير الله، وهذا يدلنا على أن الذبح لغير الله من أعظم المحرمات، وأن فاعله يستحق الطرد من رحمة الله، أو أنه قد صار مطروداً من رحمة الله ومبعداً إذا لم يتداركه الله جل وعلا برحمته بأن يتوب ويندم ويرجع إلى الله جل وعلا، وإلا فقد حق عليه ذلك، وهذا مطلق فيمن ذبح لغير الله أي ذبيحة ذبحها ولأي شيء ذبح، سواء للجن أو للأصنام أو للملائكة أو للأولياء أو لغيرهم من الأغراض التي يذبح لها الإنسان، والناس لهم أغراض شتى في هذا. ومنهم من لا يظهر أنه يقصد غير الله، وإنما يظهر بذلك أنه يفرح، كالذي يبني بيتاً، وإذا أراد أن ينزل فيه يأتي بالذبائح ويذبحها، ومقصوده بهذا: أن يتخلص من أذى الجن حتى لا يؤذوه ويأتوا إليه في هذا البيت، فإن هذا من ذبائح الجن التي تكون لغير الله جل وعلا؛ لأن المقصود النية والقصد، وإن قال في الذبح: إني ما أقصد هذا، أو أنه سمى الله وذبح، ودعا الناس ليأكلوه أو أظهر أنه للفرح أو غير ذلك؛ لأن الأمر كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) فالنية معتبرة في الأعمال، فكل عمل قصد به غير الله يكون شركاً. ومن أعظم ذلك الذبائح، ومن فعل ذلك فهو داخل في لعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (لعن الله من ذبح لغير الله).

لعن الوالدين كبيرة من الكبائر

لعن الوالدين كبيرة من الكبائر الجنس الثاني: الذي يلعن والديه، سواءً الأب والأم أو الجد والجدة وإن علوا، وسواء باشر ذلك بنفسه أو كان سبباً للعنهما، كما جاء ذلك مفسراً في صحيح البخاري وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قال ذلك قيل له: كيف يلعن الرجل والديه؟ يعني: يستبعد الصحابة رضوان الله عليهم أن يقع هذا من مسلم، بل من عاقل، فكيف يلعن الرجل والديه؟ فقال: (يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه) يعني: أنه يكون سبباً للعن والديه، فيكون ملعوناً؛ لأنه تسبب في ذلك، أما إذا فعل ذلك مباشرة فهو أعظم جرماً. ولعن الوالدين ضد البر والإحسان الذي أمر الله جل وعلا به، فهو محادة لله جل وعلا، كما أن الذبح لغير الله ضد الإخلاص والتوحيد الذي أوجبه الله جل وعلا وأمر به، فإذا وجد ذلك فإنه يكون محادة لله جل وعلا ولرسوله. وقد قرن الله جل وعلا حق الوالدين بحقه في آيات كثيرة في القرآن، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة عاق)، فالذي يعق والديه لا يدخل الجنة، وقال: (رضا الله في رضا الوالدين)، وأخبر: أن الأم حقها أعظم وآكد لشدة ما تقاسيه، وكثرة ما تزاوله من التعب والنكد بسبب هذا الولد؛ من حمله وإرضاعه وتربيته صغيراً وإزالة الأذى عنه والقيام عليه والسهر وغير ذلك، فإذا كبر واستغنى يصبح كما قال القائل: أعلمه الرماية كل يوم فلما اشتد ساعده رماني فإذا استغنى وكبر يقابل الوالد بالقسوة والعنف والمعصية والعقوق والأذى، بل ربما باللعن والشتم، فهذا هو الملعون الذي لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا لعن الله إنساناً فإنه طريد بعيد من رحمة الله جل وعلا، وسوف يلاقي جزاءه يوم القيامة، وهو عذاب الله نسأل الله العافية.

المحدث ملعون

المُحْدِث ملعون قوله: (ولعن الله من آوى محدثاً) الإيواء هو: الحماية، آواه إذا حماه ودافع دونه أو رضي بفعله وانضم إليه وصار معه على هذا الفعل، ويقال: أويته وآويته، إذا حماه وساعده ودفع عنه ما يقصد به من إقامة حد أو إنكار منكر أو ما أشبه ذلك. وقوله: (محدثاً) بفتح الدال وبكسرها محدَثاً ومحدِثاً، فإذا كان محدِثاً فهو اسم فاعل، يعني: الجاني العاصي هو الذي يُؤوى، وإذا كان محدَثاً فهو الحدث نفسه، فيكون معنى إيوائه: الرضا به والمدافعة عنه. وإذا كان بالكسر فمعنى ذلك: أنه يحمي ذلك الرجل المحدث من أن يقام عليه الحد، أو أن يُنكر عليه فعله أو يزال ما يفعله، وهذا معناه أنه محادّ لله جل وعلا ولرسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه صار في حد، والله ورسوله في حد، يعني: صار في جانب، والله ورسوله في جانب، ويصبح محارباً لله جل وعلا ولرسوله. إذاً: معنى المحاداة: المحاربة والمبارزة بالمعاصي، وإذا كان محدَثاً فمعنى ذلك: كل بدعة تبتدع في الدين، فمن رضي بها أو حماها فهو ملعون. أما إذا كان بالكسر فمعناه: أن كل فاعل لبعض هذه الأفعال فمن حماه وآواه وساعده يكون ملعوناً، والواقع أن الحديث يعم الاثنين، يعم الحدث والمحدِث، فالذي يرضى بالحدث -الذي هو البدعة التي تبتدع في دين الله- يكون داخلاً في هذا الوعيد، وكذلك الذي يدافع عن المبتدع نفسه ويحميه ويساعده على بدعته من أجل بدعته يكون داخلاً في هذا الوعيد.

المغير لمنار الأرض ملعون

المغير لمنار الأرض ملعون وقوله: (ولعن الله من غير منار الأرض) المنار هو: العلامات التي يستنار بها يعني: يستدل ويهتدى بها، فهي المراسيم التي توضع لتميز حق هذا من حق هذا، فمن غيرها لأجل أن ينفع واحداً ويضر الآخر أو يزيد في حق هذا من حق هذا فهو ملعون. وكذلك تطلق على العلامات التي توضع على الطرق ليهتدي بها المسافر والسائر في الطريق، فالذي يغيرها بأن يزيلها داخل في هذا الوعيد؛ لأن هذا من منار الأرض وعلاماتها التي يهتدى بها، فإذا كان من صنع ذلك يكون ملعوناً وهو لا يتعلق بحقوق الناس فكيف بما يتعلق بدين الله؟! ومن هذا ما يفعله بعض الفسقة الذين يتولون -مثلاً- سجلات أو يكون بأيديهم دفاتر يكتبون فيها ضبط حقوق الناس بعضهم من بعض، فإذا غيروا فيها لأجل نفع إنسان ومضرة آخر فإن هذا داخل في هذا الوعيد، وكذلك الذي يغير الوثائق التي توثق للإنسان بأن هذا حقه فيغيرها ويبدلها إما بالمسح أو يخفيها أو يمزقها أو ما أشبه ذلك فإنه داخل في هذا الوعيد؛ لأن هذا من تغيير منار الأرض؛ لأن الوثائق والصكوك من علامات الأرض التي تميز هذا عن هذا، فإذا غيرت وبدلت فإن هذا الفاعل يكون مغيراً لمنار الأرض ويكون داخلاً في اللعنة. وقد جاء أن أظلم الناس من ظلم الناس بالناس، يعني: من ظلم هذا لأجل أن ينفع الآخر، لا لأجل نفسه، فهذا هو أظلم الناس، وقد قال بعض العلماء: إن منار الأرض يقصد بها الهداة والدعاة الذين يدعون إلى دين الله وإلى هدايته؛ لأنهم هم الذي يستنار بهم، وهم الذين يهتدى بأقوالهم وبما يدلون عليه، فإذا -مثلاً- قتلهم الجاني أو منعهم من ذلك فهو تغيير لمنار الأرض؛ لأنهم هم نجومها التي يهتدى بها؛ ولهذا جاء في الحديث: (العلماء كالنجوم التي يهتدى بها)، فإذا ذهبت نجوم السماء جاء أمر الله، وإذا ذهب العلماء من الأرض جاءها أمر الله الذي وعده الله، فإذا مُنعوا أو قُتلوا فإن المانع والقاتل داخل في هذا الوعيد، ومعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُعطي جوامع الكلم فكلامه يكون جامعاً عاماً.

حكم لعن المعين

حكم لعن المعين في هذا الحديث دليل على جواز لعن العصاة والفسقة، وقد اختلف العلماء في جواز لعن المعين منهم، أي: المعين الفاسق هل يجوز أن يلعن بعينه؟ الصواب: أنه لا يجوز، وإنما يلعنون بالعموم كما في هذا الحديث، وكما في قوله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله آكل الربا، ومؤكله، وكاتبه، وشاهديه) وكذلك لعن في الخمر عشرة: عاصرها، ومعتصرها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، وساقيها، ومستقيها، وحاملها، والمحمولة إليه، وآكل ثمنها، ومؤكله، فكلهم ملعونون، وهؤلاء أنواع من الفسقة وليس رجلاً بعينه. وبعض العلماء أجاز لعن الفاسق بعينه، وبعضهم منع ذلك، وذلك مثل الحجاج بن يوسف ويزيد بن معاوية ونحوهما من الظلمة الذين هم مسلمون، واختلف العلماء هل يلعنون أولا؟ فبعضهم قال: يجوز، وأكثر العلماء على أن هذا ممنوع لا يجوز، وإنما يلعنون بالعموم فيقال: ألا لعنة الله على الظالمين، وكما في هذا الحديث: (لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من لعن والديه، ولعن الله من آوى محدثاً، ولعن الله من غير منار الأرض) وهؤلاء أجناس، وليس رجلاً بعينه، ما عدا العمل الذي يدل على الكفر والخروج من الإسلام؛ لأن الخلاف في الفاسق المسلم، وليس الخلاف في الكافر المعين، أما الكافر المعين فيجوز لعنه بعينه، وإنما الخلاف في الفاسق المسلم؛ لأن المسلم لا يخرج من الدين الإسلامي بفعل المعاصي ما عدا الشرك، فالشرك هو الذي يخرجه من الدين الإسلامي، أما المعاصي فإنها لا تخرجه، ولكنها تجعله فاسقاً.

شرح فتح المجيد [41]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [41] إن الله عز وجل كما أنه يصلي على عباده الصالحين -أي: يثني عليهم- فإنه يلعن المستحقين للعن من العصاة، وقد جاء في الشرع لعن من يستحق اللعن، كمن لعن والديه أو آوى محدثاً، أو غير منار الأرض، فعلى المسلم اجتناب ما يعرضه للعن من الله تعالى وهو الطرد من رحمته سبحانه.

حديث علي: (لعن الله من ذبح لغير الله)

حديث علي: (لعن الله من ذبح لغير الله) قال الشارح رحمه الله: [قوله: وعن علي رضي الله عنه قال: (حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات: لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من لعن والديه، ولعن الله من آوى محدثاً، ولعن الله من غير منار الأرض) رواه مسلم من طرق، وفيه قصة. ورواه الإمام أحمد كذلك عن أبي الطفيل قال: قلنا لـ علي: أخبرنا بشيء أسرَّه إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ما أسرَّ إليّ شيئاً كتمه الناس، ولكن سمعته يقول: لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من آوى محدثاً، ولعن الله من لعن والديه، ولعن الله من غير تخوم الأرض) يعنى المنار]. الرسول صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس كافة، بل بعث إلى الثقلين: الجن والإنس، فهو رسول لجميع من على وجه الأرض، والذين على وجه الأرض هم الجن والإنس، فلا يمكن أن يخص إنساناً بعينه بشيء جاء به من عند الله؛ لأنه مبلغ عن الله جل وعلا، فهو يبلغ عموم الناس، ولهذا كان إذا حدث بالحديث أعاده ثلاثا، ً ثم يقول: (بلغوا عني)، ويقول: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها، ثم أداها كما وعاها، فرب مبلغ أفقه من سامع) أو كما قال صلى الله عليه وسلم. فالذي يعتقد أن الرسول صلى الله عليه وسلم خص قوماً دون آخرين بما يبلغه فهو ضال، ولم يشهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالبلاغ، والله جل وعلا يقول له: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67] ولا يعترض على هذا بأنه صلى الله عليه وسلم أسرَّ إلى حذيفة، وسمي صاحب السر؛ لأن إسراره إلى حذيفة كان بأسماء أناس معينين من المنافقين، قال له: فلان منافق، وفلان منافق، وفلان منافق، وهؤلاء كانوا يخضعون لأحكام الإسلام، وكانوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم في الجهاد وفي الصلاة وفي غير ذلك، إلا أنهم أبطنوا كفراً ونفاقاً، فأخبره بذلك وقال له: لا تخبر أحداً، ولهذا كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه إذا مات الرجل ينظر إلى حذيفة هل يصلي عليه أو لا يصلي عليه؟ فإن صلى عليه حذيفة صلى عليه، وإذا لم يصل عليه امتنع من الصلاة عليه. والسبب في هذا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما عاد من غزوة تبوك كان يسير ذات ليلة في الليل، وكان أمامه جبل وفيه عقبة فقال للمسلمين: (إني سالك في هذه العقبة فلا يسلكها أحد حتى انتهي أو أذهب) فانتهز بعض المنافقين فرصة، وقالوا: هذه فرصة لنذهب ونكمن له في عرض الجبل فإذا توسط به نفرنا به ناقته فيسقط من عليها ويموت، هكذا خططوا ودبروا فسار الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه حذيفة يقود ناقته، ومعه كذلك عمار بن ياسر يسوقها، فلما صار في أثناء الجبل في الطريق وهو يصعد نفذوا مخططهم، وساروا في وجه ناقة الرسول صلى الله عليه وسلم، فصار حذيفة يضرب وجوه ركائبهم وكانوا متلثمين فهربوا خوفاً من أن يعرفوا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل عرفت القوم؟ قال: لا، ولكني عرفت بعض الرواحل، فأخبره بأسمائهم وقال: هم فلان وفلان وفلان وفلان، ثم قال له: لا تخبر أحداً) لأن الله جل وعلا أمره أن يأخذ علانيتهم وأن يكل سرائرهم إلى الله، فإذا قال الإنسان: آمنت وامتثل الواجبات والفروض كالصلاة والصوم والزكاة فيحكم بأنه مسلم، وإن كان مكناً في نفسه التكذيب والكفر، فالذي في القلب إلى الله. والمقصود: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يسر شيئاً من الدين لأحد، ولهذا تقول عائشة رضي الله عنها: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً لكتم قوله: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37] لأن هذا معاتبة له، ومع ذلك أظهره وبينه، ولم يخف شيئاً من ذلك، ولا يمكن أن يكون؛ لأنه صلوات الله وسلامه عليه أمين الله على وحيه، وهو الذي يبلغه إلى خلقه، وهو الواسطة بيننا وبين ربنا في إبلاغنا الدين، ولا يكون هذا المبلغ والواسطة إلا أميناً صادقاً حتى لا يكتم شيئاً، وهذا هو معنى شهادة أن محمداً رسول الله، فلا يمكن أن يتحلى الإنسان بأنه يشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا إذا تيقن يقيناً أنه جاء بالدين كله من عند الله، وبلغه البلاغ المبين، ولم يكتم شيئاً، ولم يسر لأحد شيئاً من هذا الدين.

العشرة المبشرون بالجنة

العشرة المبشرون بالجنة قال الشارح رحمه الله: [وعلي بن أبي طالب: هو الإمام أمير المؤمنين أبو الحسن الهاشمي ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وزوج ابنته فاطمة الزهراء، كان من أسبق السابقين الأولين، ومن أهل بدر وبيعة الرضوان، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، ورابع الخلفاء الراشدين، ومناقبه مشهورة رضي الله عنه، قتله ابن ملجم الخارجي في رمضان سنة أربعين]. العشرة المشهود لهم بالجنة هم: أبو بكر رضي الله عنه وعمر وعثمان وعلي والزبير وطلحة وأبو عبيدة وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، هؤلاء هم العشرة الذين قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم: (أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، والزبير في الجنة، وطلحة في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعد بن أبي وقاص في الجنة، وأبو عبيدة في الجنة، وسعيد بن زيد في الجنة) شهد لهم في هذا الحديث وجمعهم هكذا، ولهذا سموا العشرة المشهود لهم بالجنة، أي: الذين شهد لهم الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم في الجنة. وهناك غيرهم من الصحابة ممن أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم في الجنة، مثل: ثابت بن قيس بن شماس، فإنه لما نزل قول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2] وكان رضي الله عنه جهوري الصوت، وكان خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم أي: أنه كان إذا جاءت الوفود أمره أن يخطب عنه صلى الله عليه وسلم، فلما نزلت هذه الآية اعتزل وصار يبكي وقال: إذاً: قد حبط عملي؛ لأني أرفع صوتي فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم، فجلس في بيته، ففقده الرسول صلى الله عليه وسلم، فسأل عنه، فقيل: إنه يبكي منذ نزلت هذه الآية، وقال: إنه هو المقصود بها، فقال: (بل هو من أهل الجنة)، ثم أرسل إليه ودعاه. وكذلك الحسن والحسين، أخبر: أنهما من أهل الجنة، وكذلك عبد الله بن عمر، وكذلك عبد الله بن سلام، وغيرهم، وهكذا أهل بيعة الرضوان أخبر الله جل وعلا أنه رضي عنهم ورضوا عنه، وكانوا ألفاً وخمسمائة، وأهل بدر كذلك، وغيرهم، بل يقول الإمام ابن حزم: الذي نعتقده ونجزم به أن جميع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة، وهم خير الناس الذين بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم بنص أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يقول: (بعثت في خير القرون) ويقول: (خير الناس قرني الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يأتي الخلوف الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، ويشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون) فجعل القرون المفضلة ثلاثة، وخيرهم قرنه ثم رتب الذين بعدهم بثم؛ لأنهم دونهم في الفضل، ثم الذين بعدهم كذلك رتبهم بثم؛ لأنهم دونهم في الفضل، والله جل وعلا أخبر عن الصحابة عموماً أنه يحبهم ويحبونه، وأنه أعد لهم جنات، كما قال الله جل وعلا: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ. . } [الفتح:29] إلى آخر الآية وذكر في آخرها: أنه جعلهم بهذه الصفة ليغيضوا الكفار؛ ولهذا قال الإمام مالك رضي الله عنه: كل من غاضه شأن الصحابة فليس بمؤمن، لقول الله تعالى: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29] كما أنه قال في الآية الأخرى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10] أي: من كان في قلبه غل لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس له حق في الفيء وفي المغانم. وعلى كل حال المقصود: أن هؤلاء العشرة هم المقصودون بقوله: العشرة المشهود لهم بالجنة.

معنى الصلاة واللعن

معنى الصلاة واللعن قال الشارح رحمه الله: [قوله: (لعن الله): اللعن: البعد عن مظان الرحمة ومواطنها قيل: واللعين والملعون من حقت عليه اللعنة، أو دعي عليه بها، قال أبو السعادات: أصل اللعن: الطرد والإبعاد من الله، ومن الخلق: السب والدعاء. قال شيخ الإسلام رحمه الله ما معناه: إن الله تعالى يلعن من استحق اللعنة بالقول، كما يصلي سبحانه على من استحق الصلاة من عباده قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا * تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} [الأحزاب:43 - 44] وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا} [الأحزاب:64] وقال تعالى: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} [الأحزاب:61]. والقرآن كلامه تعالى، أوحاه إلى جبريل عليه السلام، وبلغه رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم، وجبريل سمعه منه، كما سيأتي في الصلاة إن شاء الله تعالى، فالصلاة ثناء الله تعالى كما تقدم، فالله تعالى هو المصلي وهو المثيب كما دل على ذلك الكتاب والسنة، وعليه سلف الأمة، قال الإمام أحمد رحمه الله: (لم يزل الله متكلماً إذا شاء)]. يقول: إن الله يصلي كما أنه يلعن، ومعنى يصلي: أي: يثني، وصلاته جل وعلا هي: ثناؤه على عبده في الملأ الأعلى، كما قال أبو العالية فيما ذكره البخاري في صحيحه، فالصلاة ضد اللعنة، فبعض عباد الله يكون قريباً إلى الله جل وعلا، متبعاً أوامره، مجتنباً نواهيه، مسارعاً في مرضاته، يحب ما يحبه، ويبغض ما يبغضه، ويحارب أعداءه، ويجاهد في سبيله. فهؤلاء هم الذين يصلي عليهم الله جل وعلا، والله جل وعلا إذا صلى على عبده فمعنى ذلك: أنه رضي عنه، ويلزم من ذلك الرضا بفعله، وإلا فصلاته غير رضاه. أما الصلاة من الخلق فهي الدعاء، وأصل الصلاة التي جاء بها الشرع هي الصلاة المعروفة التي تفتح بالتكبير، وتختتم بالتسليم، وتشتمل على القيام والقراءة والركوع وغير ذلك، وأصلها مأخوذ من الدعاء. قال الله جل وعلا آمراً نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103] يعني: ادع لهم فهذا بالنسبة للخلق، ومعلوم أن الفعل يختلف بإضافته وصدوره من الخلق عما إذا صدر من الله جل وعلا، فالله جل وعلا له أفعال تخصه كما أن له صفات يختص بها، وعباده كذلك، وليس بين الله جل وعلا وبين خلقه مشابهة أو مماثلة، ولكن يجب أن يثبت لله ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز التحريف أو التأويل الذي يخرج الكلام عن مراد المتكلم. وهذا هو طريق أهل السنة، وهو الذي يجب اتباعه؛ لأنه هو الذي دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومنهج صحابته رضوان الله عليهم، وهذا الطريق من خالفه فقد خالف سبيل المؤمنين، ومن خالف سبيل المؤمنين، وسلك غير طريقهم فالله جل وعلا يوليه ما تولى، ويصليه جهنم.

ما أهل به لغير الله شرك وإن سمى الذابح اسم الله عند ذبحه

ما أهل به لغير الله شرك وإن سمى الذابح اسم الله عند ذبحه قال الشارح رحمه الله: [قوله: (من ذبح لغير الله) قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في قول الله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [البقرة:173]: ظاهره أنه ما ذبح لغير الله مثل أن يقول: هذه ذبيحة لكذا، وإذا كان هذا هو المقصود فسواء لفظ به أو لم يلفظ، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه النصراني للحم وقال فيه: باسم المسيح أو نحوه، كما أن ما ذبحناه متقربين به إلى الله كان أزكى وأعظم مما ذبحناه للحم وقلنا عليه: باسم الله، فإذا حرم ما قيل فيه: باسم المسيح أو الزهرة فلأن يحرم ما قيل فيه: لأجل المسيح أو الزهرة أو قصد به ذلك أولى، فإن العبادة لغير الله أعظم كفراً من الاستعانة بغير الله. وعلى هذا فلو ذبح لغير الله متقرباً إليه يحرم، وإن قال فيه: باسم الله، كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة الذين يتقربون إلى الكواكب بالذبح والبخور ونحو ذلك، وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال، لكن يجتمع في الذبيحة مانعان: الأول: أنه مما أهل به لغير الله. والثاني: أنها ذبيحة مرتد. ومن هذا الباب: ما يفعله الجاهلون بمكة من الذبح للجن، ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه نهى عن ذبائح الجن)]. الإهلال لغير الله جل وعلا المقصود به: الإعلان للشيء، فيعلم أن هذا لفلان، وسواء كان ذلك قبل الذبح أو في حالة الذبح، فإنه إذا عين هذه الذبيحة وقال: هذه للشيخ الفلاني أو للقبر الفلاني أو للولي الفلاني فهذا مما أهل به لغير الله، ولو ذبحها وقال: باسم الله فإنها تكون محرمة؛ لأنها مما أهل به لغير الله جل وعلا؛ لأن الاعتبار هو بالنية والقصد وليس بالألفاظ، فالألفاظ ما تغير من المقاصد شيئاً، فإذا قصد ذلك بنيته وفعله الذي يسبق تسميته فإنه له حكم ذلك، ويكون بهذا قد ذبح لغير الله، وهذا ليس خاصاً بالذبائح، بل الأطعمة التي تعين وتوزع على أولئك العاكفين عند القبور أو على الأضرحة أو توضع في الصناديق التي تعد للنذور هي مما أهل به لغير لله، وهي من المحرمات، وفاعل ذلك يكون قد فعل شركاً أكبر، وإذا كان عالماً بهذا ومات عليه يكون خالداً في النار -نسأل الله العافية-، وإن كان جاهلاً يجب أن يتوب ويرجع إلى الله جل وعلا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حرم على الناس أن يفعلوا هذا، وقد كانوا يفعلونه في زمنه صلوات الله وسلامه عليه فنهاهم عنه. فكل عمل من قول أو فعل يتعدى نفعه -مثل الصدقات والذبائح وغيرها- أو فعل يكون خاصاً به -من الدعاء والركوع والانحاء وما أشبه ذلك- يجعل لغير الله فهو شرك، ومثله الطواف ومثله الجلوس والعكوف في المكان الذي يرجى بركته، أو يجلس في مكان من الأمكنة التي يعبد فيها غير الله مثل الأضرحة وقبور الأولياء، فإذا جلس عندها طلباً للبركة فهو من العاكفين عند الأوثان؛ لأن العكوف في مساجد الله عبادة، ولا يجوز أن يكون العكوف لغير الله، يعني: طلب البركة والخير إذا قصد به التقرب فهو عبادة، كما أن الطواف في بيت الله عبادة من أعظم العبادات، وكذلك الدوران على القبور والأضرحة والأمكنة التي تعظم إذا قصد بذلك تعظيمها فهي عبادة لغير الله، وهو شرك أكبر يجعل الفاعل لهذا خارجاً من الدين الإسلامي. والمقصود: أن هذا ليس خاصاً بالدماء التي تراق، بل هو عام لكل ما يُقرب من نذور لهذا الميت، ويرجى بها التقرب إليهم، وإن كان يسميها أصحابها تقرباً أو توسلاً أو محبة أو ما أشبه ذلك، فالأسماء لا عبرة بها، وإنما الاعتبار بالفعل الذي يفعل وإن سمي بأي اسم كان، فصاحبه له حكم المشركين الذين نزل القرآن وجاءت دعوة الرسل بالإخبار بأنهم مشركون، وأنهم إذا بقوا على هذا فإن الله برئ منهم ورسوله. قال الشارح: [قال الزمخشري: كانوا إذا اشتروا داراً أو بنوها أو استخرجوا عيناً، ذبحوا ذبيحة خوفاً أن تصيبهم الجن، فأضيفت إليهم الذبائح لذلك. وذكر إبراهيم المروزي: أن ما ذبح عند استقبال السلطان تقرباً إليه أفتى أهل بخارى بتحريمه؛ لأنه مما أُهلَّ به لغير الله]. وليس هذا خاصاً بالسلطان، فإذا استقبل شخص من الأشخاص بحيث يذبح له حينما يطلع تعظيماً له وتقرباً، فهذه الذبيحة مما أهل به لغير الله، وذابحها بذلك إن كان مسلماً فإنه يكون مرتداً بهذا الفعل، وذبيحته تكون حراماً؛ لأنها قد اجتمع فيها مانعان: الأول: أنها مما أُهلَّ به لغير الله، وقد نهانا ربنا جل وعلا أن نأكل مما أُهلّ به لغيره. والثاني: أنها ذبيحة مرتد؛ لأنه ارتد بهذا الفعل.

لعن من لعن والديه

لعن من لعن والديه قال الشارح: [وقوله: (لعن الله من لعن والديه) يعني: أباه وأمه، وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من الكبائر شتم الرجل والديه، قالوا: يا رسول الله! وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه)]. هذا إذا كان تسبباً، وأما إذا كان بالفعل والمواجهة فهو أعظم مما إذا كان متسبباً في شتمهما، ومعلوم أن هذا يكون مضاداً لأمر الله جل وعلا ببر الوالدين، والإحسان إليهما، فإنه بهذا يضع بليغ الإساءة موضع الإحسان، فمثل هذا استحق اللعن من الله جل وعلا: (لعن الله من لعن والديه) وسواء كان الوالد أباً مباشراً أو جداً وإن علا، وإن كان جدَّ جدَّ الجد، وكذلك الأم وإن كانت أم أم أم أم فلا يجوز أن يكون الإنسان سبباً للعن والديه بفعله الذي يفعله، فإن فعل ذلك فإنه يكون ملعوناً على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.

لعن من آوى محدثا

لعن من آوى محدثاً قال الشارح: [قوله: (لعن الله من آوى محدثاً) أي: منعه من أن يؤخذ منه الحق الذي وجب عليه، وآوى بفتح الهمزة ممدودة أي: ضمه إليه وحماه. قال أبو السعادات: أويت إلى المنزل وآويت غيري وآويته، وأنكر بعضهم المقصور المتعدي، وأما (مُحْدِثاً) فقال أبو السعادات: يروى بكسر الدال وفتحها على الفاعل والمفعول، فمعنى الكسر: من نصر جانياً وآواه وأجاره من خصمه وحال بينه وبين أن يقتص منه، وبالفتح: هو الأمر المُبْتَدَعُ نفسه، ويكون معنى الإيواء فيه: الرضا به والصبر عليه، فإنه إذا رضي بالبدعة وأقر فاعلها ولم ينكر عليه فقد آواه. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: هذه الكبيرة تختلف مراتبها باختلاف مراتب الحدث في نفسه، فكلما كان الحدث في نفسه أكبر كانت الكبيرة أعظم]. محدِث ومُحدَث متلازمان، فإذا أحدث الإنسان بمعنى أنه فعل المعصية التي نهي عنها، فيسمى محدثاً؛ سواء ارتكب حدّاً من الحدود التي حرمها الله، أو ارتكب جريمة في حق غيره بأن أخذ ماله أو استطال على عرضه، أو بهته بالكذب والزور وتكلم فيه بما ليس فيه، أو غير ذلك من الذنوب، سواء تعلق بحق الله، أو تعلق بحق الآخرين، وكله يصدق عليه أنه مُحْدِثٌ لأنه جاء بخلاف الشرع. والمحدِث هو فاعل الحدث، والمحدَث هو المفعول، ولكن إذا وجد من الناس من يرضى بفعله، ويناصره عليه، ويحول بينه وبين الإنكار عليه، أو إقامة الحد أو أخذ الحق منه، فيكون هذا الذي فعل هذا مؤوياً له وناصراً له، وربما كان ذنبه وجرمه أعظم من الذي أحدث الحدث، فيكون أولى باللعن. ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من حالت شفاعته دون حد من حدود الله، فقد ضَادَّ الله في أرضه) وإذا كان يُضَادُّه فهو يحاربه، والمحارب لله جل وعلا يكون من أبعد الناس عنه، قال تعالى وتقدس: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [المجادلة:5]. فالمقصود أن رواية الفتح ورواية الكسر متلازمتان.

لعن من غير منار الأرض

لعن من غير منار الأرض قال الشارح: [قوله صلى الله عليه وسلم: (ولعن الله من غير منار الأرض) بفتح الميم: علامات حدودها، قال أبو السعادات في النهاية -في مادة تَخَمَ-: ملعون من غَيَّرَ تخوم الأرض، أي: معالمها وحدودها واحدها تُخْمٌ قيل: أراد حدود الحرم خاصة، وقيل: هو عام في جميع الأرض، وأراد المعالم التي يُهتدى بها في الطريق، وقيل: هو أن يدخل الرجل في ملك غيره فيقتطعه ظلماً قال: ويروى تخوم بفتح التاء على الإفراد، وجمعه تخم بضم التاء والخاء. انتهى وتغييرها: أن يقدمها أو يؤخرها فيكون هذا من ظلم الأرض الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (من ظلم شبراً من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين)، ففيه جواز لعن أهل الظلم من غير تعيين] تخوم الأرض: الشيء الذي يجعل علامة للاهتداء به، سواء كان موضوعاً علامة على الطريق الذي يسار فيه، أو علامة على أن ملك فلان ينتهي إلى هذا، أو أن هذا يفصل ملك هذا عن هذا، وكل هذا داخل في تغيير منار الأرض، وكله منار؛ لأن المنار هو الذي يستنار به ويهتدى به، سواء في السير أو في معرفة الملك. ومن ذلك، بل أولى وأعظم منه معالم الشرع، ومن يقوم ببيانها وإيضاحها ودعوة الناس إليها، وتغيير ذلك هو الحيلولة بين من يفعل ذلك وبين أن يستفيد الناس منه، ويقوم بما يجب عليه؛ لأن هذا واجب على كل أحد، كل من علم علماً وجب عليه أن يبينه لعباد الله جل وعلا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمرنا بالتبليغ، والله جل وعلا يقول له: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]، فأتباعه صلوات الله وسلامه عليه لا بد أن يكون لهم نصيب من طريقته ودعوته للناس وإلى توحيد الله جل وعلا. فالتغيير في دين الله أعظم من التغيير في الحقوق المعينة، وسبق أن قلنا: إن هذا أيضاً يدخل فيه ما يفعله بعض الفسقة الذين قد يتولون شيئاً من معالم الأرض، أو من وثائقها التي توثق بها كالصكوك والمواثيق التي يكون فيها التحديد والإشهاد والإثبات، فربما تسول لبعض الفسقة أنفسهم أن يغيروا في الكتابة تقليلاً أو تكثيراً أو إزالة أو إخفاء، فيخفون شيئاً من ذلك أو يمزقونه؛ لأجل أن ينفعوا غيرهم أو ينتفعوا؛ فهذا أيضاً من تغيير أماكن الأرض ومنارها، فهم داخلون في اللعنة. وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاءت مثل هذا، فإنها تعم كل ما يدخل فيها من المنهيات التي تخالف الشرع؛ لأنه صلوات الله وسلامه عليه أعطي جوامع الكلم.

حكم لعن الفاسق

حكم لعن الفاسق قال الشارح: [وأما لعن الفاسق المعين ففيه قولان: أحدهما: أنه جائز اختاره ابن الجوزي وغيره. والثاني: لا يجوز واختاره أبو بكر عبد العزيز وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله]. ذكر أنه اختار القول الأول في المسألة رجلاً، والثاني رجلين، ومن عادة العلماء أنهم يذكرون جزئيات فقط، وإلا فالمسألة معروفة ومشهورة، والذين تكلموا فيها كثيرون جداً، ولكن هكذا كانت عادة العلماء، فإنهم يشيرون إلى رءوس المسائل فقط، ثم على طالب العلم أن يبحث عن ذلك.

حديث: (دخل الجنة رجل في ذباب)

حديث: (دخل الجنة رجل في ذباب) قال المصنف رحمه الله: [وعن طارق بن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (دخل الجنة رجل في ذباب ودخل النار رجل في ذباب، قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟! قال: مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئاً، فقالوا لأحدهما: قرب! قال: ليس عندي شيء أقرب. قالوا له: قرب ولو ذباباً، فقرب ذباباً فخلوا سبيله فدخل النار، وقالوا للآخر: قرب! فقال: ما كنت لأقرب لأحد شيئاً دون الله عز وجل، فضربوا عنقه فدخل الجنة) رواه الإمام أحمد]. هذا من الأمور العجيبة! فالذباب من أخس الحيوانات وأحقرها، ومع هذا يكون سبباً لدخول رجل النار، ويكون سبباً لدخول آخر الجنة، فهذا يستغرب إذا سمع، ولكن إذا ذكر الحديث كله تبين أن المراد بذلك أعمال القلوب، وليست أعمال الجوارح، فإنه يدل على أن العمل مبناه على ما يقر في القلب وما يقصده الإنسان. وهذا الحديث رواه الإمام أحمد في كتاب الزهد، ورواه أبو نعيم في الحلية وغيرهما، وجاء مرفوعاً كما في كتاب الزهد عن طارق، وقد اختلف في صحبته، والصواب أنه صحابي، واختلف في سماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو داود وغيره: إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه لم يسمع منه، فإذا كان قد رآه فهو صحابي، وإذا كان لم يسمع فيكون حديثه مرسل صحابي ومراسيل الصحابة لا خلاف في قبولها؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم كلهم عدول بتعديل الله إياهم وبتعديل رسوله صلى الله عليه وسلم لهم، فليسوا بحاجة إلى نظر الناس، فيجب قبول قول الله جل وعلا فيهم، ويجب أيضاً أن يعرف الإنسان الميزة التي امتازوا بها عن غيرهم، وهي كونهم صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاهدوه، وتلقوا العلم والإيمان منه صلوات الله وسلامه عليه. وكذلك كونهم جاهدوا معه، وامتثلوا ما أمرهم به، بل أصبحوا يتسابقون في طاعته، ويتفانون في ذلك. ثم إن هذا فيما يظهر كان في بني إسرائيل، والرسول صلى الله عليه وسلم كان كثيراً ما يحدث عنهم، وبنو إسرائيل كان فيهم عجائب، وذكر هذا الحديث لبيان عِظَمِ التوحيد، وعظم حق الله جل وعلا، وعظم قدر الشرك، وأنه وإن كان العمل فيما يقدمه العامل غير مقصود وغير مراد وغير منتفع به، لكن النظر إلى عمل القلب الذي انطوى عليه، ونيته التي نواها؛ لأنه لا شيء ينتفع به أصحاب الصنم من تقريب الذباب، ولا صنمهم ينتفع، وإنما قصدوا بذلك النية التي تكون في القلب. أما الذباب فهو تافه لا قيمة له، ولا أحد يريده، وهذا مما يدل على أن أعمال القلوب -حتى عند الكفرة الفجرة المشركين- هي المقصودة والمرادة، وإذا الجوارح وافقت ما في القلب فهذا أمر آخر؛ لأنه قد يكون ظاهر العمل مخالفاً لما في القلب.

الفرق بين الصنم والوثن

الفرق بين الصنم والوثن في هذا الحديث أن هؤلاء القوم كان لهم صنم، والصنم هو ما كان منحوتاً أو مصوراً على صورة مجسدة كصورة إنسان أو صورة حيوان، وأما الوثن فهو ما كان على خلاف ذلك كالقبر والشجرة والبناء والحجر إذا قصدت بالعبادة، فقد جاء أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعْبد) فأخبر أنه لو عبد لصار وثناً. فكذلك القبور التي تعبد، وليس معنى عبادة القبور أن يأتي الإنسان ويضع جبهته عليها ساجداً، ويزعم أن صاحب القبر له شركة في السماوات والأرض مع الله، أو أنه يحيي ويميت؛ فإن هذا لا يعتقده مشرك من المشركين السابقين، وإنما عبادتهم لأصحاب القبور أنهم يزعمون أنهم يشفعون لهم عند الله بدون إذنه، بل لو دعاهم وقال: اشفعوا لي بإذن الله فإن هذا يكون من الشرك الأكبر؛ لأن الشفاعة تُطْلَبُ من الله. والمقصود أن الوثن يطلق على ما لا صورة له إذا كان معبوداً، والصنم يطلق على ما كان مصوراً على شكل إنسان أو حيوان أو ما أشبه ذلك، وقد يطلق كل واحد على الآخر، فيسمى الصنم وثناً، والوثن صنماً، فهي إطلاقات تتعاقب، وقد جاء في القرآن ما يدل على ذلك. وعلى كل حال هذا الكلام في اللغة، وإذا جاء في القرآن ما يدل على أن الوثن يسمى صنماً، والصنم يسمى وثناً، فالقرآن جاء باللغة العربية، فيكون ذلك دليلاً على أن ذلك موجود في اللغة التي جاء بها كتاب الله جل وعلا.

يقع الشرك بالقربان لغير الله ولو بذباب

يقع الشرك بالقربان لغير الله ولو بذباب في هذا الحديث أنه لم يكن لهذا الإنسان مُخْلَصٌ من العبور إلا بأن يقدم لصنمهم الذي يدعون إليه القربان، فظن أنه إذا قال: ليس عندي شيء أقربه أنه يتخلص بذلك، فقالوا: قرب ولو ذباباً، فأرادوا منه صورة الفعل، وإلا الذي يقصد منه عمل القلب، أي: العبادة القلبية، ورضوا بهذا، ففعل ذلك تخلصاً منهم، وظاهر الحديث يدل على أنه كان مسلماً؛ إذ لو لم يكن مسلماً ما حسن أن يقال: دخل النار في ذباب، ولقال: دخل بكفره، أي: السابق، فلما جعل دخوله النار بسبب هذا الفعل، دل هذا على عظم الشرك، وأنه وإن كان قليلاً -مرة واحدة- ثم مات عليه صاحبه أنه يكون من أهل النار، وقد مضى في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (من لقي الله يشرك به شيئاً دخل النار، ومن لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة)، فهذا مثله.

الأخذ بالعزيمة والصبر على الموت في سبيل التوحيد

الأخذ بالعزيمة والصبر على الموت في سبيل التوحيد في الحديث أن أهل التوحيد يعرفون قدر الشرك وقدر التوحيد؛ فلهذا صبر هذا الرجل على إزهاق نفسه ولم يقرب ذباباً، وإن كان بإمكانه أن يقرب ظاهراً مع كون قلبه مطمئناً بالإيمان، وقد جاء أن مثل هذا يكون معذوراً، قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} [النحل:106] لكنه اختار أن يقتل ولا يكون فعله موافقاً للشرك، ولو في الصورة الظاهرة فقط؛ لأنه يعلم عظم الشرك عند الله جل وعلا، ويعلم عظم الإخلاص والتوحيد لله جل وعلا، ولهذا جازاه ربه جل وعلا بأن أدخله الجنة. وقد يقال: أليس مأذوناً لمثل هذا أن يوافق في الظاهر؟ فنقول: نعم. ولكن لا يلزمه أن يوافقهم في الظاهر وإن كان قلبه مطمئناً بالإيمان، بل إذا صبر فقد أخذ بالعزيمة وذلك أفضل، والظاهر في شرع من قبلنا أنه ليس من دينهم العفو على الإكراه، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروى عنه: (عفي عن أمتي: الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) فقوله: (أمتي) يدل على أنه لم يعف لغيرهم، وإنما هذا من خصائصهم. وهذه الأمة لها خصائص لا توجد لمن كان قبلهم كما هو معروف عند أهل العلم، وهو ظاهر في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. والمقصود بهذا أن يبين عِظَم الشرك، وكذلك عظم ثواب التوحيد، وكذلك عظم قدر الشرك في قلوب عباد الله المؤمنين الذين عرفوا قدر الله وعظموه، فيصبر أحدهم على القتل وإن كان بإمكانه أن يتخلص بدون أن يكون مشركاً، إلا أنه اختار أن يموت، ولا يوافقهم ولو في صورة الفعل الظاهرة.

تعريف الصحابي

تعريف الصحابي قال الشارح: [قال ابن القيم رحمه الله تعالى: قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا أبو معاوية قال: حدثنا الأعمش عن سليمان بن ميسرة عن طارق بن شهاب يرفعه قال: (دخل رجل الجنة في ذباب) الحديث. وطارق بن شهاب: هو البجلي الأحمسي أبو عبد الله رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو رجل. قال البغوي: نزل الكوفة، وقال أبو داود: رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يسمع منه شيئاً، قال الحافظ: إذا ثبت أنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم فهو صحابي، وإذا ثبت أنه لم يسمع منه فروايته عنه مرسل صحابي وهو مقبول على الراجح، وكانت وفاته ـ على ما جزم به ابن حبان ـ سنة ثلاث وثمانين]. تعريف الصحابي على القول المختار: هو من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على ذلك، وإن لم يرو عنه، فمن لم يلقه في حياته فإنه لا يكون صحابياً وإن آمن به، وهذا الذي يقال فيه: مخضرم، أي: أنه أدرك الجاهلية والإسلام ولكنه لم يلق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وخرج بقوله: (مؤمناً به) الذين التقوا به وهم غير مؤمنين به، فلا يكونون صحابة. وخرج بقوله: (ومات على ذلك) من لقيه وآمن به ثم ارتد، ومثل هذا لم يقع في الصحابة إلا لاثنين أحدهما رجع، والآخر مات كافراً، وكذلك جاء في حديث ضعيف أنه وقع ذلك أيضاً لرجل ثالث. إذاً: كل من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مؤمن به فهو من الصحابة، وقد رآه خلق كثير، ولا سيما في حجة الوداع فقد كانوا كثيرين جداً، قال أبو زرعة: إن الصحابة الذي توفي عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من ثلاثمائة ألف؛ مع أن الذين سجلوا وحاول العلماء معرفة أسمائهم ما زادوا عن اثني عشر ألفاً، فليس كل الصحابة لهم أحاديث رويت وعرفت أسماؤهم.

دخول رجل الجنة في ذباب

دخول رجل الجنة في ذباب قال الشارح: [قوله: (دخل الجنة رجل في ذباب) أي: من أجله. وقوله: (قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله!) كأنهم تقالوا ذلك وتعجبوا منه، فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم ما صير هذا الأمر الحقير عندهم عظيماً يستحق هذا عليه الجنة، ويستوجب الآخر عليه النار]. قوله: (دخل رجل النار في ذباب)، (في) هنا سببية، ومثلها ما جاء في الحديث الصحيح: (دخلت امرأة النار في هرة)، أي: بسبب هرة ربطتها حتى ماتت، لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (فرأيتها في النار والهرة تخمش وجهها بسبب ذلك). قال الشارح: [قوله: (مر رجلان على قوم لهم صنم)؛ الصنم ما كان منحوتاً على صورة ويطلق عليه الوثن كما مر. وقوله: (لا يجاوزه) أي: لا يمر به، ولا يتعداه أحد]. الوثن في الواقع كل ما صد عن عبادة الله، ويطلق عليه طاغوت، والوثن قد يكون مجسداً وقد يكون معنى من المعاني، فقد يكون مالاً، وقد يكون شخصاً، وقد يكون رئاسة، وقد يكون لعبة، أو أي شيء يتعلق به قلبه حتى يترك من أجله عبادة الله، ويصبح هذا الشيء مستولياً على قلبه، فيحبه ويعمل من أجله؛ وذلك لأن الإنسان خلق لعبادة الله، فكل ما صده عن هذه العبادة فهو وثن. ولهذا فإن من تمام عدل الله وحكمته جل وعلا أنه إذا جمع الناس ليوم القيامة، وقاموا لرب العالمين، وقد اشتدت عليهم الأهوال، وتمنوا فصل القضاء ولو إلى النار، فيأتون إلى الأنبياء ويبدءون بسيدنا آدم عليه السلام، ويسألونه أن يشفع لهم عند الله تعالى لفصل القضاء، فيعتذر لذنبه، ويرسلهم إلى نوح، فيعتذر نوح ويردهم إلى إبراهيم، وهكذا حتى يأتوا محمداً صلى الله عليه وسلم، يقول صلوات الله وسلامه عليه: (فأذهب إلى مكان تحت العرش، فأخر ساجداً لربي، فيدعني ما شاء الله أن يدعني ساجداً، ويفتح علي من الدعاء والمحامد والثناء، ثم يقال: ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع)، وهذه هي الشفاعة الكبرى ليقضى بين العباد ويرتاحون من هذا الموقف، ثم يخاطبهم الله جل وعلا ويقول: (أليس عدلاً مني أن أولي كل واحد منكم ما كان يتولاه في الدنيا؟)، وهذا هو الشاهد؛ وعند ذلك كل من كان يعبد شيئاً فإنه يؤتى بذلك الشيء في الموقف على صورته وهيئته وحالته التي كان يعبده في الدنيا، فإن كان المعبود من عباد الله المؤمنين جيء بشيطان على صورته؛ لأن الشيطان هو الذي زين لهم ذلك ودعاهم إليه، ثم بعد ذلك يقال لهم: اتبعوا معبوداتكم فيتبعونهم إلى جهنم، فيكبكبون فيها هم والغاوون، وجنود إبليس أجمعون، فهؤلاء لا يحتاجون إلى محاسبة؛ لأنهم مشركون وكفرة، فلا يقام لهم يوم القيامة وزن. ثم يبقى الذين يحاسبون، وهم الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، مقابل أولئك الذين يذهب بهم إلى جهنم بلا حساب، ويقابلهم طوائف من المؤمنين يذهب بهم إلى الجنة بلا حساب، وقد مر أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن من هذه الأمة سبعين ألفاً يدخلون الجنة بلا حساب. فيبقى الذين يحاسبون، وهؤلاء هم الذين تنصب لهم الموازين كما جاء تفصيل ذلك مبيناً موضحاً في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

المسائل المستفادة من حديث القربان بالذباب

المسائل المستفادة من حديث القربان بالذباب قال الشارح: [قوله: (قالوا له: قرب ولو ذباباً) إلى آخره، هذا بيان عظمة الشرك ولو في شيء قليل، وأنه يوجب النار كما قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:72]. وفي هذا الحديث: التحذير من الوقوع في الشرك، وأن الإنسان قد يقع فيه وهو لا يدري أنه من الشرك الذي يوجب النار. وفيه: أنه دخل النار بسببٍ لم يقصده ابتداء، وإنما فعله تخلصاً من شر أهل الصنم. وفيه: أن ذلك الرجل كان مسلماً قبل ذلك، وإلا فلو لم يكن مسلماً لم يقل دخل النار في ذباب. وفيه: أن عمل القلب هو المقصود الأعظم حتى عند عبدة الأوثان. ذكره المصنف بمعناه. وقوله: (وقالوا للآخر: قرب، قال: ما كنت لأقرب) إلى آخره فيه بيان فضيلة التوحيد والإخلاص].

مسائل باب ما جاء في الذبح لغير الله

مسائل باب ما جاء في الذبح لغير الله قال المصنف رحمه الله: [فيه مسائل: المسألة الأولى: تفسير قوله تعالى: {إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} [الأنعام:162] المسألة الثانية: تفسير قوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2] المسألة الثالثة: البداءة بلعنة من ذبح لغير الله. المسألة الرابعة: لعن من لعن والديه، ومنه أن تلعن والدي الرجل فيلعن والديك]. بدأ لعن من ذبح لغير الله لأن الذابح لغير الله أعظم جرماً مما ذكر بعده، أي: أن الذبح لغير الله أعظم من لعن الوالدين، وأعظم من تغيير منار الأرض، وأعظم من إيواء المحدث، هذا المقصود بكونه بدأ به. [المسألة الخامسة: لعن من آوى محدثاً، وهو الرجل يحدث شيئاً يجب فيه حق الله فيلتجئ إلى من يجيره من ذلك]. يعني: أن هذا فرد من أفراد الإيواء، وإلا فالإيواء أنواع كثيرة.

شرح فتح المجيد [42]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [42] حرم الله تعالى الذبح لغيره، وجعله شركاً به، وحرم أيضاً ما كان وسيلة إلى الشرك، أو كان فيه مشابهة للمشركين، حتى إنه حرّم أن يذبح المرء لله في مكان يذبح فيه لغير الله.

قوله تعالى: (لا تقم فيه أبدا)

قوله تعالى: (لا تقم فيه أبداً) يقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب لا يذبح لله في مكان يذبح فيه لغير الله تعالى]. هذا من وسائل الشرك التي يجب أن تُمْنَعَ، وليس ذلك شركاً، ولكنه وسيلة قد توصل إلى الشرك، لأنه يكون فيه مشابهة المشركين، وفيه أيضاً بعث لمن كان يذبح في هذا المكان أن يذبح فيه. والمؤلف رحمه الله تعالى أدرك أهل وقته الذين كانوا يذبحون للجن، ويجعلون مكاناً في البيت معيناً يذبح فيه للجن إذا أرادوا -مثلاً- أن يُخَلِّصُوْا من تلبس به الجني، والجن يتسلطون عليهم بذلك، وهذا من الشرك، فأراد أن ينبه على أنه لو قدر أن تاب الإنسان وأخلص دينه لله، وقد علم أن هذا المكان كان يذبح فيه لغير الله؛ فإنه لا يجوز الذبح فيه لأمرين: الأمر الأول: أنه وسيلة إلى الشرك. الأمر الثاني: أنه مشابهة للمشركين. واستدل على هذا بالنصوص التي سيذكرها من كتاب الله جل وعلا، وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم. قال المصنف: [وقوله تعالى: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108]]. هذه الآية نزلت في شأن مسجد ضرار، ومسجد ضرار مسجد بناه المنافقون الذين يريدون الصد عن سبيل الله، ومقاومة دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان قرب مسجد قباء، وكان هذا في آخر حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان بأمر أبي عامر الفاسق الذي كان يسمى الراهب، فسماه الرسول صلى الله عليه وسلم: الفاسق. فجاء المنافقون إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز للخروج إلى غزوة تبوك، فقالوا موهمين للنبي صلى الله عليه وسلم والناس أنهم يريدون خيراً: قد بنينا مسجداً للمريض أو لليلة المطيرة أو الباردة لئلا يشق عليهم الذهاب إلى مسجد قباء، فنريد أن تأتي إلينا فتصلي فيه، فقال: (نحن على سفر، ولكن إذا رجعنا إن شاء الله). فلما رجع من تبوك، وبقي بينه وبين المدينة يوم نزل القرآن في شأنه، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بعض المؤمنين ممن كانت دورهم قريباً من هذا المسجد أن يذهبوا إليه ويحرقوه على من فيه، فذهبوا سراعاً فصار بعضهم يجمع الحطب، وبعضهم يأتي بالنيران فحرقوه، والله جل وعلا يقول: ((لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا)). ومن المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لو قام فيه فإنما يقوم عابداً لله مخلصاً له جل وعلا، ومع ذلك نهاه أن يقوم فيه، فصار القياس أنه لو كان هناك مكان يذبح فيه لغير الله، فإنه لا يجوز للذي يذبح لله مخلصاً أن يذبح فيه لئلا يشابه أولئك، ولأنه صار مكان معصية، فالاستدلال بهذه الآية من باب القياس، وهو قياس واضح وجلي، حيث إن الله جل وعلا نهى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقوم في هذا المسجد الذي بني على الفساد، وعلى المضرة بالإسلام وأهله، فصار من معصية الله أن يقوم فيه وإن كان مصلياً لله.

تعيين أول مسجد أسس على التقوى

تعيين أول مسجد أسس على التقوى قوله: ((لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ)) المقصود به مسجد قباء، فإنه هو المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، فإن الذي خطه هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبناه المؤمنون متقين الله جل وعلا، مطيعين له، متبعين لرسوله صلى الله عليه وسلم. وقوله: ((فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا))؛ جاء في المسند وفي صحيح ابن حبان وغيرهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لأهل قباء: (إن الله قد أحسن الثناء عليكم في قصة مسجدكم، فما هذه الطهارة التي تتطهرون؟ قالوا: ما هو والله يا رسول الله إلا أنه كان لنا جيران من اليهود، فكانوا يغسلون أدبارهم بعد قضاء الحاجة، فرأيناهم ففعلنا مثل فعلهم، فقال: هو ذاك فعليكموه) يعني: الزموا هذا. وأما ما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري: (أن رجلين تماريا في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، فسألا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هو مسجدي هذا؟) فالمعنى أنه من باب الأولى، أي: فإذا كان مسجد قباء قد أسس على التقوى من أول يوم فمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى أن يكون كذلك وأحرى. فلا ينافي ما ذكر من أن القصة في مسجد قباء؛ لأن المضارة بمسجد ضرار كانت بجواره، فالسياق وسبب النزول واضح في ذلك. وقوله: ((وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ))، فيه دليل على إثبات محبة الله جل وعلا، وأنه يحب المتنزه من النجاسات الحسية، كما أنه يحب المتنزه من أرجاس الذنوب؛ لأن الذنوب نجاسات معنوية، والنجاسات المعنوية أعظم ضرراً من النجاسة الحسية. يقول الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره عند هذه الآية: فيه دليل على استحباب الصلاة مع الصالحين وأهل الطهارة والنظافة؛ لأن الله جل وعلا أثنى على هؤلاء، ومن أثنى الله جل وعلا عليهم فإنه يكون محباً لهم جل وعلا. والدليل الذي استدل به المؤلف على هذا كما قلنا: من باب القياس، وهو واضح.

وجه الدلالة في آية مسجد الضرار على تحريم الذبح لله في مكان المعصية

وجه الدلالة في آية مسجد الضرار على تحريم الذبح لله في مكان المعصية قال الشارح: [قوله: باب: لا يذبح بمكان يذبح فيه لغير الله تعالى. لا: نافية ويحتمل أنها للنهي وهو أظهر] إذا قيل: إنها نافية فهي تتضمن النهي، وقد يكون النفي الذي يتضمنه النهي أبلغ كما قال الله جل وعلا: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ} [البقرة:84] فلا في الآية لا تصلح أن تكون ناهية، وإنما هي نافية، ومع ذلك فهي أبلغ في النهي كما قال أهل البيان. قال: [وقوله: وقول الله تعالى {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} [التوبة:108] الآية قال المفسرون: إن الله تعالى نهى رسوله عن الصلاة في مسجد الضرار، والأمة تبع له في ذلك، ثم إنه تعالى حثه على الصلاة في مسجد قباء الذي أسس من أول يوم بني على التقوى، وهي طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وجمعاً لكلمة المؤمنين، ومعقلاً ومنزلاً للإسلام وأهله]. امتثل الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الأمر، فكان يزور مسجد قباء كل سبت ماشياً وراكباً، وقد جاء في الترغيب في ذلك قوله: (من توضأ في بيته ثم خرج إلى مسجد قباء فصلى فيه ركعتين فكأنما أتى بعمرة)، وهذا أمر ينبغي أن ينتهز، فالعمرة هي الحج الأصغر، والحج بنوعيه الأصغر والأكبر، أمره عند الله جل وعلا وكبير. وقد جاء أن من حج لله مخلصاً خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وهنا ينبغي الامتثال لأمر الله جل وعلا حيث قال: ((لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ)).

الأماكن تكتسب الآثار السيئة بالسيئات

الأماكن تكتسب الآثار السيئة بالسيئات يستدل بهذه الآية وقصة مسجد الضرار على أن الأماكن تكتسب الآثار السيئة بالمعاصي فتكون مبغضة إلى الله، وتكون محل معصية، ويكون الجلوس والسكون فيها ممنوعاً؛ ولهذا السبب كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا مر بوادي محسر أسرع وأمر بالسرعة؛ لأن وادي محسر -الذي بين مزدلفة ومنى- هو المكان الذي أنزل الله جل وعلا فيه العذاب على أصحاب الفيل. وكذلك لما ذهب إلى تبوك ومر بديار ثمود نهى أصحابه أن يستقوا من الماء، ومن سبقه وأخذ ماء وعجن به أمر أن يعطى العجين للبهائم وألا يؤكل، وأمرهم أن يأخذوا الماء من بئر الناقة فقط، ونهاهم أن يدخلوا تلك المساكن، وقال: (لا تدخلوا عليهم إلا أن تكونوا باكين، لا يصيبكم ما أصابهم) فهذا يدل على أن الأماكن التي نزل بها غضب تكتسب آثاراً من الغضب؛ ولهذا قال العلماء: لا يجوز سكنى تلك البلاد لهذا الحديث، فإنه يخشى على من سكنها أن يصيبه ما أصاب القوم سواءً من الأمر الظاهر الحسي، أو الأمر المعنوي من قسوة القلوب، والبعد عن الله جل وعلا، واكتساب المآثم والمعاصي حتى يكون مثل أولئك الذين كذبوا الرسل. وهكذا مسجد الضرار يأخذ هذا الحكم، فيكون النهي مؤبداً؛ ولهذا قال: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا}؛ لأنه اكتسب الأثر السيئ من معصية أولئك. وكذلك محل الطواغيت والأصنام ونحوها، ولا يعترض على هذا بما وقع في قصة اللات، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما جاءه أهل الطائف مسلمين اشترطوا فيما اشترطوا عليه أن تبقى لهم اللات سنتين فأبى، ثم قالوا: سنة، فأبى، فقالوا: فتول أنت أمرها، فأرسل المغيرة بن شعبة رضي الله عنه فهدمها، ثم بنى مكانها مسجداً، وهو مسجد ابن عباس المعروف اليوم، فلا يقال: إن هذا يعارض ما سبق؛ لأن هذا لمصلحة اقتضت ذلك، لأنه لو ترك مكانها لأوشك أن تبعث مرة أخرى، فلما جعل مكانها مسجداً نسيت ونسي مكانها، وأصبح لا يعرفه إلا أهل العلم، ومحل اللات هو محل المنارة، وليس قلب المسجد.

فضل مسجد قباء

فضل مسجد قباء قال الشارح: [ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة في مسجد قباء كعمرة)، وفي الصحيح: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يزور قباء راكباً وماشياً)، وقد صرح أن المسجد المذكور في الآية هو مسجد قباء جماعة من السلف منهم ابن عباس وعروة وعطية والشعبي والحسن وغيرهم. قلت: ويؤيده قوله في الآية {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة:108]. وقيل: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لحديث أبي سعيد قال: (تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم فقال رجل: هو مسجد قباء وقال الآخر: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هو مسجدي هذا) رواه مسلم وهو قول عمر وابنه وزيد بن ثابت وغيرهم. قال ابن كثير: وهذا صحيح، ولا منافاة بين الآية والحديث؛ لأنه إذا كان مسجد قباء قد أسس على التقوى من أول يوم، فمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق الأولى، وهذا بخلاف مسجد الضرار الذي أسس على معصية الله كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة:107] فلهذه الأمور نهى الله نبيه عن القيام فيه للصلاة].

قصة مسجد الضرار والدلالة على تحريم الذبح في مكان المعصية

قصة مسجد الضرار والدلالة على تحريم الذبح في مكان المعصية قوله: ((وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ)) الذي كان يرصد له هو أبو عامر الفاسق فإنه خرج مغاضباً ومتوعداً يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: والله لأملأنها عليك خيلاً، فذهب إلى هرقل وطلب منه أن يمده بالجيش ليقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتله الله هناك، فمات بغيظه، والذين كانوا ينتظرونه في هذا المسجد أمرهم أن يبنوا هذا المسجد حتى يكون محلاً لهم، حتى إذا أرسل رسولاً يكون قاصداً لهذا المسجد، فيتلقون رسائله وأوامره من هذا المسجد، فهذا معنى قوله: {وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ}. وأما كونهم يحلفون أنهم ما أرادوا به إلا الحسنى، فهذا شأن المنافقين يعتمدون على الحلف والكذب، ويسترون أعمالهم بالكذب، وقد أخبر الله جل وعلا أنهم إذا بعثوا يوم القيامة يصنعون هذا الصنيع لله جل وعلا: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [المجادلة:18] كأمرهم في الدنيا؛ وذلك أن الإنسان يبعث على الحالة التي مات عليها، من مات على حالة في هذه الدنيا بعث عليه حتى في الصفة، فالصفة التي يموت عليها يبعث عليها، وفي هيئته الباطنية التي تكون في عقيدته وإيمانه أو كفره، وكذلك هيئته الظاهرة حتى يعرفه من كان يعرفه في الدنيا، والمقصود أن الجزاء من جنس العمل، فالله جل وعلا يقابل هؤلاء بما يستحقونه.

نهي الله لرسوله عن الصلاة في مسجد الضرار

نهي الله لرسوله عن الصلاة في مسجد الضرار قال الشارح: [فلهذه الأمور نهى الله نبيه عن القيام فيه للصلاة، وكان الذين بنوه جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل خروجه إلى غزوة تبوك فسألوه أن يصلي فيه، وأنهم إنما بنوه للضعفاء وأهل العلة في الليلة الشاتية فقال: (إنا على سفر، ولكن إذا رجعنا إن شاء الله) فلما قفل عليه السلام راجعاً إلى المدينة، ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعضه، نزل الوحي بخبر المسجد، فبعث إليه فهدمه قبل قدومه إلى المدينة. ووجه مناسبة الآية للترجمة: أن المواضع المعدة للذبح لغير الله يجب اجتناب الذبح فيها لله، كما أن هذا المسجد لما أعد لمعصية الله صار محل غضب لأجل ذلك، فلا تجوز الصلاة فيه لله، وهذا قياس صحيح يؤيده حديث ثابت بن الضحاك الآتي]. قد يقال مثلاً: الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يصلون في كنائس النصارى، ومن المعلوم أن كنائس النصارى فيها من الصور والصلبان ما هو معبود من دون الله جل وعلا. ونقول: نعم. ولكن ما كانوا يصلون في الكنيسة التي فيها الصور أو فيها الصليب حتى يخرجوه أو يمزقوه، والكنائس تكون محلاً للعبادة، وكذلك البيع بنيت لعبادة الله جل وعلا إلا أن الشرك طرأ عليها، وإذا كان الشرك طارئاً فإنه يزال، وإن كان هؤلاء يتعبدون بضلال وشرك، فالأصل في دينهم أنه حق، ولكن غيروا وبدلوا بعد رسولهم الذي بعث إليهم وهو عيسى عليه السلام، فهذه الأماكن تفارق المكان الذي اتخذ للشرك محضاً، ولا تكون مماثلة له.

الثناء على طهارة أهل قباء

الثناء على طهارة أهل قباء قال الشارح: [قوله: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة:108] روى الإمام أحمد وابن خزيمة وغيرهما عن عويم بن ساعدة الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم في مسجد قباء فقال: (إن الله قد أحسن عليكم الثناء بالطهور في قصة مسجدك)]. هذا يدل على أن الصحابة ما كانوا يعرفون الاستنجاء بالماء، ولهذا قال كثير من الفقهاء إن الاستنجاء لم يأت به نص من كتاب الله، وإنما جاءت هذه الأشياء فيما بعد، لا سيما وهذه القصة في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كانوا يستجمرون بالحجارة، ولهذا جاء الأمر بالاستجمار كثيراً ولم يأت الاستنجاء، والاستنجاء هو إزالة النجو بالماء. والماء لا شك أنه أبلغ إزالة، ولكن إذا اقتصر الإنسان على إزالة أثر الخارج بالحجارة، أو ما هو مماثل للحجارة، فهذا جائز باتفاق العلماء، ولا يلزمه أن يتبع أثر ذلك بالماء، وإنما يكون هذا فضل؛ لأن الله أثنى على هؤلاء، ويكون فيه مبالغة في الطهارة. ومعلوم أن الحجر يترك أثراً لا يزيله إلا الماء، ولكن هذا الأثر معفو عنه؛ لأنه أزال الشيء الذي يستطيع إزالته، وبقي الشيء الذي لا يزيله إلا الماء، فلو صلى بالاستجمار وإن كان الماء عنده فصلاته صحيحة باتفاق العلماء. فعلى هذا يستحب للإنسان أن يجمع بين الحجارة والماء إذا أمكن، وإذا اقتصر على أحدهما فهو جائز. قال الشارح: [قال رسول الله (فما هذا الطهور الذي تطهرون به؟ فقالوا: والله يا رسول الله ما نعلم شيئاً إلا أنه كان لنا جيران من اليهود فكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط فغسلنا كما غسلوا) وفي رواية عن جابر وأنس: (هو ذاك فعليكموه) رواه ابن ماجه وابن أبي حاتم والدارقطني والحاكم. قوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108] قال أبو العالية: إن الطهور بالماء لحسن، ولكنهم المتطهرون من الذنوب]. أي: فهذا من باب الأولى كما مضى في حديث أبي سعيد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (هو مسجدي هذا) فمسجد الرسول صلى الله عليه وسلم أولى أن يوصف بأنه أول مسجد أسس على التقوى من أول يوم؛ وهذا مثله، فإن الطهارة من الذنوب هي المقصودة، ولكن واضح أن الآية للتطهر الحسي من الخارج من البدن، والله يحب من تطهر لذلك وتنظف، ولكن كونه يتطهر من الذنوب أولى بأن يحب، فهذا كقوله جل وعلا: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197] تزودوا: أي: بالطعام والشراب الذي تحتاجونه في سفركم، أمرهم بالتزود ثم نبه أن زاد التقوى خير وأفضل، وهذا كثير في القرآن وفي أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وكلام السلف.

إثبات صفة المحبة والرد على من أنكرها

إثبات صفة المحبة والرد على من أنكرها قال الشارح: [وفيه إثبات صفة المحبة خلافاً للأشاعرة ونحوهم]. المحبة من صفات الله جل وعلا، وهي ثابتة من الجانبين، أما من جانب العبد فهو أمر لا بد منه، فالذي لا يحب الله لا يكون مسلماً أصلاً؛ لأن (لا إله إلا الله) مبنية على التأله؛ بأن يكون الله هو المألوه الذي يألهه القلب ويحبه ويخافه وينيب إليه ويخضع له ويذل له، فلا بد من محبة العبد لربه، وهذا أمر معلوم من الدين الإسلامي بالضرورة، والعجيب أن الأشاعرة ونحوهم من أهل البدع ينكرون المحبة من الجانبين: من جانب العبد ومن جانب الرب. أما من جانب العبد فيقولون: إن المحبة لا تكون إلا للمجانسة، فلا يحب الإنسان إلا من هو مجانس له. وأما من جانب الرب فهم يقولون: إنها تدل على الفقر؛ لأن الحب هو الميل إلى الملائم، والله جل وعلا لا يكون محباً لشيء يميل إليه فيلائمه؛ لأنه الغني، ولأنه ليس له نظير أو مثيل، فهذه شبهتهم التي نسوا بها ما دل عليه كتاب الله بل ما جاء به الإسلام ضرورة، وهي شبه لا أصل لها في الدين الإسلامي. والجواب عنها أن يقال: العبد عبد، ومعنى عبد أنه معبد، والعبادة هي الذل والخوف والخضوع والذل، وذلك لا بد أن يكون متضمناً للحب، وهذا هو التأله، والذي لا يوجد عنده تأله لا يكون عابداً لله جل وعلا، أي: أن الذي لا يكون محباً لله لا يكون عبداً لله جل وعلا. وأما أنها تكون للمجانسة فهذا لا يلزم، والعبد فقير لله جل وعلا لا ينفك فقره عنه، وإذا لم يعبد ربه ويحبه فإن في ذلك شقاءه وعذابه. وأما كون محبة الرب جل وعلا هي الميل للشيء الذي يريده، فهذا وصف محبة العبد لا محبة الرب. أما محبة الله جل وعلا فهي محبة تليق به كما أن محبة العبد تليق به، ولا يمكن أن تكون صفة الله جل وعلا مماثلة لصفة المخلوق؛ لأن الله جل وعلا ليس له مثيل ولا شبيه في ذاته فكذلك صفته، فإن الصفة تتبع الموصوف. فالعبد صفته تليق به، وصفة الله جل وعلا تليق به، هذا لو قلنا بمقتضى القياس والعقل الذي يحتجون به، مع أنه يجب أن نقول بما قاله الله جل وعلا وقاله رسوله وإن خالف العقل، والذي يقوله الله جل وعلا ويقوله رسوله لا يخالف العقل، بل العقل متفق معه. فالمحبة من الله جل وعلا ليست للافتقار ولا للحاجة، ولكنها تكرم وجود وفضل يتفضل به على عباده. ومثل ذلك سائر الصفات، فالأشاعرة مع إثباتهم للأسماء والصفات يؤولونها، وتأويلها إنكار لها، لأنهم يثبتون لفظها ثم يتأولونه فيقولون: المحبة معناها محبة الطاعة، ومعنى أن الله جل وعلا يحب العبد: أنه يريد منه الطاعة، فيجعلون المحبة هي الثواب أو إرادة الثواب، فمرة يؤولونها بالإرادة، ومرة يؤولونها بشيء مخلوق وهو الجزاء الذي يعطاه العبد. أما أن تكون صفة يتصف بها الله جل وعلا فهذا ينكرونه، ومعلوم أن هذا أمر حادث لم يقله به أحد من السلف، ولا يجد الإنسان على هذا أي دليل من كتاب الله، ولا من أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما بنوه على التواطؤ الذي تواطئوا عليه، والمذهب الذي تلقاه بعضهم من بعض، فبه نفوا معاني كلام الله، ومعاني كلام رسوله صلى الله عليه وسلم.

التأويل مخالف لظاهر الخطاب الشرعي ولم يأت ما يوافقه من كتاب ولا سنة

التأويل مخالف لظاهر الخطاب الشرعي ولم يأت ما يوافقه من كتاب ولا سنة من المعلوم أن الله خاطب الناس باللغة التي يعرفونها ويتخاطبون بها، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم بين لهم البيان الذي أمره الله جل وعلا به، ولم يأت لا في حديث صحيح ولا في حديث ضعيف أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ليس المراد بالمحبة أو بالفرح أو بالضحك أو بالنزول أو بالاستواء أو ما أشبه ذلك، ظاهره، وإنما المراد أمر آخر. ولو كان الذي أراده الله جل وعلا غير الظاهر لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله جل وعلا يقول له: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} [المائدة:67] وقد بلغ صلوات الله وسلامه عليه. ولهذا اتخذ السلف هذه الآية قاعدة يردون بها كل بدعة، فكل ما لم يبينه الرسول صلى الله عليه وسلم فهو بدعة مردود على قائله، وهذا أمر واضح وظاهر.

كثرة النصوص المثبتة للصفات

كثرة النصوص المثبتة للصفات وكما أنه جل وعلا له وجه وله عينان وله يد وله رجلان، وغير ذلك مما أثبته الله جل وعلا لنفسه، وليس كمثله شيء، فقد جاءت النصوص الكثيرة التي تثبت هذه الصفات، يقول الله جل وعلا: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله يأخذ السماوات بيمينه والأرض بشماله فيهزهما ويقول: أنا الجبار أين المتكبرون؟ أين الجبابرة؟). وفي الصحيحين: أن يهودياً من أحبار اليهود جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: (يا محمد! إن الله يوم القيامة يضع السماوات على أصبع، والأراضين على أصبع، والجبال على أصبع، والشجر على أصبع، وسائر خلقه على أصبع، ثم يهزهن ويقول: أنا الملك أنا الملك أين ملوك الأرض؟ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، ثم قرأ قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]). أما ما يقوله أهل البدع فإنه مردود عليهم بكتاب الله جل وعلا وبما بلغه رسول الهدى صلوات الله وسلامه عليه عن ربه جل وعلا. وقد كان صلوات الله وسلامه عليه يخطب على المنبر وفي المجامع بذكر صفات الله جل وعلا، كان يخطب يوماً فقال: (إن الله ينظر إليكم أزلين قنطين، فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب، فقام إليه رجل أعرابي كان حاضراً فقال: يا رسول الله! أويضحك ربنا؟ قال: نعم، قال: إذاً: لن نعدم خيراً من رب يضحك) فلم ينكر عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، بل أقره على هذا، وهذا كثير جداً في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. والرسول صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين يقول: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده التائب من أحدكم تضل راحلته عليها متاعه وطعامه وشرابه في أرض دوية، فيطلبها فييئس من وجودها، ثم يأتي إلى شجرة يقول: أموت تحت هذه، فيضع رأسه ينتظر الموت، وبينما هو كذلك إذا راحلته واقفة على رأسه، فيأخذ بخطامها ويقول: اللهم أنت عبدي، وأنا ربك!! أخطأ من شدة الفرح!). أما ما ذكره بعض الناس أن الإمام مالكاً رحمه الله كان يكره أن تذكر الصفات عند العوام فهذا باطل، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم هو معلم الخير وهو القدوة، وهو الذي كان يبلغ هذه الصفات ويجب أن يقتدى به، ومع ذلك يجب أن ينفى عن الرب جل وعلا توهم الجاهلين والكاذبين.

شرح فتح المجيد [43]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [43] لقد مدح الله سبحانه وتعالى الموفين بالنذر في كتابه الكريم فقال: (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا) ولا يمدح الله سبحانه وتعالى إلا ما هو عبادة شرعاً؛ ولهذا فلا يجوز صرف النذر لغير الله سبحانه، والنذر سواء كان مجازاة أو إبراراً تترتب عليه الأحكام الخمسة: الحرمة والكراهة والإباحة، والوجوب والاستحباب.

بعض الأحكام المتعلقة بالنذر

بعض الأحكام المتعلقة بالنذر قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال: نذر رجل أن ينحر إبلاً ببوانة فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا، قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم) رواه أبو داود وإسناده على شرطهما]. هذا الحديث نص في المسألة التي بوب عليها، وهو أن هذا الرجل أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره أنه نذر أن ينحر إبلاً ببوانة، وبوانة: هضبة، يقول بعض أهل الغريب: إنها في أسفل مكة، ويقول أبو السعادات بن الأثير: إنها تقع شمال ينبع، وهي المعروفة إلى اليوم بهذا الاسم، تقع بين ينبع وبين أملج على ساحل البحر، ولا تزال تعرف بهذا الاسم بوانة، وهي المقصودة في هذا الحديث، وهذا عين هذا المكان؛ لأنه عين أن يذبح هذه الإبل في هذه الهضبة.

متى يجب الوفاء بالنذر

متى يجب الوفاء بالنذر جاء في رواية أنه نذر إن ولد له مولود ذكر أن يذبح على بوانة خمسين رأساً من الغنم، أو قال: من الإبل، وأنه أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستفتيه في حجة الوداع، يعني: في آخر حياته صلوات الله وسلامه عليه، فقال: (هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية؟) والوثن: عام في كل ما يعبد من دون الله سواء كان ميتاً أو كان حجراً أو غير ذلك، يعني: كان قبراً أو شجراً أو حجراً أو غير ذلك، وسبق بيان الفرق بين الوثن والصنم: فالصنم ما كان على صورة حيوان أو إنسان، وأما الوثن: فهو أعم سواء كان شجراً أو حجراً أو قبراً أو غير ذلك، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) فقوله: (هل كان فيها وثن؟) عام في كل ما يعبد من دون الله، وهذا استفصال منه واستفسار، فقالوا: لا، لم يكن فيها شيء من ذلك، فقال: (هل كان فيها عيد من أعياد الجاهلية؟) العيد اسم لما يعود ويتكرر، سواء يعود بالفعل، أو يعود بالزمن، أو مكان يعاود إليه، وهذا كله جاءت النصوص به، وكلها تسمى عيداً، الأفعال مع الوقت كقول ابن عباس: (شهدت العيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) يقصد الصلاة مع الوقت. وأما المكان فمثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا عليّ أينما كنتم) (لا تجعلوا قبري عيداً) يعني: لا تتردوا إليّ (وصلوا عليّ أينما كنتم) هذا يكون في المكان. وأما في الزمن فمثل ما جاء أن يوم الأضحى ويوم الفطر عيد المسلمين، وكذلك يوم الجمعة يسمى عيداً، فهذا يقصد به الزمن، ولكن لا بد أن يتبعه فعل، فقوله: (هل كان فيها عيد من أعيادهم؟) يشمل هذا كله، سواء كان مكاناً يجتمعون فيه، أو كان مكاناً يعملون فيه أي: عمل من أعمال الجاهلية، سواء من الأعمال العادية أو التعبدية؛ يكون عيداً من أعيادهم، فلا يجوز أن يوافقوا على هذا، وفي هذا دليل على أنه يجب مخالفة الكفار في كل أفعالهم وأعيادهم التي يتخذونها سواء كانت عادات أو عبادات، فلابد أن يخالفوا في هذا؛ لأنه مطلوب شرعاً، ولأن النصوص دلت على هذا. فلما ذكر له أنه لم يكن فيها وثن ولا عيد من أعيادهم، قال له: (أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم) يقول العلماء: إنه إذا جاء الحكم مذكوراً بالفاء، مرتباً على وصف سابق، فإنه يكون علة فيه، ويجب أن تتوافر تلك الصفات وإلا لا يكون الحكم ثابتاً، والحكم هنا: الوفاء بالنذر، والصفة التي ذكرت كونه لم يكن فيه وثن ولا عيد، فدل هذا على أنه لو كان فيه وثن أو عيد أنه يكون نذر معصية، ونذر المعصية الوفاء به حرام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله) (لا وفاء) هذا نفي، أي: لا يجوز الوفاء بالنذر في معصية الله. فدل على أن الإنسان إذا خصص مكاناً لأداء النذر فيه، وكان خالياً من هذه الموانع حيث لم يكن محلاً للتعبد في الجاهلية ولو كان سابقاً ولو كان قديماً، ولو كان قد زال وذهب؛ فإن الوفاء بهذا النذر معصية، أو كان فيها عيد كالأسواق التي يترددون إليها للعب والاجتماع وما أشبه ذلك من أعيادهم التي يعتادونها، فإنه لا يجوز الوفاء بهذا.

نذر الطاعة ونذر المعصية

نذر الطاعة ونذر المعصية النذر يكون طاعة ويكون معصية، فالنذر إذا كان طاعة وجب الوفاء به، وقد أثنى الله جل وعلا على الذين يوفون بالنذر كما قال الله جل وعلا: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان:7] اليوم الذي يخافونه هو يوم القيامة، فهو الذي يكون شره مستطيراً يعني: ظاهراً وجلياً، يخافون ذلك اليوم، وهو الوقوف بين يدي الله جل وعلا، فقرن خوفهم الذي يقتضي الإيمان باليوم الآخر بالوفاء بالنذر، فدل على أن الوفاء بالنذر عبادة، والله جل وعلا لا يثني ويمدح إلا على فعل يحبه ويرضاه، فيكون عبادة. فالنذر إذا كان طاعة وقربة يجب الوفاء به، ولا يجوز أن يصرف النذر لغير الله جل وعلا؛ لأن النذر عبادة، وهذا معصية، وإذا كان معصية فلا يجوز الوفاء به، كأن ينذر الإنسان مثلاً أن يشرب خمراً، أو ينذر مثلاً ألا يكلم أخاه، أو ينذر مثلاً ألا يعطي فلاناً حقه أو ما أشبه ذلك، فإن هذا نذر بمعصية لا يجوز الوفاء به، بل يحرم الوفاء به.

حكم من نذر نذر معصية

حكم من نذر نذر معصية اختلف العلماء فيمن نذر نذر معصية هل يلزمه كفارة؟ الصواب أنه يلزمه كفارة يمين لحديث عائشة: (لا وفاء لنذر في معصية الله، وعليه كفارة يمين) والحديث رواه أهل السنن الأربع، وهو حديث صحيح. القول الثاني: واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، أنه لا يلزمه شيء. ولكن الصواب هو ما دل عليه حديث عائشة أنه يلزمه كفارة يمين إذا نذر نذْر معصية، ولا يجوز أن يفي بهذا النذر، وعليه أن يكفر كفارة يمين. وقوله: (فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم) أيضاً إذا نذر الإنسان أن يتقرب بشيء لا يملكه فإنه لا وفاء له بذلك؛ لأنه أيضاً لا يملك ذلك، وهو في الواقع خرج عما هو مأمور به مثل أن يقول: إن شفي مريضي فعليّ أن أتصدق ببيت فلان، أو بمال فلان، أو أن أعتق عبد فلان أو ما أشبه ذلك، فهذا إذا عين المال أنه مملوك لغيره فإنه لا وفاء له بهذا النذر، وهل يلزمه كفارة مثل السابق؟ تلزمه كفارة يمين. وإذا نذر مثلاً في شيء لا يملكه وأطلق، فقال: عليّ أن أتصدق بألف ريال إذا شفي مريضي أو قدم غائبي، أو مثلاً: إن حصل لي كذا وكذا عليّ أن أذبح ناقة، أو أن أتصدق مثلاً بألف ريال، وليس ذلك عنده، فإنه يلزمه ويكون في ذمته، إذا وجد ذلك لزمه أن يفي به، وإن لم يجده يكون ديناً عليه. ولكن هذا لا تلزمه كفارة يمين، وإنما يكون هذا المنذور في ذمته.

مسائل باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله

مسائل باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله [فيه مسائل: الأولى: تفسير قوله: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} [التوبة:108]. الثانية: أن المعصية قد تؤثر في الأرض وكذلك الطاعة. الثالثة: رد المسألة المشكلة إلى المسألة البينة ليزول الإشكال]. قوله رحمه الله: [فيه مسائل] يعني: في الباب الذي سبق مسائل في المعنى المراد من كون المكان الذي يذبح فيه لغير الله لا يجوز الذبح فيه لله جل وعلا، فذكر منها أولاً: تفسير قوله تعالى: (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا)، والمقصود نهي الله جل وعلا لنبيه صلى الله عليه وسلم عن القيام والتعبد لله في المسجد الذي قصد به الإضرار بالمسلمين، وقصد به أن يكون محلاً لمأوى المحاربين لله جل وعلا ولرسوله، فصار ذلك المكان مكان معصية لا يقام فيه للتعبد لله جل وعلا. وقوله: (أَبَدًا) يدل على أن هذا الحكم مستمر في هذه البقعة أبداً، وأخذ من هذا: أن المعصية تؤثر في الأماكن كما أن الطاعة تؤثر في الأماكن، ومن ذلك كون المساجد أحب بقاع الأرض إلى الله جل وعلا لتأثير الطاعة فيه. ومنه كون البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة وآل عمران يفر منه الشيطان، ولا يدخله أبداً، وما أشبه ذلك كثير، هذا من تأثير الطاعة في المكان. وأما كون المسألة المشكلة ترد إلى المسألة الواضحة، أو أن المسألة التي فيها إجمال ترد إلى المسألة التي يكون فيها التفصيل فهذا أخذ من قوله صلى الله عليه وسلم: (هل كان فيه وثن من أوثان الجاهلية؟ هل كان فيه عيد من أعيادهم؟) فلما أخبر أنه ليس فيه شيء من ذلك، أخبره بالحكم، وهو أنه يجب الوفاء بهذا النذر. والمسألة المجملة هي قوله: (إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة)، فهذا شيء مجمل، يحتمل أن تكون في بوانة وثن، ويحتمل أن يكون فيها عيد من أعياد الجاهلية فجاء التفصيل. والمقصود بهذا أن المفتي يجب عليه أن يستفصل من المستفتي في كلامه؛ لأنه قد يكون هناك تفصيل، والحكم يختلف باختلاف الإجمال والتفصيل. [الرابعة: استفصال المفتي إذا احتاج إلى ذلك. الخامسة: أن تخصيص البقعة بالنذر لا بأس به إذا خلا من الموانع]. يعني: كون المكان يخصص بأن يذبح فيه لله جل وعلا كذا وكذا؛ جائز إذا لم يكن هناك مانع من الموانع التي فهمناها من هذا الحديث، وهكذا الصلاة، والاعتكاف، والصوم، وما أشبه ذلك له هذا الحكم إلا أنه لو نذر أن يعتكف في مسجد من المساجد غير المساجد الثلاثة فإنه لا يتعين، بل يعتكف في أي مسجد من المساجد؛ لأنه إذا كان هذا يتطلب سفراً فإن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم دل على المنع، وهو الحديث المتفق عليه: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) يعني: لا تشد الرحال لأداء العبادة (إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، ومسجد الحرام، ومسجد الأقصى) ولهذا لما سئل الإمام مالك رحمه الله عن رجل نذر أن يأتي مسجد قباء، فقال: يأتي مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ويكفي، فسئل عن رجل نذر أن يأتي المدينة، فقال: إن كان أراد الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يلزمه ذلك وإلا لا يجوز لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد). فالمقصود أن تخصيص البقعة بالنذر إذا كانت خالية من الموانع فلا بأس بها، وذلك جائز. [المسألة السادسة: المنع منه إذا كان فيه وثن من أوثان الجاهلية ولو بعد زواله. المسألة السابعة: المنع منه إذا كان فيه عيد من أعيادهم ولو بعد زواله]. العيد قد مر أنه اسم لزمن يعود ويتكرر، ويكون اسماً للمكان، ويكون اسماً للعمل، كالأعمال التي تفعل في وقت معين، والأعياد في هذه الأزمان -أعياد الجاهلية- كثيرة جداً، أصبح لكل مناسبة عيداً، وسواء سموه عيد الشجرة أو عيد المعلم، أو غير ذلك، كلها أعياد جاهلية؛ لأن الإسلام ليس فيه إلا عيدان: عيد الفطر وعيد الأضحى، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله أبدلكم بأعياد الجاهلية عيدين في الإسلام: الفطر والأضحى) فالمسلمون ليس لهم إلا هذين العيدين. والذي يشارك في الأعياد الأخرى هو يشارك في أفعال الجاهلية مخالفاً أمر الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فيكون بذلك آثماً. لا بأس بكون الناس يهتمون بأمر الزراعة أو يهتمون بأمر الصحة، أو يهتمون بأمور دينهم وديناهم، ولكن لا يجعل يوماً معيناً يسمى عيداً، وإنما هذا الشيء النافع يكون الاهتمام به مطلقاً؛ لأن الشيء الذي يهم المسلمين في أمر دينهم أو دنياهم أمر مطلوب منهم شرعاً، ولا يكون مخصصاً في وقت من الأوقات؛ لأن تخصيصه في وقت من الأوقات أو يوم من الأيام اتباع لأعداء الإسلام، فيكون فيه مشابهة، فيكون ممنوعاً من هذا الباب ومن هذه الناحية، فهو ممنوع من باب المشابهة، أي: مشابهة الكفار. ومعلوم أن الإنسان إذا رأى من يوافقه في عمل من الأعمال أو في لباس وهيئة فإنه يحب الميل إليه، ويجد شيئاً من المودة له، وهذا شيء جبلت عليه النفوس، ومن هنا جاء الشرع بالنهي عن التشبه بالكفار، قال صلى الله عليه وسلم: (من تشبه بقوم فهو منهم). [المسألة الثامنة: أنه لا يجوز الوفاء بما نذر في تلك البقعة؛ لأنه نذر معصية]. هذا إذا كان فيها وثن أو كان فيها عيد، فيصبح نذر معصية، ودل هذا على أن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به، بل يحرم أن يفي الإنسان بنذر المعصية، إذا نذر مثلاً: أن يشرب الخمر، حرام عليه أن يفي بنذره أو نذر ألا يصلي حرام عليه أن يفي بنذره، لا وفاء بنذر في معصية الله جل وعلا. [المسألة التاسعة: الحذر من مشابهة المشركين في أعيادهم ولو لم يقصده]. يعني: لو لم يقصد المشابهة ولو في الصورة فإنه ممنوع للمسلم أن يكون مشابهاً للكافر ولو في مجرد صورة العمل والفعل من غير أن يقصد موافقتهم في ذلك؛ لأن قوله: (من تشبه بقوم فهو منهم) عام؛ ولأن نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن التشبه بالكفار مطلق، حتى جاء النهي في العبادة، لما قيل له صلى الله عليه وسلم: (إن اليهود يصومون يوم عاشوراء، قال: لئن عشت إلى السنة القابلة لأصومن التاسع) يعني: مخالفة لهم، ومخالفتهم مطلوبة. [المسألة العاشرة: لا نذر في معصية]. يعني: أن النذر في المعصية محرم لا يجوز، وكذلك الوفاء به. [المسألة الحادية عشرة: لا نذر لابن آدم فيما لا يملك]. وذلك كونه ينذر شيئاً لا يملكه، كأن ينذر مثلاً أن يتصدق بمال فلان، أو بعبد فلان، أو بسيارة فلان أو ما أشبه ذلك، فهذا لا يجوز الوفاء به، وهل يلزمه بذلك كفارة؟ فيه خلاف بين العلماء، منهم من يقول: يلزمه كفارة يمين كنذر المعصية، وقد جاء الحديث في هذا، ومنهم من يقول: لا يلزمه شيء لقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (لا نذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم) ولم يذكر كفارة. ولكن من المعلوم أنه إذا جاء حديث آخر يثبت حكماً زائداً على الحديث الذي قبله أو الحديث المروي أنه لا يكون هناك معارضة فيؤخذ بالحكم الزائد، ويبقى العمل بالجميع.

شرح فتح المجيد [44]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [44] النذر عبادة من العبادات التي لا يجوز صرفها إلا لله تعالى، ومن نذر لغير الله من ولي أو نبي أو قبر فقد أشرك بالله، وهو مخلد في النار إن لم يتب قبل موته. والنذر أنواع منها ما هو مشروع، ومنها ما هو غير مشروع، وكفارة النذر كفارة يمين.

النذر لغير الله وأحكامه

النذر لغير الله وأحكامه [باب: من الشرك النذر لغير الله] بعد أن ذكر في الباب الذي قبله أنه لا يجوز الوفاء بنذر لله جل وعلا إذا خصص له مكاناً كان يعبد فيه غير الله، أو كان فيه من طقوس الجاهلية وأوضاعهم التي كانوا يتعارفون عليها، أراد هنا أن يبين أن النذر يكون عبادة، وأن العبادة إذا صرفت لغير الله جل وعلا يكون ذلك من الشرك بالله. وسبق أن الشرك بالله ينقسم إلى قسمين: شرك أكبر يخرج من الدين الإسلامي، وإذا مات عليه الإنسان يكون من أهل النار خالداً فيها، وإن كان يصوم ويصلي ويحج، لأن الله جل وعلا يقول: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:72]، فأخبر جل وعلا أن الجنة حرام على المشرك بالله، وكذلك جاء في الآيات الأخرى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] فجعل مشيئة المغفرة لمن لم يشرك بالله، أما المشرك فقطع الأمر فيه قطعاً أن الله لا يغفر له. وهذا هو أعظم الذنوب، وهو الذي جاءت الرسل تحذر منه وتخوف العباد بالنار لمن فعله، وكل رسول يأتي إلى قومه يبدأ دعوتهم بالنذارة من الشرك، ويقول: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] فالأمر بعبادة الله نهي عن عبادة غيره، والعبادة سبق أنها تشمل كل ما أمر الله جل وعلا به ورضيه، وأحبه، أو أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، وكذلك ترك كل ما نهى عنه وأبغضه. فأراد أن يبين أن النذور التي تقع من كثير من الناس في بلاد المسلمين أنها من الشرك، مثل النذور التي تقدم إلى أصحاب القبور والتي توضع عند الأضرحة، ويقال: إن هذه للولي الفلاني، وللأسف إلى الآن يستمرون على هذا الشرك في كثير من بلاد المسلمين حتى شابه الناس في بعض البلاد المشركين الأوائل الذين أخبر الله جل وعلا عنهم أنهم: {َجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ} [الأنعام:136] يعني: أنهم يجعلون من حروثهم، ومن أنعامهم نصيباً للشركاء، فما أطارت الريح من الزرع والسنابل أو غيرها إلى نصيب الأصنام والأوثان تركوه وقالوا: الله غني وهذه فقيرة. وأما إذا كان العكس ردوه، فإذا أطارت الريح شيئاً من نصيب الأصنام إلى ما هو مجعول لله ردوه، قالوا: الأصنام فقيرة والله غني عنه. وهؤلاء وللأسف الآن يجعلون من زروعهم نصيباً للبدوي أو غيره، بل يجعلون من أولادهم نصيباً له، فإذا تزوجت البنت مثلاً جاء بشيء من صداقها ووضعه في صندوق البدوي وقال: هذا نصيبك يا سيد بدوي! ونحو ذلك. ويجعلون له في السنة ثلاثة موالد يجتمع فيها من الخلق ما الله به عليم، ويحصل من الفساد والاختلاط والشرك بالله جل وعلا ما هو مشاهد، ولا ينكره منكر، وكذلك غيره في بلاد كثيرة، حتى أصبح كثير من الناس لا يعرف إلا السادة، فإذا ضاقت به الضوائق، وحدثت به الحوادث اتجه إلى رفات مقبور تحت التراب، يدعوه ويتضرع إليه يقول: يا سيد فلان أنقذني! وينسى رب العالمين. هذا ما كان شرك المشركين -شرك أبي جهل وأضرابه- يصل إليه، فشركهم أقل من هذا الشرك؛ لأنهم كانوا إذا حدثت لهم الضوائق والكربات اتجهوا إلى رب العالمين، ونسوا ما كانوا يشركون به، وإذا مسهم الضر دعوا الله مخلصين له الدين، ولكن إذا جاءت العافية، وذهبت الكربات عادوا إلى شركهم، فهذا أقل شركاً من شرك هؤلاء الذين يزعمون أنهم مسلمون. ومن المؤسف أن العلماء يشاهدونهم ويرونهم في شركهم، وربما شارك بعضهم الناس في الشرك أو يسكت عنهم، والساكت عن الباطل كفاعله، وكل هذا من تقصير المسلمين بعضهم مع بعض. فهم قصروا في طلب العلم، قصروا في معرفة الله، وقصروا فيما أوجب الله جل وعلا عليهم، مع أن هذا لا يعذر فيه إنسان مهما كان، لا يعذر إنسان في كونه يتجه إلى مقبور يسأله ويتضرع إليه، يقول: أنا جاهل أحتاج إلى تعليم، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان التوحيد أصل دعوته، والمسلم يجب أن يعرف ما الذي دعا إليه رسول الله، وإلا كيف يكون مسلماً وهو لا يعرف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.

أصول الإسلام المتفق عليها

أصول الإسلام المتفق عليها ولهذا اتفق العلماء على أن الإسلام مبني على أصول ثلاثة، وأن الذي لا يعرف هذه الأصول الثلاثة ليس مسلماً.

معرفة العبد لربه سبحانه وتعالى

معرفة العبد لربه سبحانه وتعالى الأصل الأول: أن يعرف يقيناً أن الله هو المعبود وحده، لأن الدلائل على هذا واضحة وشاهدة في نفسه وفيما حوله من المخلوقات من السماء والأرض والنبات والجبال، والليل والنهار، والشمس والقمر، والنجوم وغير ذلك، كلها تشهد على أن الله هو الخالق، وإذا كان الله هو الخالق المدبر فيجب أن يكون هو المعبود وحده، وهذا لا يحتاج إلى أفكار وفلسفات، بل يدركه من صرف نظره إلى ذلك.

معرفة العبد لدينه

معرفة العبد لدينه الأصل الثاني: أن يعرف أن الدين الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو عبادة الله وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والحج، فيعرفه عن يقين ومعرفة في القلب ليس عن عادة وجد عليها الناس، فإنه لو وجدهم على خلاف ذلك لفعل الشيء الذي يجدهم عليه.

معرفة العبد لنبيه

معرفة العبد لنبيه الأصل الثالث: معرفة من جاء بالدين، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس معنى معرفته أن يقول: هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم إلى آخر نسبه. بل معرفته صلى الله عليه وسلم أن يعرف حقاً بأنه رسول فيعرفه بحالته وبآياته التي دلت على صدقه صلوات الله وسلامه عليه، بحيث لا يرتاب بأنه رسول من الرسل. وهذه الأصول الثلاثة التي بني عليها الدين هي التي يسأل عنها الميت في قبره، كل ميت إذا وضع في قبره يأتيه ملكان فيسألانه عن هذه الأمور الثلاثة، فدل هذا على أن الإنسان لا يعذر بالجهل في ذلك، فليس هؤلاء الذين يعملون هذه الأعمال الشركية معذورين في أفعالهم كما يقوله من يقوله، لأن هذا أمر ظاهر وواضح، وقد قال الله جل وعلا: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف:172 - 173] فإن هذا الميثاق أخذه الله جل وعلا على بني آدم كلهم، وهم في صلب أبيهم، استخرجهم كأمثال الذر، ثم استشهدهم فشهدوا أن الله ربهم، أي: معبودهم الذي لا يجوز أن يعبد غيره، ثم فطرهم على هذا، وصار الإنسان منهم يولد على الفطرة، وهي: الميل إلى عبادة الله وحده، مثل كونه يميل ويطلب ثدي أمه بدون أن يعلمه معلم. كذلك دين الله! وإنما تتغير هذه الفطرة بالتعليم والتربية، إذا علم وربي على خلاف ذلك، ظهر عليه.

أسباب الشرك في النذر

أسباب الشرك في النذر ولهذا كان الشرك من الأمور الظاهرة الجلية التي لا تحتاج إلى إقامة براهين، ولا تحتاج إلى أدلة دقيقة يعرفها العلماء، بل هو أمر ظاهر جلي فلا يعذر إنسان فيه بجهل. ومعلوم أن الإنسان إذا سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم وجب عليه أن يتعرف على ما جاء به، كما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: (والله لا يسمع بي أحمر أو أبيض ثم لا يؤمن بي إلا أقحمه الله النار) وجعل الأمر يتعلق بمجرد السماع، وفي القرآن: {لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19] أي: من بلغه القرآن فقد تمت نذارته، وليس البلاغ هو الفهم، وإنما البلاغ أن يسمع بالكلام فقط، فإذا سمع به فقد بلغه؛ فعليه بعد ذلك أن يتفقه.

نذر الأموال للمقبورين في تحصيل مرغوب أو دفع مرهوب

نذر الأموال للمقبورين في تحصيل مرغوب أو دفع مرهوب أراد المؤلف رحمه الله أن يبين أن هذه الأمور التي تقع لكثير من الناس أنها من الشرك الأكبر الذي ينافي التوحيد نهائياً، كونهم ينذرون أموالهم للمقبورين ليتقربوا بذلك إليهم إما في تحصيل مرغوب، أو في دفع مرهوب، إذا فعلوا ذلك فقد أشركوا؛ لأن في ظنهم أن هذا الميت يتصرف، وأنه يستطيع أن ينفع ويدفع، مع أن الأمر الضروري الذي عرفه من وقاه الله جل وعلا شر الانحراف وشر الشرك أن الميت لا ينفع ولا يتصرف، بل هو مرتهن بعمله، لا يستطيع أن يستزيد حسنة واحدة، ولا أن يحط من سيئاته سيئة واحدة، وهو كذلك لا يملك شيئاً؛ لأنه ميت، فالحي أقدر منه على التصرف، وأقدر منه على النفع والضر.

جعلهم الأمور الغيبية الخاصة بالله لغيره

جعلهم الأمور الغيبية الخاصة بالله لغيره الأمر الثاني: أنهم جعلوا الأمور الغيبية التي هي محض حق الله لهذا المخلوق المسكين الذي لا يستطيع أن يدفع عن نفسه الدود الذي يأكل لحمه، فهذا من الشرك الذي يجعل الإنسان إذا مات عليه من المشركين. فهو أراد أن يبين هذا الشيء بالنذر فأثبت أولاً أن النذر عبادة في ذكر الآيات كقوله جل وعلا: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان:7] الآية تدل على الثناء على هؤلاء؛ لأنه لما ذكر أن: {الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان:5 - 6] يعني: هذه التي تمزج للأبرار تخلط لهم خلطاً يشربها أولئك الأبرار خالصة ليس فيها كدر. ثم ذكر الثناء عليهم، فقال: (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) يعني: كان هذا عملهم في الدنيا، {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الإنسان:7 - 8] إلى آخره. والله جل وعلا لا يثني على أحد إلا على فعل الواجب أو المستحب، أو ترك المحرم والمكروه، ولا يثني على أحد بكثرة أكله أو كثرة نومه أو ما أشبه ذلك، فالشيء الذي ليس عبادة لا يثني الله جل وعلا على الإنسان به، وإنما يثني عليه بما هو عبادة. وكذلك قوله في الآية الأخرى: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [البقرة:270] ومعنى قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} في ضمنه الجزاء أي: أنه في علم الله مدخر لكم، وسوف يجازيكم عليه. وكذلك قوله جل وعلا: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج:29] أمر بالوفاء بالنذر، والله لا يأمر بشيء مباح، وفي الحديث المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير القرون قرني الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يأتي قوم ينذرون ولا يوفون) فهذا من القدح فيهم، (ينذرون ولا يوفون، ويشهدون ولا يستشهدون، ويظهر فيهم السمن) يعني: أنهم يرغبون في الدنيا أكثر، فيظهر السمن فيهم؛ لكثرة المشتهيات وكثرة المأكولات، ونحو ذلك. المقصود أنه بيّن أن من أوصافهم التي يذمون عليها أنهم لا يوفون بالنذر؛ فدل على أن النذر عبادة، وأن الوفاء به مطلوب، فإذا كان الوفاء به مطلوباً فهو عبادة، فإذا تبين أنه عبادة فصرفه لغير الله جل وعلا يكون شركاً بالاتفاق، فصرف العبادة التي أوجب الله جل وعلا فعلها وأثنى على فاعلها لغيره يكون شركاً، هذا أمر متفق عليه، وهذا هو وجه الاستدلال بالآيات.

النذر الذي يكون محرما وشركا

النذر الذي يكون محرماً وشركاً قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: من الشرك النذر لغير الله تعالى]. قال الشارح: [أي: لكونه عبادة يجب الوفاء به إذا نذره لله، فيكون النذر لغير الله تعالى شركاً في العبادة. وقول الله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان:7] الآية دلت على وجوب الوفاء بالنذر، ومدح من فعل ذلك طاعة لله، ووفاءً بما تقرب به إليه. وقوله: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [البقرة:270]. قال ابن كثير: يخبر تعالى أنه عالم بجميع ما يعمله العاملون من الخيرات، من النفقات والمنذورات، وتضمن ذلك مجازاته على ذلك أوفر الجزاء للعاملين به ابتغاء وجهه. إذا علمت ذلك: فهذه النذور الواقعة من عباد القبور، تقرباً بها إليهم ليقضوا لهم حوائجهم، أو ليشفعوا لهم، كل ذلك شرك في العبادة بلا ريب، كما قال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام:136]]. معنى: {فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ}: أنهم إذا جمعوا هذا النصيب من الحرث -الزرع- أو من التمر أو من غير ذلك، ثم حصل أنه اختلط ما جعلوه لله مع ما هو لشركائهم فإنهم يتركونه لشركائهم، ويقولون: الله غني، وإن قدر أن ما لشركائهم ذهب منه شيء لما جعلوه لله فإنهم يردونه ويقولون: الشركاء يحتاجون والله جل وعلا غني عنه. هذا كله في زعمهم الكاذب، وإلا فالله ليس له شركاء تعالى وتقدس، وكل شيء ملك لله جل وعلا، ولكنها أوضاع وجدوا عليها آباءهم، فقلدوا آباءهم فجعلوها ديناً وهو شرك بالله، حتى في الربوبية وفي الأمور الظاهرة أشركوا مع الله جل وعلا غيره، وهؤلاء شابهوا أولئك وزادوا عليهم ما أربى على شرك المشركين القدامى بكثير. قال الشارح: [قال شيخ الإسلام: وأما ما نذر لغير الله كالنذر للأصنام والشمس والقمر والقبور ونحو ذلك، فهو بمنزلة أن يحلف بغير الله من المخلوقات، والحالف بالمخلوقات لا وفاء عليه ولا كفارة، وكذلك الناذر للمخلوقات، فإن كلاهما شرك، والشرك ليس له حرمة، بل عليه أن يستغفر الله من هذا، ويقول ما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله). وقال فيمن نذر للقبور أو نحوها دهناً لتنور به -ويقول: إنها تقبل النذر كما يقوله بعض الضالين- وهذا النذر معصية باتفاق المسلمين لا يجوز الوفاء به] الدهن: المقصود به الإسراج عليها بالليل، وهذه أمور بدائية كما هو معروف، يسرجون على القبور بالدهن والزيت فينذرون شيئاً للإيقاد، فينور القبر مثلما تنور المساجد، وهذا محادة لله جل وعلا، أما الآن فأصبحت مصابيح الكهرباء بدلاً عن ذلك، كما هو مشاهد الآن. [وكذلك إذا نذر مالاً للسدنة أو المجاورين العاكفين بتلك البقعة، فإن فيهم شبهاً من السدنة التي كانت عند اللات والعزى ومناة، يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله. والمجاورون هناك فيهم شبه من الذين قال فيهم الخليل عليه السلام: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء:52]]. الواقع أن المجاورين لها شياطين يريدون أكل أموال الناس، ووجدوا ناساً شبه بهائم إذا رأوا أن سوقهم قد كسد أوجدوا من الموالد الشيء المعروف، ولهذا يجعلون في السنة ثلاثة موالد، إنسان ولد في السنة ثلاث مرات، ثلاث موالد يجعلونها في السنة حتى تكثر النذور والعطايا التي تأتي من هؤلاء، وهم الذين يسحبون ما في هذه الصناديق، فالميت الرفات ما له علم بذلك، ولا يدري ماذا يجري عنده، قاصر عن هذا كما قال الله جل وعلا: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:5 - 6] لا يدرون إلا حين يحشرون، وإذا حشروا وسئلوا قيل لهم: أنتم عبدكم الناس في كذا وكذا، فهناك يتبرءون ويكفرون بعبادتهم. أما الآن فلا يشعرون بالشيء الذي يفعلونه، وإنما هؤلاء الشياطين السدنة هم الذين يوجدون هذه الأمور حتى تدر عليهم الأرزاق، فيأكلون منها ويكونون لهم تجارات ثم يوجدون الأمور والحكايات التي تكثر لهم الأموال في هذا السبيل، وربما ابتلي الإنسان بشياطين تتسلط عليه وتثبت هذا الشرك في قلبه كما هو معروف، وكثيراً ما تحدث الأحوال الشيطانية عند القبور، فإنها تكون حاضرة تدعو إلى هذا وتزينه. وربما يدعو الإنسان بدعاء فيبتلى فيستجاب، فيظن أن الميت هو الذي أجابه إلى ذلك؛ لأن الله جعل له عهداً؛ أنه إذا سأل شيئاً أعطيه، هكذا يقولون. ثم ينزلون بهم حاجاتهم وفقرهم، ويسألونهم الرزق والأولاد إذا لم يكن لهم أولاد، ويسألونهم كذلك الشفاعة في الآخرة، وكل هذا ضلال، الله ما جعل بينه وبين عباده وسائط، بل الله جل وعلا أينما دعوته في أي مكان وفي أي وقت، فهو قريب منك؛ قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي} [البقرة:186] هذا شيء. الشيء الثاني: إن الله علام الغيوب، ومطلع على كل شيء، لا يخفى عليه شيء، ولا يفوته شيء من الكلام، فليس بحاجة إلى من يوكل إليه حاجات العباد، فهذا من التشبيه الذي يكون شركاً بالله جل وعلا، وكونهم يقولون: هذا وسيلة نسأله، ثم هو يسأل لنا الله، يكون ذلك أقرب إلى الإجابة، وهذا هو أصل شرك المشركين. على كل حال: مثل هذه الشبه لا تنطلي على المسلم، فإنها شبه شركية قديمة، جاء القرآن بإبطالها، والرسل أبطلتها وبينت بطلانها، والعقل كذلك يدل على بطلانها.

ابتلاء الله للعباد الناذرين لغيره

ابتلاء الله للعباد الناذرين لغيره قال الشارح: [والمجاورون هناك فيهم شبه من الذين قال فيهم الخليل عليه السلام: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء:52] والذين اجتاز بهم موسى عليه السلام وقومه، قال تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} [الأعراف:138] فالنذر لأولئك السدنة والمجاورين في هذه البقاع نذر معصية، وفيه شبه من النذر لسدنة الصلبان والمجاورين عندها، أو لسدنة الأبداد التي في الهند والمجاورين عندها. وقال الأذرعي في شرح المنهاج: وأما النذر للمشاهد التي على قبر ولي أو شيخ أو على اسم من حلها من الأولياء، أو تردد في تلك البقعة من الأولياء والصالحين، فإن قصد الناذر بذلك -وهو الغالب أو الواقع من قصود العامة- تعظيم البقعة والمشهد، أو الزاوية، أو تعظيم من دفن بها أو نسبت إليه، أو بنيت على اسمه، فهذا النذر باطل غير منعقد، فإن معتقدهم أن لهذه الأماكن خصوصيات، ويرون أنها مما يدفع بها البلاء، ويستجلب بها النعماء، ويستشفى بالنذر لها من الأدواء، حتى إنهم ينذرون لبعض الأحجار لما قيل لهم: إنه استند إليها عبد صالح، وينذرون لبعض القبور السرج والشموع والزيت، ويقولون: القبر الفلاني أو المكان الفلاني يقبل النذر]. يقبل النذر يعني: أنه يحصل لهم ما أرادوا إذا نذروا، إذا مرض الإنسان فنذروا له يشفى، وإذا غاب إنسان فنذروا أن يأتي هذا الغائب جاء وما أشبه ذلك، هذا معنى (يقبل النذر)، يعني: أنه يقبل العبادة ويتصرف فيغيثهم ويعطيهم ما طلبوا، ويمنعهم مما رهبوا وخافوا، يعني: أنه يتصرف مع الله، فهذا الحجر يفعل شيئاً من ذلك، وهذا كان كثيراً جداً في نجد قبل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، فقد كانت هناك حجارة وأشجار ونيران وكثيراً ما ينذر لها، كان بين الدرعية والعيينة غار يسمونه غار بنت الأمير، يقصدونه من كل جانب وينذرون له، ويتقربون إليه، والسبب فيه أنهم يقولون: إن بنت أمير من الأمراء سارت في هذه الطريق، فأتاها فجار يريدون نفسها، فلجأت في هذا الغار فحماها الغار، وكلها ترهات وحكايات يحكيها شيطان من الشياطين. وفي العيينة نفسها كان هناك نخلة من النخل، وكانت المرأة إذا تأخر الزواج عنها جاءت إليه وسمت وقالت: يا فحل الفحول! أريد زوجاً قبل الحول، وإذا تأخرت الولادة أو لم يأتها ولد جاءت إليه وقالت: يا فحل الفحول! أريد ولداً قبل الحول، وهكذا! شجر وحجارة وقبور ونيران، وأشخاص يمشون على وجه الأرض، يقولون إنهم سادة، ينذرون لهم ويعبدونهم، يعني: أن شرك الجاهلية القديمة عاد إليهم، بل أكثر من ذلك. ولكن الله طهر ذلك كله بسبب دعوة هذا الرجل جزاه الله خيراً، فإنه جاء بنور النبوة، ولهذا يقول بعض العلماء: دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب هي أثر رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال: (رأيت مهاجرة بلاد ذات نخل، فظننت أنها اليمامة، فإذا هي يثرب) وقال: قوله: (وظننت أنها اليمامة) من أثر قوله هذا ظهور هذا الرجل في هذه البلاد، وقيامه بالدعوة التي قام بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقريباً منها هو أثر هذه الرؤية. وعلى كل حال: لا تزال هذه الدعوة -والحمد لله- آثارها باقية وقائمة، وقد تأثر بها كثير من المسلمين في الشرق والغرب والشمال وسائر البلاد.

أنواع النذر وأحكامه

أنواع النذر وأحكامه قال الشارح: [ويقولون: القبر الفلاني، أو المكان الفلاني يقبل النذر، يعنون بذلك: أنه يحصل به الغرض المأمول من شفاء مريض، أو قدوم غائب وسلامة مال، وغير ذلك من أنواع نذر المجازاة، فهذا النذر على هذا الوجه باطل لا شك فيه، بل نذر الزيت والشمع ونحوهما للقبور باطل مطلقاً].

نذر المجازاة

نذر المجازاة النذر أنواع منه: نذر مجازاة، وهو أن يعلق النذر على شيء يحصل له، فإذا قال: إن جاء فلان الغائب فقد نذرت لله عليّ كذا، أو إن شفي مريضي فلله عليّ كذا، فهذا يسمى نذر مجازاة؛ لأنه علقه على حصول شيء، كأنه شرْط شرطه، فإذا وجد الشرط الذي فرض وجب عليه الوفاء به إذا كان نذر طاعة. أما إذا كان نذر معصية فلا يجوز الوفاء به مطلقاً.

نذر التبرر

نذر التبرر وقد يكون نذر تبرر يعني: تقرب وطاعة، كأن يقول مثلاً: لله عليّ صوم، لله عليّ حج، لله عليّ اعتكاف، فهذا أيضاً يجب الوفاء به مطلقاً، وإذا لم يستطع ذلك بقي في ذمته. والنذر الذي جاء النهي عنه هو نذر الجزاء، أما نذر الطاعة فالله جل وعلا أمر بالطاعة مطلقاً، إذا نذر الإنسان أن يفعل طاعة وجب أن يفعلها، وليس الأمر كما قال بعض العلماء: إن الطاعة إذا لم يكن لها أصل واجب في الشرع فإنه لا يجوز النذر فيها كقول الإمام أبي حنيفة رحمه الله، فإن الحديث يدل على خلاف هذا، ومعنى ذلك أنه يقول: إذا نذر الإنسان أن يعتكف فإن هذا ليس له في الشرع أصل ثابت يجب؛ لأن الاعتكاف ليس واجباً، وإنما هو مندوب إليه، وكذلك غيره من الطاعات التي ليست واجبة في أصل الشرع، بخلاف الصلاة والصوم والحج والصدقة، فإنها في أصل الشرع واجبة. ولكن إذا كان طاعة فكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من نذر أن يطيع الله فليطعه) هذا مطلق، ولم يأت التفصيل فيه بأنه لابد أن يكون أصله واجباً، أو ليس أصله واجباً، بل هو حديث مطلق دل على وجوب الوفاء بالنذر إذا كان طاعة مطلقاً، وهذا هو الصواب من أقوال العلماء.

النذر المكروه والمباح

النذر المكروه والمباح قد يكون النذر مكروهاً: كأن ينذر مثلاً أن يطلق زوجته، فمثل هذا ينبغي له أن يكفر كفارة يمين ولا يفعل، أو ينذر مثلاً أن يذهب إلى المكان الفلاني وليس له فيه غرض معين، وليس له فيه أيضاً معصية، فمثل هذا يكون مباحاً، وإذا ذهب إليه فهو مخير بين أن يذهب إلى المكان وبين أن يكفر. والكفارة تكون كفارة يمين: إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، هذه الأمور الثلاثة الإنسان مخير فيها، فإن لم يجد ينتقل إلى الصيام، وكثير من الناس يبدأ بالصيام أولاً وهو يستطيع أن يطعم، فهذا لا يجزئه الصيام وهو يستطيع الإطعام؛ لأن الله جل وعلا رتب الصوم على عدم الاستطاعة في الإطعام أو الكسوة أو عتق الرقبة.

النذر المحرم

النذر المحرم كذلك من النذر ما هو محرم، مثل إذا نذر أن يضرب فلاناً بلا سبب، أو نذر أن لا يصلي أو نذر أن يشرب خمراً أو ما أشبه ذلك، فإن هذا نذر معصية لا يجوز الوفاء به. واختلف العلماء هل تلزم الناذر الكفارة؟ فمن العلماء من يقول: لا يلزمه شيء، ولا يجوز أن يفي به، ومنهم من قال: يلزمه كفارة يمين؛ لأنه جاء في الحديث الذي في رواية الطحاوي: (وعليه كفارة يمين) وابن القطان يقول: أنا في شك من هذه الزيادة، هل هي ثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم أم لا. ولكن جاء في حديث آخر رواه أهل السنن أن من نذر أن يعصي الله فلا يعصه، وعليه كفارة يمين.

النذر المستحب

النذر المستحب وكذلك النذر قد يكون مثلاً مستحباً، وهذا في الأمور المستحبة، فالمقصود أن النذر تجري فيه الأحكام الخمسة، فيكون واجباً، ويكون محرماً، ويكون مستحباً، ويكون مكروهاً، ويكون مباحاً يستوي فعله وتركه، ونذر المجازاة هو الذي جاء النهي عنه، وأنه لا يأتي بخير، أما نذر الطاعة فلا يقال: إنه ينهى عنه، نذر الطاعة مطلوب ومأمور به، وإنما النذر المنهي عنه نذر الجزاء وذلك إذا رتب عليه حصول شيء، فإنه قد يوقع الإنسان في حرج، فالأمر كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم (النذر لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل) فهو لا يقدم حياة أحد ولا يؤخر موته، فإنه إنما يستخرج به من البخيل. وقد يقع الإنسان في حرج كأن ينذر ثم لا يستطيع أن يفي بنذره، فيبقى آثماً في ذلك، قد ينذر مثلاً أن ينفق كذا وكذا أو ينحر كذا وكذا، ثم إذا حصل له ما علق النذر عليه يتساهل بذلك ويفعله، فيكون آثماً، هذا هو معنى النهي عن نذر الجزاء. [ومن ذلك: نذر الشموع الكثيرة العظيمة وغيرها لقبر الخليل عليه السلام، ولقبر غيره من الأنبياء والأولياء]. وهذه أمور وهمية، وإلا فالخليل له آلاف السنين، فلا يدرى أين قبره، مثل البلد التي يسمى الآن الخليل يعبد فيها القبر، ويتقرب إليه ويقولون: هذا قبر إبراهيم خليل الرحمن، كلها أمور وهمية ليس عليها من دليل.

حرمة نذر المعصية بالاتفاق

حرمة نذر المعصية بالاتفاق قال الشارح: [قوله: (في الصحيح) أي: في صحيح البخاري. قوله: (عن عائشة) هي أم المؤمنين، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وابنة الصديق رضي الله عنهما، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وهي ابنة سبع سنين، ودخل بها وهي ابنة تسع، وهي أفقه النساء مطلقاً، وأفضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إلا خديجة ففيها خلاف. ماتت سنة سبع وخمسين على الصحيح رضي الله عنها. قوله: (من نذر أن يطيع الله فليطعه)، أي: فليفعل ما نذره من طاعة الله، وقد أجمع العلماء على أن من نذر طاعة لشرط يرجوه، كإن شفى الله مريضي فعلي أن أتصدق بكذا ونحو ذلك، وجب عليه إن حصل على ما علق نذره على حصوله. وحكي عن أبي حنيفة: أنه لا يلزم الوفاء إلا بما جنسه واجب بأصل الشرع كالصوم، وأما ما ليس كذلك كالاعتكاف فلا يجب عليه الوفاء به. قوله: (ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه) زاد الطحاوي: (وليكفر عن يمينه)، وقد أجمع العلماء على أنه لا يجوز الوفاء بنذر المعصية]. قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه) الطاعة: هي كل أمر أحبه الله جل وعلا وأمر به، يعني: شرعه على ألسنة رسله صلوات الله وسلامه عليهم، وقد تكون الطاعة غير واجبة على الإنسان. والنذر: هو إلزام الإنسان نفسه شيئاً غير لازم شرعاً، وسبق أن النذر منهي عنه في الأصل، وأنه لا يغير من قدر الله شيئاً، وإنما قد يستخرج به من البخيل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. وقد يوقع النذر الإنسان في أمر غير محمود عقباه؛ كأن يلزم نفسه -مثلاً- بنذر لله جل وعلا على حصول شيء يتوقعه، فإذا حصل تراخى وتساهل، ثم لم يوف بذلك؛ فيقع في الإثم؛ لأنه إذا نذر طاعة وجب الوفاء مطلقاً، إلا إذا نذر شيئاً لا يملكه، كأن جعل النذر بأن يعتق أو يتصدق بمال فلان، فهذا مر الحديث أنه لا نذر لابن آدم فيما لا يملك، ولكن هذا كما قال العلماء: يلزمه كفارة، والكفارة هي كفارة يمين. ففي هذا الحديث وجوب الوفاء بالنذر إذا كان طاعة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (فليطعه) والأمر إذا جاء من الرسول صلى الله عليه وسلم حمل على الوجوب إلا أن يصرفه صارف، ولم يأت في هذا، فإذاً الوفاء بالنذر الذي هو طاعة واجب. وأما قوله في الشطر الآخر: (ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه) فهذا يدلنا على أن الإنسان لو نذر نذر معصية أنه يحرم عليه أن يفي بنذره، فلا يجوز له أن يفي بنذره، فهذا مثال للنذر الذي يحرم الوفاء به، وهو مثل أن ينذر أن يشرب خمراً، أو ينذر أن لا يصلي، أو ينذر أن لا يكلم أخاه فلاناً بدون مناسبة، أو ما أشبه ذلك فهذا يسمى نذر معصية. كذلك إذا نذر أن يذبح للولي الفلاني، أو أن يجعل مالاً في صندوق النذور الذي يوضع عند الضريح، فهذا نذر لا يجوز الوفاء به؛ لأنه نذر معصية.

كفارة نذر المعصية

كفارة نذر المعصية قال الشارح: [قال الحافظ: اتفقوا على تحريم النذر في المعصية، وتنازعوا: هل ينعقد موجباً للكفارة أم لا؟ وتقدم. وقد يستدل بالحديث على صحة النذر في المباح، كما هو مذهب أحمد وغيره يؤيده: ما رواه أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وأحمد والترمذي عن بريدة: (أن امرأة قالت: يا رسول الله! إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف، فقال أوفي بنذرك)]. هذه المرأة نذرت لما غزا الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته إذا رجع أن تضرب على رأسه الدف، والضرب بالدف إذا لم يصحبه مزمار أو غناء أو طرب أو ذكر محاسن النساء أو ذكر مثالب الناس، أو إطراء في المدح وخروج عن الواقع فإنه يكون مباحاً، أما إذا صحب بشيء من هذه الأمور فهو يخرج من الإباحة إلى المحرم. فلما رجع أخبرته بأنها نذرت أن تضرب على رأسه الدف إذا رجع، فقال: (أوفي بنذرك) وهذا أمر مباح. فإذاً يدل ذلك على أن النذر يصح لأمر مباح، مثل أن ينذر أن يخرج ليتفرج في الجبال والأودية أو في البحر، وينذر مثلاً أن يأكل كذا وكذا أو ينذر أن ينام كذا وكذا في ساعة كذا في مكان كذا إذا لم يتضمن ترك واجب فإنه يكون مباحاً، فالعلماء يرون أن مثل هذا لا يلزم الوفاء به، وإنما يباح الوفاء به، ولو ترك ليس عليه شيء، ولهذا قسموا النذر إلى أقسام خمسة: واجب الوفاء به، ومحرم الوفاء به، ومستحب أن يفي به، ومكروه أن يفي به، ومباح مستوي الطرفين، ومثلوا للمباح بمثل هذا. أما الواجب والمحرم فسبق كما في الحديث، وأما المستحب فما كان فعله مستحباً وليس لازماً، وأما المكروه فما كان فعله مكروهاً، مثل أن ينذر أن يطلق زوجته بدون مناسبة فهذا مكروه، والمكروه والمحرم عند بعض العلماء إذا لم يف به ففيه كفارة يمين، وكفارة اليمين إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فإن لم يجد ذلك انتقل إلى الصيام، فالصوم لا يذهب إليه إلا إذا لم يجد الكسوة أو الإطعام أو العتق، أما أن يصوم من أول الأمر وهو يقدر فصيامه غير صحيح ولا يكون ذلك مكفراً عن يمينه ولا عن نذره، لأنه ترك ما أمر الله جل وعلا به، فإن الله جل وعلا أمر أولاً بالعتق أو الكسوة أو الإطعام، قال: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة:89] فجعل الصيام مرتباً على عدم الوجود.

نذر اللجاج وأحكامه

نذر اللجاج وأحكامه قال الشارح: [وأما نذر اللجاج والغضب: فهو يمين عند أحمد، فيخير بين فعله وكفارة يمين، لحديث عمران بن حصين مرفوعاً: (لا نذر في غضب، وكفارته كفارة يمين) رواه سعيد بن منصور وأحمد والنسائي. فإن نذر مكروهاً كالطلاق استحب أن يكفر ولا يفعله]. اللجاج: هو أن يستلج على الإنسان نظره في العاقبة، فيكون بدون تفكير وبدون نظر في العاقبة، بل غضب غضباً أخرجه عن حاله الطبيعي العادي، إذا وقع الإنسان في مثل هذه الحالة ونذر فإنه ليس عليه شيء، ولكن يلزمه كفارة في قول بعض العلماء.

مسائل باب من الشرك النذر لغير الله

مسائل باب من الشرك النذر لغير الله قال المصنف: [وفيه مسائل: المسألة الأولى: وجوب الوفاء بالنذر]. النذر إذا كان طاعة يجب الوفاء به، أما إذا كان معصية فيحرم الوفاء به. [المسألة الثانية: إذا ثبت كونه عبادة لله، فصرفه إلى غيره شرك]. وقد ثبت أن النذر عبادة فإذاً: النذر لغير الله كالنذر لولي أو لضريح أو ما أشبه ذلك، من الشرك الأكبر الذي لو مات الإنسان عليه يكون داخلاً في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] والشرك أمره عظيم، يجب أن يحذره الإنسان؛ لأن الله جل وعلا أخبر أنه لا يغفره لصاحبه قطعاً، وأن الذنوب ما عدا الشرك كلها تحت مشيئته جل وعلا، إذا شاء أن يغفرها غفرها، ولو لم يتب الإنسان منها، يعني: إذا مات عليها فإنها تكون تحت مشيئة الله جل وعلا، أما الشرك فلا بد من التوبة منه، والإقلاع عن فعله قبل أن يموت الإنسان، أما إذا مات وهو على الشرك فإن الله جل وعلا أخبر أنه لا يغفر للمشرك، وأخبر في الآية الأخرى أن المشركين مأواهم النار، وأن الجنة عليهم محرمة، وكذلك في آيات أخر أخبر أن الجنة حرام على المشرك. فإذاً: يجب على الإنسان أن يبحث عن الشرك ويسأل عن الشرك ما هو؛ خوفاً من أن يقع فيه وهو لا يدري. وكثير من الناس من يخفى عليه مسائل كثيرة من مسائل الشرك قد تلتبس وتخفى عليه؛ لأن الإنسان إذا ابتعد عن العلم، وعن معرفة معاني كتاب الله، ومعاني أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يتبصر في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه يجهل أشياء كثيرة من أمور دينه التي يجب أن يكون عارفاً بها. [المسألة الثالثة: أن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به].

شرح فتح المجيد [45]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [45] من الشرك الأكبر الاستعاذة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، ومن ذلك دعاء الجن والاستعاذة بهم، والواجب إفراد الله وحده بالدعاء والاستعاذة به وحده، ولا يعذر الإنسان في ذلك بجهله.

من الشرك الاستعاذة بغير الله

من الشرك الاستعاذة بغير الله قال المصنف رحمه الله: [باب: من الشرك الاستعاذة بغير الله تعالى]. قد سبق أنه عقد باباً قال فيه: باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله، ثم لما فرغ من ذلك قال: وكل ما أذكره في هذا الكتاب تفسير لهذا الباب، فهذا منه، يعني: أن الاستعاذة عبادة، وأنها داخلة في معنى لا إله إلا الله؛ لأن معنى لا إله إلا الله: أن تكون الألوهية لله وحده يعني: لا معبود بحق إلا الله جل وعلا، فهي تتضمن نفي العبادة عن غير الله وإثباتها لله وحده. والاستعاذة من العبادة، وتكون مما يحذر ويخاف أمره، واللياذ يكون مما يرغب ويرجى، والمستعاذ هو الذي يعتصم به ويلتجأ إليه مما يخاف وقوعه، والله جل وعلا يقول: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] فأمر جل وعلا أن نستعيذ به، {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [الأعراف:200] فأمر أن تكون الاستعاذة به وحده، جل وعلا، وكون الاستعاذة من المخوف، واللياذ من الشيء الذي يؤمل ويرجى هذا هو ما دل عليه كلام العرب في الجملة كما قال الشاعر: يا من ألوذ به فيما أؤمله ومن أعوذ به مما أحاذره وهذا الشاعر يقول ذلك في رجل من الناس، وهذا لا يجوز أن يكون إلا لرب العالمين جل وعلا، فالعياذ الذي هو الاعتصام والالتجاء يجب أن يكون لله وحده، وكذلك كون الإنسان يرغب ويرجو ويطلب يجب أن يكون رجاؤه ورغبته وطلبه من الله وحده جل وعلا. يجب أن يكون رجاء المسلم ورغبته وطلبه من الله وحده جل وعلا، ولهذا حرم الله جل وعلا علينا أن نسأل الناس إلا فيما اضطررنا إليه، وقد جاء في الحديث: (إن المسألة لا تحل إلا لإحدى ثلاث: رجل أصيب بجائحة اجتاحت ماله فتحل له المسألة حتى يجد قواماً من عيش، ورجل أصابته فاقة فيقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه يشهدون أنه أصيب بفاقة فتحل له المسألة حتى يجد قواماً من عيش، ورجل تحمل حمالة) يعني: يصلح بين الناس، ويتحمل مالاً في سبيل الإصلاح يدفعه لمن يصلح بينهم، فمثل هذا تحل له المسألة حتى يوفي هذا التحمل، أما ما عدا ذلك فالمسألة سحت، وهي خدوش أو خموش في وجه صاحبها، يأتي يوم القيامة وليس على وجهه مزعة لحم، وذلك لأن المسألة فيها افتقار لغير الله، وفيها التفات إلى غير الله، فجوزي الإنسان بطلبه من المخلوق بأن يأتي يوم القيامة وليس على وجهه مزعة لحم، وهي حرام كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (سحت فليستكثر أو ليستقل) وجاء أن المسألة تكون ناراً على من سأل إذا لم يكن يستحقها، كل هذا صيانة من الله جل وعلا لوجه عبده ولقلبه أن يلتفت إلى غيره أو يطلب من غيره. إذاً: الاستعاذة والطلب الذي هو اللياذ واللوذ يجب أن يكونا بالله وحده، ولكن كون الإنسان يجهل بعض الأحكام التي يجب أن يكون عالماً بها، هل يكون ذلك عذراً له؟ في مثل هذه الأمور لا يكون عذراً له، لماذا؟ لأن التقصير منه، وإلا فالله جل وعلا قد بين، ورسوله صلى الله عليه وسلم أنذر وأعذر، ولم يترك شيئاً إلا وضحه، فيجب على المرء أن يبحث عن أمر دينه، وأن يسأل إذا كان لا يعلم، وقد قال الله جل وعلا: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، فهذا فيه وجوب المسألة لمن لا يعلم. والمقصود: أن الاستعاذة يجب أن تكون بالله جل وعلا وحده، فمن استعاذ بغير الله فقد وقع في المحذور، وقع في الشرك كما قال الله جل وعلا: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6]، وهذا فعل المشركين الذين أخبر الله جل وعلا عنهم بأنهم يعوذون بالمخلوق، وقد أخبر الرب جل وعلا أن المشرك لا يزداد بشركه إلا ضراً وخسراناً وبعداً عن الخير، لهذا أخبر أنهم زادوهم رهقاً، وسيأتي بيان ذلك.

معنى الاستعاذة

معنى الاستعاذة قال الشارح: [الاستعاذة: هي الالتجاء والاعتصام، ولهذا يسمى المستعاذ به معاذاً وملجأً، فالعائذ بالله قد هرب مما يؤذيه أو يهلكه إلى ربه ومالكه، واعتصم واستجار به والتجأ إليه، وهذا تمثيل، وإلا فما يقوم بالقلب من الالتجاء إلى الله والاعتصام به والانطراح بين يدي الرب والافتقار إليه والتذلل له، أمر لا تحيط به العبارة، قاله ابن القيم رحمه الله]. يعني: أن الإنسان إذا انطرح بين يدي ربه جل وعلا، وعرف حقه، وأصبح ينزل كل حاجاته بالله وحده، فإنه يستغني به عن كل من سواه، ويرتفق بهذا، ويفرح فرحاً عظيماً لا يوازيه فرح الدنيا؛ لكونه عرف ربه وعبده واعتصم به ولجأ إليه، وأصبح غنياً بالله جل وعلا عن كل ما سواه، والحقيقة أن هذا هو العز المطلق، والغنى المطلق. أما أن يكون له عز ظاهر في الدنيا، وهو منقطع عن الله؛ فهذا سوف يذهب، ولا ينفعه، وكذلك إذا كان له غنى ظاهر وهو مستغنٍ عن الله فسوف يذهب غناه ويعود فقراً، كما حكى الله جل وعلا عن الذي يؤتى كتابه بشماله يوم القيامة: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:24 - 28] كان له سلطان، وعنده مال، ولكن أصبح ماله وسلطانه عليه وبالاً، وذلك لأنه استغنى عن الله بسلطانه في الدنيا، ولأنه اعتز بذلك على عباد الله، وتطاول عليهم. فالمقصود أن العبد لا غنى له عن ربه جل وعلا طرفة عين، فيجب أن يكون مفتقراً إليه دائماً، ويجب أن يكون لاجئاً إليه دائماً، عائذاً به، معتصماً به من شر نفسه أولاً، ومن شر الخلق الذين فيهم الشر، ومن شر كل ما فيه شر، وإذا عرف الله جل وعلا ذلك من نيته وقصده فسوف يعيذه وسوف يحميه من كل ما يؤذيه. قال الشارح: [قال ابن كثير: الاستعاذة هي الالتجاء إلى الله، والالتصاق بجنابه من شر كل ذي شر. والعياذ يكون لدفع الشر، واللياذ لطلب الخير. قلت: وهي من العبادات التي أمر الله تعالى بها عباده، كما قال تعالى: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف:200]، وأمثال ذلك في القرآن كثير كقوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] فما كان عبادة لله فصرفه لغير الله شرك في العبادة، فمن صرف شيئاً من هذه العبادات لغير الله فقد جعله شريكاً لله في عبادته، ونازع الرب في إلهيته، كما أن من صلى لله وصلى لغيره يكون عابداً لغير الله ولا فرق، كما سيأتي تقريره قريباً إن شاء الله تعالى]. وذلك أن الله جل وعلا أمر بالصلاة له، وكما أمر بالصلاة له أمر بالاستعاذة به، والاستعاذة تكون عامة في كل ما لا يقدر الإنسان على صده عن نفسه سواء كان حسياً أو معنوياً، أما إذا كان حسياً فقد يستعيذ الإنسان بمن يقدر أن يصده إذا كان قادراً حاضراً سامعاً، أما إذا كان معنوياً فلا يجوز الاستعاذة إلا بالله جل وعلا. ولهذا ذكر الله جل وعلا في القرآن الطريق للتخلص مما هو مشاهد بالإحسان إليه، بأن تحسن إليه حتى تصبح محبوباً لديه، وتصبح متخلصاً من أذاه، وأما الشيطان الذي لا تشاهده، ولا تراه، فأمر الله جل وعلا أن يستعاذ به، فقال الله جل وعلا: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] يعني: إذا وقعت بينك وبين إنسان عداوة فادفع هذه العداوة بالإحسان إليه، فإنه سوف يعود عليك بالمودة، وتذهب عداوته، ولكن الشيطان الذي لا تنظر إليه، ولا تراه ليس هناك طريق للتخلص منه إلا بأن تلجأ إلى الله، وتعتصم به، قال الله بعد هذه الآية: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [فصلت:36]، هذا هو الطريق الوحيد للتخلص من الشيطان. والاستعاذة جاء الأمر بها مطلقاً كما سمعنا في قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] وهذا قول قيل للنبي صلى الله عليه وسلم خاص به، والأمة تبع له في ذلك، يعني: الخطاب خصص للنبي صلى الله عليه وسلم، وأمته تبع له في ذلك، فيجب عليهم أن تكون استعاذتهم بالله وحده.

استعاذة المشركين بالجن

استعاذة المشركين بالجن قال الشارح: [وقول الله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6] قال ابن كثير: أي: كنا نرى أن لنا فضلاً على الإنس؛ لأنهم كانوا يعوذون بنا، أي: إذا نزلوا وادياً أو مكاناً موحشاً من البراري وغيرها -كما كانت عادة العرب في جاهليتها- يعوذون بعظيم ذلك المكان من الجان أن يصيبهم بشيء يسوءهم، كما كان أحدهم يدخل بلاد أعدائه في جوار رجل كبير وذمامه وخفارته، فلما رأت الجن أن الإنس يعوذون بهم من خوفهم منهم زادوهم رهقاً، أي: خوفاً وإرهاباً وذعراً، حتى يبقوا أشد منهم مخافة وأكثر تعوذاً بهم ـ إلى أن قال ـ قال أبو العالية والربيع وزيد بن أسلم: رهقاً أي: خوفاً. وقال العوفي عن ابن عباس: فزادوهم رهقاً أي: إثماً، وكذا قال قتادة].

حقيقة الجن

حقيقة الجن الجن أمة عظيمة، وهم مكلفون -كما كلف بنو آدم- بأن يعبدوا الله جل وعلا، وهم ذرية إبليس، ومنهم المؤمن، ومنهم الكافر، ومنهم المتمرد الشيطان، والله جل وعلا خاطبهم في القرآن، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن ينذرهم، {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الجن:1] إلى آخر السورة، ويقول الله جل وعلا: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [الأحقاف:29 - 30]، والله جل وعلا يخبر يوم القيامة عن الجن والإنس أنهم جاءتهم النذر، وجاءتهم الرسل، وقامت عليهم الحجج، وأنه لا حجة لهم، فهم مكلفون بعبادة الله جل وعلا، وفيهم المؤمن، وفيهم الكافر، وفيهم الفاسق، وفيهم الصالح وغير ذلك. وهم على الأرض يمشون مع الناس، ليسوا تحت طباق الأرض وليسوا فوقها، ولكنهم كما أخبر الله جل وعلا يروننا من حيث لا نراهم، ويسمعون كلامنا، ونحن لا نشاهدهم ولا نراهم، ولكن ينبغي بل يجب على الإنسان أن يتحرز من أعينهم، فلهذا يسن له إذا أراد أن يخلع ثوبه أن يسمي الله؛ لأن الستر الذي بينه وبينهم اسم الله جل وعلا، إذا سميت الله استترت منهم، وليس هناك شيء يسترهم من جدران أو غيرها، وقد جاء في الصحيح أن الإنسان إذا أتى إلى بيته وأراد الولوج -أي: الدخول في البيت- فإن ذكر الله وقال: باسم الله، قال الشيطان لأصحابه الذين يمشون معه: حرمتم المبيت، فإن دخل ولم يسم قال لمن معه: أدركتم المبيت، فإن قدم الطعام ولم يسم قال: أدركتم المبيت والعشاء، وربما يشارك الجني الإنسان في بيته، وفي طعامه، وفي ولده أيضاً فقد يشاركه في زوجه إذا لم يسم. ولهذا ينبغي للإنسان أن يعرف هذه الأمور، ولا يكون جاهلاً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أرشدنا إلى كل ما فيه الخير، وعلمنا هذه الأشياء، وقال لنا: (إن إخوانكم من الجن سألوني الطعام، فقلت لهم: لكم كل عظم ذكر عليه اسم الله تجدونه أوفر ما كان لحماً) وكذلك علف بهائمهم أرواث بهائمنا؛ ولهذا حرم علينا أن نستجمر بعظم أو روث؛ لأن العظم طعام المؤمنين من الجن، والروث طعام بهائمهم. والمقصود أن الجن مكلفون، والله جل وعلا جعل لهم عقولاً، وجعلهم أهلاً للأمر والنهي، وجعل لهم جزاء يوم القيامة، من أطاع الله منهم يكون في الجنة، ومن عصى يكون في النار، ولهذا كلما ذكر الله آية من الآيات التي فيها نعمه في سورة الرحمن يقول: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) والمقصود بالتثنية هنا الجن والإنس، وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تلا هذه السورة على أصحابه قال: (مالي أراكم ساكتين؟! لرد إخوانكم من الجن أحسن من ردكم، قالوا: ماذا قالوا؟ قال: كلما تلوت قوله: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) قالوا: لا -يا ربنا- ولا بشيء من ذلك نكذب، فلك الحمد).

إنكار وجود الجن كفر

إنكار وجود الجن كفر بعض الناس اليوم ينكر وجود الجن، وإنكار وجود الجن كفر وخروج من الإسلام؛ لأنه أمر تواترت عليه كتب الله، وكذلك جاءت به آثار الرسل، وقد يلتبس الجني بالإنس ويداخله؛ لأن الجن سلطوا على الإنس إذا لم يتحصنوا منهم بذكر الله وبأسماء الله، وليس هناك مخلص إلا بالالتجاء إلى الله، وذكر أسمائه وذكره، فذكر الله يطرد المردة من الجن، أما المؤمنون فهم لا يؤذون؛ لأنهم يعرفون أن هذا أمر محرم، ولكن الجهلة والكفرة والمردة يتسلطون على الإنس بسبب جهلهم، وبسبب غفلتهم وعدم ذكرهم لله، وإلا فهم ضعفاء، وإذا ذكر المؤمن ربه وتحصن بذلك فإنه يفر منه أشد الفرار، وقد جاء في وصف الذي يأكل الربا أنه يوم القيامة يقوم كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، والشيطان المقصود به هنا الجنس، يعني: الجن، فإنه يداخل الإنسان فيسقطه فيصبح مجنوناً، والأمم السابقة كل أمة تتهم نبيها بأنه مجنون ويرمونه بذلك؛ لأنهم يعرفون أن الجن يلابسون الإنس، وقد ذكر الله جل وعلا أن الإنس يستمتعون بالجن، والجن يستمتعون بالإنس، واستمتاع بعضهم ببعض يكون بالطاعة، ويكون بغير الطاعة، بفعل الشهوة وغيرها، نسأل الله السلامة. فالمقصود أن الجن أمة مكلفة، وهم يحضرون مع الناس، يشاهدون الناس والناس لا يرونهم، وإذا كان يوم القيامة حشروا جميعاً كل يرى الآخر؛ لأن القيامة هي محل الجزاء، فيصبح الإنس لهم قرناء وأزواج من الجن الذين أضلوهم، يقرنون معهم في النار، فيدخلون فيها جميعاً. قال الله تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} [الجن:1 - 2] إلى أن قال: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6]. ذكر المفسرون أن العرب كانت عادتهم إذا سافر أحدهم ثم أدركه الليل، أنه يلجأ ويعوذ بكبير الجن فيقول: أعوذ بسيد أهل هذا الوادي من سفهاء قومه، فصار هذا فتنة للجن والإنس؛ لأن الجن بهذه الاستعاذة زادوا الإنس رهقاً يعني: تسلطوا عليهم، فأكثروا تخويفهم؛ لأنهم رءوا أنهم يعوذون بهم، فتسلطوا عليهم، وهذا هو معنى زيادتهم رهقاً، والرهق هو الخوف والهلع أو الطغيان، فإذا كان الرهق عائداً إلى الإنس فهو الخوف، وإن كان عائداً إلى الجن فهو الطغيان، يعني: أن استعاذة الإنس بالجن زادت الجن طغياناً وتعدياً، فأصبحوا يتعدون على الإنس من أجل ذلك. والآية تصلح لهذا وهذا، وقد جاء عن السلف المعنيان، جاء عن السلف أنهم جعلوا الرهق عائداً إلى الإنس، وعائداً إلى الجن، يعني: أن الجن زادوا الإنس خوفاً لما استعاذوا بهم فتسلطوا عليهم، وكذلك الإنس زادوا الجن طغياناً لما استعاذوا بهم، يعني: تكبراً وتجبراً وطغياناً على الإنس؛ لأنهم قالوا: أصبحنا سادة الجن والإنس. وعلى كل فالمقصود من الآية: أن المؤمنين من الجن أخبروا أن الإنس استعاذوا بهم، وأن هذا لا يجوز، وأنه من الشرك الذي جاء القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم بإبطاله، فهم يتبرءون منه، ويخبرون عن أمر وقع وهم يقلعون عن ذلك يعني: المؤمنين منهم. فدل ذلك على أن الاستعاذة عبادة، ويجب أن تكون بالله وحده، وأنها إذا وقعت الاستعاذة بالمخلوق فإن هذا شرك بذلك المستعاذ به.

لا تجوز الاستعاذة بالجن

لا تجوز الاستعاذة بالجن قال الشارح: [وذلك أن الرجل من العرب كان إذا أمسى بواد قفر وخاف على نفسه قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، يريد كبير الجن، وقد أجمع العلماء على أنه لا يجوز الاستعاذة بغير الله، وقال ملا علي قاري الحنفي: لا يجوز الاستعاذة بالجن]. لأن الاستعاذة عبادة كما سمعنا، والعبادة لا تجوز أن تكون لغير الله جل وعلا، فإذا ثبت أنها عبادة فيجب أن تكون خاصة بالله وحده، ويكون صرفها لغير الله كصرف سائر العبادات شركاً بالله. قال الشارح: [فقد ذم الله الكافرين على ذلك، وذكر الآية وقال: قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام:128] فاستمتاع الإنسي بالجني في قضاء حوائجه، وامتثال أوامره، وإخباره بشيء من المغيبات، واستمتاع الجني بالإنسي تعظيمه إياه، واستعاذته به، وخضوعه له. انتهى ملخصاً]. يقول جل وعلا للجن يخاطبهم: إنكم أضللتم أناساً كثيراً من الإنس، فيقول الإنس لرب العالمين: قد استمتع بعضنا ببعض، يعني: أنهم انتفعوا بالجن إما بإخبارهم ببعض المغيبات أو بنفعهم النفع الذي هو نفع محدود، وكذلك الجن استمتعوا بالجن بطاعتهم، وعبادتهم لهم، واستعاذتهم بهم، ويقولون: {بَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} يعني: أن الأجل الذي جعل لهم في الدنيا قد انتهى، وأنهم قد حضروا بين يدي الله، ولكن هذا الإذعان، وهذا الإقرار، وهذا الاستسلام لله جل وعلا؛ لا يفيدهم شيئاً؛ ولهذا يقول جل وعلا: {النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}، فهذه النهاية التي يخبر الله جل وعلا عنها سواء في المستعيذ المستمتع أو الذي استعيذ به، وكلاهما تكون نتيجته أن الله يجازيه بما يستحق. قال الشارح: [فاستمتاع الإنسي بالجني في قضاء حوائجه، وامتثال أوامره، وإخباره بشيء من المغيبات، واستمتاع الجني بالإنسي تعظيمه إياه]. وقد يكون الاستمتاع في قضاء الشهوة من هذا وهذا، وهذا يقع كثيراً من الجهلة الذين تخلو قلوبهم من الإيمان، ومن ذكر الله جل وعلا، فإن الجن يستمتعون بهم، وهم يستمتعون بالجن، نسأل الله العافية. قال الشارح: [واستعاذته به وخضوعه له]. المقصود أن هذا يدل على أن الجني قد يلابس الإنسي ويداخله، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)، فإذا كان يجري منه مجرى الدم فمعنى ذلك أنه يستطيع أن يداخله ويكون في جسمه. قال المصنف: [وفيه أن كون الشيء يحصل به منفعة دنيوية لا يدل على أنه ليس من الشرك]. يعني: كون الإنسي إذا استعاذ بالجني قد يعيذه، وكذلك إذا ذبح الإنسي للجن فقد يخرج الجني الذي فيه، وينفعه في هذا، فيكون في هذا نفع، ولكن هذا ليس دليلاً على أنه جائز، بل الله جل وعلا أخبرنا أن الخمر فيها منفعة، ولكن مضرتها أعظم، فليس كل ما فيه نفع يجوز فعله، والشرك قد يكون فيه منفعة كما ذكر، ولكن عاقبته وخيمة جداً، فالمقصود أنه ليس كل ما فيه نفع يكون جائزا ًفعله.

حديث: (من نزل منزلا فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق)

حديث: (من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) قال المصنف: [وعن خولة بنت حكيم قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك) رواه مسلم. هي خولة بنت حكيم بن أمية السلمية، يقال لها: أم شريك، فيقال: إنها هي الواهبة، وكانت قبل تحت عثمان بن مظعون]. الواهبة يعني: التي جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ووهبت له نفسها، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يردها، وكان عنده رجل فقال: يا رسول الله! إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها، وذكر الحديث. وهذا الحديث: (من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شرك ما خلق، لم يضره شيء حتى يرتحل) يدلنا على أن الاستعاذة يجب أن تكون بالله أو بصفة من صفاته، وكلمات الله هي صفة من صفاته، وكلماته جل وعلا تنقسم إلى قسمين: كلمات دينية شرعية أمرية مثل القرآن؛ فهو كلامه الديني الأمري الذي يشرع به لعباده الأوامر، وينهاهم عن النواهي، فهذا كلام الله جل وعلا الذي تكلم به وسمعه جبريل من الله جل وعلا، ثم جاء به جبريل عليه السلام إلى رسولنا صلى الله عليه وسلم، فسمعه الرسول صلى الله عليه وسلم من جبريل، ثم أسمعه أصحابه، ثم لم تزل الأمة يسمع بعضها كلام الله من بعض جيلاً بعد جيل إلى يومنا هذا، والله جل وعلا أخبرنا أنه تولى حفظه، وهذا من حفظه، فلو حاول أي محاول أن يغير أو يبدل في كلام الله ما استطاع؛ لأن في الأمة من لا حصر لهم يحفظونه من زمن الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اليوم، فلو أراد مريد سوء أن يغير في المصحف شيئاً، فإن أصحاب الكتاتيب يردون عليه، ويعرفون أنه خطأ؛ لأن القرآن محفوظ، يحفظه المسلمون في صدورهم، فضلاً عن إثباته في الكتابة، والمقصود أن هذا القرآن كلامه الأمري الشرعي. القسم الثاني من كلمات الله: كلماته الكونية القدرية، وهي التي يكون بها الأشياء ويقدرها، فهي التي لا يجاوزها بر ولا فاجر. أما كلماته الدينية الشرعية فإن الفجار يتجاوزونها، يعني: يعصون أوامره، ويرتكبون نواهيه، بخلاف الكلمات الكونية فإنه لا أحد يستطيع أن يتعداها، والكلمات الكونية هي التي يقدر بها الأشياء ويكونها، فالكون كله يسير على وفق تقديره وتكونيه جل وعلا، والعباد كلهم مسخرون تجري عليهم أقداره وقهره، لا أحد يستطيع أن يخالف قدر الله جل وعلا وتكوينه، والكلمات الكونية غير الكلمات الشرعية، وكلها صفة لله جل وعلا، وكلها يستعاذ بها؛ لأنها من صفات الله. ولهذا استدل العلماء بهذا الحديث على أن القرآن كلام الله؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يأمر بالاستعاذة بمخلوق، أمر أن نستعيذ بكلماته، فكلماته -إذاً- من صفاته جل وعلا؛ ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستعيذ بذلك، وأخبر أن الاستعاذة بالمخلوق شرك، فدل هذا على أن الاستعاذة بكلمات الله هي استعاذة بصفته جل وعلا، وكلام الله من صفاته.

معنى كلمات الله التامات

معنى كلمات الله التامات قال الشارح: [وقوله: (أعوذ بكلمات الله التامات) شرع الله لأهل الإسلام أن يستعيذوا به بدلاً عما يفعله أهل الجاهلية من الاستعاذة بالجن، فشرع الله للمسلمين أن يستعيذوا بأسمائه وصفاته]. الجن لا يستطيعون أن يعيذوا الإنسان، ولكن إذا استعاذ الإنسان بالله فإن الله يحميه من كل ما يؤذيه. قال الشارح: [قال القرطبي: قيل: معناه الكاملات التي لا يلحقها نقص ولا عيب كما يلحق كلام البشر]. الكلمات التامات إما المراد بها الدينية، فهي تامة في الصدق والعدل وكمال الشرع، تامة من جميع هذه الأمور، وإما أن يراد بها الكونية فهي التي لا يمكن أن يلحقها نقص أو يتخلف مرادها بحال من الأحوال، فهي تامة من هذه الناحية. [وقيل معناه: الشافية الكافية، وقيل: الكلمات هنا هي القرآن، فإن الله أخبر عنه بأنه: {هُدًى وَشِفَاءٌ} [فصلت:44]، وهذا الأمر على جهة الإرشاد إلى ما يدفع به الأذى. ولما كان ذلك استعاذة بصفات الله تعالى كان من باب المندوب إليه المرغب فيه، وعلى هذا فحق المستعيذ بالله أو بأسمائه وصفاته أن يصدق الله في التجائه إليه، ويتوكل في ذلك عليه، ويحضر ذلك في قلبه، فمتى فعل ذلك وصل إلى منتهى طلبه ومغفرة ذنبه. قال شيخ الإسلام رحمه الله: وقد نص الأئمة كـ أحمد على أنه لا يجوز الاستعاذة بمخلوق، وهذا مما استدلوا به على أن كلام الله غير مخلوق، قالوا: لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استعاذ بكلمات الله وأمر بذلك؛ ولهذا نهى العلماء عن التعاويذ التي لا يعرف معناها خشية أن يكون فيها شرك]. التعاويذ التي تكون بكلمات أعجمية أو كلمات مركبة أو حروف ليس لها معنى، لا يجوز الاستعاذة بها؛ لأن الاستعاذة تكون بكلمات الله وبأسماء الله وصفاته المعروفة المفهومة باللغة العربية، فلا بد أن يكون لها معنى مفهوم يعرف، أما إذا كانت حروفاً، يقول: آخذ حرفاً من اسم الله، وحرفاً من الرحمن، وحرفاً من العزيز، وحرفاً من الكريم، وما أشبه ذلك فيجمعها ويقول: أنا أستعيذ بأسماء الله، فهذا لا يجوز؛ لأنه لا بد أن يكون لها معنى معروف، وقد تكون الحروف المركبة أسماء شياطين، فيستعيذ بالشياطين، وهذا شرك.

معنى قوله: (من شر ما خلق)

معنى قوله: (من شر ما خلق) قال الشارح: [وقال ابن القيم: ومن ذبح للشيطان ودعاه، واستعاذ به وتقرب إليه بما يحب، فقد عبده، وإن لم يسم ذلك عبادة، ويسميه استخداماً -وصدق- هو استخدام من الشيطان له، فيصير من خدم الشيطان وعابديه، وبذلك يخدمه الشيطان، لكن خدمة الشيطان له ليست خدمة عبادة، فإن الشيطان لا يخضع له، ولا يعبده كما يفعل هو به اهـ. قوله: (من شر ما خلق) قال ابن القيم رحمه الله: أي من كل شر في أي مخلوق قام به الشر من حيوان أو غيره، إنسياً كان أو جنياً أو هامة أو دابة أو ريحاً أو صاعقة، أو أي نوع من أنواع البلاء في الدنيا والآخرة. و (ما) هنا موصولة وليس المراد بها العموم الإطلاقي، بل المراد التقييدي الوصفي، والمعنى: من شر كل مخلوق فيه شر، لا من شر كل ما خلقه الله، فإن الجنة والملائكة والأنبياء ليس فيهم شر، والشر يقال على شيئين: على الألم، وعلى ما يفضى إليه]. قوله: قوله: (من شر ما خلق) يدلنا على أن الشر في المخلوق، وليس الشر من صفات الله، ولا من أفعال الله جل وعلا، وإنما هي في المخلوق الذي يخلقه الله جل وعلا، أما الله جل وعلا فكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في مناجاته لربه: (والشر ليس إليك)؛ ولهذا لا يضاف الشر إليه جل وعلا، لا وصفاً ولا فعلاً، بل ينزه عنه؛ لأن أفعاله كلها خير، وصفاته خير، وهو لا يفعل إلا الخير جل وعلا، وإنما الشر يكون في المفعول المخلوق كما قال مؤمنو الجن فيما قصه الله جل وعلا علينا: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا * وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ} [الجن:9 - 10] (أَشَرٌّ أُرِيد) لم يذكروا الفاعل، فحذف الفاعل هنا تأدباً مع الله جل وعلا، {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن:10] لما جاء الرشد أضافوه إلى الله جل وعلا، أما الشر فيحذف فاعله ويدخل في العموم، أو يضاف إلى المخلوق كقوله جل وعلا: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:1 - 2] فجعل الشر للمخلوق، ولا يضاف إلى الله جل وعلا؛ وذلك أن أوصاف الله جل وعلا وأفعاله ليس فيها شر، والشر إضافي بمخلوقاته، بمعنى أنه ما كان شراً لقوم يكون خيراً للآخرين، فمثلاً: المطر إذا جاء قد يغرق من يغرق فيه، ويهلك ماله، فيكون بالنسبة إليه فيه شر، ولكن أكثر الناس هو خير لهم وللأرض، ومثل ذلك الشمس والليل والنهار وغير ذلك. فالمقصود أن الشر يكون في مخلوقات الله، ولا يكون في فعل الله جل وعلا ولا في وصفه، وليس الشر إليه؛ ولهذا قال: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} يعني: لما أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق فهو الشر الذي يكون في المخلوق. والشر أصله الخلو من الخير، فإذا وجد الخير يكون هذا الخير الذي وجد أصله من الله، فهو الذي أوجد الخير، وهو الذي وضعه في هذا المحل، وإذا أخلى الله جل وعلا فضله من هذا المكان جاء الشر من قبل المخلوق، فلهذا ما يصيب الإنسان شيء إلا من جراء فعله ومن جراء ذنبه الذي يفعله، {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79] فكل الخير يكون من الله، أما المصائب والشرور وما يترتب على ذلك فهو من أفعال الإنسان ومعاصيه ومخالفاته، وكون الله جل وعلا يخلق هذا وهذا لا يدل على أنه يتصف به تعالى وتقدس؛ لأن كونه قدر هذا الشيء ودخل في مخلوقاته هو وصف لمن قام به، فالشر وصف لمن قام به وهو المخلوق.

فائدة هذا الذكر

فائدة هذا الذكر قال الشارح: [قال قوله: (لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك) قال القرطبي: هذا خبر صحيح، وقول صادق علمنا صدقه دليلاً وتجربة]. أما دليلاً فصحيح، وأما تجربة فليس بصحيح لكل أحد، ولا ينبغي أن نختبر أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بالتجربة؛ لأن الإنسان قد يجرب هذا الشيء فيتخلف المخبر به، فيظن أنه كذب، وإنما التخلف يكون من قبله هو، قد لا يكون صادقاً في قوله والتجائه واستعاذته، فيتخلف مقتضى ذلك، ولا يجوز أن يظن أن الخبر ليس بصحيح، فالمقصود أن الأخبار لا تقاس بالتجربة، بل إذا ثبتت بالسند وجب قبولها واعتقاد صحتها وثبوتها، والناس في تطبيقها يختلفون، منهم من يكون صادقاً فتنطبق عليه، ومنهم من لا يصدق في الفعل والاعتقاد والالتجاء والصدق فيتخلف المخبر به، فلا يظن أن هذا يكون مقياساً أو أن هذا يجب أن ترجع إليه الأخبار. [قال: فإني منذ سمعت هذا الخبر عملت به، فلم يضرني شيء إلى أن تركته فلدغتني عقرب بالمهدية ليلاً، فتفكرت في نفسي فإذا بي قد نسيت أن أتعوذ بتلك الكلمات].

مسائل باب من الشرك الاستعاذة بغير الله

مسائل باب من الشرك الاستعاذة بغير الله قال المصنف رحمه الله: [فيه مسائل: الأولى: تفسير آية الجن]. آية الجن هي: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6] وقد مر معناها. [الثانية: كونه من الشرك]. يعني: أن الاستعاذة بالجن من الشرك، هذا هو المقصود، وكذلك بقية المخلوقات، والاستعاذة بالأموات أعظم من ذلك؛ لأن الأموات لا يملكون أي تصرف، وليس عندهم سماع لما يقال، ولا غير ذلك. [الثالثة: الاستدلال على ذلك بالحديث؛ لأن العلماء يستدلون به على أن كلمات الله غير مخلوقة، قالوا: لأن الاستعاذة بالمخلوق شرك]. أي: أن كلمات الله من صفاته، وأنه لا يجوز الاستعاذة بمخلوق؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن الاستعاذة بالمخلوق شرك. إذاً: تكون الاستعاذة بكلماته، وكلماته من صفاته، والاستعاذة بها استعاذة بكتابه. [الرابعة: فضيلة هذا الدعاء مع اختصاره]. لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا يضره شيء)، وهذا فضل عظيم ينبغي للإنسان أن يحفظ هذا الدعاء، وألا يخل به، وأن يصدق مع الله في ذلك. أما الاستدلال بأن كلمات الله جل وعلا غير مخلوقة فأمر واضح، وكان هذا في وقت ظهرت فيه الزنادقة الذين أرادوا أن يفسدوا عقائد المسلمين، فلبسوا على الناس بأمور مركبة يزعمون أنها عقلية، وأنها أدلة برهانية ثم استطاعوا أن يصلوا إلى خلفاء المسلمين، وأن يكونوا هم الذين يوجهونهم، فزينوا لهم دعوة الناس إلى ذلك، بل إرغام الناس على هذا، فحصل من الفساد ومن القتل وسفك الدماء من جراء ذلك ما هو في الواقع عار إلى الآن في تاريخ أولئك، حتى أنهم زينوا لبعض الخلفاء أن يكتب على ستار الكعبة: ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم، فراراً من قوله: (وهو السميع البصير)؛ لأنهم لا يثبتون الصفات لله جل وعلا، وكانوا يقولون: لو نستطيع أن نحك بعض الآيات من المصحف لحككناها، وسلطوا على المسلمين ما يسمونه عقلاً، وهو في الواقع جهل، وقتل من قتل من كبار العلماء من جراء ذلك. وصارت لهم مقالات معينة، ووضعوا أصولاً خمسة وضعوا عليها دينهم بدلاً من الأصول التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، وهذه هي أصول المسلمين التي بنوا عليها دينهم، أما هم فجاءوا بأصول أخرى غير هذه، ومن أين أتوا بها؟ لم يأتنا بها الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما لبسوا على الناس، وجاءوا بأمور من عقولهم، وتلك فتنة ذهبت ولا ينبغي بحثها. [الخامسة: أن كون الشيء يحصل به منفعة دنيوية -من كف شر أو جلب نفع- لا يدل على أنه ليس من الشرك].

شرح فتح المجيد [46]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [46] بين الاستغاثة والدعاء عموم وخصوص، فكل استغاثة دعاء، وليس كل دعاء استغاثة، وينبغي أن يعلم أن الدعاء نوعان: دعاء عبادة، ودعاء مسألة، فدعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة، كما أن دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة، ومن صرف شيئاً من الدعاء بنوعيه لغير الله فقد وقع في الشرك.

من الشرك أن يستغاث بغير الله أو يدعو غيره

من الشرك أن يستغاث بغير الله أو يدعو غيره قال المصنف رحمه الله: [باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره]. قال الشارح رحمه الله: [قال شيخ الإسلام رحمه الله: الاستغاثة هي طلب الغوث، وهو إزالة الشدة، كالاستنصار: طلب النصر، والاستعانة: طلب العون، وقال غيره: الفرق بين الاستغاثة والدعاء: أن الاستغاثة لا تكون إلا من المكروب، والدعاء أعم من الاستغاثة؛ لأنه يكون من المكروب وغيره، فعطف الدعاء على الاستغاثة من عطف العام على الخاص، فبينهما عموم وخصوص مطلق، يجتمعان في مادة، وينفرد الدعاء عنها في مادة، فكل استغاثة دعاء، وليس كل دعاء استغاثة]. يعني: أن الدعاء أعم وأشمل حيث تدخل فيه الاستغاثة، والاستغاثة دعاء خاص في حالة الشدة والكرب. [وقوله: (أو يدعو غيره) اعلم أن الدعاء نوعان: دعاء عبادة، ودعاء مسألة، ويراد به في القرآن هذا تارة، وهذا تارة، ويراد به مجموعهما، فدعاء المسألة: هو طلب ما ينفع الداعي من جلب نفع أو كشف ضر؛ ولهذا أنكر الله على من يدعو أحداً من دونه، ممن لا يملك ضراً ولا نفعاً، كقوله تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [المائدة:76]، وقوله: {قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:71]، وقال: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس:106]. قال شيخ الإسلام رحمه الله: فكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة، وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة، قال الله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55]، وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمْ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:40 - 41]، وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18]، وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [الرعد:14]، وأمثال هذا في القرآن -في دعاء المسألة- أكثر من أن يحصر، وهو يتضمن دعاء العبادة؛ لأن السائل أخلص سؤاله لله، وذلك من أفضل العبادات، وكذلك الذاكر لله والتالي لكتابه ونحوه، طالب من الله في المعنى، فيكون داعياً عابداً].

دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة

دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة قوله: دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة، معناه: أن الإنسان إذا سأل شيئاً فإنه يخضع ويذل ويستكين، وهذا هو العبادة، فيكون في ضمن السؤال عبادة. ومن هنا حرمت المسألة، أي: أن يسأل الإنسان أحداً من الخلق؛ لأنه يذل له قلبه، ويستكين له، ويخضع له، وهذا لا يجوز أن يكون إلا لله جل وعلا؛ لأنه عبادة، فيكون تحريم المسألة صيانة للإنسان، وإكراماً له من الله جل وعلا، أكرمه الله بأن لا يخضع لمخلوق مثله، ويكون خضوعه لله وحده، ويكون استغناؤه بالله وحده، ويكون افتقاره إلى الله وحده، كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (وأعوذ بك من الفقر إلا إليك)، نستعيذ من الافتقار إلى المخلوق، والافتقار إلى الله عبادة، أما الافتقار إلى المخلوق فهو شرك. فهذا معنى كون دعاء المسألة يتضمن العبادة، أما دعاء العبادة فإنه يستلزم دعاء المسألة، وذلك أن المصلي والمزكي والمتصدق والذاكر والتالي يطلب بفعله هذا الثواب، يطلب من الله أن يثيبه على ذلك، وهذا هو دعاء المسألة؛ لكونه يطلب الثواب أو يطلب الالتجاء والاستعاذة من العذاب. ومن المعلوم أن المخلوق لا بد له من طلب النفع الذي ينفعه، ومن الهرب مما يضره، يضطر إلى هذا اضطراراً، ولا بد له من ذلك، وكذلك الأسباب التي تجلب له النفع هو بحاجة إليها، وكذلك الأسباب التي بها يدفع الضر والعذاب والألم وغيرها، فالعبد مضطر إلى ما ينفعه، ومضطر إلى دفع ما يضره، ومضطر إلى تحصيل السبب الذي به جلب النافع، وإلى تحصيل السبب الذي به دفع المضر، فهو بأمس الحاجة إلى هذه الأمور، وهذه كلها يجب أن تطلب من الله وحده، ولا تطلب من المخلوق. فيتبين لنا أن الأمر كله بيد الله، وأن الإنسان يجب أن يكون خاضعاً لله، وأن يكون عبداً لله من جميع الوجوه، والدعاء داخل في هذا، سواء كان دعاء مسألة أو دعاء عبادة. قال الشارح: [فتبين بهذا قول شيخ الإسلام: إن دعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة، كما أن دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة، وقد قال الله تعالى عن خليله: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا} [مريم:48 - 49]]. يعني: أن هذه الآية بينت أن الدعاء عبادة بأنواعه؛ لأنه -أولاً- قال: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ}، ثم بعد ذلك قال تعالى: ((فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ)) فبين أن الدعاء عبادة، وأنهم إذا دعوا شيئاً فقد عبدوه، وهذا كثير في القرآن.

من آداب الدعاء

من آداب الدعاء قال الشارح رحمه الله: [فصار الدعاء من أنواع العبادة، فإن قوله: {وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} كقول زكريا: {إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم:4]]. معنى قوله: {عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} أي: أني إذا دعوت ربي فسوف يهب لي ما أريد ولن أشقى؛ لأن الذي يدعو ربه لا يخيب، ولا بد أن يحصل له النفع والخير، سواء في العاجل أو في الآجل. وكذلك قول زكريا: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا}، فبدعاء الله جل وعلا لا يشقى الإنسان، فإذا دعا ربه فإنه يهب له ما دعاه، سواء كان عاجلاً أو آجلاً، فلن يشقى الداعي الذي يخلص دعوته لله. قال الشارح رحمه الله: [وقد أمر الله تعالى به في مواضع من كتابه] يعني: أمر بالدعاء في مواضع كثيرة من كتابه، وكذلك جاءت الأحاديث الكثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر بالدعاء، وأخبر أن الله إذا لم يدعوه الإنسان يغضب عليه، وهذا من كرم الله وجوده جل وعلا، فإن المخلوق إذا دعوته قد يغضب عليك، وقد يستثقل دعوتك ويكره ذلك؛ لأنه ضعيف وفقير، ومحتاج إلى ما في اليد، فلا يريد أحداً أن يأخذه منه، أو يطلب منه شيئاً. أما الرب الجواد الكريم فإنه يدعو عباده إلى أن يدعوه، وإذا لم يدعوه غضب عليهم، ويحب الملحين بالدعاء، الذين يكثرون الدعاء ويبالغون فيه، يحبهم جل وعلا لكرمه وجوده. قال الشارح رحمه الله: [كقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:55 - 56]]. هذا التعليم من ربنا جل وعلا أن يكون دعاؤنا تضرعاً وخفية، يعني: أن يكون في الخفاء، يكون بين الإنسان وربه، وألا يرفع به صوته؛ ولهذا كان السلف يحرصون على إخفاء الدعاء، فيكون دعاؤهم همساً بينهم وبين ربهم جل وعلا؛ امتثالاً لأمر الله، وجاء عن بعضهم أن بين دعاء العلانية ودعاء الخفاء سبعون ضعفاً، فالدعاء في الخفية أفضل؛ لأنه أقرب إلى الإخلاص، فقد يعرض للإنسان عوارض في الدعاء المسموع الذي يسمعه غيره تعكر عليه إخلاصه؛ ولهذا أمره جل وعلا أن يخفيه: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}، أما التضرع فهو: الافتقار والذل والخضوع، أن يذل الداعي ويخضع ويظهر فقره لله جل وعلا، هذا هو التضرع إلى الله جل وعلا، وإذا كان الإنسان متصفاً بالتضرع والدعاء بالخفاء فلن تتخلف الإجابة إلا بأمر قدره الله جل وعلا. وكذلك قوله: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} فهذا أيضاً هذا من الآداب التي علمنا الله جل وعلا في الدعاء، فعلى الإنسان أن تكون دعوته بين الرجاء والخوف، يدعو الله وهو يرجو أن يجيبه، ويتعلق به، ويظن به الخير والإحسان والكرم، ولكنه يخاف من نفسه، يخاف أن تتخلف الإجابة بسبب نفسه؛ لكونه لا يخلص، أو لا يصدق في دعائه، أو كونه يأكل حراماً، أو كونه يكثر الذنوب، وما أشبه ذلك من العوارض التي لا يخلو منها إنسان، والمقصود الأدب مع الله جل وعلا في هذه العبادة التي يعلمنا الله جل وعلا إياها.

كل أمر شرعه الله ففعله عباده

كل أمر شرعه الله ففعله عباده قال الشارح رحمه الله: [وضابط هذا: أن كل أمر شرعه الله لعباده وأمرهم به، ففعله لله عبادة، فإذا صرف من تلك العبادة شيئاً لغير الله فهو مشرك]. ويدخل في هذا الأفعال والأقوال جميعها، كل أمرٍ أمر الله جل وعلا به عباده إذا فعله الإنسان فهو يدعو الله جل وعلا دعاء عبادة؛ لأنه يفعله ويطلب به الثواب، ويخاف إذا لم يفعله من عقاب الله، وهذا هو معنى السؤال. قال الشارح رحمه الله: [فإذا صرف من تلك العبادة شيئاً لغير الله فهو مشرك، مصادم لما بعث الله به رسوله من قوله: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} [الزمر:14]، وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى. قال شيخ الإسلام رحمه الله في الرسالة السنية: فإذا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم -ممن انتسب إلى الإسلام- من مرق منه مع عبادته العظيمة، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان قد يمرق أيضاً من الإسلام؛ لأسباب منها: الغلو في بعض المشايخ، بل الغلو في علي بن أبي طالب رضي الله عنه، بل الغلو في المسيح، فكل من غلا في نبي أو رجل صالح، وجعل فيه نوعاً من الإلهية، مثل أن يقول: يا سيدي فلان! انصرني، أو أغثني، أو ارزقني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال. فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل، فإن الله سبحانه وتعالى إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب، ليعبد وحده لا شريك له، ولا يدعى معه إله آخر، والذين يدعون مع الله آلهة أخرى، مثل: المسيح والملائكة والأصنام لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق، أو تنزل المطر، أو تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدونهم، أو يعبدون قبورهم، أو يعبدون صورهم، ويقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس:18]، فبعث الله سبحانه رسله تنهى عن أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة. اهـ].

حرمة الغلو وخطره

حرمة الغلو وخطره الإنسان قد يمرق من الدين في هذه الأزمان بسبب الغلو، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن ناساً يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، وقصد بذلك الخوارج كما بينت الأحاديث. يقول ابن تيمية: إنه يجوز أن يكون في وقتنا -ووقته في القرن السابع- من يمرق من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ثم بين ما كان في وقته من المروق من الدين وهو الغلو في المشايخ، يعني: في المقبورين، والغلو: هو تجاوز الحد؛ بأن يمدحهم أو يحبهم أكثر مما شرعه الله جل وعلا وأمر به، هذا هو الغلو. ثم بين أن الغلو في هذا كثير، ولكنه يتفاوت، فهو عند بعضهم يكون في علي بن أبي طالب، فجعلوا له نوعاً من الإلهية، وهذا وقع في زمن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، فـ عبد الله بن سبأ اليهودي الماكر الخبيث -الذي دخل الإسلام وتستر به حتى يتمكن من دس دسائسه على ضعاف العقول والأبصار وضعاف الإرادات من المسلمين، وتمكن من ذلك- كان يقول لأتباعه: إن علياً فيه جزء من الإلهية، وانطلى هذا القول على كثير من الناس، واعتقدوا هذا في حياة علي رضي الله عنه، حتى إنهم قابلوه، وقالوا له: أنت هو، وقال: ويلكم من أنا؟! قالوا: أنت إلهنا، يقولون له مقابلة، فقال: ويلكم ويلكم هذا الكفر! إن لم ترجعوا قتلتكم، وأمهلهم ثلاثة أيام فلم يرجعوا، فأمر بحفر تحفر، وأمر بالحطب أن يلقى فيها، فأضرمها ناراً، فأخذ من أمسك منهم وألقاهم في النار أحياء، حرقهم وهم أحياء، وذلك الماكر الخبيث فر منه، وقال: هذا دليل على أنه هو الإله؛ لأن النار لا يحرق بها إلا الله، فزاد البلاء بلاء، ولم يزل باق هذا الغلو في أتباع ابن سبأ إلى اليوم، فهم يعبدونه ويؤلهونه، وبعضهم يعتقد أنه نبي، وبعضهم يزيد ويعتقد أنه إله، ولما مات قالوا: ما مات، وإنما هو في السحاب وسوف يعود، وزعموا أن الرعد صوته، واعتقدوا الرجعة، أي: أنه يرجع إلى الدنيا فيقتل من زعم أنه مات. يقول شيخ الإسلام: (بل الغلو في المسيح عليه السلام)؛ لأنهم جعلوا عيسى هو الله، ومنهم من قال: إنه ثالث ثلاثة، ومنهم من قال: هو ابن الله، كما ذكر الله جل وعلا ذلك في القرآن. وهؤلاء الذين قالوا هذا القول، هم من بني آدم: لهم عقول، ولهم أبصار، ولهم أسماع، ومع ذلك اعتقدوا أن مخلوقاً مثلهم هو الذي يدبر، وهو الذي يملك الجنة والنار، ويملك ما في القلوب! فعلى الإنسان أن يخاف على نفسه أن يخرج من الدين الإسلامي بأدنى سبب؛ لأن الله جل وعلا إذا أزاغ قلب الإنسان فإنه لا يملكه، وربما يزين للإنسان سوء عمله فيراه حسناً، فيصبح لا فائدة فيه، ولا حيلة فيه إلا أن يهديه الله.

دعاء غير الله كفر بالإجماع

دعاء غير الله كفر بالإجماع قال الشارح رحمه الله: [وقال أيضاً: من جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم كفر إجماعاً]. لأن هذا هو شرك المشركين في الواقع، وهو الشرك الذي ذكره الله جل وعلا عن أول الأمم إلى آخرهم، في قصص الأنبياء التي قصها علينا في القرآن لنعتبر بها ونتعظ؛ لأننا نحن المقصودون بهذه القصص، أما الأمم السالفة انتهى أمرها، انتهى أهل الخير إلى الجنة، وأهل الشرك والشر إلى النار، ولا ينفعهم ذكرهم، وما جرى لهم، وإنما المقصود بقصصهم نحن؛ لنعتبر بها، وكل أمة من الأمم المشركة التي بعث إليها رسول من رسل الله جل وعلا بين الله جل وعلا أن شركهم في أنهم يدعون وسائط يطلبون منهم أن يقربوهم إلى الله، وأن يشفعوا لهم فقط، ما فيهم من يعتقد أن المدعو الذي يدعوه -سواء كان آدمياً، أو صورة أدمي، أو قبره، أو ملكاً من الملائكة، أو نبياً من الأنبياء أو غير ذلك- خلق السماء أو بعضها، أو خلق الأرض أو شيئاً منها، أو أنه يحيي أو أنه يميت، أو أنه ينزل المطر، أو يستطيع أن ينبت نباتاً، لا أحد يعتقد هذا أبداً، كلهم يقولون: إن الذي خلق الخلق، والذي يملك الموت والحياة، والذي يملك النفع والضر، هو الله وحده لا شريك له في ذلك، ولكن عبدوا من عبدوهم ليشفعوا لهم عند الله، عبدوهم ليدعوا لهم الله فقط، ويقولون: ندعوهم وهم يدعون الله لنا؛ لأن الله جل وعلا قربهم، ولأنهم لا ذنوب لهم مثلنا، ونحن مذنبون، فإذا سألناهم كان أنجح لمسألتنا وأقرب إلى الإجابة، هذا على حد زعمهم، وقاسوا الله على ما يقع لهم فيما بينهم، وضربوا لذلك مثلاً: إذا كان هناك رئيس أو كبير قوم، وكان الإنسان بعيداً عنه ويريد شيئاً منه، فإنه يقول: أذهب إلى من هو قريب منه: إلى وزيره أو صديقه أو أخيه، فأسأله أن يشفع لي، فيكون أقرب إلى إجابة طلبي، فهم قاسوا رب العالمين جل وعلا على هذا، فصاروا يسألون الشفعاء، ويجعلون الوسائط، وهذا هو شرك المشركين قديماً وحديثاً. أما الآن فتجدهم يتجهون إلى الأولياء، ويقولون: إن الله ملكهم بعض الأشياء، وإن الله أكرمهم بأنهم إذا دعوا استطاعوا أن يجيبوا، وهذه دعوى مجردة لا برهان لها، ولا دليل لهم على ذلك إلا أنهم ادعوا هذا، وسوف يتبين لهم أن دعواهم هذه باطلة، فهي مثل شرك المشركين تماماً. والمقصود أن هذا هو الشرك، وهذا هو أصله الذي وقع فيه الناس. قال الشارح رحمه الله: [وقال أيضاً: من جعل بينه وبين الله وسائط، يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم، كفر إجماعاً، نقله عنه صاحب الفروع، وصاحب الإنصاف، وصاحب الإقناع وغيرهم، وذكره شيخ الإسلام في "مسألة الوسائط"، ونقلته عنه في الرد على ابن جرجيس في مسألة الوسائط. وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: ومن أنواعه -أي: الشرك- طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم، فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، فضلاً لمن استغاث به أو سأله أن يشفع له إلى الله، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده، وسيأتي تتمة كلامه في باب الشفاعة إن شاء الله تعالى]. يعني: أن الشافع عبد من عباد الله، وكل شافع يشفع عبد لا يملك مع الله شيئاً، أما المشفوع عنده فهو الله القهار الذي بيده ملك كل شيء، وقد أخبر جل وعلا أنه لا يأذن بالشفاعة إلا لمن رضي قوله وعمله، {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28]، وقال جل وعلا: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، وأخبر جل وعلا أنه إذا قامت القيامة، وحضر الخلق بين يديه، وقامت الملائكة، فلا أحد يتكلم إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً، وللآيات في هذا كثيرة جداً، وتبين أن هؤلاء ضالون، وأنهم مخطئون أعظم الخطأ، وأنهم قد وقعوا في الشرك، وأن قولهم هذا مجرد دعوى لا دليل عليها.

تعظيم النبي لا يكون بدعائه

تعظيم النبي لا يكون بدعائه قال الشارح رحمه الله: [وقال الحافظ محمد بن عبد الهادي رحمه الله في رده على السبكي في قوله: إن المبالغة في تعظيمه -أي: الرسول صلى الله عليه وسلم - واجبة: إن أريد به المبالغة بحسب ما يراه كل أحد تعظيماً، حتى الحج إلى قبره، والسجود له والطواف به، واعتقاد أنه يعلم الغيب، وأنه يعطي ويمنع، ويملك لمن استغاث به من دون الله الضر والنفع، وأنه يقضي حوائج السائلين، ويفرج كربات المكروبين، وأنه يشفع فيمن يشاء، ويدخل الجنة من يشاء؛ فدعوى المبالغة في هذا التعظيم مبالغة في الشرك، وانسلاخ من جملة الدين]. يجب أن يكون التعظيم على حسب الشرع الذي أمر الله جل وعلا به، فتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم واجب، ولكن ليس بدعوته وعبادته والاستغاثة به، وإنما هو في تعظيم أمره، وتعظيم قدره، وكما أمر الله جل وعلا بطاعته واتباعه، فهذا هو تعظيمه، فيطيعه ويتبع سنته، ويدعو الخلق إلى دينه الذي جاء به، ويجتهد في ذلك، هذا هو الذي يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي يأمر به، أما أن يستغيث به أو أن يدعي له ما هو ملك لله فلا، كمن يقول: يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي فضلاً، وإلا فقل: يا زلت القدم وما أشبه ذلك، فيكون هو المدعو وهو المستغاث به، فهذا في الواقع تعظيم على خلاف أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو يوقع في الشرك، يقول محمد بن عبد الهادي رحمه الله: ليس للإنسان أن يعظم النبي عليه الصلاة والسلام على حسب نظره، وعلى وفق هواه، بل يجب أن يكون متقيداً بكتاب الله وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، في قوله وفي فعله، وفي جميع ما يرجو ثوابه ويخاف عقابه، بمعنى: أن كل عبادة يجب أن يكون العابد فيها متبعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر متفق عليه، ولا خلاف فيه بين العلماء. أما الذي يخالف في هذا فلا يعد من العلماء في الواقع، فكل العلماء يقولون: إن العبادة لها شرطان: أحدهما: أن تكون على وفق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فيكون الإنسان متبعاً فيها. الثاني: أن تكون خالصة لله جل وعلا، فإذا تخلف واحد من هذين الشرطين في العبادة فهي مردودة غير معتبرة. والإنسان يقدم الشرع على هواه، ويجب أن يكون متقيداً بالشرع. قال الشارح رحمه الله: [وفي الفتاوى البزازية -من كتب الحنفية-: قال علماؤنا: من قال: أرواح المشايخ حاضرة تعلم: يكفر]. يعني: بأرواح المشايخ: الأموات، ويعتقد بعد موتهم أن أرواحهم حاضرة عند الإنسان تعلم ما يقول وما يفعل، فمن قال هذا فهو كافر؛ لأنه ادعى ما لله جل وعلا لغيره من المخلوقين. ومن المعلوم أن الأموات أضعف من الأحياء؛ لأن الحي يستطيع أن يتصرف، يستطيع أن يذهب ويأتي، ويستطيع أن يعمل، أما الميت لا يستطيع شيئاً، قد انتهى أمره، وأصبح مرتهناً بعمله، كما قال الله جل وعلا: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38]. وأخبر جل وعلا أن نفس الميت ممسوكة عنده، فالله يمسك من يتوفاهم كما في القرآن، أما كون الميت يسمع من يسلم عليه إذا جاء إلى قبره، فهذا لا يدل على أنه يستطيع أن يجيبه أو يستطيع أن يسأل له، أو يستطيع أن ينفعه، فأمر الموت أمر غيبي لا نعرفه، ولا نعرف حقيقته، ولكن قريب منه النوم، والإنسان في نومه لا يتصرف ولا يستطيع أن يعمل شيئاً، وإن كان يرى أنه يفعل شيئاً فهو في الواقع لا يفعل، والنوم نوع من الموت؛ ولهذا لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم وقيل له: (أينام أهل الجنة؟ قال: لا)؛ لأن النوم قسم من الموت، وأهل الجنة لهم الحياة الكاملة، لا ينامون، وإذا كملت الحياة فلا يحتاج الإنسان إلى نوم، وإنما يحتاج إلى النوم ما دام ضعيفاً، وما دامت حياته ناقصة. والمقصود أن دعوى: أن الميت يعلم أو يتصرف! من اعتقد ذلك أو قال به فهو على خطر عظيم، بل هو على شفا جرف هار في نار جهنم -نسأل الله العافية-. وكون الميت يسمع لا يدل على أنه يتصرف، ولا يدل على أنه ينفع، وقد جاء في الحديث الصحيح: لما رُمي كبار الكفار من قريش في بئر بدر، وجاء عليهم ثلاثة أيام، فالرسول صلى الله عليه وسلم ركب راحلته، وقام على البئر، وصار يناديهم بأسمائهم: (يا فلان ابن فلان! يا فلان ابن فلان! يا فلان ابن فلان! هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً، فإني وجدتُ ما وعدني ربي حقاً؟! فقال له أصحابه: يا رسول الله! ما تنادي من قوم قد جيَّفوا؟ -يعني: صاروا جيَفاً أمواتاً لا حراك لهم ولا حياة فيهم- قال لهم: ما أنتم بأسمع منهم لما أقول، إلا أنهم لا يستطيعون الإجابة) فبيَّن أنهم يسمعون ولكن لا يستطيعون أن يجيبوا، ومناداته لهم وكلامه لهم من باب التبكيت والتهديد والتعذيب والتقريع، يقرعهم بذلك حيث كفروا بالله جلَّ وعلا بعدما جاءتهم البينات. وفي الحديث الآخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وضع الميت في قبره وولى عنه أصحابه، وهو يسمع قرع نعالهم -يسمع قرع نعالهم! - أتاه الملكان) إلخ، فكونه يسمع: أمرٌ لا نعرف حقيقته، ولكن نعلم علماً يقينياً بأنه لا يتصرف، ولا يملك شيئاً، ولا ينفع الداعي إذا دعاه، ولا يستطيع أن يشفع له، أو يقربه إلى الله، أو يكون واسطة له عند الله؛ لأن الشرع بين هذا وأوضحه غاية الإيضاح، فالذي يخالف في هذا، ويعتقد غير هذا لا عذر له بعد البيان والإيضاح الكامل من ربنا جلَّ وعلا، ومن رسولنا صلى الله عليه وسلم.

الرد على من ادعى أن للأولياء تصرفات في الكون حال حياتهم وموتهم]

الرد على من ادعى أن للأولياء تصرفات في الكون حال حياتهم وموتهم] قال الشارح رحمه الله تعالى: [وقال الشيخ صنع الله الحلبي الحنفي رحمه الله في كتابه في الرد على من ادعى أن للأولياء تصرفات في الحياة وبعد الممات على سبيل الكرامة: هذا وإنه قد ظهر الآن فيما بين المسلمين جماعات يدَّعون أن للأولياء تصرفات في حياتهم وبعد مماتهم، ويُستغاث بهم في الشدائد والبليات، وبهممهم تُكشف المهمات، فيأتون قبورهم وينادونهم في قضاء الحاجات، مستدلين أن ذلك منهم كرامات، وقالوا: منهم أبدال ونقباء، وأوتاد ونجباء، وسبعون وسبعة، وأربعون وأربعة، والقطب هو: الغوث للناس، وعليه المدار بلا التباس، وجوَّزوا لهم الذبائح والنذور، وأثبتوا لهم فيهما الأجور. قال: وهذا كلام فيه تفريط وإفراط، بل فيه الهلاك الأبدي والعذاب السرمدي؛ لما فيه من روائح الشرك المحقق، ومصادمة الكتاب العزيز المصدَّق، ومخالفة لعقائد الأئمة وما اجتمعت عليه الأمة، وفي التنزيل: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرَاً} [النساء:115] ثم قال: فأما قولهم: إن للأولياء تصرفات في حياتهم وبعد الممات، فيرده قوله تعالى: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:60]، وقوله: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]، وقوله تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الشورى:49] ونحوها من الآيات الدالة على أنه المتفرد بالخلق والتدبير، والتصرف والتقدير، ولا شيء لغيره في شيء ما بوجهٍ من الوجوه، فالكل تحت ملكه وقهره تصرفاً وملكاً، وإحياءً وإماتةً وخلقاً، وتمدَّح الرب تعالى بانفراده بملكه في آيات من كتابه كقوله تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر:3]، وقوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:13 - 14]، وذكر آيات في هذا المعنى. ثم قال: فقوله في الآيات كلها: (مِنْ دُونِهِ) أي: من غيره، فإنه عام يدخل فيه من اعتقدتَه، من ولي وشيطان تستمده، فإن من لم يقدر على نصر نفسه كيف يَمد غيره؟! إلى أن قال: إن هذا لقول وخيم وشرك عظيم إلى أن قال: وأما القول بالتصرف بعد الممات، فهو أشنع وأبدع من القول بالتصرف في الحياة، قال جلَّ ذكره: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] وقال: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر:42] وقال: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185] وقال: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38]، وفي الحديث: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلَّا من ثلاث:) الحديث. فجميع ذلك وما هو نحوه: دال على انقطاع الحس والحركة من الميت، وأن أرواحهم مُمْسَكة، وأن أعمالهم منقطعة عن زيادة أو نقصان، فدل ذلك على أنه ليس للميت تصرف في ذاته فضلاً عن غيره، فإذا عجز عن حركة نفسه فكيف يتصرف في غيره؟! فالله سبحانه يخبر أن الأرواح عنده، وهؤلاء الملحدون يقولون: إن الأرواح مطلقة متصرفة، {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة:140]. قال: وأما اعتقادهم أن هذه التصرفات لهم من الكرامات، فهو من المغالطة؛ لأن الكرامة شيء من عند الله يكرم به أولياءه، لا قصد لهم فيه ولا تحدٍّ، ولا قدرة ولا علم، كما في قصة مريم بنت عمران رضي الله عنها وأسيد بن حضير وأبي مسلم الخولاني قال: وأما قولهم: فيستغاث بهم في الشدائد، فهذا أقبح مما قبله وأبدع؛ لمصادمته قوله جلَّ ذكره: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:62] وقال: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعَاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} [الأنعام:63 - 64]، وذكر آيات في هذا المعنى. ]

إيمان المشركين بربوبية الله

إيمان المشركين بربوبية الله إن القرآن يقص علينا من أول ما بعث الله جلَّ وعلا الرسل إلى آخرهم: أن المشركين الذين بُعثت إليهم الرسل كانوا يؤمنون بأن الله جلَّ وعلا هو الخالق الرازق المدبر المحيي المميت، كما قال الله جلَّ وعلا عنهم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87] وقال في الآية الأخرى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9] وقال في الآية الأخرى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر:38] إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تبين أن المشركين كانوا يعتقدون ويؤمنون بأن التصرف لله وحده في الكون كله: في الحياة والخلق والإيجاد والرزق وغير ذلك، ولهذا يقول الله جلَّ وعلا: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106]. وإيمانهم بالله: أنك إذا سألتهم، وقلت لهم: من خلق هذه الأشياء؟ ومن خلقكم؟ ومن خلق مَن قبلكم؟ قالوا: الله، هو المتفرد بهذا الخلق. وشركهم: أنهم يعبدون مع الله غيره. ويقول جلَّ وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشَاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقَاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادَاً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:21 - 22]، أقروا بأن الله جلَّ وعلا هو الذي خلقهم، وهو الذي خلق مَن قبلهم، وهو الذي خلق الأرض وجعلها على هذه الصفة: يمكن الانتفاع بها والاستقرار عليها، وهو الذي رفع السماء، وهو الذي ينزل من السماء الماء، فينبت به النبات الذي يأكلونه وتأكله أنعامهم فينتفعون منه، فلا يوجد أحد منهم ينازع في هذا أو ينكره، ولهذا قال: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادَاً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22] تعلمون أنه جلَّ وعلا هو المتفرد بهذه الأشياء المذكورة، ليس معه أحد: لا ولي ولا نبي ولا ملَك ولا غير ذلك.

حال المشركين في زماننا

حال المشركين في زماننا فاعتقاد أن الأولياء يتصرفون في الكون، ويتصرفون في العطاء والمنع والنفع والضر وغير ذلك، أشد مما اعتقده المشركون، فالذي يعتقد هذا -في الواقع- ضلَّ في عقله وفي دينه، وهو ضلال لم يصل إليه ضلال أبي جهل وأضرابه من الكفار السابقين، فهو ضلال متناهٍ، فالولي عبد من عباد الله جلَّ وعلا، أكرمه الله جلَّ وعلا بأن وفقه إلى عبادته وطاعته، وقد أخبرنا جلَّ وعلا عن صفة الأولياء مَنْ هم؟ فقال: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63]، هؤلاء هم الأولياء الذين آمنوا بالله جلَّ وعلا واهتدوا بهداه، واتبعوا كتابه، واقتفوا أثر رسوله صلى الله عليه وسلم، واتقوا أن يقعوا في المحرمات، اتقوها بطاعة الله. فما ذَكر عن هؤلاء -في الواقع- خلاف ما كان عليه القدامى من المؤمنين ومن المشركين، فهو شذوذ عقلي وفكري، لا يدل عليه عقل، ولا وضع، ولا فطرة، فضلاً عن الكتب التي نزَّلها الله جلَّ وعلا فإنه مصادَمةٌ لها.

الكرامات من فعل الله عز وجل

الكرامات من فعل الله عز وجل وأما دعوى الكرامة، فالكرامات من فعل الله جلَّ وعلا وليس للإنسان فيها صنع، ولا دخل له فيها، فإنها شيء يمن الله جلَّ وعلا به على عباده الذين يحتاجون إلى ذلك، يكرمهم به، وليس من شرط ولي الله أن يظهر على يده كرامة، فالكرامة تكون للحاجة، وهي من مقتضى ربوبية الله جلَّ وعلا، فإن رب العالمين هو الذي يربيهم بنعمه، فإذا احتاجوا إلى شيء أعطاهم إياه بمقتضى ربوبيته جلَّ وعلا. وذكر بعض أمثلتها: كما وقع لـ مريم بنت عمران حينما ذكر الله جلَّ وعلا أن زكريا كلما دخل عليها المحراب: {وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقَاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:37] يعني: بلا سعي منها، وإنما يأتي به الله جلَّ وعلا، والمقصود بـ (المحراب): المسجد المصلى الذي يُصلى فيه مكان الصلاة. وكذلك ما وقع لـ أسيد بن حضير حينما خرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة ظلماء وهو في المدينة، وكان بيده سوط فأضاء له السوط، وصار في رأسه ضوء يبصر به طريقه، ويراه واضحاً جلياً، وكان معه أحد الصحابة، فكان هذا السوط يضيء لهما كأنه السراج، ثم لما وصلا إلى مكان يفترقان فيه -كل واحد يذهب إلى بيته- افترق هذا الضوء، فصار لكل واحد منه نصيباً، حتى وصلا إلى بيتيهما، فهذه كرامة من الله جلَّ وعلا وليست منهما. وكذلك ما ذكر أنه وقع لـ أبي مسلم الخولاني، أبو مسلم الخولاني من التابعين، وهو الذي قال له الأسود العنسي لما ادَّعى النبوة: أتؤمن بي؟ قال: لا أسمع. قال: أتؤمن بمحمد؟ قال: نعم. فأمر به أن يُلقى في نار، فصارت النار عليه برداً وسلاماً، كما كانت على إبراهيم. فهل هذا من صنع أبي مسلم؟! ليس من صنعه، بل من صنع الله جلَّ وعلا ومن فعله، ولا دخل لـ أبي مسلم فيه. وكذلك لما ذهب في الجهاد في سبيل الله فاعترضهم البحر، فقال لهم: سيروا خلفي، فإننا عباد الله، وفي سبيله: باسم الله وعلى الله توكلنا، ولا حول ولا قوة إلَّا بالله، فخاض البحر على فرسه، وخاض الناس خلفه، فلما عبروه وقف وقال: هل أحد منكم فقد شيئاً فأدعو الله أن يأتي به؟ فقال رجل منهم: فقدت قدحاً، فسأل ربه، فالتفت فإذا هو قد تعلق في خلف راحلته. هذا وما أشبهه من الكرامات التي يكرم بها جلَّ وعلا عباده هي من فعل الله جلَّ وعلا، وليست من فعل العباد، ولا تصرف للعباد فيها، وهي أيضاً من آيات الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذه لا تكون إلَّا لأتباع الرسل، أما إذا كانت للعصاة، ولمن يخالف كتاب الله وسنة رسوله، فهي من أمور الشيطان التي يلبِّس بها، فهي -في الواقع- إهانات وليست كرامات. والمقصود: أن الملك كله لله، والعبادة كلها لله، ولا يجوز أن يُسأل مخلوق من المخلوقات -سواءً كان نبياً أو ملَكاً أو ولياً أو غيرهم- شيئاً لا يقدرون عليه.

جواز الاستعانة بالحي الحاضر فيما يقدر عليه

جواز الاستعانة بالحي الحاضر فيما يقدر عليه لا يجوز أن يُسألوا مما هو من خصائص الله جلَّ وعلا، فلا يُستغاث بهم، ولا تطلب منهم الحاجات التي لا يقدرون عليها، وإنما يُسأل الحي الحاضر المستطيع: يُسأل إذا كان مستطيعاً أن يعطيك ما تسأله، ويُستغاث به في الشيء الذي يستطيعه، كما قال الله جلَّ وعلا في قصة موسى عليه السلام: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص:15]، فبين أن الاستغاثة في مثل هذا جائزة: الاستغاثة في الشيء الظاهر، والأمر المحسوس المشاهَد، والمقدور عليه ممن يستطيع ذلك: لا بأس بها، أما الاستغاثة من ميت، أو من غائب، أو بحي حاضر غير مستطيع في أن يكشف عنه داء القلوب، أو مرض الأبدان، أو يجلب له الرزق، أو يوفقه، أو يهديه، أو ما أشبه ذلك من الأمور التي هي بيد الله، فهذا شرك بالله جلَّ وعلا؛ لأنه صرفٌ لحقه للمخلوق، فلا يجوز أن يقع المسلم في مثل هذه الأمور، ويجب أن يعرف أمر الله عليه، وما أوجبه الله جلَّ وعلا على عباده، فإن لله حقاً على العباد لا يجوز أن يُجعل منه شيء لأحد من الخلق، وليس طلبُ الدعاء والشفاعة من الحاضر الذي يسمع ويقدر من هذا الباب، بل هو جائز. والخلاصة في هذا: أن المخلوق لا يُطلب منه إلَّا ما في مقدوره واستطاعته، والميت لا قدرة له، ولا استطاعة له، ولا تصرف له، وكذلك الغائب، مثل: الجني والملَك الذي لا يشاهَد ولا يُرى فإنه لا يُسأل ولا يُطلب منه، سواءً ادُّعي أنه ولي من أولياء الله، أو نبي من أنبياء الله، أو ملك من الملائكة أو غير ذلك، فإن الله جلَّ وعلا تعبَّد العباد بأنه يملك النفع ويدفع الضر، وأنه لا أحد من خلقه يشاركه في هذا.

الأمر كله بيد الله وحده

الأمر كله بيد الله وحده ولهذا أمر رسولَه صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرَّاً وَلا نَفْعَاً} [يونس:49]، وأمره أن يقول: {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدَاً} [الجن:22]، وهذا أفضل الخلق صلوات الله وسلامه عليه، يأمره ربه جلَّ وعلا أن يتبرأ إلى الله جلَّ وعلا بأنه لا يملك مما في يد الله شيئاً. وقد وقع له ما وقع يوم أحد، حينما شُج وجهه صلوات الله وسلامه عليه، وكُسرت رباعيته، ودخلت حلقة المِغْفَر في وجنته صلوات الله وسلامه عليه، وصار الدم يسيل على وجهه، فيسلته ويقول: (كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم؟!) ثم صار يدعو على هؤلاء الذين فعلوا هذا الفعل الشنيع الفظيع دائماً في الصلاة، يقول: (اللهم العن فلاناً وفلاناً وفلاناً، وسادةُ الأولياء من صحابته خلفَه يؤمِّنون، ويقولون: آمين، مكث شهراً يفعل ذلك، فأنزل الله جلَّ وعلا عليه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128]) ثم تاب الله جلَّ وعلا عليهم -على هؤلاء- فأسلموا. فليس لأحد من الخلق مع الله تصرف، فالأمر كله بيد الله، والنفع بيد الله، فليس للأحياء شيء فضلاً عن الأموات، أما الميت فهو مرتَهَن بعمله، كما قال الله جلَّ وعلا: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38] (رهينة) يعني: محبوسة ومحتبَسة بعملها، وليست مطلقة متصرفة كما يقول هؤلاء الضُّلَّال، فإنه كذب على الله جلَّ وعلا وعلى دينه، وتدخل في ملكه وتصرفه وأمره. وكذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا مات الإنسان انقطع عمله) ينقطع وينتهي، فإذا كان ينقطع عمله لنفسه، فكيف يستطيع أن يعمل لغيره؟! وكيف يستطيع أن يغيث غيره؟!

من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه

من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه أما الشفاعة: فإن الله جلَّ وعلا أخبرنا أن الشفاعة له جميعاً، وليست لأحد من الخلق، ولا أحد يستطيع ويجرأ أن يشفع إلا إذا أذن له، وقال له: اشفع، كما قال الله جلَّ وعلا: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] (من ذا الذي؟!) هذا استفهام إنكار، يعني: أنه لا يوجد أحد من الخلق يتقدم طالباً الشفاعة من الله إلَّا إذا أذن له الله جلَّ وعلا وقال له: اشفع، وقد أخبرنا جلَّ وعلا أن الشفاعة لا تكون لمن يطلبها من الخلق، وإنما تكون لمن يطلبها من الله، ومَن يخلص دعوته لله جلَّ وعلا، فالشفاعة لأهل التوحيد، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لما سئل: (من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال صلى الله عليه وسلم: أسعدهم بشفاعتي: مَن قال: (لا إله إلَّا الله) خالصاً من قلبه) فبين أن الشفاعة لأهل الإخلاص، أما الذي يقول: (لا إله إلَّا الله) وهو يدعو غير الله، فإنه لم يخلص، وقد أتى بما يمنع من الشفاعة؛ لأن الشفاعة لأهل التوحيد الخالص، وهذا أمر جلي وواضح، ولكن إذا كثر الجهل، وتتابع الناس على أوضاع توافقوا عليها، أو وجدوا أهل بلادهم أو آباءهم عليها: اعتقدوا أنها دين، واستبعدوا أن يكون الناس قد تتابعوا على شرك وشيء باطل، فيقع هذا في نفوسهم ويتأصل، وإذا قيل لهم أو نوقشوا في هذا، استبعدوا أن يكون المناقِش والقائل هو المهتدي، والناس الكثيرون ضلوا في هذا! فصار الشيطان يصدهم عن اتباع الحق بهذا السبب.

على الإنسان أن يسعى في فكاك نفسه وخلاصها من العذاب

على الإنسان أن يسعى في فكاك نفسه وخلاصها من العذاب ومعلوم أن الهدى في كتاب الله جلَّ وعلا، وفي سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته، وهذا بين وواضح ليس به خفاء، وإنما يقع في مثل هذه الأمور الجُهَّال، الذين لم يهتدوا بنور كتاب الله جلَّ وعلا، ولم يقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم في ذلك -في الواقع- مقصرون؛ لأنهم تركوا ما يجب عليهم أن يهتموا به؛ فإن الواجب على الإنسان أن يعتني بأمر دينه أكثر من اعتنائه بأمر دنياه، ولا يجوز للعاقل أن تكون الدنيا عنده أهم من أمر آخرته، وأمر دينه. ومعلوم أن الجزاء يقع على فعل الإنسان في حال حياته، أما إذا مات فقد انتهى الأمر، ولا يمكن أن يُستعتب الإنسان بعد موته ويُثاب عليه، ويَطلب المغفرة لنفسه فيُغفر له! قد انتهى الأمر، وقد جاء النذير إلى الناس، جاءهم الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الحياة وبلغهم، وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن من بلغه ذكره أنه قد وصل إليه البلاغ، ففي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (والله لا يسمع بي أحمر أو أبيض ثم لا يؤمن بي إلَّا أقحمه الله النار) فعلَّق ذلك بمجرد السماع بذكره؛ لأن العاقل إذا سمع بذلك وجب عليه أن يبحث وجب عليه أن يتعلم دينه ويعرفه، وهو ميسور والحمد لله، وليس صعباً، وكذلك يقول الله جلَّ وعلا: {لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19]، فمن بلغه القرآن -بلغته ألفاظُه- فقد وصلت إليه الحجة وقامت عليه، فعليه هو أن يجتهد في معرفة الحق، وقد جعل الله جلَّ وعلا في الناس عقولاً وأفكاراً، فيجب أن يستعملوا عقولهم وأفكارهم فيما ينفعهم، لا أن يستعملوها في أمر الدنيا فقط، فالدنيا أمرها سهل وميسور، وهي عابرة وزائلة بسرعة، ولكن الأهوال بعد الموت؛ لأن الإنسان ما خلق ليفنى وما خلق ليموت بل خلق للبقاء السرمدي الذي لا نهاية له، ففي حياته الدنيوية إما أن يكتسب السعادة، وإما أن يجلب إلى نفسه الشقاء الأبدي، وليس هناك طريق ثالث، لأن الاستقرار بعد حشر الناس وجمعهم يوم القيامة إما في الجنة وإما في النار، ولا توجد منزلة ثالثة، ثم دخول الجنة ودخول النار ليس مؤقتاً ولا محدداً بفترة، لا بألف سنة ولا بمليون سنة ولا بمائة مليون سنة، بل حياة إلى أبد الآباد: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} [هود:107]، والمصيبة أن الذي يوضع في النار لا يمكن أن يموت: {لا يَمُوتُ فِيْهَا وَلا يَحْيَا} [طه:74] {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودَاً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56]، وكلما: للتكرار الذي لا نهاية له. فإذا كان الأمر هكذا: فإنه يجب على العاقل أن يسعى في فكاك نفسه، وفي خلاصها من العذاب، وفي تحصيل السعادة الأبدية التي لا تشبهها أي سعادة يعرفها الإنسان في هذه الدنيا، فإن الإنسان إذا عمل بتقوى الله وبطاعته وبرضاه، وقبل الله منه ذلك، فإنه يكون جاراً لله جلَّ وعلا في الجنة، وملائكة الله تخدمه، وتدخل عليه مسلمة وتقول: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:24]، فكيف يذهب العاقل يتعلق بمخلوق ضعيف مثله، لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً؟! هذا لا يليق بالعاقل، بل يجب أن يكون تعلقه بالخالق جلَّ وعلا بالرب الكريم بالجواد الرحيم بالذي بيده ملكوت كل شيء، وقد استدل ربنا جلَّ وعلا على المشركين في كونهم يقرون بأن الله جلَّ وعلا هو المتصرف وحده: بوجوب إخلاص العبادة له في آيات كثيرة سيأتي شيء منها إن شاء الله. [فإنه جلَّ ذكره قرر أنه الكاشف للضر لا غيره، وأنه المتفرد بإجابة المضطرين، وأنه المستغاث لذلك كله، وأنه القادر على دفع الضر، القادر على إيصال الخير، فهو المتفرد بذلك، فإذا تعين هو جلَّ ذكره خرج غيره من ملَك ونبي وولي قال: والاستغاثة تجوز في الأسباب الظاهرة العادية من الأمور الحسية: في قتال أو إدراك عدو أو سبع أو نحوه، كقولهم: يا لَزيد! ويا لَلمسلمين! بحسب الأفعال الظاهرة بالفعل، وأما الاستغاثة بالقوة والتأثير، أو في الأمور المعنوية من الشدائد: كالمرض، وخوف الغرق، والضيق، والفقر، وطلب الرزق ونحوه فمن خصائص الله، لا يُطلب فيها غيره قال: وأما كونهم معتقدين التأثير منهم في قضاء حاجاتهم، كما تفعله جاهلية العرب والصوفية الجُهَّال، وينادونهم ويستنجدون بهم فهذا من المنكرات، فمن اعتقد أن لغير الله -من نبي أو ولي أو روح أو غير ذلك- في كشف كربة أو قضاء حاجة تأثيراً فقد وقع في وادي جهل خطير، فهو على شفا حفرة من السعير، وأما كونهم مستدلين على أن ذلك منهم كرامات فحاشَ لله أن يكون أولياء الله بهذه المثابة! فهذا ظن أهل الأوثان، كذا أخبر الرحمان قال تعالى: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس:18]، وقال: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، وقال: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئَاً وَلا يُنقِذُونِ} [يس:23]، فإنَّ ذِكْرَ ما ليس من شأنه نفع ولا دفع الضر -من نبي وولي وغيره- على وجه الإمداد منه: إشراكٌ مع الله؛ إذ لا قادر على الدفع غيره ولا خير إلَّا خيره].

حال المشركين الأوائل عند الشدائد

حال المشركين الأوائل عند الشدائد المشركون القدامى لم يكونوا معتقدين في معبوداتهم -سواءً كانت أصناماً مثل: الشجر والحجر، أو كانت قبوراً مثل: اللات ونحوها -على أحد قولي العلماء-، أو مثل: عيسى وعزير وأم عيسى عليهم السلام، أو الملائكة، أو الأجرام السماوية مثل: الكواكب والشمس والقمر وما أشبه ذلك- أنها مشارِكة لله جلَّ وعلا في العطاء والمنع والدفع والنفع، وما كانوا يعبدونها على هذا الأساس، وإنما كانوا يعبدونها زاعمين أنها تقربهم إلى الله زلفى وتشفع لهم، كما ذكر الله جلَّ وعلا ذلك عنهم، وهذا هو شركهم الذي كانوا يفعلونه، وهذا شيء معروف لمن نظر في التاريخ، ونظر في وقائعهم، وفي حالتهم التي كانوا عليها. ولهذا كانوا إذا وقعوا في شدة تركوا هذه الأشياء، واتجهوا إلى الله وأخلصوا له الدعوة، كما أخبر الله جلَّ وعلا ذلك عنهم: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت:65] أي: أنهم إذا ركبوا في البحر، فهبت عليهم الريح العاصفة -التي يتوقعون أنها ستهلكهم وتغرقهم- اتجهوا إلى الله مخلصين له في دعائهم، ولا يدعون معه غيره، وقد جاءت الأخبار بأنهم إذا كانوا في مثل هذه الحالة، وكانت معهم الأصنام ألقوها في البحر، وقالوا: إنها لا تنفع في مثل هذه الحالة. فالمقصود: أن عبادتهم لهم كانت على سبيل الوساطة، يجعلونهم وسائط بينهم وبين ربهم، ويقولون: نسأل الله بهم، أي: نسألهم وهم يسألون الله لنا، ويقولون: نطلب منهم أن يشفعوا لنا عند الله، فهذا هو الشرك الذي وقعوا فيه، أما أن أحداً منهم كان يعتقد أن الشجرة -مثلاً- تنزل المطر، أو تنبت النبات، أو تجلب الرزق، أو تدفع العدو، فما كان أحد منهم يعتقد هذا، وكذلك الميت، ما كان أحد منهم يعتقد أنه ينزل المطر، أو يحيي أو يميت، أو أنه يجلب الرزق، أو أنه يدفع العدو، أو أنه يزيل المرض، أو أنه يمسك الخير، ما كانوا يعتقدون ذلك، وإنما كانوا يقولون: نطلب منه حتى يسأل الله لنا، فيعطينا الذي نريده، هذا هو شرك المشركين، ولم يكن أحد منهم يطلب مخلوقاً على وجه الاستقلال، أو وجه المشارَكة مع الله جلَّ وعلا.

شرح فتح المجيد [47]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [47] من المعلوم أن الإنسان لا يجوز له أن يفعل فعلاً أو يقدم على أمر من أمور العبادة إلا بدليل من كتاب الله أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، بخلاف أمور المعاملات والمطعومات والمشروبات فإن الأصل فيها الحل حتى يأتي الدليل بتحريمها، ولهذا فقد اتفق العلماء على أن العبادة مبنية على شرطين: الأول: أن تكون خالصة لله، والثاني: أن تكون على وفق ما جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

لا وجود للأبدال والأقطاب والأوتاد

لا وجود للأبدال والأقطاب والأوتاد قال المصنف رحمه الله: [وأما ما قالوه: إن منهم أبدالاً ونقباءَ، وأوتاداً ونجباءَ، وسبعين وسبعة، وأربعين وأربعة، والقطب هو: الغوث للناس، فهذا من موضوعات إفكهم، كما ذكره القاضي المحدث أبو بكر بن العربي في سراج المريدين، وابن الجوزي، وابن تيمية رحمهم الله. انتهى باختصار]. يعنون: أن هذا من الكذب وليس له أصل، وإنما جاء ذكر الأبدال في بعض الآثار، وفيها نظر عند بعض العلماء، وجاء: (أن الأبدال بالشام) ومعنى الأبدال: أنه كلما ذهب واحد منهم جاء غيره بدلاً عنه، وإذا صح ذلك فإن معناه: أنهم الذين يقومون بالدعوة إلى الله، والذين يقومون بالحجة على عباد الله؛ لأن حجة الله لا تضمحل ولا تزول ولا تنتهي، وفي الحديث المشهور: (يحمل هذا العلم من كل خَلَف عدولُه ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين)، وليس فيه أن الأبدال يُدعَون مع الله، وأنهم يغيثون. أما الذي يسمونه: القطب، أو النجباء، أو السبعين، أو السبعة، أو الأربعة: فهذا من الكذب، ليس هناك ما يدل على هذا، لا من كتاب الله جلَّ وعلا، ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا من أقوال الصحابة وأتباعهم، وإنما هو من الكذب، وقد بين العلماء أن هذا لا أصل له، وإذا كان هناك أولياء لله جلَّ وعلا فهم لا يرضون بأن يدعَون مع الله، بل يغضبون لذلك، ويكفرون بالداعي، ويبغضونه ويتبرءون منه، كما أخبر الله جلَّ وعلا عنهم فقال: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزَّاً * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدَّاً} [مريم:81 - 82]، ما معنى (يكونون عليهم ضداً)؟ أي: يكونون ضدهم يوم القيامة: بأن يتبرءون منهم، ويلعنونهم، ويكفرون بهم، كما في الآية الأخرى: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضَاً} [العنكبوت:25]، وفي آية ثالثة: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:6]، يعني: إذا جُمعوا يوم القيامة، وقيل لهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تدعونهم، فيذهبون إليهم، ويسألونهم: أأنتم الذين نستغيث بكم ونسألكم؟ فيتبرءون منهم، ويقولون: كذبتم، نحن لا نغيث أحداً، ونحن نبرأ إلى الله منكم ومن أفعالكم، فماذا يكون مع الداعي؟! يكون معه الخيبة والضلال، وغرور الشيطان. ومعلوم أن الإنسان لا يجوز له أن يفعل فعلاً، أو يقدم على أمر من الأمور، إلا بدليل من كتاب الله أو من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فالعبادة محرمة -كما يقول العلماء- حتى يأتي الدليل، بخلاف أمور المعاملات، وأمور المطعومات والمشروبات، فإن الأصل فيها الحل، حتى يأتي الدليل على التحريم، أما أمور العبادة فبالعكس، ولهذا اتفق العلماء على أن العبادة مبنية على شيئين: أحدهما: أن تكون العبادة خالصة لله جلَّ وعلا. والثاني: أن تكون على وفق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، أما إذا كانت بالرأي، أو بالعادة التي وجد عليها الناس، فهي غير معتبرة وغير مقبولة، بل مردودة على صاحبها، ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) أي: فهو مردود على صاحبه، فكل عمل ليس عليه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكون معتبراً، ولا يكون صحيحاً. [والمقصود: أن أهل العلم ما زالوا ينكرون هذه الأمور الشركية التي عمت بها البلوى، واعتقدها أهل الأهواء، فلو تتبعنا كلام العلماء المنكرين لهذه الأمور الشركية لطال الكتاب. ]: الواقع: أنه ما وقع فيها إلَّا الجُهَّال، والجُهَّال لا عبرة فيهم، ولا يجوز للإنسان أن يغتر بهم، أما العلماء فهم لا يزالون ينصحون الأمة ويحذرونها من الوقوع في مثل هذه الأمور؛ لظهورها ووضوحها، فهي واضحة، ومن المعلوم لدى المسلمين في عقائدهم أن الإنسان يُسأل عن أصول الدين في قبره: يُسأل مَن الذي تعبُد؟ وبأي شيء تعبُده؟ ومَن الذي جاءك بما تتعبَّد به؟ هذه الأسئلة الثلاثة لا بد منها لكل ميت، فإذا كان الإنسان عارفاً عالماً بذلك، أجاب بكل سهولة وبلا تلعثم ولا تردد، فيقول: أعبد الله، ويقول: أعبده بالشرع الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا قيل له: مَن؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفتُه وصدقته فاتبعته، وليس معنى ذلك أن الإنسان إذا عرف اسم الرسول صلى الله عليه وسلم، واسم أبيه، واسم جده، وقال: هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم أن هذا يكفي! بل لا بد أن تعرفه المعرفة الصحيحة بأنه رسول من عند الله، تعرفه بالآيات التي جاء بها، وتقتنع بذلك، وتؤمن به إيماناً لا يعتريه الشك.

طرق معرفة رسول الله صلى الله عليه وسلم

طرق معرفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفته لها طرق كثيرة: ومن أهم الطرق التي يتعرف بها على الرسول صلى الله عليه وسلم: سيرته صلوات الله وسلامه عليه، فقد جاء إلى أمة كافرة مشركة وهو وحده، فصار يقول لهم: (قولوا: (لا إله إلَّا الله) تفلحوا)، وإن لم تفعلوا فإن الله جلَّ وعلا سوف يسلطني عليكم، فأقتلكم وآخذ أموالكم، أيمكن أن يأتي رجل واحد ليس معه جند ولا قوة، إلى أمة كبيرة معادية له، فيقول لهم هذا القول وهو وحده؟! معنى ذلك: أنه يغريهم بقتله، ويدعوهم إلى ذلك، ولا يقول ذلك إلَّا من يثق بالله جلَّ وعلا من كان الله معه من كان رسولاً لله، وكذلك من المعلوم عند العقلاء أن الإنسان إذا جاء إلى الناس، وقال: أنا رسول الله، فإنه لا يخلو الأمر من شيئين: إما أن يكون أصدق الناس، وأبر الناس، وأتقى الناس، وأقرب الناس إلى الله، أو يكون أكذب الناس، وأفشل الناس، وأبعد الناس عن الله جلَّ وعلا. وهل يلتبس هذا بهذا؟! أيمكن أن يلتبس هذا بهذا؟! لا يمكن أبداً؛ لأن مدعي النبوة من أبعد الخلق، ومن أكذب الخلق، ومن أخبث الخلق، أما النبي إذا جاء من الله صادقاً: فهو أبر الخلق، وأصدقهم، وأقربهم إلى الله. وهذا من الأدلة المعتبرة. ومنها: كونه يخبر بأمور الغيب يخبر بالشيء، فيقع كما أخبر به صلوات الله وسلامه عليه. ومنها: كونه يسأل ربه فيعطيه. ومنها: الآيات التي وقعت على يده، وهي كثيرة جداً، ومن أعظمها: هذا الكتاب الذي جاء به من عند الله. بهذه الطرق تكون معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم، وليست بمعرفة اسمه وترديده وحفظه، كما قد يغتر به من يغتر. وكذلك معرفة الله جلَّ وعلا بالأدلة المقنِعة، وهذا أمر لا يحتاج إلى ذكر أدلة؛ لظهوره ووضوحه. أما معرفة الإسلام فهو بالتعلُّم، فلا بد من تلقيه وتعلُّمه، وهذا أمر يتعين على العبد، فيتعين عليه أن يعرف كيف يعبد الله كيف يصلي كيف يصوم كيف يتوضأ، ولا يجوز أن يكون جاهلاً بهذه الأمور، بحيث لا يدري هل الصلاة ركعتين أو أربع أو ثلاث؟ أو لا يدري ماذا يقول ويفعل في الصلاة؟ فالشيء الذي يتعين على العبد فعله يجب عليه أن يكون حريصاً على معرفته كل الحرص، وليس عيباً أن يسأل وأن يحرص على معرفة الحق، بل هذا يدل على اهتمامه، ويؤجر على ذلك. قال الشارح رحمه الله تعالى: [والبصير النبيل يدرك الحق من أول دليل، ومن قال قولاً بلا برهان فقوله ظاهر البطلان مخالف لما عليه أهل الحق والإيمان، المتمسكون بمحكم القرآن، المستجيبون لداعي الحق والإيمان، والله المستعان وعليه التكلان].

ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك

ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك قال المصنف رحمه الله: [وقول الله تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذَاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس:106] {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس:107]]: هذه الآية خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن الأمة تبعٌ له، فالله جلَّ وعلا نهى أقرب الناس إليه أن يدعو ما لا ينفعه ولا يضره، وهذا يصدق على كل مخلوق من المخلوقات: سواءً كان من الملائكة، أو من الرسل، أو من البشر، فضلاً عن الجمادات وغيرها، فأمره بقوله: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} [يونس:106] ثم قال: {فَإِنْ فَعَلْتَ} [يونس:106] يعني: دعوتَ من دون الله {فَإِنَّكَ إِذَاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس:106]: والظلم هنا المقصود به: الشرك، وهذا كقوله جلَّ وعلا: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:65 - 66]، وكذلك لما أخبر عن أنبيائه قال: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:88] يعني: لو أشركوا بالله جلَّ وعلا لحبطت أعمالهم، فليس بين العباد وبين الله صلة بقرابة أو ما أشبه ذلك إلَّا بطاعته، من أطاعه فهو وليه وهو الكريم عنده، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، فإذا كان هذا الخطاب يوجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فكيف بمن عداه؟! وقوله: ((وَلا تَدْعُ)): يدخل فيه دعاء المسألة ودعاء العبادة. {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} [يونس:106]، فكل الخلق لا ينفعون ولا يضرون، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس الذي رواه الترمذي وغيره: (واعلم أن الخلق لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك لن يستطيعوا ذلك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لن يستطعيوا ذلك)، وكذلك ما رواه مسلم في صحيحه من قوله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه جلَّ وعلا: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد، ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد، ما نقص ذلك في ملكي شيئاً وفيه: إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني)، فالأمر كله بيد الله جلَّ وعلا، فهو الذي يملك النفع ويملك الضر، ولهذا قال له: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذَاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس:106] يعني: إذا دعوت غير الله فقد وقعت في الظلم الذي هو الشرك بالله؛ لأن الظلم أنواع، وأعظمها: الشرك، والظلم في الأصل هو: وضع الشيء في غير موضعه، ووضع العبادة لغير من يستحقها أعظم الظلم، ولا أظلم ممن يدعو مَن لا تجوز دعوته، وفي هذه الآية دليل على أن الإله المدعو يجب أن يكون مالكاً للنفع والضر، يملك ما يُدعى من أجله، وهذا لا يكون للمخلوق، ولا يكون إلَّا لله جلَّ وعلا، الذي بيده ملكوت كل شيء، وهو الذي إذا أراد نَفْعَ عبده نَفَعَه، وإن شاء ضُرَّه ضَرَّه، أما الخلق فلا يستطيعون شيئاً من ذلك، إلا إذا أراد الله جلَّ وعلا، والله لم يجعل الشرك سبباً لجلب الخير أو دفع الشر، بل هو سبب للشرور. وقوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} [يونس:107] يعني: أن هذا منفي عن جميع الخلق، فلا يستطيع أحد أن يدفع عنك شراً أو مصيبة قدرها الله عليك، وذلك إنما هو بيد الله، فإن شاء أزاله عنك، وإن شاء أبقاه {وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس:107] أي: أنه لا يستطيع أحد أن يمنع فضلاً أراده الله لك، فإذا أراد بعبده رحمة: من صحة وعافية وهدىً ورزق وغير ذلك، فإنه لا أحد يستطيع رد فضله، إذاً: فالأمر كله بيده، فيجب أن يُعبد وحده، وتكون العبادة خالصة له، ويكون الدعاء له وحده. وقوله تعالى: {فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [يونس:107] أي: يصيب بفضله من يشاء، فالأمر إليه، وليس للإنسان ولا للخلق. {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس:107] الله جلَّ وعلا غفور رحيم مع كثرة الخطائين، وتجاوزهم لأمر الله جلَّ وعلا، فهو غفور لمن استغفر ورجع وتاب، ورحيم بالمؤمنين الذين يؤمنون، وإن كانت عندهم ذنوب وأخطاء، فإنه يغفر لهم ويرحمهم. قال الشارح رحمه الله: [قال ابن عطية: معناه: قيل لي: (وَلا تَدْعُ)، فهو عطف على {أَقِمْ} [يونس:105]، وهذا الأمر والمخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم] أي: أن الله جل وعلا أمره أن يقيم وجهه، ثم عُطف عليه قوله: ((وَلا تَدْعُ))، فهو أمر؛ لأن قوله: {أَقِمْ} أمر، وكذلك قوله: ((وَلا تَدْعُ)) معطوف عليه، فهو أمر من الله جلَّ وعلا لرسوله صلى الله عليه وسلم، والمقصود: أمته فهي تبع له في ذلك. [وهذا الأمر والمخاطبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. إذا كانت هكذا، فأحرى أن يحذر من ذلك غيره، والخطاب خرج مخرج الخصوص، وهو عام للأمة]: يعني: أن الخطاب خوطب به الرسول صلى الله عليه وسلم والمقصود به: العموم، فكل الخلق مخاطبون بذلك.

العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب

العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب قال الشارح رحمه الله: [قال أبو جعفر بن جرير في هذه الآية: يقول تعالى ذكره: ((وَلا تَدْعُ)): يا محمد! من دون معبودك وخالقك شيئاً ((لا يَنْفَعُكَ)): في الدنيا ولا في الآخرة ((وَلا يَضُرُّكَ)): في دين ولا دنيا، يعني بذلك: الآلهة والأصنام، يقول: لا تعبدها راجياً نفعها أو خائفاً ضرها، فإنها لا تنفع ولا تضر ((فَإِنْ فَعَلْتَ)): ذلك فدعوتها من دون الله {فَإِنَّكَ إِذَاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس:106] يقول: من المشركين بالله الظالم لنفسه]: قوله: يعني بذلك: الأصنام، ليس معنى هذا تخصيص الدعاء بالأصنام فقط، فإن الآيات عامة، ويدخل فيها كل مدعو، ولكنه أراد الواقع الذي نزلت فيه الآية، وقيل: لما خوطب الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك: كان القوم الذين قُصدوا بهذا الخطاب يدعون الأصنام، فكذلك إذا كان غيرهم يدعو مَن يقوم مقام الأصنام، مثل: صالح من الصالحين، أو ولي من الأولياء، أو نبي من الأنبياء، يدعونه الدعوة التي لا تجوز إلا لله: ككشف الضر أو جلب النفع، فإن هذا الخطاب يكون شاملاً لهم، وهذا باتفاق العلماء: أنه لا يعتبر خصوص السبب الذي نزل الخطاب من أجله، وإنما المعتبر عموم اللفظ، وهذا شيء مشهور، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، في جميع خطاب الشرع. قال الشارح رحمه الله: [قلت: وهذه الآية لها نظائر: كقوله تعالى: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهَاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} [الشعراء:213]، وقوله: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهَاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [القصص:88]]: يعني: نظيرها في مخاطبة الرسول صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك الخطاب، ومعلوم أن الله جلَّ وعلا كرمه ونزهه وحماه أن تقع منه دعوة لغير الله جلَّ وعلا، وفائدة هذا: أن ينتبه الإنسان إلى خطورة الشرك، فإذا كان أشرفُ الخلق لو وقع منه ذلك لوقع عليه العذاب فغيره من باب أولى، هذا هو المقصود من الخطاب، أعني: التنبيه.

يجب الإخلاص لله في العبادة سواء كانت ظاهرة أو باطنة

يجب الإخلاص لله في العبادة سواء كانت ظاهرة أو باطنة قال الشارح رحمه الله: [ففي هذه الآيات بيان أن كل مدعو يكون إلهاً، والإلهية حق لله لا يصلح منها شيء لغيره، ولهذا قال: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [القصص:88]، كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [لقمان:30]، وهذا هو التوحيد الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، كما قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5]، والدين: كل ما يُدان الله به من العبادات الظاهرة والباطنة] المقصود بالعبادات الظاهرة: كالدعاء، والقراءة والتسبيح، والتكبير، والصلاة، والزكاة، وأمثال ذلك. أما العبادات الباطنة: فكالخوف، والرجاء، والخشية، والإنابة، أي: أفعال القلب والنيات، وهي من العبادات، ويجب أن تكون لله فقط، ليس فيها لأحد من الخلق شيء، ولا يُراد بها الدنيا، ولهذا توعد الذين يقصدون بها الدنيا، فقال: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} [هود:15]، فالإرادة هي: أعمال القلوب. ثم قال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} [هود:16]: فالذين يريدون الدنيا بأعمالهم يكون هذا جزاؤهم. والخلاصة: أن الأعمال تنقسم إلى قسمين: ظاهرة وباطنة: فالظاهرة: التي تظهر للرائي المشاهِد أو يسمعها السامع: من ذكر وتسبيح وغير ذلك، هذه تسمى ظاهرة؛ لأنها تظهر للناس، تُسمع أو تُرى. أم الباطنة فهي: التي تكون في القلب، ولا يطلع عليها إلَّا رب العباد جلَّ وعلا. ولهذا قد يكون ظاهر العمل أنه لله وفي الواقع هو لغير الله؛ لأن النية يُراد بها غير الله، وهذا يحاسب عليه رب العباد جلَّ وعلا، وقد جاءت الأخبار بأنه: (يأتي قوم بأعمال عظيمة يوم القيامة، فإذا جاءوا بها يقول الله جلَّ وعلا لملائكته: هذه حابطة وهم من أهل النار) لأنهم أرادوا بها غير وجه الله أرادوا بها أموراً أخرى من أمور الدنيا وغيرها، وفي الحديث: (من عمل عملاً فأشرك فيه مع الله غيره فإن الله يتركه وشريكه) يعني: يترك العمل للشريك فقط؛ لأنه جلَّ وعلا أغنى الشركاء، فهو لا يقبل عملاً فيه اشتراك، والعمل الذي يقبله هو ما كان خالصاً له جلَّ وعلا {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلَاً صَالِحَاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً} [الكهف:110]، فقوله: (لا يشرك) هنا: يعم جميع العمل، و (أحداً): يعم جميع الخلق.

لا يملك النفع والضر إلا الله

لا يملك النفع والضر إلا الله قال الشارح رحمه الله تعالى: [وفسره ابن جرير في تفسيره: بالدعاء وهو فرد من أفراد العبادة، على عادة السلف في التفسير: يفسرون الآية ببعض أفراد معناها، فمن صرف منها شيئاً لقبر، أو صنم، أو وثن، أو غير ذلك: فقد اتخذه معبوداً، وجعله شريكاً لله في الإلهية التي لا يستحقها إلا هو، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهَاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون:117]، فتبين بهذه الآية ونحوها أن دعوة غير الله كفر وشرك وضلال. وقوله: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس:107]، فإنه المتفرد بالملك والقهر، والعطاء والمنع، والضر والنفع، دون كل ما سواه، فيلزم من ذلك: أن يكون هو المدعو وحده، المعبود وحده، فإن العبادة لا تصلح إلا لمالك الضر والنفع، ولا يملك ذلك ولا شيئاً منه غيره تعالى، فهو المستحق للعبادة وحده دون من لا يضر ولا ينفع. وقوله تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر:38]]: هذا أيضاً خطاب الله جلَّ وعلا يتحدى فيه الكفار: بأن يدعوا أصنامهم وآلهتهم؛ لتجلب لهم شيئاً من النفع والنعم التي لم يقدرها الله جلَّ وعلا ولم يُردها، أو أن تدفع شيئاً من النقم والمصائب التي قدرها. ويقول جلَّ وعلا في أول الآية: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الزمر:38] (قل أفرأيتم) أي: أخبروني عن هذه التي تدعونها من دون الله. {إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} [الزمر:38]، أي: هل تستطيع -إن أرادني بمرض، أو أصابني بفقر، أو أصابني بإدالة عدو، أو ما أشبه ذلك- أن تمنع هذا وتصرفه؟! A لا تستطيع. ثم قال تعالى: {أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} [الزمر:38]، هل تستطيع أن تمسك رحمته، وأن تأتي إلى هذا الذي أراده الله جلَّ وعلا بالرحمة فتمنعها عنه؟! لا تستطيع. ثم يقول: {قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ} [الزمر:38] أي: هو كافيني، وهو الذي أعتمد عليه، وأدعوه وأعبده دون غيره. يقول مجاهد رحمه الله: إن الرسول سألهم؛ لأن الله أمره أن يسألهم: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ} (قل): هذا أمر من الله أن يقول لهم، فسألهم وقال لهم: (أرأيتم هذه الأصنام: هل تدفع الضر عمن أراد الله جلَّ وعلا به الضر، أو تمسك الرحمة أن تصل إلى من أراد الله به الرحمة؟ فسكتوا) يقول: سألهم فسكتوا، لماذا (سكتوا)؟ لأنهم يعلمون أنها لا تفعل شيئاً من ذلك، ولكنهم يكابرون؛ ومتمسكون بدين آبائهم! وليس لهم في ذلك حجة إلَّا أنهم وجدوا آباءهم يعبدون هذه الأصنام، مع أنهم لا يعتقدون أنها شاركت الرب جلَّ وعلا في التدبير، أو شاركته في الملك، أو شاركته في الخلق والإيجاد، ولهذا بدأ بسؤالهم عن خالق السماء: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزمر:38] يعني: ليس عندهم شك أن الخالق هو الله، فهم يقرون بهذا، ومعنى هذا: أن الله يحتج عليهم بكونهم يقرون بأن الله هو الذي يتفرد بالخلق والنفع والضر ولا يشاركه أحد، فإذا كان كذلك فيجب أن يُفرَد بالعبادة، وألا يُدعَى غيره، هذا وجه التحدي ووجه إقامة الحجة عليهم، وهذا كثير جداً في القرآن، فكل الآيات التي فيها النهي عن الشرك والأمر بالعبادة تُبنى على هذا الشيء، كقوله جلَّ وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشَاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقَاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادَاً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:21 - 22]، يعلمون أن الله هو الخالق وحده هو الذي خلق السماوات وخلق الأرض على هذه الصفة، وهو الذي ينزل المطر فينبت النبات، يعلمون حقاً أن الله هو المتفرد بهذا، فإذا كانوا يعلمون ذلك: فلماذا يدعون معه غيره؟! ما حجتهم وما برهانهم وما دليلهم؟!

ليس للمشركين حجة ولا برهان على شركهم

ليس للمشركين حجة ولا برهان على شركهم ليس لهم أي حجة ولا برهان إلَّا أنهم قالوا: {وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء:74] فقط، وهكذا يقول مَن بعدهم، إذا قيل لهم: لا تدعوا الأموات، لا تطلبوا من الأموات شيئاً، رأيتهم يسمونه توسلاً أو تقرباً أو تشفعاً، مع أن التسمية لا تغير من الواقع شيئاً، فلو سُمِّي الربا بغير اسمه، أو سُمِّي الخمر بغير اسمه، فإن الحكم لا يتغير، والمقصود: أن الناس من أول ما وقعت المخالفة فيهم، إلى آخر أمة أرسل فيهم آخر رسول صلوات الله وسلامه عليه، كلهم يقرون بأن الله جلَّ وعلا -وحده- هو الذي يخلق، وهو الذي يحيي ويميت، وهو الذي ينزل المطر، وهو الذي ينبت النبات، ويدر الرزق، وهو الذي يكشف السوء، وهو الذي إذا دعاه المضطر أزال ما فيه من الضر، كلهم يقرون بهذا، فلماذا يدعون حجراً أو شجرةً أو ميتاً؟! ليس عندهم إلَّا التقليد، وقع آباؤهم في ذلك فاتبعوهم عليه، كما قال إبراهيم عليه السلام: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} [الأنبياء:52 - 53] فقط، أهذا دليل؟! وكذلك يقول جلَّ وعلا في آيات أُخَر: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23] (على أمة) يعني: على دين، فالمقصود بـ (الأمة) هنا: الدين، {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23] يقتدون بهم، هكذا جميع الأمم تقول هذا الشيء، حتى في الوقت الحاضر، فإذا رأيت الناس على شيء من المخالفات، وقلت لهم: لا تفعلوا هذا، فإن هذا لا يجوز، وجدت كثيراً من الناس يقول لك: الناس كلهم يفعلون هذا، وهذا معنى قول الكفار: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23]، هو قولهم تماماً، والمسلم لم يكلف بالنظر إلى أفعال الناس، وإنما كلف بالنظر إلى الوحي إلى الدين الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا الذي كُلِّف الإنسان به؛ لينظر إليه ويتعرف عليه، ثم يعمل به، فإن الناس لا ينفعونه، ولهذا: فإن الإنسان إذا وُضع في قبره، وجاءه الملك الذي يختبره فيقول له: (ما دينك؟ يقول: هاه! وجدتُ الناس يفعلون شيئاً ففعلتُه) أينفعه هذا؟! لا ينفعه، وإنما ينفع الإنسانَ العلمُ الذي جاء به الوحي، وهو الذي كُلِّف به الإنسان. والمقصود: أن الذين يدعون غير الله أو يعبدونه ليس لهم حجة وليس عندهم برهان، حتى إن الشيطان يقوم فيهم خطيباً -إذا جُمع أهل النار في النار- ويقول: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [إبراهيم:22]، يعني: ما كان لي عليكم حجة، لا توجد حجة أحتج بها عليكم، وإنما: {دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم:22] فقط، مجرد دعوة! ثم يقول: {فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ} [إبراهيم:22]، يعني: ما أنا بمنقذكم ولا بمغيثكم، لا أستطيع ذلك {وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم:22] يعني: وأنتم لا تنقذونني من العذاب، ولا تغيثونني من ذلك وأنا كذلك، إذاً: غرَّهم فضرَّهم ثم تبرأ منهم، وهذه هي المصيبة، عند أن تجتمع عليهم أنواع العذاب من جميع الجهات، فلا يبقى شيء من العذاب إلَّا اجتمع لهم. والمقصود: أن كل من تعلق بغير الله فليس له أي حجة وأي برهان، وإنما هي شُبَه تتعلل بها الأنفس، وترد بها الحق، أما البراهين والأدلة فهي تدل على أن ما هم فيه باطل. قال الشارح رحمه الله: [وقال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [فاطر:2]، فهذا ما أخبر به الله تعالى في كتابه من تفرده بالإلهية والربوبية، ونصَب الأدلة على ذلك، فاعتقد عُباد القبور والمشاهد نقيض ما أخبر به الله تعالى، واتخذوهم شركاء لله لاستجلاب المنافع ودفع المكاره: بسؤالهم، والالتجاء إليهم بالرغبة والرهبة والتضرع، وغير ذلك من العبادات التي لا يستحقها إلَّا الله تعالى، واتخذوهم شركاء لله في ربوبيته وإلهيته، وهذا فوق شرك كفار العرب القائلين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس:18]، فإن أولئك يدعونهم ليشفعوا لهم ويقربوهم إلى الله، وكانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك، لا شريك لك، إلَّا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك]: معناه: أنهم يحجون ويتعبدون لله جلَّ وعلا ويسألونه؛ ولكنهم يشركون به، ومن المهم جداً عند المسلم أن يعرف حقيقة الشرك الذي كان عليه المشركون؛ لأن الإنسان إذا لم يعرف الباطل لم يعرف الحق، وكثير من الناس يتصور أن شرك المشركين هو السجود للأصنام، واعتقادهم أنها تعطيهم الجنة وتمنعهم من النار، وأنها ترزقهم، وكذلك تسعدهم وتضرهم، وهذا لم يكن المشركون يعتقدونه، وإنما كان شركهم: أنهم يسألونها لتشفع لهم، وهذا معنى قوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] يعني: أنهم ليس بأيديهم شيء، وإنما هم وساطة لنا، فيشفعوا لنا عند من بيده النفع والضر، هذا هو شركهم، ومع ذلك صاروا من أهل جهنم، وهم يعلمون أن الأمور كلها بيد الله، حتى إن منهم مَن يؤمن بالقدر، ومنهم مَن يؤمن بالبعث، إلَّا أنه وقع في هذا الشرك، فجعل بينه وبين ربه وسائط يدعوها لتشفع له، وتقربه إلى الله زلفى، وهذه هي الشفاعة التي طلبوها، ولهذا جاءت الشفاعة في القرآن على نوعين:

أنواع الشفاعة

أنواع الشفاعة نوع مثبت واقع. ونوع منفي. فالمنفي هو: الذي يزعمه المشركون: أن أصنامهم تشفع لهم. والمثبت هو: الذي يقع بإذن الله ولمن يوحد الله؛ لأن الشفاعة لا تكون إلَّا لأهل التوحيد: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28]، ولما قال أبو هريرة رضي الله عنه للرسول صلى الله عليه وسلم: (من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: من قال: (لا إله إلَّا الله) خالصاً من قلبه) والذي يقول: (لا إله إلَّا الله) خالصاً من قلبه هذا هو الموحد، وهو الذي يدخل الجنة بلا حساب ولا عذاب، وهو أسعد الناس بشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم أول ما يشفع في الفصل بين الخلق يسبق المخلصون إلى الجنة، ويكونون أسعد أهل الموقف بذلك. والمقصود: أن الإنسان عليه أن يتعرف على حقيقة شرك المشركين، ويعرف ما هو؛ لأن الذي لا يعرف الشرك يوشك أن يقع فيه وهو لا يدري، والذي لا يعرف الشرك لا يعرف التوحيد، فهذا مهم جداً. قال الشارح رحمه الله: [وأما هؤلاء المشركون فاعتقدوا في أهل القبور والمشاهِد ما هو أعظم من ذلك، فجعلوا لهم نصيباً من التصرف والتدبير، وجعلوهم معاذاً لهم وملاذاً في الرغبات والرهبات {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الحشر:23]]. يعني: أن عباد القبور يسألون الإنسان المدفون في القبر -الذي صار لحمه تراباً وعظامه متفتتة- كما يُسأل الفرد الصمد، تعالى الله وتقدس، فيقال له: انفعنا وأعطنا، ونحن بحسَبك، ونحن داخلون عليك، ونحن جئناك لكذا ونحن ونحن إلخ فإن قُدِّر ووقع القدر الذي قدره الله، وحصل لهم مرادهم أضافوا هذا إلى ذاك الولي، وقالوا: هذا الذي ينبغي أن يُدعى، وأن يُتَقَرب إليه، أما إذا لم يقع لهم ما يريدون فإنهم يعودون على أنفسهم ويقول: لم يكن اعتقادنا بالولي صادقاً، أو إن الولي غير راضٍ عنا؛ لأنا ما أدينا حقه الذي ينبغي، فيزدادون شركاً: سواءً حصل مرادهم أو لم يحصل مرادهم، نسأل الله العافية.

شرح فتح المجيد [48]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [48] أمر الله عباده أن يبتغوا عنده الرزق، وألا يلجئوا إلى غيره في ذلك، وأن تكون عبادتهم خالصة له، وأخبر أنه لا أضل ممن يعبد ويدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة، وهم عن دعائهم غافلون، بل إذا حشر العابد والمعبود كانوا أعداءً لبعضهم.

شرح قوله تعالى: (فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له)

شرح قوله تعالى: (فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له) قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [العنكبوت:17]]. سبق بيان معنى قول الله جلَّ وعلا: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذَاً مِنَ الظَّالِمِينَ * وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس:106 - 107] ثم أضاف إلى ذلك بعض الآيات، ومنها: قوله: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ} [العنكبوت:17] ففي هذه الآية يبين جلَّ وعلا أن الطلب هو المسألة ومنه: طلب الرزق، والرزق من الله جلَّ وعلا وحده، وعطف العبادة على ذلك مما يدل على أنه عبادة، ولهذا قدم المعمول مما يقتضي الحصر: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} [العنكبوت:17] وهذا يدل على وجوب ابتغاء الرزق عند الله فقط، ولا يجوز أن يُطلب من غيره؛ لأنه جلَّ وعلا هو رب العباد، وهو الذي يتولى أرزاقهم وحده، فهذا يدل على أنه عبادة، فطلب الرزق من الله عبادة يثاب عليه، وطلبه من غيره يكون شركاً بالله جلَّ وعلا، وليس معنى ذلك أن اتخاذ الأسباب التي يرتبها ربنا جلَّ وعلا على المسببات شركاً وإن كان كل شيء بأمره؛ ولكن لا يجوز للإنسان أن يعتمد على السبب ويظن أنه هو المؤثر، وهو الذي يتحصل به ما يطلبه، وإنما يفعل السبب لأن الله جعله سبباً، ولو شاء جلَّ وعلا لعطَّله، ولم يأتِ الأثر الذي يترتب عليه إلا بمشيئه جلَّ وعلا. والمقصود أن الإنسان يفعل السبب الشرعي الذي أمره الشرع به، ويعتمد على الله جلَّ وعلا في حصول المطلوب، وكثيراً ما يتخلف المسبَّب عن سببه إذا أراد الله جلَّ وعلا ذلك. إذاً: فقوله: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} [العنكبوت:17]: الابتغاء هو الطلب، ويكون بالمسألة، ويكون بالفعل، ويكون باتجاه القلب، وهذه الأشياء تجتمع عند الإنسان المؤمن: فيتجه قلبه إلى ربه ويسأله التوفيق، ويفعل السبب، ويحتسبه ثواباً عند الله جلَّ وعلا يجزيه على ذلك. قوله: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ} [العنكبوت:17]: هنا عطف عام على خاص كما سبق في الآية الأولى أن العبادة أعم من ابتغاء الرزق، فابتغاء الرزق جزء من العبادة، والعبادة: ((وَاعْبُدُوهُ)) تكون من عطف العام على الخاص، فهذه نظير الآية الأولى، وهي تدل على وجوب حصر الدعاء في الله جلَّ وعلا، سواءً كان دعاء مسألة أو دعاء عبادة، والآية في دعاء المسألة واضحة، أنه أمر بابتغاء الرزق عند الله. قال المصنف رحمه الله: [وقوله تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُوْنَ} [العنكبوت:17] يأمر تعالى عباده بابتغاء الرزق عنده وحده دونما سواه، ممن لا يملك لهم رزقاً من السماوات والأرض شيئاً، فتقديم الظرف يفيد الاختصاص، وقوله: ((وَاعْبُدُوهُ)) من عطف العام على الخاص؛ فإن ابتغاء الرزق عنده من العبادة التي أمر الله بها. قال العماد بن كثير رحمه الله تعالى: ((فَابْتَغُوا)) أي: فاطلبوا {عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} [العنكبوت:17] أي: لا عند غيره؛ لأنه المالك له وغيرُه لا يملك شيئاً من ذلك. ((وَاعْبُدُوهُ)) أي: أخلصوا له العباده وحده لا شريك له، {وَاشْكُرُوا لَهُ} [العنكبوت:17] أي: على ما أنعم عليكم {إِلَيْهِ تُرْجَعُوْنَ} [العنكبوت:17] أي: يوم القيامة سيجازى كل عامل بعمله]. ومما يستفاد من الآية أيضاً: أن الرزق الذي ينعم الله جلَّ وعلا به على عباده يجب أن يكون عوناً على الطاعة، فإن لم يستعمل لذلك فإن الإنسان مستحق لعذاب الله جلَّ وعلا، ويكون وضعه غير صحيح؛ لأنه لم يُخلق لذلك، وإنما خلق ليعبد الله ويستعين به على ذكر الله جلَّ وعلا وطاعته، والوضع الذي يكون على غير ذلك ويكون على غير أمر الله مسخط للرب جلَّ وعلا، فيجب على العباد عموماً، أن يكون هذا وضعهم وهذه حالتهم، وأن يكونوا في حال حصول الرزق متعبدين به لله جلَّ وعلا طائعين به لله، متقوين به على التقرب إليه، وهذا -المعنى- يدخل في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)؛ لأن الصحة والفراغ لا تدومان للإنسان، فيلزم أن يستغل الإنسان صحته وفراغه، وهذا من أعظم الرزق، ومن أعظم النعم التي ينعم بها الرب جلَّ وعلا على عبده، فينبغي عليه أن يستعملهما في اكتساب الطاعات والأجور وتحصيل الباقيات الصالحات التي تبقى عند الله جلَّ وعلا.

شرح قوله: (ومن أضل ممن يدعو من دون الله)

شرح قوله: (ومن أضل ممن يدعو من دون الله) قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:5 - 6]. ]: قوله جلَّ وعلا: ((وَمَنْ أَضَلُّ)) (من) هنا: استفهام، والاستفهام معناه: أنه ليس هناك ضلال، فهذا استفهام يدل على أن من فعل هذا الفعل قد تناهى في الضلال، وليس وراء هذا الضلال ضلال. {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأحقاف:5]، وهذه صفة كل مدعو بدعاء لا يستطيع تلبيته وإجابة المطلوب فيه، سواء كان حياً أو ميتاً، وسواءً كان عاقلاً أو جماداً، فإن معنى: {مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ} [الأحقاف:5] أي: لا يحصل له الرد والالتفات والاهتمام بدعوته، أما حصول الشيء المطلوب فإنه لا يحصل من هؤلاء، بل وصوله مستحيل، وهذا يكون فيمن كان غائباً غالباً، ويكون فيمن كان ميتاً، أما من كان حاضراً فهو إما أن يكون طاغوتاً من أكبر الطواغيت مثل الشيطان الذي يدعو الإنسان إلى أن يعبده، ويغره ثم يتبرأ منه فيكون كاذباً، وإن استجاب له فهي استجابة وهمية؛ ولكن الاستجابة الحقيقية إذا سأله الله، وقال له: هذا يدعوك وهذا يعبدك. ويقول للعابد: اطلب من هذا المعبود ما كنت تطلبه منه في الدنيا، فهنا تكون الإجابة بالتبري، ولعن كل واحد منهما الآخر، ويتبرأ منه ويلعنه ويصبح له عدواً كافراً بفعله، وهذا ضلال متناهٍ ليس بعده ضلال، ولهذا قال الله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأحقاف:5]، والاستجابة يوم القيامة ليست في حصول المطلوب، وإنما هي أن يلعنه ويتبرأ منه، ويكفر به ويصبح عدواً له، كما قال الله جلَّ وعلا في الآية الأخرى في قصة إبراهيم: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضَاً} [العنكبوت:25]، وهذا لأنه استعمل النعم واستعمل حياته في غير ما خلقت له، بل عكس القضية تماماً، فصار هذا جزاؤه، الذي استحقه، وهذه الآية عامة في كل مدعو من دون الله، فإنه لن يستطيع الإجابة الحقيقية ولا يتحصل الداعي على حقيقة دعوته إلا يوم القيامة، فإذا كان يوم القيامة اطلع على ذلك تماماً، وعرف أنه ليس عنده إلَّا الضلال والخسران، وهناك تكون الحسرة، ويتبين له أنه في سعيه وعمله متبع للشيطان، مبتعد عن ربه جلَّ وعلا الذي خلقه لعبادته. قال الله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف:5] يعني: في هذه الدنيا غافلون عن دعوته؛ لأنه إما غائب وإما ميت وإما جماد لا يدري ماذا يُدعى، فهو غافل؛ لأنه مسخر في شيء يسير فيه مطيعاً لله جلَّ وعلا، لا يدري عن الذي يدعوه شيئاً، فهو غافل عنه، أما إن كان من العقلاء فإن كان صالحاً فهو لا يرضى بهذا، ويكفر بذلك في الدنيا قبل الآخرة؛ ولكن إذا كان لا يطلع فهو لا يعلم، وإنما يُسأل يوم القيامة، ولهذا يسأل الله جلَّ وعلا الملائكة يوم القيامة عمن يدعونهم فيقول إذا حشرهم وجمعهم: {أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} [سبأ:40] فيسأل المعبود قبل العابد، فيقولون: {سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} [سبأ:41] يعني: الشياطين التي أمرتهم بهذه العبادة، وكذلك الآيات الأُخَر التي تبين هذا المعنى، فالمعبود غافل؛ لأنه إما أن يشتغل بطاعة الله وتسخير الله جلَّ وعلا، أو أنه ميت لا يدري عن داعيه شيئاً ولا يحس به، أو أنه جماد لا يحس ولا يشعر، وليس عنده شعور ولا إحساس. إذاً: إذا كان يوم القيامة وحصحص الحق هناك يتبين لهذا الداعي أنه من أضل خلق الله، بل هو أضلهم كما في هذه الآية: {وَمَنْ أَضَلُّ}. وقوله: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً} [الأحقاف:6] الحشر هو: الجمع، والمقصود بالحشر: إحياؤهم بعد أن ماتوا، ثم جمعهم في مكان واحد على الأرض، والحشر يدل على الجمع الذي يكون بقوة، ولا يكون لهم فيه اختيار. فالمحشورون لا اختيار لهم في ذلك، لأنه من الله جلَّ وعلا، فهم في ذلك في أشد الخوف، وهذا هو اليوم الذي ينذرنا ربنا جلَّ وعلا إياه كثيراً ويخوفنا به، ويخبرنا أنه يوم ثقيل على الكافرين، وفي ذلك اليوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع ذات الحمل حملها، {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى} [الحج:2]، كأنهم سكارى {وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} [الحج:2] ولكنهم يخافون عذاب الله {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2] أي: في ذلك اليوم، فهناك يتبين من هو المالك من هو الذي يتصرف من الذي بيده الأمر كله، وكل الخلق ليس عندهم شيء كلهم ضعفاء كلهم تحت قهره داخلين كل واحد منهم يأتي ربه فرداً لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً في أشد الخوف، حتى إن رسل الله يخافون في ذلك اليوم. {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً} [الأحقاف:6]، أي: كان الذي يزعم أنه يقربه إلى الله زلفى وأنه يتوسط له، وأنه يشفع له عدواً له! ومعلوم أن العدو لا يريد نفع عدوه بل يريد أن يضره. {كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ} [الأحقاف:6] يعني: بدعائهم الذي يدعونه ((كَافِرِيْنَ)) وهذا يدلنا على أن الدعاء عبادة؛ لأنه ذكر في الآية الأولى لفظ الدعاء: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو} [الأحقاف:5]، وفي الآية الأخرى التي تليها ذكر أنه عبادة: {وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:6] يعني: الدعاء الذي سبق، فدلت الآية صراحةً بأن الدعاء عبادة، بل هو أفضل العبادة وخيرها كما سبق، وهذه الآية من أوضح الأدلة على بطلان دعوة غير الله، وأنها ضلال، بل ضلال متناهٍ ليس بعده ضلال.

شرح قوله: (وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين)

شرح قوله: (وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين) قال الشارح رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:5 - 6] نفى سبحانه أن يكون أحد أضل ممن يدعو غيره، وأخبر أنه لا يستجيب له ما طلب منه إلى يوم القيامة، والآية تعم كل من يُدعى من دون الله، كما قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلَاً} [الإسراء:56] وفي هذه الآية أخبر أنه لا يستجيب له وأنه غائب عن داعيه. {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:6]: فتناولت الآية كل داعٍ وكل مدعوٍّ من دون الله. قال أبو جعفر بن جرير في قوله: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً} [الأحقاف:6] يقول تعالى ذكره: وإذا جمع الناس ليوم القيامة في موقف الحساب كانت هذه الآلهة التي يدعونها في الدنيا لهم أعداءً؛ لأنهم يتبرءون منهم، {وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:6] يقول تعالى ذكره: وكانت آلهتهم التي يعبدونها في الدنيا لعبادتهم جاحدين؛ لأنهم يقولون يوم القيامة: ما أمرنا بعبادتنا ولا شعرنا بعبادتهم إيانا، تبرأنا إليك منهم يا ربنا، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمَاً بُورَاً} [الفرقان:17 - 18]. قال ابن جرير: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الفرقان:17] من الملائكة والإنس والجن، وساق بسنده عن مجاهد قال: عيسى وعزير والملائكة] وهذه أفراد من المجاميع الكثيرة التي تُعبد، كعيسى وأمه وعزير وإنما هو مثال فقط، والمقصود: أن الآية تعم كل معبود من دون الله، وكل مدعو يدخل فيها؛ لأن ربنا جلَّ وعلا خاطب الخلق عموماً، خاطب أمة محمد صلى الله عليه وسلم عامة من أولهم إلى آخرهم، فكل من أوقع شيئاً من العبادة لغير الله جلَّ وعلا فهو داخل فيه؛ لكن عادة السلف أنهم ينصون على الشيء الظاهر المعروف للسامع الذي يسمع قولهم، ومرادهم بهذا أن يقاس عليه ما هو داخل فيه من نظائره الكثيرة، فيُتَنَبَّه لذلك، وهذا جاء تفصيله في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنها: ما رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما وذكر حديث الشفاعة ثم قال: (فيأت الله جلَّ وعلا). يعني: يأتي إليهم وهم الوقوف في العرض، كما قال الله جلَّ وعلا: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [البقرة:210] وقال جلَّ وعلا: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفَّاً صَفَّاً * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} [الفجر:22 - 23]. (فيأتي الله جلَّ وعلا ويخاطب الناس كلهم عموماً، يخاطبهم ويسمعون قوله جلَّ وعلا، يقول: يا عبادي! أليس عدلاً مني أن أولي كل واحد منكم ما كان يتولاه في الدنيا؟ فيقولون: بلى يا رب! فيؤتى بكل معبود عُبِد في الدنيا على هيئته: أما إن كان المعبود ملَكاً أو نبياً -مثل: عيسى أو رجلاً صالحاً من عباد الله- فإنه يؤتى بشيطان على مثاله الذي كانوا يعبدونه أو يتخيلونه؛ -لأن الشيطان هو الذي أمرهم، وهم -في الواقع- عبادتهم وقعت عليه، أما عباد الله من الملائكة ومن الأنبياء والصالحين، فهم برآء من ذلك لا يرضون به بل يكفرون به- ثم يقال لهم: اتبعوهم، -ولا توجد محاسبة هنا لهؤلاء، هذا هو حسابهم- فيتبعونهم إلى جهنم فيلقون فيها جميعاً، كما قال جلَّ وعلا: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98]، ويبقى المؤمنون وفيهم المنافقون فيأتهم الله) وذكر بقية الحديث. والمقصود هنا: قول الله جلَّ وعلا في هذا الحديث: (أليس عدلاً مني أن أولي كل واحد منكم ما كان يتولاه في الدنيا؟) فالذي كان يدعو شيئاً في الدنيا ويجعله واسطة له عند الله يؤتى به في ذلك اليوم، ويؤتى بالشيطان الذي سول له هذا وأمره به -إذا كان ذلك المدعو صالحاً من عباد الله جلَّ وعلا- ثم يقال له: (اتبع إلى ما يوردك إليه: {وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} [هود:98]) فيكون هؤلاء قادتهم إلى جنهم، نسأل الله العافية.

الدعاء في الكتاب والسنة

الدعاء في الكتاب والسنة قال الشارح رحمه الله: [قال ابن جرير: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الفرقان:17] من الملائكة والإنس والجن، وساق بسنده عن مجاهد قال: عيسى وعزير والملائكة، ثم قال: يقول تعالى ذكره: قالت الملائكة -الذين كانوا هؤلاء المشركون يعبدونهم من دون الله- وعيسى: تنزيهاً لك يا ربنا وتبرئةً مما أضاف إليك هؤلاء المشركون: {مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} [الفرقان:18] نواليهم {وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمَاً بُورَاً} [الفرقان:18] ((أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ)) [سبأ:41]. انتهى. قلت: وأكثر ما يستعمل الدعاء في الكتاب والسنة، واللغة، ولسان الصحابة ومن بعدهم من العلماء: في السؤال والطلب، كما قال العلماء من أهل اللغة وغيرهم: الصلاة لغةً: الدعاء، وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [فاطر:13] الآيتين، وقال: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعَاً وَخُفْيَةً} [الأنعام:63] وقال: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدَاً أَوْ قَائِمَاً} [يونس:12] وقال: {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} [فصلت:51] وقال: {لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} [فصلت:49] الآية، وقال: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال:9] الآية، وفي حديث أنس مرفوعاً: (الدعاء مخ العبادة) وفي الحديث الصحيح: (ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة) وفي آخر: (من لم يسأل الله يغضب عليه) وفي حديث: (ليس شيء أكرم على الله من الدعاء) رواه أحمد والترمذي وابن ماجة وابن حبان والحاكم وصححه]: هذه الأحاديث وإن كان فيها من الضعيف مثل: (الدعاء مخ العبادة)، ومثل قوله: (ليس شيء أكرم على الله من الدعاء) إلا أنه ليس المقصود الاعتماد على ذلك، وإنما المقصود الاستشهاد بهذا، وما زال العلماء رحمهم الله يستشهدون بالضعيف؛ ولكنهم لا يعتمدون عليه، وذلك حينما يكون متفقاً مع الصحيح في المعنى فإنه يكون شاهداً؛ لأنه قد يكون أوضح في العبارة وأبين. وأما قوله: إن الصلاة هي: الدعاء، فالمقصود بها: في لغة العرب الذي نزل بها القرآن، وليس المقصود في لغة الرسول صلى الله عليه وسلم حينما يقول: الصلاة؛ لأنه جعل الصلاة على أشياء مخصوصة تشمل الدعاء وتشمل القيام والركوع والتكبير، ولهذا تعرَّف الصلاة بأنها: أفعال مخصوصة تُفتَتح بالتكبير وتُختَتم بالتسليم، فهو شيء خاص؛ ولكن الأصل فيها أنها الدعاء؛ لأن الله جلَّ وعلا يقول: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103]، فالمراد بقوله: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} يعني: يدعو لهم، فالصلاة هنا: الدعاء، وهي مأخوذة من هذا؛ لأنها -في الواقع- دعاء، فالقيام يكون دعاء عبادة، والركوع دعاء عبادة، والسجود دعاء عبادة، والقراءة والتسبيح والتكبير والتهليل والتحميد وكل ما فيها يكون دعاءً، إلَّا المسألة حينما يقول: رب اغفر لي وارحمني وارزقني واهدني وما أشبه ذلك فهذا دعاء مسألة، ويلزم منه دعاء العبادة؛ لأن السائل يلزم أن يكون خاضعاً خائفاً راجياً: خائفاً من ذنوبه راجياً ثواب ربه، وهذه هي العبادة. أما دعاء العبادة: فكونه يقوم خاشعاً لله يركع ويسجد ويقرأ ويكبر ويهلل؛ فإنه بهذه الأفعال يطلب من الله الإثابة، ويهرب من العذاب بذلك، وهذا هو الطلب في الحقيقة، فكل فعل يفعله الإنسان يريد التقرب به إلى الله فهو داخل في هذا.

أحاديث الدعاء

أحاديث الدعاء قال الشارح رحمه الله تعالى: (الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين ونور السماوات والأرض) رواه الحاكم]: هذا الحديث أيضاً ضعيف؛ ولكن مثلما قلنا: ليس هذا للاعتماد وإنما هو للاعتضاد، يُعتضد به ولا يُعتمد عليه. قال الشارح رحمه الله تعالى: [وقوله: (سلوا الله كل شيء حتى الشسع إذا انقطع) الحديث]: والشسع هو: ما يدخل فيه إصبع الرجل من النعل إذا انقطع، وكذلك السير الذي يكون فوق القدم إذا انقطع، يسأل الإنسان ربه إصلاحه أو بدله، والمعنى: أنه يسأل كل شيء، وجاء في كلام السلف أنهم يقولون: (اسأل ربك حتى ملح العشاء)، والمعنى: اسأل ربك كل شيء، وكل ما تريده وتحتاجه، فتوجه إلى ربك في طلبه جلَّ وعلا؛ لأنه هو الذي يملك كل شيء، أما الخلق فهم لا يملكون شيئاً ولا يتحصل على أيديهم لك إلَّا ما أراده الله جلَّ وعلا، فهو الذي يسخرهم ويجعلهم أسباباً، وسؤاله يهيئ هذه الأمور كلها، فيكون عبادة، ويكون الإنسان ممتثلاً لأمر ربه جلَّ وعلا في ذلك ومطيعاً وعابداً، ويكون في حصول ذلك قد جاء من الطريق الصحيح الشرعي؛ لأن الرزق منه ما هو من طريق محرم فيكون الإنسان معاقباً عليه، ومنه ما هو من طريق شرعي يُثاب عليه الإنسان ويُحمد على فعله. قال الشارح رحمه الله تعالى: [وقال ابن عباس رضي الله عنهما: أفضل العبادة الدعاء، وقرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] الآية رواه ابن المنذر، والحاكم وصححه]: يعني: أفضل العبادة: الدعاء. قال الشارح رحمه الله تعالى: [وحديث: (اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلَّا أنت المنان) الحديث]: الأحاديث في هذا الباب كثيرة جداً، وجاء بهذا الحديث ليبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان كثيراً ما يسأل ربه ويستغفره ويتوب إليه، ولا يفتر عن ذلك صلوات الله وسلامه عليه، ويأمر الناس ويحضهم على هذا. قال الشارح رحمه الله تعالى: [وحديث: (اللهم إني أسألك بأنك أنت الله لا إله إلَّا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤاً أحد)، وأمثال هذا في الكتاب والسنة أكثر من أن يُحصر في الدعاء الذي هو السؤال والطلب، فمن جحد كون السؤال والطلب عبادة؛ فقد صادم النصوص وخالف اللغة واستعمال الأمة سلفاً وخلفاً. وأما ما تقدم من كلام شيخ الإسلام وتبعه العلامة ابن القيم رحمهما الله تعالى من أن الدعاء نوعان: دعاء مسألة، ودعاء عبادة، وما ذُكِر بينهما من التلازم وتضمُّن أحدهما للآخر، فذلك باعتبار كون الذاكر والتالي والمصلي والمتقرب بالنسك وغيره طالباً في المعنى، فيدخل في مسمى الدعاء بهذا الاعتبار، وقد شرع الله تعالى في الصلاة الشرعية من دعاء المسألة ما لا تصلح الصلاة إلَّا به، كما في الفاتحة وبين السجدتين وفي التشهد، وكذلك دعاء العبادة كالركوع والسجود، فتدبر هذا المقام يتبين لك جهل الجاهلين بالتوحيد]: كونه هو العبادة: كالركوع والسجود، أما دعاء المسألة فمثل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:5 - 6] (اهدنا): هذا دعاء مسألة، {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، وكذلك قوله: (رب اغفر لي وارحمني واهدني) إلخ، فهذا دعاء مسألة، وكذلك ما يقال في آخر التشهد: (أعوذ بالله من عذاب جهنم ومن عذاب القبر) إلخ، فهو دعاء مسألة، ودعاء العبادة في الصلاة أكثر. قال الشارح رحمه الله تعالى: [فتدبر هذا المقام يتبين لك جهل الجاهلين بالتوحيد، ومما يبين هذا المقام ويزيده إيضاحاً: قول العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيَّاً مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110] وهذا الدعاء المشهور أنه دعاء المسألة، قالوا: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ربه ويقول مرةً: (يا الله) ومرةً: (يا رحمان) فظن المشركون أنه يدعو إلهين، فأنزل الله هذه الآية، ذكر هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما]: الآية: {ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الإسراء:110] يعني: أنك إذا دعوت الله باسم من أسمائه فأنت على حق وصواب وعابد لله جلَّ وعلا.

فضل دعاء السر

فضل دعاء السر قال الشارح رحمه الله تعالى: [وقيل: إن الدعاء هنا: بمعنى التسمية، والمعنى: أي اسم سميتموه به من أسماء الله تعالى، إما الله وإما الرحمن: {فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110]، وهذا من لوازم المعنى في الآية، وليس هو عين المراد، بل المراد بالدعاء معناه المعهود المطرد في القرآن، وهو دعاء السؤال ودعاء الثناء. ثم قال: إذا عُرف هذا فقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعَاً وَخُفْيَةً} [الأعراف:55] يتناول نوعي الدعاء، لكنه ظاهر في دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة، ولهذا أمر بإخفائه]: إن الذي يُخفى هو دعاء المسألة؛ لأن السلف رضوان الله عليهم كانوا يحرصون على أن يكون عملهم بينهم وبين ربهم فقط، فيُخفون السؤال، ولهذا جاء في وصف ذلك أن دعاءهم كان خفية بينهم وبين ربهم جلَّ وعلا، لا يُظهرونه؛ لأن هذا أقرب إلى الإخلاص وامتثالاً لأمر الله، (وَخُفْيَةً) يعني: في الخفاء، خفية وجاء أيضاً: (وخيفة) يعني: خوفاً أن لا يقبل عمل الإنسان أو يعاقَب على ذنبه، فيكون بين الخوف والرجاء، يخاف من ذنوبه، ويرجو ثواب ربه جلَّ وعلا، وكان أحدهم يكون في فراشه بجوار زوجته، وهو يسأل ربه، ويتضرع إليه، ويبكي وهي لا تشعر بذلك، مبالغةً في إخفاء العمل؛ لأن هذا أقرب إلى الإخلاص لله جلَّ وعلا، بخلاف الذين يحبون أن يُظهروا أعمالهم، بل يطلبون ذلك، ويميلون إليه، فإن هذا العمل قد يكون حابطاً؛ لأنه أريدَ به وجوه الناس، وما أريدَ به وجه الناس وثناؤهم فإن الله لا يقبله، وإنما يقبل الشيء الخالص الذي لا يدخله إرادة النفوس وحظوظها الدنيوية، وإنما يكون تعبُّداً خالصاً لله جلَّ وعلا، ولهذا يقول جلَّ وعلا في الأمم الذي قبلنا: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5]، فهو أمر من الله بأن يكون الدين كله خالصاً لله جلَّ وعلا. قال الشارح رحمه الله تعالى: [قال الحسن: بين دعاء السر ودعاء العلانية سبعون ضعفاً، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء ولم يُسمع لهم صوت، إن كان إلَّا همساً بينهم وبين ربهم، وقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186]، يتناول نوعي الدعاء، وبكل منهما فُسرت الآية، قيل: أعطيه إذا سألني، وقيل: أثيبه إذا عبدني. ] {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] (أجيب): فسرت كلمة (أجيب) بأثيب، وفسرت بأعطي، فإذا كانت بمعنى (أعطي) فيكون الدعاء دعاء مسألة، وإن فسرت بمعنى (أثيب) فيكون الدعاء دعاء عبادة، والآية تعم هذا وهذا، وليس أن هذا يحتمل أن يكون معناها المسألة، ويحتمل أن يكون معناها العبادة، بل كلاهما داخل فيها؛ لأن دعاء المسألة: عبادة، ودعاء العبادة: عبادة من أفضل العبادات، والله جلَّ وعلا يطلب من الخلق ذلك، ولهذا بين الرسول صلى الله عليه وسلم هذا بفعله وبقوله، وكذلك الصحابة الذين تعلموا العلم، وتلقوا القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الحقيقة والمجاز في ألفاظ القرآن

الحقيقة والمجاز في ألفاظ القرآن قال الشارح رحمه الله تعالى: [وليس هذا من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، بل هذا استعمال في حقيقته الواحدة المتضمنة للأمرين جميعاً، وهذا يأتي في مسألة الصلاة، وأنها نقلت عن مسماها في اللغة، وصارت حقيقة شرعية، واستعملت في هذه العبادة مجازاً؛ للعلاقة بينها وبين المسمى اللغوي، وهي باقية على الوضع اللغوي]: هذا على القول بالمجاز، وأن المجاز موجود، والصواب أن المجاز هذا محدَث، لم يعرفه أهل اللغة الذين تكلموا فيها وتواضعوا عليها، وإنما جاء به الأعاجم الذين جاءوا بعد فساد الألسنة، وزعموا أن أصل الوضع على الحقيقة ثم نُقل إلى غير ذلك المعنى، وهذا يحتاج إلى دليل، ولن يستطيع الإنسان أن يأتي بدليل على هذا، وقالوا مثلاً: قوله جلَّ وعلا: {جِدَارَاً يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ} [الكهف:77] الأصل أن الإرادة للعاقل فقط، هذا الذي وضعت عليه اللغة، ثم نقل ذلك من باب الاستعارة، فجعلت الإرادة للجدار من هذا الباب -من باب الاستعارة- وهو من نوع المجاز، ويقال لهم: من أين لكم هذا؟ الجدار له إرادة تناسبه، وكل شيء له إرادة، فميله هذا هو الإرادة، وهو الذي يُفهم من اللغة، وكذلك قوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [يوسف:82]، زعموا أن القرية هي المباني والمباني لا تُسأل، وإنما جاءت الاستعارة وجاء المجاز من ذلك فاستعمل، والسؤال يوجه في الأصل إلى من يرد على السؤال ويعقله، ثم نقل إلى ما لا يعقل من باب المجاز، وكذلك قوله: {وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} [يوسف:82]، العير: هي الإبل، والعير لا يتجه إليها السؤال، فوجه السؤال إليها وأريد سائقيها وقائديها وراكبيها من باب الاستعارة، وللعلاقة التي بين هذا وهذا، فيقال أيضاً: هذه دعوى، والذين وضعوا اللغة يفهمون هذا الخطاب بدون هذه الأشياء ولا تخطر لهم ببال، فالقرية في اللغة ما تسمى قرية بمجرد الحيطان إلَّا بقيد، مثلما قال الله جلَّ وعلا: {مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [البقرة:259]، (قرية خاوية على عروشها) إذا كانت مقيدة بهذا فنعم، أما إذا قيل: قرية، فلا تكون قرية إلا وفيها سكان، وإلا فلا تسمى قرية، وكذلك لفظة (العير) فالإبل بمفردها لا تسمى عيراً، وإنما تسمى كذلك إذا كان معها السائق والقائد والراكب ومن يصلحها ويدبرها، هنا تسمى عيراً، فيكون المفهوم من قوله: (اسأل العير)، يعني: اسأل جميع من فيها، ولا تخص واحداً أو اثنين، فليس هناك مجاز ولا غيره. ثم هؤلاء طردوا هذا في جميع ما جاء في القرآن فقالوا أيضاً في الشيء الذي يكون باطلاً قطعاً في قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفَّاً صَفَّاً} [الفجر:22] قالوا: هذا من المجاز، وكذلك في قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة:210] قالوا: أيضاً هذا مجاز، والله لا يجيء، وإنما المراد: وجاء أمر ربك، أو جاء عذاب ربك، أو ما أشبه ذلك، وعلى هذا الأساس نفوا صفات الله جلَّ وعلا، ولهذا قال البعض: إن المجاز واقع في اللغة إلَّا في صفات الله؛ لأنه تبين لهم أن هذا باطل قطعاً، وأنه يتضمن الإلحاد، فقالوا هذا القول، وهذه دعوى أيضاً، فإذا كان المجاز في اللغة فسيقال أنه أيضاً في القرآن فلا يخص شيئاً دون شيء؛ ولكن الصواب مثلما قال العلماء الذين أنكروا هذا: أن هذا أسلوب من أساليب اللغة العربية، وتسميته مجازاً اصطلاح حادث اصطلح عليه، ولا يوافَقون على ذلك، والذين أنكروه هم الذين معهم الحق. قال الشارح رحمه الله تعالى: [وضُم إليها أركان وشرائط، فعلى ما قررنا لا حاجة إلى شيء من ذلك، فإن المصلي من أول صلاته إلى آخرها لا ينفك عن دعاء: إما دعاء عبادة وثناء أو دعاء طلب ومسألة، وهو في الحالين داعٍ. (انتهى ملخصاً من البدائع)].

شرح فتح المجيد [49]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [49] مما يثير العجب والاستغراب أن أرباب الشرك كانوا إذا ادلهمت بهم الخطوب، وضاقت بهم السبل لجئوا إلى الله مخلصين له الدعاء، فإذا زال عنهم ما كانوا فيه من كرب جعلوا لله أنداداً فيما يدعون!! وهذا الأمر كافٍ بأن يحكم عليهم بالشرك والكفر، إذ فيه صرف ما لله لغير الله، حتى وإن كان غير الله ملك مقرب، أو نبي مرسل. وجناب التوحيد جناب عظيم، لا يجوز أن يخدش أو يمس بشيء يعكر صفاءه، ويذهب ببريقه.

شرح قوله تعالى: (أمن يجيب المضطر إذا دعاه)

شرح قوله تعالى: (أمن يجيب المضطر إذا دعاه) قال المصنف رحمه الله: [وقوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:62]]. هذه الآية من الآيات التي تبطل التعلق بغير الله جلَّ وعلا، وفيها الحجة الواضحة على المشركين، وإلزامهم بأن يعبدوا الله وحده، وقوله جلَّ وعلا: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62] هو سؤال من الله جلَّ وعلا واستفهام لهم ويطلب جوابهم عليه، و A أنه الله وحده، وكلهم يعترف بهذا، والمضطر هو الذي وقع في الضرورة، ووقع في شدة ألجأته إلى أن يرفع يديه إلى ربه، والإنسان إذا وقع في الكرب والشدة فإن في فطرته ما يجذبه إلى ربه، ويجعله متجهاً إليه وحده، إلَّا إذا تغيرت الفطرة نهائياً، وأصبحت منكوسة منتكسة، فربما دعى الاضطرار المقبور واتجه إليه وهو لا يزيده إلَّا ضلالاً، ولا يزيده إلَّا بعداً عن الله جلَّ وعلا، والخطاب هنا للعقلاء لا للمجانين الذين ذهبت عقولهم وأصبحوا لا عقل ولا فطرة لهم، إنما هو للعقلاء الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن المشركين كان أحدهم إذا ركب البحر وعصفت به الريح فإنه يقبل على الله وحده، ويدعوه وحده، وإذا كان معه صنم ألقاه في البحر وكفر به، حتى ينجو إلى البر، فإذا نجا وذهبت الشدة عاد إلى شركه القديم، وانتكس، فاحتج الله جلَّ وعلا عليهم بهذا: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62]، وهم يعلمون علماً يقينياً أنه الله، فجوابهم على هذا: الله هو الذي يجيب المضطر، ((وَيَكْشِفُ السُّوءَ)) وإذا وقع سوء عام أو خاص فلا تستطيع الأصنام والأوثان التي يعبدونها أن تكشفه، وإنما يكشفه الله جلَّ وعلا، وهم يعترفون بهذا، فلهذا جعل الله جلَّ وعلا ذلك دليلاً على وجوب إخلاص العبادة له، ولهذا قال: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:62] أي: أتتألهون شيئاً من المخلوقات مع الله جلَّ وعلا، وأنتم تعترفون أنه لا يجيب المضطر إلا هو؟! أليس هذا تناقض؟! أليس هذا -في الواقع- إهدارٌ للعقل وللفطرة وللدليل واتباع للهوى؟ إن التقليد والهوى ينكشفان ويذهبان إذا جاءت الشدائد، فإذا وقع الإنسان في الشدائد والسوء ذهب عنه الهوى والتقليد، كما وقع لفرعون الذي كان يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، ويقول: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، فلما وقع في الغرق قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} [يونس:90]، ولكن هذا لا يفيد في هذه الحالة، فصار هذا دليلاً واضحاً جلياً على وجوب الإخلاص في دعاء الله وعبادته، وأن تكون العبادة له وحده، وأن يكون التأله لله وحده، وكان ذلك دليلاً على المشركين، وأصبحوا لا عذر لهم في شركهم، لإقامة الأدلة والحجج عليهم ومنها هذا. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلَاً مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:62]]: هذه الأمور الثلاثة: إجابة المضطر، كشف السوء، جعلكم خلفاء في الأرض، كلها ظاهرة في أنها خاصة بالله جلَّ وعلا، يعترف بها لله كل من له عقل سليم وفطرة سوية، إلَّا الذين يقولون -مثلاً- بإنكار وجود الله نهائياً، ويقولون: إن هذا الخلق من صنع الطبيعة، وما الحياة إلا موت يذهب بالمتقدم، وحياة تستقبل المواليد؛ لأن الحياة مادة، فليس هناك إلَّا هذا؛ ولكن هذا إهدار للعقل نفسه من الذي خلق وأمات؟! هل الإنسان يخلق نفسه أو يميتها؟! أو يعفل ذلك في غيره؟! لا أحد يقول هذا، ولا يستطيع أن يقوله أحد. إذاً لابد أن يكون للمخلوق خالق قدير بصير عليم، غني بذاته عن كل ما سواه، وكل من سواه مفتقر إليه، وكل أهل العقول والفطر السليمة يقرون بهذا، وإنما المكابرون هم الذين يقولون بخلاف هذا في حالة العافية، وليس في حالة الشدة، فإذا جاءت الشدائد -حتى الملاحدة- يرجعون إلى رشدهم، ولكن لا ينفع رجوعهم حينها. إذاً: الأمور الثلاثة واضحة الدلالة على وجوب عبادة الله، فكونه يجيب المضطر، وكونه يكشف الشدائد والأمراض والكربات التي يقع فيها الناس عموماً، وكونه يجعل الناس يخلف بعضهم بعضاً: يستوجب عبادته وحده سبحانه. قال الشارح رحمه الله: يبين تعالى أن المشركين من العرب ونحوهم قد علموا أنه لا يجيب المضطر ويكشف السوء إلَّا الله وحده، فذكر ذلك سبحانه محتجاً عليهم في اتخاذهم الشفعاء من دونه، ولهذا قال: ((أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ)) يعني: يفعل ذلك. فإذا كانت آلهتهم لا تجيبهم في حال الاضطرار، فلا يصلح أن يجعلوها شركاء لله الذي يجيب المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء وحده، وهذا أصح ما فسرت به الآية كسابقتها من قوله: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارَاً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارَاً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزَاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [النمل:60 - 61]، ولاحقتها إلى قوله: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرَاً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [النمل:63 - 64]]: وهذه الآية التي ذكرها مثلما قوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:5 - 6]، والآيات في هذا المعنى في القرآن كثيرة، وهذه الآية وهي قوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:62]، مثل قوله تعالى أيضاً: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشَاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [البقرة:21 - 22] إلى آخر الآيات؛ لأن المشركين يقرون بأن الله جلَّ وعلا هو الخالق المتصرف، وهو الذي يملك كل شيء، وليس معه في ذلك مشارك، ولهذا قال: إن أصح التفسيرين في هذه الآية في قوله: ((أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ)). بمعنى: أن ما يقوله بعض المفسرين بأن المعنى: أمشارك له فعل هذه الأشياء؟ أنه غير صحيح؛ لأنهم مقرون بأن الفاعل لهذه الأشياء الموجودة الظاهرة هو الله وحده، وما كان أحداً منهم ينكر ذلك، وإنما كانوا ينكرون أن تكون العبادة لله وحده، ولهذا ذكر ذلك بلفظ الألوهية ((أَإِلَهٌ)) ولم يقل: أمشارك له فعل ذلك؟ أخالق معه فعل ذلك؟ وإنما أنكر عليهم التأله؛ لأنهم مقرون بأنه جلَّ وعلا لا شريك له في الفعل والإيجاد، والخلق والتصرف، وهو الذي يسمى بتوحيد الربوبية، فقد كانوا مقرين به، وإنما أنكروا توحيد الإلهية بأن جعلوا معه شريكاً، وإلَّا فهم يتألهون لله جلَّ وعلا، ويرون أن الله جلَّ وعلا هو أعلى ما يُتأله وأعظم؛ ولكن الشركاء الذين أشركوهم في التأله جعلوهم وسائط بينهم وبين ربهم، مثلما أخبر الله جلَّ وعلا عنهم بقوله جلَّ وعلا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]. يعني: وسطاء وشفعاء يشفعون لهم. أما الملك والإيجاد والتصرف والخلق فما كان أحد منهم يشك أنه بيد الله جلَّ وعلا، وهذه الآيات استدل الله جلَّ وعلا بها على الكفار الذين يشركون معه في العبادة غيره؛ لأنهم إذا وقعوا في الاضطرار أخلصوا له الدعوة؛ ولأنهم يعلمون أن آلهتهم التي يشركونها مع الله لا تنفع ولا تستجيب لهم، فإذا كان الأمر هكذا، في أنها لم تستجب في وقت الشدة والاضطرار فهي كذلك في الرخاء لا تستجيب، وهذا كثيراً ما يرد في القرآن، فيستدل الله جلَّ وعلا عليهم بالشيء الذي يؤمنون ويقرون به، على الشيء الذي واقعوا الشرك فيه وهو العبادة، وليس لهم حجة في هذا، وإنما تمسكوا بما كان عليه آباؤهم، وما وجدوا عليه معظَّميهم تقليداً واتباعاً للآباء فقط، كما قال جلَّ وعلا عنهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23] أي: وجدناهم على ملة وعلى دين ونحلة -هذا هو المقصود بالأمة، فالأمة هنا: الملة والدين- فنحن متبعون لهم ومقتدون بهم، وهذه حجتهم فقط وهي حجة كل الكفار، حتى قال فرعون لموسى عليه السلام -لما جاءه بالدعوة إلى عبادة الله وحده-: {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} [طه:51] أي: ما بال الأمم السابقة. لماذا لم توحّد في عبادتها؛ فجعل ذلك حجة، وهي لا تزال حجة عند الناس، ولكنها حجة تقليد فقط، ليس فيها أي برهان، وإنما البراهين القاطعة في إبطالها ظاهرة جلية، ولهذا استحقوا العذاب بذلك؛ لأنه ليس أمامهم ولا في أيديهم شيء يتمسكون به، لا حجة من كتاب مُنَزَّل، ولا من عقل سديد، ولا من فطرة سليمة، ولا من خلق، فالمشرك ليس عنده إلَّا مجرد التقليد فقط. وفي هذه الآية ذكر أموراً، فإذا لم تتوافر في المعبود الم

الاحتجاج على المشركين بما أقروا به على ما جحدوه

الاحتجاج على المشركين بما أقروا به على ما جحدوه قال الشارح رحمه الله تعالى: [فتأمل هذه الآيات يتبين لك أن الله تعالى احتج على المشركين بما أقروا به على ما جحدوه من قصر العبادة جميعها عليه، كما في فاتحة الكتاب: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] قال أبو جعفر بن جرير: قوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلَاً مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:62] يقول تعالى ذكره: أم ما تشركون بالله خير، أم الذي يجيب المضطر إذا دعاه وَيَكْشِفُ السُّوءَ النازل به عنه؟ وقوله: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ} [النمل:62] يقول: يستخلف بعد أمواتكم في الأرض منكم خلفاء أحياء يخلفونهم. وقوله: ((أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ)): أإله سواه يفعل هذه الأشياء بكم، وينعم عليكم هذه النعم؟ وقوله: {قَلِيلَاً مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:62] يقول: تذكراً قليلاً من عظمة الله وأياديه عندكم، تذكرون وتعتبرون حجج الله عليكم يسيراً، ولذلك أشركتم بالله غيره في عبادته. انتهى]: ومن لازم ذلك -أي: من لازم هذه الأمور التي ذكر-: أن المعبودات التي تُعبد من دون الله لا تملك من هذا شيئاً فعبادتها ضلال، وهذا لازم هذه الاحتجاجات، وفيها إبطال كل شرك وقع فيه الإنسان وقصر العبادة له؛ بأن ينال العابد مطلوبه وينجو من مرهوبه، وليس يفعل ذلك إلَّا الله وحده جلَّ وعلا، سواءً كان الذي يُتوجه إليه بالعبادة من الجمادات أو من الملائكة أو من الأنبياء أو من الأولياء أو من غيرهم، فكلهم لا يملكون شيئاً مما ذكره الله جلَّ وعلا، وإنما الملك بيد الله، وكلهم عبيد لله جلَّ وعلا تجري عليهم أحكامه، كما قال جلَّ وعلا في الملائكة وغيرهم إذا حشر العابدين معهم: {أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} [سبأ:40]، فيتبرءون منهم ويقولون: {سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ:41] يعني: أن الشياطين التي أمرتهم بهذه العبادة -في الواقع- عبادة المشركين وقعت عليهم، ويقول جلَّ وعلا مبيناً أن الأمور كلها بمشيئته وإرادته: {كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدَاً} [مريم:93] أي: كل من في السماوات والأرض سيأتيه ذليلاً خاضعاً. والعبد هنا: بمعنى المعبَّد المذلًَّل الخاضع، وليس بمعنى العابد الذي عبد؛ لأن العبد يُطلق على معنيين: الأول: بمعنى: معبَّد مذلَّل، تجري عليه أحكام الرب الذي استعبده، ولا يعترض على شيء أراده الله جلَّ وعلا قدراً ومشيئة. الثاني: بمعنى: عابد، أي: أنه يعبد باختياره، وهذا الذي ينفع، أما الأول فلا ينفع؛ لأن معناه أن السلطان كله لله جلَّ وعلا، والإنسان وسائر العقلاء من الملائكة وغيرهم ليس لهم أي تصرف، وإنما يأتون إليه خاضعين، وهذه حالة لازمة لهم؛ ولكن في ذلك اليوم -أعني يوم القيامة- يظهر جلياً عبادة الخلق له جلَّ وعلا وذلهم وخضوعهم له، وهو اليوم الذي يقول جلَّ وعلا فيه: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئَاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار:19]، أما في هذا الوقت وفي هذه الحياة فقد جعل للمخلوق شيئاً مما ملَّكه، وجعل له اختياراً ومقدرةً، وجعل الأمر إليه بعدما بين له طريق الهدى من طريق الضلال، وقيل له: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]، هكذا يخاطب الله عباده، وليس معنى ذلك التخيير؛ ولكنك مُكِّنتَ من العمل فاختر لنفسك ما ترى فيه فكاكك وخلاصك، وإن كان الإنسان لا يمكن أن يستقل بشيء دون إرادة الله ومشيئته؛ ولكن يتبين من قصد الإنسان ونيته وإرادته للخير أو للشر، فإن كان يريد الخير فإن الله ييسره لليسرى، وإن كان يريد الشر فلن يعجز الله ولن يفوته، ولا يجني إلَّا على نفسه، وهذا هو معنى الإثابة ومعنى العذاب؛ لأنه يثاب على فعله الذي يقع باختياره، ويعذب على فعله الذي يقع باختياره، أما إذا كان ليس له اختيار فهنا يُرفع العذاب عنه، ولهذا يُرتَّب كل ما يجري في الآخرة على ما يكون في هذه الحياة، فالعبد بمعنى العابد وهذا هو المعنى الذي ينفع، أما العبد بمعنى المعبَّد المذلَّل المسخر فهذا لا ينفع شيئاً، وهذا يجري على جميع الخلق. والمقصود: أن المعبودات كلها التي يتجه إليها الإنسان في طلبه سواءً كانت من الجن، أو كانت من الملائكة، أو كانت من الأنبياء والرسل، أو من غير ذلك مما هو أقل قدراً من الجمادات أو الحيوانات؛ فإنها كلها لا تنفع، بل لا تملك لأنفسها نفعاً ولا تدفع عنها ضراً، فكيف يجوز للعاقل أن يتجه إليها أو يتعلق بها؟! وما أكثر ما يبين الله جلَّ وعلا هذا للخلق! ولكنهم قد يعمَون عن الحق، خاصة إذا كان الإنسان سالكاً طريقاً معيناً ووجد عليه آباءه وقومه وأهل بلده؛ فإنه لا يستطيع الخلاص إلَّا إذا أراد الله جلَّ وعلا له الهداية.

حماية النبي صلى الله عليه وسلم لجناب التوحيد

حماية النبي صلى الله عليه وسلم لجناب التوحيد قال المصنف رحمه الله تعالى: [وروى الطبراني بإسناده: أنه (كان في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم منافق يؤذي المؤمنين، فقال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنه لا يُستغاث بي وإنما يُستغاث بالله)]: هذا الحديث رواه الطبراني عن عبادة بن الصامت، وجاء في بعض الروايات أن المنافق هو: عبد الله بن أبي، وأن القائل: (قوموا بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نستغيث به من هذا المنافق) هو أبو بكر الصديق، والأذية كانت باللسان وبالقول، ولم تكن باليد أو بشيء يناله من أجسادهم؛ ولكن كان يقول قولاً يؤذي فيه المؤمنين، كما هو الحال مع المنافقين كثيراً، أما أن يؤذيهم بفعله: فهذا ما كان أحد من المنافقين يقدر عليه. وقوله: (قوموا بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نستغيث به من هذا المنافق) يعني: أن يوبخه أو يعاقبه؛ لأنه يقدر على ذلك؛ ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كره لهم هذا اللفظ -لفظ الاستغاثة- صيانةً للتوحيد، وحمايةً لجنابه أن يُخدش أو يناله شيء من النقص، وإلَّا فقولهم صحيح وجائز؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يقدر على ما طلبوا منه، والاستغاثة في الشيء المقدور عليه جائزة. ولا تعارض ولا إشكال بين هذا الحديث وبين قوله جلَّ وعلا عن موسى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص:15]؛ لأن الآية تُدل على الجواز في الشيء المقدور عليه، والحديث يدل على الكراهة فقط، والكراهة في الشيء المقدور عليه كراهة اللفظ -لفظ الاستغاثة- مع جواز ذلك، فهو صلوات الله وسلامه عليه جعل هذا من باب الحماية -حماية جناب التوحيد- والصيانة أن يُدخَل عليه النقص من الشيء الذي يجوز، فقال لهم: (إنه لا يُستغاث بي وإنما يُستغاث بالله تعالى) وليس معنى هذا نفي الاستغاثة مطلقاً، وإنما صيانةً أن يقع الموحد في الشيء الذي لا يجوز، وهذا له نظائر سيأتي التنبيه عليها -إن شاء الله- فيما بعد. إذاً: فالرسول صلى الله عليه وسلم يستطيع أن يغيثهم؛ لأنه حي حاضر، ويستطيع أن يأمر بعض المؤمنين بضربه، أو منعه، أو حبسه، أو حتى إخراجه من البلد، كما وقع له في بعض غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد نزل فيه قرآن حينما حدث بين الغلامين -الأنصاري والمهاجري- منازعة عند الماء وهم في سفر، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نازلون، وكان الماء فيه شح، فقال أحدهما: (يا لَلأنصار! وقال الثاني: يا لَلمهاجرين! فسمعوا هذا القول وسمعه عبد الله بن أبي بن سلول -رأس المنافقين- فقال: ما مثلنا ومثل هؤلاء إلَّا كقول القائل: سمِّن كلبك يأكلك: (لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ)، وقال: لا تنفقوا عليهم لقد أوسعتموهم في النفقات وفي المساكن وفي كذا وكذا حتى أصبحوا يُزاحموننا في أرزاقنا وفي أماكننا، وأصبحنا نستغيث منهم، فذهب ذاهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما قال -وكانت عادته صلوات الله وسلامه عليه أنه إذا حدث مثل هذا الأمر بادر بإطفائه- فأمر بالمسير في وسط النهار في وقت ما كانوا يسيرون فيه، وانتشرت الأخبار بأن الرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يقتل عبد الله بن أبي، وسمع ابنه عبد الله ذلك فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! أتريد أن تقتل أبي؟ فقال: من الذي أخبرك؟ فقال: إن كنت تريد أن تقتله فأمرني أقتله؛ لأنني أخشى أن يقتله غيري فلا يتسع صدري في أن أنظر إلى من قتل أبي، فأخشى أن أهلك -يعني: أن أقتل قاتله فأهلك- قال: أوَتفعل ذلك؟ قال: نعم. فقال: لا. ولكن نحسن صحبته، فلما وصلوا إلى المدينة أخذ ابنه السيف ووقف أمامه، وقال: والله لا تدخلها حتى تشهد على نفسك أنك الأذل، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأعز والمؤمنين). فالمقصود: أنه صلوات الله وسلامه عليه كان يستطيع أن يغيثهم من هذا المنافق، ومع ذلك كره لهم هذا القول، وقال ذلك القول، وهذا يكون من باب الصيانة والحماية لجناب التوحيد، ومن باب الكراهة فقط مع الجواز. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وروى الطبراني بإسناده أنه (كان في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم منافق يؤذي المؤمنين فقال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وآله من هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنه لا يُستغاث بي وإنما يُستغاث بالله). قال الشارح: الطبراني: هو الإمام الحافظ سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي الطبراني صاحب المعاجم الثلاثة وغيرها، روى عن النسائي وإسحاق بن إبراهيم الدبري وخلق كثير، مات سنة ستين وثلاثمائة. روى هذا الحديث عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه. قوله: أنه (كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين) لم أقف على اسم هذا المنافق]: الذي قال: (لم أقف على اسم هذا المنافق) صاحب الشرح المسمى تيسير العزيز الحميد -وفتح المجيد اختصار لذلك الشرح- وقد ذكر غيره -ممن وقف عليه- أنه: عبد الله بن أبي. قال الشارح رحمه الله تعالى: [قلت: هو عبد الله بن أبي؛ كما صرح به ابن أبي حاتم في روايته. قوله: (فقام بعضهم) أي: الصحابة رضي الله عنهم، هو: أبو بكر رضي الله عنه. قوله: (قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من هذا المنافق) لأنه صلى الله عليه وسلم كان يقدر على كف أذاه. قوله: (إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله) فيه: النص على أنه لا يستغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا بمن دونه، كره صلى الله عليه وسلم أن يُستعمل هذا اللفظ في حقه -وإن كان فيما يقدر عليه في حياته- حمايةً لجناب التوحيد، وسداً لذرائع الشرك، وأدباً وتواضعاً لربه، وتحذيراً للأمة من وسائل الشرك في الأقوال والأفعال]. بما أن هذا جائز فهو غير ممنوع، والحديث لا يدل على المنع، فالاستغاثة جائزة فيما يقدر عليه المستغاث به، إذا كان حياً حاضراً سامعاً وقادراً، فهذا لا بأس به، كالذي -مثلاً- يهاجمه سبع، وعنده من يقدر أن يعينه، فيستغيث به قائلاً: أغثني من هذا السبع، أو -مثلاً- عنده شيء لا يستطيع حمله، وعنده من يساعده، فيقول: أغثني على حمل هذا الشيء، أو -مثلاً- إنسان يمشي على رجليه، فيأتي من معه سيارة أو ما أشبه ذلك فيقول: أغثني فأركبني، فإن هذا جائز؛ لأنه يستطيع فعل ذلك الطلب؛ ولكن لا يقال: (أغثني)، أو (أستغيث بك) كراهة؛ لأنه يخشى أن تحمل هذه اللفظة معها ما لا يجوز، والرسول صلى الله عليه وسلم حريص على نجاة أمته، رءوف رحيم بهم، فالشيء الذي يمكن أن يدخل الشيطان عليهم منه منعه، ونهى عنه؛ سداً للذرائع فقط، وليس لأن هذا الفعل -مثلاً- بعينه محرم، أو أنه لا يجوز أصلاً، وإنما لذلك الغرض الذي ذكرناه.

حكم الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم

حكم الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم قال الشارح رحمه الله تعالى: [وأدباً وتواضعاً لربه، وتحذيراً للأمة من وسائل الشرك في الأقوال والأفعال، فإذا كان هذا فيما يقدر عليه النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، فكيف يجوز أن يستغاث به بعد وفاته، ويُطلب منه أمور لا يقدر عليها إلَّا الله عزَّ وجلَّ؟!]. يعني: كالذي يطلب منه أن يرزقه، أو يغفر ذنبه، أو يأخذ بيده يوم القيامة وينجيه من عذاب الله، أو يحميه من غضب الجبار جلَّ وعلا، أو -مثلاً- أن يزيل المرض الذي فيه، وما أشبه ذلك مما يقع كثيراً من الناس، فإن هذا من الشرك الأكبر، نسأل الله العافية، أو -مثلاً- كالذي يأتي ويقول: يا رسول الله! اشفع لي، يا رسول الله! أنا بحسبك، يا رسول الله! أنا داخل عليك أريد منك الشفاعة، وما أشبه ذلك، فإن هذا شرك؛ لأن هذا يجب أن يُطلب من الله جلَّ وعلا، والشفاعة لله وليست للرسول صلى الله عليه وسلم، ولكي تقع الشفاعة لابد من شيئين: أولهما: أن يأذن الله للشافع أن يشفع. والثاني: أنه يحد له حداً، ويقول: هؤلاء اشفع فيهم. وسيأتي أن الشفاعة معناها وحقيقتها: إظهار كرامة الشافع؛ إذا أراد الله جلَّ وعلا رحمة المشفوع فقط، هذه هي حقيقة الشفاعة. وإلَّا فالأمر كله لله: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعَاً} [الزمر:44] {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28]، فالتعلق بغير الله -وإن كان من أوليائه، وإن كان من أقرب المقربين إلى الله- لا يجوز؛ لأن الملك كله لله، والأمر كله لله، فالعبادة كلها لله، ولا يجوز أن يكون الذل والخضوع، والتعظيم والخشية، والإنابة والخوف والرجاء، والرغبة والرهبة، والتوبة وغير ذلك من أنواع العبادة إلَّا لله وحده فقط، وكثيراً من الشعراء يأتي بأشعار صريحة في الشرك في دعوة الله جلَّ وعلا، كما يقول القائل: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العممِ إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي فضلاً وإلَّا فقل: يا زلة القدمِ! فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلمِ ولن يضيق رسولَ الله جاهُك بي إذا الكريمُ تحلى باسم منتقمِ إلى غير ذلك من ألفاظ الشرك، ويقول في قصيدة أخرى بعد أن ذكر عن نفسه أنه أنشدها وهو مكشوف الرأس، أمام قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه أنزل به فاقته وفقره، وأنزل به الشكوى من أعدائه، يقول: هذه علتي وأنت طبيبي ليس يخفى عليك في القلب داءُ هكذا يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم، فماذا يبقى لله إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يخفى عليه في القلوب داء؟! وكان من جوده: الدنيا والآخرة، وكان من جملة علومه: علم اللوح والقلم!! اللوح المحفوظ الذي فيه كل شيء، والقلم الذي قال له جلَّ وعلا: (اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة)، ثم الاستغاثة به: ولن يضيق رسولَ الله جاهُك بي إذا الكريمُ تحلى باسم منتقمِ يقول: إذا غضب الله يوم القيامة غضباً -لم يغضب مثله قبله، ولن يغضب مثله بعده- فأنا لائذ بك، لا يضيق جاهك بي، احمني من هذا الغضب. فهل هذا يتناسب مع قول الرسول صلى الله عليه وسلم لأقرب الناس إليه: (يا صفية عمة رسول الله! لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا فاطمة بنت محمد! سليني من مالي ما شئتِ، لن أغني عنك من الله شيئاً) فهل هذا يتناسب مع ذلك؟! وهل هذا يتناسب مع قول الله جلَّ وعلا: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128]؟! وهو صلوات الله وسلامه عليه الذي علم أمته التوحيد، ونهاهم عن التعلق بغير الله جلَّ وعلا. فالمقصود: أن الاستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم وبمن دونه لا تجوز، وإنما الجائز منها ما كان في حياته وبمقدوره أن يغيث، أما إذا كان المستغاث به غائباً بعيداً أو كان ميتاً فهذا لا يجوز منه كثير ولا قليل؛ لأن هذا من حقوق الله وحده؛ ولأن الذي يعلم الغيب ويطلع على كل شيء هو الله، والذي يقدر على كل شيء هو الله جلَّ وعلا، وهو الذي إذا استغاث به المستغيث أغاثه؛ إذا كان صادقاً وخالصاً في دعوته، مقبلاً على الله، حتى وإن كان مشركاً، بشرط أن يكون صادقاً في استغاثته -أعني: أنه لجأ إلى الله لجوءاً صحيحاً وصدق في ذلك- ولهذا أخبر الله جلَّ وعلا أنه يغيث المشركين: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62] المضطر من المشركين ومن الكفار؛ لأن هذا مقتضى ربوبيته جلَّ وعلا، فهو رب الخلق جميعاً، والرب هو الذي يمدهم بما فيه حاجتهم، ويقوم على مصالحهم، وإن كانوا غير عابدين له؛ لأنه جلَّ وعلا حليم، حلمه يسع العصاة والكفرة، ولأنه جلَّ وعلا لا يعجل؛ ولأنه إذا أعطاهم لا ينقصه ذلك شيء، فالمآل إليه: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية:25 - 26] والمرجع إليه، ثم يحاسبهم على ذلك، والحياة قصيرة، فلهذا أمر الله جلَّ وعلا رسله أن يمهلوا الكفار: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدَاً * وَأَكِيدُ كَيْدَاً * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدَاً} [الطارق:15 - 17]. يعني: قليلاً قليلاً، وزمنهم الذي يُمهلون فيه قليل، وسوف يكون مآلهم بعده إلى الله جلَّ وعلا، فالأمر كله بيد الله جلَّ وعلا، وليس لأحد معه شيء، فيجب أن يكون الإنسان عبداً لله وحده، عبداً لربه، ولا يكون عبداً لعبيد من عباد الله جلَّ وعلا، ولهذا كان الصحابة رضوان الله عليهم إذا واجهوا الكفار في قتال وسألوهم: ما الذي جاء بكم من بلاد العرب؟ يقولون لهم: (جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب الناس)؛ لأن الناس يستعبد بعضهم بعضاً، ولا يزال ذلك موجوداً، فترى بعضهم أرباباً وبعضهم عبيداً يستعبدون، وإنما يخرج الإنسان من عبادة الخلق إذا أخلص العبادة لله جلَّ وعلا، وأخبر سبحانه أن العزة للمؤمنين، وأن العزة بعبادته وحده: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعَاً} [فاطر:10] فالواجب على الإنسان أن يعرف حق الله عليه، ويميز بين حق الله وحق الرسول صلى الله عليه وسلم، فحق الرسول صلوات الله وسلامه عليه: محبته، وتقديم محبته على محبة الأنفس -فضلاً عن الأولاد والمال والناس- أن تحبه أكثر من محبتك لنفسك؛ ومحبته صلى الله عليه وسلم ينبغي أن تكون كذلك؛ لأنه جاءك بالنور من الله؛ فأخرجك به من الظلمات، وخلصك من شبكات الهلكة إلى سبيل الله الذي يوصلك للجنة، ففضله عليك عظيم جداً، وكذا تحبه لأن الله جلَّ وعلا يحبه، فأنت تحب ما يحبه محبوبك، أما أن تكون المحبة مع الله فهذا شرك؛ لأن محبة الله محبة ذل وخضوع وتعظيم، أما محبة الرسول صلى الله عليه وسلم فهي محبة لله وفي الله، تحبه لأن الله يحبه، ولأنه بيَّن لك طريق المحبة الواجبة عليك لله جلَّ وعلا. وكذلك من حقوقه عليك: اتباعه فيما قال وأمر، وتصديقه في جميع ما أخبر به، وأن تدعو إلى سنته ودينه، وأن تخلص في ذلك، وأن تجتهد في أن تكون ممن سلك سبيله وترسم خطاه، ولهذا يقول الله جلَّ وعلا: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]، فباتباعه صلى الله عليه وسلم تحصل محبته ومحبة الله جلَّ وعلا.

بالتوحيد والتجريد يكون العمل مقبولا عند الله

بالتوحيد والتجريد يكون العمل مقبولاً عند الله قال الشارح رحمه الله تعالى: [كما جرى على ألسنة كثير من الشعراء كـ البوصيري والبرعي وغيرهم من الاستغاثة بمن لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، ويعرضون عن الاستغاثة بالرب العظيم القادر على كل شيء، الذي له الخلق والأمر وحده، وله الملك وحده، لا إله غيره، ولا رب سواه، قال تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعَاً وَلا ضَرَّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعراف:188] في مواضع من القرآن: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرَّاً وَلا رَشَدَاً} [الجن:21]. فأعرض هؤلاء عن القرآن، واعتقدوا نقيض ما دلت عليه هذه الآيات المحكمات، وتبعهم على ذلك الضلال الخلق الكثير والجم الغفير؛ فاعتقدوا الشرك بالله ديناً، والهدى ضلالاً، فإنا لله وإنا إليه راجعون! فما أعظمها من مصيبة عمت بها البلوى! فعاندوا أهل التوحيد، وبدَّعوا أهل التجريد، فالله المستعان!]. أهل التوحيد: هم الذين أخلصوا العبادة لله، وأما أهل التجريد: فهم الذين أخلصوا متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وصار قولهم وفعلهم متابعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم. يعني: جردوا المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم فقط، وتركوا الناس، فلا ينظرون إلى أحد مهما كان من العبادة ومن العلم، إلا إذا كان قوله موافقاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم، أما إذا كان مخالفاً فلا يلتفتون إليه مهما كان، ومن المعلوم قطعاً عند المسلمين: أن المعصوم في أقواله وأفعاله هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط، أما ما عداه من الخلق -مهما أُعطي من العلم، ومن التعبد، ومن القبول عند الناس- فإنه غير معصوم. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون). أي: الذين إذا أخطئوا تابوا ورجعوا إلى الله جلَّ وعلا. والمقصود: أن الإنسان جُعل الأمر إليه، وقد بُين له الحق من الباطل، فإذا تبين للإنسان الحق وجب عليه اتباعه، وإذا لم يتبعه فهو لا يضير أحداً شيئاً، ولا يضر الله جلَّ وعلا شيئاً، وإنما يضر نفسه؛ لأنه يكتسب بأعماله إما القرب إلى الله وحسن الثواب عنده، أو يكتسب بأعماله القرب من الشيطان والبعد من الله، ويكون بذلك قد تحصل على شدة العذاب الذي يلاقيه يوم القيامة: {بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة:14]، وفي هذا المعنى يقول الله جلَّ وعلا للخلق: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]، وقال بعد ذلك: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارَاً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} [الكهف:29]، نسأل الله العافية، والمهل هو: الماء الذي يتقطع من الغليان، إذا دخل في البطون قطع الأمعاء ومزقها، وإذا قرب من الوجوه شواها، ثم العذاب مستمر ودائم {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرَاً} [الإسراء:97] نسأل الله العافية. فكيف يصبر الإنسان على هذا؟! كيف يستطيع الصبر؟! كيف لا يسعى في نجاته؟! وكما قيل: عجبت لمن آمن بوجود النار وحقيقتها، وأنه وارد إليها، كيف لا ينام عن المعاصي؟! وكيف لا يهرب؟! وعجبت لمن آمن بالجنة ونعيمها، كيف ينام عنها ولا يطلبها؟! مع أن المعروف لدى الناس لو قيل لإنسان: لو ذهبت إلى البلد الذي يبعد عنك -مثلاً- ألف كيلو أو أكثر، وبعت فيه بضاعة لربحت بدل الريال مائة ريال، ثم تعود وليس هناك أي مشاكل تواجهك. لو قيل له هذا لما كان له أن يتخلف، ولو تخلف عن هذا الذهاب لقيل له: مجنون، لا يعرف مصلحته! فكيف والإنسان يؤمن إيماناً يقينياً بأنه سيموت، ثم يُبعث، ثم يجزى، ثم يبقى حياً أبد الآبدين، إما في نعيم وإما في عذاب لماذا لا يسعى في خلاص نفسه؟! إن أهم ما يسعى إليه الإنسان: أن يجرد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويخلص العبادة لله فقط، فإذا مات الإنسان على التوحيد وليس عنده شرك، فإنه يرجى له الخير، وإن كان عاصياً، المهم أن يموت موحداً لله، عابداً لله ليس عنده شرك، وإن كان مقصراً في ترك الواجبات وفي فعل المحرمات، أما إذا كان من عباد الله الذين يخلصون له العبادة، ويؤدون الواجب، ويجتنبون المحرم، فهذا من الذين {لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62]. إن الإنسان مهما اجتهد لا يضمن أن يكون عملُه مقبولاً، أو أن عملَه ليس مدخولاً -مدخولاً في نيته وقصده أو في عمله- لا يضمن ذلك أبداً، فلهذا ينبغي أن يجتهد، ثم يتوكل على الله جلَّ وعلا حق الاتكال والاعتماد، ويكون متعلقاً به وبرجائه وبدعوته دائماً، متضرعاً ذالَّاً له، يسأله حاجته التي لا غنى له عنها، فهو الغني عمن سواه، ومع ذلك يدعو العباد إلى دعوته، ويدعوهم إلى مغفرته وجنته: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ} [يونس:25] جلَّ وعلا. ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (كلكم يدخل الجنة إلَّا من أبى)، أهناك أحد يقال له: تعال إلى الجنة ويأبى؟! يقول: (كلكم يدخل الجنة إلَّا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى). إذاً: الجنة لها ثمن، وهي: طاعة الله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومتابعته، فالرسول جاء بالهدى من عند الله، وعلى الإنسان أن يخلص نفسه: (والناس كلهم إما رائحون أو غادون -يعني: من هذه الدار إما أن يذهبوا مساءً أو صباحاً ولا بد، فإذا ذهبوا- فكلهم بائع نفسه فمعتقها أو موبقها) يعني: مشتريها بطاعة الله أو مشتريها بطاعة الشيطان.

مسائل الباب

مسائل الباب قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل: الأولى: أن عطف الدعاء على الاستغاثة من عطف العام على الخاص] وهذا كثير، عطف العام على الخاص، وبالعكس قد يُعطف الخاص على العام، كقوله جلَّ وعلا: {مَنْ كَانَ عَدُوَّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ} [البقرة:98]، فجبريل من عطف الخاص على العام. قال المصنف رحمه الله تعالى: [الثانية: تفسير قوله تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} [يونس:106]]. تقدم أن الدعوة هنا عامة، تشمل: دعاء المسألة ودعاء العبادة، وأن كل مخلوق من المخلوقات لا ينفع ولا يضر إلَّا بإذن الله جلَّ وعلا، وأن الله جلَّ وعلا لم يأذن لأحد من عباده أن يدعو غيره. قال المصنف رحمه الله تعالى: [المسألة الثالثة: أن هذا هو الشرك الأكبر] نعم، فدعوة غير الله هو الشرك الأكبر، ولهذا يخاطب الله جلَّ وعلا الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول: {فَإِنْ فَعَلْتَ} [يونس:106] يعني: دعوت غير الله {فَإِنَّكَ إِذَاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس:106]، وسبق أن معنى الظلم هنا: وضع العبادة في غير موضعها، وأن الظلم هنا هو الشرك. قال المصنف رحمه الله تعالى: [الرابعة: أن أصلح الناس لو يفعله إرضاءً لغيره صار من الظالمين] إرضاءً لغيره من الخلق، ولو إرضاءً لإبليس صار من الظالمين. قال المصنف رحمه الله تعالى: [الخامسة: تفسير الآية التي بعدها] قال الله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس:107] والآية التي بعدها: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقَاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ} [العنكبوت:17]، فبين سبحانه أن الذين يُعبدون من دون الله لا يملكون شيئاً، حتى من الشيء الظاهر (الرزق) الذي يأكله الإنسان أو يلبسه أو يتموله لا يملكون منه شيئاً. ثم قال: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ} [العنكبوت:17]، فجعل الرزق بيد الله جلَّ وعلا فقط، وأنه لا يُطلب من غيره، وتقديم المعمول الذي هو الظرف والذي يعمل فيه الفعل -فابتغوا- يدل على الاختصاص، وأن طلب الرزق خاص بالله جلَّ وعلا، وأنه عبادة، ولهذا عطف عليه قوله: (واعبدوه)، وهذا أيضاً من عطف العام على الخاص. قال المصنف رحمه الله تعالى: [المسألة السادسة: كون ذلك لا ينفع في الدنيا، مع كونه كفراً] يعني: دعوة غير الله لا تنفع في الدنيا، وهي تضر في الآخرة؛ لأن هذا الفعل كفر. قال المصنف رحمه الله تعالى: [السابعة: تفسير الآية الثالثة] وهي قوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:5 - 6]. قال المصنف رحمه الله تعالى: [الثامنة: أن طلب الرزق لا ينبغي إلَّا من الله كما أن الجنة لا تُطلب إلَّا منه]. لقوله تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ} [العنكبوت:17]، فيجب أن يكون طلب الرزق من الله وحده، مؤدياً للسبب غير معتمد عليه؛ لأن الذي جعل السبب هو الله ولا يجوز أن يُعتمد عليه، وفي المقابل لا ينبغي أن يُعطل السبب؛ بل يُفعل؛ لأن الله جعل لكل شيء سبباً؛ ولكن لو شاء لم يترتب المسبَّب على السبب جلَّ وعلا، فيجب أن يكون تعلق المسلم بالله وحده، مع فعل الأسباب. قال المصنف رحمه الله تعالى: [التاسعة: تفسير الآية الرابعة. العاشرة: أنه لا أضل ممن دعا غير الله. الحادية عشرة: أنه غافل عن دعاء الداعي لا يدري عنه. يعني: أن المدعو غافل عن دعاء الداعي، ولا يدري عن ذلك شيئاً. الثانية عشرة: أن تلك الدعوة سبب لبغض المدعو للداعي وعداوته له] يعني: يوم القيامة، الداعي والمدعو كلاهما يلعن أحدهما الآخر؛ كما قال إبراهيم عليه السلام لقومه: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضَاً} [العنكبوت:25]، ويقول الله جلَّ وعلا في الذين يتخذون من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [البقرة:165 - 166]، تبرأ كل واحد من الآخر: {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا} [البقرة:167] يعني: لو أن لنا رجعة إلى الدنيا لتبرأنا منهم، ولجعلنا العبادة والحب والتعلق بالله وحده، ولكن من أين الكرة؟! قال المصنف رحمه الله تعالى: [الثالثة عشرة: تسمية تلك الدعوة عبادة للمدعو] وهي قوله جلَّ وعلا: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ} [الأحقاف:5]، ثم قال: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:6] فبين أن الدعاء عبادة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [الرابعة عشرة: كفر المدعو بتلك العبادة. الخامسة عشرة: هي سبب كونه أضل الناس] يعني: سبب كونه أضل الناس أنه دعا غير الله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ} [الأحقاف:5]. قال المصنف رحمه الله تعالى: [السادسة عشرة: تفسير الآية الخامسة] وهي: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:62]. قال المصنف رحمه الله تعالى: [السابعة عشرة: الأمر العجيب: وهو إقرار عبدة الأوثان أنه لا يجب المضطر إلَّا الله؛ ولأجل هذا يدعونه في الشدائد مخلصين له الدين]: وقد حصل لهم هذا الاعتقاد بالتجربة والواقع الذي شاهدوه ووقعوا فيه، وهو الذي اقتنعوا به وعلموه، ولكن إذا جاء الرخاء وذهبت الشدة عادوا لشركهم، ويوجد الآن ممن يدعي الإسلام من تجاوز هذا الفعل الذي كان المشركون يفعلونه؛ فإذا وقع في الشدة أخلص الدعوة لغير الله، وأخلص اللجوء إلى المقبور، فصار يتضرع ويبكي بكاءً لا يحصل له في المساجد ولا عند الكعبة، فإن حصل له مقصوده قدراً أضاف ذلك إلى الميت، وجعل ذلك دعوة يدعو بها غيره إلى التعلق به، أما إذا تخلف المقصود؛ فإنه يعود باللوم على نفسه. فيقول: لم أكن مخلصاً في دعوته، أو أني قد فرطت أو قصرت في حقه؛ ولهذا ما أجابني. وهذا شرك ما وصل إليه شرك أبي جهل وأبي لهب، وهو شرك عظيم، ومع ذلك يقع فيه كثير ممن يقول: (لا إله إلَّا الله) ويصلون ويصومون، ويكون قد أتى بالمتناقضات مناقضات العقول ومناقضات الشرع والوضع؛ لأنه -في الواقع- ما استعمل عقله، أما أولئك فعندهم عقل استعملوه، وعلموا أن هذه المدعوات لا تكشف الكربات، ولا تغيث اللهفات، فتبرءوا منها وتركوها في وقت الحاجة وإزالة الشدة التي يقعون فيها، وأخبر ربنا جلَّ وعلا كثيراً عنهم أنهم إذا ركبوا في البحر: {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت:65]، ولكن إذا نجوا وجاء الرخاء عادوا إلى الشرك. ولهذا يقال: أولئك أصح عقولاً من هؤلاء، وأخف شركاً من هؤلاء، وإن كان هؤلاء يصلون ويصومون. قال المصنف رحمه الله تعالى: [الثامنة عشرة: حماية المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم حمى التوحيد والتأدب مع الله] هذا مأخوذ من الحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله جلَّ وعلا) فهو من باب سد الذرائع، وحماية الشيء يكون بمنع الشيء الذي يجوز، لئلا يُدخل مع هذا الجائز إلى ما لا يجوز.

شرح فتح المجيد [50]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [50] الأصل أن العباد كلهم متعبدون لله عز وجل، ولكن وجد منهم من صرف العبادة لغير الله تعالى، وقد احتج الله على هؤلاء بأن الذين يتعلقون بهم ويصرفون شيئاً من العبادة لهم كانوا فقراء إلى الله في حياتهم -فضلاً عن حالهم بعد الموت- وأنهم ليس بأيديهم شيء من ملك الله جل وعلا، وليسوا شركاء له في الملك، ولا يملكون نفعاً ولا ضراً، لا لأنفسهم ولا لمن يعبدوهم من دون الله.

باب قول الله تعالى: (أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون)

باب قول الله تعالى: (أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون) قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب قول الله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئَاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرَاً وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} [الأعراف:191 - 192]]:

شرح قوله: (أيشركون مالا يخلق شيئا وهم يخلقون)

شرح قوله: (أيشركون مالا يخلق شيئاً وهم يخلقون) في هذا الباب وهو قوله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئَاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرَاً وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} [الأعراف:191 - 192] يبين سبحانه حالة المدعو من دون الله مطلقاً، وأنه لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، وأنه لو أصابه الله جلَّ وعلا بإدالة عدو أو تسليط أو ما أشبه ذلك لا يستطيع أن ينصر من يدعوه ولا أن ينصر نفسه، وهذه حال كل مدعو من دون الله، سواءً كان عاقلاً أو غير عاقل، وسواءً كان من المقربين إلى الله جلَّ وعلا: كالرسل والملائكة أو من هو أقل منهم كالأولياء، أو كان عبداً مسخراً خلقه الله جلَّ وعلا لعبادته القدرية: كالشمس والقمر والنجوم والشجر وغيرها، فإنها كلها بهذه المثابة. يعني: أنها مخلوقة، الله خلقها، وإذا كانت مخلوقة فهي فقيرة من الأصل؛ لأن كل مخلوق كان معدوماً لا وجود له، فأوجده الخالق جلَّ وعلا، فهو يتصرف فيه كيف يشاء، ثم إن هذه المخلوقات لا تخلق شيئاً. والمقصود بالخلق هنا: إيجاد الشيء من العدم، وليس الخلق الذي يطلقه بعض الناس على بعض أفعال الناس، وهو إطلاق فيه إيهام، وإنما المراد بالخلق هنا: الإيجاد. أي: إيجاد الشيء من العدم، وهذا لا يمكن لغير الله جلَّ وعلا، كما قال الله جلَّ وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابَاً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئَاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73]، فهذه حالة كل معبود من دون الله، ولهذا ضرب الله جلَّ وعلا هذا المثل؛ ليبين ويوضح للعقلاء الذين عندهم فكر وتأمل. والشارح رحمه الله أراد بهذا الباب أن يبين للذين يتعلقون بالقبور، ويتجهون إلى أصحابها، وقد صاروا رفاتاً أمواتاً، أن أرواحهم مرتَهنة عند الله، لا تستطيع أن تجيء أو تتصرف كما يزعمون، فإنهم يزعمون أن للأولياء تصرفات، وأنهم يسمعون الدعوات، ويغيثون اللهفات، وهذا كله باطل ليس لهم عليه برهان ولا دليل، وإنما هي مجرد ظنون واتباع للأهواء والآباء، والله جلَّ وعلا أصدق قيلاً، وأعلم بما يقوله جلَّ وعلا، وأعلم بما يقع في الكون، فهذا كتابه واضح جلي خاطب به عباده، وخطابه يتوجه لكل مكلف، ويجب أن يُفهم قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] ولا ينبغي للعبد أن يعرض عن تعلم ما ينجيه ويخلصه من النار ثم إذا أُحضر يوم القيامة مع من يتعلق به ويدعوه، فيقول حينها: ما تعلمت، وما دريت، أو أن فلاناً أضلني، أو أني اتبعت رؤسائي وكبرائي، فإن هذا لا يجديه شيئاً، فإن الرؤساء تتبرأ منه أيضاً، وهو أيضاً يعود باللوم على رؤسائه وكبرائه من العلماء والمقدمين وغيرهم؛ ولكن لا يفيد اللوم ولا اللعن ولا غير ذلك؛ لأن الله منَّ على العبد بأن جعل له عقلاً، ثم أرسل إليه رسولاً، ثم بين له بكتابه -الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه- الحق بياناً واضحاً، وجعل فيه الهدى والشفاء، وليس لمن ابتغى الهدى من الخلق نصيب من ذلك. هذا هو مراده في ذكر هذه الآية، ومعنى الآية على ما قال المفسرون: أن هذا الاستفهام خرج للتوبيخ. أي: لتوبيخ المشركين وتعنيفهم، حيث عبدوا من كان مخلوقاً، ثم إنه لا يخلق، ثم إنه لا يستطيع نصر نفسه فضلاً عن أن ينصر من دعاه، وهذه الأمور يجب أن تتوافر في المعبود، وأن يكون المعبود أولاً بلا بداية، وآخراً بلا نهاية، غني بنفسه عما سواه: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد:3]، وأن يكون مالكاً للنفع والضر، ومالكاً للنصر على العدو، والإعزار لمن تعلق به وطلب العزة منه، أما إذا فُقد شيء من ذلك فعبادته ضلال. إذاً: هو احتجاج عليهم، وتوبيخ لهم، وتقريع لما فعلوه، حيث اتجهوا إلى ما اتجهوا إليه من المخلوقات حسب تنوعهم في عباداتهم، فمنهم من يعبد الشجر، ومنهم من يعبد القبور، ومنهم من يعبد الكواكب، ومنهم من يعبد الجن، ومنهم من يعبد الملائكة، ومنهم من يعبد الأنبياء، وكلهم سواء في هذا، وكلهم ضلوا، وكلهم أشركوا بالله جلَّ وعلا، وظلموا وتنقصوا الله جلَّ وعلا، وجعلوا حقه للمخلوق الذي هو متعبَّد لله جلَّ وعلا، كما أن العابد متعبد الله. هذا معنى ما ذكره المفسرون في هذه الآية.

توبيخ وتعنيف المشركين في عبادتهم مع الله ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون

توبيخ وتعنيف المشركين في عبادتهم مع الله ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: {أَيُشْرِكُونَ} أي: في العبادة. قال المفسرون: في هذه الآية توبيخ وتعنيف للمشركين في عبادتهم مع الله تعالى {مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئَاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الأعراف:191]، والمخلوق لا يكون شريكاً للخالق في العبادة التي خلقهم لها، وبين أنهم لا {يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرَاً وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} [الأعراف:192]، فكيف يشركون به من لا يستطيع نصر عابديه ولا نصر نفسه؟! وهذا برهان ظاهر على بطلان ما كانوا يعبدونه من دون الله، وهذا وصف كل مخلوق، حتى الملائكة والأنبياء والصالحين، وأشرفُ الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، وقد كان يستنصر ربه على المشركين، ويقول: (اللهم أنت عضدي ونصيري، بك أحول، وبك أصول، وبك أقاتل) وهذه الآية كقوله: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئَاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرَّاً وَلا نَفْعَاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتَاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورَاً} [الفرقان:3]]: يحتج الله جلَّ وعلا على المشركين بأن الذين يتعلقون بهم ويعبدونهم كانوا فقراء للرب جلَّ وعلا، وأنهم ليس بأيديهم شيء من ملك الله جلَّ وعلا، وليسوا شركاء له في الملك، ولا يملكون من دونه نفعاً ولا ضراً، حتى قال ذلك لنبيه الذي هو أشرف الخلق، وأمره جلَّ وعلا أن يقول: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعَاً وَلا ضَرَّاً} [الأعراف:188]، أمره أن يقول هذا للناس، وأمره أن يقول لهم أيضاً: {وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [العنكبوت:50]، نذير لكم أنذركم من عند الله جلَّ وعلا، أما ملك الأشياء، وملك النفع والضر والنصر على الأعداء، وإدالة العدو على من يريد، أو نصر من يريد أو ما أشبه ذلك، فهذا كله بيد الله جلَّ وعلا، كما سيأتي في قصة أحد حينما أصابه ما أصابه. وهذا المعنى كثير في القرآن، يبين الله جلَّ وعلا فيه بطلان عبادة غيره، وفي مقابل ذلك: وجوب العبادة له وحده، وأن تكون خالصة له، وهذا هو الذي ينجي الإنسان، فلا ينجو يوم القيامة إلَّا بالإخلاص، وهو ما أمر به جميع الأمم من أولهم إلى آخرهم من بعثة نوح عليه السلام -أول رسول أرسله الله إلى الأرض- إلى آخر نبي ختم به الأنبياء، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، فكلهم يأمر بإخلاص العبادة لله جلَّ وعلا؛ كما قال الله جلَّ وعلا على لسان نوح لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون:23]، وكذلك غيره من الأنبياء الذين بعثهم الله جلَّ وعلا إلى الأمم. يقول جلَّ وعلا: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45] و A أن هذا لا وجود له، بل هو افتراء من هؤلاء، ويقول جلَّ وعلا: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولَاً أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، والطاغوت: كل ما عُبد من دون الله، وكل ما صد عن شرع الله وعبادته، فهو طاغوت؛ لأن كل ما سوى الرب جلَّ وعلا لا يجوز أن يكون له في الملك والأمر والتشريع والعبادة شيء، فمن تعدى حد العبودية صار طاغوتاً، ينازع الله جلَّ وعلا في حقه أو في ملكه، فإن كان من المعبودات فإنه ينازعه في حقه؛ لأن حق الله جلَّ وعلا على عباده هو إخلاص العبادة له، ولا يكون فيها شيء لغيره، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لـ معاذ رضي الله عنه: (يا معاذ! أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ فقال: الله ورسوله أعلم. فقال له: حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً)، وهو حق أوجبه على نفسه جلَّ وعلا، وإلَّا فليس هناك أحد يلزمه بشيء ويأمره به، تعالى وتقدس، وإنما هو الذي يحق الحق ويبطل الباطل، وهو الذي يتصرف في الكون. ليس للعباد عليه حق واجب كلا ولا سعي لديه ضائعُ إن عُذِّبوا فبعدله أو نُعِّموا فبفضله وهو الكريم الواسعُ فله الملك كله، وله الحمد كله، وله الأمر كله، ولا يجوز أن يكون لأحد من الخلق معه شركة، ولهذا قال جلَّ وعلا: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ:22]. هذا عام أيضاً في جميع المدعوات، فكل مدعو من دون الله لا يملك مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، استقلالاً أو مشاركة، فإذا كانت هذه المدعوات لا تملك شيئاً استقلالاً أو مشاركة فماذا بيد داعيهم غير الخيبة والخسران فقط. ثم أخبر سبحانه أنه ليس له منهم لا معاون ولا مظاهر ولا مساعد تعالى الله وتقدس، {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ:22] يعني: من يساعده ويؤازره ويعاونه، بل هو وحده القهار الذي يملك كل شيء: {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك:1] يعز من يشاء ويذل من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء ويؤتيه من يشاء، فالأمر كله له. وقد يتعلق المشرك بالشفاعة، فأخبر سبحانه أنها لا تنفع، فقال: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:23]. إذاً: ماذا يبقى في يد من يدعو غيره غير الخسران والضلال والعذاب فقط، والآيات في هذا كثيرة جداً؛ لأن القرآن نزل لإبطال الشرك عموماً في الأرض إلى قيام الساعة، وفيه تبيان لكل شيء، وأعظم ما أوجبه الله جلَّ وعلا على عباده: توحيده وإخلاص الدعوة له، فبين هذا بياناً واضحاً لا عذر لمن أعرض عنه، ولا حجة لمن وقع في خلافه، بعد بيان الله جلَّ وعلا وإيضاحه، وبيان الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه أيضاً بين للناس ما نزل إليهم، كما قال الله جلَّ وعلا: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67]، ولهذا جعل العلماء هذه الآية حجة قاطعة على إبطال كل بدعة ابتدعت في الدين، وقالوا: لم بلغها الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو كانت ديناً لبلغها؛ لأن الله جل وعلا أمره أن يبلغ ما نزل إليه، فلم يترك شيئاً مما أُمر به إلَّا بلغه ووضحه وأبانه. ثم كذلك أعظم ما حرمه الله جلَّ وعلا على عباده: الشرك، فلهذا جلاّه تجلية واضحة لمن يعقل، فلا عذر لمن وقع في الشرك بعد الإيضاح التام والبيان الكامل الذي بينه ربنا جلَّ وعلا في كتابه، وكذلك بينه رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذان الأمران من أعظم الأمور التي بينها الله في كتابه، والرسول صلى الله عليه وسلم في سنته. فكيف يقول قائل: إن من ترك التوحيد ووقع في الشرك، يكون معذوراً بعد هذا الأمر؟! هذا لا يقوله إلَّا جاهل بالشرع، وجاهل فيما أوضحه الله جلَّ وعلا وأوجبه على عباده، فإن هذا أمر ظاهر جداً لا خفاء فيه.

شرح قوله تعالى: (قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا)

شرح قوله تعالى: (قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً) قال الشارح رحمه الله تعالى: [وقوله: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعَاً وَلا ضَرَّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:188] وقوله: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرَّاً وَلا رَشَدَاً * قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدَاً * إِلَّا بَلاغَاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ} [الجن:21 - 23]]: هذا أمر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم وهو أشرف الخلق أن يقول هذا القول: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعَاً وَلا ضَرَّاً} [الأعراف:188] {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ} [الجن:21]. (لا أملك لكم): لمن هذا الخطاب؟ للخلق عموماً، ومن هم: ذريته، حتى بناته، حتى عماته وزوجاته لا يملك لهم شيئاً، كما سيأتي أنه قال: (يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئتِ، لا أغني عنك من الله شيئاً) يقول هذا القول لسيدة نساء العالمين فاطمة رضي الله عنها؛ لأنه رسول مبلغ فقط، ليس له مع الله شيء من الملك والتصرف، فالجنة بيد الله، والنار بيد الله، والعبيد كلهم عبيد الله، إذا شاء أن يعذبهم عذبهم، وليس بين العباد وبين الله صلة إلَّا الطاعة، فمن كان مطيعاً لله فهو المقرب لديه، ومن كان عاصياً لله فهو المبعد المعذب، وإن كان ابن نبي، فنوح عليه السلام ما أغنى عن ابنه شيئاً، ولا أغنى عن زوجته شيئاً، ولوط كذلك لم يغن عن زوجته شيئاً، ولهذا ضرب الله جلَّ وعلا بهما المثل للكافرين، فقال: {كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئَاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم:10]، وإن كانتا زوجتي نبيين. أما قوله: ((فَخَانَتَاهُمَا)) فالخيانة: في الدين، خانتاهما في دعوتهما وفي دينهما، وليس خيانة الفراش، فما خانت زوجة نبي قط؛ لأن الله جلَّ وعلا كرم الأنبياء أن تخونهم أزواجهم في فرشهم، فخيانة زوجة لوط وزوجة نوح في دينهما ودعوتهما، فاتبعتا القوم الكافرين. وكذلك المؤمن لا يضره قريبه، وإن كان من أفجر الناس، ولهذا ضرب الله جلَّ وعلا مثلاً فقال: {اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتَاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ} [التحريم:11]، فهي وإن كانت زوجة أخبث الناس وأشر الناس فهي مقربة عند الله ومكرمة؛ لأنها أطاعت ربها وعبدته، وليس بين الخلق وبين ربهم جلَّ وعلا صلة إلَّا الطاعة فقط، واليهود أبناء أنبياء ومع ذلك لعنهم الله، وأقسم أنه سيبعث عليهم من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة، بكفرهم وعنادهم، وتعنتهم على أنبيائهم. إذاً: فالإنسان إذا أطاع واتبع أمر الله كان قريباً إلى الله جلَّ وعلا؛ لأن الأصل أنهم كلهم عباد الله، فمن أبى العبادة استحق العقاب، ومن امتثل أمر ربه جلَّ وعلا وأطاعه استحق الثواب، هذا هو الأصل في الخلق كله، وإلَّا فالرب غني بذاته عن كل ما سواه، غني عن الخلق كلهم، لو كانوا كلهم على أفجر قلب رجل واحد ما ضر الله جلَّ وعلا ذلك شيئاً ولا نقص من ملكه شيء، كما جاء في الحديث القدسي الذي في صحيح مسلم، أن الله جلَّ وعلا يقول: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني) وهذا خطاب للعباد كلهم من أولهم إلى آخرهم. ويقول: (لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم، ما نقص ذلك في ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم ورطبكم ويابسكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كل واحد ما سأله، ما نقص ذلك مما عندي إلَّا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر ثم رُفع) الإبرة إذا أدخلت البحر ثم رفعت ماذا تنقص البحر؟ لا شيء؛ لأنه إذا أراد الشيء قال له: (كن) فيكون، تعالى وتقدس. والمقصود: أنه الغني عن الخلق كلهم، إن عبدوه وأطاعوا أمره واتبعوه، واجتنبوا نهيه فلأنفسهم، لا ينفعون الله، بل ينفعون أنفسهم، وإن عصوه وارتكبوا نهيه، وخالفوا أمره، فإنهم يضرون أنفسهم ولا يضرون الله شيئاً. قال الشارح رحمه الله تعالى: [فكفى بهذه الآيات برهاناً على بطلان دعوة غير الله كائناً من كان، فإن كان نبياً أو صالحاً فقد شرفه الله تعالى بإخلاص العبادة له، والرضى به رباً ومعبوداً، فكيف يجوز أن يُجعل العابد معبوداً، مع توجيه الخطاب إليه في النهي عن هذا الشرك؟ كما قال تعالى: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهَاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88]]: يقول: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] كل شيء -ما عدا ربنا جلَّ وعلا- داخل في هذا الهلاك حتى جبريل عليه السلام يموت ويهلك؛ لأنه عبد فقير إلى الله جلَّ وعلا، لا يملك شيئاً مع الله، والباقي هو الله جلَّ وعلا. وقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]، ليس المراد أن الوجه هو المستثنى فقط؛ ولكن من المعلوم في لغة العرب أنه إذا ذكر أشرف الشيء فإن البقية تبع له. إذاً: المعنى: كل شيء هالك إلَّا الله، وفي هذا إثبات الوجه لله جلَّ وعلا، صفةً حقيقة له على ما أراده الله جلَّ وعلا وبينه، وهذا كثير جداً في القرآن وفي أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن أبلغ ما جاء في هذا: ما جاء في الدعاء: (وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم) فجاء أن أفضل نعيم أهل الجنة: أن ينظروا إلى وجه ربهم جلَّ وعلا، فينسون نعيم الجنة عند ذلك. وجاء في صحيح مسلم في تفسير (الزيادة) في قوله الله جلَّ وعلا: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] أن الحسنى هي الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله جلَّ وعلا، وأنها أفضل من الجنة. يعني: هي أعلى نعيم الجنة، ولهذا يقول جلَّ وعلا في وعد المتقين: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23] وضدهم: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة:24 - 25]. ويقول في موضع آخر في هؤلاء المجرمين: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]، فجعل الحجاب عذاباً لهم، فدل على أن رفع الحجاب لرؤية الله جلَّ وعلا من أعلى أنواع النعيم، وهذا في الكتاب والسنة كثير، والذي ينكره يكون ضالاً في هذا الباب، قد ضل وترك النصوص الواضحة الظاهرة التي تدل على إثبات الوجه لله جلَّ وعلا صفةً له.

شرح قوله: (إن الحكم إلا لله)

شرح قوله: (إن الحكم إلا لله) قال الشارح: [وقال: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:40]، فقد أمر عباده من الأنبياء والصالحين وغيرهم بإخلاص العبادة له وحده ونهى أن يعبدوا معه غيره]: قوله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف:40] يعني: الأمر والنهي. وهذا هو الذي يكون به الحكم، الأمر والنهي الذي فيه يتصرف العباد، وكذلك الحكم القدري الذي لا يخرج الناس عنه، وهذا لا ينازع فيه أحد، وإنما نازعوا في الأول، وهو الذي نُص عليه في هذا. وقوله: ((أَمَرَ)). يعني: من الحكم الذي حكمه: (أمر ألَّا يُعبد إلَّا إياه)، وهذا عام شامل فكل عبادة يجب أن تكون له، ولا يجوز أن تكون لولي ولا لنبي ولا لملَك ولا لغير ذلك، فإن فعل الإنسان ذلك فقد خالف أمر الله جلَّ وعلا، وارتكب نهيه، واستحق عذابه.

شرح حديث: (الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به)

شرح حديث: (الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به) قال الشارح: [وهذا هو دينه الذي بعث به رسله، وأنزل به كتبه، ورضيه لعباده، وهو الإسلام، كما روى البخاري عن أبي هريرة في سؤال جبريل عليه السلام، قال: (يا رسول الله! ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان) الحديث]: الإسلام هو: الاستسلام لله بالطاعة، وعدم المنازعة والمخالفة، فيكون متبعاً أمر الله، منقاداً له مذعناً، وكذلك يبرأ من الشرك، وإلَّا لا يكون مسلماً على الوجه الصحيح حتى يتبرأ من الشرك وأهل الشرك. إذاً: هذا هو الإسلام الحقيقي: الاستسلام لله بالطاعة، والانقياد له، وإخلاص العبادة له، وأن يتبرأ من الشرك وأهله، وهذا ما فرضه الله جلَّ وعلا على عباده عموماً، من أولهم إلى آخرهم، كما قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، الدين كله، من أول رسول أرسله الله إلى آخر رسول، إلى أن يرث الله جلَّ وعلا الأرض ومن عليها، لا يقبل الله جلَّ وعلا من العباد إلَّا الإسلام، وهو الاستسلام له بالطاعة وعدم المنازعة، والإذعان والانقياد لأمره، والخضوع له، والبراءة من أعدائه، فإذا أخل الإنسان بشيء من ذلك فقد أخل بإسلامه.

شرح قوله: (والذين يدعون من دونه لا يملكون من قطمير)

شرح قوله: (والذين يدعون من دونه لا يملكون من قطمير) قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:13 - 14]]: هذه الآية أيضاً مما يبطل الشرك عموماً، ويبين أن المدعو لا يملك لداعيه شيئاً: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [فاطر:13] القطمير: هو اللفافة التي تكون على نواة التمرة، إذا يبست ظهرت رقيقة، ولا نفع ولا قيمة لها، وإذا كانوا لا يملكون هذا الشيء فكيف يُدعَون؟! وهذا عام لكل مدعو: {مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [فاطر:13]. كل مدعو من دون الله لا يملك هذا المقدار، وهذا في كل مدعو سواء كان جماداً أو كان عاقلاً؛ لأنه إذا كان عاقلاً: فهو إما شقي كافر شيطان، وإما تقي يعبد الله، ويتبرأ من أن يكون له شيء من حق الله، فيصبح معادياً لهذا الذي يدعوه؛ لأنه خالف ربه ودينه، فهو يكتسب العداوة وإن زعم أنه يحبه، وإما جماداً لا حول له ولا قوة، وقد جاء الشيطان لكثير من الناس بالباطل في قالب الحق، فجعل دعوة غير الله جلَّ وعلا من الأولياء والأنبياء في قالب المحبة، وقال: هذا دليل حبهم وموالاتهم! فجعل دعوتهم والتضرع إليهم وإنزال الفقر بهم، وطلب الحاجات منهم محبةً لهم وتعظيماً. ومن تلبيس الشيطان أيضاً أن جعل الذي ينهى عن هذا الشرك، ويأمر بأن تكون العبادة كلها لله، مبغضاً للرسول ومبغضاً للأولياء، فحمل أتباعه على أن يشنعوا على من أنكر عليهم، وهذا من تزيين الشيطان وقلبه للحقائق، فاتبعوا الشيطان على ذلك، وليس لهم على هذا من دليل، مع أن هؤلاء الذين يتجهون إليهم -إن كانوا أولياء- لو خرجوا عليهم لقاتلوهم؛ لأنهم خالفوا دينهم وخالفوا أمر ربهم، فلا يمكن أن يقرونهم عليه، ولهذا أخبر الله جلَّ وعلا يوم القيامة أنهم يتبرءون منهم، وفي هذه الآية يخبر الله أن المدعو -كل مدعو من دون الله- لا يملك لداعيه قطميراً، ومعنى هذا أنه لا يملك شيئاً، كما سبق في الآية الأولى: (لا يملك شيئاً)، ثم بين تعالى وتقدس أن المدعو يجب أن تتوافر فيه أمور: أولاً: الملك. والثاني: السماع. والثالث: استطاعة الإيجاد. وهؤلاء المدعوون من دون الله ليس معهم من الأمور الثلاثة شيئاً حتى السماع لا يسمعون، والمراد بالسماع هنا: ليس مطلق السماع -سماع الصوت- إنما المراد به السماع الذي يكون به النفع، أما مجرد السماع فإنه قد يكون لا نفع فيه، وقد استدل بهذه الآية وبغيرها من الآيات بعض الناس على أن الموتى لا يسمعون شيئاً، والواقع أن الآية لا تدل على هذا، وإنما تدل على ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وللعلماء في تفسير قوله: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل:80] قولان، ولا يعرف في تفسيرها إلَّا هذان القولان: أحدهما: أنه على ظاهره، {لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل:80] سماع امتثال، أي: لا يستطيعون أن يستجيبوا لك. والثاني: أن المقصود بالسماع هنا: السماع الذي ينتفعون به. إذاً: الأول: أنك لا تُسمعهم مطلقاً؛ لأنهم مرتهنون وميتون ولا يسمعون. الثاني: أنك لا تُسمعهم السماع الذي يكون فيه الامتثال والانتفاع، ولهذا قال: {وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [النمل:80] والأصم إذا كان مقبلاً لا تستطيع أن تسمعه الدعاء، تدعوه فلا يسمع منك فكيف إذا أدبر؟! وهذا مثل ضربه الله جلَّ وعلا للكفار، فإنهم لا يستطيعون أن يسمعوا السماع الذي ينتفعون به، وإلَّا فهم يسمعون قول الرسول صلى الله عليه وسلم ويرونه؛ ولكنهم لا يسمعونه السماع الذي ينتفعون به، ولهذا أخبر عنهم أنهم صم عمي بكم، مع أنهم يسمعون قوله ويردون عليه، ويقولون: هذه أساطير الأولين هذا سحر وكهانة وتَقَوَّله. يعني: كذب أتى به، والمقصود أن السماع المنفي هو سماع الانتفاع. أما الأحاديث الصحيحة الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فمنها: حديث أنس الذي في الصحيحين عن أبي طلحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان يوم بدر أمر بأربعة وعشرين من صناديد قريش، فسُحبوا وألقوا في بئر من آبار بدر، ثم أمر براحلته فركبها، فاتبعه أصحابه، وقالوا: يذهب لحاجة، فوقف عليهم وقام يناديهم: (يا فلان بن فلان! يا فلان بن فلان! يا فلان بن فلان! هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً، فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما تنادي من قوم قد جيَّفوا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، غير أنهم لا يستطيعون الإجابة)، وكذلك في الصحيح عن عبد الله بن عمر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أنه ذكر مثل هذا. وفي الصحيحين عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دفن العبد في قبره، وولى عنه أصحابه، وهو يسمع قرع نعالهم، أتاه ملكان فيجلسانه فيسألانه: من ربك؟ وما دينك؟ وما هذا الرسول الذي بعث فيكم؟) فأخبر أنه يسمع قرع نعالهم. أما ما جاء أن عائشة رضي الله عنها لما سمعت حديث ابن عمر قالت: إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنهم يعلمون ما أقول) هكذا قالت، فهذا رأي قالته، ولا يجوز أن يُترك نص الرسول صلى الله عليه وسلم لرأيها وقولها؛ لأنه واضح وجلي، وقد روي أنها رجعت عن ذلك لما ثبت عندها، كما رواه الإمام أحمد رحمة الله عليه. والذي يدعي الخصوصية ليس عنده دليل على ذلك؛ لأن هذا شيء قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يقل بعده: إن هذا خاص بهؤلاء القوم، أو إنه في تلك الساعة فقط، بل جاءت أحاديث مطلقة في أن الميت يسمع قول من يزوره ومن يتكلم عنده؛ لكنه لا يستطيع رد الجواب، وقد يكون في سماعه ما يحزنه، ولا يستطيع أن يملك شيئاً لمن يدعوه؛ لأنه مرتهن بعمله، وإنما يسمع؛ لأنه حي، ولكن حياة غير الحياة المعهودة لنا حياة برزخية؛ لأن روح الميت لا تموت ولها اتصال ببدنه، ولا تفارق البدن مفارقةً كاملة، ولهذا جاءت النصوص الكثيرة في أن القبر فيه نعيم وفيه عذاب، وليس النعيم والعذاب على البدن فقط، ولا على الروح فقط، بل عليهما جميعاً، والأحاديث في هذا كثيرة جداً، ولا يجوز أن ترد النصوص بحجة أن فيها متعلق للمخرفين الذين يتجهون إلى عبادة القبور. فمثل هؤلاء يُبيَّن لهم الحق ويوضَّح، ويقال لهم: إن هؤلاء لو كانوا أحياءً -وهم في حال الحياة أكمل من حال موتهم- ما أغنوا عنكم شيئاً، فكيف بعد موتهم؟! بل لا يستطيعون ان يقدموا لأنفسهم حسنة واحدة أو يحطوا عن سيئاتهم، فكيف بغيرهم؟! والمقصود: أنه لو تعلق أهل الباطل بشيء مما هو حق، فليبين لهم الفهم الصحيح والحق، وأنه لا تعلق لهم بما استدلوا به. ومثال ذلك ما يقول النصارى: من أن القرآن فيه ما يدل على التثليث في نحو: (نحن)، و (أنا) مما بدل على خطاب الجماعة، فهل نقول: علينا أن نترك هذه النصوص؛ لأن فيها متعلق للنصارى!! وكذلك غيرهم من أهل الباطل، يتعلقون بشبهات قد تنطلي على بعض الجهلة؛ ولكنها -في الحق- إذا أُرجعت إلى المحكم زال الاشتباه نهائياً، والاشتباه الواقع لهم ليس عند أهل الحق. وقوله: {وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} [فاطر:14] يعني: لو قدر -وهذا على سبيل التقدير- أنهم يسمعون قولكم سماع قبول فلا يستطيعون الاستجابة، يعني: لا يستطيعون أن يجيبوكم إلى ما تطلبونه منهم، ولو سمعوا سماع الاستجابة لكم، ما استطاعوا أن يملكوا لكم نصراً ولا نفعاً، ومثله ما سبق من أنهم لا يملكون شيئاً لعابديهم. والآيات كلها يبين بعضها بعضاً، وكلها تدل على معنى واحد. وقوله: {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:14]، يقول قتادة: يعني نفسه جلَّ وعلا، وأنه خبير بالأمور كلها، ولا ينبئك منبئ مثل تنبيء الله جلَّ وعلا وإخباره، فهو الحق الذي لا يأتيه الباطل، فيجب أن يُقطَع ويؤمَن به.

عجز وضعف المدعوين من دون الله

عجز وضعف المدعوين من دون الله قال المصنف رحمه الله تعالى: [يخبر تعالى عن حال المدعوين من دونه -من الملائكة والأنبياء والأصنام وغيرها- بما يدل على عجزهم وضعفهم، وأنهم قد انتفت عنهم الأسباب التي تكون في المدعو، وهي: المُلك. وسماع الدعاء. والقدرة على استجابته. فمتى لم توجد هذه الشروط تامة بطلت دعوته، فكيف إذا عُدمت بالكلية؟! فنفى عنهم الملك بقوله: {مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [فاطر:13] قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وعطاء والحسن وقتادة: القطمير: اللفافة التي تكون على نواة التمر. كما قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقَاً مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئَاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ} [النحل:73]، وقال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:22 - 23]، ونفى عنهم سماع الدعاء بقوله: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ} [فاطر:14]؛ لأنهم ما بين ميت وغائب عنهم مشتغل بما خلق له، مسخَّر بما أُمر به كالملائكة، ثم قال: {وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} [فاطر:14]؛ لأن ذلك ليس لهم، فإن الله تعالى لم يأذن لأحد من عباده في دعاء أحد منهم لا استقلالاً ولا واسطة، كما تقدم بعض أدلة ذلك. وقوله: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} [فاطر:14]، فتبين بهذا: أن دعوة غير الله شرك، وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزَّاً * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدَّاً} [مريم:81 - 82]. وقال تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} [فاطر:14]. قال ابن كثير: يتبرءون منكم، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:5 - 6]. قال: وقوله: {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:14] أي: ولا يخبرك بعواقب الأمور ومآلها، وما تصير إليه مثل خبير بها. قال قتادة: يعني نفسه تبارك وتعالى، فإنه أخبر بالواقع لا محالة. قلت: والمشركون لم يسلِّموا للعليم الخبير ما أخبر به عن معبوداتهم؛ فقالوا: تملك وتسمع وتستجيب وتشفع لمن دعاها، ولم يلتفتوا إلى ما أخبر به الخبير من أن كل معبود يعادي عابده يوم القيامة، ويتبرأ منه، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعَاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ * فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدَاً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ * هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [يونس:28 - 30]]. معنى قوله: ((فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ)) يعني: فرقنا بينهم في المحبة؛ فأصبح كل واحد عدواً للآخر، كل واحد يلعن الآخر ويعاديه، وإن كانوا في الدنيا يزعمون أنهم أولياؤهم وأنهم يحبونهم، فيتبين لهم يوم القيامة عكس ما كانوا يعتقدونه في الدنيا، وهذا معنى التزييل: (زيلنا بينهم)، وهو مثل الآية التي في سورة البقرة: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ} [البقرة:166]، والآية التي في قصة إبراهيم: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضَاً} [العنكبوت:25] فالله جلَّ وعلا يذكر هذه المعاني في ألفاظ مختلفة ومتنوعة؛ حتى يفقه الناس ويعلموا ويبتعدوا عن هذه الأمور؛ لأن القرآن هو التبيان لكل شيء، وهو الموضح إيضاحاً جلياً لا إشكال فيه.

حكم لعن المعين

حكم لعن المعين قال الشارح: [أخرج ابن جرير عن ابن جريج قال: قال مجاهد: {إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} [يونس:29] قال: يقول ذلك كل شيء كان يعبد من دون الله. فالكيِّس يستقبل هذه الآيات -التي هي الحجة والنور والبرهان- بالإيمان والقبول والعمل، فيجرد أعماله لله وحده دون كل ما سواه ممن لا يملك لنفسه نفعاً ولا دفعاً، فضلاً عن غيره]. قال المصنف رحمه الله: [وفي الصحيح: عن أنس قال: شُج النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد وكُسرت رباعيته، فقال: (كيف يفلح قوم شجوا نبيهم، فنزلت: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128])]: قوله: في الصحيح، يعني: في صحيح البخاري، وقد ذكره البخاري في ثلاثة مواضع من صحيحه، والحديث عن أنس -وقد رواه الإمام مسلم وغيره من أئمة الحديث- فهو حديث ثابت: يقول: (شُج النبي صلى الله عليه وسلم) والشج في الأصل هو: الجرح في الرأس، فيخرج الدم ويسيل، ثم صار يطلق على سائر ما يقع في البدن؛ ولكن الذي جاءت به اللغة: أن الشج يطلق على ما يقع في الرأس من جرح نازف. شُج صلوات الله وسلامه عليه في وجهه، وكسرت رباعيته، كسر منها جزء وبقي أصلها، وكذلك شفته العليا -صلوات الله وسلامه عليه- شُجت فصار الدم يسيل، وكذلك أصيب في وجنته -في خده- ضربه عبد الله بن قمئة حتى دخلت حلقات المغفر في وجنته صلوات الله وسلامه عليه، فصار يسيل الدم على وجهه ويقول: (كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم) فجاء مالك بن سنان فأمسك حلقات المغفر بأسنانه واجتذبها، ثم ابتلع الدم الذي دخل في فمه، فقال له صلى الله عليه وسلم: (ابتلعت؟ قال: نعم. قال: لا تمسك النار) وهذا من رفقه برسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صار يقول عليه الصلاة والسلام: كيف يفلح القوم الذين يدعوهم نبيهم إلى الله جلَّ وعلا وهم يفعلون به هذه الأفعال؟! حاولوا أن يقتلوه، واجتهدوا قدر استطاعتهم على فعل ذلك، فهذا تجرأ وكسر ثنيته، والآخر ضربه على وجهه حتى دخلت حلقات المغفر في وجنته، فصار يسيل منها الدم، وقال له ابن قمئة: (خذها وأنا ابن قمئة، فقال صلى الله عليه وسلم: ما لك أقمأك الله؟) فسلط الله جلَّ وعلا عليه تيس الجبل، فصار ينطحه حتى قطعه إرباً إرباً، وهذا هو الوحيد الذي دعا عليه النبي مباشرة في هذه الغزوة، أما البقية فإنه كان يدعو عليهم في الصلاة. وكان يقول: (اللهم العن فلاناً وفلاناً وفلاناً)، وجاء في الصحيح أنه كان يسميهم بأسمائهم، ويقول: (اللهم العن صفوان بن أمية، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، والصحابة خلفه يقولون: آمين) يقولون ذلك في الصلاة، وبقي وقتاً وهو يقنت يدعو عليهم، فأنزل الله جلَّ وعلا عليه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128] والمعنى: أنك عبد من عباد الله، أمرك بإبلاغ الرسالة فامضِ في دعوتك، أما هؤلاء فهم عبادي إن شئتُ عذبتهم وإن شئتُ عفوت عنهم، فعفا الله جلَّ وعلا عنهم وأسلموا، أسلم الحارث بن هشام وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو وأبو سفيان، وهؤلاء هم قادة الكفار في تلك الغزوة، وغزوا نبيهم في بلده، وجاءوا بجيشهم ليقاتلوه في بلده، واجتهدوا في أن يقتلوه، وقتلوا المسلمين كعم رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره.

مسائل باب قول الله تعالى: (أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون)

مسائل باب قول الله تعالى: (أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون) قال المصنف رحمه الله تعالى في مسائل باب: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئَاً} [الأعراف:191]:

حكم تسمية المدعو عليهم في الصلاة بأسمائهم وأسماء آبائهم

حكم تسمية المدعو عليهم في الصلاة بأسمائهم وأسماء آبائهم [التاسعة: تسمية المدعو عليهم في الصلاة بأسمائهم وأسماء آبائهم. العاشرة: لعن المعين في القنوت. الحادية عشرة: قصته صلى الله عليه وسلم لما أنزل عليه: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214]]: يقول: من المسائل التي تؤخذ من الباب: أن تسمية الإنسان باسمه واسم أبيه في الصلاة للدعاء له أو عليه جائز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (اللهم العن فلاناً وفلاناً وفلاناً) وكذلك جاء في قنوته -في غير هذه القصة- أنه دعاء للمستضعفين الذين أُمسكوا بمكة، في الصلاة وكان يسميهم يقول: (اللهم انجِ فلاناً بن فلان، اللهم انجِ فلاناً بن فلان)، وفيه أيضاً جواز لعن المعين، أي: شخصاً بعينه، ومثل اللعن: التكفير، فمن ارتكب مكفراً، وارتد عن دينه فيصح أن يقال: إن فلاناً كفر، أما التكفير العمومي فهذا يجوز حتى على أصحاب المعاصي، الذين يفعلون أفعالاً ليست كفراً، كما جاء في الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاث في أمتي من أمر الجاهلية: الطعن في الأنساب، والنياحة على الميت، والاستسقاء بالأنواء) وإذا جاءت مثل هذه الأحاديث فإن لفظة الكفر تكون منكرة، ويكون المقصود به: كفراً دون كفر. بخلاف ما إذا جاءت محالاة بـ (ال) فإنه يكون حينئذ المقصود: كفراً مخرجاً من الملة، ومثله قول الله جلَّ وعلا: {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18]، أي: عموم الظالمين، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله السارق يسرق البيضة فتُقطع يده، ويسرق عود الحبل فتُقطع يده)، والسارق هنا مطلق، وليس إنساناً معيناً، أما إذا جاء إنسان معين ووقع في السرقة فلا يجوز أن يُلعن؛ لأنه وقع في السرقة، وإنما يُلعن عموم أهل السرقة، وفرق بين العموم والخصوص، وهذا الحديث دليل على جواز لعن من استحق اللعنة بعينه؛ لأنه لعن أشخاصاً معينين.

قصته عليه الصلاة والسلام لما نزلت عليه قوله تعالى: (وأنذر عشيرتك)

قصته عليه الصلاة والسلام لما نزلت عليه قوله تعالى: (وأنذر عشيرتك) قال المصنف رحمه الله تعالى: [الحادية عشرة: قصة صلى الله عليه وسلم لما أنزل عليه: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214]. أما قصته صلى الله عليه وسلم لما نزلت عليه الآية: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] فقد مضى شرحها، وهي: أنه صلوات الله وسلامه عليه خاف أن يكون قصر في أمر ربه؛ لأنه أمره أن ينذر، فقام يصيح في الناس: واصباحاه! حتى اجتمعوا عنده، فسألهم وقال: (أرأيتم لو أخبرتكم بخبر هل كنتم مصدقي؟ قالوا: نعم. لم نجرب عليك كذبة واحدة، فقال: إني لكم نذير بين يدي عذاب شديد، أنقذوا أنفسكم من النار وصار يخصهم بعد التعميم، يعني: يعم قريشاً كلها ثم يخصص: يا بني فلان! يا بني فلان! إلى أن وصل إلى قوله: يا فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم أنفذي نفسك من النار، لا أغني عنك من الله شيئاً)، وسبق أن هذا دليل واضح على أن العبادة والملك كله بيد الله، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس له مع الله شيء من الإلهية أو الربوبية، بل الربوبية والإلهية كلها بيد الله جلَّ وعلا وهو من يستحقها، وتعبَّد عباده بها، فمن جعل منها شيئاً للرسول صلى الله عليه وسلم فقد ضل ووقع في الشرك. [الثانية عشرة: جِده صلى الله عليه وسلم بحيث فعل ما نُسب بسببه إلى الجنون وكذلك لو يفعله مسلم الآن]: أراد أن يقول: إن فِعْله هذا الذي فعله: (من صعوده على الصفا، وصار يهتف: واصباحاه) -لأن هذه كانت عادة عند العرب، يفعلها مَن عاين الجيش أو العدو، وأراد أن يخبر قومه بذلك، قام وفعل مثل هذا الفعل- ولما سألوه: ما عندك؟ أخبرهم أنه ينذرهم عذاب الله الذي يستقبلهم، فنسبوه إلى الجنون، كما قال عمه أبو لهب: (ألهذا جمعتنا؟! تباً لك سائر هذا اليوم) وأكثرهم قالوا: هذا مجنون؛ لأن العذاب الذي وعدهم به من قبل الله -سواءً عاجلاً أو آجلاً- استبعدوه، وصاروا يقولون: ما نرى العذاب، وعذاب الله يأتي في لحظة؛ لأنه يقول للشيء: كن فيكون؛ ولكن الإنسان ظلوم جهول، فلهذا نسبوه إلى الجنون، وقول المصنف: لو أن أحداً قاله اليوم لنُسب كذلك إلى الجنون، يعني: لو أن إنساناً قام في الناس، وقال: يا أيها الناس! إنكم وقعتم في المعاصي فاتقوا الله، وإن العذاب يكاد أن يصل إليكم، وصار ينذرهم بهذا الشيء، لقالوا: هذا مجنون! مثلما هو واقع للرسل، والرسل كلهم يقال لهم ذلك، كما قال الله جلَّ وعلا: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} [فصلت:43]، وكل أمة قد قالت لرسولها: إنك مجنون، والمجنون معناه: الذي لابسه الجن، وأصبح يهذي بما لا يدري، لكونه قد غُلب على عقله؛ لأن الجن يسيطرون على عقله، وقد يتكلم الجني على لسانه، فيهذي بكلام لا يُعقل ولا يُعرف، وهذا شيء لا ينكره إلا الجهلة. [الثالثة عشرة: قوله للأبعد والأقرب: (لا أغني عنك من الله شيئاً) حتى قال: (يا فاطمة بنت محمد! لا أغني عنك من الله شيئاً) فإذا صرح -وهو سيد المرسلين- بأنه لا يغني شيئاً عن سيدة نساء العالمين، وآمن الإنسان أنه صلى الله عليه وسلم لا يقول إلَّا الحق، ثم نظر فيما وقع في قلوب خواص الناس اليوم تبين له التوحيد وغربة الدين]. قصد بقوله: (خواص الناس) أن هناك علماء -ويقال لهم: علماء؛ لأنهم يكتبون ويؤلفون ويشرحون: في التفسير والحديث وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم كتباً تُنشر للناس ويقرءونها- دعاة إلى الشرك، يقولون: إنه لا فرق بين كونك تستغيث بالله أو تستغيث بالنبي صلى الله عليه وسلم، وكلاهما سواء، فيجوز لك أن تستغيث بالرسول، كما يجوز لك أن تستشفع به وتتوجه إليه، أو تتوجه به إلى الله وتدعو الله به، أو تدعوه وتطلب منه الشفاعة؛ لأن الله أعطاه الشفاعة، وهذا كله شرك؛ لأنه ليس هناك فرق بين من يفعل هذا ويقوله وبين المشركين القدامى؛ وقد سبق لنا أن عرفنا أن شرك المشركين القدامى كان بطلبهم من أصنامهم ومن معبوداتهم -سواءً كانت من الملائكة كما سيأتي أو من الأموات أو من الأنبياء أو من الصالحين- أن يتوسطوا لهم ويشفعوا لهم عند الله فقط، هذا هو شركهم، ولا يوجد إنسان عاقل زعم أن مخلوقاً من المخلوقات شارك الله جلَّ وعلا في الخلق والإيجاد والتدبير، كخلق الجنة أو النار، أو خلق الناس أو الملائكة أو السحاب، أو إنزال المطر وإنبات النبات، ليس هناك أحد اعتقد هذا أبداً، وإنما شركهم الذي وقعوا فيه هو أنهم جعلوا بينهم وبين الله وسائط يدعونها، وكانوا يقولون: إنها تقربنا إلى الله، وتدنينا إلى الله، وتشفع لنا إذا سألناها، وإذا دعوناها وطلبنا منها فهي بدورها تدعو الله؛ لأنها مقربة عند الله، هذا هو شركهم. فهؤلاء الذين يقولون هذا القول -في الواقع- ليس هناك فرق بين قولهم وبين قول المشركين القدامى، وهذا مقصوده بـ (خواص الناس) يقول: إذا نظر الإنسان إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم لبنته فاطمة رضوان الله عليها التي هي سيدة نساء أهل الجنة، وآمن بأنه لا يقول إلَّا الحق صلوات الله وسلامه عليه، ثم نظر إلى ما يقوله هؤلاء ستتبين له غربة الدين، ويتبين له التوحيد، وهذا هو المطلوب في هذا الباب، وسيأتي في الباب الذي بعده زيادة بيان لذلك.

شرح فتح المجيد [51]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [51] من عقيدة أهل السنة والجماعة أنهم يثبتون لله سبحانه ما أثبته لنفسه في كتابه، وما أثبته له نبيه صلى الله عليه وسلم في سنته؛ ومن ذلك أن الله سبحانه وتعالى مستوٍ على عرشه، بائن من خلقه، وعلمه لا يخلو منه مكان، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.

بيان شروط الشفاعة وبطلان شفاعة آلهة المشركين

بيان شروط الشفاعة وبطلان شفاعة آلهة المشركين قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب قول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23]]. هذه الآية متعلقة بالآية التي قبلها، وهي قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:22 - 23]

الشفاعة ملك لله

الشفاعة ملك لله في الآية الأولى ذكر الله أربعة شروط، يقول العلماء: كلها تبطل الشرك، أو كل واحد منها يبطل الشرك، فإذا اجتمعت هذه الشروط أزالت الشرك من أصله من قلب العبد ومعنى ذلك أنه لا يبقى في قلب الذي يؤمن بها مثقال ذرة من شرك لأنها تزيله نهائياً، ولهذا قال بعض العلماء: هذه الآية تقلع شجرة الشرك من عروقها، ولا تبقي منها شيئاً، وما أكثر الآيات التي تشبه هذه الآية في القرآن! والشروط الأربعة واضحة من الآية، وهي قوله جلَّ وعلا: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سبأ:22] و (زعم) في لغة العرب تطلق على الاعتقاد الكاذب، والقول الكاذب، كما قال الله جلَّ وعلا: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} [التغابن:7] (زعم) أي: المشركون فقالوا: لن نبعث، وهذا القول كذب، ولهذا أطلق عليهم لفظ (زَعَمَ) {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي} [التغابن:7]، فهنا يقول جلَّ وعلا: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} [سبأ:22] وزعمهم في المدعوين أنهم شفعاء لهم، هذه هي دعواهم، وهذا كذب، فهم ليسوا شفعاء؛ لأن الشفاعة ملك لله، ولا تقع إلَّا بإذنه كما قال جلَّ وعلا: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، ثم تحداهم بقوله: {فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الأعراف:194]، وقال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} [سبأ:22] إذا كانوا لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض فكيف يُدعَون؟! لأن المدعو يجب أن يكون مالكاً لما يُدعى من أجله وإلَّا صارت دعوته ضلالاً لا فائدة فيها، هذا الأول.

لا يشارك الله في الشفاعة أحد

لا يشارك الله في الشفاعة أحد الأمر الثاني: قوله جلَّ وعلا: {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} [سبأ:22] يعني: ما لهم في السماوات والأرض اشتراك في مثقال ذرة، أي: أنهم لا يملكون مثقال ذرة استقلالاً، ولا يشاركون المالك في مثقال ذرة.

لا يملك الشفعاء المدعوون المساعدة والمظاهرة من دون الله

لا يملك الشفعاء المدعوون المساعدة والمظاهرة من دون الله الأمر الثالث: وهو المساعدة والمظاهرة والمعاونة: وهو أن يكون أحد مساعداً له سبحانه، أو معاوناً له أو يكون وزيراً له تعالى الله وتقدس، فقال سبحانه وتعالى: {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ:22] يعني: ليس له معاون حتى يمكن له أن يدعي أن له شيئاً من الحق، هذا الأمر الثالث.

لا تقع الشفاعة للمشفوع له إلا بإذن الله

لا تقع الشفاعة للمشفوع له إلا بإذن الله الرابع: الشفاعة، قال سبحانه: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:23] فأخبر الله جل وعلا أنه لا يأذن إلَّا لأهل التوحيد، فلا يأذن في الشفاعة إلَّا لمن عبده وحده. والخلاصة: أن الأمر كله لله، والخير كله بيد الله، والشر لا يدفعه إلَّا الله، فالعبد هو عبد لله مهما كان، سواءً كان نبياً أو كان ملكاً من الملائكة، أو كان ولياً حياً أو ميتاً, فدعوته بهذه المثابة. ومراد المؤلف بهذه الترجمة أن يبين أن أعظم المعبودات التي عُبدت من دون الله هي الملائكة، ومعلوم أن العبادة التي وقعت لغير الله وقعت للأصنام، ووقعت للجن، ووقعت للأنبياء والصالحين كعيسى وعزير وغيرهم، ووقعت للملائكة ووقعت لأصنام من جمادات ما بين شجر وحجر وشمس وقمر ونجوم وغير ذلك، فكل عبادات المشركين لا تخرج عن هذا، وأعظمها الملائكة، فإذا كان الملائكة أعظم المعبودات فلنستمع إلى صفاتهم التي وصفهم الله جلَّ وعلا بها فقال في هذه الآية: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23] و (فُزِّع) يعني: أصابه الفزع، وشرح ذلك وبيانه سيأتي إن شاء الله في الحديث وفيه: إن الله جلَّ وعلا إذا تكلم بالوحي الذي يريد أن يوحيه -بأمره ونهيه وتدبيره في ملكه- إلى جبريل عليه السلام، فتشعر الملائكة كلها التي في السماء بصوت الوحي من الله، فتصيبهم رعده عظيمة، ثم يُصعقون خوفاً من الله، فتُصعق الملائكة -يُغشى عليهم- خوفاً من الله جلَّ وعلا، فإذا ذهب الصعق وفُزِّع عن قلوبهم -يعني: زال الفزع عن قلوبهم الذي هو الخوف من الله- صار يسأل بعضهم بعضاً: ماذا قال الله؟ - {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} [سبأ:23]؟ فينتهي السؤال إلى جبريل؛ لأنه هو أمين الله على وحيه، وهو أقرب الملائكة إلى الله، وهو الذي يوحي الله جلَّ وعلا بالأمر إليه سواءً كان الأمر في السماء أو في الأرض، فيقولون له: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول: قال {الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23] وكلهم يقولون هذا، قال: {الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23]، وفي رواية أخرى: (أن السماوات تأخذها رِعدة أو رَعدة أو رجفة شديدة خوفاً من الله جلَّ وعلا) وهذا يعني: أن السماء يصيبها هذا الشيء، ترتعد وترتجف خوفاً من الله، والسماوات التي هي جماد يجعل الله جلَّ وعلا فيها الإحساس والخوف منه وقد أخبر جلَّ وعلا أنها تسبح بحمده، فقال سبحانه: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء:44] فعند ذلك تتبين عظمة الله، وأن الذين يدعون أحداً غير الله ظالمون وهالكون، وأن الدعوة يجب أن تكون لله جلَّ وعلا، فإذا كان هذا بالنسبة للملائكة فكيف بالنسبة للبشر الضعفاء؟! كيف بالنسبة للجمادات وغيرها؟! فهذا دليل واضح على أن كل دعوة لغير الله باطلة.

إثبات صفة الكلام لله جل وعلا

إثبات صفة الكلام لله جل وعلا قال الشارح: [قوله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} [سبأ:23] أي: زال الفزع عنها، قاله ابن عباس وابن عمر وأبو عبد الرحمن السلمي والشعبي والحاكم وغيرهم. وقال ابن جرير: قال بعضهم: الذي فُزِّع عن قلوبهم: الملائكة، قالوا: وإنما فُزِّع عن قلوبهم من غشية تصيبهم عند سماعهم كلام الله بالوحي. وقال ابن عطية: في الكلام حذف يدل على الظاهر، كأنه قال: ولا هم شفعاء كما تزعمون أنتم بل هم عبدة مسلمون لله أبداً يعني: منقادون، {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} [سبأ:23] والمراد: الملائكة، على ما اختاره ابن جرير وغيره. قال ابن كثير: وهو الحق الذي لا مرية فيه، لصحة الأحاديث فيه والآثار. وقال أبو حيان: تظاهرت الأحايث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} [سبأ:23] إنما هي في الملائكة، إذا سمعت الوحي إلى جبريل يأمره الله به سمعت كجر سلسلة الحديد على الصفوان، فتفزع عند ذلك تعظيماً وهيبة، قال: وبهذا المعنى من ذكر الملائكة في صدر الآية تتسق هذه الآية على الأولى، ومن لم يشعر أن الملائكة مشار إليهم من أول قوله: {الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} [سبأ:22] لم تتصل له هذه الآية بما قبلها. وقوله: {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} [سبأ:23] ولم يقولوا: ماذا خلق ربنا؟ ولو كان كلام الله مخلوقاً لقالوا: ماذا خلق؟ انتهى من شرح سنن ابن ماجة]. وهذا من الأمور التي انطلت على من تغيرت فطرته، وهذه من الفتن التي وقع فيها بعض المسلمين قديماً، حيث أنكروا أن يكون الرب جلَّ وعلا متكلماً، كما أنكروا أن يكون متصفاً بالصفات، ومعلوم أن هذا نقص في حق الله، وإنما أتوا من ناحية الشبهات التي تعلقوا بها فقالوا: إن الله لا يتكلم، وهذا نص صريح بأن الله يقول: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} [سبأ:23]، فهو يقول ويكلم عباده ويخاطب ملائكته، ويأمر وينهى، ومعلوم أن الذي يتكلم أكمل ممن لا يتكلم؛ ولهذا عاب الله جلَّ وعلا على المشركين كونهم يدعون ومن لا يرد عليهم جواباً، من لا يسمع ولا يبصر؛ لأن هذا نقص، والمدعو يجب أن يكون سامعاً لدعوة داعيه، ويجب أن يكون قادراً على حمايته، وعلى إنزال الخير له، وإزالة ما نزل به من الشر، وإلَّا كانت دعوته غير صالحة وغير صحيحة، والأدلة على هذا كثيرة جداً، والحمد لله فإن هذه الفتنة قد زالت وانتهت، ولا يقول بها إلَّا أهل البدع الذين بقيت عندهم البقايا من مذهب الجهمية، والمعتزلة الذين ألحقوا الله جلَّ وعلا بالجمادات، وعطلوه عن صفاته، وجعلوه ناقصاً تعالى الله وتقدس، فمعلوم أن الله جلَّ وعلا هو القادر على كل شيء، وأن الرسالة بأمره ونهيه، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم لما كان الصحابة يرفعون أصواتهم بدعاء ربهم: (أربعوا على أنفسكم! فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إن الذي تدعونه سميع قريب، أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته) وهذه عقيدة المسلمين التي يعتقدونها، وكل مسلم يدعو ربه سراً ويعلم علماً يقينياً أن ربه يسمعه، وكل مسلم يعلم أن الله يكلم عباده يوم القيامة فيخاطب أحدهم ويقول: يا عبدي! ألم أنعم عليك؟ ألم أصح بدنك؟ ألم أعطك المال؟ ألم أزوجك؟ فماذا فعلت؟ كما في الحديث الصحيح: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان) أي: يكلمه بلا واسطة، وهذا التكليم في آن واحد، كل الخلق يكلمهم الله جلَّ وعلا في آن واحد، وكل واحد يرى أنه يكلم وحده فقط، وذلك أن أفعال الله لا تقاس بأفعال المخلوقين تعالى الله وتقدس، فهو أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، وهو القادر على كل شيء. والمقصود: أن وصف الله جلَّ وعلا بالكلام أمر مستقر في قلوب عباد الله وفي فطرهم، وأدلة ذلك كثيرة جداً في كتاب الله، وفي أخبار الرسل، من أولهم إلى آخرهم، فمنكره مكابر ومصادِم لما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم بل عن رسل الله كلهم، وقد قال الله جلَّ وعلا في قصة موسى بعد أن ذكر الرسل قال: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمَاً} [النساء:164] يعني: كلمه في الدنيا، وفضله على الخلق بالمخاطبة، وقد سمع موسى كلام الله بلا واسطة، وكان موسى في الأرض والله فوق عرشه جلَّ وعلا، وإذا كان يوم القيامة فإن الله جلَّ وعلا يأتي لفصل القضاء بين عباده إلى الأرض، وهو على عرشه، ويكلمهم ويخاطبهم، والذي ينكر الكلام معناه أنه ينكر الرسالة، وينكر قدرة الله، ويلحق الله جلَّ وعلا بالناقصات تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً!

إثبات صفة العلو لله سبحانه

إثبات صفة العلو لله سبحانه قال الشارح: [ومثله الحديث: (ماذا قال ربنا يا جبريل؟) وأمثال هذا في الكتاب والسنة كثير. قوله: {قَالُوا الْحَقَّ} [سبأ:23] أي قالوا: قال الله الحق، وذلك لأنهم إذا سمعوا كلام الله صُعقوا، ثم إذا أفاقوا أخذوا يسألون فيقولون: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} [سبأ:23] فيقولون: قال الحق: قوله: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23] علو القدر، وعلو القهر، وعلو الذات، فله العلو الكامل من جميع الوجوه كما قال عبد الله بن المبارك لما قيل له: بماذا نعرف ربنا؟ قال: بأنه على عرشه بائن من خلقه، تمسكاً منه بالقرآن، لقول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} [الفرقان:59] في سبعة مواضع من القرآن. قوله: ((الْكَبِيرُ)) أي: الذي لا أكبر منه ولا أعظم منه تبارك وتعالى]: قوله عن الملائكة أنهم لما سألوا جبريل ماذا قال ربهم؟ فأجابهم قال: الحق، ثم يقولون كلهم: قال الحق، هذا دليل على خضوعهم وذلهم أمام الله جلَّ وعلا، وأنهم عند قول جبريل: قال الحق، ينتهون عن الاستفسار والسؤال، ومعلوم أن الله جلَّ وعلا لا يقول إلَّا الحق، وكل قوله حق تعالى وتقدس، فهم عندما صعقوا وخروا سجداً توقعوا أنه تكلم بالأمر بقيام الساعة، هذا سبب الخوف؛ لأن الوحي انقطع بعد عيسى عليه السلام، وقد علموا أن الوقت اقترب، والساعة خفيت عليهم؛ لأنها ثقلت في السماوات والأرض، ولا تأتي الخلق إلَّا بغتة، ولا يعلم مجيئها إلَّا الله، فلما تكلم الله جلَّ وعلا بالوحي الذي أوحاه إلى جبريل وأمره أن يذهب به إلى محمد صلى الله عليه وسلم، خشي الملائكة لما سمعوا ذلك وأحسوا به أن يكون الأمر وحي إلى إسرافيل بالنفخ في الصور، فصُعقوا خوفاً من قيام الساعة؛ لأن الله جلَّ وعلا يجزي كل مسيئ بإساءته، ويستقر أهل النار في النار، وأهل الجنة في الجنة، والملائكة يخافون الله جلَّ وعلا، مع أنهم لا يفعلون إلَّا ما يؤمرون، ولكن الله جلَّ وعلا في ذلك اليوم يغضب غضباً شديداً حتى أن أولي العزم من الرسل يقولون: (إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله)، وغضبه ذلك على الكفار والعصاة والفجار الذين بارزوه بالمعاصي، وحاربوه في الدنيا، فهو يمهل لهم العقوبة إلى ذلك اليوم، وفي ذلك اليوم يظهر الجزاء، والملائكة خافوا أن يكون قد حضر وقت الجزاء، فهم يخشون ربهم أشد الخشية، وإن كانوا لا يعصون الله جلَّ وعلا؛ ولكن مع ذلك يخشون عذابه، فإذا قال لهم: قال الحق، انتهوا إلى هنا، فصاروا يرددون هذا القول، ويقولون: قال الحق قال الحق، فهذا دليل على تعظيمهم لله جلَّ وعلا، وعلى أنهم لا يتجاوزون ما قيل لهم، ولا يستفسرون أكثر مما قيل لهم.

أنواع العلو الثابتة لله عز وجل

أنواع العلو الثابتة لله عز وجل قوله جلَّ وعلا: (وَهُوَ الْعَلِيُّ) (العلي) من العلو، والعلو ثابت لله جلَّ وعلا من جميع الوجوه، والوجوه التي يوصف علو الله بها ثلاثة وجوه:

علو القدر

علو القدر الوجه الأول: علو القدر، وهو يكون في قلوب عباده العارفين له، أما الفساق والفجار والكفرة فليس هو عليٌّ في قلوبهم، ولهذا يبارزونه بالمعاصي، فلو كان عالياً في قلوبهم لما بارزوه بالمعاصي؛ ولكن علو القدر هذا يكون في قلوب عباده المؤمنين من الملائكة والبشر والجن، أما أكثرهم فهم لا يرجون لله وقاراً، كما قال الله جلَّ وعلا: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارَاً * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارَاً} [نوح:13 - 14]، وقال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعَاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67] فالعصاة والكفار والفجرة ما قدروا الله حق قدره، ولا صار لله علوٌّ في قلوبهم، تعالى الله وتقدس.

علو القهر

علو القهر الوجه الثاني: علو القهر: وهذا علو مطلق، فإنه قاهر لكل شيء، الخلق كلهم تحت قهره، يتصرف فيهم وأقدارُه تجري عليهم رضوا أم لم يرضوا: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدَاً} [مريم:93] يعني: ذليلاً مقهوراً خاضعاً ليس له شيء، وكذلك يخبر جلَّ وعلا أنه يخاطب الناس يوم القيامة، وأنهم يأتون إليه فرادى كما خلقهم، ويقول لهم: {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام:94] يعني: تقطعت المودة والدعوات {وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94] أي: الشيء الذي زعموه ضل عنهم وذهب، وحصحص الحق وظهر ظهوراً تاماً، فالملك كله لله، والقهر كله لله، فهو القاهر، وله علو القهر تعالى وتقدس. وهذان الوصفان -علو القدر وعلو القهر- لم ينكرهما أحد من أهل البدع حتى الجهمية والمعتزلة أقروا بهما؛ ولكن الأمر الثالث هو الذي أنكره أهل البدع.

علو الذات

علو الذات الوجه الثالث: علو الذات: كونه العالي على كل شيء، العالي فوق خلقه كلهم، وليس فوقه شيء تعالى وتقدس، وأرفع المخلوقات وأعلاها هو عرش الرحمن، وهو أوسعها وأكبرها وأعظمها، وذلك أن السماوات ومنها السماء الدنيا أكبر من الأرض آلاف المرات بل ليس هناك نسبة؛ لأن السماء تحيط بالأرض من جميع الجهات، والأرض كالبيضة في قلب السماء الدنيا، والجهات جهتان: جهة العلو والسفل فقط، أما الجهات الأخرى فلا حقيقة لها، والسماء الثانية أوسع وأكبر وأعظم من السماء الدنيا بشيء كبير جداً، والسماء الثالثة أوسع وأعظم وأكبر من السماء الثانية، وكذلك الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة، فأعظم السماوات وأوسعها وأكبرها السماء السابعة، وفيها الجنة التي أخبر الله جلَّ وعلا أن عرضها عرض السماوات والأرض، والعرش فوق السماوات كلها، وهو أعظم منها كلها، وقد جاء في الآثار أن الكرسي أوسع من السماوات والأرض، بل قال الله جلَّ وعلا: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255] والكرسي كما في الآثار: السماوات السبع بالنسبة إليه كدراهم سبعة ألقيت في أرض فلاة، هذا بالنسبة للكرسي، أما العرش فنسبة الكرسي إلى العرش كحلقة ألقيت في أرض فلاة، فالعرش هو أعظم المخلوقات وأكبرها وأوسعها، ولهذا يقول الله جلَّ وعلا: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة:129] {رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:116] والكريم هو: الواسع الحسن، والشيء العظيم إذا عظَّمه الله فهو عظيم جداً، وليس فوق العرش شيء من المخلوقات، وإنما فوقه رب العالمين تعالى وتقدس، وهو أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، ولهذا يقول لنا ويخبرنا عن شيء من عظمته حتى نعلم ذلك ونقدره حق قدره: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعَاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67] وعلى هذه السعة والكِبَر والعِظَم يطويها بيده، وتكون بيده كالخردلة في يد الإنسان، ولله المثل الأعلى. فإن كان هذا شيء من عظمته فكيف يجوز للإنسان أن يعبد معه غيره؟! وكيف يجوز للإنسان أن يصفه بما يتصف به المخلوق الحقير الذليل الذي لا يملك مع الله شيئاً؟! وإذا شاء عذَّبه ولا يُسأل ربك عما يفعل، تعالى الله وتقدس.

علو ذاته سبحانه لا ينافي قربه ومعيته لخلقه

علو ذاته سبحانه لا ينافي قربه ومعيته لخلقه فإن كان هذا شيء من عظمته فكيف يجوز للإنسان أن يعبد معه غيره؟! وكيف يجوز للإنسان أن يصفه بما يتصف به المخلوق الحقير الذليل الذي لا يملك مع الله شيئاً؟! وإذا شاء عذَّبه ولا يُسأل ربك عما يفعل، تعالى الله وتقدس. فعلوُّ الذات هو علو على جميع المخلوقات، ومع علوه تعالى وتقدس فهو معنا يسمع كلامنا، ويرى أفعالنا، ولا يخفى عليه مما في صدورنا شيء، فهو يعلم ما في الصدور: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4] معنا باطلاعه وإحاطته وقبضته، وبعلمه ورؤيته تعالى الله وتقدس، فهو أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء؛ ولهذا يقول العلماء: لا منافاة بين المعية والعلو، ولهذا جمع الله جلَّ وعلا بينهما في آية واحدة، كما قال جلَّ وعلا: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد:3 - 4] فأخبر بهذه الآية أنه استوى على العرش، وأنه يعلم كل شيء، وأنه معنا أينما كُنَّا، ومعيته جلَّ وعلا معية على حقيقتها؛ لأن المعية في لغة العرب معناها: المصاحَبة، وليس معناها: الامتزاج والاختلاط كما يزعم أهل الباطل، بل معناها: المصاحَبة، وهذا شيء معقول جداً، وهي تختلف باختلاف ما أضيفت إليه، فكل شيء تضاف إليه تكون معية مَن أضيفت له على ظاهرها، فمثلاً: يقول الإنسان: أنا مع فلان، وفلان يكون متحداً بنفسه فإنه وحده لا يختلط به، ويقول: معي مالي، وإن كان ماله في بلد وهو في بلد آخر، ويقول: معي زوجتي، وإن كانت زوجته في مكان وهو في مكان آخر، وسُمع من كلام العرب: سرنا مع القمر، والقمر في السماء وهم في الأرض، وكذلك: إذا ذُكرت المعية مع المصاحِب: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح:29] يعني: صحبوه بالإيمان والقتال والجهاد والاتباع والطاعة، فإذا جاءت صفةٌ لله تعالى: (وَهُوَ مَعَكُمْ) فهو تعالى وتقدس معيته تليق به، ولا يجوز أن تكون معيته كمعية المخلوق للمخلوق تعالى الله وتقدس. إذاً: معيته تعالى لا تنافي علوَّه، وكذلك لا تنافي قُربَه، فهو قريب منا وهو على عرشه تعالى وتقدس، فصفات الله يجب أن تكون خاصة به، وألَّا تكون خصائص الخلق التي تخصهم لله منها شيء، كما أن خصائص الرب جلَّ وعلا ليس للمخلوق منها شيء. قال: [قوله: (الكبير)، أي: الذي لا أكبر منه ولا أعظم منه تبارك وتعالى]. ولهذا شرع الله جلَّ وعلا لنا أن نكبِّره، وأن يقول الإنسان دائماً: (الله أكبر) في جميع الانتقالات في الصلاة، وإذا هوى الإنسان ساجداً في الأرض، وإذا ركب دابةً، وإذا صعد إلى شيء، أو رأى شيئاً يعجبه، أو شيئاً لا يعجبه، فيذكر ذلك بتكبير الله أن يقول: (الله أكبر)، ولا يجوز للمؤمن إذا قال: (الله أكبر) أن يكون هذا في لسانه فقط، بل يجب أن يستشعر ذلك في قلبه، وألَّا يكون شيء من المخلوقات عنده أكبر من الله جلَّ وعلا، فهو الكبير فوق كل شيء، والكبير معنىً وقدراً وذاتاً تعالى الله وتقدس.

شرح فتح المجيد [52]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [52] من صفات الله تعالى الثابتة بالكتاب والسنة صفة الكلام، فالله عز وجل لم يزل متصفاً بصفة الكلام، يكلم من شاء من خلقه متى شاء، وهذه هي عقيدة السلف الموافقة لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن خالفها فقد ضل عن سواء السبيل.

حديث (إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها)

حديث (إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها) قال المصنف رحمه الله تعالى: [في الصحيح: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، ينفذهم ذلك، {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23]، فيسمعها مسترق السمع -ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض، وصَفَه سفيان بكفه فحرَّكها وبدَّد بين أصابعه- فيسمع الكلمة فيُلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة، فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا؟! فيصدَّق بتلك الكلمة التي سُمعت من السماء)].

إثبات كلام الله لملائكته وبعض عباده

إثبات كلام الله لملائكته وبعض عباده قوله: (إذا قضى الله الأمر في السماء) أي: إذا تكلم، والأمر هو كلامه ووحيه. وقوله: (كأنه سلسلة على صفوان): الصفوان هو: الصخر الأملس، والسلسلة: حِلَقٌ الحديد، يُدخَل بعضُها في بعض، فإذا جُرَّت على الصفوان صار لها صوت، وهذا تشبيه للصوت المسموع، وليس تشبيها لله جلَّ وعلا، وإنما هو للصوت الذي يُسمع، وهذا كقول الرسول صلى الله عليه وسلم لما سئل: (هل نرى ربنا؟ قال: نعم، ترونه كما ترون القمر ليلة البدر ليس بينكم وبينه سحاب) فشبَّه الرؤية في وضوحها وجلائها برؤية القمر في وقت تمامه وكِبَره، وهنا شبَّه الصوت الذي تسمعه الملائكة كصوت السلسلة التي تُجر على الصفا، ومعنى ذلك: أنهم سمعوا صوتاً لم يميزوا شيئاً من المعاني فيه، وقد علموا أنه صوت كلام الله إذا أمر، ولهذا السبب صُعقوا وصاروا يسألون بعدما زال الصعق عنهم: ماذا قال الله؟ علموا أنه قول الله. وقوله: (ينفذهم ذلك) يعني: أن هذا يمضي فيهم كلهم، كلهم يسمعون، وكلهم يصعقون. وكذلك يدل أيضاً على أن الله جلَّ وعلا إذا أوحى بالأمر أن السماء نفسها تشعر بذلك وتعلمه، ثم يصيبها رجفة شديدة خوفاً من الله جلَّ وعلا، وهذا دليل واضح على أن الله يتكلم تعالى وتقدس؛ ولكن كلامه يتعلق بمشيئته، يتكلم إذا شاء بما يشاء، ويكلم من يشاء، ولقد جاءت الأدلة بإثبات كلامه جلَّ وعلا لملائكته ورسله، بل لأفراد الناس من أهل الجنة، يكلم بعضَهم بمفرده، ففي صحيح البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوماً جالساً مع أصحابه، وكان عندهم أعرابي، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن رجلاً من أهل الجنة يستأذن ربه ويقول: يا رب! أريد أن أزرع، فيقول الله جلَّ وعلا له: ألست فيما تريد وما تشتهي؟ فيقول: بلى يا رب، ولكني أريد الزرع، فيقول الله جلَّ وعلا: دونك فازرع، فيزرع وينبت الزرع ويخرج، ثم يستوي، ثم يتكدس حباً كأمثال الجبال، فيقول الله جلَّ وعلا: دونك يا ابن آدم، فإنه لا يملأ بطنك إلَّا التراب. عند ذلك قال الأعرابي: يا رسول الله! تجد هذا إما أنصارياً أو مهاجرياً، أما نحن فلسنا بأصحاب زرع، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم). فالمقصود: أن الله يكلم بعضَ عباده من أهل الجنة، وفي الصحيح أيضاً: (آخر من يخرج من النار -من أهل التوحيد؛ لأن أهل التوحيد العصاة منهم من يدخل النار تطهيراً لذنوبه ثم يُخرج من النار- رجل يحبس قرب النار ووجهه مقبل على النار، فيدعو ربه: يا رب! يا رب! اصرف وجهي عن النار، يا رب! اصرف وجهي عن النار، لا أسألك غير هذا. فيقول الله جلَّ وعلا: لعلك أن تسأل غيره! فيقول: لا وعزتك، لا أسألك غير هذا، فيصرف الله جلَّ وعلا وجهه عن النار. ثم تُرفع له شجرة خضراء حسناء فإذا رآها يصبر ما شاء الله أن يصبر، ثم يقول: يا رب! أوصلني إلى تلك الشجرة لأستظل بظلها، وأشرب من مائها، ويدعو ربه، فيقول الله جلَّ وعلا له: يا ابن آدم! ألم تعطِ العهود والمواثيق ألا تسأل غير ما سألت؟ فيقول: يا رب! لا تجعلني أشقى خلقك، والله يعلم أنه يرى ما لا صبر له عليه، فيعذره، فيقول: لعلك إن أعطيتك ما سألت أن تسأل غيره! فيقول: لا وعزتك لا أسألك غيره، فيعطي ربه العهود والمواثيق أنه لا يسأل غير هذا السؤال، فيوصله إلى هذه الشجرة فيستظل بظلها، ويشرب من مائها، ويأكل من ثمارها، ثم تُرفع له شجرة هي أحسن منها، فيراها ويتصبر ولكنه لا يصبر، فيقول: يا رب! أوصلني إلى تلك الشجرة؛ لأستظل بظلها، وأشرب من مائها، ويدعو ربه، ويقول الله جلَّ وعلا له: يا ابن آدم، ويلك! ما أغدرك! ألم تعطِ العهود أنك لا تسأل غير ما سألت؟ فيقول: يا رب! لا تجعلني أشقى خلقك، فيقول الله جلَّ وعلا له: لعلك تسأل غيرها! فيقول: لا وعزتك، والله لا أسألك غيرها، ويعطي العهود والمواثيق أنه لا يسأل غيرها، فيعطيه الله جلَّ وعلا ذلك، ويوصله إليها، فإذا وصل إليها رأى الجنة، فإذا رآها انفتح بابها، ورأى ما في داخلها، عند ذلك لا يصبر، فيقول: يا رب! يا رب! أدخلني الجنة، ويسأل ما شاء الله أن يسأل، فيقول الله جلَّ وعلا: ويلك يا ابن آدم! ما أغدرك! -ما أكثر غدرك! - ألم تعطِ العهود أنك لا تسأل غير ما سألت؟ فيقول: يا رب! لا تجعلني أشقى خلقك، فيقول: اذهب فادخل الجنه، فيذهب، فإذا وصل إلى الجنة خُيِّل إليه أنها ملأى -أنها مملوءة لم يبق فيها مكان- فيعود ويقول: يا رب! إنها ملأى -لم يبق فيها مكان- فيقول الله جلَّ وعلا: أترضى أن يكون لك مثل الدنيا؟ فيقول: يا رب! أتسخر بي وأنت رب العالمين؟! عند ذلك ضحك الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: ألا تسألوني ممَّ أضحك! قالوا: مم تضحك يا رسول الله؟! قال: أضحك من ضحك رب العالمين، فإنه إذا قال: أتسخر بي وأنت رب العالمين؟! يضحك الله ويقول: لا؛ ولكني على ما أشاء قدير، لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها معها)، وهذا هو أدنى أهل الجنة منزلة، فهذه محاورة بين الرب جلَّ وعلا وبين العبد. وهكذا إذا شاء الله أن يتكلم تكلم، ولا يمنعه أحد من الكلام تعالى وتقدس، فالذين لا يصفونه بالكلام ويزعمون أنهم يعظمونه بذلك؛ في الواقع أنهم يعطِّلوه عن صفاته التي وصف بها نفسه، وتعرَّف بها إلى عباده تعالى وتقدس، فعباده عرفوه بذلك أنه يتكلم ويُكلم ويخاطب، ويحاسب عباده يوم القيامة، ويقررهم بذنوبهم، ويعفو عمن يشاء، ويعذب من يشاء، ويأمر ملائكته بما يشاء، فهو جلَّ وعلا يتكلم بما شاء، والكلام من صفاته الثابتة، وهي من صفات الكمال.

خضوع الملائكة وذلهم عند سماع كلام الله

خضوع الملائكة وذلهم عند سماع كلام الله قال الشارح: [قوله: (في الصحيح): أي: في صحيح البخاري. قوله: (إذا قضى الله الأمر في السماء) أي: إذا تكلم الله بالأمر الذي يوحيه إلى جبريل بما أراده، كما صُرِّح به في الحديث الآتي، وكما روى سعيد بن منصور وأبو داود وابن جرير عن ابن مسعود: (إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات صلصلة كجَرِّ السلسلة على الصفوان). وروى ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لما أوحى الجبار إلى محمد صلى الله عليه وسلم دعا الرسولَ من الملائكة ليبعثه بالوحي، فسمعت الملائكة صوت الجبار يتكلم بالوحي، فلما كُشف عن قلوبهم سألوا عما قال الله؟ فقالوا: الحق، وعلموا أن الله لا يقول إلَّا حقاً). قوله: (ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله) أي: لقول الله تعالى، قال الحافظ: (خَضَعاناً) بفتحتين: من الخضوع، وفي رواية: بضم أوله وسكون ثانيه، وهو مصدرٌ بمعنى: خاضعين. قوله: (كأنه سلسلة على صفوان) أي: كأن الصوت المسموع سلسلة على صفوان وهو: الحجر الأملس. قوله: (يَنْفُذُهم ذلك) هو: بفتح التحتية، وسكون النون، وضم الفاء والذال المعجمة، (ذلك) أي: القول، والضمير في (ينفذهم): للملائكة، أي: ينفذ ذلك القولًُ الملائكةَ أي: يخْلُص ذلك القول ويمضي فيهم حتى يفزعوا منه، وعند ابن مردويه من حديث ابن عباس: (فلا ينزل على أهل سماء إلَّا صُعقوا)]: في هذه الأوصاف دلائل واضحة على ذل الملائكة لله جلَّ وعلا وخضوعهم، وأنهم لهم أجنحة يطيرون بها إلى حيث أراد الله جلَّ وعلا من أوامره التي يأمرهم بها؛ لأنهم عباد مُكرَمون: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:29].

استراق الشياطين للسمع من العنان

استراق الشياطين للسمع من العنان قوله في الحديث: (إذا تكلم جلَّ وعلا بالوحي الذي يوحيه إلى الملائكة فإن مسترقي السمع يركب بعضُهم بعضاً -يعني: الشياطين- فيستمعون ماذا قالت الملائكة الذين أُمروا بالأمر الذي يأمرهم الله جلَّ وعلا به، فيأخذون الكلمات من الملائكة مما يتحدثون بها، فيُلقيها الأعلى للذي تحته لأنهم يركب بعضُهم بعضاً، كما فعل سفيان - حيث صفَّ أصابعه وبدَّدها يعني: فرَّق بينها وحرَّكها. إذاً: الشياطين يركب بعضُهم على بعض حتى يصلوا إلى العنان، فهم لا يصلون إلى السماء؛ ولكن جاء في صحيح البخاري: (أن الملائكة تنزل إلى العنان) والعنان هو: السحاب، تنزل الملائكة لإنزال الغيث وتصريف السحاب؛ لأن السحاب يُصرَّف من الملائكة، فما ينزل قطر المطر إلَّا بتكليف، فيتكلمون بالأمر الذي أمروا به، فتكون الشياطين راكبة بعضها على بعض، ويستمعون ماذا تقول الملائكة، فيأخذ الأعلى الكلمة التي يسمعها فيلقيها إلى من تحته، والذي تحته يلقيها إلى من تحته بسرعة خوفاً من الشهاب الذي ينزل عليهم، فإذا فعلوا ذلك نزل عليهم الشهاب، وربما أصاب الشيطانَ فقتله، وربما خبله. قال الشارح: [وعند أبي داود وغيره مرفوعاً: (إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء الدنيا صلصلة كجر السلسلة على الصفا، فيُصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل) الحديث. قوله: (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ): تقدم معناه. قوله: (قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا الْحَقَّ) أي: قالوا: قال الله الحق، علموا أنه لا يقول إلَّا الحق. قوله: (فيسمعها مسترق السمع) أي: يسمع الكلمة التي قضاها الله، وهم الشياطين يركب بعضهم بعضاً. قوله: (ومسترق السمع هكذا -وصفه سفيان بكفه-) أي: وصف ركوب بعضهم فوق بعض، وسفيان هو: ابن عيينة أبو محمد الهلالي الكوفي ثم المكي، ثقة حافظ فقيه إمام حجة، مات سنة ثمان وتسعين ومائة، وله إحدى وتسعون سنة. قوله: (فحرفها): بحاء مهملة وراء مشددة وفاء. قوله: (وبدَّد) أي: فرَّق بين أصابعه. قوله: (فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته) أي: يسمع الفوقاني الكلمة، فيلقيها إلى آخر تحته، ثم يلقيها إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن. قوله: (فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها) الشهاب هو: النجم الذي يُرمى به، أي: ربما أدرك الشهابُ المسترقَ وهذا يدل على أن الرمي بالشهب كان قبل المبعث، لما روى أحمد وغيره -والسياق له في المسند من طريق معمر -: أنبأنا الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً في نفر من أصحابه -قال عبد الرزاق: من الأنصار- قال: فرُمي بنجم عظيم؛ فاستنار، قال: ما كنتم تقولون إذا كان مثل هذا في الجاهلية؟ قالوا: كنا نقول: لعله يولد عظيم أو يموت عظيم -قلتُ للزهري: أكان يُرمى بها في الجاهلية؟ قال: نعم. ولكن غلظت حين بُعث النبي صلى الله عليه وسلم- قال: فإنها لا يُرمى بها لموت أحد ولا لحياته؛ ولكن ربنا تبارك اسمه إذا قضى أمراً سبح حملة العرش، ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم حتى يبلغ التسبيح هذه السماء الدنيا، ثم يستخبر أهلُ السماء الذين يلون حملة العرش، فيقول الذين يلون حملة العرش لحملة العرش: ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم، ويخبر أهل كل سماء سماءً، حتى ينتهي الخبر إلى هذه السماء، وتخطف الجن السمع، فيرمون، فما جاءوا به على وجهه فهو حق؛ ولكنهم يقرفون فيه ويزيدون. قال عبد الله: قال أبي: قال عبد الرزاق: ويُخطف الجن ويرمَون. وفي رواية له: لكنهم يزيدون فيه ويقرفون ويُنقصون). قوله: (فيكذب معها مائة كذبة) أي: الكاهن أو الساحر]: في هذا الحديث إضافة إلى ما سبق أن الملائكة عباد يمتثلون أمر الله جلَّ وعلا، ويخضعون لقوله، ويذلون له، ويزيد خضوعهم وذلهم عندما يسمعون كلام الله بالوحي، خوفاً من أن تقوم الساعة، بأن يأمر الله جلَّ وعلا إسرافيل بالنفخ في الصور، وكل هذا خوف من عذابه جلَّ وعلا، وخشية منه، مع أنهم يطيعونه ولا يعصونه فيما أمرهم به، بل يفعلون ما يؤمرون، ومع ذلك يخافون خوفاً شديداً. والملائكة كما سبق هم من أعظم خلق الله جلَّ وعلا، يدل على هذا ما ذكره الله جلَّ وعلا في صفاتهم، مثلاً: جبريل عليه السلام اقتلع مدائن قوم لوط، وحملها على طرف جناحه، وطار بها حتى صار الذين في عنان السماء من الملائكة -يعني: في السحاب- يسمعون نباح الكلاب، وصياح الديكة، عند ذلك قلبها وجعل عاليها سافلها، ثم أُمطروا بحجارة من سجيل، وكذلك صاح بقوم صالح صيحة؛ فتقطعت قلوبهم في أجوافهم، صيحة واحدة! وهذا يدل على قوته وعِظَمه، ومع ذلك يخضع لله ذليلاً خاشعاً حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يُروى عنه في حديث الإسراء والمعراج: (أنه رآه لاصقاً كالحلس من خشية الله جلَّ وعلا)؛ لأن من كان بالله أعرف كان له أخوف. وكل هذا يدل على أنه لا يجوز قصدهم أو التوجه إليهم بشيء من العبادة، وإنما العبادة تكون لله جلَّ وعلا وحده، وكذلك غيره من الملائكة، وقد جاء في خلقهم وعِظَم ذلك أحاديث كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وما ذكره من أن الله جلَّ وعلا يتكلم بالوحي يدلنا على أن كلامه تسمعه الملائكة، وأنهم في أول الأمر يسمعون شيئاً لا يفقهونه، ويعلمون أنه كلام الله؛ ولكن لا يدرون ماذا قال؛ ولهذا يسألون جبريل عليه السلام الذي أُمر بأمر الله جلَّ وعلا أن يمضي بالوحي حيث أمره الله جلَّ وعلا، فيجيبهم قائلاً: قال الحق، ثم يجاوبونه كلهم: قال: {الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23]، وهو جلَّ وعلا يقول إذا شاء، ويتكلم ويقول بما شاء، وكلامه يتعلق بمشيئته إذا شاء أن يتكلم تكلم، وهذا من صفات الكمال التي يوصف بها ربنا جلَّ وعلا.

تحمل الشياطين للمخاطر من أجل إضلال الناس

تحمل الشياطين للمخاطر من أجل إضلال الناس قوله: (فيسمعها مسترق السمع) المعنى: أن مسترقي السمع هم الشياطين ومعهم الجن؛ لأن الشياطين من الجن وهم مَرَدَتُهم، كما أن الإنس منهم شياطين؛ فمن تمرد منهم وخرج عن قوله فهو شيطان، ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم لـ أبي ذر: (استعذ بالله من شياطين الإنس والجن)، كذلك قال الله جلَّ وعلا: {شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورَاً} [الأنعام:112]، فإذاً: يكون الشياطين من الإنس كما يكونون من الجن. وكونه يسترق السمع ليس معنى ذلك أن الشياطين يصلون إلى السماء، فهم لا يستطيعون ذلك، ولكن الملائكة ينزلون في السحاب حسب أمر الله جلَّ وعلا وتدبيره لهم، فيتكلمون فيما بينهم بأمرٍ مما أُمروا به من أمر الله، فتخطفها الشياطين، ووصف: أن الشياطين يركب بعضُهم بعضاً لأجل أن يسترقوا هذه الكلمة، مع أن فيها خطورة، ومع ذلك يرتكبون الخطر لأجل أن يضلوا الناس، مما يدل على حرصهم على إضلال بني آدم، فإذا تراكبوا لاستراق السمع، وسمعوا كلمةً أخذها الذي يليهم بسرعة، ثم ألقاها على من تحته حتى لا يدركه الشهاب قبل أن يلقيها، إلى أن تصل إلى آخر واحد في الأرض، فيذهب بها مسرعاً إلى وليه من الإنس الذي هو الكاهن أو الساحر، ويقُرُّها في أذنه كما تقُرُّ الدجاجة، فيزيد معها مائة كذبة، والزيادة هذه يحتمل أن تكون من الكاهن أو الساحر، ويحتمل أن تكون من الشيطان. وقوله: (فإذا حدث بالحديث -الذي من الكذب- يصدقه الناس لأجل هذه الكلمة الواحدة، وقد زاد معها مائة كذبه، فإذا خالف خبرُه الواقع قالوا: ألم يقل يوم كذا وكذا: كذا وكذا؟!) يعني: يستدلون بهذه الكلمة الصادقة على أن كل ما يقوله حق وصدق، وهذا من الغرور، وهذا يدل على أن النفوس تقبل الباطل بكلمة واحدة، فمثلاً الكلمة الواحدة تكون حقاً، فيُنقل إلى الناس فيها مائة كلمة تكون كذباً، فهذا من لبس الحق بالباطل، وذلك لأن الأمر لو كان كله باطلاً ما قُبل، ولكن قد يكون فيه شيء من الحق، وهذا يدلنا على أن الشيء إذا كان فيه نفع أو حق لا يدل على أنه جائز، وقد قال الله جلَّ وعلا: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة:219] فأخبر أن في الخمر والميسر منافع للناس، وكون فيهما منافع للناس لا يدل على حِلِّهما، ولا على جوازهما، فكذلك الشرك الذي يقع من الكاهن أو الساحر وإن كان فيه منفعة فهو ممنوع ومحرم شرعاً.

السماء محروسة من قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم

السماء محروسة من قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم معنى قول الزهري: إن الشياطين كانوا يسترقون السمع في الجاهلية، ثم إن السماء حُرست: أن الحراسة كانت من قديم؛ ولكن شُدِّد فيها ومُنعت منهم السماء نهائياً، فأصبحوا لا يجدون مكاناً يجلسون فيه ليركب بعضُهم بعضاً، بل يُرمون من أول الأمر، ولا يُنظَرون إلى أن يسترقوا؛ حفاظاً على الوحي الذي يوحيه الله جلَّ وعلا إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، قال الله جلَّ وعلا في ذلك عن الجن: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسَاً شَدِيدَاً وَشُهُبَاً * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابَاً رَصَدَاً} [الجن:8 - 9] هذا في وقت مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، حُرست السماء بالشهب فأصبح الجن والشياطين لا يستطعيون أن يصلوا إلى شيء من استراق السمع، شُدِّد فيها تشديداً عظيماً، فأصبحوا يُرجمون، ولهذا جاء في الخبر: أنه: (لما حدث ذلك قال الشيطان -يسأل أبناءه وأولياءه-: ما ترون؟ -أي: ما السبب؟ صاروا يبحثون عن السبب- فذهب طائفة منهم ووجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن في وادي نخلة قرب مكة، فاستمعوا فقالوا: هذا هو السبب هذا هو السبب الذي منعتم به من الاستراق) أما قبل ذلك فالاستراق والرمي بالشهب كان منذ خلق الله جلَّ وعلا السماوات، وقد ذكر ذلك جلَّ وعلا في كتابه في عدد من الآيات: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومَاً لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} [الملك:5] فأخبر جلَّ وعلا أنه زين السماء -يعني: نضَّرها- بالنجوم كالقناديل المعلقة زينة، وأنها رجوم للشياطين يُرجمون بها، وكذلك في الآية الأخرى في قوله جلَّ وعلا: {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابَاً رَصَدَاً} [الجن:9] (يجد له شهاباً رصداً) يعني: أنه مرصود له، فأخبر أنها مرصودة لكل شَيْطَانٍ مَارِدٍ؛ وأنهم: {لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورَاً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} [الصافات:8 - 9] هذا في الشهب والنجوم، والتي يُرمى بها ليست هي من النجوم المرئية المشاهَدة التي تُرى ويُستدل بها؛ ولكن الذي يُرمى به شيء لا يُرى، أو يرمى بقسم منها بحيث يبقى المشاهَد المعيون، وهي كثيرة جداً. وقوله: في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وكذلك رواه مسلم في صحيحه (أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في أصحابه يوماً، فرُمي بشهاب فاستنار فقال: ما كنتم تقولون لهذا في الجاهلية؟ فقالوا: كنا نقول إذا رُمي به: إنه يولد عظيم أو يموت عظيم -يعني: من الناس، ملك أو رئيس أو ما أشبه ذلك- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه لا يُرمى بها لموت أحد ولا لحياته؛ ولكن مسترق السمع إذا ركب بعضُهم بعضاً يسترقون السمع رُمي بها، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها إلى وليه فقتله، وربما أذهب عقله فخبله -فيصبح ليس له عقل- وربما أخطأه) وهذا لحكمة يريدها الله جلَّ وعلا، وإذا أراد الله شيئاً لا يخطئه. فهذا دليل على أنها من قديم، وكذلك الآن لا تزال يُرمى بها وإن كان الوحي قد انقطع، وكذلك في الأوقات التي لا يكون فيها وحي إلى نبي من الأنبياء يُرمى بها، فهي باقية كما كانت قبل ذلك منذ خلقت السماوات والأرض، وأوجدت لرمي الجن، فإنها رجوم لهم يُرجَمون بها، فأحياناً يحترق الشيطان إذا أصابه الشهاب فيحرقه نهائياً، وأحياناً يصيبه ويذهب بقوته إما ببعض جسده، وإما أن يذهب بعقله لقوة رميه، فهو شيء عجيب جداً. قوله: (فيكذب معها مائة كذبة) يعني: يحتمل الأمرين: إما أن الشيطان يكذب على الكاهن أو الساحر، وإما أن الساحر أو الكاهن هو الذي يكذب كذلك، فيصبح كل واحد يكذب مائة، وهذا يدل على أن الكاهن أو الساحر لا يخبر بهذه الأمور من عند نفسه، وإنما يجعل له مستنداً وهو ما أخذه من الشيطان، والشيطان قد يكون كاذباً وقد يكون صادقاً، وأنه يزيد على ذلك حتى يُصدَّق، وهذا يدل أيضاً على أن الكُهَّان والسحرة لهم صلة بالشياطين، هذا هو القول الصحيح من أقوال العلماء، وهو أن السحر لا يتأتى إلَّا بواسطة الشياطين، ولا يمكن أن يأتي الشيطان إلى الكاهن أو الساحر بغير شيء يقدمه الكاهن أو الساحر للشيطان، لا بد أن يقدم له عبادة، أن يعبده ويخضع ويركع له، ويذل له ويسجد، أما إذا لم يفعل شيئاً من ذلك فلا يأتيه، وإنما يأتيه إذا خضع وذل وعبَده سواءً كان كاهناً أو ساحراً. وأما كون الملائكة يتكلمون بالوحي في العنان، فهذا فيما بينهم، يذكرون الشيء الذي أُمروا به، سواءً كان شيئاً يخص بعض الناس من مرض أو موت أو ولادة مولود أو ما أشبه ذلك، أو شيئاً يخص جميع الناس مثلاً كإنزال المطر أو الرياح أو ما أشبه ذلك؛ لأنهم مأمورون بهذه الأشياء، وقد أوحيت إليهم، فيخطفها الشيطان ويفرح بها حتى يضل بني آدم بذلك.

تلبيس الشياطين الحق بالباطل

تلبيس الشياطين الحق بالباطل قال الشارح: [قوله: (فيكذب معها مائة كذبة) أي: الكاهن أو الساحر، وكذبة: بفتح الكاف، وسكون الذال المعجمة]: كَذِبة وكِذْبة كلها سواء. قال الشارح: [قوله: (فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا): هكذا في نسخة بخط المصنف، كالذي في صحيح البخاري سواء. قال المصنف: وفيه: قبول النفوس للباطل، كيف يتعلقون بواحدة ولا يعتبرون بمائة! وفيه: أن الشيء إذا كان فيه شيء من الحق فلا يدل على أنه حق كله، فكثيراً ما يلبِّس أهلُ الضلال الحقَّ بالباطل ليكون أقبل لباطلهم، قال تعالى: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:42]]: ولولا لبس الحق بالباطل ما انطلى كلام أهل الباطل على أحد؛ ولكنهم يلبسون الكلام، ويزينون الأفعال حتى تنطلي على الناس الذين لا يميزون بين الحق والباطل، ولهذا الله جلَّ وعلا يحب البصر والبصيرة عند الفتن، والفتن تكون بالأقوال والأفعال والشهوات والشبهات، وأعظمها فتن الشبهات، وهذه التي يضل بها كثير من الناس، وسبب ذلك تلبيس الكلام بعضه ببعض والتلبيس معناه: أن يحرف الدليل الذي يدل على الحق ويصرفه حتى يكون دليلاً على الباطل، وهذا كثير في الناس جداً، وهو من الإرث الذي ورثوه عن اليهود، والله جلَّ وعلا ذكر عن اليهود أنهم يلبسون الحق بالباطل، وأحياناً يكتمون الحق، فإذا لم يُكتم وأظهروه خلطوه بباطل حتى لا ينتفع به المنتفع، أو يضل الذي يسمعه ويأخذه، والله جلَّ وعلا لا يقبل باطلاً، وإنما الذي يقبله الحق المحض الخالص.

أهل الكلام ونهاية المطاف

أهل الكلام ونهاية المطاف قال الشارح: [وفي هذه الأحاديث وما بعدها وما في معناها إثبات علو الله تعالى على خلقه على ما يليق بجلاله وعظمته، وأنه تعالى لم يزل متكلماً إذا شاء بكلام تسمعه الملائكة، وهذا قول أهل السنة قاطبة سلفاً وخلفاً، خلافاً للأشاعرة والجهمية ونفاة المعتزلة، فإياك أن تلتفت إلى ما زخرفه أهل التعطيل! وحسبنا الله ونعم الوكيل!] أما كونه يدل على علو الله جلَّ وعلا فهذا ظاهر؛ لأنه ذكر النزول، وذكر أن أول من يسمع حملة العرش الذي هم قرب العرش؛ لأن العرش حوله ملائكة يطوفون به، ويسبحون بحمد الله: {وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:7] ثم بعد ذلك ينفذ إلى أهل السماء السابعة، ثم للتي تليها وهكذا، فهو يدل على علو الله، وعلو الله جلَّ وعلا أمر فطري؛ ولهذا جعل العلماء مسألة العلو من صفات الذات، يعني: أن علو الله ذاتي، بمعنى: أنه لا ينفك عنه بحال من الأحوال، ويكون دائماً هو الأعلى في أي وقت كان، ولا يمكن أن يكون شيء فوقه، تعالى الله وتقدس، والشبه التي أوجدها نفاة العلو هي شبه تطرأ على النفوس والفطر، وإلَّا فالخلق كلهم مفطورون على أن الله عال على خلقه، ولهذا علمهم المرشد إلى الهدى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول أحدهم: سبحان ربي الأعلى في سجوده، إذا جعل رأسه أخفض شيء من بدنه، ووضعه على الأرض، يقول: سبحان ربي الأعلى؛ لأنه هو العالي على كل شيء تعالى وتقدس، وكذلك كل عبد من عباد الله سواءً كان مسلماً أو كان كافراً، إذا احتاج واضطر إلى دعوة الله جلَّ وعلا فإنه يدعو الله من فوق، ما تجده يلتفت يميناً أو شمالاً، ولا أسفل، بل يمد يديه فوق، يقول: يا رب! يا رب! ولا أحد علمه هذا، وإنما هذا شيء موجود في فطرته، ولهذا لما كان إمام الحرمين عبد الملك الجويني في هذا المسجد الشريف -مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم- يقرر ويتكلم في العلم ويقول: كان الله ولا مكان، وهو الآن على ما كان عليه قبل خلق المكان، ويتكلم بمثل هذه الكلمات التي توهِم، فقام رجل أمامه وقال: دعنا من هذا الكلام الذي لا نفهمه، وكثير منا لا يدري ما حقيقته، ولكن أخبرني: عن شيء أجده أنا في نفسي، ويجده كل واحد حتى أنت تجده في نفسك، ما هذه الضرورة التي في قلوبنا إذا دعا أحدنا ربه رفع يديه إلى السماء وقال: يا رب! يا رب؟! كيف ندفعها؟ فوضع يده على رأسه، ونزل من على الكرسي الذي كان عليه، وصار يبكي ويقول: حيَّرني الرجل! فلا يدري ماذا يقول وماذا يجيب لأن عقيدته على خلاف الحق، والوحي الذي جاء من عند الله يتفق تماماً مع الفطرة التي فُطر عليها الناس، وما أكثر ما يذكر الله جلَّ وعلا الأدلة الواضحة الجلية التي تدل على علوه! كما يقول جلَّ وعلا: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ} [الجاثية:2] {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:50]، {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16]، في أشياء لا حصر لها، كلها أدلة صريحة واضحة على علو الله جلَّ وعلا، ومع ذلك يحاول أهل البدع الذين اعتاضوا عن الوحي المعصوم بالآراء التي تخطئ كثيراً، وتضل كثيراً، وصارت عقوبتهم أن تحيَّروا، ثم هذا الذي يقول ذلك عند الموت يتحيَّر، وهذا الجويني عفا الله عنا وعنه كان -في الواقع- يطلب الحق ولكنه ما وجده، ولا قيَّض الله جلَّ وعلا له من يبينه له؛ لأن الإنسان إذا تلقى شيئاً من مشايخه وفي بيئته يصعب أن يهتدي إليه لمجرد أن يسمع نصاً، لأنه يستبعد كثيراً أن يكون المشايخ الذين تلقى عنهم العلم من الصغر تركوا هذه النصوص ولم يفهموها، أو خالفوها، فيحاول أن تكون النصوص متفقة مع ما يقولونه، فكان عند وفاته يقول: يا أصحابي! لا تشتغلوا بالكلام، فوالله لو كنتُ أظن أنه يبلغ بي ما بلغ ما اشتغلت به، ويقول: هأنذا قد تركت أهل الإسلام وعلومهم، وخضت البحر الخضم، والآن إن لم يتداركني ربي فالويل لي، ويقول: هأنذا أموت على عقيدة عجائز نيسابور؛ لأنه من أهل نيسابور. وكذلك غيره من الأذكياء مثل الفخر الرازي عفا الله عنا وعنه، فإنه حار في آخر حياته، وهو أيضاً من ذلك البلد، وقد كان كثير الكلام جداً؛ وكثير التأويل لكلام الله الصريح، ويصرفه عن ظواهره، وفي النهاية ذكر أنه ألف كتاباً سماه: كتاب اللذات، ثم جاء إلى العلم وقال: لذة العلم، وتكلم بكلام يدل على أنه ما استفاد شيئاً من العلم، وقال فيه: وأرواحنا في وحشة من جسومنا وغاية دنيانا أذىً ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقال إلى آخر ما قال. فدل على أنه حائر ما استفاد شيئاً. وذكر المؤرخون أنه كان له تلميذ من أذكى تلامذته، وصار هو خليفته والمرجع في المسائل التي يُختلف فيها في الكلام ونحوه بعد وفاة شيخه، وكان له صديق من الحنابلة، فدخل مرة عليه وهو في مجلسه وحده، وكان مستغرقاً في التفكير، فدخل عليه وسلم، فلم يشعر به لاستغراقه في تفكيره ونظره، فأعاد السلام الرجل مرةً أخرى، فلم يشعر، فأعاد مرة ثالثة، فلم يشعر، فقال في نفسه: ما دهاه؟! وهَمَّ أن ينصرف، عند ذلك رفع رأسه إليه وقال: يا فلان! ماذا تعتقد؟ فضحك عليه ساخراً فقال: ماذا أعتقد؟! أعتقد ما يعتقده المسلمون والحمد لله، فأطرق رأسه وجعل يبكي، ويقول: والله ما أدري ماذا أعتقد؛ لأنه اشتغل بالكلام، وترك كتاب الله، وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم الذي فيه الهدى والنور. وذكروا في ترجمة الرازي أيضاً أنه مرةً في نيسابور كان معه أكثر من ثلاثمائة تلميذ خلفه، خرج بهم إلى السوق، وعجوز في بابها واقفة تنظر، فسألت واحداً منهم فقالت: من هذا الملك؟ فقال: ليس هذا ملكاً، هذا فخر الدين الرازي يعرف على وجود الله ألف دليل، يقول هذا الكلام ليعظمه في نفسها، فضحكت ساخرةً منه وقالت: يعرف ألف دليل؟! وهل وجود الله يحتاج إلى ألف دليل؟! والله لو لم يكن عنده ألف شك ما احتاج إلى أن يعرف ألف دليل! وهذا الجويني الذي يقول: هأنذا أموت على عقيدة عجائز نيسابور، يعني: أنهن يمتن على الفطرة التي فُطِرن عليها، أحسن من الذين توغلوا في علم الكلام الذي يزيد في الشكوك والحيرة. فلا ينكر علو الله إلَّا من كان بهذه المثابة، تحيَّر وأصبح عنده من الشكوك والريب ما يدفع به النصوص، وإلَّا فالأدلة على وصف الله جلَّ وعلا بأنه يتكلم، وبأنه يسمع ويبصر، وبأنه يَرى، وبأنه يُرى يوم القيامة يراه المؤمنون، بل رؤيته هي أفضل النعيم، وبأنه فوق، وبأنه: (ينزل إلى سماء الدنيا -كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم- كل ليلة ويبسط يده يقول: هل من تائب فيُتاب عليه؟ هل من مستغفر فيُغفر له؟ هل من سائل فيُعطى؟ حتى يطلع الفجر) وهذا كل ليلة.

الإيمان بصفات الله فرض فيجب تعليم الناس ما تيسر من ذلك

الإيمان بصفات الله فرض فيجب تعليم الناس ما تيسر من ذلك جاء في رواية في الصحيح: أنه جلَّ وعلا يقول: (لا أسأل عن عبادي غيري، هل من تائب فيُتاب عليه؟ هل من طالب فيُعطى؟ هل من مستغفر فيُغفر له؟) وهذا من كرمه جلَّ وعلا وجوده، وإلَّا فهو ليس بحاجة إلى أحد من الخلق، هو الغني بذاته عن جميع خلقه. وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يخطب في المجامع مبيناً صفات ربه جلَّ وعلا؛ لأن الإيمان بها فرض، فهو يعلم الناس ويخبرهم بذلك، حتى ولو كان في الجمع أعرابي، والأعراب عندهم جرأة بالأسئلة التي لا يستطيع الصحابة أن يسألوا عنها؛ ولهذا يقول عبد الله بن عمر: (إني لأفرح أن يأتي الأعرابي العاقل فيسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نسمع)، وفي رواية: (كان يعجبنا أن يأتي الأعرابي العاقل فيسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نسمع)، فيستفيدون من هذا، ومرة كان يتكلم صلوات الله وسلامه عليه وعنده أعرابي، ولعلهم شكوا إليه تأخر المطر، فقال لهم: (إن الله جلَّ وعلا ينظر إليكم أزلين قنطين فيظل يضحك، يعلم أن فرجكم قريب، فقال له الأعرابي: يا رسول الله! أوَيضحك ربنا؟! قال: نعم. فقال: إذاً: لا نُعدم خيراً من ربنا إذا ضحك، فأقره الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك) وهذا دليل على أنهم كان إذا سمعوا من الرسول صلى الله عليه وسلم شيئاً يأخذوه على ظاهره، وأن الظاهر هو المراد، والمعطلة ما يقبلون هذه الأشياء، ويقولون: هذا لا يجوز، لا يجوز أن نصف الله جلَّ وعلا بالضحك؛ لأن الضحك كذا، ولأنه كذا، ولأنه كذا، ويأتون بأمور من خصائص المخلوقين، ويجعلونه المانع من وصف الله جلَّ وعلا بهذه الأمور، ومعنى ذلك أن التشبيه أولاً ارتسم في نفوسهم وإن لم يتكلموا به، يعني: أنهم ما عرفوا من أوصاف الله جلَّ وعلا إلَّا ما عرفوه من أنفسهم، فصاروا ينفون هذا الذي استقر في نفوسهم، والله جلَّ وعلا ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في وصفه ولا في أفعاله، بل ولا في حقه الذي أوجبه على خلقه، فيجب ألَّا يساوَى بأحد من خلقه تعالى وتقدس. هذا؛ وعلو الله جلَّ وعلا ثابت، والأدلة عليه كثيرة، وهي أنواع وليست أفراداً فقط، وليس المسلم بحاجة إلى أن يستدل على ذلك؛ لأنه فُطر على هذا، ولأنه يؤمن بكتاب الله وبأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما يحتاج الاستدلال على ذلك لمَن تغيرت فطرته بالكلام الباطل الذي يزيده شكاً وحيرة. هذا؛ والله جلَّ وعلا يتكلم، وكلامه أزلي، والأزل هو: القِدم الذي لا مبدأ له ولا أول له، يعني: الشيء الماضي الذي لم يكن له مبتدأ، هذا معنى الأزل، والله جلَّ وعلا أول بلا بداية، فليس لله بداية، كما أنه جلَّ وعلا آخر بلا نهاية، وهو جلَّ وعلا أول بصفاته، كان قبل خلق هذا الخلق المشاهَد لنا من السماوات والأرض ومن فيهن، ولا يجوز أن يُعطل عن كونه لا يتكلم ولا يسمع ولا يرى، بل هو جلَّ وعلا أزلي بجميع صفاته تعالى وتقدس، يعني: أنه لم يكتسب صفةً جديدة لم تكن له تعالى وتقدس. ويقال: جنس الكلام: أزلي لا مبدأ له، وأفراده حادثة، مثل تكلمه جلَّ وعلا بالقرآن، فالله تكلم بالقرآن في أوقات معينة، مثل قوله جلَّ وعلا: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة:1]. فـ خولة جاءت إلى النبي حينما ظاهر منها زوجها وهو كبير مسن، وهي كذلك قد كبرت، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تستفتيه وتقول: (يا رسول الله! كيف أصنع؟ ترك صبية، إن ضممتهم إليَّ جاعوا، وإن تركتهم عنده ضاعوا، كيف أصنع؟! فيقول: ما أراكِ إلَّا قد بنت منه، فقالت: إلى الله أشكو، فأنزل الله جلَّ وعلا هذه الآيات)، تقول عائشة رضي الله عنها كما في صحيح مسلم: سبحان الذي وسع سمعه الأصوات، والله إني كنت في طائفة من البيت، وإنه يخفى علي بعض كلامها، فأنزل الله جلَّ وعلا: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة:1]، والبيت الذي تريده عائشة رضي الله عنها عبارة عن غرفة واحدة، وهي الغرفة التي فيها قبره صلوات الله وسلامه عليه، وهي غرفة عائشة ما اتسعت إلَّا للقبور الثلاثة؛ قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبي بكر وعمر فقط، هذا هو البيت، فهي غرفة صغيرة، ومع ذلك تقول: كان يخفى علي بعض كلامها، فأنزل الله جلَّ وعلا: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:1] وهو فوق عرشه تعالى وتقدس، وهذا شيء معلوم، فإنه لا يخفى على الله جلَّ وعلا شيء، يسمع دبيب النملة على الصفاة في ظلمة الليل.

تعليم النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه الصفات

تعليم النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه الصفات في سنن أبي داود: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في خطبة يخطب ويتكلم على المنبر، فقرأ قول الله جلَّ وعلا: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعَاً بَصِيرَاً} [النساء:134] فوضع إصبعاً واحدةً على عينه والأخرى على أذنه)؛ ليبين أن هذا حقيقة، فالله يرى ويسمع حقيقةً، فهو يعلم المؤمنين ذلك، وهؤلاء النفاة لا يقرون مثل هذا. وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً فجاء حبر من اليهود فقال: يا رسول الله! إن الله يضع السماوات على إصبع، والأراضين على إصبع، والجبال على إصبع، والشجر على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، ثم يهزهن ويقول: أنا الملك أنا الملك أين ملوك الدنيا؟! فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لما قال، وقرأ قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعَاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]). وفي رواية: أن هذا الحبر اليهودي كان يشير بالأصابع ويقول: (يضع السماوات على ذِه، والأراضين على ذِه، ويشير بأصابعه) وقد جاء هذا مسلسلاً بالأئمة، روَوه هكذا. والمقصود أن ذكر الصفات في تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم وخطاباته كذكرها في كتاب الله، فإن الله ذكرها كثيراً في كتاب الله، فلهذا يقول بعض العلماء: تأويل نصوص المعاد أسهل وأيسر من تأويل نصوص الصفات؛ لأن نصوص المعاد ليست كثيرة كنصوص الصفات، والصحابة رضوان الله عليهم اتفقوا على الإيمان بها ولم يوجد بينهم خلاف في ذلك أبداً، ولن يستطيع الإنسان أن يأتي بمسألة من مسائل الصفات فيها خلاف، أما ما يشغِّب به بعض المشغِّبين الذين فُتنوا باتباع الشبهات من قولهم: إنه وُجد الخلاف بينهم؛ لأنهم اختلفوا هل رأى الرسول صلى الله عليه وسلم ربه أو لم يره ليلة المعراج؟ فهذا ليس من هذا الباب، فهم اختلفوا في هذا أثبت أم لم يثبت؟ أما الصفات فما اختلفوا فيها. فعلى كل حال فالصفات هي التي تعرف الله جلَّ وعلا بها إلى عباده؛ لأن الله غيب، ما أحد يراه، وليس كمثله شيء فيُقاس على الشيء المشاهَد، فلا يمكن أن يكون هناك طريق للتعرف على صفاته جلَّ وعلا إلَّا بالوحي فقط، فالوحي هو الطريق الوحيد، لا العقل ولا غيره.

شرح فتح المجيد [53]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [53] الله تعالى يتكلم متى شاء بما شاء، وإذا تكلم بالوحي أخذت السماوات منه رجفة شديدة خوفاً من الله عز وجل، فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقوا وخروا لله سجداً، وهذا يدل على عظمة الله تعالى، وعلى خوف أهل السماوات منه سبحانه.

حديث: (إذا أراد الله أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي)

حديث: (إذا أراد الله أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي) قال المصنف رحمه الله: [وعن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي أخذت السماوات منه رجفة -أو قال: رعدة- شديدة خوفاً من الله عزَّ وجلَّ، فإذا سمع ذلك أهل السماوات صُعقوا وخروا لله سجداً، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيخبره الله من وحيه بما أراد، ثم يمر جبريل على الملائكة، كلما مر بسماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول جبريل: قال: {الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23]، فيقولون كلهم مثلما قال جبريل، فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عزَّ وجلَّ)]. هذا الحديث كالحديث الذي سبق، ولكنه أوضح من الحديث السابق، وقد تقدم الكلام على ما فيه، وأنه يدل على عظمة الرب جلَّ وعلا، ووجوب عبادته وحده، وأن الملائكة يخضعون ويخافون ويُصعقون إذا سمعوا كلامه جلَّ وعلا؛ خوفاً منه وخشيةً له، وأن كلامه يُسمع جلَّ وعلا وأنه عالٍ على خلقه. قال الشارح: [هذا الحديث رواه ابن أبي حاتم بسنده، كما ذكره العماد ابن كثير في تفسيره. والنواس بن سمعان -بكسر السين- ابن خالد الكلابي ويقال: الأنصاري صحابي، ويقال: إن أباه صحابي أيضاً. قوله: (إذا أراد الله أن يوحي بالأمر) إلخ: فيه النص على أن الله تعالى يتكلم بالوحي، وهذا من حجة أهل السنة على النفاة لقولهم: (لم يزل الله متكلماً إذا شاء). قوله: (أخذت السماوات منه رجفة): السماوات مفعول مقدم، والفاعل: رجفة، أي: أصاب السماوات من كلامه تعالى رجفة أي: ارتجفت، وهو صريح في أنها تسمع كلامه تعالى كما روى ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: (إذا قضى الله أمراً تكلم تبارك وتعالى رجفت السماوات والأرض والجبال، وخرت الملائكة كلهم سجداً). وقوله: (أو قال: رعدة شديدة) شك من الرواي، هل قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رجفة) أو قال: (رعدة)؟ والراء مفتوحة فيهما].

خوف المخلوقات من الله وتسبيحها

خوف المخلوقات من الله وتسبيحها قال الشارح: [قوله: (خوفاً من الله عزَّ وجلَّ) وهذا ظاهر في أن السماوات تخاف الله بما يجعل الله تعالى فيها من الإحساس ومعرفة مَن خلقها، وقد أخبر تعالى أن هذه المخلوقات العظيمة تسبحه كما قال تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمَاً غَفُورَاً} [الإسراء:44]، وقال تعالى: {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدَّاً} [مريم:90]، وقال تعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة:74]، وقد قرر العلامة ابن القيم رحمه الله أن هذه المخلوقات تسبح الله وتخشاه حقيقةً مستدلاً بهذه الآيات وما في معناها]. للعلماء في هذا قولان: القول الأول: أن التسبيح ليس حقيقة؛ وإنما معنى ذلك أن من رآها سبح الله؛ لأنها دليل على علو الله جلَّ وعلا وعلى عظمته. القول الثاني: أن التسبيح يصدر منها حقيقةً بلسان يعلمه الله جلَّ وعلا، وكل شيء على حسب ذلك، وهذا هو الصواب، وقد سُمع الطعام يسبح بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا الحصى، وكان جذع يابس وُضع ليخطب عليه صلوات الله وسلامه عليه في هذا المسجد، فأمر أن يُتخذ له منبر من الخشب، فلما وُضع المنبر ترك الجذع، فأول ما قام على المنبر ليخطب صار الجذع يحن، فسمعه أهل المسجد كلهم، وكان يحن مثل حنين الناقة إذا فقدت ولدها، حتى نزل صلى الله عليه وسلم والتزمه، فصار يهدأ كما يهدأ الصبي إذا التزمته أمه، فقال: (لو تركتُه لبقي يحن إلى يوم القيامة)؛ بكى لأجل فقد الذكر الذي كان يكون عليه. وكذلك ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إني لأعرف حجراً في مكة كان يسلِّم عليَّ) أي: يقول: السلام عليك يا رسول الله! حجر يسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم! وقد أخبر الله جلَّ وعلا في كتابه عن أشياء كثيرة تتكلم كقوله: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت:20 - 21]، فالله ينطق الأشياء كلها، فهي تتكلم وتسبح بحمده. قال الشارح: [وفي البخاري عن ابن مسعود قال: (كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل)، وفي حديث أبي ذر: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذ بيده حصيات فسُمع لهن تسبيح) الحديث. وفي الصحيح قصة حنين الجذع الذي كان يخطب عليه النبي صلى الله عليه وسلم قبل اتخاذ المنبر، فمثل هذا كثير. قوله: (صُعقوا وخروا لله سجداً) الصعوق هو: الغشي، ومعه السجود].

فضل جبريل عليه السلام

فضل جبريل عليه السلام قال الشارح: [قوله: (فيكون أول من يرفع رأسه جبريل) بنصب (أول): خبر (يكون) مقدماً على اسمها، ويجوز العكس، ومعنى جبريل: عبد الله، كما روى ابن جرير وغيره عن علي بن الحسين قال: كان اسم جبريل عبد الله، واسم ميكائيل عبيد الله، وإسرافيل عبد الرحمن، وكل شيء رجع إلى (إيل)، فهو معبَّد لله عزَّ وجلَّ، وفيه فضيلة جبريل عليه السلام كما قال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:19 - 21]، قال ابن كثير رحمة الله عليه: إن هذا القرآن لَتبليغ رسول كريم، وقال أبو صالح في الآية: جبريل يدخل في سبعين حجاباً من نور بغير إذن، ولـ أحمد بإسناد صحيح عن ابن مسعود قال: (رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جبريل بصورته وله ستمائة جناح، كل جناح منها قد سد الأفق، يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت ما الله به عليم)، فإذا كان هذا عِظَم هذه المخلوقات فخالقها أعظم وأجل وأكبر، فكيف يُسوَّى به غيره في العبادة دعاءً وخوفاً ورجاءً وتوكلاً وغير ذلك من العبادات التي لا يستحقها غيره؟! فانظر إلى حال الملائكة وشدة خوفهم من الله تعالى وقد قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدَاً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:26 - 29]. قوله: (فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عزَّ وجلَّ من السماء والأرض) وهذا تمام الحديث. والآيات المذكورة في هذا الباب والأحاديث تقرر التوحيد الذي هو مدلول شهادة أن لا إله إلَّا الله، فإن الملك العظيم الذي تصعق الأملاك من كلامه خوفاً منه ومهابةً، وترجف منه المخلوقات، الكامل في ذاته وصفاته وعلمه وقدرته وملكه وعزه وغناه عن جميع خلقه، وافتقارهم جميعاً إليه، ونفوذ تصرفه، وقدره فيهم لعلمه وحكمته؛ لا يجوز شرعاً ولا عقلاً أن يُجعل له شريك من خلقه في عبادته التي هي حق عليهم، فكيف يُجعل المربوب رباً، والعبد معبوداً؟! أين ذهبت عقول المشركين؟! {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الطور:43]، وقال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدَاً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدَّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدَاً} [مريم:93 - 95] فإذا كان الجميع عبيداً فلِمَ يعبد بعضُهم بعضاً بلا دليل ولا برهان بل بمجرد الرأي والافتراء والابتداع؟ ثم قد أرسل رسله من أولهم إلى آخرهم تزجرهم عن ذلك الشرك، وتنهاهم عن عبادة ما سوى الله. انتهى من شرح سنن ابن ماجة].

مسائل باب قول الله تعالى: (حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم)

مسائل باب قول الله تعالى: (حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم)

تفسير قوله: (حتى إذا فزع عن قلوبهم)

تفسير قوله: (حتى إذا فزع عن قلوبهم) قال المصنف: [فيه مسائل: الأولى: تفسير الآية]. الآية هي قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23]، وسبق أن الضمائر في هذا الخطاب للملائكة، (فزع عن قلوبهم) يعني: عن قلوب الملائكة، والتفزيع هو: إزالة الفزع، فهم يفزعون حينما يسمعون كلام الله فيخرون سجداً ويُغشى عليهم، فإذا ذهب الغُشِي صار بعضهم يسأل بعضاً: ماذا قال ربكم؟ ويجيب المسئول بقوله: قال {الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23]. [الثانية: ما فيها من الحجة على إبطال الشرك خصوصاً ما تعلق على الصالحين وهي الآية التي قيل: إنها تقطع عروق شجرة الشرك من القلب]. المقصود هذه الآية والتي قبلها، وهي قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} [سبأ:22] إلخ. [المسألة الثالثة: تفسير قوله تعالى: {قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23]]. سبق أن هذا قول الملائكة حينما يُكشف عنهم الفزع يعني: الغشي الذي يصيبهم خوفاً من الله جلَّ وعلا، فيتساءلون فيما بينهم حتى ينتهي السؤال إلى جبريل عليه السلام، وهو الذي يتولى الوحي من الله جلَّ وعلا سواءً كان ذلك إلى الملائكة أو إلى البشر، فيقول لهم: قال: الحق، فيقولون كلهم: قال الحق، والله جلَّ وعلا لا يقول إلَّا الحق تعالى وتقدس، ومعنى ذلك: أنه يجب أن يُؤمَن بأن الله يقول قولاً يُسمع، ويَسمَعه مَن يُسمِعه إياه جلَّ وعلا، وأن قوله حق، والحق معناه: الشيء الثابت الذي لا يتزعزع، تقول العرب: حق فلان بالمكان إذا ثبت فيه وأقام، فالحق هو: الثابت، بخلاف الباطل، فإن الباطل يزول ويتزعزع ولا يثبت. [المسألة الرابعة: سبب سؤالهم عن ذلك]. سبب السؤال هو ما ذكره بعض المفسرين من أنهم يخافون أن يكون هذا الأمر بقيام الساعة؛ لأن الوقت قريب، وهذا كان في أول ما أوحى الله جلَّ وعلا إلى محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن الوقت مقترب، فخشوا أن يكون أمراً إلى إسرافيل بنفخه في الصور، وساعة قيام الساعة هو النفخ في الصور النفخة الأولى، وهي النفخة التي يموت فيها كل حي من خلق الله جلَّ وعلا. [الخامسة: أن جبريل يجيئهم بعد ذلك بقوله: قال: كذا وكذا. السادسة: ذكر أن أول من يرفع رأسه جبريل]. جبريل أيضاً يصيبه الصعق، فحينما يسمع أن الله جلَّ وعلا يتكلم بالوحي يُصعق خوفاً من الله جلَّ وعلا، ثم إذا رفع رأسه أوحى الله جلَّ وعلا إليه ما أوحى، وبعد ذلك تسأله الملائكة الأقربون ثم الأقرب فالأقرب، فأول من يسأله ملائكة أهل السماء السابعة. [السابعة: أنه يقول لأهل السماوات كلهم؛ لأنهم يسألونه]. يعني: حينما يمر بهم يسألونه. [الثامنة: أن الغشي يعم أهل السماوات كلهم]. وذلك يدل على أن أهل السماوات كلهم يسمعون الصوت الذي يعرفون أنه كلام الله بالوحي؛ ولكن لا يفقهونه، وإنما يسمعون صوتاً كجر السلسلة على الصفوان، فهم يسمعون صوتاً يعلمون أنه كلام لله جلَّ وعلا؛ ولكن لا يميزونه ولا يعلمون ما هو، فيصيبهم الصعق، ثم بعد ذلك يسأل بعضهم بعضاً عنه.

ارتجاف السماوات بكلام الله

ارتجاف السماوات بكلام الله [التاسعة: ارتجاف السماوات بكلام الله]. يعني: أن السماوات ترتجف، فيصيبها رجفة ورعدة شديدة، وهذا يدلنا على أنه حتى الجمادات تخاف ربها جلَّ وعلا وتخشاه، والسماوات على سعتها وكبرها يصيبها الرعدة أو الرجفة الشديدة، فكيف بالعاقل الذي يخشى أن يعذبه الله جلَّ وعلا إذا لم يلتزم أمره؟ فينبغي أن يكون أشد خوفاً من الشيء الذي لم يعصِ الله مثل الجمادات والسماوات وغيرها، وهذا يدلنا على أنها تحس إحساساً جعله الله جلَّ وعلا فيها على حسب حالها، وإن كنا لا نشعر بهذا الإحساس، وهذا يُنكر؛ لأن هذا شُوهد مثله في الدنيا على الأرض، وقد مضى أن الجذع الذي كان يخطب عليه الرسول صلى الله عليه وسلم -وهو جذع نخلة يابس- حن حينما فقد ذكر الله جلَّ وعلا الذي كان يقال عليه، وكذلك صح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلِّم عليَّ)، حجر كان يسلم على الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول: سلام عليك يا رسول الله، وكذلك صحت الأخبار بأن الطعام كان يسبح وهم يأكلونه، والحصى كان يسبح في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في أصحابه فقال: (بينما راعي في غنمه إذ عدا عليه ذئب فأخذ شاة، فأدركه الراعي وانتزعها منه، فأقعى الذئب على ذنبه وقال: من لها إذا كنتُ أنا الذي أرعاها؟ فقالوا: سبحان الله! ذئب يتكلم! قال صلى الله عليه وسلم: آمنتُ بذلك أنا وأبو بكر وعمر) ولم يكن أبو بكر وعمر يومئذٍ حاضرَين، وفي الصحيحين أيضاً: (أنه صلى الله عليه وسلم ذكر رجلاً كان يسوق بقرة، ثم ركبها، فالتفتت إليه وقالت: لم نخلق لهذا، وإنما خُلقنا للحرث -أي: حرث الأرض- فقالوا: سبحان الله! بقرة تتكلم! قال: آمنت به أنا وأبو بكر وعمر) ولم يكن أبو بكر وعمر حاضرَين في ذلك المجلس. والمقصود: أن الكلام يحصل من البهيم ومن الجماد إذا أراد الله جلَّ وعلا ذلك، وقد قال الله جلَّ وعلا: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]، كل الأشياء تسبح الله جلَّ وعلا، ومن العجب أن الله جلَّ وعلا ذكر في كتابه أن كل شيء يسجد لله، كل شيء من الدواب والجبال والشجر ثم قال: {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} [الحج:18]، فالناس فقط أكثرهم لا يسبحون! قال: {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} [الحج:18] أما بقية المخلوقات فكلها تسبح الله وتسجد له، وإنما الذي يعصي ويأبى ذلك كثير من الناس العقلاء، فهم لا يسبحون الله ولا يسجدون له؛ ولهذا حقت عليهم كلمة الله جلَّ وعلا بالعذاب. [المسألة العاشرة: أن جبريل هو الذي ينتهي بالوحي إلى حيث أمره الله]. جبريل عليه السلام هو الذي يتولى إبلاغ الوحي من الله جلَّ وعلا، فهو أمينه، وقد ذكر الله جلَّ وعلا ذلك في عدة آيات من كتابه.

استراق الشياطين للسمع

استراق الشياطين للسمع [الحادية عشرة: ذكر استراق الشياطين]. الشياطين عندما يسترقون السمع لا يصلون إلى السماء كما قد يتصوره من يتصوره، وإنما المراد بكونهم يسترقون السمع من السماء: مجرد العلو؛ لأن كل ما فوق الإنسان فهو سماء، حتى السقف يسمى سماءً، وكل ما فوق رأسك يسمى سماءً، وقد قال الله جلَّ وعلا: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ} [الحج:15] والمعنى: من كان يظن أن الله لا ينصر رسوله فليعجل بقتل نفسه، فليجعل حبلاً في السقف، ثم ليضع هذا الحبل في عنقه، ثم ليقطع حتى يعجل بالموت على نفسه، فإن الله ناصر عبده ولابد. فالمقصود أنه سمى سقف البيت سماءً فقال: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} [الحج:15] يعني: إلى سقف البيت، فكل ما فوق رأس الإنسان سماء. [المسألة الثانية عشرة: سبب ركوب بعضهم بعضاً]. يعني: أن الشياطين يركب بعضهم بعضاً حتى يصلوا إلى قرب أدنى مكان يكون فيه الملائكة، وهم يكونون في العنان -يعني: في السحاب- يدبرون أمر الله جلَّ وعلا الذي أمرهم به، وهي الأمور التي يوحيها الله جلَّ وعلا إلى جبريل فيبلغهم إياها، فإذا كانوا في العنان يتكلم بعضهم مع بعض في الأمر الذي أمروا به، فإذا تكلموا استمع ذلك الشيطان الذي يسترق السمع، فأمسك كلمة إما أن تكون بإنزال مطر أو هبوب ريح أو حياة أحد أو موته أو ما أشبه ذلك من الأمور التي يأمر الله جلَّ وعلا بها، وينفذها رسله من الملائكة، فإذا سمعوا هذه الكلمة أسرعوا بها، فيلقيها الأعلى إلى الذي تحته، ثم الذي تحته يلقيها إلى من تحته، وكل ذلك خوفاً من أن يصيبهم الشهاب قبل أن يتمكنوا من إيصالها إلى وليهم من الإنس، وهو الكاهن أو الساحر، وهذا يدلنا على شدة حرصهم على إضلال بني آدم، ويرتكبون المخاطر في ذلك؛ لأنهم يعرفون أن الشهاب يرسل عليهم، فيقتل من يقتل منهم، وأحياناً يذهب عقله، فيصبح لا عقل له، وأحياناً يحرق جزءاً منه.

إرسال الشهب على مسترقي السمع

إرسال الشهب على مسترقي السمع [الثالثة عشرة: إرسال الشهاب]. إرسال الشهب كان منذ أن خلق الله جلَّ وعلا السماوات، وقد ذكر الله جلَّ وعلا أنه خلق النجوم لثلاث حكم نص عليها جلَّ وعلا في كتابه: الحكمة الأولى: أنها زينة للسماء، فإن الذي ينظر إلى السماء يرى زينة السماء بالكواكب كأنها قناديل معلقة في السماء، فالسماء تتزين بها، وهذا من الأدلة على قدرة الله جلَّ وعلا، وعلى أنه هو المقدر الخالق لكل شيء؛ ولهذا يقسم بها جلَّ وعلا لأنها دليل عليه. الحكمة الثانية: أنها علامات يُهتدى بها في ظلمات البر والبحر، كما قال الله جلَّ وعلا: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:16]. الحكمة الثالثة: إرصاداً للشياطين الذين يسترقون السمع فيُرجمون بها، فجعلها رجوماً لهم، والرجم يكون من النجوم التي ليست علامات ظاهرة مرئية تُرى وتُعرف، فالنجوم كثيرة جداً، وقد يكون الرجم بأجزاء منها، وقد يكون من غيرها. [الرابعة عشرة: أنه تارةً يدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وتارةً يلقيها في أذن وليه من الإنس قبل أن يدركه. الخامسة عشرة: كون الكاهن يصدُق بعض الأحيان]. وصدقه بعض الأحيان هو لهذا السبب، والمراد بالصدق: ما يخبر به عن الأمور المستقبلة، فقد يخبر بشيء مستقبل أو أمور غائبة فيصدق في ذلك، والسبب في هذا: الكلمة التي تسمع من الملائكة؛ ولكنهم يكذبون مع هذه الكلمة، ويضع مائة كذبة مع هذه الكلمة التي يصدق بها، والعجيب أنهم يُصَدَّقون في كذبهم بسبب هذه الكلمة، فإذا قيل: هذا ليس صحيحاً، قالوا: ألم يخبرنا بكذا وكذا وصار كما أخبر؟! فيكون ذلك فتنة لهم. والكذب هذا يُحتمل أن يكون من الكهنة ويُحتمل أن يكون من الشيطان، وكلاهما يكذب، فالشيطان يكذب على الكاهن، والكاهن يكذب على من يخبرهم.

كذب الكهنة

كذب الكهنة [السادسة عشرة: كونه يكذب معها مائة كذبة. السابعة عشرة: أنه لم يُصدَّق كذبه إلَّا بتلك الكلمة التي سُمعت من السماء]. وهذا يدل على أن الباطل لو كان خالصاً ليس فيه شيء من الحق لما قُبِل، ولكن يقبل الباطل بسبب أنه يُخلط معه حق، فيلتبس على الناس، فيقبلون الباطل لهذا السبب، فالكاهن لو كان دائماً يكذب ولا يصدق لما قبل منه أحد، ولا ذهب إليه أحد، وإنما يذهب الناس إليه لأنه قد يصدُق. [الثامنة عشرة: قبول النفوس للباطل، كيف يتعلقون بواحدة ولا يعتبرون بمائة؟]. يعني: النفوس قد تميل إلى الباطل، بل هي جُبلت على ذلك، فتميل إلى ما يلائمها، وهي بطَّالة، ولا تترك البطالة إلَّا بتهذيبها وتأديبها بأدب الوحي، أما إذا خلت من ذلك فهي تميل إلى الباطل وتحبه وتريده؛ ولهذا لا هداية ولا نور وحق إلَّا باتباع الحق الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم. [التاسعة عشرة: كونهم يتلقى بعضهم من بعض تلك الكلمة، فيحفظونها ويستدلون بها].

إثبات الصفات خلافا للأشعرية

إثبات الصفات خلافاً للأشعرية [العشرون: إثبات الصفات خلافاً للأشعرية المعطلة]. في هذا الباب من الصفات أن الله جلَّ وعلا في السماء، وأنه يتكلم، فهاتان الصفتان ظاهرتان من هذه الآية، كونه جلَّ وعلا هو العلي الكبير، وكونه يتكلم بكلام يُسمع؛ ولهذا تقول الملائكة: ماذا قال ربنا؟ والذين ذكرهم من الأشاعرة وغيرهم لا يؤمنون بأن الله يقول قولاً يُسمع، وإنما يقولون: إن كلام الله هو معنىً قائم بذاته والقرآن والتوراة والإنجيل وغيرها من الكتب التي أنزلت على الرسل هي عبارة عن كلام الله، يقولون: عبارة! ومن الذي عبَّر عن كلام الله؟! هذا شيء عجيب! يقولون: إن الله جلَّ وعلا علم بما في نفسه جبريل أو غيره، فأخذ ما في نفسه من المعنى وعبَّر عنه، فيقولون: إن الله جلَّ وعلا جعل في جبريل أو خلق في جبريل الشيء الذي أراد أن يعبر عنه، أراد من جبريل أن يعبِّر عنه فعبَّر عنه، وكل هذا فراراً منهم -زعموا- من التشبيه، فالواقع أنهم وقعوا في التعطيل وفي التشبيه، والذي دعاهم إلى التعطيل هو التشبيه أولاً، وهذا -في الواقع- إنكار للرسالة، وإنكار لكون الله جلَّ وعلا هو الكامل؛ لأن الذي يتكلم أكمل ممن لا يتكلم، وكثيراً ما يعيب الله جلَّ وعلا عبدة الأصنام بأنهم يعبدون من لا يسمع ولا يبصر، ولا يفهم منهم القول ولا يرده، وهذا عيب في المعبود؛ لكونه لا يسمع الكلام ولا يتكلم، ومن المعلوم أنه لو قدر أن مخلوقين من الناس أحدهما يتكلم ويستطيع أن يبين عما في نفسه بالكلام الفصيح والآخر ما يستطيع، فعند كل العقلاء أن المتكلم أكمل ممن لا يتكلم، ثم كيف يكون الإنسان متكلماً بليغاً فصيحاً؟! من الذي خلق هذا؟! من الذي خلق فيه الكلام والمقدرة على البيان؟! فهل الذي خلق فينا الكلام يكون عادماً لصفة الكلام؟! تعالى الله وتقدس. المقصود: أن الذي دعاهم إلى هذا هو كونهم تركوا كتاب الله جلَّ وعلا، ولم يؤمنوا الإيمان الواجب به وبما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وتعلقوا بما يزعمون أنها براهين عقلية، وهي -في الواقع- وساوس وشكوك ليس إلَّا، ليست براهين، والله جلَّ وعلا يقول: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة:13]، كيف نقول: لا؟! يقول لنا ربنا هذا ونقول: لا؟! تعالى الله وتقدس، ويقول جلَّ وعلا: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] وهو يسمع كلام الله ممن يبلغه من الرسول أو من غيره، ويقول جلَّ وعلا لما ذكر أنه فضل بعض النبيين على بعض: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمَاً} [النساء:164]، ومن المعروف في لغة العرب أن الكلام إذا أُكد بمصدر فإنه لا يحتمل إلَّا النص الذي نص عليه، ولا يحتمل تأويلاً، فهنا يقول: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمَاً} [النساء:164]، والرسول صلى الله عليه وسلم لما كان في مكة كان يعرض نفسه على القبائل ويقول: (مَن يؤويني حتى أبلغ كلام ربي؟! فإن قريشاً منعتني أن أبلغ كلام ربي) وليس هناك أحد من الكفرة قال: إن الله لا يتكلم، فكيف هؤلاء الذين يأتون فيما بعد ويتركون كتاب الله جلَّ وعلا ويقول أحدهم: إن الله لا يتكلم؟! أخذوا بترهات وشكوك ودعاوى باطلة تخالف نصوص الكتاب والسنة.

سبب ضلال الأشاعرة

سبب ضلال الأشاعرة السبب في ضلال الأشاعرة أنه ارتسم في قلوبهم وفي نفوسهم التشبيه، فقالوا: نحن لا نعرف كلاماً إلَّا بلسان وشفتين وبلهاة وبحنجرة وبحبال صوتية وما أشبه ذلك، فإذا أثبتنا الكلام لزم أن نثبت ذلك لله جلَّ وعلا فيكون هذا تشبيهاً، تعالى الله عن قولهم! فمعنى ذلك أنهم تخيلوا أن كلام الله مثل كلام المخلوق الذي يعرفونه من أنفسهم، فنفوا ذلك بعد هذا التخيل، وهذا باطل مركب، باطل على باطل، فلهذا قال الأشاعرة: إن الكلام ينقسم إلى قسمين: الأول: كلام لفظي مسموع، وهذا مخلوق. الثاني: كلام نفسي، وهو عبارة عن معنىً واحد يقوم بنفس الله جلَّ وعلا، وهذا هو الذي يثبتونه لله، يعني: معنىً يقوم بنفس الله جلَّ وعلا، وليس هناك شيء يُسمع أو يُتلى، فعلى هذا يكون القرآن الذي يحفظه المسلمون، وكل واحد يرجو من ربه إذا تلا حرفاً منه أن يعطيه بالحرف الواحد عشر حسنات كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ليس كلام الله، وإنما هو كلام البشر سواءً كان كلام جبريل أو كلام محمد صلوات الله وسلامه عليه، ويستدلون بأشياء من المتشابه كقوله جلَّ وعلا: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير:19 - 20]، وفي الآية الأخرى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلَاً مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلَاً مَا تَذَكَّرُونَ} [الحاقة:40 - 42] والمعنى: إنه قول هذا الرسول يبلغه، فالرسول يبلغ الرسالة، لا أن يأتي بالقول من عند نفسه، وإنما يبلغ رسالة أتى بها؛ ولهذا قال: {لَقَوْلُ رَسُولٍ} والرسول يأتي بالرسالة التي أرسل بها، والكلام يضاف ويُنسب إلى من قاله مبتدئاً لا إلى من قاله مبلغاً مؤدياً، وإنما هو لمن قاله أولاً مبتدئاً، ثم إذا كان كذلك فأين تحدي الله جلَّ وعلا للخلق؟! وقوله جلَّ وعلا في آيات عدة: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:23]، وقوله جلَّ وعلا متحدياً الجن والإنس: {قل لو اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرَاً} [الإسراء:88]، فهل ربنا جلَّ وعلا يتحدى الإنس والجن على أن يأتوا بشيء في نفسه؟! هذا لا يمكن أن يقال، ولا يمكن لعاقل أن يصدق به، ثم إن الله جلَّ وعلا لا يجوز أن نتخيل صفاته كصفات المخلوق، وأنه يلزم من كونه يتكلم هذه اللوازم التي ذكروها، وقد أخبرنا الله جلَّ وعلا أن الجلود تتكلم، والأسماع تتكلم، والأبصار تتكلم، فهل يلزم أن يكون للجلد لسان وشفتان ولهاة وحنجرة إلخ؟! لا يلزم، فالله قادر على كل شيء، قادر على أن ينطقها بلا هذه الأشياء، والله جلَّ وعلا ليس له مثيل لا في ذاته ولا في صفاته، ومن المعلوم أن الصفات تتبع الذات، هذا بالنسبة للكلام، فمذهبهم باطل، والواقع أن الذي ينكر كلام الله يلزمه أن ينكر رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسالة لا بد أن تكون بالكلام، لا بد أن يتكلم المرسل بالأمر والنهي، فيلزم على هذا إنكار الشرع كله.

إنكار الأشاعرة لعلو الله على خلقه

إنكار الأشاعرة لعلو الله على خلقه مسألة علو الله جلَّ وعلا لا يقر بها الأشاعرة ولا يقولون بها، بل من قال بها رموه بالتشبيه، والسبب في هذا شبهات تنطلي على كثير منهم، أوجدها المتكلمون الذين اعتاضوا عن كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم بمحاكاة الأفكار التي نحتوها من زبالة الأذهان، وهي زبالات في الواقع؛ لأن الإنسان قاصر، وعقله محدود، ولا يستطيع أن يحكم على الله جلَّ وعلا، والله غيب ما أحد شاهده ونظر إليه حتى يستطيع أن يصفه، وهو لا مثل له ولا ند له ولا سمي له تعالى وتقدس، فلا يجوز أن يقاس على غيره من المخلوقات، فعلى هذا لا بد أن تُتَلقى صفاته من الوحي الذي قاله جلَّ وعلا، وأرسل به رسله، حتى لا يكون الإنسان ضالاً، مع أن الله جلَّ وعلا فطر خلقه كلهم على أنه في العلو، ولا يمكن لعاقل بل ولا غير عاقل أن يسأل ربه ويبتهل إليه إلَّا ويجد في نفسه دافعاً يدفعه إلى أنه يطلب ربه من فوق في السماء، وكل أحد يمد يديه إلى السماء ويقول: يا رب يا رب، وليس هناك أحد من الخلق ينكس يديه إلى الأرض ويسأل ربه من تحت، أو يلتفت يميناً أو شمالاً أو خلفه يبحث عن ربه تعالى الله وتقدس، فالله فطر الناس على هذا، وهذا هو الحق، فالله عالٍ على عرشه، وليس فوقه شيء، ولا يمكن أن يكون فوقه شيء تعالى الله وتقدس، أما الترهات والشبهات والأمور التي يقولونها فلا يجوز الالتفات إليها مع قول الله جلَّ وعلا وقول رسوله صلى الله عليه وسلم والفطرة التي فطر الله جلَّ وعلا عليها خلقه، كقولهم مثلاً: (كان الله ولا مكان، وهو الآن على ما كان عليه قبل خلق المكان)، فالله سبق الأمكنة كلها، (كان ولا مكان وهو الآن على ما كان عليه قبل خلق المكان) وهم لا يدرون أين هو الآن! بل يقولون: هو في كل مكان، تعالى الله وتقدس، يعني: حتى في الأماكن التي يُرغب عن ذكرها، تعالى الله وتقدس! ولهذا لما كان أحدهم يجادل أحد العلماء وقال: إنه ليس على العرش، إنه في كل مكان، فقال: أتُراه في جوفك؟ فبُهت. فتعالى الله وتقدس عن أن يكون في جوف الإنسان! فالواجب أن يؤمن العبد بما قاله الله وقاله رسوله، والصفات تبع لهاتين الصفتين: - العلو. - والكلام. وهذا في الواقع الأدلة عليه أكثر من أن تحصى، سواء إثبات الكلام أو إثبات العلو، وقد حاول بعض العلماء أن يحصروا الأدلة فذكروا أكثر من ألف دليل على علو الله؛ ولكن الأدلة أكثر من ذلك، فهم ذكروا بعض الأدلة التي يدخل تحت النوع منها أفراد كثيرة كثيرة. وليس المسلمون بحاجة إلى الشبه؛ لأنهم يؤمنون بكتاب الله تعالى وبقول رسوله صلى الله عليه وسلم، وبما فطرهم الله جلَّ وعلا عليه، فليسوا بحاجة إلى ذكر مثل هذه الشبه، وإنما يخشى على الإنسان أن يقع نظره على كتاب من كتب هؤلاء فيحصل عنده شيء من الشبه. [المسألة الحادية والعشرون: أن تلك الرجفة والغشي خوفاً من الله عزَّ وجلَّ الثانية والعشرون: أنهم يخرون لله سجداً].

شرح فتح المجيد [54]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [54] الشفاعة ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع، وهي لله جل وعلا وحده، وليست ملكاً لأحد من خلقه، ولا حتى للرسول صلوات الله وسلامه عليه، وإنما الله جل وعلا إذا أراد أن يرحم عبده أذن للشافع أن يشفع إكراماً له، ورحمة لذلك المشفوع.

الشفاعة

الشفاعة قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الشفاعة]. الشفاعة مأخوذة من الشفع، والشفع مقابل الوتر، كما قال الله جلَّ وعلا: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر:3]، فالشفع: ما كان منضماً إلى الفرد سواءً كان اثنين أو أربعة أو ستة أو ثمانية أو عشرة، هذه تسمى شفعاً. أما الفرد فهو ما كان منفرداً، وليس المقصود بالشفاعة هنا الشفع الحسابي، وإنما المقصود ضم شيء إلى شيء، سواءً كان شفعاً حسابياً أو فرداً حسابياً، يعني: سواءً كان اثنين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو ستة أو سبعة؛ لأن الشفع الحسابي: اثنان وأربعة وستة وثمانية، والفرد الحسابي: واحد وثلاثة وخمسة وسبعة وهكذا، فالمقصود أن الشفاعة مأخوذة من الشفع، وهو ضم دعوة الشافع إلى دعوة المشفوع له، هذا تعريفها الذي أخذت منه، أن يضم الشافع دعوته إلى المشفوع له، فالأصل أن المشفوع له يطلب الحاجة، فيذهب ويطلب من الشافع أن يساعده، فيضم الشافع دعوته إلى دعوة المشفوع له، فبعدما كان فرداً يصبح شفعاً، وهذا لا ينافي أن يكون الشافع اثنين أو ثلاثة أو أكثر.

الشفاعة المثبتة والشفاعة المنفية

الشفاعة المثبتة والشفاعة المنفية الشفاعة في كتاب الله جاءت مثبتة ومنفية، فالمثبتة هي: التي تكون بإذن الله جلَّ وعلا وبرضاه، كما قال جلَّ وعلا: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28]. أما المنفية فهي: ما يزعمه الكفار والمشركون من أن أصنامهم ومعبوداتهم تشفع لهم ولو لم يأذن الله جلَّ وعلا، فهذه نُفيت في كتاب الله. إذاً: الشفاعة اثنتان: مثبتة، ومنفية، الأولى حق ثابتة، والأخرى باطلة وغير واقعة، وهي كل ما زُعم أنه يقع بغير رضاه، أما الواقعة الثابتة فهي ما تكون بعد إذن الرب جلَّ وعلا، ولمن يرضى عنه. وأصل الشرك من قديم الزمان وحديثه هو بطلب الشفاعة، وتعلق الناس بأذيالها، حيث قاسوا رب العالمين على ما يعهدونه فيما بينهم، فإذا كان هناك رئيس أو ملك فلا يستطيع كل إنسان أن يصل إليه، ولو قدر أن يصل إليه وله طلب يطلبه منه، فقد لا يحصل له ولا يتهيأ له، بخلاف ما إذا طلب من وزيره أو قريبه المقرب عنده أن يشفع له، فإن الغالب أنه يدرك ذلك، ومن هنا اتخذت الشفاعة، وطلبوا الشافعين من الأصنام والأشجار والأموات والملائكة وغيرهم، وإن كان الإنسان غير ملتزم بأمر الله، بل تاركاً أمر الله جانباً، ومرتكباً كل ما نهى الله عنه، ومع ذلك يزعمون أنه يشفع لهم قياساً على ما يشاهدوه في الدنيا، وهذا هو سبب وقوع الخلق في الشرك كما قال الله جلَّ وعلا عن المشركين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] يعني: يتخذون الأصنام من دون الله أنداداً ويقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] يعني: يشفعوا لنا، وكما قال الله جلَّ وعلا: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ} [الزمر:43] (من دون الله)، يعني: بغير إذنه وبغير رضاه، هذا معنى (من دون الله) وكل ما جاء في القرآن في ذكر الشفاعة من دون الله فالمقصود أنها تقع بلا إذنه وبلا رضاه، وهذا لا يمكن، قال: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئَاً وَلا يَعْقِلُونَ} [الزمر:43] يعني: كيف تتخذونهم وتطلبون منهم الشفاعة وهم لا يملكون شيئاً؟! و (شيئاً) نكرة تدخل فيها الشفاعة وغيرها، فكيف يُطلب من الإنسان شيئاً لا يملكه؟! كيف يُطلب من المطلوب منه الشيء الذي لا يملكه؟! هذا ضلال -في الواقع- وخسارة، ثم قال: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعَاً لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر:44]، فالشفاعة التي أبطلها جلَّ وعلا هي هذه، وهي كثيرة، فهم -في الواقع- اتخذوا أصناماً على صورة الصالحين، أو على صورة الملائكة، أو على صور ما يتخيلونه من أنه مقدس ومعبود وأنه يقرب إلى الله، اتخذوا هذه فصاروا يدعونها ويتقربون بالجلوس عندها، ومسحها والطواف عليها، والتوجه إليها بالدعوة وغيرها، ويزعمون أنها ستشفع لهم في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فشفاعتها بأن يحصل لهم المطلوب من الغيث أو الرزق أو صحة البدن أو ذهاب المرض أو ما أشبه ذلك من مطالبهم التي يزعمون أنها تحصل لهم إذا سألوها من الميت أو ممن يكون معبوداً لهم، وكل ذلك يزعمون أنه بواسطة الشفاعة؛ لأنه مقرب عند الله، وهو يسأل ربه، وهذا السؤال هو الشفاعة، فيتوسط لهم ويسأل الله، والواقع أن هذا شرك وتنقُّص لرب العالمين جلَّ وعلا، وهو ناتج من سوء الظن بالله جلَّ وعلا؛ لأن الذي يطلب الشفاعة من دون الله إما أنه يتصور أن الله لا يسمع، وإنما سيسمع بواسطة هذا المدعو إذا دعاه وطلب منه، أو يتصور أنه لا يرحم عبده إلَّا أن يجعله ذلك الشافع عاطفاً على هذا الطالب فيرحمه، أو يتصور أنه لا يعلم حاجات الناس والخلق إلَّا أن يعلم بها مثلما يكون للملوك وغيرهم، فإنهم لا بد أن يُبلَّغوا بشئون الناس؛ لأنهم لا يعرفونها. وكل هذه ظنون فاسدة؛ وكلها مما يدعو إلى الشرك وتنقُّص الله جلَّ وعلا. فالمقصود أن الشفاعة على نوعين: نوع شركي، وهو الذي وقع فيه المشركون. ونوع حق، قد أثبته الله جلَّ وعلا في كتابه، وأثبته رسوله صلى الله عليه وسلم، وأخبر أنه سيقع. والمؤلف ذكر الشفاعة في هذا الكتاب ليبين الحق في ذلك؛ لأن المسلم يجب أن يميز بين الحق والباطل، فيكون عنده فرقان في ذلك، فيتبع الحق خوفاً من أن يقع في شيء من الباطل فيضل.

تفسير قوله تعالى: (وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم)

تفسير قوله تعالى: (وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ) قال الشارح: [قوله: باب الشفاعة أي: بيان ما أثبته القرآن منها وما نفى وحقيقة ما دل القرآن على إثباته. قال المصنف رحمه الله تعالى: وقول الله عزَّ وجلَّ: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأنعام:51]]. يقول الله جلَّ وعلا: (وَأَنذِرْ بِهِ) يعني: بالقرآن، فالضمير يعود على القرآن، والإنذار هو الإعلام عن أمرٍ مَخُوْفٍ يُتوَقَّع وصولُه إلى الإنسان، {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا} [الأنعام:51] فهؤلاء هم الذين ينتفعون بالنذارة، الذين يخافون ربهم ويعلمون أنهم يُحشرون إلى الله، والحشر هو: الجمع بعد التفرق، والمقصود بـ (الحشر): أنهم يُخرجَون من قبورهم بعد موتهم فيُجمعون في صعيد واحد يقومون فيه لرب العالمين، {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6]، وهو يوم القيامة، وهذا اليوم هو الذي أخبر الله جلَّ وعلا أنه يوم عبوس قمطرير، وشره مستطير، وأنه يوم ثقيل على الخلق، فالله جلَّ وعلا يأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن ينذر أهل الخوف والإيمان والقرآن هذا اليوم فقال: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} [الأنعام:51] أي: يخافون أن يُجمعوا للحساب والمجازاة ثم إسكانهم دورهم الأبدية، وليس هناك إلَّا الجنة أو النار فقط، فبعد هذا الموقف ينصرفون إلى مساكنهم، فريق ينصرف إلى جهنم وفريق ينصرف إلى الجنة. {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [الأنعام:51] هذا في الذين يخافون ربهم، ليس لهم من دون الله ولي ولا شفيع، هؤلاء مؤمنون فكيف المشركون والكافرون؟ والولي المقصود به من يتولى الشخص، ويقوم بشئونه أو يحميه من المخوف أو يدفع عنه بعض الضرر، فيوم القيامة ليس هناك أحد من هذا النوع، لا يوجد ولي يتولى شئونك، ولا يوجد من يدافع عنك، ولا من يجلب لك منفعة أو يدفع عنك مضرة وإن قلَّت، كل واحد يأتي إلى ربه في ذلك الموقف فرداً كيوم ولدته أمه، لا لباس ولا شراب ولا طعام ولا نعال، ولا شيء كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (تُحشرون حفاةً عراةً غُرلاً، فقيل: وما غُرلاً؟ قال: غير مختونين) وفي رواية: (بُهماً، فقيل: وما بُهماً؟ قال: ليس معهم شيء) وعائشة رضي الله عنها قالت للرسول صلى الله عليه وسلم: واسوأتاه! يحشر الرجال والنساء بعضهم ينظر إلى بعض؟! -ليس هناك لباس أصلاً- فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (يا عائشة! الأمر أعظم من ذلكِ) يعني: ما أحد يهمه النظر، ولا أحد ينظر إلى أحد، كل واحد شاخصٌ بصره، تكاد تبلغ القلوب الحناجر من الخوف، ولا يدري من بجواره. فالمقصود: أن الله جلَّ وعلا خوف المؤمنين هذا اليوم، وليس لأحد منهم من دون الله ولي ولا شفيع، وإذا كان المؤمن ليس له شفيع من دون الله، فكيف بالكافرين؟! وليس معنى هذا أن الشفاعة منفية، ولكن الشفاعة تكون بعد إذن الله، وحقيقة الأمر أن الشفاعة لله، وليست ملكاً لأحد، لا للرسول صلى الله عليه وسلم ولا لغيره، وإنما الله جلَّ وعلا إذا أراد أن يرحم عبده أذن للشافع أن يشفع إكراماً له، ورحمةً لذلك المشفوع، هذه هي حقيقة الشفاعة، فحقيقتها أن الله جلَّ وعلا إذا أراد رحمة المشفوع أذن للشافع أن يشفع إظهاراً لكرامته فقط، وإلَّا فالأمر كله بيد الله. فمعنى هذه الآية: أن الشفاعة لا يملكها أحد، وإنما هي بيد الله جلَّ وعلا، فالمؤمنون الأتقياء لا يملكون الشفاعة دون الله لا لهم ولا لغيرهم، وليس لهم من دون الله ولي ولا شفيع. وقوله: (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) يعني: يستشعرون هذا في قلوبهم، ويعلمونه ويوقنون به، فيكون باعثاً لهم على تقوى الله، والتقوى حقيقتها: فعل المأمور واجتناب المحظور، هذا حقيقة التقوى، وقد قال الله جلَّ وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] قال ابن مسعود: أن يُطاع فلا يُعصَى، وأن يُشكَر فلا يُكفَر. يُطاع بلا معصية، وأن يُشكَر على نعمه ولا يُكفَر؛ ولكن جاءت الآية الأخرى تبين المعنى أيضاً وهي قوله جلَّ وعلا: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] فهذه الآية تبين أن التقوى المطلوبة هي حسب الاستطاعة، والله لا يكلف نفساً إلَّا وسعها، لا يكلف الإنسانَ شيئاً لا يستطيعه فلله الحمد والمنة، تعالى وتقدس. فالمقصود: أن هذه الآية تبين أن المؤمنين الأتقياء الخائفين ينتفعون بالنذارة بالقرآن، وأنه ليس لهم من دون الله ولي ولا شفيع، فكيف بمن يطلب الشفاعة من الأموات أو من الأحياء أو من الشجر أو من غيرها؟! كيف تكون له شفيعاً؟! ليس لهم في طلبهم هذا إلَّا الإبعاد، فطلبهم هذا يبعدهم عن الله جلَّ وعلا، ويكون سبباً لتعذيبهم؛ لأنه شرك. وكونه في هذه الآية وجه النذارة بالقرآن إلى من يخشى الله دليل على أن النذارة الحقيقية هي التي يُنتفع بها، وإلَّا فالرسول صلى الله عليه وسلم منذر للجميع، لكل أحد، لكل الثقلين من الجن والإنس المؤمنين والكفار؛ ولكن هذه نذارة خاصة، فهي أخص من النذارة العامة، فهو نذير للعالمين، والعالَمون هم العقلاء من الجن والإنس، فهو نذير لهم، يعني: أنه ينذرهم عذاب الله جلَّ وعلا إن لم يؤمنوا.

أقوال السلف في تفسير الآية

أقوال السلف في تفسير الآية قال الشارح: [قوله: وقوله الله عزَّ وجلَّ: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [الأنعام:51] الإنذار هو: الإعلام بأسباب المخافة والتحذير منها. قوله: (بِهِ) قال ابن عباس: بالقرآن. وعن الفضيل بن عياض: ليس كل خلقه هكذا، إنما عاتب الذين يعقلون فقال: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} [الأنعام:51] وهم المؤمنون أصحاب القلوب الواعية. قوله: {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [الأنعام:51] قال الزجاج: موضع (ليس) نُصب على الحال كأنه قال: متخلين من كل ولي وشفيع، والعامل فيه: (يخافون)]. يعني: أنه ليس لهم في ذلك اليوم ولي ولا شفيع؛ ولكن هذا معناه أنهم في ذلك اليوم وفي غيره في جميع أحوالهم متخلون عن كل شيء مما يزعمه الكفار والمشركون، فهم لا يتولون إلَّا الله جلَّ وعلا، ولا يطلبون الشفاعة إلَّا من الله، فإذا طلبوها طلبوها من الله، فيقولون: اللهم شفِّع فينا الشفعاء، اللهم ارزقنا شفاعة الشفعاء، اللهم أدخلنا في شفاعة سيد الخلق، وهكذا، يطلبونها من الله ولا يطلبونها من أحد من الخلق، وهذا هو الطلب الصحيح، فمن طلبها على هذا الوجه يوشك أن يدركه، وأن يُعطاها، أما إذا طلبها من المخلوق فيكون طلبه من المخلوق سبباً في منعه إياها؛ لأنه حق لله جُعل للمخلوق، فصار شركاً بالله جلَّ وعلا. [قوله: (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي: فيعملون في هذه الدار عملاً ينجيهم الله به من عذاب يوم القيامة]. وهذا يدلنا على أن (لعل) للترجي، والله جلَّ وعلا لا يخفى عليه شيء تعالى وتقدس، فهو علام الغيوب، وإنما هذا على وفق ما في لغة العرب.

تفسير قوله تعالى: (قل لله الشفاعة جميعا)

تفسير قوله تعالى: (قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًَا) قال المصنف رحمه الله: [وقوله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعَاً} [الزمر:44]]. قبل هذه الآية قوله جلَّ وعلا: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئَاً وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعَاً لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر:43 - 44]. قوله: (أَمِ اتَّخَذُوا) يقول المفسرون: إذا جاءت (أم) فمعناها: (بل) يعني: (بل اتخذوا من دون الله شفعاء) واتخاذهم الشفعاء أنهم يزعمون أنها تشفع لهم ولو لم يأذن الله جلَّ وعلا، ولو لم يرضَ عن المشفوع له، هكذا زعموا؛ ولهذا صار ذلك شركاً حيث إنه -على حد زعمهم- يقع شيء لا يأذن الله جلَّ وعلا به ولا يريده، ثم إن الشفاعة التي اتخذوها جعلوا الشفيع الذي زعموه بمنزلة الله جلَّ وعلا بحيث إنه يُدعى ويُسأل الشفاعة، يقال له: اشفع لنا عند الله، فالشفاعة هي الدعاء والطلب، والدعاء والطلب يجب أن يكون ممن يملك الشفاعة، وكل مَن دون الله جلَّ وعلا لا يملك شيئاً من ذلك، فالشفاعة لله جميعاً يعني: لا أحد من الخلق يملك شيئاً من الشفاعة. {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ} [الزمر:43] يعني: أنهم قد وقعوا في هذا، وهذا أمر باطل قد حرمه الله جلَّ وعلا، وجعله سبباً لمنع الشفاعة، فالمتخذون للشفاعة -في الواقع- عملوا عملاً يمنعهم من الشفاعة، وهو أنهم يطلبون الشفاعة من غير الله جلَّ وعلا، والمفروض أن الذي يُطلب منه نفع يكون مالكاً لذلك النفع أو الذي يُطلب منه دفع ضرر يكون قادراً ومستطيعاً لدفع ذلك الضرر، والله جلَّ وعلا يقول: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئَاً} [الزمر:43] و (شيئاً) هنا: نكرة، يعني: ليس بأيديهم أي نفع يملكونه ويعطونه هذا السائل، ثم زاد على ذلك وصفهم بأنهم لا يعقلون؛ لأنهم إما جماد أو أموات أو جن غائبون لا يعرفون شيئاً من ذلك أو أنهم شجر أو غير ذلك. (ولا يعقلون) بمعنى: لا يعلمون شيئاً مما في نفوس الناس من حاجاتهم؛ لأن هذا إلى الله جلَّ وعلا، ثم بعد هذا يقول جلَّ وعلا: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعَاً} [الزمر:44] فليس لأحد من دون الله شفاعة، وهذا يبين أن الشفاعة لا يجوز طلبها إلَّا من الله جلَّ وعلا، وهذا لا ينافي كون الحي الحاضر الذي يُرجى قبول دعوته يُطلب منه الدعاء، فإن هذا شفاعة، والصحابة رضوان الله عليهم كانوا يفعلون ذلك في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، كانوا يطلبون منه أن يدعو لهم، وأن يشفع لهم كما هو معروف، فهذا لا ينافي هذا؛ لأن الداعي يدعو الله، والذي يرجى قبول دعوته يسأل الشيء الذي يملكه وهو الدعاء فقط، فيسأله الدعاء والطلب من الله، ولا يسأله أن يشفع له الشفاعة التي يعتقد المشركون أنها تقع ولو لم يأذن الله، ولو لم يرضَ عن المشفوع له، وإنما يسأله الدعاء؛ لأنه يرجو أن تُستجاب دعوته، ومن هذا القبيل ما شرعه الله جلَّ وعلا للمسلمين بأن يدعوا للميت في الصلاة عليه، فإنها شفاعة يشفعون له إلى الله جلَّ وعلا ليغفر ذنبه ويتجاوز عن سيئاته وإلخ، فهذه شفاعة قد تُقبل وقد لا تُقبل، فالأمر كله لله جلَّ وعلا، وإذا طُلبت الشفاعة من الله يكون هذا من الأسباب التي يرحم الله جلَّ وعلا بها مَن سُئلت له. إذاً: حقيقة الشفاعة أنها بيد الله جلَّ وعلا إذا شاء أن يرحم عبده جعل له سبباً من الأسباب مثل: دعوة المؤمنين له، أو دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم له؛ ولكن الله جلَّ وعلا أخبرنا أن الشفاعة لا تنفع إلَّا لمن رضي قوله، والرسول صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة وضح هذا وبينه بحيث إنه لم يترك الأمر فيه التباس أو اشتباه، ففي الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لكل نبي دعوة تَعَجَّلها -يعني: دعا بها على قومه- وقد اختبأت دعوتي شفاعةً لأمتي، فهي نائلة إن شاء الله كل من مات لا يشرك بالله شيئاً) فأخبر بأن شفاعته تكون لأهل التوحيد الذين لا يشركون بالله شيئاً، أما الذي يسأل الشفاعة من الميت سواءً كان نبياً أو ولياً على حد زعمه أو ملكاً من الملائكة أو شيئاً لا يعقل، فإنه -في الواقع- أشرك بالله، فصار قد جاء بسبب يمنعه من قبول الشفاعة؛ لأنه وقع في الشرك، وهذا هو الذي دلت عليه الآيات ودل عليه قوله في هذه الآية: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئَاً وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعَاً} [الزمر:43 - 44] فالشفاعة مُلك لله، ولا يأذن جلَّ وعلا للشافع أن يشفع إلَّا إذا شفع لمن رضي الله جلَّ وعلا عنه، {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28]، {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:23] فالإذن شرط في الشفاعة، والرضا عن المشفوع له شرط آخر، ويبقى شرط ثالث وهو: أن يكون المشفوع له متبعاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يتديَّن ولا يتعبَّد بشرع يخترعه من عنده ويبتدعه، فالشفاعة من التوحيد، وهي تدل على أن الأمر كله بيد الله جلَّ وعلا، وعلى أنه جلَّ وعلا يتفضل على من يشاء بالإذن لمن يريد أن يكرمه، فيأذن له بالشفاعة فيشفع.

تفسير قوله تعالى: (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم)

تفسير قوله تعالى: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) قال الشارح: [وقوله: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعَاً} [الزمر:44]، وقبلها: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئَاً وَلا يَعْقِلُونَ} [الزمر:43]، وهذه كقوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس:18]]. معنى هذه الآية ظاهر، وقد قال الفخر الرازي عند تفسيرها لما ذكر الشرك وأنواعه قال: ومن هذا القبيل: الذين يذهبون إلى القبور ويطلبون شفاعة المقبورين، فإنهم قد وقعوا في الشرك الأكبر؛ ولكن معنى قوله جلَّ وعلا: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} [يونس:18] يعني: أن الله جلَّ وعلا لا يعلم أن الشفاعة هذه التي تزعمون تقع، والشيء الذي لا يعلمه الله لا وجود له، ولا حقيقة له، فالمعنى: أنه جلَّ وعلا يقول: هذا الطلب وهذا الزعم لا وجود له ولا حقيقة له، فكيف تتعلقون بشيء تتوهمونه وهو من الأسباب التي تمنع وصول الخير والسعادة إليكم؟! وقوله جلَّ وعلا: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} [يونس:18] هذا يشمل كل ما عُبد من دون الله سواءً كان حياً أو ميتاً، سواءً كان من الملائكة أو من البشر أو من الجن أو من الجمادات وغيرها، كلها لا تنفع ولا تضر، والمنفعة والمضرة كلها بيد الله، فالعبادة يجب أن تكون لمن يملك النفع والضر، والله جلَّ وعلا هو الذي بيده ملكوت كل شيء، وكل مخلوق هو عبد له، لا يملك معه شيئاً، فالتوجه إلى مخلوق من المخلوقات وطلب الشفاعة منه ضلال وحرمان، لتعذيب من يقع فيه.

ضلال المشركين في باب الشفاعة

ضلال المشركين في باب الشفاعة قال الشارح رحمه الله: [فبين تعالى في هذه الآيات وأمثالها: أن وقوع الشفاعة على هذا الوجه منتفٍ وممتنع، وأن اتخاذهم شفعاء شرك يتنزه الرب تعالى عنه، وقد قال تعالى: {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانَاً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأحقاف:28]]. معنى قوله: (فَلَوْلا نَصَرَهُمُ) يعني: هلَّا نصرهم لما جاءهم العذاب ووقع فيهم عذاب الله لماذا لم تنصرهم آلهتهم؟! وقوله: {بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ} [الأحقاف:28] يعني: ذهبوا أصبحت دعوتهم ضلالاً، يعني: لا قيمة لها، وتبين أن الأمر كله بيد الله؛ ولكن هناك لا ينفع الإنسان إذا تبين له أنه قد ضل؛ لأنه لا يُقبل منه الاستعتاب ولا يفيده الندم، وليس بإمكانه أن يرجع مرةً أخرى إلى الدنيا أو إلى عمر جديد فيعمل غير الذي كان يعمل، وإنما يزداد عذاباً على عذاب، يعني: حسرات مع العذاب الذي يلاقيه. قال الشارح رحمه الله: [فبين تعالى: أن دعواهم أنهم يشفعون لهم بتألههم: أن ذلك منهم إفك وافتراء. وقوله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعَاً} [الزمر:44] أي: هو مالكها، فليس لمن تُطلب منه شيء منها، وإنما تُطلب ممن يملكها دون كل ما سواه؛ لأن ذلك عبادة وتأليه لا يصلح إلَّا لله، قال البيضاوي: لعله ردٌّ لما عسى أن يجيبوا به وهو: أن الشفعاء أشخاص مقربون]. يعني: يقدر أنهم يقولون: الشفعاء ذو جاه عند الله مقربون، والله ملَّكهم الشفاعة وإن كانت لله؛ ولكن الله جلَّ وعلا أعطاهم الشفاعة! والقرآن يرد هذا، يقول الله جلَّ وعلا: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعَاً} [الزمر:44] وقد أخبر جلَّ وعلا أن كل طلب يُطلب من غير الله فهو ضلال، وأن ذلك سبب لمنع الشفاعة، ففي الواقع: هم يؤتَون من قِبل أنفسهم، فإنهم يأتون بالأسباب التي تمنع الشفاعة وهم يزعمون أنها شفاعة! والسبب في ذلك جهلهم أو عنادهم وتركهم ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الشفاعة كلها لله سبحانه

الشفاعة كلها لله سبحانه قال الشارح رحمه الله: [وقوله تعالى: {لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر:44] تقرير لبطلان اتخاذ الشفعاء من دونه؛ لأنه مالك الملك، فاندرج في ذلك ملك الشفاعة، فإذا كان هو مالكها بطل أن تُطلب ممن لا يملكها: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28] قال ابن جرير: نزلت لما قالت الكفار: ما نعبد أوثاننا هذه إلَّا ليقربونا إلى الله زلفى، قال الله تعالى: {لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر:44]. قال المصنف رحمه الله تعالى: وقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]]. (مَن) هذه: استفهامية للإنكار، يُنكر جلَّ وعلا أن تقع الشفاعة عنده إلَّا بإذنه، وذلك من تمام ملكه وعظمته، بحيث لا يجرؤ أحد من خلقه أن يشفع قبل أن يأذن له، وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم هذا في حديث الشفاعة فقال: (أَخِرُّ ساجداً لربي جلَّ وعلا، فيفتح عليَّ من المحامد والثناء ما الله به عليم، ثم يقول: ارفع رأسك، واشفع تشفَّع -قبل أن يقول: اشفع تشفَّع لا يشفع- يقول: ثم يحد لي حداً ويقول: هؤلاء اشفع فيهم) فإذاً: أصبح الأمر كله بيد الله، الشافع لا يشفع إلَّا إذا أذن له ولا يشفع إلَّا في الذين يحدهم له ويقول: اشفع في هؤلاء؛ ولهذا قال العلماء: حقيقة الشفاعة هي: رحمة الله جلَّ وعلا للمشفوع له، وإظهار كرامة الشافع فقط، فليس للخلق شيء مع الله، والذي يزعم أن المخلوق يمكن أن يتقدم ويطلب طلباً مستقلاً بدون أن يأمره الله جلَّ وعلا بذلك فمعنى ذلك: أنه ما قدَّر الله حق قدره ولا عرف عظمته، وهذا قد نفاه الله جلَّ وعلا في هذه الآية: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] يعني: أنه لا يقع، وأنه لا يجرؤ أحد من الخلق سواء كانوا ملائكة أو أنبياء أو غيرهم، ما أحد يجرؤ أن يشفع عنده إلَّا إذا أذن له، فالشفاعة لا تقع من أحد من الخلق: لا الرسل ولا الملائكة ولا غيرهم إلَّا إذا أمرهم الله جلَّ وعلا أن يشفعوا، والإذن هنا المقصود به: الأمر؛ أن يأمرهم ويقول: اشفعوا، وأمره إياهم ليظهر كرامتهم أمام الخلق وإلَّا فالأمر كله بيد الله، ولهذا يحد لهم الحد فيقول: اشفعوا في كذا وكذا، يعني: الذين يُشفع لهم معيَّنون، وهذا يدلنا على أن الأمر كله لله جلَّ وعلا، وهذا معنى قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] والإذن هو: الأمر، فإذا أمره أن يشفع شفع، أما قبل الأمر فلا أحد يجرؤ على الشفاعة. وبهذا يتبين ضلال الذين يزعمون أنهم إذا طلبوا الشفاعة من شخص من الأشخاص يحسنون الظن به أن ذلك يحصل، وزعموا أن لهذا الشافع ما لله من الملك، وبذلك وقعوا في الشرك.

شروط وقوع الشفاعة

شروط وقوع الشفاعة قال الشارح رحمه الله: [وقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]: قد تبين مما تقدم من الآيات: أن الشفاعة التي نفاها القرآن هي التي تُطلب من غير الله، وفي هذه الآية: بيان أن الشفاعة إنما تقع في الدار الآخرة بإذنه كما قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلَاً} [طه:109] فبين أنها لا تقع لأحد إلَّا بشرطين: إذن الرب تعالى للشافع أن يشفع. ورضاه عن المأذون بالشفاعة فيه]. قوله: {إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلَاً} [طه:109] أما الإذن فهو للشافع، وأما الرضا فهو عن المشفوع له، والله جلَّ وعلا لا يرضى إلَّا التوحيد، أما الشرك فلا يرضاه، فمعنى ذلك أن الشفاعة تكون لأهل التوحيد، وهذا بُيِّن في الأحاديث بياناً واضحاً، فلما قال أبو هريرة: (يا رسول الله! من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: من قال: (لا إله إلَّا الله) خالصاً من قلبه) يعني: أنه ليس عنده شيء من الشرك، ولا التعلق بغير الله، وكذلك الحديث الذي ذكرنا وفيه: (فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئاً) فتبين أنه إذا مات الإنسان مشركاً بالله شيئاً أنه لا تنفعه الشفاعة ولهذا يقول: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48]، ويقول جلَّ وعلا في آيات كثيرة: {وَاتَّقُوا يَوْمَاً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئَاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة:48]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [البقرة:254] فالشفاعة التي نفاها جلَّ وعلا هي: التي يتعارفها الناس وتقع لبعضهم من بعض، ولو لم يكن المشفوع عنده آذناً أو راضياً؛ وهذا لنقص الإنسان؛ لأن الإنسان يحتاج إلى الناس الآخرين، ولو كان ملكاً، يحتاج إلى مساعدة وزرائه وأمرائه وأعوانه، وإذا لم يقبل شفاعتهم يخشى أن ينتقدوا عليه، وألَّا يؤدوا الواجب من النصح له وما يريد، فيقبل شفاعتهم مضطراً، وقد يقبل المخلوق شفاعة زوجته أو شفاعة ابنه أو شفاعة أخيه أو قريبه أو صديقه؛ لأنه يحتاج إليهم، أما رب العالمين جلَّ وتقدس فهو الغني بذاته عن كل ما سواه، وكل من سواه فقير إليه، فالملك كله بيده، وله تمامه، ولهذا صار طلب الشفاعة من غيره شرك؛ لأنه جعل ما هو حق لله سبحانه للمخلوق، وهذا سبب في منع الشفاعة التي يزعم أنها تقع له؛ لأنه ارتكب المانع من قبل نفسه، وخالف ما جاء عن الله جلَّ وعلا، ولأنه لم يعرف الله جلَّ وعلا حق المعرفة، ولم يجعل له الحق الذي أوجبه عليه، فصرف بعضه للمخلوق، فاستحق بذلك الحرمان. قال الشارح رحمه الله: [وهو تعالى لا يرضى من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة إلَّا ما أريد به وجهه، ولقي العبد به ربه مخلصاً غير شاك في ذلك، كما دل على ذلك الحديث الصحيح، وسيأتي ذلك مقرراً أيضاً في كلام شيخ الإسلام رحمه الله. قال المصنف رحمه الله تعالى: وقوله: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئَاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26]]. قوله: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ} [النجم:26] (كم) هذه: خبرية، ومعناها: كثير، أي: كثير من الملائكة، والملائكة أخبر الله جلَّ وعلا عنهم أنهم: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، وأنهم: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:20] لا يفترون أبداً، دائمون في التسبيح والتهليل والعبادة، ولا يعصون الله طرفة عين، ومع هذه العبادة وهذا العمل الدائم في طاعة الله جلَّ وعلا لا تنفع شفاعتهم عند الله لأحد إلَّا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء منهم أن يشفع، ولمن شاء أن يشفعوا له، فهذا كالآية السابقة يبين جلَّ وعلا فيها أن المقربين عنده لا تنفع شفاعتهم ولا تجزئ لأحد، ولا يستطيع أحد أن يتقدم للشفاعة إلَّا إذا أذن له جلَّ وعلا، والإذن هو أمره بأن يشفع، وأن الشفاعة لا تقع منهم ولا من غيرهم إلَّا لمن رضي الله جلَّ وعلا عنه. إذاً: تكون الشفاعة -بدليل هذه الآيات- لأهل التوحيد، الذين يموتون على التوحيد، فهم الذين تنفعهم شفاعة الشافعين، وذلك من فضل الله فيأمر الشافعين أن يشفعوا لهم؛ لإظهار كرامتهم فقط، وإلَّا فالأمر لله جلَّ وعلا. أما المشرك الذي يدعو غير الله فهذا لا تنفعه شفاعة الشافعين، كما أخبر الله جلَّ وعلا بذلك في آيات متعددة كثيرة.

أقسام الشفاعة في كتاب الله

أقسام الشفاعة في كتاب الله تبين لنا أن الشفاعة في كتاب الله قسمان: شفاعة منفية لا تقع، وهي: التي تُطلب بغير إذنه جلَّ وعلا، ولمن يكون مشركاً. وشفاعة واقعة وهي: أمر الله جلَّ وعلا للشافع أن يشفع، وتكون لمن رضي الله عنه. قال الشارح رحمه الله: [قال ابن كثير رحمه الله: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئَاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26] كقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:23] فإذا كان هذا في حق الملائكة المقربين فكيف ترجون أيها الجاهلون شفاعة هذه الأنداد عند الله، وهو لم يشرع عبادتها ولا أذن بها بل قد نهى عنها على ألسنة جميع رسله، وأنزل بالنهي عن ذلك جميع كتبه؟!].

شرح فتح المجيد [55]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [55] الشفاعة لله جميعاً، وقد ضل من طلبها من غير الله تعالى، فإن سبب شرك المشركين هو طلبهم الشفاعة من آلهتهم الباطلة، وأسعد الناس بالشفاعة من قال: لا إله إلا الله مخلصاً بها من قلبه.

تفسير قوله تعالى: (قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله)

تفسير قوله تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ) قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:22 - 23]]. هذه الآية توضح وتبين أن طلب الشفاعة من غير الله ضلال وشرك، وأن الذي يُدعى أو يُطلب يجب أن يكون مالكاً لما يُدعى من أجله، فإن لم يكن مالكاً يكون مشاركاً للمالك، وهذا أقل درجة، فإن لم يكن مشاركاً للمالك يكون مساعداً ومظاهراً له ومعاوناً له، فإن لم يكن كذلك -يعني: انتفت الأمور الثلاثة- ينبغي أن يكون شافعاً كما يقع من الوزارء والكبراء لمن يكون عنده أمر من أمور الناس يطلبونه، فنفى الله جلَّ وعلا ذلك، وأن هذا لا يقع إلَّا بإذنه، فنفى على التدريج: نفى الأعلى، ثم ما دونه، ثم ما دونه، ثم نفى الشفاعة: {قُلِ ادْعُوا} [سبأ:22] وهنا: (قل) الأمر للتعجيز يعني: يأمر الله جلَّ وعلا نبيه أن يقول للمشركين الذين يزعمون أن أصنامهم تشفع لهم، على حسب اختلافها؛ لأنه عُلم أن المدعوات من دون الله مختلفة، فمنهم من يدعو شجراً، ومنهم من يدعو حجارةً، ومنهم من يدعو الجن، ومنهم من يدعو الأنبياء، ومنهم من يدعو الملائكة، ومنهم من يدعو أجراماً من أجرام السماء كالشمس والقمر والنجوم وغيرها، وكلهم سواء، وكلهم يشملهم هذا الخطاب، وهذا الأمر: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} [سبأ:22] (زعمتم) يعني: أن دعوتهم هذه كذب؛ وذلك لأن المدعو من دون الله ما يملك شيئاً، وليس إلهاً، فتسميتهم آلهة من الكذب الذي افتروه على الله جلَّ وعلا؛ ولهذا قال جلَّ وعلا: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا} [النجم:23] يعني: أسماء وضعتموها على مسميات لا حقيقة لها، وليس لها شيء من هذه التسمية في الحقيقة. {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} [سبأ:22] وغالباً إذا جاءت كلمة (زعم) فالمقصود بها: الكذب، فهم يكذبون في أن هذه آلهة، ويكذبون في أنها تملك شيئاً. {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سبأ:22] يعني: غير الله، وقد دعوتموهم وهم عباد مسخرون مقهورون ذليلون لا يملكون شيئاً. {لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} [سبأ:22] ومعنى ذلك: أنهم ليس لهم ملك القليل الحقير في الدنيا ولا في الآخرة، حتى في الدنيا ما يملكون شيئاً إلَّا أن يملِّكهم الله جلَّ وعلا إياه، أما إذا منعهم الله جلَّ وعلا فلا يستطيعون شيئاً، ثم هذا الملك الذي يملِّكهم إياه يُسلب منهم، فيذهبون إلى قبورهم وليس معهم شيء، ثم يخرجون من قبورهم إذا بعثهم الله جلَّ وعلا عندما يريد ذلك، وليس معهم شيء، ولا يملكون لأنفسهم شيئاً، ويأتون إلى الله جلَّ وعلا فرادى: ملوكهم ورؤساؤهم وأغنياؤهم، كلهم يأتي فرداً ليس معه لا ولد ولا خادم ولا صديق ولا مال ولا أي شيء، وإنما يأتي إلى الله فرداً ذليلاً خاضعاً، فكيف يشفع؟! ومن أين له ذلك؟! {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} [سبأ:22] إذا كان المدعو لا يملك شيئاً فكيف يُدعى؟! هذا كلام الله جلَّ وعلا، وهو شامل لكل مدعو من دون الله، هذه الدرجة الأولى. ثم الدرجة الثانية: أنه قد يقال: هم لا يملكون شيئاً ولكن يشاركون المالك، فنفى الله جلَّ وعلا ذلك، فقال: {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} [سبأ:22] يعني: ما لهم في السماوات والأرض من اشتراك مع المالك الذي هو الله جلَّ وعلا. هذه الدرجة الثانية. ثم قد يتصور متصور: أنهم إذا كانوا لا يملكون، وليس لهم اشتراك مع المالك فقد يكونون مقربين عنده أو يكونون مساعدين له، فنفى ذلك جلَّ وعلا فقال: {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ:22] يعني: ليس للمالك منهم مظاهر يعني: مساعد ومعاون، فنُفي الملك، ونُفي الاشتراك، ونُفيت المساعدة، فماذا بقي؟ بقيت الشفاعة، فقال: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:23] وهذه الجملة تدل على شيئين: تدل على أن الشفاعة بلا إذن الله جلَّ وعلا باطلة ومنفية وغير واقعة. وتدل على أن الشفاعة التي تكون بإذنه واقعة. والشفاعة التي تكون بإذنه تكون لمن يرضى عنهم، والله جلَّ وعلا لا يرضى الشرك ولا يرضى عن المشرك، بل حرم الجنة على المشرك لما قال جلَّ وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:72]. فتبين بهذا أن طلب الشفاعة من غير الله شرك، والمشرك محروم من ذلك.

كلام ابن القيم حول هذه الآية

كلام ابن القيم حول هذه الآية قال الشارح: [وقوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:22 - 23] قال ابن القيم رحمه الله تعالى في الكلام على هذه الآيات: وقد قطع الله الأسباب التي يتعلق بها المشركون جميعها، فالمشرك إنما يتخذ معبوده لما يحصل له من النفع، والنفع لا يكون إلَّا ممن فيه خصلة من هذه الأربع: إما مالك لما يريده عابده منه. فإن لم يكن مالكاً كان شريكاًً للمالك. فإن لم يكن شريكاً له كان معيناً له وظهيراً. فإن لم يكن معيناً ولا ظهيراً كان شفيعاً عنده. فنفى الله سبحانه المراتب الأربع نفياً مرتباً، منتقلاً من الأعلى إلى الأدنى، فنفى الملك والشركة والمظاهرة والشفاعة التي يطلبها المشرك، وأثبت شفاعةً لا نصيب فيها لمشرك وهي الشفاعة بإذنه. فكفى بهذه الآية نوراً وبرهاناً، وتجريداً للتوحيد، وقطعاً لأصول الشرك وموادّه لمن عقلها. والقرآن مملوء من أمثالها ونظائرها، ولكن أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته وتضمُّنه له ويظنونها في نوع وقوم قد خلوا من قبل ولم يعقبوا وارثاً، فهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن، ولَعَمْرُ الله إن كان أولئك قد خلوا فقد ورثهم من هو مثلهم أو شر منهم أو دونهم، وتناوُل القرآنِ لهم كتناوُله لأولئك. ثم قال: ومن أنواعه -أي: الشرك-: طلب الحوائج من الموتى والاستغاثة بهم، وهذا أصل شرك العالَم، فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، فضلاً عمن استغاث به وسأله أن يشفع له إلى الله، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده، فإنه لا يقدر أن يشفع له عند الله إلَّا بإذنه، والله لم يجعل استغاثته وسؤاله سبباً لإذنه، وإنما السبب كمال التوحيد، فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن، وهو بمنزلة من استعان في حاجته بما يمنع حصولها، وهذه حالة كل مشرك. فجمعوا بين الشرك بالمعبود وتغيير دينه، ومعاداة أهل التوحيد، ونسبة أهله إلى التنقُّص بالأموات، وهم قد تنقَّصوا الخالق بالشرك، وأولياءه الموحدين بذمهم وعيبهم ومعاداتهم، وتنقَّصوا من أشركوا به غاية التنقُّص، إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا، وأنهم أمروهم به، وأنهم يوالونهم عليه، وهؤلاء هم أعداء الرسل في كل زمان ومكان، وما أكثر المستجيبين لهم!]. يعني: أن هؤلاء الذين يطلبون من الأموات والأولياء الشفاعة، إذا نهاهم أهل الحق عن ذلك قالوا: أنتم لا تحبون أولياء الله، أو لا تحبون أنبياء الله! كالذي يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم الشفاعة، فإذا قال له إنسانٌ: هذا ما يُطلب إلَّا من الله، ولا يجوز أن تطلبه من الرسول قال له: أنت ما تحب الرسول! أو أنت تتنقَّص الرسول! وما أشبه ذلك، وهذا من الجهل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يرضى إلَّا ما رضي الله جلَّ وعلا وأمر الله به، وقد أمره الله جلَّ وعلا أن يبلغ الناس وأن يُعْلِمهم أن الشافعة ملك لله جلَّ وعلا وحده، وأنه من حق الله. أما تنقُّصهم مَن يدعونه ويتشفعون به فمعناه: أنهم يظنون أنهم راضون عنهم بذلك، وأولياء الله وأنبياؤه لا يرضون بهذا، بل إذا اجتمعوا بهم يوم القيامة يتبرءون منهم، ويعادونهم أشد العداء، ويبرءون إلى الله من أفعالهم. وأما ظنهم السيئ بالله جلَّ وعلا فهو أنهم ظنوا أنه يمكن للمخلوق أن يشفع لإنسان ولو لم يكن الرب جلَّ وعلا راضياً عنه، وهذا من قياسهم الخالق على المخلوق تعالى الله وتقدس، وهذا غاية التنقُّص. فمعنى ذلك: أنهم ما عرفوا الله ولا عرفوا قدره، فوقعوا في هذه الأمور التي فيها تنقُّص المؤمنين الموحِّدين وتنقُّص الأولياء والرسل، وفيها إساءة الظن بالله جلَّ وعلا، وفيها الوقوع في الشرك، وعدم معرفة حق الله، حيث صرفوا ما هو من خالص حقه إلى مخلوق لا يملك مع الله شيئاً.

سبيل النجاة من الشرك الأكبر

سبيل النجاة من الشرك الأكبر قال رحمه الله: [وما نُجِّي من شَرَك هذا الشرك الأكبر إلَّا من جرد توحيده لله، وعادى المشركين في الله، وتقرب بمقتهم إلى الله، واتخذ اللهَ وحده وليه وإلهه ومعبوده]. وهذا واجب، وهو من مقتضى الإيمان: كونه يبغض المشرك ويمقته، وبغضُه ومقتُه لأجل الله جلَّ وعلا؛ لأن الله يبغض ذلك المشرك ويمقته، فهو يحب ما يحبه الله ويكره ما يكرهه الله، فالله جلَّ وعلا يأمره بهذا ويتبع ذلك ويتقرب بذلك إلى الله، ولهذا يقول جلَّ وعلا: {لا تَجِدُ قَوْمَاً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22] يعني: ولو كان أقرب قريب إليك ووقع في شيء من ذلك فإنه فرض عليك أن تبغضه وتمقته وتتقرب إلى الله جلَّ وعلا ببغضه، والإيمان ينتفي إذا لم يحصل ذلك، قال الله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمَاً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ} [المجادلة:22] ويقول جلَّ وعلا: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدَاً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4] وهذا كثير في القرآن، يبين الله جلَّ وعلا أن هذا مقتضى الإيمان، وأن الذي لا يحصل ذلك منه، فإيمانه غير صحيح، فالله قطع الصلة بين المؤمن وبين المشرك والكافر، فالصلة مقطوعة نهائياً، وإنما الرابطة بين المؤمن وبين أخيه المؤمن ولو لم يكن بينه وبينه نسب، فالمؤمنون إخوة يتوادُّون فيما بينهم ويتعاونون على البر والتقوى. أما إذا كان أخوك مشركاً أو كافراً فإنه يجب عليك أن تقطع الصلة بينك وبينه، وأن تجعل بدل الصلة العداوة والبغضاء. قال رحمه الله: [فجرَّد حبَّه لله، وخوفَه لله، ورجاءَه لله، وذلَّه لله، وتوكلَه على الله، واستعانتَه بالله، والتجاءَه إلى الله، واستغاثتَه بالله، وقصدَه لله، متبعاً لأمره، متطلباً لمرضاته، إذا سأل سأل الله، وإذا استعان استعان بالله، وإذا عمل عمل لله، فهو لله وبالله ومع الله. انتهى كلامه رحمة الله عليه. وهذا الذي ذكره هذا الإمام في معنى هذه الآية هو حقيقة دين الإسلام، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينَاً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفَاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَاً} [النساء:125]. قال المصنف رحمه الله تعالى: قال أبو العباس: نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون، فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه، أو يكون عوناً لله. ولم يبق إلَّا الشفاعة فبين أنها لا تنفع إلَّا لمن أذن له الرب، كما قال: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28] فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة، كما نفاها القرآن، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (يأتي فيسجد لربه ويحمده، لا يبدأ بالشفاعة أولاً، ثم يُقال له: ارفع رأسك، وقل يُسمع، وسل تُعطَ، واشفع تشفَّع). وقال أبو هريرة له صلى الله عليه وسلم: (من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: من قال: (لا إله إلَّا الله) خالصاً من قلبه) فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله، وحقيقته: أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص، فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع؛ ليكرمه وينال المقام المحمود. فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك، ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تكون إلَّا لأهل التوحيد والإخلاص. انتهى كلامه]. أبو العباس هي كنية شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهذا الكلام في معنى الآية السابقة: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:22 - 23] فهو يقول: إن الله جلَّ وعلا نفى أن يكون أحد من الخلق يملك شيئاً من دونه، ونفى أن يكون له اشتراك في هذا الملك، ونفى أن يكون أحد من الخلق مساعداً أو معاوناً لله تعالى وتقدس، ونفى أن تقع الشفاعة لأحد من الخلق إلَّا إذا أذن له. وهذه الشفاعة التي نفاها هي: ما يزعم المشركون أنها تقع لمن طلبوا منه الشفاعة استقلالاً، فأخبر جلَّ وعلا أن هذا شرك، وأنه يمنع حصول الشفاعة، بل يمنع ألَّا يُعذَّبوا، فهم من المعذَّبين؛ لأنهم مشركون، ثم بين أن الشفاعة لله، كما جاء في الأحاديث التي أخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا يطلب الشفاعة استقلالاً، وإنما أول ما يفعل: أنه يسجد لربه جلَّ وعلا ويحمده ويثني عليه، وأنه لا يرفع رأسه حتى يأمره جلَّ وعلا بذلك، ولا يشفع حتى يقول له جلَّ وعلا: (اشفع) فعند ذلك يشفع. وقوله: (فحقيقتها) يعني: حقيقة الشفاعة هي رحمة الله جلَّ وعلا للمشفوع، وإظهار كرامة الشافع، يعني: أمرُه بالشفاعة وقبول شفاعته ليظهر كرامته، فإذاً: هي رحمة من الله للشافع وللمشفوع له، والأمر كله بيد الله.

الشفاعة الكبرى هي المقام المحمود لنبينا عليه الصلاة والسلام

الشفاعة الكبرى هي المقام المحمود لنبينا عليه الصلاة والسلام المقام المحمود الذي وعد الله جلَّ وعلا بينه في قوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامَاً مَحْمُودَاً} [الإسراء:79] معنى (محمود): أنه يُحمد على هذا المقام، والصحيح أن المقام المحمود هو الشفاعة الكبرى في الموقف؛ حتى يفصل الله بين عباده ويحاسبهم، وليس فيها أنه يشفع في قوم معينين، بل شفاعة عامة، يشفع إلى الله أنه يأتي ليحاسِب خلقه، وهذا لإظهار كرامته فقط، حتى يبلغ المقام المحمود؛ ولأن الله جلَّ وعلا أراد أن يريح المؤمنين من عناء هذا الموقف، ويدخل الكافرين في جهنم بعدما وقفوا وقوفاً طويلاً وعظيماً، وهذا جاء تفصيله في الأحاديث الصحيحة: أن الله جل وعلا إذا أراد محاسبتهم ألهمهم أن يسألوا الشفاعة من الأنبياء، والأنبياء معهم يخاطبونهم، فيطلبون منهم قائلين: اسألوا الله أن يأتي ليفصل بيننا، وليس هذا مثل سؤالهم وهم في قبورهم؛ لأنهم واقفون معهم، فالموقف فيه الأنبياء وفيه الشهداء وفيه العلماء إلخ، فلهذا أول من يذهبون إليه: آدم؛ لأنهم يتشاورون فيما بينهم بعدما يلهمهم الله جلَّ وعلا ذلك، ولا يلزم أن يكون ذلك لأهل الموقف كلهم، وإنما يكون للبعض، فإذا تشاوروا فيما بينهم قالوا: (ليس هناك أحد أولى من أبيكم آدم؛ لأن الله خلقه بيده، وأسجد له ملائكته، وأسكنه جنته، فيذهبون إليه -وهو واقف معهم- فيخاطبونه ويقولون: يا آدم! أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك جنته، ألا ترى ما نحن فيه؟! اشفع لنا عند الله ليحاسبنا فيريحنا من هذا الموقف، فيقول: لستُ كما تظنون، أنا عصيت ربي وأكلت من الشجرة، فأخرجني من الجنة؛ ولكن اذهبوا إلى نوح فإنه أول رسول أرسله الله جلَّ وعلا إلى الأرض، وقد سماه الله جلَّ وعلا عبداً شكوراً، فيذهبون إليه ويطلبون منه مثلما طلبوا من آدم، فيعتذر ويقول: إني دعوت على قومي دعوة أُغرقوا بسببها، وإني سألت ربي ما ليس لي به علم، ولا أسأل اليوم إلَّا نفسي، اذهبوا إلى غيري) ومقصودُه بهذا: قوله فيما أخبر الله جلَّ وعلا عنه: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} [هود:45] لأن الله جلَّ وعلا وعده أن ينجيه وأهله، فقال الله جلَّ وعلا له: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي} [هود:46 - 47] إلى آخر الآية، فهذا الذي جعله يعتذر، وقد غفر الله له وعفا عنه واجتباه، ولكن الموقف هائل، فيرسلهم إلى إبراهيم ويقول: (اذهبوا إلى إبراهيم فإنه خليل الرحمن، فيذهبون إليه ويطلبون منه ذلك، فيعتذر، ويرسلهم إلى موسى ويقول: إن الله فضله على خلقه بكلامه حيث كلمه بلا واسطة، فيذهبون إليه ويعتذر، فيرسلهم إلى عيسى)، واعتذار إبراهيم يقول: (إني كذبت ثلاث كذبات)، وموسى يقول: (إني قتلت نفساً بلا حق)، وهذا قبل النبوة، وقتله إياه كان خطأً، أما الكذبات التي ذكرها إبراهيم عليه السلام فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنها كلها في ذات الله) يعني: في مجادلته الكفار وفي دعوته إلى إقامة دين الله، وهي أيضاً من المعاريض وليست كذباً صريحاً، وهي قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89] وقوله: {فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء:63] وقوله في زوجته للظالم الفاجر الكافر: إنها أختي، وقد قال لها: أنت أختي في الإسلام؛ لأنه لو قال: إنها زوجته لأخذها ظلماً، فهذه سماها كذباً من باب التجوُّز، وإلَّا فلها وجه صحيح قد عذر بها إبراهيم عليه السلام؛ ولكن الموقف شديد، وأما موسى عليه السلام فإنه ضرب الرجل بيده، وَكَزَه بيده ولم يرد قتله، فمات بهذه الوكزة، فقتله كان خطأً، والخطأ معفوٌّ عن المخطئ يعني: ما يكون مثل الذي يفعله عمداً، وكان هذا قبل النبوة أيضاً، وقد أخبر الله جلَّ وعلا أنه غفر له، فإنه طلب من ربه أن يغفر له ذلك، فغفر له، فأخبره أنه قد غفر له، ومع ذلك يعتذر ويقول: (إني قتلت نفساً بلا نفس، فيرسلهم إلى عيسى، فإذا أتوا إلى عيسى عليه السلام لا يذكر ذنباً ولكنه يعتذر، ويقول: لستُ كما تظنون، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم وهو خاتم الرسل، وهو الذي يشفع لكم، فيذهبون إليه، فإذا أتوا إليه يقول صلى الله عليه وسلم: أخرج في سماطين من المؤمنين -يعني: في صفين يخرجون معه من الموقف- يقول: فإذا رأيت ربي خررت ساجداً، فيَدَعُني ما شاء الله أن يدَعَني، ويفتح عليَّ من المحامد والثناء ما لا أحسنه الآن. جاء: أنه يُترك ساجداً قدر جمعة -أسبوع وهو ساجد-، ثم بعد ذلك يقول الله جلَّ وعلا له: أيْ محمد! ارفع رأسك، واسأل تُعْطَ، واشفع تشفَّع، فيشفع في أن الله جلَّ وعلا يأتي ليفصل بين عباده، فيعده الله جلَّ وعلا بذلك فيأتي لفصل القضاء)، هذه هي الشفاعة الكبرى، وهي المقام المحمود، حيث يحمده كل أهل الموقف، وهذا فضل الله فهو الذي أذن له بذلك، وهو الذي أقامه هذا المقام، فالأمر كله بيد الله جلَّ وعلا. وهذه الشفاعة متفق عليها بين أهل السنة وأهل البدع، حتى الذين ينكرون الشفاعة من المعتزلة والخوارج يقرُّون بهذه الشفاعة، وأما التي أنكروها فهي: الشفاعة في أهل الذنوب، وكونهم يُخرجون من النار، أو كونهم يُمنعون دخول النار، وهم يستحقونها بذنوبهم، فهذه أنكرها هؤلاء.

مسائل باب الشفاعة

مسائل باب الشفاعة

تفسير آيات الشفاعة

تفسير آيات الشفاعة قال المصنف رحمه الله: [فيه مسائل: الأولى: تفسير الآيات]. الآيات في الشفاعة كثيرة، لكن المقصود: الآيات التي ذكرها، وإلَّا فالآيات في الشفاعة كثيرة جداً، وتفسيرها -والحمد لله- واضح. فإن الآية الأولى التي ذكرها: قوله جلَّ وعلا: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعَاً} [الزمر:44] وتفسيرها يتبين بذكر الآية التي قبلها؛ لأن الآية التي قبلها يذكر الله جلَّ وعلا فيها: أن المشركين اتخذوا شفعاء؛ وزعموا أن شفاعتهم تقع ولو لم يأذن الله جلَّ وعلا، فأبطل الله جلَّ وعلا ذلك فقال: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئَاً وَلا يَعْقِلُونَ} [الزمر:43] يعني: كيف يشفعون وهم لا يملكون شيئاً؟! و (شيء) هنا: دخل فيها الشفاعة وغيرها، ومع ذلك لا يعقلون؛ لأنهم جماد ما بين شجر أو حصى: إما حصى كاللات، أو شجر كالعُزَّى وما أشبه ذلك، أو أصنام مثل كونهم يبنون الصنم بأيديهم ثم يزعمون أنه يشفع لهم! ثم قال: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعَاً} [الزمر:44] فقوله: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ} [الزمر:44] يدل على أن الشفاعة كلها ملك لله، ثم أكد ذلك بقوله: {جَمِيعَاً} فدل على أنه لا أحد يملك الشفاعة من دون الله جلَّ وعلا، فالشفاعة لله، وإذا أراد جلَّ وعلا أن يكرم أحداً من عباده أذن له بالشفاعة، ولكن فيمن يحدُّهم له، يقول: (هؤلاء اشفع فيهم)، وليست الشفاعة إلى الشافع. وكذلك الآية التي ذكرها بعدها وهي قوله جلَّ وعلا: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] تبين أن الشفاعة لا تقع عند الله جلَّ وعلا إلَّا إذا أذن، وهذا أيضاً مثل قوله: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعَاً} [الزمر:44] فهو لا يأذن إلَّا لمن رضي عنه، ولا يمكن للشافع أن يشفع إلَّا إذا أذن له، والإذن هو: الأمر بأن يشفع، فأصبح الأمر كله الله. وكذلك الآية الثالثة وهي قوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:22 - 23] فيتبين بها أن الأمر كله لله جلَّ وعلا، وأن هؤلاء الذين يُزعم أنهم يشفعون لا يملكون مثقال ذرة لا في السماء ولا في الأرض، لا يشتركون في ملك المالك، وليس له منهم مساعد أو مظاهر أو معاون تعالى وتقدس، فالأمر كله لله جلَّ وعلا. فيتبين بذلك أن الذي يدعو شافعاً ويطلب منه أن يشفع له ولو لم يأذن الله له أنه مشرك؛ لأنه جعل ما لله لغيره، ولهذا قال: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:23]. فتبين من هذه الآيات أن الشفاعة قسمان: القسم الأول: شفاعة منتفية وهي: التي يطلبها الطالب بدون إذن الله، وسواءً كان الذي تُطلب منه الشفاعة نبياً أو ملَكاً أو ولياً أو غير ذلك، فهذه منتفية، وهي الشفاعة التي زعمها الكفار في شركهم؛ لأن شركهم كله في الشفاعة، فالذين عبدوهم -يعني: دعَوهم- زعموا أنهم يشفعون لهم فقط، فما كان أحد منهم يقول: إن الأصنام أو غيرها ممن يُدعى من دون الله يملك مع الله شيئاً، وإنما يطلبون منها الشفاعة فقط، {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] وتبين بهذا أن طلب الشفاعة من غير الله رأساً شرك، كأن يأتي الإنسان إلى شخص ميت أو قبر أو غيره فيقول: يا فلان! اشفع لي، فهذا هو شرك المشركين. القسم الثاني: الشفاعة المثبتة وهي: التي تقع بأمر الله ولمن رضي الله عنه، قال الله: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28]، {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28].

صفة الشفاعة المنفية

صفة الشفاعة المنفية [المسألة الثانية: صفة الشفاعة المنفية]. صفة الشفاعة المنفية هي: الشفاعة التي يزعمون أنها تقع ولو لم يأذن الله وهي: أن تكون للمشركين؛ لأن الشفاعة خاصة للموحدين، أما المشرك فلا تناله شفاعة الشافعين.

صفة الشفاعة المثبتة

صفة الشفاعة المثبتة [الثالثة: صفة الشفاعة المثبتة]. وصفة الشفاعة المثبتة هي: التي تقع إذا أذن الله للشافع أن يشفع، والمشفوع معين يعينه الله، ويقول للشافع: (هؤلاء اشفع فيهم) كما جاء ذلك صريحاً في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (فيحد لي حداً فيقول: هؤلاء اشفع فيهم). [المسألة الرابعة: ذكر الشفاعة الكبرى، وهي المقام المحمود. الخامسة: صفة ما يفعله صلى الله عليه وسلم: أنه لا يبدأ بالشفاعة، بل يسجد فإذا أُذن له شفع]. يعني: أنه يبدأ بالسجود أولاً، ويثني على الله ويمجده، ثم إذا أمره الله جلَّ وعلا وقال: (اشفع) شفع، أما قبل ذلك فما يشفع، وهذا من معنى قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] والمعنى: ما أحدٌ يشفع عند الله إلَّا بعد أن يأذن له، وهذا من عظمة الله جلَّ وعلا وتمام ملكه.

أسعد الناس بالشفاعة

أسعد الناس بالشفاعة [المسألة السادسة: مَن أسعد الناس بها؟]. أسعد الناس بها: أهل الإخلاص، ولا يلزم من هذا أن يكون أهل الإخلاص هم السابقون إلى الجنة؛ لأنه قد يكون العبد مخلصاً وتكون عنده ذنوب، فيستوجب بهذه الذنوب الدخول في النار، فيُشفع له ألَّا يدخل النار، أو يدخل النار، ثم يُشفع له أن يخرج منها؛ لأنه قد يترك واجبات وقد يفعل محرمات، والواجبات التي يفعلها يكون مخلصاً فيها لله.

الشفاعة لا تنال المشرك

الشفاعة لا تنال المشرك [المسألة السابعة: أنها لا تكون لمن أشرك بالله]. الشفاعة لا تنال المشرك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم -كما تقدم- قال: (كل نبي له دعوة فعجّلها في قومه) يعني: أن يدعو على قومه أن يُصابوا بالعذاب العام، كما فعل نوح عليه السلام فقال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارَاً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرَاً كَفَّارَاً} [نوح:26 - 27]، فاستجاب الله جلَّ وعلا له، وأغرق أهل الأرض جميعاً بدعوته، وكذلك غيره من الأنبياء، فكل نبي له دعوة فعجَّلها، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (واختبأت دعوتي شفاعةً لأمتي، فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئاً)، فبين أنها لأهل الإخلاص لأهل التوحيد، أما الذي يشرك بالله شيئاً فهو ليس أسعد الناس بها بل هو أتعسهم. ومن المعروف أن السعادة تتفاوت، فهذه في المذنبين سواءً دخلوا النار أو لم يدخلوها، أما أسعدهم بها مطلقاً فهم السبعون ألفاً الذين يسبقون إلى الجنة بلا حساب ولا عذاب؛ لأنهم لا يُدخلون الجنة إلَّا بعد الشفاعة بعد أن يشفع صلوات الله وسلامه عليه، فيأتي الله جلَّ وعلا ليفصل بين عباده ويحاسبهم، فإذا جاء ذهب هؤلاء إلى الجنة، وأول من يذهب إلى الجنة: هؤلاء السبعون ألفاً، وكذلك السابقون، والله جلَّ وعلا قد قسم الناس إلى أقسام ثلاثة: قسمين أهل سعادة. وقسم أهل شقاء. فأهل السعادة هم: السابقون وأصحاب اليمين. فالسابقون هم الذين يسبقون الناس إلى الجنة، ومنهم السبعون ألفاً، فهؤلاء هم أسعد الناس على الإطلاق بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم العظمى الكبرى التي يشفع فيها ليحاسَب الناس. أما الشفاعة التي تكون في أهل الذنوب سواءً استوجبوا دخول النار، فشُفع فيهم فلم يدخلوها، أو أنهم دخلوا النار فشُفع فيهم بعدما دخلوا النار، فكلهم سعداء بها؛ ولكن أسعد اسم تفضيل، يعني: الذين يسبقون إلى الجنة على الإطلاق.

حقيقة الشفاعة

حقيقة الشفاعة [المسألة الثامنة: بيان حقيقتها]. حقيقة الشفاعة: أن الله يرحم المشفوع، ويُظهر كرامة الشافع، وإلَّا فالشافع لا يؤثر في الله شيئاً، فإنه ما شاء فعل، وما لم يشأ لم يفعل، وإنما المقصود فقط: إظهار كرامته، وليس معنى الشفاعة أنه: إذا شفع أثر في الله في أن يفعل شيئاً ما يريد فعله، تعالى الله! هذا ما يكون إلَّا في المخلوق فقط، أما الخالق جلَّ وعلا فهو لتمام ملكه لا أحد يملك الشفاعة عنده، وإنما حقيقتها: أن الله يرحم عبده، ويظهر كرامة الشافع، وإلَّا فكل الأمر بيد الله جلَّ وعلا.

شرح فتح المجيد [56]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [56] قسم العلماء رحمهم الله الهداية إلى قسمين: هداية توفيق، وهذه لا تكون إلا لله عز وجل، والهداية الثانية: هداية دلالة وتوجيه وإرشاد، وهذه تكون للنبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الدعاة والمرشدين.

قوله تعالى: (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء)

قوله تعالى: (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) قال المصنف رحمه الله: [باب قول الله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56]]. هذا الباب ترجمه بهذه الآية، وغالب الكتاب يترجمه بآيات، ثم يذكر آية بعدها أو آيتين أو حديث فقط، فهو كتاب يعتمد على كتاب الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، وليس فيه آراء ولا ذكر قول فلان وفلان، وهو أيضاً مختصر جداً وواضح، بحيث إنه يمكن للإنسان أن يحفظه في أيام قلائل. ومراده بهذه الترجمة وهي قوله: باب قول الله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56] أن يبين ضلال الذين يتعلقون بالأولياء، ويدعونهم زاعمين أنهم يكشفون الكروب! ويعلمون ما في القلوب! ويغفرون الذنوب! فهو يقول: هذه الآية تدل على أن سيد الخلق محمداً صلوات الله وسلامه عليه الذي هو أقرب الناس إلى الله وسيلةً، وأعظمهم عنده جاهاً، لا يملك شيئاً من هداية القلوب أو نجاة أحد من العذاب، ولو كان يملك شيئاً لكان أحق من يخصه بالهداية هو من كان يحوطه ويحميه منذ صغره إلى السنة الثامنة في البعثة أو قريباً من ذلك، كان يحوطه ويحميه ويدافع عنه ويتفانى في ذلك ويتحمل في سبيل ذلك العنت الشديد، حتى إنه بقي محبوساً معه في شِعب من شعاب مكة ثلاث سنوات، لا يبايَع ولا يُشترى منه، ولا يُجلب له طعام، ولا يُخطب منه النساء ولا يُنكَحون، فحاصروه حصاراً شديداً جداً، وكل هذا لأجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لَمَّا حضرته الوفاة جاء إليه وقال: (يا عم، قل: (لا إله إلَّا الله) كلمةً أحاجُّ بها لك عند الله)، فأعادها عليها مراراً، ولم يستطع أن يجعله قائلاً لها، فمات على الشرك. فكيف بعد هذا يسوغ لأحد من الناس أن يأتي إلى مخلوق ويسأله أن يغفر ذنوبه، أو أن يهدي قلبه، أو أن ينصره على العدو، أو أن يشفع له عند الله ويقربه، أو أن يكون هو الملجأ في جميع الملمات، كما يقول قائلهم: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العممِ إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي فضلاً وإلَّا فقل يا زلة القدمِ ولن يضيق رسولَ الله جاهُك بي إذا الكريمُ تحلى باسم منتقمِ فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلمِ إلى آخره، وما أشبه ذلك، وهذا كذب على الله جلَّ وعلا وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن الدنيا والآخرة بيد الله، وليست من جملة جود النبي صلى الله عليه وسلم، وأما علم اللوح والقلم فقد استأثر الله جلَّ وعلا به فلا يُطلِع عليه أحداً من خلقه إلا من شاء على جزئيات منه، أما اللوح والقلم فقد كتب فيه كل شيء إلى أن يستقر أهلُ الجنةِ الجنةَ وأهلُ النارِ في النار؛ ولكن الغلو هو الذي يحدو بهؤلاء، ويجعلهم يسلبوا خصائص الله جلَّ وعلا ويعطوها البشر، مع أن القرآن قد نهى عن ذلك نهياً جلياً، فكيف يمكن اجتماع الإيمان بمثل هذه الآية: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] والإيمان بمثل هذه الأبيات؟! هذا يتناقض تمام المناقضة، ولا يمكن أن يجتمع إيمان بهذا وبهذا، إما أن يؤمن بهذه الأبيات وبمعانيها ويكفر بآيات الله وما قاله الله جلَّ وعلا ودعوة الرسول صلى الله عليه وسلم التي جاء بها؛ أو أن يكفر بهذه الأبيات وما دلت عليه، وغيرُها كثير، ويكون الحق هو ما قاله الله جلَّ وعلا وما قاله رسوله صلى الله عليه وسلم. وقد أراد المؤلف من الترجمة بهذه الآية تحذير من يتعلق بغير الله جلَّ وعلا زاعماً أن من سأله وطلب منه أنه ينفعه ولو لم يأذن الله! كما هي الوقائع الكثيرة المشاهَدة في الناس، والواجب على الإنسان أن يتفهم خطاب الله جلَّ وعلا وكلامه؛ لأنه فيه النور والهدى.

أنواع الهداية

أنواع الهداية قوله جلَّ وعلا: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] المقصود بالهداية هنا: هداية التوفيق بأن يخلق الله في قلبه محبة الخير وإرادته، فهذه من الله لا يملكها النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره، وهذه الهداية هي التي نفيت عن النبي صلى الله عليه وسلم. أما قوله جلَّ وعلا: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ} [الشورى:52 - 53] فمعنى ذلك: هداية الدلالة والإرشاد، فهو يدل ويرشد، ولكن لا يملك مما في القلوب شيئاً، بل يبين الحق ويدل عليه؛ لأنه مبلِّغ عن الله جلَّ وعلا، فجعل له هداية البيان والدلالة، ونفى عنه هداية التوفيق والخلق وتكريه الباطل وتبغيضه، ولهذا يقول جلَّ وعلا: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلَاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} [الحجرات:8] هذا كله فضل من الله على الإنسان، والإنسان لا يستحق على الله شيئاً؛ ولكن إذا تفضل الله جلَّ وعلا على عبده حبَّب إليه الإيمان وزيَّنه في قلبه، وكرَّه إليه الكفر والفسوق والعصيان، فيكون بذلك راشداً، وهذه الهداية خاصة بالله جل وعلا، وهي التي نفيت عن النبي صلى الله عليه وسلم. فلا يكون هناك تعارض بين ما نفي عنه وما أثبت له، فالذي نُفي غير المثبت. المثبت: البيان والإرشاد إلى الحق. والمنفي: هداية القلوب، فهي إلى الله، وهي المراده بهذه الآية: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] يعني: ما تستطيع أن تجعل في قلب من تحبه إرادةً للخير ومحبةً له وكراهيةً للكفر والشرك وبغضاً له، هذا إلى الله جلَّ وعلا، فإذا كانت الهداية -التي هي هداية التوفيق- بيد الله، فيجب أن تُطلب من الله ولا تطلب من غيره. قال الشارح رحمه الله: [قوله: باب قول الله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56] سبب نزول هذه الآية: موت أبي طالب على ملة عبد المطلب كما سيأتي بيان ذلك في حديث الباب]. كون سبب نزول الآية هو موت أبي طالب هذا أمر متفق عليه وثابت في الصحيحين من حديث سعيد بن المسيب، وغيره والآية مكية؛ ولكن سيأتي أن آيةً أخرى نزلت في ذلك، ويأتي البحث فيها.

الهداية بيد الله وليس على الرسول إلا البلاغ

الهداية بيد الله وليس على الرسول إلا البلاغ قال الشارح رحمه الله: [قال ابن كثير رحمة الله عليه: يقول تعالى لرسوله: إنك يا محمد لا تهدي من أحببت، أي: ليس إليك، إنما عليك البلاغ، والله يهدي من يشاء، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة، كما قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:272]، وقال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103]]. من المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم حريص على هداية أمته، فكان حريصاً على هداية الكفار أشد الحرص، ولهذا نهاه الله جلَّ وعلا عن المبالغة في ذلك فقال: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:3] يعني: قاتل نفسك، ويقول جلَّ وعلا: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} [الأعلى:9 - 12] وقال: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل:127]، في آيات كثيرة نهاه عن الحزن عليهم، ونهاه عن كونه يحرص كل الحرص على ذلك؛ لأن الأمر إلى الله، وقال: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ} [آل عمران:20] أي: عليك أن تبلغ وتبين، وأما الهداية فهي إلى الله؛ لأنهم عبيدُه يتصرف بهم كيف يشاء؛ ولهذا قال: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128] وإنما عليك أن تبلغ، والأمر إلى الله جلَّ وعلا، فكُلِّف بالبلاغ ولم يُكَلَّف بهداية القلوب فإنها إلى الله جلَّ وعلا، فكان حريصاً حرصاً عاماً وخاصاً. ومعلوم ما وقع له صلى الله عليه وسلم من عمه من الحماية، فما استطاع الكفار أن يصلوا إليه بالأذى لما كان أبو طالب حياً، فقد كان يحوطه، وكان رئيساً في قومه معظماً، وكانوا لا يجرءون على مخالفته، ولا يستطيعون أن يصلوا إليه، وقد كان يقول: لن تصلوا إلى ابننا حتى نقتل حوله مجندلين، فكان مستعداً أن يقاتل حتى يُقتل، ومع ذلك كان على دين قومه. وهذه من حكمة الله جلَّ وعلا؛ ليبين لخلقه جلَّ وعلا أن الرسول ليس بيده شيء من هداية الناس، وإنما الهداية بيد الله جلَّ وعلا يختص بها من يشاء، وهو أعلم بمواقع فضله، وأين يضع فضله. ومن المعلوم أن الإنسان أعطي عقلاً ونظراً وفكراً، ثم جاءته رسالة من الله، وبُين له طريق الخير وطريق الشر، فقيل له: هذا الخير فاسلكه، وهذا الشر فاجتنبه، فجُعل الأمر إليه، وهذه الدلالة بإمكان كل أحد، أما جَعْله محباً للخير ومبغضاً للشر فهذا فضل الله، وإذا تفضل به على مخلوق فيجب عليه أن يشكره، ويعرف حقه عليه، ويزداد عبادةً له جلَّ وعلا. فعلى المسلم أن يقارن حالته مع حالة الكفار الآن، فالكافرون اليوم كثيرون جداً، الأرض مملوءة منهم، وكلهم عندهم أفكار وعندهم عقول كبيرة، يخترعون المخترعات، ويجيدون الصناعات؛ ولكن مُنعوا أفضل ما يكون، مُنعوا الإيمان بالله جلَّ وعلا، وأنت أيها المسلم قد تفضل الله جلَّ وعلا عليك بالإيمان، فهل لأنك أكثر منهم عقلاً؟! لا. لست أكثر منهم عقلاً، وإنما هذا فضل الله يختص به من يشاء جلَّ وعلا. فالمقصود: أن من الحكم التي تظهر للمتأمل في كون الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستطع أن يقنع أبا طالب بدعوته ويجعله مسلماً أن الأمر كله لله، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يملك مع الله شيئاً، وقد حرص أشد الحرص على هداية عمه فما استطاع. وهذا مما يبين بوضوح أن العبادة يجب أن تكون لله وحده، وأنْ ليس للرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك شيء؛ لأنه عبدٌ لله كلفه الله بإبلاغ رسالته. وكذلك يتبين أن التعلق بالنسب والقرابة لا تُجدي شيئاً ولا تفيد شيئاً، وإنما الذي يفيد هو: تقوى الله وطاعته فقط، فهذا أبو لهب عمه أخو أبيه، ومع ذلك {سيصلى نَارَاً ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد:3] فلم تنفعه القرابة ولم تجد عنه شيئاً، وإنما الصلة بين الإنسان وبين السعادة: بطاعة الله جلَّ وعلا وامتثال أمره واجتناب نهيه. قال الشارح رحمه الله: [قلت: والمنفي هنا هداية التوفيق والقبول فإن أمر ذلك إلى الله وهو القادر عليه، وأما الهداية المذكورة في قول الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] فإنها هداية الدلالة والبيان، فهو المبين عن الله، والدال على سدينه وشرعه].

قوله تعالى: (وأما ثمود فهديناهم)

قوله تعالى: (وأما ثمود فهديناهم) قوله جلَّ وعلا في قوم صالح: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلت:17] (هديناهم) يعني: بينا لهم بياناً واضحاً ليس فيه لبس؛ لأنهم أجيبوا إلى اقتراحهم الذي اقترحوه، وقد اقترحوا شيئاً كانوا يظنون استحالة وقوعه، فقالوا لنبيهم: ما نؤمن بك حتى تُخرج لنا من هذا الجبل ناقة عظيمة، كلنا يشرب من لبنها ويروى! -كل أهل البلد! - فإذا أخرجت لنا ناقة من هذا الجبل آمنا بك، فأخذ عهودهم ومواثيقهم أن يؤمنوا، فأعطوه ذلك، فسأل ربه، فصار الجبل يتمخض كأنه ناقة، فانفلق عن ناقة عظيمة على الوصف الذي أرادوا، فصاروا كلهم يشربون من لبنها، يشربون مرة واحدة من لبنها، ومعها أيضاً فصيل لها، ومع ذلك كفروا، فهُدوا إلى هذا؛ لأن هذا أمر باهر يضطر الإنسانَ إلى أن يؤمن بالله جلَّ وعلا، ولكن -مع ذلك- لما حكم الله جلَّ وعلا عليهم بالضلالة في قضائه وقدره ما نفعهم هذا، فكفروا بنبيهم وعقروا الناقة، فأخذهم العذاب العاجل.

قصة وفاة أبي طالب

قصة وفاة أبي طالب قال المصنف رحمه الله تعالى: [وفي الصحيح عن ابن المسيَّب عن أبيه]. هو ابن المسيَّب ويقال: ابن المسيِّب، وكان يقول: سيَّب الله من سيَّبني، فلهذا يقول العلماء: ابن المسيِّب ليتجنبوا دعوته؛ لأنه ما كان يرضى بهذا الاسم. [قال: (لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل فقال له: يا عم! قل: (لا إله إلَّا الله) كلمة أحاج لك بها عند الله، فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟! فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم فأعادا، فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: (لا إله إلَّا الله)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لأستغفرن لك ما لم أنه عنك، فأنزل الله عزَّ وجلَّ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى} [التوبة:113]، وأنزل الله في أبي طالب: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56])]. أما سعيد رحمه الله فهو تابعي وأحد الفقهاء السبعة، بل قال ابن المديني: لا أعلم في التابعين أوسع علماً منه. وأبوه مسيَّب بن حُزن صحابي، وجده كذلك حُزن صحابي قتل في وقعة اليمامة شهيداً، وأبوه هو الذي روى هذا الحديث، ويجوز أنه كان حاضراً عند أبي طالب، أما قول بعضهم: إن هذا من مراسيل الصحابة فليس صحيحاً. وأبو جهل اسمه: الحكم بن هشام؛ ولكن سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبا جهل، وكذلك عبد الله بن أبي أمية، وكلاهما مخزومي، وكذلك المسيَّب من بني مخزوم، فيجوز أنه كان حاضراً هذه القصة. ومعنى قوله: (لما حضرت أبا طالب الوفاة) يعني: لما قَرُب من الموت، وتبينت فيه علاماته، والإنسان يتبين قُرْب الموت منه، وكل الناس يعرفون هذا، وعند ذلك أتاه الرسول صلى الله عليه وسلم وكان عنده هذان الرجلان: أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية، فقال له: (يا عم)، وهذا الكلمة (يا عم) أراد بها الاستعطاف لعله يقبل هذه الكلمة، فهو يجتهد في ذلك، فقال: قل: (لا إله إلَّا الله)، ومن المعلوم أن العرب يعرفون معنى (لا إله إلَّا الله)، وأن معناها: حصر التألُّه والعبادة في الله وحده، وألَّا يُجعل منها شيء لغيره، فنظر إليه وكاد أن يقولها، فمنعه جلساء السوء أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية، وإن كان عبد الله أسلم فيما بعد، ومات أبو جهل كافراً، وقد قُتل في وقعة بدر كافراً. أما المسيَّب فإنه أسلم هو وأبوه كما عرفنا، فلما قال له الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الكلمة نظر إليه وكاد أن يقولها؛ ولكن حكمةَ الله يريده ألا يؤمن، فقالا له: (أترغب عن ملة عبد المطلب؟!) وهذا يدلنا على أمور، منها: أنهم يعرفون معنى (لا إله إلَّا الله)، وأن الإنسان إذا قالها خرج بها عن ملة عبد المطلب التي هي ملة الشرك إلى ملة محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، وصار مسلماً بهذه الكلمة. وكذلك فيه مضرة تعظيم الأسلاف والكبراء، ومضرة التقليد، إذ إنه منعه الإيمان! فلما قالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟! أحجم وسكت، فأعاد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: (يا عم! قل: (لا إله إلَّا الله) كلمةً أحاج لك بها عند الله)، فأعادا عليه الكلمة فقط: أترغب عن ملة عبد المطلب؟! ثم قال: هو على ملة عبد المطلب)، وكلمة (هو) هذه غيَّرها الرواي؛ لأنه استبشع واستقبح أن يقول: أنا على ملة عبد المطلب، وقد جاء في مسند الإمام أحمد بهذا اللفظ: (أنا على ملة عبد المطلب)، فمات على ذلك. يقول الحافظ: من أحسن الأمور: كون الإنسان يغير الكلمة التي إذا رويت كما هي كانت بشعة قبيحة، فيغيرها ويصرفها إلى ما هو حسن طيب؛ لأن المعنى مفهوم وواضح. وهذا يدلنا على أن الأعمال بالخواتيم، وأنه لو قال هذه الكلمة في تلك الحال لنفعته؛ ولَحُكِم له بالإسلام، ومن المعلوم أن الناس في مكة في ذلك الوقت قسمان فقط، ليس فيهم منافق؛ لأن المسلمين مستضعفون، والكفار هم الذين لهم الكلمة، وهم الذين لهم الدولة ولهم البلد، ومن أسلم من أبنائهم وإخوتهم عذبوه وأرهبوه، إلَّا أن يفر أو تكون له قوة أو قبيلة تحميه، وكثير منهم عُذِّب وقُتِل تحت التعذيب لأجل أنه أسلم! فلهذا لم يوجد فيهم في العهد المكي منافق، وإنما النفاق وُجِد في المدينة لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم مهاجراً، وصار له أنصار وقوة، وكان في المدينة خليط من المؤمنين والمشركين واليهود، واليهود كانوا كثيرين، وهم قبائل ثلاث كما هو معروف: بنو قينقاع. وبنو النضير. وبنو قريظة. وكل قبيلة تزعم أنها هي القوية. فلما وقعت غزوة بدر، وانتصر المسلمون فيها، بدأ النفاق عندما ظهرت قوة الرسول صلى الله عليه وسلم وقوة المؤمنين، والإنسان إذا قال: (لا إله إلَّا الله) حُكم له بالإسلام ظاهراً، فإن كان قد عَرف معناها -معنى هذه الكلمة- وعمل بمعناها في نفسه وما دلت عليه؛ فهو مسلم ظاهراً وباطناً، أما إذا قالها بلسانه فقط، وهو في قلبه منكر لمعناها فهذا هو المنافق، ويكون حكمه حكم المسلمين في الظاهر، وأما في الباطن فهو من أهل الكفر ومن أهل النار، بل هو تحت الكافرين في الدرك الأسفل من النار؛ لأنه قدم خشية الناس على خشية الله، وجعل خوف الناس أعظم من خوف الله عنده، وأما في هذه الحال فلا يمكن للإنسان إلَّا أن يعتبر معرفة المعنى فقط، ويعتقده بقلبه؛ لأنه لا يمكنه العمل عند قُرْب الموت، فيشترط فقط أن يعرف المعنى، ويعتقده بقلبه، ولا يلزم أن يعمل؛ لأنه لا يستطيع العمل، فقد انتهت القضية. فإذا مات الإنسان قائلاً لهذه الكلمة عارفاً لمعناها فإنه يُحكم له بالإسلام كما هو ظاهر هذا الحديث، ولهذا قال: (كلمةً أحاج لك لها عند الله) يعني: قل: (لا إله إلَّا الله) وهذه الكلمة هي كلمة الإيمان.

كلمة التوحيد تنقل قائلها من ملة الكفر إلى ملة الإسلام

كلمة التوحيد تنقل قائلها من ملة الكفر إلى ملة الإسلام قولهم: (أترغب عن ملة عبد المطلب؟!) يدلنا على أنه لو قالها لانتقل من ملة إلى ملة أخرى، من ملة الكفر والشرك إلى ملة الإسلام، وإلَّا فـ عبد المطلب نفسه يؤمن بأن الله هو الرب المتفرد، فإنه لما أخذ أبرهة الحبشي إبله، فذهب إليه؛ نظر إليه أبرهة فأعجبه وأعظمه فقال لترجمانه: قل له: يسأل ويطلب ما يشاء، فقال: أطلب إبلي، فقال لترجمانه: قل له: إنك سقطت من عيني بعدما كنتَ في عيني كبيراً؛ جئتُ لأجل هدم بيت هو شرفك وشرف آبائك، وتسألني: أين الإبل؟! لماذا لم تسأل عن البيت لئلا أتعرض له ولئلا أهدمه؟ فقال له عبد المطلب: أنا رب الإبل، وأما البيت فله رب سيحميه، ويقصد بالرب: الله جلَّ وعلا، وقد وقع أن حماه الله حمايةً لا يحميها البشر. فالمقصود: أنه كان يؤمن بالله، ويؤمن بأنه الرب القادر على كبت الكافرين الذين يريدون هدم البيت، ومع ذلك ما نفعه هذا؛ لأنه مات مشركاً. وفي هذا أيضاً دليل واضح بأن أبا طالب مات على الشرك، كما هو صريح في هذا الحديث، وأما قول الحافظ رحمه الله في (فتح الباري): إن قول الراوي: (فمات على ذلك)، يظهر أنه استند إلى هذه الكلمة. والصواب: أنه استند إلى الواقعة وإلى ما حدث وما حصل؛ ولهذا نزل قول الله جلَّ وعلا: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] فالأمر واضح في هذا. وأما ما ذكره السهيلي أن في بعض الكتب للمسعودي أن أبا طالب قال: (لا إله إلَّا الله)، فهذا لا يجوز أن يُلتفت إليه مع ما ثبت في الأحاديث التي في الصحيحين، وما جاء الإشارة إليه في كتاب الله، والمسعودي معروف حاله، فهو رجل من الرافضة، والرافضة مذهبهم أن أبا طالب ناجٍ، وعبد المطلب ناجٍ. وهذه الآية التي نزلت فيه: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] واضحةٌ. وأما قوله: وأنزل الله جلَّ وعلا: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:113 - 114] فالاستدلال بهذه الآية ليس واضحاً؛ لأن هذه الآية من آخر ما نزل، هذه الآية في سورة (التوبة)، وسورة (التوبة) نزلت في رجوعه صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك في آخر الأمر، ويجوز أن تكون نزلت قبل هذا؛ ولكن هناك أحاديث صحيحة تعترض على هذا، مثل: كون الرسول صلى الله عليه وسلم يستغفر للمنافقين، وقد صلى على عبد الله بن أبي، وأعطى ابنه ثوبه يكفنه فيه، واستغفر له حتى أمسك عمر ثوبه وقال: (يا رسول الله! أتصلي عليه وقد قال: كذا وكذا وكذا وكذا؟ فقال له: دعني؛ إن الله قال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة:80] فوالله! لو أعلم أني إذا زدتُ على السبعين غُفِر لهم لزدتُ، ثم أنزل الله جلَّ وعلا عليه: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدَاً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة:84]). فهذا يدل على أنه كان يستغفر للمنافقين ويصلي على بعضهم. وكذلك جاء في الصحيح أنه صلوات الله وسلامه عليه لما اعتمر عمرة القضاء مَرَّ بقبر أمه فزاره وبكى وقال: (إني استأذنت ربي في الاستغفار لها فأبى، فاستأذنت في زيارة قبرها فأذن لي، فزوروا القبور ولا تقولوا هجراً) فلو كانت الآية هذه قد نزلت قبل تلك الحادثة، لما قال الرسول صلى الله عليه وسلم هذا القول: (فاستأذنت ربي في الاستغفار لأمي) لأنه قد نُهي، وعلى هذا فالصواب: أن النهي عن الاستغفار كان متأخراً، يعني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعدما مات أبو طالب كان يستغفر له، فسمع المؤمنون ذلك فقالوا: نستغفر لآبائنا كما أن النبي صلى الله عليه وسلم يستغفر لـ أبي طالب، فنزلت الآية بعد وقت، ولا مانع أن يقال: إن أسباب النزول تعددت، فيكون هذا سبباً وهذا سبباً، وقد جاء أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه سمع رجلاً يستغفر لأبويه وهما قد ماتا مشركَين، فأخبر النبيَّ صلى الله عليه وسلم بذلك فنزل قول الله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ} [التوبة:113] إلى آخره، ويكون هذا القول ثالثاً إذا صحَّ، والله أعلم.

معنى قول المصنف: (في الصحيح)

معنى قول المصنف: (في الصحيح) قول المؤلف: (في الصحيح): هو لا يقصد أنه في الكتاب، يعني: في صحيح البخاري وفي صحيح مسلم، وإنما قصده أعم من هذا، فإذا قال: في الصحيح فيعني: في الحديث الصحيح الثابت، ويجوز أن يكون في صحيح البخاري أو في صحيح مسلم أو في غيرهما.

ترجمة سعيد بن المسيب وأبوه وجده

ترجمة سعيد بن المسيب وأبوه وجده قال الشارح رحمه الله تعالى: [و (ابن المسيِّب) هو: سعيد بن المسيِّب بن حُزن بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم القرشي المخزومي أحد العلماء والفقهاء الكبار السبعة من التابعين، اتفق أهل الحديث على أن مراسيله أصح المراسيل، وقال ابن المديني: لا أعلم في التابعين أوسع علماً منه، مات بعد التسعين وقد ناهز الثمانين. وأبوه المسيِّب صحابي، بقي إلى خلافة عثمان رضي الله عنه، وكذلك جده حُزن صحابي، استشهد باليمامة]. وهو الذي أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يغير اسمه فقال: (اسمك: سهل، قال: لا أغير اسماً سمانيه أهلي). فأبى أن يغيره؛ ولهذا يقول سعيد: لم تزل تلك الحزونة فينا؛ لأن الاسم قد يكون له أثر، ولا سيما إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد طلب منه أن يغيره فأبى.

التوبة لا تقبل عند الغرغرة

التوبة لا تقبل عند الغرغرة قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: (لما حضرت أبا طالب الوفاة) أي: علاماتها ومقدماتها]. لماذا يقول: علاماتها ومقدماتها؟ لأن الإنسان إذا عاين الموت ما يفيده قول: (لا إله إلَّا الله)، كما قال صلى الله عليه وسلم: (تُقبل توبة العبد ما لم يغرغر) والغرغرة هي: أن تبدأ الروح بالخروج، وفي رواية: (ما لم يعايِن) والمعاينة هي: معاينة الموت، إما يعاين الملائكة أو يُوقن بأنه ميت؛ لأنه انتهت حياته، وفي هذه الحالة لا تُقبل التوبة، وإنما تُقبل التوبة ما دامت الحياة مستقرة؛ ولهذا قال: علاماتها، يعني: علامات الوفاة، وعلاماتها: شدة المرض.

أكثر شرك الأولين سببه تقليد الآباء والأجداد

أكثر شرك الأولين سببه تقليد الآباء والأجداد قال الشارح رحمه الله: [قوله: (جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم) يحتمل أن يكون المسيَّب حضر مع الاثنين؛ فإنهما من بني مخزوم، وهو أيضاً مخزومي، وكان الثلاثة إذ ذاك كفاراً، فقتل أبو جهل على كفره، وأسلم الآخَران. قوله: (يا عم!) منادى مضاف يجوز فيه إثبات (الواو) وحذفها، حذفت (الياء) هنا، وبقيت الكسرة دليلاً عليها. وقوله: (قل: (لا إله إلَّا الله)) أمره أن يقولها لعلم أبي طالب بما دلت عليه من نفي الشرك بالله وإخلاص العبادة له وحده، فإن من قالها عن علم ويقين فقد برئ من الشرك والمشركين ودخل في الإسلام؛ لأنهم يعلمون ما دلت عليه، وفي ذلك الوقت لم يكن بمكة إلَّا مسلم أو كافر، ولا يقولها إلَّا من ترك الشرك وبرئ منه. ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة كان فيها المسلمون الموحدون، والمنافقون الذين يقولونها بألسنتهم وهم يعرفون معناها لكن لا يعتقدونها لما في قلوبهم من العداوة والشك والريب، فهم مع المسلمين بظاهر الأعمال دون الباطن، وفيها اليهود، وقد أقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر ووادعهم بألَّا يخونوه، ولا يظاهروا عليه عدواً، كما هو مذكور في كتب الحديث والسير. قوله: (كلمةً) قال القرطبي: بالنصب على أنه بدل من (لا إله إلَّا الله)، ويجوز الرفع على أنه خبرُ مبتدإٍ محذوف. قوله: (أحاجّ لك بها عند الله) هو بتشديد (الجيم) من المحاجَّة، والمراد بها: بيان الحجة بها لو قالها في تلك الحال. وفيه دليل على أن الأعمال بالخواتيم؛ لأنه لو قالها في تلك الحال معتقداً ما دلت عليه مطابقة من النفي والإثبات لنفعته. قوله: (فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟!) ذكَّراه الحجة الملعونة التي يحتج بها المشركون على المرسلين، كقول فرعون لموسى: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} [طه:51]، وكقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23]. قوله: (فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم فأعادا) فيه معرفتهما لمعنى (لا إله إلَّا الله)؛ لأنهما عرفا أن أبا طالب لو قالها لبرئ من ملة عبد المطلب؛ فإن ملة عبد المطلب فيها الشرك بالله في إلهيته، وأما الربوبية فقد أقروا بها كما تقدم، وقد قال عبد المطلب لـ أبرهة: (أنا رب الإبل، والبيت له رب يمنعه منك). وهذه المقالة منهما عند قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمه: (قل: لا إله إلَّا الله) استكباراً عن العمل بمدلولها، كما قال الله تعالى عنهما وعن أمثالهما من أولئك المشركين: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات:35 - 36]، فرد عليهم بقوله: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:37] فبين تعالى استكبارهم عن قول: (لا إله إلَّا الله) لدلالتها على نفي عبادتهم الآلهة التي كانوا يعبدونها من دون الله]. قوله: إنه عندما عرض عليه أن يقول: (لا إله إلَّا الله) قالا له - أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية -: أترغب عن ملة عبد المطلب؟! يقول: فذكَّراه الحجة الملعونة، يعني بـ (الحجة): أنهم وجدوا آباءهم على شيء، وهذه هي التي يحتج بها المشركون قديماً وحديثاً، فإذا نُهوا عن الشرك قالوا: الكثيرون على هذا، والقليل الشاذ هو الذي خالف ذلك، وهؤلاء الذين عندهم تعظيم الآباء والعادة التي وجدوا عليها أسلافهم استبعدوا أن يكون هذا ضلالاً وكفراً، بل تمسكوا به بغض النظر عن كون الأدلة واضحة في بطلانه، وهذه -في الواقع- حجة نشأ بعض الناس عليها، وهي تمنعهم من استعمال عقولهم؛ لأنه إذا عاش على شيء ووجد عليه آباءه وأقرباءه وقومه ومعظَّميه يصعب عليه مخالفتهم؛ فيسبب ذلك أنه يتبعهم ويسلك مسلكهم. ويقول: إن هذا هو الذي قال فيه فرعون لموسى: {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} [طه:51] لما قال لهم موسى عليه السلام: اعبدوا الله وحده، وأخلصوا العبادة له. يقول: إن القرون السابقة ما كانت تعبد الله، وإنما كانت تعبد الأصنام والأوثان وغيرها، فما بالها؟ بالها أنها هالكة، وأنها على ضلال، والله جلَّ وعلا أهلكها، وليست هذه حجة.

معرفة كفار قريش أن كلمة التوحيد تبطل الكفر

معرفة كفار قريش أن كلمة التوحيد تبطل الكفر قوله: إن قولهم: (أترغب عن ملة عبد المطلب؟!) يدل على أنهم يفهمون أن قول: (لا إله إلَّا الله) يبطل ملة الكفر، وينقل الإنسان من ملة الكفر والشرك إلى ملة الإخلاص والتوحيد التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأنهم عرب يفهمون الكلام الذي رُكِّب من النفي والإثبات، فقوله: (لا إله): هذا نفي لأن يكون هناك إله، وقوله: (إلَّا الله): إثبات للمنفي أن يكون لله وحده فقط، فمعنى ذلك أنه لا يجوز التألُّه والتعبُّد والتعلُّق على غير الله جلَّ وعلا، بل هذا يجب أن يُحصر في الله وحده، وهذا هو حقيقة الإسلام وحقيقة الدين الذي جاءت به الرسل كلها، فكل الرسل يدعون إلى هذا، ويقولون لقومهم أول ما يقولون: (لا إله إلَّا الله)؛ ولهذا ذكر الله جلَّ وعلا في كتابه أن نوحاً عليه السلام قال لقومه: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] فقوله: {اعْبُدُوا اللَّهَ} هو معنى: (إلَّا الله)، وقوله: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] هو معنى: (لا إله). وهكذا قال هود وقال صالح وقال شعيب، وكل الرسل الذين ذكرهم الله جلَّ وعلا بدءوا دعوتهم إلى قومهم بـ (لا إله إلَّا الله). ويقول الله جلَّ وعلا: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولَاً أَنِ اْعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] فهذا أيضاً معنى (لا إله إلَّا الله)، فقوله: {اْعْبُدُوا اللَّهَ} هو معنى: (إلَّا الله)، وقوله: {وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} هو معنى: (لا إله). وكذلك قوله جلَّ وعلا: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} [البقرة:256] فقوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ} [البقرة:256] هو معنى: (لا إله)، وقوله: {وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} هو معنى: (إلَّا الله). وقال جلَّ وعلا: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاه} [الإسراء:23]. فهذه الكلمة التي قالها الرسول صلى الله عليه وسلم لعمه هي التي كان يقولها للناس من أول ما أرسل إليهم، وهي التي جاءت بها الرسل إلى أممهم من أولهم إلى آخرهم، وهي التي يقول الله جلَّ وعلا فيها: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] في جميع الأزمنة ولجميع الخلق، هذا هو الدين، ولهذا يقول جلَّ وعلا: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5]، وما دخل الضرر والنقص على المسلمين إلَّا لأنهم جهلوا معنى هذه الكلمة الذي دلت عليه، فوقعوا في المتناقضات، فهم يقولون: (لا إله إلَّا الله) ولكنهم يأتون بما ينقاضها تماماً؛ لأنهم: أولاً: جهلوا اللغة العربية؛ فلغتهم التي يتخاطبون بها، جهلوا معانيها. ثانياً: جهلوا معنى العبادة، ومعنى (الإله)، فظنوا أن العبادة مجرد السجود أو مجرد كون الإنسان يعتقد أن العبادة لا تكون إلَّا لمن يخلق ويرزق ويتصرف في الكونيات الظاهرة تصرفاً لا يشاركه غيره فيه، فوقعوا في عبادة غير الله جلَّ وعلا، وتركوا مفهوم هذه الكلمة، والسبب هو: أنهم لم يهتموا لذلك؛ لأن الأمور التي يهتمون لها لابد أن يدركوا معانيها، ويدركوا من المقصود بها، لكنهم لا يدركون إلا ما يهتمون به، أما هذا فالاهتمام به قليل، ومع ذلك فإن الأمر واضح وجلي، والقرآن كله من أوله إلى آخره يدل على هذا دلالةً واضحة؛ لأن الله أقام الحجة عليهم، فكل من أعرض عن ذلك وقصر فيه فاللوم عليه؛ لأن الحجة قائمة، فهو الملوم؛ ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بالهدى ووضح وبين. قال الشارح رحمه الله تعالى: [فإن دلالة هذه الكلمة على نفي ذلك دلالة تضمُّن، ودلالتها عليه وعلى الإخلاص دلالة مطابقة]. دلالة هذه الكلمة على نفي الشرك: دلالة تضمُّن؛ لأن في ضمنها أنه لا يُعبد إلَّا الله (لا إله)، ودلالتها على نفي الشرك وعلى الإخلاص دلالة مطابقة، والمطابقة هي: دلالة الكلام على جميع المعنى، والتضمُّن: دلالة الكلام على بعضه أو على مفهومه، ومعلوم أن الإخلاص ضد الشرك. والشيء يظهر حسنه الضد وبضدها تتبين الأشياءُ وهي واضحة وجلية في الإخلاص، ولهذا قال: (إنها مطابقة)، وكذلك واضحة وجلية في كونه لا يجتمع إخلاص وشرك، فلهذا قال: (ودلالتها عليه وعلى الإخلاص دلالة مطابقة)، فالأول: مفرد، والثاني: مجموع، وهذا ولو لم يفهمه الإنسان ولم يعرف دلالة المطابقة أو دلالة التضمُّن ما يضره. والمقصود: أنه يفهم ما وُضعت له وما دلت عليه، ولا يلزم أن يميز بين المطابقة والالتزام والتضمُّن، فهذه أمور اصطلاحية، وهي من اصطلاح المناطقة، كون الدلالات تكون ثلاث: التزام. وتضمُّن. ومطابقة. ولكن الذي يفهم اللغة العربية يفهم معنى الدلالة، وكونه لا يفرق بين دلالة التزام أو تضمُّن أو مطابقة لا يضره.

الحكمة في عدم إسلام أبي طالب

الحكمة في عدم إسلام أبي طالب قال الشارح رحمه الله تعالى: [ومن حكمة الرب تعالى في عدم هداية أبي طالب إلى الإسلام ليبين لعباده أن ذلك إليه، وهو القادر عليه دون من سواه، فلو كان عند النبي صلى الله عليه وسلم -الذي هو أفضل خلقه- من هداية القلوب وتفريج الكروب ومغفرة الذنوب والنجاة من العذاب ونحو ذلك شيء؛ لكان أحق الناس بذلك وأولاهم به: عمه الذي كان يحوطه ويحميه وينصره ويؤويه، فسبحان من بهرت حكمته العقول، وأرشد العباد إلى ما يدلهم على معرفته وتوحيده وإخلاص العمل له وتجريده!]. يعني: أن من الحكم التي تظهر للناظر في كون أبي طالب لم يسلم، ما بينه بقوله: (يدل ذلك على أن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بيده شيء من أمر الله؛ من هداية القلوب وإيصال الهدى إليها) هذا ليس إليه، وإنما هذا لله جلَّ وعلا، مع أنه أقرب الناس إلى الله، وهو رسوله الذي أكرمه الله جلَّ وعلا بالرسالة، ويجيب دعوته إذا شاء كثيراً، ومع ذلك ما استطاع هداية عمه الذي كان يحوطه ويحميه، مما يدل دلالة واضحة أن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس له مع الله شيء، وإنما الأمر كله بيد الله، فالله هو الذي يهدي من يشاء، ويضل من يشاء. وقد تقدم أن الهداية تنقسم إلى قسمين: هداية دلالة وإرشاد: وهذه هي التي أُثبتت للرسول صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ} [الشورى:53] يعني: أنه يدل ويبين ويوضح؛ لأن عليه مجرد تبيين الأدلة، وإيضاح الحق من الباطل. وهداية توفيق: فهداية التوفيق هي: أن تُخلَق الهداية في القلوب، وأن يُحبَّب الإيمان إلى القلب ويُكرَّه إليه ضده، فهذا إلى الله، وليس لأحد منه شيء، لا الرسول صلى الله عليه وسلم ولا غيره، وهذا هو المقصود في قوله: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] يعني: لا تستطيع أن تجعل الإيمان في قلب من تشاء ومن تحب، وإنما هذا إلى الله جلَّ وعلا. ويجوز أن يكون هناك حكم غير هذه في كون أبي طالب لم يؤمن، ومن سنة الله جلَّ وعلا أنه إذا بعث رسولاً في أمة يبعثه في أشرافها، وتكون قبيلته قوية، ولابد أن يوجد فيهم متعصب له ليمنعه من أذى الآخَرين، كما قال الله جلَّ وعلا في قصة شعيب أن قومه قالوا: {وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} [هود:91] (رَهْطُكَ) يعني: جماعتك، ورهطه لم يؤمنوا به ولو كانوا من قبيلته، {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّه} [هود:92] ومع ذلك كل رسول يتحدى قومه بأن يقتلوا أو يفعلوا به ما يشاءون فلم يستطيعوا، حتى رسولنا صلى الله عليه وسلم أمره الله جلَّ وعلا بذلك، قال له: {ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنظِرُونِ * إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف:195 - 196] هكذا قال الله جلَّ وعلا له، وكان يقول لهم ذلك فما استطاعوا، ولهذا في آخر الأمر لما مات أبو طالب اتفقوا على أنهم يقتلونه واستعدوا لذلك، وأخذوا من كل قبيلة من قبائل قريش رجلاً شاباً جَلْداً وأعطوه سيفاً، زاعمين أنهم يضربونه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه في القبائل؛ فترضى بنو هاشم بطلب الدية فقط؛ لأنها لن تستطيع أن تقتل من كل قبيلة من فعل ذلك منهم، فاتفقوا على أن يقتلوه، فأحاطوا بيته ومعهم سلاحهم وجلسوا عليه، فخرج من بينهم وهم ينظرون ولكن لا يبصرونه، خرج وصار يأخذ التراب من الأرض ويذره على رءوسهم ويقرأ قول الله جلَّ وعلا: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدَّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدَّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:9] وذهب وتركهم، وقد أمر علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن ينام على فراشه، وقال له: (لا تخف؛ لن يصل إليك أذىً) وكانوا ينظرون إليه ويتصورون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما خرج إليهم قالوا: أين محمد؟ قال: خرج من بينكم وقد وضع على رءوسكم التراب، فانظروا إليه فوق رءوسكم، فلمسوه بأيديهم فرأوا تراباً موضوعاً على رءوسهم. فالخلق ليسوا شيئاً بالنسبة لله جلَّ وعلا، فأعمى أبصارهم كما أعمى قلوبهم، ومنعهم من الوصول إليه بأي طريق شاء، تعالى الله وتقدس. وكذلك قال هود لما قال له قومه: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود:54] يعني: يقولون: إن بعض أصنامنا أصابك بجنون، فصرتَ مجنوناً؛ لأنك صرت تنهانا عن عبادتها، فقال لهم: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعَاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:54 - 56]، فتحداهم وقال: أجمِعوا أمركم أنتم ومعبوداتكم، واجتمعوا على كيدي بما تستطيعون، ولا تُنظروني ساعةً، أي: لا تمهلوني، فما استطاعوا، وهو وحده، وهم أمة قوية جبابرة كما هو معلوم، ومع ذلك لم يستطيعوا له. وكذلك نوح عليه السلام، وكذلك الرسل كلها. ولكن الله جلَّ وعلا يُجري غالب الأمور على الأمر المعتاد عند الناس؛ لأنها سنن وأسباب وضعها لخلقه. فبعث الرسول في قوة من قومه، ولذلك تعصب له أبو طالب، والعصبية تفيد في بعض الأحيان، وليست مذمومة مطلقاً، بل هي تفيد في بعض الأمور، وكون الإنسان يتعصب للحق، ويتعصب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولدينه؛ أمر مطلوب، ولكن لا يجعله ذلك يتعدى الحق إلى الباطل. والذي ذُكر من الرسل أنه لم يكن له قبيلة قوية تدافع عنه هو: لوط عليه السلام؛ ولهذا قال لقومه: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80] وقصده بالركن: القبيلة القوية التي تمنعه وتحميه؛ ولهذا جاء في الحديث: (أن الله جلَّ وعلا ما أرسل بعد لوط نبياً إلَّا في منعة من قومه)، وجاء أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (يرحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد) لأنه يأوي إلى الله جلَّ وعلا؛ ولكن هو ما أراد هذا، إنما أراد أنه يدافعهم -لما أرادوا السوء بأضيافه- مدافعةً على ما جرت به السنن، وما جرت به العادة؛ لقوته وقوة من يكون معه، أما كونه يعلم أن الله سينصره فهذا ثابت عنده لا مرية فيه، وهو ما علم أن أضيافه ملائكة؛ لأنهم جاءوا إليه بصورة شباب حسان الوجوه، وقد فُتن قومه -نسأل الله العافية! - بإتيان الذكران وترك النساء، وهم أول من فعل هذه الجريمة، فمن تمام البلية أن الملائكة جاءوا إلى لوط بصورة شباب حسان الوجوه، فجاءوا يهرعون إليه، فدافعهم بكل ما يستطيع، حتى عرض بناته أن يزوجهم إياهن؛ ولكن هم لا يريدون إلَّا الفساد فقالوا: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} [هود:79] فقال: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80] عند ذلك قال له جبريل: لا تخف؛ نحن رسل الله {لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} [هود:81] ثم طمس أعينهم بجناحه، فعميت أبصارهم، ثم قال للوط: إن هؤلاء قد قرب أمر الله فيهم، والعذاب آتٍ إليهم، فقال له لوط: الآن أرني فيهم عذاب الله وأنا أنظر؛ لأنهم أوصلوه واضطروه إلى أقصى غاية لا يستطيع أن يصبر فيها، فقال له: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود:81] أي: الصبح قريب؛ لأنهم كانوا في أول الليل. فالمقصود: أن قيام أبي طالب بالذود عن النبي صلى الله عليه وسلم وحمايته هذه سنة من السنن التي جرت عادة الله عليها في الرسل السابقين، ومن تمام ذلك أن هؤلاء الذين يذودون عن الرسل يكونون على دين أقوامهم؛ لأنه لو كانوا على دينه لقال أعداؤه: قومه يحمونه لأجل أنهم على دينه، ولا يتأملون ما جاء به، ولا تقوم الحجة عليهم كاملة، فقد تمنعهم العصبية واتباع الهوى من النظر في الأدلة التي يأتي بها، ولله حِكَم في هذا، ومن تأملها وجد الشيء الذي يهديه الله جلَّ وعلا إليه.

إعراب قوله: (فكان آخر ما قال)

إعراب قوله: (فكان آخر ما قال) قال الشارح رحمه الله: [قوله: (فكان آخر ما قال) الأحسن فيه الرفع على أنه اسم كان، وجملة (هو) وما بعدها الخبر]. يعني: قد يكون الخبر مؤخَّراً، ويكون على ما جرت عليه العادة: الاسم مقدم، والخبر مؤخر، هذا هو الأصل، ولهذا قال: الأحسن، ويجوز العكس، يجوز أن الجملة هي: اسم كان مؤخر، و (آخر) يكون هو الخبر مقدم، فيكون: كان آخرَ ما قال.

جواز صرف اللفظ المستقبح عن ظاهره إذا أوهم قبحا

جواز صرف اللفظ المستقبح عن ظاهره إذا أوهم قبحاً قال الشارح رحمه الله: [قوله: (هو على ملة عبد المطلب) الظاهر: أن أبا طالب قال: أنا، فغيره الراوي استقباحاً للفظ المذكور، وهو من التصرفات الحسنة. قاله الحافظ]. يعني الاستقباح: أن القائل ينسب هذا القول إلى نفسه، هذا هو المراد، وإلَّا فهذا هو الشيء الذي وقع، وليس قبيحاً كون الإنسان يذكره؛ ولكن يُستقبح أن يضيف هذا القول إلى نفسه، يعني: في الصورة؛ لأن هذا كفر، فيكون هذا ليس جيداً كون الإنسان يضيف الكفر إلى نفسه في الظاهر، وإنما المقصود: أنه حكاية، وحكاية الكفر ليست كفراً، فإذا تصرف في الكلام وصرفه عن الظاهر يكون حسناً، هذا هو المقصود.

الرد على من زعم إسلام أبي طالب ووالده، ووالدي النبي صلى الله عليه وسلم

الرد على من زعم إسلام أبي طالب ووالده، ووالدي النبي صلى الله عليه وسلم قال الشارح رحمه الله: [قوله: (وأبى أن يقول: لا إله إلَّا الله) قال الحافظ: هذا تأكيد من الرواي في نفي وقوع ذلك من أبي طالب]. لأن قوله: (هو على ملة عبد المطلب) يكفي عن قوله: (وأبى أن يقول: لا إله إلَّا الله) فصار هذا مجرد تأكيد. قال الشارح رحمه الله: [قال المصنف رحمه الله: وفيه الرد على من زعم إسلام عبد المطلب وأسلافه]. يعني: أن بعض أهل البدع وأهل التطرف والغلو يزعمون أن أبا طالب أسلم، وأنه مات مسلماً، ويخالفون ما ثبت في الصحيحين مثل هذا الحديث، وكذلك يزعمون أن عبد المطلب أسلم أيضاً، وهي دعوى ليس عليها أي دليل. وكذلك زعموا أن والدَي رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلما، مع أن والده مات قبل ولادته وهو حَمل، وأمه ماتت وهو صلوات الله وسلامه عليه صغير، يعني: أنهما ماتا في الجاهلية قبل أن يُبعث، ومع ذلك يقولون: إنهما أسلما! وبعضهم يقول: هم من أهل الفترة، وأهل الفترة لا نتكلم فيهم. والأدلة التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالاتباع من هذه الدعاوى التي تدل على الغلو، فإذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم خبر وجب القول بموجبه، ولا يجوز مخالفة ذلك.

مضرة أصحاب السوء على الإنسان

مضرة أصحاب السوء على الإنسان قال الشارح: [ومضرة أصحاب السوء على الإنسان، ومضرة تعظيم الأسلاف]. يعني: أن فيه من الفوائد: أن الجلساء إذا كانوا أصحاب سوء فمضرتهم بليغة وعظيمة جداً؛ ولهذا كاد أبو طالب أن يقول هذه الكلمة لولا هؤلاء الجلساء عنده، ومعلوم أن الأمر بيد الله، فإذا أراد الله جلَّ وعلا شيئاً جعل له أسباباً تقتضي وجود ما أراد، أو موانع تمنع من خلاف ما أراد؛ ولكن نحن ننظر إلى الأسباب، فالإنسان عليه أن يفعل السبب، ولا يجوز للعبد أن يخالط أهل السوء وأن يجالسهم؛ لأنهم يدعونه إلى خلاف الحق، فإذا عُرف عن الإنسان أنه يدعو إلى خلاف الحق أو أن عنده أفكاراً سيئة فالواجب أن يبتعد عنه؛ لأنه لا يأمن الإنسان على نفسه، فقد يقول له كلمة فيكون فيها ضلاله، ومعلوم أن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمان يقلبها كيف يشاء، فإذا شاء أن يصرفها صرفها، وإذا شاء أن يثبتها ثبتها؛ ولكن يجب على العبد أن يفعل السبب، والحماية أفضل من العلاج، فكون الإنسان يحتمي ويبتعد عن مواقع السوء وأسبابه أفضل من كونه يدافع السوء ويدافع الكلام الذي يكون فيه الشبه؛ ولهذا لما أتى إلى محمد بن سيرين رحمه الله رجل وهو جالس عند تلامذته، وطلب منه أن يقرأ عليه آية، فأبى، فقال: ما أزيد على قراءتها فأبى، فقال: ولو بعض آية، فلما كرر عليه وضع إصبعيه في أذنيه وقال: أحرج عليك إلَّا خرجت، فإن لم تخرج سوف أخرج أنا، فقال له القوم: اتقِ الله، لا تخرج الرجل من بيته، فلما ذهب وخرج قيل له: يرحمك الله! ما الذي يمنعك من أن تسمع الآية؟ فقال: أخشى أن يقذف في قلبي شبهةً يصعب عليَّ إخراجها، أي: وهو في عافية؛ لأن العافية لا يعدلها شيء. فالمقصود: أن جلساء وقرناء السوء غالباً يضلون الإنسان، وقد جرت العادة أن الناس إذا أرادوا أن يعرفوا عن رجل استقامته أنهم يسألون عن جلسائه: من جليسه؟ ومن الذين يجالسهم؟ فإذا عرفوا أن جلساءه من الطيبين استدلوا على أنه طيب، وإذا عرفوا أنهم ليسوا من الطيبين استدلوا على أنه ليس بطيب، وهذا شيء معروف، ولهذا يقول القائل: عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي وفي هذه القصة دليل على مضرة التقليد، والتقليد مأخوذ من القلادة، فكأن الإنسان وضع في رقبته قلادةً فأعطاها من يقوده بها، أي: كونه يقلد رجلاً أو طائفة بعينها كلما قال قولاً اتبعه عليه، فالتقليد هو: اتباع الأسلاف وغيرهم بدون دليل، هذا هو التقليد، أما اتباعهم بالدليل فلا يكون تقليداً وإنما يكون اتباعاً؛ لأن التقليد هو أن يتبعهم بدون دليل، فهذا مضر جداً، بل هذا التقليد هو الذي رُدَّت به دعوات الرسل غالباً، فهو مضر جداً.

حكم تعظيم الأسلاف

حكم تعظيم الأسلاف قال الشارح: [قوله: ومضرة تعظيم الأسلاف. أي: إذا زاد على المشروع، بحيث تُجعل أقوالهم حجة يُرجع إليها عند التنازع]. الأسلاف هم: الماضون، وتعظيمهم أي: إذا كان مجرداً عن الحق، ليس لأنهم قاموا بالحق وعملوا به؛ فعُظِّموا التعظيم الذي يستحقونه؛ فإن هذا حق، وهذا قد يكون فيه لبس بين الحق والباطل؛ فمطلق التعظيم لابد أن يُفصل. فنقول: إذا كان هذا من الإنسان تعظيماً لأنهم أسلافه ولأنه ينتسب إليهم وينتمي إليهم فقط فهذا مضر ولا يجوز ذلك. أما إذا كان تعظيمهم لأنهم قاموا بالحق، وقاموا بالجهاد في سبيل الله، ولأنهم حملوا دين الله وبلَّغوه، وتعظيمهم يكون على ضوء ما جاء به كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهذا فيه خير، بل هذا من الدين ويُثاب الإنسان عليه؛ ولكن معلوم أن الكفار: أبا طالب، وأبا جهل، وعبد الله بن عتبة وغيرهم كان تعظيمهم لأسلافهم ضد الحق؛ فهم كانوا يضادون بذلك دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، فصار تعظيمهم لأسلافهم في هذا تعظيم مجرد ضرر ليس فيه نفع، بل كله ضرر، وهو من الموانع التي منعتهم من اتباع الحق مع وضوحه وبيانه لهم، فليسوا في شك من ذلك.

جواز الحلف من غير استحلاف

جواز الحلف من غير استحلاف قال الشارح رحمه الله: [قوله: (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك)) قال النووي: وفيه جواز الحلف من غير استحلاف، وكأن الحلف هنا لتأكيد العزم على الاستغفار تطييباً لنفس أبي طالب]. إذا جاءت (اللام) هذه التي في قوله: (لأستغفرن) فهذه لام القسم، وإن كان القسم يأتي بأدوات معينة، فحروف القسم ثلاثة كما هو معروف: (الواو، والتاء، والباء): تقول: والله، وتالله، وبالله، هذه هي حروف القسم؛ ولكن هذه تُحذف، والقسم يؤكد بحروف: يؤكد بـ (قد)، ويؤكد بـ (اللام)، ويؤكد بـ (النون الثقيلة) مع حذف حروف القسم، والمحذوف يُحذف لكثرة الاستعمال ولدلالة الباقي عليه، ومع ذلك يُحكم بأنه قسم. فقوله: (لأستغفرن) التقدير: والله! لأستغفرن لك، فاقتصر على (اللام) والتأكيد، (اللام) للتأكيد و (النون) للتأكيد؛ لأن القسم كله تأكيدات. وقوله: (فيه جواز الحلف من غير استحلاف) يعني: إنشاءً، وهذا أدلته كثيرة، وكثيراً ما يأتي في الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يُقسم ولو لم يُطلب منه قسم، فكثيراً ما يقول: (والذي نفسي بيده!) على أخبار يخبر عنها، وذلك من عادة العرب في مخاطباتهم. مثلاً: إذا صار الأمر مهماً أو صار المخاطَب عنده غفلة أو عنده عدم قبول فإن الأخبار تؤكد له بالقسم وبغيره من المؤكِّدات حتى يكون ذلك أوقع في نفسه وأدل على قيام الحجة عليه، وهذا هو المراد والمقصود بالقسم. والقسم لا يجوز في دين الإسلام أن يكون بغير الله جلَّ وعلا أو صفاته، أما في دين الجاهلية فهم يقسمون بمعظَّمات عندهم، فيقسمون بالأصنام، ويقسمون بالآباء، وبالشرف، وبالأمانة، وبغير ذلك؛ ولكن هذا شرك كما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم. فيجوز للإنسان أن يقسم على الشيء المؤكد عنده ولو لم يُطلب منه ذلك، ولا يكون آثماً بذلك، بل قد يكون هذا مستحباً كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعله.

اشتداد الأذى على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة عمه أبي طالب

اشتداد الأذى على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة عمه أبي طالب قال الشارح رحمه الله: [وكانت وفاة أبي طالب بمكة قبل الهجرة بقليل. قال ابن فارس: مات أبو طالب وللرسول صلى الله عليه وسلم تسع وأربعون سنة وثمانية أشهر وأحد عشر يوماً. وتوفيت خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها بعد موت أبي طالب بثمانية أيام]. ولهذا كان العام الذي توفي فيه أبو طالب وخديجة يُسمى (عام الحزن)، واشتد الأمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك كثيراً؛ لأن الكفار تمكنوا من أذيته أكثر مما كان قبل، وهذا لا ينافي ما سبق أنه كان يتحداهم بأن يصلوا إليه بشيء، فالأذى يُوجد، والأذى هو للأمور الخفيفة، بل ابن آدم قد يؤذي الله ربه، كما قال الله جلَّ وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [الأحزاب:57] فالإنسان يؤذي ربه بالكلام السيئ البذيء الذي يتكلم به، والمسبة، وشتم الدين أو شتم الرسول أو نسبة ما يتعالى عنه الرب جلَّ وعلا، ويتقدس عن نسبته إليه، كأن ينسب له ولداً أو ينسب له أماً أو ينسب له أنه لا ينصر رسوله، أو ما أشبه ذلك من الأمور التي تخالف مقتضى أسمائه وصفاته تعالى وتقدس؛ ولهذا جاء في الحديث القدسي الذي في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول الله: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر وأنا الدهر أقلب ليله ونهاره) (يؤذيني) فابن آدم يؤذي الله، ولكنه لا يضر الله، فالأذى غير الضرر، الضرر: لا أحد يضر الله جلَّ وعلا، كما قال تعالى: {لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئَاً} [محمد:32] ولكن الأذى قد يقع من ابن آدم على ربه جلَّ وعلا، وقد لعن الله جلَّ وعلا من يؤذيه؛ لأن الأذى يخص في الشيء الذي يكون أثره خفيفاً، كما جاء عن الأصمعي أنه قال: رأيت أعرابية في الفلاة، فقلت: كيف تصبرون على الحر والبرد؟ أما يضركم الحر والبرد؟ فقالت: لا سواء؛ أما الحر فهو أذى، وإنما الذي يضر هو البرد. فالعرب يفرقون بين هذا وهذا، ويعرفون مواقع اللغة. فعلى هذا نقول: الأذى: للشيء الذي يخص أثرُه ووضعُه. أما الضرر فهو: لما عظُم أثرُه وأيضاً بلغ فيمن وصل إليه. والناس لا يصلون إلى الله في ضرر؛ ولكنهم يؤذونه كما يؤذون رسله، والأذى يحصل بالكلام، ويحصل بالفعل المخالف، ويحصل بالتكذيب، كل هذا يكون أذىً يؤذي. فآذوه صلى الله عليه وسلم عليه وسلم أكثر مما كان قبل؛ لأن عمه كان يحوطه، أوصلوا إليه الأذى أكثر، ومن أبلغ ما آذوه به أنهم كانوا يضعون -مثلاً- عليه سلى الجزور على ظهره وهو ساجد، كما فعل ذلك ابن أبي معيط، فقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي عند الكعبة، وكبار الكفار جالسون عنده، فقال بعضهم لبعض: انظروا إلى هذا المرائي، من يأتي بسلا جزور فلان فيضعه على ظهره؟ فذهب الشقي ابن أبي معيط، فأخذ سلا جزور ووضعها على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم، فصاروا يضحكون، وهو ساجد لم يتحرك من سجوده صلوات الله وسلامه عليه، حتى جاءت فاطمة وأزالته. فهذا من الأذى البليغ. وكذلك كونه يأتي الرجل منهم ويأخذ العظم البالي ويفته أمامه ويقول: تزعم أن الله يحيينا بعدما نموت، كيف يحيينا إذا كنا مثل هذا العظم؟ فقال له صلى الله عليه وسلم: (يحييك الله، ثم يجعلك في جهنم) فهذا التكذيب وذكر الحجج التي يراد بها إبطال الحق هو من الأذى. فهم يؤذونه، ولكن ما وصلوا إلى ضره؛ لأن الضر هو الذي يمنعه من القيام بدعوته صلوات الله وسلامه عليه، فما وصلوا إلى هذا؛ لأن الله يحميه من ذلك. وكونهم يؤذونه يعظُم بذلك أجره عند الله وجزاؤه، فكلما حصل له من أذى يرفع درجته عند الله، ويكون أجره أعظم، ولهذا لما كان يقسم مالاً، فقال الرجل الشقي: إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله، فلم يسمع النبي صلى الله عليه وسلم هذا القول، وقد سمعه بعض الصحابة، وذهب إليه وقال له: إن هذا الرجل يقول كذا وكذا، عند ذلك تغير وجهه صلوات الله وسلامه عليه، وقال: (ويلك! من يعدل إذا لم أعدل؟! ثم بعد ذلك قال: رحم الله موسى؛ لقد أوذي أكثر مما أوذيتُ فصبر). فالمقصود: أن الأذى يكون بالكلام وفي نسبته إلى ما يتنزه عنه، أو القيام بالباطل أمام الحق.

ذكر الخلاف في سبب نزول قوله تعالى: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفورا للمشركين)

ذكر الخلاف في سبب نزول قوله تعالى: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفورا للمشركين) قال الشارح رحمه الله: [قوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى} [التوبة:113] الآية، أي: ما ينبغي لهم ذلك. وهو خبر بمعنى النهي. والظاهر: أن هذه الآية نزلت في أبي طالب؛ فإن الإتيان بـ (الفاء) المفيدة للترتيب في قوله: (فأنزل الله) بعد قوله: (لأستغفر لك ما لم أُنْهَ عنك) يفيد ذلك]. ولكن يشكل على هذا أن هذه الآية من آخر ما نزل؛ لأن هذه القصة كانت في مكة، والآية هذه هي في سورة التوبة، وسورة التوبة نزلت في رجوعه صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك في السنة العاشرة، فكيف يكون نزولها بسبب ذلك؟! وكذلك ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم لما ذهب في عمرة القضية -وعمرة القضية في السنة السابعة من الهجرة- ووصلوا إلى الأبواء، ذهب إلى قبر أمه؛ لأن قبر أمه صلوات الله وسلامه عليه في الأبواء، وبكى عند قبرها فقال: (إني استأذنت ربي أن أستغفر لها فأبى، واستأذنته أن أزورها فأذن، فزوروا القبور ولا تقولوا هجراً) فلو كانت هذه الآية نازلة قبل هذا ما استأذن ربه جلَّ وعلا أن يستغفر لها، فدل هذا على أنها نزلت بعد ذلك، وعلى هذا فإن القول بتأخر نزول هذه الآية متعين، ويدل على ذلك أيضاً أنه كان يستغفر للمنافقين، فلما مات عبد الله بن أبي وهو رأس المنافقين استغفر له، مع أنه قد فعل الأفاعيل المعروفة والمذكورة في القرآن من قوله: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون:8] وفي غزوة أحد رجع بثلث الجيش، وقال: إنه يخالف أمري وأمره ويطيع أمر السفهاء، فعلام نقتل أنفسنا؟! فخذله الله، فلما مات جاء عبد الله بن عبد الله بن أبي وكان من أفضل المؤمنين، وطلب من النبي عليه الصلاة والسلام أن يعطيه قميصه ليكفنه به، فأعطاه قميصه، يقول بعض العلماء: إن عطيته قميصه كانت مجازاةً له؛ لأن العباس لما جاء مأسوراً بعد معركة بدر -وكان العباس رجلاً ضخماً طويلاً- فما وجدوا له ثوباً إلَّا ثوب عبد الله بن أبي؛ لأنه كان كذلك، فأعطاه، فكان مجازاةً له، وليس هذا هو الظاهر، بل الظاهر: أنه أعطاه قميصه لما طلب ابنه منه ذلك، وطلب منه أن يُصلي عليه فأجابه، فقام ليصلي عليه، فعلق به عمر فقال: أتصلي عليه وقد قال يوم كذا وكذا، وفعل يوم كذا وكذا؟! فقال له: (دعني؛ فإن الله جلَّ وعلا قال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة:80] فوالله! لو علمت أني إذا زدت على السبعين أن الله يغفر لهم لزدتُ، فقام وصلى عليه)، ثم بعد ذلك نزل قول الله جلَّ وعلا: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدَاً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة:84]، وهذه الآية التي في سورة التوبة هي في المنافقين، وكل هذا يدل على أن نزول هذه الآية كان متأخراً. وكذلك جاء ما يدل على ذلك: فعن علي بن أبي طالب أنه سمع رجلاً يستغفر لأبيه وأمه، وقد ماتا على الشرك، فأخبر الرسولَ صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية. ويجوز أن تتعدد الأسباب، ويكون المعنى: أن هذه الآية نزلت في النهي عن استغفاره للمشركين عامة، وإذا ماتوا على الشرك لا يجوز الاستغفار لهم، كما أن الإنسان إذا مات على الكفر أو على النفاق لا يجوز أن يُصلى عليه أو يُقام على قبره. [وقد ذكر العلماء لنزول هذه الآية أسباب أُخَر، فلا منافاة؛ لأن أسباب النزول قد تتعدد. قال الحافظ: أما نزول الآية الثانية فواضح في قصة أبي طالب، وأما نزول الآية التي قبلها ففيه نظر]. يقصد بالآية الثانية آية سورة القصص: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] وهذا واضح. قال الشارح رحمه الله: [ويظهر: أن المراد: أن الآية المتعلقة بالاستغفار نزلت بعد أبي طالب بمدة، وهي عامة في حقه وحق غيره، يوضح ذلك ما يأتي في التفسير، فأنزل الله بعد ذلك: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة:113] الآية، ونزل في أبي طالب: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] كله ظاهر في أنه مات على غير الإسلام، ويضعِّف ما ذكره السهيلي أنه روي في بعض كتب المسعودي أنه أسلم؛ لأن مثل ذلك لا يعارِض ما في الصحيح. انتهى]. المسعودي لا يوثق بكلامه، ولا بنقله، ولا بقوله؛ لأن مذهبه معروف، وطريقته معروفة، وكتبه مشحونة بما هو كذب، هذا في الظاهر، وإن كان هو قد لا يتعمد الكذب، ولكن كون الإنسان ينقل ما يراه كذباً وما يراه باطلاً فهذا يكفي في اجتناب ما يكتب وما يقول.

مسائل باب قوله تعالى: (إنك لا تهدي من أحببت)

مسائل باب قوله تعالى: (إنك لا تهدي من أحببت) قال الشارح: [وفيه تحريم الاستغفار للمشركين وموالاتهم ومحبتهم؛ لأنه إذا حَرُم الاستغفار لهم فموالاتهم ومحبتهم أولى]. [فيه مسائل: الأولى: تفسير: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِيْ مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]. الثانية: تفسير قوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113]]. قوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ} [التوبة:113] يعني: لا يجوز للنبي والذين آمنوا، وهذا يدل على المنع والتحريم.

معنى: (لا إله إلا الله)

معنى: (لا إله إلا الله) [الثالثة: وهي المسألة الكبيرة: تفسير قوله: (قل: لا إله إلَّا الله) بخلاف ما عليه من يدَّعي العلم]. يعني: المقصود: معرفة معنى (لا إله إلَّا الله)، وقد تبين لنا أن هذا -في الواقع- هو أصل الدين، وأن هذا هو لب دعوات الرسل التي جاءوا بها، وأنه يجب على المسلم أن يعرف المعنى، ومعناها: إبطال كل تعلق بغير الله، وإثبات التعلق والتأله والتعبد لله وحده، و (الإله) اسم جنس يقع على كل من قُصد بحب القلب وخضوعه وذله، فكل من خضع له قلبه ذلاً وتعظيماً فهو إله، فهو اسم جنس سواءً كان شيئاً مشاهَداً محسوساً أو أمراً معنوياً، مثل: حب المال، ومثل: حب الشهوات، ومثل: حب الهوى، وقد قال الله جلَّ وعلا: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:43] فالهوى يكون إلهاً، ومعنى ذلك أنه إذا هوى شيئاً وأحب شيئاً وأراده فَعَلَهُ، سواءً كان حلالاً أو حراماً، لا يلتفت إلى ذلك، فهذا يكون ممن تأله ما يهواه.

كفار قريش كانوا يعرفون معنى: (لا إله إلا الله)

كفار قريش كانوا يعرفون معنى: (لا إله إلا الله) [الرابعة: أن أبا جهل ومن معه يعرفون مراد النبي صلى الله عليه وسلم، إذ قال للرجل: (قل: (لا إله إلَّا الله))]. هذا بلا شك؛ لأنهم أهل اللغة، وخاطبهم بلغتهم، وهم أهل الفصاحة والبلاغة، فإذا قال لهم: قولوا: (لا إله إلَّا الله)، عرفوا أنه يريد أن يبطل الشرك الذي هم عليه، ويجعل العبادة لله وحده؛ ولهذا كانوا يقولون: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهَاً وَاحِدَاً} [ص:5] وكما قال تعالى: {إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات:35] فكانوا يأبون أن يقولوها؛ لأنهم يعرفون أن فيها إبطال دينهم. [الرابعة: أن أبا جهل ومن معه يعرفون مراد النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال للرجل: (قل: (لا إله إلَّا الله)) فقبح الله مَن أبو جهل أعلم منه بأصل الإسلام]. يقصد: الذي يكون مسلماً ولا يعرف معنى (لا إله إلَّا الله)، ويكون أبو جهل -الذي هو فرعون هذه الأمة -أعلم منه بمعنى: (لا إله إلَّا الله)! وهل يجوز هذا؟! هذا لا يجوز أن يقع؛ ولكن الواقع هو هذا.

حرص النبي صلى الله عليه وسلم على إسلام عمه أبي طالب

حرص النبي صلى الله عليه وسلم على إسلام عمه أبي طالب [الخامسة: جِدُّه صلى الله عليه وسلم ومبالغته في إسلام عمه]. نعم. هو جَدَّ وبالغَ؛ ولكن ما أدرك شيئاً من ذلك؛ لأن الأمر بيد الله، والله جلَّ وعلا أمره وأخبره أنه ليس عليه إلَّا البلاغ: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:48] والهداية إلى الله جلَّ وعلا، وهي بيده سبحانه، وليست عند الرسول صلى الله عليه وسلم.

الرسل عليهم السلام لا يخلفون الوعد

الرسل عليهم السلام لا يخلفون الوعد [السادسة: الرد على من زعم إسلام عبد المطلب وأسلافه. السابعة: كونه صلى الله عليه وسلم استغفر له فلم يُغفر له، نُهي عن ذلك]. فيكون استغفاره له كاستغفار إبراهيم عليه السلام لأبيه حيث قال له: {سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيَّاً} [مريم:47] وأخبر الله جلَّ وعلا أن استغفار إبراهيم هو وفاء بوعده؛ لأن الوعد من الرسل لا يُخلف، فاستغفر له من أجل ذلك.

الأعمال بالخواتيم

الأعمال بالخواتيم [التاسعة: مضرة تعظيم الأسلاف والأكابر. العاشرة: استدلال الجاهلية بذلك. الحادية عشرة: الشاهد لكون الأعمال بالخواتيم؛ لأنه لو قالها لنفعته]. نعم. نفعته ولو لم يعمل؛ لأن هذا هو الشيء الذي يستطيعه، فالذي يستطيعه في ذلك الوقت هو أن يقول: (لا إله إلَّا الله)؛ ولكن كونه يعمل فهذا يُشترط له الاستطاعة، وهو عند الموت ما يستطيع أن يفعل أكثر من ذلك.

أكبر شبه الضالين هي شبهة التقليد

أكبر شبه الضالين هي شبهة التقليد [الثانية عشرة: التأمل في كِبَر هذه الشبهة في قلوب الضالين؛ لأن في القصة أنهم لم يجادلوه إلَّا بها، مع مبالغته صلى الله عليه وسلم وتكريره، فلأجل عظمتها ووضوحها عندهم اقتصروا عليها].

شرح فتح المجيد [57]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [57] حرم الشرع الغلو لما يفضي إليه من محذور، والغلو في الصالحين يفضي إلى الشرك كما وقع من قوم نوح الذين غلوا في بعض الصالحين فصوروهم ثم عبدوهم، وقد وقع مثل ذلك في هذه الأمة حتى عكفت على القبور وقدمت لها القرابين.

حكم الغلو في الصالحين

حكم الغلو في الصالحين قال المصنف رحمه الله: [باب: ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو: الغلو في الصالحين]. يقول رحمه الله تعالى: باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم: الغلو في قبور الصالحين. لما ذكر في الأبواب السابقة الأمور التي يكون الإنسان فيها قد خالف ما جاء عن الله جلَّ وعلا لكونه عبد غيره أو جعل شيئاً من العبادة لغيره، أراد أن يبين الأسباب التي تدعو إلى هذه الأمور، فذكر أن سبب ذلك هو الغلو، والغلو يكون في قبور الصالحين، فعلى هذا لا يجوز الغلو في قبور الصالحين. والغلو معناه: تجاوز الحد المشروع، سواء بالحب والفعل، أو بالمدح والقول، أو بالذم والبغض، فكل ما تجاوز به الإنسان ما شرعه الله جلَّ وعلا فقد غلا، سواء كان قصده وإرادته الخير وكان الدافع له الحب في الصالحين، أو كان الدافع له البغض والكراهية، سواء فعل ذلك فعلاً أو قاله قولاً، فكل ما فيه تجاوز المشروع فهو غلو. فالغلو مأخوذ من (غلا) يعني: ارتفع على الشيء المقرر شرعاً والمأمور به، ومنه: الطغيان؛ لأنه قريب من الغلو. ولهذا جاء النهي في كتاب الله جلَّ وعلا لأهل الكتاب ولنا عن الغلو في الدين، وقصر هذا هنا على قبور الصالحين، وذلك أن قبور الصالحين تميل إليها النفوس أكثر من غيرها، وتكون فتنة لمن رفعها فوق ما أمر الشارع بها، سواء بالفعل بأن بنى عليها أو جعل عندها فُرُشاً أو أسرجها أو ما أشبه ذلك؛ فإن هذا يكون مدعاةً لعبادتها، أو أنه أكثر من التردد إليها والزيارة لها والجلوس عندها، أو أنه تحرى أن يدعو الله أو يعبد الله عندها، ورأى أن هذا محل للإجابة، فإن هذا أيضاً من الغلو الذي هو تجاوُز الحد الذي حده النبي صلوات الله وسلامه عليه، وقد ثبت في الصحيح من حديث علي رضي الله عنه أنه قال لـ أبي هياج الأسدي: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ألَّا تدع قبراً مشرفاً إلَّا سوَّيته، ولا صورةً إلَّا طمستها). وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يبعث الرسل نحو القبور التي شُيدت لتُسَوَّى بالأرض، ولا يكون لها ما يدعو إلى الالتفات إليها، وجذب النفوس والجلوس عندها أو قصدها؛ لأن هذا فتنة. وسيذكر المؤلف أيضاً أن الغلو في الصالحين هو الذي كان به مبدأ الكفر بالله جلَّ وعلا والشرك، ولهذا خصه بذلك في باب، وإن كان هناك أسباب أخرى غير هذا. قوله: (وتركهم دينهم) يعني: أن الشيء الذي يبدأ أولاً مشروع، ثم يزداد بالغلو -الذي هو تجاوز المشروع- إلى أن يصل إلى ترك الدين والخروج منه نهائياً، وهذا عام سواء في الاعتقادات أو في العمل الذي يتم وهو فعل الإنسان، كما حصل للذين يمرقون من الدين الإسلامي كمروق السهم من الرمية بسبب الغلو، وقد وقع مثل ذلك في صدر هذه الأمة، بل في وقت الصحابة رضوان الله عليهم، كالذين غلوا في حب علي رضي الله عنه، فتجاوزوا الحد حتى ألَّهوه وقالوا: إنه هو الله، قالوا هذا في حياته، بل قابلوه بذلك، فغضب لله جلَّ وعلا وأمر بإحراقهم، فقُذفوا في النار أحياءً، وقد اتفق الصحابة على أنه يجب أن يُقتلوا، وكان علي رضي الله عنه لشدة غضبه لله قتلهم قتلاً بالنار. ولم ينتهِ هذا الأمر عند ذلك الفعل الذي أراد أن يكون حاسماً؛ لأن الدعايات الباطلة ولأن ميل النفوس إلى تعظيم من فيه الصلاح شيء متأصل فيها، ويزداد بالتحريض من دعاة الباطل الذين يريدون التفرقة بين المسلمين وإيقاد الفتن، وهذه الأشياء عملت عملها، واستمر الأمر إلى اليوم. [قوله: (باب: ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين). قوله: (تركهم) بالجر، عطفاً على المضاف إليه. وأراد المصنف رحمه الله تعالى بيان ما يئول إليه الغلو في الصالحين من الشرك بالله في الإلهية الذي هو أعظم ذنب عُصي الله به، وهو ينافي التوحيد الذي دلت عليه كلمة الإخلاص (شهادة ألَّا إله إلَّا الله)].

معنى قوله تعالى: (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق)

معنى قوله تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) قال المصنف رحمه الله: [وقول الله عزَّ وجلَّ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [النساء:171]]. سبق أن الأوامر التي وجهها الله جلَّ وعلا لأهل الكتاب حول الأمور التي ذمهم عليها وأخبر أنهم فعلوها وتركوا بذلك دينهم، أننا نحن المقصودون بها، ومن المعلوم لدى المسلمين أن خطاب الله جلَّ وعلا يعم كل من على وجه الأرض؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُرسل إلى الناس كافة، وليس هذا خاصاً بأهل الكتاب؛ ولكن المفروض في أهل الكتاب الذين أُنزل عليهم الكتاب من الله أن يكونوا قدوة للناس في فعل الحق وسلوكه، وإذا ضل هؤلاء فغيرهم أولى أن يضلوا. وقول الله جلَّ وعلا: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ) هذا نداء من الله جلَّ وعلا لهؤلاء، والنداء في ضمنه طلب الالتفات والعطف والنظر والاهتمام، فإن الله جلَّ وعلا ينبههم إلى هذا الأمر المهم. قوله: (لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) يعني: لا تتجاوزوا الأوامر والنواهي التي جاءت من عند الله جلَّ وعلا. فأما مجاوزة الأوامر فبالتشدد والمبالغة عند من يرى أنه أهل للاجتهاد والارتفاع عن هذا الشيء، فمجاوزة الأمر بالتشدد من الغلو. وأما في النهي فهو مثل ذلك أيضاً، بأن يتجاوزه إلى غير المنهي عنه، فيقع في المحظور. ويقابل هذا الجفاء والمعصية، فإن الأمر يجب أن يكون على وفق ما جاءت به الرسل، ويكون مراداً به وجه الله جلَّ وعلا، فلا يكون فيه تقصير، ولا يكون فيه غلو وزيادة؛ لأن الإنسان عبد، والعبد عليه أن يمتثل أمر سيده بدون نقص ولا زيادة. قوله: (لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) هذا عام يشمل الدين كله، وهو خطاب لكل من تأتى له الخطاب من أهل الكتاب وغيرهم، ومعلوم أن الكتب السابقة لكتابنا قد نُسخت بالقرآن، ولكن الكتب التي جاءت من عند الله بعضُها يصدِّق بعضاً، وهي في العقائد وعبادة الله متفقة ومتحدة لا تختلف، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5]، فالأولون والآخِرون أُمروا بهذا، وكتب الله اتفقت على ذلك، ولهذا أمرهم ألَّا يتجاوزوا الحدود، فقال: {لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [النساء:171]. وقوله: (وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) يدلنا على أن الغلو يكون بالفعل وبالقول. وقولهم على الله غير الحق قد بُيِّن في أماكن متعددة من القرآن نذكر بعضاً منها: منها ما هو كفر صريح كقولهم: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30]، وقولهم: {الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30] وما أشبه ذلك. ومنها ما هو أقل من الكفر. ومنها ما هو معصية. وقد أخبر الله جلَّ وعلا عن أشياء مما كانوا يفعلونها، ومن الأمور التي تجاوزوا الحدود وغلوا فيها، فمنها تغييرهم حدود الله جلَّ وعلا وتبديلها بأشياء من عندهم، فقد كانوا يبدلونها بأشياء يتفقون عليها وأوضاع يتواضعونها مع معرفة ذلك ووضوحه في كتاب الله جلَّ وعلا عندهم، فهذا أيضاً من الغلو في الأمر؛ حيث تركوه مع وضوحه غالين في محبتهم لأنفسهم ولأهوائهم، ومحبتهم لما يكون سائغاً فعله بينهم جميعاً. وكذلك غيرهم ممن كان متبعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه وقع فيهم الغلو، ولهذا عُبدت القبور، ونُصبت عليها القباب، ووُضعت لها الأستار، وجُعل لها السَّدَنَة الذين يدعون الناس إلى عبادتها، ويحضونهم على تقديم النذور، وإن كانوا هم الذين ينتفعون بذلك، ويوجدون الحكايات التي لا تستسيغها العقول من أن هؤلاء الأموات يتصرفون، وأنهم ينفعون ويضرون، وأنهم يزورون من يشاءون، وأشياء عجيبة جداً، وكلها من الغلو الذي بسببه تُرك الدين.

تحريق علي بن أبي طالب رضي الله عنه للرافضة الذين ألهوه

تحريق علي بن أبي طالب رضي الله عنه للرافضة الذين ألهوه قال الشارح رحمه الله: [الغلو هو: الإفراط بالتعظيم بالقول والاعتقاد، أي: لا ترفعوا المخلوق عن منزلته التي أنزله الله، فتنزِّلوه المنزلة التي لا تنبغي إلَّا لله. والخطاب وإن كان لأهل الكتاب فإنه عام يتناول جميع الأمة، تحذيراً لهم أن يفعلوا بنبيهم صلى الله عليه وسلم فعل النصارى في عيسى، واليهود في العزير، كما قال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16]، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم) ويأتي. فكل من دعا نبياً أو ولياً من دون الله فقد اتخذه إلهاً، وضاهى النصارى في شركهم، وضاهى اليهود في تفريطهم؛ فإن النصارى غلوا في عيسى عليه السلام، واليهود عادَوه وسبوه وتنقَّصوه، فالنصارى أفرطوا، واليهود فرَّطوا، وقال تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة:75] ففي هذه الآية وأمثالها الرد على اليهود والنصارى. قال شيخ الإسلام رحمه الله: ومن تشبه من هذه الأمة باليهود والنصارى وغلا في الدين بإفراط فيه أو تفريط فقد شابههم، قال: وعلي رضي الله عنه حرَّق الغالية من الرافضة، فأمر بأخاديد خُدَّت لهم عند باب كِندة، فقذفهم فيها، واتفق الصحابة على قتلهم؛ لكن ابن عباس مذهبه أن يُقتلوا بالسيف من غير تحريق، وهو قول أكثر العلماء]. باب كِندة: باب من أبواب الكوفة، وهو منسوب إلى قبيلة كِندة؛ لأن العرب لما سكنوا في هذا البلد صار لكل قبيلة حي ومكان معين يُضاف إليهم، والمسجد يُضاف إليهم، والباب الذي يُدخل منه عليهم يُضاف إليهم. والسر في هذا هو: عبد الله بن وهب بن سبأ اليهودي الذي جاء من صنعاء في ذلك الوقت وهو على يهوديته؛ ولكنه أظهر الإسلام ليمكر بالإسلام، وذكروا أنه من الدهاة الذين يتقنون الفجور، فصار ينشر في الناس: أنه ما مات نبي إلَّا وله وصي، وصار يقول لهم: إن وصيَّه هو علي بن أبي طالب، ثم تمادى به الأمر إلى أن قال: إن علياً هو الإله، وصار يدعو الناس إلى هذا ويزينه، فاستجاب له أشباه الأنعام الذين يتبعون كل ناعق، فصاروا ينمُّون هذا في أفكارهم حتى ارتسم في أذهانهم ورسخ في قلوبهم، وقاموا وواجهوا علياً بذلك، فلما خرج من بيته ليصلي قابلوه وقالوا: أنت هو. قال: ويلكم! ومن أنا؟! قالوا: أنت إلهنا. قال: هذا الكفر! إن لم ترجعوا فسوف أقتلكم. وحدد لهم ثلاثة أيام، وفي اليوم الثاني قابلوه بمثل ذلك، وفي اليوم الثالث كذلك، عند ذلك أمر بالحفَر أن تُحفر، وأمر أن يوضع فيها الحطب وتوقد ناراً، فأمسكهم وقذفهم فيها أحياءً، وكان يقول: لما رأيت الأمر أمراً منكراً أجَّجت ناري ودعوت قنبراً وقنبر هو: مولىً من مواليه، يعني: دعاه ليساعده على ذلك، وهرب ابن سبأ. وقد اتفق الصحابة في ذلك الوقت على وجوب أن يُقتلوا إن لم يتوبوا؛ لأن هذه الدعوى ما ادعاها إلَّا شُذَّاذ من الناس، فهي كفر صريح. ولكن ما انحسم الأمر، بل ذهب هذا الخبيث وصار ينشر في الناس أفكاراً رديئة جداً تخالف الدين الإسلامي، فذهب إلى الشام فطُرد منه، ثم ذهب إلى مصر فباض وفرَّخ فيها، وصار الغوغاء الذين أتوا لمحاصرة أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه يقومون بدعوته وتحريضه، كما أن الذين أتوا من العراق كانوا أنصاراً له على هذا. وقد ذكر المؤرخون أشياء واضحة في هذا الأمر؛ ولكن تترك الأمور على الظاهر الذي يظهر للناس فقط، والأشياء تتبين وتتضح. ثم لما قتل علي رضي الله عنه صار ينشر في الناس أن علياً رضي الله عنه ما قتل ولا يمكن أن يموت، بل صعد إلى السحاب وسوف يرجع، والرعد الذي تسمعون هو صوته، في خرافات كثيرة، وصار كثير من الناس يتأثر بهذه الأفكار السيئة الرديئة. والمقصود: أن هذا كله دعا إليه الغلو في الحب، وإلَّا كيف يصدق الإنسان عقله أن رب العالمين يحل في مخلوق يأكل ويشرب وينام ويحتاج حاجاتٍ كثيرة ويكون فقيراً ثم في النهاية يموت، ويصير تراباً؟! وقد سبق إلى هذا النصارى حيث زعموا أن عيسى بن مريم هو (ابن الله) أو (الله) تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً! والمعلوم أنهم من بني آدم ولهم عقول؛ ولكن كما قال الشاعر: يُقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسناً ما ليس بالحسنِ بل كما قال الله عز وجل: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنَاً} [فاطر:8] فالذي يُزَيَّن له سوء العمل يراه حسناً، فيرى القبيح حسناً، والأمورُ بيد الله، والهدايةُ بيد الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمان) فلا يستغرب الإنسان من أن فكر بني آدم يتغير ويصير أقل من أفكار الصبيان! ولا سيما والإنسان خُلق وجُبِل على العبادة، فإذا ترك الطريق المستقيم الذي جاء به الرسول فلابد أن تستهويه الشياطين وتضله، ويعبد المظاهر التي تحيط به، والتي يزينها له الشيطان، وأكثر الناس على ذلك؛ ولكن عباداتهم تختلف، والإنسان لا ينفعك عن عبادةٍ، والنفس إذا لم تُشغل بالسنة والحق شغلت صاحبها بالباطل والبدعة، ولابد.

قصة عبادة الأصنام بدأت من الغلو

قصة عبادة الأصنام بدأت من الغلو قال المصنف رحمه الله تعالى: [في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدَّاً وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرَاً} [نوح:23] قال: (هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً، وسَمُّوها بأسمائم، ففعلوا، ولم تُعبد، حتى إذا هلك أولئك ونُسي العلم عُبدت)]:

غلو النصارى في المسيح

غلو النصارى في المسيح الآية التي قبل هذا هي في نهي الله جلَّ وعلا أهلَ الكتاب أن يغلوا في دينهم وألَّا يقولوا على الله إلَّا الحق، يقول جلَّ وعلا: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ} [النساء:171] وهذا لرد باطلهم، ومعلومٌ أن الرسول هو المأمور الذي أمره المرسِل أن يمتثل أمره، وأن يؤدي إلى عباده ما أمره به، فالرسول عبدٌ مطيع لمرسِلِه، فعيسى لما خالفَ في خلقه العادة التي أجرى الله جلَّ وعلا عليها بني آدم من كون الإنسان يتولد من أب وأم، وعيسى ولدته مريم عليها السلام ولم يمسها بشر، ومن المعروف أن خلق بني آدم تنوَّعَ للدلالة على قدرة الله جلَّ وعلا: فأبو البشر آدم خلقه الله جلَّ وعلا من طين ليكون آية لنا، ولنعرف ذلك ونستدل به على إعادتنا بعدما نكون تراباً، فإننا إذا راجعنا إلى أصلنا تراباً نُعاد مرةً أخرى، ونُخرَج من التراب أحياءً كما كنا، فيكون هذا دليلاً لنا، وجعل ذلك جلَّ وعلا حجةً على الذين ينكرون البعث بعد الموت، وهو أمر قد تواردت عليه الأمم، وجاءت به أخبار الله التي لا يمكن أن يتطرق إليها شك أو ريب، ومن المؤسف أن كثيراً من المسلمين صارت تنطلي عليهم أفكار الملاحدة الذين يشككون فيما يذكره الله جلَّ وعلا، وقد يكون الذين جاءوا بهذه الأفكار قد رجعوا عنها، وكأنهم يضحكون على الناس. فالمقصود: أن الله جلَّ وعلا أخبرنا أنه خلق آدم من تراب. وأخبرنا أنه خلق زوجه منه، امرأة خُلقت من ذكر، وهذا ليس أغرب من خلق البشر من التراب؛ ولكن قدرة الله جلَّ وعلا صالحةٌ لكل شيء، ولا تُحَدُّ بِحَد. ثم صار خلق سائر بني آدم من ذكر وأنثى على الشيء الذي يتعارفونه. وجاء القسم الرابع وهو: خلق ذكر من أنثى بلا أب، وهو عيسى عليه السلام. كل ذلك تنوُّعٌ في قدرته تعالى، وبيان على أنه لا يعجزه شيء. فلما رأوه جاء مخالفاً لما اعتاده الناس غلوا فيه، وقالوا: إنه (ابن الله)، تعالى الله وتقدس عن الزوجات وعن الحاجات، وهؤلاء -قبحهم الله- جعلوا الله بمنزلة المخلوق المحتاج، ومنهم من يقول: (عيسى هو الله)، يعني: أن الله دخل في أحشاء الأنثى، وبقي في ظلمات الأحشاء تسعة شهور، ثم خرج من فرجها ضعيفاً، ثم تسلط عليه اليهود -على حد زعمهم- فأخذوه وقتلوه وصلبوه! أيُّ عقول هذه التي تزعم أن هذا (هو الله)؟! تعالى الله وتقدس. فلهذا أخبر عن قولهم أنه كفر صريح، وأخبر أنه رسول أكرمه الله جلَّ وعلا بالرسالة، فصار الناس في وقته طائفتين: طائفة: غلت فيه بالحب والثناء والمدح حتى جعلوه إلهاً، فقالوا: (هو ابن الله) أو (هو الله) أو (هو ثالث ثلاثة: الله والمسيح وأمَّهُ)، يعني: جعلوا المخلوق الضعيف مشاركاً لله جلَّ وعلا في خصائصه. الطائفة الأخرى: غلت في الجفاء والبغض وهم اليهود، حتى رموا والدته بأنها زانية، وأنه ابن زنىً، قبحهم الله، ثم حاولوا قتله، فابتلاهم الله جلَّ وعلا وألقى شَبَههُ على رجل منهم فقتلوه وصلبوه وزعموا أنه هو عيسى، وقد بين الله جلَّ وعلا أنهم ما قتلوه ولا صلبوه كما قال تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:158]، وسينزل في آخر الزمان، ويقتل الخنزير ويكسر الصليب ويضع الجزية ولا يقبل إلَّا الإسلام، ثم يموت ويُدفن، ثم بعد ذلك يبعثه الله جلَّ وعلا مثل سائر الخلق. ولهذا بين الله جلَّ وعلا أن خصائص المخلوقين موجودة في عيسى وأمِّه، ولكنه جعل عيسى رسولاً وأمَّه صديقة، فهما يحتاجان ما يحتاجه البشر ولهذا قال: {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة:75] والذي يأكل الطعام لا يصلح أن يكون إلهاً، والذي يحتاج إلى الطعام فيأكله، لابد أن يأتي بلازم المأكول من قضاء الحاجة، وهذا نقص فيه، فلو احتبس فيه ما أكله لمات. هذه هي عقيدة النصارى تعالى الله وتقدس عنها! وكل هذه أفكار سيئة جداً، وتنقُّصٌ لله جلَّ وعلا غاية التنقُّص، ولهذا كفَّرهم الله جلَّ وعلا بذلك.

غلو قوم نوح في الصالحين

غلو قوم نوح في الصالحين ثم ذكر بعد هذا القصةَ التي ذكرها البخاري في صحيحه: فقوله: (في الصحيح) يعني: في صحيح البخاري: عن ابن عباس أن وَداً وسُواعاً ويغوث ويعوق ونسراً كانت أسماء رجال صالحين في قوم نوح، وهؤلاء كانوا قبل بعث نوح عليه السلام على الإسلام كما جاء في الصحيح عن ابن عباس قال: إن عشرة قرون قبل نوح كلهم كانوا على التوحيد. يعني: أن أولاد آدم سلكوا الحق بعده، وآدم نبي كريم قد كلمه الله جلَّ وعلا بلا واسطة، وأنزله إلى الأرض بالرسالة إلى بنيه. وكان بنوه على الحق، ومضَوا وقتاً طويلاً على الإسلام لم تحدث فيهم مخالفة، ولم يعبدوا غير الله، حتى طرأت هذه الحادثة، ووُجِد منهم هؤلاء: وَد وسُواع ويغوث ويعوق ونسر أسماء كانت لأناس صالحين، يعني: كانوا مجتهدين، وكانوا قدوة في قومهم، فماتوا واحداً بعد الآخر في زمن متقارب، فأسف عليهم قومهم وجزعوا؛ لأنهم كانوا يقتدون بهم، فإذا رأوهم في اجتهادهم وعملهم الصالح زاد عملهم واجتهدوا كاجتهادهم. فلما علم الشيطان بأسفهم جاء إليهم بصورة الناصح وهكذا يفسد الشيطان دين الإنسان بكونه يظهر له بأنه يزين له الباطل، وربما جاءه بحق وله فيه أغراض ونظرات بعيدة كما في هذه القصة، فقال لهم: ألَّا تصوِّرون صورهم، وتنصبونها في المجالس التي تجلسون فيها -يعني: مجالس التعبد والذكر- حتى إذا رأيتموهم -رأيتم هذه الصور- تذكرتم أفعالهم، فاجتهدتم كاجتهادهم؟! فاستحسنوا هذه الفكرة وفعلوا ذلك، وبقوا على هذا وقتاً إلى أن ماتوا.

عبادة قوم نوح لتماثيل الصالحين

عبادة قوم نوح لتماثيل الصالحين ثم جاء أبناؤهم، وربما أبناء أبنائهم, ونُسي السبب الذي من أجله صُوِّرت هذه الصور، فجاء دور الشيطان أيضاً مرةً أخرى، فأتى إليهم وقال: آباؤكم ما صوروا هذه الصور إلَّا للتبرك والاستشفاع وطلب الوساطة بها، وقد كانوا يستسقون بها ويجعلونها واسطةً لهم عند الله! فعُبدت، وهذا أول شرك وقع في الأرض. وهذا الشرك سببه: الغلو، والحب الزائد في الصالحين، فزِيد في الحق حتى تُرك الدين، ووقع الناس في عبادة غير الله جلَّ وعلا. ولهذا السبب أرسل الله عز وجل نوحاً عليه السلام، وصار يدعوهم إلى عبادة الله وحده وترك هذه الأصنام، وبقي -كما ذكر الله جلَّ وعلا- يدعوهم ليلاً ونهاراً وسراً وجهاراً ألف سنة إلَّا خمسين عاماً، فلم يستجيبوا له، بل صار بعضهم يوصي بعضاً بالتمسك بهذه الأصنام، ويؤكدون على ذلك كما قال تعالى: {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارَاً * وَمَكَرُوا مَكْرَاً كُبَّارَاً * وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدَّاً وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرَاً * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرَاً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالَاً} [نوح:21 - 24]. فقوله: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} [نوح:23] يعني: يقول بعضهم لبعض ويوصي بعضهم بعضاً: إياكم أن تتأثروا بدعوة نوح! إياكم أن تتركوا آلهتكم لقول نوح! تمسكوا بها! ولهذا أكَّدوا ذلك: (لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ)، فجعلوها آلهة، والآلهة هي المألوهة التي تألهها القلوب وتحبها وتعظمها وترجو نفعها ودفع الضر بها، وهذا عام، ثم صاروا يخصون هذه الأصنام، فهم: أولاً: أوصوا بالتمسك بالآلهة عموماً: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} [نوح:23]. ثم أكدوا الوصية بهذه الأصنام الخمسة: وَد وسُواع ويغوث ويعوق ونسر. إلى أن أيس نوح عليه السلام من استجابتهم، وكان يرجو أن يولد لهم أولاد يستجيبون لدعوته، فصار كلما وُلد مولود علَّموه عبادة الأوثان وحذَّروه من اتباع نوح عليه السلام، ولهذا قال تعالى حاكياً عنه: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارَاً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرَاً كَفَّارَاً} [نوح:26 - 27] أي: أن أولادهم كانوا فجاراً وكفاراً. ثم بسبب تمسكهم بعبادة غير الله أهلكهم الله جلَّ وعلا بالغرق الذي جاء على جميع الأرض، ولم يَبقَ على الأرض حي إلَّا من كان في سفينة نوح فقط. ثم إن الذين كانوا في السفينة نموا وكثروا، وقد ذكر الله جلَّ وعلا في كتابه أن ذرية نوح هم الباقون، فصار الناس الذين بقوا هم أولاد نوح وكان أولاده أربعة، فانتشروا في الأرض وصار منهم الأمم الكبيرة. فوقع فيهم الشرك مرة أخرى بأسباب الله أعلم ما هي؛ ولكن هذا من أعظمها، فأرسل الله جلَّ وعلا إليهم الرسل تدعوهم إلى التوحيد وتنهاهم عن الشرك وعبادة غير الله جلَّ وعلا، وكل أمة تعصي رسولها وتأبى من اتباعه وإخلاص الدين لله جلَّ وعلا، فكان الله جلَّ وعلا يهلكهم بعذاب عام يعمهم، كما وقع لقوم نوح، وقد ذكر الله جلَّ وعلا بعض قصصهم؛ لأن الله لم يقص علينا قصص كل الرسل، وإنما قُصَّ علينا بعضهم، ولهذا يقول جلَّ وعلا: {وَرُسُلَاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} [النساء:164] إنما ذُكر لنا ما فيه الكفاية وفيه المعتبر. وقد جاء أن هذه الأصنام التي كانت في قوم نوح وُجدت في العرب، ذكر ذلك ابن عباس، وذكره محمد بن إسحاق في السيرة، وذكره ابن الكلبي في كتابه (الأصنام) وذكره عمر بن شبه في (تاريخه)، وذكره الأزرقي أيضاً، وغيرهم من الذين كتبوا في هذا، ذكروا أن هذه الأصنام حملها الطوفان وألقاها في قرب جدة على الساحل، فسَفَتْ عليها السَّوافي فاندفنت، ومرت عليها العصور الطويلة الكثيرة جداً.

أول من جعل الأصنام من العرب

أول من جعل الأصنام من العرب ثم بعدما كان العرب على دين إسماعيل، وكانوا مستقيمين على الحق، صار فيهم رجل من كبار خزاعة -وهو عمرو بن لحي الخزاعي - مطاعاً فيهم ورئيساً لهم، وذكروا أنه كان له شيطان يأتيه بالأخبار كحال الكُهَّان، فجاء إليه يوماً وأمره أن يذهب إلى هذا المكان، وقال له: إنك تجد فيه أصناماً مُعَدَّة فخذها ولا تهب، وادعُ إلى عبادتها العرب تُجَب، في سجع يقوله له، فذهب فوجد أن الشيطان قد استخرجها لهم، ففرقها في قبائل العرب بعدما دعاهم إلى عبادتها في الموسم فأجابوه، فصار كل صنم في قبيلة من قبائل العرب، وصاروا يعبدونه. وبقيت إلى أن بعث الله جلَّ وعلا خاتم رسله محمداً صلى الله عليه وسلم فحطمها، وكُسِّرت بدعوته. ثم إن الأمر ما انتهى عند ذلك، فقد استحدث العرب أصناماً أخرى، كما سبق أنهم عبدوا اللات والعزى، وعبدوا مناة وهُبل، وعبدوا الحجارة، وعبدوا أصناماً كثيرة، وقد جاء في الصحيح أنها: (لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخَلَصة) وذو الخلصة: صنم لدوس، وقد وقع ذلك كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم. وكذلك من هذه الأصنام ما يكون بصورة رجل صالح من القبور، ولا يزال الناس يشاهدون ذلك إلى الآن، فهذه المشاهد التي يُطاف عليها، وتُقصَد من أماكن نائية عنها، وتُراق عندها الدماء، وتُقدم لها النذور، وتَسمَع إذا وصلتَ إليها دعوات الناس مرتفعةً، يدعون أصحابَها بالابتهال والخضوع والذل، وينادون المقبور بأن يفعل بهم كذا، ويعطيهم، ويمنعهم من العدو، ويهب لهم ما يريدونه من ولد أو رزق أو ربما غفران الذنوب يدعونه وقد أصبح رميماً تحت التراب!! وهؤلاء الذين يُدعَون أمثال: البدوي وأمثال: الدسوقي وأمثال: عبد القادر الجيلاني وأشباههم ليسوا من خيار الناس وأفاضلهم، بل هناك كثيرٌ من الصالحين ومن أولياء الله قُبروا في مصر وفي الشام وفي العراق وفي الحجاز وفي اليمن وفي أماكن متعددة ولكن في زمن الاستقامة؛ وما كان الشيطان يطمع في أن يدعو الناس إلى عبادة هؤلاء، وإنما زين لهم الشيطان عبادة هؤلاء لما فرغت قلوبهم من التوحيد الخالص لله جلَّ وعلا، فدعاهم إلى ذلك فاستجابوا له. ومن العجائب أنه قد يُعبد طاغوت من الطواغيت الذي كان ينكر شرع الله، بل كان يدعو إلى مسخه، مثل ابن عربي الطائي الذي كان في الشام، فقبره لا يزال معروفاً إلى الآن يُعبد ويُعظم ويُطاف عليه، وهو الذي يقول: إن فرعون على الحق وإن موسى على الباطل، وهو الذي يقول: إن الرسل ضيَّقوا على الناس، وإن الناس أخطئوا في تخصيصهم العبادة بـ (اللات والعزى ومناة) وما أشبه ذلك، أما لو عبدوا كل شيء لكانوا على الحق والصواب، وهو الذي يقول: إذا صار أهل النار إلى النار صارت عليهم عذْباً، وصارت نعيماً لا يتأثرون بعذابها، وأشياء عجيبة جداً من مسخ دين الله! بل قال: إنه لا فرق بين الزوجة والأم، ولا بين الخمر واللبن، فكله حلال، فمن كان هذه بعض أقواله كيف يُعظم ويُعبد؟! ولكن الجهل وإضلال الشيطان لهؤلاء هو الذي جعلهم يعبدونه. وكل هذا بسبب تقصيرهم وبسبب تركهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم والتعمُّق فيه والتمسك به، فالجهل هو الذي يكون سبباً لكل ضلال. ومن المعلوم أن الله جلَّ وعلا قد خلق خلقه لعبادته، فالعبادة حقه لا يجوز أن يكون شيء منها لغيره، فإن جُعل شيء من العبادة لغيره فقد حرم الله جلَّ وعلا الجنة على هذا الذي جعل بعض العبادة لغيره، وأخبر أنه لا يغفر ذلك له إذا مات عليه. ثم كيف يسوغ للعاقل وهو يعلم أن الله حرم الجنة على المشرك ألا يهتم بمعرفة الشرك ولا يبحث عنه؟! حتى انقلبت الأوضاع وصار الشرك عند كثير من الناس هو الحق والصواب، وهو الدين الذي يُدان به، بل ويُزعم أنه الدين الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصبح تجريد التوحيد لله وحده وتجريد المتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم باطلاً، وأصبح صاحبه ضالاً تجب محاربته ويجب نبذه، فانعكست الأمور تماماً، وكل هذا بسبب الجهل والتفريط، وكون الإنسان يفرط في أمر الله جلَّ وعلا الذي أوجبه عليه، والإنسان هو الذي يقع عليه اللوم؛ لأنه لا حجة له، فقد بين الله جلَّ وعلا الحق بياناً جلياً، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يترك شراً يمكن أن يُبعِد عن الله إلَّا وحذَّرنا منه ولا خيراً يقرِّبنا إلى الله إلَّا وبينه ووضحه لنا وأمرنا به، فإذا تركنا ما جاء به فنحن الملومون، ونحن الذين قامت عليهم الحجة وليس لهم على ربهم عذر ولا حجة، بل الحجة لله؛ لأنه أرسل الرسول وأنزل الكتاب، ولازال كتاب ربنا بيننا، فهل نتخذ كتابه للتبرك أو للرقى وطرد الجن وما أشبه ذلك؟! هذا لا يكفي، بل هذا شبه اللعب، ونحن بهذا كأننا اتخذناه للدنيا ولمصلحة أبداننا فقط. وإنما يجب أن نصلح به القلوب أولاً، ثم نصلح به كل أوضاعنا وعلاقاتنا، وإلَّا فسوف يسألنا الله جلَّ وعلا: كيف يأتيكم كتابي ولا تتفهمونه ولا تعملون به؟! فما العذر؟ أيقول الإنسان: يا رب! ما أدري ماذا قلتَ؟! وهل يكون هذا عذراً؟! أيقول: يا رب! أنا ما فهمتُ قولك؟! أيكون هذا عذراً والله جلَّ وعلا يقول: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] ويقول: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17] يقول علماء التفسير في هذه الآية: هل مِن طالب علم فيُعان؟! فالله قد يسَّره، ولكن الإعراض هو الذي يحول بين الإنسان وبين ذلك، وهكذا إذا لم يهتم وإنما يجعل الاهتمام بأمور الدنيا، وسوف يُسأل كل إنسان عن كتاب ربه: ماذا عمل به؟! ولماذا ما اتبع الرسول؟! فليعد للسؤال جواباً، وليكن الجواب صواباً، وإلَّا فهو يستحق العذاب، نسأل الله العافية.

الفرق بين الصنم والوثن

الفرق بين الصنم والوثن قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: في الصحيح أي: في صحيح البخاري، وهذا الأثر اختصره المصنف. ولفظ ما في البخاري: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (صارت الأوثان التي في قوم نوح في العرب بعدُ، أما وَد فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سُواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ، وأما يعوق فكانت بهمدان، وأما نسر فكانت لحِمْيَر لآل ذي الكلاع: أسماء رجال صالحين في قوم نوح) إلخ. وروى عكرمة والضحاك وابن إسحاق نحو هذا. قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد قال حدثنا مهران عن سفيان عن موسى عن محمد بن قيس: (أن يغوث ويعوق ونسراً كانوا قوماً صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة، فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم وبهم يُسْقون المطر، فعبدوهم). قوله: (أن انصبوا) هو بكسر الصاد المهملة. قوله: (أنصاباً): جمع نُصُب، والمراد به هنا: الأصنام المصورة على صورة أولئك الصالحين التي نصبوها في مجالسهم، وسمَّوها بأسمائهم. وفي سياق حديث ابن عباس ما يدل على أن الأصنام تسمى أوثاناً، فاسم الوثن يتناول كل معبود من دون الله، سواء كان ذلك المعبود قبراً أو مشهداً أو صورةً أو غير ذلك] سبق أن بعض العلماء فرَّق بين الوثن والصنم فقال: الصنم هو: ما نُحت على صورة إنسان أو حيوان وكان مجسَّداً، سواء كان منحوتاً أو منجوراً أو مبنياً أو ما أشبه ذلك. أما الوثن فهو أعم، وتعريفه هو: كل معبود من دون الله، سواء كان شيئاً مجسداً على صورة إنسان أو على صورة أسد أو غير ذلك، فالقبر يكون وثناً؛ ولكن نقول: لا يسمى صنماً على هذا القول، ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم أوثاناً). ومنهم من لا يفرق ويقول: الوثن يطلق على الصنم، والصنم يطلق على الوثن، وقد جاء في القرآن ما يدل على هذا، فإن في قصة إبراهيم: مرةً سمَّوها أصناماً ومرةً سمَّوها أوثاناً، فهذا يدل على أنها تُطلق على هذا مرةً وتُطلق على هذا مرةً أخرى.

الجهل سبب من أسباب الوقوع في الشرك

الجهل سبب من أسباب الوقوع في الشرك قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: (حتى إذا هلك أولئك) أي: الذين صوروا تلك الأصنام. قوله: (ونُسي العلم) ورواية البخاري: (وتنسَّخ). وللكشمهيني: (ونُسخ العلم) أي: درست آثارُه بذهاب العلماء، وعم الجهل حتى صاروا لا يميزون بين التوحيد والشرك، فوقعوا في الشرك ظناً منهم أنه ينفعهم عند الله. قوله: (عُبدت) لما قال لهم إبليس: إن من كان قبلكم كانوا يعبدونهم، وبهم يُسقون المطر، هو الذي زين لهم عبادة الأصنام وأمرهم بها، فصار هو معبودهم في الحقيقة كما قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلَّاً كَثِيرَاً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس:60 - 62]]: الجِبِلُّ هم: الجماعات الكثيرة، فقوله تعالى: {جِبِلَّاً كَثِيرَاً} يعني: جماعات كثيرة أضلها الشيطان، فلماذا لم تعتبروا بذلك؟! ولماذا لم تتبعوا الرسل وتهتدوا بهديهم، وتتفكروا بعقولكم؟! ولماذا لم تستدلوا بآيات الله جلَّ وعلا القائمة المشاهَدة وكذلك المقولة المسموعة؟! و A أنه لا عذر لهم في ذلك. قال الشارح رحمه الله تعالى: [وهذا يفيد الحذر من الغلو ووسائل الشرك؛ وإن كان القصد بها حسناً، فإن الشيطان أدخل أولئك في الشرك من باب الغلو في الصالحين والإفراط في محبتهم، كما قد وقع مثل ذلك في هذه الأمة: أظهر لهم الغلو والبدع في قالب تعظيم الصالحين ومحبتهم ليوقعهم فيما هو أعظم من ذلك من عبادتهم لهم من دون الله. وفي رواية: أنهم قالوا: (ما عظّم أوّلنا هؤلاء إلا وهم يرجون شفاعتهم عند الله) أي: يرجون شفاعة أولئك الصالحين الذين صوروا تلك الأصنام على صورهم وسموها بأسمائهم، ومن هنا يُعلم أن اتخاذ شفعاء ورجاء شفاعتهم بطلبها منهم شرك بالله، كما تقدم بيانه في الآيات المحكمات].

شرح فتح المجيد [58]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [58] نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن الغلو في الصالحين، وأخبر أن هذا هو سبب هلاك الأمم من قبلنا، وقد وقع كثير من الناس فيما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغلوا في الصالحين، وعكفوا على قبورهم، ثم صاروا يدعون غيرهم إلى ذلك، فوقعوا في الشرك وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.

تفصيل المراحل التي تنقل فيها المشركون حتى عبدوا تماثيل الصالحين

تفصيل المراحل التي تنقل فيها المشركون حتى عبدوا تماثيل الصالحين

كلام ابن القيم عن مراحل التنقل إلى عبادة القبور

كلام ابن القيم عن مراحل التنقل إلى عبادة القبور قال الشارح رحمه الله: [وقال ابن القيم: قال غير واحد من السلف: لما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم. قوله: (وقال ابن القيم رحمه الله): هو الإمام العلامة محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي الدمشقي المعروف بـ ابن قيم الجوزية]. إذا جاءت إضافةٌ لا بد أن تحذف (أل)؛ لأن (قيم) معناه: مدير المدرسة، و (الجوزية): مدرسة. قال الشارح رحمه الله: [قال الحافظ السخاوي: العلامة الحجة، المتقدم في سعة العلم ومعرفة الخلاف وقوة الجنان، المُجْمَع عليه بين الموافق والمخالف، صاحب التصانيف السائرة والمحاسن الجمة، مات سنة إحدى وخمسين وسبعمائة. قوله: (وقال غير واحد من السلف) هو بمعنى ما ذكره البخاري وابن جرير، إلَّا أنه ذكر عكوفهم على قبورهم قبل تصويرهم تماثيلهم، وذلك من وسائل الشرك، بل هو الشرك؛ لأن العكوف لله في المساجد عبادة، فإذا عكفوا على القبور صار عكوفُهم -تعظيماً ومحبةً- عبادةً لها. قوله: (ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم) أي: طال عليهم الزمان، وسبب تلك العبادة والمُوصِل إليها هو: ما جرى من الأولين من التعظيم بالعكوف على قبورهم، ونصب صورهم في مجالسهم، فصارت بذلك أوثاناً تُعبد من دون الله، كما ترجم به المصنف رحمه الله تعالى، فإنهم تركوا بذلك دين الإسلام الذي كان أولئك عليه قبل حدوث وسائل هذا الشرك، وكفروا بعبادة تلك الصور واتخذوهم شفعاء، وهذا أول شرك حدث في الأرض. قال القرطبي: وإنما صور أوائلُهم الصور ليتأسوا بها ويتذكروا أفعالهم الصالحة، فيجتهدوا كاجتهادهم، ويعبدوا الله عند قبورهم، ثم خلفهم قوم جهلوا مرادهم فوسوس لهم الشيطان أن أسلافهم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها. انتهى. قال ابن القيم رحمه الله: وما زال الشيطان يوحي إلى عُبَّاد القبور ويُلقي إليهم أن البناء والعكوف عليها من محبة أهل القبور من الأنبياء والصالحين، وأن الدعاء عندها مستجاب. ثم ينقلهم من هذه المرتبة إلى الدعاء به، والإقسام على الله به، فإن شأن الله أعظم من أن يُقسم عليه أو يسأل بأحد من خلقه. فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعائه وعبادته وسؤاله الشفاعة من دون الله، واتخاذ قبره وثناً تُعلَّق عليه القناديل والستور، ويُطاف به ويُستلَم ويُقَبَّل ويُحَجُّ إليه ويُذْبَح عنده. فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعاء الناس إلى عبادته، واتخاذه عيداً ومنسكاً، ورأوا أن ذلك أنفع لهم في دنياهم وأخراهم. وكل هذا مما قد عُلم بالاضطرار من دين الإسلام أنه مضاد لما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من تجريد التوحيد وألَّا يُعبَد إلَّا الله. فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى أن مَن نهى عن ذلك فقد تنقَّص أهل هذه الرتب العالية وحطَّهم عن منزلتهم، وزعم أنه لا حرمة لهم ولا قدر، وغضب المشركون واشمأزت قلوبهم كما قال تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر:45] وسرى ذلك في نفوس كثير من الجُهَّال والطغام، وكثير ممن ينتسب إلى العلم والدين، حتى عادَوا أهل التوحيد ورمَوهم بالعظائم ونفَّروا الناس عنهم، ووالَوا أهل الشرك وعظموهم، وزعموا أنهم أولياء الله وأنصار دينه ورسوله، ويأبى الله ذلك {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} [الأنفال:34] انتهى كلام ابن القيم رحمه الله].

ذكر أن الجهل باللغة العربية من أسباب الوقوع في الشرك

ذكر أن الجهل باللغة العربية من أسباب الوقوع في الشرك من المعلوم لدى كل مسلم أن الله جلَّ وعلا خلق خلقه ليعبدوه، وهذا أصل يعلمه المسلمون جميعاً؛ ولكن بعض المسلمين يجهل تفاصيل العبادة، ويجهل كذلك تفاصيل معنى (الإله). والسبب في هذا: الجهل باللغة العربية؛ لأن ربنا جلَّ وعلا أنزل كتابه بهذه اللغة، كما أنه أرسل رسوله عربياً؛ فصار من المبادئ التي هي مُسَلَّمة ولا ينازع فيها أحد من العلماء أن تعلُّم اللغة العربية أمر واجب ضروري؛ لأن الدين الإسلامي لا يُفهم إلَّا بها، وليس معنى (اللغة العربية) أن يخاطب الناسَ اليوم باللغة العربية، إنما المقصود باللغة العربية: أن يعرف لغة القرآن، ويعرف معاني القرآن؛ لأن اللغة العربية هي لغة القرآن، فإذا خاطبه الله جلَّ وعلا بشيء فَهِمَه؛ وإذا خاطبه الرسول صلى الله عليه وسلم بشيء فَهِمَه، وإذا سمع آية من كتاب الله فهمها ولو لم يفهم جميع ما أُريد بهذه الآية، ولكن يفهم الخطاب العام الذي يفهمه العربي، هذا هو المقصود، وإلَّا فكتاب الله اشتمل على علوم عظيمة وكثيرة، ولا يزال كتاب الله طرياً، والآية الواحدة يستخرج منها الإنسان أحكاماً كثيرة؛ لأن كلام الله ينطوي على أسرار وعلوم وأشياء عظيمة، ولهذا يتفاوُت العلماء بتفاوُت معرفتهم لمعاني كلام الله. فالمقصود: أن يعرف ظاهر الخطاب، فيعرف -مثلاً- معنى (الإله) معنى (الرب) معنى (الله) معنى (الصلاة) معنى (الصوم)، وهكذا، ويعرف الشيء الذي يخاطبه الله جلَّ وعلا به. فإذا صرف الإنسان شيئاً من العبادة لغير الله، فقيل له: هذا توسل أو هذا تقرب إلى الولي أو هذا تشفع أو ما أشبه ذلك، فإن كان يجهل اللغة العربية فسوف يجهله، وينطوي عليه، ويظنه مما يقربه إلى الله. ومن المعلوم أيضاً بين المسلمين عموماً أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بدعوة الناس إلى ترك جميع من يُتَعلَّق به في العبادة، وجعل العبادة لله وحده، وكان يقول للناس: (قولوا: (لا إله إلَّا الله) تفلحوا) ويقول لهم: (أمرت أن أقاتل الناس) وهو لم يؤمر بالقتال إلَّا لما جاء إلى المدينة، أما قبل ذلك فكان الله جلَّ وعلا يأمره بالصبر والتحمل مع إبلاغ الرسالة والدعوة، يأمره بأن يدعو الناس بالتي هي أحسن، وأن يصبر على الأذى الذي يناله منهم، كما قال له جلَّ وعلا: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل:127] ويكرر له هذا الأمر، ويقص عليه قصص الرسل الذين سبقوه ليتسلى ويتأسى بهم، وكثيراً ما يقص عليه قصة موسى عليه السلام؛ لأن فيها معتبراً عظيماً، ولهذا كان يقول صلى الله عليه وسلم إذا أوذي: (رحم الله موسى! لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر) فكان يتأسى ويتسلى بذلك. ولبث صلوات الله وسلامه عليه في مكة يدعو إلى الله جلَّ وعلا وإلى التوحيد أكثر من ثلاث عشرة سنة، ولم يأمر بالقتال، وإنما كان يدعو الناس إلى قول (لا إله إلَّا الله)، وكان العرب فصحاء، نزل القرآن بلغتهم، يعرفون معنى الكلام، فإذا قال لهم: (قولوا: لا إله إلَّا الله) قالوا له: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهَاً وَاحِدَاً} [ص:5] يقولون: لنا آلهة كثيرة، فإذا قلنا: (لا إله إلَّا الله) لابد أن نتركها وإلا لم يصبح التأله لله وحده. وكثر الداخلون في الإسلام الواحد بعد الآخر، وكان لا يدخل في الإسلام إلَّا من هو مقتنع تمام الاقتناع، حيث كان يضحي بنفسه وبماله وبأولاده وبأقاربه في سبيل ذلك ولا يبالي، وكان كل من دخل في الإسلام يصير الإسلام عنده أغلى من الأرض ومن عليها من الخلق ومن الأموال ومن المُلك، بل لا يمكن أن يوازيه شيء عنده.

علم الكفار باللغة جعلهم يرفضون دعوة الإسلام

علم الكفار باللغة جعلهم يرفضون دعوة الإسلام فلما رأى الكفار ذلك خشوا أن يكثر الداخلون في الإسلام، فذهبوا إلى أبي طالب وهو زعيمهم وكبيرهم ولا يجرءون على مخالفته، فقالوا: نتحاكم إليك في ابن أخيك، فأنصفنا منه، فصاروا يتكلمون ويقولون له: إن كان يريد مالاً جمعنا له مالاً حتى يكون أغنى رجل فينا، وإن كان يريد نساءً زوجناه أحسن النساء عندنا، وإن كان يريد وإن كان يريد فلما أكثروا ذلك قال له عمه: هؤلاء قومك يطلبون أن تنصفهم، فقال صلوات الله وسلامه عليه: أريد منهم كلمة واحدة -لا أريد كل هذه الأشياء- فقال أبو جهل: نعطيك مائة كلمة -مائة كلمة! وليست كلمة واحدة- فقال: (أريد أن تقولوا: لا إله إلَّا الله)، عند ذلك نفروا وأبَوا وتكبروا وقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهَاً وَاحِدَاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] وهم قالوا: نعطيك مائة كلمة، فلما قال لهم: (قولوا: لا إله إلَّا الله) أبوا كل الإباء؛ لأنهم يعلمون أن هذه الكلمة تبطل الشرك كله. ثم لما تمادى الأمر في المسلمين واختلط بالعرب غيرهم من غير العرب فسدت اللغة العربية وصار الإنسان لا يفهم اللغة كالعرب السابقين، فبدأ عدم الفهم للقرآن من هنا، وأول ما بدأ ذلك استنكره العلماء، حتى إن أحد العلماء من السلف سئل عن رجل يقرأ القرآن ولا يفهمه؟ فقال: كيف هذا؟! هذا من البدع التي ما كانت معروفة! والسبب هو: اختلاط العرب مع العجم، وفساد اللسان.

فساد اللغة أدى إلى فساد الدين

فساد اللغة أدى إلى فساد الدين ثم كلما ابتعد الوقت ازداد الأمر بعداً، فتجد الآن في كثير من بلاد المسلمين لهجات بعيدة عن العربية، بل بعض العرب أنفسهم لا يفهمون بعضاً، وكل هذا لأنهم لا يعتنون باللغة العربية الفصحى، لا اللغة التي تحصل بها المخاطبة للناس كلهم على أشياء يتفقون عليها ويتخاطبون ويتفاهمون فيها؛ ولكن المقصود أن لغة القرآن ولغة الرسول صلى الله عليه وسلم، يجب أن تتَعَلَّم وأن يُحْرَص عليها؛ لأن الإنسان لن يفهم خطاب الله جلَّ وعلا وخطاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلَّا بذلك، حتى ولو تُرجمت له المعاني، فالترجمات تختلف، وكثير من العلماء يقول: ترجمة القرآن مستحيلة؛ لأن ما يترجم هو بعض كلام المفسرين، وقد تكون الترجمة خطأً، فيصبح هذا الذي يقرأ الترجمة يبتعد أكثر مما لو تُرك حتى يقيض الله جلَّ وعلا له من يفهِّمه. والمقصود: أنه لا يمكن للإنسان أن يعرف الحقوق الواجبة التي أوجبها الله جلَّ وعلا عليه تمام المعرفة التي يتيقن بها إلَّا إذا تعلم هذه اللغة وعرفها. أقول ذلك لأن وقوع كثير من الناس في عبادة القبور وعبادة الأولياء هو بسبب الجهل باللغة العربية، وهناك عوامل أخرى لأغراض معينة لأناس معينين: أهل رئاسة، وأهل مناصب، وكذلك الذين يريدون الاستيلاء على أموال الناس ولو بالباطل، وهم يعرفون الحق، ويزينون لهم عبادة القبور، ويجعلون لها من طرق التعظيم والوسائل التي تجلب الناس الشيء الكثير، ويكونون مباشرين أو غير مباشرين، حتى يمكنهم أن يسلبوا أموال الناس التي تقدم إلى هذه القبور، باسم النذور وحقوق الأولياء والقرابين التي تقدم، لأجل ذلك.

حرص المسلمين الأوائل على سد الذرائع لتعظيم القبور

حرص المسلمين الأوائل على سد الذرائع لتعظيم القبور لما كان المسلمون على الحق لم يكونوا يقرون بالبناء على القبور، ولا كان يُمَيَّز قبر الصحابي الفلاني أو الإمام الفلاني من غيره، بل تعلموا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسووا القبور كلها، وألَّا تجصص وألَّا يبنى عليها بناء، بل لا يوضع عليها من غير ترابها الذي أُخرج منها شيء؛ لأنهم علموا مثل هذه الوقائع التي قصها الله جلَّ وعلا علينا وفهموها تمام الفَهم، وأنها سبب لخروج الإنسان من دينه ودخوله في الكفر، تعلموا ذلك من كتاب الله ومن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم. ولهذا لما فتحوا المدائن وجدوا في خزائن الملوك رجلاً على سرير -وقد مات من أزمان متطاولة- ووجدوا عنده كتاباً، فتُرجم الكتاب، يقول أبو العالية: فأنا أول من قرأه. فقيل له: وماذا فيه؟ قال: فيه حليكم وعليها أوصافكم وسيرتكم وما سيقع لكم. فقال له السائل: من تظنون هذا؟ وماذا كانوا يصنعون به؟ قال: كانوا إذا تأخر المطر خرجوا به فسألوا الله جلَّ وعلا به فيُسقون. فقال له السائل: ومن كان هذا الرجل؟ قال: هو دانيال -ودانيال نبي من الأنبياء-. فماذا صنع الصحابة به؟ حفروا ستة عشر قبراً أو ثلاثة عشر قبراً في النهار متفرقة، فدفنوه في واحد منها وسووها كلها ليُعَمُّوا ذلك على الناس؛ لأنهم خشوا الفتنة في هذا. يقول بعض العلماء: هذا لو ظفر به المتأخرون لجالدوا عليه بالسلاح. والمقصود من هذا: أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يعرفون الفتنة في القبور من خطاب الله جلَّ وعلا لهم ومن القصص التي قُصَّت عليهم، فكانوا من أبعد الناس عن تعظيمها أو البناء عليها أو الكتابة عليها. ثبت في صحيح مسلم عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألا تَدَع قبراً مشرفاًَ إلا سويته، ولا صورة إلَّا طمستها) فهذا الأمر بتسوية القبور وطمس الصور هو من أجل أن الفتنة في القبور وفي الصور فتنة عظيمة يمكن أن يخرج تعظيمها عن الدين الإسلامي.

قصة أول شرك حدث في الأرض

قصة أول شرك حدث في الأرض هذه القصة فيها معتبر، وهؤلاء الذين صوروا صور هؤلاء الصالحين ما كان عندهم في زمنهم شرك؛ لأنهم ذرية آدم؛ وآدم نبي، خاطبه الله جلَّ وعلا وأمره أن يتبع، وبين له الأوامر، وكان أولادُه على طريقته، ما كانوا يخالفون في ذلك، فبقوا وقتاً طويلاً، يقول ابن عباس: عشرة قرون، وقد اختلفوا في تحديد القرن فمنهم من يقيده بمائة سنة، ومنهم من يقيده بمائة وعشرين، ومنهم من يقول أقل، ومنهم من يقول أكثر. ثم حدثت هذه الحادثة وهي: أنه كان فيهم خمسة رجال من الصالحين المجتهدين فيهم، فماتوا واحداً بعد الآخر في زمن متقارب، فأسفوا عليهم وجزعوا لذلك، فدعاهم الجزع عليهم وحبهم والتعظيم لهم أن صوروا صورهم، ونصبوها في المجالس التي كانوا يجلسونها ويعبدون الله فيها، ووضعوها لغرض أنهم إذا رأوها يجتدهون في العبادة، لا لأجل أنهم يعبدونهم، وإنما لأجل أن يتذكروا أفعالهم إذ رأوا صورهم؛ ولكن الشيطان فرح بهذا؛ لأن الشيطان له نظر بعيد، يعرف كيف تئول الأمور، وهو يشم القلوب ويعرف ميلها، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم) يعني: يعرف ماذا يميل إليه الإنسان، فيميله بشهواته. فلما صوروا هذه الصور فرح بهذا؛ لأنه فقيه في الشر يعرف كيف يدعو إليه، فسكت عن هذا الأمر حتى مات هؤلاء الذين يعرفون السبب، ومات أبناؤهم الذين علمهم آباؤهم السبب، وجاء من لا يعرف ذلك، ولهذا يقول ابن عباس: (فنُسي العلم) يعني: العلم بسبب التصوير نُسي وذهب، عند ذلك جاءت فرصة الشيطان، فجاء إليهم وقال: آباؤكم ما صوروا هذه الصور إلَّا ليتوسلوا بها ويجعلوها وساطة بينهم وبين الله، فيطلبون الله بها، ويستغيثون بها ويتشفعون بها، فوقعوا في الشرك بدعوة الشيطان هذه، وهذا هو أول شرك وقع في الأرض، وإنما كان بسبب الصور والغلو في الحب الذي لم يشرعه الله، وإن كان حب الصالحين مشروعاً، إلا أن محبتهم ليست لذواتهم، فلا تحب الصالح لأنه لحم ودم، ولأن صورته كذا وطوله كذا، ولأنه ابن فلان، وإنما تحبه لأنه يعبد الله، ولأنه مجتهد في طاعة الله، ولأنه صلح في اتباع أمر الله واجتناب نهيه، هذا أمر مشروع؛ ولكن هؤلاء تعدوا هذا الأمر فزادوا وتجاوزوا فيه إلى أن فعلوا هذه الأفاعيل فصارت سبباً في الشرك، فكل تجاوز عن المشروع لابد أن تكون نتيجته سيئة جداً مثل هذه. فلما وقعوا في هذا الشيء ازداد الأمر واتسع، وصار من بعدهم يستشهد بهم، فكل من جاء من الناس يوجِد له معبوداً شبيهاً لهذه المعبودات حتى انتشرت المعبودات جداً عندهم، وكثرت المعبودات التي تُجعل واسطة بين الإنسان وبين ربه، فعند ذلك أرسل الله جلَّ وعلا إلى أهل الأرض نوحاً عليه السلام، وهو أول رسول، أما والده آدم فإنه كان نبياً؛ لأن النبي يكون في الأمة المؤمنة بمنزلة العالم الذي يكون في هذه الأمة؛ يبين الحق ويكون مرجعاً عند الاختلاف وما أشبه ذلك، وليسوا بحاجة إلى رسالة جديدة، وإنما الرسالة تكون إلى القوم الكافرين المشركين، وهذا هو الفرق بين الرسول والنبي. فجاء نوح عليه السلام يدعوهم إلى عبادة الله وحده، وترك ما كانوا عليه من هذه الأصنام؛ ولكنهم كانت قلوبهم قد أُشْرِبَت حبَّها، وقد مضى على ذلك كثير منهم متمسكين بها، فصارت سُنَّة ماضية، وصار يوصي بعضهم بعضاً بعدم الاستجابة لنوح، ويبالغون في ذلك أشد المبالغة؛ لأن النفوس -في الواقع- تحب الباطل وتميل إليه وتكره الحق، هذا شيء مغروس في الإنسان، والكل يدرك ذلك، والحق قد يكون ثقيلاً عند أكثر الناس؛ والسبب في هذا أنه لا حظ للنفس فيه؛ لأنه أمر الله جلَّ وعلا، وهو شيء ليس جزاؤه العاجل بل جزاؤه الحقيقي هو المنتظر، وقد يستبعد الإنسان ذلك.

مجاهدة نوح عليه السلام في الدعوة إلى التوحيد

مجاهدة نوح عليه السلام في الدعوة إلى التوحيد فصار نوح عليه السلام يشكو إلى ربه ويقول: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلَاً وَنَهَارَاً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارَاً} [نوح:5 - 6] يفرون من التوحيد {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} [نوح:7] لئلا يسمعواكلامه {وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} يعني: غطوا عيونهم بثيابهم حتى لا ينظرون إليه، وهذا من المبالغة في الإعراض، فكانوا يغطون وجوههم ويصمون آذانهم، {وَأَصَرُّوا} [نوح:7] على فعلهم الذي هم عليه من عبادة غير الله، وجعلوا هذه الأشياء وسائط يتشفعون بها، {وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا} [نوح:7] عن دعوة نوح استكبارً متكرراً ومبالَغاً فيه. ثم يقول عليه السلام: إنه حاول بجميع الطرق: دعوتهم جهاراً ودعوتهم في الليل والنهار، ودعوتهم في السر والعلن ولكن ما أفاد شيئاً، فيقول: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارَاً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارَاً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارَاً} [نوح:10 - 12] يعني: في الدنيا، فجاءهم بالترغيب والترهيب، وبالأفراد وبالجماعات، ولكن لم يُجدِ شيئاً، إلى أن قال في شكايته إلى ربه: {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارَاً} [نوح:21] من هو هذا الذي لم يزده ماله وولده إلَّا خساراً؟ هو الذي يتبع غير دين الله، فالمال والولد يزيده بعداً عن الله، فيكون خاسراً، ثم يذكر وصايتهم في التمسك بأمواتهم، وأنهم كانوا يوصي بعضهم بعضاً: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} [نوح:23] أي: كل من كانت عنده آلهة فليتمسك بها، أما الآلهة الخاصة المقدَّمة العظيمة التي هي أول ما حدث من أجله الشرك، فهم الذين ذكروهم بقولهم: {وَلا تَذَرُنَّ وَدَّاً وَلا سُوَاعَاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرَاً} [نوح:23]، فهذه منهم وصية خاصة بعد الوصية العامة، فأوصى بعضهم بعضاً. أولاً: بالتمسك بكل المعبودات. ثانياً: بالتمسك بهؤلاء الخمسة الذين ذُكرت قصتهم، والذين كانوا في الأصل أسماء رجال صالحين فيهم، فماتوا ثم صوروا صورهم ونصبوها ليتذكروا أفعالهم؛ فيجتهدوا كاجتهادهم، فصاروا فيما بعد من أكبر المعبودات، ومن أعظم ما يصد عن دعوة رسول الله نوح صلى الله عليه وسلم. إلى أن قال في شكايته إلى ربه: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارَاً} [نوح:26] أي: لا تترك واحداً من الكافرين يسكن في الأرض، ولماذا؟ لأنه حاول كل المحاولات، وكرر وأبدى وأعاد، وبقي معهم ألف سنة إلَّا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله، ومع ذلك ما أجدى شيئاً، فتمسك بكل من جاء من شبابهم الذين يظن ويرجو أنهم لا يكونون مثل آبائهم، ولكن لم يجد شيئاً، بل أوصاهم آباؤهم ولقنوهم وعلموهم -وربما بالقوة- وحذروهم من سماع قول نوح، ولهذا دعا عليهم فقال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارَاً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ} [نوح:26 - 27] والله علام الغيوب ولا شك، ونوح لم يدع علم الغيب الذي عند الله جلَّ وعلا، ولكن الله جلَّ وعلا قد قال لنوح وأوحى إليه: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [هود:36]. فلما جاءه الوحي بأنه لن يؤمن من قومه إلَّا من قد آمن دعا هذا الدعاء: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارَاً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ} [نوح:26 - 27] أي: عبادك المؤمنين الذين سيولدون، أما الموجود منهم فهو ضال، {وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرَاً كَفَّارَاً} [نوح:27] يعني: أولادهم يكونون مثلهم، ثم دعا لنفسه ولوالديه وللمؤمنين ولمن دخل بيته مؤمناً، وهذه الدعوة ينبغي أن يقتدي المسلم بنوح عليه السلام فيها.

الزيادة في المشروع قد يؤدي إلى الشرك

الزيادة في المشروع قد يؤدي إلى الشرك والمقصود بهذا: أن يتبين لنا أن سبب الوقوع في الشرك، هو زيادة المشروع من الحب في الصالحين وتعظيم الصور. وهنا ما ذُكِرت القبور، وإنما ذكرت هذه القضية، والفتنة في القبور ليست بأقل من الفتنة في الصور، بل هي أعظم، ولهذا أبدى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعاد، وأكثر من القول والتحذير في المبالغة فيها، بل حرَّم أن يصلي الإنسان عند القبر صلاة لله، وأمر أن تسوى القبور بالأرض، وألَّا يُبنى عليها، وألَّا تُجصص، وألَّا تُسرج، ولعن من فعل ذلك. وليس هذا كما يقول بعض الفقهاء الذين يقولون: إن تحريم الصلاة في القبور هو لأجل النجاسة، فإن هذا كلام من لا يعرف دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنما جاء النهي عن الصلاة عند القبور خوف الافتتان بها، خوف أن تكون الصلاة لها، كما ذكر ابن القيم هنا: أن التدرج فيها كان على مراحل، فيقول: إن الناس في هذا تدرجوا شيئاً فشيئاً فصاروا خمس درجات، ينقلهم الشيطان من درجة إلى درجة، إلى أن وصل بهم الدرجة الخامسة: الدرجة الأولى: أنه دعاهم إلى تعظيمها، والبناء عليها، ووضع الستور لها، والكتابة عليها: هذا قبر فلان بن فلان الفلاني، وللأسف لأن مثل هذا يقع من بعض العلماء، فإنهم يكتبون في تراجم الأموات -يقول بعضهم: وإن كانوا لا يقصدون الدعوة إلى عبادة القبور؛ ولكنها صارت دعوة في الواقع-: إجابة الدعاء عند قبر فلان مجربة، وهل إذا سمع الإنسان مثل هذا يتركه؟ A لا، فإذا كان مجرب الإجابة فإنه يقول: سأذهب وأدعو؛ لأن الدعوة مجابة عند هذا القبر، وربما كانت الإجابة قدراً قدره الله، فقد يذهب جاهل من الجُهَّال -ولما في قلبه من تعظيم الموتى ذهب في ذلك المكان يظن أنه أرجى إجابة من المسجد الذي هو بيت الله- فيدعو ويحصل له مراده، فينتشر هذا بين الناس، ويصير فتنة لمن لم يعرف دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وحقيقة الإسلام، ويقول الناس بعد ذلك: إن قبر فلان الفلاني يُعظَّم ويُزار، وهذا كثير جداً في تراجم العلماء، حتى إنك لا تكاد تجد كتاباً من الكتب التي تكتب في التراجم إلَّا وكتب هذا فيها، إما تساهلاً وإما غير ذلك. والواقع أنه لا يجوز أن يُتساهل في هذا؛ لأنه صار سبباً لعبادة هذه القبور، وهو أمر عظيم جداً، والرسول صلى الله عليه وسلم حذر منه، حتى إنه يوجد في بعض الكتب: قبر فلان الترياق المجرب، كما قيل ذلك في قبر معروف الكرخي، وللأسف أن هذا يُكتب ويطبع ويُنشر في الناس (والترياق) يعني: الدواء الناجع المفيد الذي جُرِّب فنفع، وكذلك إذا ترجم بعضهم لإنسان يريد نشر فضائله وما أشبه ذلك يقول -مثلاً- مما روي عن جنازته: تزاحم عليه الناس فصاروا يتبركون بكفنه، ويتلمسون البركة من ذلك، ولكن هذا كان في الأزمنة المظلمة بعدما اختلط الحابل بالنابل، وقد لا يسلم من هذا أحد حتى من الأئمة؛ مثل الإمام الشافعي رحمه الله ومثل الإمام أحمد ومثل الإمام أبي حنيفة وغيرهم، يوضع عليهم من هذا القبيل أشياء. ثم صار لهذا المبدأ قوم يتبنونه ويدعون إليه، ويكتبون الكتب فيه، ولا تزال الكتب تكتب وللأسف في هذا؛ لأن كل قوم لهم وارث، فالصالح له من يرثه، والطالح الفاسد له من يرثه، فبعضهم يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغاث به كما يستغاث بالله، فكل شيء تستغيث فيه بالله يجوز لك أن تستغيث فيه بالرسول صلى الله عليه وسلم، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى أن يقول: قوله جل وعلا: (وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ} [الفتح:9] المقصود: وتسبحوا الرسول! هكذا يقولون ويكتبون في الكتب يقولون فيه: سبحانك، إلى هذا الحد! والذي يقول هذا ما هو جاهل من العوام، لا، بل هو من العلماء الذين يكتبون الكتب وينشرونها، ويكونون قدوة لبعض الناس. ثم تمادى الأمر إلى غيره صلوات الله وسلامه عليه فصاروا يقولون: يجوز أن تتوسل بالصالح، بل يستحب أن تتوسل بالصالحين، بل بعضهم قد يوجب ذلك! والصالح من هو؟ يعينون ناساً الله أعلم هل كانوا صالحين أو طالحين، وما هو التوسل؟ التوسل أن تذهب إلى قبره وتدعوه، وتقول: يا فلان! أنا أتوسل بك في كذا وكذا، وأريد أن تتوسط لي عند الله، تخاطبه!

انتشار المرائي عن تأثير الموتى والكذب في الحديث لذلك

انتشار المرائي عن تأثير الموتى والكذب في الحديث لذلك ومن الدعايات الباطلة أنهم صاروا ينشرون بين الناس مرائي: أن فلاناً رأى في النوم أن من في القبر الفلاني خرج، وعمل كذا وعمل كذا، وأنه قال له كذا، وقال له كذا وتنشر، وهذه كثيرة. ثم إن بعض هؤلاء -ما هو كلهم بل بعضهم- صاروا يضعون الأحاديث المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي مكذوبة كذباً صريحاً، ويقولون: إنه يقول: (إذا أعيتكم الأمور فلوذوا بأصحاب القبور)، وهذه دعوة صريحة إلى أهل القبور، وينسبون ذلك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم كذباً وزوراً، ويقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه)، وما أشبه ذلك من الأحاديث المكذوبة التي وضعوها على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا فائدة في تعيين الأشخاص أو تعيين الكتب، والكتب موجودة وتتجدد طباعتها ونشرها وللأسف، وتجد لها أصحاباً يسوقونها، ويتاجرون بها، ويدعون إليها، فهي مسألة مقصودة في الواقع من أشخاص قلوبهم مريضة، تحب عبادة القبور. ثم ذكر ابن القيم الدرجة الثانية: وهي أنه إذا نقلهم إلى هذه الحالة ينقلهم إلى العكوف والجلوس عند القبور لطلب البركة، والعكوف في مساجد الله عبادة كما هو معروف في شرع الله، والعبادة لا يجوز أن تكون لغير الله جل وعلا، وهذا شيء معلوم في الشرع، فإذا جعلت العبادة لغير الله فقد وقع الإنسان في الشرك.

تطور الشرك من درجة إلى درجة

تطور الشرك من درجة إلى درجة يقول: ثم ينقلهم إلى الدرجة الثالثة: وهي أن تحري الدعاء عندها والصلاة عندها أفضل وأحرى إجابة من المساجد، فالصلاة والدعاء عند القبر ليس شركاً لذاته، ولكنه بدعة منكرة، فإذا ذهب الإنسان وصلى لله عند القبر أو كان عند القبر يدعو ربه؛ لا نقول: إن هذا شرك، ولكن نقول: هذه بدعة، والبدعة: هي كل عبادة لم تشرع ولم يأت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نهى عن هذا صلوات الله وسلامه عليه، وهذه البدعة من وسائل الشرك. ثم ينقلهم من هذه الدرجة إلى أن يدعو أصحابها إلى أن يقصدوا القبر ويدعوا صاحبه: يا فلان! جئنا لنطلب منك كذا وكذا، يا سيدنا كذا، يطلبون منه طلبات معينة وغير معينة، وهذا شيء معروف وموجود ومنتشر ولا ينكر هذا، ثم يقولون: ما يفعل هذا إلا الجهال أو الصوفية الذين تمادوا في الباطل وما أشبههم، أما الناس المثقفون أو الناس العقلاء فإنهم لا يقعون في مثل ذلك، ولكن هؤلاء الجهال كثيرون، فلماذا يتركونهم يهلكون في هذا، ويقولون: هم جهال لا يعرفون؟! لو عرفوا لتركوا ذلك، وهم كثيرون، حتى ذكر بعض العلماء الذين يشاهدون بعض هذه الأشياء: أن في مدينة من المدن، في وقت من الأوقات، يقصد القبر في تلك المدينة أكثر من ثلاثمائة ألف، ويجتمعون عنده رجالاً ونساءً، فهل بعد هذا كله نقول: نتركهم، ونقول: هؤلاء جهال، وهذا لا يؤبه به، ولا يلتفت إليه؟! ليس بصحيح، فهذا أمر مهم، ولا يجوز أن يترك المسلم يعبد غير ربه جل وعلا، يجب أن يحذر؛ لأن عبادة غير الله شرك، وإذا مات الإنسان على الشرك فقد أخبر الله أنه لا يغفر أن يشرك به. ثم يقول: إذا وصلوا إلى هذه الدرجة نقلهم إلى دعوة الناس إلى عبادتها، فيصيرون دعاة، كما ذكرنا أنهم يضعون فيها الأحاديث والكتب، فإذا كانوا دعاة فمعنى ذلك أنهم صاروا في الواقع مضادين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولدعوته تمام المضادة، ووجد منهم من يفضل هذه المشاهد على المشاعر! يقول: ثم إذا وصلوا إلى هذا الحد نقلهم إلى درجة أخرى، وهي أن من نهى عن ذلك وحذر منه، وأمر بعبادة الله وحده؛ اتخذوه عدواً، وأوجدوا فيه المطاعن بأنواعها، واتهموه بأنه لا يحب الصالحين، وأنه من أعداء الأولياء، وأنه ينهى عن حب الأولياء، حتى قالوا: إنه لا يحب الرسول صلى الله عليه وسلم. من المعلوم أن الذي لا يحب الرسول يكون كافراً؛ لأن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم يجب أن تقدم على محبة النفس فضلاً عن محبة الولد والمال والآخرين، لأن حبه دين، فهذه الدرجات التي يزينها الشيطان، وينقل الإنسان من درجة إلى أخرى حتى يوصله إلى العبادة لغير الله. ومن المعلوم أن الإنسان ليس له إلا حياة واحدة وعمر واحد، فإذا انتهت هذه الحياة وانتهى عمره ولم يكن في هذه الحياة وهذا العمر قد اكتسب السعادة بطاعة الله جل وعلا فقد خسر، وهل هذه الخسارة تشبه خسارة الدنيا؛ لأنه من ذهب رأس ماله في الدنيا فقد خسر؟ الواقع أنها لا تشبه هذا؛ لأنه خسر نفسه، وهل توازن النفس بالمال؟ لا. ثم كيف خسر نفسه؟ هل خسر نفسه لأنه مات فقط؟ لو كان هذا لكان الأمر سهلاً، ولكن خسر نفسه بأنه صار في العذاب الأبدي خالداً فيه ما دامت السماوات والأرض، وكيف النجاة من هذا؟ بالإخلاص، وهل يمكن أن يعود؟ لا يمكن أبداً، انتهت القضية، ويتمنى أن يقضى عليه بالموت ولكن لا يحصل ذلك. فعلى الإنسان أن يهتم بهذا الأمر أكثر من اهتمامه بتحصيل المال، وأكثر من اهتمامه بتحصل المسكن، وغير ذلك مما يعد من الأمور الضرورية، فهذا أمر ضروري جداً، فالإنسان عليه أن يهتم بنفسه، وأن يعرف دين الله ويتبعه، ويعرف ما يخالف الدين ويجتنبه؛ لأن هذا هو الذي يمكن أن يكون قد أنجى نفسه، مع الاستعانة بالله جل وعلا، وهو خير معين.

العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح

العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح قال الشارح رحمه الله: [وفي القصة فوائد ذكرها المصنف رحمه الله، ومنها: رد الشبه التي يسميها أهل الكلام عقليات، ويدفعون بها ما جاء به الكتاب والسنة من توحيد الصفات وإثباتها على ما يليق بجلال الله وعظمته وكبريائه. ومنها: مضرة التقليد]. يقول: وفي القصة فوائد، منها: رد ما يزعمه المتكلمون من العقليات التي ردوا بها صفات الله جل وعلا، والواقع أن الذي يقوله المتكلمون ليس عقليات، وإنما هو ظنون وشكوك وشبه؛ لأن العقل الصحيح السليم لا يخالف الوحي، بل يتفق معه، ولكن العقل لا يستطيع أن يستقل بما جاء به الوحي، فإنه يحار ولا يستطيع أن يدرك ما جاءت به الرسل، ولكن لا يخالف ذلك، فليست عقليات في الواقع، وإنما هي جهليات، ينبغي أن تسمى جهليات لا عقليات، وأصل المبدأ عندهم في هذا أنهم جعلوا العقل هو الأصل الذي يرجع إليه في كل شيء، ولكن عقل من؟ فمن المعروف أن عقول الناس تختلف، ولا يمكن أن يكون عقل أبي بكر الصديق رضي الله عنه كعقل أبي جهل، فالعقول تختلف على اختلاف المواهب التي يهبها الله جل وعلا لأصحابها، فكيف نرجع إلى شيء لا ضابط له، ولا سيما إذا كان الحكم في أمور غيبية لا تدرك بالعقل، وإنما تدرك بالوحي؟ فهذا من أضر ما يكون على الإنسان إذا تبنى هذا الشيء، وجعل الوحي راجعاً إلى ما يسميه عقلاً، ويحكم العقل عليه، وليس هذا في زمن كان فباد، بل لا يزال إلى الآن كثير من الناس يتبنون هذا المبدأ، وكلما جاء أمر من أمر الرسول صلى الله عليه وسلم قالوا: هذا لا يعقل، وهذا يخالف العقل، فيردونه بهذه الدعوى!

أهل الكلام أهل نزاع وخصام

أهل الكلام أهل نزاع وخصام المتكلمون هم الذين صار دينهم الكلام، وكثرت المجادلات فيما بينهم، كل يجادل الآخر في أمور يدعونها، وكل يدعي أن العقل معه؛ فلهذا كثر بينهم الكلام والنزاع والخصام فسموا أهل الكلام، بخلاف أهل الوحي الذين يعتصمون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإنهم لا اختلاف بينهم، ولا يجوز شرعاً أن يقع بينهم اختلاف؛ لأن الله نهاهم عن ذلك، والشرع يمنع أن يقع الخلاف بينهم، لأن الله جل وعلا يقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]. ومن الشيء المسلم به في العقائد وغيرها أن أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم يسمون أهل السنة والجماعة، فالجماعة وصف لهم؛ لأن الاجتماع ملازم لهم، فيجب أن يجتمعوا ولا يتفرقوا، أما هؤلاء فهم أهل كلام وأهل تنافر وأهل خصام، تأتي فرقة جديدة ثم لا يمضي عليها وقت إلا وقد افترقت إلى فرق متعددة، بسبب ما يسمونه عقليات، ولا سيما إذا كانت الأمور في صفات الله جل وعلا، ومبدؤهم أنهم يقولون: الذي دلنا على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم هو العقل، يعني: عرفنا صدقه بالعقل، فعندهم أن العقل هو الأصل الذي دل على صدق الرسول، ولا يكون محكوماً عليه، بل لا بد أن يكون هو الحاكم، لأننا نرجع إليه، فمبدأ قولهم من هنا. ثم صاروا يبنون على هذا من باب القياس العقلي، والقياسات وإن لم تكن بارزة متلفظاً بها فهي كامنة في الأنفس، فلهذا نفوا صفات الله جل وعلا على هذا القياس، مثال ذلك: أنهم قالوا: لو وصفنا الله جل وعلا بأنه يتكلم للزم من ذلك أن يكون له فم، وله لسان، وله شفتان، وله لهوات، وله حبال صوتية إلخ. ما معنى هذا؟ معنى هذا أنهم ما عرفوا من الكلام إلا ما عرفوه من أنفسهم، فصار التشبيه عندهم مستكناً أولاً، ثم صاروا ينفون هذا التشبيه المستكن في أنفسهم، فقالوا: إن الله لا يتكلم لئلا يلزم التشبيه الذي كان في أنفسهم، والله جل وعلا يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، فلما قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] صار هذا نفياً عاماً مطلقاً يدل على عدم وجود شيء من الأشياء تماثله. ثم أخبرنا جل وعلا أن هذا النفي العام المطلق لا يدعوكم إلى أن تنفوا عن الله جل وعلا صفاته التي اتصف بها فقال: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، فنص على السمع والبصر؛ لأن السمع والبصر يوصف بهما المخلوق، فكون المخلوق يوصف بأشياء لا يمنع أن الله جل وعلا يوصف بها، ولكن صفات المخلوق خاصة به لا يشاركه الله جل وعلا فيها، وصفات الله جل وعلا خاصة به لا يشاركه المخلوق فيها، تعالى الله وتقدس، ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله.

ضلال أهل الكلام

ضلال أهل الكلام أهل الكلام سلكوا هذا المسلك في جميع الصفات، وقالوا: إن العقل يدل على ذلك، ونحن نلتزم بالعقل، أما هذه الأخبار التي تأتي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصفات فهي أخبار آحاد، ولا نثبت الأمور القطعية إلا بأمور برهانية، وهي العقليات، هكذا يقولون! والواقع أن الأمر بالعكس تماماً، فالذي يأتي به الرسول صلى الله عليه وسلم هو البرهان، وما يقولونه هو شكوك وظنون، بعضها كاذب، وبعضها خطأ. وإذا كان الدليل من كتاب الله، فإن ثبوت القرآن أمر مقطوع به، ولا أحد يشك فيه؛ لأنه متواتر، نقلته الأمة بعضها عن بعض من زمن الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الآن، ما انفرد به ألف أو مائة ألف أو مليون، بل الأمة كلها تنقله، فهو أمر متواتر لا يمكن أن يطعن فيه؛ وإذا كان كذلك قالوا: دلالته ظنية، يعني: كوننا نعين أن هذه الآية تدل على كذا وكذا؛ هذا أمر مظنون فيه؛ فلا نعتمد عليه، وإنما نعتمد على الأمور اليقينية البرهانية، والأمور اليقينية البرهانية زعموا أنها محاكاة الأفكار، وزبالة الأذهان، وكل ما كان الإنسان منهم أذكى صار أسرع إلى الحيرة وإلى الشكوك التي تأكل قلبه، ويصبح لا يستطيع أن ينام، لأنه ما يدري ماذا يعتقد، ويتمنى أن يكون في الاعتقاد مثل عوام المسلمين، أو مثل العجائز التي في دُورها، ويقول: يا ليتني أموت على ما تموت عليه العجائز، وهذا بسبب أنه سلك مسالك مختلفة لاختلاف العقول، يأخذ مسلكاً يرى أنه براهين وعقليات ثم يأتيه آخر ويبطلها، ثم يأتي آخر بأدلة تعارض أدلته فتصبح الأدلة عنده متعارضة؛ فيبقى حائراً لا يدري ماذا يقول، ولا يدري ماذا يعتقد!! ذكر المترجمون لأحد هؤلاء أنه توغل في هذا حتى بلغ الغاية، وكان له صديق من أهل السنة، فدخل عليه يوماً وهو في بيته مستغرق التفكير، فسلم عليه فلم يشعر به ولم يرد عليه السلام، ثم أعاد السلام مرة أخرى فلم يرد عليه، فقال في نفسه: لا بد أنه دهاه أمر، إما أنه ذهب عقله، وإما يوجد أمر ليس طبيعياً، فوقف متحيراً، ثم هم أن يرجع ما دام بهذه المثابة! عند ذلك انتبه فرفع رأسه وقال له: يا فلان! ماذا تعتقد؟ فضحك ساخراً منه!! وقال: ماذا أعتقد؟! أعتقد ما يعتقده المسلمون والحمد لله، فأطرق رأسه وجعل يبكي، وقال ولكني -والله- ما أدري ماذا أعتقد! هذا بعدما أمضى في التعلم والقراءة أكثر من سبعين سنة، ويقول وهو بهذه المثابة: ما أدري ماذا أعتقد!! لماذا؟ لأنه ترك الوحي الذي به الهداية، الله جل وعلا يقول لرسوله: {وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ} [سبأ:50]، الرسول صلى الله عليه وسلم يهتدي بالوحي، فكيف يمكن أن يهتدي غيره بغير الوحي، هذا مستحيل لا يمكن، فالمقصود أن هذه التي يقولون عنها: عقليات، فيها إبطال العقليات، والواقع أنها ليست عقليات، بل هي شبه وأمور تدعو إلى الحيرة والشك. والعقل في الشرع ليس مهدراً، ولكن لا يستقل بالهداية؛ ولهذا يذكر الله جل وعلا أموراً كثيرة وينبه العقول عليها كما قال جل وعلا: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة:164] يعني: يدل العقول على أن تفكر في هذه الأمور، والعقول لا تستطيع أن تستقل بالهداية، ولو كان كما يقولون فما الداعي إلى إرسال الرسل؟ لا داعي من ذلك إذا كان الأصل هو العقل، وإذا كان ما يأتي به الرسول نرجعه إلى العقول فلماذا إرسال الرسل؟ يكفي العقل لو كان كما يقولون، ولكن هذا يدل على بطلان قولهم، فإنه لا بد من إرسال الرسل، والناس لا يهتدون إلا بالرسل الذين أرسلهم الله جل وعلا.

ضرورة إعادة الأمة إلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم علما وعملا

ضرورة إعادة الأمة إلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم علماً وعملاً قال الشارح رحمه الله: [ومنها: ضرورة الأمة إلى ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم علماً وعملاً بما يدل عليه الكتاب والسنة]. لأن العقل لا يستطيع أن يستقل بالهداية، ولا أن يعرف الطريق الذي يوصل إلى السعادة، ويكون فيه طاعة الله جل وعلا وطاعة رسوله، فلا بد من الرسالة، فالناس في أمس الحاجة إلى رسالة الرسول، أكثر من حاجتهم إلى الأكل والشرب، والأكل والشرب غايته إذا تركه الإنسان أن يموت، والموت ليس هو الشقاء، بل الشقاء أن يموت الإنسان على غير الإسلام، على غير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا هو الشقاء في الواقع. إذاً: تكون الضرورة إلى معرفة رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم أشد من الضرورة إلى الأكل والشرب وما يشابهه من الضروريات التي لا يمكن أن يستقيم أمر الإنسان بدونها، فهو أمر ضروري جداً؛ لأن به سعادة الإنسان، وإذا فقده شقي، [فإن ضرورة العبد إلى ذلك فوق كل ضرورة].

شرح فتح المجيد [59]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [59] الغلو والإفراط في مدح الأنبياء والأولياء وتعظيمهم وسيلة إلى الشرك والخروج عن المشروع، ولذلك حذر الرسول صلى الله عليه وسلم أمته أشد التحذير من ذلك، ورغم ذلك فقد وقع فيه كثير ممن ينتسبون إلى الإسلام.

حديث: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم)

حديث: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم) قال المصنف رحمه الله: [وعن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله) أخرجاه]. الإطراء هو الزيادة في المدح والكذب فيه، بأن يكذب فيه، ويزيد على غير الواقع ويتعمد الكذب، فيقول شيئاً ليس فيه، هذا هو الإطراء، إذا قالوا: فلان أطرى فلاناً، فالمعنى أنه مدحه مدحاً فوق ما يستحقه، وقال فيه شيئاً ليس فيه من المدح، فالرسول صلى الله عليه وسلم ينهى الأمة أن تمدحه بشيء لم يجعله الله له، كأن يقال: إنه يعلم الغيب، أو يقال: إنه يجيب الدعاء إذا دعي، أو يقال: إنه يكشف الكروب، ويغيث اللهفان، ويفرج الكربات، ويعلم ما يعلمه الله، وأنه يقدر على أن يدخل من يشاء الجنة، ويقدر على أن يدخل من يشاء النار، وما أشبه ذلك. أو أن يمدحه بالمدح الذي نهى عنه، فالرسول صلى الله عليه وسلم حريص جداً على هداية الأمة، فكان يعنته ما يشق عليهم، والذي يشق على الأمة هو كل ما يكون سبباً لعذاب الله فإن هذا يشق على الرسول صلى الله عليه وسلم، كما قال الله جل وعلا: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] (عزيز عليه ما عنتم) يعني: يعز عليه ويشق عليه الشيء الذي يعنتكم، والعنت هو ما فيه العذاب (حريص عليكم) يعني: على هدايتكم (بالمؤمنين رءوف رحيم) صلوات الله وسلامه عليه.

عقائد النصارى الضالة في عيسى عليه السلام

عقائد النصارى الضالة في عيسى عليه السلام قوله صلوات الله وسلامه عليه: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم) النصارى مدحوا عيسى عليه السلام بأشياء مكذوبة، فقالوا: إنه ابن الله، أو إنه الله، أو إنه هو وأمه والله آلهة، وإلى الآن يقولون: الأقانيم الثلاثة، والأقنوم مرة يفسرونه بمعنى، ومرة يفسرونه بشخص، ومرة لا يدرون ما هو، ولو سألت أحدهم: هي أو الأقانيم الثلاثة، فكثير منهم لا يدري ما هي، وكثير منهم يفسرها بأشياء لا تعقل، وقد يقول: هو اجتماع اللاهوت بالناسوت، فاللاهوت دخل وحل في الناسوت، أي أن الإله حل في الإنسان، تعالى الله وتقدس. ثم منهم من يقول: اليسوع هو الذي جاء لإنقاذ البشرية، وهو الذي قدم نفسه فداء حتى يتحمل ذنوب الناس، وهو الإله، وقد كان في رحم أمه تسعة شهور، ثم خرج من فرجها صبياً رضيعاً يحتاج إلى من يقوم عليه، ومن يجلب له الأمر الذي به حياته، ثم يأكل ويشرب، ثم يأتي بلازم ذلك، ثم يتسلط عليه اليهود على حد زعمهم حتى يمسكوه ويصلبوه على خشبة ويقتلوه، تعالى الله عن قولهم، أين عقولهم؟ عقول سخيفة جداً؛ ولهذا لعنهم الله بذلك، {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73] أو {قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:17] وأخبر أن هؤلاء كفروا بالله جل وعلا. وعلى كل حال يحذرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن نسلك مسلك هؤلاء المتطرفين، ولكن الأمة الإسلامية ليس فيها من يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الله، أو هو إله مع الله بهذه الصراحة، ولكنهم أعطوه بعض من المعاني التي هي لله جل وعلا، فادعوا أنه يعلم الغيب، وادعوا أنه يجيب من دعاه ومن ناداه، وأنه من تعلق به نجاه من عذاب الله، وأنه من استغاث به يغيثه، ولو كان الله غاضباً على ذلك المستغيث، وأشياء من هذا القبيل، فأعطوه المعاني فقط، وأما ما يقوله النصارى فإنهم تركوا القول به لظهور الكفر فيه، والشيطان يقنع بهذا، وهذا المعنى يكفي عنده.

عيسى عليه الصلاة والسلام عبد لله

عيسى عليه الصلاة والسلام عبد لله وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد)، العبد ليس له مع الإله شيء، بل هو معبد تحت قهر سيده وتصرفه، يكون مطيعاً لسيده غير خارج عن طاعته، ولا يكون شريكاً لسيده، فقوله: (إنما أنا عبد) يعني: كسائر عبيد الله جل وعلا. عيسى عليه السلام وصفه أنه عبد، وأول كلمة تكلم بها أمام الناس قوله: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} [مريم:30]، وقد كلم أمه عندما: {قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} [مريم:23 - 26]. فهذا كلامه لها فقط، ولكن كلامه للناس أول ما سمعوا منه أنه قال: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} [مريم:30]، فأمه عليها السلام كما قال الله: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} [مريم:27 - 29] يعني قالت: كلموه ولا تكلموني أنا، {قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} [مريم:29 - 30] إلخ. فهو عبد من عبيد الله جل وعلا، ولا أحد من عباد الله -لا من رسله ولا من ملائكته- يتكبر ويترفع عن أن يكون عبداً لله جل وعلا، بل كلما كان الإنسان أعرف بالله صار تحقيقه للعبودية أعظم من غيره، كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه حقق مقام العبودية لربه جل وعلا حتى أثنى الله عليه بلفظ العبادة في أشرف المقامات التي يقومها الرسول صلى الله عليه وسلم، كمقام التحدي حيث قال: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23] قال: (على عبدنا) فأشرف ما يتحلى به الإنسان أن يكون عبداً حقيقياً لله جل وعلا. والمقصود أن قوله: (إني عبد الله) يعني: ليس لي من الإلهية شيء، ولا من الملك شيء، ولا من حقوق الله شيء، وإنما أنا عبد كسائر عباد الله إلا أن الله منَّ علي بالرسالة، فالله شرفه بها وكرمه بها، وأوجب طاعته واتباعه.

حرمة الغلو في النبي محمد صلى الله عليه وسلم

حرمة الغلو في النبي محمد صلى الله عليه وسلم قوله عليه الصلاة والسلام: (فقولوا: عبد الله ورسوله) يعني: خاطبوني بهذا الخطاب، قولوا: عبد الله ورسوله، وهذا الذي ينبغي أن يقوله الإنسان، وهو ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم، والإنسان إذا كان يحب الرسول صلى الله عليه وسلم فعلامة حبه أن يكون متبعاً لسنته كما قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]. ولا يمكن أن يكون الإنسان محباً لله جل وعلا وهو غير محب للرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم ملازمة لمن يحب الله إذا كان صادقاً، فإذا كان الرجل ممن يحب الرسول صلى الله عليه وسلم فيجب عليه أن يمتثل أمره، فيقول مثلما قال له: (قولوا: عبد الله ورسوله)، ويتبع سنته، ويبتعد عن الشيء الذي نهاه عنه مثل الإطراء. والإطراء هو المدح الزائد الذي لا يجوز، وكثير من الناس ومن الشعراء وغيرهم يقع فيه، فجعلوه بمنزلة الرب جل وعلا، فجعلوا له كل الأمور، وقالوا: لولاه ما خلق الله شيئاً، ويرددون كلاماً باطلاً كقولهم: لولاك ما خلقت الأملاك ولا الأفلاك، فيقولون: إنه أصل الخلق، وهو أصل الأنوار، فآدم خلق من أجله، والملائكة خلقت من أجله، والسماوات والأرض خلقت من أجله، وهذا إطراء زائد، وفيه مخالفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو في الواقع ضد ما أمر به تماماً، فصار هؤلاء في جانب، وهو في جانب صلوات الله وسلامه عليه. وأشرف ما يقوم بالإنسان أن يشرفه الله جل وعلا بالرسالة، فيكفي أن يقال: عبد الله ورسوله، وجاء في سنن أبي داود وغيره كما سيأتي، أن قوماً جاءوا إليه وقالوا له: أنت سيدنا وابن سيدنا، فكره هذا القول، وقال: (قولوا بقولكم، لا أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله جل وعلا)، فهو صلوات الله وسلامه عليه يكره أن يدعى له شيء مما هو خاص بالله، ومن فعل ذلك أبغضه وعاداه صلوات الله وسلامه عليه، فهؤلاء يأتون بأسباب بغضه ومعاداته لهم، فهو يعاديهم ويبغضهم، ثم هم يدعون أنهم يسلكون الطرق السليمة الموصلة إلى قربه ومحبته، ولكن الشيطان يغري الإنسان بالأمور التي يقبلها هو، فكلما رآه يقبل شيئاً زاده حباً لها.

فضل عمر رضي الله عنه

فضل عمر رضي الله عنه قال الشارح: (قوله: عن عمر) هو ابن الخطاب بن نفيل -بنون وفاء مصغراً- العدوي أمير المؤمنين، وأفضل الصحابة بعد الصديق رضي الله عنهم، ولي الخلافة عشر سنين ونصفاً، فامتلأت الدنيا عدلاً، وفتحت في أيامه ممالك كسرى وقيصر، واستشهد في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين رضي الله عنه]. وهذا باتفاق أهل العلم، بخلاف أهل البدع الذين لا يجوز أن يلتفت إليهم، فإن أفضل الصحابة على الإطلاق أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ويليه في الفضل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ويليه في الفضل عثمان رضي الله عنه، ويليه في الفضل علي رضي الله عنه، فترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة، هذا ما عليه أهل السنة، وهو الذي دلت عليه النصوص. وبعد ذلك بقية الصحابة، فأفضلهم من شهد بدراً، ثم الصحابة الذين شهدوا بيعة الرضوان، ثم من جاء بعدهم، على هذا الترتيب؛ لأن الله جل وعلا يقول: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} [الحديد:10] يعني: لا يستوون مع الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا.

فضل الصحابة

فضل الصحابة حصل نزاع بين بعض المهاجرين الأول وبعض من هاجر متأخراً قبل فتح مكة، بين خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف، ومعروف أن عبد الرحمن بن عوف من المهاجرين الأولين، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (دعوا لي أصحابي، فوالله! لو أنفق أحدكم مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)، هذا القول يوجه إلى الصحابة فكيف بمن بعدهم؟ والصحابة رضوان الله عليهم كلهم خير قرون هذه الأمة؛ لأن الله اختارهم لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، فصاروا يقاتلون العدو معه، وصاروا يمتثلون أمره، ويظهرون دين الله على يديه، ويتربون على يديه، ويتلقون الإيمان منه، فلا يمكن أن يكون أحد مثلهم، فالصحابة رضوان الله عليهم اختارهم الله جل وعلا؛ ولهذا نص الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك وقال: (خير القرون الذين بعثت فيهم)، وكان يوصي ويقول: (لا تتخذوا أصحابي غرضاً ترمونهم، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم)، فالذي يبغض الصحابة يبغض رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا شك، والذي يحبهم يحبهم بمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يحبهم صلوات الله وسلامه عليه، ويوصي بحبهم. والله جل وعلا أثنى عليهم كثيراً فقال جل وعلا: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح:29] من هم الذين معه؟ هم الصحابة عموماً، ثم يثني عليهم ويقول: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29]، ويذكر مثلهم في التوراة، ومثلهم في الإنجيل. وكذلك يقول جل وعلا: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:8 - 10]. وهذا الذي يجب أن يكون عليه المسلم، أن يقول هذا القول: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10]. وفي آخر سورة الفتح يقول الله: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29]؛ ولهذا يقول الإمام مالك رحمه الله: من غاظه شأن الصحابة فليس من المسلمين؛ لقول الله تعالى: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29] فحب الصحابة دين، يرجى به الخير الكثير، فالله يثيب عليه، وهم الواسطة بيننا وبين رسولنا صلوات الله وسلامه عليه الذين نقلوا إلينا الشرع، فنقلوا إلينا القرآن، ونقلوا إلينا أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم كاملة، فالذي يطعن فيهم معناه أنه يطعن في الدين، ويكون النقلة الذين نقلوا الدين ليسوا عدولاً عنده، وربما يقول: إنهم كفار! فماذا يكون المعنى؟ ولهذا يقول أبو زرعة رحمه الله: من طعن في الصحابة فإنما يطعن في الدين الإسلامي، فهم الذين نقلوا إلينا الدين الذين جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وقد عدلهم الله جل وعلا، فهم عدول بتعديل الله، ولا يمكن أن يثني الله جل وعلا على قوم يعلم أنهم سيرتدون ويكفرون؛ لأنه علام الغيوب، فكيف يثني عليهم ويمدحهم ثم بعد ذلك يتركون دينهم؟ هذا لا يمكن، فهو علام الغيوب جل وعلا، وقد قال جل وعلا: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18]، وفي آيات كثيرة جداً يمدحهم، ويذكر خير أمة أخرجت للناس، وأنهم تركوا ديارهم وأموالهم وأولادهم نصرة لله ولرسوله، ويذكر أنه رضي عنهم، ويذكر أنه أعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار.

أفضل الصحابة أبو بكر الصديق

أفضل الصحابة أبو بكر الصديق أفضل الصحابة على الإطلاق أبو بكر الصديق رضي الله عنه، للنصوص التي جاءت، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان كثيراً ما يقول: أبو بكر وعمر، ففي مرة قال صلوات الله وسلامه عليه لأصحابه: (إن رجلاً كان يسوق بقرة، فبينما هو كذلك إذ تعب فركبها، فالتفتت إليه وقالت: ما خلقنا لهذا، وإنما خلقنا لحرث الأرض والسقي! فقالوا: سبحان الله! بقرة تتكلم؟! فقال: آمنت بذلك أنا وأبو بكر وعمر ولم يكن أبو بكر وعمر يومئذ في المجلس). ومرة أخرى كان يحدث أصحابه صلوات الله وسلامه عليه -كما في الصحيحين- فقال: (بينما راع يرعى غنمه، إذ عدا عليه ذئب فأخذ شاة، فاستنقذها راعي الغنم منه، فجلس الذئب على ذنبه فقال: من لها يوم لا راعي لها غيري؟ فقالوا: سبحان الله! ذئب يتكلم؟! فقال: آمنت بذلك أنا وأبو بكر وعمر، ولم يكن أبو بكر وعمر في الناس يومئذٍ)، وأشياء كثيرة. ولما مرض صلوات الله وسلامه عليه قال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس)، ولما سمعت عائشة ذلك قالت: إن حدث بالرسول صلى الله عليه وسلم حادث لا يزال الناس يكرهون من يقوم مقامه، ولا يمكن أن يوازي رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد، فيكرهون الرجل الذي قام مقام الرسول صلى الله عليه وسلم، فقالت: (يا رسول الله! لو أمرت غيره، فإنه رقيق القلب، إذا قرأ القرآن كثر بكاؤه فلا يسمع الناس -وهي ليس قصدها هذا- لو أمرت غيره، فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس، فذهبت وقالت لـ حفصة: اذهبي وقولي له: كذا وكذا -وحفصة كانت صديقتها - فذهبت وقالت له ذلك، فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال: إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس)، فكرر ذلك، وأكد ذلك، فبقي أبو بكر يصلي بالناس مدة ما كان مريضاً، ولما مات وحدث ما حدث بين الصحابة من الخلاف، تراجعوا وقالوا: قد رضيه لديننا فنرضاه لدنيانا، ووفقهم الله جل وعلا إلى ذلك، وقد هم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكتب كتاباً له ثم ترك الكتاب، وعلم أن الله جل وعلا يهديهم إلى هذا، وأنهم لا يحتاجون للكتاب فتركه.

معنى الإطراء

معنى الإطراء قال الشارح: [قوله: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم)، الإطراء مجاوزة الحد في المدح، والكذب فيه، قاله أبو السعادات وقال غيره: أي: لا تمدحوني بالباطل، ولا تجاوزوا الحد في مدحي. قوله: (إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله) أي: لا تمدحوني فتغلوا في مدحي كما غلت النصارى في عيسى عليه السلام فادعوا فيه الإلهية، وإنما أنا عبد الله ورسوله، فصفوني بذلك كما وصفني ربي، فقولوا: عبد الله ورسوله، فأبى المشركون إلا مخالفة أمره وارتكابه نهيه، وعظموه بما نهاهم عنه، وحذرهم منه]. قصده بالمشركين هنا الذين يعبدون قبور الصالحين، ويعبدون الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن كان الله جل وعلا قد صان قبره عن العبادة، فحماه لدعوته صلوات الله وسلامه عليه، فأصبح لا يستطيع أحد أن يصل إلى قبره صلوات الله وسلامه عليه؛ صيانة له من الله، واستجابة لدعوته حينما دعا ربه وقال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، ولكن كثيراً من الناس يعبد الصالحين عبادة صريحة، فيدعوهم، ويلجأ إليهم فيما لا يستطيعه إلا الله، مثل شفاء المرض، ومثل الرزق، ومثل الولد، ودفع العدو، وما أشبه ذلك، يستغيثون بالأموات، ويسألونهم هذا، وهذا شرك، فقصده بالمشركين هؤلاء. قال الشارح: [وناقضوه أعظم مناقضة، وضاهوا النصارى في غلوهم وشركهم، ووقعوا في المحذور، وجرى منهم من الغلو والشرك شعراً ونثراً ما يطول عده، وصنفوا فيه مصنفات] مضى في درس سابق ذكر المصنفات والمصنفين في هذا، ولكن تسميتها أو تسمية أصحابها لا داعي له، وليس هناك دافع للتسميات.

من الإطراء تجويز الاستغاثة برسول الله صلى الله عليه وسلم

من الإطراء تجويز الاستغاثة برسول الله صلى الله عليه وسلم قال الشارح: [وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله عن بعض أهل زمانه أنه جوز الاستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما يستغاث فيه بالله، وصنف في ذلك مصنفاً رده شيخ الإسلام، ورده موجود بحمد الله]. الرد هو كتاب الاستغاثة، وهو موجود مطبوع بهذا الاسم: "كتاب الاستغاثة". [ويقول: إنه يعلم مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا الله، وذكر لهم أشياء من هذا النمط، نعوذ بالله من عمى البصيرة]. والعجيب أن هذا المؤلف من القضاة! ألف هذا الكتاب رداً على شيخ الإسلام ابن تيمية حينما قال: لا يجوز شد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، وأن شد الرحال إلى زيارة القبور لا يجوز، فرد عليه وقال: إنه يجب أن تشد الرحال إلى زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، بل ويستغاث به، وكل ما يستغاث فيه بالله جل وعلا فالرسول مثله يستغاث به! يعني: تستغيث به من ذنوبك كما تستغيث بالله جل وعلا، وتسأله الجنة والنجاة من النار مثلما تسأل الله جل وعلا، يقول هذا القول وهو قاض؛ ولهذا قال الشارح: (نعوذ بالله من عمى البصيرة)، والإنسان إذا عميت بصيرته لم ينفعه العلم، نسأل الله العافية!

قصيدة البوصيري فيها غلو في إطراء النبي عليه الصلاة والسلام

قصيدة البوصيري فيها غلو في إطراء النبي عليه الصلاة والسلام قال الشارح: [وقد اشتهر في نظم البوصيري قوله: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حدوث الحادث العمم] البوصيري نسبة إلى بوصير، وهي بلدة في مصر معروفة، ومقصوده في قصيدة البردة، وهي مشهورة، وفيها استغاثة برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويوجد ما هو أشر من البردة، مثل: شعر البرعي، وكله استغاثات شركية شنيعة، نسأل الله العافية! فليس ذلك خاصاً وكثير جداً غيرهما. فليس ذلك خاصاً بـ البوصيري أو بـ البرعي، بل كثيرون وقعوا في هذا الأمر العظيم الذي فيه مخالفة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم)، ومضادة له صلوات الله وسلامه عليه، ثم هم يزعمون أنهم يحبونه بذلك، ولكن الشيطان يزين للإنسان السوء حتى يصبح الباطل في قالب الحق، ويرى أن الباطل حقاً، ويرى أن الحق باطلاً؛ ولهذا يقول الله جل وعلا: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} [فاطر:8] فمن يهديه؟ لا يستطيع أحد أبداً، الذي يزين له سوء عمله يرى عمله السيئ حسناً، وهذا معناه الهلاك. قال الشارح: [وما بعده من الأبيات التي مضمونها إخلاص الدعاء واللياذ والرجاء والاعتماد في أضيق الحالات] ما بعد هذا البيت أبيات معروفة، حتى أن كثيراً من الناس يحفظها كما يحفظ الفاتحة، ويجعلون لهم ورداً منها، يدعون الله بها، وقوله: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حدوث الحادث العمم يعني: ما له من يلوذ به إلا الرسول صلى الله عليه وسلم! أين الله؟! وما هو الحادث العمم؟ الحادث العمم هو الذي يعم الخلق، وهو يوم القيامة، فإذا جمع الناس في صعيد واحد فهذا هو الحادث العمم، يقول: في ذلك الموقف ما لي من ألوذ به سواك ثم يقول: ولن يضيق رسول الله جاهك بي إذا الكريم تجلى باسم منتقمِ الكريم هو الله، أي: إذا اتصف باسم المنتقم لينتقم من العصاة يقول: لا يضيق جاهك بي يا رسول الله! احمني من غضب الله، فهذا استغاثة بالرسول على الله، وهذا شيء فظيع جداً، نسأل الله العافية. ثم يقول: فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلمِ وضرة الدنيا هي الآخرة، يعني: من جملة جودك -يا رسول الله- الدنيا والآخرة، إذاً: ماذا بقي لله؟! يقول: ومن جملة علومك علم اللوح والقلم! اللوح الذي كتب فيه كل شيء، والقلم الذي كتب به الله جل وعلا كل شيء، فماذا بقي لله؟ هل يوجد إطراء فوق هذا؟ نسأل الله العافية. ثم يمضي بنحو هذا الكلام الذي هو مضادة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم تماماً، وهذا كثير في الواقع من هذا الرجل، ويوجد غيره أيضاً؛ ولهذا يجب على الإنسان أن يسأل ربه السلامة دائماً، وأن يسأله الهداية؛ لأن المسألة ما هي مسألة عقل، أو مسألة كون الإنسان العاقل يعلم ويعرف، بل من منّ الله جل وعلا عليه بالهداية، فهذا الذي يكون فضل الله عليه عميماً، ويجب عليه أن يشكر الله، وإلا فهؤلاء علماء يشرحون الأحاديث، ويفسرون القرآن، ويؤلفون في سائر أصناف العلم، ومع ذلك يقعون في هذه الأمور الفظيعة الشنيعة، نسأل الله العافية!

المطرون للنبي عليه الصلاة والسلام ناقضوه بارتكاب ما نهى عنه

المطرون للنبي عليه الصلاة والسلام ناقضوه بارتكاب ما نهى عنه قال الشارح: [وأعظم الاضطرار لغير الله، فناقضوا الرسول صلى الله عليه وسلم بارتكاب ما نهى عنه أعظم مناقضة، وشاقوا الله ورسوله أعظم مشاقة، وذلك أن الشيطان أظهر لهم هذا الشرك العظيم في قالب محبة النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه، وأظهر لهم التوحيد والإخلاص الذي بعثه الله به في قالب تنقصه]. يعني أنهم يقولون: إذا نهيت عن الاستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم فهذا تنقص له، وما عرفت حقه، ولو عرفت حقه لدعوت إلى الاستغاثة به ودعائه، هذا معنى أنهم جعلوه في قالب التنقص، فجعلوا النهي عن الشرك الذي هو التوحيد تنقصاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا كما نقول: إذا زين للإنسان سوء عمله فإنه يرى القبيح حسناً، والحسن قبيحاً، نسأل الله العافية، فلا أحد يستطيع هدايته إلا رب العالمين، إذا شاء أن يهديه هداه. قال الشارح: [وهؤلاء المشركون هم المتنقصون الناقصون، أفرطوا في تعظيمه بما نهاهم عنه أشد النهي، وفرطوا في متابعته، فلم يعبئوا بأقواله وأفعاله، ولا رضوا بحكمه ولا سلموا له]. الإفراط: هو الزيادة على المشروع، وأما التفريط فهو النقص منه وتركه، ومعصية أمره، والناس ما يأتيهم النقص في دينهم إلا من هذين الوجهين فقط، إما أن يزيدوا على المشروع أو ينقصوا منه. قال الشارح: [وإنما يحصل تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم بتعظيم أمره ونهيه، والاهتداء بهديه، واتباع سنته، والدعوة إلى دينه الذي دعا إليه، ونصرته، وموالاة من عمل به، ومعاداة من خالفه، فعكس أولئك المشركون ما أراد الله ورسوله علماً وعملاً، وارتكبوا ما نهى عنه ورسوله، فالله المستعان].

حديث: (إياكم والغلو)

حديث: (إياكم والغلو) [وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو)]. هذا الحديث رواه أصحاب السنن والإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما يقول: لما كان غداة مزدلفة قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (القط لي حصى، فلقطت له سبع حصيات هن حصى الخذف)، والخذف صفة معروفة، يضع الإنسان الحصاة على ظفر أصبعه الإبهام ثم يرميها هكذا، هذا يسمى الخذف، فهي حصى صغيرة، يقول: (فأخذهن وصار ينفضهن بيده، ويقول: بمثلهن فارموا، وإياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو)، والغلو هو التجاوز والزيادة على المشروع، وهذا وإن كان في حصى الجمار فإنه عام في الواقع، يعني: إياكم أن تظنوا أن الرمي بالحصى الكبار أبلغ فتخالفوا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم فتهلكوا، وتكونون غلوتم في ذلك، (فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو)، وهو تجاوز الشيء المشروع، وهذا يكون في كل الدين، فإذا تجاوز الإنسان ما شرعه الله كان طريقاً إلى الهلاك، ومنه الغلو في الحب. قال الشارح: [قوله: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو) هذا الحديث ذكره المصنف بدون ذكر راويه، وقد رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث ابن عباس] بل رواه أهل السنن، ولكن هو اقتصر على الراجح الصحيح، فذكر أصحاب السنن الذين رووه بسند صحيح.

حرمة الغلو في الاعتقادات والأعمال

حرمة الغلو في الاعتقادات والأعمال قال الشارح: [وهذا لفظ رواية أحمد: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة جمع: (هلم القط لي، فلقطت له حصيات من حصى الخذف، فلما وضعهن في يده قال: نعم بأمثال هؤلاء فارموا، وإياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين). قال شيخ الإسلام: هذا عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال، وسبب هذا اللفظ العام رمي الجمار وهو داخل فيه، مثل الرمي بالحجارة الكبار بناء على أنه أبلغ من الصغار، ثم علله بما يقتضي مجانبة هدي من كان قبلنا إبعاداً عن الوقوع فيما هلكوا به، فإن المشارك لهم في بعض هديهم يخاف عليه من الهلاك]. مقصود شيخ الإسلام بقوله: إنه عام، قوله: (إياكم والغلو)، فهذا عام في كل شيء، سواء في الأوامر التي يؤمر بها الإنسان مثل أن يزيد فيها فيكون قد تعدى المشروع، أو في النواهي التي نهي عنها بأن يبالغ في تركها فيترك الشيء الذي شرع، فيكون متعدياً للمشروع. وقوله: (وهو داخل فيه) يعني: أن رمي الجمار داخل في هذا لأنه من الدين، فالغلو هو المجاوزة سواء كان في الفعل أو كان في الترك، أو كان في القول كالمدح الذي يكون في كذب أو غير ذلك.

حديث: (هلك المتنطعون)

حديث: (هلك المتنطعون) قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولـ مسلم عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (هلك المتنطعون قالها ثلاثاً)]. قال الشارح: [قال الخطابي: المتنطع المتعمق في الشيء، المتكلف البحث عنه على مذاهب أهل الكلام الداخلين فيما لا يعنيهم، الخائضين فيما لا تبلغه عقولهم. ومن التنطع: الامتناع من المباح مطلقاً كالذي يمتنع من أكل اللحم والخبز، ومن لبس الكتان والقطن، ولا يلبس إلا الصوف، ويمتنع من نكاح النساء، ويظن أن هذا من الزهد المستحب، قال الشيخ تقي الدين: فهذا جاهل ضال. انتهى]. يعني: أن الإنسان إذا بالغ في مجانبة الأمور التي قد يخيل إليه أن تركها أحب إلى الله، وهو في ذلك ليس على دليل؛ لأن الإنسان في كل ما يتعبد به يجب أن يكون على دليل، ولا يجوز أن يعمل برأيه أو بقياسه أو بالنظر إلى ما الناس عليه؛ لأن العبد مقيد في عبادة الله جل وعلا بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، سواء قدر على فعل ذلك أو لم يقدر؛ لأنه ليس كل إنسان يستطيع أن يأتي بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم: (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه)، فقيد الفعل بالمستطاع، أما الترك فيجب أن يجتنب جميعاً، ولا يقول: ما استطعت أن أترك هذا، فكل منهي عنه يستطيع أن يجتنبه. فالإنسان إذا لم يكن متقيداً بالشرع فهو على خطر عظيم، ولا بد أن يقع في التقصير أو يقع في التفريط، إما أن يقع في البدع أو يقع في المعاصي، ولا يخلو من ذلك إذا لم يكن متقيداً بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. لما جاء أولئك النفر يسألون عن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبروا بهديه وبطريقته، وأرادوا أن يزيدوا على ما كان يفعله الرسول صلى عليه وسلم، فقال أحدهم: أنا أقوم ولا أنام، وقال الآخر: أنا لا أتزوج النساء، وقال الآخر: أنا لا آكل اللحم، كل ذلك تقشفاً وطلباً للخير باجتهادهم، ولما بلغ ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لكني أقوم وأنام، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، وأصوم وأفطر، فمن رغب عن سنتي فليس مني). من كان مجتهداً وقاصداً الخير، ولكنه لم يكن على طريقة المصطفى صلى الله عليه وسلم فإنه يكون ضالاً، ويكون غاوياً، ويكون آثماً، فقد قال الله جل وعلا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية:2 - 4] فأخبر أنها مع خشوعها وعملها ونصبها تصلى النار الحامية، وذلك لأنهم يتعبدون بالبدع، بغير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.

معنى التنطع

معنى التنطع قال الشارح: [وقال ابن القيم رحمه الله: قال الغزالي: والمتنطعون في البحث والاستقصاء. وقال أبو السعادات: هم المتعمقون الغالون في الكلام، المتكلمون بأقصى حلوقهم، مأخوذ من النِطع، وهو الغار الأعلى من الفم، ثم استعمل في كل متعمق قولاً وفعلاً]. الصواب أن هذا عام ليس كما يقول الخطابي رحمه الله، فإنه يخصه بالمتكلم المتشدق، بل هو عام مطلق في كل شيء، فالذي يبالغ في الأمور، ويتعدى فيها المشروع متنطع، ويكون هالكاً. وأما كون الرسول صلى الله عليه وسلم ردد هذه الكلمة ثلاثاً فهذه سنته صلوات الله وسلامه عليه، كان إذا تكلم بالكلمة أعادها ثلاث مرات حتى تفهم عنه وتحفظ، ولم يكن كلامه كثيراً، بل يستطيع الإنسان الحاضر عنده أن يحصي كلامه وأن يحفظه، وإذا تكلم بكلام أعاده ثلاثاً حتى يحفظ عنه، وقد تكون الإعادة للمبالغة في التحذير والتبليغ الذي كلف به وأُمر به، وقد تكون لهذا وهذا، أي: للتعليم وللمبالغة والتحذير. قال الشارح: [وقال النووي: فيه كراهة التقعر في الكلام بالتشدق وتكلف الفصاحة، واستعمال وحشي اللغة ودقائق الإعراب في مخاطبة العوام ونحوهم. قوله: (قالها ثلاثاً) أي: قال هذه الكلمة ثلاث مرات مبالغة في التعليم والإبلاغ، فقد بلغ البلاغ المبين صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين].

مسائل باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين

مسائل باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين قال المصنف رحمه الله: [فيه مسائل: الأولى: أن من فهم هذا الباب وبابين بعده، تبين له غربة الإسلام، ورأى من قدرة الله وتقليبه للقلوب العجب]. هذا الباب والذي قبله والبابان اللذان بعده؛ كلها بمعنى واحد، ولكن المؤلف رحمه الله نوع الأدلة، ونوع الكلام، وأبدى فيه وأعاد؛ لأن الخطأ فيه عميق وكثير، حتى يفهم الإنسان، ومعلوم أنه بتنويع الكلام وترديده يفهم الناس أكثر مما لو كان مرة واحدة، وهذا الخطر لا يزال قائماً بين الناس من عبادة القبور والتبرك بها، والعكوف عندها، وقصدها لطلب النفع ودفع الشر، فهذا لا يزال في الناس، وهذا أعظم ما وقع من النقص في الدين؛ ولهذا أكثر المؤلف من ذكر النصوص في الباب الذي قبل هذا، وفي هذا الباب، وبابين بعده. [الثانية: معرفة أول شرك حدث في الأرض أنه بشبهة الصالحين]. المقصود بشبهة الصالحين شبهة حبهم، ولا يعني أن الصالحين مشبهون وملبسون على الناس، ليس هذا المراد، ولكن المقصود أنه لبس الحق بالباطل، فزعموا أنهم يحبون الصالحين، وكان هذا هو الباعث لهم أولاً، فصوروا صورهم، ونصبوها في مجالسهم التي كانوا يجلسونها للتعبد، زاعمين أن في هذا تذكيرهم وتنشيطهم على العمل الذي كان يعمله أولئك، فبقوا على هذا وقتاً كما سبق، ثم بعد ذلك جاء الجيل الذي بعدهم، ونسي السبب الذي من أجله نسبت الصور، ودب إليهم الشيطان فقال لهم: إن آباءكم صوروا هذه الصور للتبرك بها، والتوسل بها، وطلب شفاعتها، وجعلها وساطة بينكم وبين رب العالمين، لتسألوا بها؛ فوقعوا في الشرك، هذا معنى قوله: بشبهة الصالحين، يعني: بشبهة حبهم، وكل هذا سببه البدع، فإن هذا أمر مبتدع، ولو التزموا ما جاء به أبوهم آدم عليه السلام ولم يحيدوا عنه ما وقعوا في شيء من ذلك. [الثالثة: أول شيء غير به دين الأنبياء، وما سبب ذلك، مع معرفة أن الله أرسلهم]. هذه نفس المسألة، يعني بالتصوير والعكوف على الصور.

قبول البدع مع كون الشرائع والفطر تردها

قبول البدع مع كون الشرائع والفطر تردها [الرابعة: قبول البدع، مع كون الشرائع والفطر تردها]. الشرائع تردها، والنفوس التي بقيت على فطرتها تردها، ولكن الواقع أن الإنسان لا يستطيع أن يدرك الشرع بعقله أو بفطرته، فالشرع هو أمر ونهي من عند الله جل وعلا، فلا بد من تلقيه من الرسل، والفطرة لا تستطيع أن تستقبل أمر الله ونهيه وتعرفه، وإن كانت الفطرة تميل إلى الحق وتقبله وتريده، وتنفر عن الباطل، ولكن لا بد لها من هادٍ ومرشد الذي هو الوحي، وإلا كان المجتمع نفسه يضل الفطرة ويغيرها، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، وليس المقصود بالأبوين الأم والأب حقيقة، وإنما المقصود المربي، وقد يكون المربي هو الشارع، وقد يكون المربي وسائل تعليمية، وقد يكون المربي هو المدرسة وغير ذلك، فالمربي هو الذي يغير فطرة الإنسان. فالمقصود: أن الفطرة لا تستقل بمعرفة الشرع، وأنه لا بد من تلقي الأمر والنهي من الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن هي تنفر عن الباطل إذا لم تألفه، أما إذا ألفته وعايشته فإنها تحبه وتبقى متغيرة، فإذا ذهبت الفطرة جاء بدلها حب الشر وإلفه كما هو نص هذا الحديث: (فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه).

أن من سبب الشرك مزج الحق بالباطل

أن من سبب الشرك مزج الحق بالباطل [الخامسة: أن سبب ذلك كله: مزج الحق بالباطل، فالأول: محبة الصالحين. والثاني: فعل أناس من أهل العلم والدين شيئاً أرادوا به خيراً، فظن من بعدهم أنهم أرادوا به غيره].

تفسير قوله تعالى: (وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا)

تفسير قوله تعالى: (وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا) [السادسة: تفسير الآية التي في سورة نوح]. هي واضحة: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح:23]، وقد تقدم أن هذه أسماء رجال صالحين، وأن هؤلاء هم الذين صوروا صورهم، ثم صارت صورهم أوثاناً تعبد، حتى وصلت إلى العرب.

جبلة الآدمي على كون الحق ينقص في قلبه ويزيد الباطل

جبلة الآدمي على كون الحق ينقص في قلبه ويزيد الباطل [السابعة: جبلة الآدمي في كون الحق ينقص في قلبه، والباطل يزيد]. الواقع أنه ليس في قلبه فقط، وإنما ينقص في قلبه وفي أفعاله، وقد ثبت في الصحيح من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يأتي زمان إلا وما بعده شر منه)، جاء أصحاب أنس بن مالك رضي الله عنه يشكون إليه ما يجدونه من الحجاج وظلمه وتعسفه، فقال: (اصبروا، فإنه لا يأتي زمان إلا وما بعده شر منه، سمعت ذلك من نبيكم صلى الله عليه وسلم) , وهذا مطلق: (لا يأتي زمان إلا وما بعده شرٌ منه)، حتى تأتي الساعة التي تقوم على شرار خلق الله، فإنها تقوم على أناس لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً.

البدع سبب الكفر

البدع سبب الكفر [الثامنة: فيه شاهد لما نقل عن السلف أن البدع سبب الكفر]. وهذا واضح في أن هذه البدعة لما ابتدعوها في دين الله جرتهم إلى الكفر وعبادة الشياطين وعبادة الأصنام، فصارت سبباً لترك الدين كله وليس بعضه، وهكذا البدع كلها؛ ولهذا يقول السلف: إن الشيطان يفرح بالبدعة أكثر من فرحه بالمعصية. أي: كون الإنسان يبتدع أحب إلى الشيطان من أن يزني أو يسرق؛ لأنه إذا فعل جريمة من الجرائم وهو يعرف أنها منكر، وأنها قبيحة، وأن الله يبغضها، ويعاقب عليها، يبقى في قلبه حرج منها وضيق، ثم ربما يتوب ويرجع، بخلاف البدعة فإنه إذا كان يراها ديناً فإنه يتمسك بها ويزداد منها، وتثبت في قلبه حتى يتشرب بها فلا يتركها، فهذا كون البدع بريد الكفر والشرك، والشيطان يحبها أكثر. وهذا معنى قول السلف: إن صاحب البدعة لا توبة له، وليس معناه أنه لا تقبل توبته إذا تاب، وإنما المراد أنه لا يتوب؛ لأنه إذا كان يعتقد أن هذا دين كيف يتوب منه؟ إنما هذا علاجه بالعلم واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا تبين له ذلك ربما يتوب فيتوب الله عليه.

معرفة الشيطان بما تئول إليه البدعة

معرفة الشيطان بما تئول إليه البدعة [التاسعة: معرفة الشيطان بما تئول إليه البدعة ولو حسن قصد الفاعل]. الشيطان فقيه فيما يدعو إليه، وفي تزيين المعاصي للناس، وعنده دقة فيها، وعنده في الواقع مبالغة وفصاحة، وعنده حيل عجيبة وغريبة، فهو يجري من ابن آدم مجرى الدم، فيرى ماذا تميل إليه نفسه! وماذا يحب! فيزين له هذه الأشياء حتى يكون تمسكه بها وأخذه بها عن إقبال واقتناع، بخلاف الذي تحذوه حاجة إلى فعل المعصية، فإن هذا يفلت من يد الشيطان غالباً، إذا كان الذي دعاه إلى مواقعة المعصية: إما شهوة، أو حاجة، أو غضب، أو معاندة لإنسان أو ما أشبه ذلك، فهذا ممكن أن ينفلت من يد الشيطان ويرجع إلى صوابه ويتوب، فيتوب الله عليه.

النهي عن الغلو ومعرفة ما يئول إليه

النهي عن الغلو ومعرفة ما يئول إليه [العاشرة: معرفة القاعدة الكلية، وهي النهي عن الغلو ومعرفة ما يئول إليه. الحادية عشرة: مضرة العكوف على القبر لأجل عمل صالح]. المقصود أن هؤلاء لما صوروا هذه الصور للتذكر، ثم بعد ذلك صارت أصناماً، من ذلك العكوف على القبر؛ لكونه مثلاً يدعوه، أو أنه يظن أن الدعاء عنده يتقبل ببركة الصلاح الذي كان هو عليه، أو لأن له عند الله جاهاً، وأن الله يكرمه، فإذا كان الإنسان كما يقوله العوام وغيرهم من طلبة العلم أشباه العوام الذين يذهبون إلى القبور يلتجئون إلى أصحابها، ويزعمون أن فيها البركة وأن الجلوس عندها ينيل الجالس بركة من بركاتها، وقد يدفع عنه مثلاً سوءاً أو عدواً أو أذى، والواقع أنها لا تنفع ولا تضر، بل تضر أكثر مما تنفع. والذي شرعه لنا الرسول صلى الله عليه وسلم في إتيان القبور هو السلام عليهم، والدعاء لهم، وتذكر الآخرة فقط، أما أن يلتمس شيئاً آخر فهو ضلال. فإذاً: الجلوس عند القبر لطلب نفع من أمور الدنيا أو الآخرة بدعة وضلالة، ويجعل الإنسان سائراً في طريق الشرك إلى جهنم؛ لأن هذا من وسائل الشرك العظيم.

معرفة النهي عن التماثيل والحكمة في إزالتها

معرفة النهي عن التماثيل والحكمة في إزالتها [الثانية عشرة: معرفة النهي عن التماثيل والحكمة في إزالتها] التماثيل: هي الصور، فكل صورة تسمى تمثالاً سواء كان لها ظل أو كانت منحوتة باليد، أو مصورة باليد، أو لم يكن لها ظل، فهي تمثال، والتماثيل هي سبب عبادة الأصنام، ولهذا جاءت الأحاديث في تحريمها، والوعيد على فاعلها، وهذا شيء أظنه ما جاء في معصية من المعاصي، وقد بالغ الرسول صلى الله عليه وسلم وأكثر من الأحاديث فيها، فقال صلوات الله وسلامه عن ربه جل وعلا أنه قال: (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا شعيرة). وقال صلوات الله وسلامه عليه: (كل مصور في النار يجعل له صورة بما صور، يعذب بها في النار) وقال: (من صور صورة كلف أن ينفخ فيها الروح يوم القيامة، وليس بنافخ) يقال له: أحي ما خلقت، انفخ فيها الروح وأحيها. أحاديث كثيرة وصحيحة، ومبالغة في التحذير. فينبغي للمسلم أن يحذر من الوقوع في هذه المعصية، وكثير من الناس يتخذ هذا له رزقاً، ويتخذه له مهنة، وربما يفعله الإنسان عبثاً مثلما يقول بعضهم: يصور للتذكرة، وبعضهم قد يملأ بيته صوراً نسأل الله العافية، وقد جاء أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة، وليست الملائكة التي تحفظ على الإنسان أعماله، فهؤلاء لا يفارقون الإنسان: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]. ولكن هناك ملائكة للرحمة، يبحثون عن مجالس الذكر، وملائكة معقبات وغيرها، لكن الكتبة لا يفارقون العبد، فلا ينطق كلمة إلا سجلوها. المقصود أن التصوير أمره ليس سهلاً، والواقع أنه كله حكمه سواء، سواء كان (فوتغرافياً) أو نقشاً باليد أو غير ذلك، بل التصوير بالآلة يكون أدق من التصوير باليد، والمحذور موجود في هذا وهذا؛ لأن المحذور فيه مشابهة الرب جل وعلا الخلق؛ لهذا يتحداهم الله جل وعلا ويقول: (فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا شعيرة)، ويكلفهم أن ينفخوا الروح. أما إذا اضطر الإنسان إلى التصوير فالضرورة تبيح المحرم، وذلك كمن لا يستطيع أن يسافر إلا بصورة، ويلزم بأن يأتي بصورة حتى يكون مثبتاً هويته وما أشبه ذلك، فهذه ضرورة، والإنسان يفعل الضرورة مضطراً وكارهاً، ولكن لا يفعل ذلك اختياراً؛ لأنه إذا فعل ذلك اختياراً دخل في الوعيد.

معرفة شأن قصة قوم نوح

معرفة شأن قصة قوم نوح [الثالثة عشرة: معرفة شأن هذه القصة، وشدة الحاجة إليها مع الغفلة عنها]. المقصود بالقصة قصة هؤلاء الذين صوروا هذه الصور، ثم عبدوها فيما بعد، يقول: إنها كثيرة في كتب التفسير والحديث، وهي مشهورة، وفيها إيضاح وبيان؛ لأن الناس وقعوا فيما وقع فيه أولئك، ومع كثرتها والحاجة إليها وكون الناس يقرءونها في الكتب؛ لكنهم يقعون في نفس ما وقع فيه أولئك، فما السبب؟ السبب في الواقع هو كون الإنسان لا يطبق الذي جاء في كتاب الله، وفي أحاديث رسوله على عمل نفسه، ويظن أن هذه الأخبار والوقائع في قوم كانوا ففنوا، وليس لهم وجود ولا وارد، فإذا قيل له مثلاً: لا تفعل كذا وكذا، قال: لا تستدل علي بآيات نزلت في اليهود، أو نزلت في المشركين، وما علم أن فعله هو فعل المشركين تماماً، والقرآن نزل للمستقبل وليس للماضي، نزل ليعمل به، وليتفهمه الإنسان، والذي يحول بين الإنسان وبين فهم كلام الله وفهم كلام رسوله صلى الله عليه وسلم هو كون الشيطان يأتيه ويقول: لا تطبق هذه الآيات على المسلمين؛ فتكون بذلك قد سلكت مسلك الخوارج، هكذا يقولون! ثم هناك أمور وضعها الشيطان للحيلولة بين الناس وبين فهم كتاب الله، والشيطان قد يكون شيطاناً من الإنس، وليس شيطان الجن فقط، وقد جاءوا مثلاً بشروط وضعوها لمن يريد أن يعرف كلام الله، وما أنزل الله جل وعلا بها من سلطان، فقالوا: لا بد أن يكون الإنسان عارفاً باللغة العربية، مجملها ومفصلها، وعامها وخاصها، ولا بد أن يكون عالماً بالناسخ والمنسوخ، ولا بد أن يكون عالماً بالفصاحة والبلاغة لا بد أن يكون ذكروا ما يقرب من ثلاثين شرطاً في الإنسان الذي يريد أن يتكلم بكتاب الله أو بحديث رسوله. يقول شيخ الإسلام: هذه الشروط لا تجتمع في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فيجعلونها حائلاً بين الإنسان وبين فهمه لكتاب الله وهي من الشيطان.

أن الله حال بين القبوريين وبين قلوبهم في معرفة حقيقة ما صنعه قوم نوح

أن الله حال بين القبوريين وبين قلوبهم في معرفة حقيقة ما صنعه قوم نوح [الرابعة عشرة: وهي أعجب وأعجب: قراءتهم إياها في كتب التفسير والحديث، ومعرفتهم بمعنى الكلام، وكون الله حال بينهم وبين قلوبهم، حتى اعتقدوا أن فعل قوم نوح أفضل العبادات، واعتقدوا أن ما نهى الله ورسوله عنه فهو الكفر المبيح للدم والمال]. المقصود بهذا أنه مع ظهور هذه المسألة ووضوحها، وكونهم يقرءونها في كتب التفسير وغيرها، فإن الله جل وعلا حال بينهم وبين قلوبهم أن يفقهوا ذلك، فوقعوا فيما وقع فيه قوم نوح، واعتقدوا أن هذا الذي وقعوا فيه أفضل العبادات، يعني: أن العكوف على القبور، وسؤال أصحابها، والاستنجاد بهم في الملمات، وطلب جلب المنافع ودفع الضرر من أصحاب القبور، يرون أنه أفضل الأعمال، ويسمونه توسلاً، ويسمونه حباً للصالحين، ومن كراماتهم. ويقولون: كرامة الصالحين هي ثابتة لهم بعد مماتهم كثبوتها لهم قبل مماتهم في حال حياتهم. وكل ما يعتمدون عليه دعاوى، وربما اعتمدوا على المنامات والأحلام، وربما اعتمدوا على شيء يأتي به الشيطان لهم ليضلهم ويزيدهم في الضلال، والذي ينهى عن هذا ويأمر بما أمر به رسول الهدى صلوات الله وسلامه عليه يقولون: هو مبتدع! هو ضال! هو خارجي! أو جاء بمذهب خامس، ليس من أهل السنة، وهو من الذين يكفرون المسلمين ويخرجون عليهم. وهذا معنى قوله: وصار التوحيد عندهم الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من أعظم الضلال، (عندهم) يعني: حسب عقيدتهم.

التصريح بأنهم لم يريدوا إلا الشفاعة

التصريح بأنهم لم يريدوا إلا الشفاعة [الخامسة عشرة: التصريح بأنهم لم يريدوا إلا الشفاعة] يعني: تصريح الذين عبدوا الأصنام أنهم لا يريدون منهم إلا الشفاعة، أي: لا يعتقدون أنهم يخلقون مع الله، أو شركاء لله في الخلق والإيجاد والتدبير والتصريف، فلا أحد منهم اعتقد هذا، وإنما يقول: أدعوهم ليشفعوا لي عند الله، هذا شرك المشركين، وليس عندهم شرك أكثر من ذلك، أما الذي يزعم أن المشركين يسجدون للأصنام لأنهم يعتقدون أنها تدبر وتتصرف في الكون، فهذا كذب عليهم، ما كانوا يفعلون هذا، بل هذا تكذيب للقرآن، فإن الله جل وعلا يقول: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25] ويقررهم بذلك، فيقول جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21] {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22] تعلمون أن هذه الأشياء كلها بيد الله، وأن الأصنام ليس لها شيء من ذلك، فشركهم هو طلب الشفاعة. ويقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس:18] هذه عبادتهم! وهذا شركهم! فهذا أخف من شرك المشركين الذين يشركون بالقبور اليوم، فإنهم يزعمون أن أصحاب القبور يتصرفون بالأمور كجلب المنافع ودفع المضار، ولهم تصرف وأن الله ملكهم التصرف، هكذا يقولون! فيمكن أن يهزموا الأعداء، ويمكن أن يجلبوا النفع للإنسان الخاص بأن يوجدوا له ولداً، أو زوجة أو رزقاً أو ما أشبه ذلك.

نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن إطرائه

نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن إطرائه [السادسة عشرة: ظنهم أن العلماء الذين صوروا الصور أرادوا ذلك. السابعة عشرة: البيان العظيم في قوله: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم) فصلوات الله وسلامه على من بلغ البلاغ المبين] الرسول صلى الله عليه وسلم لم يترك شيئاً ما بلغه، ولا سيما الأمور التي تتعلق بعبادة الله جل وعلا، فإنه بالغ فيها حتى لم يترك شيئاً من الأمور التي تكون وسيلة إلى فعل الشرك إلا ونهى عنها وحذر منها، فلما قالوا له: أنت سيدنا وابن سيدنا، قال: (قولوا بقولكم أو بعض قولكم، لا أحب أن تطروني أو أن تنزلوني فوق منزلتي التي أنزلني الله جل وعلا إياها، أنا عبد الله ورسوله، فقولوا: عبد الله ورسوله). ولما قال له الرجل: (ما شاء الله وشئت، قال: أجعلتني لله نداً؟!) ومعلوم أن له مشيئة يفعل بها، وهذا القائل يقول هذا القول أمام فعل يفعله صلوات الله وسلامه عليه، ولكن منعه منه صلى الله عليه وسلم حتى لا يدخل الشيطان إليهم من هذا الباب، فيوقعهم في الضلال. كذلك لما قال قائل منهم: (قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، قال: إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله) كل هذا سداً للباب، ومنعاً من أن يقعوا في محذور مما نهى الله جل وعلا عنه، فهو صلوات الله وسلامه عليه ما ترك شيئاً من الأمور التي يمكن أن تكون وسيلة أو طريقة إلى الشرك إلا وسدها ومنعها ونهى عنها، مبالغة في ذلك. ومن ذلك: كونه نهى عن مدحه وقال: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد الله ورسوله، فقولوا: عبد الله ورسوله).

نصيحته صلى الله عليه وسلم إيانا بهلاك المتنطعين

نصيحته صلى الله عليه وسلم إيانا بهلاك المتنطعين [الثامنة عشرة: نصيحته إيانا بهلاك المتنطعين. التاسعة عشرة: التصريح بأنها لم تعبد حتى نسي العلم، ففيها بيان معرفة قدر وجوده ومضرة فقده]. يعني: وجود العلم، والمقصود به العلم النافع، وهو العلم الشرعي الموروث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما العلم الذي يكون من أفكار الرجال وأقيستهم، أو يكون من الوضع الذي تواضعوا عليه، أو من علوم الدنيا، فهي إما مضرة أو يكون نفعها قليل جداً، وإنما النفع بالعلم الشرعي الذي يهدي إلى الله، وإذا فقد العلم فقد الخير كله، وفقد العلم بموت العلماء؛ لأن الكتب لا تفيد إذا كان الإنسان لم يوفق إلى من يدله على الفهم الصحيح، وكيف يسير في الطريق فيخطئ أكثر مما يصيب، ويضر أكثر مما ينفع. الكتب تنفع ولكن نفعها محدود، وليس في كل شيء، وقد يفهم فهماً خطأ، ولا بد أن يكون الإنسان عارفاً بالأدلة، فالمقصود أن العلم النافع هو ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو ما في كتاب الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم.

سبب فقد العلم موت العلماء

سبب فقد العلم موت العلماء [العشرون: أن سبب فقد العلم موت العلماء].

شرح فتح المجيد [60]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [60] لقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من اتخاذ القبور مساجد أشد التحذير، وبين أن سبب لعن اليهود والنصارى أنهم اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، حتى آل الأمر إلى عبادتهم إياهم، ولذلك خشي النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ قبره مسجداً فقال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد)؛ فاستجاب الله دعاءه وحمى جنابه من أن يكون وسيلة إلى الشرك.

التغليظ من عبادة الله عند قبور الصالحين

التغليظ من عبادة الله عند قبور الصالحين قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده؟] هذا الباب من الأبواب التي كررها المؤلف للحاجة إليها؛ لكثرة ما يقع الناس في المخالفة في هذا، ولا يزال الناس بأمس الحاجة إلى معرفة الحق في ذلك، واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن كثيراً منهم يقع في الشرك وهو يظن أنه جائز، والواقع أنهم يخطئون في فهم الخطاب الذي يتعلقون به، فمثلاً: يسمعون كلمة التوسل فيظنون أن التوسل هو طلب الشفاعة من الأموات؛ لأنهم وجدوا الناس هكذا يصنعون، فظنوا أن هذا هو التوسل، وهو الوسيلة، فإذا قال الله جل وعلا: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة:35] قالوا: الوسيلة أن نذهب إلى الأولياء، ونطلب منهم أن يشفعوا لنا عند الله، ويقربونا إلى الله، فتكون الوسيلة التي أمر الله بها هي الشرك على حد قولهم وزعمهم. كذلك ما فهموا معنى العبادة التي أمر الله جل وعلا بها الخلق فقال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ} [النساء:36]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة:21] هل معنى (نعبد ربنا) أن العبادة مجرد السجود؟ لا، العبادة كل شيء يتقرب به، ويطلب نفعه أو ضره، ويجب أن تكون لله، والأمور التي ليست من الأسباب الظاهرة التي يباشرها الإنسان لا يجوز طلبها إلا من الله جل وعلا، فمن أين للأموات أن يطلب منهم النفع أو الضر؟ هل عندهم أسباب؟ كلا، ليس عندهم شيء، والأموات في الواقع أعجز من الأحياء، إذ الأحياء يقدرون على ما لا يقدر عليه الأموات، فكيف يطلب من ميت انقطع عمله ولا يستطيع أن يزيد في صحيفة حسناته حسنة واحدة، ولا أن يمحو من سيئاته سيئة واحدة، بل ما استطاع أن يدفع الديدان عن بدنه، ثم يأتي إنسان عاقل ويلتجئ إليه ويدعوه؟!! من أين له الدعوة؟ والله خلقك وكرمك بالعقل، وسخر لك ما في الأرض، ثم تهبط بعقلك وبفعلك إلى هذا المستوى المنحط الذي يمقتك الله جل وعلا عليه، ويجعلك من أبعد الخلق عنه، ولهذا صار المشرك الذي يجعل الدعاء والعبادة لغير الله ميئوساً منه، وإذا مات على ذلك فهو في النار قطعاً: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] وهل يجوز للمسلم أن يسمع أن الله جل وعلا لا يغفر الشرك ثم لا يتعرف على الشرك ولا يعرف ما هو؟ لا يجوز، فيجب أن يعرف الإنسان الشرك، ويعرف العبادة والتأله؛ حتى لا يقع فيما نهاه الله جل وعلا عنه؟ فالنقص كله يأتي الناس من هذه النواحي. أصل الدين الإسلامي الذي دعت إليه الرسل: لا إله إلا الله، وليس المقصود التلفظ بها، وإنما المقصود أن ينفي التأله عن غير الله، ويثبته لله وحده، وأن يجعل التأله لله وحده وينفيه عن غيره. وفي هذا الباب يقول: (ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده؟) أي: فكيف إذا عبد ذلك الصالح؟ يعني: فإنه يكون مشركاً إذا عبد الرجل الصالح، والمشرك مخلد في جهنم، وإنما كان هذا الوعيد لمن عبد الله عند القبر؛ لأن ذلك وسيلة إلى عبادة القبر.

علماء السوء ومشابهتهم النصارى في تجويز البناء على القبور

علماء السوء ومشابهتهم النصارى في تجويز البناء على القبور قال الشارح رحمه الله: [قوله: باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده؟ أي: الرجل الصالح، فإن عبادته هي الشرك الأكبر، وعبادة الله عنده وسيلة إلى عبادته، ووسائل الشرك محرمة؛ لأنها تؤدي إلى الشرك الأكبر وهو أعظم الذنوب. قال المصنف رحمه الله تعالى: في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن أم سلمة ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور؛ فقال: (أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور؛ أولئك شرار الخلق عند الله)، فهؤلاء جمعوا بين فتنتين: فتنة القبور، وفتنة التماثيل] هذا الحديث مخرج في الصحيحين، قوله: (في الصحيح) يعني: في الحديث الصحيح، وهو جاء برواية أم سلمة وأم حبيبة زوجتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه القصة ذكرت له في مرض موته صلوات الله وسلامه عليه، فقال هذا القول. (أنها رأت في كنيسة)، الكنيسة هي معبد النصارى، أي: المكان الذي يتعبدون فيه، فأخبرت أنها رأت فيها تصاوير، فقال: (أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح)، أما قوله: (الرجل الصالح أو العبد الصالح)، فهذا شك من الراوي هل قال الرسول صلى الله عليه وسلم: العبد الصالح أو قال: الرجل الصالح؟ وكلاهما بمعنى واحد، والمعنى أنه إذا مات فيهم الصالح صوروا صورته، ووضعوها للتذكر كما هو في القصة الماضية، والهدف أن تذكر بأعماله فيجتهد كاجتهاده، هذا في الأصل، ثم بعد ذلك كانوا يتبركون به، وربما يكون لإحياء ذكراه وتعظيمه. والصور إذا صورت وعلقت للتعظيم فهذا من أكبر المحرمات، ومن أكبر وسائل الشرك التي تدعو إليه، فالمقصود أنه أخبر أنهم شرار الخلق عند الله، بسبب هذا الصنيع، وهو اتخاذ التصاوير مع العبادة عندها، ومثل ذلك كون الإنسان يقصد قبراً ويصلي عنده أو يقصد قبراً ويدعو الله عنده، فيكون داخلاً في شرار الخلق، فهذا وجه الدليل من ذلك، وهو واضح. قال الشارح رحمه الله: [قوله: (في الصحيح) أي: الصحيحين، قوله: (أن أم سلمة) هي: هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشية المخزومية، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أبي سلمة سنة أربع وقيل: ثلاث، وكانت قد هاجرت مع أبي سلمة إلى الحبشة، ماتت سنة اثنتين وستين. قوله: (ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم) وفي الصحيحين أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والكنسية بفتح الكاف وكسر النون: معبد النصارى. قوله: (أولئك) بكسر الكاف خطاباً للمرأة. قوله: (إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح) هذا -والله أعلم- شك من بعض رواة الحديث: هل قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا أو هذا؟ ففيه: التحري في الرواية، وجواز الرواية بالمعنى. قوله: (وصوروا فيه تلك الصور) الإشارة إلى ما ذكرت أم سلمة وأم حبيبة من التصاوير التي في الكنسية. قوله: (أولئك شرار الخلق عند الله) وهذا يقتضي تحريم بناء المساجد على القبور، وقد لعن صلى الله عليه وسلم من فعل ذلك كما سيأتي] وعلماء السوء الذين يدعون إلى الضلال يقولون: يستحب البناء على القبور، وفيه أجر، ويدعون الناس إلى بذل الأموال في ذلك، وإلى فعل هذا، وهذا في الواقع مصادمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فما حجة الفاعل الذي يفعل مثل هذا إذا وقف بين يدي الله؟ يقول: غرني فلان! قال لي: إنه يستحب فاتبعته! هذا لا يفيد؛ لأن فلاناً ليس رسولاً، كل إنسان كلف أن يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط، وأن يتعرف على قوله، وإذا جاءه إنسان يقول له: هذا الأمر مستحب أو فيه فضل؛ يقول: ما الدليل من قول الله أو قول رسوله؟ وربما لبس عليه إذا كان ما عنده علم؛ لأن هؤلاء عندهم شبه وزيغ، ويريدون أموراً معينة، فيضلوا الناس بها؛ ولهذا أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن أخوف ما يخاف على أمته جدال منافق عليم بالقرآن، فبين أن المنافق يكون عليم اللسان بالقرآن، ولكنه يكون ضالاً، فلا بد من الاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا بد من الاهتمام بذلك، يجب أن يهتم الإنسان بأمر دينه أكثر من اهتمامه بأمر دنياه في جلب الأموال وتحصيلها، فتكون همته بما يقدم في صحائفه، ويعمر به قبره أكثر مما يعمر به بيته؛ لأن البيت لبثه فيه ليس كثيراً في الواقع، وإن لبث ستين سنة أو سبعين سنة لكنه سيلبث في قعر قبره مئات السنين، وليس معنى ذلك أن الإنسان إذا مات صار نسياً منسياً، كلا، هو حي في الواقع، ولكن في حياة أخرى، وإلا فهو حي، إما أن يعذب وإما أن ينعم، ولا يجوز أن ينسى الإنسان مستقبله. وأهم شيء أن تكون عباداته صحيحة، وعلى وفق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا أهم شيء، وليس المهم أن يكثر من العبادات، لا، المهم أن تكون عباداته صحيحة، وأن يؤدي الواجب مثل الصلوات الخمس، والزكاة، وصوم رمضان، والحج، فإذا أدى العبادة صحيحة فهو من أهل الجنة بلا شك، إذا جاء بها كما ينبغي، ولا يلزم أن يقوم الليل، وأن يصوم النهار، وأن يتصدق بأمواله، ليس هذا بلازم، وأهم شيء أن تكون عبادته كلها لله خالصة.

الدين الإسلامي مبني على الإخلاص والمتابعة

الدين الإسلامي مبني على الإخلاص والمتابعة العلماء يقولون: الدين الإسلامي مبني على شيئين: أن تكون العبادة خالصة لله، وأن تكون العبادة موافقة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ما نعبد الله إلا بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، أما الكثرة فهي أمر آخر، الكثرة لا شك أنه يتحصل بها العبد على الدرجات العالية، لكن إذا نجا الإنسان من العذاب وسلم فقد فاز: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185] مهما كان عمله، ومهما كانت درجته، دع عنك التفاوت في الدرجات، المهم أن تزحزح عن النار وتدخل الجنة، والشقاء الأبدي أن يموت الإنسان مشركاً، هذا هو الشقاء في الواقع؛ ولهذا: يجب على الإنسان أن يعتني بذلك كثيراً، فكيف مثلاً بعلماء يكتبون الكتب في التفسير، وشروح الحديث، وفي الكلام، وفي الفقه وأصوله وغيرها، ويدعون الناس إلى عمارة القبور والبناء عليها والعكوف عندها عكس ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! كيف يكون هذا؟! من للإنسان إذا اغتر بهؤلاء؟! الإنسان ليس معذوراً، ولا ينفعه إذا قال يوم القيامة لربه: رب هؤلاء غروني وأضلوني كما أخبر الله جل وعلا أن الضعفاء يقولون للملأ من الكبراء والقادة الذين يقودونهم: {رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ} هل يكفي هذا؟ ما يكفي، يقول الله جل وعلا: {قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ} [الأعراف:38] لهم ولكم؛ لأنكم ما كلفتم أن تتبعوهم، فالمسألة واضحة في الواقع، الرسول صلى الله عليه وسلم ينهى عن إسراج القبور، ويلعن من أسرجها، ومن جصصها، ويأمر بتسويتها، ثم يأتي هؤلاء ويأمرون بعمارتها، والبناء عليها، والإسراج عليها، وإذا قيل لهم؛ قالوا: الحديث الذي في صحيح مسلم عن أبي الهياج الأسدي ضعيف! هل الذي في صحيح مسلم ضعيف وقولهم صحيح؟ هكذا يقولون صراحة. فالضلال ما له حد، ويجب على الإنسان أن يكون على بصيرة من أمره، والرسول صلى الله عليه وسلم قد أنذر وبلغ، وقامت الحجة على الناس ببلاغه، فلا حجة لإنسان على ربه بقول فلان أو فلان.

علة لعن النبي صلى الله عليه وسلم النصارى في اتخاذ القبور مساجد

علة لعن النبي صلى الله عليه وسلم النصارى في اتخاذ القبور مساجد قال الشارح رحمه الله: [قال: قال البيضاوي: لما كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور الأنبياء تعظيماً لشأنهم، ويجعلونها قبلة يتوجهون في الصلاة نحوها، واتخذوها أوثاناً؛ لعنهم النبي صلى الله عليه وسلم. قال القرطبي: وإنما صور أوائلهم الصور ليتأسوا بهم، ويتذكروا أعمالهم الصالحة؛ فيجتهدوا كاجتهادهم؛ ويعبدوا الله عند قبورهم، ثم خلفهم قوم جهلوا مرادهم، ووسوس لهم الشيطان أن أسلافهم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها؛ فحذر النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل ذلك؛ سداً للذريعة المؤدية إلى ذلك. قوله: (فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين: فتنة القبور، وفتنة التماثيل) هذا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، ذكره المصنف رحمه الله تنبيهاً على ما وقع من شدة الفتنة بالقبور والتماثيل، فإن الفتنة بالقبور كالفتنة بالأصنام أو أشد، قال شيخ الإسلام رحمه الله: وهذه العلة -التي لأجلها نهى الشارع صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ المساجد على القبور- هي التي أوقعت كثيراً من الأمم إما في الشرك الأكبر أو فيما دونه من الشرك، فإن النفوس قد أشركت بتماثيل الصالحين، وتماثيلٍ يزعمون أنها طلاسم الكواكب ونحو ذلك. فإن الشرك بقبر الرجل الذي يعتقد صلاحه أقرب إلى النفوس من الشرك بخشبة أو حجر؛ ولهذا تجد أهل الشرك يتضرعون ويخضعون، ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في بيوت الله، ولا وقت السحر، ومنهم من يسجد لها، وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء ما لا يرجونه في المساجد. فلأجل هذه المفسدة حسم النبي صلى الله عليه وسلم مادتها حتى نهى عن الصلاة في المقبرة مطلقاً، وإن لم يقصد المصلي بركة البقعة بصلاته كما يقصد بصلاته بركة المساجد. كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس وغروبها؛ لأنها أوقات يقصد المشركون فيها الصلاة للشمس، فنهى أمته عن الصلاة حينئذ وإن لم يقصد ما قصده المشركون، سداً للذريعة. وأما إذا قصد الرجل الصلاة عند القبور متبركاً بالصلاة في تلك البقعة فهذا عين المحادة لله ولرسوله، والمخالفة لدينه، وابتداع دين لم يأذن به الله. فإن المسلمين قد أجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن الصلاة عند القبور منهي عنها، وأنه لعن من اتخذها مساجد. فمن أعظم المحدثات وأسباب الشرك: الصلاة عندها، واتخاذها مساجد، وبناء المساجد عليها] نهي الرسول صلى الله عليه وسلم ولعنه للذين يبنون على القبور مساجد ليس لأجل نجاسة المقابر أو نجاسة القبر التي يزعمون أنها بسب الصديد؛ ولهذا لا يوجد فرق بين كون المقبرة قديمة أو حديثة، ولا يوجد فرق -على القول الصحيح عند العلماء الذين فهموا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم- بين كونها قبوراً متعددة أو قبراً واحداً، ولا يوجد فرق من كون المسجد إذا وضع فيه قبر أن يكون في قبلة المسجد أو خلفه أو يمينه أو شماله، بل الصلاة عند القبور باطلة إذا كان المسجد بني على القبر أو وضع القبر فيه، ولكن إذا كان المسجد سابقاً وجب أن يزال القبر، فينبش ويذهب به إلى المقبرة، أما إذا بني المسجد على القبر فيجب أن يهدم المسجد؛ لأنه وضع وضعاً غير شرعي مخالف لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم وقوله، وكل هذا خوفاً من أن يتعلق قلب المسلم بغير الله جل وعلا، وقد علم كيف صارت المقابر معابد وأصناماً تقصد بسبب تعظيم القبور؛ ولهذا نهى صلوات الله وسلامه عليه أن ترفع القبور، وأن يزاد عليها غير ترابها، بل أمر أن تسوى بالأرض. وكذلك نهى عن تجصيصها أو إسراجها وهذا في صحيح مسلم، وفي سنن أبي داود زيادة الكتابة عليها، وكل هذا لأجل ألا تكون وسيلة إلى عبادتها وإلى دعاء من فيها، فإن هذا من أعظم ما يصد عن عبادة الله، ومن أعظم وسائل الشرك، حتى يكون ذلك شركاً صريحاً كما هو واقع من كثير من الناس. ولكن إذا لم يفهم الإنسان دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وما جاء به، وأن الدين يجب أن يكون لله وحده، ولا يكون منه شيء لغيره، فإنه يقع في المخالفات وفي المصادمات كما ذكر، يعني: المحادة لله ولرسوله، والمحادة: هي أن يعلم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ثم يخالفه، ويكون مقابلاً لأمره تماماً، يخالفه قصداً سواء طلب التأويل أو لم يطلب، كما هو فعل كثير ممن يدعون إلى الوثنية، وثنية ليست كوثنية الجاهلية بل أعظم؛ لأنهم في الواقع أشركوا في أصحاب القبور شرك العبادة وشرك الربوبية، وقد كان المشركون الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أعقل منهم بكثير، حيث علموا يقيناً أن التصرف لله وحده، وأن هؤلاء يستشفى بهم، وجعلوهم وسائط بينهم وبين ربهم، أما هؤلاء فصاروا يزعمون أن المدفونين في هذه البقاع يتصرفون، ويجلبون النفع، ويدفعون الضر بأنفسهم، وأن البلد الفلاني تدفع عنه الآفات والكوارث لأجل قبور الصالحين، هكذا يقولون، وهذا شرك لم يقع فيه المشركون القدامى.

حكم البناء على القبور واتخاذ المساجد عليها

حكم البناء على القبور واتخاذ المساجد عليها قال الشارح رحمه الله: [وقد تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن ذلك، والتغليظ فيه، وقد صرح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد عليها؛ متابعة منهم للسنة الصحيحة الصريحة، وصرح أصحاب أحمد وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي بتحريم ذلك، وطائفة أطلقت الكراهة] الواقع أن الخلاف موجود عندهم، ولكن خلاف المتأخرين في مثل هذه المسألة ينبغي ألا يلتفت إليه؛ لأنه مخالف لنصوص الرسول صلى الله عليه وسلم تماماً، وهذا تمام المخالفة، وإذا خالف قول الإنسان قول الله جل وعلا أو قول رسوله صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن يؤخذ به، بغض النظر عن صاحب القول؛ لأنه قد يكون مثلاً جهل هذا الشيء أو التبس عليه، وقد يكون له عذر، وقد لا يكون له عذر، ولكن الإنسان إذا علم قول الله جل وعلا وقول رسوله صلى الله عليه وسلم يجب أن يأخذ بقول الله وقول رسوله، ولا يلتفت إلى قول القائل مهما كانت إمامته وعلمه. ومن المعلوم أن أئمة الهدى من الأئمة الأربعة وغيرهم من أقرانهم وأتباعهم من علماء المسلمين لا يقصدون مخالفة الله جل وعلا، ومخالفة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما حصل التعلق بالقبور والتعبد عند أصحابها وقصدها إلا في الأزمنة المتأخرة، وأما ما يذكر في كتب الفقه من مجرد الكراهة فالمقصود به التحريم، فمثلاً في المدونة أو في غيرها من الكتب التي يزعمون أنها لأصحاب المذاهب من الأئمة الكبار، يذكرون أن هذا مكروه، وأن الصلاة في المقبرة مكروهة، فيأتي من بعدهم ويقول: الكراهة هل هي كراهة تنزيه أو كراهة تحريم؟ ويختلفون في هذا، وهذا يجب ألا يلتفت إليه؛ لأن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم صريحة في ذلك، ولا نحتاج إلى قول فلان فيها، ولا قول فلان، الإنسان إذا استبان له قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم لا يجوز له أن يأخذ بقول أحد من الناس مهما كان، وقد قال الإمام مالك رحمه الله: كل يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر صلوات الله وسلامه عليه، وكان يقول ذلك لأنه كان بجوار قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا قال قولاً وجب اتباعه وأخذه، والله جل وعلا يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]. يقول الإمام ابن كثير رحمه الله على هذه الآية بعدما ذكر أقوال بعض الأئمة: إن الفتنة المقصود بها هنا الشرك، فإن الإنسان إذا رد قول الرسول صلى الله عليه وسلم يزيغ قلبه؛ فيكره الحق، ويؤثر الباطل على الحق؛ فيكون بذلك عابداً لهواه أو عابداً لمتبوعه، وأما العذاب الأليم فهو العذاب العاجل في الدنيا قبل الآخرة، أما الآخرة فالأمر أشد من ذلك وأعظم. ولهذا يقول الإمام أحمد: عجبت لقوم عرفوا الحديث وصحة سنده يذهبون إلى قول سفيان. ويقصد بسفيان سفيان الثوري رحمه الله الإمام المشهور، قال يذهبون إلى قول سفيان والله جل وعلا يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] ثم يقول: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله يرد بعض قوله فيقع في قلبه زيغ فيهلك. وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يأمر بمتعة الحج، فقيل له: إن أبا بكر وعمر ينهيان عن المتعة، فقال: أقول لكم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعترضون علي بقول أبي بكر وعمر؟ يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء. هذا وهو قول أبي بكر وعمر فكيف بقول إنسان متأخر قد قل نصيبه من العلم؟! وتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بهوى النفوس واتباع الشهوات، وإنما تعظيمه صلوات الله وسلامه عليه باتباع أمره. وكذلك محبته صلوات الله وسلامه عليه تكون باتباع أمره وطاعته، ليس بالدعوى، ولا بالبدع وإحداث أمور يكرهها صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه كان يقول في خطبه وفي كل مناسبة: (إن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها) دائماً يردد هذا! في صحيح مسلم أنه صلوات الله وسلامه عليه قال (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) فإذا كان الأمر الذي هو عبادة يُتقرب به إلى الله لم يكن عليه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مردود على صاحبه لا خير فيه، لا يقبل ولا يثاب عليه، وهذا في مجرد البدع، فكيف إذا كان الأمر فيه تعبد لغير الله، وفيه صرف حق الله جل وعلا لمخلوق ضعيف؟! هل من فعل هذا عرف الله؟ هل قدر الله حق قدره؟ تعالى الله وتقدس! {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا * أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا} [نوح:13 - 15] ما أحقر الإنسان! ما أحقر الخلق كلهم بالنسبة لله جل وعلا! ولهذا إذا صار يوم القيامة وجمعهم جل وعلا في صعيد واحد؛ يتبين الغبن العظيم، الذي لو قدر أن إنساناً يموت بسببه لمات الخلق، ولكن لا موت، يعضون على أيديهم من الندامة، ويعودون على الذين كانوا يصرفون إليهم هذه الأمور بالبغض والكراهية، بل باللعن، ولكن إذا كانوا لم يأمروهم بهذا ولم يدعوهم إليه فهم برآء من أفعالهم، كما أخبر الله جل وعلا عن الملائكة وغيرهم من الأنبياء والصالحين عندما يقال لهم: {أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} [سبأ:40] تقريراً لوقوع العذاب بهؤلاء العابدين، فيوجه السؤال أولاً إلى المعبود: {أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} [سبأ:40] فيقولون: {قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} [سبأ:41] الجن هي التي أمرتهم، ولا يلزم أن تكون عبادة الشيطان نفسه بأن يتجسد أمامهم ويسجدون له، ولكن من يطيع أمره بالمعصية فهو عابد له. حق الله هو أن يكون التعلق والتعبد والرجاء والخوف والإنابة والتوبة وغير ذلك كله له، ليس لأحد من الخلق فيه شيء؛ لأنه خلق عباده ليعبدوه، فيجب أن يحمى هذا الجانب كما حماه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصانه، غير أن عدم الاهتمام بما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به هو الذي يوقع في الخلل والنقص، ثم يوقع في الشرك نسأل الله العافية، وإلا فكيف يتصور الإنسان أن أناساً يتحصلون على أعلى شهادة اليوم في العلم، ثم يصبح أحدهم يقرر الشرك الذي يقع عند القبور، بل يقولون: إنه مستحب؛ لأنه توسل، أين العلم؟ وما فائدة العلم إذا كانت هذه هي النتائج؟! ثم هذا الكلام وهذه التقريرات تقدم للمطابع فتطبعها، ثم تنشر على العالم الإسلامي، وليس كل الناس في العالم الإسلامي يميز بين الحق والباطل، كثير منهم يغتر بالاسم، إذا رأى على الكتاب: الدكتور الفلاني، أو العالم الفلاني الذي من صفته كذا وكذا؛ تمسك بهذا، وصار كأنه متيقن بأن هذا حق؛ لأنه عنده كتاب، وهذا لا يكون معذوراً؛ لأن الناس كلهم يجب عليهم أن يأخذوا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ينفعهم قول الدكتور الفلاني أو العالم الفلاني، كما أخبرنا ربنا جل وعلا أنه إذا كان يوم القيامة يقول الأتباع لأتباعهم: {رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا} [الأعراف:38] ما يفيد، الله جل وعلا يعذب الجميع وتقول الملائكة: قد جاءكم الرسل فلماذا ما أجبتموهم؟ هل هؤلاء رسل لكم؟ هل جاءوكم بسلطان؟ هل جاءوكم بوحي من عند ربكم؟ ليس لأحد الحجة على الله جل وعلا. ثم إن هذا الشيء لا يجوز التفريط فيه، ويجب الاهتمام بذلك؛ لأن الأمر خطر جداً، أخطر من أن يتصوره الإنسان الذي لا يعرف الحقائق، وذلك أن الإنسان قد يكون على شيء يظن أنه حق، ثم يموت عليه وهو باطل فيهلك، فهل يمكنه أن يعود مرة أخرى ليصلح ما فسد؟ كلا، العمر واحد، فإذا لم يحسن وضعه وقصده ونيته وعبادته لربه جل وعلا في هذه الحياة فإنه إذا مات لا يفيده كونه تعلق بفلان أو فلان أو اغتر بفلان، وكل إنسان مسئول، والله جل وعلا أخبر عن الرسل أنهم يسألون: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:6]، {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} [المائدة:109] الرسل يجمعون ويسألون أولاً، لماذا لم تجابوا؟ الأمر شديد جداً، الرسل ليس لهم سلطة على الخلق، الرسل جاءوا يبلغون الرسالة فقط، ولكن ليسألهم حتى يعلم الجاني خطر موقفه، وأنه يستحق أليم العذاب، وهكذا في كل مجرم، فإن الله جل وعلا أخبرنا أنه يسأل البنت المقتولة التي تدفن حية أولاً قبل الفاعل: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8 - 9] تسأل بأي ذنب قتلت؟ وهل تستطيع هي أن تدافع عن نفسها أو تأتي بالحجج؟ لا، فكيف بالقاتل؟ ماذا يقال فيه؟! كذلك الذين جاءتهم الرسل ما لهم حجة؛ إذ إن الرسل بينوا ووضحوا كما أمرهم الله جل وعلا، ولا نحتاج إلى بيان بعض الناس الذين فروا سواء قصدوا الفرار أو أنهم وقعوا في التكذيب الأعمى، والتعصب الشديد لفلان وفلان، فإن النفوس تحمل صاحبها على الهلاك والتعصب، حتى إنه من العجب أنه قيل لبعضهم وهو في مقام الذم لبعض أهل العلم والقدح فيهم: يا فلان! اتق الله فإننا نرجو أن الله جل وعلا يجمعك مع خصمك هذا في الجنة. فقال: الجنة التي يكون فيها فلان لا أريدها! هذا كلام فيه شدة التعصب والبغض لبعض الأمور -وهي حق-، فيؤدي هذا إلى أن يقول مثل هذا القول، ويرى أنه على علم وحده، وهو في الواقع على جهل مركب، يعني: جاهل ويجهل أنه جاهل، وهذه مصيبة! فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم الله جل وعل

تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من اتخاذ قبره مسجدا

تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من اتخاذ قبره مسجداً قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولهما عنها -أي: عن عائشة - قالت: (لما نُزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها فقال -وهو كذلك-: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذرهم ما صنعوا، ولولا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً) أخرجاه]. (لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم) المقصود بقوله: (نزل) يعني: نزل الموت به، والخميصة: هي الكساء الذي يلتحف به، وقد يوضع على البدن، وقد كان على وجهه، (فإذا اغتم) يعني: ضاقت نفسه لشدة الكرب الذي يكون قبل الموت، وهذا يدلنا على أنه صلوات الله وسلامه عليه كان عنده نزع شديد؛ ليتضاعف أجره صلوات الله وسلامه عليه، ومع ذلك ما نسي أمته، وقد سبق أنه قال قبل ذلك كلاماً يحذر من اتخاذ القبور مساجد، فلما أخبرته أم سلمة عن الكنيسة التي رأتها في الحبشة وما فيها من التصاوير قال: (أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح -أو قال: العبد الصالح- بنوا على قبره مسجداً -أي: كنيسة- وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق)، يحذر أن تقع أمته في هذا الشيء، ومعلوم أن كنائسهم بمنزلة المساجد، ولهذا جعل المؤلف هذا دليلاً على الترجمة التي ترجمها، فلا يجوز أن يتعبد لله عند القبور، وإن كانت العبادة خالصة لله، ولكن المكان ممنوع أن تقع فيه العبادة؛ خوفاً أن يكون هذا التعبد وسيلة إلى أن تصرف العبادة لغير الله. فبينما هو كذلك، وهو في هذه الحالة إذا اغتم ألقى الخميصة عن وجهه قال هذا القول: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، ولماذا في هذه الحالة وفي هذا الوقت يقول هذا القول؟ كل من عرف الحالة، وسمع القول، عرف مقصوده صلوات الله وسلامه عليه، فهو يحذر أمته مما وقعوا فيه، وهذا من كمال تبليغه وتمام نصحه صلوات الله وسلامه عليه. قوله: (لولا ذلك لأبرز قبره)، هذا ليس من قوله صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من قول عائشة أو قول غيرها، (لولا ذلك لأبرز قبره) يعني: وضع في البقيع مع أصحابه، ولكن خشي أن يتخذ مسجداً، وما كانوا يخشون أنهم يعبدونه، فالصحابة لا يعبدون الرسول، ولكن يخشى أن يأتي من لا يعرف هديه وأمره فيقصد قبره للتعبد عنده، فيكون بذلك مخالفاً لما قاله صلوات الله وسلامه عليه، وفي هذا دليل على أنه ما ذكر لهم مكان قبره، وإنما دفنوه في بيته صلوات الله وسلامه عليه باجتهادهم، مع أنه جاء عن أبي بكر رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الأنبياء يدفنون في المكان الذي ماتوا فيه) فدفنوه في المكان الذي مات فيه صلوات الله وسلامه عليه، وهو في حجرة عائشة في بيتها؛ لأنه أول ما حصل له المرض صار كل يوم عند زوجة من زوجاته، يقسم بينهن وهو مريض، فلما شق عليه ذلك جمعهن واستأذنهن أن يكون مرضه في بيت عائشة فأذنَّ له، ولو لم يأذنَّ له ما فعل ذلك، فصار في آخر الأمر في بيت عائشة، والبيت عبارة عن غرفة واحدة فقط، كل واحدة من زوجاته التسع لها غرفة، وكان يقسم لهن إلا سودة لأنها وهبت يومها لـ عائشة؛ تلتمس رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها تعرف أنه يحبها، فوهبت لها يومها، فصار يمكث عند عائشة يومين، فالمقصود أن كل واحدة منهن لها غرفة واحدة، والغرفة قد لا تتسع إلا للسرير وللأغراض التي لا بد منها، كالإناء الذي يتوضأ به وما أشبه ذلك، ولهذا لم تتسع هذه الغرفة إلا للقبور الثلاثة فقط، وكل واحد صارت رجلاه عند رأس الآخر حتى تكون واسعة لهم.

الكلام على حديث (ما بين بيتي ومنبري) وتصرف الرواة فيه

الكلام على حديث (ما بين بيتي ومنبري) وتصرف الرواة فيه جاء حديث في صحيح البخاري: (ما بين منبري وقبري روضة من رياض الجنة) والظاهر أنه مغير من الراوي، الراوي نفسه غير لفظه، بدليل أنه جاء في الرواية الأخرى: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة) فغير بعض الرواة بدل البيت (القبر)، ولو كان هذا ثابتاً ما اختلف الصحابة في مكان دفنه، وهذا نص صريح، وجاء عن عدد من الصحابة رووه، فدل هذا على أن اللفظ قد غير، وأن الصواب: (ما بين منبري وبيتي روضة من رياض الجنة) كما هو في بعض الروايات التي في الصحيح أيضاً. قوله: (ولكن خشي) جاءت هذه الكلمة مضمومة الخاء ومفتوحة الخاء، (خَشي، وخُشي)، فإذا كانت بالضم فمعنى ذلك أن الصحابة هم الذين خشوا ذلك، أما إذا كان بالفتح فيكون صلوات الله وسلامه عليه هو الذي خشي ذلك، وهذا بعيد؛ لأنه لو وقع ذلك لما صار عندهم خلاف أين يدفنوه، فإنهم اختلفوا في دفنه حتى روى لهم أبو بكر رضي الله عنه الحديث. والإبراز هي العادة التي جرت بينهم، فما اعتادوا أن أحداً يدفن في بيته، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم خشي أن يقع ما وقع، وهذا في الواقع وقع لغيره ممن لا يدانيه، بل لا يداني لباسه الذي يكون عليه، بل لا يداني نعاله صلوات الله وسلامه عليه، فلا أحد يقاس على رسول الله صلى الله عليه وسلم مهما كان. فلا شك أن الفتنة تكون في هذا أقرب وأكثر؛ لهذا يوجد الآن كثير من الناس الذين لا يعرفون التوحيد كما ينبغي؛ لو مكن من حمل ترابه وأكله والسجود عليه لفعل، كثير من الناس لو يتمكن من أكل التراب الذي على قبره لأكله، ولو يتمكن أن يسجد عليه لسجد، ويرى أن هذا هو غاية المنى؛ لجهلهم بدين الرسول صلى الله عليه وسلم، وما يحبه وما يكرهه، فهذا مكروه، بل هو من أبغض ما يكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حماية الله لنبيه صلى الله عليه وسلم من أن يعبد قبره

حماية الله لنبيه صلى الله عليه وسلم من أن يعبد قبره حمى الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم وصانه من أن يعبد، وقد كان يقول: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ألا إني أنهاكم عن ذلك) ولهذا كره الأئمة التردد إليه للزيارة، والإمام مالك رحمه الله كره أن يقول الإنسان: زرت قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول: ما ينبغي هذا، وليس قبر الرسول صلى الله عليه وسلم كقبر غيره، فصانه الله جل وعلا وحماه أن يسري إليه الناس، فبالغ السلف في حمايته حتى بنوا عليه حيطاناً، وأغلقوها من جميع الجهات، من السقف ومن الجوانب كلها مغلقة، ولا أحد يصل إليه، ثم بني جدران عن يمين القبر وشماله، جدران ينحرفان حتى ينتهيان بزاوية من جهة الشمال؛ لئلا يستقبل في الصلاة، ولكن غير هذا، ثم غير بالشبك الذي وضع عليه، فصار الناس يستقبلونه، والإنسان له نيته وقصده، فإذا كان في استقباله يقصد القبر فله هذه النية، والإنسان يحاسب على نيته، فإنما الأعمال بالنيات. قال الشارح رحمه الله: [قوله: ولهما عنها -أي: عائشة رضي الله عنها- قالت: (لما نُزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها فقال -وهو كذلك-: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً) أخرجاه]. الصواب أن يُقال: (خُشي)، هذا هو الراجح، وإن كان بعض العلماء ضبطوه (خَشي)، فإذا كان (خَشي) فهو الذي أمر بذلك، ولكن هذا بعيد؛ لأنهم لو كانوا يعلمون أمره لما حصل خلاف بينهم في موضع دفنه. والله يلعن من يشاء، كما أنه يرحم من يشاء، والملعون من حقت عليه اللعنة، واللعن معناه: الطرد والإبعاد عن الرحمة ومظانها، فإذا صار الإنسان ملعوناً فمعنى ذلك أنه مطرود مبعد عن الخير كله، وعن رحمة الله، وإذا طرد عن رحمة الله فمعنى ذلك أنه من أشر الخلق نسأل الله العافية. والرسول صلى الله عليه وسلم يلعن من يلعنه الله، فالذي استحق اللعن يُلعن، ولكن قد يلعن قوماً؛ لأنهم يستحقون ذلك، ثم تتغير أحوالهم ويتفضل الله جل وعلا عليهم بالتوبة، كما سبق في قصة أحد أنه لعن عدداً من رؤساء الكفار، ثم تاب الله عليهم بعد ذلك، فمثل هذا في بيان الأحكام يدل على أن فعل هذا من الكبائر، ما يلعن إلا من خالف أمر الله أو أمر الرسول؛ لأن هذا في بيان الأحكام، وليس لعن شخص معين فعل فعلاً معيناً، فلعن هذا أمره أعظم؛ فكل من فعل هذا فهو داخل في اللعنة، فإذا فعل شيئاً من ذلك فهو داخل في لعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسواء قلنا: إن اللعن خبر يخبر به عن الله أنه لعنه، فخبره صدق وحق، أو قلنا: إنه دعا عليه بأن الله يلعنه، والأول هو الصواب؛ لأنه صلوات الله وسلامه عليه يبين ما أنزل إليه.

التحذير من اتخاذ القبور مساجد ومعناه

التحذير من اتخاذ القبور مساجد ومعناه قال الشارح رحمه الله: [قوله: (ولهما) أي: البخاري ومسلم وهو يغنى عن قوله -في آخره- (أخرجاه). قوله: (لما نزل) هو بضم النون وكسر الزاي، أي: نزل به ملك الموت والملائكة الكرام عليهم السلام. قوله: (طفق) بكسر الفاء وفتحها، والكسر أفصح، وبه جاء القرآن، ومعناه: جعل. قوله: (خميصة) بفتح المعجمة والصاد المهملة: كساء له أعلام. قوله: (فإذا اغتم بها كشفها) أي: عن وجهه. قوله: (لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يبين أن من فعل مثل ذلك حل عليه من اللعنة ما حل على اليهود والنصارى] ليس معنى الأعلام التي في الخميصة الصور، وإنما معناها: النقوش والزين المخيط عليها بالتطريز، فهذا هو المعنى المقصود، وليست الصور. قال الشارح رحمه الله: [قوله: (يحذر ما صنعوا) الظاهر: أن هذا من كلام عائشة رضي الله عنها؛ لأنها فهمت من قول النبي صلى الله عليه وسلم ذلك تحذير أمته من هذا الصنيع الذي كانت تفعله اليهود والنصارى في قبور أنبيائهم، فإنه من الغلو في الأنبياء، ومن أعظم الوسائل إلى الشرك. ومن غربة الإسلام أن هذا الذي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعليه -تحذيراً لأمته أن يفعلوه معه صلى الله عليه وسلم ومع الصالحين من أمته- قد فعله الخلق الكثير من متأخري هذه الأمة، واعتقدوه قربة من القربات، وهو من أعظم السيئات والمنكرات، وما شعروا أن ذلك محادة لله ورسوله. قال القرطبي في معنى هذا الحديث: وكل ذلك لقطع الذريعة المؤدية إلى عبادة من فيها، كما كان السبب في عبادة الأصنام. انتهى إذ لا فرق بين عبادة القبر ومن فيه وعبادة الصنم، وتأمل قول الله تعالى عن نبيه يوسف بن يعقوب حيث قال: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [يوسف:38] نكرة في سياق النفي تعم كل شرك. قوله: (ولولا ذلك) أي: ما كان يحذر من اتخاذ قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسجداً لأبرز قبره، وجعل مع قبور الصحابة الذين كانت قبورهم في البقيع. قوله: (غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً) روى بفتح الخاء وضمها، فعلى الفتح يكون هو الذي خشي ذلك صلى الله عليه وسلم، وأمرهم أن يدفنوه في المكان الذي قبض فيه، وعلى رواية الضم يحتمل أن يكون الصحابة هم الذين خافوا أن يقع ذلك من بعض الأمة، فلم يبرزوا قبره؛ خشية أن يقع ذلك من بعض الأمة غلواً وتعظيماً بما أبدى وأعاد من النهي والتحذير منه ولعن فاعله. قال القرطبي: ولهذا بالغ المسلمون في سد الذريعة في قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فأغلقوا حيطان تربته، وسدوا المداخل إليها، وجعلوها محدقة بقبره صلى الله عليه وسلم، ثم خافوا أن يتخذ موضع قبره قبلة إذا كان مستقبل المصلين، فتصور الصلاة إليه بصورة العبادة؛ فبنوا جدارين من ركني القبر الشماليين، وحرفوهما حتى التقيا على زاوية مثلثة من ناحية الشمال؛ حتى لا يتمكن أحد من استقبال قبره. انتهى].

شرح فتح المجيد [61]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [61] أخبرنا الله تعالى في كتابه أنه اتخذ إبراهيم خليلاً، وجاء عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه خليل الرحمن، فالخلة الإلهية خاصة بإبراهيم وبخاتم المرسلين صلوات الله وسلامه عليهما، وفيه دليل على أن الله يحب من يشاء من عباده حباً يليق به سبحانه، وحبه تعالى ليس لأنه محتاج إلى أحد من عباده، بل هو كرم منه سبحانه وتعالى، وقد تبرأ النبي صلى الله عليه وسلم من خلة أحد من البشر حتى لا يشارك أحدٌ ربه عز وجل في خلته صلى الله عليه وسلم.

ثبوت خلة النبي صلى الله عليه وسلم لربه

ثبوت خلة النبي صلى الله عليه وسلم لربه قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولـ مسلم عن جندب بن عبد الله قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: (إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل؛ فإن الله قد اتخذني خليلاً، كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك)]. قوله: (إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل) البراءة: هي الابتعاد عن الشيء والتخلص منه نهائياً، بحيث لا يقرب. والخلة: هي أعلى مراتب الحب، ليس بعدها شيء من مراتب الحب، سميت خلة؛ لأنها تتخلل جميع القلب، فلا يبقى في القلب موضع لغير الخليل، كما قال بعض الناس في امرأة يحبها: تخلل حبها الفؤاد مني ولذا سمي الخليل خليلا يعني: أنه ليس في فؤاده موضع خال عن حبها.

الخلة أعلى مراتب الحب

الخلة أعلى مراتب الحب والله جل وعلا أخبرنا أنه اتخذ إبراهيم صلى الله عليه وسلم خليلاً، فالخلة الإلهية خاصة بإبراهيم وبخاتم الرسل صلوات الله وسلامه عليهما، وفيه دليل على أن الله يحب من يشاء من عباده، حباً يليق به، وحبه جل وعلا ليس لأنه -تعالى وتقدس- بحاجة إلى شيء، بل هو كرم منه. والدليل على أن الخلة أعلى من الحب: أن الله جل وعلا ذكر أنه {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222] {يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4]، وذكر أصناف كثير من المؤمنين وأنه يحبهم، ولم يذكر أنه اتخذ أحداً خليلاً إلا إبراهيم، ورسولنا صلى الله عليه وسلم بين لنا أن الله اتخذه خليلاً، فصار هذا دليل على أن الخلة: أعلى مراتب الحب.

علو منزلة أبي بكر رضي الله عنه

علو منزلة أبي بكر رضي الله عنه قول بعض الناس -الذين لا علم لهم-: إن الله اتخذ محمداً حبيباً! خطأ؛ لأن الخلة أعظم من المحبة، وقوله: (ولو اتخذت أحداً منكم خليلاً لاتخذت أبا بكر) يدلنا على أن أبا بكر رضي الله عنه هو أفضل الصحابة، وأقربهم إلى الله وسيلة وفضلاً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يحب ما يحبه الله جل وعلا. وقد جاءت الأحاديث الصحيحة بأنه يحب أبا بكر ففي صحيح مسلم: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث عمرو بن العاص في سرية، ثم تخلف عمرو ليصلي مع الرسول صلى الله عليه وسلم الوقت الذي يليه هذا الوقت، فلما رآه قال: ألم أرسلك؟ قال: بلى، ولكن ذهب أصحابي وأردت أن أصلي معك ثم ألحق بهم، فأخبره صلى الله عليه وسلم أنه لا يدرك أجر اللحاق بهم بهذه الصلاة؛ لأن الذهاب في سبيل الله فضله عظيم، والشاهد: أن عمرو بن العاص سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الناس أحب إليك؟ والرسول صلى الله عليه وسلم لا يخشى أحداً، ولا يداري أحداً، ولا يجامل صلوات الله وسلامه عليه أحداً، فقال: عائشة، قال: من الرجال؟ قال: أبوها، ثم قال له: ثم من؟ قال: ثم عمر، فسكت) فهذا نص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحب عائشة، وأن عائشة أحب الناس إليه من النساء، وأن أباها أحب الناس إليه من الرجال، ثم يلي ذلك عمر رضي الله عنه، وهذا لا ينافي قوله: (لو اتخذت أحداً منكم خليلاً لاتخذت أبا بكر) بل يدل هذا على معنى، وهذا على معنى، فدل على أن الخلة أعلى من المحبة، وهذا واضح. واستدل بهذا بعض العلماء على خلافة أبي بكر؛ لأنه ما دام هو أفضل الصحابة، وأحب الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهو الأولى بالخلافة، وهناك أدلة أوضح من هذا وأجلى، وهي ثابتة في الصحيح. منها: أمره صلى الله عليه وسلم له بأن يصلي بالناس، والصلاة هي أعظم ما يجتمع عليه المسلمون من أمورهم، ولهذا فهم ذلك الصحابة وقالوا: رضيه لديننا أفلا نرضاه لدنيانا؟! ومنها: (أنه جاءته امرأة تطلب حاجة، فقال: ائتيني يوم كذا وكذا، أو بعد وقت كذا وكذا، فقالت: أرأيت إن لم أجدك؟ -يقول الراوي: تقصد الموت- قال: ائتي أبا بكر). ومنها: ما ثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: (رأيتني على قليب أنزع، فنزعت ما شاء الله أن أنزع -يعني: بالدلو لاستخراج الماء- فجاء أبو بكر ليريحني فنزع ذنوباً أو ذنوبين وفي نزعه ضعف والله يغفر له، ثم جاء عمر فتحولت الدلو غربا -الغرب: معروف أنه الجلد الكبير الذي لا يخرجه إلا البعير أو ما أشبهه من البئر- فما رأيت عبقرياً ينزع نزعه، حتى شرب الناس وارتووا وضربوا بعطن) فهذا أيضاً واضح بأن المقصود به الخلافة. ومنها: ما ثبت في الصحيح أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر رؤيا رآها، فقال: إني رأيت سبباً أدلي من السماء فتعلقت به أنت فذهبت، ثم تعلق به أبو بكر، فصعد، ثم تعلق عمر فصعد، ثم تعلق عثمان فصعد، ثم تعلق علي فنشب فأصابه كذا وكذا -يعني: أشياء - عند ذلك تغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم} وأحاديث كثيرة كلها تدل على المعنى الذي أردناه.

خلاف العلماء في خلافة أبي بكر هل هي نص أم إشارة

خلاف العلماء في خلافة أبي بكر هل هي نص أم إشارة اختلف العلماء: هل خلافة أبي بكر نص أو أنها إشارات وإيماء؟ فمنهم من قال: إنها منصوص عليها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم من قال: هي إشارات، وهذا هو الواقع، والإشارات هذه قريبة من التصريح، وأما ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مرض موته: (ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً أن لا تضلوا بعدي، فاختلفوا فمنهم من يقول: نأتي بالكتاب، ومنهم من يقول: هل قال هذا من شدة المرض أو أنه يقصد ذلك، فلما اختلفوا قال: قوموا عني فما أنا فيه خير مما أنتم فيه) فلم يكتب، وقال ابن عباس: (الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الكتابة)، وقالوا: إن هذه الكتابة هي كتابة بالخلافة، والواقع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لو أراد أن يكتب شيئاً لم يمنعه أحد من الكتابة، ولأمر أن يكتب، ولهذا جاء في رواية: (أنه صلى الله عليه وسلم قال لـ عائشة: ادعي لي أخاك وأباك لأكتب لهما لئلا يقول قائلٌ، ثم بعد ذلك قال: ولكن يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر فترك الكتابة) فرأى أن تركهم بدون كتابة واجتماعهم عليه بالاتفاق أحسن وأولى، كما قال: (يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر) قوله صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك) المقصود بالقبور هنا: عموم القبور؛ لأن نهي النبي إذا كان موجهاً إلى قبور الأنبياء فقبور غير الأنبياء أولى بأن يوجه النهي إليها، وأن يمنع من اتخاذها مساجد، ثم ليس معنى ذلك: أن تبنى عليها المساجد وتقصد، بل المقصود أن لا يصلى عندها؛ لأن كل مكان صليت فيه فهو مسجد، كما قال صلى الله عليه وسلم: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأي إنسان أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره) وهذا من خصائص هذه الأمة، فأي موضع يصلي فيه الإنسان يكون مسجداً، فمعنى ذلك: أنه لا يجوز أن يصلى عند القبور؛ لأنه منهي عنه، ولهذا نص العلماء: على أن الصلاة لا تصح في المقبرة، أو عند القبر، مطلقاً، بل قالوا: لا تنعقد أصلاً لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن إيقاعها في لك الموضع. وأما ما جاء من أنه صلى الله عليه وسلم صلى على بعض القبور فإن هذا خاص بالصلاة على الجنازة، وقالوا: إذا كان في المقبرة حائل فيجوز أن تصلي على الميت خاصة، أما غير صلاة الجنازة فلا يجوز مطلقاً؛ لهذه الأحاديث التي صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا سيما وهي أحاديث قالها وهو في مرض موته صلوات الله وسلامه عليه، ولا يمكن أن يقول قائل: إن هذه منسوخة، أو إنها خاصة، بل هي عامة وظاهرة في أنه قصد بها المنع من الصلاة عند المقابر. ولـ مسلم عن جندب بن عبد الله قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: (إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل؛ فإن الله قد اتخذني خليلاً، كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك)

قوله صلى الله عليه وسلم: (فإن الله قد اتخذني خليلا)

قوله صلى الله عليه وسلم: (فإن الله قد اتخذني خليلاً) قال الشارح رحمه الله: [قوله: (عن جندب بن عبد الله) أي: ابن سفيان البجلي وينسب إلى جده، صحابي مشهور، مات بعد الستين. قوله: (إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل) أي: أمتنع عما لا يجوز لي أن أفعله، والخلة فوق المحبة، والخليل هو المحبوب غاية الحب، مشتق من الخَلة ـ بفتح الخاء ـ وهي تخلل المودة في القلب، كما قال الشاعر: قد تخللت مسلك الروح مني وبذا سمي الخليل خليلا هذا هو الصحيح في معناها كما ذكره شيخ الإسلام وابن القيم وابن كثير وغيرهم رحمهم الله تعالى. قال القرطبي: وإنما كان ذلك؛ لأن قلبه صلى الله عليه وسلم قد امتلأ من محبة الله وتعظيمه ومعرفته فلا يسع خلة غيره. قوله: (فإن الله قد اتخذني خليلاً) فيه بيان أن الخلة فوق المحبة. قال ابن القيم رحمه الله: وأما ما يظنه بعض الغالطين من أن المحبة أكمل من الخلة، وأن إبراهيم خليل الله، ومحمداً حبيب الله؛ فمن جهلهم، فإن المحبة عامة، والخلة خاصة، وهي نهاية المحبة. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله قد اتخذه خليلاً، ونفى أن يكون له خليل غير ربه، مع إخباره بحبه لـ عائشة ولأبيها ولـ عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وغيرهم رضي الله عنهم، وأيضاً جاء أنه يحب التوابين، ويحب المتطهرين، ويحب الصابرين، أما خلته فخاصة بالخليلين. قوله: (ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً) فيه بيان أن الصديق أفضل الصحابة، وفيه: الرد على الرافضة وعلى الجهمية، وهما شر أهل البدع، وأخرجهم بعض السلف من الثنتين والسبعين فرقة، وبسبب الرافضة حدث الشرك وعبادة القبور، وهم أول من بنى عليها المساجد، قاله المصنف رحمه الله، وهو كما قال بلا ريب. وفيه: إشارة إلى خلافة أبي بكر؛ لأن من كانت محبته لشخص أشد، كان أولى به من غيره، وقد استخلفه على الصلاة بالناس، وغضب صلى الله عليه وسلم لما قيل: يصلي بهم عمر، وذلك في مرضه الذي توفى فيه صلى الله عليه وسلم. واسم أبي بكر: عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة. الصديق الأكبر، خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأفضل الصحابة بإجماع من يعتد بقوله من أهل العلم. مات في جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة، وله ثلاث وستون سنة رضي الله عنه].

معنى قوله: (كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد)

معنى قوله: (كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد) قوله: (ألا) حرف استفتاح، (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد) الحديث قال الخطابي: وإنكار النبي صلى الله عليه وسلم صنيعهم هذا مخرج على وجهين: أحدهما: أنهم يسجدون لقبور الأنبياء تعظيماً. الثاني: أنهم يجوزون الصلاة في مدافن الأنبياء والتوجه إليها حالة الصلاة، نظراً منهم بذلك إلى عبادة الله، والمبالغة في تعظيم الأنبياء، والأول: هو الشرك الجلي، والثاني: الخفي؛ فلذلك استحقوا اللعن] وقد عرفنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرص على سلامة عقيدة أمته من أن يدخلها شيء يكون حارفاً لها أو صارفاً لها عن أن تكون العبادة كلها لله جل وعلا، لأن هذه هي المهمة التي أرسل بها صلوات الله وسلامه عليه؛ ليُعبد الله وحده ويكون الدين كله لله، ولا يكون الدين موزعاً بين الله وبين خلقه، وإنما يخلص من الشوائب كلها، ويكون لله وحده، وليس فيه شيء للأنبياء، ولا للملائكة، ولا للجن، ولا لمخلوق من المخلوقات؛ لأن هذا حق خالص لله جل وعلا، الذي لا يقبل من العبد عملاً إلا إذا كان خالصاً له، فحرص صلوات الله وسلامه عليه على التنبيه على ذلك حتى في آخر لحظاته من الدنيا، وكان يكرر هذا ويبينه، ويلعن اليهود والنصارى؛ لأنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد؛ ليبين أن من فعل ذلك من أمته فهو ملعون مثلهم، أو أشد؛ لأن من خالف أفضل الرسل، وخير الأديان يكون عذابه أفظع وأعظم، وهذا مقرر في كتاب الله، وفي قصص الأنبياء، وكذلك في أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال في هذا الحديث: (ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذون القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك).

أقسام المحبة

أقسام المحبة وقبل هذا بيّن صلوات الله وسلامه عليه أن ربه اتخذه خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، والخلة: هي نهاية المحبة التي ليس بعدها محبة؛ لأن المحبة درجات الواحدة فوق الأخرى، فأولها العلاقة، ثم الصبابة، ثم ترتقي شيئاً فشيئاً حتى تصل إلى الخلة، غير أنه ينبغي أن يعلم أن المحبة تنقسم إلى قسمين: محبة عامة مشتركة بين الخلق، مثل: محبة الألفة، ومحبة الحنو والشفقة، ومحبة التوقير والتقدير، فالأولى: مثل محبة الزملاء الذين يكون بعضهم مع بعض، أو المتصاحبين، فهذه المحبة تحصل حتى بين الحيوانات؛ لأنها أمر طبيعي. والثاني: مثل محبة الولد الصغير والضعيف، فهي محبة شفقة وحنو ورحمة. والثالث: مثل محبة الوالد وهي محبة التقدير والتوقير، وكذلك محبة الطبيعة، مثل: محبة الجائع للطعام، والظمآن للماء، وما أشبه ذلك، فهذه وما أشبهها مشتركة بين الناس وليس فيها شيء من العبادة، ولا ضير على من وقعت منه. القسم الثاني: محبة خاصة وهي المحبة التي تتضمن الذل والخضوع والتعظيم، وهذه لا يجوز أن تكون إلا لله جل وعلا؛ لأنها عبادة.

محبة الله لعباده فضل منه على عباده

محبة الله لعباده فضل منه على عباده محبة الرب جل وعلا لعبده شيء لا نعقل كيفيته، ولكن نعرف أنها على خلاف ما للمخلوق؛ لأن الله جل وعلا هو الغني بذاته عن كل ما سواه، ولا يحتاج لأحد من الخلق، وكل الخلق لو كانوا على أفجر قلب رجل منهم ما ضر ذلك الله جل وعلا، ولا نقص من ملكه شيء، ولو كانوا على أتقى قلب رجل واحد منهم ما زاد ذلك في ملك الله شيئاً، فهو جل وعلا الكامل بذاته وصفاته، المستغني بذلك عن كل ما سواه، فإذا حب عبده فليس حبه لأجل الحاجة تعالى وتقدس، بخلاف العبد، فإن عبادته لربه ضرورية لا يستغني عنها أبداً، وإن انفك عنها فإن ذلك علامة على عذابه وشقائه الأبدي الذي لا يفارقه أبداً. فاتخاذ الرب جل وعلا عبديه ورسوليه إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم خليلين هذا إكرام لهما، وإعلاء لشأنهما، وليس لأن الله جل وعلا بحاجة إليهما، بل هو الغني بذاته عن كل ما سواه، فهو مجرد كرم وجود، وفضل تفضل به عليهما. وكذلك محبته لعباده المؤمنين، ومحبته للتائبين، ومحبته للمجاهدين في سبيله، ومحبته للمتطهرين، ومحبته للصادقين والصابرين، كل ذلك مجرد كرم وفضل وجود وإحسان، وإلا فهو جل وعلا لا تزيده طاعة الطائعين. وكثرتهم شيئاً، ولا تنقصه معصية العاصيين وكثرتهم شيئاً، كما في الحديث القدسي حديث أبي ذر رضي الله عنه الذي في صحيح مسلم وفيه أنه جل وعلا يقول: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته محرماً بينكم؛ فلا تظالموا -إلى أن قال: - ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانو على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل واحد منكم مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر) في آن واحد! في مقام واحد! لو أعطاهم كلهم، من أولهم إلى آخرهم، إنسهم وجنهم، حسب طلباتهم وما تنتهي إليه أمنياتهم، ما نقص ذلك مما عنده شيء تعالى وتقدس. والمقصود أن هذه الخلة التي اتخذها الله ليست إلا لإبراهيم ومحمد فقط صلوات الله وسلامه عليهما، فلم يتخذ من الناس خليلاً غيرهما. وليس معنى ذلك أن خلة الله على وفق ما يتصوره الإنسان مما يجده من نفسه، أو يعلمه من غيره من الخلق، فصفات الله لا تشبه صفات الخلق، كما أنه جل وعلا لا يشبه خلقه، بل يجب أن يعلم أن الله غني كريم جواد، وأنه ليس بحاجة لأحد، فهو غني عن خلقه، وكونه اتخذهما خليلين هو مجرد إكرام لهما، وإحسان إليهما، وكذلك كونه يحب العبد التائب، ليس ذلك لأنه يحتاج إلى توبته، وإنما هو مجرد فضل وجود، مع أنه جل وعلا شديد العقاب، ولهذا يقول جل وعلا لرسوله: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر:49 - 50]، فليس هناك أحد أشد عذاباً من الله، فإذا عذب عبده فلا يبالي به، فقد يرميه في جهنم ولا يبالي، ولهذا كان أحد السلف يكثر من الاجتهاد في العبادة ويبكي، فقيل له في ذلك، فقال: أخاف أن يرميني في جهنم ولا يبالي. فالرب جل وعلا غني عن جميع الخلق، فإذا أحب التائب فلكرمه وجوده، وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً لفرح الله عند توبة عبده -وهذا لا يستطيع أهل البدع سماعه فضلاً عن أن يقولوا به؛ لأنهم يحسبون أن هذا تشبيه؛ فهم لم يعرفوا من صفات الله جل وعلا إلا ما عرفوا من أنفسهم، حيث شبهوا أولاً، فكان التشبيه مستقراً في نفوسهم، ثم حملهم هذا التشبيه على نفي صفات الله جل وعلا- فقال صلوات الله وسلامه عليه: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده التائب، من أحدكم يضل راحلته في الأرض المهلكة، عليها متاعه فيطلبها فلا يجدها، فييأس من وجودها، فيأوي إلى شجرة ويجلس تحت ظلها ينتظر الموت قد أيس من الحياة، فيضع رأسه لانتظار الموت، فبينما هو كذلك إذ راحلته واقفة على رأسه، فيأخذ بخطامها ويقول: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح) (الله أشد فرحاً لتوبة عبده التائب من هذا)، هل لأنه يحتاج إلى طاعة العبد أو إلى توبته؟! كلا؛ ولكن لكرمه وجوده، ولهذا لا يدخل أحداً النار إلا إذا أعذر منه، فهو يدعو خلقه -بفضله وجوده وإكرامه- ولكنهم يأبون، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (كلكم يدخل الجنة إلا من أبى -فهناك من يدعى إلى الجنة، ويقال له: تعال ادخل الجنة، ويقول لا! لا أريدها! - قالوا: ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى). وكثير من الخلق يستبعد يوم القيامة؛ لأنهم لم يشاهدوا ما أخبرهم الله جل وعلا به، بل كثير منهم لا يؤمن بالله؛ لأنه لا يؤمن إلا بالمحسوسات المشاهدات، وقد وجد نفسه بين أمور اعتيادية، ليل يأتي ونهار يعقبه، وهو يأكل ويشرب إلخ، فتصور أن هذه الأمور تتوقف عند هذا الحد، وأنه ليس بعد ذلك شيء.

فوائد إخباره صلى الله عليه وسلم بخلة الله له

فوائد إخباره صلى الله عليه وسلم بخلة الله له والخلة التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم فيها فوائد: الفائدة الأولى: جواز إخبار الإنسان عما لديه من الفضل والرفعة إذا كان ذلك لا يعلم إلا من جهته، وكان فيه مصلحة، مع أننا لا نقيس غير الرسول صلى الله عليه وسلم بالرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا يفهم من ذلك؛ لأنه قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً). الثانية: براءته صلوات الله وسلامه عليه أن يكون أحد من الخلق خليلاً له، فإنه قال: (إني أبرأ إلى الله أن يكون أحد منكم خليلاً لي، فإن الله اتخذني خليلاً) والبراءة معناها: الخلاص من الشيء نهائياً؛ لئلا يكون داخلاً فيه أو عنده منه شيء، فهو يتخلص من ذلك ويبتعد عنه، هذا معنى البراءة. الأمر الثالث: فضل أبي بكر الصديق، وأنه أفضل الصحابة على الإطلاق، حيث قال: (ولو كنت متخذاً -من الناس خليلاً - منكم خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً) ولكن الذي منع هذا هو كون الرب جل وعلا اتخذه خليل. الأمر الرابع: وفيه الإشارة إلى خلافة أبي بكر الصديق وهذا أمر واضح؛ لأن الفضل فيه ظاهر، ومن كان أفضل. وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرب، فهو الذي ينبغي أن يكون خليفة له، والخلافة ليست هي الملك، الخلافة خلافة النبوة، فالخليفة هو الذي يخلف من خلفه لتنفيذ أوامره، وإبلاغ ما كان يبلغه فقط؛ ولهذا خرج أبو بكر من الدنيا أفقر مما دخل في الخلافة بكثير، فما كان عنده شيء لما مات، كان عنده إداوة وقدح فبعث بهما إلى عمر، فلما رآهما عمر بكى وقال: لقد كلفني الأمور الصعبة؛ ولهذا كان عمر رضي الله عنه يخطب الناس وفي درعه ما يقرب من ثلاثين رقعة، ولا يستعمل الأموال تأتيه، بل كان يقدم لنفسه ولأهله الطعام الناشف من شعير وما أشبه ذلك، ويجعل الأطعمة الطيبة للمسلمين. خرج يوماً من الأيام يعس في الليل حول المدينة بنفسه، فوجد خباءً فيه صبيان يتضاغون، وعندهم رجل يسكتهم ويقول: إن أمير المؤمنين مسئول عنكم؛ لأنه ليس لكم عشاء، فجاء إليه وقال: ما شأنك؟ قال: جئت من البر فلم أجد من يأويني ولا من يعشيني فقال: من المسئول عنك؟ قال: عمر، قال: وما يدري عمر؟ قال: عجيب! يتولى أمر المسلمين ولا يدري عني؟! فذهب عمر وحمل على ظهره دقيقاً وما يحتاج إليه، فجاء به إلى الرجل، وذهب يبحث عن الحطب، فأوقد القدر، فصار يطبخ وينفخ في النار، ويطير الرماد من جوانب لحيته والرجل لا يعرفه، حتى أنضج الطعام وقدمه للصبية وأكلوا وناموا، ثم بعد ذلك أعطاه ما يحتاج إليه وذهب، ثم عُلم به وقيل له: كيف تصنع هذا ولم تأمر غيرك؟! قال: غيري لا يتحمل وزري وذنبي، ولو عثرت بغلة في العراق في الطريق لخفت أن الله يسألني عن ذلك، لماذا لم تسوِّ لها الطريق؟! إلى هذا الحد كانوا يفعلون؛ لأنهم خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم، ليسوا ملوكاً. فإذا كان أبو بكر أفضلهم فهو أولاهم بالخلافة، مع أن هناك أدلة واضحة جلية تدل على خلافته، ولهذا كثير من العلماء يقول: إن خلافته منصوص عليها نصاً، وقد جاء في مسند الإمام أحمد وغيره عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ادعي لي أخاك وأباك لأكتب لهما كتاباً؛ لئلا يقول قائل أو يجترئ مجترئ، ثم قال: يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر) فترك الكتابة، وهذا صريح وواضح، فقد قاله في مرض موته صلى الله عليه وسلم. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم للمرأة التي جاءت تطلب منه حاجة: (ائتيني يوم كذا قالت: أرأيت إن لم أجدك؟ قال: إن لم تجديني فأتي أبا بكر) إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة الواضحة. وفيه أيضاً: أن الخلة غير المحبة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يحب عائشة، ويحب أباها، ويحب معاذ، ويحب عمر، ويحب أناساً كثيرين من صحابته، ولكن بعضهم أحب من بعض، ففي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص رضي الله عنه: أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، قال: من الرجال؟ قال: أبوها، قال: ثم من؟ قال: ثم عمر فسكت) ولو زاد لزاد، وفي سنن الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم قال لـ معاذ: (يا معاذ! إني أحبك، فلا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه يحب الحسن والحسين وأنهما ريحانته من الدنيا، وأخبر أن علي بن أبي طالب يحبه الله ورسوله، والأحاديث في هذا كثيرة، أما الخلة فقد تبرأ أن يكون أحد منهم خليلاً له، فدل على بطلان من يقول: إن المحبة أكمل من الخلة كما ذكر المؤلف. والحديث يدل -أيضاً- على أمور منها:

نهى النبي عن اتخاذ القبور مساجد

نهى النبي عن اتخاذ القبور مساجد الأمر الأول: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد اهتم اهتماماً بالغاً في تصفية الدين، وتخليصه من شوائب الشرك، والتعلقات بغير الله، فنهى أن تتخذ المساجد على القبور. الأمر الثاني: أن اتخاذ المساجد على القبور من دواعي الشرك ووسائله، وأن فاعله عاص لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وليس معنى اتخاذ القبور مساجد أن تبنى عليها المساجد وتشيد وفقط، وإنما كل ما صلى فيه الإنسان سمي مسجداً، كما قال صلى الله عليه وسلم: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيّ رجل من أمتي أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره) فالأرض كلها مسجد، والمسجد اسم لما يسجد فيه، ولهذا كل أماكن الصلاة التي صلى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم سميت مساجد، وقد كان عبد الله بن عمر يتتبعها ويصلي فيها، ومن فعل ابن عمر هذا عرفت الأماكن التي صلى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أنه لم يوافقه على هذا أحد من الصحابة بل خالفوه، وممن خالفه أبوه، بل كلهم، ولا يعلم في الصحابة أحد سلك هذا المسلك إلا عبد الله بن عمر مع أنه ليس قصده ما يقصده الذين يتعلقون بالبقع والأماكن للتبرك فيها، ليس هذا مقصده، إنما مقصده التشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا كان يفعل الأفعال التي يفعلها، حتى إنه لما انصرف من عرفات، ووصل إلى الشجرة التي بال عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل فبال في ذلك المكان، وتوضأ وصب فضل وضوئه في قلب الشجرة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، ومثل هذا ليس تعبداً، ولكن مبالغة من عبد الله بن عمر في التشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم. أما الذين يعتنون بالآثار؛ لأجل البركة؛ ولأجل التعلق بها، فإنهم لا يفعلون ما يفعله عبد الله بن عمر بل إن قلوبهم متعلقة بغير الله، متعلقة بهذه البقع وهذه الأماكن، ويطلبون منها البركة والخير، والبركة والخير لن يكونا إلا باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يكون إلا بطاعته وعبادة الله وحده، وأن يكون الدين كله لله، ليس فيه شيء لغيره جل وعلا. الأمر الثالث: أن اتخاذ المساجد على القبور ملعون فاعله، واللعن: هو الطرد عن الرحمة ومظانها، فمن لعنه الله ورسوله فهو المبعد عن كل خير، والرسول صلى الله عليه وسلم يلعن من يستحق اللعنة، وإذا لعن شيئاً فأقل ما يقال: إن هذا يدل على أن هذا من كبائر الذنوب. الأمر الرابع: أن ما فعلته اليهود والنصارى وذموا عليه -وجاء ذكر ذلك في كتاب الله وسنة رسوله- فإن ذلك من باب التحذير أن نقع فيما وقعوا فيه، وأن القصص التي قصت علينا في القرآن من قصص الأنبياء وغيرهم أننا معنيون، وأن الذي وقع لهم من العذاب -إذا فعلنا فعلهم- سيقع لنا، فهذا هو المقصود بذكر حال من كان قبلنا، وأما ما ذكره الخطابي رحمه الله، أن هذا يقع منهم على وجهين: أحدهما: أنهم يسجدون لقبور أنبيائهم، ويكون هذا هو الشرك الجلي. والثاني: أنهم يتخذونها معابد، وأن هذا هو الشرك الخفي، فليس هذا هو المقصود في الحديث، والمقصود أهم من هذا وأعم، وهو النهي عن أن يكون عندها تعبد مطلقاً، لا بسجود ولا بجعلها أماكن عبادة، فلا يفعل عندها ما يفعل عند المساجد من ذكر الله وتلاوة القرآن، والصلاة، وإظهارالشعائر الدينية، والتعبد لله عامة، هذا هو المقصود، وأن من فعل شيئاً من ذلك فقد حاد الله ورسوله، وصار مخالفاً مخالفة صريحة، ولا يجوز أن نقصره على السجود أو الركوع، بل هو عام مطلق. [قوله: (فقد نهى عنه في آخر حياته) أي: كما في حديث جندب، وهذا من كلام شيخ الإسلام وكذا ما بعده. قوله: (ثم إنه لعن -وهو في السياق- من فعله) كما في حديث عائشة. قلت: فكيف يسوغ بعد هذا التغليظ من سيد المرسلين أن تعظم القبور ويبنى عليها، ويصلى عندها وإليها؟! هذا أعظم مشاقة ومحادة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم لو كانوا يعقلون. قوله: (الصلاة عندها من ذلك، وإن لم يبن مسجد) أي: من اتخاذها مساجد ملعون فاعله، وهذا يقتضي تحريم الصلاة عند القبور وإليها.

الأرض مسجد وطهور إلا ما استثني

الأرض مسجد وطهور إلا ما استثني قال الشارح: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعاً: (الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام) رواه أحمد وأهل السنن وصححه ابن حبان والحاكم]. كون الأرض كلها مسجداً هذا أمر متفق عليه، وليس معنى ذلك أنها مباني تبنى، بل كلها يصح الصلاة فيها، وكل ما صحت الصلاة فيه فهو مسجد، وهذا من خصائص هذه الأمة التي أعطاها الله جل وعلا لنبيه إكراماً وتفضيلاً له على غيره، وإلا فكانت الأمم قبلنا لا يصلون إلا في أماكن معينة، في البيع والكنائس، يصلون فيها فقط، ولا يصلون في جميع الأرض، كما كانوا لا يصلون إلا بالطهارة ولا تكون إلا باستخدام الماء فقط، وتفضل الله جل وعلا على هذه الأمة وخصها بخصائص، كما قال صلى الله عليه وسلم: (أعطيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي: أحلت لي الغنائم، ونصرت بالرعب مسيرة شهر) وليس هذا خاص به صلوات الله وسلامه عليه، بل المقصود هو وأمته. قوله: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأي رجل أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره) في أي مكان كان. وقوله: (أعطيت الشفاعة) والمقصود بالشفاعة: ما سبق ذكره من أنه صلوات الله وسلامه عليه يشفع للناس كلهم في الموقف؛ ليفصل الله بينهم ويحاسبهم، وهذه له فقط وخاص به. وقوله: (كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة) فهذه خمس خصائص، وله غيرها من الخصائص صلوات الله وسلامه عليه، ولكن هذه ظاهرة جلية، كان يذكرها وينشرها في الأمة. وقد تكاثرت الأحاديث في النهي عن الصلاة في المقابر وسواء كانت القبور كثيرة أو قليلة فالحكم واحد وهو عدم جواز الصلاة عندها، واستثني من البقاع التي يجوز فيها الصلاة الحمام، وهو: محل التحمم، وقيل له: حمام؛ لأن الغالب أن يكون الماء فيه حاراً، وإنما نهي عن الصلاة فيه؛ لأنه محل لكشف العورات، ولقضاء الحاجات وما أشبه ذلك. وكذلك المجزرة التي تذبح فيها البهائم، فتوجد فيها الدماء والقاذورات وغيرها، وكذلك قارعة الطريق: كالشوارع التي يسير عليها الناس والسيارات، لا يجوز أن يصلى فيها، فهذه الأماكن خصت من بين سائر الأرض، وهناك أمر خامس استثناه الفقهاء -مع أن وقوعه أندر من النادر- وهو الصلاة على ظهر بيت الله، فلا تصح صلاة الفريضة على ظهر الكعبة؛ لأن المصلي لا بد أن يستقبل شيئاً من البيت، والذي يكون على ظهر الكعبة لا يستقبل شيئاً منها، وهذا يدلنا على استقصاء العلماء، وأنهم لم يتركوا شيئاً من الأمور التي يمكن أن يحتاج إليها الإنسان إلا وبينوا حكمه. فهذه هي الأماكن التي لا تصح الصلاة فيها، وهي المستثناة من الأرض، أما ما عدا ذلك فالصلاة فيها جائزة ولا يتعين أن يكون هناك فراش، ولا يتعين أن يكون هناك بناء ولا غير ذلك، فإذا أدركت الإنسان صلاته صلى، سواء على أرض مصمتة أو مبلطة أو أرض فيها نبات، أو ليس فيها نبات، أو على جبل، أو في وادي، أو سبخة، أو رمل، أو غير ذلك، ما لم يكن هناك نجاسات، فإذا رأى النجاسة المعينة فإنه لا يجوز أن يصلي عليه، أما إذا لم يشاهد النجاسة وكان يظن وجودها فهذا لا يضر، فالأرض كلها طهور، والصلاة جائزة بنص الحديث. أما الأرض المغصوبة فلا تصح الصلاة فيها؛ لأنها مغصوبة، لا لأنها أرض، بل لأنها ملك للغير، وملك الغير لا يجوز التصرف فيه، فالنهي عن الصلاة فيها من هذه الناحية.

علة النهي عن الصلاة في المقابر

علة النهي عن الصلاة في المقابر قال الشارح رحمه الله: [قال ابن القيم رحمه الله: وبالجملة فمن له معرفة بالشرك وأسبابه وذرائعه، وفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاصده؛ جزم جزماً لا يحتمل النقيض أن هذه المبالغة واللعن والنهي بصيغتين: صيغة (لا تفعلوا) وصيغة (إني أنهاكم عن ذلك) ليس لأجل النجاسة، بل هو لأجل نجاسة الشرك اللاحقة لمن عصاه وارتكب ما عنه نهاه، واتبع هواه، ولم يخش ربه ومولاه، وقل نصيبه أو عدم من لا إله إلا الله، فإن هذا وأمثاله من النبي صلى الله عليه وسلم صيانة لحمى التوحيد أن يلحقه الشرك ويغشاه، وتجريد له وغضب لربه أن يعدل به سواه، فأبى المشركون إلا معصية لأمره، وارتكاباً لنهيه، وغرهم الشيطان بأن هذا تعظيم لقبور المشايخ والصالحين، وكلما كنتم لها أشد تعظيماً وأشد فيهم غلواً كنتم بقربهم أسعد، ومن أعدائهم أبعد، ولعمر الله! من هذا الباب دخل الشيطان على عباد يغوث ويعوق ونسراً، ودخل على عباد الأصنام منذ كانوا إلى يوم القيامة، فجمع المشركون بين الغلو فيهم والطعن في طريقتهم، فهدى الله أهل التوحيد لسلوك طريقتهم، وأنزلهم منازلهم التي أنزلهم الله إياها: من العبودية، وسلب خصائص الإلهية عنهم. قال الشارح رحمه الله تعالى: وممن علل بخوف الفتنة بالشرك: الإمام الشافعي وأبو بكر الأثرم وأبو محمد المقدسي وشيخ الإسلام وغيرهم رحمهم الله وهو الحق الذي لا ريب فيه] يقصد: أن بعض الفقهاء المتأخرين علل المنع من الصلاة في المقابر بأنها نجسة؛ لأن فيها صديد الموتى وما أشبه ذلك، وهذا تعليل عليل بل هو ميت؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قصد بذلك سد الذرائع؛ حتى لا تكون العبادة لغير الله تعالى، ولكن الذين لم يفهموا هذا، وكان عندهم من الأمور العالقة من حب التعلق بغير الله، وصرف شيء من العبادة لهم، قالوا هذا التعليل؛ حتى يصح لهم ما أرادوه من جواز التعبد عند المقابر، ولكن إذا سلم بالتعليل فكيف يسلم بالنصوص. ومن المعلوم أن الألفاظ وضعت للمعاني التي وضعت لها، وأن الإنسان يجب عليه أن يتعرف على مراد الله ورسوله، فإذا تبين مراهما فلا يجوز أن يعدل عنه بقول أحد من الناس، ولكن: ليس كل من قال قولاً من العلماء يؤاخذ به دون النظر إلى قصده؛ لأنه قد يخفى عليه المراد، فيقول قولاً -وعنده من النية الحسنة ما يثاب عليها- ويكون في قوله ذلك مخطئاً، ولا يجوز أن يتابع على هذا، ولذلك فإن الذي يعلم مراد الرسول صلى الله عليه وسلم يتعين عليه أن يحذر من ذلك وينهى؛ لأن النصيحة لله ولكتابه ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولعامة المسلمين، ولأئمتهم أمر واجب، وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم النصيحة ديناً، فقال: (الدين النصيحة، الدين النصيحة الدين النصيحة، فقيل لمن يا رسول الله؟ لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)، وأئمتهم هم قادتهم، والنصيحة: مأخوذة من النصح وهو: الصفاء، أن تبذل لمن تنصح صافي قولك، وصافي ودك، وصافي محبتك، وهذه من صفات المؤمنين، فالمؤمن يود لأخيه ما يود لنفسه، فمن اطلع على شيء من أمور الشرع يتعين عليه إفشاء ذلك، وإظهاره والدعوة إليه، ومن أعظم الأمور التي ينبغي أن يتناصح الناس فيها: العبادات، والتعلق بغير الله جل وعلا: إما أن يكون مفسداً للعبادة نهائياً، أو يكون منقصاً لها ومذهب لكمالها، أما إذا كان مفسداً لها فمعنى ذلك أنه شرك، وأما إذا ذهب بكمالها ونقصها فهو من البدع فقط. والبدعة مردودة على صاحبها، ولكن لا يكون المبتدع كالمشرك، وإذا مات على بدعته فإنه يخاف عليه، ولكن لا يكون خارجاً من الإسلام إذا كانت البدعة ليست مخرجة من الدين، بل له حكم المسلمين، بخلاف المشرك الذي مات وهو يعبد مع الله غيره، ويجعل لغير الله شيئاً من العبادة التي أمر الله جل وعلا بإخلاصها له، فإن هذا غير مغفور له، نسأل الله العافية. فتعليلهم: بأنها مظنة للنجاسة غير صحيح، والمسلم لا ينجس حياً ولا ميتاً، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن المسلم لا ينجس)، وأما كونه يغسل إذا مات فليس للنجاسة، وإنما ليستقبل داراً جديدة بطهارة كاملة، وإن كان غير مكلف ولكن الشرع يجب أن يتبع. قوله: (فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجداً)، أي: لما علموا من تشديده في ذلك، وتغليظه النهي عنه، ولعن من فعله. قوله: (وكل موضع قصدت الصلاة فيه فقد اتخذ مسجداً)، أي: وإن لم يبن عليه مسجد، بل كل موضع يصلى فيه يسمى مسجداً، يعني: وإن لم يقصد بذلك اتخاذ ذلك المكان مسجداً، فإذا أوقع الصلاة عنده -من غير أن يقصد ذلك الموضع بخصوصه- صار بفعل الصلاة فيه مسجداً. قال الشارح رحمه الله: [قوله: كما قال صلى الله عليه وسلم: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) أي: فسمى الأرض مسجداً، تجوز الصلاة في كل بقعة منها، إلا ما استثني من المواضع التي لا تجوز الصلاة فيها كالمقبرة ونحوها. قال البغوي في شرح السنة: أراد أن أهل الكتاب لم تبح لهم الصلاة إلا في بيعهم وكنائسهم، فأباح الله لهذه الأمة الصلاة حيث كانوا؛ تخفيفاً عليهم وتيسيراً، ثم خص من جميع المواضع: الحمام والمقبرة والمكان النجس. انتهى].

شرح فتح المجيد [62]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [62] النهي عن الصلاة عند القبور لم يكن لأجل النجاسة، وإنما لأنها وسيلة إلى الشرك، يدل على ذلك: النهي عن الصلاة عند قبور الأنبياء، على الرغم من أن أجساد الأنبياء طاهرة ولا تتغير. وليس لأحد أراد أن يجيز الصلاة عند القبور أن يحتج بوجود قبره صلى الله عليه وسلم في المسجد النبوي؛ لأنه عليه السلام قد حذر من هذا، ثم إنه لم يدفن في المسجد، وإنما دفن خارجه في حجرة عائشة.

من شرار الناس من يتخذون القبور مساجد

من شرار الناس من يتخذون القبور مساجد قال المصنف رحمه الله: [قوله: ولـ أحمد بسند جيد عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً: (إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد) ورواه ابن حبان في صحيحه]. قال الشارح: [قوله: (إن من شرار الناس) بكسر الشين، جمع شرير. قوله: (من تدركهم الساعة وهم أحياء) أي: مقدمتها كخروج الدابة وطلوع الشمس من مغربها، وبعد ذلك ينفخ في الصور نفخة الفزع. قوله: (والذين يتخذون القبور مساجد) معطوف على خبر (إن) في محل نصب على نية تكرار العامل، أي: وإن من شرار الناس الذين يتخذون القبور مساجد، أي: بالصلاة عندها وإليها، وبناء المساجد عليها، وتقدم في الأحاديث الصحيحة أن هذا من عمل اليهود والنصارى، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لعنهم على ذلك، تحذيراً للأمة أن يفعلوا مع نبيهم وصالحيهم مثل اليهود والنصارى، فما رفع أكثرهم بذلك رأساً، بل اعتقدوا أن هذا الأمر قربة إلى الله، وهو مما يبعدهم عن الله ويطردهم عن رحمته ومغفرته. والعجب أن أكثر من يدعي العلم ممن هو من هذه الأمة لا ينكرون ذلك، بل ربما استحسنوه ورغبوا في فعله، فلقد اشتدت غربة الإسلام وعاد المعروف منكراً والمنكر معروفاً والسنة بدعة والبدعة سنة، نشأ على هذا الصغير وهرم عليه الكبير. ]

أقوال أهل العلم في النهي عن بناء المساجد على القبور

أقوال أهل العلم في النهي عن بناء المساجد على القبور قال الشارح: [قال شيخ الإسلام رحمه الله: أما بناء المساجد على القبور فقد صرح عامة الطوائف بالنهي عنه، متابعة للأحاديث الصحيحة، وصرح أصحابنا وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي بتحريمه، قال: ولا ريب في القطع بتحريمه، ثم ذكر الأحاديث في ذلك إلى أن قال: وهذه المساجد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين أو الملوك وغيرهم تتعين إزالتها بهدم أو غيره، هذا مما لا أعلم فيه خلافاً بين العلماء المعروفين. وقال ابن القيم رحمه الله: يجب هدم القباب التي بنيت على القبور؛ لأنها أسست على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد أفتى جماعة من الشافعية بهدم ما في القرافة من الأبنية منهم ابن الجميزي والظهير التزمنتي وغيرهما. وقال القاضي ابن كج: ولا يجوز أن تجصص القبور، ولا أن يبنى عليها قباب ولا غير قباب، والوصية بها باطلة. وقال الأذرعي: وأما بطلان الوصية ببناء القباب وغيرها من الأبنية وإنفاق الأموال الكثيرة فلا ريب في تحريمه. وقال القرطبي في حديث جابر رضي الله عنه: (نهى أن يجصص القبر أو يينى عليه)، وبظاهر هذا الحديث قال مالك: وكره البناء والجص على القبور. وقد أجازه غيره، وهذا الحديث حجة عليه. وقال ابن رشد: كره مالك البناء على القبر وجعل البلاطة المكتوبة، وهو من بدع أهل الطول أحدثوه إرادة الفخر والمباهاة والسمعة، وهو مما لا اختلاف فيه. وقال الزيلعي في شرح الكنز: ويكره أن يبني على القبر. وذكر قاضي خان: أنه لا يجصص القبر ولا يبني عليه لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه نهى عن التجصيص والبناء فوق القبر) والمراد بالكراهة عند الحنفية رحمهم الله كراهة التحريم. وقد ذكر ذلك ابن نجيم في شرح الكنز. وقال الشافعي رحمه الله: أكره أن يعظم مخلوق حتى يجعل قبره مسجداً مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده من الناس. وكلام الشافعي رحمه الله يبين أن مراده بالكراهة كراهة التحريم]. وهذا كثير في كلام العلماء ومنهم المتأخرين حتى قال ابن حجر الهيتمي -وليس ابن حجر العسقلاني - صاحب الزواجر، وهو متأخر وهو ممن صادم دعوة الشيخ محمد وقام ضدها، وكان يكفر ابن تيمية! وله كتب في هذا، ومع ذلك يقول: يجب إزالة القباب وينبغي أن يُبدأ بقبة الشافعي. هكذا لماذا يقول هذا؟ لأنه شافعي رحمه الله؛ ولأن هذا مجمع على أنه ضلال. قال الشارح رحمه الله تعالى: [وجزم النووي رحمه الله في شرح المهذب بتحريم البناء مطلقاً، وذكر في شرح مسلم نحوه أيضا. وقال أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة إمام الحنابلة صاحب المصنفات الكبار كالمغني والكافي وغيرهما رحمه الله تعالى: ولا يجوز اتخاذ المساجد على القبور؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله اليهود والنصارى) الحديث وقد روينا أن ابتداء عبادة الأصنام: تعظيم الأموات واتخاذ صورهم والتمسح بها والصلاة عندها. انتهى].

النهي عن الصلاة عند القبور سدا لوسائل الشرك لا لأجل النجاسة

النهي عن الصلاة عند القبور سداً لوسائل الشرك لا لأجل النجاسة قال الشارح: [قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وأما المقبرة فلا فرق فيها بين الجديدة والعتقية انقلبت تربتها أو لم تنقلب، ولا فرق بين أن يكون بينه وبين الأرض حائل أو لا؛ لعموم الاسم وعموم العلة؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ومعلوم أن قبور الأنبياء لا تنجس. وبالجملة فمن علل النهي عن الصلاة في المقبرة بنجاسة التربة خاصة؛ فهو بعيد عن مقصود النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لا يخلو أن يكون القبر قد بنى عليه مسجد، فلا يصلى في هذا المسجد، سواء صلى خلف القبر أو أمامه بغير خلاف في المذهب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك) وخص قبور الأنبياء؛ لأن عكوف الناس على قبورهم أعظم، واتخاذها مساجد أشد. وكذلك إن لم يكن بني عليه مسجد؛ فهذا قد ارتكب حقيقة المفسدة التي كان النهي عن الصلاة عند القبور من أجلها، فإن كل مكان صلي فيه يسمى مسجداً، كما قال صلى الله عليه وسلم: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) وإن كان موضع قبر أو قبرين]. الأئمة يقولون بالنهي عن اتخاذ القبور مساجد، وأن الصواب في منع ذلك ما دلت عليه النصوص، وهو خشية أن تكون العبادة لغير الله جل وعلا؛ لأنه من المعلوم أن الافتتان بالقبر يشتد سيما إذا كان قبر نبي، أو قبر ولي، وهذا هو الواقع. وأما التعليل بأن النهي عن اتخاذ القبور مساجد؛ لأن ذلك الموضع مظنة للنجاسة فإن هذا تعليل غير صحيح؛ لأن الصلاة في المقبرة لا تجوز سواء صلى على فراش أو صلى من دون فراش فكل ذلك باطل؛ لأن النهي لأجل القبور، ومن المعلوم أن القبور تدفن في أسفل الأرض، وتسوى عليها الأرض، وتأتي الأمطار وتأتي الرياح والشمس وغير ذلك وكل هذا يطهر النجاسة، واستحالة النجاسة يجعلها طاهرة، وهذا كله لو وجد فإن علة النهي باقية. ثم إنه ليس المقصود أنه لا بد أن تكون على المقابر مساجد مبنية كالمساجد التي يصلي فيها المسلمون، وإنما المقصود أن يسجد الإنسان ويصلي فكل موضع سجود يعد مسجداً. وقد قال بعض الذين يحادون رسول الله صلى الله عليه وسلم محادة ظاهرة: إن المقصود باتخاذها مساجد أن تضع جبهتك على القبر أما إذا سجدت خلفه أو أمامه أو عن يمينه أو عن شماله فلا بأس! وهذه محادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس المقصود أنه يضع جبهته على القبر، فهذا كذب متعمد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعلوم جرم من يفعل ذلك، والذي يحمله على هذا القول هو التقليد والتعصب فقط، نسأل الله السلامة، والواجب على الإنسان أن يتجرد لله جل وعلا، وأن يكون قصده وعمله لله جل وعلا، وإذا تبين له الحق فيجب عليه أن يقول به وأن يعمل به.

عموم النهي عن الصلاة عند القبور ولا فرق بين قلة القبور وكثرتها وقدمها وحداثتها

عموم النهي عن الصلاة عند القبور ولا فرق بين قلة القبور وكثرتها وقدمها وحداثتها ثم إنه لا فرق بين كون القبور كثيرة أو قليلة حتى وإن كان قبراً واحداً، ثم إذا اتخذت مساجد فسواء خصها أو جعل يتردد إليها أو صلى فيها مرة واحدة فكل ذلك سواء. أما إذا بنيت المساجد على القبور لأجل إقامة صلاة الجماعة فيها والتردد عليها فيجب أن يهدم هذا المسجد؛ لأنه أشد من مسجد الضرار الذي اتخذ لمضارة المسلمين، وهذا لمضارة عباد الله المؤمنين، حيث يدعى فيه إلى الشرك عن طريق التعلق بالموتى، وإذا ما قدر أن المسجد كان مبنياً فأدخل فيه القبر فإنه يجب أن ينبش ويزال، ولا يجوز أن يدفن في المساجد أو بالقرب من المساجد؛ لأن هذا قد يجر إلى التعلق بهم وقصدهم، وقصد هذا المسجد لأنه قرب القبور، والتبرك بها وسؤال أصحابها، أو لأن الدعاء عند القبور ترجى إجابته! وكل هذا من البدع التي هي وسائل إلى الشرك الأكبر. ولا فرق في كون القبر قديماً أو جديداً، ولا فرق بين كونه مسوى بالأرض أو ظاهراً، فلا يجوز أن يتخذ أي قبر مسجداً لعموم النهي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما قال ابن قدامة والنووي: إن مبدأ الشرك من هذا الأمر، ويشير بهذا إلى ما تقدم: أن أول شرك وقع في بني آدم بسبب الغلو في الصالحين، وتصوير صورهم ووضعه في أماكن يرونهم وإذا رأوهم تذكروا عبادتهم واجتهادهم فاجتهدوا كاجتهادهم، ثم فيما بعد عُبدوا، وصاروا يُسألون إلى أن صار التعلق بهم شديداً جداً حيث أصبح بعضهم متمسكاً بعبادتها {وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح:23] ويوصي بعضهم ببعض خوفاً من أن تؤثر دعوة الرسل عليهم! مع أن الرسل جاءوا يدعونهم إلى أن يعبدوا الله وحده، فهذا هو المبدأ، ولهذا السبب جاء النهي.

تخصيص الأنبياء في الحديث لعظم الفتنة بقبورهم

تخصيص الأنبياء في الحديث لعظم الفتنة بقبورهم أما تخصيص قبور الأنبياء في هذا الحديث وأشباهه؛ فلأن الفتنة فيهم أشد؛ لأن النبي ليس كغيره من الأولياء والعلماء، فهو أقرب الخلق إلى الله جل وعلا، ودعوته يرجى استجابتها أكثر من دعوة غيره، ولا سيما إذا علم أنهم أحياء في قبورهم، وعند ذلك يقول: أنا أتوجه إليهم وأدعوهم؛ لأنهم أحياء، وهم يدعون الله لي، فأجعلهم وساطة بيني وبين ربي، وهذا هو شرك المشركين تماماً، ولهذا جاء تأكيد النهي عن الصلاة عند قبور الأنبياء أو قصدها بالدعاء أو الدعاء عندها، أما دعاؤها فمعروف أنه شرك صريح وهو الشرك الأكبر.

بطلان قول من يقول: إن النهي عن الصلاة عند القبور لأجل النجاسة

بطلان قول من يقول: إن النهي عن الصلاة عند القبور لأجل النجاسة [وقال بعض أصحابنا: لا يمنع الصلاة فيها؛ لأنه لا يتناولها اسم المقبرة وليس في كلام أحمد ولا بعض أصحابه هذا الفرق، بل عموم كلامهم يقتضى منع الصلاة عند كل قبر. وقد تقدم عن علي رضي الله عنه أنه قال: (لا أصلي في حمام ولا عند قبر)، فعلى هذا ينبغي أن يكون النهي متناولاً لحريم القبر وفنائه. ولا تجوز الصلاة في مسجد بني في مقبرة، سواء كانت له حيطان تحجز بينه وبين القبور، أو كان مكشوفاً، قال في رواية الأثرم: إذا كان المسجد بين القبور لا يصلى فيه الفريضة، وإن كان بينها وبين المسجد حاجز فرخص أن يصلي فيه على الجنائز ولا يصلى فيه على غير الجنائز، وذكر حديث أبي مرثد عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تصلوا إلى القبور) وقال: إسناده جيد. انتهى. ولو تتبعنا كلام العلماء في ذلك لاحتمل عدة أوراق، فتبين بهذا أن العلماء رحمهم الله بينوا أن علة النهي ما يؤدي إليه ذلك من الغلو فيها وعبادتها من دون الله كما هو الواقع والله المستعان. وقد حدث بعد الأئمة الذين يعتد بقولهم أناس كثر في أبواب العلم بالله اضطرابهم، وغلظ عن معرفة ما بعث الله به رسوله من الهدى والعلم حجابهم، فقيدوا نصوص الكتاب والسنة بقيود أوهنت الانقياد، وغيروا بها ما قصده الرسول صلى الله عليه وسلم بالنهي وأراد، فقال بعضهم: النهي عن البناء على القبور يختص بالمقبرة المسبلة، والنهي عن الصلاة فيها لتنجسها بصديد الموتى، وهذا كله باطل من وجوه: منها: أنه من القول على الله بلا علم، وهو حرام بنص الكتاب. ومنها: أن ما قالوه لا يقتضي لعن فاعله والتغليظ عليه، وما المانع له أن يقول: من صلى في بقعة نجسة فعليه لعنة الله، ويلزم على ما قاله هؤلاء: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين العلة، وأحال الأمة في بيانها على من يجيء بعده صلى الله عليه وسلم وبعد القرون المفضلة والأئمة، وهذا باطل قطعاً وعقلاً وشرعاً، لما يلزم عليه من أن الرسول صلى الله عليه وسلم عجز عن البيان، أو قصر في البلاغ، وهذا من أبطل الباطل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بلغ البلاغ المبين، وقدرته في البيان فوق قدرة كل أحد، فإذا بطل اللازم بطل الملزوم]. وهذا من مقتضى شهادة أن محمداً رسول الله، ومعنى شهادة أن محمداً رسول الله: أن يشهد شهادة يقينية بلا تردد ولا شك أنه رسول من عند الله جاء برسالة الله فبلغها عن الله، وأداها كما أمر الله جل وعلا، وإذا اعتقد أن الرسول ترك شيئاً من الجوانب المهمة أو غير المهمة مما يلزم الناس في دينهم ولم يوضحه ويبينه، فشهادته أن محمداً رسول الله غير سليمة. ومن المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمره الله جل وعلا بالبلاغ، وقال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67]، وإذا لم يبلغ الرسالة ماذا يكون؟ توعده الله جل وعلا، ولهذا كان صلوات الله وسلامه عليه يخاف في بعض الأحيان ويستشهد الناس فيقول: (إنكم مسئولون عني فكيف تقولون؟) فيقولون له: نشهد أنك بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، وقمت بما يلزم، ويستشهد ربه ويقول: يا رب اشهد عليهم، اشهد أنهم شهدوا لي بالبلاغ؛ لأنهم سيسألون يوم القيامة، وهو يسأل كما قال الله جل وعلا: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ * فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [الأعراف:6 - 7]. فلا بد من سؤال المرسل إليه والرسول، ولهذا يقول العلماء: كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون ولا بد إذا وقفوا بين يدي الله: ماذا كنتم تعبدون؟ وبماذا أجبتم المرسلين؟ فلا بد أن يكون ذلك صحيحاً. فإذاً: يكون معنى شهادة أن محمداً رسول الله: أن يشهد الإنسان أن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغ كل ما أمره الله جل وعلا، وقد قال الله جل وعلا في آيات كثيرة لرسوله: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44] وقد بين صلوات الله وسلامه عليه كل ما يلزم، وما ترك شيئاً مما يلزمنا إلا ووضحه وبينه غاية البيان. حتى إنه علمنا آداب الأكل، وآداب قضاء الحاجة، وقال: (إذا أراد أحدكم أن يقضي حاجته فليبعد، ثم ليستتر، ولا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض)، وما أشبه ذلك من الآداب، وكذلك إذا دخل المنزل يقول: باسم الله، نسأل الله خير المولج، وإذا قدم الطعام يسمي، إذا أوى إلى فراشه يقول: كذا وكذا، وهذه أمور لو تركها الإنسان فليس عليه شيء، ومع هذا فقد بينها صلى الله عليه وسلم، فهل بعد هذا يعتقد أنه يترك الشيء الذي إذا فعلناه أثمنا وربما هلكنا؟ لا يجوز هذا أصلاً. كيف يقال: إن العلة في هذا النجاسة! إنما العلة أن تخلص العبادة لله، وأن لا يدخل العبادة شيء مما يشوبها أو يفسدها أو يبطلها نهائياً، ولا يحسبن حاسب أن الذين يقصدون القبور ويتبركون بها ويدعون أصحابها: أنهم كلهم عوام، بل فيهم علماء، وهؤلاء العلماء هم الذين أضروهم في الواقع، ففيهم من يحتج به ويقال: إنه عالم، وهو إما يقر ذلك أو يفعله. وربما تجد من هؤلاء من يدعو الناس إلى عبادته قبل موته، فهذا أحدهم يقول لأصحابه: إذا كانت لأحدكم حاجة بعد موتي فليأت إلى قبري وليسألني! فلا خير فيمن يحول بينه وبين قضاء حوائج أصحابه ذراع من تراب! فهذه دعوة إلى عبادته. وآخر يقول: إذا كان يوم القيامة نصبت خيمتي على النار فلا أدع أحداً يدخلها! ينصب خيمته على النار! نعوذ بالله من هذا الهوس، وما أشبه ذلك من أقاويل أناس ضلوا في عقولهم بعد ضلالهم في أديانهم، أو أناس ضعاف من دعاة الشيطان يدعون إلى عبادة غير الله جل وعلا، وكل هذا مما يلبس على كثير من الناس ويضرهم. ومعلوم أن من فعل ذلك وتبعه عليه من تبعه، أن عليه وزره ووزر من تبعه من غير أن ينقص من أوزار الأتباع شيئاً؛ لأنه لا عذر لأحد في ذلك، فالذي يقتدى به ويؤتم بأقواله هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط، أما غيره من الناس فيجب أن تعرض أقواله على أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن وافقت أقواله قول رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلت؛ لأنها وافقت قول الرسول صلى الله عليه وسلم لا لأنها أقواله. فلا أحد يحكم على كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، فهما الحجة فقط، وبهما يقوم العذر، أما أفعال الناس وأقوالهم وتقدريراتهم، فليست حجة ولن تنجي الإنسان؛ ولهذا ذكر الله جل وعلا في القرآن عن الملأ من الناس -يعني: الكبراء والعلماء والقادة- أن الضعفاء يشكونهم عند الله يقولون: {رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا} [الأعراف:38] فهل ينفعهم؟ كلا، لا ينفعهم.

براءة الشيطان وأتباعه بعضهم من بعض يوم القيامة

براءة الشيطان وأتباعه بعضهم من بعض يوم القيامة بل ذكر الله جل وعلا أنهم يجتمعون فيلوم بعضهم بعضاً ثم يتبرأ بعضهم من بعض، حتى إن الشيطان يأتي أمامهم في جهنم، يقول مقاتل بن سليمان في تفسيره: إنه ينصب له منبر في النار! فيقوم فيهم خطيباً، فيقول: ((إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ)) يعني: من حجة ((إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي)) يعني: ما هي إلا مجرد دعوة دعوتكم فاستجبتم، وليس عندي سلطان ولا عندي حجة أقيمها عليكم {فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم:22] هكذا يقول لهم الشيطان، يقول: ما أنا بمغن عنكم شيئاً، وما أنتم بمغنين عني شيئاً، ما أنا بنافعكم اليوم ولا أنتم تنفعوني، ويقول: إنه يكفر بإجابتهم وبكونهم استجابوا، فيكفر بذلك ويتبرأ منه، وليس هناك أحد يعذر! وإنما يزداد العذاب عليهم لأنهم لا عذر لهم ولا حجة. وكذلك هؤلاء الذين يعبدون القبور ويدعون أصحابها، ويلتجئون إليهم عند الضر وعند الشدائد أو عند الرغبة التي يرغبون فيها أن يهبوا لهم أولاداً أو أموالاً أو غير ذلك كما هو الواقع، وإذا كان يوم القيامة يقال لهم: اذهبوا إلى أولئك الذين كنتم تدعونهم فليجيروكم من عذاب الله! فيقولون: ربنا ضلوا عنا، يعني ذهبوا عنا فلا نجدهم، وربما كذبوا على أنفسهم، وقالوا: والله ربنا ما كنا مشركين، يكذبون على أنفسهم! وهل يخفى على الله شيء؟ {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:5 - 6] يعني: إذا جمعوا جميعاً وقيل لهم: اذهبوا إليهم، تبرءوا منهم وأظهروا لهم العداوة، وقالوا: ما أمرناكم بهذا، ونحن نبرأ إلى الله منكم ومن أعمالكم ونكفر بها وبكم، وصاروا أعداء لهم. فمن كان هذا سعيه وهذا عمله وهذا رجاؤه، فيبدو له يوم القيامة ما لم يكن يحتسب، وهذه هي المصيبة، ثم تتضاعف الحسرات فتكون حسرات مع عذاب ونكال، نسأل الله العافية. فليس هناك طريق ينجي إلا اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فقط، وكل الطرق تؤدي إلى جهنم إلا الطريق التي تكون خلف المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، فمن سلك هذا الطريق نجا وفاز، أما إذا حاد يميناً أو شمالاً مع الطرق الكثيرة فإن هذه الطرق تؤديه إلى النار، نسأل الله العافية.

الأنبياء لا تستحيل أجسادهم ولا تتطرق إليها نجاسة

الأنبياء لا تستحيل أجسادهم ولا تتطرق إليها نجاسة قال: [ويقال أيضا: هذا اللعن والتغليظ الشديد إنما هو فيمن اتخذ قبور الأنبياء مساجد، وجاء في بعض النصوص ما يعم الأنبياء وغيرهم، فلو كانت هذه هي العلة لكانت منتفية في قبور الأنبياء لكون أجسادهم طرية لا يكون لها صديد يمنع من الصلاة عند قبورهم، فإذا كان النهي عن اتخاذ المساجد عند القبور يتناول قبور الأنبياء بالنص علم أن العلة ما ذكره هؤلاء العلماء الذين قد نقلت أقوالهم، والحمد لله على ظهور الحجة وبيان المحجة، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله]. الأنبياء في قبورهم أحياء، فلا تتطرق إليهم الأرض بأكل أجسادهم أو شيئاً منها، ولكن هذه الحياة لا نعرف ما كيفيتها، فهي حياة برزخية غير معروفة، ولكن حياتهم أكمل من حياة الشهداء، وقد نهانا الله جل وعلا أن نقول لمن يقتل في سبيل الله إنه ميت {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} [البقرة:154] {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169]، هذا في الشهداء. أما الأنبياء فهم أكمل حياة من الشهداء، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم لـ جابر بن عبد الله: (أتدري ماذا قال الله لأبيك؟ -وأبوه قتل في أحد- فإنه قال له: يا عبدي! تمن علي، فقال: ماذا أتمنى وقد أعطيتني ما لم تعطه أحداً من الناس؟! ثم يقول: تمن علي ثم تمن علي، فلما رأى ذلك قال: يا ربي! أريد أن تعيدني إلى الدنيا فأقتل في سبيلك مرة أخرى) للشيء الذي رآه. وقد جاء أن معاوية رضي الله عنه أراد أن يجري عيناً من أحد إلى المدينة، وذلك بعد أربعين من وقعة أحد، فجاءت بالقرب من مقبرة شهداء أحد، فقيل للناس: من كان له ميت فليزله من هذا المكان، فلما أزالوهم وجدوهم كما هم، وكأنهم دفنوا الآن، ومع الحفر ضربت المسحاة قدم أحدهم أو يده فسال الدم. وكذلك يقول جابر: إن والده دفن مع رجل، يقول: وبعد وقت ما سمحت نفسي حتى أخرجته فوجدته كما هو، وهذا كثير، ولكن كلام الله أبلغ من هذا، وهو الذي يجب أن يصدق ويؤمن به. فهذا في آحاد الناس أنهم أحياء وأنهم يرزقون عند ربهم، والرزق حقيقي كما قال الله: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] إذا كان يقول: (عند ربهم يرزقون) فليس الرزق للأرواح فقط، بل يعم البدن والروح. وإذا كان هذا للشهداء فحياة الأنبياء أكمل بلا شك، وحياة رسولنا صلى الله عليه وسلم أكمل بلا شك؛ ولهذا فإن النبي صلوات الله وسلامه عليه حي في قبره ولكن مثلما قلنا: حياة برزخية لا نعرف كيفيتها، ولا يحتاج معها إلى ما يحتاجه في هذه الحياة، ومع ذلك ما طمع الشيطان في صحابة النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتي إليهم ويقول لهم: إنه حي في قبره فاذهبوا واسألوه عن المشاكل التي تقع بينكم، وكان أحدهم يبكي وإذا قيل له: مالك؟ يقول: لأني ما سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن كذا وكذا.

ظهور الشرك في القرون التي ابتعدت عن عهد النبوة

ظهور الشرك في القرون التي ابتعدت عن عهد النبوة حتى جاءت القرون التي ابتعدت عن عهد النبوة ونورها، ووقع فيهم من الضلال والجهل فطمع فيهم الشيطان، وكونه يأتي إلى أحدهم ويقول: اذهب إلى القبر واسأل، ثم قد يلبس عليه فتنة وضلالاً، مثل الحكاية التي تذكر عن البكري مع أنها حكاية لا تصح، أن أعرابياً جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وأنه استنجد به والبكري يسمع، ثم نام، فجاءه الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: يا بكري اذهب إلى الأعرابي فبشره أن الله قد غفر له. فتؤخذ هذه الحكاية المكذوبة الواهية وتجعل دليلاً على دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وتترك النصوص التي جاءت في هذا الباب وغيره ويضرب بها جانباً، ويقال: إن هذا رأى رؤيا! وهذه عمدة الذين يعبدون غير الله، عمدتهم الرؤى التي مستندها الشيطان الذي يضحك عليهم، ويزور عليهم، أو عمدتهم أمور مكذوبة عن فلان وفلان، وحكايات ليس لها سند، أو أمور ضعيفة لا تدل على ذلك، فليس عندهم أكثر من هذا، أما النصوص الواضحة الظاهرة الجلية التي إذا تمسك بها الإنسان يكون على يقين من ربه، فهذه لا يلتفتون إليها {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة:41] نسأل الله العافية. ولهذا يخبر الله جل وعلا عن الذين أراد ضلالهم: أنهم لو أتوا بكل آية ما آمنوا، بل أخبر جل وعلا عن الكفار أنهم إذا كان يوم القيامة يقولون: يا ربنا! ردنا إلى الدنيا حتى نعبدك حقاً، ونتبع رسلك حقاً، فيخبر الله جل وعلا عنهم أنهم لو ردوا لعادوا إلى ما نهوا عنه، فالذي كتب عليه الضلال لا بد من ضلاله، وضلاله عن عمد، وعن اختيار منه، ولهذا تجدهم يسخرون بأهل الحق، ويمقتونهم ويكرهونهم أشد الكراهية، ويرون أنهم سخفاء عقول، وأنهم هم أهل الذكاء وأهل الحكمة وأهل البصر وأهل العقل. هذا هو واقع حالهم، فإذا تبين للإنسان الحق وتمسك به فهذه منة الله عليه، فعليه أن يشكر الله وأن يكثر من شكره ومن دعوته أن يثبته على ذلك؛ لأنها منةٌ يمن بها على من يشاء، مع أنه جل وعلا يعلم من يستحق الضلالة ومن هو أهل للهداية، فيضع الأمور في مواضعها.

مسائل الباب

مسائل الباب قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل: الأولى: ما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم فيمن بنى مسجداً يعبد الله فيه عند قبر رجل صالح، ولو صحت نية الفاعل]. يعني: أن الذي يبني مسجداً عند قبر رجل وإن كان قصده بذلك تكثير الأجر أو يقصد التقرب بذلك إلى الله، ولا يقصد عبادة هذا الرجل؛ فهو واقع في اللعنة، وليس كل مجتهد يكون مصيباً؛ لأن الاجتهاد يجب أن يكون على وفق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وإلا فهو مردود.

النهي عن التماثيل

النهي عن التماثيل [الثانية: النهي عن التماثيل، وغلظ الأمر في ذلك]. التماثيل: هي الصور، وقد جاء تغليظ الأمر في ذلك، يعني: أن كل مصور يجعل له نفس يعذب بها يوم القيامة بعدد الصور التي صورها، وفي الحديث الآخر: (الناس عذاباً الذين يضاهون الله في خلقه) (أشد الناس عذاباً الذين يصورون) (وكل مصور يكلف يوم القيامة أن ينفخ الروح فيما صور، وليس بنافخ) وفي الحديث القدسي: (من أظلم من ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا شعيرة) وهذا تعجيز. ولم يأت في الوعيد على الذنوب مثلما جاء في المصورين، وسبق الكلام في هذا وأنه لا فرق في التصوير بين الفوتغرافي أو الرسم الذي يكون باليد، ولا فرق بين المجسد، ولا المخطوط خطاً، وكل تصوير فهو داخل في هذا.

شدة تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من الشرك ووسائله

شدة تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من الشرك ووسائله [الثالثة: العبرة في مبالغته صلى الله عليه وسلم في ذلك. كيف بين لهم هذا أولاً، ثم قبل موته بخمس قال ما قال، ثم لما كان في السياق لم يكتف بما تقدم]. يعني أن هذا كله مبالغة وخروج من التكليف الذي كلفه الله جل وعلا به، ونصح لأمته صلوات الله وسلامه عليه، وبراءة مما كلفه الله جل وعلا به، فهو يجمع بين أمر الله جل وعلا وبين الشفقة على أمته أن يقعوا في شيء يعنتهم ويشق عليهم، وأشد ما يعنتهم ما إذا خالفوا أمر الله جل وعلا في أمر العبادة. وهو حق الله الذي أوجبه عليهم، فكيف يصرفون شيئاً منه لغيره؟! هذا هو أشد ما يعنت الأمة؛ ولهذا حرص على ذلك أشد الحرص، فبالغ هذه المبالغة حتى وهو في سياق الموت صلوات الله وسلامه عليه يقول: (ألا إني أنهاكم أن تتخذوا القبور مساجد) (ألا فلا تتخذوا القبور مساجد). ولهذا فهم الصحابة ذلك فهماً جيداً حتى إنهم صاروا يبعثون البعوث في الآفاق إذا وجدوا قبراً مرفوعاً عن المستوى الشرعي، وإذا وجدوا صورة مصورة طمسوها وأزالوها؛ لأنهم فهموا مراد الرسول صلى الله عليه وسلم. ففي صحيح مسلم عن أبي هياج الأسدي أنه قال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته، ولا صورة إلا طمستها)، وكان صلى الله عليه وسلم قد بعث علياً بهذا الأمر وبعث غيره، ومعروف ماذا صنع في مكة لما فتحها: طمس الصور وكسر الأصنام، وكان يبعث البعوث لذلك، والصحابة سلكوا مسلكه ودعوا بدعوته؛ لأنهم هم الذين بلغوا دعوته إلى الناس رضي الله عنهم. [الرابعة: نهيه عن فعله عند قبره قبل أن يوجد القبر]. يعني أنه قال: (لا تتخذوا قبري عيداً، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا قبري مسجداً) نهى عن ذلك وكرر النهي، ومعلوم أن هذا يقوله وهو مقبل على ربه جل وعلا، ولهذا حماه الله جل وعلا بسبب هذه الدعوة، ولو كان بارزاً فماذا يكون؟! لا يستطيع أحد أن يمنع الناس، ولو وضعت الشرطة والجنود فلا يستطيعون، فلا بد أن يقفل، فصانه الله جل وعلا استجابة لدعوة نبيه صلى الله عليه وسلم وبنيت عليه الجدران جداراً بعد جدار بعد جدار، فلا يستطيع أحد أن يصل إليه، أما لو وصل الناس إليه لتقاتلوا عليه؛ لأن الحق لا يعرفونه كلهم، ولا كلهم يقبل الحق، بل أكثرهم لا يقبل ولا يعرف الحق، وفتنوا بالتعلق بالقبور، فكيف بقبر المصطفى صلوات الله وسلامه عليه!!

اتخاذ القبور مساجد من سنن اليهود والنصارى

اتخاذ القبور مساجد من سنن اليهود والنصارى [الخامسة: أنه من سنن اليهود والنصارى في قبور أنبيائهم]. ويدل لهذا أنه صلى الله عليه وسلم عين لهم المكان قال: ادفنوني في هذا المكان، وإن كان جاء حديث استدل به أبو بكر رضي الله عنه عندما اختلفوا في موضع دفنه رضي الله عنه أنه سمعه يقول: (، كل نبي يدفن في المكان الذي يموت فيه) فلهذا دفن تحت سريره الذي كان عليه صلوات الله وسلامه عليه لهذا. وأما الحديث الذي في الصحيحين أنه قال: (ما بين منبري وقبري روضة من رياض الجنة) فقال المحققون من العلماء: هذا اللفظ غير صحيح، واللفظ الصحيح: (ما بين منبري وبيتي روضة من رياض الجنة)، وقد جاء بهذا اللفظ وبهذا اللفظ، ولا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال واحداً منهما، فيكون الثاني اجتهاداً من الراوي؛ والقبر ما كان إلا بعد ذلك، فهذا يدل على أن هذا من تصرف الرواة، ومن المعلوم أنه يجوز رواية الحديث بالمعنى إذا كان معنى اللفظ الذي يرويه بالمعنى لا يختلف عن معنى اللفظ النبوي وإن كان الاتفاق (100%) نادراً وقليلاً جداً، ولكن يكفي أن يكون المعنى الذي يؤدى به هذا اللفظ هو مقصود الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا له أمثلة كثيرة. من ذلك حديث معاذ رضي الله عنه حينما بعثه إلى اليمن وخرج صلى الله عليه وسلم يشيعه، ومعاذ راكب وهو يمشي صلوات الله وسلامه عليه، فقال له معاذ: (يا رسول الله! إما أن تركب وإما أن أنزل، فقال: لست بنازل ولست براكب، ثم قال له: إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله)، جاء في لفظ آخر: (ليكن أول ما تدعوهم إليه: أن يعبدوا الله)، وفي لفظ ثالث: (ليكن أول ما تدعوهم إليه: أن يوحدوا الله) وهذه كلها بمعنى واحد، وكلها يدل على أن الراوي هو الذي تصرف في هذا، فمرة قال: (شهادة أن لا إله إلا الله) ومرة قال: (أن يعبدوا الله) ومرة قال: (أن يوحدوا الله).

لعن من اتخذ القبور مساجد

لعن من اتخذ القبور مساجد [السادسة: لعنه إياهم على ذلك]. لعن اليهود والنصارى؛ لأنهم كانوا يبنون المساجد على قبور أنبيائهم، ولهذا يتبين لنا أن بناء المساجد على القبور من سنة اليهود والنصارى، وأن المسلمين ممنوعون من ذلك ومنهيون عنه، والعجب أن المفتونين في القبور من العلماء يتركون مثل هذه النصوص ويستدلون بأمور مشتبهة! حتى استدلوا بقول الله جل وعلا: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف:21] فقالوا: هذا دليل على أنه يجوز اتخاذ المساجد على القبور، وهذا نص القرآن! فهل نأخذ بدعوى هؤلاء! أو بما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم ووضحه، فهذه سنة الذين قبلنا، وهم مذمومون عليها، وملعونون عليها، أفيجوز أن يأخذ المسلم بهذا وقد لعنهم الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك ثم نقول إنه دليل؟! أليس هذا هو عكس ما أراده صلى الله عليه وسلم تماماً؟! إنما هو مجرد تشبيه على الناس وتلبيس، وإلا فإن هؤلاء الذين اتخذوا عليهم مسجداً هم الذين قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم: (لعن الله اليهود والنصار اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما صنعوا). [السابعة: أن مراده تحذيره إيانا عن قبره. الثامنة: العلة في عدم إبراز قبره]. فالعلة كونهم خشوا أن يتخذ معبداً فدفنوه في بيته مع ما سمعوه من النص، وهذا الحديث يدل على أنه صلى الله عليه وسلم منعهم، ولا مانع أن تجتمع أمور متنوعة تتظافر على كونهم يدفنونه في بيته. [التاسعة: في معنى اتخاذها مسجداً]. سبق أن معنى هذا أنه يصلى عندها، وليس معناه أن يبنى عليها المساجد، بل يتحقق ذلك بمجرد أن يصلى عندها.

الذين يتخذون القبور مساجد هم من شرار الناس

الذين يتخذون القبور مساجد هم من شرار الناس [العاشرة: أنه قرن بين من اتخذها وبين من تقوم عليهم الساعة، فذكر الذريعة إلى الشرك قبل وقوعه مع خاتمته]. والمقصود بهذا أن الذين يتخذون المساجد شرار الناس؛ لأنه جاء في الصحيح: (إن شرار الناس من تقوم عليهم الساعة)، وأن الساعة لا تقوم حتى لا يوجد في الأرض من يعرف الله وحتى لا يقال: الله الله! وليس المقصود بقيام الساعة نفخ الصور؛ ولكن المقصود قربها، ووجود علاماتها الكبيرة، مثل خروج الدابة، ومثل خروج الدجال الذي يدعي أنه رب الناس، ومثل طلوع الشمس من المغرب، ومثل الخسوف التي تكون في وسط الجزيرة وفي غربها وشرقها، ومثل النار التي تخرج من قعر عدن، ومثل يأجوج ومأجوج ونزول عيسى وغيرها كثيرة. فإذا طلعت الشمس في مغربها فلا ينفع الإنسان إيمان جديد؛ لأنها تظهر آيات باهرة تؤذن بنهاية هذه الدنيا، أما الساعة التي هي الساعة المرادة فهي النفخ في الصور النفخة الأولى، فإذا نفخ في الصور مات الخلق كلهم، والصور معروف، وجاء في الحديث أنه قرن عظيم، الله أعلم بصفته، وينفخ فيه إسرافيل عليه السلام. وقد جاء أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن القرن وحنى جبهته وصار ينتظر الأمر) فالأمر قريب جداً كأنه لحظات، فهو قريب وسوف يأتي. أما المراد بقيام الساعة هنا أي: العلامات الكبيرة، أما العلامات الأخرى فهي كثيرة جداً، وأولها بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله جل وعلا: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1] ورسولنا صلى الله عليه وسلم من أسمائه نبي الساعة؛ لأنه بعث هو والساعة إلا أنه سبقها وسوف تلحق بعده.

ضرر الرافضة والجهمية على الإسلام والمسلمين

ضرر الرافضة والجهمية على الإسلام والمسلمين [الحادية عشرة: ذكره في خطبته قبل موته بخمس الرد على الطائفتين اللتين هما أشر أهل البدع، بل أخرجهم بعض أهل العلم من الثنتين والسبعين فرقة، وهم الرافضة والجهمية. وبسبب الرافضة حدث الشرك وعبادة القبور، وهم أول من بنى عليها المساجد]. يقصد بهذا الرافضة الذين كانوا في مصر والذي يسمون بالعبيديين، فهم أول من بني المساجد على القبور، وأول من بنى القباب، وأول من سن هذه السنة الخبيثة، وقد كتب العلماء فيهم: أنهم ليسوا من الإسلام في شيء، وأن دعواهم النسب كذب، وأنهم من أبناء المجوس، وقد تغلبوا على المغرب ثم على مصر قروناً، وبعضهم صار يدعو الناس إلى عبادته، وبعضهم صار يقول إنه هو الله. وأما الجهمية فهم الذين أنكروا أسماء الله وصفاته ووصفوه بالعدم، وقالوا: إنه ليس فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال ولا داخل العالم ولا خارج العالم ولا في مكان ولا يجري عليه زمان، ولا تصح إليه الإشارة، ولا أن يقال أين هو، ولا يحس، ولا يرى، ولا يقول، ولا يتكلم، ولا يحب، ولا يُحب إلى غير ذلك، فماذا يكون؟ يكون عدماً. ولو أن إنساناً قيل له: صف لنا العدم، فلن يستطيع أن يصف العدم بأكثر مما ذكرنا ولهذا يقول: أخرجهم كثير من العلماء الذين كتبوا في الفرق من الثنتين والسبعين فرقة؛ لأن الثنتين والسبعين هم من أهل الإجابة إلا أنهم متوعدون بالنار؛ لأنهم فارقوا سنة المصطفى ولو في جزئيات منها، وأخرجوهم منها؛ لأنهم ليسوا من أمة الإجابة، ومن خرج من أمة الإجابة فهو من الكفار، هذا هو المقصود بالإخراج.

كرامة النبي صلى الله عليه وسلم ومضاعفة أجره

كرامة النبي صلى الله عليه وسلم ومضاعفة أجره [الثانية عشرة: ما بلي به صلى الله عليه وسلم من شدة النزع. ]. فقد ورد أنه كانت له خميصة إذا غطي وجهه واغتم كشفها عن وجهه، وهذا يدل على أنه حصل له شدة عند الموت، صلوات الله وسلامه عليه، والسبب في هذا مضاعفة أجره، لما جاء عن عبد الله بن مسعود أنه لما جاء إليه قال: (يا رسول الله! إنك لتوعك وعكاً شديداً، فقال: أجل! أوعك كما يوعك رجلان منكم، فقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ذلك لأن لك أجرين؟ قال: نعم) فهذا لأجل زيادة أجره ورفع درجاته عند الله. [الثالثة عشرة: ما أكرم به من الخلة. ]. والخلة أخص من المحبة، وهي خاصة به صلوات الله وسلامه عليه وبأبيه إبراهيم عليه السلام فقط، وليس من الخلق أحد اتخذه الله خليلاً إلا إبراهيم ومحمداً صلوات الله وسلامه عليهما. [الرابعة عشرة: التصريح بأنها أعلى من المحبة. الخامسة عشرة: التصريح بأن الصديق أفضل الصحابة. السادسة عشرة: الإشارة إلى خلافته].

شرح فتح المجيد [63]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [63] لقد جاءت الشريعة بسد ذرائع الشرك، وبينت أن الغلو في الصالحين يصيرها أوثاناً تعبد من دون الله، فالواجب على المؤمن أن يجتنب الغلو بأنواعه، سواء في الأمكنة أو في الأزمنة أو في الأشخاص؛ وهو من أعظم أسباب الوقوع في الشرك الأكبر الذي يخلد صاحبه في النار.

الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تعبد من دون الله

الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثاناً تعبد من دون الله قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثاناً تعبد من دون الله. ]. الغلو: تجاوز الحد في الشيء المشروع، ومقصود المؤلف بهذا الباب أمور: الأول: التحذير من الغلو في القبور. الثاني: أن الغلو فيها يؤول إلى عبادتها. الثالث: أنها إذا عبدت صارت أوثاناً ولو كانت قبور أنبياء وصالحين. الرابع: التنبيه على العلة في التحذير من الغلو فيها وتجاوز الحد، وأن العلة: عبادة غير الله جل وعلا، والحفاظ على التوحيد. هذا هو مقصود المؤلف من عقد هذا الباب وإلا فهو قريب من الذي قبله. قال المصنف: [روى مالك في الموطأ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم لا تجعل قبرى وثناً يعبد. اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)]. هذا الحديث رواه الإمام مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم عن عطاء مرسلاً، وقد جاء من غير هذا الطريق، وهو حديث ثابت عند من يحتج بالمرسل؛ لأن رواته ثقات، وعند من لا يحتج به فإنه جاء ما يعضده من طرق أخرى مرفوعة وكذلك له شواهد تعضده.

الفرق بين الوثن والصنم

الفرق بين الوثن والصنم قوله: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد)، هذا دعاء يدعو به الرسول صلى الله عليه وسلم حتى لا يكون قبره معبوداً، وفي هذا دليل على أنه لو عبد لسمي وثناً، وهذا الذي أراد المؤلف أن ينبه عليه أخذاً من هذا الحديث: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد) والفرق بين الوثن والصنم: أن الأوثان كل ما عبد من غير صورة، مثل الججر والشجر والقبر وما أشبه ذلك من المعبودات التي يطلب منها البركة ويطلب منها النفع ودفع الأذى وما أشبه ذلك، وهذه الأمور من خصائص الله جل وعلا، ولا يجوز طلبها من غيره. والصنم: هو ما كان مصوراً على صورة آدمي، أو صورة حيوان، هذا هو الفرق. أما إذا افترقا بأن جاء ذكر أحدهما دون الآخر فإنه يدخل فيه الآخر، ولكن إذا اجتمعا لفظاً افترقا في المعنى، كنظائرهما في اللغة العربية وهي كثيرة. وقال بعض العلماء: لا فرق بين هذا وهذا، فيطلق الوثن على الصنم، والصنم على الوثن، واستدلوا بقصة إبراهيم مع قومه ففي موضع قال: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء:52] وفي موضع سماها أوثاناً، وفي موضع آخر سماها أصناماً، فدل على أنه لا فرق بين هذا وهذا، والصواب أن هناك فرقاً، ويجوز أن تكون معبودات قوم إبراهيم فيها الأوثان وفيها الأصنام، فمرة يعبر عن هذا، ومرة يعبر عن هذا. وكلها شر سواء كانت وثناً أو صنماً، وكلها يقع فيه الشرك الأكبر الذي من مات عليه يكون خالداً في جهنم، ولا يجوز أن يكون عند المسلم شعبة من شعب الشرك، والشرك شعب كثيرة، ولكن الشرك الأصغر قد لا يسلم منه أحد إلا نادراً إلا الذين حققوا التوحيد وخلصوه من شوائب الشرك والبدع والذنوب، أما أكثر الناس فإنهم لا يسلمون من شوائب الشرك الأصغر، وهذا لا يخرجهم من الدين الإسلامي، ولكنه فيه خطورة؛ لأنه قد يكون وسيلة إلى ما هو أكبر منه، ويترتب عليه عقاب، لا سيما على قول كثير من العلماء الذين يقولون: إن الشرك لا يغفر كبيره وصغيره، وليس معنى هذا القول أن الشرك كله يكون كفراً، وليس هذا مرادهم، ولكن مرادهم: أن الشرك إذا كان أكبر فإنه مخرج من الدين وهذا لا إشكال فيه، أما إذا كان أصغر فمقصودهم بذلك: أنه لا بد من العقاب عليه قبل دخول الجنة، يعني: ما يعفى عنه، ولا يكون مثل بقية الذنوب التي قال الله جل وعلا فيها: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]. وهم يستدلون بهذه الآية ويقولون: إن الله جل وعلا استثنى من المعاصي كلها الشرك، والشرك يدخل فيه القليل والكثير، كما يدخل فيه الكبير والصغير، يقولون: فدل ذلك على أن الشرك الأصغر غير مغفور لصاحبه، ولا بد من عقابه وإن كان مسلماً، ومعنى ذلك: أن الذي يموت على الشرك الأصغر بدون توبة يناله العقاب، أما على القول الآخر فإن كل ما يكون غير مخرج من الدين الإسلامي فإنه داخل في الاستثناء الذي ذكره الله جل وعلا في قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]. والمقصود: أن قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد) قاله صلوات الله وسلامه عليه خوفاً من وقوع ذلك، وهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يتوقع أن يحصل شيء من ذلك، ولو لم يتوقع ذلك لما دعا بهذا الدعاء. الثاني: أن هذا يدل على أنه لو عبد لسمي وثناً (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد). الثالث: أن عبادته ليست السجود له، أو الاعتقاد بأنه يخلق من العدم أو أنه يحيي ويميت، أو أنه يتصرف في السماوات والأرض وفي المخلوقات، ليس هذا المراد، وإنما المراد: أن يتوجه إليه، ويسأله مع الله، ويعتقد أنه ينفع ويدفع ويجلب للسائل خير الدنيا والآخرة، ويدفع عنه شرور الدنيا والآخرة، هذا هو المقصود، وهذا يحصل من كثير من الناس الذين يجهلون الأمر، والنبي صلوات الله وسلامه عليه بين عن ربه جل وعلا بياناً شافياً، ولم يترك للناس عذراً حتى يقول قائلهم: أنا أجهل هذا الأمر.

اشتداد غضب الله على الذين يتخذون القبور مساجد

اشتداد غضب الله على الذين يتخذون القبور مساجد يجب على المسلم أن يتتبع ويطلب بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن البيان قوله المتقدم، وقوله صلى الله عليه وسلم: (اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) وهذا يدلنا أيضاً على أمور: الأول: أن الله يغضب على بعض الناس، وأن غضبه قد يكون شديداً، وقد يكون أقل من ذلك، يعني: أن غضبه يتفاوت على حسب الذنوب. الثاني: أن معنى قوله: (اتخذوها مساجد) أي: محلاً للسجود، يعني يصلون عندها، فجعلوها محلاً للعبادة، يعني: أنهم يتحرون العبادة عندها، وهذا ليس بشرك ولكنه من وسائل الشرك التي توقع فيه؛ لأنه إذا صلى عند القبر تحرى الصلاة عنده، وتحرى الدعاء عنده، ويوشك أن يتدرج شيئاً فشيئاً حتى يعبد القبر، ويسأل من فيه، فلهذا منعت العبادة عند القبور. الثالث: أن الأمور التي جاءت في ذم اليهود والنصارى ومن سبق من الأمم إنما المقصود بها تحذيرنا نحن أن نقع فيما وقعوا فيه. الرابع: أنه إذا حصل منا شيء يشابه ما حصل منهم فالحكم سواء لا يختلف، يعني: ما قيل فيهم يقال فينا، وما أصابهم يصيبنا، وقد يكون أشد، وذلك أن نبينا صلى الله عليه وسلم هو أفضل الأنبياء، ومن خالف أفضل الأنبياء يكون عذابه أشد وأعظم، وهو صلوات الله وسلامه عليه بالغ في التحذير من ذلك. الخامس: أنه لا فرق بين قبور الأنبياء وغيرها في جعلها محلاً للعبادة، وبهذا يتبين لنا معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً) كما في الصحيح، وأن المعنى لا تجعلوها شبيهة بالقبور ليس فيها عبادة؛ لأنه متقرر في الشرع أن المقبرة لا يتعبد فيها، والقبور لا تفعل العبادة فيها، فإذا ترك البيت من العبادة: من تلاوة القرآن والصلاة والذكر وما أشبه ذلك؛ صار شبيهاً بالمقبرة؛ ولهذا أمر بالتعبد فيها بالصلاة والقراءة، (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً)، وبهذا يتبين لنا أن المقصود: منع الأمة أن تتعبد عند القبور بعبادة تقصد بها وجه الله، فكيف إذا قصد صاحب القبر بالعبادة؟! فالمنع من أجل ألا يقع شيء من الشرك؛ لأن هذا هو الشرك الأكبر الذي إذا فعله الإنسان ومات عليه يكون خالداً في جهنم. قال الشارح رحمه الله: [قوله: روى مالك في الموطأ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد). هذا الحديث رواه مالك مرسلاً عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الحديث. ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن ابن عجلان عن زيد بن أسلم به، ولم يذكر عطاء، ورواه البزار عن زيد عن عطاء عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعاً، وله شاهد عند الإمام أحمد بسنده عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رفعه: (اللهم لا تجعل قبري وثناً، لعن الله قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد). قوله: روى مالك في الموطأ هو: الإمام مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو الأصبحي أبو عبد الله المدني إمام دار الهجرة، وأحد الأئمة الأربعة، وأحد المتقنين للحديث حتى قال البخاري: أصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر مات سنة تسع وسبعين ومائة، وكان مولده سنة ثلاث وتسعين، وقيل: أربع وتسعين وقال الواقدي: بلغ تسعين سنة. قوله: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد) قد استجاب الله دعاءه كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى: فأجاب رب العالمين دعاءه وأحاطه بثلاثة الجدران حتى غدت أرجاؤه بدعائه في عزة وحماية وصيان]. هذا قاله ابن القيم في زمنه في القرن السابع؛ لأنه توفي سنة سبع مائة وواحد وخمسين رحمه الله، وتغير الوضع عن ذلك الوقت، ولكن الأمور تتعلق بالنيات، إذا كان الإنسان خلف القبر وقصد الصلاة إليه وإن كان من مسافات بعيدة؛ فلا ينفعه إذا كان بينه وبينه حائط أو حيطان، وإنما المقصود منع التوجه إليه.

دفن النبي عليه الصلاة والسلام في بيته وليس في المسجد

دفن النبي عليه الصلاة والسلام في بيته وليس في المسجد النبي صلوات الله وسلامه عليه في بيته، فقبره في بيته وليس في المسجد، وإنما كان في بيته، وبيته صلى الله عليه وسلم كان على حائط المسجد. فإنه صلوات الله وسلامه عليه لما أتى إلى المدينة مهاجراً ونزل في قباء أول ما نزل، ثم بعد ذلك جاء متجهاً إلى المدينة وكان الأنصار متوزعين في أماكن متفرقة في المدينة، كل فخذ منهم لهم أماكن، وكانوا يتعرضون له، وكل قوم يقولون: إلينا يا رسول الله، يودون أن يسكن عندهم، وكان راكباً على ناقته ويقول: (دعوها فإنها مأمورة)، حتى جاءت إلى هذا الموضع فبركت، ولما بركت لم ينزل عنها؛ لأنه كان يتوقع أن تقوم أيضاً، فتلحلحت ثم وضعت رقبتها على الأرض، وعند ذلك نزل، وكان بيت أبي أيوب الأنصاري قريباً من ذلك المكان، فبادر وأخذ رحل الرسول صلى الله عليه وسلم وأدخله في بيته، فلما طلب منه بعض الأنصار أن يذهب معهم قال: (المرء مع رحله). فنزل عند أبي أيوب، وكان بيت أبي أيوب مكوناً من دورين على حسب الحال، فجعل الرسول صلى الله عليه وسلم تحت ليكون أسهل له، ثم استدعى من كانت له هذه الأرض، وكانت مربداً يعني: حوشاً فيه نخل وفيه قبور للمشركين، فلما سأل عنها قيل: هذه لأيتام من بني النجار، فطلبهم وقال: (ثامنوني فيه) يعني: بيعوني الأرض، المثامنة البيع، فقالوا: بل نريد الأجر من الله، ولا نطلب له ثمناً. والمقصود أنه بدأ بعمارة المسجد صلوات الله وسلامه عليه، وأمر بالقبور فنبشت وأخرجت، وأمر بالنخل فقطع، ثم صاروا يبنون، ولما كمل البناء بنى حجراته -لكل زوجة حجرة- خلف المسجد. لما مرض صلوات الله وسلامه عليه صار كل يوم يذهب إلى واحدة من زوجاته، وبعدما اشتد به المرض صلوات الله وسلامه عليه استأذن منهن أن يمرض عند عائشة، فأذن له، وكان بيت عائشة مع هذه البيوت، فكان عندها حتى توفي في بيتها. ولما توفي صلوات الله وسلامه عليه اختلفوا أين يدفنونه؟ فروى لهم وأبو بكر رضي الله عنه حديثاً: أن الأنبياء تدفن في الأماكن التي تموت فيها، وعند ذلك دفنوه في موضعه الذي مات فيه، وكان خارج المسجد، وبقي هكذا في زمن الخلفاء الراشدين وزمن معاوية بن أبي سفيان، وزمن عبد الله بن الزبير، وكذلك زمن مروان، وخلافة ابنه عبد الملك حتى جاء ابن عبد الملك الوليد بن عبد الملك وكان مغرماً بالعمارة، فأمر بهدم المسجد وبناءه بناء حديثاً، وزخرفته، وإدخال الحجر فيه، وكان أميره على المدينة عمر بن عبد العزيز، فشرع في ذلك، وصار يشتري من الناس ما حول المسجد، ويدخله فيه توسعة له، وهدمت الحجر، وصارت من ضمن المسجد، وقد عارض هذا الفعل كثير من السلف والتابعين وغيرهم، ولكن لم ينفع اعتراضهم، فصار إدخال القبر في المسجد بفعل الملوك، لا بفعل العلماء ولا بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا بالنظر إلى الشرع، وإلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم، فعلى هذا لا يكون في ذلك حجة، ثم لما أدخل لم يجز أن يتصرف فيه كالتصرف في قبر غيره صلوات الله وسلامه عليه، فصار أمراً واقعاً لا يمكن التصرف فيه. أما البناء عليه وبناء القبة فهو من المحدثات التي كان ينهى عنها صلوات الله وسلامه عليه، ولكن خولف في ذلك، ومرتكبه آثم إثماً يبقى عليه طوال الدنيا، وهو يزداد يوماً بعد يوم، وهو يحسب أنه كسب بذلك أجراً؛ لأن: (من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة) وقد كان صلى الله عليه وسلم ينهى عن البناء على القبور أو تشريفها وتسنيمها زيادة على التراب الذي يكون فيها، وينها عن تجصيصها والكتابة عليها، فكيف ببناء القباب عليها؟! ويكون الحكم في إزالة ذلك مثل حكم إدخال القبر، ولا يمكن إزالتها؛ لأن في ذلك من التشويش ومن المفاسد التي قد تحدث أضعاف المصلحة؛ لأن أكثر الناس لا يعرف الحق في هذا، ويرون أن هذا من تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم، والواقع أنه من معصيته، وليس من تعظيمه. وعلى هذا فلا يجوز أن يكون هذا حجة لمن يبني على القبور أو يدخلها في المساجد؛ لأن الحجة مقصورة على قول الرسول صلى الله عليه وسلم، وقول الله جل وعلا فقط، وليست الحجة في أفعال الملوك ولا أفعال الجهلة الذين يجهلون شرع الله جل وعلا، ولا يتبعون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الواقع، ولا يمكن أن ينكره من كان عنده أدنى طرف من العلم. وقد حذر صلوات الله وسلامه عليه من ذلك في أحاديث كثيرة منها: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تتخذوا قبري عيداً، فإني أنهاكم عن ذلك)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تتخذوا قبري عيداً، وصلوا علي أينما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني) كل ذلك تحذيراً من أن يكون قبره قبلة للدعاء والمسألة والتبرك وما أشبه ذلك، فيئول الأمر إلى أن يعبد، وأن يتخذ إلهاً من دون الله جل وعلا. وإذا حدث شيء من ذلك فإن إثمه على الفاعل؛ لأن البيان والإيضاح والبلاغ من الرسول صلى الله عليه وسلم قد حصل، فإذا خولف فإن الإثم على من خالف، ومعلوم أن العبادة لا يجوز أن تكون لغير الله جل وعلا.

المشركون الأوائل أعقل من مشركي زماننا

المشركون الأوائل أعقل من مشركي زماننا كثير من الناس بلي بالتعلق بالأموات، حتى أصبحوا يعبدون من يظنون فيه الصلاح عبادة أكثر من عبادة الله جل وعلا، وهذا الميت قد دفن في التراب وأصبح لا يستطيع أن يكف عن نفسه الديدان التي تأكل بدنه؛ فكيف يسأل ويطلب منه؟! ويزعمون أن هذا من الأولياء، وأن الأولياء لهم جاه عند الله، وأنهم إذا سألوا الله شيئاً أعطاهم، فهم يسألونهم ليسألوا الله، هذا هو مبنى عبادتهم، وهذه -في الواقع- هي عبادة المشركين الذين بعث إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم ليحذرهم من هذا الفعل، ويدعوهم إلى تركه، بل أولئك أكثر عقلاً من هؤلاء، فقد قالوا: إن هذه المعبودات: الأشجار والأحجار والموتى والملائكة وغيرهم، لا تتصرف مع الله ولا تملك شيئاً مع الله، ولكننا نجعلها وسائط بيننا وبين ربنا تشفع لنا، فقال الله جل وعلا: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ} [الزمر:43] يعني: كيف تتخذونهم شفعاء وهم بهذه الصورة: لا يملكون شيئاً، وشيئاً: نكرة في سياق النفي فيعم ويدخل فيه كل ما صح أن يطلق عليه أنه شيء، ومعنى ذلك: أنه ليس عندهم أي ملك، لا شفاعة ولا غيرها، {قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ} [الزمر:43] قالوا: هي ليس لها ذنوب، بل هي مطيعة لله، ونحن نطلب منها أن تتوسط لنا، وأعظم حججهم: أنهم وجدوا آباءهم على هذا الفعل: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} يعني: على ملة ودين {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22] يعني: نتبعهم ونقتدي بهم وهم أسوتنا وأئمتنا. وكانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك! تملكه وما ملك، ويعترفون بهذا: هو شريك لك، تملكه وما ملك! يعني: ليس له ملك معك، ولكنه شريك في الدعاء وفي الشفاعة فقط، هذا هو قولهم، أما هؤلاء الذين يعبدون القبور فهم يجعلون هؤلاء وكلاء لله، يتصرفون في الكون كله؛ لأنه إما قطب من الأقطاب التي تدور الدنيا والكون عليها! فلا يدخل البلد شيء إلا بإذن هذا الميت الرميم، ولا يخرج منها شيء إلا بإذنه، هكذا تقول غلاة الوثنية. فمعنى ذلك: أنهم يسلبون ما لله جل وعلا من الصفات، ويجعلونها لعظام رميم، وربما تكون هذه العظام في جهنم كبعض الطواغيت التي تدعى ويزعم أنها من الأولياء وهي من الأشقياء، كأصحاب وحدة الوجود، وكذلك غيرهم ممن عرف بأنه جاسوس لدولة كافرة، ثم يموت فيقبر وتبنى عليه القباب ويدعى الناس إلى عبادته، فيصبح من أكبر المعبودات، وهذه حقيقته، وربما يكون خيالاً لا حقيقة له، وإنما جاء الشيطان إلى إنسان من الناس فقال: هذا قبر ولي، فبنى الناس تقربهم وذهابهم إلى هذا القبر على هذه الرؤيا الشيطانية، والشيطان حريص كل الحرص على إضلال الناس، وقد وجد في دعوتهم إلى عبادة القبور سهولة، فهم ينقادون له في هذا، بينما لو دعوتهم إلى عبادة الله لنفروا واشمأزوا، ولو قلت لهم: هذا لا ينفع ولا يضر، بل فعلكم ضرر محض؛ لرموك بالعظائم واشمأزوا كما قال الله جل وعلا: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر:45] يعني: إذا قيل لهم: اعبدوا الله وحده؛ نفروا وأبوا، أما إذا ذكر تعظيم المقبورين فإنهم يفرحون ويستبشرون ويقبلون على ذلك، لماذا؟ ما السبب؟ السبب ما في النفوس من حب الباطل، وميلها إلى القبور، وهذا هو سر كثرة التحذير من الرسول صلى الله عليه وسلم، عن الصلاة حول القبور وتحري العبادة عندها. قال الشارح: [ودل الحديث على أن قبر النبي صلى الله عليه وسلم لو عبد لكان وثناً، لكن حماه الله تعالى بما حال بينه وبين الناس فلا يوصل إليه. ودل الحديث على أن الوثن هو ما يباشره العابد من القبور والتوابيت التي عليها، وقد عظمت الفتنة بالقبور بتعظيمها وعبادتها]. التوابيت أنواع: النوع الأول: تابوت ينصب فوق القبر، إما من رخام يضعونه فوق القبر منصوباً، ثم يضعون عليه الستور من الأقمشة الثمينة جداً كالحرير وغيره، ويغطونه ويسترونه، فهذا نوع. النوع الثاني: يجعلون تابوتاً من الخشب شبيهاً بالنصب، ويضعونه فوق القبر، ثم يكسونه بالأقمشة النفيسة، وكلما تقادم الوقت على هذه جدودها ونظفوها وزخرفوها، وهذا يفعله سدنة الأوثان، وسدنة القبور، وربما فعله الأثرياء، وربما فعله القادة، فبعض القادة قد يموت له قريب فيضعون عليه هذه الأشياء ويكون سبباً لعبادة الناس له، فيكون هذا من الدعاة إلى جهنم نسأل الله العافية. ووجود النصب والتوابيت على القبور كثير، وربما بنوا عليها البنايات، والذي يذهب إلى هذه الأماكن يشاهد ذلك ويعرف كيف يصنعون بها، وكيف يصنعون عندها، وكيف يتعبدون، وكيف يغرون العامة الذين هم أشباه الأنعام، وليس عندهم معرفة بالحق، ولا ما يميزون به عبادة غير الله جل وعلا من عبادة الله جل وعلا، وربما زيادة في الفتنة ذهب معهم أصحاب عمائم، يتعممون ويقال: إنهم علماء، فيدعون إلى عبادة القبور، فيكون ذلك زيادة فتنة لهؤلاء، ويكون حجة لهم، فيقولون: هؤلاء العلماء قدوتنا، ونحن نتبعهم، فإذا جاء منكر وأنكر عليهم لم يقبلوا منه، ويقولون: أنت ليس عندك علم مثل العالم الفلاني الذي يفعل كذا ويفعل كذا، والمقصود: أن النفوس عندها في الواقع إقبال على مثل هذه الأشياء، والحق قد يكون ثقيلاً على النفوس، وأما الباطل ففيه سهولة على النفوس، ويكون هذا من معنى الحديث الذي جاء في الصحيح (أن الله جل وعلا لما خلق النار أمر جبريل أن يذهب فقال: انظر إليها، فلما رآها يحطم بعضها بعضاً قال: والله لقد ظننت أنه لا يسمع بها أحد فيدخلها، ثم قال له: اذهب وانظر إلى الجنة، فلما رآها قال: والله لقد ظننت أنه لا يسمع بها أحد إلا دخلها -لما فيها من النعيم وفيها من قرة العيون- ثم حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات، فقال الله جل وعلا له: اذهب فانظر، فلما نظر إلى النار وقد حفت بالشهوات قال: والله لقد خفت ألا ينجو منها أحد، ولما ذهب إلى الجنة وقد حفت بالمكاره قال: لقد خفت أن لا يدخلها أحد). المسألة ليست سهلة بل صعبة، ولا سيما إذا كان الإيمان ضعيفاً، وكثير من الناس إيمانه شبه الحلم، لو شكك في إيمانه لشك، والشك في الإيمان بالله جل وعلا وبالبعث وبالآخرة كفر، وقد قال الله جل وعلا حاكياً عن الرجل الكافر: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} [الكهف:36] فلما قال هذا قال له الذي يحاوره: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ} [الكهف:37]. فالشك في الله، أو في البعث، أو في وعده من الكفر. فالكثير من الناس يكون إيمانه ضعيفاً، ويكون علمه قليلاً، فإذا رأى كثرة الناس على شيء من الكفر تبعهم على كفرهم.

خوف الصحابة من الغلو في الصالحين حماية للتوحيد

خوف الصحابة من الغلو في الصالحين حماية للتوحيد قال الشارح: [كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير، وينشأ فيها الصغير، تجري على الناس يتخذونها سنة، إذا غيرت قيل: غيرت السنة! انتهى. ولخوف الفتنة نهى عمر عن تتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن وضاح: سمعت عيسى بن يونس يقول: أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي صلى الله عليه وسلم فقطعها؛ لأن الناس كانوا يذهبون فيصلون تحتها؛ فخاف عليهم الفتنة]. هي الشجرة التي ذكرها الله جل وعلا في القرآن: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18]، وهذه الشجرة شجرة من السمر وهي في الحديبية، كان الرسول صلى الله عليه وسلم جلس تحت ظلها، فبايع المؤمنين تحتها، وكانت معروفة، فلما كان في زمن عمر رضي الله عنه رأى الناس يذهبون إليها، ويصلون عندها؛ لأنها حصلت عندها بيعة الرضوان، والله ذكرها جل وعلا في كتابه، فيصلون عندها هناك طلباً للبركة، فأمر أن تقطع وتزال. وعن المعرور بن سويد أنه قال: صليت مع عمر رضي الله عنه قرب مكة في الطريق صلاة الفجر، وقرأ في الركعة الأولى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل:1] وقرأ في الركعة الثانية: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ} [قريش:1]، فلما سلم رأى الناس يذهبون، فقال: أين يذهب هؤلاء؟ قالوا: يذهبون إلى مساجد صلى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون فيها، فقال: (أيها الناس! إنما هلك من كان قبلكم بتتبعهم آثار أنبيائهم، من أدركته الصلاة عند هذه المساجد فليصل فيها، ومن لم تدركه الصلاة فليمض) يعني: لا تتحروا الصلاة فيها؛ لأن هذا هو سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ما كان يقصد هذه الأماكن بعينها فيصلي فيها، حتى يكون طلبها سنة، ولهذا ما فعل ذلك أحد من الصحابة إلا عبد الله بن عمر، وقد أنكر عليه بقية الصحابة وأنكر عليه والده، ولكن فعل عبد الله بن عمر ليس على ما يظنه هؤلاء أنه لأجل التبرك، بل فعله استناناً برسول الله صلى الله عليه وسلم، وطلباً للاقتداء به، وهو معروف بشدة اقتدائه وتتبعه لما كان يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا منه اقتداء به، حتى إنه كان يبول في المكان الذي يبول فيه، ومرة توضأ وبقي من وضوئه شيء من الماء فصبه في وسط شجرة توضأ عندها فكان ابن عمر يفعل هذا. هل هذا سنة؟ ليس من السنة، ولكن هذا فيه مبالغة في اتباعه للسنة، وهذا الذي أنكر عليه، فكيف بمن يحرص حرصاً شديداً على أن يطلب المكان الذي قيل: إنه جلس فيه، أو إنه صلى فيه، أو إنه نزل فيه، أو ما أشبه ذلك، فيأخذ ترابه ويتبرك به، وربما يأكل التراب طلباً للثواب، وتعظيماً لذلك المكان؟! هذا ليس من دين الإسلام في شيء، بل هذا في الواقع من البدع والضلالات التي هلك فيها من هلك. والمقصود أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) كل الأرض لك مسجد، إذا أدركتك الصلاة وأنت تمشي فصل في المكان الذي أنت فيه، فهو مسجدك، ولا تذهب تتحرى أماكن معينة، فالمساجد التي تبنى على هذه الآثار من البدع، وهي في الواقع تدل على نقص الدين، وتدل كذلك على عدم التمسك بسنة المصطفى صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه قد علم مراده بمنع التتبع للأماكن وتعظيمها وتقديسها، فإن هذا قد يكون شركاً، وقد يكون ضلالاً.

نهي عمر الناس عن تتبع آثار الأنبياء وأماكن صلاتهم

نهي عمر الناس عن تتبع آثار الأنبياء وأماكن صلاتهم قال الشارح: [وقال المعرور بن سويد: (صليت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بطريق مكة صلاة الصبح، ثم رأى الناس يذهبون مذاهب، فقال: أين يذهب هؤلاء؟ فقيل: يا أمير المؤمنين! مسجد صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فهم يصلون فيه، فقال: إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا، كانوا يتتبعون آثار أنبيائهم ويتخذونها كنائس وبيعاً، فمن أدركته الصلاة في هذه المساجد فليصل، ومن لا، فليمض ولا يتعمدها). وفي مغازي ابن إسحاق من زيادات يونس بن بكير عن أبي خلدة خالد بن دينار قال: حدثنا أبو العالية قال: (لما فتحنا تستر وجدنا في بيت مال الهرمزان سريراً عليه رجل ميت عند رأسه مصحف، فأخذنا المصحف فحملناه إلى عمر، فدعا له كعباً فنسخه بالعربية، فأنا أول رجل قرأه من العرب، قرأته مثلما أقرأ القرآن، فقلت لـ أبي العالية: ما كان فيه؟ قال: سيرتكم، وأموركم، ولحون كلامكم، وما هو كائن بعد، قلت: فماذا صنعتم بالرجل؟ قال: حفرنا له بالنهار ثلاثة عشرة قبراً متفرقة، فلما كان بالليل دفناه وسوينا القبور كلها لنعميه على الناس لا ينبشونه، قلت: وما يرجون منه؟ قال: كانت السماء إذا حبست عنهم برزوا بسريره فيمطرون، فقلت: من كنتم تظنون الرجل؟ قال: رجل يقال له: دانيال، فقلت: منذ كم وجدتموه مات؟ قال: منذ ثلاثمائة سنة، قلت: ما كان تغير منه شيء؟ قال: لا إلا شعيرات من قفاه. إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض]. هذه القصة تدل على أن الصحابة والتابعين لهم يعرفون العلة في المنع من اتخاذ القبور مساجد، وتحري الصلاة عندها، وخوفاً من العبادة لها، وليس كما يزعم بعض الفقهاء الذين قل نصيبهم من مقاصد الشرع ومن معرفة مراد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فزعموا أن النهي لأجل النجاسة فقط، فمعنى ذلك: إذا أمطرت السماء على القبور وغسلت وجه الأرض فإنه يجوز أن نصلي عندها؛ لأنها طاهرة غسلها الماء. وكذلك إذا أصابتها الريح وأصابتها الشمس؛ لأن الريح على القول الصحيح تطهر كما أن الشمس على القول الصحيح تطهر إذا استحالت الأرض وزال أثرها، يعني: على قولهم هذا الباطل يجوز أن نصلي فيها، وهذا في الواقع مصادمة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم تماماً، فالسلف فهموا المراد من نهي الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا لما وجدوا هذا النبي الذي على السرير مخزوناً محفوظاً في الصندوق صنعوا به هذا الصنيع، حفروا له ثلاثة عشر قبراً في النهار متفرقة، كل قبر في مكان، ثم لما كان في ظلام الليل دفنوه في واحد منها، وسووها كلها؛ خوفاً من أن يتخذ معبوداً من دون الله عز وجل، يقول ابن القيم: هذا لو ظفر به المتأخرون لجالدوا عليه بالسلاح. يعني: لتقاتلوا عليه حتى يعبدوه؛ لأنهم في الواقع ما فهموا عبادة الله على الوجه الذي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم، فصاروا يتعلقون بغير الله جل وعلا ممن يرجون صلاحهم. وقوله: (وجدنا عنده مصحفاً)، المقصود: وجدنا عنده كتاباً؛ لأن كل كتاب يكتب يسمى: مصحفاً؛ لأنه من الصحف، كل ما كان في صحائف فهو مصحف، والصحائف التي كتبت كانت بلغة غير لغة العرب، يظهر أنها باللغة العبرية -لغة اليهود- أو السريانية والله أعلم، ودانيال من أنبياء بني إسرائيل. وقوله: (إنه دعا له كعباً، المقصود به كعب الأحبار؛ لأنه كان من اليهود فأسلم، وكان يعرف لغتهم، وكان يقرأ كتبهم، فنقله من لغتهم إلى اللغة العربية، وأبو العالية يقول: (أنا أول من قرأه) فلما سئل عنه، يقول: (إن فيه وصفكم وفيه سيرتكم وتلحينكم وأفعالكم) يظهر أن هذا مأخوذ عن الأنبياء. وهذا الأمر يدل على أن تحري العبادة عند القبور أو التوسل بها -كما يقول الكثير من الناس- لا يجوز عند الصحابة؛ ولهذا منعوا من ذلك، وفعلوا هذا الصنيع للتعمية، حتى لا يكونوا مثل هؤلاء الذين يخرجون به إذا قحطوا فيسقون، فإن هذا لا يجوز في دين الإسلام، هذا من دعاء غير الله جل وعلا، دعاء الله لا يكون إلا بأسمائه وصفاته، أو بالإيمان به، والأعمال الصالحة التي يعملها الإنسان يسأل الله بها، أما أن يسأل بجثث، أو بأعمال الآخرين، أو بوجاهتهم، أو ما أشبه ذلك فهذا من البدع والضلالة، ولهذا منع من ذلك الصحابة رضوان الله عليهم، وفعلوا هذا الفعل؛ لئلا يقع فيه من لا يعرف الحق في هذا. قال الشارح: [قال ابن القيم رحمه الله: ففي هذه القصة ما فعله المهاجرون والأنصار رضي الله عنهم من تعمية قبره؛ لئلا يفتتن به، ولم يبرزوه للدعاء عنده والتبرك به، ولو ظفر به المتأخرون لجالدوا عليه بالسيوف، ولعبدوه من دون الله. قال شيخ الإسلام رحمه الله: وهو إنكار منهم لذلك، فمن قصد بقعة يرجو الخير بقصدها، ولم يستحب الشارع قصدها، فهو من المنكرات، وبعضه أشد من بعض، سواء قصدها ليصلي عندها، أو ليدعو عندها، أو ليقرأ عندها، أو ليذكر الله عندها، أو لينسك عندها، بحيث يخص تلك البقعة بنوع من العبادة التي لم يشرع تخصيصها به لا نوعاً ولا عيناً، إلا أن ذلك قد يجوز بحكم الاتفاق لا لقصد الدعاء فيها، كمن يزورها ويسلم عليها ويسأل الله العافية له وللموتى كما جاءت به السنة. وأما تحري الدعاء عندها بحيث يستشعر أن الدعاء هناك أجوب منه في غيره فهذا هو المنهي عنه. انتهى ملخصاً]. معنى هذا الكلام: أن تحري العبادة من دعاء وقراءة وصلاة في أماكن معينة -غير الأماكن التي أذن فيها الشرع أو رغب فيها- ضلال، ومن ذلك القبور أو أماكن معينة تقصد لهذا الشيء، من زاوية أو مكان يقال: إن فيه بركة أو ما أشبه ذلك، فإن فعل هذا ضلال، ولكن إذا كان الإنسان في طريقه سائراً وكان يدعو أو يقرأ، فمر بشيء من هذه الأماكن فإنه لا يقال: إنه قصدها، ولا يمنع من فعله بل يستمر على فعله، كما أن الذي يزور القبور مثلاً لأمر الشرع وهو تذكر الآخرة والاعتبار بالقبور؛ لأن الإنسان مآله إلى أن يقبر، والاستغفار لأصحابها إحسان إليهم، فهذا لا بأس به؛ لأنه مأذون به شرعاً، بخلاف من يذهب إليها ويسأل الله عندها ويرى أنه يجاب؛ لأن فيها الولي الفلاني، أو فيها النبي الفلاني أو ما أشبه ذلك، فإن هذا من الضلال. فيجب أن يميز الإنسان بين ما هو مشروع وبين ما هو بدع وضلال، والله جل وعلا لا يقبل من العبد إلا ما كان خالصاً له، وكان على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولابد من هذين الشرطين في كل عمل يتقرب به إلى الله، أن يكون هذا العمل خالصاً لله، وأن يكون على سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.

حكم اتخاذ قبور الأنبياء وغيرهم مساجد

حكم اتخاذ قبور الأنبياء وغيرهم مساجد قال الشارح: [قوله: (اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) فيه تحريم البناء على القبور، وتحريم الصلاة عندها، وأن ذلك من الكبائر. وفى القِرَى للطبري عن أصحاب مالك عن مالك أنه كره أن يقول: زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ وعلل ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد) الحديث. كره إضافة هذا اللفظ إلى القبر؛ لئلا يقع التشبه بفعل أولئك؛ سداً للذريعة. قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: ومالك قد أدرك التابعين، وهم أعلم الناس بهذه المسألة، فدل ذلك على أنه لم يكن معروفاً عندهم ألفاظ زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم. إلى أن قال: وقد ذكروا أسباب كراهته لأن يقول: زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا اللفظ قد صار كثير من الناس يريد به الزيارة البدعية، وهو قصد الميت لسؤاله ودعائه، والرغبة إليه في قضاء الحوائج، ونحو ذلك مما يفعله كثير من الناس، فهم يعنون بلفظ الزيارة مثل هذا، وهذا ليس بمشروع باتفاق الأئمة، وكره مالك أن يتكلم بلفظ مجمل يدل على معنى فاسد، بخلاف الصلاة والسلام عليه فإن ذلك مما أمر الله به. أما لفظ الزيارة في عموم القبور فلا يفهم منها مثل هذا المعنى، ألا ترى إلى قوله: (فزوروا القبور؛ فإنها تذكركم الآخرة) مع زيارته لقبر أمه، فإن هذا يتناول قبور الكفار، فلا يفهم من ذلك زيارة الميت لدعائه وسؤاله والاستغاثة به، ونحو ذلك مما يفعله أهل الشرك والبدع، بخلاف ما إذا كان المزور معظماً في الدين كالأنبياء والصالحين، فإنه كثيراً ما يُعنى بزيارة قبورهم هذه الزيارة البدعية الشركية، فلهذا كره مالك ذلك في مثل هذا، وإن لم يكره ذلك في موضع آخر ليس فيه هذه المفسدة. انتهى]. يفهم من هذا الكلام كما هو صريح فيما يأتي أن الزيارة تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: زيارة مرغب فيها مطلوبة، وتضاف إلى الشرع؛ لأن الشرع أمر بها وشرعها، وهي ما كان فيه خير للزائر والمزور. القسم الثاني: زيارة بدعية قد تكون شركية، وقد تكون أقل من كونها شركية، وقد تكون من البدع الداعية إلى الشرك، والتي توصل إلى الشرك، فالزيارة التي تكون مطلوبة وفيها إحسان إلى الإنسان الزائر وإلى المزور هي ما جاءت في الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل قوله: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها) فهذا أمر بعد منع، ومعروف عند العلماء القواعد التي يقعدونها في معرفة مراد الشارع: أنه إذا جاء الأمر بعد الحظر والنهي فالغالب أنه يكون للإباحة وليس للوجوب، مثل قوله جل وعلا: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة:2] يعني: أنه حرم الصيد على المحرم ثم قال: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة:2] فالأمر بالاصطياد هنا للإباحة، وليست للوجوب بالاتفاق. كذلك قوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة:10] (فانتشروا) (وابتغوا) كله أمر بعد قوله: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] فنهاهم عن البيع وأمرهم بتركه، ثم قال: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة:10] فالانتشار في الأرض وابتغاء فضل الله للإباحة؛ لأنه جاء بعد الحظر، وهذا مثله. قوله: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها) يعني: أنه رخص لهم، ومعلوم أن مجرد الزيارة بدون ما تشتمل عليه من المعاني لا فائدة فيها، وإنما المقصود أن يتعظ الإنسان وينزجر عن الركون إلى الدنيا، ويكون عنده رغبة في الآخرة؛ لأنه إذا نظر إلى القبر تذكر أنه سوف يقبر، وأن هذا مآله، وسوف يكون يوماً في هذا القبر ولابد، فيدعوه ذلك إلى زيادة العمل، وإلى الانكفاف عن المعاصي، فيكون فيه خير للزائر من هذه الناحية، أما من جهة المزور فإنه يدعو له ويستغفر له، يقول: (اللهم اغفر له) كما علم الرسول صلى الله عليه وسلم الزائر أن يقول: (السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين، يرحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين، وإنا بكم إن شاء الله لاحقون. نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم) هكذا يقول أو نحو هذا مما جاء. ففيه دعاء للميت واستغفار له، ولا شك أن الدعاء والاستغفار ينفع، إذا كان خرج من قلب إنسان صالح، وبإخلاص؛ لأن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً له، أما دعاء مخلوط بالشرك وبالطلب من المخلوق فهذا مردود لا ينفع، بل هو يضر صاحبه ولا ينفعه، وغيره لا ينفعه، فلابد أن يكون الدعاء على وفق الشرع، وليس فيه شيء من البدع، هذه هي الزيارة النافعة. ثم ليس معنى الزيارة أن الإنسان يتردد على القبور، فالتردد لا يجوز، ولكن مرة في الوقت، أما إذا أكثر التردد فهذا لا يجوز. ثم الزيارة الممنوعة هي ما كان فيه خلاف الشرع، إما ليتعبد عند القبر، أو ليسأل صاحب القبر ويتوجه به إلى الله كأن يقول: أسألك بفلان الولي التقي الذي فيه كذا وكذا. هذا وإن كثيراً من الزائرين يقصدون التبرك بالأموات، وطلب الله جل وعلا بجاههم، وطلب الشفاعة، وربما تمادى الأمر ببعضهم إلى أن يقع في الشرك الأكبر، بأن يسأل الميت نفسه، فيكون مشركاً شركاً كبيراً محبطاً للأعمال التي سبقت، وإذا كان مسلماً قبل هذا فقد ارتد وخرج من الدين الإسلامي بذلك، وإن مات على هذا فهو مخلد في جهنم نسأل الله العافية. إذاً: الأمر فيه خطورة، ولابد للإنسان أن يتعلم الحق ويعرفه، ويتبع سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويدلنا هذا الكلام على أنه حتى في زمن الإمام مالك رحمه الله وقع الخطأ في مثل هذه الأمور؛ فلهذا كره أن يقول القائل: زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم. وبين الشيخ رحمه الله أن وجه الكراهة كونه اختلط الأمر عند كثير من الناس، فصار يطلق لفظ الزيارة على الزيارة البدعية، فمنع الإمام مالك أن يطلق ذلك خوفاً أن يفهم من هذه الزيارة الزيارة البدعية، وكل هذا اتباعاً لقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا علي أينما كنتم)، فالعيد: اسم لما يعتاد ويتردد، إما بتردد الزمن، أو تردد الإنسان إلى المكان، وترداده إلى المكان يجعله عيداً، وتعيين الزمان يجعله عيداً أيضاً. فلهذا يجب أن يكون الإنسان متقيداً بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا مع كونه واجباً ومتعيناً لا يقبل العمل إلا به، والعمل إذا تعدى الشيء الذي شرع فإنه يكون مردوداً على صاحبه. قال: [وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستعذ إلا مما يخاف وقوعه. ذكره المصنف رحمه الله تعالى].

شرح فتح المجيد [64]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [64] من أعظم أسباب الشرك اتخاذ القبور مساجد، وبناء القباب والمشاهد عليها، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من ذلك، وحذرهم من كل ما يفضي إلى الشرك.

تفسير قوله تعالى: (أفرأيتم اللات والعزى)

تفسير قوله تعالى: (أفرأيتم اللات والعزى)

حقيقة اللات وسبب عبادة الكفار له

حقيقة اللات وسبب عبادة الكفار له قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولـ ابن جرير بسنده عن سفيان عن منصور عن مجاهد: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [النجم:19] قال: كان يلت لهم السويق فمات، فعكفوا على قبره، وكذا قال أبو الجوزاء عن ابن عباس قال: (كان يلت السويق للحاج)]. يعني: أن اللات الذي كان يعبده أهل الطائف، وهو من أكبر الطواغيت في الجاهلية، وقد كان رجلاً يلت السويق، والسويق: هو الحب الذي يحمص على النار ثم يطحن، ثم يوضع معه سمن أو زيت ويخلط ويؤكل، وقد يكون معه غير ذلك، وذكروا في سبب هذا أنه كان يصنع هذه الأشياء، وكان له غنم يأخذ منها السمن، ويجعل السويق ثم يقدمه لمن يأتي إليه، وفي بعض الآثار: أنهم إذا أكلوا من سويقه سمنوا، فصار ذلك فتنة، فلما مات دفنوه تحت صخرة ونقشوا عليها نقوشاً، وصاروا يطوفون بها، ويجلسون عندها للتبرك بها، ثم صاروا يطلبون من الله أن تشفع لهم. وسبق أن اللات فيه قراءتان: قراءة التخفيف اللات، وقراءة التشديد اللّاتّ. يعني: مثقلة مشددة، وإذا كانت القراءة مشددة مثقلة فهي على ما قال مجاهد، وأبو الجوزاء عن ابن عباس: (أنه كان يلت) مأخوذ من اللت، اللاتّ يعني: كان يلت السويق، يلته يعني: يخلطه بالزيت أو بالسمن، فهذا هو لته، أي: يخلطه بالزيت أو السمن ثم يقدمه لمن يأكله، فهذا في زمن حياته، فلما مات عظموه بأن جعلوا عليه بناء ثم صاروا يطوفون به، ويعكفون عنده من أجل التبرك به، ولطلب شفاعته؛ لأنهم زعموا أنه صالح، فيكون هذا مثل القبور التي تعبد الآن تماماً، التي يقول أصحابها: إن ساكنها ولي، وإنه ترجى شفاعته أو تطلب منه الشفاعة، وقد يطلبون منه أشياء في الدنيا كما هو معلوم مشتهر في كثير من بلاد المسلمين، وللأسف فإنهم يعبدون الرفاة، يعبدون ساكني القبور الذين لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، فضلاً عن غيرهم، يعبدونهم عبادة كعبادة رب العالمين؛ وذلك لأنهم ضلوا السبيل، ولأنهم ما عرفوا دعوة رسولهم الذي جاء بها إليهم، أو أنهم أعرضوا عنها ولم يلتفتوا إليها، وصاروا يتبعون ما وجدوا عليه أهل بلدهم، وما تواضعوه بينهم من هذه الطقوس وهذه الخرافات، التي أصبح الكفار وللأسف يقدحون في الإسلام، فيقولون: إن دين المسلمين هو طلب الحاجات من الأموات، ونقول: إن هذا ليس ديناً للمسلمين، وإنما هذا دين المشركين، أما المسلمون فهم برآء من ذلك، فلا يجوز أن يكون مثل هذا منسوباً للإسلام، وإن فعله من يتسمى بالإسلام فهو في الواقع مجرد اسم انتسب إليه. والمقصود أن اللات على هذه القراءة وعلى هذا القول: رجل، وسواء كان صالحاً أو طالحاً، إنما كان هذا صنيعه، يصنع للناس هذا الفعل، ثم لما مات دفنوه وبنوا على قبره، ونقشوا على الصخرة التي فوق قبره نقشاً يدل على تعظيمه، وأنه يفعل وأنه يفعل كما يصنع بالقبور التي يوضع فوقها النقش، يوضع فيها الرخامة التي يكتب عليها، ويكون هذا داعياً إلى التبرك بها والتوسل بها. وبعد ذلك اشتهر، وصاروا يفتخرون بعبادة هذا الرميم الميت على غيرهم من العرب، كما أن قريشاً كانت تفتخر بأنها تعبد شجرة، هذا شيء عجيب! يفتخرون بأنهم يعبدون شجرة، الشجرة كيف تنفع أو تضر؟! ولكن الواقع أن الشيطان يدخل في الشجرة؛ ولهذا يسمعون الكلام من وسط الشجرة؛ لأن الشيطان يأتي ويكون في الشجرة، هم لا يرونه، لا يدخل في جوفها، فالشيطان لا يستطيع أن يدخل في جوف الشجرة، ولكنه يدخل في غصونها ويقف عليها ويخاطبهم ويكلمهم وهذا ما أخبر الله جل وعلا به: {يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27]. ثم كثرت هذه الأوضاع وتوارثوها، فصار ديناً يورث عن الأكابر والآباء، فلما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم بالوحي من عند الله، يأمرهم بإخلاص العبادة له، صاروا يحتجون عليه بما كان يصنعه آباؤهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22] أي: وجدناهم على دين وعلى ملة، ونحن متمسكون بذلك، فهم قدوتنا وأسوتنا، ولا نترك دينهم وطريقتهم لقولك، هذا معناه: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف:22] فكانت هذه الخرافات أمراً أشربت قلوبهم بحبه ولا يتركونه. ومن السخافة أنهم كانوا يعبدون حجراً، وقد يعجب المسلم الذي عافاه الله جل وعلا من ذلك فيقول: أليس عندهم عقول؟! نقول: بلى عندهم عقول، ولكن إذا لم يجعل الله لعبده عوناً منه، فإن أول ما يجني عليه عقله واجتهاده، فلابد أن يكون للإنسان مساعد من الله وعون منه يرشده ويمده إلى الطريق السوي وإلا هلك. يقول أحد الذين هداهم الله جل وعلا بدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت: (أرسلني أهلي بلبن وزبد إلى الآلهة، وكنت محتاجاً إلى ذلك، وأود أني أشربه وآكل الزبد، ولكن خفت من الآلهة، فذهبت به ووضعته تحت الآلهة لتأكل، ماذا صار؟ يقول: فجاء الثعلب فشرب اللبن، وأكل الزبد، وبال على الآلهة، فقلت: أهذه آلهة؟ يتعجب!! أرب يبول الثعلبان برأسه قد ذل من بالت عليه الثعالب يقضى على المرء أيام محنته حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة:41]. لما صار ما صار على سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه يوم أحد تمحيصاً وابتلاء، وعلى من معه من المؤمنين، وانتصر عليهم المشركون، وقتل منهم من قتل، وصار رئيس الكفار في أعلى جبل أحد ينادي ويهتف بصوته لما كان مشركاً يعبد الأصنام، ويقول: (اعل هبل، اعل هبل، اعل هبل) هبل هو؟ صنم في مكة قد خلفه، أصم أبكم لا يسمع ولا ينطق ولا يملك شيئاً، ويقول له وهو في المدينة هنا: اعل، يعني: تصير أنت العالي؛ ولهذا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يردوا عليه وأن يقولوا: (الله أعلى وأجل). فهذا في الواقع هو دين الشرك، هكذا العقل الذي شرف الله جل وعلا به عباده وميزهم به عن البهائم وعن الكلاب والحمير وغيرها، ميزهم بهذا العقل. فما بال الإنسان ينتكس ويرمي عقله تحت قدميه، ثم يصبح قلبه متعلقاً بمن هو أقل منه قيمة بكثير؟! الحي يستطيع أن ينفع، يستطيع أن يمشي، يستطيع أن يذهب، يستطيع أن يأتي، يستطيع أن يملك شيئاً، وأن يتصرف التصرف المحدود، أما الميت فماذا يصنع؟! لا شيء. الميت عظام رميم أو حبات تراب قد ذهبت أجزاؤه وصارت تراباً، أما روحه فهي معذبة أو منعمة، وغافلة عما يفعل هذا الذي يدعوه ويطلب منه، فإذا صار يوم القيامة قال له: كذبت ولعنه، وأنا بريء منك ومن دعوتك، سواء كان صالحاً أو غير صالح فإنه يتبرأ منه: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:5 - 6]، وقال: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [العنكبوت:25]. هكذا المعبود يلعن العابد، والعابد يلعن المعبود، وكل واحد يتبرأ من الآخر. {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا} [البقرة:167] ولكن هيهات انتهت القضية، وحقت الحاقة، ووجب العذاب، فما يفيد الندم، ولا تفيد المعاداة، ولكن العذاب كله يجمع عليه، والحسرات تجتمع عليه، في وقت لا يملكون شيئاً، وإنما يتمنون أن يردوا لعلهم يخلصون الدعوة، فهذه حقيقة شرك المشركين، وهي حقيقة شرك المشركين في وقتنا تماماً، إن لم يكن شرك هؤلاء الذين يعبدون القبور أعظم من شرك أولئك بدرجات فهو ليس بدونه، ولكنه في الواقع أعظم منه من وجوه: الوجه الأول: أن الكفار في القديم أكثر عقلاً من هؤلاء؛ لأنهم إذا قيل لهم: أهذه التي تدعونها تنفع أو تضر؟ قالوا: لا، ما تنفع ولا تضر، ولكن نريد الشفاعة، هي ليست لها ذنوب فنحن نطلب منها الشفاعة، أما هؤلاء إذا قيل لهم مثل ذلك قالوا: هؤلاء أعطاهم الله التصرف، فهم يتصرفون في الكون، ويملكون الرزق، ويملكون العافية والصحة، ويملك الواحد منهم أن يعطيك ولداً، ويملك أن يمنعك من المال، أو أن يعطيك المال أو غير ذلك من الغلو الزائف، فأي عقل هذا؟! أين تذهب العقول؟! الوجه الثاني: أن المشركين الأوائل إذا وقعوا في كرب وشدة أخلصوا العبادة لله وحده قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65]، إذا جاءت السلامة والعافية أشركوا، أما في وقت الكرب والشدة فهم يخلصون، أما هؤلاء إذا وقعوا في الشدائد زاد شركهم، وصار أحدهم يبكي ويتضرع أمام القبر، ويدعوه بتلهف وبدموع تسيل، وبكاء لا يحصل منه في المسجد إذا قام يصلي بين يدي الله، فأي نسبة بين هؤلاء وهؤلاء؟ ثم إذا قلنا: إن القراءة الأخرى أيضاً اللات مخففة فهل معناها أخذت من اللت؟ يجوز أن تكون أخذت من اللت، وأنها خففت لكثرة الاستعمال، فجاءت القراءة بالتخفيف على لغة العرب؛ لأن الله خاطبهم بلغتهم وعادتهم، والكلمة إذا استعملت وكثر استعمالها وكان فيها ثقل على اللسان فإنهم يخففونها، وهذا أمر معروف في اللغة. أما القول الثاني: أن الاشتقاق من غير اللت، وأنه من الإلحاد في أسماء الله جل وعلا، قال الله جل وعلا: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف:180] الإلحاد: هو الميل عن القصد المراد إلى غير ما أراده الشارع، فهم يقولون: إنهم اشتقوا لهذا الصنم اسماً من أسماء الله، فهم قالوا: اللات من الإله، يعني: أنهم أخذوا اسمه من الل

التعلق بالقبور سبب وقوع الشرك في الأرض أول مرة

التعلق بالقبور سبب وقوع الشرك في الأرض أول مرة قد سبق أن أول شرك وقع في الأرض في قوم نوح بسبب القبور، كما قال جل وعلا: {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا * وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا * وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح:21 - 23] فود وسواع ويغوث ويعوق ونسر هذه أسماء رجال صالحين لما ماتوا صوروهم ثم عبدوهم، وهناك قول آخر وهو: إنهم لما قبروهم عبدوا قبورهم، فهم صوروهم ونصبوهم في مجالس معينة، فصاروا يعظمونهم حتى صارت آلهة يعبدونها، فصار يوصي بعضهم بعضاً بالتمسك بعبادتهم؛ لئلا يؤثر عليهم نبي الله نوح عليه السلام: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} [نوح:23] لا تذرنها لقول نوح، إياكم أن تتركوها لقول نوح هذا معناه، ثم أكدوا على هذه الأصنام كلها {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} [نوح:23] وهذه توصية عامة بالتمسك بالآلهة كلها على اختلاف أنواعها، ثم أكدوا وصية مؤكدة خاصة بعد ذلك بالتمسك بهذه الأصنام الخمسة: {وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح:23] فدل هذا على أن الفتنة في هذا قريبة وليست كما يقول من جهل الحكمة التي نهى الشارع من أجلها عن تحري العبادة عند القبور، أو أداء العبادة عندها، وقال: إن المراد بالنهي النجاسة، فإن المقبرة نجسة فلا يصلى فيها، وإلا لو خلت من النجاسة أو فرش فراش على هذه القبور وصليت عندها فلا بأس، أهذا يقوله من يعرف مراد الشرع؟ كلا. ما يقوله إلا إنسان ما عرف مراد الشارع، وإنما المراد هو خوف أن تقع العبادة لهؤلاء الأموات، وهذا عجيب أن ميتاً أفضى إلى ما عمل يطلب منه أن ينفع الحي، والسبب في هذا اعتقاد الصلاح، واعتقاد الولاية، وأنه ولي، وأن الولي يعطى مطلوبه، وأنه إذا سئل منه شيء فيمكنه أن ينفع في هذا الشيء، هذا هو أساس الشرك، وهذا هو أصله. قال الشارح: [قوله: ولـ ابن جرير هو الإمام الحافظ محمد بن جرير بن يزيد الطبري صاحب التفسير والتاريخ والأحكام وغيرها قال ابن خزيمة: لا أعلم على الأرض أعلم من محمد بن جرير وكان من المجتهدين لا يقلد أحداً، وله أصحاب يتفقهون على مذهبه ويأخذون بأقواله، ولد سنة أربع وعشرين ومائتين، ومات ليومين بقيا من شوال سنة عشر وثلاثمائة]. في زمنه رحمه الله نظراؤه كثير، كان الأئمة المجتهدون كثيرين، ولكن بعضهم صار له أصحاب يذكرون أقوالهم ويتفقهون على أقوالهم وينشرونها، فاشتهر منهم الأئمة الأربعة: وهم الإمام مالك والإمام أبو حنيفة والشافعي وأحمد رحمهم الله جيمعاً، ولهم نظراء كثير، مثل: سفيان الثوري، ومثل: الليث بن سعد، ومثل: الزهري ويصعب حصرهم وكلهم أئمة كبار، ولهم اجتهاد، ولهم إدراك وفقه عميق، ولكن ما صار لهم أصحاب مثلما صار لهؤلاء، مع أن الأئمة هؤلاء أنفسهم كانوا ينهون الناس أن ينقلوا أقوالهم ويدونوها، ويقولون لهم: تفقهوا في كتاب الله وفي أحاديث رسوله كما فعلنا نحن، واتركوا أقوالنا، ومعلوم أن المسائل تتجدد، وأن كثيراً من الناس لا يستطيع أن يستنتج حكم الفعل الذي يفعله أو الأمر الذي يقع له، ما يستطيع أن يستنتجه من كتاب الله ومن أحاديث رسوله، فيذهب إلى سؤال العلماء، أو ينظر في أقوالهم، فيجد فيها الشيء الذي يطابق الفعل؛ لكثرتها ولكثرة الأسئلة، ولكونهم تكلموا في مثل هذه المسائل، فمن هنا صاروا يعتنون بأقوالهم. التقليد: هو أن يتبع الإنسان غيره بغير دليل، أن تتبع هذا الشخص بلا دليل، كأن يقول لك: افعل كذا فتتبعه وتأخذ بقوله، أما اعتبار قوله بالدليل والنظر إلى الدليل فهذا لا يكون تقليداً؛ ولهذا يستعان بأقوال العلماء في معرفة معاني كلام الله، ومعاني كلام رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولأن الإنسان إذا عرف اللغة وفهم مراد المتكلم واستعان بأقوال العلماء فإنه يتبين له الحق، ولا يكون بذلك مقلداً، أما إذا كان الإنسان ليس عنده استطاعة، فلابد له من التقليد، فالإنسان العامي كيف يقال له: ابحث عن الدليل؟! هذا ما يجوز، وقد قال الله جل وعلا: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] فأمر بسؤالهم، ومعلوم أن الأمر بسؤالهم يقتضي أن يتبعهم في أقوالهم، هذا هو الذي لا يستطيع أكثر المسلمين إلا ذلك، ولا يجوز أن يكلفوا بالشيء الذي لا يطيقونه، لا كما يقول بعض من لم يتمكن من العلم: يجب على الناس أن يعرفوا أدلة الأحكام، وأن يعرفوا حكم الوقائع من الكتاب والسنة، كلهم عليهم أن يعرفوا ذلك! نقول: هذا مستحيل ما يمكن، وليس عيباً كون الإنسان يقلد إماماً من الأئمة الذين صار لهم لسان صدق في الأمة، وعرفوا بعلمهم وتقواهم وحرصهم على نفع الناس، وشدة اتباعهم للرسول صلى الله عليه وسلم، وعرف اقتداؤهم بالسلف، ليس عيباً ولكن على الإنسان أن يتقي الله حسب استطاعته فإذا لم يستطع فإن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها. قال الشارح: [قوله: عن سفيان الظاهر: أنه سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري أبو عبد الله الكوفي ثقة حافظ فقيه إمام عابد، كان مجتهداً، وله أتباع يتفقهون على مذهبه، مات سنة إحدى وستين ومائة، وله أربع وستون سنة. قوله: عن منصور هو ابن المعتمر بن عبد الله السلمي ثقة ثبت فقيه مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة. قوله: عن مجاهد هو ابن جبر -بالجيم والموحدة- أبو الحجاج المخزومي مولاهم المكي ثقة إمام في التفسير، أخذ عن ابن عباس وغيره -رضي الله عنهم- مات سنة أربع ومائة، قاله يحيى القطان، وقال ابن حبان: مات سنة اثنتين أو ثلاث ومائة وهو ساجد، ولد سنة إحدى وعشرين في خلافة عمر رضي الله عنه]. ومجاهد من تلامذة ابن عباس وكان يقول: عرضت المصحف على ابن عباس مرتين، أسأله عن كل آية فيما نزلت وما معناها؛ ولهذا السبب اعتمد البخاري رحمه الله في صحيحه قول مجاهد؛ لأنه لاحظ في ذلك ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لـ ابن عباس: (اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل) والتأويل في لغة السلف المقصود به التفسير، (علمه التأويل) يعني: تفسير القرآن، ولهذا اشتهر ابن عباس بتفسير القرآن، ولهذا السبب اعتمد البخاري رحمه الله على قوله، استناداً إلى دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم له.

سبب غلو المشركين في اللات

سبب غلو المشركين في اللات قال الشارح: [قوله: (كان يلت السويق لهم فمات فعكفوا على قبره) في رواية: (فيطعم من يمر من الناس فلما مات عبدوه وقالوا: هو اللات) رواه سعيد بن منصور ومناسبته للترجمة: أنهم غلوا فيه لصلاحه حتى عبدوه، وصار قبره وثناً من أوثان المشركين]. واللات ليس من أقدم الأصنام، فمناة وجدت قبل اللات، بدليل أن العرب لهم أسماء عبد مناة كثيرة، فهم يعبدون أبناءهم لهذه الأصنام مثل: عبد العزى، وعبد مناة، وعبد اللات، وعبد ياليل، وعرف في التاريخ أنه استحدث فيما بعد عندهم. وقوله: (كان صالحاً) أي: الصلاح الذي كان معهوداً عندهم، ولا يلزم من هذا أن يكون مسلماً، بل الصلاح الذي كان معهوداً عندهم. قال الشارح: [قوله: وكذا قال أبو الجوزاء هو أوس بن عبد الله الربعي بفتح الراء والباء مات سنة ثلاث وثمانين. قال البخاري: حدثنا مسلم وهو ابن إبراهيم حدثنا أبو الأشهب حدثنا أبو الجوزاء عن ابن عباس قال: (كان اللات رجلاً يلت سويق الحاج). قال ابن خزيمة: وكذا العزى، وكانت شجرة عليها بناء وأستار بنخلة، بين مكة والطائف، كانت قريش يعظمونها، كما قال أبو سفيان يوم أحد: لنا العزى ولا عزى لكم].

شرح فتح المجيد [65]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [65] إن طبيعة المرأة -التي تتسم بالضعف وقلة الصبر- تحملها على الجزع والندب والنياحة عند الموت، وعند زيارة القبور، فإذا كانت زيارة النساء للقبور مظنة وسبباً لحصول أمور محرمة، فإنها تمنع من ذلك؛ لأن من أصول الشريعة: أن الحكمة إذا كانت خفية أو مستترة علق الحكم بمظنتها.

حديث: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج

حديث: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج) رواه أهل السنن]. وجه الاستشهاد من الأثر السابق الذي أورده المؤلف: هو أن الغلو في القبور الزيارة التي يكون فيها الاستنجاد بالميت أو طلب النفع منه؛ تجعل القبر وثناً يعبد، ويكون الإنسان واقعاً في الشرك، وفي هذا تحذير الإنسان أن يغلو في القبور غلواً يتجاوز المشروع، وإنما يجب عليه أن يتقيد بالسنة التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأن تكون الزيارة لأجل الاتعاظ والاعتبار، ولأجل الاستغفار للميت فقط، ولا يتخذ ذلك عيداً يتردد ويتكرر في اليوم عدة مرات، وإنما يكون في وقت دون وقت، كما هو معروف عن السلف. ولهذا لا يقتصر هذا الحكم على قبور المسلمين، بل يجوز أن تزار قبور الكفار، ولكن يجب أن تكون زيارة قبور الكفار للاتعاظ فقط، وليس للاستغفار ولا للدعاء لهم، وإنما يكون للموعظة؛ لأن العلة موجودة وهي الاتعاظ، سواء كان المقبور مسلماً أو غير مسلم، ولكن إذا كان مسلماً يضاف إلى ذلك أنه يستغفر له ويدعو له؛ لأن المسلم أخو المسلم، وينبغي بل يجب عليه أن يود له ما يود لنفسه، وإذا كان في كرب وفي شدة وقد ارتهن بعمله وختم على صحائفه ولم تزدد له حسنة ولم تنقص من سيئاته سيئة؛ فهو في أمس الحاجة إلى من يأتي من إخوته ويستغفر له ويدعو له، لعل حسنة تضاف إليه، أو سيئة تمحى عنه، وهذا من أعظم الإحسان، فيكون هذا شبيهاً بالصلاة على الميت؛ لأن الصلاة هذا مقصودها؛ لأنه انتهى عمله، وطويت صحائفه، فصلاه المسلمين عليه زيادة في صحيفته، ويطلبوا من ربهم جل وعلا أن يحط من سيئاته؛ ولهذا جاء دعاء الجنازة مشتملاً على هذه المعاني، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا صليتم على الجنازة فأخلصوا له الدعاء) قوله: (أخلصوا له الدعاء) معناه: اجعلوا دعاءكم له، لا تجعلوه لأنفسكم ولغيركم، أخلصوا له الدعاء ولكن جاء في تعليمه صلى الله عليه وسلم أن دعاء الجنازة كما سيأتي يكون على قسمين: قسم يكون دعاء عاماً، ثم بعد ذلك يكون دعاء خاصاً، أول ما تبدأ تقول: (اللهم اغفر لحينا وميتنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، وحاضرنا وغائبنا) وهذا يكون للمسلمين عموماً، ثم بعد ذلك يدعو للميت نفسه بقوله: (اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه، وأكرم نزله ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس) إلى آخر الدعاء، والمقصود أن هذا إحسان إليه وهو بحاجة إلى ذلك. وزيارة القبور مثل هذا، يعني: يزوره ليدعو له بعدما يتعظ هو بنفسه، أما إذا تعدت هذين المعنيين فهي بدعة، ولا ينتفع بها الإنسان، لا الميت ولا الحي، بل الحي يتضرر، أما الميت ما يضره ذلك؛ لأن هذا فعل الحي. قال الشارح: [قلت: وفي الباب حديث أبي هريرة وحديث حسان بن ثابت. فأما حديث أبي هريرة فرواه أحمد والترمذي وصححه، وحديث حسان أخرجه ابن ماجة من رواية عبد الرحمن بن حسان بن ثابت عن أبيه قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور). وحديث ابن عباس هذا في إسناده أبو صالح مولى أم هانئ وقد ضعفه بعضهم ووثقه بعضهم. قال علي بن المديني عن يحيى القطان: لم أر أحداً من أصحابنا ترك أبا صالح مولى أم هاني، وما سمعت أحداً من الناس يقول فيه شيئاً، ولم يتركه شعبة ولا زائدة ولا عبد الله بن عثمان، قال ابن معين: ليس به بأس، ولهذا أخرجه ابن السكن في صحيحه، انتهى من الذهب الإبريز عن الحافظ المزي]. إذا كان الحديث في سنده من تكلم فيه، ولم يرضه بعض الحفاظ، وبعضهم سكت عنه، ثم جاء الحديث بسند آخر من طريق آخر فهذا الذي يقول الترمذي عنه: إنه حسن، وهذا الحديث جاء من عدة طرق ليس من طريق واحد، بل كثرت الطرق وتعددت، ومع ذلك اختلف الصحابي، فدل هذا على أنه من أقوى ما يقال عنه: إنه من قبيل الحسن، فالحكم عليه بأنه ضعيف غير صحيح؛ لأنه تعددت طرقه، واختلاف الرواة فيه يدل على أن له أصلاً، وأنه ليس غلطاً، وليس وهماً من الراوي، فهذا أقوى مما وسمه الترمذي رحمه الله؛ لأنه إذا قال: هذا الحديث حسن فمقصوده إذا تعددت طرقه، وإن كانت طرقه ضعيفة، بل بسبب التعدد وكونه جاء من أكثر من طريق يحكم عليه بأنه حسن.

القول الراجح في زيارة النساء للقبور

القول الراجح في زيارة النساء للقبور سبق أن اللعن من الله جل وعلا: الطرد والإبعاد، فالملعون هو المبعد عن الخير وعن الرحمة، وأن الله جل وعلا يلعن من يشاء كما أنه يرحم من يشاء، ولكن الملعون من حقت عليه اللعنة واستحقها، وسبق أيضاً أنه إذا جاء لعن فاعل فعل من الأفعال فإن هذا الفعل يكون كبيرة من كبائر الذنوب، ولا يلعن فاعل فعل يكون فعله خلاف الأولى، بل لكونه فعل فعلاً هو معصية وكبيرة من الكبائر فعلى هذه القاعدة يقال: إن زائرات القبور من النساء ملعونات، وأن زيارة القبور منهن كبيرة من الكبائر، ولا فرق بين زيارة قبر أو زيارة قبور، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة: فمنهم من قال: إنه لا يجوز للنساء زيارة القبور مطلقاً، بل ولا يجوز اتباع الجنائز لهن، أما اتباع الجنائز فجاء في الحديث الصحيح أنه قال: (ارجعن مأزورات غير مأجورات، فإنكن تؤذين الميت، وتفتن الحي) أو نحو ذلك وهذا يدل على أنه لا يجوز، فإذاً: النساء ممنوعات من اتباع الجنائز، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من صلى على جنازة فله قيراط، ومن صلى عليها واتبعها فله قيراطان) فهنا (من) لفظ عام بالاتفاق، يدخل فيه الرجال والنساء، ولكن جاء دليل خاص أخرج النساء من ذلك، فخرجن من هذا العموم بدليل خاص. أما الزيارة للنساء فجاء فيه اللعن، ولكن سبب الخلاف أنه جاء ما يدل على الجواز، فقد جاء عن عائشة رضي الله عنها أنها زارت قبر أخيها عبد الرحمن فلما قيل لها: (ألم ينه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيارة القبور؟ قالت: نعم، نهى ثم رخص، ولو حضرته عند موته ما زرته) فهذا في الواقع ليس فيه حجة ولا دليل فيه؛ لأن ظاهره كما احتجت بأن النهي جاء أولاً ثم جاء بعده الإذن العام، ولم يحتج عليها القائل بأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى النساء خاصة، فكأنها ما بلغها هذا، فلا يكون في ذلك حجة. أما المرأة التي جاءت قصتها في الصحيح أنه مر صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر فقال لها: (اتقي الله، فقالت: إليك عني فإنك لم تصب بما أصبت به، فقيل لها: هذا رسول الله، فندمت وجاءت إلى بيته، فلم تجد عنده بواباً فقالت: يا رسول الله! أصبر، فقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى) فهذا الحديث صحيح، ولكن ما يعرف تاريخه، وإذا كان الأمر هكذا فلا يؤخذ بالشيء العام باتفاق العلماء بل يقدم الخاص على العام. ومعلوم أن العلة إذا عرفت فإن الحكم يناط بها، فالنساء قلوبهن أرق من قلوب الرجال، وهن أضعف عقولاً، وصبرهن أقل، فربما يقعن في زيارتهن في الأمور الممنوعة، والنفع الذي يكون فيها هو كونهن يتعظن، وإذا كانت الأمور المحذورة أو الممنوعة أكثر مما يرجى منه النفع فلا يجوز أن يؤذن لهن، ولا يجيز الشارع في مثل هذا، أما مجرد الاستغفار فيمكنهن أن يستغفرن وهن في بيوتهن. أما ما جاء أن الرسول صلى الله عليه وسلم علم عائشة كيف تقول إذا زارت القبور، فهذا لا يدل على جواز الزيارة، ولكن إذا مرت المرأة في طريقها على القبور فيجوز لها أن تقول هذا الدعاء وهي سائرة في الطريق، وهذا غير ممنوع، فالذي يظهر أنه علمها هذا من أجل أنها إذا مرت على قبور في طريقها وهي سائرة أن تقول هذا الدعاء، فيبقى النهي على بابه، وهذا هو الراجح، فلا يجوز للنساء أن يزرن القبور، بل زيارتهن محرمة، وإذا جاء عن العلماء أنها مكروهة فإن هذه الكراهة تحمل على كراهة التحريم، ولا فرق بين زيارة القبور في المقابر، أو زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، لا فرق بين هذا وهذا، فإذا منع النساء من زيارة قبور الناس فهن ممنوعات أيضاً من زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم. قال الشارح: [قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريقين: فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعن زوارات القبور) وذكر حديث ابن عباس ثم قال: ورجال هذا ليس رجال هذا، فلم يأخذه أحدهما عن الآخر، وليس في الإسنادين من يتهم بالكذب، ومثل هذا حجة بلا ريب. وهذا من أجود الحسن الذي شرطه الترمذي؛ فإنه جعل الحسن إذا تعددت طرقه، ولم يكن فيه متهم، ولم يكن شاذاً أي: مخالفاً لما ثبت بنقل الثقات. وهذا الحديث تعددت طرقه، وليس فيها متهم، ولا خالفه أحد من الثقات، هذا لو كان عن صاحب واحد، فكيف إذا كان هذا رواه عن صاحب، وذاك عن آخر؟ فهذا كله يبين أن الحديث في الأصل معروف. والذين رخصوا في الزيارة، اعتمدوا على ما روي عن عائشة رضي الله عنها: (أنها زارت قبر أخيها عبد الرحمن وقالت: لو شهدتك ما زرتك)، وهذا يدل على أن الزيارة ليست مستحبة للنساء كما تستحب للرجال، إذ لو كان كذلك لاستحبت زيارته، سواء شهدته أم لا. قلت: فعلى هذا لا حجة فيه لمن قال بالرخصة. وهذا السياق لحديث عائشة رواه الترمذي من رواية عبد الله بن أبي مليكة عنها، وهو يخالف سياق الأثرم له عن عبد الله بن أبي مليكة أيضاً: (أن عائشة رضي الله عنها أقبلت ذات يوم من المقابر، فقلت لها: يا أم المؤمنين! أليس نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيارة القبور؟ قالت: نعم، نهى عن زيارة القبور ثم أمر بزيارتها). فأجاب شيخ الإسلام رحمه الله عن هذا وقال: ولا حجة في حديث عائشة، فإن المحتج عليها احتج بالنهي العام، فدفعت ذلك بأن النهي منسوخ، ولم يذكر لها المحتج النهي الخاص بالنساء الذي فيه لعنهن على الزيارة. يبين ذلك قولها: (قد أمر بزيارتها) فهذا يبين أنه أمر بها أمراً يقتضي الاستحباب، والاستحباب إنما هو ثابت للرجال خاصة. ولو كانت تعتقد أن النساء مأمورات بزيارة القبور، لكانت تفعل ذلك كما يفعله الرجال، ولم تقل لأخيها: لما زرتك. واللعن صريح في التحريم، والخطاب بالإذن في قوله: (فزوروها) لم يتناول النساء، فلم يدخلن في الحكم الناسخ، والعام إذا عرف أنه بعد الخاص لم يكن ناسخاً له عند جمهور العلماء، وهو مذهب الشافعي وأحمد في أشهر الروايتين عنه، وهو المعروف عند أصحابه. فكيف إذا لم يعلم أن هذا العام بعد الخاص؟ إذ قد يكون قوله: (لعن الله زوارات القبور) بعد إذنه للرجال في الزيارة؛ يدل على ذلك أنه قرنه بالمتخذين عليها المساجد والسرج، ومعلوم أن اتخاذ المساجد والسرج المنهي عنها محكم، كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، وكذلك الآخر. والصحيح: أن النساء لم يدخلن في الإذن في زيارة القبور لعدة أوجه: أحدها: أن قوله صلى الله عليه وسلم: (فزوروها) صيغة تذكير وإنما يتناول النساء أيضاً على سبيل التغليب. لكن هذا فيه قولان: قيل: إنه يحتاج إلى دليل منفصل، وحينئذ فيحتاج تناول ذلك للنساء إلى دليل منفصل. وقيل: إنه يحمل على ذلك عند الإطلاق. وعلى هذا فيكون دخول النساء بطريق العموم الضعيف، والعام لا يعارض الأدلة الخاصة ولا ينسخها عند جمهور العلماء، ولو كان النساء داخلات في هذا الخطاب لاستحب لهن زيارة القبور، وما علمنا أحداً من الأئمة استحب لهن زيارة القبور، ولا كان النساء على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين يخرجن إلى زيارة القبور. ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم علل الإذن للرجال بأن ذلك (يذكر الموت، ويرقق القلب، وتدمع العين) هكذا في مسند أحمد، ومعلوم أن المرأة إذا فُتح لها هذا الباب أخرجها إلى الجزع والندب والنياحة؛ لما فيها من الضعف وقلة الصبر، وإذا كانت زيارة النساء مظنة وسبباً للأمور المحرمة، فإنه لا يمكن أن يحد المقدار الذي لا يفضي إلى ذلك، ولا التمييز بين نوع ونوع، ومن أصول الشريعة: أن الحكمة إذا كانت خفية أو منتشرة علق الحكم بمظنتها فيحرم هذا الباب؛ سداً للذريعة، كما حرم النظر إلى الزينة الباطنة، وكما حرم الخلوة بالأجنبية وغير ذلك، وليس في ذلك من المصلحة ما يعارض هذه المفسدة، فإنه ليس في ذلك إلا دعاؤها للميت، وذلك ممكن في بيتها. ومن العلماء من يقول: التشييع كذلك، ويحتج بقوله صلى الله عليه وسلم: (ارجعن مأزورات غير مأجورات، فإنكن تفتن الحي وتؤذين الميت) وقوله صلى الله عليه وسلم لـ فاطمة: (أما إنك لو بلغت معهم الكدى لم تدخلي الجنة) ويؤيده ما ثبت في الصحيحين: (من أنه نهى النساء عن اتباع الجنائز)، ومعلوم أن قوله صلى الله عليه وسلم: (من صلى على جنازة فله قيراط، ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان) هو أدل على العموم من صيغة التذكير، فإن لفظ (من) يتناول الرجال والنساء باتفاق الناس، وقد علم بالأحاديث الصحيحة أن هذا العموم لم يتناول النساء لنهي النبي صلى الله عليه وسلم لهن عن اتباع الجنائز، فإذا لم يدخلن في هذا العموم فكذلك في ذلك بطريق الأولى. انتهى ملخصاً].

خلاف العلماء في حكم زيارة النساء للقبور

خلاف العلماء في حكم زيارة النساء للقبور مسألة زيارة النساء للقبور فيها نصوص منها ما هو مظنة الجواز أو المنع، والراجح المنع مطلقاً، سواء كانت القبور مجموعة أو قبراً واحداً، لا فرق بين المجموع وبين المفرد، فيدخل كل ذلك في نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمنع يكون مطلقاً، واللعن معناه الطرد والإبعاد من الرحمة، والرسول صلى الله عليه وسلم يلعن على الأفعال التي تكون من الكبائر أو تنافي الواجبات التي شرعها الله جل وعلا، والذي يلعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم -سواء قدر أن اللعن دعاء أو أنه خبر- يكون قد فعل فعلاً استحق عليه ذلك اللعن، أما إذا كان في شيء لا يستحق عليه اللعن فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه اشترط على ربه أن كل من لعنه وهو لا يستحق اللعنة أن يجعلها الله جل وعلا عليه صلاة ورحمة. ثم هذه الأحاديث جاء ما فيه شبه معارضة لها، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها)، قيل: (فزوروها) عموم يدخل فيه الرجال والنساء، وبهذا احتج من قال: إن زيارة النساء للقبور جائزة، قال: فقوله: (زوروها) عام، والرسول صلى الله عليه وسلم إذا خاطب الأمة بحكم من الأحكام يكون خطابه شاملاً للذكور والإناث إلا أن يأتي مخصص، ونقول: جاء دليل أخرجه من هذا العموم، مع أن الخلاف موجود بين العلماء فيما إذا جاء الخطاب من الرسول صلى الله عليه وسلم للذكور هل يدخل في ذلك النساء؟ على قولين للعلماء: منهم من قال: لا تدخل فيه النساء، ومنهم من قال: يدخلن، أما في هذه المسألة بعينها فإنه جاء فيها تخصيص يخرج هذا الادعاء، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله زورات القبور، والمتخذين عليها السرج)، فاللعن يكون على شيء محرم ليس على فعل شيء مكروه تركه أولى من فعله، بل يكون على شيء محرم فعله محرم، وبهذا يتبين أن الصواب أن تمنع النساء من زيارة القبور.

الجواب عن حديث عائشة

الجواب عن حديث عائشة الحديث الذي يروى عن عائشة جاء على وجهين: أحدهما: أنها زارت قبر أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر، ولما زارته قالت: لو كنت شهدتك ما زرتك. يعني: لو شهدت موتك ما زرتك، وعبد الرحمن دفن في المقابر، فيكون هذا دليل على الجواز. وأما الصيغة الأخرى فإنها جاءت مطلقة، أنها رؤيت قد أقبلت من المقابر فقيل لها: ألم ينه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيارة القبور؟ فقالت: نهى ثم رخص، وهذا -كما هو ظاهر- لا حجة فيه؛ لأن الترخيص للرجال فقط، فإنه قال: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزورها) فإذا فهمت أن النساء دخلن في هذا العموم فمعنى ذلك أنها لم يبلغها النهي الخاص، وإذا لم يبلغ الإنسان أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فإنه يكون معذوراً في ذلك، ولكن لا يكون فعله حجة، مع أن أصل المسألة عند العلماء إذا جاء فعل للصحابي مخالف لقول الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه لا ينظر إليه، وإنما الحجة في قول النبي صلى الله عليه وسلم. وحديثها الأول كونها تعللت بأنها ما حضرته، ولو حضرته ما زارته، يدلنا بمفهومه أن الزيارة للنساء غير مستحبة، وهذا يدل أيضاً على أن النساء في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمن الصحابة ما كان معروفاً زيارتهن للقبور، وهذا أيضاً دليل آخر يضم إلى المسألة، فإنه لم يعرف أن النساء كن يزرن القبور في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد الصحابة، ويكون قولها هذا دليلاً على أنها ما بلغها النهي الخاص الذي فيه لعن زائرات القبور، وبهذا يتبين أن الدليل سالم من المعارضة. يبقى ما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم علمها دعاء زيارة القبور إذا زارتهم أن تقول: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم)، فهذا الدعاء جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه عائشة لما سألته، وهذا لا دليل فيه؛ لأن المرأة قد تمر على القبور في طريقها، وإذا مرت في طريقها على المقابر تسلم عليهم كغيرها من الناس، ولكن لا يجوز أن تذهب قاصدة للزيارة، فهذا هو ملخص الكلام الذي ذكره الشارح، وهذا هو الصواب في المسألة، وهو أن النساء ممنوعات من زيارة القبور. أما مسألة اتباع الجنائز فهذه لا إشكال فيها؛ لأن الأحاديث فيها صحت، ففي الصحيحين أن الرسول صلى الله عليه وسلم منع النساء من ابتاع الجنائز، وروي أنه قال: (إنكن تفتن الحي، وتؤذين الميت) وهذا تعليل للمنع، فكيف بزيارة القبور؟ فهي أعظم من ذلك، وهذا ينبغي أيضاً أن يكون دليلاً آخر على منع النساء من زيارة القبور، وإذا كان الإنسان يطلب الخير عند الله جل وعلا فينبغي له أن يتحرى الصواب في الأعمال التي يأتيها، ويجتنب الشيء الذي فيه الخطورة، فهذه المسألة لا أحد من العلماء يقول: إن المرأة إذا لم تزر القبور فإنها آثمة، بل بالعكس فإن أكثر العلماء يقول: إنها مرتكبة كبيرة من كبائر الذنوب، فيجب الابتعاد عن مثل هذا، وهذا ليس في هذه المسألة خاصة، بل في مسائل كثيرة نظير هذه المسألة. ثم الدليل الخاص لا ينسخه الدليل العام، ولا يخصصه كما في هذه المسألة، وهذه مسألة أصولية عند علماء الأصول، وذلك أن الخاص ينص على إخراج أفراد معينين، فيكون الدليل العام ليس متناولاً لذلك، وهذا أيضاً يكون جواباً على من استدلوا بفعل عائشة رضي الله عنها أو نحو ذلك. قال الشارح: [قلت: ويكون الإذن في زيارة القبور مخصوصاً للرجال، خص بقوله: (لعن الله زوارات القبور) الحديث فيكون من العام المخصوص. وعما استدل به القائلون بالنسخ أجوبة أيضاً: منها: أن ما ذكروه عن عائشة وفاطمة رضي الله عنهما معارض لما ورد عنهما في هذا الباب فلا يثبت به نسخ]. يعني: ثبت عنهما أيضاً خلاف ذلك، فلا يثبت بهذا النسخ، ثم هو فعل صحابي والفعل لا يعارض قول الرسول صلى الله عليه وسلم. قال الشارح: [ومنها: أن قول الصحابي وفعله ليس حجة على الحديث بلا نزاع، وأما تعليمه عائشة رضي الله عنها كيف تقول إذا زارت القبور ونحو ذلك، فلا يدل على نسخ ما دلت عليه الأحاديث الثلاثة من لعن زائرات القبور؛ لاحتمال أن يكون ذلك قبل هذا النهي الأكيد والوعيد الشديد، والله أعلم].

البناء على القبور ليس من الإسلام

البناء على القبور ليس من الإسلام قال الشارح رحمه الله: [قال محمد بن إسماعيل الصنعاني رحمه الله في كتابه تطهير الاعتقاد: فإن هذه القباب والمشاهد التي صارت أعظم ذريعة إلى الشرك والإلحاد، وأكبر وسيلة إلى هدم الإسلام وخراب بنيانه: غالب بل كل من يعمرها هم الملوك والسلاطين والرؤساء والولاة، إما على قريب لهم أو على من يحسنون الظن فيه، من فاضل أو عالم أو صوفي أو فقير أو شيخ أو كبير، ويزوره الناس الذين يعرفونه زيارة الأموات من دون توسل به، ولا هتف باسمه، بل يدعون له ويستغفرون، حتى ينقرض من يعرفه أو أكثرهم فيأتي من بعدهم فيجد قبراً قد شيد عليه البناء، وسرجت عليه الشموع، وفرش بالفراش الفاخر، وأرخيت عليه الستور، وألقيت عليه الأوراد والزهور؛ فيعتقد أن ذلك لنفع أو دفع ضر، وتأتيه السدنة يكذبون على الميت بأنه فعل وفعل، وأنزل بفلان الضر وبفلان النفع حتى يغرسوا في جبلته كل باطل. والأمر ما ثبت في الأحاديث النبوية من لعن من أسرج على القبور وكتب عليها وبنى عليها، وأحاديث ذلك واسعة معروفة، فإن ذلك في نفسه منهي عنه]. مثل هذا الحديث: أنه لعن زائرات القبور والمتخذين عليها السرج، ومقصود الصنعاني رحمه الله أن البناء على القبور ليس من الإسلام في شيء، ولا يمت إلى شيء من الأدلة، وإنما يفعله أناس جهلة أصحاب ثروات أو أصحاب سلطة، ويكون ذلك تعظيماً لقريب لهم ليميزوه؛ لأنه كان متميزاً في حياته فيريدون أن يميز عن الأموات، فيبنون عليه البناء، ويوقدون عليه السرج، وربما وضعوا عليه الفرش، وصار له خدم ينظفون مكانه، ويدعون إلى زيارته، ويلقون على من يأتي إليه من وساوس الشيطان التي يعظم بها الشرك، حتى يخرج الإنسان من دين الإسلام إلى دين المشركين، فإذا قدر أن هذا لأجل تعظيم الميت وإكرامه حسب ما يزعمون أولاً؛ فإن هذا لا يستمر، بل يزول إذا زال أولئك، ثم يأتي من بعدهم ويجد القبر بهذه الحالة فيقر في قلبه أن هذا لأجل نفع من صاحب القبر أو دفع بلاء لمن توجه إليه إذا عظم، وهذا الذي ذكره لا يزال موجوداً في كثير من بلاد المسلمين للأسف، فيتجهون إلى القبور، ويسألون أربابها تفريج الكروب، وكشف الخطوب، والنفع والدفع، وهي رميم لا تسمع ولا تملك شيئاً، مع مخالفة ذلك لأصل الدين الإسلامي الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه جاء بوجوب عبادة الله وحده، وأن تكون العبادة خالصة له جل وعلا، ولا يتعلق قلب الإنسان بمخلوق؛ لأنه يكون بذلك شريك لرب العالمين {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18]، وأمر الله جل وعلا بالإخلاص {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5]، والدين كل ما يتدين به، ويرجى أن يثاب عليه المرء إذا عمله أو يعاقب إذا تركه، فيجب أن يكون هذا كله لله جل وعلا، ليس لأحد من الأموات ولا من الأحياء.

بعض شبه القبوريين

بعض شبه القبوريين هذا الشرك الذي وقع فيه كثير من المسلمين ليس له أصل لا في الشرع، ولا في قول السلف الذين يقتدى بهم من أهل العلم والمعرفة، ولا في قول أحد العلماء المتأخرين، وإنما اغتر بعض المتأخرين بحكايات ودعاوى لا أصل لها، وادعوا أن التوسل بالميت جائز، واستدلوا بشبه لا تدل على ذلك. مثل: كون الرسول صلى الله عليه وسلم طلبت منه الشفاعة في حياته، كما في قصة الأعمى الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! ادع الله أن يرد علي بصري، فقال: (أوتصبر، وهو خير لك؟ قال: بل ادع، فأمره أن يتوضأ ويصلي ركعتين ويسأل ويقول في سؤاله: اللهم إني أسألك بنبيك نبي الرحمة أن ترد علي بصري) هكذا جاء في بعض الروايات، فتمسكوا بهذه اللفظة على أنه سؤال بذات النبي صلى الله عليه وسلم، والواقع أنه سؤال بدعائه؛ لأنه أمره أن يدعو وهو دعا له، ولهذا قال في آخره: (اللهم شفعه فيّ، وشفعني فيه). وكذلك قصة عمر لما استسقى بالناس وقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبيك، وإننا نتوسل إليك بعم نبيك. فقالوا: هذا يدل على الطلب بالأشخاص، فيطلب بهم من الله، وهذا في الواقع تضليل، ولو كان كما يقولون لما عدل عمر رضي الله عنه عن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى عمه؛ لأنه لا فرق بين كونه حياً أو ميتاً إذا كان التوسل بذاته، وإنما هذا يدل على أن التوسل بالدعاء وبالشفاعة، ولهذا طلب من العباس الدعاء والشفاعة فقال: قم فادع يا عباس! فصار يدعو، وهم يؤمنون على دعائه، هذا هو توسلهم الذي توسلوا به، يعني أنهم قدموه إماماً لهم يدعو ويؤمنون على دعائه لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا يقول الفقهاء في كتب الفقه في الاستسقاء: ويستحب أن يتوسل إلى الله بالدعاء كما توسل عمر رضي الله عنه بـ العباس، وتوسل معاوية بـ أبي يزيد الأسود بن أبي يزيد الجرمي؛ لأن مقصدهم هو أن يقدموا الدعاء، فيدعون ثم يؤمن الحاضرون على دعائهم، فهو توسل بدعائهم وليس بذواتهم. أما هؤلاء ففهموا عكس ما أراد أولئك، وهذا فهم خاطئ يجب أن يرد عليهم، ولا يجوز أن يغتر به. قال الشارح: [ومنه تعلم مطابقة الحديث للترجمة والله أعلم قوله: والمتخذين عليها المساجد تقدم شرحه في الباب قبله]. ليس معنى ذلك أنه يشترط أن تكون مساجد مبنية كالمساجد التي تعتاد للصلوات، وإنما يتخذونها مكاناً لسجودهم ولو فرضاً، وكل مكان يسجد فيه فهو مسجد كما قال صلى الله عليه وسلم: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) الأرض كلها مسجد، يعني: كل مكان صحت الصلاة فيه فهو مسجد، ولا يجوز أن يكون القبر محلاً للعبادة من الصلاة وغيرها كما سيأتي أنه صلى الله عليه وسلم نهى أن تجعل البيوت قبوراً، يعني: أن تجعل مشابهة للقبور؛ لأن القبور مهجورة لا يتعبد فيها.

حرمة إيقاد السرج على القبور

حرمة إيقاد السرج على القبور قال الشارح: [قوله: السرج قال أبو محمد المقدسي: لو أبيح اتخاذ السرج عليها لم يلعن من فعله؛ لأن فيه تضييعاً للمال في غير فائدة، وإفراطاً في تعظيم القبور أشبه بتعظيم الأصنام]. من الناس من قال: تسريج القبور مستحب، ولا يقول هذا إلا إنسان جاهل أو ضال على عنت، يريد أن يصادم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل النصوص جاءت بالنهي عن تمييز القبر بأي شيء يميزه، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يبعث إلى أماكن في الأرض من يسوي القبور، كما في صحيح مسلم عن أبي الهياج الأسدي عن علي رضي الله عنه أنه قال: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته، ولا صورة إلا طمستها)، فكان يرسل الرسل لأجل تسوية القبور بالأرض، لا يجعلها مرتفعة ومشرفة فكيف بإسراجها؟ كيف بوضع القناديل عليها والبناء عليها؟ هذه مصادمة للشرع تمام المصادمة فلا يقول قائل ممن له نصيب من علم الشرع: إن الإسراج مستحب، أو جائز، بل هو من أعظم المحرمات وهو من وسائل الشرك الذي هو أعظم الذنوب، ومن مات عليه يكون خالداً في النار نسأل الله العافية. [وقال ابن القيم رحمه الله: اتخاذها مساجد وإيقاد السرج عليها من الكبائر]. هذا من الكبائر لأنه وسيلة إلى الشرك، فكونه يبني على القبر بناء هذا يلفت النظر إلى هذا القبر، ويجعل المغتر يغتر به، وربما وقع في الشرك بسبب ذلك، فيكون الفعل كبيرة؛ لأنه يكون وسيلة إلى أعظم الذنوب الذي هو الشرك، أما مجرد البناء أو الإسراج فليس هذا شركاً إذا انفك عن الاعتقاد بأن صاحب القبر ينفع أو يضر أو يتصرف أو يملك شيئاً، أما إذا وقع البناء أو الإسراج أو الفرش أو الكتابات أو ما أشبه ذلك مما يوضع على القبور باعتقاد أن هذا ينفع، وأنه قد يدفع الضر؛ فهذا شرك، ويكون الفاعل لذلك مشركاً، والشرك هو أعظم الذنوب، وهذا الشرك ليس الشرك الأصغر بل هو الشرك الأكبر الذي يكون مضاداً لقول: لا إله إلا الله، وإن قال الإنسان: لا إله إلا الله، وفعل ما يضادها، وصلى وصام وحج؛ فإنه لا تنفعه صلاته ولا صومه ولا حجه؛ لأنه في الواقع ما فهم معنى لا إله إلا الله؛ لأن هذه الكلمة وضعت لإبطال الشرك كله بحيث لا يبقى عند الإنسان تعلق بغير الله جل وعلا، أو تأله لغيره، سواء كان من الأحياء والأموات أو من الأولياء والنبيين أو غيرهم، فإذا أتى بما يضاد ذلك فمعنى ذلك أنه ما فهم هذه الكلمة التي تميز الرجل المسلم عن الرجل الكافر. قال الشارح: [قوله: رواه أهل السنن يعني: أبا داود والترمذي وابن ماجه فقط ولم يروه النسائي]. بلى رواه النسائي، ولكن هذا فات الشارح رحمه الله، وإلا فهو موجود في السنن مطلقاً، وإذا قيل: أهل السنن فالمراد أهل السنن الأربع: أبو داود والنسائي وابن ماجة والترمذي، هؤلاء يطلق عليهم أهل السنن، وإذا زيد عليهم فلا بد من النص على ذلك، وإذا قيل: متفق عليه فهذا يختلف باختلاف الاصطلاح، فبعض العلماء يجعل المتفق عليه ما خرجه البخاري ومسلم، وبعضهم يزيد حسب الاصطلاح مثل صاحب المنتقى فإنه جعل المتفق عليه ما خرجه البخاري ومسلم وأحمد، وكل له اصطلاح يصطلح عليه، ولكن لا بد أن يبين الاصطلاح في أول الكتاب.

مسائل باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تعبد من دون الله

مسائل باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثاناً تعبد من دون الله

معنى الأوثان

معنى الأوثان [وفيه مسائل: الأولى: تفسير الأوثان]. الأوثان هي كل ما عبد من دون الله من غير تشخيص، فالوثن يكون على صورة الآدمي أو صورة الحيوان، أما إذا كان مصوراً -سواء كان من الطين، أو من الخشب، أو منحوتاً من الحجارة، أو مصنوعاً من الحديد، أو غير ذلك- صورة مجسدة فهذا يسمى صنماً، أما إذا كان يعبد ويقصد سواء كان قبراً أو مكاناً أو شجرة أو حجراً أو حائطاً أو ما أشبه ذلك فهذا وثن، وهذا من ناحية اللفظ فقط وإلا فالمعنى واحد، وما يقع من الفاعل سواء كان للوثن أو كان للصنم لا فرق بين هذا وهذا، وقد جاء أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه مر على قوم يلعبون الشطرنج، فقال: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء:52]؟ فجعلها من التماثيل وهي من الأصنام، وهذا يدل على أن كل ما شغل الإنسان عن طاعة الله وصرفه عنها فإنه يأخذ هذا المعنى.

معنى العبادة

معنى العبادة [الثانية: تفسير العبادة]. العبادة فسرت بتفسيرات وتعريفات مختلفة الألفاظ، ومتفقة المعنى، فمنها التعريف المشهور عند العلماء: هي ما أمر به شرعاً من غير اطراد عرفي، ولا اقتضاء عقلي، هذا التعريف مشهور عند كثير من العلماء، العبادة: كل ما أمر به شرعاً من غير اطراد عرفي، ولا اقتضاء عقلي، يعني: أن العبادة مبنية على الأمر فقط، لا ينظر فيها إلى عرف الناس، ولا إلى عقولهم، ولا كون العرف يطرد في هذا أو يكون جائزاً، أو أن العقل يقتضيه، لا دخل للعبادة في ذلك. ومنها التعريف الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو قوله: العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، والمقصود بالباطن أعمال القلوب، مثل الخشية والرجاء والإنابة والحب، وما أشبه ذلك، فإن هذه من أفضل العبادة. ومنهم من قال: العبادة هي طاعة الله جل وعلا باتباع أمره، واجتناب ما نهى عنه، مع غاية الحب والتذلل له في هذا الفعل. وهذا تعريف أيضاً صحيح، والمقصود من ذلك أن الإنسان يجب أن يكون عابداً لله، والعبادة تكون خالصة له، وتكون متضمنة للحب والخوف والرجاء، فيفعل هذه الأمور ويخاف أن يعاقبه الله لو تركها، ويرجو ثواب الله عند فعلها؛ وذلك لأن الله جل وعلا جعل الإنسان ضعيفاً لا يستطيع أن يصبر عن رحمة الله جل وعلا، ولا يستطيع أن يصبر على عذاب الله جل وعلا، لا صبر له على عذابه، ولا غنى له عن رحمته، فهو يطلب فكاك نفسه وخلاصها، وليست العبادة لنفع الله، فلا ينبغي أن يقول: أنا أخدم الله جل وعلا! الله جل وعلا غني عن كل أحد، وإنما الإنسان يعبد ربه لفكاك نفسه؛ ولهذا السبب كثر ذكر الجنة والنار في القرآن، تذكر النار ثم تذكر الجنة ترغيباً في الجنة وترهيباً من النار، حتى يفعل الإنسان ما أمر به، وينتهي عما نهي عنه. إذاً: العبادة غير محصورة في أفعال معينة من الصلاة والصوم والزكاة والذكر والقراءة، بل هي كل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأمور الواجبة أو الأمور المستحبة، وكل ما طلب فعله يجب أن يكون خالصاً لله جل وعلا، فكل ما كان في فعله ثواب فهو عبادة، أو كان في فعله عقاب، فيكون تركه من العبادة. وأكثر الناس جهل معنى العبادة، ووقع في الشرك لهذا السبب، فصاروا يتجهون بالدعاء إلى الأموات وإلى غيرهم ويقولون: هذا توسل، والسبب في ذلك أنهم جهلوا أن هذا عبادة، مع أن الدعاء من أكبر العبادة، كما قال الله جل وعلا: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60]، فجعل الدعاء عبادة، بل هو من أفضل العبادة، وسواء كان الدعاء دعاء مسألة كأن يسأل شيئاً معيناً من أمور الدنيا أو من غيرها، أو دعاء عبادة كأن يفعل فعلاً من الأفعال التي يتقرب بها كالقراءة أو الذكر أو الصلاة أو الصوم أو الصدقة، فهذه كلها تدخل في دعاء العبادة.

استعاذة النبي عليه الصلاة والسلام مما يخاف وقوعه

استعاذة النبي عليه الصلاة والسلام مما يخاف وقوعه [الثالثة: أنه صلى الله عليه وسلم لم يستعذ إلا مما يخاف وقوعه]. المقصود بهذا أنه قال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد) فاستعاذته بالله جل وعلا وطلبه منه ذلك خوفاً مما يتوقع، فدل على أن الخوف من الافتتان بالقبور وارد، وأنه ليس كما يقول كثير من الناس: إن النهي عن الصلاة عند القبور لأنه مظنة النجاسة، وإنما الواقع أنه مظنة النجاسة المعنوية التي هي نجاسة الشرك؛ لتطهر القلوب وتكون العبادة خالصة لله جل وعلا، هذا معنى قوله: إنه ما يستعيذ إلا من شيء يخاف وقوعه، يعني: استعاذ بربه ألا يجعل قبره وثناً يعبد؛ لأنه يخشى أن يقع ذلك صلوات الله وسلامه عليه. [الرابعة: قرنه بهذا اتخاذ قبور الأنبياء مساجد]. يعني: أنه قرن في هذا الدعاء قوله (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، فهذه قرينة تدل على أنه قصد بذلك ألا يتعلق المتعلق بغير الله جل وعلا، حتى لا يصرف لغير الله شيئاً من العبادة.

شدة غضب الله على المشركين

شدة غضب الله على المشركين [الخامسة: ذكر شدة الغضب من الله]. يعني قوله: (اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، والمقصود بهذا أن الله يوصف بالغضب، وغضبه يكون شديداً على بعض الناس، وبعضهم لا يكون شديداً، فمن صفات الفعل التي يتصف بها الله جل وعلا أنه يغضب على بعض خلقه، وإذا غضب جل وعلا فإنه يلعن، وإذا لعن فلعنته تبعد الإنسان كل البعد عن الخير، وقد يكون أثر ذلك في نسل الإنسان؛ ولهذا جاء في أثر -وإن كان لم يثبت ولكن معناه صحيح- أن الله جل وعلا يقول: (إني إذا رضيت باركت وليس لبركتي نهاية، وإذا غضبت لعنت، ولعنتي تبلغ السابع من الولد) يعني: أثر المعصية يجري على أبناء الإنسان، وأبناء أبنائه، وأبناء أبنائه إلى المرتبة السابعة نسأل الله العافية، وهذا من شؤم ذلك الإنسان. ومعلوم أن الفساد الذي يقع في الأرض كله بسبب المعاصي، ولو أن الناس أطاعوا الله جل وعلا وامتثلوا أمره لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ولصافحتهم الملائكة على الأرض، ولن يحدث لهم شيء يزعجهم أو يؤلمهم أو يخيفهم، ولكن لا بد أن يحصل ما أراده الله جل وعلا من خلقه، وهو جل وعلا خلق الجنة والنار، وجعل لكل واحدة سكاناً، بل جعل لكل واحدة عليه ملؤها، فإنه أخبر جل وعلا أنه سوف يملأ جهنم من الجنة والناس أجمعين {لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:119]، فهي لا تمتلئ إلا من الناس والجن فقط، هؤلاء هم الذين يسكنونها، فلا بد أن يعملوا المعاصي ويبارزوا ربهم جل وعلا بالعظائم حتى يستحقوا النار؛ لأن الله لا يدخل النار إلا من يستحقها بفعله، بعدما يعذر منه بإرسال الرسل. وقد أرسل الله جل وعلا إلى هذه الأمة رسولاً بلغهم رسالة الله جل وعلا، وأعلمهم كل ما فيه خير لهم، وحذرهم من كل ما فيه شر لهم، ولكن أكثر الناس يعرض عن دعوته، ولا يبالي بها، ولا يرفع بها رأساً، وكأنه يريد أن يدخل عليه الرسول في بيته ويقول له: افعل كذا، ولا تفعل كذا! ما علم أن الله جل وعلا كلفه أن يطلب ويبحث عن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم ويتعرف عليها، وإذا لم يفعل فإنه الملوم، وهو المسئول عن ذلك.

صفة عبادة اللات وقصته

صفة عبادة اللات وقصته [السادسة: وهي من أهمها: معرفة صفة عبادة اللات التي هي أكبر الأوثان]. يقصد بهذا قول مجاهد وغيره: إنه كان رجل يلت السويق، يعني: يجعل فيه السمن ويخلطه به ثم يقدمه إلى من أتى إليه، ثم مات فدفن تحت صخرة فعبدوه، وصاروا يطوفون عليها ويعظمونها تعظيماً لذلك الشخص، فقصده بهذا أن هذا الفعل نفسه هو الذي يفعله كثير من الناس اليوم تعظيماً لذلك الميت كما عظم المشركون اللات، وكما أنها عبادة منهم للات فكذلك الذين يصنعون نظير هذا الصنيع للمقبورين اليوم هم يعبدونهم، هذا هو المقصود. [السابعة: معرفة أنه قبر رجل صالح]. يعني: اللات رجل صالح، سواء كان صلاحه لأنه متبع لدين الله جل وعلا، ومعروف أن العرب كانوا على بقايا من دين إبراهيم، وبعضهم كان حنيفاً ما كان يشرك، مثل زيد بن نفيل ومثل القس بن ساعدة، ومثل ورقة بن نوفل وغيرهم ممن كان المشركون يسمونهم الموحدين؛ لأنهم يجتنبون الأصنام، ولا يأكلون مما يذبح لغير الله، ويتعبدون لله وحده، على حسب طاقتهم واجتهادهم وقدرتهم: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وقد استدلوا بفطرتهم على أن الشرك لا يجوز، فإذا كان اللات من هذا الصنف فإنه يكون صالحاً، أو أن معنى صلاحه أنه يفعل الخير ويقدمه للناس، ويحسن إليهم، فلما مات فعلوا به ما صاروا به عبيداً له. [الثامنة: أنه اسم صاحب القبر، وذكر معنى التسمية]. صاحب القبر اللات، يعني: أنه اشتق له هذا الاسم من فعله وهو اللت، وهذا على قراءة التشديد، وقد يكون أيضاً على قراءة التخفيف؛ لأن التخفيف قد يكون لكثرة الاستعمال، وإن كان الأصل فيه أنه مشدد، فهو مأخوذ من اللت، أما على قول ابن عباس في الرواية الأخرى: أنه اشتق له اسم من الله سموه اللات أخذاً من اسم الله جل وعلا؛ لأنه مألوه، فهذا لا ينافي هذا القول، لأنه يجوز هذا وهذا، فإذا كان يلت، فهم كذلك ألهوه، وجعلوه إلهاً مع الله جل وعلا.

لعن زوارات القبور والمتخذين عليها السرج

لعن زوارات القبور والمتخذين عليها السرج [التاسعة: لعنه زوارات القبور]. زوارات قيل: إنه جاء بهذا التشديد ليدل على المبالغة والكثرة، وهذا غير صحيح؛ لأن المبالغة تأتي ولا يقصد بها الكثرة، بل الزيارة ممنوعة مطلقاً ولو مرة واحدة، ولا يمكن أن يكون النهي عن المبالغة فقط، فتكون الملعونة التي تكثر من الزيارة، أما من دون ذلك فلا تدخل في هذا كما يقوله من يقوله من الذين لم يفهموا مراد الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا قول مخالف للحق ومجانب له. [العاشرة: لعنه من أسرجها]. أسرجها: أي: وضع عليها السرج، ويدخل في هذا أيضاً الكتابات عليها، وكذلك تجصيصها أو تلوينها بألوان أو وضع الستور عليها، وكل ما يدل على تعظيمها يكون داخلاً في هذا.

شرح فتح المجيد [66]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [66] إن أبلغ وأعظم صفة اتصف بها النبي صلى الله عليه وسلم هي: صفة الرحمة، وقد بلغ الغاية فيها، حتى أنه كان يعز عليه ما يعنت ويشق على أمته، وكان أخشى ما يخشاه على أمته أن تقع في الشرك، ولذلك سد كل ذريعة توصل إليه.

سد النبي عليه الصلاة والسلام لكل طريق يوصل إلى الشرك

سد النبي عليه الصلاة والسلام لكل طريق يوصل إلى الشرك قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك]. المراد بجناب التوحيد جوانبه التي قد يدخل منها الشرك، أو شيء من أنواع الشرك، والحماية هي الصيانة والاعتناء، بأن يمنع كل وسيلة قد تكون موصلة إلى ما لا يجوز، وهذا شيء كثر ذكره في نصوص النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم بعضه، ولكن أراد المؤلف أن يبين في هذا الباب أن الرسول صلى الله عليه وسلم اعتنى بذلك اعتناء تاماً، واستدل على هذا بأمور متعددة: منها ما ذكره الله عنه من رأفته ورحمته وحرصه على هداية الناس، ومنها نصوص تدل على أنه صلى الله عليه وسلم صان توحيد عبادة الله جل وعلا أن يتلبس به بعض أمراض القلوب أو أمراض الشكوك، فأصبح الأمر واضحاً جلياً، ولا عذر لمن وقع في خلاف ذلك. والمقصود من هذا أن يبين ما عليه كثير من الناس ممن يزعم مشروعية التعلق بالأموات، والتبرك بالقبور والبقع، والتوسل بالأحياء أو الأموات؛ التوسل الذي يعرفه المتأخرون ويصطلحون عليه، لا التوسل الذي ذكره جل وعلا في كتابه، وذكره الرسول صلى الله عليه وسلم في سننه فإنه نوع آخر غير التوسل الذي اصطلح عليه المتأخرون، فهذا الذي اصطلح عليه المتأخرون هو أن يجعل المخلوق وسيلة بذاته إلى الله، بأن يجعل جاهه وعمله الزاكي عند الله ينفع به هذا المتوسل، أو يقسم به على الله، وما أشبه ذلك من معاني المتأخرين الذين ما عرفوا حقيقة التوسل الذي جاء في الكتاب والسنة، فلا عذر لهم في ذلك؛ لأنهم تركوا ما نص عليه الرسول صلى الله عليه وسلم صراحة، واتبعوا أهواءهم في ذلك؛ ولهذا تجد كثيراً من الناس يترك النصوص الواضحة الظاهرة ويتعلق بشبه، أو يتعلق بأحاديث موضوعة مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يتعلق بمنامات ومرائي رآها في النوم أو رؤيت، أو يتعلق بأمور يزعم أنها مجربة، يقول: إن فلاناً دعا بكذا، وإنه ذهب إلى كذا، وحصل له كذا وكذا، وهذه كلها لا تغني شيئاً، وإنما الذي يعتمد عليه هو ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وما قاله آمراً به أمته أو ناهياً لها أن تفعله. هذا الذي يجب أن يؤخذ ويجب أن يعتنى به، أما ما عليه هؤلاء من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو الاعتماد على الرؤى، أو الاعتماد على أقوال بعض الذين يزعمون أنهم حصل لهم ما حصل، فهذا كله لو تعلق به الإنسان فإنه غير معذور، والله سائله عما أرسل به رسوله صلى الله عليه وسلم، لا عن المرائي ولا عن فعل الناس ولا عن شيء عدا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو الذي سيسأل عنه الإنسان، فإن الله سيسأل المتقدمين والمتأخرين: ماذا أجبتم المرسلين؟ والسؤال للتهديد، والتعذيب بعد ذلك. فإذا كان الإنسان لم يقدم عملاً وفق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم متبعاً قوله، منتهياً عن نهيه وإلا فهو هالك، فالحماية في هذا يقصد بها أمر زائد على الأوامر التي تأمر بالتوحيد، وتنهى عن الشرك، فهي أمور زائدة على ذلك، كالنهي عن الوسائل التي تقرب من الشرك، كالنهي عن أمور قد يفعلها الإنسان وهي جائزة ولكن قد يدخل منها إلى أمور لا تجوز، وهي التي تسمى بالوسائل والذرائع، وهذا موجود في كتاب الله وفي أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم بكثرة، وسيذكر الشارح شيئاً من ذلك.

قوله تعالى: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم)

قوله تعالى: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم) قال المصنف رحمه الله: [وقول الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة:128 - 129]] هذه الآية استدل بها على صيانة رسول الله صلى الله عليه وسلم جانب التوحيد أن يدخل عليه شرك سواء كان دقيقاً أو صغيراً، خفياً أو جلياً. {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة:128] (رسول) علم على من أرسله الله جل وعلا برسالة، وكل أمة لها رسول، ولا يصلح الناس إلا برسول؛ ولهذا تتابعت الرسل من أول الخلق إلى آخرهم، ولكن الله ختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وجعله رسولاً لأهل الأرض كلهم، فإذا كان رسولاً لأهل الأرض جميعاً فالخطاب هنا (لقد جاءكم) هل يكون عاماً أو يكون خاصاً لقوم معينين؟ الواقع أنه عام، ولكن الخطاب فيه للعرب؛ لأنهم أخص الناس بذلك، وهذا يقتضي أن يشكروا الله ويحمدوه على هذه النعمة العظيمة؛ لأنهم أخص من غيرهم، وإلا فغيرهم من الناس كلهم يدخل في هذا الخطاب؛ لأن الخطاب للأمة إلى يوم القيامة، والأمة التي أرسل إليها الرسول صلى الله عليه وسلم ليسوا العرب فقط، بل العرب والعجم بأنواعهم والجن والإنس، كلهم مخاطبون بذلك، ولكن من كان الرسول منهم بالنسب واللغة ومعرفة المولد والمنشأ والمخرج والمدخل؛ فالنعمة عليهم أتم، والمنة عليهم أعظم، فيجب أن يشكروا الله جل وعلا أكثر من غيرهم. {مِنْ أَنفُسِكُمْ} يعني: من جنسكم، يخاطبكم بلغتكم، تعرفون نسبه، وترجعون أنتم وهو إلى أب واحد وهو إسماعيل عليه السلام، وهذا استجابة من الله لدعاء إبراهيم عليه السلام: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة:129] فبعث منهم الرسول، فامتن الله جل وعلا عليهم بذلك، (من أنفسكم) يعني: أنه من جنسكم تعرفون لغته، وتعرفون أمانته وصدقه، فمن كان كذلك كانت المنة عليه أعظم، فيجب أن يشكر الله، أما إذا انعكست القضية وقابلوا هذه المنة العظيمة بالرد والنفور عنها، والتكذيب والكفران لها؛ فإن العذاب عليهم يكون أشد من غيرهم ممن لا يعرف هذه الأمور. ومن المعلوم أن الله جل وعلا عذب الأمم التي كذبت الرسل، وقص الله جل وعلا ذلك علينا، وقد أخبرنا ربنا جل وعلا أنه فضل بعض الرسل على بعض، وقد علم أن رسولنا صلوات الله وسلامه عليه هو أفضل الرسل، ومن المعلوم أن من كذب أفضل الرسل يكون عذابه أشد ممن كذب من هو دونه؛ لأن الفضل لا بد أن يأتي بزيادة بيان وزيادة إيضاح وزيادة حجة، بحيث يصبح الإنسان لا عذر له بوجه من الوجوه، فيكون مصادماً تمام المصادمة لما جاء به، فيكون عذابه أشد. وقوله: (حريص عليكم) يعني: حريص على إيمانكم، وعلى طاعتكم، وعلى ما ينفعكم؛ ولهذا نهاه الله جل وعلا أن يحزن وأن يأسف الأسف الذي يعود عليه بالضرر، فقد كاد يهلك نفسه حرصاً على إيمانهم، فنهاه ربه جل وعلا عن شدة حرصه عليهم، وتأسفه على عدم إيمانهم، وأخبره جل وعلا أن ما عليه إلا البلاغ المبين، وهذا يكفي.

معنى قوله: (عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم)

معنى قوله: (عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم) {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (عزيز عليه): يعني: يشق عليه عنتكم، والعنت هو الأمر الذي يقع لهم العذاب من جهته، وهذا يقتضي أنه لا بد أن يبين لهم ما ينفعهم، وأن يحميهم من السلوك في المسالك التي تضرهم إذا سلكوها، هذا وجه الاستدلال، (عزيز عليه ما عنتم) يعز عليه -أي: يشق عليه- عنتكم، يعني: الشيء الذي فيه عذابكم وفيه هلاككم شاق عليه صلوات الله وسلامه عليه. (حريص عليكم) أي: حريص على هدايتكم (بالمؤمنين رءوف رحيم) ورأفته ورحمته بهم أن ينالهم عذاب الله أشد وأعظم من رأفته ورحمته بهم أن ينالهم شيء من أمور الدنيا المؤذية، فتضاعف رأفته ورحمته بأن يبين لهم الطريق الذي يسلكونه ويسلمون به من عذاب الله الأخروي، ومن مقتضى ذلك أن ينهاهم عن كل طريق يوصل بهم إلى ما يسخط الله جل وعلا ويغضبه. والرأفة شدة الرحمة، فهي أبلغ من الرحمة، (رءوف) يعني: أنه وصل الغاية في رحمتهم، رءوف بالمؤمنين ورحيم بهم، وتقديم المعمول يدل على الاختصاص، أي: أن رأفته ورحمته بالمؤمنين فقط، وأما الكافرون فهو غليظ وشديد عليهم كما وصفه الله جل وعلا في قوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} [الفتح:29]، وقال جل وعلا في أمره بذلك: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73] أمره أن يغلظ عليهم؛ ولهذا كان ممتثلاً لذلك، فرأفته ورحمته صلوات الله وسلامه عليه هي بالمؤمنين فقط، أما الكافرون فهو قتّال لهم، وشديد عليهم؛ ولهذا جاء في صفته في الكتب السابقة (الضّحاك القتّال) صلوات الله وسلامه عليه، يعني: ضحاك للمؤمنين، قتّال للكافرين، والمؤمن يجب أن يكون متحلياً بحلته، ومتصفاً بصفته، فإنه قدوته صلوات الله وسلامه عليه.

معنى قوله: (فإن تولوا فقل حسبي الله)

معنى قوله: (فإن تولوا فقل حسبي الله) قوله: (فَإِنْ تَوَلَّوْا) يعني: إن أبوا قبول ما جئتهم به، وأبوا اتباعك ونصحك مع شدة الرأفة والرحمة وشدة الحرص عليهم، إذا أبوا ذلك وامتنعوا (فقل حسبي الله) يعني: الله يكفيني (حسبي الله لا إله إلا هو) يعني: هو إلهي، وعليه اعتمادي، وهو كافيّ. (عليه توكلت) وهو نعم الوكيل جل وعلا (فقل حسبي الله لا إله إلا هو) يعني: لا معبود ولا مألوه أتعبده وأخضع له وأذل له وأعتمد عليه وأتوكل عليه إلا هو جل وعلا، فهذا أمره جل وعلا الخاص بذلك في دعوته وفي كونه لا يحزنه المخالفات، لا يحزن إذا خولف، وإذا أبى القوم أن يقبلوا ما جاء به فإن عليه أن يقول: (حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم) يعني: اعتمادي عليه، وهو الذي يكفي من اعتمد عليه، وهو رب العرش العظيم الذي هو أعظم المخلوقات وأكبرها، وإضافته إليه تدل على التعظيم والتشريف والتكريم، فإذا كان رب العرش العظيم فكل شيء تحت قهره، وتحت سلطانه، وفي قبضته؛ فلا يهمك كونهم خالفوا، أو كونهم أبوا، فإنهم في قبضة الله، وسوف يعذبهم العذاب الذي يستحقونه. وجه الدلالة من هذه الآية ظاهر، وهو أن الله جل وعلا وصف رسولنا صلى الله عليه وسلم بالحرص على ما ينفعنا، فهو حريص على إيماننا، ويشق عليه الشيء الذي يعنتنا ويشق علينا؛ فلا بد أن يبين البيان الذي يكون فيه حمايتنا من الوقوع في المخالفات، ولا بد أن يحضنا الحض الذي يكفي في كون الإنسان يعبد ربه، ولا تكون العبادة لغيره بوجه من الوجوه.

النبي عليه الصلاة والسلام بالمؤمنين رءوف رحيم

النبي عليه الصلاة والسلام بالمؤمنين رءوف رحيم النبي بالمؤمنين رءوف رحيم، وهذا يقتضي أنه صلى الله عليه وسلم يحمي جناب التوحيد، حتى لا يدخل على المؤمن شيء مما ينقص التوحيد أو يذهبه أو يذهب بكماله؛ لأن هذه كلها من مقتضيات العذاب، وقد جاءت الأحاديث عنه صلوات الله وسلامه ببيان هذا المعنى، كما جاء عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يطير بجناحيه إلا وقد ذكر لنا منه علماً، وفي صحيح مسلم أنه قال: (إنه حق على كل نبي بعثه الله جل وعلا أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن كل شر يكون فيه عنتهم) أو نحو ما قال صلوات الله وسلامه عليه، وفي الحديث الذي في الصحيح أيضاً أن يهودياً قال لأحد الصحابة: نبيكم يعلمكم كل شيء حتى الخراءة، يقصد بذلك آداب التخلي والاستنجاء، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يقول لهم: (إذا ذهب أحدكم إلى الخلاء فليستجمر بثلاثة أحجار)، وكان يأمر من أراد قضاء الحاجة أن يبعد، وأن يستتر، ومن الآداب ألا يتجه إلى الهواء حتى لا ترجع عليه النجاسة ونحو ذلك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني بمنزلة الوالد لكم، أعلمكم ما ينفعكم)، فهو صلوات الله وسلامه عليه ما ترك شيئاً ينفعنا إلا وعلمنا إياه، وهذا مقتضى كونه حريصاً على هدايتنا، وكون ما يعنتنا شديداً عليه، ويشق عليه، فالنبي صلوات الله وسلامه عليه بالمؤمنين رءوف رحيم، فوجه الدلالة من الآية ظاهر جلي، فلا بد أن يكون حرصه على بيان التوحيد وعلى بيان الشرك الذي هو أعظم الذنوب أشد من حرصه على كونه صلى الله عليه وسلم يعلم الأمة أدب التخلي، وأدب الأكل، وأدب الشرب، وأدب النوم، وأدب الجلوس، وأدب دخول المنزل، وغير ذلك، وهذا كله ثابت عنه صلوات الله وسلامه عليه. فهل يعقل أنه يبين هذه الأمور التي لو تركها الإنسان ما يقتضي تركه أن يعذب، ويترك الأمر الذي لو فعله الإنسان ترتب على فعله عذاب؟ هذا لا يعقل، لا بد أنه صلوات الله وسلامه عليه اعتنى بذلك، أما الذين فتنوا بعبادة نظرائهم وأمثالهم من الخلق، وصارت قلوبهم فارغة من تعظيم الله وتقديره؛ فإنهم يتلمسون ما يكون دليلاً على الشرك، ويبحثون عنه، ومن المعلوم أن الإنسان إذا فتن فإنه يعمى عن الحق، ويفتح عينيه على الباطل، ويصبح قابلاً لما يهواه، ومبغضاً لمن ينهاه عما هو فيه، غير قابل له؛ ولهذا أخبرنا ربنا جل وعلا أننا إذا رأينا الذين يتبعون ما تشابه من القرآن ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله أن نحذرهم، وأخبرنا ربنا جل وعلا أنه أنزل {آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران:7] وقد جاء النص عن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها- أنه قال: (إذا رأيتم الذين يتبعون المتشابه فأولئك الذين سماهم الله فاحذروهم) مع أن القرآن ليس فيه شيء يدل على الباطل، ولكن فيه شيء مجمل قد يحتمل أمراً باطلاً ولو من بعيد، فيتعلق به من كان مفتوناً. كما أنه جل وعلا أخبرنا أن الذي في قلبه مرض الشبهات فإن الحق لا يزيده إلا ضلالاً ويتمادى في الباطل {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة:10]، {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:124 - 125]. إذاً: من كان عنده مرض شبهة فإنه يزداد ببيان الحق وإيضاحه ضلالاً وتمادياً في باطله، وذلك أن الحجة تزداد قياماً عليه، فيستحق من العذاب أكثر؛ ولهذا تجدهم يتعلقون بأمور تافهة، وأمور واهية، بل بأحاديث مكذوبة موضوعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويفرحون بها إذا وجدوها، وقد يجرؤ بعضهم على تصحيحها ويقول: إنها صحيحة، وقد يجرؤ بعضهم على وضع الأسانيد لها كذباً وزوراً، فكيف مقامه أمام الله جل وعلا؟ كل ذلك لما زين في قلبه ونظره من عبادة غير الله، نسأل الله العافية! ومثل هؤلاء ليس البيان والإيضاح لهم، البيان والإيضاح يكون لمن يريد الحق، فالذي يلتبس عليه الحق وهو يريد الحق ينتفع بالإيضاح والتبيين، أما من كان قلبه ملبساً بالفتنة وقابلاً لها فإنه لا يزداد بذلك إلا غياً وتمادياً في الباطل.

حماية المصطفى لجناب التوحيد

حماية المصطفى لجناب التوحيد قال الشارح رحمه الله: [قوله: باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك. الجناب: هو الجانب، والمراد حمايته عما يقرب منه أو يخالطه من الشرك وأسبابه. قوله: وقول الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة:128 - 129] قال ابن كثير رحمه الله: يقول الله تعالى ممتناً على المؤمنين بما أرسل إليهم رسولاً من أنفسهم، أي: من جنسهم وعلى لغتهم كما قال إبراهيم عليه السلام: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} [البقرة:129]، وقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران:164]، وقال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة:128] أي: منكم كما قال جعفر بن أبي طالب للنجاشي والمغيرة بن شعبة لرسول كسرى: إن الله بعث فينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصفته ومدخله ومخرجه وصدقه وأمانته، وذكر الحديث، قال سفيان بن عيينة عن جعفر بن محمد عن أبيه في قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة:128] أي: لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية]. ليس هذا مما نصت عليه الآية، ولكن هذا من مفهومها البعيد، ومن المعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نسبه ينتهي إلى معد بن عدنان، وهذا متفق عليه ولا خلاف في ذلك بين أهل النسب، وكذلك نسب أمه ينتهي إليه، أما ما بعد معد بن عدنان فهذا فيه خلاف لأنه بعيد، والمؤرخون اختلفوا في ذلك إلى إسماعيل بن إبراهيم، ولكن هو من ذرية إسماعيل يقيناً؛ لأن بعض العرب من ذريته.

بعض العرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم

بعض العرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم العرب ينقسمون إلى قسمين: قسم يعود إلى يعرب بن يشجب الذي ينتهي نسبه إلى هود عليه السلام، وهؤلاء هم الذين يسمون العرب العاربة. وقسم آخر ينتهي نسبهم إلى إسماعيل بن إبراهيم، وهو أكبر ولده، وهو ابن جاريته التي وهبتها له زوجه سارة، واسمها هاجر، وقد وهبها لها الطاغية الذي أمر أن تدخل عليه لما قيل له: إن رجلاً دخل بلادك معه امرأة ما تصلح إلا أن تكون لك لجمالها، فأخذ إبراهيم وقال: من هذه التي معك؟ فقال: هي أختي، وعلم أنه إذا قال: هي أختي لا يتسلط عليها، لسبب لا ندري ما هو، ولو قال: إنها زوجتي لأخذها، فقال: إنها أختي، وهذه إحدى الكذبات التي يعتذر بها إبراهيم عليه السلام حين تطلب منه الشفاعة، فقال لها بعد ما رجع من عند هذا الطاغية: إنه سألني عنك، وقلت: إنك أختي، فلا تكذبيني، فإنك أختي في الإسلام، فليس اليوم مسلم غيري وغيرك. فذهبت إليه فسألها فقالت: أنا أخته، ومع ذلك مد يده إليها، فأمُسكت يده مسكة شديدة، وكان إبراهيم يصلي ويدعو ربه ألا يسلط هذا الظالم على زوجته، فلما أمسكت يده عرف أنه بسبب ذلك، فقال لها: ادع الله أن يفك يدي ولا أنالك بأذى، فدعت الله جل وعلا ففكت يده، ثم رجع مرة ثانية ليتناولها، فأمسكت أشد من الأولى حتى صار يركض برجله الأرض من شدة ما أصابه، فقالت: اللهم إن يمت يقولون: قتلته، فدعت ألا يموت من هذا الشيء، ثم انتبه وقال: ادع الله أن يفك يدي ولا أنالك بأذى، فدعت الله جل وعلا ففك يده، فأراد مرة ثالثة فأصابه أشد من تلك، ثم بعد ذلك قال: ادع الله أن يفكني ولن أنالك بشيء، فدعت الله فدعا قومه، وقال: أخرجوها عني فإنكم جئتوني بشيطان، لم تأتوني بآدمي، وأمر أن تخدم بجارية. ثم بعد ذلك وهبت سارة هذه الجارية لإبراهيم، وقد أعلمنا الله جل وعلا أنه بلغه الكبر ولم يولد له مولود، ثم جاءته الملائكة تبشره بغلام، ثم إن هذه الجارية حملت، فلما ولدت غارت عليها سارة زوجته، كيف تحمل وهي لم تحمل؟! فأمره الله جل وعلا أن يهاجر بها إلى مكة مع ولدها وهو صغير يرضع، فذهب بها ووضعها عند مكان البيت، ولم يكن هناك بيت؛ لأنه هو الذي بناه هو وهذا الغلام، ثم ولى راجعاً إلى الشام، ووضعها في ذلك المكان الخالي القفر، الذي ليس فيه ماء ولا أنيس ولا حسيس، ثم ولى راجعاً، وكان معها قليل من الماء وقليل من الطعام، فلما ولى راجعاً صارت تناديه: يا إبراهيم! إلى من تتركنا؟ ولا يجيبها بشيء، ولا يلتفت إليها، ولما رأت ذلك قالت له: آلله أمرك؟ فقال: نعم، عند ذلك وقفت ورجعت، وقالت: إذن لن يضيعنا الله جل وعلا. ورجعت إلى ابنها، وصارت ترضعه حتى نفد الماء، وانتهى الطعام، فنشف ضرعها، فجاع الصبي وظمأ ثم أدركه الموت، فكرهت أن تجلس تنظر إليه وهو يموت، فنظرت فإذا أقرب مرتفع إليها هو الصفا، فذهبت وصعدت تتطلع لعلها ترى أحداً، فلما لم تر أحداً نزلت متجهة إلى المروة تبحث لعلها ترى أحداً، فعلت ذلك سبع مرات، وفي السابعة سمعت صوتاً فقالت لنفسها: صه؛ لأنها سمعته ولم تتأكد، ثم سمعته مرة أخرى فقالت: لقد أسمعت إن كان عندك غوث فأغث، فنظرت فإذا برجل واقف عند إسماعيل ابنها، فذهبت إليه فإذا هو جبريل عليه السلام، فحفر الأرض بطرف جناحه فنبع الماء من زمزم فصارت تحجر على الماء حتى لا يذهب، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (رحم الله أم إسماعيل، لو تركت زمزم لكانت عيناً معيناً) يعني: لصارت عيناً كثيرة الماء تسير، وصارت تشرب منها وترضع ابنها. ثم جاء قوم من اليمن من جرهم، ونزلوا في أسفل الوادي، فرأوا الطير تحوم على الماء، وقالوا: عهدنا بهذا الوادي وليس فيه ماء، والطير لا بد أنها تحوم على ماء، فأرسوا واردهم يختبر لهم ذلك، فوجد الماء ووجد المرأة عنده، فاستأذنها بأن يأتوا إلى الماء، وأصابوا منها أنها تحب الأنيس، فقالت: نعم، ولكن لا حق لكم فيه، يعني: تشربوا منه وليس لكم حق في أصله، فرضوا بذلك. فكبر الصبي، وتعلم العربية منهم، ثم تزوج منهم، وكان إبراهيم يأتي كل فترة يبحث ويطالع ابنه، وماتت أم إسماعيل، وتزوج إسماعيل، فجاء مرة ولم يجده، فسأل زوجته: أين بعلك؟ فقالت: ذهب يطلب لنا الطعام، فقال: ما حالكم؟ قالت: نحن في شر، ما عندنا طعام، ولا عندنا كذا وكذا، فقال: إذا جاء زوجك فأقرئيه مني السلام، وقولي له: غير عتبة بابك، فلما جاء إسماعيل كأنه أحس فقال: هل أتاكم أحد؟ قالت زوجته: نعم جاءنا شيخ صفته كذا وكذا، قال: هل أوصاكم بشيء؟ قالت: نعم، يقرؤك السلام، ويقول لك: غير عتبة بابك، فقال: أنت عتبة بابي، وذاك والدي، اذهبي إلى أهلك، ثم تزوج أخرى، فجاء إبراهيم مرة أخرى ولم يجده، ووجد الزوجة، فسألها عن حالتهم فقالت: نحن بخير، فقال: ما طعامكم؟ فقالت: اللحم، قال: وما شرابكم؟ قالت: الماء، قال: اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم، ويقولون: إن الإنسان لا يعيش على الشيئين إلا في مكة بدعوة إبراهيم عليه السلام، فقال لها: إذا جاء بعلك فاقرئيه السلام، وقولي له: أمسك عتبة بابك، فلما جاء أحس فسأل: هل جاءكم أحد؟ قالت: نعم، شيخ صفته كذا وكذا، فقال: هل أوصاكم بشيء؟ فقالت: نعم. يقرؤك السلام ويقول لك: أمسك عتبة بابك، فقال: ذاك أبي وأنت عتبة بابي، ثم جاء مرة أخرى فوجده تحت شجرة يبري له نبلاً، فاعتنقه وصنع معه ما يصنع الوالد مع ولده إذا لقيه بعد غيبة، ثم قال له: إن الله أمرني أن أبني هنا بيتاً، فهل أنت مساعدي؟ قال: نعم، فبدأ ببناء البيت، كما قال الله جل وعلا: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} [البقرة:127 - 128] إلى آخر القصة. أما قضية الذبح فإنها كانت قبل هذا، وكانت بمكة، وسارة لم تأت إلى مكة، كان مقرها الشام؛ ولهذا كان القول بأن الذبيح إسحاق قول باطل بعيد عن الصواب، وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرن الكبش الذي فدي به إسماعيل موجود في الكعبة معلق فيها، وهذا شيء يعرفه المؤرخون.

قصة دخول بني إسرائيل مصر

قصة دخول بني إسرائيل مصر نبينا صلى الله عليه وسلم من ذرية إبراهيم، ولم يبعث رسول بعد إبراهيم إلا من ذريته، كل الرسل الذين بعثوا بعده هم من ذرية إبراهيم، ولكن أكثرهم من أبناء إسحاق، كل رسل بني إسرائيل من ذرية إسحاق، بُدِئوا بموسى وختموا بعيسى، فأول أنبياء بني إسرائيل موسى عليه السلام، وهو الذي خرج بهم من مصر من تعذيب فرعون، وأول دخولهم مصر حينما كاد إخوة يوسف إياه، وألقوه في البئر، ثم جاء ركب من مصر، ووجدوا الغلام في البئر فأخذوه وفرحوا به، ثم ذهبوا به وباعوه في مصر بثمن زهيد، واشتراه عزيز مصر (الوزير). ثم بعد ذلك مكنه الله جل وعلا، وجعله وزيراً للمالية على ما نتعارف عليه اليوم، وصارت أمور مصر تحت يده بعدما أصابهم ما أصابهم من القحط، وجاء إخوته يبحثون عن الطعام، فعرفهم وهم له منكرون، فسألهم عن حالهم وعن أبيهم وقال: هل لكم من أخ؟ قالوا: نعم، وذكروا عنه ما لا يرضى، وهو أخوه من أمه وأبيه، ولكن أم هؤلاء غير أم يوسف وأم أخيه، فقال لهم: ائتوني بأخيكم من أبيكم حتى أوفي لكم الكيل وأزيدكم، وإن لم تأتوني به فلن يحصل لكم كيل، ثم أمر غلمانه أن يجعلوا الأثمان التي اشتروا بها الطعام في رحالهم، حتى إذا رجعوا وعرفوها لزمهم الرجوع لأداء الحق؛ لأنهم لم يتركوا ذلك. ثم لما جاءوا جعل المكيال الذي يكيل به في رحل أخيه، ثم أمر مؤذن أن يؤذن: أيتها العير إنكم لسارقون، قالوا: ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين، فقال: ما جزاؤه إذا تبين لنا كذبه؟ قالوا: جزاؤه من وجدت معه السرقة هو لك، فأمر أن يبدأ بتفتيش رحالهم أولاً، ثم استخرجها من رحل أخيه، عند ذلك أصبحوا مستسلمين لهذا الأمر. ثم بعد هذا لما رجعوا إلى أبيهم قالوا: {إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف:81] فقال لهم: لم يسرق ولكن {سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا} [يوسف:18]؛ لأنه ظن أنهم فعلوا به كما فعلوا بيوسف لما جاءوا إليه يبكون وقالوا: إن الذئب أكله ولم يصدقهم بذلك وقال: {وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18] يعني: أنه أمر دبرتموه على غير ما قلتموه، ويعقوب عليه السلام نبي كريم، وهو ابن إسحاق، ثم أمرهم أن يعودوا ويبحثوا عن يوسف وأخيه، وقال: لا تيأسوا من رحمة الله، فذهبوا ودخلوا على يوسف وهم لا يعرفونه فقالوا: {أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} [يوسف:88]، فهنا جاءت الفرصة {قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ} [يوسف:89] عند ذلك تنبهوا {قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:90]. عند ذلك {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف:91] ماذا قال؟ {قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} [يوسف:92] يعني: لن أعاتبكم، ولن آخذ بثأري، بل أعفو عنكم، وأسأل الله أن يغفر لكم، وهذا هو الكرم والعفو المتناهي، ثم أمرهم أن يذهبوا بقميصه إلى أبيه، فإنهم إذا ألقوه عليه رجع إليه بصره، وقد كف بصره من الحزن، وأمرهم أن يأتوا بأهلهم جميعاً، فجاءوا وسكنوا مصر. ثم لما جاء فرعون تسلط عليهم، وصار يقتل أبناءهم، ويترك نساءهم. كان أولاً يقتل كل مولود سواء كان ذكراً أو أنثى من بني إسرائيل، والسبب في هذا أنه قال له الكهنة والسحرة أو غيرهم: إن زوال ملكك سيكون على يد مولود من بني إسرائيل، عند ذلك قال: لن ندع مولوداً يعيش، فصار يقتل، فقالوا له: سيفنى بنو إسرائيل وتتعطل أعمالنا؛ لأنهم كانوا يسخرونهم في الأعمال، في البناء وغيرها مثل ما هو مشاهد الآن من الأهرام وغيرها من آثار فرعون، يعملون تحت السياط، حملهم على العمل بالتعسف والظلم، كحمل الصخور حتى يبنوا بالقهر والقوة، فعند ذلك قال له أعوانه الظلمة: تتعطل أعمالنا، قال: ما الحيلة؟ فقالوا: تقتلهم سنة، وتبقيهم سنة، حتى نستطيع أن نشغلهم في الأعمال، فولد موسى عليه السلام في السنة التي فيها القتل، أما هارون فولد في السنة التي لا يقتل فيها المواليد. والمقصود أن كل رسل بني إسرائيل من أولاد يعقوب بن إسحاق، ويعقوب هو إسرائيل الذي ذكر في القرآن كثيراً: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [البقرة:40]، ويعقوب أولاده إثنا عشر ثم كثر نسلهم وانتشروا، قيل: إنهم لما خرجوا من مصر كانوا سبعين ألفاً، والواقع أنهم أكثر من سبعين ألفاً، وكلهم أولاد يعقوب، وهو إسرائيل النبي الكريم. لما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: (من أكرم الناس؟ قال: يوسف الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم -يعني يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم- فقيل له: ليس عن هذا نسألك، فقال: تسألوني عن معادن العرب، خيركم في الجاهلية خيركم في الإسلام إذا فقهوا). فالمقصود: أن إسرائيل نبي كريم؛ ولهذا ما يجوز أن نسمي شذاذ الخلق وخبثاءهم اليوم من اليهود إسرائيل، الناس اليوم يسمونهم دولة إسرائيل، والواجب أن يسموا اليهود؛ لأن إسرائيل نبي، والنبي بريء من كل من خالف نهجه وطريقته، وإن كان من أولاده، وإن كان من أبنائه، فالنسب لا يفيد شيئاً، وإنما يفيد العمل. والمقصود: أن نسب رسولنا صلى الله عليه وسلم ينتهي إلى إبراهيم بلا إشكال، وهذا أمر يجب القطع به، وقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث أنه صلوات الله وسلامه عليه ابن إسماعيل، وإسماعيل لم يبعث نبي من ذريته إلا محمد صلوات الله وسلامه عليه، بخلاف إسحاق فإن جميع الأنبياء من أولاده. أما ما ذكر أن خالد بن سنان نبي من العرب، وأن قومه هم أصحاب الرس؛ فهذا لم يثبت، وجاءت فيه أحاديث الله أعلم بها، وجاء أنه نبي ضيعه قومه، وإذا صحت الأحاديث وجب اعتقاد ذلك، ولكن لم تثبت الأحاديث.

الشريعة الإسلامية حنيفية سمحة

الشريعة الإسلامية حنيفية سمحة قال الشارح: [وقوله: (عزيز عليه ما عنتم) أي: يعز عليه الشيء الذي يعنت أمته ويشق عليها؛ ولهذا جاء في الحديث المروي من طرق عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بعثت بالحنيفية السمحة)، وفي الصحيح: (إن هذا الدين يسر) وشريعته كلها سمحة سهلة كاملة يسيرة على من يسرها الله عليه]. وكلمة حنيف معناها مبتعد عن الشرك، مبتعد عنه قصداً مع العلم والقوة، ولهذا قالوا: إن هذا الدين الذي جاء به الرسول هو أشد الأديان وأعظمها في مسألة الشرك، ولكن في الشرع وأعمال الفروع هو أسمح الأديان وأسهلها، أما في العقيدة فهو أشدها وأعظمها، يبعد عن الشرك ووسائله، فالحنيف غير السمح السهل. إبراهيم عليه السلام كان حنيفاً يعني: بعيداً عن أن يقع في شيء من الشرك، تاركاً للشرك قصداً، مائلاً إلى توحيد الله جل وعلا وإخلاص العمل له وحده، فهكذا هذه الأمة على هذا النهج، أما في الشرائع فإنها سهلة وسمحة، فهي أيسر الشرائع كلها، وعرف من الأمثلة الشيء الكثير، فإن بني إسرائيل كانت عليهم آصار وأغلال في شرائعهم، كانوا لا يصلون إلا في بيعهم وكنائسهم، وإذا خرج الإنسان من ذلك المكان فلابد أن يرجع إليه ويصلي فيه، وكان أحدهم إذا أصاب ثوبه نجاسة ما يكفي أن يغسله، لا بد أن يقرضه بالمقراض ويلقيه، وهذا من الآصار، وحرمت عليهم أشياء من الأطعمة، وحرم عليهم أشياء كثيرة أحلت لهذه الأمة تسهيلاً وسماحة من الله جل وعلا، ومن القواعد التي يذكرها العلماء وتؤخذ من كليات الشرع: المشقة تجلب التيسير، كل شيء يشق على الناس فلا بد أن يكون الدين جاء بتيسيره وتسهيله، وهذه قاعدة جعلوها أصلاً يرجعون إليها.

رحمة الرسول بالمؤمنين

رحمة الرسول بالمؤمنين قال الشارح: [قوله: (حريص عليكم) أي: على هدايتكم، ووصول النفع الدنيوي والأخروي إليكم، وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: (تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في الهواء إلا وهو يذكر لنا منه علماً) أخرجه الطبراني، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بينته لكم). وقوله: (بالمؤمنين رؤوف رحيم) كما قال تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} [الشعراء:217]. وهكذا أمره تعالى في هذه الآية الكريمة وهي قوله: (فإن تولوا) أي: عما جئتهم به من الشريعة العظيمة المطهرة الكاملة {فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة:129]] هذا يدل على اختصاص رأفته ورحمته بالمؤمنين، أما الكافرون فهو لايرحمهم، بل هو شديد عليهم، كما قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73]، وقوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29]، بينهم رحماء، ولكن على الكفار أشداء، وهذا وصفه على ضوء أمر الله له، حينما قال له: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73]، فرأفته ورحمته خاصة بالمؤمنين صلوات الله وسلامه عليه. [قلت: فاقتضت هذه الأوصاف التي وصف بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حق أمته أن أنذرهم وحذرهم الشرك الذي هو أعظم الذنوب، وبين لهم ذرائعه الموصلة إليه، وأبلغ في نهيهم عنها، ومن ذلك تعظيم القبور والغلو فيها، والصلاة عندها وإليها ونحو ذلك مما يوصل إلى عبادتها كما تقدم وكما سيأتي في أحاديث الباب]. يعني أنه بين هذا ووضحه، ومن ذلك النهي عن الصلاة عند القبور.

شرح فتح المجيد [67]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [67] سد النبي صلى الله عليه وسلم كل طريق يوصل إلى الشرك، ومن ذلك أنه نهى أن يجعل قبره عيداً، وأخبر بأن السلام عليه يصله حيث كان المُسلِّم.

حديث: (لا تجعلوا بيوتكم قبورا)

حديث: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً) قال المصنف رحمه الله تعالى: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم) رواه أبو داود بإسناد حسن ورواته ثقات]. هذا الحديث من أدلة حمايته صلوات الله وسلامه عليه لجناب التوحيد حتى لا يخدش أو ينال بشيء يكدر صفوه، وحتى لا تكون العبادة فيها شيء لغير الله، قال: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا علي أينما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني) هذه الكلمات فيها إرشاد للأمة، وفيها حماية لعبادة الله جل وعلا، وصيانة لحق الله جل وعلا، ورأفة بالمؤمنين، ورحمة منه صلوات الله وسلامه عليه. وقوله: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً) ليس المعنى: لا تقبروا الموتى في بيوتكم، هذا غير مقصود؛ لأن هذا ما أحد يعمله، لا أحد يجعل بيته مقبرة؛ لأن الإنسان إذا مات عنده الميت يضيق به ذرعاً، ويود بكل سرعة أن يخرجه من بيته، ويذهب به إلى المقابر، هذا شيء معروف عند الناس كلهم، وإنما المقصود: لا تعطلوا بيوتكم من الصلاة والذكر والتلاوة والعبادة، فتكون مثل المقبرة، وهذا يدلنا على أنه متقرر عند المسلمين من أول الأمر أن المقابر ليست محلاً للعبادات؛ ولهذا قال: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً) يعني: لا تجعلوها شبيهة بالقبور؛ ولهذا جاء في الحديث الثاني: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً فإن الشيطان يفر من البيت الذي تتلى فيه سورة البقرة)، فدل على أنه قصد بقوله: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً) تعطيلها من العبادة، لا تعطلوها من العبادة، وذلك أن القبور معطلة من العبادة، ما يتعبد أحد عندها، وليست محلاً لأن يعبد الله جل وعلا فيها، ومن فيها مرتهن ما يستطيع أن يعبد الله، ما يستطيع أن يستغفر، ما يستطيع أن يتوب، ما يستطيع أن يكتسب حسنة واحدة، أو يتوب عن سيئة واحدة؛ لأن الأعمال ختم عليها بالموت، إذا مات الإنسان انقطع عمله، أما ما جاء في صحيح مسلم أنه استثني من ذلك ثلاث، فالواقع أن الثلاث من عمله، يقول: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) فهذه من عمله في الواقع، الصدقة الجارية من عمله، وسميت جارية على حسب الوضع وإلا فلابد أن تنقطع في يوم من الأيام، ولكنها تستمر وقتاً ما ثم تنقطع. أما العلم الذي ينتفع به فيقصد به التعليم، إذا كان يعلم الناس الخير بالنية الصالحة والقصد الحسن، لا أن يعلم الناس ويريد أن يثنوا عليه أو يحبوه ويمدحوه، فإن كانت هذه صفته فبئس الحالة حالته، فهو مأزور، ولا يكون له أجر، فضلاً عن أن يجري عليه هذا العمل، وكذلك إذا أبقى بعده علماً مكتوباً ينتفع به إذا كانت نيته صالحة أراد به وجه الله جل وعلا، وأراد الدعوة إليه، وبيان الحق، ونفع العباد، فهذا ينتفع بهذا العلم، أما إذا أراد النقود من كتب العلم، يريد أن يحصل الدنيا فليس له إلا ما حصل، وليس له إلا ما دخل في جيبه فقط، أما الذي يجرى عليه فهو أن يعذب نسأل الله العافية؛ لأن الذي يريد بالأعمال الصالحة عرضاً دنيوياً ليس له إلا النار، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أول من تسجر بهم النار ثلاثة: شهيد ومتصدق ومتعلم أو قال: عالم، فيؤتى بالشهيد فيقرر بنعم الله جل وعلا فيقر بها، فيقول الله جل وعلا له: ماذا صنعت؟ فيقول: يا رب! بذلت نفسي في سبيلك حتى قتلت، فيقول الله جل وعلا له: كذبت، بذلت نفسك ليقال: شجاع، جريء، وقد قيل، ثم يؤمر به فيسحب إلى النار) ما صار له من جهاده ومن قتله وإراقة دمه إلا قول الناس: هذا شجاع، هذا جريء، هذا مقدام، هذا فيه كذا وكذا، يعني: أجره المدح فقط، أما في الآخرة فهو من الخاسرين نسأل الله العافية، وذلك لأنه قصد الترفع على الناس، هذا قصده؛ لأنه إذا أثني عليه ومدح صار فوق الناس في ذلك. (ويؤتى بالمتصدق ويقرر بنعم الله فيقرر بها) ومعنى يقرر أن تذكر له، ألم يخلقك الله ولم تكن شيئاً؟ فيقول: بلى، فيقول: ألم يجعل لك سمعاً وبصراً وعقلاً؟ فيقول: بلى يا رب، ألم يفضلك على كثير من خلقه؟ فيقول: بلى يا رب، ألم ينعم عليك بالنعم من الأرزاق؟ ألم يزوجك؟ ألم يجعل لك أولاداً؟ إلى غير ذلك من النعم، فيقر بها ولا يستطيع أن ينكر، ويقول: بلى يا رب، عند ذلك يقول: (ماذا صنعت؟ -يعني: ماذا عملت مقابل هذه النعم؟ -فيقول: يا رب! ما تركت باباً من أبواب الخير إلا أنفقت الأموال في سبيلك ابتغاء وجهك، فيقول الله: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، تبعاً لقول الله جل وعلا، ولكنك تصدقت ليقال: هو جواد، هو كريم، وقد قيل -يعني: قد أخذت أجرك من قول الناس - فيؤمر به فيسحب إلى النار. ويؤتى بالعالم أو المتعلم، فيقرر بنعم الله فيقر بها، فيقول الله جل وعلا: ماذا صنعت فيها؟ فيقول: يا رب! تعلمت فيك العلم وعلمته، فيقول الله جل وعلا: كذبت، ولكنك تعلمت ليقال: هو عالم، وقد قيل -يعني: قد أخذت أجرك واستوفيته- فيسحب إلى جهنم)، هؤلاء أول من تسجر بهم جهنم. وعالم بعلمه لم يعملن معذب من قبل عباد الوثن يلقى في جهنم قبل عباد الوثن نسأل الله العافية، وهو مسلم في الظاهر، بل عالم في الظاهر، فهكذا إذا كان الإنسان ترك علماً أو ترك صدقة جارية فإنه متوقف على نيته وقصده ومراده وإخلاصه، إن كان قصده صالحاً ونيته طيبة مخلصاً لله فليبشر بالخير، وإن كان العمل قليلاً، فإن الله جل وعلا يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} يعني: مثقال الذرة (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:40]. إذا بقي للإنسان من الحسنات بعد المحاصة والمقاصة والموازنة مثقال ذرة ضاعفها الله جل وعلا له وأدخله بها الجنة. إذاً: ليس الاهتمام بالكثرة، وإنما الاهتمام بالصفة، بالإخلاص، بالمقاصد، أن تكون نيته ومقصده لله جل وعلا، وأن يكون عمله موافقاً لسنة المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، هذا هو أهم ما لدى الإنسان، فعلى هذا نقول: إن قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً) أمر منه صلى الله عليه وسلم بأن نجعل شيئاً من عبادتنا في البيوت، من الصلاة، ومن الذكر، والدعاء، وتلاوة القرآن، وغير ذلك، ولا يجوز أن يكون البيت محلاً لمأوى الشياطين نسأل الله العافية، والغناء، والصور، والأمور التي ترضي الشيطان، وتغضب رب العالمين، فإنه إذا كان كذلك فإنه يكون مأوى للشياطين، ولهذا يكثر تلبس الجن بكثير من الناس لأجل تعطيلهم ذكر الله جل وعلا، ولأجل كونهم لا يتلون آيات الله؛ ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم: (فإن الشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة)، فلا يمكن أن يدخل فيه، بل يهرب منه، فتلاوة القرآن تطرد الشياطين؛ ولهذا الأمر قال صلى الله عليه وسلم: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً) أي: لا تعطلوها من التلاوة ومن الصلاة ومن الذكر فتكون مثل القبور.

قوله: (ولا تجعلوا قبري عيدا)

قوله: (ولا تجعلوا قبري عيداً) قوله: (ولا تجعلوا قبري عيداً) وهذا أيضاً نهي أن نجعل قبره عيداً، والعيد اسم لما يعود ويتكرر من الوقت أو من الفعل أو المكان، إذا جعل الناس مكاناً معيناً ليفعل فيه أشياء معينة، فهذا المكان يكون عيداً، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في السنن لما جاء الرجل الذي نذر أن ينحر إبلاً ببوانة، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أكان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قال: لا، قال: هل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قال: لا، قال: فأوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم)، فقوله: (هل كان فيها عيد من أعيادهم؟) يعني: هل كانوا يعودون إلى هذا المكان لصنع أشياء معينة من أعمالهم، فهذا يدل على أن المكان قد يسمى عيداً، وكذلك بعود الفعل يكون عيداً أو بعود الوقت والزمن وتكراره.

النهي عن التردد إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم

النهي عن التردد إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا تجعلوا قبري عيداً) يعني: لا تترددوا على قبري، وهنا لم يذكر لا سلاماً ولا غيره مطلقاً؛ ولهذا قال: (وصلوا علي أينما كنتم) يعني: أنه لا داعي لأن تذهبوا إلى القبر وتصلون علي هناك، بل في أي مكان صليتم علي (فإن صلاتكم تبلغني)، فهو المبلغ صلوات الله وسلامه عليه الصلاة، الصلاة التي يصليها عليه المسلم تبلغه، سواء كان المصلي عليه بعيداً وقريباً؛ ولهذا فإن الترداد على القبر ممنوع مفهوماً ونصاً، فالنص في قوله: (لا تجعلوا قبري عيداً)، والمفهوم في قوله: (فإن صلاتكم تبلغني) بعد قوله: (وصلوا علي أينما كنتم) فدل على أنه لا داعي للذهاب إلى السلام عليه عند قبره صلوات الله وسلامه عليه، فإنك أينما صليت عليه في أي مكان كنت فإن الصلاة تبلغه صلوات الله وسلامه عليه، يعني: أنها تعرض عليه، هذا معنى تبلغه، تعرض عليه ويقال له صلى الله عليه وسلم: فلان يصلي عليك أو فلان يسلم عليك. ومن صلى على النبي صلى الله عليه وسلم واحدة صلى الله عليه بها عشراً، فهي حسنة بعشر أمثالها، بل من أفضل الحسنات الصلاة عليه، فهذا حماية منه صلى الله عليه وسلم لجناب التوحيد، حتى لا يجر الشيطان من كان عنده ضعف إيمان أو ضعف علم فيدعوه إلى أن يتحرى الدعاء عند قبره صلى الله عليه وسلم، وهذا ممنوع، وربما إذا وصل إلى هذا الحد دعاه إلى أن يتجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويدعوه بأن يشفع له، فيقول: يا رسول الله اشفع لي أو أعطني كذا، أو أنا جئت إليك أو أنا مستجير بك، أو نحو ذلك مما يقع لكثير من الناس، فهذا شرك؛ لأنه دعوة للرسول صلى الله عليه وسلم بالشيء الذي يجب أن يكون لله جل وعلا، وكل هذا نفاه صلى الله عليه وسلم، وحمى الأمة من أن تقع فيه بهذا الحديث وأمثاله. ومن الجهل ما يقع من بعض الناس إذا علم أن صاحبه أو قريبه أو من يعرفه سيذهب إلى المدينة قال: سلم لي على رسول صلى الله عليه وسلم، وربما كتب كتاباً وقال: ضعه عند قبره، فهذا عمل باطل، وهو خلاف ما جاء به المصطفى، وكل ما كان خلاف ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فهو رد على صاحبه كما قال صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، فهذا ليس عليه أمره، وأمره صلى الله عليه وسلم واضح وجلي قد بينه، ويجب أن يعلم، فتبين بهذا أن هذا كله صيانة لحق الله جل وعلا أن ينتهك، ورحمة بالأمة أن تقع في العنت ومواقع العذاب الذي يشق على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فصلوات الله وسلامه عليه الذي نصح الأمة وأدى الأمانة، وقام بكل ما وجب عليه للأمة، بل وأكثر من ذلك رأفة بهم ورحمة.

الحث على النوافل في البيوت

الحث على النوافل في البيوت قال الشارح: [قوله: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً) قال شيخ الإسلام: أي: لا تعطلوها من الصلاة فيها والدعاء والقراءة، فتكون بمنزلة القبور، فأمر بتحري العبادة في البيوت، ونهى عن تحريها عند القبور، عكس ما يفعله المشركون من النصارى ومن تشبه بهم من هذه الأمة]. ليس معنى ذلك أنه خص البيوت بالتعبد، وإنما حث على أن يجعل فيها شيء من العبادة، والمقصود بالعبادة هنا النوافل، أما الفرائض فيجب على المسلم أن يؤديها في المساجد حيث ينادى لها، ولا تكون في البيت، وإنما الذي يكون في البيت النوافل، والمسلم مطلوب منه أن يتزود من الخير، والذي يقتصر على الفرائض فقط على خطر؛ لأن الإنسان يعتريه النسيان، ويعتريه التقصير، ويعتريه الجهل، تعتريه نواقص كثيرة جداً، وقد جاءت النصوص بأن الإنسان يوم القيامة تكمل فرائضه من النوافل والتطوعات، جاء في الحديث أن أول ما يحاسب عليه الإنسان صلاته، فإذا نقص منها شيء قيل: انظروا هل له تطوع؟ فيكمل من التطوع، وهذا من فضل الله جل وعلا وإحسانه، وإلا له الحق بألا يقبل التطوع إذا نقص الفرض؛ لأن الفرض يجب أن يؤتى به على الوجه المطلوب، فإن لم يأت به على الوجه المطلوب فقد قصر الإنسان، فالصلاة والذكر والتلاوة وغيرها من العبادة إذا كانت تطوعاً ففعلها في البيت أفضل، حتى وإن كان الإنسان في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم الذي الصلاة فيه بألف صلاة، فربما ركعة في البيت تساوي ركعات كثيرة في المسجد لماذا؟ لأنه في البيت يكون وحده، ويأمن نظر الناس الذي قد يدعوه إلى تزيين الصلاة وتطويلها وتحسينها فيكون ذلك لغير الله، ويكون العمل مردوداً، أما في بيته فهو يأمن هذا، لأجل هذا حث الشرع على الصلاة في البيوت صلاة التطوع، وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأن تكون صلاة التطوع في البيوت، فعلى هذا لا يكون تناقض أو تضارب بين قوله: (صلاة في مسجدي هذا بألف صلاة) وبين حثه وأمره على الصلاة في البيوت؛ لأن الصلاة في البيت وإن لم تكن الركعة بألف ركعة تكون أفضل من حيث الصفة من الإخلاص، ومقصد الإنسان، وبعده عن المراءاة، من هذه النواحي، والعبرة بالصفة وبالكيفية وليست بالكمية. والله جل وعلا ينظر إلى القلوب، أما الصور الظاهرة فهذه لا تجزي بشيء، فهذا هو الذي اقتضى الحث على العبادة في البيوت، ثم لا يجوز للإنسان أن يكون بيته معطلاً من ذكر الله ومن تلاوة القرآن، ومن المعلوم أن أكثر البيوت الآن فيها من المزامير والأغاني والصور والمسلسلات، وغير ذلك من أمور كثيرة داعية إلى المعاصي، والنظر إلى كثير منها معصية، فهي من دواعي حضور الشياطين إليها؛ لأن الشيطان يحب المعاصي ويحضرها، فينبغي أن يقاوم المسلم هذا الشيء، وربما كانت المقاومة ضعيفة، ولكن إذا كان الإنسان عنده إيمان وعنده إخلاص طرد الشياطين بإذن الله.

المسلم مبارك أينما كان

المسلم مبارك أينما كان يجب على المسلم أن يكون مباركاً أينما كان، وإذا حل في أي مكان نفع، هذا هو المبارك، إذا كنت عند أهلك نفعت، وإذا كنت في السوق نفعت، إذا كنت في مسيرك نفعت، والنفع هو الدعوة إلى الله جل وعلا، والتذكير بآيات الله، وبالرجوع إليه، فإننا سائرون، نحن نسير في الطريق سيراً حثيثاً أعظم من سير الطائرة، فكل لحظة تقربنا إلى المقبرة، فضلاً عن اليوم والليلة والشهر والسنة، وما أسرع ما يقال: فلان مات، ثم إذا مت من يصلي لك؟ من يتصدق عنك؟ من يصوم عنك؟ انتهت القضية، لا يوجد عمر يعود مرة أخرى، وعندها يقول: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100] فيقال له: (كَلَّا) كلا، لا رجوع، انتهت القضية، كم جاءك من النذر ومن الآيات ولكنك لم تتعظ، وتستبعد هذا؟ فيندم حين لا ينفع الندم، وينبغي للإنسان أن يتنبه ما دام بإمكانه أن يتنبه ويعمل، ولا يقول: أنا صحيح، وأنا شاب، ربما اغتبط بشبابه ثم يموت وهو شاب، وهذا كثير، فيجب أن يحذر الإنسان {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28]، فاحذروا احذروا أن تقعوا في المعاصي ثم يموت الإنسان بإثر معصية -نسأل الله العافية- فيلقى ربه وهو عليه غضبان، فماذا يكون مصيره؟ إذا كنت مثلاً عند الملك، يعرفك، ويغدق عليك بالنعم، ويعطيك ما تريد وأكثر مما تريد، ثم بعد ذلك تعصيه معصية بارزة ظاهرة وهو يراك ويشاهدك، فتفر منه؛ لأنه سيعاقبك، ثم بعد ذلك تمسك مكبلاً، ويؤتى بك على رغم أنفك، ماذا تكون حالتك؟ هذا تقريب فقط، وإلا فالله جل وعلا يقول: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر:49 - 50]، فإنه لا يعذب عذابه جل وعلا أحد.

فضل سورة البقرة

فضل سورة البقرة قال المصنف: [وفي الصحيحين عن ابن عمر مرفوعاً: (اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً) وفي صحيح مسلم عن ابن عمر مرفوعاً: (لا تجعلوا بيوتكم مقابر فإن الشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة)]. خص سورة البقرة لما فيها من الأحكام والآيات والصفات العظيمة، ولأنها أطول سورة في المصحف، فهي (286) آية، مع أن فيها آيات طويلة، فأطول آية في القرآن فيها، وأعظم آية في القرآن فيها، وفيها ألف أمر، وألف نهي، وفيها أشياء عظيمة جداً؛ ولهذا كان الصحابة يعظمونها، وإذا كانوا في معركة حامية وحصل ارتباك صار ينادي بعضهم بعضاً: يا أهل سورة البقرة! يا أهل سورة البقرة! يذكر بعضهم بعضاً بهذه السورة العظيمة، فلهذا الشيطان يفر منها. وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن المسلمين جمعوا صدقة الفطر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت عادتهم أن يجمعوا الصدقة عند الرسول صلى الله عليه وسلم فيفرقها، فجمعت في المسجد، لا يوجد خزائن وأبواب ووزراء، فجعل أبا هريرة حارساً لها، وهي تمر، ومعروف أن أهل المدينة أكثر طعامهم التمر، فاجتمع كوم من التمر من صدقة الفطر، فأمر أبا هريرة أن يحرسها في الليل، وبينما هو يحرس جاء رجل فصار يحثو من التمر في حجره فأمسكه، فقال: ما لك؟ لأرفعنك إلى رسول صلى الله عليه وسلم، فقال: دعني، والله! إني فقير، وعندي عيال، والصدقة هذه للفقراء، قال: فرحمته، وتركته، وذهب. وفي الليلة الثانية أتى فصار يحثو فقلت: هذه ثاني ليلة تأتي! فقال: دعني فإني فقير وعندي عيال، وأنا ذو حاجة، قال: فرحمته وتركته، ولما غدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما فعل أسيرك يا أبا هريرة؟ فقلت: يا رسول الله! زعم أنه ذو حاجة وأنه فقير وعليه عيال فرحمته وتركته، فقال: أما إنه سيعود، قال: فعلمت أنه سيعود، فجاء وصار يحثو فأمسكته وقلت: هذه ثالث ليلة، والله! لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: دعني أنا فقير وذو عيال، ودعني أعلمك شيئاً ينفعك الله به، وكانوا أحرص شيء على الخير، فقال: نعم، قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي، فإنه لا يقربك شيطان، ولا يزال عليك من الله حافظ حتى تصبح، قال: فلما غدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما صنع أسيرك يا أبا هريرة؟ فقلت: يا رسول الله! زعم أنه يعلمني شيئاً ينفعني فقال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي فإنه لا يقربك شيطان، ولا يزال عليك من الله حافظ حتى تصبح، فقال: (صدقك وهو كذوب، أتدري من تخاطب منذ ثلاث؟ قلت: لا، يا رسول الله! قال: ذلك الشيطان)، لماذا أتى الشيطان يأخذ تمراً؟ لم يستطع أن ينقص الصحابة بشيء من أديانهم، فهذه آخر حيلة له، يريد أن ينقصهم من التمر فقط، وهذا أمر سهل، وكيده أضعف الكيد، والمقصود قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (صدقك وهو كذوب) يعني: أن الإنسان إذا أوى إلى فراشه وقرأ آية الكرسي فإنه لا يقربه شيطان تلك الليلة، ولا يزال عليه من الله حافظ حتى يصبح، وهذا أمر سهل، وآية الكرسي في سورة البقرة، فكيف بالذي يقرؤها كلها؟ جاء في بعض الآثار: من قرأ عشر آيات من سورة البقرة فإن الله يحفظه من كل سوء، وإذا مات مات مغفوراً له، والعشر الآيات ثلاث من أولها، وواحدة من وسطها: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة:163]، وآية الكرسي وآيتان بعدها، وثلاث من آخرها: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [البقرة:284]، وبعدها: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة:285] وقد صح أن (من قرأ الآيتين الأخيرتين منها في ليلته كفتاه)، من قرأ: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285] حتى يختم السورة في ليلة كفتاه، قيل: كفتاه عن قيام الليل، والصواب أن معنى (كفتاه) أي: أن الله يحفظه بهاتين الآيتين. وفضائل سورة البقرة كثيرة جداً، وهذا يدلنا دلالة واضحة على أن كلام الله يتفاضل، فبعضه أفضل من بعض، وهذا الذي عليه أئمة السلف، أن كلام الله بعضه أفضل من بعض، وكذلك صفاته جل وعلا، وأسماؤه كذلك بعضها أفضل من بعض، حسب ما تدل عليه من المعاني والجوامع، فالحي القيوم يجمع معاني الأسماء كلها، الحي يجمع معاني أسماء الذات كلها، والقيوم يجمع معاني أسماء الأفعال كلها، وهما في سورة البقرة.

النهي عن جعل القبر عيدا

النهي عن جعل القبر عيداً قال الشارح: [قوله: (ولا تجعلوا قبري عيداً) قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: العيد اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد، عائداً إما بعود السنة أو بعود الأسبوع أو الشهر ونحو ذلك. وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: العيد ما يعتاد مجيئه وقصده من زمان ومكان، مأخوذ من المعاودة والاعتياد، فإذا كان اسماً للمكان فهو المكان الذي يقصد فيه الاجتماع وانتيابه للعبادة وغيرها كما أن المسجد الحرام ومنى ومزدلفة وعرفة والمشاعر جعلها الله عيداً للحنفاء ومثابة للناس]. المثابة الرجوع، وهو بمعنى العيد، ثاب يثوب، ثاب مرة بعد أخرى، يعني: أن الإنسان إذا ذهب إلى مكة يعود مرة أخرى، ويجد في نفسه دافعاً يدفعه، وحادياً يحدوه إلى أن يعود مرة أخرى، وكل إنسان إذا جاء وقت الحج وكان عنده إيمان ومحبة للخير؛ تجد في قلبه ما يدعوه إلى ذلك، ويحن إلى هذه الأماكن، ويقال: إن هذا أثر دعوة إبراهيم عليه السلام: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم:37] فإن الله استجاب له هذه الدعوة، ويقول بعض العلماء: لولا أنه قال: من الناس لكان هذا عام شامل لجميع الخلق، فتجد الخلق كلهم يريدون المجيء إلى مكة. فالمقصود أن معنى المثابة هو بمعنى العيد، فهم يثوبون بمعنى: يرجعون مرة بعد أخرى، ويكررون ذلك، ولو لم يكن من رجل واحد ولكن من الجميع. قال الشارح: [كما جعل أيام العيد فيها عيداً، وكان للمشركين أعياد زمنية ومكانية، فلما جاء الله بالإسلام أبطلها وعوض الحنفاء منها عيد الفطر وعيد النحر وأيام منى، كما عوضهم من أعياد المشركين المكانية بالكعبة ومنى ومزدلفة وعرفة والمشاعر]. الواقع أن أعياد الجاهلية زادت الآن وكثرت، من قبل كانت أقل، أعياد الجاهلية التي كانت قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم ليست كثيرة مثل أعياد الجاهلية اليوم، فجاهلية اليوم لا تحصى أعيادها، عيد مولد، وعيد شجرة، وعيد أم، وعيد أمة، وعيد اعتلاء العرش، وعيد وطن، وعيد كذا، تجد أعياداً كثيرة جداً، وكلها بدع وضلالة، وكلها مخالفة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (فإن الله عوضكم عن أعياد الجاهلية بعيد الفطر والأضحى)، ليس للمسلمين إلا هذين العيدين: عيد الفطر، وعيد الأضحى. الأسبوع له عيد وهو الجمعة، ولكن العيد لا يعطل فيه العمل كما يتصور بعض الناس، فإن الله أمرنا بالسعي في يوم الجمعة لطلب الرزق، يقول الله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} [الجمعة:10]، ولكنه عيد بمعنى أنه فيه عمل صالح، وفيه اجتماع على عمل صالح، هذا معنى كونه عيد الأسبوع، فيه اجتماع في بيت من بيوت الله على عمل صالح، وليس معنى ذلك ترك الأعمال. أما الأعياد الأخرى -وإن زعم أن فيها منفعة- فالواجب أن يكون المسلم مكتفياً بما في تعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس فيها شيء فيه تقصير أبداً، النفع كله موجود في تعاليم الإسلام، وكل ما يزعم في هذه الأعياد من منافع ففي تعاليم الإسلام أكثر منه وأعظم، ولكن ليس على ذلك الوجه، بل على وجه يرضي الله جل وعلا ويرضي رسوله صلوات الله وسلامه عليه، أما البدع فإنها ترضي الشيطان، وتبعد عن الله، وتجعل العمل لا خير فيه ولا بركة فيه، ولا جدوى فيه في الآخرة، بل هو ممحوق البركة. قال الشارح: [قوله (وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم) قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: يشير بذلك إلى أن ما ينالني منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قربكم من قبري وبعدكم، فلا حاجة لكم إلى اتخاذه عيداً. قوله: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً) تقدم كلام شيخ الإسلام في معنى الحديث قبله. انتهى].

شرح فتح المجيد [68]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [68] لا يجوز شد الرحال إلى القبور، ولو كانت قبور أنبياء؛ لأن شد الرحال إليها قد يفضي إلى الشرك، وقد وقع كثير من هذه الأمة في عبادة القبور بسبب الغلو في أصحابها.

حديث: (صلوا علي فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم)

حديث: (صلوا علي فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم) قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن علي بن الحسين رضي الله عنه: أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فيدخل فيها فيدعو فنهاه، وقال: ألا أحدثكم حديثاً سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: (لا تتخذوا قبري عيداً، ولا بيوتكم قبوراً، وصلوا علي فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم) رواه في المختارة]. هذا الحديث رواه علي بن الحسين الذي هو زين العابدين، وهو من أفضل أهل زمانه، عن أبيه الحسين بن علي ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن جده رسول الله صلى اله عليه وسلم أنه قال: (لا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا علي؛ فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم)، وفي هذا الحديث ما كان عليه السلف -وأهل البيت خاصة- من معرفة هذه السنة، فهذا الرجل جاء يتحرى الدعاء عند قبر الرسول فنهاه، وقال: لا تفعل، وجاء نظير هذا أيضاً عن ابن عمه الحسن بن الحسن أنه رأى رجلاً بهذه الصفة، يقول: جئت وهو يتعشى في بيت فاطمة، فدعاني فقلت: لا أريده، فقال: ما لي أراك تأتي إلى القبر، فقلت: أسلم، فقال: لا تفعل، يعني: لا تتردد على القبر للسلام، ثم ذكر الحديث، وقال: ما أنت ومن بالأندلس إلا سواء، فسلم أينما كنت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن تسليمك يبلغه، ودل هذا على أنه لا يجوز تحري الدعاء عند القبر، وإن قصد الإنسان الدعاء فليكن في روضة مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز أن يتجه إلى القبر ويدعو، بل يتجه إلى القبلة ويدعو ربه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ما بين منبري وبيتي روضة من رياض الجنة)، فهذا هو الذي يرجى فيه إجابة الدعاء، وينبغي أن يتحرى الدعاء فيها وليس عند القبر، والقبر ما كان في المسجد، بل كان خارج المسجد، ولكن الوليد بن عبد الملك أدخله المسجد لا استناناً بسنة، ولا امتثالاً لأمر عالم من العلماء، وإنما بمقتضى أمر الملوك وفعل الملوك فقط؛ لأنه ملك من الملوك يريد أن يظهر عمله، فعمله خطأ، لا وافق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا امتثل مشورة العلماء، بل جانب ذلك. إذاً: القبر ليس مكاناً للدعاء، بل هو منهي عنه، هذا لو لم تأت النصوص الصرحية الواضحة فكيف وقد جاءت النصوص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فليس للمخالف في ذلك عذر، ويكون مرتكباً لإثم إذا خالف هذه النصوص، وفي هذا دليل على أن من كان في المدينة لا يتردد على قبر الرسول صلى الله عليه وسلم بالسلام كلما جاء إلى المسجد، وإنما إذا دخل المسجد يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كان الصحابة يفعلون ذلك مع أنهم كانوا يتمكنون من الوصول إلى قبره، ولا شيء يحول بينهم وبينه، بخلاف اليوم لا يستطيع أحد أن يصل إلى القبر، وهذا من فضل الله جل وعلا، فإن الله جل وعلا حماه عن الجهال الذين لو تمكنوا منه لم يتركوا حتى من التراب شيئاً، التراب سيحملوه لو تمكنوا من ذلك، ولكن من فضل الله جل وعلا أن صانه وحماه. فالمقصود أن السنة التي بينها صلى الله عليه وسلم للمسلمين أن يصلوا عليه أينما كانوا، وألا يترددوا على قبره ويجعلوه عيداً، فإنهم إذا فعلوا ذلك فإنهم يكونون مخالفين لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

صحة حديث علي بن الحسين في النهي عن الدعاء عند القبر

صحة حديث علي بن الحسين في النهي عن الدعاء عند القبر قال الشارح رحمه الله: [قال: هذا الحديث والذي قبله جيدان حسنا الإسنادين. أما الأول: فرواه أبو داود وغيره من حديث عبد الله بن نافع الصائغ قال: أخبرني ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة فذكره، ورواته ثقات مشاهير لكن عبد الله بن نافع قال فيه أبو حاتم: ليس بالحافظ، تعرف وتنكر، وقال ابن معين: هو ثقة، وقال أبو زرعة: لا بأس به، قال شيخ الإسلام رحمه الله: ومثل هذا إذا كان للحديث شواهد علم أنه محفوظ، وهذا له شواهد متعددة، وقال الحافظ محمد بن عبد الهادي: هو حديث حسن جيد الإسناد، وله شواهد يرتقي بها إلى درجة الصحة. وأما الحديث الثاني: فرواه أبو يعلى والقاضي إسماعيل والحافظ الضياء محمد بن عبد الواحد المقدسي في المختارة. قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: فانظر هذه السنة كيف مخرجها من أهل المدينة وأهل البيت الذين لهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم قرب النسب وقرب الدار؛ لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم فكانوا له أضبط. انتهى. وقال سعيد بن منصور في سننه: حدثنا عبد العزيز بن محمد أخبرني سهيل بن أبي سهل قال: رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم عند القبر فناداني وهو في بيت فاطمة رضي الله عنها يتعشى فقال: هلم إلى العشاء فقلت: لا أريده فقال: ما لي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إذا دخلت المسجد فسلم ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تتخذوا قبري عيداً، ولا تتخذوا بيوتكم مقابر، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم، لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) ما أنتم ومن في الأندلس إلا سواء. وقال سعيد أيضاً: حدثنا حبان بن علي حدثنا محمد عجلان عن أبي سعيد مولى المهري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تتخذوا قبري عيداً ولا بيوتكم قبوراً، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني) قال شيخ الإسلام: فهذان المرسلان من هذين الوجهين المختلفين يدلان على ثبوت الحديث، لا سيما وقد احتج به من أرسله، وذلك يقتضي ثبوته عنده، هذا لو لم يرو من وجوه مسندة غير هذين فكيف وقد تقدم مسنداً]. في هذين الحديثين دليل على أن قصد القبر للسلام غير مشروع، وإنما المشروع قصد المسجد، وفيه كذلك أن علي بن الحسين والحسن بن الحسن أخبرا أن هذا يدخل في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تتخذوا قبري عيداً)، فاستدلا به على المنع من قصد القبر؛ ولهذا قال: لا تفعل، يعني: لا تأت إلى القبر للسلام، وهذا لم يكن الصحابة يفعلونه، قال عبيد الله بن عمر عن نافع أن ابن عمر كان إذا أتى من السفر جاء إلى المسجد فصلى ركعتين، ثم جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا رسول الله، ثم قال: السلام عليك يا أبا بكر، ثم قال: السلام عليك يا أبتي، ثم ينصرف، يقول عبيد الله بن عمر: ولم أعلم أحداً من الصحابة كان يفعل ذلك غير ابن عمر. فمن فعل مثل هذا اقتداء بـ عبد الله بن عمر فلا بأس إذا قدم من سفر، أما أن يقصد القبر للسلام فقط فهذا داخل في النهي. وكذلك يدل الحديث على أن الإنسان إذا جاء إلى المسجد النبوي ليصلي فلا يشرع له أن يذهب ويسلم؛ لأنه قال: لا تفعل، وفهموا أن هذا داخل في قوله: (لا تتخذوا قبري عيداً)؛ ولهذا ما كان أحد من الصحابة يفعل ذلك، ومعلوم أنه لو كان ذلك خيراً لسبقونا إليه؛ لأنهم أولى الناس بفعل الخير، وأبعد الناس عن فعل البدع والباطل. وكذلك فيه دليل على أنه لا يقصد القبر للدعاء عنده؛ ولهذا أنكر مالك رحمه الله على أهل المدينة أنهم إذا دخلوا المسجد يقصدون القبر للسلام وللدعاء، وقال: لم يكن أحد من السلف يفعل ذلك، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها.

من سلم على قبر النبي فليتجه إلى القبر ولا يدعو عنده

من سلم على قبر النبي فليتجه إلى القبر ولا يدعو عنده وردت حكاية عن مالك أن المنصور سأله: إذا أردت أن أدعو فهل أتوجه إلى القبر أو أتوجه إلى القبلة؟ فقال: لا تصرف وجهك عن وسيلتك ووسيلة آبائك، اتجه إلى القبر واستشفع به، فإنك تشفع في ذلك، فهذه حكاية موضوعة على الإمام مالك، وفيها من هو متهم بالكذب، مثل محمد بن حميد فإنه كذاب، وكذلك في سندها من لا يعرف، ومثل هذا لا يقوله الإمام مالك وقد صح عنه ما سبق، وكان من أعظم الناس تمسكاً بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن أشد الناس كراهية للبدع، وبغضاً لها ونهياً عنها. ثم إنه يجب على الإنسان أن يكون عمله متقيداً بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم حتى لا يرد عمله، فإذا لم يكن العمل مقيداً بالسنة فإنه مردود؛ لأن العلماء اتفقوا على أن الدين الإسلامي مبني على أصلين عظيمين: أحدهما: أن يكون الدين كله خالصاً لوجه الله، لا يراد به غير الله. والثاني: أن تكون العبادة قد جاءت بالنص، جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فمعنى شهادة أن لا إله إلا الله: أنه لا يأله ولا يعبد إلا الله وحده، ومعنى شهادة أن محمداً رسول الله: أنه رسول جاء من عند الله، وأنه لا يعبد الله إلا بما جاء به هذا الرسول صلوات الله وسلامه عليه. وليس الأمر مطلقاً لكل من أراد أن يفعل شيئاً فعله أو استحسن شيئاً سلكه، وإذا رأى أحداً يفعل شيئاً مخطئاً سواء عن حسن قصد أو عن غيره فإنه لا يجوز له الاقتداء به. وهذه المسألة الأخيرة وهي كونه لا يقصد القبر للدعاء؛ يقول عنها شيخ الإسلام ابن تيمية: ما أعلم فيها خلافاً بين السلف، يعني: أنها محل إجماع، لا أعلم فيها خلافاً بين السلف، هكذا يقول، وهذا يدل على أنها من البدع التي جاء به الخلوف. وأما ما يذكر في كتب الفقه وغيرها من ذكر خلاف في المسألة، وبعضهم قد يرفع هذا الخلاف إلى بعض علماء السلف، أنه إذا سلم هل يدعو ويتجه إلى القبر أو يتجه إلى القبلة، فهذا لا يدل أن هذا محل دعاء، بل من قصد هذا المكان للدعاء فقد ابتدع وجاء بخلاف النص الذي نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن مثل هذا، وجعله من الذرائع التي يدخل منها الشيطان إلى الإنسان لإفساد عبادته، فمثل هذا يدخل في قاعدة: سد الذرائع، وحماية المصطفى صلى الله عليه وسلم لجناب التوحيد.

فضل علي بن الحسين

فضل علي بن الحسين قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: علي بن الحسين أي: ابن علي بن أبي طالب رضي الله عنه المعروف بـ زين العابدين رضي الله عنه، أفضل التابعين من أهل بيته وأعلمهم، قال الزهري: ما رأيت قرشياً أفضل منه، مات سنة ثلاث وتسعين على الصحيح، وأبوه الحسين سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانته، حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم واستشهد يوم عاشوراء سنة إحدى وستين وله ست وخمسون سنة رضي الله عنه]. حفظ أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنها ليست كثيرة، وعلى كل حال هو ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه ابن بنته، وكان يحبه هو وأخوه الحسن، ويجب محبتهما لقرابتهما ولصحبتهما ولتقواهما لله جل وعلا، وأما ما حدث له من الاستشهاد فهذا حدث من قوم فجرة، ولا يجوز أن ينسب هذا إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم كما يقوله أهل البدع، ويضيفون قتله إلى الأمة عموماً، فإن الأمة مجمعة على أن من فعل ذلك فقد استحق من الله جل وعلا العذاب والنكال، ولكن ليس استشهاده رضي الله عنه وقتله ظلماً بأكثر من قتل أبيه رضي الله عنه، فإن أباه أيضاً أفضل منه وقد قتل أيضاً ظلماً، وهو أحد الخلفاء الراشدين، فلا يجوز أن يتخذ مقتله مأتماً ومناحاً ومثاراً للفتن وبثاً للبدع. الإنسان إذا أصيب بمصيبة يجب أن يصبر ويحتسب ويسترجع، أما أن يتخذ هذا وسيلة لنشر البدع وإثارة الفتن فهذا من أكبر المفسدات التي ينهى عنها الإسلام، وقبل ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل ظلماً، وقتل وهو قائم يصلي، ولا يجوز أن نتخذ هذا المقتل أيضاً مناحاً ومأتماً، وكذلك الخليفة بعده عثمان رضي الله عنه قتل في بيته ظلماً، حصر ثم قتل ظلماً، وهو صابر محتسب، وأبى أن يقاتل عن نفسه حتى لا يكون سبباً في سفك دماء هذه الأمة، فهذه كلها من العظائم الكبيرة، ومع ذلك لا يجوز أن نتخذ هذه الأشياء مآتم ومناحات ومسارات بالنعرات الخبيثة التي تعزز الفساد والفتن، وإنما يتخذ ذلك أصحاب الأهواء الذين لهم مقاصد فاسدة.

النهي عن قصد القبور لأجل الدعاء والصلاة عندها

النهي عن قصد القبور لأجل الدعاء والصلاة عندها قال الشارح رحمه الله: [قوله: أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة بضم الفاء وسكون الراء، وهي الكوة في الجدار والخوخة ونحوهما. قوله: فيدخل فيها فيدعو فنهاه، هذا يدل على النهي عن قصد القبور والمشاهد لأجل الدعاء والصلاة عندها]. ينهى عنه مطلقاً، ويدخل في ذلك قبر الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا استدل به من استدل على المنع من ذلك، لقوله: لا تفعل، يعني: تأتي للسلام والدعاء، فإن هذا داخل في قوله: لا تتخذوا قبري عيداً. قال الشارح رحمه الله: [قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: ما علمت أحداً رخص فيه لأن ذلك نوع من اتخاذه عيداً، ويدل أيضاً على أن قصد القبر للسلام إذا دخل المسجد ليصلي منهي عنه؛ لأن ذلك لم يشرع، وكره مالك لأهل المدينة كلما دخل الإنسان المسجد أن يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن السلف لم يكونوا يفعلون ذلك] ومن ذلك أيضاً التوجه إليه وهو في مكانه إذا دخل أو إذا أراد أن ينصرف، فبعضهم يتجه إلى القبر ويسلم، فإن هذا من البدع أيضاً، وكل بدعة ضلالة. قال الشارح رحمه الله: [ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها. وكان الصحابة والتابعون رضي الله عنهم يأتون إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فيصلون، فإذا قضوا الصلاة قعدوا أو خرجوا، ولم يكونوا يأتون القبر للسلام، لعلمهم أن الصلاة والسلام عليه في الصلاة أكمل وأفضل، وأما دخولهم عند قبره للصلاة والسلام عليه هناك أو للصلاة والدعاء فلم يشرعه لهم بل نهاهم عنه في قوله: (لا تتخذوا قبري عيداً، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني) فبين أن الصلاة تصل إليه من بعد وكذلك السلام، ولعن من اتخذ قبور الأنبياء مساجد، وكانت الحجرة في زمانهم يدخل إليها من الباب]. يعني: أنهم يتمكنون من الوصول إلى القبر ولا يفعلون ذلك؛ لأنهم ممتثلون لقوله صلى الله عليه وسلم، وهم أعلم الناس بمراده صلوات الله وسلامه عليه، ولم يكن الشيطان يطمع فيهم بأن يصدهم عما جاء به نبيهم صلى الله عليه وسلم كما طمع في بعض المتأخرين، وربما جاءهم في صورة ظاهرة؛ ولهذا يذكر من الحكايات الباطلة التي لا يجوز أن يعتمد عليها أشياء من هذا النوع، مثل أن فلاناً أتى فسلم وتكلم ودعا فخرجت يد من القبر وصافحته! وما أشبه ذلك من الحكايات التي إما أن تكون مكذوبة، أو تكون من الشيطان ليصد الناس عن الحق، فهذه لا يجوز أن تكون قاضية على أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى سيرته ودعوته التي امتثلها صحابته؛ ولهذا ما حدث شيء من ذلك في زمن الصحابة، ولا كان أحد منهم يفكر أن يأتي إلى القبر يدعو أو يسأل صاحب القبر صلوات الله وسلامه عليه عن قضية من القضايا، أو عن حديث من الأحاديث أو ما أشبه ذلك؛ لأن الشيطان لم يطمع فيهم. بخلاف من أتى بعدهم فقد طمع وأدرك منهم بعض الأشياء، وهذا أيضاً يحدث عند القبور الأخرى، كثير منهم يذكر أنه إذا جاء إلى القبر الذي يعتقد في صاحبه يقول: إنه يخرج صاحب القبر ويكلمه ويقضي حوائجه ويساعده في أشياء، والواقع أن الشيطان يتصور في صورة هذا المقبور، فيتمثل له ليفتنه؛ لأنهم يتعلقون بالمقبورين، وهذا هو سبب عبادة القبور، والسبب الذي دعا الناس إلى الاتجاه للقبور هو مثل هذه الأمور؛ ولذا نهى المصطفى صلوات الله وسلامه عليه عن قصد القبور خوفاً أن يقع مثل هذه الأشياء. قال الشارح رحمه الله: [قال: وكانت الحجرة في زمانهم يدخل إليها من الباب إذ كانت عائشة رضي الله عنها فيها، وبعد ذلك إلى أن بني الحائط الآخر، وهم مع ذلك التمكن من الوصول إلى قبره لا يدخلون عليه، لا للسلام ولا للصلاة، ولا للدعاء لأنفسهم، ولا لغيرهم، ولا لسؤال عن حديث أو علم، ولا كان الشيطان يطمع فيهم حتى يسمعهم كلاماً أو سلاماً فيظنون أنه هو كلمهم، وأفتاهم، وبين لهم الأحاديث، أو أنه قد رد عليهم السلام بصوت يسمع من خارج كما طمع الشيطان في غيرهم فأضلهم عند قبره وقبر غيره، حتى ظنوا أن صاحب القبر يأمرهم وينهاهم ويفتيهم ويحدثهم في الظاهر، وأنه يخرج من القبر، ويرونه خارجاً من القبر، ويظنون أن نفس أبدان الموتى خرجت تكلمهم، وأن روح الميت تجسدت لهم فرأوها كما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج. والمقصود: أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يعتادون الصلاة والسلام عليه عند قبره كما يفعله من بعدهم من الخلوف، وإنما كان بعضهم يأتي من خارج فيسلم عليه إذا قدم من سفر كما كان ابن عمر يفعله]. هذا لم يرد إلا عن ابن عمر فقط كما قال عبيد الله بن عمر: ما أعلم أحداً من الصحابة فعل ذلك غير عبد الله بن عمر. قال الشارح رحمه الله: [قال عبيد الله بن عمر عن نافع: كان ابن عمر إذا قدم من سفر أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا رسول الله! السلام عليك يا أبا بكر! السلام عليك يا أبتاه! ثم ينصرف. قال عبيد الله: ما نعلم أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك إلا ابن عمر، وهذا يدل على أنه لا يقف عند القبر للدعاء إذا سلم كما يفعله كثير. قال شيخ الإسلام رحمه الله: لأن ذلك لم ينقل عن أحد من الصحابة فكان بدعة محضة، وفي المبسوط: قال مالك: لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن يسلم ويمضي، ونص أحمد أنه يستقبل القبلة ويجعل الحجرة عن يساره لئلا يستدبره]. يعني عند السلام، ولكن الصواب إذا أراد أن يسلم يتجه إليه، ويسلم عليه، أما الدعاء فلا، وليس هذا مكاناً للدعاء، ولا ينبغي أن يقصد للدعاء، فإن هذا كما قال شيخ الإسلام بدعة.

منع شد الرحال إلى القبور والمشاهد

منع شد الرحال إلى القبور والمشاهد قال الشارح رحمه الله: [وبالجملة فقد اتفق الأئمة على أنه إذا دعا لا يستقبل القبر، وتنازعوا: هل يستقبله عند السلام عليه أم لا؟ وفي الحديث دليل على منع شد الرحال إلى قبره صلى الله عليه وسلم وإلى غيره من القبور والمشاهد؛ لأن ذلك من اتخاذها عيداً، بل من أعظم أسباب الإشراك بأصحابها، وهذه هي المسألة التي أفتى بها شيخ الإسلام رحمه الله، أعني: من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين، ونقل فيها اختلاف العلماء فمن مبيح لذلك كـ الغزالي وأبي محمد المقدسي، ومن مانع لذلك كـ ابن بطة وابن عقيل وأبي محمد الجويني والقاضي عياض، وهو قول الجمهور نص عليه مالك، ولم يخالفه أحد من الأئمة، وهو الصواب]. عطف المشاهد على القبور ليس معنى ذلك أن هذه مغايرة، هذا من عطف الخاص على العام، ذلك أن المشاهد تكون خاصة لبعض من يعظموا القبور التي يبنى عليها القباب والأبنية التي تدل على التعظيم، سميت مشاهد؛ لأنها تشاهد من بعد، ومن شاهدها عرف أنها على قبر معظم، وهذه من أعظم البدع التي حدثت في الإسلام، وأول من فعل ذلك بنو عبيد القداح الرافضة الذين ملكوا مصر والمغرب، وزعموا أنهم من أبناء فاطمة، وهذا كذب كما بينه العلماء، فليس لهم نسب يتصل بـ فاطمة وإنما هم ملاحدة، يقول ابن الجوزي والباقلاني والغزالي: ظاهرهم الرفض، وباطنهم الكفر المحض. فهم أول من فعل هذه الفعلة الخبيثة التي صدت كثيراً من الناس عن التوحيد، وأدخلتهم في الشرك، فهذه هي المشاهد، ثم وجد من الناس من يعظمها تعظيماً مبالغاً فيه، وكتبوا كتباً سموها حج المشاهد، وبعضهم فضل قصدها والذهاب إليها على قصد بيت الله الحرام! وهذه محادة ظاهرة لله جل وعلا ولرسوله. وقد استفتي بعض العلماء فيمن يقصدها أو يحمل من يقصدها، فقال في A قصدها لأداء شيء من العبادة ردة عن الإسلام، أما حمل من يقصدها فهو من أعظم الكبائر، ويخشى على من فعل ذلك أن يكون مرتداً، هكذا أجاب عبد اللطيف بن حسن بن عبد الرحمن رحمه الله. والمقصود أن عطف المشاهد على القبور من عطف الخاص على العام. قال الشارح رحمه الله: [نص عليه مالك، ولم يخالفه أحد من الأئمة، وهو الصواب لما في الصحيحين عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى) فدخل في النهي شدها لزيارة القبور والمشاهد، فإما أن يكون نهياً وإما أن يكون نفياً، وجاء في رواية بصيغة النهي، فتعين أن يكون للنهي؛ ولهذا فهم منه الصحابة رضي الله عنهم المنع، كما في الموطأ والمسند والسنن عن بصرة بن أبي بصرة الغفاري أنه قال لـ أبي هريرة وقد أقبل من الطور: لو أدركتك قبل أن تخرج إليه لما خرجت؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى)]. الطور هو الجبل الذي ذكر الله جل وعلا أنه كلم موسى عنده، وذكر في القرآن أنه من الأماكن المباركة، فلا يشرع قصده تبركاً لهذا الحديث، وإنما المشروع قصده بإعمال المطي -يعني: بالسفر إليه بأي وسيلة كانت سواء كانت بالسيارات أو الأقدام أو غيرها- المساجد الثلاثة فقط لأجل أداء العبادة فيها، ليس لأجل زيارة قبور أو غيرها. أما قصد المسجد الحرام فهذا فريضة على كل مسلم مستطيع، لا بد منه، إذا كان مستطيعاً؛ لأن الله افترض ذلك، وأما قصد المسجدين الآخرين مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى لأداء العبادة فيها فهو سنة؛ لأن العبادة تضاعف فيها، فقط لأجل ذلك، أما أن يكون مقصوداً لأجل الحضور عند القبور سواء كانت قبور الأنبياء كقبر إبراهيم الخليل أو قبر رسولنا صلى الله عليه وسلم فهذا من البدع، وهذا أيضاً يكون مخالفاً لنص الحديث، وليس معنى ذلك أن هذا ممنوع في كل سفر يقصد لأمور الدنيا، فإن أمور الدنيا لا تدخل في هذا، التجارة والسياحة والفرجة والعلاج وغير ذلك هذه ليست عبادة، وإنما المقصود الذي يسافر إليه تعبداً، فلا يجوز إلا لهذه المساجد الثلاثة. قال الشارح رحمه الله: [وروى الإمام أحمد وعمر بن شبة في أخبار المدينة بإسناد جيد عن قزعة قال: أتيت ابن عمر فقلت: إني أريد الطور فقال: إنما تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد المدينة، والمسجد الأقصى، فدع عنك الطور ولا تأته، فـ ابن عمر وبصرة بن أبي بصرة جعلا الطور مما نهي عن شد الرحال إليه؛ لأن اللفظ الذي ذكراه في النهي عن شدها إلى غير الثلاثة مما يقصد به القربة، فعلم أن المستثنى منه عام في المساجد وغيرها، وأن النهي ليس خاصاً بالمساجد؛ ولهذا نهيا عن شدها إلى الطور مستدلين بهذا الحديث، والطور إنما يسافر من يسافر إليه لفضيلة البقعة، فإن الله سماه الوادي المقدس والبقعة المباركة، وكلم كليمه موسى عليه السلام هناك، وهذا هو الذي عليه الأئمة الأربعة وجمهور العلماء، ومن أراد بسط القول في ذلك والجواب عما يعارضه فعليه بما كتبه شيخ الإسلام مجيباً لـ ابن الأخنائي فيما اعترض به على ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، وأخذ به العلماء، وقياس الأولى؛ لأن المفسدة في ذلك ظاهرة]. سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن شد الرحال إلى القبور فأفتى بالمنع، وقال: ما أعلم أحداً من العلماء أجاز ذلك واستدل بالحديث: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)، وأدخل في ذلك قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فقام ابن الأخنائي فرد عليه، وقال: إن شد الرحال إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم من أفضل الأعمال، واستدل بأحاديث موضوعة، وأوضاع وجد الناس عليها، فحاول أن يخطئ شيخ الإسلام في ذلك، فرد عليه شيخ الإسلام بكتاب مطبوع الآن، ومتداول بين طلبة العلم، فيه البسط لهذه المسألة، وذكر كلام العلماء والأحاديث التي تبين أن قول هذا الرجل قول مخالف للكتاب والسنة ولإجماع السلف، وأنه قول باطل، فصار في هذا خير كثير لطلبة العلم وللمسلمين، وطبع الكتاب باسم: الرد على الأخنائي، وسماه بعضهم (الجواب الباهر فيمن جوز زيارة المقابر) أما شيخ الإسلام ابن تيمية ما كان يسمي كتبه، وإنما يسميها أصحابه والذين ينسخونها، وأحياناً يسمي وهذا نادر، وكل كتاب كتبه هو جواب سؤال، وليس له كتاب كتبه استقلالاً، جميع كتبه التي انتشرت على كثرتها وعلى كبر بعضها كلها أجوبة أسئلة، وكان مجاهداً في سبيل الله، دائماً يجيب السائلين، ويفتي المستفتين، ويبحث عن مشاكل المسلمين. قال الشارح رحمه الله: [وأما النهي عن زيارة غير المساجد الثلاثة فغاية ما فيها: أنها لا مصلحة في ذلك توجب شد الرحال، ولا مزية تدعو إليه، وقد بسط القول في ذلك الحافظ محمد بن عبد الهادي في كتاب (الصارم المنكي في رده على السبكي)] وهذا ابن السبكي أيضاً بجانب ابن الأخنائي قام يرد على شيخ الإسلام، فلفق أحاديث موضوعة وأشياء واهية لا قيمة لها، وزعم أن هذا مشروع، فرد عليه تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية ابن عبد الهادي في كتاب سماه (الصارم المنكي في الرد على ابن السبكي)، وابن السبكي سمى كتابه: شفاء السقام في زيارة خير الأنام، وجعله رداً على شيخ الإسلام ابن تيمية، ثم هذه المسألة توارثها من بعدهم إلى اليوم، كثير من الناس يرثون هذه المسألة بعضهم عن بعض، فأولهم هؤلاء، فجاء بعدهم من نمى هذه الأمور، وصار يكتب فيها إلى اليوم، ولهؤلاء القوم وارث، وكل تعلقهم إما أحاديث مكذوبة، أو أحاديث واهية، أو حكايات منامات، وأمور من هذا القبيل، أو أن فلاناً قال كذا، وفلاناً قال كذا، هذا كل ما تعلقوا به، وليس لهم حديث صحيح أو آية تدل على ذلك، إلا أن يحرفوه عن المقصود لأجل أن يوافق الهوى، وأهل البدع كلهم يسلكون هذا المسلك.

ضعف الأحاديث الواردة في زيارة قبر النبي عليه الصلاة والسلام

ضعف الأحاديث الواردة في زيارة قبر النبي عليه الصلاة والسلام قال الشارح رحمه الله: [وقد بسط القول في ذلك الحافظ محمد بن عبد الهادي في كتاب: الصارم المنكي في رده على السبكي، وذكر فيه علل الأحاديث الواردة في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر هو وشيخ الإسلام رحمهما الله تعالى: أنه لا يصح منها حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من أصحابه، مع أنها لا تدل على محل النزاع؛ إذ ليس فيها إلا مطلق الزيارة وذلك لا ينكره أحد بدون شد الرحال، فيحمل على الزيارة الشرعية التي ليس فيها شرك ولا بدعة]. الأحاديث التي تنكر مثل قوله: (من زارني كنت له شفيعاً)، وهذا كذب عليه صلوات الله وسلامه عليه، ومثل قولهم: (من حج ولم يزرني فقد جفاني) وما أشبه ذلك، والعجيب أن الشوكاني رحمه الله في نيل الأوطار لما جاء إلى كتاب الجنائز وانتهى منه، قال: إن المجد ابن تيمية جد شيخ الإسلام لم يذكر زيارة القبور، ثم عقد فصلاً في الزيارة، وذكر كثيراً من هذه الأحاديث الواهية، وجعلها دليلاً على مشروعية ذلك، وهذا غريب من الشوكاني رحمه الله! لأن الشوكاني معروف أنه يتبع الدليل، ولكن الجواد قد يكبو، وكل أحد قد يخطئ، ولا يجوز متابعة المخطئ على خطئه. قال الشارح رحمه الله: [قوله: رواه في المختارة، المختارة: كتاب جمع فيه مؤلفه الأحاديث الجياد الزائدة عن الصحيحين. ومؤلفه: هو أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي الحافظ ضياء الدين الحنبلي أحد الأعلام، قال الذهبي: أفنى عمره في هذا الشأن مع الدين المتين، والورع، والفضيلة التامة، والإتقان، فالله يرحمه ويرضى عنه. وقال شيخ الإسلام: تصحيحه في مختاراته خير من تصحيح الحاكم بلا ريب، مات سنة ثلاث وأربعين وستمائة].

مسائل باب ما جاء في حماية النبي عليه الصلاة والسلام جناب التوحيد

مسائل باب ما جاء في حماية النبي عليه الصلاة والسلام جناب التوحيد قال المصنف رحمه الله تعالى: [وفيه مسائل: الأولى: تفسير آية براءة]. سورة براءة المقصود بها قوله جل وعلا: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] ومقصوده بقوله: تفسير آية كذا: أن يفهم الإنسان معنى الآية؛ لأنه إذا لم يفهم معناها ما فهم مراد الشيخ وكلامه، فينبغي أن يفهم مراد الله ولو على سبيل الإجمال، أما سبيل التفصيل فقد يتطلب جهداً كبيراً، إذ كلام الله جل وعلا لا يشبه كلام البشر، ففيه من الهدى والنور الشيء الذي لا ينتهي. [المسألة الثانية: إبعاده أمته عن هذا الحمى غاية البعد]. يعني: حمى التوحيد، أبعدهم عن الشرك بعداً كثيراً جداً؛ بأن نهاهم عن الوسائل التي يمكن أن تقربهم إلى ذلك، هذا معناه. [المسألة الثالثة: ذكر حرصه علينا ورأفته ورحمته]. وقوله: هذا مأخوذ من الآية {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، فحرصه على هدايتنا يجعله يبعدنا كل البعد عن ذلك، ومعنى قوله: (عزيز عليه ما عنتم) أي: أنه يشق عليه الشيء الذي يشق علينا، ومعلوم أن الإنسان بطبيعته وبعقله يبتعد عن الأمور الشاقة، ويحذر منها، فكيف إذا كان أفضل الخلق وأعلم الخلق بالله جل وعلا؟! ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد أوتي من المقدرة ومن العلم ومن البيان ما لم يؤت غيره صلوات الله وسلامه عليه، وكذلك من النصح لأمته، ومن البلاغ الذي أمره الله جل وعلا به، كل هذا يقتضي أنه يقوم بهذا الجانب أتم القيام، فدل ذلك دلالة واضحة على منع الأمة من هذه الأمور. [المسألة الرابعة: نهيه عن زيارة قبره على وجه مخصوص، مع أن زيارته من أفضل الأعمال]. النهي عن زيارته على وجه مخصوص يعني أن يتخذ عيداً، وهو كثرة الترداد إليه، أو أن يكون في وقت معين يقصده، وقوله: مع أن الزيارة من أفضل الأعمال، هذا سنده فيه ما جاء في سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من سلم علي عند قبري سمعته)، فاستدل بهذا أن هذا من الفضائل، وقد اعترض على هذا القول بعض العلماء وقال: هذا فيه نظر، ولكن ما دام له سند صحيح لا يجوز أن ينظر فيه، وليس هذا من قول شيخ الإسلام ابن عبد الوهاب استقلالاً، بل هو أخذ هذا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، فإنه قال هذا اللفظ تماماً، فتبعه في ذلك، ولكن المستند هو ما ذكرت من الحديث. [المسألة الخامسة: نهيه عن الإكثار من الزيارة]. وهو مفهوم من قوله: (لا تتخذوا قبري عيداً)؛ لأنها إذا كثرت صار عيداً، فدل على النهي من الإكثار منها. [المسألة السادسة: حثه على النافلة في البيت]. هو مأخوذ من قوله: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً) لأن النافلة في البيت أفضل منها في المساجد؛ لعلة أنها أقرب إلى الإخلاص، وأبعد عن الرياء. [المسألة السابعة: أنه متقرر عندهم أنه لا يصلى في المقبرة]. وهذا أيضاً مأخوذ من هذا الحديث في قوله: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً) فمعناه: لا تجعلوا بيوتكم شبيهة بالقبور، إذ إنه متقرر عندهم أنها ليست محلاً للعبادة، فهي مهجورة من العبادة، ولا ينبغي أن يهجر البيت فيكون شبيهاً بالقبر، فدل على أن هذا أمر متقرر عندهم، فهم يعرفون أن القبور ليست محلاً للتعبد. [المسألة الثامنة: تعليله ذلك بأن صلاة الرجل وسلامه عليه يبلغه وإن بعد، فلا حاجة إلى ما يتوهمه من أراد القرب]. مثلما جاء صريحاً في قول الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء) يعني: إذا سلم الإنسان أو صلى على الرسول صلى الله عليه وسلم في أي مكان فإنه يبلغه الله جل وعلا إياه.

حياة البرزخ غير الحياة في الدنيا

حياة البرزخ غير الحياة في الدنيا [المسألة التاسعة: كونه صلى الله عليه وسلم في البرزخ تعرض عليه أعمال أمته في الصلاة والسلام عليه]. هذا أخذه من حديث: (إنه بلغه السلام)، وهذا يدل على أنه صلوات الله وسلامه عليه لا يعلم ما يجري حتى يبلغ إياه، يبلغ من الملائكة أو من ربه جل وعلا، كما أنه يدل على أنه حي في قبره، وهذا ليس خاصاً به صلوات الله وسلامه عليه، ولكن حياته صلوات الله وسلامه عليه أكمل من حياة غيره، وحياة الأنبياء في قبورهم أكمل من حياة الآخرين من الناس، ولكنها حياة لا نعرف حقيقتها، حياة برزخية مخالفة للحياة الدنيا، وعقيدة أهل السنة أن الروح لا تموت، فهي حية، والإنسان إذا وضع في قبره يحيا، وقد جاء ذلك صريحاً في الحديث الذي في البخاري: (إذا وضع الميت في قبره أتاه ملكان، وأعيدت الروح إليه، فيجلسانه ويسألانه) وهو يخاطبهما، وهذا علمه عند الله جل وعلا، ومعلوم أن الإنسان يوضع في قبره ويبقى على الحالة التي هو عليها، فأمور البرزخ على خلاف ما نعهده نحن، يعني: يجوز إجلاسه وتكليمه وهو على وضعه الذي وضع عليه، وليس كما يقول الزنادقة المنكرين: نحن نضع الزئبق في عين الميت أو على رأسه ثم نأتي بعد وقت ونراه ما تغير من موضعه، فلا توجد حياة ولا حركة ولا سؤال، فهؤلاء لا يؤمنون إلا بالمحسوسات، ولكن هذا من أمور الغيب التي أمرنا بالإيمان بها ولا نعرف حقيقتها، وقد جاء في حديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لولا ألا تدافنوا لسألت الله أن يريكم عذاب القبر)، ولكن لو أرينا عذاب القبر ما استطعنا أن نقرب القبور، ولا استطعنا أن ندفن الموتى للهول العظيم، وقد يظهر الله جل وعلا شيئاً من هذا آية وموعظة لبعض الناس، وهذا كثير جداً، وقد شاهد الناس أشياء عجيبة، وليس الأمر مبني على هذه المشاهدات، ولكن مبني على النصوص التي جاءت في كتاب الله وفي أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، ونؤمن بأنها حق ولو لم نشاهد شيئاً، فإذا جاءت المشاهدات والحكايات التي تحدث لبعض الناس يكون ذلك مؤيداً فقط، وأدلة على أدلة، وقد ألف الحافظ ابن رجب رحمه الله كتاباً في هذه المسائل سماه: أهوال القبور وأحوال أهلها إلى النشور، وكذلك كثير من العلماء ألفوا كتباً كثيرة، وذكروا فيها أشياء كثيرة من هذه الأمور. والمقصود: أن الحياة البرزخية حياة حقيقية، ولكنها مخالفة للحياة التي نعرفها من حياتنا هذه، وهي من أمور الآخرة، فالقبر أول منازل الآخرة. والقبر إما أن يكون روضة على صاحبه فيه من الحبور والسرور الشيء الذي يتنعم به، أو يكون حفرة من النار تلتهب على صاحبه، وبين هذين الشيئين أمور كثيرة على حسب حالة الإنسان ووضعه وذنبه، فقد يعذب عذاباً مؤقتاً ثم يزول، قد يبقى سنة، قد يبقى سنتين، قد يبقى عشر سنوات، قد يبقى مائة سنة، أو أكثر من ذلك وهو معذب، ثم ينقطع عذابه على قدر ذنبه، وقد يبقى عذابه إلى البعث، ثم يتصل عذابه بالوقوف بالموقف، والموقف ليس سهلاً، جاء أنه مقدار خمسين ألف سنة، وفي بعضها أنه ألف سنة، وفي بعضها أنه أربعون ألف سنة، وعلى كل حال هو وقوف طويل، وقد سماه الله جل وعلا {يَوْمًا ثَقِيلًا} [الإنسان:27]، وقد سماه يوماً عسيراً، وسماه عبوساً قمطريراً، فشره مستطير، وخوفنا منه كثيراً جل وعلا، وقد يتصل العذاب بعد ذلك ويكون في النار، وهي أشد العذاب نسأل الله العافية! جاء في بعض الأحاديث أن الناس يشتد كربهم، فيسألون الفصل بينهم والقضاء بينهم ولو إلى النار؛ من شدة الوقوف، ويتصورون أن إلقاءهم في النار أسهل مما هم فيه، وليس كذلك، فأمور الآخرة كل شيء يأتي يكون أشد من الذي قبله، فالأمر ليس سهلاً، هذا الإنسان خلق لأمور هائلة جداً، ومع ذلك يلهو ويسهو ويلعب، وقد يعصي عن عمد؛ لأن الإنسان أمره عجيب جداً، هو جبار متكبر، وهو ضعيف أدنى شيء يعثره، فهو من أضعف خلق الله، الذرة تؤذيه، لو دخلت في أذنه أو في عينه آذته، وهو كذلك ظلوم، جهول، ومعاند، ولكنه سهل جداً بيد الله، والله جل وعلا يحلم على عباده ولا يعاجلهم بالعذاب؛ لأن مصيرهم إليه، وسوف يأتونه فراداً، كل واحد يأتيه كيوم ولدته أمه، عريان بلا ثوب، ولا نعل، ولا طعام، ولا ظل، ولا شافع، ولا نافع، ما يملكون شيئاً، وهذا ليس بعيداً، الله جل وعلا أخبر أنه قريب، بل أخبر أن قيام الساعة كلمح البصر، ليس الأمر بعيداً، فلا يجوز للإنسان أن يهمل هذا الأمر، يجب أن يعد ويستعد ويعمر بيته الذي يبقى فيه طويلاً أكثر من بقائه في عمارته التي يزوقها ويحسنها ويجلب إليها كل وسيلة مريحة، فيبقى فيها قليلاً، ثم يخرج منها بالقوة، لا يخرج هو، بل يُخرَج. زار أحد السلف أبا ذر فما رأى في بيته شيئاً! لا إناء، لا فراش، لا سرير، قال: أين أثاثكم؟ فقال: لنا بيت نرسل إليه، بيت آخر نعمره، قال: ولكن لا بد لكم من شيء، قال: وهل أنتم سترتحلون؟ قال: لا، لا نرتحل ولكن نُرحل بالقوة، نزعج ونطرد طرداً من هذا، فنحن نعمر البيت الذي أمامنا وسنبقى فيه طويلاً، هذا هو الذي ينبغي أن يعمره الإنسان، وليس معنى ذلك أن الإنسان يعطل أمور دنياه نهائياً، لا، ما يعطلها، ولكن عليه أن يتقي الله، لا يفعل المحرمات، ولا يأكل المحرم، ويتقوى بالحلال على بقائه في هذه الدنيا، ويعرف أنه سيذهب إلى الله جل وعلا ليحاسبه، ثم إذا أدخل قبره ليس معناه أنه يكون نسياً منسياً، كلا، إما أن ينعم أو يعذب، فليستعد لهذا الأمر.

شرح فتح المجيد [69]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [69] لقد انتشر الشرك وفشا في هذه الأمة؛ بسبب جهلها وانحرافها، وبعدها عن دين نبيها محمد صلى الله عليه وسلم، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة ستقلد الأمم المنحرفة في السلوك والعقائد، كما أخبر أن هذه الأمة إذا تسلط بعضها على بعض هانت في أعين الأعداء، وأصبحت لقمة سائغة للمتربصين بها.

عبادة بعض هذه الأمة للأوثان

عبادة بعض هذه الأمة للأوثان قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان] مراده بهذا الرد على الذين يعبدون القبور ويقولون: إن الشرك لا يقع في هذه الأمة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان قد أيس أن يعبد في جزيرة العرب)، ولقوله: (من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة)، فاعتقدوا أن الشرك غير واقع في هذه الأمة، وأفعالهم سموها توسلاً وحباً للصالحين، وجعلوها قربات، يعتقدون أنها تقربهم إلى الله، وهذا بسبب جهلهم بدين الإسلام، الدين الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم جهلوه، فجعلوا مجرد النطق بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله كاف في نجاة الإنسان. وهذا جهل عظيم أكثر من جهل أبي جهل، وأمثاله الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن أولئك لما قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: (قولوا: لا إله إلا الله)، قالوا: أجعل الآلهة إلهاً واحداً؟! يعني: عرفوا أنهم إذا قالوا: لا إله إلا الله وجب عليهم أن يعبدوا إلهاً واحداً، ويتبرءون من بقية الآلهة التي هي معبودات باطلة على تنوعها، وهؤلاء ما عرفوا هذا، والسبب في هذا يدور على شيئين: أحدهما: جهلهم معنى العبادة، ما عرفوا معنى العبادة، فصاروا يقصرون العبادة على السجود، وعلى اعتقاد أن المسجود له يحيي ويميت ويتصرف بالخلق والإيجاد، فإذا لم يكن كذلك فمهما صنعت نحوه من الدعاء والتوسل والالتجاء إليه لا يكون شركاً. الأمر الثاني: أنهم جهلوا معنى الإله الذي يعرفه العرب من لغتهم، فهو الذي تألهه القلوب بأي شيء كان، جهلوا هذا، وهذا بين واضح في كتاب الله، فإن كل من تأله شيئاً وتعلق قلبه به يكون مألوهاً له؛ ولهذا يقول الله جل وعلا: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23] يقول العلماء: معنى ذلك أنه إذا هوى شيئاً -يعني: اشتهاه- فعله، بدون خوف من الله جل وعلا، ولا مراقبة، فيكون هواه شهوته وما يحبه؛ لهذه الأمور قالوا: إن الشرك لا يقع في هذه الأمة، والعجب أن هؤلاء الذين يقولون مثل هذا القول ويفعلون هذه الأفعال، يعدون من العلماء، ويشرحون أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ويكتبون تفسير كتاب الله، ويكتبون الكتب في أنواع العلوم، ولكنهم في توحيد الله أجهل من المشركين! نسأل الله العافية. أراد الشيخ رحمه الله بهذا الباب أن يرد على مثل هؤلاء، وأن يبين بطلان قولهم، وأن هذا قول مناف لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يجوز أن يكون المسلم بهذه الصفة، ثم بين أن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم مع قول الله جل وعلا لا تتضارب ولا تتعارض، وقوله: (أيس الشيطان أن يعبد في جزيرة العرب) لا ينافي أو يعارض قوله: (ولا تقوم الساعة حتى يعبد فئام من هذه الأمة الأوثان، وحتى يلتحق جماعات من هذه الأمة بالمشركين)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة)، وكذلك قوله: (لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس حول ذي الخلصة)، وذو الخلصة صنم من الأصنام القديمة، وكذلك الآيات التي ذكرت وهي كثيرة، ولكن عادة المؤلف رحمه الله أنه يقتصر على الشيء الذي يكفي أن يكون دليلاً ومقنعاً لمن مراده الحق؛ لأن هذا هو الذي ينفع معه التوجيه والكلام والاستدلال، أما الذي له وجهة معينة فإنه قد عمي بصره عن الأدلة وصم سمعه عن استماع القول وإن كان حقاً؛ لأنه يريد شيئاً معيناً، فهذا مهما أتيته بالأدلة، ومهما أكثرت عليه؛ ما يستفيد من ذلك، والكتب التي تؤلف وتوضع هي لمن يكون مريداً للحق ويجهله، فإذا تبين له أخذ به واتبعه، بغض النظر عمن جاء به ومن قاله؛ لأن الهدف هو عبادة الله جل وعلا واتباع الحق، هؤلاء هم الذين ينفع فيهم القول، وتنفع فيهم الكتب، والمؤلف نحا هذا النحو؛ ولهذا يقتصر على القليل من الأدلة، ويعتمد على أن تكون واضحة؛ ولهذا يذكر الحديث الواضح الجلي وإن كان في سنده ضعف، ولكنه يجعله عاضداً وشاهداً لأدلة ثابتة يقينية مثل آيات يذكرها من كتاب الله جل وعلا، هذه طريقة المؤلف التي سلكها في هذا الكتاب.

الفرق بين الوثن والصنم

الفرق بين الوثن والصنم [قوله: باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان، الوثن يطلق على ما قصد بنوع من أنواع العبادة من دون الله من القبور والمشاهد وغيرها؛ لقول الخليل عليه السلام: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} [العنكبوت:17]، مع قوله: {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} [الشعراء:71]، وقوله: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} [الصافات:95] فبذلك يعلم أن الوثن يطلق على الأصنام وغيرها مما عبد من دون الله كما تقدم في الحديث]. مقصوده أن من العلماء من فرق بين الوثن والصنم، فقال: الوثن هو كل ما تعلق به واتجه إليه بنوع من العبادة، سواء كان قبراً أو شجرة أو مكاناً أو غير ذلك، أما الصنم فهو الشيء الذي يكون مصوراً ومجسداً على صورة رجل أو صورة حيوان أو ما أشبه ذلك، وفرقوا بين الصنم والوثن، فهو يريد بهذا أن يبين أن الوثن يطلق على الصنم وبالعكس؛ ولهذا ذكر الله جل وعلا في موضع الأصنام الأوثان، وهذا يدل على أن هذا هو القول الصواب، وإن كان هذا من الأشياء التي إذا اجتمعت افترقت، وإذا افترقت اجتمعت، وهذا شأن كثير من الألفاظ العامة التي تأتي في اللغة العربية، كثيراً ما يكون هذا شأنها: إذا اجتمعت افترقت في المعنى، وإذا انفرد واحد منها دخل فيه الآخر.

قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت)

قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت) قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء:51]] يقول الله جل وعلا: (ألم تر) أي: ألم تعلم وتنظر وتعتبر وتتفكر؛ في الذين أعطوا حظاً من الكتاب -يعني: من العلم الذي جاء به الوحي من رب العباد- يختارون الضلالة على الهدى عن عمد وقصد (يؤمنون بالجبت والطاغوت) يعني: أنهم يقدمون القول والفعل الذي يريده الشيطان وأعوانه وأنصاره وأتباعه، على الحق الذي جاءت به الرسل، ويتبعون ذلك وهم عالمون بأن فعلهم باطل، وأن من فعل ذلك فقد خرج عن طريقة الرسل التي أوجب الله جل وعلا اتباعها، ومع ذلك يفضلون طريقة الكفار ومنهجهم ومسلكهم على سبيل المؤمنين الذين يتبعون الرسول صلى الله عليه وسلم. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} [النساء:51 - 52] روى ابن أبي حاتم والإمام أحمد أن الذين يؤمنون بالجبت والطاغوت هم حيي بن الأخطب وكعب بن الأشرف، لما قدموا مكة قال لهم الكفار: أنتم أهل الكتاب وأهل العلم، أخبرونا عنا وعن محمد، فقالا لهم: ما أنتم، وما محمد؟ فقالوا: نحن نصل الأرحام، وننحر الكوماء، ونفك العناة، ونسقي الحجيج، ونحن أهل البيت، ومحمد صنبور قطع أرحامنا، واتبعه سراق الحجيج من القبائل من كذا وكذا، فقالوا: أنتم خير وأهدى سبيلاً من محمد، فنزلت هذه الآية، ونزل قوله جل وعلا: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر:3] والأبتر هو المقطوع الذي لا نسل له. هذا وإن كان سبب النزول في فرد أو أفراد فكما يقول العلماء: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وهذا في جميع ما نزل من آيات الله جل وعلا، وجميع ما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن كان سببه حادثة معينة؛ لأن الشرع جاء للعموم إلى قيام الساعة، وإن كان له سبب خاص. المؤلف رحمه الله -كما سيأتي في المسائل على هذه الآية- يقول: ينظر هل إيمانهم بالجبت والطاغوت عن عقيدة واقتناع أو أنه مجرد موافقة للكفار مع بغضهم للجبت والطاغوت وكراهتهم له؟ يعني: أنهم يؤمنون به كما وصفهم الله جل وعلا، مع أنهم يكرهونه ويعتقدون بطلانه، إلا أنهم وافقوا الكفار في الظاهر، فكانوا بهذه المثابة، ووصمهم الله جل وعلا بأنهم يؤمنون بالجبت والطاغوت، وهذا عبرة للمعتبر يجب أن يحذر أن يقع في شيء من ذلك.

معنى الجبت والطاغوت

معنى الجبت والطاغوت اختلف السلف في الجبت فقال عمر رضي الله عنه: الجبت: الشيطان، ومرة قال: السحر، وهكذا روي عن ابن عباس وعن مجاهد وعن قتادة وعن الحسن وغيرهم، وجاء أن الجبت الشرك، وجاء عن بعضهم أن الجبت هو حيي بن أخطب وبعضهم قال: الجبت: كعب بن الأشرف، وجاء عن بعضهم أنه قال: الجبت الكاهن، والأزهري يقول: الجبت كلمة تطلق على الوثن وعلى الشيطان ونحوهما، يعني: أنها تعم، والمعنى الواضح أن الجبت هو خلاف أمر الله. فالجبت كل ما خالف الشرع وانصرف الإنسان إليه معتاضاً به عن شرع الله، وعن الهدى الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. أما الطاغوت فقد تقدم أنه مأخوذ من الطغيان، وأنه أطلق على ما يطلق عليه الجبت، فقيل: إنه الشيطان، وقيل: إنهم كهان ينزل عليهم الشيطان، وقيل: إنه الحاكم بغير ما أنزل الله، وقيل: إنه الشرك، يعني أنه الشريعة التي يعتاض بها عن شرع الله جل وعلا، وهذا تقدم، وكل ذلك حق وصواب، وإن اختلفت الألفاظ فهي متفقة في المعنى، فلا خلاف فيها، وهذا الذي يسمى في مقدمات التفسير باختلاف التنوع، يعني: أن كل واحد ينوع عبارته عن الآخر فتختلف ولكن المعنى واحد ما يختلف، والسبب في هذا أن السامع قد يكون لديه لفظ أوضح من اللفظ الآخر، فيعبر بهذا اللفظ الواضح الذي يجلي أمامه المقصود، فكثرت عباراتهم عن معان واحدة، واللغة العربية من خصوصياتها أنها تأتي بألفاظ كثيرة لمعنى واحد، وتسمى الألفاظ المترادفة، فمثلاً: يقول: الخبز، والرغيف، والعيش، والقرص، وتقول: الثوب، والقميص، واللباس، وهكذا والمعنى واحد، وإن كانت الألفاظ الكثيرة ترد على هذا المعنى، وهذا لسعة اللغة، وهي أوسع اللغات في ذلك، فبهذا يتبين لنا أن هذه الأقوال وغيرها التي لم نذكرها ليست دالة على أن هذا المعنى خفي عليهم، وأنهم اختلفوا فيه، بل هو واضح جلي، ولكن كل واحد يعبر بالشيء الذي يراه أوضح وأقرب لتفهيم السامع.

معرفة علماء اليهود بأن النبي عليه الصلاة والسلام حق

معرفة علماء اليهود بأن النبي عليه الصلاة والسلام حق قال الشارح: [قوله: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء:51] روى ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: جاء حيي بن الأخطب وكعب بن الأشرف إلى أهل مكة، فقالوا لهم: أنتم أهل الكتاب وأهل العلم، أخبرونا عنا وعن محمد، فقالوا: ما أنتم وما محمد؟ فقالوا: نحن نصل الأرحام، وننحر الكوماء] الكوماء هي الناقة السمينة التي عليها الشحم، سميت كوماء لأن على سنامها شحم متكوم متكدس، وهذه أطيب لحماً، وأغلى ثمناً، ومن نحرها يدل على كرمه وجوده، فوصفوا أنفسهم بذلك، وهذه القضية وقعت بعد وقعة بدر، وذلك أن اليهود أهل حسد وحقد، لم ينكروا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، بل عرفوا أنه حق ولكنهم أبوا قبوله، والعجيب أنهم جاءوا إلى المدينة يطلبون ويتحرون مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتبعوه، وكانوا يظنون أنه منهم من ذرية يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، فلما تبين أنه من ذرية إسماعيل بن إبراهيم من أبناء عمهم حقدوا عليه، وأنكروه، وكفروا به بعدما عرفوا! قال الله جل وعلا: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146]، بل قال الذين آمنوا منهم مثل عبد الله بن سلام: والله إننا لنعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من معرفتنا لأبنائنا، وذلك أن أحدنا يخرج من بيته ثم لا يدري ماذا تصنع زوجته، وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نرتاب بأي وجه من الوجوه أنه رسول جاء من عند الله جل وعلا، ومع ذلك الذين آمنوا منهم لا يتجاوزون عدد الأصابع! الشيء الثاني من العجب! أنهم لما نزلوا في المدينة، وكان أهل المدينة أبناء رجل واحد، ثم انقسموا إلى قسمين أوس وخزرج، فصار -كعادة الجاهلية وعادة العرب- قتال بينهم، فصار كل فريق من الأوس ومن الخزرج محالفاً لقبيلة من قبائل اليهود، وقبائل اليهود كانت ثلاث: بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة، فكل قبيلة من هؤلاء صارت مع طائفة من الأوس والخزرج، وسموهم حلفاء، فصار القتال قائماً أكثر من مائة سنة بينهم في المدينة قبل مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان إذا انتصر أحد الفريقين من الأوس والخزرج على هؤلاء اليهود يقولون لهم: إنه قرب وقت نبي سيبعث ونتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم، فيتوعدوهم بهذا. فكان هذا هو السبب في إسلام الأنصار، فقد كان العرب يحجون، أما اليهود فما كانوا يحجون، أما العرب فهم على إرث من إرث إسماعيل أبيهم؛ لأنه بعث فيهم، وبقي من دينه الحج إلى البيت، بقي إلا أنه غير بالشرك، فكانوا يقولون: لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا جاء وقت الموسم يذهب بنفسه ويعرض الإسلام على القبائل، ويقول: (ألا رجل يحملني إلى قومه حتى أبلغ كلام ربي، فإن قريشاً منعتني أن أبلغ كلام ربي). فيمشي على القبائل ومعه بعض أعمامه وبعض الكفار يحذرون منه، ويقولون: لا تسمعوا له فإنه كذاب، وبعضهم يقول: إنه مجنون، ويرمونه بأشياء هي من أبعد ما يكون عنه صلوات الله وسلامه عليه، فعرض للأنصار فقالوا فيما بينهم: هذا هو الذي تتوعدنا اليهود به، فلا يسبقونكم إليه، يقول الله جل وعلا: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة:89] يعني: جاءهم الرسول الذي يعرفونه، وكانوا يستفتحون به يعني: يقولون: إنه سيأتي وقته ونتبعه ثم نقتلكم معه، {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89]، وهذا مما يدل على أن الأمر بيد الله جل وعلا، وأن الإنسان وإن كان عالماً وإن كان عارفاً للحق إذا أريد فتنته فلا أحد يملك له شيئاً، فإنه يتجنب الحق الواضح الجلي ويتبع الباطل إذا لم يهده الله، وبهذا يتبين أن الإنسان بأمس الحاجة إلى طلب الهداية من الله دائماً، وإظهار الفقر؛ لأنه إذا لم يهده فإنه ضال؛ ولهذا أوجب الله جل وعلا على العباد أن يدعوه بطلب الهداية في كل ركعة من ركعات الصلاة {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] هذا أمر ضروري جداً، ومن أهم ما ينبغي للإنسان أن يلازمه، فيسأل ربه الهداية دائماً، وهداية الإنسان ما تكمل وإن علم وعرف وتبين له الحق من الباطل، فهدايته بيد الله دائماً، ولا تكمل هدايته وتتم إلا إذا استقر في مسكنه في الجنة، هناك تمت الهداية. وقد أخبر جل وعلا أن من تمام هداية المؤمنين هدايتهم إلى مساكنهم في الجنة، فإن الله يهديهم بإيمانهم إلى مساكنهم في الجنة حتى يعرفونها أكثر من معرفتهم بمساكنهم في الدنيا التي بنوها بأيديهم، وعمروها الوقت الذي كانوا في الدنيا، وهذا هو تمام الهداية، وهذا أمر ضروري جداً. أما قول كثير من المفسرين أن معنى قوله جل وعلا: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، وكذلك معنى قوله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا} [النساء:136]: إن المعنى اثبتوا على الإيمان، ومعنى اهدنا: ثبتنا على الإيمان فإن هذا القول فيه قصور، فالإنسان بحاجة إلى هداية بعد هداية دائماً، ولا تكمل هدايته، وقد يضل في مسألة أو مسألتين أو أكثر أو يضل في أمور كثيرة، فهو دائم في أمس الحاجة إلى هداية ربه جل وعلا، والأمر كله بيد الله؛ لأنه هو مالك الملك تعالى وتقدس، وبيده الخير، يتصرف كيف يشاء، الخلق كلهم ملكه، خلقهم وملكهم وهو يتصرف فيهم، وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، وكثيراً ما كان رسول الهدى صلوات الله وسلامه عليه يقول: (لا ومقلب القلوب)، أكثر ما يحلف هكذا، قيل له مرة: (أتخاف علينا -يا رسول الله- وقد آمنا بك؟! فقال: وما يؤمنني وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن إذا شاء أن يقلبها قلبها؟) فهو جل وعلا يهدي من يشاء بعد الضلال كما أنه يضل من يشاء بعد الهدى. إذاً: ليس غريباً أن الأحبار من علماء اليهود كـ حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف وغيرهما من علمائهم وكبرائهم وساداتهم وقاداتهم لما رءوا الحق بيناً واضحاً كوضوح الشمس شرقوا بالحق، وما استساغوه، بل كرهوه أشد الكراهية، حتى صاروا يسافرون ويركبون الإبل يبحثون عمن يكون عدواً لرسول الله صلى الله عليه وسلم يؤلبونه عليه، ويساعدونه على قتاله، ويحرضونه عليه، فلما انتصر صلوات الله وسلامه عليه على كبار المشركين في بدر أصابهم ألم ما استطاعوا معه القرار، ألم الحقد والحسد وكراهية الحق، فذهبوا إلى قريش يقولون: هذا الذي وتركم في رءوسائكم وكباركم هلم إلى قتاله، كيف يهنأ عيشكم وقد قتل كباركم؟ مع أنهم يعرفون أنه جاء بالوحي من عند الله حقاً! فهل يستوي العالم الذي يعرف كتاب الله مع عبدة الأوثان؟ بل صار كثير من عبدة الأوثان أفضل من هؤلاء، فالذي لم يرد الله جل وعلا هدايته فلن تملك له هداية أبداً، فعلى العبد أن يعرف هذا الأمر، ويسأل ربه دائماً أن يهديه.

سبب نزول الآية

سبب نزول الآية قال الشارح: [روى ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: جاء حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف إلى أهل مكة فقالوا لهم: أنتم أهل الكتاب وأهل العلم فأخبرونا عنا وعن محمد؟ فقالوا: ما أنتم وما محمد؟ فقالوا: نحن نصل الأرحام، وننحر الكوماء، ونسقي الماء على اللبن، ونفك العناة، ونسقي الحجيج؛ ومحمد صنبور قطع أرحامنا، واتبعه سراق الحجيج من غفار، فنحن خير أم هو؟ فقالوا: أنتم خير وأهدى سبيلاً فأنزل الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء:51]]. الصنبور هي النخلة الضعيفة التي ليس فيها فراخ، فإنها إذا سقطت وليس لها عقد انتهت ونسيت، فهم أخذوا كلمة الصنبور من هذا المعنى، وذلك أنهم قالوا: إنه ليس له أولاد صلوات الله وسلامه عليه، والواقع أن هذا من أعظم الكذب، وأعظم الزور، فالرسول صلى الله عليه وسلم بارك الله جل وعلا فيه، وفي دعوته، وجعله منقذاً للبشرية، فكل عبد آمن في وقته ويؤمن متبعاً له إلى قيام الساعة يعتبر ولداً له، له أجره في عمله، وكل عمل يعمله في عبادة الله والتقرب إليه له صلوات الله وسلامه عليه مثل أجر هذا العامل، من أول مؤمن إلى آخر مؤمن قبل قيام الساعة، فهل يصل إلى هذا الشيء أحد من الخلق مهما كثر ماله وكثر ولده؟ لا، أبداً. ولهذا يقول العلماء: الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بحاجة إلى أن يهدى إليه عمل، أو يتصدق عنه، أو يضحى عنه؛ لأن كل عمل يعمله الإنسان فله مثله صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه هو السبب في هداية الناس، فليس هناك مخلوق أبرك منه صلوات الله وسلامه عليه، وأعظم منة على الخلق منه صلوات الله وسلامه عليه؛ ولهذا شرفه الله جل وعلا على جميع الخلق، فهو أشرف المخلوقات، وهو أقربهم إلى ربه، فهل يجوز لمن كان عنده عقل -فضلاً عن إيمان- أن يوجه إليه شيئاً من اللوم أو من المسبة؟ لا، إلا إذا كان شيطاناً رجيماً يبغض الحق، فالشيطان الرجيم الملعون هو الذي يغيضه مثل هذا الشيء، ومن اتبعه فهو مثله، وهذا هو معنى قولهم: الأبتر، يعني أنه إذا مات فليس له عقب، وهذا من أكذب القول، فهو مثل قولهم: صنبور.

أقوال السلف في تفسير الجبت والطاغوت

أقوال السلف في تفسير الجبت والطاغوت قال الشارح: [وفي مسند أحمد عن ابن عباس نحوه. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الجبت السحر، والطاغوت الشيطان، وكذلك قال ابن عباس وأبو العالية ومجاهد والحسن وغيرهم. وعن ابن عباس وعكرمة وأبي مالك: الجبت: الشيطان. زاد ابن عباس: بالحبشية]. يقولون: الباء مع الجيم لا تجتمع في كلمة عربية، إلا أن يكون فيها حرف من الحروف الذلقية، فإذا كان حرف منها في كلمة من هذه الكلمات وإلا تكون الكلمة غير عربية، والجبت ليست من هذه، فلهذا قال: إنها بالحبشية، وكذلك يقول الأزهري في الصحاح: إن هذه الكلمة أصلها غير عربي، ولكن الصواب أن العرب إذا تكلموا بكلمة، وعرف معناها، وصار الخطاب بها معروفاً؛ فهي عربية وإن كان أصلها غير عربي. قال الشارح: [وعن ابن عباس أيضاً: الجبت: الشرك، وعنه: الجبت: الأصنام، وعنه: الجبت: حيي بن أخطب، وعن الشعبي: الجبت: الكاهن، وعن مجاهد: الجبت: كعب بن الأشرف، قال الجوهري: الجبت: كلمة تقع على الصنم والكاهن والساحر ونحو ذلك. قال المصنف رحمه الله تعالى: وفيه معرفة الإيمان بالجبت والطاغوت في هذا الموضع، هل هو اعتقاد قلب أو هو موافقة أصحابها مع بغضها ومعرفة بطلانها؟]. يعني: أن كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب وافقوهما باللسان فقط مع اعتقاد قلوبهم أن المشركين على باطل، وأنهم يظهرون ذلك وهم يكرهونه؛ ولهذا كانوا إذا انتصر عليهم عباد الأوثان يقولون: سيبعث نبي نتبعه ونقتلكم معه، فكانوا يستغربون كيف أن عباد الأوثان ينتصرون عليهم وهم لا يعبدون الأوثان؟! ولكنهم كفروا عن عناد وعلم فصار كفرهم أشد من كفر الجاهل، فكفر العالم أشد من كفر الجاهل نسأل الله العافية. إذاً: الإيمان الذي أطلق عليهم هو الموافقة في الظاهر وليس في الباطن، وهذا أمر مخيف جداً، أن الإنسان إذا وافق أهل الباطل في الظاهر وإن كان يكره ما هم عليه يكون حكمه حكمهم؛ لأن الله جل وعلا كلف عبده أن يقول الحق ويعمل به، ولا يبالي بالناس مهما كانت الظروف، وخصوصاً إذا كانت المسألة مسألة إيمان وكفر، إما إذا كانت من الأمور الأخرى التي تكون مجرد معصية فالأمر أسهل من ذلك.

قوله تعالى: (قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله)

قوله تعالى: (قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله) قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقول الله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة:60]]. هذه الآية أيضاً في اليهود، وذلك أنهم يستهزئون ويسخرون من المؤمنين، فقوله: (أنبئكم بشر من ذلك) إشارة إلى ما صدر منهم من الاستهزاء، وأنهم يقولون: أنتم وإن كنتم على حق فأنتم تخلفونا في النار؛ لأننا نبقى في النار أياماً معدودات ثم تكونون أنتم بدلنا ونحن نخرج، وهذه من تمنياتهم، ويقولون: ما رأينا أهل دين أشر منكم، هكذا كانوا يقولون للمؤمنين، ما رأينا أهل دين أشر منكم، فقال الله جل وعلا: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ} يعني: مما تظنونه بنا وتصمونا به، هو أنتم الذين لعنهم الله وغضب عليهم، وجعل منهم القردة والخنازير، وجعل منهم من عبد الطاغوت. هذا هو الصواب في تقدير الآية، وأن هذه أفعال معطوفة بعضها على بعض، وقد استشكل كثير من المفسرين قوله: (وعبد الطاغوت) من ناحية الإعراب، وهذا ليس فيه إشكال في الواقع وإن كان الفاعل مختلف، فالأفعال الأولى الفاعل فيها هو الله، أما هذا فالفاعل فيها هم اليهود الذين عبدوا الطاغوت. وهذا يدل على أن الإنسان يرث آباءه وأجداده إذا كان على نهجهم وعلى طريقهم، ولكنه إذا تبرأ من باطلهم وعمل بالحق فلا يضره هذا الشيء، والقردة والخنازير هم اليهود وقد ذكرهم الله في قوله جل وعلا: {الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة:65]، وقد ذكر الله قصتهم في سورة الأعراف، وذلك أن الله جل وعلا أمرهم بتعظيم يوم السبت واحترامه، وحرم عليهم اصطياد الحيتان فيه، والله جل وعلا إذا أمر عبده فقد يبتليه هل يكون صادقاً في امتثال الأمر أو يكون كاذباً؟ كما قال الله جل وعلا: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2]، وآيات كثيرة في هذا المعنى. فصارت الحيتان تأتيهم يوم السبت، وتخرج من الماء على ساحل البحر بكثرة، وإذا ذهب السبت ذهبت فلا يرون منها شيئاً، فلما طال عليهم ذلك تحيلوا، فوضعوا الشباك، ووضعوا الحفر، فتأتي الحيتان وتقع فيها، فيتركونها فيها إلى أن تغيب الشمس يوم السبت فيأخذونها، وهذا صورته كأنه موافق للحق، ولكنه حيلة على الباطل؛ ولهذا فالقردة من أقرب الحيوانات في الصورة الظاهرة إلى الإنسان، فمسخهم الله جل وعلا على وفق صنيعهم؛ لأن ظاهر صنيعهم ليس باطلاً؛ لأنهم ما أخذوا الحيتان من البحر إلا بعدما ذهب السبت؛ فجعلوا قردة. ذكر المفسرون أنهم انقسموا إلى ثلاثة أقسام كما ذكر الله جل وعلا في القرآن: طائفة صنعت هذا، وطائفة أنكرت عليهم، والطائفة الثالثة: قالت للمنكرين: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ} [الأعراف:164] يعني: أنه لا فائدة في الكلام معهم، فقد ارتكبوا أمراً واضحاً، فقال الواعظون والمنكرون: {قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف:164] يعني: أننا نفعل هذا إعذاراً حتى يعذرنا الله جل وعلا؛ لأننا إذا سكتنا ولم ننكر كنا معهم، ولم نعذر بذلك، فاعتزلوهم وتركوهم، فلما كان يوم من الأيام أصبحوا ولم يروا أحداً خرج من البلد، فعجبوا! وقالوا: لا بد أنه حصل شيء، فأتوا إليهم فإذا هم قد مسخوا قردة وخنازير. يقول ابن عباس وغيره: شبابهم صاروا قردة، وشيوخهم خنازير، أما القردة والخنازير الموجودة الآن فليست مسخاً، بل هي من الحيوانات التي خلقها الله جل وعلا، وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه سئل: هل هذه القردة مسخ؟ فقال: إن الله إذا مسخ أمة لم يجعل لها نسلاً)، فالذي يمسخ ليس له نسل، فعلى هذا قول بعض الناس: إن الفأر أو الضب أو ما أشبه ذلك كان آدمياً ومسخ، هذا خطأ، ليس الأمر كذلك؛ لأن المسخ عذاب، والمعذب يهلك ولا يكون له نسل كما في هذا الحديث. وهذا يدلنا أيضاً على أن هؤلاء لهم نصيب مما فعله أولئك؛ لأنهم يتحيلون على الباطل بوجوه متعددة، ومن تحيل على الباطل فإنه يتحيل على ربه جل وعلا، والله لا تخفى عليه خافية، يعلم ما في الصدور، ولا يجوز أن يظهر الإنسان شيئاً في عمله، ويبطن خلافه في قلبه فإن الله يعلمه، وسوف يحاسبه عليه: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:284] المقصود بهذا أن هؤلاء خالفوا أمر الله جهاراً عن عمد، ووجه الدليل من الآية يظهر في الحديث الذي سيذكره، وهو أن هذه الأمة ستعمل ما عملته اليهود والنصارى وفارس والروم وغيرها من الأمم السابقة، ولهذا ثبت أنه يكون في هذه الأمة مسخ، يعني: أن فيهم طائفة تمسخ قردة وخنازير؛ لأنهم يفعلون مثلما فعل اليهود فيعاقبون كما عوقب أولئك. وكذلك يكون فيهم رجم بالحجارة من السماء؛ لأنهم يفعلون كما يفعل قوم لوط، فيرجمون كما رجم قوم لوط، ويكون فيهم خسف كما حدث في الأمم السابقة، فإن منهم من خسف به كما ذكر الله جل وعلا ذلك، وهذا ثابت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم. ومن ذلك الشرك الذي وقعوا فيه، فإنهم عبدوا أحبارهم ورهبانهم وقالوا: عزير ابن الله، والنصارى قالت: المسيح ابن الله، وصارت تعبد ثلاثة: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73] وكل ما وقع في اليهود والنصارى سيقع مثله في هذه الأمة لا يخطئونه في شيء، هذا هو وجه الاستدلال من الآيات، ويظهر ويتضح بذكر حديث أبي سعيد رضي الله عنه الذي سيأتي. قال الشارح رحمه الله تعالى: [يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد! هل أخبركم بشر جزاء عند الله يوم القيامة مما تظنونه بنا؟ وهم أنتم أيها المتصفون بهذه الصفات المفسرة بقوله: (من لعنه الله) أي: أبعده من رحمته (وغضب عليه) أي: غضباً لا يرضى بعده أبداً، (وجعل منهم القردة والخنازير). وقد قال الثوري: عن علقمة بن مرثد عن المغيرة بن عبد الله عن المعرور بن سويد أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القردة والخنازير أهي مما مسخ الله؟ فقال: إن الله لم يهلك قوماً -أو قال: لم يمسخ قوماً- فيجعل لهم نسلاً ولا عقباً، وإن القردة والخنازير كانت قبل ذلك) رواه مسلم]. العجيب أن بعض دعاة الشر من اليهود -كما هو معروف- جاء بنظرية يقول: إن الأصل في البشر هو القردة، والإنسان فصيلة منها. واتبعه على هذا القول الباطل البين البطلان طوائف كثيرة، ثم بعد ذلك لما جاء نظيره من الكفار يبطل هذه النظرية رجع هؤلاء، مع أن الله جل وعلا يذكر لنا أنه خلق آدم بيده، وأنه خلقه من طين، كما جاء في آيات متعددة كثيرة، فكيف يعتنقون قول هذا الفاجر الخبيث ويأخذون به مع وضوح هذا الأمر؟! وهذا من الأدلة على أن الله جل وعلا إذا أراد إضلال إنسان فإنها لا تنفع فيه الأدلة الواضحة الجلية. والغريب أن هذا وقع لبعض العلماء الذين يكتبون الكتابات، وموجود عندنا بعض هذه الكتب، بعضها يسمى دائرة المعارف يقول صاحبها: نحن نؤيد نظرية دارون، فإن قيل لنا: كيف تقولون بما ذكره الله جل وعلا في القرآن من أنه خلق آدم من طين؟ نقول: هذا أمره سهل، نؤوله كما أولنا قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] يعني: بهذه السهولة وبهذا الأمر نؤول القرآن؛ لأن كافراً من الكفار قال هذا القول، والتأويل هذا إبطال وتكذيب في الواقع، وتحريف لا يجوز أن نسميه تأويلاً، وأشياء كثيرة من هذا القبيل. فالإنسان يجب أن يكون على حذر دائماً، فيكون إمامه هو كتاب الله، وفي هذه الآية دليل واضح على أن الله جل وعلا يلعن من يشاء، إذا أراد أن يلعن لعن، كما أنه يرحم من يشاء، ويغضب على من يشاء: {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} [المائدة:60] وهذه من صفات الفعل التي تتعلق بمشيئته، إذا شاء أن يفعلها فعلها كما يشاء، فيجب أن يوصف الله جل وعلا بذلك وهذا كثير.

تفسير البغوي لقوله تعالى: (قل أفأنبئكم بشر من ذلكم)

تفسير البغوي لقوله تعالى: (قل أفأنبئكم بشر من ذلكم) قال الشارح: [قال البغوي في تفسيره: (قل) يا محمد! (هل أنبئكم) أخبركم (بشر من ذلكم) يعني: قولهم: لم نر أهل دين أقل حظاً في الدنيا والآخرة منكم، ولا ديناً شراً من دينكم. فذكر الجواب بلفظ الابتداء -وإن لم يكن الابتداء شراً- كقوله تعالى: {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ} [الحج:72]. وقوله: (مثوبة) ثواباً وجزاءً نصب على التمييز (عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير) فالقردة أصحاب السبت، والخنازير كفار مائدة عيسى]. هذا على قول، والقول الآخر أن القردة والخنازير كلاهما من أصحاب السبت، وهذا هو المشهور، والمعنى: أن هذه الأمة سوف يكون فيها من يلعنه الله ويغضب عليه ويمسخه قردة وخنازير، بدليل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة) وكذلك ما ورد من الآيات الأخرى.

التفسيرات اللغوية لقوله تعالى: (قل أفأنبئكم بشر من ذلكم)

التفسيرات اللغوية لقوله تعالى: (قل أفأنبئكم بشر من ذلكم) [وعن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أن المسخين كلاهما من أصحاب السبت، فشبابهم مسخوا قردة، وشيوخهم مسخوا خنازير. (وعبد الطاغوت) أي: وجعل منهم من عبد الطاغوت، أي: أطاع الشيطان فيما سول له، وقرأ ابن مسعود: (وعبدوا الطاغوت) وقرأ حمزة: (وعَبُدَ الطاغوت) بضم الباء وجر التاء أراد العبد]. يعني: الجمعي، عُبُد يعني جمع عابد، جعل منهم من عبد، والمعنى واحد. [وهما لغتان: عبد بسكون الباء، وعبد بضمها]. هذا إذا أريد الإفراد. [مثل سَبُع وسُبْع وقرأ الحسن (وعبد الطاغوت) على الواحد. وفي تفسير الطبرسي: قرأ حمزة وحده (وعبُد الطاغوت) بضم الباء وجر التاء، والباقون (وعبد الطاغوت) بنصب الباء وفتح التاء، وقرأ ابن عباس وابن مسعود وإبراهيم النخعي والأعمش وأبان بن تغلب (وعُبُدَ الطاغوتِ) بضم العين والباء وفتح الدال وخفض التاء. قال: وحجة حمزة في قراءته (وعبُد الطاغوت) أنه يحمله على ما عمل فيه قوله (جعل)]. يعني: يعطفه على الأفعال السابقة، وكلها أفعال ماضية، لعن: فعل ماضي، (من لعنه الله) وقوله: (وغضب) كذلك، وحمله على هذه الأفعال الماضية يكون الباب واحداً، كل هذه أفعال ماضية. [كأنه: وجعل منهم عبُد الطاغوت ومعنى: (جعل) أي: خلق كقوله: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:1] وليس عبد لفظ جمع؛ لأنه ليس من أبنية الجموع شيء على هذا البناء، ولكنه واحد يراد به الكثرة، ألا ترى أن في الأسماء المفردة المضافة إلى المعارف ما لفظه الإفراد ومعناه الجمع؟ كما في قوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34] ولأن بناء فعُل: يراد به المبالغة والكثرة نحو يقظ ودنس، وكأن تقديره: أنه ذهب في عبادة الطاغوت كل مذهب] كلمة (جعل) هذه تأتي على استعمالين: استعمال بمعنى: خلق، كهذه الآية وكقوله جل وعلا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1] وهذا كثير، وعلامة ذلك أنها إذا جاءت بمعنى (خلق) أنها لا تتعدى إلا إلى مفعول واحد فقط. وتأتي بمعنى: صير، وليس معنى (صير) أنه خلق، لا، معناها: أنه عالج الأشياء أو اعتقدها، أي: اعتقد أنها كذا، أو قال: إنها كذا، وهذا أيضاً استعماله كثير في اللغة العربية، ووروده في القرآن أيضاً كثير، وعلامة ذلك أنه يتعدى إلى مفعولين كما في قوله جل وعلا: {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} [النحل:91] {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف:19] وهذا بمعنى اعتقدوا أو قالوا ذلك. وهذا قد يغلط فيه بعض الناس لا سيما الذين لهم أهواء، وربما قالوا: إن (جعل) تدل على الخلق، ثم يدخلون ما يريدون كإدخالهم للقرآن بأنه مخلوق، فيقولون: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف:3] يعني: خلقناه! وكقوله: {جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر:91] وما أشبه ذلك. وهذا يدل على الجهل في الواقع؛ لأنه لا يمكن أن يقال: خلقوا الملائكة، وكذا قوله: {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} [النحل:91] وما أشبه ذلك، وهذا من أنفع ما يكون لطالب العلم أن يفرق بين الألفاظ واستعمالاتها، ويعرف مواقعها. [وأما من فتح فقال: (وعبد الطاغوت) فإنه عطفه على بناء المضي الذي في الصلة وهو قوله: (لعنه الله) وأفرد الضمير في عَبَد، وإن كان المعنى فيه الكثرة؛ لأن الكلام محمول على لفظه دون معناه. وفاعله ضمير (من)، كما أن فاعل الأمثلة المعطوف عليها ضمير (من)، فأفرد لحمل ذلك جميعاً على اللفظ، وأما قوله: (عبد الطاغوت) فهو جمع عبد. وقال أحمد بن يحيى: عُبُد جمع عابد كبازل وبُزل، وشارف وشرف، وكذلك عُبَّد جمع عابد ومثله عباد وعباد. انتهى]. قال الشارح رحمه الله: [وقال شيخ الإسلام في قوله (وعبد الطاغوت): الصواب: أنه معطوف على ما قبله من الأفعال أي: من لعنه وغضب عليه، ومن جعل منهم القردة والخنازير، ومن عبد الطاغوت، قال: والأفعال المتقدمة الفاعل فيها اسم الله تعالى مظهراً أو مضمراً، وهنا الفاعل اسم من عبد الطاغوت، وهو الضمير في عبد، ولم يعد سبحانه من؛ لأنه جعل هذه الأفعال صفة لصنف واحد وهم اليهود. قوله: (أولئك شر مكاناً) مما تظنون بنا. (وأضل عن سواء السبيل) وهذا من باب استعمال أفعل التفضيل فيما ليس في الطرف الآخر له مشارك، كقوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان:24] قاله الـ عماد ابن كثير في تفسيره وهو ظاهر]. هذا لأنه يأتي أفعل التفضيل فيما لا مشارك له في الجانب الآخر، وبهذا يرد على القدرية الذين قالوا: إن قوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14] وما أشبه ذلك يدل على إثبات الخلق للعباد، وأنهم يخلقون أفعالهم بدليل هذه الآية ونحوها. A هو ما ذكره هنا، أن قوله: (تبارك الله أحسن الخالقين) هذا استعمل فيما لا مشارك له في الخلق؛ لأن قوله: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان:24] أصحاب النار ما يشاركون أهل الجنة بشيء مما فيها، وقوله: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان:24] لا يمكن أن يقال: إن هذا استعمل على بابه، وإنما استعمل بالشيء الذي لا مشاركة فيه، يقول الله جل وعلا: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل:59] لا يوجد أحد يقول: إن الأصنام تشارك الله في الخيرية أو في شيء من ذلك مطلقاً، وهذا كثير في القرآن، ومن المعلوم أن أصحاب البدع والأهواء يتعلقون بالشبهات، ويفرحون إذا وجدوا شيئاً يتعلقون به من القرآن أو من الأحاديث، ومن الأمور التي ينبغي أن تعلم أن القرآن فيه شيء مما قد يشتبه في اللفظ للدلالة، وإذا صار الإنسان عنده سوء فهم أو سوء اتجاه يكون فتنة له، وهذا الذي يشير إليه قوله جل وعلا: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران:7] فهم يبحثون عن الشيء الذي يتفق مع أهوائهم، ومع مناهجهم ومقاصدهم، بغض النظر عن مراد المتكلم، ولو كانوا يريدون مراد المتكلم لكان الأمر واضحاً جلياً؛ لأن هناك آيات واضحات تبين هذا، إذا أرجعت إليها زال الإشكال نهائياً، وأصبح لا يوجد إشكال. والواجب على العبد أن يتخلى من هوى النفس، ومن الأغراض التي تكون على خلاف مراد الرب جل وعلا أو مراد رسوله صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن هذا يحتاج إلى مجاهدة، ويحتاج إلى توفيق من الله جل وعلا، والإنسان قد لا يملك نفسه {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة:41] إلا أنه إذا فعل الإنسان الأسباب التي أمر بها فغالباً أن الله يوفقه، بخلاف الذي يعرض عن أمر الله من أول وهلة اتباعاً لشيء يريده، إما يريد علواً على الخلق، يريد أن يكون هو أفضل منهم، وأعلى منهم أو كان له أغراض دنيوية، أو عنده حسد وحقد على الآخرين؛ فهذا غالباً لا يوفق ويزداد ضلالاً إلى ضلاله إلا أن يشاء الله، ولهذا يقول الله جل وعلا: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5]، ويقول تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:110] والمعنى: أنه لما جاءهم أمرنا فردوه أول الأمر قلبت أفئدتهم وأبصارهم جزاءً لردهم الحق أول ما جاءهم. ومن المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم وضح الأمور وبينها، وأما فهوم الناس واتجاهاتهم فهذه يجب أن تعرض على الكتاب والسنة، ويجب أن يتجرد في ذلك، ليس لأن ينتصر على فلان، أو ينصر المذهب الفلاني، ويرد على المذهب الفلاني، إذا كان هذا قصده فالقصد سيء، والعمل ليس لله جل وعلا، وإنما الواجب على الإنسان أن يطلب الحق، وعلامة ذلك أنه يقبل الحق ممن جاء به سواءً كان صديقاً له أو غير صديق، إذا تبين له الحق قبله، أما إذا كان لا يقبل الحق إلا ممن يتفق معه في رأيه ومنهجه فهذا علامة أنه لا يريد الحق، والله جل وعلا يتولى جزاء عباده، وسوف يحاسبهم على نياتهم ومقاصدهم، وإنما على الإنسان أن يجتهد لنفسه لئلا يقع في الباطل، ولن يضيع شيء أبداً، وكل خلاف وقع، وكل حكومة وقعت، وكل مسألة وقعت سوف تعرض بين يدي الله، ويحكم فيها بحكمه العدل، فهو جل وعلا يعلم لسان كل متكلم، ويعلم قلب كل متكلم ماذا يريد، على الإنسان أن يستحضر هذه الأمور، ويسعى لنفسه إما أن يكتسب الحسنات أو يكتسب السيئات.

شرح فتح المجيد [70]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [70] دلائل النبوة كثيرة، ومن ذلك ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوقوعه في أمته من بعده، ثم وقع كما أخبر عليه الصلاة والسلام، مثل قوله: (لاتقوم الساعة حتى يلحق فئام من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان).

قوله تعالى: (قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا)

قوله تعالى: (قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجداً) قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقول الله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف:21]]. هذه الآية ذكرها الله جل وعلا في قصة أصحاب الكهف، وهم الفتية الذين هربوا بدينهم من قومهم المشركين، وجعلهم الله جل وعلا آية، فأووا إلى غار ليختبئوا فيه، فضرب عليهم النوم، فناموا أكثر من ثلاثمائة سنة وهم نيام، ثم استيقظوا بعد ذلك وظنوا أنهم ما لبثوا إلا يوماً أو بعض يوم، وكان معهم نقود، فلما استيقظوا إذا هم جياع؛ فأمروا واحداً منهم أن يذهب إلى البلد ليشتري لهم بهذه النقود طعاماً، ووصوه بأن يتلطف أي: يختفي لئلا يعرفه القوم فيأتون إليهم فيفتنونهم عن دينهم، فذهب بالنقود، فلما حضر إلى البلد فإذا هي غير البلد، والناس غير الناس، فلما أخرج النقود إذا هي غير النقود التي يتعارف عليها الناس، فظهر أمرهم بذلك، فمسكوه وقالوا: من أين أتيت؟ ومن أين جئت بهذه النقود؟ فعرفوهم لهذا السبب، وجاءوا إليهم، ولما وصل إليهم زميلهم الذي ذهب ليأتيهم بالطعام، ضرب عليهم النوم مرة أخرى، فناموا، فأصبح هؤلاء يتخاصمون فيهم، كيف نصنع بهم؟! فقال الكبراء والوجهاء: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف:21] يعني: يبنون عليهم مسجداً، وبنوا عليهم المسجد، وهذا من صنيع اليهود، ومن صنيع النصارى. والآثار الصحيحة جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم في منع بناء المساجد على القبور صراحة، وقد أخبر الله جل وعلا أن من كان قبلنا من أهل الكتاب قد بنوا المساجد على قبور أنبيائهم وصالحيهم مثل هؤلاء الفتية، والخبر الذي سيذكره يدل على أن هذا سيقع في هذه الأمة كما وقع في الأمم التي قبلها. هذا هو وجه إيراد هذه الآية ووجه الاستدلال بها، يعني: أن البناء على القبور وقع من اليهود والنصارى على قبور أنبيائهم وصالحيهم، ورسولنا صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن هذه الأمة ستتبع سنن من كان قبلها حذو القذة بالقذة، فلا بد أن يقع البناء على القبور في هذه الأمة كما وقع في الأمم التي قبلنا، والبناء على القبور من وسائل الشرك، ومن المحرمات التي جاءت فيها أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا هو وجه الاستدلال بالآية، ووجه مطابقتها للترجمة. [والمراد أنهم فعلوا مع الفتية بعد موتهم ما يذم فاعله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أبنيائهم مساجد) أراد تحذير أمته أن يفعلوا كفعلهم].

قوله صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم) وعلاقته بالشرك

قوله صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم) وعلاقته بالشرك قال المصنف رحمه الله تعالى: وعن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟) أخرجاه]. هذا الحديث مخرج في الصحيحين ولكن بغير هذا اللفظ والمعنى واحد، والآية التي ذكرها قبل هذا واضحة الدلالة مع ذكر الحديث أنها تدل على الذم، يعني: ذم هؤلاء الذين غلبوا على أمر قومهم؛ يعني: لأنهم الكبراء والوجهاء فبنوا عليهم المسجد، فالآية سيقت على وجه الذم، وليس كما يقول من فتن بالقبور وبعبادة أصحابها والبناء عليها: إن الآية تدل على جواز البناء على القبور؛ لأن كلام الله جل وعلا مع كلام رسوله لا يتعارضان، بل يؤيد أحدهما الآخر، ويبينه ويوضحه، وقد أخبرنا ربنا جل وعلا أنه أنزل على رسوله الوحي ليبين ما نزل إليه للناس، وقد بين ذلك، والذي يقول مثلاً أن الآية تدل على الجواز هو مغالط، فهذا كلام مغالطة ومحادة لله جل وعلا، ولرسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قد يقول جاهل هذا القول: الآية تدل على ذلك؛ لأن الله ذكر هذا عنهم، وما ذكر عن شرع من كان قبلنا يكون شرعاً لنا، هذا لا يكون صحيحاً بل هذه مغالطة، والله ذكر ذلك على سبيل الواقع منهم، والرسول صلى الله عليه وسلم بين أن هذا لا يجوز، وأن فعلهم مذموم، فيجب أن يعلم هذا وأن يعتقد؛ بأنه على سبيل الذم وليس على سبيل الجواز. حديث أبي سعيد هذا: (لتتبعن) ابتدأه صلى الله عليه وسلم باللام، اللام التي وقعت في جواب القسم، وهذا هو الصواب أنها وقعت في جواب القسم، والتقدير: والله لتتبعن، ومن المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أخبر بخبر فإنه صدق وحق؛ لأنه كما قال الله جل وعلا عنه: لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، يوحيه الله جل وعلا إليه. وكذلك إذا أخبر الله جل وعلا بشيء فإنه صدق وحق بلا ريب، فيأتي القسم لزيادة التأكيد، والمؤكدات سواء كان قسماً أو كان تأكيداً لفظياً، أو تكراراً أو غير ذلك، واهتمامي بهذا الموضوع ولفت الأنظار إليه ليعلم هذا أنه واقع لا محالة. والسنن: هي الطرق -ويجوز أن تكون (سُنن وسَنن) - التي يسلكونها، وتخص بأمور الدين التي يتعبدون بها أو يعتقدونها. وقوله: (من كان قبلكم) هذا مجمل؛ لأنه إذا قيل: (من كان قبلنا) يشمل كل الذين قبلنا، ولهذا استفسر الصحابة عن ذلك وقالوا: من تريد؟ من هم الذين قبلنا اليهود والنصارى؟ فقال: فمن؟ يعني: أن هذا هو المراد، وهذا لا ينافي أو يخالف ما جاء في الرواية الأخرى، وهي رواية صحيحة أيضاً: (أهم فارس والروم؟ فقال: ومن الناس إلا أولئك) يعني: من المقصود إلا فارس والروم، المقصود يريد أن يخبر أن هذه الأمة ستتبع الذين قبلهم من الأمم القريبة منهم، مثل اليهود والنصارى وفارس والروم وغيرهم، وجاء في بعض الآثار الأعاجم أيضاً. فكل لفظ يدل على ما يدل عليه الآخر إلا أنه يدل على أنه لم يرد أمة معينة بخصوصها غير أن هؤلاء هم الذين لهم كلمة ولهم دين، ولهم كيان وقد يقتدى بهم، وينظر إليهم، فبين أن هذا هو المراد. وقوله: (حذو القذة بالقذة) المعنى أنكم تسيرون خلفهم، فكل ما فعلوه سوف تفعلونه دقيقاً أو كبيراً، لا تخطئون شيئاً مما فعلوا، فقوله: (حذو القذة بالقذة) كقولك: خطوة خطوة. بل كقولك: إنك تفعل هذا كما يفعل فلان هذا الشيء تماماً بلا زيادة ولا نقصان. والقذة: هي ريشة السهم، وريشة السهم غير معروفة لنا الآن، ولكن هي الحربة التي تحدد وتجعل في السهم ليطلق منه، والسهم القوس الذي يرمى به سابقاً، ويقابل ذلك الرصاصة الموجودة الآن التي تجعل في بندقية واحدة ما تزيد عن الأخرى، كل واحدة مساوية للأخرى تماماً بلا زيادة، هذا هو المعنى المراد، يعني: أنكم تفعلون كل ما فعلوه.

وجه التشبيه بجحر الضب في متابعة هذه الأمة غيرها

وجه التشبيه بجحر الضب في متابعة هذه الأمة غيرها [قوله: (حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)، هذا الفرض على سبيل لو قدر أن هذا يمكن وأنه وقع فيهم لوقع فيكم، وفعلتموه كما فعلوه. وخص جحر الضب لأن الضب جحره من أصعب الجحور سلوكاً؛ لأنه إذا حفر جحره يحفره متجهاً إلى تحت ملتوياً، لا يكون مستقيماً، يجعله ملتوياً ومدوراً حتى يكون الدخول عليه عسراً؛ ولهذا إذا دخل هو على وجهه لا يستطيع أن يلتفت، لا بد أن يخرج على ذنبه من الخلف لعسر هذا الجحر، ولكونه لا يسع غيره، وإذا دخل أيضاً على خلفه -على ذنبه- ما يستطيع أن يلتفت يبقى هكذا حتى يخرج على وجهه، هذا هو السبب في تشبيهه صلى الله عليه وسلم وتخصيصه لجحر الضب، فهو ليس كسائر الجحور التي يكون الدخول فيها سهل، والمعنى: لو قدر أنهم يدخلون هذا المدخل الصعب، والمسلك الذي قد يكون سلوكه ممتنعاً لفعلتم أنتم هذا الفعل. ولهذا جاء بعد ذلك في الرواية الأخرى: (حتى لو أن أحداً منهم وقع على أمه علانية لصار في هذه الأمة من يفعل ذلك)، وهذا شيء فضيع، فإنسان يقع -نسأل الله العافية - على أمه والناس ينظرون إليه أمر مستفظع جداً، يقول: لو وقع هذا لوقع في هذه الأمة. وفي رواية أخرى: (حتى لو أن منهم من وطئ زوجته على قارعة الطريق لكان في هذه الأمة من يفعل ذلك) في ألفاظ ذكرها صلى الله عليه وسلم من المبالغة في اتباع هؤلاء، وأن هذه الأمة سوف تسلك مسلك اليهود والنصارى وكذلك الفرس وغيرهم، فينظرون ماذا يصنعون فيصنعون مثلهم تماماً. ثم ليعلم أن هذا ليس من باب الخبر الذي يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم مقراً له، أو راضياً به! كلا، بل هو يخبر عنه من باب التحذير، أي: احذروا أن تكونوا من هؤلاء. وهذا الإخبار منه صلوات الله وسلامه عليه من علامات نبوته، بل كل جملة في هذا تدل على صدقه صلوات الله وسلامه عليه، وأنه حق؛ لأن الأمر وقع كما أخبر، والذي لم يقع سيقع. هذا شيء. الشيء الثاني: أنه يجب أن يعلم أن هذا ليس في الأمة كلها، وإنما هذا في طوائف من الأمة، ولا بد أن يبقى في الأمة المسلمة أمة متمسكة بدينها، متبعة لهدي نبيها صلى الله عليه وسلم، لا تبالي بمن خالفها، ولا يغرها من خالفها، كما جاء في الحديث الآخر الذي رواه أصحاب السنن -وهو حديث صحيح- أنه صلى الله عليه وسلم قال: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، فقيل: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) فبين أن هذه الأمة ستزيد على النصارى الذين زادوا على اليهود فرقة واحدة، وهذا التفرق يكون في الأمة التي استجابت للنبي صلى الله عليه وسلم، كما أن الحديث: (لتتبعن سنن من كان قبلكم) هو في الأمة التي استجابت له، وهم الذين يتبعونه، وذلك أن الناس كلهم جنهم وإنسهم، عربهم وعجمهم، كلهم أمة لمحمد صلى الله عليه وسلم، والذي يسمع به مجرد سماع ثم لا يؤمن به يدخله الله جل وعلا النار، كما جاء في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (والله لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا أقحمه الله جهنم)، فجعل الأمر متعلقاً بمجرد السماع. والمقصود أن الخطاب في قوله: (لتتبعن) للأمة المستجيبة التي اتبعته، يعني: أن هذا الاتباع يقع في أمة الإجابة، وهذا الحديث يبين لنا أن الآيات السابقة في اليهود والنصارى التي ذكر عنهم أفعالاً وقعت منهم كالبناء على القبور والأموات، كما ذكر في الآية وكالتحيل على المحرمات، وأكلها بشبهة أنها حلال، والجزاء الذي يقع على هؤلاء من اللعن والمسخ وعبادة الطاغوت سيقع في هذه الأمة، هذا هو المقصود، وهذا رد -كما قلنا سابقاً في الفصل السابق- على الذين يعبدون القبور، ويبنون عليها المساجد ويقولون: الشرك لا يقع في هذه الأمة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (قد أيس الشيطان أن يعبد في جزيرة العرب) حسبما قالوا، وكذلك يقولون: إن من قال: لا إله إلا الله يكون موحداً ويدخل الجنة، ولا يقع منه الشرك، فهم جهلوا الشرع، وذابوا في جهلهم، وصاروا فتنة للجهال الذين لا يميزون بين الحق والباطل، فبين بهذا أن هذا قول باطل، وأنه محادة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم. هذه الأمة التي يقول صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم)، خرجت منها فرقة تكون متمسكة بالحق، بدليل الحديث الآتي حديث ثوبان: (ولا تزال طائفة من أمتي على الحق) إلخ، فيكون هذا الحديث ليس على عمومه.

من دلائل النبوة في حديث متابعة الأمة غيرها من الأمم

من دلائل النبوة في حديث متابعة الأمة غيرها من الأمم قال الشارح: [قوله: (سنن) بفتح المهملة، أي: طريق من كان قبلكم قال المهلب: الفتح أولى. قوله: (حذو القذة بالقذة) بنصب حذو على المصدر. والقذة -بضم القاف- واحدة القذذ، وهو ريش السهم، أي: لتتبعن طريقهم في كل ما فعلوه، وتشبهوهم في ذلك كما تشبه قذة السهم القذة الأخرى، فوقع كما أخبر صلى الله عليه وسلم، وبهذا تظهر مناسبة الآيات للترجمة، وقد وقع كما أخبر، وهو علم من أعلام النبوة]. أعلام النبوة كثيرة جداً، وأعلام النبوة يعني: دلائلها، أي: الدلائل التي تدل على صدقه صلى الله عليه وسلم، وأنه نبي، ومنها إخباره بالمغيبات أنها ستأتي، فتأتي كما أخبر صلوات الله وسلامه عليه، وهذا لا يمكن أن يكون إلا عن وحي من الله جل وعلا. قال الشارح: [قوله: (حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه) وفي حديث آخر: (حتى لو كان فيهم من يأتي أمة علانية لكان في أمتي من يفعل ذلك)، أراد صلى الله عليه وسلم أن أمته لا تدع شيئاً مما كان يفعله اليهود والنصارى إلا فعلته كله، لا تترك منه شيئاً، ولهذا قال سفيان بن عيينة: من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى. انتهى] قد يقول قائل: هذا ليس صحيحاً؛ لأن اليهود قالوا: عزير ابن الله، والنصارى قالوا: المسيح ابن الله، وقالوا: إن الله ثالث ثلاثة، وهذه الأمة ليس فيها من يقول هذا، ولا يقول ذلك، فكيف تقول: إن هذا الحديث يدل على أن كل ما وقع من اليهود والنصارى سيقع من هذه الأمة، فيقال: ليس شرطاً أن هذه الأمة تفعل ما فعلته اليهود والنصارى بألفاظه وصورته تماماً، يكفي أن يفعلوه في المعنى، وأن يوافقوه في المعنى، وقد وقعت الموافقة من كثير من الناس في هذا، فصاروا مثلاً يعتقدون أن الولي الفلاني يتصرف بالكون، وأنه يقول للشيء: كن فيكون، وأنه لا يدخل هذا البلد شيء إلا بإذنه وهو ميت مدفون، قد أكله الدود وارتهن بعمله، وربما يكون معذباً؛ لأن كثيراً ممن يدعى أنه ولي هو زنديق كافر بالله جل وعلا، لا يصلي ولا يتطهر، ولا يترك فعل الفواحش من الزنا وغيرها، ومع ذلك يدعون أنه ولي. وأحياناً يكون مجنوناً يمشي في الأسواق عرياناً ليس عليه شيء من اللباس، فيزعمون أنه ولي، فإذا مات عبدوه وقالوا: إنه يتصرف في الكون، وإن الرزق لا يأتي إلا عن طريقه، وإن العافية والصحة لا تأتي إلا بإرادته، النصارى ما قالوا مثل هذا، قالوا أقل من ذلك، ويكفي هذا في موافقتهم، بل هذا زيادة، مع أنه جاء شيء من بعض هذه الأمة -من بعض خواصها- يصل إلى ما قالته النصارى واليهود في أنبيائهم، مثل الذين صار حظهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعه الكذب عليه، وادعوا أنه مشارك لله جل وعلا في كل شيء، بل له ما لله، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في بعض كتبه: هناك أناس يقولون: نحن نعبد الله ونعبد رسوله، نعبد الله ونعبد الرسول، ويستدلون بقوله: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ} [الفتح:9] فيجعلون معنى قوله: (وتسبحوه) يعني: تسبحون الرسول وتعبدونه، فيستدلون بمثل هذا. وكذلك بعض الشعراء الذين صاروا يمدحون الرسول صلى الله عليه وسلم مدحاً جاوز الحد، فرفعوه إلى مقام الربوبية، كقول القائل مثلاً: فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم وكذلك قوله: ولن يضيق رسول الله جاهك بي إذا الكريم تحلى باسم منتقمِ يعني يقول: أنا أستغيث وأستجير بك إذا غضب الله يوم القيامة! هذا شيء عظيم نسأل الله العافية! يعوذ الإنسان بمخلوق من الخالق، تعالى الله وتقدس. كقوله: فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم ضرة الدنيا هي الآخرة، وهنا (من) تبعيضية، فماذا بقي لله؟! إذا كانت الدنيا والآخرة من جملة جود الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان كل ما كتب في اللوح المحفوظ من جملة علومه، فأي شيء أبقى هذا الرجل لله جل وعلا تعالى وتقدس؟ هذا قد يكون أعظم مما قالت النصارى. والمقصود: أن الذي يقول: إن هذا الكلام فيه مبالغة مخطئ، فليس فيه مبالغة، بل هذا اعتقاد من هذه الأمة كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم تماماً.

فساد بعض العلماء كفساد أهل الكتاب سواء

فساد بعض العلماء كفساد أهل الكتاب سواء قال الشارح: [قلت: فما أكثر الفريقين! لكن من رحمة الله تعالى ونعمته أن جعل هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة، كما في حديث ثوبان الآتي قريباً]. يقول: إن من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى، وذلك أن اليهود يعلمون ولكن لا يعملون، يعلمون ويقعون في المعاصي على عمد، وعن علم، وهذا أعظم من الذي يقع في معصية عن جهل، أما النصارى فهم يتعبدون بجهل وضلال؛ ولهذا وصف الله جل وعلا اليهود بأنهم مغضوب عليهم، ووصف النصارى بأنهم أهل ضلال؛ لأنه ليس عندهم علم، وإنما عندهم اجتهاد وعبادة وتقشف، فتجد الراهب منهم في الصوامع، وهذا كان من قبل، أما في الوقت الحاضر فقد تغيرت الأوضاع والأمور، وأصبح الذين في الصوامع أو في البيع أو في الكنائس ساسة وقادة يخططون لأمتهم ولرؤسائهم في الاستيلاء على الضعفاء -ولا سيما إذا كانوا مسلمين- بكل وسيلة كانت، بغض النظر عن كون هذا يسوغ أو لا يسوغ، لا ينظرون إلى ذلك. وصاروا عباداً للدنيا والمناصب والشهوات، القول فهو يخالف الفعل، وإذا خالف الفعل فلا قيمة له. وهكذا هذه الأمة! الذي يفسد من العلماء يكون شبيهاً باليهود؛ لأن عنده علم ولكنه ترك العلم على عمد لغرض يريده خاص به أو لغرض آخر ليس خاصاً به، كله سواء، وأما الذي تكون عنده عبادة وتقشف فيفسد ويضل ويترك السنة فإنه يكون مشابهاً للنصارى؛ لأن هذا عنده اجتهاد لكنه في ضلال، وهذا من الذين يقول الله جل وعلا فيهم: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ * لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ * لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية:2 - 7] لأنهم يتعبدون بضلال، وإن كان عندهم خشوع ونصب وتعب ولكنهم ضالون؛ لأن من شرط قبول العبادة وصحتها أن تكون على سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، كما أنه من شرطها أيضاً أن تكون خالصة لله جل وعلا، لا يراد بها إلا وجه الله، فإذا اختل شرط من هذين الشرطين فهو ضلال ووبال، ويكون صاحبه معذباً. والناس في الواقع تبع لهؤلاء، تبع للعلماء والعباد، العباد يقتدى بهم ويرى أنهم على خير، وأنهم أهل زهد وطاعة، فيعظمون من أجل ذلك، والعلماء كذلك يقتدى بهم لأنهم الذين يعرفون الأحكام، فإذا فسدوا فسد الناس تبعاً لهم. قتل الشارح: [قوله: (قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟) هو برفع اليهود خبر مبتدأ محذوف أي: أهم اليهود والنصارى الذين نتبع سننهم؟ ويجوز النصب بفعل محذوف تقديره: تعني قوله: (قال فمن؟) استفهام إنكاري أي: فمن هم غير أولئك؟].

شرح فتح المجيد [71]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [71] من دلائل نبوة النبي عليه الصلاة والسلام: أنه أخبر بأن الله زوى له الأرض حتى رأى مشارقها ومغاربها، وأن أمته سيبلغ ملكها ما زوي له منها، وإخباره ببقاء طائفة من هذه الأمة على الحق، وإخباره بلحوق طوائف من الأمة بالمشركين، وإخباره بظهور الدجالين، وقد حصل ذلك كما أخبر به، ودلائل النبوة كثيرة جداً، ومعرفتها تزيد المؤمن يقيناً وطمأنينة.

حديث ثوبان (إن الله زوى لي الأرض)

حديث ثوبان (إن الله زوى لي الأرض) قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولـ مسلم عن ثوبان رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي ألا يهلكها بسنة بعامة، وألا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد! إني إذا قضيت قضاءً فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة بعامة، وألا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً) ورواه البرقاني في صحيحه وزاد: (وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان، وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى)]. هذا الحديث كل جملة منه علامة وآية من آيات النبي صلى الله عليه وسلم تدل على صدقه، وعلى أنه نبي جاء من عند الله جل وعلا، والأدلة على ذلك كثيرة جداً، والفائدة في مثل هذا أن الإنسان يزداد إيماناً وتصديقاً للنبي صلى الله عليه وسلم، ويقيناً بأنه جاء من عند الله، كلما زادت الآيات زاد إيمانه بذلك، فالذي ينبغي لمن يقرأ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته أن يزداد دائماً إيماناً ويقيناً بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وهو الذي جاء بالهدى، وهو الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، وأن كل ما أخبر به حق، وأن ما خالفه باطل مهما كان. هذا الحديث سيق لأجل الرد على من يزعم أن الشرك لا يقع في هذه الأمة بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا القول أو هذا الزعم حدث من أناس جهال في الواقع، جهلوا دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم بعدما جهلوا حق الله الذي أوجبه عليهم، فزعموا أن من قال: لا إله إلا الله فذلك يكفيه وإن عبد القبور، وطاف عليها، واستنجد بأصحابها، واستغاث بهم، فإنه لا يؤثر عندهم، فجاءوا بالمتناقضات؛ لأنهم لم يعرفوا التوحيد ولم يعرفوا حق الله عليهم، ولم يعرفوا دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، فجاءوا بالمتناقضات، قالوا: من قال: لا إله إلا الله لا يقع منه الشرك، وزعموا أن مجرد النطق بهذه الكلمة كافٍ، وزعموا أن هذا هو معنى أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم كقوله: (إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله). فلم يفهموا قوله: (يبتغي بذلك)، ولم يفهموا معنى لا إله إلا الله، وما علموا أن هذه الكلمة تهدم كل الشرك دقيقه وجليله وتبطله، وأن المشركين لما قيل لهم: قولوا: لا إله إلا الله فهموا ذلك، وعرفوا أن هذا يبطل مذهبهم وعبادتهم فقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:5]، فتحصل بهذه الكلمة التأله والعبادة لله وحده تعالى وتقدس، فهؤلاء لما جهلوا هذه الأمور الواجبة على كل إنسان جاءوا بالمتناقضات. والمشكلة أن لهم أتباعاً كثر، وأن كثيراً من الناس ينظر إليهم، ويقتدي بهم، فصاروا قدوة، وصاروا يعادون كل من جاء بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، ويريد أن ينقذ الناس من الهلكات ومن الشرك الذي وقعوا فيه، فيرمونه بتنقص الرسول وبغضه، وأنه شاذ، وخارج عن الأمة، وأنه يكفر الأمة، وما أشبه ذلك من العظائم التي يرمون بها من كان مقتفياً آثار الرسول صلى الله عليه وسلم، ويدعو بدعوته؛ وذلك لجهلهم وظلمهم وعنادهم واستكبارهم على الحق، ومن هنا تستحكم المصائب والبلايا، ويصبح كثير من الناس مغتراً بهم، فيتابعونهم، والواقع يشهد لهذا. هذا الحديث والآيات التي ذكرها المؤلف في أول الباب والحديث هو حديث أبي سعيد - دليل على جهل هؤلاء، وبطلان دعواهم.

وجوب التسليم لأخبار النبي صلى الله عليه وسلم

وجوب التسليم لأخبار النبي صلى الله عليه وسلم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله زوى لي الأرض) معنى (زوى) يعني: أنه جمعها فأصبحت أنظر إليها كأنها أمامي، أنظر إلى أقصاها وأدناها سواء، ولا يلزم أن تكون كل جزئية من الأرض أمامه ينظر إليها، وهذا من قدرة الله جل وعلا التي لا حدود لها، فهو على كل شيء قدير، ولا يجوز أن نقيد قدرة الله بالعقل أو بالفكر والنظر، وإذا كنا لا نستوعب ذلك ولا نستطيع أن ندركه بعقلنا لا نكذب به، بل هذا شأن الذين يعبدون عقولهم أو يكونون مغرورين بعقولهم ويقولون: إن الشيء الذي يخالف العقل يجب أن يرد. الرسل لا يأتون بشيء يخالف العقول، ولكنهم يأتون بأمور تحار فيها العقول ولا تدركه؛ لأن العقول قاصرة بالنسبة لأمر الله جل وعلا، وخلقه وتدبيره، وقدرته ومشيئته، وهذا نظير قول الرسول صلى الله عليه وسلم لما قام يصلي صلاة الكسوف بمسجده صلوات الله وسلامه عليه، وقال: (عرضت علي الجنة والنار دون هذا الحائط -يعني: دون حائط المسجد- فرأيت بعضها يحطم بعضاً، حتى خشيت أن تأتي عليكم، فقلت: يا رب! وأنا فيهم؟ -يعني: أنها تأكلهم وأنا فيهم- ثم عرضت علي الجنة يقول: فهممت أن آخذ منها قطفاً حينما رأيتموني تقدمت، ثم بدا لي ألا أفعل، ولو أخذت ذلك منها لأكلتم منه ما بقيت الدنيا) قطف يعني: عنقود عنب، عنقود واحد لو أخذه لأكلت منه الأمة ما بقيت الدنيا؛ لأن الذي في الجنة لا ينتهي، بل يتبدل، كلما يؤخذ منه شيء جاء مكانه غيره دائماً. وقال: (رأيت عمرو بن لحي الخزاعي يجر قصبه في النار -يعني: أمعاءه- لأنه أول من غير دين إسماعيل)، وقد كان رئيساً في العرب، ومات في الجاهلية قبل مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: (ورأيت امرأة في النار بسبب هرة حبستها حتى ماتت، لم تطعمها ولم تتركها تأكل من خشاش الأرض، فرأيتها تخمش وجهها في النار) وهذا أمر حقيقي، وكون الجنة والنار دون هذا الحائط شيء لا تستوعبه العقول، ولكن يجب أن نصدق به. ومثله الحديث الذي مر معنا في الدعوة إلى التوحيد، وقوله صلى الله عليه وسلم: (عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي فقيل لي: هذا موسى وقومه، ثم قيل لي: انظر إلى الأفق فرأيت وجوه الرجال قد سدت الأفق، ثم قيل لي: انظر إلى الأفق الآخر فرأيت وجوه الرجال قد سدت الأفق، فقيل لي: هذه أمتك، ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بلا حساب) فهذا العرض على ظاهره، ولكن ليست هي أعيان الناس بأنفسهم، الناس أموات في قبورهم. ومثل ذلك ما وقع له في قصة الإسراء والمعراج لما وصل إلى بيت المقدس، واجتمع بالأنبياء وصلى بهم، ثم لما صعد إلى السماء وجد كل نبيٍ في سماء من السماوات حسب منازلهم، وهذه أرواحهم لا إشكال في هذا، وهذه كلها أمور حق على ظاهرها، يجب أن نؤمن بها، ونصدق بها كما أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه صلوات الله وسلامه عليه إذا قال كلاماً باللغة التي يفهمها المخاطبون فإنه يبلغ عن الله جل وعلا، ولو لم يكن الظاهر هو المراد ما كان هناك تبليغ، ولا سأل السامعون وقالوا: هو هذا المعنى أو هناك غيره؟ فلما سكتوا وفهموا النص على ظاهره دل أن هذا هو المراد قطعاً بلا تردد، ولا يجوز أن يشكك في هذا الشيء.

من أعلام النبوة في حديث ثوبان

من أعلام النبوة في حديث ثوبان قوله: (إن الله زوى لي الأرض -جمعها- فرأيتها أمامي، أنظر إلى مشارقها ومغاربها) هذا محدود بدليل قوله: (وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها) وقد بلغ الملك في زمن الصحابة هذا الذي زوي منه، حتى وصلوا إلى حدود الصين شرقاً، ووصلوا إلى المحيط الأطلسي غرباً، وانتهى ملكهم إلى هذا الحد، ولم يذكر جهة الجنوب والشمال، ولهذا لم تتسع لا جنوباً ولا شمالاً، فإنه لم يتسع فيها ملك الأمة، وإنما اتسع من جهة الشرق والغرب. ثم قال: (وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض) الكنزان: هما كنز الدولتين العظيمتين في ذلك الوقت في زمنه، فكان في وقته دولة الروم ودولة الفرس، وكانت هاتان الدولتان تتناظران دائماً وتتقاتلان، ومرة تغلب هذه، ومرة تغلب هذه، وهما أعظم الدول في ذلك الوقت، وما في الأرض نظير لهما. قوله: (الأحمر والأبيض) يقول العلماء: الأحمر عبارة عن الذهب، وهذا يقصد به كنوز دولة الروم؛ لأن الغالب عليهم استعمال الذهب في أموالهم. وأما الأبيض: فهو كنوز دولة الفرس؛ لأن الغالب على أموالهم الجواهر والفضة، فوقع كما قال. وقد جاء في حديث آخر: (وإنهما سينفقان في سبيل الله) فأنفقت كنوز هاتين الدولتين في سبيل الله كما أخبر صلوات الله وسلامه عليه قبل وقوع ذلك. فهاتان الجملتان كل واحدة منهما تدل على صدقه صلوات الله وسلامه عليه، حيث أخبر بشيء لم يقع، فوقع كما أخبر تماماً. ثم قال: (وإني سألت ربي لأمتي ألا يهلكها بسنة بعامة، أو بسنة عامة) الباء هنا زائدة وتأتي للتأكيد، وإذا حذفت استقام المعنى، والسنة المقصود بها الجدب المهلك، أو العذاب المستأصل الذي يأتي عليهم جميعاً كما وقع للأمم السابقة مثل ثمود وعاد وقوم شعيب، وقوم لوط، وغيرهم ممن قص الله جل وعلا علينا قصصهم في كتابه، فأعطاه الله جل وعلا هذا، فقال: (إني لا أهلكهم في سنة عامة). وسأل ربه ألا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم. (من سوى أنفسهم) يعني: من الكفار، سأله ألا يسلط عليهم عدواً من الكفار فيستبيح بيضتهم، يعني: يستولي على معظم الأمة أو على جملتها، فيسبي نساءها، ويأخذ أموالها، ويقتل مقاتلتهم، فأعطاه الله جل وعلا ذلك، ولكن هذا مقدمة الشروط التي ذكرها بعد هذا.

قوله: (وألا يسلط بعضهم على بعض)

قوله: (وألا يسلط بعضهم على بعض) قوله: (وألا يسلط بعضهم على بعض) فهذه منعها؛ لأن الله جل وعلا قال: (يا محمد! إني إذا قضيت قضاءً فإنه لا يرد) وإن الله قضى أن يسلط بعضهم على بعض، وبهذا يستدل بأن ما قدره الله وقضاه لا يمكن تغييره، ولا يمكن تبديله، وأن الدعاء لا يؤثر في ذلك ولا يجدي. وأما ما جاء في بعض الأحاديث أنه: (لا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا صلة الرحم) أو قال: (إن الدعاء يرد القضاء، وإن صلة الرحم تزيد في العمر) فليس هذا كما قد يتبادر إلى ذهن الإنسان من أول وهلة، أنه إذا دعا زاد عمره بالدعاء، وإذا وصل رحمه زاد عمره بالصلة، فالمعنى: أن تقدير الله لا يتغير، وقد قال بعض العلماء: إن هذا معناه: أن الإنسان يكون أمامه تقديرين: تقدير مثلاً أنه يبلغ ثمانين سنة إذا وصل رحمه، وستين سنة إذا لم يصل رحمه، فإن وصلها بلغ ذلك، وإن لم يصلها لم يبلغ ذلك. وتقدير أنه يكون عليه كذا وكذا إن لم يدع، وإن دعا امتنع ذلك، وهذا غير صحيح؛ لأن هذا شأن الجاهل، والله علام الغيوب لا يخفى عليه شيء، ويعلم الذي يقع كيف يكون، وقد كتب كل شيء قبل وجود الخلق، كما جاء في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله كتب مقادير الخلائق قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء) وفي السنن والمسند من حديث عبادة أنه قال عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، فجرى في تلك الساعة ما هو كائن إلى يوم القيامة). فقوله (مقادير الأشياء) يعم كل شيء، وقوله في هذا الحديث: (أول ما خلق الله القلم فجرى في تلك الساعة ما هو كائن إلى يوم القيامة) يعم كل شيء، حتى حركة يد الإنسان ووضعها على وجهه أو على أي شيء، فلا يمكن أن أي حركة تحدث أو أي سكون إلا بمشيئة الله، وقد كتبت، فيكون المعنى: إن من الأشياء التي كتبت وقدرت وفرغ منها أن هذا الشخص يدعو ويكون عنده ابتهال وتضرع، ويكون هذا سبب زيادة عمره، فالدعاء نفسه من القدر. وكذلك هذا الواصل قد كتب في الأزل أنه يصل عمره، وتكون هذه الصلة سبباً لزيادة العمر، فلا يكون فيه إشكال في ذلك، ولا يكون كما قيل: هناك تقديران، فهذا شأن الجاهل الذي لا يعرف ما الذي يقع تعالى الله وتقدس عن ذلك، فعلى هذا قول الله جل وعلا في إجابته لرسوله: (إني إذا قضيت قضاءً فإنه لا يرد) على عمومه. كل شيء قضاه وكتبه في الأزل فإنه لا بد من وقوعه ولا يتغير. أما قول الله جل وعلا: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39] فقد ذكر العلماء فيها أقوالاً، وأصح ذلك قول أحدهم: إن هذا المحو والإثبات في صحائف الملائكة، التي يسجل بها عمل الإنسان في اليوم، فإذا صار آخر النهار يمحون الشيء الذي ليس فيه جزاء وليس عليه عقاب، يعني: لا يترتب عليه عقاب ولا ثواب، مثل: أعطني القلم خذ الكتاب أعطني الكأس وما أشبه ذلك، هذه تمحى، ويثبت الشيء الذي يكون فيه الجزاء، وكل هذا مقدر مكتوب، ولكن هذا محو في الصحائف؛ لأن الصحائف يسجل فيها أعمال الإنسان التي يجازى بها، ويوم القيامة إذا بعث يعطى كتابه ويقال له: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:14] يعني: حاسب نفسك أنت، انظر صحائفك صحيفتك التي سجلت عليك منذ بلغت إلى أن تموت، أين هذه الصحيفة؟ في أيدي الملائكة يحفظونها، قال الله: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:10 - 12]، {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:16 - 18]. فالملك يترقب أي لفظ تتلفظه ليسجله ويكتبه؛ وهما اثنان: واحد يكتب الحسنات، والآخر يكتب السيئات. يقول ابن رجب رحمه الله: اتفق السلف على أن الذي على اليسار هو الذي يكتب السيئات، والذي عن اليمين يكتب الحسنات، ولكن ليس في هذا نص، ولكن إذا اتفقوا على ذلك فلا بد أن يكون حقاً؛ لأن الأمة لا تتفق إلا على حق كما في هذا الحديث. فإذاً المحو الذي يذكر يكون في الصحائف، هذا قول. القول الثاني: أن المحو يكون في الشرائع التي ينسخها الله جل وعلا، يقول ابن أبي العز في شرحه للطحاوية: إن هذا القول هو الراجح، وهو الصحيح، وهو الذي تدل عليه الآيات وسياقها، وهو أن الإثبات والمحو في الشرائع التي يشرع الله ما يشاء منها، وينسخ ما يشاء، فلا يوجد فيه إشكال حيث إنه ليس من أمور القدر. أما قوله جل وعلا: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [فاطر:11] فقد قالوا: المعنى: ما يعمر من معمر ولا ينقص من عمر معمر آخر -غير هذا المعمر- إلا في كتاب، وليس معنى ذلك أن الأعمار يزاد فيها وينقص منها، فهذا مثل قولك: عندي دينار ونصفه، فالنصف الذي أعدت الضمير فيه على الدينار نصف آخر، غير نصف الدينار الأول؛ لأن عندك ديناراً كاملاً ونصفه، يعني: نصف دينار آخر؛ فيكون هذا معناه: ما يزاد عمر معمر، وينقص من عمر معمر آخر إلا في كتاب، يعني: هذا مكتوب ومفروغ منه فلا يكون فيه زيادة ونقص، ويدل على هذا ما في صحيح مسلم عن أم حبيبة أنها قالت: (اللهم متعني بزوجي رسول الله وبأخي معاوية وبأبي أبي سفيان، فقال: لقد سألت الله لآجال مضروبة لا يزاد فيها ولا ينقص، ولو قلت: اللهم اغفر لي وارحمني لكان أنفع) والله جل وعلا يقول: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34] {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [المنافقون:11] الأجل لا يؤخر ولا يقدم فالآجال مفروغ منها، وهذا هو الصحيح الذي تدل عليه النصوص، وبذلك تتفق النصوص، وليس فيها أي اعتراض مخالف، ولكن يجب أن يفهم مراد الرسول صلى الله عليه وسلم، فقوله: (إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد) يعني: أنه جل وعلا قضى أن بأس هذه الأمة يكون بينها، وأنه إذا وقع فيهم السيف فإنه لا يرفع إلى يوم القيامة، وقد وقع السيف بقتل الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، فبقي في الأمة وسيستمر إلى يوم القيامة، فالقتال موجود في الأمة من ذلك اليوم إلى يوم القيامة كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا من القضاء الذي لا يرد، ولكنه قد يقل وقد يكثر، وقد يكون في جهة دون أخرى، والذي يقرأ التاريخ يعلم ذلك يقيناً كيف يعني هذا، وسيكثر أيضاً ويزيد في آخر الزمان، حتى يأتي زمان يقتل فيه الإنسان وما يدري على أي شيء يقتل؛ لكثرة الفتن والأهواء.

شرط تسليط الأعداء على الأمة

شرط تسليط الأعداء على الأمة قوله في الغاية: (حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً، وحتى يكون بعضهم يسبي بعضاً) يعني: أن الهلاك مغياً بهذه الغاية، فإذا بدأ ذلك فإنه يأتي ما كتبه الله، ويدل على أن عدم التسليط إذا لم يكن بعضهم يقاتل بعضاً، أما إذا قاتل بعضهم بعضاً فيجوز أن يسلط الله عليهم عدواً، كما هو الواقع، فكلما حصل بين المسلمين خلاف سلط الله عليهم عدواً فأخذ بلادهم وقتلهم، ومن يقرأ التاريخ وينظر فيه يرى العجائب، فالأندلس ذهبت وأصبحت ليس فيها مسلم، محيت نهائياً بعدما كانت دولة كبيرة وفيها من المسلمين والعلماء والصناع والفقهاء والكتاب الشيء الذي عرف وملأ الدنيا، ثم لما صار كل بلد فيها أمير أو خليفة أصبح بعضهم يقاتل بعضاً، فجاءهم العدو واستباح بيضتهم وأهلكهم، ووضعت المحاكم التي يسمونها محاكم التفتيش، يعني: كل إنسان تبين أن عنده شيء من الدين يقتل؛ فانمحى الدين الإسلامي من الأندلس نهائياً، وإلى الآن وهي بيد الكفار. وكذلك لما كان الخلفاء كل واحد يغير على الآخر، وكل واحد يقتل الآخر؛ سلط الله عليهم التتار فقتلوا الفقهاء والكبراء والعلماء والخليفة وغيرهم، بدءوا بالعلماء. وقد ذكر ابن الأثير في تاريخه ما حصل من التتار، وقتلهم للمسلمين، وقال: لقد ترددت كثيراً هل أكتب ذلك أو لا أكتبه، فإن النفس لم تقدم على ذلك؛ لما فيه من الأمور التي تدمي الكبد، ولكن لا بد من تسجيل التاريخ، وذكر أنهم قتلوا في يوم واحد ثلاثة ملايين في بغداد! حتى أصبحت الخيل تمشي على الجثث والدماء تصل إلى ركب الخيل، وأخذوا الكتب من مكتبات المسلمين وألقوها في النهر حتى أصبح ماء النهر متغيراً من الحبر، فعاثوا في الأرض فساداً، شيء عظيم جداً، مقتلة ما صار مثلها، ثم استمر القتل حتى فسد الهواء، فصاروا يموتون موتاً ذريعاً، وتركوا البلاد وقد أخربوها. ثم عادت الكرة مرة أخرى، وجاءوا إلى دمشق في وقت تيمور الأعرج الخبيث الظالم العنيد الذي جاء من سمرقند، فصنع فيها كما صنع التتار، وحصلت أشياء كثيرة، ولكن ليس معنى هذا أنه يقضى على الأمة نهائياً، لا بد أن يبقى فيها طوائف، غير أنه قد يقضى على معظمها، فإذا قتل الخليفة وقتل جنوده وقتل العلماء وقضي على بلاد الخلافة، فتبقى الأمور ضعيفة، ويكون المسلمون في ارتباك وخوف شديد. فالمقصود: أن ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم وقع كما أخبر صلوات الله وسلامه عليه. ثم قوله بعد هذا: (وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين) الأئمة يقصد بهم العلماء والأمراء، هؤلاء هم الأئمة، وإذا صلح العلماء والأمراء فالناس تبع لهما، وإذا فسد هذان الصنفان فالناس كلهم يفسدون، وهؤلاء هم الأئمة الذين يؤتم بهم ويقتدى بهم، وإذا كانوا ضالين فالناس يضلون تبعاً لهم.

لا تقوم الساعة حتى يلحق فئام من الأمة المشركين

لا تقوم الساعة حتى يلحق فئام من الأمة المشركين قال عليه الصلاة والسلام: (وإنها لا تقوم الساعة حتى يلحق فئام من أمتي بالمشركين) هذا هو الشاهد من الحديث، والفئام: هي القبائل، ومعنى إلحاقهم بالمشركين: إما أنهم يدخلون في دينهم، ويرتدون وإن كانوا في بلادهم، أو أنهم يذهبون إلى المشركين في بلادهم ويكونون معهم، ومن تتبع الأحوال ونظر سيجد الأمرين قد وقعا، ويقعا. والمقصود بهذا أنها تحصل الردة، فالرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن ناساً يرتدون عن دينهم، والرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بالواقع. (وحتى تعبد قبائل من هذه الأمة الأوثان)، الوثن لا يشترط أن يكون نصباً منصوباً على صورة شخص أو صورة حيوان، كل ما عبد من دون الله فهو وثن، والعبادة: اسم جامع لكل ما أمر الله جل وعلا به وأحبه ورضيه، فمن صرف شيئاً منها لمخلوق من المخلوقات فقد جعل ذلك الشيء وثناً أو صنماً يعبد. وقد جاء في الصحيحين: (لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة)، وذو الخلصة صنم قديم في الجاهلية في بلاد دوس، وهذا خبر صحيح ولا بد من وقوعه، وربما يبعث مرة أخرى ويقع كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وكل هذا يكذب قول من ينفي الشرك في هذه الأمة، ويستدل بحديث: (إن الشيطان أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم)، والمعنى الصحيح: أن الشيطان يئس أن تعود جزيرة العرب جاهلية كما كانت قبل البعثة، فإن هذا لا يكون بإذن الله، ولكن ليس معنى ذلك أنه لا يقع فيها الشرك.

لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق منصورة

لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق منصورة قوله: (وإنه لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك) يقول العلماء: الطائفة يصح أن تطلق على جماعة، وهذه الجماعة قد تكون كثيرة، وقد تكون قليلة، وقد تكثر مرة، وقد تقل أخرى، ويقول النووي في شرحه لهذا الحديث في صحيح مسلم: يجوز أن تكون هذه الجماعة مختلفة الاتجاهات والأعمال، بين شجاع يقاتل في سبيل الله، وبين تاجر ينفق في الدعوة إلى الله، وبين فقيه يعلم الناس وينشر دين الله، وداعية يدعو إلى الحق إلى غير ذلك، ويجوز أن يكونوا مجتمعين، ويجوز أن يكونوا متفرقين، ويجوز أن يكونوا في قطر واحد، ويجوز أن يكونوا في أقطار مختلفة، وأن يقلوا ويكثروا، هذا معنى كلام النووي رحمه الله، وهذا هو الصواب الذي يدل عليه الحديث. أما ما جاء في بعض الروايات: (أنهم في الشام) كما جاء في رواية معاذ، وهي في صحيح البخاري، فإن هذا لا يلزم منه أن يكونوا في الشام دائماً، ولكن يكونون في وقت دون وقت، والواقع يشهد لهذا، والشام يطلق على البلاد المعروفة الآن بالأردن ولبنان وفلسطين وسوريا وبعض أجزاء من تركيا، كلها كان يطلق عليها الشام. وقد جاء في بعض الروايات: (أن هذه الطائفة في فلسطين)، فيكون ذلك في وقت من الأوقات، ومعروف الآن أن فلسطين فيها اليهود، وهم أشر عباد الله وأشر خلق الله، ولكن سيأتي يوم من الأيام يكون فيها الموحدون الذين يقتلون اليهود، ويكون ذلك في آخر الزمان، والله أعلم متى يكون.

الدجالون في هذه الأمة

الدجالون في هذه الأمة قوله: (وإنه سيكون في هذه الأمة ثلاثون كذابون، كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي) المقصود بالثلاثين الذين يكون لهم قوة وأتباع ودعوة، وإلا فلو تتبع من ادعى النبوة لبلغوا آلافاً وليس ثلاثين، ولكن بعضهم يكون مريضاً، وبعضهم يصاب بشبه جنون فيدعي النبوة، ولكن المقصود الذين صار لهم سلطة، وصار لهم أتباع وقوة مثل: الأسود العنسي الذي خرج في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فقتل قبل موته صلوات الله وسلامه عليه، وقد جاء إليه أبو مسلم الخولاني فقال له: أتشهد أني نبي؟ قال: لا أسمع، قال: أتشهد أن محمداً نبي؟ قال: نعم، فأمر أن يلقى في نار، فلم تضره النار، فخرج منها كأن لم يكن هناك نار! وهو من التابعين وليس من الصحابة، ولما قدم على عمر رضي الله عنه في خلافته قال: الحمد لله الذي جعل في أمة محمد مثل إبراهيم الخليل، ألقي في النار فلم تضره، ثم سلط الله جل وعلا على الأسود رجلاً من أهله فقتله. وكذلك مسيلمة الكذاب، خرج وصار له أتباع وصار له قوة، وحصلت معركة هائلة بينه وبين الصحابة، قتل فيها من حفظة القرآن سبعون قارئاً، وكان هذا هو السبب في جمع أبي بكر للقرآن؛ خوفاً أن يكثر القتل في القراء فيذهب شيء منه، فجمعوه وكتبوه في الصحف. وكذلك خرج طليحة الأسدي في بني أسد، وزعم أنه نبي وتبعته قبيلته، وصار قتال بينه وبين الصحابة فانهزم، ثم بعد ذلك تاب، وقتل شهيداً في وقعة نهاوند. وبعد ذلك خرج المختار بن أبي عبيد الثقفي، خرج في البصرة وفي الكوفة، فأول أمره خرج نصرة للحسين رضي الله عنه، ففرح الناس به، وتبعه خلق على ذلك، وتتبع قتلة الحسين فقتل أكثرهم، ثم بعد ذلك زعم أنه نبي، وأن جبريل يأتيه ويكلمه، فقاتله مصعب بن الزبير حتى قتله. ثم كذلك الحارث في زمن عبد الملك خرج وصار له أتباع فقتل. ثم تتابعوا إلى أن جاء القادياني الخبيث الذي ادعى أنه نبي، وله أتباع إلى اليوم في أنحاء الأرض، ولهم دعوة، وما يقرب من أربعين مجلة يصدرونها دعوة لدينهم، وعندهم أموال، وعندهم دعاة، ويفسرون القرآن على حسب رأيهم، ويعتقدون أن سيدهم نبي، ولا يشك مسلم أن هذه ردة وكفر وتكذيب بالقرآن. ثم لا ينتهي الأمر، فيكون آخر من يدعي النبوة الكذاب الأكبر الدجال الذي حذرنا النبي عليه الصلاة والسلام منه، ومن الأمور العجيبة التي تدل على استهانة الكذابين بأمر الله، والضحك على الناس في أديانهم أن رجلاً خبيثاً خرج وسمى نفسه (لا) قال: أنا لا، ثم بعد ذلك ادعى النبوة، وقال: قد أخبر عني الرسول فقال: (لا نبي بعدي)! ونظير ذلك أن امرأة خرجت وادعت النبوة، فلما قيل لها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر أنه لا نبي بعده، والله جل وعلا يقول: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40] قالت: ولكنه لم يقل: لا نبية بعدي، أنا نبية، وهو أخبر أنه لا يكون بعده نبي، سخافات واستهانة بعقول الناس وأديانهم إلى هذا الحد! وليس معنى هذا كما يقول بعض الأدباء: هذه من الطرائف، هذه ما هي طرائف، هذا كفر واستهانة بأمر الله جل وعلا وبدينه وبأديان الناس وعقولهم وأفكارهم، وهذا العدد الذي أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم المقصود به من يأتي ويظهر ويكون له قوة. والمسيح الدجال سيكون هو آخر الكذابين، وهو أعظم الكذابين لماذا؟ لأنه أول ما يخرج يزعم أنه مصلح، وأنه يريد أن يقضي على الظلم والظلمة، فإذا تمكن من ذلك ادعى النبوة، وقال: أنا نبي، فيتركه كثير ممن كان يتبعه، ولكن من يفتن به أكثر، ثم بعد ذلك يتمادى به الأمر ويقول: أنا رب العالمين، ويكون عنده كثير من الفتن والأمور العظيمة حتى إنه يقول للأرض: أنبتي، ويقول للسماء: أمطري، فيحصل ذلك، ويأتيه الرجل ويقول له: إذا أحييت أباك وأمك أتؤمن بأني ربك؟ فيقول: نعم، فيتمثل له شيطانان: واحد بصورة أمه، والآخر بصورة أبيه، فيقولان له: يا بني! آمن به فإنه ربك؛ ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا سمعتم به فانئوا عنه، فإن الرجل يأتيه واثقاً من نفسه فلا يزال حتى يتبعه)، بسبب الفتن التي يرى، حتى يكون متبعاً له، وهو رجل من بني آدم، وعينه اليمنى عوراء مطموسة كأنها عنبة طافية، ومكتوب على جبهته كافر، ولكن هذا يقرؤه المؤمنون، وأكثر الناس لا يقرءونه، فهو يأتي بفتن عظيمة يمر على القوم ويردون دعوته فيمحلون، ويمر على القوم فيؤمنون به، فتغدق عليهم الدنيا، ولشدة فتنته أمرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أن نستعيذ من فتنته في كل صلاة، وأخبر أن كل نبي حذر أمته من المسيح الدجال، وأنه خارج في هذه الأمة ولا محالة؛ لأنه ليس بعد هذه الأمة أمة. ونزول عيسى عليه السلام لا ينافي قوله صلى الله عليه وسلم: (لا نبي بعدي)؛ لأن عيسى وإن كان رسولاً فإنه ينزل حاكماً بهذا الشرع، فهو من هذه الأمة، بل هو أفضل هذه الأمة على الإطلاق، وقد صحت الأحاديث وتواترت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (سينزل فيكم ابن مريم ويضع الجزية، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير) يعني أنه لا يقبل إلا الإسلام، وهو الذي يقتل الدجال. وقوله: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك)، فيه بشارة أن الحق لا يزول ولا يضمحل، بل لا بد أن تبقى أمة تقاتل على الحق، وتدعو إليه ولا يضرهم المخالف ولا الخاذل، الخاذل يكون منهم على دينهم وعلى ملتهم ولكنه يخذلهم، بمعنى أنه لا يساعدهم ولا يناصرهم، أما المخالف فليس على نهجهم، ولا يضرهم لا هذا ولا هذا، وقوله: (حتى يأتي أمر الله) لا يخالف ما جاء في صحيح مسلم أنها: (لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق)، وفي رواية: (حتى لا يقال في الأرض: الله الله) يعني أنه لا يذكر الله أصلاً، شرار الناس هم الذين يبنون على القبور والذين تدركهم الساعة وهم أحياء؛ ولهذا لما روى عبد الله بن عمرو كما في الصحيح حديث: (تأتي ريح فتقبض روح كل من في قلبه إيمان، فيبقى الناس يتهارجون تهارج الحمر، فعليهم تقوم الساعة، فقال له أحد الصحابة: اعلم ما تقول! أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة)، فقال له: إن قيام الساعة المقصود به ساعتك، يعني: هذه الريح، وهذا هوالصواب، فليس في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم منافاة.

معنى قوله: (إن الله زوى لي الأرض)

معنى قوله: (إن الله زوى لي الأرض) قال الشارح رحمه الله: [ولـ مسلم إلخ. هذا الحديث رواه أبو داود في سننه، وابن ماجه بالزيادة التي ذكرها المصنف. قوله: عن ثوبان هو مولى النبي صلى الله عليه وسلم، صحبه ولازمه، ونزل بعده الشام، ومات بحمص سنة أربع وخمسين. قوله: (زوى لي الأرض) قال التوربشتي: زويت الشيء جمعته وقبضته، يريد تقريب البعيد منها حتى اطلع عليه اطلاعه على القريب، وحاصله أنه طوى له الأرض، وجعلها مجموعة كهيئة كف في مرآة ينظره، قال الطيبي: أي: جمعها حتى بصرت ما تملكه أمتي من أقصى المشارق والمغارب منها. قوله: (وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها) قال القرطبي: هذا الخبر وجد مخبره كما قال، وكان ذلك من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، وذلك أن ملك أمته اتسع إلى أن بلغ أقصى طنجة ـ بالنون والجيم ـ الذي هو منتهى عمارة المغرب، إلى أقصى المشرق مما هو وراء خراسان والنهر، وكثير من بلاد السند والهند والصغد، ولم يتسع ذلك الاتساع من جهة الجنوب والشمال، وذلك لم يذكر عليه السلام أنه أريه، ولا أخبر أن ملك أمته يبلغه. قوله: (زوي لي منها) يحتمل أن يكون مبيناً للفاعل، وأن يكون مبنياً للمفعول. قوله: (وأعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض) قال القرطبي: عنى به كنز كسرى وهو ملك الفرس، وكنز قيصر وهو ملك الروم، وقصورهما وبلادهما، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده! لتنفقن كنوزهما في سبيل الله)، وعبر بالأحمر عن كنز قيصر؛ لأن الغالب عندهم كان الذهب، وبالأبيض عن كنز كسرى؛ لأن الغالب عندهم كان الجوهر والفضة، ووجد ذلك في خلافة عمر، فإنه سيق إليه تاج كسرى وحليته، وما كان في بيوت أمواله وجميع ما حوته مملكته على سعتها وعظمتها، وكذلك فعل الله بقيصر، والأبيض والأحمر منصوبان على البدل].

عدم هلاك هذه الأمة بسنة بعامة

عدم هلاك هذه الأمة بسنة بعامة قال الشارح رحمه الله: [قوله: (وإني سألت ربي لأمتي ألا يهلكها بسنة بعامة) هكذا ثبت في أصل المصنف رحمه الله (بعامة) بالباء، وهي رواية صحيحة في صحيح مسلم، وفي بعضها بحذفها، قال القرطبي: وكأنها زائدة؛ لأن عامة صفة السنة، والسنة الجدب الذي يكون به الهلاك العام، ويسمى الجدب والقحط: سنة، ويجمع على سنين كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ} [الأعراف:130] أي: الجدب المتوالي. قوله: (من سوى أنفسهم) أي: من غيرهم من الكفار من إهلاك بعضهم بعضاً، وسبي بعضهم بعضاً كما هو مبسوط في التاريخ فيما قبل، وفي زماننا هذا نسأل الله العفو والعافية. قوله: (فيستبيح بيضتهم) قال الجوهري: بيضة كل شيء حوزته، وبيضة القوم ساحتهم، وعلى هذا فيكون معنى الحديث: إن الله تعالى لا يسلط العدو على كافة المسلمين حتى يستبيح جميع ما حازوه من البلاد والأرض، ولو اجتمع عليهم من بأقطار الأرض وهي جوانبها، وقيل: بيضتهم معظمهم وجماعتهم وإن قلوا. قال المصنف رحمه الله في شرح حديث ثوبان: قوله: (حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً)، والظاهر أن حتى عاطفة أو تكون لانتهاء الغاية، أي: أن أمر الأمة ينتهي إلى أن يكون بعضهم يهلك بعضاً، وقد سلط بعضهم على بعض كما هو الواقع، وذلك لكثرة اختلافهم وتفرقهم. قوله: (وإن ربي قال: يا محمد! إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد) قال بعضهم: أي: إذا حكمت حكماً مبرماً نافذاً فإنه لا يرد بشيء، ولا يقدر أحد على رده كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا راد لما قضيت)].

الاختلاف أساس كل شر

الاختلاف أساس كل شر من المعلوم أن الاختلاف هو أساس كل شر؛ ولهذا يمتنع استباحة الكفار للمسلمين حتى يقع الاختلاف بينهم، فإذا وقع فإنه يجوز أن يهلكوا عموماً، فالاختلاف محرم في كتاب الله جل وعلا وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وليس المراد بالاختلاف هنا الاختلاف في الفهوم، الفهم لا يمكن أن يتفق، الاختلاف هنا اختلاف مذموم محرم مكروه عند الله جل وعلا ورسوله، والاختلاف المباح هو الذي يكون في الفهوم، في فهم النصوص مثلاً؛ لأن النصوص فيها مجال للفهم والاختلاف في مناص الحكم، فمثلاً قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة)، قد يقول بعض العلماء: هذا النهي وهذا القول يدل على أنها إذا أقيمت الصلاة بطلت كل صلاة تلبس بها المصلي، ويقول آخر: لا، ليس هذا معناه، بل معناه: أنها إذا أقيمت الصلاة فلا يجوز أن يدخل في صلاة جديدة، أما إذا كان في صلاة فيكملها؛ لأن الله جل وعلا يقول: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33]، مثل هذا الاختلاف لا بأس به، وهذا الذي يكون بين الفقهاء وبين العلماء؛ لأن كل واحد يتمسك بالنص، ويقول: المراد به كذا وكذا. أما الاختلاف الذي يحدث العداوة، ويحدث التفرق، ويحدث بعد ذلك التدابر ثم التباغض ثم التقاتل؛ فهذا هو الذي إذا حدث أصيبت الأمة بتسليط الأعداء عليها؛ لأن بعضهم سلط على بعض أولاً، وإذا حدث شيء من ذلك فعلى الإنسان أن يصبر، ويحاول تلافي هذا الشيء بكل ما يستطيع، ولا يضرم النيران، ولا يزيد الاختلاف فيصبح مثلاً يغري الذين لا يكون عندهم علم، ومن كان عندهم من الغرور ما يحدوهم إلى التمادي في هذا الباطل، ولا يجوز له أن يتمادى معهم، يجب أن يتلافى الأمر بكل ممكن، ولا يكون شريكاً لهؤلاء، يقول الله جل وعلا: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] وحبل الله هو كتابه أو دينه، ما دام المؤمنون نهجهم وعقيدتهم وهدفهم واحداً فالفهوم لا يجوز أن تكون مجالاً للتنافر والتباغض، ولا يمكن أن يكون فهم هذا كفهم هذا، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (مثلي ومثل ما بعثني الله جل وعلا به كمثل غيث أصاب أرضاً، فكان منها أرضاً طيبة قبلت الماء وأنبتت الكلأ، فرعى الناس وانتفعوا، وكان منها طائفة قيعان لا تنبت الكلأ، ولكنها أمسكت الماء، فورد الناس وارتووا وانتفعوا، ومنها أجادب لا تمسك ماءً، ولا تنبت كلأ) فجعل الناس بالنسبة للوحي ثلاثة أقسام: قسم: أهل فقه وأهل علم يستطيع أن يستنتج من النص ما لا حصر له من الأحكام، وهذا الذي مثله بالأرض الطيبة التي تنبت الماء، وتنبت الكلأ الكثير. وقسم آخر: ليس عنده فقه، ولكن عنده حفظ يحفظ النصوص فينتفع الناس بحفظه. وقسم ثالث: لا حفظ عنده ولا فهم ولا فقه، مثل الأعراب ليس لهم اهتمام بأمر الدين، فهؤلاء مثل السباخ التي ينزل عليها المطر ويزيدها دحضاً وأذىً للناس، لا تنبت كلأ ولا تمسك ماء.

من أدب الخلاف

من أدب الخلاف ينبغي للإنسان أن يفهم عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، أما أن يقصد بخلافه أن يظهر على الناس، وأن يشار إليه، وأن يقال: فلان عالم أو فلان مجادل أو أنه يستطيع أن يغلب فلاناً ويرد على فلان فلا، فهذه الحالة السيئة تدخل في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من طلب العلم ليماري به السفهاء، ويجاري به العلماء فله النار) نسأل الله العافية. فينبغي أن يكون القصد من الخلاف الإظهار للحق، ولا يجوز أن يكون مثاراً للبغضاء والتفرق، بل يجب على الإنسان إذا أرشد ونبه على معنى من معاني النصوص أن يشكر من نبهه وأرشده على هذا، وأن يكون هذا داعياً للتقارب والصلة والمحبة، ولا يكون داعياً للتنافر، ومن الأسف أن بعض طلبة العلم إذا نبه على شيء وقيل له: إن معنى هذا كذا وكذا، أو أنك في قولك كذا وعمل كذا قد أخطأت معنى النص، أو أخطأت كذا وكذا؛ أصبحت المسألة عداوة، وأصبح يعاديك ويبغضك؛ لأنك نبهته! فهو يريد أن يكون أعلم منك وفوقك، وكأنه يتصور في نفسه أنه هو الكامل، وليس هذا خلق طلبة العلم، هذا مسلك الجهلة الظلمة الذين يريدون العلو في الأرض. والمقصود أن دواعي الخلاف ليست هي نصوص الكتاب والسنة، بل نصوص الكتاب والسنة تدعو إلى الاتفاق، وإلى التواد والتراحم (والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)، أما إذا لم يسلم المسلمون من لسانه أو من يده فإسلامه غير مستقيم، ومستقل من ذلك ومستكثر. وأما كون الإنسان يريد بيان الحق وإيصاله إلى الناس، فبيان الحق له أسلوب وله طريق قد بينه الرسول صلى الله عليه وسلم، وبينه الله جل وعلا في كتابه، ومعلوم أنك إذا أردت دعوة إنسان وأتيته بالعنف والازدراء والسخرية وما أشبه ذلك فإنه يزداد بعداً منك، ونفوراً عن قولك، ويحاول أن يرد كلامك عليك، فيجب أن يكون هدف الإنسان من كلامه شيئين: أحدهما: أداء الحق الواجب عليه، فإن الله جل وعلا أخذ على العلماء أن يبينوا لمن لا يعرف، وأخبر أن الذي يكتم العلم ملعون، وأن الله يلعنه، والملائكة تلعنه، والدواب تلعنه، وكل لاعن يلعنه. الثاني: رحمة الناس وطلب هدايتهم؛ لأن المسلم أخو المسلم، يجب عليه أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ولا يكون له مقصد آخر فيهلك، فهذا الذي يكون له نصيب من قول الله جل وعلا: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]، الرسول صلى الله عليه وسلم كان يأتي إلى الكافر ويقول له: يا أبا فلان! ألا تسمع مني، هكذا يقول، يكنيه بكنيته ويقول: ألا تسمع مني؟ ما يقول له: قف أكلمك! وأنت كذا وكذا، وليس معنى ذلك أنه يوده، إن هذه هي الطريقة للسماع، ولإيصال الحق للناس، فالنفوس جبلت على أنها لا تقبل ممن ينتقصها ويزدريها، بل تزدريه وتتنقصه، وربما زاد الأمر فوق ما يتصوره هو، وهذا شيء يقع فيه كثير ممن يتصدى للدعوة والبيان؛ إما لأنه لم يصل في العلم إلى الدرجة التي يجب عليه أن يصل إليها، وإما لسوء نية وطوية عنده، وإما لغير ذلك من الآفات التي تعترض الإنسان. فعلى الإنسان أن يتقي ربه، وألا يكون سبباً في خلاف الأمة، سواء كانت الأمة التي تختلف بسببه كثيرة أو قليلة. [قوله: رواه البرقاني في صحيحه، هو الحافظ الكبير أبو بكر أحمد بن محمد بن أحمد بن غالب الخوارزمي الشافعي، ولد سنة ست وثلاثين وثلاثمائة، ومات سنة خمس وعشرين وأربعمائة، قال الخطيب: كان ثبتاً ورعاً، لم نر في شيوخنا أثبت منه، عارفاً بالفقه، كثير التصانيف، صنف مسنداً ضمنه ما اشتمل عليه الصحيحان، وجمع حديث الثوري وحديث شعبة وطائفة. وهذا الحديث رواه أبو داود بتمامه بسنده إلى أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله ـ أو قال: إن ربي ـ زوى لي الأرض، فأريت مشارق الأرض ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوى لي منها، وأعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي ألا يهلكها بسنة عامة، ولا يسلط عليهم عدواً سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال لي: يا محمد! إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني لا أهلكهم بسنة عامة، ولا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بين أقطارها ـ أو قال: بأقطارها ـ حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً، وحتى يكون بعضهم يسبي بعضاً، وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، وإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى يلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان، وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق -قال ابن عيسى: ظاهرين، ثم اتفقا- لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله تعالى)].

قضاء الله لا يرد

قضاء الله لا يرد قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله جل وعلا يقول: يا محمد! إني إذا قضيت قضاءً فإنه لا يرد)، قال بعضهم: إن هذا القضاء إذا كان قضاءً مبرماً، وهذا ليس صحيح، فالقضاء الذي يقضيه الله جل وعلا كله لا يرد، كل قضاء يقضيه ليس له راد، فلا راد لما قضى جل وعلا، وكل شيء يقع في الكون قد قضاه الله جل وعلا؛ لأن الله كتب مقادير الأشياء قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، ومقادير الأشياء تعم كل شيء {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد:8]، وقد أخبر جل وعلا: أنه ما تسقط من ورقة من شجرة ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب، والكتاب هذا هو الكتاب الذي كتبه جل وعلا قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وليس فيه زيادة ولا نقص. وفي هذا الكتاب أهل الجنة بأسمائهم وأسماء آبائهم وأسماء قبائلهم، وأهل النار كذلك ما يزاد عليهم واحد، ولا ينقص منهم واحد، فكل شيء قد كتب وانتهى ولا يرد ذلك، ثم لا يتصور الإنسان أن معنى هذا أنه مجبر على الشيء، مقهور عليه؛ لأن هذا غيب، والله أمر الخلق بأن يعملوا ويجتهدوا ويحرصوا على الخير، فهم لا يعرفون الكتاب؛ فالإنسان لا يعرف ماذا كتب عليه، ومع ذلك لا يعمل شيئاً إلا وقد كتب، كل شيء يعمله مكتوب لا يمكن أن يخرج عن هذه الكتابة؛ لهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك ولا تعجزن، فإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، فإن (لو) تفتح عمل الشيطان، ولكن قل: قدر الله، وما شاء فعل). فأخبر صلى الله عليه وسلم أن المؤمن القوي في إرادته وفي عمله أحب إلى الله، وأنه أكثر خيراً من المؤمن الضعيف الكسلان؛ لأن خيريته في العمل، ثم أرشد صلى الله عليه وسلم إلى الشيء الذي ينفع فقال: (احرص على ما ينفعك)، والحرص هو بذل الوسع والاجتهاد بالطلب حتى لا يترك شيئاً، (احرص على ما ينفعك ولا تعجزن) لا تقل: إذا كان المكتوب علي كذا وكذا فلا فائدة، لأن الكتابة حصلت لكل شيء، الأسباب والمسببات كتبت، وأنت أمرت بالعمل، فعليك أن تمتثل الأمر وتجتهد، فإن بذلت السبب واجتهدت ثم لم تتحصل على النتيجة المطلوبة فهنا لا تلوم نفسك، ولا تلوم القدر وتقول: لو أني فعلت كذا وكذا، ولا فائدة في هذا، هذا فيه تحسر، وفيه ميل إلى ما يريده الشيطان، وهو التأفف والحسرة، ثم بعد ذلك يكره الواقع ويبغض ما وقع له، وإنما على الإنسان أن يعلم أن هذا شيء مقدر لا يمكن أن يرد، ولا يمكن أن يقع خلافه ولو عمل أي عمل. والمقصود: أن الكتابة السابقة لا تنافي العمل ولا تنافي الحرص، فإن كل شيء مكتوب، والله جل وعلا قد علم من هذا المخلوق أنه سيوجد، وسيكون عنده ميل إلى الباطل ومحبة له وبغض للحق، وعدم إرادة له، فكتب ذلك فوقع على وفق كتابته، ويعلم أن هذا المخلوق الآخر عنده حب للحق وكراهية للباطل، وعمل للحق وإرادة له، فكتب ذلك فوقع كما كتب {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:5 - 10]، وقال عليه الصلاة والسلام: (كل ميسر لما خلق له) يعني: أن العمل الذي يكتسب به الخير يسهل عليه وتتيسر له أسبابه، ومن ذلك الاجتهاد، وإذا اجتهد لا يلوم الإنسان نفسه، بخلاف إذا فرط فإن اللوم عليه؛ ولهذا قال بعض السلف لما ليم بكثرة الاجتهاد: سوف لا أدخر شيئاً من اجتهادي حتى لا أندم إذا ألقيت في النار، فأقول: قد بذلت ما أستطيع، فلا أندم على نفسي، وإن كان في الجنة فلن يضيع الله عمله واجتهاده، وسوف يرفع درجة. ثم وقت الإنسان قصير، فعلى الإنسان أن يتأمل ما ذكره الله جل وعلا عن الساعة، أخبر أنها كلمح البصر أو هي أقرب، فأخبر جل وعلا عن المجرمين أنهم يقسمون ويحلفون بالله أنهم ما لبثوا غير ساعة، هل نسوا؟ ما نسوا، هم يعرفون أنهم لبثوا في الدنيا كذا وكذا، ولكن هي كأنها ساعة فقط أو أقل من الساعة كلمح البصر، فلا يجوز أن يذهب هذا الوقت القصير الذي سوف ينسى في اكتساب السيئات والقرب إلى النار، يجب أن يجتهد الإنسان، ويكتسب بهذه السويعات القليلة رضا الله والسعادة الأبدية، ويحرص على ما ينفعه، ولا يعجز كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث كما يقول ابن القيم: يجب أن يتعلمه كل مسلم وأن يعمل به، فإن كل واحد مضطر إليه ضرورة، (احرص على ما ينفعك ولا تعجزن)، وكل نقص يأتي في الإنسان فهو من عدم العمل بهذا الحديث.

حديث: (تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين)

حديث: (تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين) قال الشارح رحمه الله: [قوله: وروى أبو داود أيضاً عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين أو ست وثلاثين أو سبع وثلاثين فإن يهلكوا فسبيل من هلك، وإن يقم لهم دينهم يقم سبعين عاما قلت: أمما بقى أو مما مضى؟ قال: مما مضى)]. معنى: (تدور رحى الإسلام) أي: دوران الرحى على أهل الإسلام، والرحى إذا دارت تطحن، وطحنها هنا يكون البشر، وهذا من الإخبارات التي أخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم قبل وقوعها ووقعت كما أخبر، فدارت الرحى في آخر أيام الصحابة، فقتل فيها خلق كثير جداً، وهذا عبارة عن الحروب التي وقعت بين أهل الشام وأهل العراق، أهل الشام مع معاوية، وأهل العراق مع علي بن أبي طالب، وما كان قبلها في قتال الجمل وغيرها، فقد اشتغلوا بالقتال بينهم، وتركوا قتال الكفار حتى طمع الكفار في بلادهم، وأخذوا أطراف البلاد بسبب ذلك. وقوله: (إن يهلكوا فسبيل من هلك وإن يقم لهم الأمر فسبعين سنة) المقصود بقيام الأمر: الأمر الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا مثل ما جاء في الحديث الصحيح: (خير القرون الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يأتي قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته، ويظهر فيهم النفاق والسمن) فالقرون التي مضت كانت في عافية وفي خير، فصارت الفتن في المتأخرين. وفي الصحيح من حديث أنس أنه قال: (لا يأتي زمان إلا وما بعده شر منه، سمعت ذلك من نبيكم صلى الله عليه وسلم) وهذا عام، ولكن ليس معنى ذلك أن الشر يكون في كل فرد، ليس هذا هو المقصود، وإنما المقصود النسبة، فإن الشر في المتأخرين نسبته أكثر من نسبته في المتقدمين، حتى يأتي الزمان الذي قبيل قيام الساعة، ولا يعرف أحد الله، ولا يذكر اسمه جل وعلا، ويتهارجون كتهارج الحمر، فهم شرار خلق الله، وعليهم تقوم الساعة. والساعة عبارة عن نفخ الصور، هذه هي الساعة، ونفخ الصور هو نفختان، النفخة الأولى لهلاك من كان حياً، وذهاب كل شيء حتى الجبال تصبح كالعهن المنفوش، كما قال الله جل وعلا: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طه:105 - 107] وتتفطر الأرض وتتصدع، والسماء كذلك، وتسقط النجوم كالمطر، مطر ولكن من نجوم! أهوال هائلة جداً {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ} [إبراهيم:48]، ثم بعد ذلك ينفخ في الصور نفخة أخرى، فيحيا كل ميت، ويجمعون في هذه الأرض التي بدلت، ومدت مد الأديم حتى تتسع لهم، والملائكة يحيطون بهم، فيبقون قياماً وقتاً طويلاًَ جداً لا يتصوره الإنسان، ولا يعقل أن الإنسان يستطيع أن يبقى كذا، ولكن لا يوجد موت، والبعث بعد النفخ في الصور النفخة الثانية، وتستقر كل روح في جسدها بعدما ينبت في قبره، وهذا الاستقرار ما يقبل المفارقة، استقرار للروح واتصال بالبدن اتصالاً ما يقبل المفارقة أصلاً، ما فيه موت أبداً، وإنما عذاب أبدي دائم أو نعيم سرمدي ما دامت السموات والأرض. ولهذا يقول الله جل وعلا في أهل العذاب: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [إبراهيم:17] يعني: تأتيه أسباب الموت لو قدر أنه يموت لكن لا يوجد موت، يلقى في جهنم ويصبح وقوداً لها ولا يموت، وإنما يحترق جلده ولحمه ثم يعاد، يحترق ثم يعاد، وهكذا وإذا استغاث من الظمأ يغاث بماء يشوي الوجه، إذا قربه من وجهه ليشربه سقطت فروة وجهه فيه من شدة حراراته، وإذا شربه صار يغلي في بطنه كغلي الحميم، عذاب لا يتصوره الإنسان! لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من هذا العذاب. هذا الذي ينتظر الإنسان، ولكن هل يعقل الإنسان ذلك ويتصوره؟ لو تصوره كما ينبغي ما يمكن أن يهنأ له عيش أو نوم أو راحة أبداً، سيكون كما يقول بعض السلف: كيف يهنأ لي نوم والله توعدني بالنار إذا عصيته؟! والله! لو توعدني أن يسجنني في حمام لحق لي أن أبكي وألا أستقر، فكيف وقد توعد أن يسجن العصاة في جهنم؟! ولكن الإنسان ظلوم مع جهله، وهذه حكمة الله جل وعلا.

حديث: (يتقارب الزمان)

حديث: (يتقارب الزمان) قال الشارح: [(وروى في سننه أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يتقارب الزمان، وينقص العلم، وتظهر الفتن، ويلقى الشح، ويكثر الهرج، قيل: يا رسول الله! أيه هو؟ قال: القتل القتل)]. يعني: في الهرج بأنه القتل، يكثر الهرج، أي: القتل يزداد، وكلما تأخرت الأزمان ازداد ولكنه يكون في جهة، ويكون في جهات متعددة، ويخف مرة هنا، ويكثر هنا، كما هو الواقع، ولا تخلو الأرض من قتال دائماً، وبعض القتال قد يكون في حق، وبعضه يكون بين أهل الحق والباطل، بين الكفر والإيمان، ولكن لا بد أن يكثر، والمصيبة أنه في آخر الزمان يقتل الإنسان الآخر وهو لا يدري في أي شيء قتل، ويأتي الإنسان إلى القبر ويتمرغ فيه ويقول: ليتني مكان صاحبه، ليس به الدين، يعني: ليس ذلك من الدين، بل من كثرة الفتن التي يراها ويشاهدها، فيختار أن يموت ولا يكون حياً. قال الشارح: [قوله: (وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين) أي: الأمراء والعلماء والعباد، فيحكمون فيهم بغير علم فيضلونهم كما قال تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} [الأحزاب:67] وكان بعض هؤلاء يقول لأصحابه: من كان له حاجة فليأت إلى قبري فإني أقضيها له، ولا خير في رجل يحجبه عن أصحابه ذراع من تراب ونحو هذا]. هذا ذكره الشعراني في طبقاته عن أحد ساداته، يعني: شيوخه، يقول: إنه لما حضره الموت -وهذه مصيبة في الواقع- قال لأصحابه: يا أصحابي! إذا كان لأحدكم حاجة فليأت إلى قبري، وليستغث بي، ويطلب مني الحاجة فإنه لا خير في إنسان يحول بينه وبين أصحابه وقضاء حوائجهم ذراع من تراب. وهذا شبه الجنون، ليس جهلاً فقط، وذكر عن آخر ويسميه سيداً، وهو من الصوفية الهالكين الذين يدعون إلى عبادة غير الله، وعندهم سخافة العقل، بل عندهم الجنون الذين يخرجون به عن حد التكليف، يذكر عنه أنه قال: إذا كان يوم القيامة أنصب على جهنم خيمتي، فلا أدع إنسان يدخلها من العارفين بي والمحبين! كيف يكتب هذا في الكتب وينشر على الناس؟ كيف يطبع في المطابع مثل هذه السخافات؟ ومع ذلك يزعم أن هذه كرامة، سخافة إلى النهاية، جهل الجاهلية الأولى ما وصل إلى هذا الحد، جهل أبي جهل ما وصل إلى هذا الحد ولا قريب منه، ومع ذلك يزعمون أن هؤلاء أولياء، وصدقوا فإنهم أولياء ولكن لمن؟ للشيطان، أولياء للشيطان، فإنهم أصبحوا دعاة الشيطان، يدعون إليه، ويضلون كثيراً من خلق الله جل وعلا. قال الشارح: [وهذا هو الضلال البعيد، يدعو أصحابه إلى أن يعبدوه من دون الله، ويسألوه ما لا يقدر عليه من قضاء حاجاتهم وتفريج كرباتها وقد قال تعالى: {يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ * يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [الحج:12 - 13]، وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا} [الفرقان:3]، وقال تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [العنكبوت:17]، وأمثال هذا في القرآن كثير، يبين الله تعالى به الهدى من الضلال. ومن هذا الضرب: من يدعي أنه يصل مع الله إلى حال تسقط فيها عنه التكاليف، ويدعي أن الأولياء يدعون ويستغاث بهم في حياتهم ومماتهم، وأنهم ينفعون ويضرون ويدبرون الأمور على سبيل الكرامة، وأنه يطلع على اللوح المحفوظ، ويعلم أسرار الناس وما في ضمائرهم، ويجوز بناء المساجد على قبور الأنبياء والصالحين، وإيقادها بالسرج ونحو ذلك من الغلو والإفراط والعبادة لغير الله، فما أكثر هذا الهذيان والكفر والمحادة لله ولكتابه ولرسوله]. ولكن مع الأسف هو هذيان وكفر ومحادة لله ورسوله، ولكن صار له نتائج، فأصبح ما تجده في غالب بلاد المسلمين من هذه المساجد المبنية على القبور، وهذه القبور تقصد للتبرك، وسؤال أصحابها، ودعائهم، والنذر لهم، وهذا جهل فضيع، وهذيان، وكفر، ومحادة لله، والسبب في هذا -ما ذكر في هذا الحديث- الأئمة المضلون، والذين أضلوهم أشباه العلماء، يقال: إنهم علماء، وربما يكون معهم شهادات، ويفتي بعضهم بالمذاهب الأربعة، إذا جاءته مسألة من مسائل الفقه تجده يقول: مذهب الشافعي كذا، ومذهب مالك كذا، ومذهب أبي حنيفة كذا، ومذهب الإمام أحمد كذا، وهو مع ذلك يدعو إلى عبادة القبور! جهل حق الله، وعرف أشياء دقيقة. وتجده أيضاً يؤلف الكتب، ويذكر الدقائق، ويفسر القرآن ويشرح الحديث في مجلدات، وهو لا يعرف الإخلاص ما هو، ولا يعرف العبادة ما هي، ولا يعرف معنى لا إله إلا الله، فصار من الأئمة المضلين بهذا الفعل، وأكثر ما وقع الضلال بسبب ذلك، أما الملوك والأمراء فإنهم غالباً يكونون تبع للعلماء، لا يستطيعون أن يرغموا الناس على شيء إلا إذا وافقهم العلماء على ذلك واتفقوا معه، والنادر لا حكم له، ولكن هذا هو الغالب، فالأمر يرجع إلى العلماء، فالأئمة المضلون يتبعهم المنفذون الذين ينفذون الأمر، ويكون ذلك عن رأيهم وعن اجتماعهم وعن مشورتهم. والعباد أثرهم في هذا أنه يقتدى بهم، يرى الناس أنهم صلحاء، وأنهم زهاد، وأنهم أتقياء، وأنهم أولياء، فيغترون بهم من هذه الناحية، فيقتدى بهم، فيكونون فتنة لكل مفتون، فكل هؤلاء أسباب لما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يخافه على أمته (وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين)، فهؤلاء هم الذين يضلون. إذاً: الأئمة منهم أئمة يهدون بالحق وبه يعدلون، ويقولون بالحق، وأئمة يقولون بالضلال، ويهدون إليه، وهم من دعاة النار، فالإمام اسم لكل من يقتدى به في شيء، سواء كان في حق أو باطل؛ ولهذا أخبر الله جل وعلا أن فرعون ومن معه أئمة الضلال يهدون إلى النار، الرجل قد يكون إماماً بنفسه كما قال الله جل وعلا عن إبراهيم: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا} [النحل:120] يعني: إماماً يهتدى به في الحق، ويتبع في ذلك.

حديث: (إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين)

حديث: (إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين) قال الشارح: [وقوله صلى الله عليه وسلم: (وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين) أتى بإنما التي قد تأتي للحصر بياناً لشدة خوفه على أمته من أئمة الضلال، وما وقع في خلد النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك إلا لما أطلعه الله عليه من غيبه أنه سيقع نظير ما في الحديث قبله من قوله: (لتتبعن سنن من كان قبلكم) الحديث وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلون) رواه أبو داود الطيالسي، وعن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين) رواه الدارمي. وقد بين الله تعالى في كتابه صراطه المستقيم الذي هو سبيل المؤمنين، فكل من أحدث حدثاً ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهو ملعون، وحدثه مردود كما قال صلى الله عليه وسلم: (من أحدث حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً) وقال: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد)، وقال: (كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) وهذه أحاديث صحيحة، ومدار أصول الدين وأحكامه على هذه الأحاديث ونحوها]. مدار أصول الدين وأحكامه على هذه الأحاديث؛ لأن الدين مداره على أن يكون الدين كله لله وحده، وأن يكون الدين بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فالدين كله ينحصر في هذا، أن يكون خالصاً لله، وأن يكون الدين بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فالبدعة والمحدثات ليست من الدين، وإنما فيها تغيير الدين وتبديله؛ ولهذا لعن من فعل ذلك ومن وقع منه ذلك. قال الشارح: [وقد بين الله تعالى هذا الأصل في مواضع من كتابه العزيز كما قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف:3]، وقال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية:18] ونظائرها في القرآن كثير. وعن زياد بن حدير قال: قال لي عمر رضي الله عنه: هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قلت: لا، قال: يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين. رواه الدارمي. وقال يزيد بن عمير: كان معاذ بن جبل رضي الله عنه لا يجلس مجلساً للذكر إلا ويقول: الله حكم قسط: هلك المرتابون، وفيه: فاحذروا زيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق، قلت لـ معاذ: وما يدريني -رحمك الله- أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة والمنافق قد يقول كلمة الحق؟ فقال: اجتنب من كلام الحكيم المشتبهات التي تقول: ما هذه؟ ولا يثنيك ذلك عنه]. التي تقال: ما هذه؟ أو تقول: ما هذه؟ يعني: أنك تستنكرها. [التي تقول: ما هذه؟ ولا يثنيك ذلك عنه فإنه لعله أن يراجع الحق، وتلق الحق إذا سمعته فإن على الحق نوراً. رواه أبو داود وغيره. قوله: (وإذا وقع السيف لم يرفع إلى يوم القيامة) وكذلك وقع فإن السيف لما وقع بقتل عثمان رضي الله عنه لم يرفع، وكذلك يكون إلى يوم القيامة، ولكن قد يكثر تارة ويقل أخرى، ويكون في جهة ويرتفع عن أخرى. قوله: (ولا تقوم بالساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين) الحي واحد الأحياء وهي القبائل، وفي رواية أبي داود: (حتى يلحق قبائل من أمتي بالمشركين) والمعنى: أنهم يكونون معهم ويرتدون برغبتهم عن أهل الإسلام، ويلحقون بأهل الشرك]. هذا هو الشاهد من الحديث؛ لأن المقصود الرد على الذين يقولون: إن الشرك لا يقع في هذه الأمة، ومن قال: لا إله إلا الله فهو مسلم داخل في شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وناجٍ من النار، وإن وقع منه ما وقع، فأراد أن يبين أن هذا ضلال، وأنه ليس المقصود من قول (لا إله إلا الله) التلفظ بها، وإنما المقصود اعتقاد معناها والعمل بها، وإلا إذا كان الإنسان يتلفظ بها وهو لا يعرف معناها، بل ويأتي بما يخالف ما دلت عليه، فيكون قوله لها مثل الذي يقولها وهو سكران، أو وهو نائم يهذي، والهذيان لا فائدة فيه. [وقوله: (حتى تعبد فئام من أمتى الأوثان) الفئام بكسر الفاء مهموز: الجماعات الكبيرة قاله أبو السعادات]. وهذا إخبار بأن جماعة من قبائل الأمة ترتد عن الإسلام، وترغب في دين الكفار، وجماعة أخرى تعبد الأوثان، فكله خلاف ما دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد أخبر به خلافاً لما يدعيه هؤلاء الضلال. [وفي رواية أبي داود: (حتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان)، وهذا هو شاهد الترجمة، ففيه الرد على من قال بخلافه من عباد القبور الجاحدين لما يقع منهم من الشرك بالله بعبادتهم الأوثان؛ وذلك لجهلهم بحقيقة التوحيد وما يناقضه من الشرك والتنديد، فالتوحيد هو أعظم مطلوب، والشرك هو أعظم الذنوب. وفي معنى هذا الحديث، ما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة) قال: وذو الخلصة طاغية دوس التي كانوا يعبدون في الجاهلية، وروى ابن حبان عن معمر قال: إن عليه الآن بيتاً مبنياً مغلقاً]. ذو الخلصة عبارة عن صخرات كانت في جبل يأتون إليه، ويتعبدون عنده مثل اللات تماماً، فهدم زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأزيل، وأخبر أنه سوف يبعث من جديد، وتطوف عليه النساء وقد وقع ذلك من أزمنة قريبة، ثم أزيل، ويجوز أن يعود مرة أخرى، وكل هذا خلاف ما يقوله هؤلاء.

عدم جواز إبقاء مواضع الشرك

عدم جواز إبقاء مواضع الشرك قال الشارح: [قال العلامة ابن القيم رحمه الله في قصة هدم اللات لما أسلمت ثقيف: فيه أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوماً واحداً، وكذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور، والتي اتخذت أوثاناً تعبد من دون الله، والأحجار التي تقصد للتبرك والنذر لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالتها، وكثير منها بمنزلة اللات والعزى ومناة، أو أعظم شركاً عندها وبها، فاتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم، وسلكوا سبيلهم حذو القذة بالقذة، وغلب الشرك على أكثر النفوس؛ لظهور الجهل، وخفاء العلم، وصار المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، والسنة بدعة، والبدعة سنة، وطمست الأعلام، واشتدت غربة الإسلام، وقل العلماء، وغلب السفهاء، وتفاقم الأمر، واشتد البأس، وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، ولكن لا تزال طائفة من العصابة المحمدية بالحق قائمين، ولأهل الشرك والبدع مجاهدين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. انتهى ملخصاً. قال: قلت: فإذا كان هذا في القرن السابع وقبله فما بعده أعظم فساداً كما هو الواقع]. ذكر بعض المؤرخين من اليمن في القرن الثاني عشر عن اثنين من أهل اليمن أنهما جاءا إلى مكة لطلب العلم، وكان أحدهما أفقه من الآخر، فلما أقبلا على الطائف قال أحدهما لزميله: أهل الطائف لا يعرفون الله، وإنما يعرفون ابن عباس، فقال له زميله: معرفتهم بـ ابن عباس تكفي عن معرفة الله، فـ ابن عباس يعرفهم بالله جل وعلا، ثم ذكر هذا المؤرخ أن القبة التي كانت على قبر ابن عباس هي موضع اللات، ويقول: إنها أعيدت كما كانت في الجاهلية، ثم بعد ذلك أزيلت والحمد لله. [وقوله: (وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي) قال القرطبي: وقد جاء عددهم معيناً في حديث حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يكون في أمتي كذابون دجالون سبع وعشرون منهم أربع نسوة) أخرجه أبو نعيم وقال: هذا حديث غريب. انتهى وحديث ثوبان أصح من هذا]. حديث ثوبان فيه أنهم ثلاثون، وليس فيه أنهم سبع وعشرون، وفيهم أربع نسوة. [قال القاضي عياض: عد من تنبأ من زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الآن ممن اشتهر بذلك، وعرف، واتبعه جماعة على ضلاله؛ فوجد هذا العدد فيهم، ومن طالع كتب الأخبار والتواريخ عرف صحة هذا]. لكن هم كثير في الواقع، ولكن ليس المقصود كل من ادعى النبوة؛ لأن بعض من ادعى النبوة قد يكون عن مرض، وقد يكون عن سخافة عقل، وإنما المقصود الذي يدعي النبوة، ويكون له شبه، ويكون له أتباع، ويكون له قوة، هؤلاء هم الذين قصدوا بالحديث.

من دلائل النبوة

من دلائل النبوة قال الشارح: [وقال الحافظ: وقد ظهر مصداق ذلك في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج مسيلمة الكذاب باليمامة، والأسود العنسي باليمن، وفي خلافة أبي بكر طليحة بن خويلد في بني أسد بن خزيمة، وسجاح في بني تميم، وقتل الأسود قبل أن يموت النبي صلى الله عليه وسلم، وقتل مسيلمة في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، قتله وحشي قاتل حمزة يوم أحد، وشاركه في قتل مسيلمة يوم اليمامة رجل من الأنصار، وتاب طليحة، ومات على الإسلام في زمن عمر رضي الله عنه. ونقل أن سجاح تابت أيضاً، ثم خرج المختار بن أبي عبيد الثقفي، وغلب على الكوفة في أول خلافة ابن الزبير، وأظهر محبة أهل البيت، ودعا الناس إلى طلب قتلة الحسين، فتتبعهم فقتل كثيراً ممن باشر ذلك وأعان عليه، فأحبه الناس، ثم ادعى النبوة، وزعم أن جبريل عليه السلام يأتيه، ومنهم الحارث الكذاب خرج في خلافة عبد الملك بن مروان فقتل، وخرج في خلافة بني العباس جماعة. وليس المراد بالحديث من ادعى النبوة مطلقاً، فإنهم لا يحصون كثرة؛ لكون غالبهم تنشأ دعوته عن جنون أو سوداء، وإنما المراد من قامت له شوكة، وبدى له شبهة كمن وصفنا، وقد أهلك الله تعالى من وقع له منهم ذلك وبقي منهم من يلحقه بأصحابه، وآخرهم الدجال الأكبر. قوله: (وأنا خاتم النبيين) قال الحسن: الخاتم الذي ختم به يعني أنه آخر النبيين كما قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40]، وإنما ينزل عيسى ابن مريم في آخر الزمان حاكماً بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، مصلياً إلى قبلته، فهو كواحد من أمته، بل هو أفضل هذه الأمة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده! لينزلن فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً، فليكسرن الصليب، وليقتلن الخنزير، وليضعن الجزية)]. معنى يضع الجزية يعني: أنه لا يقبلها، لا يقبل من الناس إلا الإسلام أو القتل، هذا معنى يضع الجزية، وليس هذا تشريع جديد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر به فدل على أنه شرع، فعيسى عليه السلام ينزل ويحكم بهذه الشريعة، ويكون من هذه الأمة، فهو أفضلها لأنه نبي، بل هو من أولو العزم من الرسل.

الطائفة المنصورة

الطائفة المنصورة قال الشارح: [قوله: (ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم) قال يزيد بن هارون وأحمد بن حنبل: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم]. أهل الحديث ليس هم الذين ينقلون الحديث ويحفظونه فقط، بل هم الذين يعملون به، ويفقهونه ويتبعون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو لم يحفظوا، فكل من عمل به واتبعه وسار على نهج الرسول صلى الله عليه وسلم فهو من أهل الحديث، يعني من أهل السنة. [قال ابن المبارك وعلي بن المديني وأحمد بن سنان والبخاري وغيرهم: إنهم أهل الحديث، وعن ابن المديني رواية: هم العرب، واستدل برواية من روى: هم أهل الغرب، وفسر الغرب بالدلو العظيمة؛ لأن العرب هم الذين يستقون بها. قال النووي: يجوز أن تكون الطائفة جماعة متعددة من أنواع المؤمنين: ما بين شجاع وبصير بالحرب، وفقيه ومحدث ومفسر، وقائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وزاهد وعابد، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين في بلد واحد، بل يجوز اجتماعهم في قطر واحد، وافتراقهم في أقطار الأرض، ويجوز أن يجتمعوا في البلد الواحد، وأن يكونوا في بعض دون بعض منه، ويجوز إخلاء الأرض من بعضهم أولاً بأول إلى ألا يبقى إلا فرقة واحدة ببلد واحد، فإذا انقرضوا جاء أمر الله. انتهى ملخصاً مع زيادة فيه قاله الحافظ. قال القرطبي: وفيه دليل على أن الإجماع حجة؛ لأن الأمة إذا اجتمعت فقد دخل فيهم الطائفة المنصورة. قال المصنف رحمه الله: وفيه الآية العظيمة: أنهم مع قلتهم لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، وفيه البشارة بأن الحق لا يزول بالكلية. قلت: واحتج به الإمام أحمد على أن الاجتهاد لا ينقطع ما دامت هذه الطائفة موجودة. قوله: (حتى يأتي أمر الله) الظاهر أن المراد به ما روي من قبض من بقي من المؤمنين بالريح الطيبة ووقوع الآيات العظام، ثم لا يبقى إلا شرار الناس، كما روى الحاكم أن عبد الله بن عمرو قال: لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق، هم شر أهل الجاهلية، فقال عقبة بن عامر لـ عبد الله: اعلم ما تقول، وأما أنا فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك، قال عبد الله: ويبعث الله ريحاً ريحها المسك، ومسها مس الحرير، فلا تترك أحداً في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته، ثم يبقى شرار الناس فعليهم تقوم الساعة)، وفي صحيح مسلم: (لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله الله)]. المقصود في قوله: حتى لا يقال في الأرض: الله الله. يعني: أنه لا يذكر الله ولا يعبد، بل يصبحون لا يعرفون الله، وليس معنى ذلك أن هذه الكلمة مشروعة، أي: الذكر بالاسم المفرد؛ لأن هذا من الباطل ومن البدع، فيجب أن يعرف مراد الرسول صلى الله عليه وسلم. قال الشارح: [وعلى هذا فالمراد بقوله في حديث عقبة وما أشبهه: (حتى تأتيهم الساعة) ساعتهم، وهي وقت موتهم بهبوب الريح ذكره الحافظ. وقد اختلف في محل هذه الطائفة فقال ابن بطال: إنها تكون في بيت المقدس كما رواه الطبراني من حديث أبي أمامة (قيل: يا رسول الله! أين هم؟ قال: في بيت المقدس)، وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: هم بالشام. وفي كلام الطبري ما يدل على أنه لا يجب أن تكون في الشام أو في بيت المقدس دائماً، بل قد تكون في موضع آخر في بعض الأزمنة. قلت: ويشهد له الواقع، وحال أهل الشام وأهل بيت المقدس، فإنهم من أزمنة طويلة لا يعرف فيهم من قام بهذا الأمر بعد شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه وأصحابه في القرن السابع وأول الثامن، فإنهم كانوا في زمانهم على الحق يدعون إليه ويناظرون عليه ويجاهدون فيه، وقد يجيء من أمثالهم بعد بالشام من يقوم مقامهم بالدعوة إلى الحق والتمسك بالسنة، والله على كل شيء قدير]. قوله: (حتى لا يقال في الأرض: الله الله) هذا لا يدل على أن اللفظ المفرد يشرع الذكر به؛ لأنه ليس هذا المقصود، وإنما المقصود أنه لا يكون في الأرض من يعرف الله، إنما يبقى أناس يتهارجون تهارج الحمر، لا يعرفون معروفاً، ولا ينكرون منكراً، أما الذكر بالاسم المفرد مثل الله سواء كان مظهراً أم مضمراً، مظهراً مثل: الله، الرحمن أو مضمراً مثل هو وما أشبه ذلك، فهذا غير مشروع. إذاً: الذكر يجب أن يكون بجملة مفيدة، وهذا غير مفيد، والواجب التقيد بما جاء به الشرع مما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز للإنسان أن يخترع شيئاً من عنده سواء وجد عليه طائفة من الناس أو لم يجد عليه. وقوله: الظاهر أن المراد به ما روي من قبض من بقي من المؤمنين بالريح الطيبة، هذا جمع بين الأدلة؛ لأن في الحديث أنهم لا يزالون على ذلك حتى تقوم الساعة، وفي الحديث الآخر حتى تهب الريح التي تأتي من قبل اليمن، وتأخذ كل من كان في قلبه إيمان، ويبقى الناس الذين لا إيمان فيهم، فتكون الساعة ساعتهم يعني موتهم الذي قضى الله جل وعلا أنهم يموتون بسبب هذه الريح، فتكون الأدلة مجتمعة بذلك. وأما مكان هذه الطائفة فكما قال الإمام النووي رحمه الله: يجوز أن تكون في مكان دون آخر، ويجوز أن يكونون متفرقين في أماكن متعددة، ولا يجب أن يكونوا على طريقة واحدة يعني: عمل واحد، ويجوز أن يكون منهم العلماء ومنهم المجاهدون، ومنهم الدعاة إلى الله، ومنهم الصالحون العباد وغير ذلك، ثم إن كلمة (طائفة) لا يلزم أن يكونوا بكثرة، حيث يكون لهم قوة واستقلال، ما يلزم هذا؛ لأن الطائفة قد تطلق على الواحد، وقد تطلق على الثلاثة، وقد تطلق على الكثرة، فيجوز أنهم يكثرون في وقت، ويقلون في وقت آخر، ويجوز أن يكونوا متنقلين في وقت دون آخر. أما الآثار التي جاءت إنهم في الشام أو في بيت المقدس فهذا يكون في وقت دون آخر، ولا يلزم أن يكون ذلك دائماً، وبهذا تجتمع النصوص ويصبح ليس بينها خلاف، وهذا الذي اختاره المحققون وهو الظاهر. [ومما يؤيد هذا أن أهل الحق والسنة في زمن الأئمة الأربعة، وتوافر العلماء في ذلك الزمان، وقبله وبعده لم يكونوا في محل واحد، بل هم في غالب الأمصار: في الشام منهم أئمة، وفي الحجاز، وفي مصر، وفي العراق، وفي اليمن، وكلهم على الحق يناضلون ويجاهدون أهل البدع، ولهم المصنفات التي صارت أعلاماً لأهل السنة، وحجةً على كل مبتدع]. هذا إذا قصد بالطائفة أنها طائفة منصورة يعني: ظاهرة، فالنصر قد يكون بالحجة والبيان، وقد يكون بالقوة، يعني: السيف والسنان، فأهل البيان والحجة هم العلماء، وأما أهل السيف والسنان فهم الأمراء والولاة، وإذا اجتمع هؤلاء وهؤلاء على الحق يأتي النصر بإذن الله، وينصرهم الله نصراً متكاملاً، وإلا ستبقى منصورة وقائمة بنوع من الأنواع، ولو أن الإنسان مثلاً قام على الحق وثبت عليه فإنه منصور في نفسه وإن قتل عليه؛ لأن الله جل وعلا أخبرنا أنه ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51]. ومن المعلوم أن الله جل وعلا وعده حق، لا يخلف وعده تعالى وتقدس، وإذا أخبر بذلك فلابد منه، وقد علم أن بعض الأنبياء قتل، فهل يكون هذا المقتول مخذولاً؟ كلا، بل هو منصور؛ لأنه تمسك بالحق ومات عليه، فكل من كان متمسكاً بالحق ومات عليه فهو منصور. ولا يلزم من النصر -كما يتصور بعض الناس- أن يكون له قوة تقهر الآخرين، لا، هذا ليس لازماً. قال الشارح: [فعلى هذا: فهذه الطائفة قد تجتمع وقد تتفرق، وقد تكون في الشام وقد تكون في غيره، فإن حديث أبي أمامة وقول معاذ: لا يفيد حصرها بالشام، وإنما يفيد أنها تكون في الشام في بعض الأزمان لا في كلها. وكل جملة من هذا الحديث علم من أعلام النبوة، فإن كل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث وقع كما أخبر صلى الله عليه وآله وسلم. وقوله: (تبارك وتعالى) قال ابن القيم رحمه الله: البركة نوعان: أحدهما: بركة هي فعله، والفعل منها: بارك، ويتعدَّى بنفسه تارةً، وبأداة (على) تارة، وبأداة (في) تارةً، والمفعول منها مبارك، وهو ما جعل منها كذلك، فكان مباركاً بجعله تعالى. والنوع الثاني: بركة تضاف إليه إضافة الرحمة والعزة، والفعل منها: تبارك؛ ولهذا لا يقال لغيره ذلك، ولا يصلح إلا له عز وجل، فهو سبحانه المبارِك، وعبده ورسوله هو المبارك، كما قال المسيح عليه السلام: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ} [مريم:31]. فمن بارك الله فيه وعليه فهو المبارك]. هذا ليس خاصاً بهذه الصفة، فمعظم الصفات هكذا يأتي منها فعل يكون فعله، والفعل قد يكون لازماً، وقد يكون متعدياً، فإن أفعال الله قد تكون لازمة مثل النزول والاستواء والمجيء، فهذه لازمة، وقد تكون متعدية مثل: الخلق والرزق والإحياء والإماتة، فالفعل فعله في الإماتة مثلاً أو الحياة. وأما المحيي: فهو مفعول له في هذا الفعل، وهكذا البركة، إذا بارك الله جل وعلا شيئاً ففعله يضاف إليه، والذي وقعت عليه البركة مفعول له. أما الصفة التي هي قائمة بالذات فهذه لا تنفك عن الله جل وعلا، ولهذا لا يجوز أن يقال لغيره: تبارك؛ لأن هذا خاص به تعالى وتقدس، فلا يقال: تبارك بكذا كما يقول بعض الناس: تباركوا بكذا ونتبارك بكذا هذا خطأ؛ لأن (تبارك) بهذه الصيغة وبهذا اللفظ لم يأت إلا لله جل وعلا، وإنما يأتي المبارك مباركاً، والبركة التي تقع على المخلوق هي من فعله جل وعلا؛ لأنه ليس هناك شيء يبارك من المخلوقات، وإنما المبارك هو

شرح فتح المجيد [72]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [72] زعم بعض القبوريين أن الشرك لا يقع في هذه الأمة، وقد رد عليهم أهل العلم بالأدلة القاطعة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والواقع أكبر شاهد على ذلك، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور.

مسائل باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان

مسائل باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان قال المصنف رحمة الله عليه: [فيه مسائل: الأولى: تفسير آية النساء].

تفسير آية النساء

تفسير آية النساء سبق تفسيرها، وهذا واضح لا إشكال فيه.

تفسير آية المائدة

تفسير آية المائدة [الثانية: تفسير آية المائدة]. كذلك آية المائدة يعني: قوله: {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة:60] وتفسيرها واضح أيضاً وقد سبق.

تفسير آية الكهف

تفسير آية الكهف [الثالثة: تفسير آية الكهف]. وآية الكهف هي قوله: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف:21]، وتقدم أن هذا لا يدل على المشروعية؛ لأنه خبر يراد به ذمهم.

حقيقة معنى الإيمان بالجبت والطاغوت

حقيقة معنى الإيمان بالجبت والطاغوت [المسألة الرابعة وهي أهمها: ما معنى الإيمان بالجبت والطاغوت في هذا الموضع؟ وهل هو اعتقاد قلب أو هو موافقة أصحابها مع بغضها ومعرفة بطلانها؟]. يقصد أنه هو الأخير؛ لأن الدليل على هذا أن أهل الكتاب كـ حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف يعرفون أن الشرك من أعظم الذنوب، ويعيبون على المشركين؛ لأنهم أهل علم وكتاب، ولكن حملهم الحسد وبغض الرسول صلى الله عليه وسلم على أن يوافقوا المشركين في الظاهر فقط، لما قالوا لهم: أينا خير وأفضل أنحن أم محمد؟ قالوا لهم: ما هي الأوصاف التي تتصفون بها أنتم وهو؟ قالوا: نحن ننحر الإبل، ونفك العاني، ونسقي اللبن على الماء، ونقوم بخدمة الحجيج، ومحمد قطع أرحامنا، وجاء بما لا نعرف، فقالوا: أنتم خير وأهدى سبيلاً. وكل من يعلم أخبار الناس وعلم التاريخ وما هم عليه يعرف يقيناً أن كلامهم هذا كذب وباطل، وأنهم لا يعتقدونه، وأنهم قالوا ذلك مجرد موافقة، وحملهم على ذلك بغض الرسول صلى الله عليه وسلم وحسدهم له فقط؛ ولهذا آمنوا بالجبت والطاغوت، وهل هو مجرد الموافقة أو إيمان قلوبهم؟ قد عرف أنه ليس إيمان قلوبهم وإنما هو مجرد موافقتهم على ذلك، بغضاً للحق وكراهيةً له. فإذا وجد هذا من إنسان يوافق أهل الباطل لأنه يبغض الحق ويكره أصحابه فإنه يكون له هذا الحكم.

قولهم: إن الكفار الذين يعرفون كفرهم أهدى سبيلا من المؤمنين

قولهم: إن الكفار الذين يعرفون كفرهم أهدى سبيلاً من المؤمنين [الخامسة: قولهم: إن الكفار الذين يعرفون كفرهم أهدى سبيلاً من المؤمنين]. المسألة التي قالها اليهود من الأشياء التي كفرهم الله جل وعلا بها، ومعلوم أنه يكفي في كفر هؤلاء أنهم ردوا ما جاء به الرسول حسداً، ولم يتابعوه مع أنهم يعلمون أنه رسول الله، فقد أخبرنا ربنا جل وعلا أنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، فكيف يردونه مع هذه المعرفة؟ بل قال عبد الله بن سلام: (والله إننا لنعرفه أكثر من معرفتنا لأبنائنا؛ لأن أحدنا يخرج من بيته فلا يدري ماذا صنعت زوجته، أما هو فعندنا العلم اليقيني أنه رسول الله) يعني: أكثر من معرفتهم لأبنائهم، ومع هذا كله الذين آمنوا به من هؤلاء لا يتجاوزون عدد أصابع اليد، والبقية كلهم كفروا به صلوات الله وسلامه عليه؛ حسداً وبغضاً للحق، لماذا؟ لأنه فقط ليس منهم؛ ولأنه من ولد إسماعيل، لماذا لم يكن من ولد يعقوب؟ كأنهم يريدون أن يحجروا فضل الله ولا يتعدى إلى غيرهم، وهكذا الحسد يعمل عمله في الإنسان حتى يحمله أن يختار الكفر على الإيمان، نقول: هذا وحده كاف في كفرهم، كيف إذا انضاف إلى ذلك تفضيل الشرك وأهله على التوحيد وأهله؟

تفضيل بعض الظالمين الكفر على الإيمان

تفضيل بعض الظالمين الكفر على الإيمان [السادسة: وهي المقصود بالترجمة: أن هذا لابد أن يوجد في هذه الأمة كما تقرر في حديث أبي سعيد]. يعني: أن تفضيل الكفار ودينهم على المسلمين ودينهم سيوجد في هذه الأمة، وليس معنى ذلك: أنه في هذه الأمة هم هم، هذا يوجد في طوائفنا، والدليل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، فقالوا: اليهود والنصارى -يعني: أتقصد اليهود والنصارى-؟ قال: نعم)، وفي رواية: (فمن؟) وفي رواية: (فمن الناس إلا أولئك) يعني: هم المقصود، فلابد أن يقع ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا كما سبق لا يدل على جواز ذلك، ولا يدل على إقراره، وإنما هذا خبر يراد به التحذير من الوقوع في ذلك، وأخبر بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه حكم قدري حكم الله جل وعلا به وقدره، فلابد من وقوعه، فيحذر أمته أن تفعل ذلك وتقع فيه، هذا هو المقصود.

التصريح بوقوع عبادة الأوثان في هذه الأمة

التصريح بوقوع عبادة الأوثان في هذه الأمة [السابعة: التصريح بوقوعها، أعني: عبادة الأوثان في هذه الأمة في جموع كثيرة]. كما جاء نصه في حديث ثوبان: (حتى يلحق فئام من أمتي بالمشركين، وحتى يعبد قبائل من أمتي الأوثان) هذا نص صريح، وهذا فيه الرد على من يعبدون الأولياء والقبور وغيرها ويقولون: نحن نقول: لا إله إلا الله، ومن قال: لا إله إلا الله فهو في الجنة، يأتون بمتناقضات، يقولون: لا إله إلا الله وهم لا يعرفون معناها، ولا يعملون بما دلت عليه، فوقعوا في التناقض، ويستدلون بأشياء مجرد شبه، فيتمسكون بها ويقولون: من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة، ويغفلون عن المعنى، فمعنى لا إله إلا الله: أن يكون القائل لها معبوده الله وحده، يعني: لا يتوجه بالعبادة والتعلق والرجاء والخوف إلا إلى الله جل وعلا وحده. وكذلك يقولون: إنه جاء في الحديث: (إن الشيطان أيس أن يعبد في جزيرة العرب) وسبق أن معنى هذا: أن الشيطان أيس أن يعود أهل الجزيرة كما كانوا في الجاهلية، ولكن هذا لا ينافي أنه يقع منهم شرك كما صح في الأحاديث الصحيحة: (إنها لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة) وذو الخلصة صنم في الجزيرة في بلاد دوس، يعني: تطوف النساء عابدةً لها، فهذا لا يخالف ما ذكر، فيجب على الإنسان أن يعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا قال قولاً فإنه لا يخالف قولاً له آخر قد يتصور الذي ليس عنده علم أنه خلاف هذا، فأقواله كلها تتفق صلوات الله وسلامه عليه، كلها يصدق بعضها البعض وهذا الواجب، كذلك قول الله جل وعلا، ولكن قد يخفى المعنى على بعض الناس، فإذا خفى المعنى يجب أن يسأل من يعلم، وألا يتهم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه متناقض، أو يأخذ ما يوافق هواه، أو يوافق الوضع الذي هو عليه، فإنه ليس هذا شأن المؤمن، شأن المؤمن أن يبحث عن مراد الرسول صلى الله عليه وسلم فيعمل به، ومراد الله جل وعلا فيعمل به، فيعلم أن الدين لله وحده، فهو لا يأمر بعبادة أحد من الخلق؛ لأن هذا الأصل الذي جاءت به الرسل كلها، فإذا قال قائل: إن هذا يجوز؛ دل على أنه إما جاهل وإما متبع لهواه ومذهبه.

خروج من يدعي النبوة مع تكلمه بالشهادتين

خروج من يدعي النبوة مع تكلمه بالشهادتين [الثامنة: العجب العجاب: خروج من يدعي النبوة مثل المختار مع تكلمه بالشهادتين، وتصريحه بأنه من هذه الأمة، وأن الرسول حق، وأن القرآن حق، وفيه: أن محمداً خاتم النبيين، ومع هذا يصدق في هذا كله مع التضاد الواضح، وقد خرج المختار في آخر عصر الصحابة فتبعه فئام كثيرة]. هذا ليس عجيباً في قدرة الله، وهذا المخلوق فيه من العجائب الشيء الذي إذا نظر الإنسان فيه عرف أن الله جل وعلا على كل شيء قدير، واستدل بذلك على قدرته الظاهرة، وأنه يأتي بالمتناقضات والأمور التي تظهر لمن له بصر أنها آيات لله جل وعلا، هذا شيء. الشيء الثاني: أن القلوب بيد الله، يقلبها كيف يشاء، فلا يمتنع أن يكون الإنسان عالماً بأنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ثم يزيغ قلبه ويعبد غير الله، أو يترك دين الله نهائياً ويعبد الدنيا، أو يعبد معنى من المعاني. والمختار بن أبي عبيد أراد الرئاسة، وصارت الرئاسة هي مقصده ومعبوده، وزين له الشيطان أن أقرب شيء إلى التمسك به؛ أن يزعم أنه يأتيه الوحي، وأن جبريل يأتيه، ولما أسمع أحد الصحابة أنه يزعم أن جبريل يأتيه أو أن الوحي يأتيه قال: صدق، يأتيه الوحي ولكن وحي الشيطان؛ ولهذا كان يأتي بأشياء قد تلتبس على بعض من لا يميز، فكل مدع دعوى لابد له من شبهة ولو حيلة من الحيل التي يستعملها أمام من تنطلي عليه حيل البشر، وهذا كثير وكثير، وكون الإنسان يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله لابد أن يكون مؤمناً بكتاب الله، ومؤمناً بأخبار الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلا لا يفيده، وكتاب الله يبين أنه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، ومعنى الخاتم: أنه ختم الأنبياء به، وليس بعده نبي، فهذه الشهادة لابد منها، وكذلك إخباره أنه آخر الأنبياء ولا نبي بعده، وأن على أمته تقوم الساعة، وأن أمته آخر الأمم، هذا أمر ضروري، فكل مسلم لابد أن يعتقد هذا، فكيف يأتي إنسان مؤمن يقول: لا إله إلا الله ويزعم أنه أوحي إليه؟! هذا تناقض، وكيف يصدق المتناقض في الأصل العظيم؟ ولكن للعبرة والاعتبار، فالإنسان عليه أن يسأل ربه الثبات دائماً، ولا يثق بعلمه وقوته وقدرته على كل شيء، والقلب أمره سهل، فقد ينقلب القلب، فبدل ما كان مستقيماً صار منتكساً، ولهذا في الدعاء المشروع: (اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه). أما إذا كان الحق والباطل ملتبساً على الإنسان فإنه لابد أن يضل، فالأمر بيد الله. على الإنسان أن يلهج بذلك دائماً، ويسأل الله جل وعلا أن يريه الحق ويثبته عليه، وإلا لا يستطيع أن يعرف الحق بقوته، ويسير عليه بقوته إن لم يثبته الله جل وعلا، ويمن عليه بالثبات، هذا هو الأصل في ذلك، وإذا خذل الإنسان وإن كان عالماً ضل، وكم من عالم وصل إلى مستوىً رفيع في العلم انحرف وأصبح ملحداً وزنديقاً يكفر بالله جل وعلا بعد العلم، وبعد العبادة، وبعد مضي الوقت في الجد والاجتهاد! خذل في آخر الأمر! وبالعكس قد يكون الإنسان ملحداً كافراً ثم يمن الله جل وعلا عليه ويهديه في آخر حياته، ويعرف ويبصر بعد العمى.

البشارة بأن الحق لا يزول بالكلية

البشارة بأن الحق لا يزول بالكلية [التاسعة: البشارة بأن الحق لا يزول بالكلية كما زال فيما مضى، بل لا تزال عليه طائفة]. الحق في هذه الأمة -والحمد لله- سيبقى إلى قيام الساعة، فلا يزول مثل ما زالت الأديان الأخرى كالنصرانية واليهودية، ولما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان على وجه الأرض رجل أو جماعة على ما جاءت به الأنبياء إلا ربما واحد أو اثنان في بلاد مختلفة أو ثلاثة أفراد، ولهذا جاء في مسند أبي يعلى وغيره: أن الرسول صلى الله عليه وسلم التقى بـ زيد بن عمرو بن نفيل فقال: ما لقومك قلوك وآذوك؟ قال: والله ما نقصتهم بمال، ولا خالفتهم في أمر إلا أني أعيب عليهم دينهم؛ لأنه صار يعبد الله، ولكن بأي شيء يبحث عن الدين؟ وذكر أنه ذهب إلى المدينة وسأل اليهود عن ملة إبراهيم؟ فقالوا: هنا لا يوجد، وربما تجده في الشام، فذهب إلى الشام وسأل: هل يوجد؟ فدل على رجل في الجزيرة يعني: في العراق، فذهب إلى العراق، وكل هذا التعب والجهد ليبحث عن دين لله يتمسك به؛ لأنه رأى أن الشرك ليس شيئاً، وإنما هو بلاء، فلما جاء إلى هذا الرجل قال: الدين الذي تبحث عنه وراءك في بلدك، سيأتي يوم يدين بلدك كله بهذا الدين الذي تقول، يقول: هأنا أنتظر ما رأيت أحداً، وهذا الخطاب يقوله للرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا قبل البعثة، ثم بعد ذلك مات قبل أن يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذا يدلنا على أن الأديان الأخرى لا يبقى عليها جماعات وإن بقي الواحد الفرد، وفي صحيح مسلم: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب) يعني: عدد بسيط من أهل الكتاب على الحق؛ لأنهم كلهم على الباطل، فهذه الخاصية لهذه الأمة فضل تفضل الله جل وعلا بها عليهم، وهو أن الحق يبقى. ومن المعلوم أن الزمن الذي بين عيسى عليه السلام وبين نبينا صلى الله عليه وسلم قرابة ستمائة سنة فقط، ومع ذلك ذهب الأمر، الآن منذ هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ألف وأربعمائة سنة وزيادة، والأمر أيضاً أكثر من هذا، وسيبقى الدين إلى أن تقوم الساعة، وهذا الدين -والحمد لله- يوجد عليه من يتمسك به ومن يعرفه ويعمل به ويدعو إليه؛ لأن هذا هو الوصف الذي أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، بأن هذه الطائفة على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك. والذي يكون على الحق لابد أن يكون بنفسه ملتزماً بالحق، وأن يدعو إليه، يدعو إلى الحق ويبينه، هذا فضل الله يؤتيه من يشاء، ومعلوم أن هذه الأمة أفضل الأمم، أما قول الله جل وعلا في بني إسرائيل: {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الجاثية:16] فالمقصود كما يقول المفسرون: فضلوا على عالم زمانهم، أما هذه الأمة فهي أفضل منهم.

أهل الحق مع قلتهم لا يضرهم من خذلهم

أهل الحق مع قلتهم لا يضرهم من خذلهم [المسألة العاشرة: الآية العظمى، أنهم مع قلتهم لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم]. هذا كما سيأتي في كلام العلماء: أنه لا يلزم دائماً أن يكونوا قلة، فقد يكونون في وقت قلة، ويكونون في وقت آخر كثرة، وهي آية ظاهرة، فإذا كانوا قلة ما يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم. أما الخذلان فيصدر ممن يرى أنهم على الحق ويوافقهم، فيخذلونهم ولا ينصرونهم عادة. وأما المخالفة فلمن يعاديهم ويكون على غير دينهم وعقيدتهم، وكلا الأمرين لا يضر، لا الخاذل ولا المخالف، ومعنى الضرر: يجب أن يفسر بما قلنا: أنهم يتمسكون بدينهم ويبقون عليه حتى الموت، والضرر الذي يجب أن يكون ضرراً هو انحراف الإنسان عن دينه، أما كونه يناله أذى ولو إلى حد القتل فهذا ليس ضرراً حقيقياً، بل قد يكون خيراً له.

أن ذلك الشرط إلى قيام الساعة

أن ذلك الشرط إلى قيام الساعة [الحادية عشرة: أن ذلك الشرط إلى قيام الساعة]. قيام الساعة أي: ساعتهم كما في حديث عبد الله بن عمرو، وساعتهم بهبوب الريح التي تأتي ومسها مس الحرير، وريحها ريح المسك، فتأخذ المؤمنين من آباطهم، كل من كان في قلبه إيمان تأخذهم فيموتون منها، أما غيرهم فلا، فيبقى الناس بعدهم وتقوم عليهم الساعة، والساعة تقوم على شرار الخلق، كما جاء في الحديث: (ويبقى معهم الذين يتخذون القبور مساجد) يعني: شرار الخلق الذين يتخذون القبور مساجد.

الآيات العظيمة التي ذكرت في كلام النبي صلى الله عليه وسلم

الآيات العظيمة التي ذكرت في كلام النبي صلى الله عليه وسلم [الثانية عشرة: ما فيه من الآيات العظيمة، منها: إخباره بأن الله زوى له المشارق والمغارب، وأخبر بمعنى ذلك فوقع كما أخبر، بخلاف الجنوب والشمال]. وإخباره بأنه قال: (فرأيت مشارقها ومغاربها) ما قال: رأيت جنوبها وشمالها، فصار الأمر كما أخبر، صار امتداد الأمة وملكها شرقاً وغرباً. أما الجنوب معروف أنه ما عدا جزيرة العرب، وملك أمته ما عدا جزيرة العرب لم يجاوزها جنوباً. والشمال كذلك ما تعدى وسط آسيا الصغرى إلا فيما بعد امتد قليلاً، فبقيت أوروبا لم يأتها الإسلام التي هي في الشمال، ولن يتمكن المسلمون من ذلك؛ لأن الخبر قال: (زوي لي مشارقها ومغاربها)، أما الشرق فوصل إلى الصين، وهو شيء يتعجب منه الإنسان كيف وصل الصحابة إلى تلك الأماكن؟! وأما الغرب فكذلك وصلوا إلى البحر فحال بينهم وبين ماوراءه، ولهذا قال أحد القواد لما وصل إلى البحر الأطلسي فخاضه بفرسه: والله لو أعلم أن خلفك من يقاتل في سبيل الله لتجشمت ذلك، يعتقد أن هذا آخر الدنيا ما وراء ذلك شيء من الأرض. [وإخباره بأنه أعطي الكنزين، وإخباره بإجابة دعوته لأمته في الاثنتين، وإخباره بأنه منع الثالثة]. قد سبق أن إجابته: ألا يهلكهم بسنة عامة، وألا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وأنه أعطي هاتين الدعوتين، وأما الثالثة فمنع وهي: أن يكون بعضهم يهلك بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً، وإذا وجد ذلك يجوز أن يسلط عليهم غيرهم. وأما كونه زويت له الأرض ورآها، فهذا سبق أن معناه: أنها جمعت له فصار ينظر إلى البعيد مثل القريب، ينظر إلى الشيء الذي سيصل إليه ملك أمته، وأما الكنزان فالمقصود بهما كما سبق: كنز كسرى، وكنز قيصر، وكسرى ملك الفرس، وقيصر ملك الروم، وهذا اسم لكل ملك، كما أن فرعون اسم لكل من ملك مصر في الكفر، وكذلك النجاشي اسم لكل من ملك الحبشة، وليس اسم علم وإنما هو جنس، فوقع ذلك في زمن الصحابة على أناس معينين لم يكن لهم بعد ذلك دولة. [وإخباره بوقوع السيف، وأنه لا يرفع إذا وقع، وإخباره بظهور المتنبئين في هذه الأمة]. هذه كلها أعلام من أعلام النبوة يعني: دلائل على صدقه، وعلى أنه نبي من الله يخبر بالوحي كالذي يوحيه الله جل وعلا له. [وإخباره ببقاء الطائفة المنصورة، وكل هذا وقع كما أخبر، مع أن كل واحد منها من أبعد ما يكون في العقول]. نعم، كون الصحابة على قلة عددهم يستولون على الدول العظيمة الكبيرة دولة الفرس، وفي ظرف خمسة وعشرين سنة فقط أو أقل من ذلك يستولون عليها نهائياً، ويزول ملكهم نهائياً، ويصبح ملكهم للمسلمين مع أنهم قلة، والصحابة قلة في عددهم وعدتهم، فهذا آية من آيات الله؛ ولهذا لا يزال الكفار يدرسون هذا الوضع كيف حصل؛ لأنهم لا يرون إلا الأمور المادية، فيحللونها ويدرسونها على أنها أمور عسكرية يدبرونها، وليس الأمر كذلك، هذا من الله جل وعلا، والصحابة عرفوا ذلك وقالوا: نحن لا نقاتل الناس بقوتنا ولا بعددنا؛ إنما نقاتل بإيماننا، الآيات ظاهرة وباهرة، وهذا حتى في أول الأمر ومبدؤه، فالجيش الذي أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم بقيادة زيد بن حارثة وعين عليه الأمراء، وقال: إن قتل فـ جعفر، وإن قتل فـ عبد الله بن رواحة، فقتل كل الذين سماهم، وكان عددهم ثلاثة آلاف فقط، والجيش الذي قابلهم من المؤرخين من يقول: هم ثلاثمائة ألف، ومنهم من قال: كانوا مائتي ألف، مائة من الروم، ومائة من نصارى العرب، وأقل ما قاله المؤرخون: أنهم مائة وخمسون ألفاً، وهذا على أقل قول يقابل ثلاثة آلاف، ثم ما استطاع هؤلاء أن يستولوا عليهم، بل انتصروا، فكل فريق عرض عن الثاني بعدما جهد، يعني: ما استطاعوا أن يستولوا على المسلمين، فالنصر ليس بكثرة العدد، وإنما هو بيد الله جل وعلا، وهذا كثير جداً، كذلك وقعة القادسية وغيرها آيات باهرة، آيات من الله جل وعلا. فالمقصود أن هذا من أبعد ما يكون في العقول يعني: الذي ينظر في الواقع ويقيس الأمور المشتبهة على نظائرها وينظر إلى الماديات يرى أن هذا بعيد. وكذلك إخباره بأن الله زوى له الأرض، وأن ملك أمته يصل إلى الصين، ويصل إلى أقصى المغرب وغير ذلك، ولو نظر العاقل فيها بمجرد عقله استبعدها جداً، ولما أخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة رضوان الله عليهم آمنوا بها كما أخبر، وما صار عندهم في ذلك تردد.

حصر الخوف على أمة محمد من الأئمة المضلين

حصر الخوف على أمة محمد من الأئمة المضلين [الثالثة عشرة: حصر الخوف على أمته من الأئمة المضلين]. الأئمة المضلون سبق أنهم ثلاثة أقسام: علماء وعباد وقادة؛ لأن هؤلاء هم الناس الذين يقتدى بهم، أما بقية الناس فهم تبع لهم؛ فلهذا إذا صلح العلماء والأمراء فالناس كلهم يصلحون تبعاً، وهذا هو الواقع في الناس، فإذا ضل العلماء كان في ضلالهم ضلال الخلق كله نسأل الله العافية؛ لأنه يقتدى بهم، وكذلك العباد لأنه ينظر إليهم ويرى أنهم على الحق، ويحسبهم الناس قدوة.

التنبيه على معنى عبادة الأوثان

التنبيه على معنى عبادة الأوثان [الرابعة عشرة: التنبيه على معنى عبادة الأوثان] الوثن: كل ما عبد من دون الله سواءً كان على طريقة الجاهلية أو غيرها، فقد تتغير الأحوال، ويصبح الوثن على وضع آخر، فينبغي أن يعلم ذلك، وكل ما جعل له نصيب من العبادة فهو وثن، سواءً كان مكاناً أو كان قبراً أو كان شخصاً أو غير ذلك، فيكون وثناً.

شرح فتح المجيد [73]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [73] السحر واقع وله تأثير حقيقي، وقد حذر الله عز وجل من تعاطيه، وأخبر أنه فتنة وسبب للكفر بالله عز وجل، وهو من الموبقات التي تهلك صاحبها في الدنيا والآخرة عياذاً بالله! وقد سحر النبي صلى الله عليه وسلم من قبل اليهود، فكان يخيل إليه أنه يأتي الشيء ولا يفعله، ثم شفي بإذن الله.

باب ما جاء في السحر

باب ما جاء في السحر قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في السحر]. لما كان السحر لا ينفك عن الشرك، أراد المؤلف أن يبين أن السحر مناف للتوحيد، فإنه وضع هذا الكتاب لبيان التوحيد ولذكر المضادات له أو المنقصات له؛ لأنها تنافيه.

تعريف السحر لغة واصطلاحا

تعريف السحر لغة واصطلاحاً السحر في اللغة: هو الشيء الخفي الذي يصرف الصارف، والصارف يعني: الشيء الذي يكون معتاداً لخفائه، ويسمى سحراً، وهو أنواع متعددة. أما تعريفه في الاصطلاح: فهو رقى وعزائم وعقد وأمور من أدعية مع النفث فيها والعقد بواسطة الشيطان، وتؤثر في الأبدان والقلوب، فتمرض، وقد تميت، وتفرق بين المرء وزوجه، ولها حقيقة تؤثر، وليست خيالاً. وهو أنواع متعددة، منها: ما هو سحر حقيقي، ومنها: ما يلحق بالسحر لخفائه، وإن كان بحيل وشعاوذ، وليس بسحر، ولكن يلحق به لأجل أنه يعمل عمله أو قريباً من ذلك، ولهذا ألحقت النميمة بالسحر؛ لأنها تعمل عملاً كعمل الساحر، تفرق بين المرء وصاحبه وصديقه، وتفرق بين القريب وقريبه، وبين المحب ومحبه، وتجعل المحبة بغضاء، وتعمل أعمالاً تفسد المجتمع والديار، فألحقت بالسحر.

حقيقة السحر وأنواعه

حقيقة السحر وأنواعه السحر من أعظم المحرمات، والسحر الحقيقي -كما يقول أهل التحقيق- لا ينفك عن الشرك؛ لأنه بواسطة الشيطان، ولا يتأتى سحر إلا بواسطة الشياطين، ويكون شركاً بالله جل وعلا وكفراً، فيجب أن يحذر وأن يتنبه منه، وللأسف أنه في وقتنا الحاضر كثر السحر في بلاد المسلمين بواسطة من يأتي من الخارج، ومن لا خلاق له، ويتخذ هذا مهنةً له، ويريد أن يتحصل على أمور معينة بواسطة هذا السحر؛ لأنهم يتعلمونه ويعرفونه، ثم السحر الذي له حقيقة ليس معناه كما يقول بعض الناس: إنه قد يغير الأعيان ويقلبها من عين إلى عين أخرى، هذا لا يمكن؛ لأنه لو كان هذا لكان السحرة ملوك الدنيا، وأغنياء الخلق، ولم يقف في وجههم شيء، ولو وقف في وجههم أحد جعلوه حجراً أو حماراً ولكنهم في الواقع أفقر الناس، وأخس الناس وأذلهم، يتخفون بأمرهم، ولا يظهرونه خوفاً، وتجدهم أفقر الخلق، إذاً: لا يستطيع أحدهم أن يجعل الحجر ذهباً، فيقلب الأعيان، ولا يستطيع أن يجعل الإنسان حماراً، هذا لا يمكن، ولكنهم يعملون أعمالهم التي تكون بواسطة الشياطين فيحصل المرض والضر، ويحصل الفساد بواسطة ما يحدث. ومن السحر شيء تخييلي لا حقيقة له، كما قال الله جل وعلا: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66] يعني: الحبال والعصي التي ألقوها، فقوله: (يخيل إليه) يعني: يدلنا على أن الواقع أنه ليس كذلك، وأنها لا تسعى، وإنما هو خيال. وقد قال بعض العلماء: إنهم فعلوا حيلة، فأخذوا العصي، ونحتوا وسطها، وملئوها زئبقاً، وكذلك الحبال لفوا عليها زئبقاً، وجاءوا إلى الأرض التي يريدون أن يلقوا عليها هذه الأشياء، وحفروا فيها خنادق ووضعوا فيها النيران لكي تحمي الأرض فألقوها، والزئبق إذا ألقي بهذه الصفة على أرض حارة صار يتحرك، فصارت الحبال والعصي تتحرك بسبب ذلك، فهذه حيلة إذا كان كذلك، وهو نوع من السحر. وقد يكون السحر في أعين الناس، تخيل إليهم أن هذا الشيء كذا وهو ليس كذلك، مثلما يقع لبعض الناس أنه يأخذ سكيناً فيطعن بها نفسه ويخرج الدم، وقد يلقي نفسه في النار وما أشبه ذلك، وهذا يكون في عين الإنسان فقط، والواقع أنه لا يعمل شيئاً من ذلك، وهذه حيل، وبعض الأذكياء قد يعمل أعمالاً خفية، ويظهر للناس أنه يعمل أشياء ويلفت أنظارهم إلى شيء آخر، ثم يأتي بشيء خلاف ذلك بسرعة، فيخيل إليه أنه فعل شيئاً عجيباً وغريباً. ثم هناك سحر من نوع آخر: بواسطة عبادة النجوم ومخاطبتها، واستنزال ما يسمونه: روحانياتها، ويزعمون أنها أرواحها أو أنها ملائكة تقوم على تدبيرها وتسخيرها، والواقع أنها شياطين تضلهم، ولهذا يبنون لها هياكل على صورها كما زعموا، وقد يضعون في هذه الهياكل أصناماً، ثم يلبسون ثياباً على صفة معينة، ويدخنون بأدخنة وأبخرة، ويدعون بدعوات ونداءات معينة، ويستمعون لذلك، وهي دعوات الشياطين، فتكون بواسطة الشيطان، فيأتيهم الشيطان ويقضي بعض مآربهم بواسطة أمور يعملها. وقد يكون السحر نوعاً آخر بواسطة الشيطان، وهو الذي كثيراً ما يقع من أن الساحر يعبد الشيطان عبادة صريحة ويدعوه، ثم إذا جاءه من يريد السحر اجتهد في دعوة هذا الشيطان، وقدم له عبادة، وصار يناديه ويتضرع له حتى يأتي إليه، فيشترط عليه شروطاً: أنك تعمل وتعمل كذا فيلقي شروطه على الذي يريد أن يسحر له، يقول: لابد أنك تذبح كذا أو تأتي بطعام على صفة كذا أو أنك تبقى في المكان الفلاني في مكان معين خالٍ من الناس فتبقى وأنت كذا وكذا فإذا امتثل ذلك أرسل ذلك الشيطان الكبير -الذي عبده وصار يتضرع له- شيطاناً آخر يجعله واسطة بينه وبين المسحور، يراقب هذا المسحور ويذهب إليه، فإذا انتهز فرصة تلبس به، وإن كان هذا المراد سحره يتحصن بالأذكار والإيمان لا يستطيع أن يأتي إليه، ويصعب عليه جداً، وقد يراقبه وقتاً طويلاً فإذا غفل أو حصل له انفعال من غضب أو ما أشبه ذلك تلبس به فعمل فيه السحر، وقد يلقي السحر في بدنه، وقد يعمله في خارج البدن وغير ذلك، وهذا النوع كثيراً ما يحصل، فيحس الساحر أنه وقع سحره في شيء يحفظه. والمقصود: أن هذا كله عبادة لغير الله جل وعلا، وتقرب إلى الشيطان بما يحب من إضرار الناس، وإفساد أبدانهم وأخلاقهم وأديانهم، فلهذا يجب محاربة السحر، وسيأتي أن حكم الساحر أن يقتل.

خطر السحر

خطر السحر قال الشارح: [وقول الله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:102]]. السحر من الكبائر التي حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما سيأتي أنه قال: (اجتنبوا السبع الموبقات: فعد منها السحر)، فجعل السحر موبقاً، والموبق: هو المهلك، بمعنى: أن الساحر يكون هالكاً. والسحر أنواع منه: ما هو كفر بالله جل وعلا وشرك، والمشرك والكافر ما ينفعه أي عمل ولو تصدق أو صلى أو صام ولو عمل أي عمل، وكما قال الله جل وعلا: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]. وكذلك قوله عن أعمالهم: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} [النور:39]. وكما قال في الآية الأخرى: {كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم:18] هذه أعمال الكفار بهذه الصورة التي يمثلها لنا ربنا جل وعلا والمشركون. والمشرك إذا مات على شركه فهو خالد في النار أبداً، ولا يغفر له، وكذلك الكافر إذا مات على كفره فهو خالد في النار، والجنة عليه حرام، ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يبلغ في المجامع ويأمر منادياً ينادي: (لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة) حتى يعلم الناس ذلك. والإيمان ليس كما يقول بعض الناس: الإيمان في القلب، وإنما الإيمان في القلب والجوارح والسلوك والعمل، وليس في القلب فقط، والإيمان الذي في القلب لا يكفي إذا لم يكن هناك عمل. فالساحر يتقرب إلى الشيطان بما يصنعه من العقد التي ينفث فيها، والعزائم والأبخرة والأدعية التي يدعو الشيطان بها؛ حتى ينعقد ما أراده بإذن الله الكوني القدري، فيحصل للمسحور الأذى إما مرض وإما تغير حال، يصبح بدل الحب بغضاً أو بالعكس، أو قد يغير مزاجه، وقد يمرضه، وقد يموت، وقد ذكروا: أن السحر له أنواع متعددة، ولكن بعض الأنواع التي ذكرت ليست من السحر المحرم، وإنما هي حيل، ولهذا جاء في اللغة: أن السحر هو الصرف، يعني: أن يصرف الإنسان عن الشيء الذي يراه على غير حقيقته، ومن ذلك قولهم: (سحرت الصبي إذا خدعته واستملته) ومن ذلك ما جاء في الحديث: (إن من البيان لسحراً) وذكر أن سبب هذا القول من الرسول صلى الله عليه وسلم أن ابن الأهتم لما حضر مع الزبرقان وقال للرسول صلى الله عليه وسلم عن الزبرقان: إنه لقوي العارضة، مطاع في أنديته، وإنه كذا وكذا فقال الزبرقان: والله إنه ليعلم أكثر من ذلك، ولكنه يحسدني، فقال: أنا أحسدك؟ ثم قال: والله إنه للئيم الخال، حديث المال كذا وكذا ثم قال: والله يا رسول الله! ما كذبت في الأولى ولا كذبت في الثانية، ولكني رضيت فقلت أحسن ما أعلم، وسخطت فقلت أسوأ ما أعلم، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن من البيان لسحراً) يعني: أن الذي عنده مقدرة على البيان قد يصف الباطل فيجعله بصورة الحق، فيخيل للإنسان أنه حق فيسحره يعني: يصرفه عن الحق بهذه الصورة. وهذا على مذهب المحدثين أنه على سبيل الذم، يعني هذا القول: (إن من البيان لسحراً) على سبيل الذم، والمقصود: أن السحر في اللغة هو هذا. أما السحر في الاصطلاح فهو -كما ذكر العلماء-: عزائم وعقد ينفث فيها كما قال الله جل وعلا: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:4] يعني: السواحر، عقد وعزائم ورقى وأدخنة وأبخرة يتقرب بها إلى الشيطان، فتجتمع نفس الساحر مع نفس الشيطان على أذية المسحور، بواسطة ما يفعله من الأبخرة وغيرها، أو الأدوية التي يجمعها فينعقد ما أراده بإذن الله جل وعلا القدري الكوني، فهذا هو السحر الذي يكون شركاً وكفراً. ولما كان السحر لا ينفك عن الشرك أراد المؤلف رحمه الله أن يبين أن هذا مناف للتوحيد، وأنه يجب على الموحد أن يعرف ذلك حتى يجتنبه ولا يقع فيه. قال الشارح: [قوله: باب ما جاء في السحر أي: والكهانة]. الكهانة سيأتي لها باب مستقل، ولكنه قال: والكهانة؛ لأنها أدخلت فيه، بل ومن أنواع السحر النميمة كما سبق، وهناك أنواع ألحقت بالسحر مثل: اقتباس علم النجوم والنظر فيها والتأثير فيها، ومثل الحيل التي يصنعها بعض الناس، ويصرف وجوه الناس عنها، ومثل قوى النفس، فقد يكون لبعض الناس تأثيراً قوياً في نفسه فيؤثر على الآخرين بإصابة العين وما أشبه ذلك، كل هذا وغيره أدخل في السحر، ولكن الواقع أنه ليس من السحر.

السحر شيء ثابت له حقيقة

السحر شيء ثابت له حقيقة قال الشارح: [السحر في اللغة: عبارة عما خفي ولطف سببه، ولهذا جاء في الحديث: (إن من البيان لسحراً). وسمي السحر سحراً؛ لأنه يقع خفياً آخر الليل. قال أبو محمد المقدسي في الكافي: السحر: عزائم ورقى وعقد تؤثر في القلوب والأبدان، فيمرض ويقتل، ويفرق بين المرء وزوجه، قال الله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة:102]، وقال سبحانه: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:4] يعني: السواحر اللاتي يعقدن في سحرهن، وينفثن في عقدهن، ولولا أن للسحر حقيقة لم يأمر الله بالاستعاذة منه]. هذا إشارة إلى أن بعض العلماء قالوا: إنه لا حقيقة له، وهذا في الواقع قول ضعيف جداً، والذي قال به قلة كما ذكر الحافظ ابن حجر وغيره، وقد ذكروا أنواعاً من السحر متفق عليها، ومنه ما هو كفر، الذي هو عقد ورقى ينفث فيها الساحر، وقد يكون بغير عقد ورقى؛ بواسطة أشياء يعالجها كما سيأتي في كون النبي صلى الله عليه وسلم سحر في مشط ومشاطة في جف طلع نخلة ذكر، ووضع في بئر يقال لها: بئر ذروان، فهذا نوع وهو، أشد السحر، وهذا يكون بواسطة الأرواح، وبواسطة العلاجات، فيؤثر على الروح والبدن، وهو أعظم السحر وأشده. ونوع آخر وهو كفر أيضاً يكون بمساعدة الشيطان فقط، يدعوه ويخضع له ويذل له، ويكون عابداً له، فيفعل الشيطان الشيء الذي يريده، وهذا قد يكون على الروح فقط بالتخيلات. ونوع آخر مثل سحر أصحاب الكواكب الذين يجعلونها مؤثرات على ما في الأرض، ويزعمون أن لها روحانيات، والروحانيات: هي أرواح -حسب زعمهم- تتنزل عند عبادة خاصة يتعبدونها لهذه الكواكب، ويعبدون الكواكب السبعة السيارة: الشمس، والقمر، والمريخ، وزحل، وعطارد، والزهرة، فهذه الكواكب يزعم هؤلاء السحرة أنها روحانيات، وهم في الواقع يعبدون شياطين، فتنزل عليهم وتعمل معهم بعض الذي يريدونه، ولهذا تكون بواسطة أبخرة وأدخنة ودعوات وعبادة خاصة يتعبدون بها، فهؤلاء هم الكلدانيون الذين بعث فيهم إبراهيم، وقد ذكر الله جل وعلا أنه أخبر عن اليهود أنهم اتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان، وكذلك أخبر أنهم يتبعون ما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة:102]. فهذه الآية توضح لنا أن السحر له حقيقة، وأنه يمكن تعلمه، ويمكن أن يكون الإنسان ساحراً بالتعلم، وبواسطة الشياطين، فالشياطين هي التي تعلم الناس ذلك، وعلى القول الصحيح الذي اختاره أكثر السلف أن الملكين ببابل هاروت وماروت كانوا يعلمون الناس السحر، قال: (وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر). وقد ذكر العلماء في سبب نزول هذه الآية روايات عن الصحابة مثل ابن عباس وغيره، وعن سعيد بن المسيب وقتادة وغيرهم: أن سليمان عليه السلام أخذ كتب السحر من الشياطين ودفنها تحت كرسيه، والشياطين لا تستطيع أن تقرب إلى كرسيه، فلما مات سليمان عليه السلام جاءت الشياطين واستخرجت هذه الكتب ونشرتها في الناس وقالت: هذا الذي كان سليمان يسخر به الجن والإنس والدواب، فاعتقد اليهود وأهل الكتاب الذين أخذوا ذلك أن سليمان ساحر، فلما نزل القرآن وذكر سليمان عليه السلام مع الأنبياء أنكر ذلك اليهود وقالوا: سليمان ساحر، ولا يزال اليهود إلى الآن يعتقدون أنه ساحر؛ فأنزل الله جل وعلا هذه الآية: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة:102] يعني: بهذه الكتب التي زعمت أن سليمان هو الذي صنعها، وهو الذي يستعملها، وهي من صنع الشياطين؛ لتضل الناس بذلك، ولهذا قال: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة:102] ثم ذكر: {وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} [البقرة:102] (الملكين) بفتح اللام عند أهل القراءات المشهورة، وقد جاء في قراءة شاذة: (الملكين)، ولكن صحت الروايات عن مفسري السلف: أنهما من الملائكة، وذلك أن الملائكة لاموا بنو آدم على ارتكابهم المعاصي، يعني: حسب الروايات التي جاءت، فقال الله جل وعلا للملائكة: اختاروا اثنين ليكون لهما التركيب الذي في بني آدم، وينزلا في الأرض فيحكمان بين الناس، فاختير هاروت وماروت، فنزلا إلى الأرض، وركبت فيهم الشهوة التي في بني آدم، والطبائع التي في بني آدم، فصارا يحكمان بالعدل وبالحق حتى جاءت إليهما امرأة جميلة، فافتتنا بها فوقعا في المعصية، عند ذلك اختارا أن يعذبا في الدنيا، فعلقا برجليهما في بئر برهوت إلى يوم القيامة، وصار عليهما أن يعلمان السحر. وبعض العلماء أنكر ذلك وقال: لا يمكن أن الملائكة تقع في مثل هذا، وهذا يحتاج إلى دليل ثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فأنكروا ذلك وقالوا: المعنى أن هذا نفي، يعني: والله ما أنزل على الملكين السحر، الله لا ينزل السحر الذي يتعلم الناس منه، وإنما ينزل الوحي والحق. والمقصود: أن السحر حق ثابت وله حقائق، ومن أنكر حقيقته فهو مكابر، إلا أن يكون الإنكار للسحر الذي يقلب أعيان الأشياء كما يزعم كثير من الناس، ويتناقلون فيما بينهم حكايات وقصصاً لا حقيقة لها، ولو طلب من إنسان أن يثبت على ذلك دليلاً ما استطاع، فينقلون: أن الساحر يستطيع أن يقلب الإنسان حيواناً أو يقلبه حجراً أو بالعكس، وهذا ينكر؛ لأن هذا ليس له شيء ثابت.

قصة عائشة مع العجوز الساحرة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم

قصة عائشة مع العجوز الساحرة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم روى الحاكم في مستدركه وابن جرير في تفسيره بإسناد صحيح عن عائشة رضي الله عنها، أنها بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم جاءت إليها امرأة تبكي بكاءً شديداً، وقد جاءت من دومة جندل تريد رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدته قد توفي، فصارت تبكي بكاءً شديداً، تقول عائشة: حتى كنت أرحمها لكثرة بكائها وشدته، فسألتها؟ فقالت: إني كان لي زوج قد غاب عني فاشتقت إليه، فجاءتني عجوز وشكوت أمري إليها، فقالت: إن فعلت ما أقول لك سيأتيك زوجك أو ما تريدين؟ فقلت: نعم، فذهبت فجاءتني بكلبين أسودين، فركبت واحداً، وقالت لي: اركبي الآخر فركبت معها، وأسرعا، فإذا نحن ببابل، وإذا بئر فيها رجلان معلقان بأرجلهما، فقالا لي: اتقي الله ولا تكفري وارجعي إلى أهلك، فقلت: أريد أن أتعلم السحر، فقالا لي: اتقي الله ولا تكفري، وارجعي إلى أهلك، فقلت: لابد، فقالا لي: اذهبي إلى تلك البئر فبولي فيها، تقول: فذهبت إلى البئر فخفت واقشعر جلدي، فرجعت ولم أفعل شيئاً، فقالا لي: أبلت؟ فقلت: نعم، فقالا لي: أرأيت شيئاً؟ فقلت: لا، فقالا: كذبت لم تبولي، اذهبي إلى أهلك واتقي الله ولا تكفري، فقلت: لا، فقالا: إذاً: اذهبي إليها وبولي، فذهبت فلما وصلتها خفت واقشعر جلدي فرجعت، فسألاني أبلت؟ فقلت: نعم فعلت، فقالا: أرأيت شيئاً؟ فقلت: لم أر شيئاً، فقالا: كذبت، اتقي الله وارجعي إلى أهلك، ولا تكفري، فقلت: لابد، قالا: اذهبي للبئر وبولي، تقول: فذهبت إليها فبلت، فرأيت فارساً خرج مني مقنعاً، فذهب حتى غاب عني في السماء، فرجعت إليهما فقالا لي: أبلت؟ قلت: نعم، قالا: أرأيت شيئاً؟ قلت: نعم، رأيت فارساً خرج مني مقنعاً حتى ذهب في السماء وغاب عني، فقالا: ذاك الإيمان خرج منك، فركبنا على الكلبين ورجعنا، فقلت لما رجعنا للعجوز: لم أر شيئاً ولم أسمع شيئاً! قالت: بلى، أي شيء تريدين الآن يأتيك؟ خذي هذا الحب فابذري، فأخذت الحب فبذرته فنبت، ثم استوى، ثم انطحن، ثم انعجن، ثم انخبز، ثم إني والله ندمت ولم أفعل شيئاً، تقول: فسألت الصحابة فأبوا وهابوا أن يقولوا لها شيئاً. فهذه الحكاية سندها صحيح، وبعض العلماء طعن فيها وقالوا: لا يمكن أن يقلب السحر الأشياء، فيجعل الحب ينبت في الحال، ثم يستوي، ثم يحصد فيخرج من أكمامه، ثم ينطحن، ثم ينعجن، ثم ينخبز، ثم يستوي هذا لا يمكن؛ لأنه قلب الأشياء عن حقائقها، قالوا: وإن صح السند إلى عائشة فهذه المرأة قد خرج إيمانها فلا نصدقها بقولها هذا، والصحابة هابوا أن يقولوا لها شيئاً أو أن يفتوها بشيء، مع أنها كانت نادمة وكانت تبكي بكاءً شديداً، وتقسم أنها لا تفعل شيئاً. فالمقصود: أن هذا من أدلة القائلين أن الساحر يمكن أن يحول بعض الأعيان إلى غير عينها، واستدلوا بهذه الحكاية فقط، وقد طعن فيها من طعن، وقالوا: إن هذه لا يعتمد عليها، وهي حكاية عن امرأة أقرت على نفسها أن الإيمان خرج منها فكيف نصدقها؟ لا نصدقها، ولو كلف إنسان من السحرة أو من غيرهم أن يقلب حيواناً إنساناً أو العكس ما استطاع، ولا نفتيه بشيء من ذلك، وإنما هي تخيلات تخيل على العيون، فيتخيل لبعض الناس أن ذلك كذلك وهو ليس كذلك، كما قال الله جل وعلا: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66]. وستأتي قصة جندب الخير مع الساحر الذي كان يدخل في البقرة من فمها ويخرج من دبرها، ويدخل من دبرها ويخرج من فمها، ويقطع رأسها ثم يقول لها: قومي فتقوم، وهذا تخييل؛ ولهذا لما رآه جندب يصنع هذا جاء مشتملاً على سيفه وضرب عنقه وقال: إذا كنت صادقاً فأحي نفسك؟ كان يخيل الشيء للناس، فيتخيل لهم أنه يصنع هذا الشيء، وهو ليس كذلك، ولهذا إذا جاء من لا يفطن له الساحر من جهة أخرى يرى أنها طبيعية تماماً وليس فيها شيء من التغيرات.

حديث أن النبي عليه الصلاة والسلام سحره يهودي

حديث أن النبي عليه الصلاة والسلام سحره يهودي قال الشارح: [وعن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر حتى إنه ليخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله، وأنه قال لها ذات يوم: أتاني ملكان فجلس أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي فقال: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب، قال: ومن طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم، في مشط ومشاطة، في جف طلعة ذكر في بئر ذروان) رواه البخاري]. هذا الحديث رواه البخاري في خمسة مواضع من صحيحه، ورواه مسلم في السحر، ومعروف أن مسلماً رحمه الله لم يبوب الأحاديث التي ذكرها في كتابه على التراجم، وإنما يسند الأحاديث مرتبة بدون تراجم، والتراجم التي في صحيح مسلم الآن وضعها الشراح مثل النووي والقاضي عياض والقرطبي، وليس القرطبي صاحب التفسير، فهؤلاء هم الذين وضعوا هذه التراجم، فرواه في كتاب السحر في آخر الصحيح. ومسلم رحمه الله ما كان يكرر الحديث، وإنما كان يذكر الأحاديث التي موضوعها واحد في مكان واحد، بخلاف البخاري فإنه يهتم بالتراجم أكثر من اهتمامه بمتون الحديث، ولهذا يقول العلماء: فقه البخاري في تراجمه، وقد جعل التراجم أكثر من الأحاديث؛ لأن تراجمه بلغت أربعة آلاف وثمانمائة وبضعة عشر، وأحاديثه بدون التكرار ألفان ومائتان وثلاثة عشر فقط، هذا هو المحرر الصحيح، والتراجم صارت مضاعفة؛ لأنه يكرر الحديث ويضع عليه عدة تراجم، ويكفي الإنسان أن يعرف أنه لما ذكر حديث جابر: في بيع الجمل عليه، لما غزا على جمل ضعيف، وفي رجوع الرسول صلى الله عليه وسلم من الغزوة صار الجمل يتأخر ولا يلحق الجيش، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يتفقد أصحابه، فوجد جابراً قد أنخذل عن أصحابه وتأخر، فسأله فقال: الجمل لا يسير، فزجره الرسول صلى الله عليه وسلم وضربه، فصار يسير سيراً حثيثاً حتى قال: كنت أقهقره لئلا يتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، ثم قال له صلى الله عليه وسلم وهو يحادثه ويؤانسه كما هي عادته صلى الله عليه وسلم: (هل تزوجت يا جابر؟! فقلت: نعم يا رسول الله! فقال: بكراً؟ فقلت: لا، ثيباً، فقال: ألا بكراً تلاعبها وتلاعبك؟ قلت: يا رسول الله! إن أبي توفي وترك سبع بنات، فكرهت أن آتي ببنت جاهلة مثلهن، وأردت أن آتي بامرأة عاقلة تصلحهن، فقال: أحسنت، ثم قال لي: أتبيع الجمل؟ فقلت: نعم، فاشتراه صلى الله عليه وسلم وجعله معه، فلما وصل إلى المدينة وحط رحله جاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: هذا الجمل، فوفاه وزاده -أعطاه القيمة وزاده- ثم قال له: اذهب بجملك). هذا الحديث ذكره البخاري في ستة وثلاثين موضعاً وجعل عليه ستاً وثلاثين ترجمة، فهذا هو الفقه الذي يفيد وينفع، ويتأمله الإنسان، وهذا الكتاب لا يستغني عنه طالب العلم، ويجب أن يعتني به، ويردده ويكرره، ويتفهم التراجم مع مطابقة الأحاديث التي ذكرها البخاري، فإنه بذلك يخرج وقد علم شيئاً كثيراً بإذن الله. وهناك شيء آخر يجب أن يتنبه له أيضاً فعله البخاري عمداً، وهو أنه إذا وضع ترجمة لا يأتي بالحديث الذي يدل على مضمونها دلالةً ظاهرة، وإنما يأتي بشيء فيه خفاء؛ ولهذا كثير من العلماء الشراح يعسر عليهم فهم مطابقة الحديث للترجمة؛ والسبب في هذا أنه يريد أن يدرب الطالب على الفهم والفقه، وعلى الاستنتاج، فهو في الواقع كتاب تعليم وتدريب وتفقيه، فهو كتاب عظيم جداً، مع أنه انتقى الأحاديث المهمة التي لا يستغني عنها طالب العلم، وهذا شيء عارض، والمقصود أن الرسول صلى الله عليه وسلم سحر. ثم كذلك هذا الحديث رواه الإمام أحمد في المسند في عدة مواضع، وروي عن ثلاثة من الصحابة: عائشة وأنس وزيد بن أرقم، وهناك روايات أخرى غير هذه، والحديث ثابت.

سبب إنكار بعض الناس لحديث سحر اليهودي للنبي صلى الله عليه وسلم

سبب إنكار بعض الناس لحديث سحر اليهودي للنبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث أنكره بعض العلماء، وسبب إنكارهم أنهم قالوا: إن هذا يقدح في عصمة النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف يقع هذا السحر والسحر قد يغير الفكر والنظر والمزاج؟ وفي هذا الحديث نفسه في صحيح البخاري رواية أخرى غير هذه عن عائشة أنها قالت: إنه سحر، حتى إنه يخيل إليه أنه يأتي الشيء ولم يأته، وأنه يصنع الشيء ولم يصنعه، وهذا يقول العلماء: أشد أنواع السحر. والقاضي عياض حاول أن يؤول هذا الكلام، وقال: معنى (أنه يخيل إليه) يعني: مثلما يحدث للإنسان في نومه أو في يقظته أنه اتصل بأهله ولم يتصل، وليس معناه أنه أثر في عقله أو في فكره صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه معصوم من ذلك، هكذا قال القاضي عياض لئلا يقع في ذلك طعن. ومعلوم أن السحر الذي وقع عليه هو في بدنه صلوات الله وسلامه عليه، وبدنه ليس معصوماً من أن يناله الأذى، ولهذا جرح يوم أحد، وكسرت البيضة على رأسه، وكسرت رباعيته، وسقط في حفرة من الحفر التي كان يحفرها الفاسق عامر، وحصل له ما حصل، فأنزل الله جل وعلا عليه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} [آل عمران:128]. وكذلك كان يمرض صلوات الله وسلامه عليه، فكان يصيبه صداع ويصيبه غير ذلك مما يصيب البشر، فكان بدنه كأبدان الناس، كما قال الله جل وعلا: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} [فصلت:6]. أما فكره وعقله وما يوحيه الله جل وعلا إليه فمعصوم مما يخل به. ويدلنا هذا الحديث على أن السحر قد يؤثر في أي إنسان كان، وقد لا تمنع منه التعوذات والأوراد والأذكار وقد لا تنفع، فالرسول صلى الله هو أكمل الخلق صلوات الله وسلامه عليه، وقلبه دائماً مع الله جل وعلا، وكذلك هو بنفسه دائماً في عبادة وذكر، ومع ذلك حصل له ما حصل.

حقيقة سحر النبي صلى الله عليه وسلم

حقيقة سحر النبي صلى الله عليه وسلم ورد أن اليهود جاءوا إلى لبيد بن الأعصم وهو ساحر بني زريق، فجعلوا له جعلاً فقالوا: أنت أسحرنا، وقد سحرنا محمداً فما أثر ذلك به، فنريد أن تسحره، فوضع السحر، فأثر به صلى الله عليه وسلم. وذكر الواقدي عن مدة سحره وعن وقته: أن ذلك كان بعد رجوعه من غزوة الحديبية، والمدة ذكر فيها روايتين وذكرهما تلميذه ابن سعد أحدهما: أنه بقي مسحوراً أربعين يوماً، والأخرى: أنه بقي مسحوراً ستة شهور صلوات الله وسلامه عليه، وكان في أول الأمر وكل الأمر إلى الله، وترك العلاج توكلاً على الله واعتماداً عليه، ثم لما أثر فيه عالجه بالعلاج الصحيح وهو الدعاء، فلهذا تقول عائشة: (سحر حتى كان يخيل إليه أنه يصنع الشيء ولا يصنعه، فلما جاء عندي ذات يوم أو ليلة دعا ودعا، ثم قال لي: يا عائشة! أعلمت أن الله أفتاني؟ إنه أتاني آتيان -أو قال: ملكان- فجلس أحدهما عند رجلي، والآخر عند رأسي، فقال أحدهما للآخر: ما بالرجل؟ فقال: طب -والطب هو السحر- فقال: ومن طبه؟ فقال: لبيد بن الأعصم بمشط ومشاطة، في جف طلع نخلة ذكر في بئر ذروان، ثم إنه صلى الله عليه وسلم ذهب إليها هو وبعض أصحابه يقول: فرأيت ماءها كنقيع الحناء، ورءوس نخلها كرءوس الشياطين -وهي بئر رجل من اليهود- فأمر بها فدفنت، فقلت: يا رسول الله! ألا استخرجته؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أما أنا فقد شفاني الله، وكرهت أن أفتح للناس باب شر) هذا في رواية البخاري. وقوله: (إنه لبيد بن الأعصم) هذا يهودي من اليهود السحرة، وهو من بني زريق. وقوله: في (مشط ومشاطة) المشط: هو الذي يمشط به الشعر، والمشاطة: هي التي تخرج عند مشط الشعر من الشعر والوسخ وما أشبه ذلك، أخذها ووضعها مع المشاطة في طلع نخلة ذكر يعني: كافور النخلة الفحل، أخذ هذا الشيء ووضعه في الكافور ثم وضع هذا الشيء في البئر، وهذا مع النفث، ومع الشيء الذي يكون بواسطة الشيطان. وهكذا يصنع السحرة! ولهذا إذا أخرج السحر وأحرق أو أتلف فإنه يبطل سحره، ولهذا يحافظ السحرة على هذا الشيء الذي يصنعونه، وبعضهم ربما وضعه في معدن وغلق عليه برصاص فحافظ عليه كثيراً حتى يبقى السحر؛ لأنه إذا ذهب وزال انتهى السحر. فذكر صلوات الله وسلامه عليه أنه دعا، فاستجاب الله وشفاه، ولكن بعد ما عرف أنه سحر بواسطة الملائكة، وأن هذا هو الذي سحره. ولم يعاقب هذا الرجل الكافر الخبيث، ومعلوم أن المعاهد إذا فعل مثل ذلك ينتقض عهده. ولهذا استدل بعض العلماء بهذا الحديث: أنه لا يقتل الساحر، وليس كذلك؛ لأن هذا حق للنبي صلى الله عليه وسلم يتعلق بنفسه وبجسده الشريف صلوات الله وسلامه عليه، وله أن يحكم به بحكم الله، وله أن يعفو، فعفا مثل ما عفا عن اليهودية التي وضعت له السم في اللحم ولم يقتلها، مع أن الذين أكلوا معه أحدهما مات من السم، والعلماء يقولون: إذا وضع شخص سماً لأحد حتى قتله فإنه يقتل به، فالمقصود أن هذا لا يكون دليلاً على عدم القتل، وسيأتي أن حده ضربة بالسيف حتى يموت، وفي هذا دليل على تأثير السحر بالبدن، وفيه دليل على أن السحر يشفى الإنسان منه بالأدعية والرقية بكتاب الله وبأسمائه، وهذا أمر مجرب نافع جداً، ولكن ما وجد لكل أحد، إن كان الإنسان عنده إيمان وقوة وتصديق في ذلك فإنه بإذن الله يزول بسرعة، ويشفى كما شفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبطل سحر الساحر بذلك، ولا سيما إذا عزم عليه بالآيات التي تناسب مما ذكر فيها السحر وإبطاله، وأن الساحر لا يفلح وما أشبه ذلك، وآيات الله كلها فيها شفاء كما قال الله جل وعلا: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ} [الإسراء:82] والصواب أنه شفاء عام، شفاء للأبدان، وشفاء للقلوب، وشفاء للأمراض والشبهات والشهوات وغيرها، هو شفاء عام، لكن لا يجوز أن يستعمل الاستعمال السيئ الذي يستعمله بعض الناس، حيث يجعله طريقاً لكسب المال فقط، ثم يلبس على الناس ويصير مقصوده فقط استغلال الناس وابتزاز أموالهم، وهذا لن يشفى أحد ممن يقصده إذا كانت هذه طريقته وهذا مقصوده، ولكن قد يشفى إنسان منهم بإرادة الله، وليس بسبب علاج هذا الذي يريد الدنيا. فهذا يدلنا على أن العصمة التي أخبر الله جل وعلا عن نبيه أنه يعصمه ليست في بدنه، وإنما هي فيما يبلغه عن الله جل وعلا، وهذا باتفاق العلماء: أن الشيء الذي يبلغه عن الله جل وعلا من الدين وغيره أنه معصوم فيه، وأنه يقع فيه شيء خلاف ما أوحاه الله جل وعلا.

شرح فتح المجيد [74]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [74] حرم الله السحر في جميع الأديان والشرائع، ويشمل التحريم تعلّمه وتعليمه وصناعته، وكل ذلك موبقة من الموبقات، وكفر بالله جل وعلا؛ لأن الإنسان لا يتعاطى السحر إلا بعد أن يكفر بالله عز وجل ويعبد الشيطان. وقد قرن النبي صلى الله عليه وسلم السحر بالشرك وقتل النفس، وما ذاك إلا لما يترتب عليه من الكفر بالله والإضرار بعباده.

التحذير من السحر والسحرة

التحذير من السحر والسحرة

السحر والإيمان لا يجتمعان

السحر والإيمان لا يجتمعان قال الشارح رحمه الله: [قوله: وقول الله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:102] قال ابن عباس: من نصيب. وقال قتادة: فقد علم أهل الكتاب فيما عهده إليهم: أن الساحر لا خلاق له في الآخرة. وقال الحسن: ليس له دين]. معنى (اشتراه) أي: أنه أخذه بدل إيمانه وكفره به. يعني: اعتاض بالسحر بدل الإيمان، وهذا يدلنا على أنه لا يجتمع السحر والإيمان بما جاءت به الرسل. قال الشارح رحمه الله: [فدلت الآية على تحريم السحر، وكذلك هو محرم في جميع أديان الرسل عليهم السلام، كما قال تعالى: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:69]]. يعني: تحريم السحر وتعلمه وتحريم استعماله وصنعه، فمن تعلمه فإنه يكون كافراً. أي: أنه لا يمكن أن يكون ساحراً إلا بواسطة الشرك وعبادة الشيطان على ما قرر العلماء، وأما استعماله فهو إيمان به، وطلباً لأذية الخلق. قال الشارح رحمه الله: [وقد نص أصحاب أحمد: أنه يكفر بتعلمه وتعليمه. وروى عبد الرزاق عن صفوان بن سليم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تعلم شيئاً من السحر قليلاً كان أو كثيراً كان آخر عهده من الله)]. المرسل ضعيف، وليس هذا هو الدليل، بل الدليل ما في الآية وفي الأحاديث الأخرى الصحيحة.

اختلاف العلماء في كفر الساحر وذكر الأقوال في ذلك

اختلاف العلماء في كفر الساحر وذكر الأقوال في ذلك قال الشارح رحمه الله: [واختلفوا: هل يكفر الساحر أو لا؟ فذهب طائفة من السلف إلى أنه يكفر، وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد رحمهم الله. قال أصحابه: إلا أن يكون سحره بأدوية وتدخين وسقي شيء يضر فلا يكفر]. يعني: يكون بأمور طبيعية، وليست موافقة للشياطين. ومثل هذا أن يعطي للإنسان سماً يضره، فهذا يترتب عليه الحكم حسب ما يقع، ولا يكون كافراً. أما السحر الذي يكون بتعلم السحر وبواسطة الشيطان فإن صاحبه يكفر. قال الشارح رحمه الله: [وقال الشافعي: إذا تعلم السحر قلنا له: صف لنا سحرك؟ فإن وصف ما يوجب الكفر مثلما اعتقده أهل بابل من التقرب إلى الكواكب السبعة، وأنها تسأل ما يلتمس منها؛ فهو كافر، وإن كان لا يوجب الكفر؛ فإن اعتقد إباحته كفر]. هذا خلاف الشافعي. قالوا: إنه خلاف لفظي؛ وذلك أنه لما قال له: (صف لنا سحرك، فإن ذكر ما يوجب الكفر كفر) فالذين خالفوا وقالوا: إن السحر لا ينفك عن الشرك، ولا يكون إلا بالشرك وبطاعة الشيطان وعبادته، وإذا كان في طاعة الشيطان وعبادته فيكون كافراً، فيتبين بهذا أنه يتفق معهم. وإنما يعني: الكلام في حقيقة السحر. والسحر يطلق على فعل الساحر، ويطلق على الشيء الذي يصنعه الساحر، والشيء الذي يصنعه من الأدوية ومن العقد وغيرها يقال له: سحر، وفعله يقال له: سحر. فهذا لا يمكن أن يكون إلا من ساحر يكون مشركاً بواسطة الشياطين يعينونه على ذلك. قال الشارح رحمه الله: [وقد سماه الله كفراً بقوله: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102]، وقوله: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} [البقرة:102]. قال ابن عباس في قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102]: وذلك أنهما علما الخير والشر والكفر والإيمان فعرفا أن السحر من الكفر].

معنى الجبت والطاغوت

معنى الجبت والطاغوت قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء:51]. ] سبق بيان معنى الجبت والطاغوت، وأن الجبت: هو السحر كما فسره عمر، وهذا هو سبب ذكر هذه الآية وإعادتها، فهو داخل في الشرك؛ لأنه فسر الجبت بالشرك، وفُسر بالكاهن، وفسر بالذي يعتاض عن شرع الله جل وعلا بغيره. قال الشارح رحمه الله: [قال عمر: (الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان) هذا الأثر رواه ابن أبي حاتم وغيره. قوله: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء:51] تقدم الكلام عليهما في الباب الذي قبل هذا وفيه: أن السحر من الجبت. قال الشارح رحمه الله: [وقول جابر: الطواغيت: كهان كان ينزل عليهم الشيطان في كل حي واحد، هذا الأثر رواه ابن أبي حاتم بنحوه مطولاً عن وهب بن منبه قال: (سألت جابر بن عبد الله عن الطواغيت التي كانوا يتحاكمون إليها؟ فقال: إن في دهينة واحداً، وفي أسلم واحداً، وفي هلال واحداً، وفي كل حي واحد، وهم كهان كانت تنزل عليهم الشياطين). قوله: (قال جابر): هو ابن عبد الله بن حرام الأنصاري. قوله: (الطواغيت كهان)، أراد أن الكهان من الطواغيت، فهو من أفراد المعنى. قوله: (كان ينزل عليهم الشيطان) أراد الجنس لا الشيطان الذي هو إبليس خاصة، بل تنزل عليهم الشياطين ويخاطبونهم ويخبرونهم بما يسترقون من السمع فيصدقون مرةً ويكذبون مائة. قوله: (في كل حي واحد): الحي واحد الأحياء وهم القبائل. أي: في كل قبيلة كاهن يتحاكمون إليه ويسألونه عن الغيب. وكذلك كان الأمر قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، فأبطل الله ذلك بالإسلام، وحرست السماء بكثرة الشهب].

حديث: (اجتنبوا السبع الموبقات)

حديث: (اجتنبوا السبع الموبقات) قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله! وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)]. قوله صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا السبع الموبقات). (اجتنبوا): هذا أمر من الرسول صلى الله عليه وسلم لاجتناب السبع الموبقات. ومعنى (اجتنبوا): ابتعدوا عنها، وهذا الأمر أبلغ من قولك: (لا تقرب أو لا تفعل)، بل اجعلها بعيداً عنك، وأنت عنها في جانب، وهذا يدل على عظم هذه الأفعال. قوله: (السبع): معروف أن الألف واللام إذا دخلت على الاسم فإنها تجعله معهوداً معروفاً، ولكنه هنا غير مقصود، وإنما المقصود ما ذكر، ثم إن المذكور بالعدد غير مراد كما سيأتي. (الموبقات): الموبق: هو المهلك، ومعنى: أنه موبق: أنه يجعل فاعله هالكاً بعذاب الله جل وعلا، والذي يفعل ذلك يكون هالكاً.

الشرك بالله

الشرك بالله أولاً: (الشرك)، الشرك هو أعظمها، ولهذا بدأ به، والشرك: هو أن تجعل شيئاً من العبادة الواجبة لله لمخلوق من المخلوقات، والعبادة كثيرة جداً، وكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وجوباً أو استحباباً فإنه عبادة، وكل أمر أمر به على سبيل الوجوب أو على سبيل الاستحباب فإنه عبادة، وكذلك كل ما نهى عنه تحريماً أو كراهة فاجتنابه عبادة وتركه عبادة، فلا يترك الإنسان شيئاً من ذلك لأجل مخلوق، فإنه إذا ترك شيئاً من ذلك لأجل مخلوق يكون واقعاً في الشرك. وكما أنه لا يفعل شيئاً من الواجبات أو المستحبات من أجل مخلوق فلا يتركه لمخلوق، فإنه إذا فعل ذلك يكون واقعاً في الشرك. ثم الشرك يتفاوت ونحن منذ بدأنا في هذا الكتاب إلى النهاية نتكلم وسنتكلم في أنواع الشرك، وما يجب أن يفعله الإنسان؛ لأن كتاب التوحيد يذكر الواجب ويذكر الشيء الذي يكون مضاداً له، فالشرك ضد التوحيد، وكذلك ما ينقصه أو يذهب بكماله، فإنه أيضاً يكون واجب الاجتناب. وقد سبق تعريف الإخلاص، وهو تحقيق التوحيد، وسبق أن تحقيق التوحيد بأن تكون إرادة الإنسان خالصة لله، متجهاً بها إلى الله، وأن يجتنب أيضاً الذنوب والبدع، أما إذا وقع في الذنوب والبدع فإنه لم يحقق توحيده؛ وذلك أن الذنوب والبدع تنقص التوحيد. فالشرك قد أخبر الله جل وعلا أنه لا يغفر لصحابه، كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] وهذا لمن يموت عليه، فالذي يموت على الشرك لا يغفر له، أما التائب فإن التوبة إذا كانت صادقة تمحو كل الذنوب، وتجب ما قبلها، سواءً كان الذنب شركاً وكفراً أو غير ذلك من سائر الذنوب، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له بشرط أن تكون التوبة نصوحاً، وهي واجبة على كل العباد، ومن لم يتب فهو ظالم قد ترك أمر الله؛ لأن الله جل وعلا يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم:8] فأمر بالتوبة النصوح، وهذا تكرر في القرآن في عدة مواطن. والرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالتوبة وحث عليها، فدل ذلك على أن التوبة واجبة متعينة من كل ذنب، وإذا وفق الله جل وعلا عبده وتاب قبل أن يموت توبةً نصوحاً؛ فهو من أهل الجنة، بل يكون من السابقين إليها، أما إذا مات على شرك وكفر فإنه من أهل النار قطعاً بلا تردد والجنة عليه حرام. وأما الذنوب الأخرى مع وجود أصل الإسلام ولو كانت من الكبائر فإنه تحت مشيئة الله، إن شاء عفا عنه بلا عقاب، وإن شاء عاقبه، وعقابه متنوع أوله: الموت ثم ما يتصل به في القبر، ثم ما يتصل بالقبر من النشر والحساب وكرباته، ثم بعد ذلك النار وعذاب النار يتفاوت، فمنهم من يبقى وقتاً قليلاً ثم يخرج، ومنهم من تطول مدته ولكنه في النهاية إذا كان معه أصل الإسلام لابد أن يخرج منها إلى الجنة، ولا يبقى فيها إلا الكفار المشركون، والكفر والشرك أنواع وأقسام، ولكن النتيجة واحدة. وقوله: (اجتنبوا السبع الموبقات) يدلنا على أن الموبق يتفاوت، وأنه ليس المقصود في قوله: (السبع الموبقات) الكبائر، وإنما المقصود: كل موبق. وعندما عد الشرك، فليس كالكبيرة التي يقول العلماء فيها: إن مرتكب الكبيرة لا يكون كافراً، فليس هذا مرادهم؛ لأن الشرك يخرج من الدين الإسلامي باتفاق، أما إذا كان كافراً أصلاً ولم يدخل في الدين فيجب عليه أن يؤمن أولاً، ويشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله؛ حتى يكون مسلماً، أما قبل ذلك فهو ليس بمسلم. وليس المراد بالشهادتين: النطق بهما فقط، بل لابد مع النطق أن يعتقد المعنى الذي دلت عليه الشهادتان، ويجب أن يعتقده ويعمل به، وإلا فمجرد النطق مع الاستمرار على الشرك لا يفيد؛ لأن الشهادة وضعت لإبطال الشرك، ومن كان يقولها وهو يفعل الشرك فقوله لغو لا فائدة فيه. إذاً: الموبق الأول: الشرك بالله.

السحر

السحر (السحر)، هذا الشاهد من الحديث: أنه جعل السحر قريناً للشرك، وقد سبق أن الساحر لا ينفك عن الشرك، وإنما هو أخص من الشرك، فهو شرك خاص لعمل خاص؛ وذلك لأنه يعبد الشيطان حينما يطلب منه السحر، والشيطان لا يؤتيه مطلوبه إلا إذا عبده، وعبادته، أن يطيعه فيما يأمره به، سواءً أمره أن يذبح، أو أمره أن يفعل فعلاً منكراً مخالفاً للشرع، فامتثال أمره عبادة له، ولابد أنه يطيعه ولو لم يطعه ما فعل الشيطان له شيئاً، فالسحر موبق ومهلك، وقد كثر السحر وللأسف في المسلمين الذين يدعون الإسلام؛ وذلك لجهلهم بدين الإسلام؛ أو لأنهم لا يهتمون بالدين أصلاً، وإنما همهم أن يتحصلوا على الدنيا بأي طريقة كانت، ولو بطرق خبيثة مضرة بالناس، فهذا مقصودهم، فصاروا به عباداً للدنيا بعد عبادتهم للشيطان، بل إن عبادة الشيطان وسيلة لعبادة الدنيا، وحصولهم على المقصود؛ ولذلك فليعلم أن السحر كفر بالله جل وعلا؛ لأنه يشتمل على الشرك، وقد دل كتاب الله جل وعلا على ذلك، كما قال جل وعلا: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102] فقوله: (فَلا تَكْفُرْ): يدل على أن تعلم السحر كفر، وكذلك بقية الآية فيها دلائل على أن السحر كفر. {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:102] هذا أيضاً يدل على كفره، والذي ليس له في الآخرة من خلاق هو الكافر الهالك. يعني: ليس له نصيب في الآخرة بل نصيبه النار. ومعنى: (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ) أي: من تعلمه وفعله، فالذي يتعلمه ويفعله هو المشتري له. ومن المعلوم أن الدنيا قليلة جداً، وأنها سوف تزول عن قرب كطرف العين؛ لأن الواقع أن الدنيا هي ما أنت فيه، أما ما مضى وما هو آتٍ فليس لك، وكأنه عدم. اعلم أن الدنيا عمرك، فإذا انتهى عمرك وختم لك على عمل انتهت الدنيا بالنسبة لك، فالإنسان إذا كان ساحراً، فهو خاسر هالك موبق، قد خسر خسارةً لا يربح بعدها أبداً، ولا يمكن أن يستدرك هذا، لا بأثمان ولا بأشخاص ولا بغير ذلك، انتهت القضية، وأصبح ما تحصّل عليه وبالاً وحسرة ومضرة، وقد زالت متعته وكأن لم تكن. ومن المعلوم أن العاقل يبحث عن الراحة وإزالة العذاب، وذلك لا يتأتى للإنسان إلا بطاعة الله جل وعلا فقط، ولا يوجد طريق غير هذا، وهذا أمر مؤكد بلا أدنى ريب وتردد، فالذي يرتكب شيئاً من هذه الأمور يعيش في هم ونكد وعاقبته خسارة.

قتل النفس

قتل النفس ثالثاً: (قتل النفس)، بعد السحر جاء بقتل النفس بغير حق، والمقصود بالنفس: النفس المعصومة، وقتلها من أعظم الجرائم، وقد جاءت أحاديث كثيرة مع آيات في كتاب الله تدل على عظم ذلك، يقول الله جل وعلا: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93] أي: وعيد فوق هذا؟ وفي الحديث: (لو اجتمع أهل السموات والأرض على قتل مسلم بغير حق -أو قال: مؤمن- لأكبهم الله جل وعلا في النار)، وفي الحديث الآخر: (كل ذنب عسى الله أن يعفو عنه إلا الرجل يلقى الله مشركاً أو بدم حرام) فقرن الدم الحرام بالشرك. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الإنسان في فسحة حتى يصيب دماً حراماً). وكذا ورد الترهيب في أحاديث كثيرة جداً، فهو أعظم الجرائم وأكبرها، وأول ما يقضى بين الناس في الدماء، كما جاء في الحديث الذي في السنن: (يأتي المقتول يحمل رأسه، ويمسك القاتل بيده، ويقول: يا رب! اسأل هذا فيم قتلني؟) فهو الآن وصل إلى حكم عدل يقضي بالحق جل وعلا، ولا يفوت حق لمقتول أبداً. وهذا في قتل النفس بغير حق، وقوله: (بغير حق) يخرج بذلك القتل بحق كالقاتل فإنه يقتل قصاصاً، والزاني المحصن فإنه يقتل بالرجم بالحجارة حتى يموت، وهذا قتل بحق، ولهذا جاء في الحديث الصحيح أنه قال: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) (المفارق) يعني: المرتد وهنا يقتل، هؤلاء ثلاثة يقتلون: الثيب المحصن (الزاني المحصن)، وإذا قتل نفساً بغير حق فإنه يقتل بها، وإذا فارق دينه فإنه يقتل، وهذا قتله بحق، ومن قتله لا يكون آثماً، بل يكون مأجوراً، ولكن الذي يقتل هؤلاء هو ولي الأمر الذي يأمر بقتلهم أو يقتلهم، وليس أحد الناس.

أكل الربا

أكل الربا رابعاً: (أكل الربا)، الربا: مأخوذ من الزيادة. تقول ربا الشيء: إذا زاد، وهو المال الزائد على المشروع، فكل زيادة بالدراهم أو بالذهب أو بالبر أو بالشعير أو بالتمر -الأصناف التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم- فالزائد فيها ربا، والربا أمره عظيم جداً، فإن الله جل وعلا يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:278 - 279] فقوله: (إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ): يدل على أن الإيمان شرط في اجتناب الربا، ومن أكل الربا فإن الإيمان منتف عنه. ثم قال: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا): يعني: تجتنبوا. (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) فإنكم حرب لله ولرسوله، من الذي يحارب الله ورسوله؟ وهل يستطيع الناس أن يحاربوا الله؟ فأكل الربا هو حرب لله، وآكله محارب لله ولرسوله، ودرهم من الربا كما جاء في الحديث أعظم من سبعين زنية، وآكل الربا يعذب في قبره قبل الآخرة؛ فإن من أسباب عذاب القبر: أكل الربا، وكما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه رأى أكلة الربا يسبحون في أنهار شبه الدم، ويلقمون حجارة وبطونهم كبيرة)، وإذا قاموا من قبورهم كأنهم مجانين، يقوم أحدهم ويسقط مثل الذي يتخبطه الشيطان من المس كأنه مجنون، وتكون بطونهم كالبيوت لا يستطيع أن يحمل بطنه كلما قام يسقطه بطنه على الأرض، ثم بعد ذلك يدخل النار نسأل الله العافية. يقول العلماء: أكل الربا سبب في سوء الخاتمة، وكل من يتعاطاه غالباً تكون خاتمته سيئة، وهذا أمر يخاف منه جداً؛ لأن الذنوب وإن كانت كبيرة يرجى أن يتوب الإنسان منها، ولكن مثل هذا يخاف ألا يوفق للتوبة.

أكل مال اليتيم

أكل مال اليتيم خامساً: (أكل مال اليتيم)، وأكل مال اليتيم جريمة كبرى؛ وذلك لأنه يدل على خسة آكل مال اليتيم؛ لأن هذا ضعيف، والضعيف ليس له من يحميه ويدافع عنه غالباً، فلهذا توعد الله جل وعلا آكل ماله بالنار، كما قال جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10]، فآكل مال اليتيم متوعد بأنه يصلى سعيراً، وقد جاءت النصوص الكثيرة تبين حرمة ذلك.

الفرار من الزحف

الفرار من الزحف سادساً: (الفرار من الزحف)، والزحف: هو ملاقاة العدو مواجهة، وسمي زحفاً؛ لأنهم يمشون ببطء وبشدة، فمن فر عند الملاقاة فإنه متوعد بالنار، وذلك أن فراره يدل على خوفه من الكفار، وشدة تعلقه بالدنيا؛ إذا لم يكن متحرفاً لقتال ولا متحيزاً إلى فئة أخرى من فئات المسلمين. يعني: فر وهو لا يريد الفرار، بل يريد الاستعداد للكر عليهم من جانب آخر. فهذا لا يسمى فراراً، بل هذا متحرف لقتال، والمتحيز إلى فئة هو الذي ينحاز إلى جانب آخر من صفوف المسلمين. أما إذا فر راغباً بنفسه عن ملاقاة العدو فإنه متوعد بالنار، وهذه جريمة من الكبائر الموبقة.

قذف المحصنات

قذف المحصنات سابعاً: (قذف المحصنات المؤمنات الغافلات)، المحصنة المراد بها: التي حصنت فرجها عن الفجور، والقذف في الأصل: الرمي، وقذفها بالفجور ادعاء أنها فعلت الفاحشة، وهذا بهت عظيم، والبهت أشد من الظلم، فمن فعله فإنه قد أوبق نفسه.

الذنوب: صغائر وكبائر

الذنوب: صغائر وكبائر هذه السبع التي ذكرت في هذا الحديث هل هي الموبقات فقط أم أن هناك موبقات أخرى؟ ثم هل هذا الحديث يدل على أن الذنوب منها موبق مهلك ومنها غير موبق أو لا يدل على ذلك؟ A اختلف العلماء في الذنوب، فمنهم من قال كما في ظاهر هذا الحديث: هناك ذنوب كبيرة تهلك صاحبها، وهناك ذنوب صغيرة أقل منها، ومنهم من قال: كل ذنب عصي الله به فهو كبير بالنظر إلى الآمر، فإنه وإن كان الذنب صغيراً فقد خالف أمره وارتكب نهيه، ومن وقعت منه مخالفة الله فإنه وقع في موبق؛ نظراً لعظم الله جل وعلا، وهذا روي عن ابن عباس وغيره من السلف، وهو قول أبي الطيب الباقلاني وأبي إسحاق الاسفراييني وغيرهما من العلماء. ولكن التحقيق أن الذنوب تنقسم إلى قسمين: كبائر وصغائر بدليل قول الله جل وعلا: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31]، وقوله: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم:32]. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (الصلاة إلى الصلاة، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)، وغير ذلك من الأدلة التي تدل على أن الذنوب منها كبائر وصغائر، فإذا كان الأمر هكذا فينبغي التمييز بين الكبائر والصغائر. ما الذي يميز بين الكبيرة والصغير وبأي شيء نعرف أن هذه كبيرة وهذه صغيرة؟ هذا أيضاً فيه اختلاف كثير بين العلماء، وبعض العلماء يذهب إلى العدد كما في هذا الحديث، فعدد الكبائر، وهذا يتوقف على ورودها في الكتاب والسنة، ومنهم من أتى بضوابط تضبط وتميز بين هذا وهذا.

من أنواع الكبائر

من أنواع الكبائر ورد في الكتاب والسنة الصحيحة غير هذه السبع، فمن الكبائر:

عقوق الوالدين

عقوق الوالدين أولاً: عقوق الوالدين، وقد جاء أنه من أكبر الكبائر كما في الصحيحين: (من أكبر الكبائر: أن يلعن الرجل أباه، قيل: كيف يلعن الرجل أباه؟ قال: يشتم أبا الرجل فيشتم أباه، ويشتم أمه فيشتم أمه) يعني: أن يكون سبباً للعن أبيه وأمه، وهذا إذا كان سبباً في لعنهما فكيف إذا لعنهما مباشرة؟ وللأسف فإنه يوجد في المسلمين من الأبناء التي تربوا في الشوارع والمقاهي وما أشبه ذلك من مجامع الفساد يلعنون آباءهم، وصار أحدهم أكره ما لديه والديه، وصار عند والديه شبه السبع، وتجده على أمه أشد، فإذا تكلمت انتهرها أو هددها وربما ضربها، وكذلك إن استطاع ذلك مع أبيه فعل، وهذا بلا شك يكون فاقداً للتربية مع فقده الإيمان بالله جل وعلا.

شهادة الزور

شهادة الزور ثانياً: شهادة الزور، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أخبركم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قال الصحابة: ليته يسكت) لما وصل إلى قول الزور وشهادة الزور غضب وصار يكررها؛ وذلك يدل على أنها تكثر في الناس، وهذا من إنذاراته صلوات الله وسلامه عليه وبلاغه، وقد كثرت وللأسف شهادة الزور في أوساط المسلمين، وقول الزور هو كل باطل، فإذا قاله الإنسان وتبناه أو دافع عنه أو ناصره فإنه قول زور. وأما الشهادة فهي أخص من ذلك، شهادة الزور: أن يشهد على شيء وهو يعلم أنه فيه كاذب، وهذه هي شهادة الزور، ويشهد مقابل منفعة مال أو مقابل أن المشهود له صديق له أو ما أشبه ذلك، فإذا شهد بذلك فقد شهد بالزور، نسأل الله العافية.

اليمين الغموس

اليمين الغموس ثالثاً: اليمين الغموس من الكبائر، وهو قريب من شهادة الزور، وهو أن يحلف الإنسان على شيء وهو يعلم أنه كاذب وسمي: غموساً؛ لأنه يغمس صاحبه في الإثم أو في النار، نسأل الله العافية.

الزنا

الزنا رابعاً: الزنا، فقد جاء في كتاب الله التحذير منه، وأخبرنا جل وعلا: أنه فاحشة وساء سبيلاً، وأنه ليس من شأن المؤمنين.

اللواط

اللواط خامساً: عمل قوم لوط، وهو أخبث من الزنا، ولهذا عذب الله جل وعلا أصحابه بأن حملوا ثم نكسوا على رءوسهم ثم أتبعوا بحجارةً. ويقول جل وعلا: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83] ويفسرها العلماء: ما هي من ظالمي هذه الأمة الذين يفعلون هذا الفعل، فهي ليست بعيدة منهم بل هي قريبة. وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه يكون في هذه الأمة خسف ومسخ) يعني: رجم، ومسخيعني: يمسخون قردة وخنازير، ويرجمون من السماء بالحجارة إذا فعلوا كما فعل أولئك الذي نكس الله فطرهم؛ لأن هذا أمر قبيح، تنفر منه الطبائع السليمة وتستقذره. كيف يتركون النساء التي خلقها الله جل وعلا لهم، ويذهبون إلى الحشوش الخبيثة المنتنة؟ ولهذا يقول عبد الملك بن مروان: والله لو لم يذكره الله جل وعلا في القرآن ما صدقت أن رجلاً يأتي رجلاً؛ لقبح ذلك، ولكن هذا ليس عند كل أحد، فبعض الناس شبه البهيمة، بل البهائم أحسن حالاً منه، فلا يمكن أن بهيمة تأتي بهيمة، أي: ذكراً منها يأتي ذكراً، لا يمكن هذا إلا في نوع واحد وهو الحمار فقط، فهو الذي ينزل بعضه على بعض؛ لأنه من أبلد البهائم وأخسها، أما بقية البهائم فلا يمكن أن تجد ذكراً من البهائم يعلو ذكراً، وهذا الإنسان الذي أخبر الله جل وعلا أنه خلقه في أحسن تصوير قال عنه: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين:5]. (أسفل سافلين): أول السفول: الأخلاق السيئة المنتكسة، أن تنتكس أخلاقه وفطرته وأعماله، ثم بعد ذلك يسفل ولا يزال يسفل ويستمر في السفول إلى أن يستقر في أسفل سافلين في جهنم، وجهنم هي أسفل سافلين.

إتيان المرأة في الدبر

إتيان المرأة في الدبر سادساً: إتيان المرأة في دبرها، جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أن من أتى امرأةً في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم) فهو أيضاً من الكبائر.

ضابط الكبيرة

ضابط الكبيرة الكبائر كثيرة جداً، ولو ذهبنا إلى تعدادها لطال بنا الوقت، وإنما نذكر الضوابط التي ذكرها العلماء. الضابط الأول: فمن العلماء من يقول: كل ذنب توعد عليه بالنار، أو قيل لفاعله: (ليس منا)، أو رتب عليه حد في الدنيا، أو لعن فاعله، فإنه يكون كبيرة، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من غشنا فليس منا). أو رتب عليه حد في الدنيا كحد الخمر والزنا، أو لعن فاعله كالربا، أو ذكر بالغضب وأنه مغضوب عليه وما أشبه ذلك. وهذا من الضوابط المشهورة. الضابط الثاني: كل ذنب ترتب عليه استهانة بأمر الله جل وعلا فإنه يكون كبيرة، وهذا أعم من الضابط الأول؛ لأنه هذا يجعل الأشياء الصغائر كبائر. وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (ليس مع التوبة كبيرة كما أنه ليس مع الإصرار صغيرة) يعني: أن الإصرار على الصغيرة يكون كبيرة؛ ولذلك على الإنسان أن ينظر في نفسه ويحاسب نفسه ويراقبها عسى ألا يكون مرتكباً لكبيرة.

شرح قول ابن عباس: (هي إلى السبعمائة أقرب)

شرح قول ابن عباس: (هي إلى السبعمائة أقرب) قال الشارح رحمه الله: [قوله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله! وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) كذا أورده المصنف غير معزو، وقد رواه البخاري ومسلم. قوله: (اجتنبوا) أي: ابعدوا، وهو أبلغ من قوله: دعوا واتركوا؛ لأن النهي عن القربان أبلغ في قوله: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام:151]. قوله: (الموبقات) بموحدة وقاف أي: المهلكات. وسميت هذه موبقات؛ لأنها تهلك فاعلها في الدنيا بما يترتب عليه من العقوبات، وفي الآخرة من العذاب. وفي حديث ابن عمر عند البخاري في الأدب المفرد، والطبري في التفسير، وعبد الرزاق مرفوعاً وموقوفاً، قال: (الكبائر تسع -وذكر السبعة المذكورة- وزاد: والإلحاد في الحرم، وعقوق الوالدين). ] الواقع أن العدد غير مقصود، ولا مفهوم للعدد لا للسبع ولا للتسع، ولهذا روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: (هن إلى سبعمائة أقرب منهن إلى السبع)، وقد عد العلماء منها ما أوصلوه إلى سبعمائة، وقد يزيد على هذا أو ينقص حسب التتبع والنظر. ومن المعلوم أن الأفعال تنقسم إلى: أفعال جوارح، وأفعال قلوب، وأفعال القلوب فيها كبائر، كما أن أفعال الجوارح فيها كبائر، فمثلاً: الحسد، وسوء الظن بالله -نسأل الله العافية- والتسخط على القدر وما أشبه ذلك من كبائر القلوب، وقد تكون أشد من كبائر الجوارح والأفعال. إذاً: المقصود: أن الحصر بهذا العدد غير مراد، وإنما يقصد شيء معين يذكر لمناسبة المقام لذلك.

من الكبائر: الإلحاد في الحرم ونكث الصفقة

من الكبائر: الإلحاد في الحرم ونكث الصفقة قال الشارح: [ولـ ابن أبي حاتم عن علي قال: (الكبائر -فذكر تسعة إلا مال اليتيم- وزاد: العقوق، والتعرب بعد الهجرة، وفراق الجماعة، ونكث الصفقة)]. الإلحاد في الحرم: هو ارتكاب الإثم والمعصية التي تتعلق بأمر الله جل وعلا ونهيه. وأما نكث الصفقة: فهي إخلاف العهد الذي عقد بينه وبين آخر، ولو كان في أمور بيع أو غيرها ثم ينقضها عامداً قاصداً بغير رضا الآخر، وأعظم ذلك: العهود التي تبرم بين الجماعات أو مع إمام بأن يعطى صفقةً ثم يخالف ويناقض في ذلك، فإن هذا من أعظمها. وأما الأمور الأخرى التي تكون بين الأفراد فهي تختلف باختلاف المفاسد التي تترتب عليها، ومعلوم أن حق الإنسان على الآخر ممنوع محرم إلا بطيبة نفس منه، وكل مال المسلم على المسلم حرام إلا بطيبة نفس منه، ولهذا جاء في الصحيح: (أن من أكل مال مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان) وجاء (من اقتطع حق مسلم ظلماً لقي الله وهو عليه غضبان، قيل: وإن كان شيئاً قليلاً؟ قال: وإن كان قضيباً من أراك) يعني: وإن كان سواكاً، فهذا مبني على الاستقصاء، والظلم حرمه الله جل وعلا. أما التعرب فمعناه: أن المهاجر إذا هاجر من بلد الكفر إلى بلد الإسلام فإنه لا يترك موطنه ويذهب أعرابياً في الصحراء. هذا ممنوع، وهو ليس على إطلاقه فقد جاء ما يدل على جواز ذلك في حالات منها: إذا كثرت الفتن، فإنه جاء في الحديث: (إن خير مال المرء المسلم إذا كثرت الفتن غنم يتتبع بها شعب الجبال يفر بدينه من الفتن) إذا كان هذا المقصود، ولم يكن عند المسلمين اجتماع على الحق وجهاد في سبيل الله، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وإنما صار كل امرء معجب بنفسه، وكل إنسان تبع رأيه، وكثرت الفتن التي قد يقع فيها الإنسان صباح مساء، فهنا إذا ترك الناس وفر بدينه وأصبح أعرابياً كان أسلم له، وقد جاء الإذن في ذلك في هذه الحالة. وأما إذا كان أمر المسلمين قائماً ومجتمعاً فإن التعرب فيه الجفاء وعدم إقامة الجماعات والتعاون معهم والقيام بأمر الله جل وعلا في كل ما أمر به. ومن المعلوم أن الله أمر المسلمين أن يجتمعوا، ويعتصموا بحبل الله جميعاً ولا يتفرقوا، فالمقصود كون الإنسان يبقى معهم ولا يتعرب إلا لأمر ضروري.

الحكمة من الاقتصار على ذكر سبع من الكبائر

الحكمة من الاقتصار على ذكر سبع من الكبائر قال الشارح رحمه الله: [قال الحافظ: ويُحتاج عند هذا إلى الجواب عن الحكمة في الاقتصار على سبع. فيجاب بأن مفهوم العدد ليس بحجة وهو ضعيف، أو بأنه أعلم أولاً بالمذكورات ثم أعلم بما زاد، فيجب الأخذ بالزائد، أو أن الاقتصار وقع بحسب المقام بالنسبة إلى السائل. ]. A الثالث هو الظاهر والله أعلم، أنه وقع بحسب حاجة السامع إلى ذلك؛ ولهذا اختلفت الأحاديث في عدد الكبائر، فمرةً يأتي بها بأنواع، وفي مقام آخر يأتي بغيرها؛ لأنه صلوات الله وسلامه عليه يلاحظ السامعين فيذكر ما يحتاجون إليه. قال الشارح رحمه الله: [وقد أخرج الطبراني وإسماعيل القاضي عن ابن عباس أنه قيل له: الكبائر سبع، قال: (هن أكثر من سبع وسبع). وفي رواية: (هي إلى السبعين أقرب)، وفي رواية: (إلى السبعمائة)]. قد كتب العلماء في الكبائر الكتب، ومن أجمعها الزواجر لـ ابن حجر الهيتمي سماه: الزواجر عن اقتراف الكبائر، والإمام الذهبي له كتابان فيها، كتاب كبير وكتاب صغير، أحدهما كتبه لطلبة العلم والآخر المشهور المتداول كتبه لعامة المسلمين، وبناه على الوعظ والزجر؛ ولهذا ذكر فيه أحاديث ضعيفة وحكايات لا يعتمد عليها؛ وذلك لأن المواعظ يتساهل فيها أكثر من غيرها؛ لأنه قد يذكر حكاية يكون فيها من التأثير أكثر من تأثير آية لو تليت على بعض العوام، وكذلك ابن القيم له كتاب الكبائر وهو أصل كتاب ابن حجر الهيتمي. وكذلك السخاوي صاحب الإقناع له كتاب في الكبائر، وغيرها من الكتب. ومن أسهل الكتب في هذا: (تنبيه الغافلين) للنحاس؛ فإنه عد جملةً كبيرة منها، وبين حكمها في كتابه (تنبيه الغافلين). إذاً: هي أكثر من سبع وسبع وأكثر من سبعمائة. أي: أن العدد غير مقصود، وهذا مراد المصنف من إيراد هذا.

شرح فتح المجيد [75]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [75] السحركبيرة من الكبائر العظام، وهو أنواع كثيرة: منه ما هو كفر، وهو السحر الذي يكون عن طريق التقرب إلى الشياطين، ومنه ما هو كبيرة من الكبائر كالحيل ونحوها. ومن السحر -وليس بكفر- النميمة؛ لأنه يحصل بها ما يحصل بالسحر من الفرقة والشقاق والفساد.

ضرورة تحقيق معنى الشهادة

ضرورة تحقيق معنى الشهادة قال الشارح رحمه الله: [قوله: (الشرك بالله) هو أن يجعل لله نداً يدعوه ويرجوه ويخافه كما يخاف الله، بدأ به؛ لأنه أعظم ذنب عصي الله به، كما في الصحيحين عن ابن مسعود سألت النبي صلى الله عليه وسلم: (أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك) الحديث. وأخرج الترمذي بسنده عن صفوان بن عسال قال: قال يهودي لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي، فقال له صاحبه: لا تقل: نبي إنه لو سمعك لكان له أربع أعين، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن تسع آيات بينات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا محصنةً، ولا تولوا للفرار يوم الزحف، وعليكم خاصة اليهود ألا تعدوا في السبت، فقبّلا يديه ورجليه وقالا: نشهد أنك نبي) الحديث، وقال: حسن صحيح. ] قالا: نشهد أنك نبي ولكنهما لم يؤمنا، فبقيا على يهوديتهما، وهذا يدلنا على أن الكفر عند اليهود -نسأل الله السلامة- متأصل، وأن قلوبهم مملوءة بالحقد وبغض الإسلام والمسلمين، وإلا فهم مثل ما أخبر جل وعلا يعرفون الرسول صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم ولكن الحسد منعهم من متابعته، فهم يحسدون الناس على فضل الله الذي آتاهم؛ لأنهم يريدون أن يحصروا فضل الله فيهم. والحسود عدو النعم، وليس له علاج -نسأل الله العافية- إلا الهلاك، يحرقه حسده في الدنيا قبل أن يصل إلى النار. والمقصود أن هؤلاء يشهدون أنه نبي ومع ذلك يكفرون به ولا يتابعونه، بل يبغضونه ويبغضون من يتابعه، فأي شهادة هذه؟ إن هذه الشهادة وبال عليهم نسأل الله العافية.

خلاف العلماء في توبة القاتل

خلاف العلماء في توبة القاتل قال الشارح رحمه الله: [قوله: (السحر) تقدم معناه، وهذا وجه مناسبة الحديث للترجمة. وقوله: (وقتل النفس التي حرم الله) أي: حرم قتلها، وهي نفس المسلم المعصوم. قوله: (إلا بالحق) أي: بأن تفعل ما يوجب قتلها كالشرك، والنفس بالنفس، والزاني بعد الإحصان، وكذا قتل المعاهد كما في الحديث: (من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة). واختلف العلماء فيمن قتل مؤمناً متعمداً هل له توبة أم لا؟ فذهب ابن عباس وأبو هريرة وغيرهما إلى أنه لا توبة له، استدلالاً بقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء:93]. وقال ابن عباس: (نزلت هذه الآية وهي آخر ما نزل وما نسخها شيء). وفي رواية: (لقد نزلت في آخر ما نزل، ما نسخها شيء حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما نزل وحي). وروي في ذلك آثار تدل لما ذهب إليه هؤلاء، كما عند الإمام أحمد والنسائي وابن المنذر عن معاوية: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافراً، أو الرجل يقتل مؤمناً متعمداً). وذهب جمهور الأمة -سلفاً وخلفاً- إلى أن القاتل له توبةً فيما بينه وبين الله، فإن تاب وأناب وعمل صالحاً بدل الله سيئاته حسنات، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:68 - 70] الآيات. قوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} [النساء:93] قال أبو هريرة وغيره: (هذا جزاؤه إن جازاه)]. في هذه المسألة خلاف كما سمعنا، من العلماء من قال: لا توبة له، فقاتل النفس ليس له توبة، ولابد أن يعاقب على هذا القتل، وقد توعده الله جل وعلا بالنار فقال: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93]. كذلك الحديث الذي ذكره: (كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافراً أو الرجل يقتل مؤمناً متعمداً) يعني: أن هذا لا يعفى عنه، وهذا قول بعض العلماء، وقال الجمهور: إن له توبة، والتحقيق في هذا: أن قتل النفس يتعلق فيه ثلاثة حقوق: حق لأولياء المقتول، وحق لله جل وعلا، وحق للمقتول نفسه. فأما حق أولياء المقتول فإنه يسقط بالقصاص أو بدفع الدية، وأما حق الله جل وعلا فإنه يسقط بالتوبة، ويبقى حق المقتول لابد من أدائه، ولابد أن تؤدى الحقوق إلى أصحابها، لأنه يأتي يوم القيامة ممسكاً قاتله فيقول: يا رب! اسأل هذا فيم قتلني؟ فهل يضيع حقه؟ لا. لن يضيع حقه. وهذا وجه استدل به الذين يقولون: إنه لا توبة له. يعني: أن هذا لا يمكن حتى يؤدي حق المقتول يوم القيامة. وكيف يؤدي حقه؟ التأدية في ذلك اليوم بالحسنات والسيئات فليس هناك غيرها، ومن كان له حق على الآخر فلابد أن يستوفيه ولكن من حسناته، فإن لم تف حسناته بذلك فإنه يؤخذ من سيئات صاحب الحق ويطرح عليه حتى يستوفي، حتى إذا لم يبق له حسنة طرح في النار. فمن هنا قال من قال: إنه لا توبة له. يعني: إن هذا غير ممكن، وأما فيما بينه وبين الله فله التوبة، ويجوز أن الله جل وعلا يرضي المقتول عن القاتل في ذلك الموقف إذا شاء، ولهذا جاء: (أن المقتول يأتي ممسكاً بالقاتل يقول: يا رب! اسأل هذا فيم قتلني؟ فيقول الله جل وعلا للقاتل: تعست)، ومن تعس في ذلك اليوم خسر وهلك. وقد ثبت في الصحيح: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر رجلاً ممن سبق كان مسرفاً على نفسه، يعني: كان قتالاً سفاكاً للدماء، قتل تسعة وتسعين رجلاً، فذهب يلوم نفسه لماذا هذا التمادي في الضلال؟ فذهب يسأل الناس: دلوني على عالم؟ فدلوه على رجل عابد فسأله: هل لي من توبة؟ فقال: لا. فالإنسان إذا قتل نفساً واحدة فكأنما قتل الناس جميعاً، كيف وقد قتلت تسعة وتسعين نفساً؟ فقال: ما دام أنه ليس لي توبة إذاً أكمل بك المائة، فقتله، وبعد ذلك أراد الله به الخير، وسار يسأل ويبحث جاداً: دلوني على عالم من أهل الأرض؟ فدلوه على رجل عالم، فذهب وسأله فقال: قتلت مائة نفس فهل لي من توبة؟ قال له: نعم. ومن يحول بينك وبين التوبة؟ ولكنك من بلد أهله مسرفون، ولكن اخرج إلى البلد الفلاني فأهله أهل خير وصلاح فاذهب واعبد الله معهم، فتاب وذهب إلى ذلك البلد، وفي أثناء الطريق قبل أن يصل البلد أدركه الموت، فجاءته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، كل يريد أن يقبضه ويتولاه، وملائكة الرحمة يقولون: جاء تائباً صادقاً في توبته، وملائكة العذاب يقولون: إن هذا ما فعل خيراً قط، وهو سفاك للدماء، فنحن أولى به، فبعث الله جل وعلا إليهم ملكاً ليحكم بينهم فتحاكموا إليه، فقال: قيسوا ما بين البلدين فإلى أيتهما كان أقرب فهو من أهلها؟ فقاسوا فوجدوه أقرب إلى بلد الخير بشبر أو ذراع فقبضته ملائكة الرحمة. وجاء في رواية: إنه وهو يكابد الموت كان ينوء بصدره يريد أن يقرب ويريد أن يسير، ينوء بصدره ويعجز عن المسير؛ فدل ذلك على صدقه وصدق إقباله. وجاء في رواية: أن الله أوحى إلى البلد الطيب أن تقاربي وإلى البلد الخبيث أن تباعدي، فقبضته ملائكة الرحمة. إذا جاء شرع من قبلنا يوافق شرعنا فهو شرع لنا، أما إذا جاء مخالف له فمعلوم أن شرعنا مهيمن على الشرائع كلها وقاض عليه، وقد حذر الله جل وعلا من القتل، والمقصود: أن قاتل النفس تكون عليه هذه الحقوق الثلاثة: حقان يسقطان، ويبقى حق، وهذا مدار الكلام هل له توبة أم لا؟ فالذي يقول: ليس له توبة معنى ذلك: أنه يقول: لابد من استيفاء حق المقتول، وهذا حق لابد من استيفائه. قال الشارح رحمه الله: [قوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً} [النساء:93] قال أبو هريرة وغيره: هذا جزاؤه إن جازاه. ] هذا تأويل، (إن جازاه) ويجوز ألا يجازيه، والمعنى أنه يجوز أن يعفو عنه رب العالمين، وإلا إن جازاه فهذا جزاؤه الذي يستحق. قال الشارح رحمه الله: [وقد روي عن ابن عباس ما يوافق قول الجمهور، فروى عبد بن حميد والنحاس عن سعيد بن عبيد: أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يقول: (لمن قتل مؤمناً توبة)، وكذلك ابن عمر رضي الله عنهما. وروي مرفوعاً: (أن جزاؤه جهنم إن جازاه)].

من الكبائر أكل الربا

من الكبائر أكل الربا قال الشارح رحمه الله: [قوله: (وأكل الربا) أي: تناوله بأي وجه كان، كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة:275] الآيات [البقرة: 275 - 280] قال ابن دقيق العيد: وهو مجرب لسوء الخاتمة نعوذ بالله من ذلك. ] والربا سبق بيان معناه، وأنه من أعظم المحرمات، وقد أخبر الله جل وعلا أن الذي لا ينتهي عن أكله بعد ما كان جاهلاً وجاءه العلم أنه يكون حرباً لله ولرسوله. والربا قسمان: ربا يسمى: ربا النسيئة وآخر: ربا الفضل. فالنسيئة -مثلاً- أن يقرض شيئاً لأجل، فإذا جاء ذلك الأجل يرد عليه أكثر مما قدمه، فالزائد ربا. وأما ربا الفضل فهو: أن يبيع شيئاً بشيء من جنسه متفاضلاً، وكله من أعظم المحرمات، ويجب على المسلم أن ينتهي عن ذلك، وقول ابن دقيق العيد رحمه الله: إنه مجرب لسوء الخاتمة، يعني: بتجربة أحوال الناس عند الموت، فصاحب الربا لا يستطيع أن يتلفظ بالشهادتين، ويسود وجهه، وتظهر عليه آثار العذاب وهو بين الناس، نسأل الله العافية. ومعنى سوء الخاتمة: ألا يختم له بما يدل على رضا الله جل وعلا، ومعلوم أن الذنوب كلها خطرة؛ لأنها معاصٍ لله جل وعلا، ومن عصى الله جل وعلا فهو على خطر، فهذه الذنوب تحول بينه وبين ما يرضي الله جل وعلا عند آخر عمره، فيكون مختوماً له بسوء الخاتمة، ولكن الذنوب بعضها أعظم من بعض، ومن أعظمها وأكبرها: أكل الربا؛ لأنه أكل لأموال الناس بلا حق ولا مقابل، ومن أعظم المحرمات: حقوق الناس التي تناولها المرابي وإن كان يزعم أنه تناولها بصنعته وبطريقه وبكسبه، ولكن إذا حرم الله جل وعلا شيئاً فيجب الانتهاء عنه.

من الكبائر: أكل مال اليتيم

من الكبائر: أكل مال اليتيم قال الشارح رحمه الله: [قوله: (وأكل مال اليتيم) يعني: التغذي به، وعبر بالأكل؛ لأنه أعم وجوه الانتفاع، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10]]. أكل مال اليتيم مثل أكل الربا، ليس لازماً أن يأكله في بطنه، بل لو أخذه وانتفع به فبنى به بيتاً أو اشترى به أثاثاً أو اشترى به أي حاجة ينتفع بها فهو في حكم الأكل، فإذا انتفع به بأي وجه من وجوه الانتفاع فهو آكل له شرعاً، وإنما عبر بالأكل لأن هذا هو الغالب الذي يقصد به في الغالب، ولهذا قال الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10]، فإذا وضعوه على ظهورهم فإنهم يضعون على ظهورهم ناراً، وكذلك إذا اُنتفع به بأي انتفاع آخر فإن المعنى واحد، إذ لا فرق بين الأكل وبين الانتفاع.

من الكبائر التولي يوم الزحف

من الكبائر التولي يوم الزحف قال الشارح رحمه الله: [قوله: (والتولي يوم الزحف) أي: الإدبار عن الكفار وقت التحام القتال، وإنما يكون كبيرةً إذا فر إلى غير فئة أو غير متحرف لقتال، كما قُيد به في الآية]. الفرار من الزحف: هو أن يفر من أمام الكفار، فإذا أقبل الكفار في صفوفهم على المسلمين في صفوفهم، وولاهم ظهره مدبراً فإنه يكون قد فعل موبقاً من الموبقات، كما نص الله جل وعلا على ذلك، ولكن هذا إذا لم يكن متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة، أما إذا لم يكن كذلك فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم، نسأل الله العافية؛ وذلك لأنه يرغب في الدنيا عن الآخرة.

فضل الشهادة في سبيل الله

فضل الشهادة في سبيل الله المؤمن الصادق يتمنى لقاء العدو من أجل أن يكون شهيداً؛ لأن الشهادة أشرف الموت، ولا موت أشرف من موت الشهداء، والذي يقدم على ذلك يكون مصدقاً لله ولرسوله بما يترتب على ذلك من الجزاء ومن الأمور التي ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنها: أن الشهيد يؤمن فتنة القبر، وهذه خصلة عظيمة. ومنها: أن زوجاته الحور العين تحضره عند موته. ومنها: أن الله جل وعلا يبيح له التمتع بالجنة قبل القيامة، وتجعل روحه في حوصلة طير تعلق من شجر الجنة، وروحه تتمتع بالجنة كيف يشاء، ويعلق في الجنة بأي شجرة يريد. ومنها: أنه يشفع في سبعين من أهله، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من آمن بالله وبرسوله وأقام الصلاة وآتى الزكاة وصام رمضان وحج البيت أدخله الله الجنة هاجر أو جاهد أو مات في بلده الذي ولد فيه فقالوا: ألا نبشر الناس يا رسول الله؟! قال: إن الله أعد للمجاهدين في الجنة مائة درجة، ما بين الدرجة والأخرى مثل ما بين السماء والأرض) يعني: أن المجاهدين لهم مائة درجة في الجنة، والدرجة معناها: المنزلة، فكل درجة جنة، وما بين كل واحدة والأخرى مثل ما بين السماء والأرض، فلا يجوز التفريط في ذلك لمن يؤمن بهذا ويصدق به، بل عليه أن يتسابق إلى هذه الأشياء. وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قال: (وددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا، ثم أقتل) يعني: يقتل ويحيا أربع مرات؛ لما في الشهادة من الفضل، وكل ميت من المؤمنين إذا رأى جزاءه لا يود أن يرجع إلى الدنيا وإن كان ما كان، إلا الشهيد فإنه يود أن يحيا ثم يقتل؛ لما يرى من عظم كرامة الله جل وعلا له. ولما بكى جابر بن عبد الله على أبيه الذي قتل في أحد قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (أما أبوك فإن الله كلمه كفاحاً، وقال له: يا عبدي! تمنى علي، قال: ماذا أتمنى وأنا أرى ما أرى؟ فلما أكثر الله جل وعلا عليه طلب التمني، قال: يا رب! أريد أن تعيدني مرةً أخرى إلى الدنيا فأقتل، فقال: أما هذه فلا) لأن الله قضى ألا يعاد الميت مرةً أخرى إلى الدنيا. وكذلك جاء في الشهداء الذين قتلوا في مسيرهم عند أن سيرهم الرسول صلى الله عليه وسلم لتعليم بعض من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم بأن قومه آمنوا، ثم اجتمعوا عليهم وقتلوهم غدراً، ولم يعلم بهم أحد، فأخبر الله جل وعلا عنهم نبيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله قال لهم: يا عبادي! تمنوا علي -ولما هم فيه مما يشاهدون من الفضل العظيم- قالوا: نتمنى أن تعيدنا إلى الدنيا مرةً أخرى فنقتل في سبيلك) وهكذا الشهيد يتمنى أن يتحصل على شهادة أخرى. فإذا فر الإنسان عن قتال الكفار فمعنى ذلك أنه قدم الدنيا على الآخرة، ورغب بالدنيا عن الآخرة؛ ولهذا توعد بهذا الوعيد إلا إذا كان متحرفاً لقتال، ومعنى المتحرف للقتال: أنه يفر أمامهم ليريهم الفرار خدعة، ثم يكر عليهم من جهة أخرى فيكون ذلك أشد تنكيلاً فيهم، كما يفعله من يفعله من الشجعان، فإنه يُري العدو أنه منهزم حتى يتمكن منه ثم يرجع إليه فيتمكن من قتله ومن التنكيل به، أو أن يذهب إلى جهة أخرى ليساعد إخوانه من المسلمين الذين في الجانب الآخر على القتال، فلما كان هذا قد يظن أنه يكون فراراً بيَّن الله جل وعلا أنه ليس تولياً؛ لأنه يريد أن يتصرف في قتال العدو بما هو أنفع للمسلمين وأشد تنكيلاً بالعدو.

القذف كبيرة من الكبائر

القذف كبيرة من الكبائر قال الشارح رحمه الله: [قوله: (وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)، وهو بفتح الصاد: المحفوظات من الزنا، وبكسرها: الحافظات فروجهن منه، والمراد بالحرائر: العفيفات، والمراد رميهن بزناً أو لواط، والغافلات أي: عن الفواحش وما رمين به، فهو كناية عن البريئات]. قذف المحصنات يعني: أن يقذفهن بالفاحشة، كأن يقول: هذه فعلت الفاحشة وهو كاذب، فإن هذا من المهلكات الموبقات، وإذا لم يقم عليه الحد في الدنيا سوف يقام عليه يوم القيامة، وحتى إن أقيم عليه حد القذف الذي هو ثمانون جلدة فإن هذا لابد فيه من التوبة، ولابد أن يبين أنه كاذب، وأن من رماه بريء من ذلك، فإن لم يفعل فلا يبرأ حتى وإن أقيم عليه الحد؛ لأنه متوعد بهذا الجرم، وهذا من حقوق المسلمين، وحقوق المسلمين أمرها عظيم، وسمي: قذفاً؛ لأنه كأنه قذفه بالحجارة، وقذف الكلام في الناس أصعب من القذف بالحجارة، فإذا كان بفواحش فهذا أصعب. معنى قوله: (بزناً أو لواط) يعني: إن قذفت بأنها أُتيت من القبل أو من الدبر فكله سواء. قال الشارح رحمه الله: [والغافلات أي: عن الفواحش وما رمين به، فهو كناية عن البريئات؛ لأن الغافل بريء عما بهت به، والمؤمنات أي: بالله تعالى احترازاً من قذف الكافرات].

قتل الساحر جاء عن عدة من الصحابة

قتل الساحر جاء عن عدة من الصحابة قال الشارح رحمه الله: [وعن جندب مرفوعاً: (حد الساحر ضربه بالسيف) رواه الترمذي وقال: الصحيح أنه موقوف. قوله: عن جندب ظاهر صنيع الطبراني في الكبير أنه جندب بن عبد الله البجلي لا جندب الخير الأزدي قاتل الساحر، فإنه رواه في ترجمة جندب البجلي من طريق خالد العبد عن الحسن عن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم. وخالد العبد ضعيف. قال الحافظ: والصواب أنه غيره، فقد رواه ابن قانع والحسن بن سفيان من وجهين عن الحسن عن جندب الخير: أنه جاء إلى ساحر فضربه بالسيف حتى مات، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فذكره. وجندب الخير: هو جندب بن كعب، وقيل: جندب بن زهير، وقيل: هما واحد كما قاله ابن حبان. أبو عبد الله الأزدي الغامدي صحابي، وروى ابن السكن من حديث بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يضرب ضربةً واحدة فيكون أمةً واحدة). قوله: (حد الساحر ضربة بالسيف) وروي بالهاء والتاء، وكلاهما صحيح. وبهذا الحديث أخذ مالك وأحمد وأبو حنيفة فقالوا: يقتل الساحر، وروي ذلك عن عمر وعثمان وابن عمر وحفصة وجندب بن عبد الله وجندب بن كعب وقيس بن سعد وعمر بن عبد العزيز، ولم ير الشافعي القتل عليه بمجرد السحر إلا إن عمل في سحره ما يبلغ الكفر، وبه قال ابن المنذر، وهو رواية عن أحمد، والأول أولى للحديث ولأثر عمر، وعمل به الناس في خلافته من غير نكير]. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وفي صحيح البخاري عن بجالة بن عبدة قال: كتب عمر بن الخطاب: (أن اقتلوا كل ساحر وساحرة)، قال: فقتلنا ثلاث سواحر]. قال الشارح رحمه الله: [هذا الأثر رواه البخاري كما قال المصنف رحمه الله لكن لم يذكر قتل السواحر. قوله: (عن بجالة) بفتح الموحدة بعدها جيم ابن عبدة بفتحتين التميمي العنبري بصري ثقة. قوله: (كتب إلينا عمر بن الخطاب: أن اقتلوا كل ساحر وساحرة)، وظاهره أنه يقتل من غير استتابة، وهو كذلك على المشهور عن أحمد، وبه قال مالك؛ لأن علم السحر لا يزول بالتوبة، وعن أحمد: يستتاب، فإن تاب قبلت توبته، وبه قال الشافعي؛ لأن ذنبه لا يزيد عن الشرك، والمشرك يستتاب وتقبل توبته؛ ولذلك صح إيمان سحرة فرعون وتوبتهم]. قال المصنف رحمه الله تعالى: وصح عن حفصة رضي الله عنها أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها فقتلت. وكذلك صح عن جندب. هذا الأثر رواه مالك في الموطأ. وحفصة هي أم المؤمنين بنت عمر بن الخطاب، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد خنيس بن حذافة، وماتت سنة خمس وأربعين. قوله: (وكذا صح عن جندب) أشار المصنف بهذا إلى قتل الساحر، كما رواه البخاري في تاريخه عن أبي عثمان النهدي قال: (كان عند الوليد رجل يلعب، فذبح إنساناً وأبان رأسه، فعجبنا! فأعاد رأسه، فجاء جندب الأزدي فقتله)، ورواه البيهقي في الدلائل مطولاً وفيه: فأمر به الوليد فسجن، فذكر القصة بتمامها ولها طرق كثيرة. قال المصنف رحمه الله: [قال أحمد: عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم) أحمد: هو الإمام أحمد بن محمد بن حنبل، قوله: (عن ثلاثة) أي: صح قتل الساحر عن ثلاثة أو جاء قتل الساحر عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: عمر وحفصة وجندباً. والله أعلم].

مسائل باب ما جاء في السحر

مسائل باب ما جاء في السحر قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل: الأولى: تفسير آية البقرة]. آية البقرة هي قوله: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة:102]. سبق بعض الكلام عليها.

تعريف الجبت

تعريف الجبت [الثانية: تفسير آية النساء]. وهي قوله جل وعلا: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء:51] فالجبت قيل: هو السحر، والإيمان به: فعله، فكون الإنسان يفعل الجبت، أو يأمر غيره أن يفعل له ذلك، فإنه يكون داخلاً في هذا، والجبت يطلق على السحر، ويطلق على الشيطان، وعلى طاعة الشيطان، ويطلق على الشرور.

الفرق بين الجبت والطاغوت

الفرق بين الجبت والطاغوت [الثالثة: تفسير الجبت والطاغوت والفرق بينهما]. سبق الفرق بين الجبت والطاغوت، فالجبت: يطلق على الساحر والسحر، ويطلق على الكاهن والكهانة، ويطلق على الشر. وأما الطاغوت: فهو مأخوذ من الطغيان وهو: التجاوز، وهو الذي ينازع الله جل وعلا في ربوبيته أو في شرعه أو في حكمه، فكل من كان منازعاً لله جل وعلا في شيء من ذلك فإنه طاغوت؛ ولهذا يقول العلماء: الطواغيت كثيرون جداً، ولكن رؤساؤهم خمسة: إبليس لعنه الله، وهو أولهم، ومن عبد وهو راضٍ، ومن دعا الناس إلى عبادة نفسه، ومن ادعى شيئاً من علم الغيب، ومن حكم بغير ما أنزل الله، هؤلاء هم رؤساء الطواغيت.

الكبائر ليست محصورة في سبع

الكبائر ليست محصورة في سبع [الخامسة: معرفة السبع الموبقات المخصوصات بالنهي]. السبع الموبقات سبق الكلام عليها، وهي الشرك، والسحر، وقتل النفس بغير حق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات. وسبق أنه ليس معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا السبع) أنها تنحصر الموبقات في هذه السبع، بل هناك موبقات كثيرة يجب أن تجتنب؛ ولهذا جاءت نصوص أخرى في كل واحد منها الإخبار بأن هذه من الموبقات أو من أكبر الكبائر أو من الأمور التي تستوجب لعنة الله وغضبه وسخطه أو تستوجب النار، وهي كثيرة. وسبق أن الجواب الصحيح عن هذا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم يذكر في كل مقام ما يناسبه، وما ينفع المتكلم، وما يكون المخاطب محتاجاً إليه. فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يخاطب الناس بالشيء الذي هم بحاجة إليه، ويقتصر على الشيء الذي ينفعهم ويحتاجون إليه. وتختلف أحوال الناس، والمجلس قد يكون فيه غير الذين سبق أن خاطبهم أولاً، فاختلفت خطابته على هذا الأساس.

الطواغيت لا يختصون بالإنس فقط

الطواغيت لا يختصون بالإنس فقط [الرابعة: أن الطاغوت قد يكون من الجن وقد يكون من الإنس]. أي: أن الطاغوت قد يكون شيطاناً من شياطين الإنس وقد قد يكون شيطاناً من شياطين الجن. والضابط في هذا: أن كل من فعل شيئاً من هذه الأفعال التي ذكرت فهو طاغوت.

استتابة الساحر قبل قتله

استتابة الساحر قبل قتله [السادسة: أن الساحر يكفر. السابعة: أنه يقتل ولا يستتاب]. هذا هو ظاهر النصوص: أنه يقتل ولا يستتاب، فـ عمر رضي الله عنه لم يأمر باستتابة السواحر، وكذلك جندب لم يقل للساحر: تب وإلا قتلتك، بل اخترط السيف وقتله، وكذلك حفصة رضي الله عنها لما دبرت مملوكةً لها فاستعجلت المملوكة عتقها فسحرت حفصة مولاتها؛ حتى تموت فتعتق، فأمرت بقتلها، وهذا من سنة الله أن من استعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه. فالدلائل تدل على أنه لا يستتاب، وهناك ذنوب لا يستتاب صاحبها، حتى ولو تاب ما تقبل، مثل الذي يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يسب الله، فمثل هذا لو قال: أنا تبت، لا يقبل منه، ويجب على ولي الأمر أن يقتله.

السحر وجد في القرون المفضلة

السحر وجد في القرون المفضلة [الثامنة: وجود هذا في المسلمين على عهد عمر فكيف بعده؟!]. يعني: أن السحر كان موجوداً في وقت الخلفاء الراشدين، وذلك الوقت هو خير الأوقات، والناس في ذلك الوقت هم خير الناس؛ لنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بعثت في خير القرون) وفي رواية: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يأتي قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته إلخ). وفي حديث أنس الذي في الصحيح: (لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه، سمعت ذلك من نبيكم صلى الله عليه وسلم)، وجاءت أحاديث كثيرة في هذا الباب، واتفقت الأمة على أن أفضل القرون قرن الصحابة رضوان الله عليهم، فهم خير الناس بعد الأنبياء؛ لأنهم صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلقوا الإيمان والعلم والأدب منه، وصاروا يعملون بطاعته ويتسابقون إلى مرضاته. فالذي صحب النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون مثل الذي لم يصحبه، وإن عمل أي عمل. والصحابي هو: الذي لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على ذلك، أما الذي لقيه وهو كافر فلا يكون صحابياً، وكذلك الذي ارتد -نسأل الله العافية- ومات على الردة لا يكون صحابياً، والصحابة ذكر الله جل وعلا أنه رضي عنهم في مواضع كثيرة من القرآن الكريم. والمقصود: أن زمنهم هو أفضل زمن، فإذا كان هذا يوجد في زمنهم ففي الأزمنة المتأخرة يكون أكثر من باب أولى، والسحر في وقتنا صار أكثر من غيره، وصار في المسلمين من يتعاطى السحر، والذي لا يصنعه يطلب من الصانع أن يسحر له، ويكون الجرم كله سواء على الساحر وعلى الذي سُحر له، وهذا يدل على الجهل وعلى قلة الإيمان، نسأل الله العافية، فكثير ممن يتعاطاه يجهل حكم السحر وكونه موبقاً، أو أنه يريد أن يتحصل على نفع معين بهذا المحرم الذي لا يجوز استعماله بحال من الأحوال.

شرح فتح المجيد [76]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [76] الجبت أنواع كثيرة، ومنها: العيافة والطرق والطيرة، وقد حذر منها العلماء، وحذروا أيضاً من النظر في النجوم للتنجيم، وحذروا من تعلم السحر، والتشبه بالسحرة في عقد الخيوط والنفث فيها.

السحر أنواع كثيرة

السحر أنواع كثيرة قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب بيان شيء من أنواع السحر]. لما ذكر رحمه الله السحر ذكر أن السحر أنواع متعددة؛ منها: ما هو سحر حقيقي، ومنها: ما هو ملحق بالسحر؛ لأنه يعمل عمل السحر، ومنها: ما يكون أيضاً ملحقاً به ولو من جانب يسير. فأراد أن يبين بعض الأشياء التي يكثر وقوعها في المسلمين، والمصنف أراد بيان شيء من أنواع السحر، وليس كل الأنواع التي تقع، وإنما التي تكون ملتبسة على كثير من الناس، بل قد تنعكس القضية؛ ويصبح الذي عنده شيء من السحر يُعتقد أنه ولي من الأولياء، وهذا من أكبر الخطأ ومن أعظم الجهل والتخليط والتلبيس. وهناك أشياء كثيرة تقع من كثير من الناس ويعتقد بعض الجهال أنها كرامة، وهي في الواقع إهانة؛ لأنها سحر أو طاعة للشيطان. والكرامة لا تكون لصاحب السحر، وليست مخالفة العادة التي يعتادها الناس أو يرونها دليلاً على أن من وقعت على يده يكون من أولياء الله أو أنه كريم على الله، كلا، بل قد يكون كافراً، وقد يكون عدواً لله جل وعلا ولرسوله، فبعض من الناس قد يطير في الهواء ويمشي على الماء ويأتيه ما يريد من المال ومن المتاع وقد تأتيه امرأة فيفجر بها أو يأتيه صبي فيفجر به، وكل هذه الأشياء لا تكون إلا بواسطة الشياطين، وبواسطة السحر. وقد يأخذ كوزاً فيملأه ذهباً، وقد يأخذ حجراً ويري الناس أنه ذهب، وقد يأخذ تراباً ويُري الناس أنه طعام، وقد يمد يده إلى الشيء فيموت ذلك الشيء، وما أشبه ذلك مما يصنعه أعداء الله وأعداء دينه من الذين يعبدون الشياطين ويتلبسون بهم، ولهذا كثير من هؤلاء تجده وسخاً، وله رعشة خفيفة، وقد يأكل الحيات والعقارب، وقد يتلبس بالنجاسات ولا يتطهر، وقد يكون مصاحباً للكلاب؛ لأن هذا هو الذي يريده الشيطان، فالشياطين تحب النجاسات، ومأواها الحمامات وأماكن النجاسات والقاذورات، فهم يريدون من أوليائهم أن يكونوا كذلك، ومع ذلك فكثير من الناس يقول: هذا ولي من الأولياء، وهو لا يصلي، بل بعضهم يكتب آيات الله بالنجاسة، فيكتب أسماء الله بالنجاسة ثم يعطيها الذي يأتي إليه ليشربها؛ لأن الشيطان يأمره بهذا ويحب هذا؛ وهذا فيه إهانة لأسماء الله جل وعلا ويكفر من يفعلها، والإنسان الذي يبتلى قد يحصل له شفاء من ذلك؛ لأن الشيطان يذهب إلى وليه فيصنع له هذا الشيء فيشفى. والسحرة أعمالهم كثيرة، فمنهم من يدخل النار بحيلة ولا تضره، وقد يُشاهد أنه يطعن نفسه بسكين أو ما أشبه ذلك ولا تضره، أمور من هذا القبيل يلبس بها على الناس، وقد يكون هذا التلبيس بواسطة الشيطان ويزعم أن هذه ولاية وأنها كرامة، وهي في الواقع من أعمال الشياطين، ولهذا يقول العلماء: لا يجوز للإنسان أن يغتر بمن يقع على يده الخوارق حتى تسبر حالته ويعرف وقوفه مع كتاب الله ومع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما جاء عن الشافعي أنه قال: (لا تغتر بالإنسان وإن مشى على الماء أو طار في الهواء حتى تسبر حاله مع كتاب الله ومع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم). فهذه الأشياء ليست دليلاً على الولاية، بل الدليل الفارق هو تقوى الله، ووقوف الإنسان عند المحرمات، وفعله للواجبات، وابتعاده عن المكروهات طاعةً لله جل وعلا، وخوفاً منه، هذا هو الفارق بين الولي والعدو، والله جل وعلا يقول: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63] وهذا وصف الأولياء: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63]. وليس من شرط الولي أن تجري على يده شيء من الكرامات، وإنما هذا قد يحدث وقد لا يحدث، ولهذا باتفاق أهل العلم أن أفضل الأمة هم الصحابة، ومع هذا لم تكن الكرامات عندهم كثيرة، بل كانت قليلة، وهي في التابعين واتباع التابعين أكثر منها في الصحابة، وليس معنى ذلك أن التابعين وأتباعهم أفضل من الصحابة. فالكرامة تكون لحاجة الإنسان، وإذا كانت لحاجته فلا كرامة؛ لأنها قد تكون شيء عجل له من عمله. والمقصود: أن المؤلف أراد أن يبين لنا شيئاً من ذلك؛ لئلا نغتر بما يغتر به كثير من الناس، فمن الناس من يظهر أنه من الأولياء بفعل شيء خارق للعادة، وأولياء الله لا يمكن أن أحدهم يقول: انظروا إلي فإني من الأولياء، فإن هذا ولي ولكن للشيطان، وليس ولياً لله جل وعلا، فأولياء الله لا يدعون إلى تعظيم أنفسهم، وإلى التعلق بهم، وإلى الفخر على الناس والتكبر عليهم، بل يخافون الله جل وعلا، وتجد أحدهم دائماً خائفاً مشفقاً على نفسه، ويريد أن يخفي عمله، وألا يظهر عمله لأحد؛ لأن أهم ما لديه بل قصده كله هو طاعة ربه، والتحصل على رضاه، ولا يهمه فعل الناس أو قولهم، بل إذا أوذي أحب إليه من أن يمدح؛ لأن مدح الناس يكون فيه فتنة للنفس وإعجاب، وقد يكون في ذلك تكفير لسيئاته؛ لأنه يدل على أنه ما قام بما يجب لله جل وعلا، فسلط الله جل وعلا عليه من يؤذيه بسبب ذلك.

شرح حديث: (العيافة والطرق والطيرة)

شرح حديث: (العيافة والطَّرق والطيرة) قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال أحمد: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا عوف عن حيان بن العلاء حدثنا قطن بن قبيصة عن أبيه: أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إن العيافة والطَّرْق والطيرة من الجبت). قال عوف: العيافة: زجر الطير، والطرق: الخط يخط بالأرض]. هذا الحديث رواه الإمام أحمد، ورواه كذلك أهل السنن: أبو داود والنسائي، وإسناده جيد كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله، وقال عن حيان بن العلاء: إنه مقبول، وقال عن قطن بن قبيصة: إنه صدوق. وعوف الأعرابي فسر العيافة والطَّرْق في قوله: (إن العيافة والطرق من الجبت) فقال: العيافة: زجر الطير، والطرق: الخط يخط في الأرض. والعيافة: من عاف يعيف، وقد يسمون العيافة طيرة؛ لأنها نوع من الطيرة والتطير، وهي: أن يتطير أو يتشاءم بفعل الطيور أو بأسمائها وذواتها، فمثلاً: إذا رأى المتطير عقاباً قال: هذا يدل على العقاب، أو رأى غراباً قال: يدل على الغربة والكربة وهكذا، وهذه كانت عادتهم، والطيور ليس عندها علم الأمور المستقبلة، وليس لها من التصرف في الكون من الضر والنفع شيء، وإنما هي أوهام يلقيها الشيطان في نفوس بعض الناس، ثم قد يبتلى الإنسان بالوهم الذي يلقى في نفسه ابتلاًء واختباراً من الله جل وعلا؛ ولأن من تعلق قلبه بشيء فإنه يميل إليه، وقد يوكل إليه. فإذا تعلق قلب الإنسان بمخلوق يوكل إلى ذلك المخلوق، ومن يوكل إلى مخلوق فقد وكل إلى ضعف. أما الذي يتعلق قلبه بالله جل وعلا فإنه لا يلتفت لا إلى طيور ولا إلى حيوانات ولا إلى غيرها، بل يعلم أن ربه جل وعلا هو المتصرف في كل شيء، وأنه لا يكون حركة أو سكون إلا بإرادته ومشيئته، وأن كل أمر قد كتب على الإنسان، ولا يصيبه إلا ما كتبه الله عليه، وأما هذه المخلوقات فهي مدبرة مسخرة لله جل وعلا، لا تملك لنفسها نفعاً ولا ضراً فضلاً عن أن تملكه غيرها، فكيف يتعلق العاقل بشيء وهمي لا حقيقة له؟! وسيأتي الكلام عن الطيرة وأنها من الشرك. وأما الخط فذكر أنه خطوط تُخط، ومن الناس من يتخذ هذه الأشياء ويستدل بها على شيء في المستقبل، فيأتي ويخط خطوطاً بسرعة، ثم ينحى اثنين واثنين واثنين، فإذا بقي اثنان قال: إنه سيكون كذا وكذا من الأمور المحبوبة له أو لمن أمره أن يخط له، وإن بقي واحد أخبر بأنه سيكون شيء مكروه، وأنه سيكون خلاف ما توقع وما أراد، أو أنه سيفعل كذا وكذا، ومن هذا القبيل ما يسميه بعض الناس قراءة الفنجان، أو مناجاة الفنجان أو ما أشبه ذلك من الأمور المستحدثة، وكلها أوهام من أوهام الشيطان. وقد تغير أسلوب الكهنة والسحرة في هذه الأيام، فصاروا يسمون بعض هذه الأمور: التنويم المغناطيسي، وقد يسمونه: تحضير الأرواح، وما أشبه ذلك من الأمور التي هي محرمة، بل هي شركية من الشرك. ومن ذلك ما يفعله بعض الجهلة من النساء وغيرهن وهو داخل في الطرق: الضرب بالحصى وأو الضرب بالودع وما أشبه ذلك، وصورته: أن يكون عندها شيء معين ثم تلقي من هذه الأشياء وتنظر ما الذي يكون، وهل هو زوجي أو فردي أو ما أشبه ذلك؟ ثم تحدس حدساً وظناً، وقد يتصل بها شيطان من شياطينها ويخبرها بشيء يعرفه ذلك الشيطان، فيقع بعض هذا المخبر به أو يصبح مطابقاً للواقع الذي مضى خبرها عنه؛ فيفتتن بها من يفتتن، وهذا نوع من أنواع السحر. فالواجب على العبد أن يجتنب كل محرم حرمه الله جل وعلا وحذر منه رسولنا صلى الله عليه وسلم من هذه الأمور، وإن كانت هذه يفعلها الجهال أو يفعلها الذين يتكسبون بالأمور الوهمية ويدجلون على الناس فيجب أن تُمنع، وأن يُتنبه لها، وأن يُعلم أنها ضلال وباطل، وأن الغيب بيد الله جل وعلا، والتصرف بيده، ولا أحد يملك من ذلك شيئاً، والإنسان قد يستعجل الشيء الذي يتوقعه كالخبر عن غائب مسافر أو خبر عن أمر يريده لنفسه أو ما أشبه ذلك فيذهب إلى هؤلاء الطرقية أو السحرة فيستخبرهم، ويكون حكمه حكمهم؛ لأنه رضي بفعلهم وصدقهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد)، وهذا مناف للتوحيد؛ لأن التوحيد هو: أن يعتقد الإنسان أن التصرف بيد الله جل وعلا، وأنه النافع الضار الذي لا يقع شيء إلا بإذنه، وقد أعلمنا جل وعلا أنه اختص بالغيب، وأن الغيب لا يعرفه إلا فاطر السماوات والأرض تعالى وتقدس، وقد يُطلع بعض عباده على أمر مغيب، فيكون الغيب في هذا الأمر بالنسبة إليه معلوماً؛ لأن الغيب قسمان: غيب نسبي وغيب مطلق، فالنسبي في الأمور التي غابت عن الإنسان، ولا يجوز له أن يتكلم فيها، وإذا كان الإنسان يعرف منها شيئاً فهذا ليس غيباً، وإنما هو حاضر ومشاهد. أما الغيب الذي يكون من الأمور المستقبلة والحوادث التي تحدث فإن هذا لا يعلمه إلا الله، ومن تعاطى شيئاً من ذلك فقد أبطل دينه، إذ إنه تعلق على شيطان ونازع الله جل وعلا في علم الغيب، وهو خصائصه، ومن نازع الله في خصائصه فإنه يكون محارباً لله جل وعلا، بل لا يكون عبداً لله، وإنما يكون عبداً للشيطان الذي أطاعه. أما الجبت فقد فسره بأنه رنة الشيطان، فقال: والجبت: رنة الشيطان، ورنة الشيطان: هي صوته وأنينه، فإذا صوت متحزناً متألماً فإنه يعمل عملاً قدر ما يستطيع أن يضل الإنسان به، ويبعث جنوده لإضلالهم، ومن ذلك: أمره إياهم بأن يعلموا الناس الطرق والعيافة، وأن يحملوهم على ذلك. وقد جاء أنه رن رنات: الأولى رن يوم لعنه الله؛ لأنه كان من المتعبدين أولاً، فلما عصى ربه وأبى السجود لآدم وقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] لعنه الله جل وعلا، وجعله شيطاناً رجيماً مرجوماً ملعوناً. الثانية: رن لما أهبط؛ لأنه كان في ملكوت السماء فأهبط إلى الأرض، وحرست السماء منه ومن جنوده. الثالثة: لما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن ولادته مقدمةً لإبطال دينه، وما يدعو الناس إليه من الشرك. الرابعة: يوم أنزلت فاتحة الكتاب؛ لأن فيها من الخير والفضل الذي أرغمه وأحزنه. فالشيطان إذا رن اجتمعت عليه جنوده، فإذا اجتمعت أمرهم بالاجتهاد في إفساد عقائد الناس وأعمالهم، فكلما رن رنة انبعث من رنينه اجتهاد منه ومن جنوده وحرص على إفساد أديان الناس وكسبهم إليه. وجاء عن ابن عباس أيضاً: أنه رن لما فتحت مكة، فمعنى رنة الشيطان: أن الشيطان يأمر بالطرق وبالعيافة وبالسحر، فهذا ناتج عن ذلك.

ترجمة رجال سند حديث: (إن العيافة والطرق)

ترجمة رجال سند حديث: (إن العيافة والطرق) قال الشارح رحمه الله: [قوله قال أحمد: هو الإمام أحمد بن محمد بن حنبل. ومحمد بن جعفر هو المشهور بـ غندر الهذلي البصري ثقة مشهور مات سنة ستين ومائتين. وعوف هو ابن أبي جميلة العبدي البصري المعروف بـ عوف الأعرابي ثقة مات سنة ستين أو سبع وأربعين وله ست وثمانون سنة. وحيان بن العلاء هو بالتحتية ويقال: حيان بن مخارق أبو العلاء البصري، مقبول]. قوله: (مقبول) هو قول الحافظ ابن حجر في التقريب، وهو اصطلاح له، فهذا منقول من كلام الحافظ رحمه الله. [وقطن بفتحتين أبو سهل البصري صدوق، قوله عن أبيه: هو قبيصة -بفتح أوله- ابن مخارق -بضم الميم- أبو عبد الله الهلالي صحابي نزل البصرة]. إذا كان الخبر فيه المقبول والصدوق فإنه يرتقي إلى درجة الحسن، فإن انضاف إلى ذلك شواهد ومتابعات فإنه قد يرتقي إلى درجة الصحة.

معنى: الطيرة والطرق

معنى: الطيرة والطرق قال الشارح رحمه الله: [قوله: (إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت) قال عوف: العيافة: زجر الطير والتفاؤل بأسمائها وأصواتها وممرها، وهو من عادات العرب، وكثر في أشعارهم]. ممرها أي: مرورها، وقد كانوا ينظرون إلى الطائر: فإن ولى الإنسان ميامنه سموه: البارح، وإن ولاه مياسره سموه: السامح، ولكنهم كانوا يتشاءمون بما كان عن اليسار ويتفاءلون بما كان عن اليمين، أما إذا جاء من المقابل فكانوا يسمونه: الناطح أو النطيح، وهذه كلها اصطلاحات كانوا يتعارفون عليها؛ لأنهم يتعلقون بها، وهذا من الشرك؛ لأن الطيرة من الشرك كما سيأتي. قال المصنف رحمه الله: [يقال: عاف يعيف عيفاً إذا زجر وحدس وظن. قوله: (والطرق): الخط يخط بالأرض، كذا فسره عوف وهو كذلك، وقال أبو السعادات: هو الضرب بالحصى الذي يفعله النساء. وأما الطيرة فسيأتي الكلام عليها في بابها إن شاء الله تعالى]. الطرق كما قلنا: إنه قد تغير الآن، ولا يزال موجوداً بالطريقة السابقة عند الكثير من النساء وأشباه النساء والدجالين، ولكن قد تغيرت الطرق الآن عند ناس من المثقفين كما يزعمون، فيكتبون جداول ويذكرون الحوادث التي تحدث في هذا البرج: يوم كذا يكون كذا وكذا، ومن كان مولده في اليوم الفلاني يحدث له كذا وكذا، وهذه كلها من الضلال، ولا يجوز أن يُنظر فيها؛ لأنها حدس ورجم بالغيب، وليس عندهم أي دليل على ما يقولونه، وإنما هو تضليل وأكل لأموال الناس بالباطل. قال الشارح رحمه الله: [قوله: (من الجبت) أي: السحر، قال القاضي: والجبت في الأصل: الفشل الذي لا خير فيه، ثم استعير لما يعبد من دون الله، وللساحر والسحر].

معنى: رنة الشيطان

معنى: رنة الشيطان قال الشارح رحمه الله: [قوله: قال الحسن: رنة الشيطان، قلت: ذكر إبراهيم بن محمد بن مفلح أن في تفسير بقي بن مخلد: أن إبليس رن أربع رنات: رنةً حين لُعن، ورنةً حين أُهبط، ورنةً حين ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورنةً حين نزلت فاتحة الكتاب. قال سعيد بن جبير: لما لعن الله تعالى إبليس تغيرت صورته عن صورة الملائكة، ورن رنةً، فكل رنة منها في الدنيا إلى يوم القيامة. رواه ابن أبي حاتم]. قوله: (كل رنة منها إلى يوم القيامة) يعني: الرنين الذي هو ممنوع شرعاً مثل البكاء والنياحة، ومثل الأصوات التي تدل على الفجور أو الفسق، ومثل الصوت عند النعمة والصوت عند الفجيعة؛ التي تكون أصواتاً تدل على السخط للمقدور الذي وقع، أو تدل على التأسف والحزن على ذلك؛ لما يفوته من حظوظه، أو لأنه يطرب ويفسق ويظهر خلاف ما أمر به، وهو أن يكون شاكراً لأنعم الله، فكل ما خالف الحق وخالف الشرع فهو باطل، والباطل من أمر الشيطان. قال الشارح رحمه الله: [وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: (لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة رن إبليس رنةً اجتمعت إليه جنوده) رواه الحافظ الضياء في المختارة. الرنين: الصوت، وقد رن يرن رنيناً وبهذا يظهر معنى قول الحسن رحمه الله تعالى]. وليس المعنى: أنه رن وانتهت القضية، بل إذا رن واجتمعت إليه جنوده أمرهم بالحرص على إضلال بني آدم، ووجههم وأعطاهم الأوامر والتوجيهات التي يضلون بها بني آدم، فينتج عن رنينه بلاء، ومن ذلك السحر؛ لأن السحر من الشيطان، وكذلك التطير والطرق وكل ما خالف الشرع، فينتج عن رنينه فساد في الأرض بسبب إرضاء الشياطين، وشياطين الجن تتصل بشياطين الإنس فتتعاون وتتساعد على ذلك. وقد أخبرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم: أن كل واحد منا معه قرين من الشياطين، وقرين من الملائكة، فهذا الشيطان يأمره بالفساد وبالفجور وبكل ما يخالف الحق ويغريه بذلك، والملك ينهاه عن ذلك ويأمره بالخير، فلهذا لمه، ولهذا لمه، فإذا وجد الإنسان من نفسه الشيء الذي يغريه بالشر ويدفعه إليه ويزينه له فهذا من الشيطان، فيجب عليه أن يستعيذ منه، وإذا وجد من نفسه دافعاً يدفعه إلى الخير ويزينه له ويحثه عليه فهذا من الملك، والنفس أيضاً قد تكون مع هذا وقد تكون مع هذا، فإما أن تكون أمارة بالسوء وإما أن تكون مطمئنة. ولما قال الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابة: (كل واحد معه قرينه من الجن -والجن المراد الشياطين أولاد إبليس- قالوا: حتى أنت يا رسول الله؟! قال: حتى أنا، إلا أن الله أعانني عليه فأسلمَ -وروي: فأسلمُ) بضم الميم، وروي بفتحها، وإذا كان بضم الميم فمعناه: أسلم أنا من شره، وإن كان بالفتح فمعناه: أنه أسلم، أي: دخل في الإسلام وانقاد له، ولكن المعنى الأول هو الصحيح، لأن الشيطان لا يسلم، ولو أسلم لما كان قريناً يقابل قرين الملك. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولـ أبي داود والنسائي وابن حبان في صحيحه: المسند منه. قال الشارح رحمه الله: ولم يذكر التفسير الذي فسره به عوف، وقد رواه أبو داود بالتفسير المذكور بدون كلام الحسن].

حكم النظر في النجوم والتنجيم

حكم النظر في النجوم والتنجيم قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من اقتبس شعبةً من النجوم فقد اقتبس شعبةً من السحر زاد ما زاد) رواه أبو داود، وإسناده صحيح]. قوله صلى الله عليه وسلم: (من اقتبس شعبةً من النجوم اقتبس شعبةً من السحر زاد ما زاد) الاقتباس: هو الأخذ والاكتساب في العلم والنظر، والشعبة: هي الطائفة من الشيء، فيقال: هذا من شعب الإيمان، فالإيمان له شعب، والكفر له شعب. وشعبة من النجوم، يعني: أن من يقتبس شيئاً يستدل به، كأن يقول: اقتران النجم الفلاني بالنجم الفلاني يدل على كذا، أو اقتران النجم بالقمر يدل على كذا، أو كون النجم الفلاني يكون في المكان الفلاني في وقت كذا يدل على كذا وهكذا يقول المنجمون. والتنجيم ينقسم إلى أقسام ثلاثة كما سيأتي: قسم يكون سحراً وشركاً بالاتفاق، وهو الاعتقاد بأن النجوم هي التي تدبر الكون وتصرفه، وهي التي تُخاطب وتُعبد وتُدعى ويُسبح لها كما يفعله الكنعانيون الذين بعث فيهم إبراهيم عليه السلام، فإنهم كانوا يبنون هياكل على صور الكواكب التي يرونها، ويجعلون بيوتاً لها، ويضعون فيها الصور، ثم يتقربون إليها بالدعاء، ويلبسون لباساً معيناً، ويبخرون عندها، ويتقربون إليها بالقرب، ويزعمون أنهم إذا صنعوا ذلك نزلت روحانياتها، وهذه الروحانيات التي يزعمون أنها روحانيات الكواكب هي الشياطين التي تنزل عليهم، وقد تخاطبهم، وقد تقضي حوائجهم، وتفعل لهم بعض الشيء الذي يريدونه؛ لأنهم فعلوا ما ترضاه الشياطين، فخدموها وعبدوها، فيأتون إليهم ببعض النفع، كما كانت الشياطين تكلم المشركين من داخل الأصنام، فالشيطان كان يخاطبهم ويكلمهم، وقد يجيبهم، وكان الصنم إما شجرة وإما حجراً أو شيئاًَ معمولاً من الطين، وما أشبه ذلك. القسم الثاني: الاستدلال بالأحوال الفلكية من الاقتران والطلوع على الأمور التي تحدث في الأرض، وهذا أيضاً كفر بالله جل وعلا؛ لأن المصرف للأمور كلها هو الله، وهو مسخر الكواكب الذي خلقها وسيرها ودبرها، وليس للكواكب أي تصرف مع الله جل وعلا، ولا تدل على ما يحدث، وإنما هي كما قال الله جل وعلا: {عَلامَاتٍ} [النحل:16] أي: علامات يهتدى بها في البر والبحر، وهي كذلك رجوم للشياطين، وزينة للسماء. فخلق الله جل وعلا الكواكب لأمور ثلاثة: الأمر الأول: علامات يهتدى بها، والعلامات قد تكون علامات في المسير في البر والبحر، وتكون علامات على أن المتصرف والخالق هو الله جل وعلا؛ لأنها مسخرة ومدبرة. الأمر الثاني: أنها زينة، كما قال الله جل وعلا: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا} [الملك:5]. الأمر الثالث: أنها رجوم للشياطين، كما في هذه الآية: {وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} [الملك:5]، فمن نظر شيئاً للأحوال التي تجري في الكون وعلقها بالكواكب فإنه يكون مشركاً بالله جل وعلا. القسم الثالث: هو الذي يعرف الآن بعلم الفلك، وهو: النظر إلى أبعاد الكواكب وأجرامها ومسيرها وأفلاكها واختلاف ذلك، وكذلك النظر في وقت طلوعها وأفولها والاستدلال بذلك على الزمن وتغيره، وأنه -مثلاً- في الوقت الفلاني إذا طلع هذا الكوكب يكون قد مضى كذا من الوقت، وإذا غرب يكون قد مضى كذا من الوقت، وكذلك النظر في منازل القمر التي قال الله جل وعلا عنها: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس:39]، والنظر كذلك في بروج الشمس التي كل يوم تنزله الشمس، ومنازل القمر معينة، كل ليلة يكون في واحدة منها، وهي ثمانية وعشرون منزلة، يكون دائماً على سطح الأرض يراها الرائي أربعة عشرة، كلما غرب واحد خرج مقابله، وهي التي سيأتي أن العرب كانوا يضيفون إليها نزول المطر، يستسقون بها، وهي الأنواء. وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أربع من أمر الجاهلية في هذه الأمة لا يتركونهن: الطعن في الأنساب، والفخر بالأحساب، والاستسقاء بالأنواء، والنياحة على الميت). وأمر الجاهلية مخالف لأمر الإسلام. والمقصود: أن معنى قوله: (من اقتبس شعبةً من النجوم) يعني: أنه جعل طلوع النجم أو كونه يكون في هذا المكان أو كونه يقترن بالنجم الفلاني أو بالقمر يكون دليلاً على أنه يقع كذا وكذا، هذا من الكفر بالله جل وعلا. وقوله: (اقتبس شعبةً من السحر) السحر: هو الباطل والكفر الذي يأمر به الشيطان، وليس معنى ذلك أنه يسحر غيره بهذا، ولكنه يكون أمراً خفياً، وقد يظهر شيء من الحوادث التي يخبر بها موافقةً، فيوافق قوله القدر؛ فيكون فيه فتنة وافتتان، وقد يعتقد السامع أنه صادق، فيكون هذا نوعاً من السحر لخفائه ولطافته. والسحر كله باطل سواءً كان السحر الصناعي العملي الذي يعمل عمله في المسحور، وقد سبق أن هذا يكون بواسطة الشياطين وهو أنواع، ويكون بالنفث الذي ينفثه الشيطان؛ لأن الشيطان الإنسي الساحر يتصل بشيطانه الجني، فيأخذ خيوطاً ثم يعقدها عندما يريد أن ينعقد أمراً من الأمور، ثم ينفث عليها ويخرج شيئاً من ريقه الخبيث -وقد انعقد نفثه مع ريقه الخبيث وتكيف مع نفث الشيطان ومراده- فينعقد أمر بإرادة الله الكونية، ولهذا يقول الله جل وعلا: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:1 - 4] والنفاثات: السواحر اللاتي تعقد إحداهن العقد وتنفث فيها لينعقد ما تريده من الضر أو ما تريد حصوله. وقوله: (زاد ما زاد) يعني: كلما زاد اقتباس شيء من النجوم زاد إثماً وسحراً وابتعاداً عن الله جل وعلا. [رواه أبو داود بإسناد صحيح، وكذا صححه النووي والذهبي، ورواه أحمد وابن ماجة. قوله: (من اقتبس) قال أبو السعادات: قبست العلم واقتبسته إذا علمته. اهـ. قوله: (شعبة) أي: طائفةً من علم النجوم، والشعبة: الطائفة، ومنه الحديث: (الحياء شعبة من الإيمان) أي: جزء منه. وقوله: (فقد اقتبس شعبةً من السحر) المحرم تعلمه. قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: فقد صرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن علم النجوم من السحر، وقال تعالى: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:69]. قوله: (زاد ما زاد) أي: كلما زاد من تعلم علم النجوم زاد الإثم الحاصل بزيادة الاقتباس من شعبه، فإن ما يعتقده في النجوم من التأثير باطل، كما أن تأثير السحر باطل].

شرح حديث: (من عقد عقدة ثم نفث فيها)

شرح حديث: (من عقد عقدة ثم نفث فيها) قال المصنف رحمه الله تعالى: [وللنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (من عقد عقدةً ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئاً وكل إليه)]. إذا كان النظر لأجل الاستدلال على أمور تقع فإن هذا من الشرك بالله جل وعلا، ومن السحر الذي هو محرم. أما إذا كان النظر في النجوم لأجل الاستدلال على الجهات -جهات القبلة أو جهات المسير- أو الاستدلال على أن هذه آيات على خالقها جل وعلا، ويتفكر في بعدها وكبرها ومسيرها؛ فهذا لا بأس به، والنجوم مختلفة على حسب اختلاف الأفلاك؛ لأن لكل نجم فلكاً يدور به، وبعضها قد يكون دورانها عكسي، يعني: بعضها يدور عكس دوران البعض الآخر، فإذا كان النظر فيها من هذا القبيل فإنه جائز ولا بأس به، بل يحمد فاعله على ذلك. وكذلك إذا كان النظر في معرفة منازل القمر بأعيانها؛ لأن الله أخبر أنه قدره منازل، وكل ليلة بينها وبين الأخرى مسافة محددة، وما بين المنزلة والمنزلة ثلاثة عشر يوماً في الطلوع أو الغروب، وتنتهي بانتهاء السنة، يعني: طلوعاً وغروباً، فإذا كان ينظر ذلك لمعرفة المنازل ومعرفة الوقت والزمن ويستدل بها على وجود الله وآياته وعظمته فلا بأس بتعلم هذا، وما عدا ذلك فإنه لا يجوز النظر فيه؛ لأنه داخل فيما ذكر من السحر. وأما الحديث الذي ذكره: (من عقد عقدةً ونفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئاً وكل إليه) فهذا يشمل حتى الإنسان الذي لا يحسن السحر، فإذا كان يتشبه بالساحر فهو داخل في هذا، كما يصنعه بعض الجهلة، إذا أراد شيئاً جاء بخيوط ثم تكلم بكلام ويقول: لا يكون هذا -أي: الذي لا يريد أن يكون- فيعقد عقدة، ثم يتفل عليها ليؤكد ذلك، فيكون بهذا التشبه بالساحر ساحراً، ولو لم يكن ساحراً، فيدخل في قوله: (من عقد عقدةً ونفث فيها فقد سحر)؛ لأنه فعل فعل السحرة، وإن لم يكن محسناً للسحر. ومعروف أن عقد السحرة على هذا المنوال نوع من السحر، وقد أمر ربنا جل وعلا بالاستعاذة منهم. والسحر أنواع متعددة وسبق ذكر بعض أنواعه وهذا نوع منه. قوله: (ومن سحر فقد أشرك) هذا دليل على أن السحر لا ينفك عن الشرك، وأن كل ساحر مشرك؛ وذلك لأن السحر لا يكون إلا بواسطة الشيطان، وقد أخبر الله جل وعلا عن ذلك فقال: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} [البقرة:102]. فأخبر أن الشياطين هي التي تعلم السحر، فلا يكون السحر إلا بواسطتهم، وللأسف فإن السحر قد كثر في الناس اليوم، وكثير منهم يتعاطاه؛ وذلك لانعدام الإيمان عند الكثير منهم، فلما انعدم الإيمان عندهم أصبحوا يتعلقون بالشياطين التي تعلمهم السحر. قوله: (ومن تعلق شيئاً وكل إليه) التعلق: هو من القلب عادةً، تعلق بالشيء، أي: كأن قلبه تعلق به، إذا تعلق بالسحر أو تعلق بالعقد التي يعقدها وكل إليها، ومن تعلق بمخلوق وكل إلى ذلك المخلوق، ومن تعلق بصنعة من صنعته أو عمل من عمله وكل إليه، ومن تعلق برب العالمين جل وعلا فإنه يكفيه ويقيه من كل سوء كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3]. فالتعلق: فعل القلب، ويتبعه أعمال الجوارح، وهذا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين أن الذي يتعلق على شيء يوكل إلى ذلك الشيء. ومعلوم أن الذي يوكل إلى المخلوق يوكل إلى ضياع وإلى ضعف؛ لأن المخلوق ضعيف لا يستطيع أن يجلب لنفسه النفع، فمن تعلق بمخلوق وكل إلى ضياع وإلى عجز وإلى ضلال؛ فيهلك في أي وادٍ كان، وإنما يجب على العبد المؤمن أن يتعلق بربه جل وعلا، ومن تعلق قلبه بربه وتوكل عليه فإنه يكفيه ويقيه كل شر.

عقد السحرة للخيوط ونفثهم فيها

عقد السحرة للخيوط ونفثهم فيها قال الشارح رحمه الله: [هذا الحديث ذكره المصنف من حديث أبي هريرة وعزاه للنسائي، وقد رواه النسائي مرفوعاً، وحسنه ابن مفلح. قوله: (وللنسائي) هو الإمام الحافظ أحمد بن شعيب بن علي بن سنان بن بحر بن دينار أبو عبد الرحمن صاحب السنن وغيرها، روى عن محمد بن المثنى وابن بشار وقتيبة وخلق، وكان إليه المنتهى في العلم بعلل الحديث، مات سنة ثلاث وثلاثمائة، وله ثمان وثمانون سنة رحمه الله تعالى. قوله: (من عقد عقدةً ثم نفث فيها فقد سحر)، اعلم أن السحرة إذا أرادوا عمل السحر عقدوا الخيوط ونفثوا على كل عقدة حتى ينعقد ما يريدون من السحر، قال الله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:4] يعني: السواحر اللاتي يفعلن ذلك، والنفث: هو النفخ مع الريق، وهو دون التفل، والنفث: فعل الساحر، فإذا تكيفت نفسه بالخبث والشر الذي يريده بالمسحور ويستعين عليه بالأرواح الخبيثة، نفخ في تلك العقدة نفخاً معه ريق، فيخرج من نفسه الخبيثة نَفَسٌ ممازج للشر والأذى مقارن للريق الممازج لذلك، وقد يتساعد هو والروح الشيطانية على أذى المسحور فيصيبه بإذن الله الكوني القدري لا الشرعي، قاله: ابن القيم رحمه الله تعالى. قوله: (ومن سحر فقد أشرك) نص في أن الساحر مشرك؛ إذ لا يتأتى السحر بدون الشرك كما حكاه الحافظ عن بعضهم. قوله: (ومن تعلق شيئاً وكل إليه) أي: من تعلق قلبه شيئاً بحيث يعتمد عليه ويرجوه وكله الله إلى ذلك الشيء، فمن تعلق على ربه وإلهه وسيده ومولاه رب كل شيء ومليكه؛ كفاه ووقاه وحفظه وتولاه، فنعم المولى ونعم النصير، قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر:36]. ومن تعلق على السحرة والشياطين وغيرهم من المخلوقين وكله الله إلى من تعلقه فهلك. ومن تأمل ذلك في أحوال الخلق ونظر بعين البصيرة رأى ذلك عياناً، وهذا من جوامع الكلم. والله أعلم].

شرح حديث: (ألا أنبئكم ما العضه)

شرح حديث: (ألا أنبئكم ما العضه) قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ألا أنبئكم ما العضه؟ هي النميمة القالة بين الناس) رواه مسلم]. العضه: من البهت والكذب، ومنه {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر:91]، يعني: جعلوه -كذباً منهم وزوراً- سحراً أو شعراً أو كهانةً أو حسب ما قالوا، أو أنهم جعلوه أجزاءً مجزأة، أو ما أشبه ذلك. فالعضه في اللغة يقصد به: الكذب والبهت، والعضه هنا في هذا الحديث المقصود به: النميمة، والنميمة: هي نقل حديث الغير على وجه الإفساد، كأن يأتي إلى إنسان ويقول: سمعت فلاناً يقول فيك: كذا وكذا، يريد الإغراء بينه وبين الآخر، وأن يفسد العلاقة التي بينهما، وليس على وجه النصح، أما إذا كانت نصيحة فلا تدخل في هذا، وأما إذا كان مجرد نقل كلام، وأن فلان يقول كذا وقال كذا فهذه تسمى: نميمة، من نمى الكلام ينمه وينميه، ولا تسمى: نميمة إلا إذا أراد بها الإفساد، أما إذا كانت مجردة عن إرادة الإفساد وليس فيها مصلحة فتسمى: غيبة، والغيبة: هي ذكر الغائب بما يكره عند الغير، فإن كان فيه ما يقول فهي غيبة، وإن كان كاذباً ليس فيه ما يقول فهي كذب وبهت وزور أكبر من أن تكون غيبة. والقالة بين الناس انتشرت بين الناس مع أنها إثم كبير، وهي من أسباب إحباط العمل، نسأل الله العافية، ومن أسباب عذاب القبر، وأكثر عذاب القبر -نسأل الله العافية- منها ومن عدم التنزه من البول، كما جاء صريحاً في الحديث. والنميمة شبيهة بالسحر، ولهذا جاء: أن النمام يفسد في الساعة ما لا يفسده الساحر في سنة؛ وذلك لأنه يفرق بين الأحبة ويغري الصدور بفعله، فشبهت بالسحر وألحقت به من هذا القبيل؛ لأن فيها الإفساد والتفريق بين الأحبة، فقد تفرق بين المرء وزوجه، وبين الصديق وصديقه، وبين الأخ وأخيه، وهذا فعل الساحر، فصارت النميمة شبيهةً بالسحر بالفعل، ولكن السحر يفارقها أنه كفر، وأنه تعلم من الشيطان، وهذه ليست كذلك، وهي من المحرمات. وقد جاء في صحيح مسلم: (لا يدخل الجنة نمام)، فهي من أكبر الذنوب وأعظمها. [قال: وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا هل أنبئكم ما العضه؟ هي: النميمة القالة بين الناس) رواه مسلم. قوله: (ألا هل أنبئكم): أخبركم، والعضه: بفتح المهملة وسكون المعجمة. قال أبو السعادات: هكذا يروى في كتب الحديث، والذي في كتب الغريب: (ألا أنبئكم ما العِضَه) بكسر العين وفتح الضاد، قال الزمخشري: أصلها العضهة فعلة من العضه وهو: البهت، فحذفت لامه كما حذفت من السنة والشفة، وتجمع على عضين].

خطر النمام والكذاب

خطر النمام والكذاب قال الشارح رحمه الله: [ذكر ابن عبد البر عن يحيى بن أبي كثير قال: يفسد النمام والكذاب في الساعة ما لا يفسد الساحر في سنة). وقال أبو الخطاب في عيون المسائل: (ومن السحر: السعي بالنميمة والإفساد بين الناس). قال في الفروع: وجهه: أنه يقصد الأذى بكلامه وعمله على وجه المكر والحيلة أشبه السحر، وهذا يعرف بالعرف والعادة أنه يؤثر، وينتج ما يعمله السحر أو أكثر، فيعطى حكمه تسويةً بين المتماثلين أو المتقاربين. لكن يقال: الساحر إنما يكفر لوصف السحر، وهو أمر خاص ودليله خاص وهذا ليس بساحر]. قوله: (بوصف السحر) أي: بفعل السحر، أما كونه يوصف فلا يكفي في الكفر، وإنما يكفر بكونه يفعله. [قال: وإنما يكفر لوصف السحر، وهو أمر خاص ودليله خاص، وهذا ليس بساحر، وإنما يؤثر عمله ما يؤثره فيعطى حكمه إلا فيما اختص به من الكفر وعدم قبول التوبة. انتهى ملخصاً. وبه يظهر مطابقة الحديث للترجمة، وهو يدل على تحريم النميمة وهو مجمع عليه. قال ابن حزم رحمه الله: اتفقوا على تحريم الغيبة والنميمة في غير النصيحة الواجبة. وفيه دليل على أنها من الكبائر. قوله: (القالة بين الناس) قال أبو السعادات: أي: كثرة القول وإيقاع الخصومة بين الناس، ومنه الحديث: (فشت القالة بين الناس)].

سحر البيان

سحر البيان قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولهما عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن من البيان لسحراً)]. قوله صلى الله عليه وسلم: (إن من البيان لسحراً) عرفنا أن السحر محرم، وإذا كان شيء من البيان يكون سحراً فمعنى هذا: أنه مذموم، وهذا البيان هو الذي يقصد به تغطية الحق وإظهار الباطل وتحسينه. وقد يكون الإنسان يخفى عليه ذلك فيغتر بالفصاحة والبلاغة والبيان، ويلتبس الحق عنده فيتبع الباطل؛ لأن هذا البيان شبيه بالسحر، هذا هو الصواب في معنى هذا الحديث، وليس كما يقول أهل الأدب: إن هذا من باب المدح، وبعضهم يقول: هذا هو السحر الحلال، والسحر ليس فيه شيء حلال، بل السحر كله حرام، والسبب الذي ذكر في هذا الحديث يبين هذا ويوضحه، وذلك أن رجلاً تكلم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وأثنى على نفسه وقال: هذا الرجل يعرف ذلك مني، فتكلم ذلك الرجل بكلام لم يعجب القائل، فقال: والله! إنه يعرف أكثر من هذا، ولكنه يحسدني، فتكلم كلاماً يدل على أن ذلك الرجل عنده من النقص ومن الخلل الشيء الذي قاله، فقال المتكلم: والله! ما كذبت في الأولى ولقد صدقت في الثانية، ولكنني لما رضيت قلت أحسن ما أعرف، ولما غضبت قلت أسوأ ما أعرف، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن من البيان لسحراً) يعني: أن الإنسان قد يكون عنده من البلاغة والفصاحة ما يغطي في كلامه على حق الآخر فيبطله ويستولي عليه، فيكون هذا نوعاً من السحر، ولهذا جاء: (أن الله جل وعلا يكره البليغ الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة بلسانها). فهذا هو الصواب في معنى هذا الحديث.

هل البيان ممدوح أو مذموم؟

هل البيان ممدوح أو مذموم؟ قال الشارح رحمه الله: [البيان: البلاغة والفصاحة. قال صعصعة بن صوحان: (صدق نبي الله، فإن الرجل يكون عليه الحق وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق فيسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق). وقال ابن عبد البر: (تأولته طائفة على الذم؛ لأن السحر مذموم. وذهب أكثر أهل العلم وجماعة أهل الأدب إلى أنه على المدح؛ لأن الله تعالى مدح البيان. قال: وقد قال عمر بن عبد العزيز لرجل سأله عن حاجة فأحسن المسألة فأعجبه قوله، قال: هذا والله! السحر الحلال) انتهى]. هذا الكلام فيه نظر، ولا يثبت عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه قال: هذا والله! السحر الحلال، فالسحر ليس فيه شيء حلال، بل هو كله محرم. فإذا ألحق الكلام بالسحر فهو يدل على ذمه ولا يدل على مدحه. [والأول أصح، والمراد به: البيان الذي فيه تمويه على السامع وتلبيس، كما قال بعضهم: في زخرف القول تزيين لباطله والحق قد يعتريه سوء تعبير مأخوذ من قول الشاعر: تقول هذا مجاج النحل تمدحه وإن تشأ قلت ذا قيء الزنابير مدحاً وذماً وما جاوزت وصفهما والحق قد يعتريه سوء تعبير قوله: (إن من البيان لسحراً) هذا من التشبيه البليغ؛ لكون ذلك يعمل عمل السحر، فيجعل الحق في قالب الباطل، والباطل في قالب الحق، فيستميل به قلوب الجهال حتى يقبلوا الباطل وينكروا الحق، ونسأل الله الثبات والاستقامة على الهدى. وأما البيان الذي يوضح الحق ويقرره ويبطل الباطل ويبينه فهذا هو الممدوح، وهكذا حال الرسل وأتباعهم، ولهذا علت مراتبهم في الفضائل، وعظمت حسناتهم. وبالجملة فالبيان لا يحمد إلا إذا لم يخرج إلى حد الإسهاب والإطناب، وتغطية الحق وتحسين الباطل، فإذا خرج إلى هذا فهو مذموم، وعلى هذا تدل الأحاديث كحديث الباب، وحديث: (إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة بلسانها) رواه أحمد وأبو داود].

مسائل باب بيان شيء من أنواع السحر

مسائل باب بيان شيء من أنواع السحر

من أنواع الجبت

من أنواع الجبت قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل: الأولى: أن العيافة والطرق والطيرة من الجبت]. العيافة هي: زجر الطير والتشاؤم في طيرانها ومرورها، ومن ذلك أيضاً كون الشخص إذا خرج من بيته سمع كلمه أو رأى شخصاً يتشاءم بهذا، ويقول: سيقع كذا وكذا، وهذا من الطيرة التي سيأتي أنها شرك. وأما الطرق فهو: الخط في الأرض طلباً لمعرفة المغيب، أو الضرب بالحصى طلباً لذلك، أو قراءة الكأس -كما يقولون- وصوت الكأس أو فنجان القهوة أو ما أشبه ذلك، وكلها أوهام ووساوس لا تدل على شيء، ولكن الإنسان إذا تعلق بشيء ونسب ذلك الشيء إلى ما تعلق به فإنه يكون مخطئاً، وقد يكون مشركاً؛ لأنه معلوم أن الأمر إنما بتصريف الله، والغيب عند الله جل وعلا لا أحد يعرفه.

المنجم لا يفلح

المنجم لا يفلح [المسألة الثانية: تفسير العيافة والطرق. المسألة الثالثة: أن علم النجوم نوع من السحر]. يعني: اقتباس علم النجوم هو نوع من السحر لخفائه أو لمقارنته للباطل، فالسحر باطل، وقد أخبرنا أن الساحر لا يفلح، وكذلك المنجم لن يفلح.

التشبه بالساحر حرام

التشبه بالساحر حرام [المسألة الرابعة: العقد مع النفث من ذلك]. يعني: كونه يعقد عقداً ثم ينفث فيه هذا من السحر، وهذا من المحرمات، سواءً كان الإنسان ساحراً أو يتشبه بالساحر. وقد يفعل ذلك بعض الجهال تشبهاً بالساحر، فإذا رأى أن الساحر يفعل كذا فيريد أن يفعل مثله، ومن هذا ما يسمونه عقد الرجل عن زوجته؛ لأنه يكون بعقد، أو يتكلمون بكلام يريدون به منعه عن الوصول إلى زوجته فيعقدون عقدة، ثم يتكلمون كلاماً يقولونه للمنع أنه لا يصل إليها ولا يقربها فيعقدون عقدة وينفثون عليها، وهكذا حتى تكمل العقد التي يريدونها، وقد ينعقد ذلك الأمر كما ذكر ابن القيم: بمساعدة النفوس الخبيثة -نفوس الجن ونفوس الشياطين- مع هذا الفعل، فيتقرب الإنسي إلى الجني بطاعته، ويتقرب الجني إلى الإنسي بمساعدته على السحر، ثم ينعقد الشيء الذي قدره الله كوناً، وليس لهم في ذلك إلا أنهم وافقوا القدر، إلا أنه كان سبباً، وعقد هذا الأمر وحله بيد الله جل وعلا، فعلى الإنسان أن يلجأ إلى الله بالدعاء والاستعاذة من شر هؤلاء، فإنه ينحل. [المسألة الخامسة: أن النميمة من ذلك]. أي: لا تجوز. [المسألة السادسة: أن من ذلك بعض الفصاحة]. وهذا واضح.

شرح فتح المجيد [77]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [77] حذر النبي عليه الصلاة والسلام من الذهاب إلى الكهنة والعرافين لسؤالهم، وبين أن هذا الفعل من أعظم المحرمات، وأنه قد يفضي إلى الكفر والعياذ بالله، فإنه لا يعلم الغيب أحد إلا الله، ويجب الحذر من تصديق هؤلاء الذين يدعون معرفة الغيب.

حكم الكهانة وإتيان الكهان

حكم الكهانة وإتيان الكهان قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في الكهان ونحوهم]. الكهانة كانت كثيرة في العرب في الجاهلية، وأصلها: الاتصال بالشياطين، أن يكون الإنسان له قرين من الشياطين يطيعه ويأتيه بالأخبار التي تغيب عن الناس، ومنها: استراق السمع. واستراق السمع هو كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله جل وعلا إذا قضى الأمر من أمره وأمر به ملائكته وتكلم بالوحي؛ حصل للسماء من ذلك رعدة ورجفة، وكذلك الملائكة الذين يحفون بالعرش يفزعون ويصعقون خوفاً من الله جل وعلا، ثم إذا فُزِّع عن قلوبهم سألهم الملائكة الذين يلونهم: ماذا قال ربنا؟ فيقولوا: قال الحق، ثم ينتهي الخبر إلى السماء الدنيا، ثم ينتهي الخبر إلى الملائكة الذين في العنان -يعني: في السحاب- يدبرون أمر الله فينقلونه ويتكلمون به، والشياطين يركب بعضهم بعض ليسترقوا ما تقول الملائكة، فإذا سمعوا كلمة أخذها الأعلى وألقاها إلى من تحته، والذي تحته يأخذها ويلقيها إلى من تحته، إلى أن تصل إلى الذي في الأرض، ثم يذهب بها إلى قرينه الكاهن مسرعاً، فيخبره ويزيد معها مائة كلمة كذب، فالخبر الذي يقولونه ويكون على وجهه هو من هذا القبيل، فيصدقون مرة ويكذبون مائة مرة، وقد يرسل الشهاب إليه فيقتله، وقد يذهب بفكره وعقله ويصبح بلا عقل، وقد يصيبه إصابة لا يستطيع أن يتحرك معها. والله جل وعلا ذكر أنه جعل النجوم رجوماً للشياطين، أي: يرجمون بها عند استراق السمع. فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم حُرست السماء حراسة شديدة، فأصبح لا أحد من الشياطين يستطيع أن يصل إلى شيء من العنان؛ لأنهم يرجمون، فلهذا أخبر الله جل وعلا عن الجن أنهم قالوا: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن:9] أي: لا أحد منهم يستطيع استراق السمع، وكل هذا صيانة للوحي؛ لئلا يسترق شيطان من الشياطين شيئاً من الوحي الذي يوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيذهب به إلى الكهان؛ فيكون في ذلك فتنة للناس، ويقال: إن هذا الكاهن أخبر بما يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم، وما يقوله إنما هو من نوع الكهانة، فحماه الله جل وعلا، فلما انتهى الوحي بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم أصبحت الأمور على ما كانت عليه، يعني: أمكن الشياطين أن يستمعوا، ويأتون إلى أوليائهم من الإنس بما يخطفون ويزيدون معه، والشيطان يزيد مائة كذبة، فيلقيها على الكاهن، والكاهن كذلك يزيد فيها ويكذب، وهذا من العجائب أن يصدق مائة قول كذب من أجل كلمة واحدة!! إذاً: الكهانة نوع من السحر، ولهذا ذكرها بعده.

العرافة من الكهانة

العرافة من الكهانة العرافة تصدق على التنجيم، وعلى الحدس والتخمين، وعلى الاتصال بالجن أيضاً؛ لأنهم يخبرونه بالأمور المغيبة التي تكون عند بعض من يتعاطى هذه الأمور، ومنهم الذين يزعمون أنهم يقرءون على المصروع ويخرجون الصرع، فإن منهم من يكون ولياً للشياطين وللجن، فإذا جاءه المصروع يخبره الجني أنه هو الذي صرعه، وأنه صرعه من أجل ذلك، ويأمره بأمور وأشياء يفعلها حتى يخرج، ويكون في هذا فتنة. كل إنسان له قرين من الجن، فإذا جاء هذا الذي أصيب بهذه الإصابة فقرين الكاهن الذي يتعاطى هذه الأمور يسأل قرين المصروع ما الذي صار؟ فيخبره بالواقع، وأنه صار فيه كذا وكذا، وصار له كذا وكذا، فيذهب القرين ويخبر وليه الكاهن الذي يتعاطى الأمور الغيبية، فيخبر الكاهن أصحاب المريض أو يخبر المريض بأنه صار لك كذا، وصار لك كذا، ويكون هذا فتنة؛ لأنهم يصدقونه ويقولون: إن هذا من الكشوفات التي تدل على أنه ولي، أو إن عنده أموراً يعرف بها هذه الأشياء، وقد يشفى جراء ذلك ابتلاء وامتحاناً، وهذا قد جاء الوعيد فيه لمن يفعله، وأنه ليس من أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم على دينه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من تكهن أو تكهن له أو سَحَر أو سُحِر له) وهذا نوع منه. وكذلك كل من يتعاطى أموراً من أمور الغيب سواءً بأسباب يذكرها وأمور يتعلل بها أو بمجرد حدس يحدسه ويظنه أو بمجرد أنه يزعم أنه يكشف له الأمر لأنه من الأولياء فهذا شرك؛ لأن أولياء الله ما يخالفون أمر الله ولا يخالفون كتابه، ولا يقول الولي للناس: اعلموا أني وليٌ، وأني أعلم كذا، وأعرف كذا، فإن هذا يريد من الناس أن يعتقدوا أنه وليّ حتى يتحسن له ما يكون في قلوبهم من المنزلة أو ما يتحصل له من أمور الدنيا، فهو دجال من الدجاجلة، فيجب أن يُحذر ويُعلم أنه ليس من أولياء الله، بل من أولياء الشيطان، فأولياء الله الذين تحدث لهم الكرامة ليس من شأنهم وليس من صنعهم أنهم يدعونها لأنفسهم، وإنما تحصل لهم إما بدعاء يدعونه الله جل وعلا لحاجة لهم أو لغيرهم فيحصل ذلك، أو بعمل يعملونه وليس لهم فيه دخل وإنما هو من توفيق الله، ثم هم لا يدعون الناس إلى أن يعتقدوا أنهم أولياء أو أنهم ينظرون إليهم، بل عندهم خوف من الله وازدراء لأنفسهم، ويود أحدهم أنه لا يكون له ذكر عند الناس أو شهرة، بل يود أن يكون مغموراً لا يُعرف؛ لأنهم يقصدون ما عند الله، ولا يقصدون ما عند الناس. فإذا قصد الإنسان ما عند الناس فمعنى ذلك: أنه يريد الدنيا، وهذا شرك بالله، ولا يكون من أولياء الله. ومن ذلك أيضاً: ما سبق في الدرس الماضي من الخطوط والضرب والحصى، وكذلك ما يلتحق به ويسمونه: قراءة الكأس وقراءة الفنجان أو النظر في الأبراج أو ما أشبه ذلك، هذه كلها من أمور الجاهلية التي تدخل تحت النهي، فقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال: (من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم).

حكم إتيان العرافين

حكم إتيان العرافين قال المصنف رحمه الله تعالى: [روى مسلم في صحيحه عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى عرافاً فسأله عن شيء فصدقه بما يقول لم تقبل له صلاة أربعين يوماً)]. قوله صلى الله عليه وسلم: (من أتى عرافاً فصدقه بما يقول لم تقبل له صلاة أربعين يوماً)، العراف يطلق على الكاهن، ويطلق على الساحر، ويطلق على المنجم، ويطلق على الرمال الذي يخط الخطوط بالرمل، وعلى الذي يضرب بالحصى ونحو ذلك. ومعنى ذلك: أن العراف هو: الذي يتعاطى معرفة الأشياء المستقبلية أو الأمور التي غابت عن الناس من سرقة الشيء أو كون الإنسان الغائب يحصل له كذا وكذا أو ما أشبه ذلك، فكل من كان بهذه الصفة فهو من العرافين. وهنا يقول: (من أتى عرافاً فصدقه بما يقول لم تقبل له صلاة أربعين يوماً) هذا الذي يأتي ويسأل لا تقبل صلاته أربعين يوماً، فكيف بالعراف نفسه؟! العراف نفسه أشد من هذا وأعظم؛ لأنه هو الذي يتعاطى هذه الأمور. ومن المعلوم أن علم الغيب من خصائص الله، كما قال الله جل وعلا: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} [الجن:26 - 28]. فعلم الغيب خاص به جل وعلا، فهو عالم الغيب والشهادة الذي يعلم كل شيء. يقول جل وعلا: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59] فهذا من خصائص الله، وعلم الغيب يجب ألا يكون لأحد من الناس، وإن اعتقد الإنسان أن أحداً من الناس يعلم شيئاً من الغيب فقد جعل له شيئاً مما هو من خصائص الله، وهذا من هذا القبيل. وكون هذا الذي يأتي إلى الكاهن لا تقبل له صلاة أربعين يوماً يقول العلماء: لا يلزم أن يكون مصدقاً له، حتى ولو أتاه مجرد إتيان لينظر ويسمع فإنه يدخل في هذا الوعيد، أما التصديق فإنه يلحقه به؛ لأنه يجعله راضياً بفعله، وأنه يعتقد أنه صحيح، ومن اعتقد ذلك فهو مثله، فلا يجوز أن يأتي أحد إليه، وهذا لما في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل فقيل له: (إن أناساً يأتون الكهان، فقال: لا تأتوهم) فلا يجوز أن يأتي أحد إليهم. ومعنى كونها لا تقبل له صلاة أي: أنه لا يثاب عليها ولا يلزم إذا لم تقبل أنه يعيدها، حتى وإن أعادها فظاهر الحديث أنها لا تقبل منه، وهذا وعيد شديد على من يأتي الكهان. ولا يجوز للمسلم أن يتساهل بأمر دينه وأمر الله جل وعلا وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن الأمر ما هو مجرد دنيا تؤخذ منك ثم تعوض أو لا تعوض عنها، والدين ليس شبيهاً بأمر الدنيا، فإن الله جل وعلا إذا توعد الإنسان بمثل هذا الوعيد فهو الذي يفعل ما يشاء تعالى وتقدس، ويجوز أن يكون هذا مقدمة لما هو أعظم منه وأشد؛ لأن الذنوب يجر بعضها بعضاً، وهي كما يقول العلماء: المعاصي بريد الكفر، والله جل وعلا يقول: {بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] والمعنى أنه إذا اكتسب الإنسان الذنوب وازدادت غطت على قلبه ثم يصبح قلبه ميتاً، لا يعرف المعروف ولا يحبه ولا يريده، بل يكون بعكس ذلك، وهذا يكون سببه أنه كسب الذنوب وأرادها.

استمتاع الجن والإنس بعضهم ببعض

استمتاع الجن والإنس بعضهم ببعض قال الشارح رحمه الله: [قوله: باب ما جاء في الكهان ونحوهم. الكاهن هو: الذي يأخذ عن مسترق السمع، وكانوا قبل المبعث كثيراً وأما بعد المبعث فإنهم قليل؛ لأن الله تعالى حرس السماء بالشهب. وأكثر ما يقع في هذه الأمة: ما يخبر به الجن أولياءهم من الإنس عن الأشياء الغائبة مما يقع في الأرض من الأخبار، فيظنه الجاهل كشفاً وكرامة. وقد اغتر بذلك كثير من الناس يظنون المخبر لهم بذلك عن الجن ولياً لله، وهو من أولياء الشيطان، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام:128]. ] الاستمتاع الذي ذكره الله جل وعلا في هذه الآية: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنسِ} [الأنعام:128] استكثرتم يعني: أنكم أغويتم كثيراً منهم، يعني: اتبعكم جُلّهم. ثم قال الله جل وعلا: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا} [يس:62] يعني: أضل خلقاً كثيراً. قال جل وعلا: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سبأ:20] اتبعوه كلهم إلا فريق فقط. ثم ذكر جل وعلا عن أوليائهم من الإنس فقال: {وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ} [الأنعام:128] يعني: الإنس والجن جميعاً يجمعون ويلقون في النار، والاستمتاع المقصود به: طاعة الإنسي للجني أي: أنه يستمتع بطاعته وعبادته له، وقد يسجد له وقد يذبح له ذبيحة أو يقدم له طعاماً أو يفعل معصيةً بأمره، بأن يكتب آيات الله جل وعلا بالنجاسة، أو يعمل أعمالاً يكون فيها استهزاء بالدين أو بالله أو بالرسول صلى الله عليه وسلم، فيطيعه الشيطان؛ لأنه أطاعه وفعل ما يريد. وأما استمتاع الإنسي بالجني فإنه بالأخبار التي يأتيه بها، وما يخبره من أمور غائبة، والأمور الغائبة طريقتها مثل ما قلنا: إن بعض الجن يتصل ببعض قرناء الإنس؛ لأن كل إنسان معه قرينه من الجن، كما ثبت ذلك في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيسأل بعضهم بعضاً، ويأتون بالخبر الذي يكون غائباً عن الإنسان، فيتصور السامع أن هذا الذي يخبره بذلك يعرف المغيبات، ويصدقه بسبب ذلك. وأما كون السماء حرست بعد المبعث فهذا كان في وقت نزول الوحي، أما الآن فيمكن للجني أن يأتي إلى وليه من الإنس بخبر يكون فيه صدق، ولكنه يكذب معه مائة كذبة، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم. قال المصنف رحمه الله: [قوله: وروى مسلم في الصحيح عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوماً)]. هكذا في صحيح مسلم. أما قوله: (فصدقه) فهذا خطأ من الناسخ أو من الطابع، وليس في صحيح مسلم: (فصدقه). قوله: (من أتى عرافاً - يعني: لمجرد سؤال- لم تقبل له صلاة أربعين يوماً). أما تصديقه فسيأتي أنه كفر: (من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم). فترتب على إتيانه عدم قبول الصلاة، وهذا خطر عظيم جداً، وكثير من الناس يغتر بهذه الأشياء، وكل من تعاطى شيئاً مما ذكر فهو داخل في ذلك، وذلك أنه يجب أن يعتقد المؤمن أن الغيب لله جل وعلا وحده، وأنه لا أحد يطلع على الغيب، والغيب قسمان: غيب مطلق لا أحد يعرف منه شيئاً إلا الله جل وعلا. وغيب نسبي، فكل ما غاب عن الإنسان فهو غيب بالنسبة إليه، ولكن قد يطلع عليه غيره فيكون بالنسبة للمطلع ليس غيباً، فإذا أخبر ذلك المطلع من غاب عنه ثم أخبر الذي يجهله ظن أنه يعرف المغيبات فيهلك بذلك.

هل يكفر من أتى كاهنا أو عرافا؟

هل يكفر من أتى كاهناً أو عرافاً؟ قال الشارح رحمه الله: [قوله: (وعن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم) هي حفصة، ذكره أبو مسعود الدمشقي؛ لأنه ذكر هذا الحديث في الأطراف في مسندها. قوله: (من أتى عرافاً) سيأتي بيان العراف إن شاء الله تعالى. وظاهر هذا الحديث أن الوعيد مرتب على مجيئه وسؤاله، سواء صدقه أو شك في خبره، فإن في بعض روايات الصحيح: (من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة). وقوله: (لم تقبل له صلاة): إذا كانت هذه حال السائل فكيف بالمسئول؟ قال النووي وغيره: معناه: أنه لا ثواب له فيها، وإن كانت مجزئة بسقوط الفرض عنه، ولابد من هذا التأويل في هذا الحديث، فإن العلماء متفقون على أنه لا يلزم من أتى العراف إعادة صلاة أربعين ليلة، انتهى ملخصاً]. وكذلك لا يدل على أنه يكون كافراً بأنه قال: (لا تقبل منه صلاة)، ومعلوم أن الكافر لا يقبل منه أي عمل. بقوله: (لا تقبل منه صلاة أربعين يوماً) أي: أنه ضيعها أربعين يوماً، مما يدل على أنه مسلم، ولكنه مرتب عليه هذا الوعيد. أما العراف فله حكم آخر، وهو أنه يكون كافراً بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، والذي أنزل عليه هو الدين الإسلامي، ثم سيأتي أن الإتيان إليه وتصديقه بقوله أمر فوق هذا وأنه يلتحق به. وأما كونه لابد من تأويله فهو معني بغاية: (لا تقبل له صلاة أربعين يوماً) فدل هذا على أنه مسلم باقٍ على إسلامه، إلا أنه عوقب بعدم قبول صلاته أربعين يوماً، فهذا عقاب لإتيانه إلى هذا العراف. [وفي الحديث: النهي عن إتيان الكاهن ونحوه. قال القرطبي: يجب على من قدر على ذلك من محتسب وغيره أن يقيم من يتعاطى شيئاً من ذلك من الأسواق، وينكر عليهم أشد النكير]. يعني: الذي نُصب للاحتساب والاحتكام وطلب الأجر من الله جل وعلا، وهذا يسمى (المحتسب)؛ لأنه يعمل الأعمال احتساباً لله جل وعلا، فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وهذه كانت عادة السلف أنهم يحتسبون في الأمر، فإذا رأوا المنكر الذي يخالف الحق أنكروه وغيروه إما بالقول وإما بالفعل، فهذا من المنكرات الظاهرة التي يجب إنكارها، فمن استطاع أن ينكر ذلك أنكره، وإذا كان لهم مجالس يقيمهم من مجالسهم إذا كان يستطيع، وإذا كان يأتيهم الناس يمنع الذين يأتون إليهم إذا كان يستطيع. فمعنى ذلك: أن هذا من المنكرات الظاهرة التي يجب ألا تقر ولا تترك في بلاد المسلمين، ولا يترك من يكون جاهلاً يأتي إليهم، لهذا الوعيد الذي رتب على ذلك. [من محتسب وغيره أن يقيم من يتعاطى شيئاً من ذلك من الأسواق، وينكر عليهم أشد النكير، وعلى من يجيء إليهم، ولا يغتر بصدقهم في بعض الأمور، ولا بكثرة من يجيء إليهم ممن ينتسب إلى العلم؛ فإنهم غير راسخين في العلم، بل من الجهال بما في إتيانهم من المحذور].

شرح حديث: (من أتى كاهنا فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد)

شرح حديث: (من أتى كاهناً فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد) قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم) رواه أبو داود. ] هذا الإتيان قيد بالتصديق: (من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم). عندنا مسألتان: المسألة الأولى: من أتى كاهناً لم تقبل له صلاة أربعين يوماً. المسألة الثانية: من أتاه فسأله فصدقه فإن هذا كافر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم. فتصديقه سيجعله مشاركاً له في عمله، ويجعله معتقداً صحة قوله، والواجب أن يعتقد أنه باطل وأنه ضلال، ولو صدق مرة أو مرات فإما أن يكون موافقاً للقدر فقط أو يكون عن طريق إتيان الشيطان له بهذا الخبر الذي استرقه من الملائكة؛ لأن الله يأمر ملائكته بتدبير أمور خلقه، فيأتون ويتكلمون إما بإنزال المطر وأنه سينزل في يوم كذا على مكان كذا، أو -مثلاً- بموت رجل وأنه سيموت في كذا، أو بولادة رجل لفلان، أو بأمر من الأمور وأنه سيحدث كذا وكذا، فيأتي ويسترق هذا الشيطان ما سمعه من الملك ويأتي به فرحاً إلى وليه من الإنس؛ فينشره بين الناس ويغتر الجهلة في ذلك. والمقصود بهذا: أن مجرد الإتيان إلى الكاهن من أصله محرم ولو لم يصدق، إلا إذا أتى إليه لينكر عليه ويبين بطلان ما هو فيه، ويبين للناس لئلا يغتروا به. ومثل هذا يأتي للإنكار وليس للموافقة، أما إذا جاء ليتفرج وليسمع ولينظر فإنه داخل في الوعيد. أما إذا جاء يسأله فقط سواءً صدق أو لم يصدق فإنه يكون كافراً بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن معنى سؤاله إقرار له، ومعنى ذلك: أن عنده شكاً، هل هو صادق أو غير صادق؟ والواجب ألا يكون عنده شك، بل يجب أن يجزم أنه باطل، وأنه ليس بشيء، وإنما هو من باب الدجل والتلبيس على الناس وإضلالهم. قال المصنف رحمه الله: [وللأربعة والحاكم، وقال: صحيح على شرطهما عن أبي هريرة رضي الله عنه: (من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد) ولـ أبي يعلى بسند جيد عن ابن مسعود مثله موقوفاً]. الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو القرآن والوحي مطلقاً، كل ما أوحاه الله إليه من تكليف عباده من أمرهم ونهيهم كله أنزل عليه، ومعنى (كفر بما أنزل على محمد): أنه كافر بالدين الإسلامي -نسأل الله العافية- ثم هذا الكفر هل هو كفر صريح مخرج من الدين أو أنه كفر دون كفر؟ الأفضل أنه لا يتكلم فيه، يقول الإمام أحمد: (يجب ألا نتكلم فيه، ونتركه كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم) وأما كوننا نقول: إنه كفر دون كفر أو إنه كفر مخرج من الدين الإسلامي فهذا فيه شيء من الخطورة، وهو أننا عينا شيئاً ما ندري هل أراده الرسول صلى الله عليه وسلم أم أنه أراد غير ما عيناه! فيترك على ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، ونقول: إنه كفر ونسكت، وأمره إلى الله جل وعلا. قال الشارح رحمه الله: [قوله: وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم) رواه أبو داود، وفي رواية أبي داود: (أو أتى امرأةً -قال مسدد: امرأته- في دبرها، فقد برئ مما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم). فناقل هذا الحديث من السنن حذف منه هذه الجملة، واقتصر على ما يناسب الترجمة]. هذا الحديث قالوا: إنه ضعيف، بل قالوا: انه منكر. والصواب: أنه ليس منكراً؛ لأن له شواهد كثيرة، وإنما المنكر لفظ: (من أتى حائضاً). أما إتيان المرأة في دبرها فقد جاءت الآثار عن الرسول صلى الله عليه وسلم وكذلك عن الصحابة: أن من فعل ذلك فإنه متوعد بوعيد شديد. وقد سئل ابن عباس عن إتيان المرأة في دبرها؟ فقال: أتسألني عن الكفر؟! وجعل هذا كفراً. وكذلك جاء: (من أتى امرأةً في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم). ومعلوم أن هذا من أعظم المحرمات، والله جل وعلا يقول: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة:223] ومعلوم أن محل الحرث هو الفرج وليس الحش محل النجس الخبيث، فهذا لا يجوز أن يؤتى. وجاء في الحديث: (إن الله لا يستحي من الحق لا تأتوا النساء في أعجازهن أو في حشوشهن) فالنهي عن ذلك صحيح ثابت. وكذلك الحائض؛ فإن الله جل وعلا يقول: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة:222]، فهذا قول ربنا جل وعلا، وأقل ما يقال: إنه محرم من المحرمات، ولا يجوز للإنسان أن يرتكب ما نهاه الله عنه. وأما إتيان الكاهن ففيه أحاديث كثيرة، وكونه حكم على المتن أنه منكر ليس مسلماً، بل توجد أحاديث تعضده وتسنده، والمنكر هو: الذي يخالف الصحيح، ويخالف ما هو ثابت، وهذا لم يخالف، بل وافق ما هو ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال الشارح رحمه الله: [قوله: وللأربعة والحاكم وقال: صحيح على شرطهما عن: (من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم) هكذا بيّض المصنف اسم الراوي، وقد رواه أحمد والبيهقي والحاكم عن أبي هريرة مرفوعاً. قوله: من أتى كاهناً قال بعضهم: لا تعارض بين هذا وبين حديث: (من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة) هذا على قول من يقول: هو كفر دون كفر. أما على قول من يقول بظاهر الحديث فيسأل عن وجه الجمع بين الحديثين!]. وجه الجمع بين الحديثين أن الأول مجرد إتيان، والثاني إتيان وسؤال، وقد ينضاف إلى السؤال تصديق، ففرق بين هذا وهذا، فإذا كان فيه سؤال وتصديق فهذا كفر، أما إذا كان مجرد إتيان فإنه لا تقبل له صلاة أربعين يوماً. قال الشارح رحمه الله: [وظاهر الحديث أنه يكفر متى اعتقد صدقه بأي وجه كان، وكان غالب الكهان قبل النبوة إنما كانوا يأخذون عن الشياطين. قوله: (فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم) قال القرطبي: المراد بالمنزل: الكتاب والسنة. انتهى. وهل الكفر في هذا الموضع كفر دون كفر فلا ينقل عن الملة أم يتوقف فيه فلا يقال: يخرج عن الملة ولا لا يخرج؟ A يتوقف، وهذا هو أشهر الروايتين عن أحمد رحمه الله تعالى]. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولـ أبي يعلى بسند جيد عن ابن مسعود مثله موقوفاً]. قال الشارح رحمه الله: [قوله ولـ أبي يعلى اسمه: أحمد بن علي بن المثنى الموصلي الإمام صاحب التصانيف كالمسند وغيره، روى عن يحيى بن معين وأبي خيثمة وأبي بكر بن أبي شيبة وخلق، وكان من الأئمة الحفاظ، مات سنة سبع وثلاثمائة، وهذا الأثر رواه البزار أيضاً ولفظه: (من أتى كاهناً أو ساحراً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم). وفيه دليل على كفر الكاهن والساحر؛ لأنهما يدعيان علم الغيب، وذلك كفر، والمصدق لهما يعتقد ذلك ويرضى به، وذلك كفر أيضاً].

شرح حديث: (ليس منا من تطير أو تطير له)

شرح حديث: (ليس منا من تطير أو تطير له) قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن عمران بن حصين مرفوعاً: (ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له، أو سَحر أو سُحِر له، ومن أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم) رواه البزار بإسناد جيد، ورواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن من حديث ابن عباس دون قوله: (ومن أتى) إلى آخره]. يقول العلماء: من الضوابط التي تضبط بها الكبيرة: أن يقال على فعل من الأفعال: من فعل هذا فليس منا، أو إنه ملعون، أو من فعل ذلك فأنا منه بريء، كما قال صلى الله عليه وسلم: (أنا بريء من مسلم بات بين ظهراني المشركين). فهذا مما يقال: إنه من الكبائر. وقوله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا تطير أو تطير له). التطير هو: التشاؤم بفعل الطيور، وقد يكون بفعل الحيوانات، وقد يكون بفعل الآدميين ورؤيتهم، فبعض الناس إذا خرج فقابله إنسان إما به عور بأحدى عينيه يتشاءم منه ويرجع، أو يرى أعرج أو مريضاً أو ما أشبه ذلك فيتشاءم بذلك ويرجع عن حاجته التي خرج من أجلها، أو يرى عكس ذلك فيذهب معتمداً على هذا، ويعتقد أنه سيصيب بغيته. فالتطير من الشرك؛ لأن المخلوق ما يتصرف في النفع والضر والإيجاد والإعدام، وإنما الأمور بيد الله جل وعلا، والمسلم يجب أن يكون متوكلاً على الله ولا يثنيه عن مراده ما يسمع أو يرى، فعليه ألا يلتفت إلى ذلك. كان رجل جالساً عند ابن عباس رضي الله عنه فجاء غراب ينعق فقال الرجل: خير خير، فأنكر عليه ابن عباس وقال: ويحك! وأي شيء عند هذا؟ أي: أنه لا خير عنده ولا شر. فلا يجوز أن يتعلق الإنسان بشيء من هذه الأشياء، فإن هذا من أمر الجاهلية. قوله: (ليس منا من تَطير) يعني: فعل ذلك بنفسه، (أو تُطير له) يعني: أمر من يفعل له ذلك واستمع إليه، وكذلك: (ليس منا من سحر أو سحر له) يعني: من فعل السحر أو أمر ساحراً أن يفعل له السحر، فإنه يكون مثله سواء. كذلك غير ذلك من الأمور التي يشترك الفاعل والراضي بها فهما سواء، فإن الراضي بالفعل يكون شريكاً للفاعل، وهذا مطلق في كل منكر، بل وفي كل خير. فالراضي يكون مشاركاً لمن فعله، وقد يكون مساوياً له في الإثم. وأما كون الإنسان يتطير له، فقد يكون الإنسان لا يحسن التطير، فيأمر من يحسن ذلك أن يتطير له ويستمع له ويعمل به. فأقل ما يقال فيه: إنه مرتكب جرماً يستحق عليه العذاب؛ لأنه قال: (ليس منا) وإلا فظاهره أنه كفر؛ لأن الذي ليس من المسلمين فهو من الكافرين، هذا هو ظاهر اللفظ، ولكن هو مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر) فنقول: نطلق هذا القول كما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، ونسكت، ويجوز أن يكون المراد به الخروج من الدين، ويجوز أن يكون المراد به أقل من ذلك، والله أعلم. والواجب أن يترك كما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم لأمور: الأمر الأول: أن هذا أدعى للانزجار والابتعاد عن اقتراف هذه المعاصي، بخلاف ما إذا فسرناه تفسيراً يقلل من الإثم، فإنه قد يجترئ عليه، وهذا أمر مقصود للمتكلم، ولا يجوز تهوين الأمر على خلاف ما قاله المتكلم. الأمر الثاني: الذي يتكلم بهذا ليس متيقناً بالمعنى، فعنده شك، ويكون في خطورة؛ لأنه قال على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل، ولا يجوز للإنسان أن يقول في مسائل العلم إلا عن علم واعتماد على دليل، وهذا الدليل محتمل كذا يحتمل كذا، فيتعين أن يترك على ظاهره. فهذان الأمران يكفيان في كون الإنسان يتوقف في هذا، وهذا القول هو اختيار كثير من الأئمة. وجمهور العلماء -كما قال النووي رحمه الله- يتأولون ذلك. [قوله: (ليس منا) فيه: وعيد شديد يدل على أن هذه الأمور من الكبائر، وتقدم أن الكهانة والسحر كفر. قوله: (من تطير) أي: فعل الطيرة، (أو تطير له) أي: قبل قول المتطير له وتابعه، وكذا معنى: (أو تكهن أو تكهن له) كالذي يأتي الكاهن ويصدقه ويتابعه، وكذلك من عمل الساحر له السحر. فكل من تلقى هذه الأمور عمن تعاطها فقد بريء منه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لكونها إما شركاً كالطيرة، أو كفراً كالكهانة والسحر. فمن رضي بذلك وتابع عليه فهو كالفاعل؛ لقبوله الباطل واتباعه. قوله: (رواه البزار) هو أحمد بن عمرو بن عبد الخالق أبو بكر البزار البصري صاحب المسند الكبير. وروى عن ابن بشار وابن المثنى وخلق، مات سنة اثنتين وتسعين ومائتين].

تعريف العراف

تعريف العرَّاف قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال البغوي: العراف: الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك، وقيل: هو الكاهن، والكاهن هو: الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل، وقيل: الذي يخبر عما في الضمير. وقال أبو العباس ابن تيمية: العراف: اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق]. يعني: الذي يتكلم بمعرفة الأمور الغائبة فهو من العرافين، وسمي عرافاً؛ لأنه يزعم أنه يعرف الشيء الغائب. والطرق التي يأتي بها مختلفة، فبأي طريقة أتى بها سواءً باتصاله بالجن أو بضربه بالرمل أو بالحصى أو بالودع أو بالخطوط أو بالنظر في النجوم أو بالحدس والتخمين أو بغير ذلك فإن كل هذه المقدمات التي يفعلها ليس فيها دليل، وهي محرمة، وإذا تعاطى ذلك فإنه داخل في العرافة، ويشمله الوعيد الذي جاءت به النصوص. قال الشارح رحمه الله: [قوله: قال البغوي إلى آخره: البغوي -بفتحتين- هو الحسين بن مسعود الفرَّاء الشافعي، صاحب التصانيف، وعالم أهل خراسان، كان ثقةً فقيهاً زاهداً، مات في شوال سنة ست عشرة وخمسمائة رحمه الله تعالى. قوله: (العراف: الذي يدعي معرفة الأمور) ظاهره أن العراف هو الذي يخبر عن الوقائع كالسرقة وسارقها والضالة ومكانها]. ولا يدخل في هذا القافة الذين لهم أصل في معرفة الأثر فقط؛ لأنهم يعرفون الآثار بخاصية أعطاهم الله جل وعلا إياها، فإنه إذا رأى أثر الإنسان ثم رآه عرف أن هذه أثره، ويجزم بذلك، وكذلك إذا رأى قدميه يعرف أن هذه القدم شبيهة بالقدم الأخرى أو أنها منها. فإنه ثبت في الصحيح: أن مجززاً دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده زيد بن حارثة وأسامة نائمين وملتحفين بقطيفة، وقد خرجت أقدامهما، فحضر إليهما وقال: هذه الأقدام بعضها من بعض، ففرح الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا، وذلك أن زيداً كان يخالف أسامة في اللون، وكان بعض الناس يقول: إنه ليس ابنه، ولما قال ذلك فرح به رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يفرح بباطل. فهذا في شيء معين، وليس هو كما يدعيه العراف، فالقائف إما أن يرى الأثر فيعلم إذا رأى الإنسان أنه صاحب هذا الأثر، أو يرى قدماً أو يرى وجهاً أو ما أشبه ذلك فيجزم أن هذا قريب هذا بالشبه الذي أعطي خاصيةً في معرفته.

مدعي الولاية ليس بولي

مدعي الولاية ليس بولي قال الشارح رحمه الله: [وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن العراف اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم كالحازر الذي يدعي علم الغيب أو يدعي الكشف. وقال أيضاً: والمنجم يدخل في اسم العراف وعند بعضهم هو معناه. وقال أيضاً: والمنجم يدخل في اسم الكاهن عند الخطابي وغيره من العلماء، وحكي ذلك عن العرب. وعند آخرين: هو من جنس الكاهن، وأسوأ حالاً منه، فيلحق به من جهة المعنى. وقال الإمام أحمد: العرافة: طرف من السحر، والساحر أخبث. وقال أبو السعادات: العراف والمنجم والحازر: الذي يدعي علم الغيب، وقد استأثر الله تعالى به. وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: من اشتهر بإحسان الزجر عندهم سموه: عائفاً وعرافاً. والمقصود من هذا: معرفة من يدعي معرفة علم شيء من المغيبات فهو إما داخل في اسم الكاهن وإما مشارك له في المعنى فيلحق به، وذلك أن إصابة المخبر ببعض الأمور الغائبة في بعض الأحيان يكون بالكشف، ومنه ما هو من الشياطين ويكون بالفأل والزجر والطيرة والضرب بالحصى والخط في الأرض والتنجيم والكهانة والسحر، ونحو هذا من علوم الجاهلية. ونعني بالجاهلية: كل من ليس من أتباع الرسل عليهم السلام كالفلاسفة والكهان والمنجمين وجاهلية العرب الذين كانوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، فإن هذه علوم لقوم ليس لهم علم بما جاءت به الرسل صلوات الله عليهم. وكل هذه الأمور يسمى صاحبها: كاهناً وعرافاً أو في معناهما، فمن أتاهم فصدقهم بما يقولون لحقه الوعيد، وقد ورث هذه العلوم عنهم أقوام فادعوا بها علم الغيب الذي استأثر الله بعلمه، وادعوا أنهم أولياء، وأن ذلك كرامة. ولا ريب أن من ادعى الولاية واستدل بإخباره ببعض المغيبات فهو من أولياء الشيطان لا من أولياء الرحمن، إذ الكرامة أمر يجريها الله على يد عبده المؤمن التقي إما بدعاء أو أعمال صالحة لا صنع للولي فيها، ولا قدرة له عليها، بخلاف من يدعي أنه ولي ويقول للناس: اعلموا أني أعلم المغيبات، فإن هذه الأمور قد تحصل لما ذكرنا من الأسباب، وإن كانت أسباباً محرمةً كاذبةً في الغالب. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في وصف الكهان: (فيكذبون معها مائة كذبة) فبين أنهم يصدقون مرةً ويكذبون مائة. وهكذا حال من سلك سبيل الكهان ممن يدعي الولاية والعلم بما في ضمائر الناس، مع أن نفس دعواه دليل على كذبه؛ لأن في دعواه الولاية تزكية النفس المنهي عنها بقوله تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ} [النجم:32]، وليس هذا من شأن الأولياء، فإن شأنهم الإزراء على نفوسهم وعيبهم لها، وخوفهم من ربهم، فكيف يأتون الناس ويقولون: اعرفوا أننا أولياء، وأنا نعلم الغيب؟! وفي ضمن ذلك طلب المنزلة في قلوب الخلق واقتناص الدنيا بهذه الأمور. وحسبك بحال الصحابة والتابعين رضي الله عنهم وهم سادات الأولياء، أفكان عندهم من هذه الدعاوى والشطحات شيء؟ لا والله! بل كان أحدهم لا يملك نفسه من البكاء إذا قرأ القرآن كـ الصديق رضي الله عنه، وكان عمر رضي الله عنه يسمع نشيجه من وراء الصفوف يبكي في صلاته، وكان يمر بالآية في ورده من الليل فيمرض منها ليالي يعودونه، وكان تميم الداري يتقلب على فراشه ولا يستطيع النوم إلا قليلاً خوفاً من النار ثم يقوم إلى صلاته. ويكفيك في صفات الأولياء ما ذكره الله تعالى في صفاتهم في سورة الرعد والمؤمنون والفرقان والذاريات والطور، فالمتصفون بتلك الصفات هم الأولياء، لا أهل الدعوى والكذب ومنازعة رب العالمين فيما اختص به من الكبرياء والعظمة وعلم الغيب، بل مجرد دعواه علم الغيب كفر]. قوله: (كان يمر بالآية في ورده فيمرض فيعاد) هذا غير صحيح، ولم يثبت عن الصحابة رضوان الله عليهم: أن أحدهم إذا سمع آيةً يصعق أو يغشى عليه أو يمرض، بل كان الإيمان في قلوبهم أمثال الجبال، وكانت خشية الله وخوفه عندهم متأصلة، ويتأثرون بذلك كما يتأثر من جاء بعدهم، فالصحيح أنه لم يثبت ذلك عنهم. وأما كونهم يبكون فهذا ثابت عنهم، وقد ثبت أن عمر رضي الله عنه قرأ في صلاة الفجر سورة يوسف فلماء جاء إلى قوله جل وعلا: {إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:86] صار له نشيج يُسمع من خلف الصفوف يعني: أنه رأى أنها تنطبق عليه. وكذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم في سجود وفي قراءته يُسمع في صدره أزيز. أما البكاء بالصوت ورفعه كما يقع لبعض الناس بكاء وصراخ فهذا ما كان يحدث عندهم، وليس هذا من طريقة المؤمنين، بل كانت أعينهم تدمع، وقلوبهم تخشع، أما التصويت والنشيج والبكاء الذي يكون بأصوات فما كان يحدث لهم، فضلاً عما ذكر من أنه يمرض أحدهم، كل هذا لم يحدث لأحد منهم، وإنما هذا وقع في المتأخرين من التابعين وأتباعهم، وربما بعضهم إذا سمع آية يصعق ويموت. وقد ذكر أن إنساناً قرأ عند أحد الخائفين آيةً من كتاب الله فصار له صراخ حتى فقد الحركة، فنظروا إليه فإذا هو قد مات، وهذا كثر في أتباع التابعين، أما في الصحابة فلا وجود له. ولا شك أن الصحابة أكمل الناس إيماناً، وأتمهم علماً، وأزكاهم عقولاً، فهم أفضل الناس بعد الأنبياء، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (خير الناس من بعثت فيهم)، وقال: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)، وكان يحذر صلى الله عليه وسلم من الكلام في الصحابة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (الله الله في أصحابي! لا تتخذونهم غرضاً بعدي)، وكان يوصي بحفظ سابقتهم وحفظ ما لهم عند الله جل وعلا. وكذلك ربنا جل وعلا وصف الذين يأتون من بعدهم أنهم يقولون: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10]. وأخبر جل وعلا أن الذي يغيظه شأن الصحابة ليس من المؤمنين كما قال جل وعلا: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} إلى أن قال: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29] يعني: أن أفعالهم تغيظ الكفار. ولهذا يقول الإمام مالك رحمه الله: (من غاظه شأن الصحابة فليس له نصيب من الفيء؛ لأنه ليس من المؤمنين). فالواجب أن يعرف حقهم؛ لكون الرسول صلى الله عليه وسلم رباهم، وكونهم أخذوا العلم عنه، وجاهدوا بين يديه، ونشروا الدين الإسلامي، وعن طريقهم جاءنا الدين، وما عرفنا الإسلام إلا عن طريقهم؛ لأنهم هم الذين نقلوا إلينا ما بلغهم إياه رسولنا صلى الله عليه وسلم. قال المصنف رحمه الله: [فكيف يكون المدعي لذلك ولياً لله؟! ولقد عظم الضرر واشتد الخطب بهؤلاء المفترين الذي ورثوا هذه العلوم عن المشركين، ولبسوا بها على خفافيش القلوب، نسأل الله السلامة والعافية في الدنيا والآخرة].

حكم الذين يكتبون أباجاد

حكم الذين يكتبون أباجاد قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال ابن عباس في قوم يكتبون أباجاد وينظرون في النجوم: ما أرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق]. هذا الأثر عن ابن عباس رواه عبد الرزاق في المصنف، ومعنى ذلك: أن الذين يكتبون أباجاد وينظرون في النجوم يستدلون على الحروف بالأمور المستقبلة التي ستأتي، وهذا هو المسمى عند بعض الناس: علم الحروف، وعلوم الحروف يفعلونها دليلاً على المغيبات. قال الشارح رحمه الله: [قوله: (وقال ابن عباس إلى آخره)، هذا الأثر رواه الطبراني عن ابن عباس مرفوعاً وإسناده ضعيف، ولفظه: (رب معلم حروف أبي جاد، دارس في النجوم، ليس له عند الله خلاق يوم القيامة). ورواه حميد بن زنجويه عنه بلفظ: (رب ناظر في النجوم، ومتعلم حروف أبي جاد، ليس له عند الله خلاق). وقوله: (ما أرى) يجوز فتح الهمزة بمعنى: لا أعلم، ويجوز ضمها بمعنى: لا أظن. وكتابة أبي جاد وتعلمها لمن يدعي بها علم الغيب هو الذي يسمى: علم الحرف، وهو الذي جاء به الوعيد، فأما تعلمها للتهجي وحساب الجمل فلا بأس به. قوله: (وينظرون في النجوم) أي: ويعتقدون أن لها تأثيراً، كما سيأتي في باب التنجيم: وفيه من الفوائد عدم الاغترار بما يؤتاه أهل الباطل من معارفهم وعلومهم، كما قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [غافر:83].

مسائل باب ما جاء في الكهان ونحوهم

مسائل باب ما جاء في الكهان ونحوهم قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل: الأولى: لا يجتمع تصديق الكاهن مع الإيمان بالقرآن]. يعني: قوله: (فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم) فدل على أنه لا يجتمع الإيمان بالكاهن وتصديقه مع الإيمان بالله جل وعلا، وهذا يدلنا على أن المؤلف رحمه الله يرى أنه على ظاهره. [المسألة الثانية: التصريح بأنه كفر. المسألة الثالثة: ذكر من تكهن له]. يعني: الذي يتكهن له مثل الكاهن. [المسألة الرابعة: ذكر من تطير له. المسألة الخامسة: ذكر من سحر له. المسألة السادسة: ذكر من تعلم أبا جاد] أي: تعلمه لأجل النظر في علم الغيب، وليس لحساب الجمل، فإن هذا لا بأس به. [المسألة السابعة: ذكر الفرق بين الكاهن والعراف].

شرح فتح المجيد [78]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [78] إن للنشرة والطيرة أحكاماً ومعاني بينها الله في كتابه والرسول صلى الله عليه وسلم في سنته، وقد اختلف السلف في حكم النشرة وفعلها: فمنهم من حرمها مطلقاً، ومنهم من أجازها فيما فيه ضرورة: كحل سحر المسحور بها.

حكم النشرة

حكم النشرة قال المصنف رحمه الله: [باب ما جاء في النشرة]. قال الشارح رحمه الله: [قوله: (باب ما جاء في النشرة) بضم النون كما في القاموس. قال أبو السعادات: النشرة: ضرب من العلاج والرقية، يعالج به من يُظن أن به مساً من الجن، وسميت: نشرةً؛ لأنه ينشر بها عنه ما خامره من الداء، أي: يكشف ويزال]. قوله رحمه الله: (باب ما جاء في النشرة) قصده بهذا حل السحر عن المسحور، والسحر سبق أنه من الموبقات التي توبق صاحبها في النار أو في الإثم الذي يئول إلى النار. وسبق أنه يكون كفراً، وأن السحر لا يجتمع مع الإيمان؛ لأن السحر يكون بواسطة الشياطين، والساحر لابد أن يكون مشركاً بطاعته للشيطان واتباعه وعبادته؛ ولهذا ذكر الله جل وعلا عن السحرة أنهم يختارون الحياة الدنيا على الآخرة، وأنه ليس لهم في الآخرة من خلاق، كما قال جل وعلا: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102]. قوله: (فَلا تَكْفُرْ): يدل على أن فعل السحر كفر، ثم قال جل وعلا: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة:102] ومعنى (اشتراه) يعني: عمله، وقوله: (علموا) أي: علم أهل الكتاب اليهود أن الذي يعمل السحر ليس له في الآخرة من خلاق، والذي ليس له في الآخرة من خلاق يكون كافراً وخاسراً ومعذباً عذاباً لا ينقطع، وعلمهم هذا علموه من كتاب الله الذي أنزله الله جل وعلا على موسى عليه السلام. وجاءت كذلك آيات آخر غير هذه، ونصوص أخرى تدل على أن الساحر يكون كافراً. ولهذا جاء حكمه في الشرع أنه إذا كان مسلماً قبل ذلك فإنه يكون مرتداً، والمرتد لا يترك على ردته، بل يجب أن يقتل إلا أن يعود. وإذا كان غير مسلم فإنه يقتل حتى يدفع شره وأذاه؛ لأنه مفسد من المفسدين في الأرض، يفسد الأبدان ويفسد الأموال، ويفسد الأخلاق، وفي حده الشرعي خير كثير وحكمة عظيمة. لما ذكر المؤلف هذا أراد أن يبين حكم حل السحر عن المسحور: هل هو جائز أو ممنوع؟ إن كان بسحر مثله فإنه لا يجوز، أما إن كان بعلاجات طبيعية وأدوية ورقى فإنه لا بأس به. فقد علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سحره يهودي، فدعا ربه فشفاه الله جل وعلا بعد ما بين له أين موضع السحر. في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: (سُحِر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صار يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولم يفعله، ثم إنه دعا ودعا، فبينما هو نائم نزل عليه ملكان فجلس أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه، فقال أحدهما للآخر: ما به؟ قال: به طب -يعني: سحر- قال: ومن طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم في مشط ومشاطة في طلعه نخلة ذكر في بئر ذروان، فلما استيقظ صلوات وسلامه عليه ذهب إلى تلك البئر -تقول عائشة - فقال: إني رأيت ماءها كنقيع الحناء، ونخلها كرءوس الشياطين، فأمر بها فدفنت، فقلت: ألا استخرجتها؟ فقال: أما أنا فقد شفاني الله جل وعلا، وكرهت أن أفتح على الناس باب شر)، فأنزل الله جل وعلا عليه: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:1 - 5] النفاثات هن: السواحر، والعقد: الخيوط التي يعقدنها عندما يردن انعقاد أمر مما يقصدنه من أمور السحر سواءً طلب ذلك منهن أو فعلن ذلك ابتداءً. وقوله سبحانه: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:2] يدخل فيه السحر والسواحر. ونزل أيضاً قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس:1 - 6] وذلك أن السحر من الشياطين فيستعاذ منهم، والشيطان إذا استعيذ منه خنس وبطل عمله إذا كان المستعيذ صادقاً موقناً مؤمناً بما قاله الله جل وعلا. وكذلك الأدعية التي تكون بأسماء الله وصفاته فإنها أيضاً من أنجع ما يكون وأنفعه إذا كان الداعي عنده إيمان وصدق وإخلاص والتجاء إلى الله جل وعلا، فإن كل شيء بيده، فإذا التجأ إليه حله وأزاله، وكذلك العلاجات الطبيعية التي يعالج بها فإنه لا بأس بها.

حكم حل السحر بالسحر

حكم حل السحر بالسحر حل السحر بالسحر الذي هو مثله اختلف العلماء فيه، فجمهور العلماء يمنعونه ويقولون: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها) وهذا من المحرمات بالاتفاق، فلا يجوز تعاطي ذلك. وكذلك الذهاب إلى الساحر والطلب منه يكون رضاً بما صنع أو إقراراً له على ما يصنع، وهذا لا يجوز بحال. وذهب قليل من العلماء إلى جواز ذلك محتجين بأنهم يريدون إصلاح ما أفسد السحرة، وهذا من باب النفع، ولكن هذا لا يكفي، بل الصواب هو: المنع من ذلك. والنشرة تطلق على الانتشار الذي هو الرقية من السحر، ومن غيره من سائر الأمراض، ومن الجان، وعين الإنسان، ومن ذوات السموم.

شروط الرقية

شروط الرقية في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا رقية إلا من عين أو حمه) يعني: لا رقية أنفع وأنجح منها في العين والحمه، وإلا فالرقية نافعة من جميع الأمراض بشروط، قال العلماء: إذا اجتمعت هذه الشروط الثلاثة فإن الرقية جائزة: الشرط الأول: أن تكون بأسماء الله وصفاته وآياته القولية من القرآن. الشرط الثاني: أن تكون من إنسان عربي يعرف معنى الكلام الذي يتكلم به. الشرط الثالث: أن يعتقد أن ما يحصل بها يكون بإذن الله، وأنها لا تنفع بذاتها ولا بفعل الراقي نفسه، وإنما ذلك يكون بإذن الله وإرادته وأمره. فإذا كانت الرقية بكلام لا يُعرف أو بحروف مقطعة فإنها محرمة، بل قد تكون كفراً، وقد تكون شركاً، وقد تكون طلسمات كما هو الواقع في كثير من الناس. فهذه الشروط إذا وجدت في الرقية فإنها جائزة من كل داء ومن كل مرض. والحمه هي: ذوات الحموم، يعني: ذوات السموم، كالعقرب والحية والزنبور وما أشبه ذلك، فإن الرقية منها من أنفع ما يكون. وأما العين فهي: عين الحاسد، أي: عين الإنسان إذا حسد غيره وأصابه بأذى بعينه، فإن الرقية تنفع من ذلك، بل هي أنفع من سائر العلاجات، وهي أحسن علاج في هذا، ولكن يجب أن يكون الراقي مؤمناً متقياً، ويكون مخلصاً صادقاً واثقاً بقول الله ووعده. أما المرقي فلا يشترط فيه ذلك؛ لأنه ثبت في الصحيح عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثهم في سرية، فاستضافوا حياً من أحياء العرب فأبوا أن يضيفوهم، فلدغ سيدهم -سيد هذا الحي- فسألوا له بكل ممكن ولم يجدوا شيئاً، ثم قال بعضهم: لو ذهبتم إلى هؤلاء النفر -كانوا قلة ليسوا كثيراً- لعل عندهم شيئاً من العلاج أو يكون معهم راقٍ. فجاءوا إليهم فقال أبو سعيد: (نعم أنا أرقي، ولكن أنتم لم تضيفونا، فلن أرقيه إلا بجعل تجعلونه لنا، فاتفقوا على قطيع من الغنم، فصار يقرأ عليه فاتحة الكتاب، فبرئ، وكانت رجله مربوطة بحبلٍ فحل الحبل، فأصبح كأن لم يكن به وجع، فقام في الحال، وكان كافراً، ثم ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم بعدما رجع، فسأله الرسول صلى الله عليه وسلم: (بأي شيء رقيته؟ فقال: بالفاتحة، قال: وما يدريك أنها رقية؟) فالفاتحة من أعظم ما يرقى بها المريض؛ لأنها هي السبع المثاني، وهي أم الكتاب وفاتحته، وهي التي لا تصح الصلاة إلا بها. عن الحسن البصري رحمه الله أنه قال: أنزل الله جل وعلا مائة كتاب وأربعة كتب، ثم جمع هذه الكتب في أربعة كتب، ثم جمع الأربعة الكتب في المفصل، ثم جمع المفصل في فاتحة الكتاب، وجمع ذلك كله في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]. أما سائر الأمراض الأخرى فكلها داخلة في قوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ} [الإسراء:82]، وهذا عام لشفاء القلوب وشفاء الجهل وشفاء الأبدان، هذا هو الصواب من أقوال العلماء. ولكن ليس كل من استشفى بالقرآن فإنه يشفى؛ لأن الاستشفاء يستلزم الصدق والإخلاص واللجوء إلى الله والإيمان به؛ ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرتحل من مكانه) وكثير من الناس يقول هذا الحديث ومع ذلك تؤذيه المؤذيات ويصاب بالمصائب؛ وذلك لعدم إيمانه وصدقه في قوله، وإلا فكلام الرسول صلى الله عليه وسلم حق، وإذا أخبر بشيء فإنه يقع كما أخبر به صلى الله عليه وسلم. والنشرة ليست خاصة في السحر، بل عامة في كل مرض، والتنشير هو الرقية، والرقية: فعل الراقي الذي يقرأ وينفث على المريض. ويجب أن تكون الرقية مشتملة على الشروط الثلاثة التي ذكرناها، فإذا توافرت فإنها جائزة بالاتفاق، ولكن لا يلزم أن تؤدي المطلوب لأسباب كثيرة قد تكون في الراقي أو في المرقي؛ لأن المحل قد لا يكون قابلاً، والراقي قد لا يكون أهلاً لذلك، فيتخلف المقصود، أما إذا كان الراقي أهلاً في هذا فإن الشفاء بإذن الله يحصل قطعاً ما دامت الأسباب موجودة، والموانع مفقودة.

حكم من طلب الرقية من غيره

حكم من طلب الرقية من غيره كون الإنسان يرقي نفسه أفضل وأحسن، وهذا لا خلاف فيه؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يرقي نفسه، ويرقي أهله. أما طلبها من شخص آخر فإن فيه نقصاً، ومن فعل ذلك فإنه لا يكون من السابقين إلى الجنة الذين يدخلونها بغير حساب؛ لما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في حديث ابن عباس المشهور الذي في الصحيحين، وهو عن حصين بن عبد الرحمن قال: كنا جلوساً عند سعيد بن جبير فقال: (أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ فقلت: أنا، ثم قلت: إني لم أكن في صلاة ولكني لدغت، قال: فما صنعت؟ -هنا سعيد الذي هو شيخ حصين يقوله لـ حصين بن عبد الرحمن - قال: فقلت: ارتقيت، قال: ما حملك على ذلك؟) والسلف رضوان الله عليهم ما يفعل أحد منهم شيئاً إلا بدليل، ولا يتركون عملاً يعمل به إلا ويسألون عن مستنده؛ ولهذا قال: (ما حملك على هذا؟ -أي ما الذي حملك على أن ارتقيت؟ - فقال: حديث حدثناه الشعبي، قال: وما حدثكم؟ قال: حدثنا عن بريدة أنه قال: لا رقية إلا من عين أو حمة، عند ذلك قال سعيد رحمه الله: قد أحسن من انتهى إلى ما قد سمع) يعني: أن الذي يأخذ بالدليل هذا فهو عمل جيد وحسن ولكن -استدراكية يعني: أن هناك شيئاً غير هذا- حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهط، ورأيت النبي ومعه الرجل والرجلان، ورأيت النبي وليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت إليهم وقد سدوا الأفق، ثم قيل لي: انظر إلى الأفق الآخر، فنظرت فإذا سواد عظيم -يعني: من الناس- فقيل لي: هذه أمتك، ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب)، ثم نهض صلوات الله وسلامه عليه من مجلسه ودخل بيته، وقعد الصحابة يتساءلون عن السبعين الألف؟ لأن الصحابة رضوان الله عليهم من أحرص الناس على الخير، إذا سمعوا شيئاً من الفضائل بحثوا عنها حتى يعملوها، فهم أفضل الناس بعد الأنبياء، وخير الخلق رضوان الله عليهم، ولهذا اختارهم الله جل وعلا لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، وتربوا على يديه، وتلقوا الإيمان منه، وشاهدوا نزول الوحي وعرفوه، فلا يمكن أن يكون هناك أحد مثلهم في الخلق، والله جل وعلا زكاهم في كتابه وأثنى عليهم، فالذي يطعن فيهم أو يقدح فيهم مكذب لله جل وعلا، وهو ضال مضل، (فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ لأنهم عرفوا أن صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم ليسوا كغيرهم، اختارهم الله لذلك، فهم أفضل الأمة على الإطلاق، وهذا أمر متفق عليه بين أهل العلم الذين لهم معرفة بالوحي خلافاً لأهل الأهواء، فإنه لا عبرة بأقوالهم، وقال قوم: (لعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئاً، وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه: من هم؟) يريدون بسؤالهم هذا حتى يعملوا مثل عملهم فيسبقون إلى الجنة، فقال عليه الصلاة والسلام: (هم الذين لا يتطيرون، ولا يسترقون، ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون)، فقوله: (لا يسترقون) يعني: لا يطلبون من أحد أن يرقيهم. يقول العلماء: السبب في هذا أن الطلب والسؤال من الناس فيه افتقار القلب والتفاته إلى غير الله، وهذا نوع من الفقر للمخلوق، والمؤمن يجب أن يكون فقره كله إلى الله وحده، أما الخلق فيكون غنياً عنهم جميعاً، ويكون مثلهم مساوياً لهم لا يطلب منهم شيئاً؛ لأن طلب الشيء من الخلق يكون نقصاً في الدين، ويمنع ذلك من السبق إلى الجنة ولو كان طلب الرقية والراقي لا يضره ذلك؛ لأنه سؤال منه، ولهذا كان الرسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع أصحابه في آخر الأمر على ألا يسألوا الناس شيئاً، فكان أحدهم يسقط سوطه وهو راكب على راحلته والناس تحته عند راحلته ولا يقول لواحد منهم: ناولني السوط، بل ينزل عن راحلته ويأخذه بنفسه؛ وفاءً بالبيعة التي بايعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي: ألا يسأل الناس شيئاً. فمسألة الناس فيها الافتقار، وفيها التفات القلب إلى غير الله، وقد يكون ذلك نوعاً من الشرك الذي يقدح في التوحيد؛ ولهذا السبب حرمت المسألة، كما في صحيح مسلم من حديث قبيصة بن المخارق لما جاء يسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل أصيب بفاقة حتى يقوم ثلاثة من قومه من ذوي الحجا -يعني: العقل- يشهدون أنه أصيب بفاقة -والفاقة: هي الحاجة الشديدة والفقر- فتحل له المسألة حتى يجد قواماً من عيش أو سداداً من عيش. ورجل أصيب بجائحة اجتاحت ماله -إما حريق أو سيل احتمل ماله، أو ظالم استولى على ماله أو ما أشبه ذلك فأصبح ليس بيده شيء- فتحل له المسألة حتى يجد قواماً من عيش أو سداداً من عيش. ورجل تحمل حمالة) أي: أنه تحمل ذلك في سبيل الإصلاح، كأن يكون بين شخصين أو جماعتين شجار وقتال فيتحمل مالاً يدفعه لهؤلاء وهؤلاء حتى يصلح بينهم، فمثل هذا يجوز له أن يسأل؛ لأن هذا المال يدفع لإصلاح ذات البين، فلو ترك هذا الأمر من ماله لأوشك أن يحجم الناس عن الإصلاح، فصار من محاسن الشرع أنه أباح للأغنياء المسألة لهذا الغرض فقط؛ لأنه ليس لأنفسهم بل لتسديد هذه الأموال التي تحملوها لأجل الإصلاح، قال: (وما عدا ذلك فالمسألة سحت) أو كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، والسحت: هو الحرام. وجاء في الحديث: (سائل الناس يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم) عظام فقط، ولهذا جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (المسألة خدوش أو كدوش في وجه صاحبها) يعني: أنها تأكل لحمه وتذهب به ويأتي يوم القيامة وليس في وجهه لحم، هذا هو المعنى الذي منع المسترقي من السبق إلى الجنة من أجله. قوله: (الذين لا يكتوون ولا يتطيرون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون). فالإنسان ينبغي له أن يرقي نفسه، إلا إذا عرض عليه أخوه أن يرقيه فلا بأس بذلك، أما أن يطلب منه ويأتي إليه ويقول: ارقني فلا ينبغي ذلك؛ لئلا يكون من الممنوعين من السبق إلى الجنة كما في هذا الحديث. أما إذا عرض عليه فلا بأس أن يقبل؛ لأن هذا ليس فيه طلب وليس فيه مسألة بل عرض عليه عرضاً. وقد جاء (أن جبريل عليه السلام جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مريض فقال: ألا أرقيك؟ فرقاه). وكذلك ثبت أن السلف كانوا إذا عرضت عليهم الرقية قبلوا ذلك، ولا يدخل هذا في المنع من السبق إلى الجنة، هذا إذا كان الإنسان عنده همة عالية يريد أن يكون من السبعين الألف، أما إذا كان لا يهتم بمثل هذه الأشياء فهذا أمر آخر.

حقيقة النشرة ومعناها

حقيقة النشرة ومعناها قال الشارح رحمه الله تعالى: [قال الحسن: النشرة من السحر، وقد نشرت عنه تنشيراً، ومنه الحديث: (فلعل طباً أصابه)، ثم نشره بـ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] أي: رقاه. وقال ابن الجوزي: النشرة: حل السحر عن المسحور، ولا يكاد يقدر عليه إلا من يعرف السحر]. وحل السحر لا يعرفه إلا الساحر ولهذا منع منه. وسبق أن الساحر يكون بسحره مطيعاً للشيطان؛ لأن السحر لا يكون إلا بواسطة الشياطين، يعني: يطيعهم ويعبدهم، فالشيطان لا يطيع الإنسان إلا إذا عبده، وهذا من الاستمتاع الذي ذكر الله جل وعلا أنهم يوم القيامة يقولون: {ربنا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لنا} [الأنعام:128] الاستمتاع: هو أن ينتفع أحدهم بالثاني، الإنسي ينتفع بالشيطان الجني بشيء ينفعه في الدنيا من أخذ مال أو إمراض عدو له أو ما أشبه ذلك، والجني يستمتع من الإنسي بطاعته وعبادته والسجود له وتقديم القرابين له وما أشبه ذلك، وهذا لابد أن يحصل من الساحر. وهذا الاستمتاع الذي يحصل من بعضهم لبعض من الأمور المحرمة، فحل السحر الذي هو إبطاله عن المسحور يكون من ساحر مثله، ولابد أن يكون شيطان الساحر الذي يحله أقوى من شيطان الساحر الأول الذي وضع السحر فيستولي عليه ويبطل سحره. أما إذا كان شيطانه ضعيفاً فإنه لا يستطيع أن يحل السحر؛ لأن ذلك الشيطان يغلبه، فالشياطين بعضها أغلب من بعض، هذا هو معنى حل السحر، وبهذا يعلم أنه من المحرمات؛ لأن السحر لا يجوز تعاطيه على أي حال من الأحوال، فهو من الموبقات كما بين الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قرين الشرك، وقرين قتل النفس فقال: (اجتنبوا السبع الموبقات، فلما سئل عنها؟ قال: الشرك بالله، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والسحر) إلى آخر الحديث. النشرة من عمل الشيطان قال المصنف رحمه الله: [عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن النشرة؟ فقال: (هي من عمل الشيطان) رواه أحمد بسند جيد وأبو داود، وقال: سئل أحمد عنها؟ فقال: ابن مسعود يكره هذا كله]. (هي من عمل الشيطان)؛ لأنها من السحر، وإذا كان الشيء من عمل الشيطان فهو محرم ولا يجوز للمسلم أن يطيع الشيطان أو أن يعمل عملاً يرضيه. وأما قول أحمد: إن ابن مسعود كان يكره ذلك كله، فهذا من ورع الإمام أحمد رحمه الله، فإنه كان كثيراً إذا سئل عن مسألة يتحاشى أن يقول: هذا حرام، وهذا حلال؛ خوفاً من أن يقع في شيء خلاف الواقع، وقد قال الله جل وعلا: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل:116]. فقول الحلال والحرام كان صعباً عند السلف، ولهذا كان يعبر بالعبارات التي تدل على ورعه. والكراهة في لسان السلف المقصود بها التحريم، كقوله جل وعلا: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء:38] مكروهاً يعني: محرماً. أما الكراهة التي أطلق عليها المتأخرون: كراهة تنزيهية فهذه لم تكن معروفة عند السلف، بل كانوا إذا قالوا: هذا مكروه، فمعناه عندهم: أنه محرم. فقوله: ابن مسعود يكره هذا كله، يعني: أنه يرى أن هذا كله محرم، يعني: جميع النشرة التي يكون فيها تعاطي شيء من السحر، فكل هذا يكون محرماً، وابن مسعود من علماء الصحابة وفضلائهم وسابقيهم إلى الإسلام كما هو معلوم. قال الشارح رحمه الله: [هذا الحديث رواه أحمد، ورواه عنه أبو داود في سننه، والفضل بن زياد في كتاب المسائل، عن عبد الرزاق عن عقيل بن معقل بن منبه، عن عمه وهب بن منبه، عن جابر فذكره. قال ابن مفلح: إسناد جيد وحسن، وحسن الحافظ إسناده، قوله: (سئل عن النشرة)، الألف واللام في النشرة للعهد أي: النشرة المعهودة التي كان أهل الجاهلية يصنعونها، هي من عمل الشيطان. قوله: وسئل أحمد عنها؟ فقال: ابن مسعود يكره هذا كله، أراد أحمد رحمه الله: أن ابن مسعود يكره النشرة التي هي من عمل الشيطان، كما يكره تعليق التمائم مطلقاً].

قول ابن المسيب في النشرة

قول ابن المسيب في النشرة قال المصنف رحمه الله: [وفي البخاري عن قتادة: قلت لـ ابن المسيب: رجل به طب أو يؤخذ عن امرأته أيحل عنه أو ينشر؟ قال: لا بأس به إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع فلم ينه عنه]. سعيد بن المسيب رحمه الله من الذين يقولون بجواز حل النشرة، وعلته ما ذكر، وهو قوله: إذا كانوا يريدون به الإصلاح -يعني: إصلاح ما أفسده السحرة- فلا بأس به، أما إذا كان خلاف ذلك فهو محرم، ولكن هذا يفتقر إلى دليل، والأدلة على خلافه، ومنها ما ذكرنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها)، ومن المعلوم الذي لا يشك فيه من يعرف الشرع أو بعض أحكامه أن السحر من المحرمات، ومنها أن الذهاب إلى الساحر والرضا بفعله يعتبر تقريراً له، وتقرير الفاعل على الفعل يجعل المقرر له مشاركاً له في الفعل فيكون مثله، ولهذا أخبرنا ربنا جل وعلا أن الذين يجلسون مع من يستهزئ بآيات الله أنهم مثل المستهزئ، والمستهزئ كافر، وكان يجب عليه إذا جلس مع المستهزئ أن ينكر عليه، وكذلك الموالاة، كون المسلم يكون مع الكافر غير مظهر له العداوة والبغضاء، وإن كان يكره ذلك في نفسه فإنه يكون مثله؛ لهذا يقول جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] أي: فهو منهم. ويقول جل وعلا: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22]. ويقول جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة:1]. وهناك آيات كثيرة تدل على أن الإنسان يجب عليه أن ينكر فعل المخالف ويبغضه، أما إذا جلس معه وأقره أو ذهب إليه وتركه على ما هو عليه فإنه يكون مثله كما قال جل وعلا: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء:140] يعني: إذا جلس الإنسان مع من يسعى إلى الكفر ويسعى إلى المعاصي ولم ينكر عليه -وإن كان يبغض ذلك ويكرهه في قلبه- فإنه يكون مثله؛ لأن الله ميز المؤمنين من الكافرين، فكيف يجوز أن يذهب إلى الساحر حتى يحل السحر عنه؟! هذا إقرار له، ودين الله لا يقبل التجزئة ولا المداهنة فيه، فالصواب المنع من هذا. [قوله: عن قتادة هو ابن دعامة بكسر الدال السدوسي ثقة فقيه من أحفظ التابعين قالوا: إنه ولد أكمه، مات سنة بضع عشرة ومائة]. قوله: (ويؤخذ عن امرأته) يعني: أنه يعمل له سحر يمنع به أن يصل إليها، كما يفعله كثير من الناس، يعملون السحر لأجل ذلك، وهذا يعمله من لا خلاق له في الآخرة من الفسقة والظلمة الذين لا يخافون الله ولا يراقبونه، وإنما يريدون أن يوقعوا الضرر بمن يحسدونه على شيء من أمور الدنيا؛ لذلك يرتكب هذا الجرم الذي يذهب بحسناته، وقد يجعله من أهل النار نسأل الله العافية. أما المؤمن المتقي فإنه يخاف الله ولا يفعل شيئاً من ذلك، إنما يفعله فسقة المسلمين؛ لأنه في الواقع جاهل لا يعرف العاقبة، ولا يعرف ما يئول إليه الأمر، فلو كشف عن سوء فعله لهانه ذلك أشد الهون. فمن (يؤخذ عن زوجته) ويمنع من قربانها بواسطة السحر؛ فعلاجه يكون بالرقى الشرعية والأدوية المباحة، أما السحر فلا يجوز تعاطيه. قال الشارح رحمه الله: [قوله: رجل به طِب، بكسر الطاء أي: سحر، يقال: طُب الرجل بالضم إذا سحر، ويقال: كنّوا عن السحر بالطب؛ تفاؤلاً كما يقال للديغ: سليم. وقال ابن الأنباري: الطب من الأضداد، يقال: لعلاج الداء: طب، والسحر من الداء ويقال له: طب. قوله: (يؤَخَّذ) بفتح الواو مهموزةً، وتشديد الخاء المعجمة وبعدها ذال معجمة، أي: يحبس عن امرأته ولا يصل إلى جماعها، والأُخذة -بضم الهمزة- الكلام الذي يقوله الساحر. قوله: (أيُحل) بضم الياء وفتح الحاء مبني للمفعول. قوله: (أو ينشَّر) بتشديد المعجمة. قوله: (لا بأس به) يعني: أن النشرة لا بأس بها؛ لأنهم يريدون بها الإصلاح أي: إزالة السحر، ولم ينه عما يراد به الإصلاح، وهذا من ابن المسيب يحمل على نوع من النشرة لا يعلم أنه سحر]. يعني: أن كلام سعيد بن المسيب يحمل على نوع لا يكون من السحر، وهذا تأويل، ولكن الظاهر أنه يقصد به السحر؛ لأنه قال: (أما ما ينفع فلا) يعني: فلا يمنع منه (إنما يريدون به الإصلاح)، فهو ظاهر في أنه يريد السحر، ولكن قال هذا: (إنه يحمل على نوع ليس من السحر) حتى يتفق مع الأدلة ومع قول جمهور العلماء، هذا مقصوده، وعند العلماء قاعدة يسيرون عليها، إذا جاء عن أحد العلماء كلام يخالف الدليل فإنه يحمل على أحسن المحامل، ولا يظن بالعلماء أنهم يخالفون الدليل فهذا منه، فلهذا قال: إنه يحمل على نوع ليس من السحر.

معنى قول الحسن: لا يحل السحر إلا ساحر

معنى قول الحسن: لا يحل السحر إلا ساحر قال المصنف رحمه الله: [روي عن الحسن أنه قال: لا يحل السحر إلا ساحر]. هذا هو الواقع، لا يستطيع حل السحر إلا ساحر، والحل هو الذي يكون بالسحر، وليس معنى ذلك أن السحر ما يشفى، بل كثيراً ما يشفى بغير السحر؛ بالرقى كما شفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة بالله جل وعلا، وكذلك بالدعاء والالتجاء إلى الله، وكذلك بالعلاج الطبيعي، فإن العلماء ذكروا علاجاً للسحر، ومما ورد: أنه بأخذ سبع ورقات من السدر، فيدقه بين حجرين، ثم يضربه بالماء، ثم يحسو منه ثلاث حسوات يقرأ فيه آية الكرسي ثم يغتسل ببقيته، فإنه يشفى بإذن الله، وهذا شيء قد جرب خصوصاً في الرجل الذي يمنع من زوجته؛ فإنه يشفى بإذن الله سريعاً إذا فعل ذلك. فهذا نوع من العلاج الطبيعي، والعلاج الطبيعي لا بأس به جائز؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن الدواء: (أنتداوى؟ قال: تداووا عباد الله، ولا تداووا بحرام، فإن الله لم ينزل داءً إلا وأنزل له دواء، علمه من علمه، وجهله من جهله إلا داء واحداً وهو الموت) فالناس كلهم يموتون، ولابد من الموت، ولكن الأمراض والأسقام لها علاجات جعلها الله جل وعلا فيما يأكله الإنسان وفي غير ما يأكله، وقد يكتشف ذلك من باب الصدفة كما هو واقع كثير. قال الشارح رحمه الله: [قوله: وروي عن الحسن أنه قال: لا يحل السحر إلا ساحر هذا الأثر ذكره ابن الجوزي في جامع المسانيد. والحسن هو ابن أبي الحسن واسمه: يسار بالتحتية والمهملة البصري الأنصاري مولاهم، ثقة فقيه، إمام من خيار التابعين، مات سنة عشر ومائة -رحمه الله- وقد قارب التسعين].

أنواع حل السحر عن المسحور

أنواع حل السحر عن المسحور قال المصنف رحمه الله: [قال ابن القيم: النشرة: حل السحر عن المسحور وهي نوعان: أحدهما: يحل بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان، وعليه يحمل قول الحسن، فيتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب، فيبطل عمله عن المسحور. والثاني: النشرة بالرقية والتعوذات والأدوية والدعوات المباحة فهذا جائز]. قوله: (يتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب فيبطل عمله) يعني: أن الشيطان يبطل عمله. والواقع أن السحر يكون من الإنسان بواسطة الشيطان، والسحر يخفيه الساحر كثيراً كما هو الواقع، والشيطان يطلب شيطاناً آخر، وإذا أراد أن يسحر يذكر اسمه ويمدحه ويثني عليه ويدعوه بأشياء فيها خضوع وذلة واستكانة له، فيدعو هذا الشيطان ثم هذا الشيطان يستخدم شيطاناً آخر أضعف منه ويجعله واسطة بينه وبين المسحور، فيعمل السحر بعدما يتقرب إليه الساحر بالأشياء التي يأمره بها، ولو أن يبقى في بيت مظلم في وقت من الأوقات، وإلا فالغالب أنه يأمره بذبح شاة أو دجاجة أو ما أشبه ذلك، أو قد يأمره بالسجود له، ولا يفعل شيئاً إلا إذا فعل ما يطلب منه، ثم إذا فعل ذلك أمره بعمل السحر، والسحر يكون بأشياء يجمعها من شعر وعظام ونشارة خشب وبرادة حديد وما أشبه ذلك، فينفث فيها، ثم يضعها في شيء من الأشياء ويربطها، وقد يحرص عليها جداً؛ لأنها إذا ظهرت وألقيت بطل سحره، ثم يرسل الشيطان شيطاناً آخر إلى من يراد سحره، فإن كان هذا الذي يراد سحره ممن يكثر من الأوراد والأدعية الشرعية وممن هو على اتصال دائم بالله جل وعلا، فإنه لا يستطيع أن يسحره إلا إذا غفل؛ ولذلك يراقبه حتى يغفل، فعند ذلك يبدأ بسحره، ثم يصير واسطة بينه وبين الساحر والشيطان ويخبره عن الأمور التي تحدث فيه، هذا هو عمل السحرة غالباً، والسحر أنواع كثيرة، فإذا جاء المسحور إلى الساحر أمره الساحر بعمل يرضي شيطانه الذي عمل له السحر كأن يقول له: اذبح ذبيحة وضع بها كذا وكذا، بحيث تكون هذه الذبيحة للشيطان، وهذا كفر بالله جل وعلا، والشيطان يكفيه هذا الفعل؛ لأن الذبح لغير الله ردة ومن الكفر -نسأل الله العافية- فإذا عمل ذلك رضي الشيطان وأبطل عمله، وهذا معنى قوله: (يتقرب الساحر والمسحور إلى الشيطان؛ فيبطل الشيطان عمله)؛ لأن المسحور جاء بشيء يرضي الشيطان، والشيطان يعمل السحر لأجل هذا، فهو يحرص على إضلال الإنسان بأي وسيلة كانت.

صفة النشرة الجائزة

صفة النشرة الجائزة قال الشارح رحمه الله: [ومما جاء في صفة النشرة الجائزة ما رواه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ليث بن أبي سليم قال: بلغني أن هؤلاء الآيات شفاء من السحر بإذن الله، تقرأ في إناء فيه ماء، ثم يصب على رأس المسحور، الآية التي في سورة يونس: {فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [يونس:81 - 82]، وقوله: {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:118] إلى آخر الآيات الأربع، وقوله: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:69]. وقال ابن بطال في (كتاب وهب بن منبه): أن يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر، فيدقه بين حجرين، ثم يضربه بالماء ويقرأ فيه آية الكرسي والقواقل، ثم يحسو منه ثلاث حسوات، ثم يغتسل به، يذهب عنه كل ما به، وهو جيد للرجل إذا حبس عن أهله. قلت: قول العلامة ابن القيم: (والثاني: النشرة بالرقية والتعوذات والدعوات والأدوية المباحة فهذا جائز) يشير رحمه الله إلى مثل هذا، وعليه يحمل كلام من أجاز النشرة من العلماء]. يعني مثل قول: سعيد بن المسيب يحمل على هذا، فهذا كما قلنا: إنه أوّل كلامه حتى يوافق الحق، وهو من باب إحسان الظن بالعلماء. [والحاصل أن ما كان منه بالسحر فيحرم، وما كان بالقرآن والدعوات والأدوية المباحة فجائز، والله أعلم].

مسائل باب ما جاء في النشرة

مسائل باب ما جاء في النشرة قال المصنف رحمه الله: [فيه مسائل: الأولى: النهي عن النشرة]. النهي عن النشرة يعني: مطلقاً إذا كانت بسحر، أما إذا كانت بأدعية مثلما قال ابن القيم وبأمور طبيعية فهي جائزة، وليست داخلة في النهي. [الثانية: الفرق بين المنهي عنه والمرخص فيه مما يزيل الإشكال] يعني: النشرة المنهي عنها ما كان بواسطة الشياطين وبأعمال السحرة، فإن هذا لا يجوز أن يتعاطاه المؤمن، وإذا توكل المؤمن على ربه وترك الأمر المحرم، فإن الله جل وعلا يشفيه، ويعوضه عن ذلك.

شرح فتح المجيد [79]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [79] لما كانت الطيرة من الشرك المنافي لكمال التوحيد الواجب -لكونها من إلقاء الشيطان وتخويفه ووسوته- ذكرها المصنف في كتاب التوحيد. وقد كان التطير من عمل أهل الجاهلية والمشركين، حتى أنهم تطيروا برسل الله، وتشاءموا بهم، كما أنهم كانوا يعتقدون في العدوى والهامة والصفر والغول والنوء، عقائد باطلة، تنافي التوكل على الله، وتصادم الإيمان بقضاء الله وقدره.

حكم التطير ومعناه

حكم التطير ومعناه قال المصنف رحمه الله: [باب ما جاء في التطير. قوله: باب ما جاء في التطير، التطير: هو فعل الإنسان الذي يصدر منه، مستدلاً بما يقع له من فعل الطير، ويلحق به الحيوانات وكلام الناس، وما يشاهد من أفعالهم؛ فإنه إذا تشاءم بهم يكون متطيراً. وسيأتي أن الطيرة شرك، والشرك من أكبر الذنوب وأعظمها، ولكن شرك الطيرة شرك أصغر، والشرك الأصغر لا يخرج الإنسان من الإسلام، غير أن كثيراً من العلماء يقولون: إنه لا يغفر، بل لابد من أن يعاقب صاحبه؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فجعل المغفرة لما دون الشرك، وقوله: (أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) يدخل فيه جميع أنواع الشرك: أكبره وأصغره، هذا هو دليل الذين يقولون: إن الشرك -وإن كان صغيراً- لابد أن يعاقب عليه الإنسان، ولا يغفر لصاحبه إلا بالتوبة، فإذا تاب الإنسان -ولو كان شركه شركاً أكبر- فإنه يغفر له، ولكن إذا مات بدون توبة فإنه لا يغفر، وذلك أن الذنوب -ما عدا الشرك- إذا مات الإنسان عليها بدون توبة فإن أمره إلى الله إن شاء غفر الله له بدون عقاب، وإن شاء عاقبه عليها، أما الشرك المذكور في الآية ففي الآية دلالة على أنه لا يغفر لصاحبه، وإذا كان لا يغفر فإنه يعاقب عليه، فعلى هذا يكون الشرك عظيماً وإن كان صغيراً، فيجب أن يجتنب وأن يحذر منه. وقد تكون الطيرة من الشرك الأكبر؛ وذلك إذا كان المتطير يعتقد أن الطير أو غيره هو الذي يجلب النفع ويدفع الضر. أما إذا كان يعتقد أن هذا سبب، وأن الله ربط النفع والضر بهذه الأسباب، وأن ذلك لم يكن سوى دليل على وقوع المقبول أو وقوع المحذور، فإن هذا يكون من الشرك الأصغر.

حكم التطير بالسوانح والبوارح

حكم التطير بالسوانح والبوارح قال الشارح رحمه الله: [باب ما جاء في التطير، أي: من النهي عنه والوعيد فيه، مصدر تطير يتطير تطيراً، والطيرة -بكسر الطاء وفتح الياء وقد تسكن-: اسم مصدر من تطير طيرة. وأصله التطير بالسوانح والبوارح، من الطير والظباء وغيرهما، وكان ذلك يصدهم عن مقاصدهم، فنفاه الشارع وأبطله، وأخبر أنه لا تأثير له في جلب نفع أو دفع ضر]. كثير من العلماء يقولون: إن السانح: هو الذي يأتي عن يمين الإنسان، والبارح: هو الذي يأتي عن شمال الإنسان، وبعضهم يعكس. والمقصود أنهم إذا خرجوا لحاجتهم فرأوا طائراً على شجرة أو غيرها أطاروه، ونظروا أين يتجه، فإن جاء عن اليمين تفاءلوا ومضوا، وقالوا: هذا يدل على الخير، وإن جاء عن الشمال تشاءموا ورجعوا وقالوا: هذا يدل على الشر، وإن هذا السفر أو هذا المخرج الخروج فيه مصيبة! ومن المعلوم أن الطائر وغيره من الحيوانات ليس عنده شيء من علم الغيب، وليس عنده شيء من النفع والضر، وإنما هذا شيء يلقيه الشيطان في نفوسهم؛ ليهينهم ويذلهم، فلهذا جاء النهي عنه، ثم ألحق بفعل الطير كل ما كان مثل هذا المعنى من فعل الحيوانات، فإذا رأوا مثلاً ثعلباً يتفاءلون ويمضون، وإذا رأوا أرنباً يتشاءمون ويرجعون؛ لأن الأرنب ضعيفة فتكون عرضة لكل سهم ولكل صائد، وبالتالي يكون الخارج عرضةً للألم والعذاب والإصابة فيرجعون، بخلاف الثعلب فإنه ماكر، عنده القدرة على حفظ نفسه -حسب زعمهم- وبالتالي يفرحون به، وهكذا سائر الحيوانات، وقد يكون التشاءم بالإنسان، فترى أحدهم إذا خرج من بيته فلقيه إنسان به عيب: كالأعور أو الأعرج أو الأعمى أو ما أشبه ذلك تشاءم ورجع، وهذا من وسوسة الشيطان، والفعل يكون شركاً. أما إذا لم يلتفت إلى ذلك -وإن وقع في نفسه شيء- فإنه لا يضره. فعلى الإنسان إذا رأى شيئاً من هذه الأمور أن يقول: (اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك، ولا حول ولا قوة إلا بك) ويمضي، فإن ذلك لا يضره ولا يلتفت إليه، ولا يكون ممن دخل في الطيرة. وكانت الطيرة في العرب كثيرة جداً، وهي وهم من الشيطان، وليس فيها شيء مما يعرف به المستقبل أصلاً. ومن يهتم بالطيرة قد يبتلى من الله جل وعلا؛ لأنه صرف قلبه إلى غير الله جل وعلا، وكلما سمع كلمة صار يفسرها، مثل لو سمع كلمة سفرجل، وهو خارج خلف بائع السفرجل، أو رآه وهو خارج من منزله قال: هذا سفر وأجل أي: أنه سيموت، فيرجع إلى منزله، فتراه كلما سمع كلمة راح يفسرها في نفسه تفسيراً سيئاً، ويلقي الشيطان في قلبه أنه سيصاب بما فسره، بخلاف الذي يعتمد على ربه ويتوكل عليه، ولا يلتفت إلى هذه الأشياء ويمضي، فإنه لا يصيبه أذى. ومن المعلوم أنه لا يقع شيء إلا بقدر الله وقضائه ومشيئته، فالمؤمن يؤمن بذلك، ويتوكل على الله، ولا يلتفت إلى شيء مما يصنعه الشيطان، ويلقيه في نفوس الكثير من الناس، وإذا علم الله جل وعلا ذلك منه، فإنه لا يضره شيء من هذه الأمور، لا في دينه ولا في بدنه. قال الشارح رحمه الله: [قال المدائني: سألت رؤبة بن العجاج قلت: ما السانح؟ قال: ما ولاك ميامنه، قلت: فما البارح؟ قال: ما ولاك مياسره. والذي يجيء من أمامك فهو الناطح والنطيح، والذي يجيء من خلفك فهو القاعد والقعيد. ولما كانت الطيرة من الشرك المنافي لكمال التوحيد الواجب؛ لكونها من إلقاء الشيطان وتخويفه ووسوسته، ذكرها المصنف رحمه الله تعالى في كتاب التوحيد؛ تحذيراً مما ينافي كمال التوحيد الواجب.

تطير الكفار بالرسل منذ القديم

تطير الكفار بالرسل منذ القديم قال المصنف رحمه الله: [وقول الله تعالى: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:131]]. الآية في سياق قصة الرسل الذين أرسلهم الله جل وعلا ليدعونا إلى عبادته وتوحيده، فمنهم من قال للرسل: إنا تطيرنا بكم، فقالت لهم الرسل: طائركم عند الله، ومعنى: (تطيرنا بكم) يعني: أن الشيء الذي أصابنا من العذاب أو القحط أو المرض أو الفقر أو ما أشبه ذلك فإنه بسببكم وبعد مجيئكم، فقالت لهم رسلهم: (طائركم عند الله)، يعني: ما أصابكم فهو من الله جزاء أفعالكم، أو أن العذاب سيصيبكم إذا رجعتم؛ بسبب شؤمكم، وبسبب ذنوبكم وأفعالكم، هذا معنى الآية. قال الشارح رحمه الله: (قوله: وقول الله تعالى: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} [الأعراف:131] الآية)، ذكر تعالى هذه الآية في سياق قوله: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} [الأعراف:131] المعنى: أن آل فرعون كانوا إذا أصابتهم الحسنة أي: الخصب والسعة والعافية -كما فسره مجاهد وغيره- قَالُوا لَنَا هَذِهِ، أي: نحن الجديرون والحقيقون به، ونحن أهله. وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ، أي: بلاء وقحط، تطيروا بموسى ومن معه، فيقولون: هذا بسبب موسى وأصحابه، أصابنا بشؤمهم. فقال الله تعالى: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} [الأعراف:131]. قال ابن عباس: (طَائِرُهُمْ): ما قضى عليهم وقدر لهم، وفي رواية: شؤمهم عند الله ومن قبله، أي: إنما جاءهم الشؤم من قبله، بكفرهم وتكذيبهم بآياته ورسله]. ذكر هذا في قصة موسى، وفي قصة الرسل أيضاً، فإن الكفار قالوا لهم: (تطيرنا بكم)، فهذا يدلنا على أن التطير من سنة كفار العرب وغيرهم فهو قديم، وقد ذكر الله جل وعلا عن الكفار الماضين أنهم يتطيرون برسلهم، وأخبر الله جل وعلا أن هذا من الأوهام التي لا حقيقة لها، وأن الشيء الذي يصيبهم إنما هو جزاء أعمالهم، وإن زعموا أنه بسبب شيء يشاهدونه أو يرونه أو يسمعونه، فهذا ليس بصحيح. بهذا يتبين أن كل من يفعل شيئاً من ذلك فإن قدوته أولئك المتطيرون وهو من جنسهم. قال الشارح رحمه الله: [قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:131] أي: أن أكثرهم جهال لا يدرون، ولو فهموا وعقلوا لعلموا أنه ليس فيما جاء به موسى عليه الصلاة والسلام إلا الخير والبركة والسعادة والفلاح؛ لمن آمن به واتبعه.

رد الرسل على من تطير بهم

رد الرسل على من تطير بهم قال المصنف رحمه الله: [وقوله: {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [يس:19]. المعني -والله أعلم- حظكم وما نابكم من شر معكم؛ بسبب أفعالكم وكفركم ومخالفتكم الناصحين، ليس هو من أجلنا ولا بسببنا، بل ببغيكم وعداوتكم. فطائر الباغي الظالم معه، فما وقع به من الشرور فهو سببه الجالب له، وذلك بقضاء الله وقدره وحكمته وعدله، كما قال الله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 36]. ويحتمل أن يكون المعنى: طائركم معكم: أي: راجع عليكم. فالتطير الذي حصل لكم إنما يعود عليكم، وهذا من باب القصاص في الكلام، ونظيره قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم) ذكره ابن القيم رحمه الله]. قوله: (وعليكم) ليس المقصود أنه رد، ولكن المقصود أن اليهود كانوا إذا سلموا قالوا: السام عليكم، والسام: هو الموت، فهم يدعون بالموت على المسلمين ويسترون كلامهم، لذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم) يعني: أن نقول لهم: وعليكم فتعود الدعوة عليهم، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم: (أنه يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا). أما إذا سلم اليهود، وقالوا: السلام وعليكم فإنه يرد عليهم، ورد السلام واجب، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا سلموا عليه رد عليهم بقوله: وعليكم. قال الشارح رحمه الله: [وقوله تعالى: (أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ) أي: من أجل أنّا ذكرنّاكم وأمرناكم بتوحيد الله قابلتمونا بهذا الكلام (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ). قال قتادة: أئن ذكّرناكم بالله تطيرتم بنا؟! ومناسبة الآيتين للترجمة: أن التطير من عمل أهل الجاهلية والمشركين، وقد ذمهم الله تعالى به ومقتهم. وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التطير، وأخبر أنه شرك، كما سيأتي في أحاديث الباب].

معنى حديث: (لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ولا نوء ولا غول)

معنى حديث: (لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ولا نوء ولا غول) قال المصنف رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر) أخرجاه. زاد مسلم: (ولا نوء ولا غول)]. قوله صلى الله عليه وسلم: (لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر) هذه الأمور الأربعة متفق عليها عند البخاري ومسلم، وزيادة مسلم: (ولا نوء ولا غول) فتكون ستة أمور ورد النهي عنها.

معنى قوله: (لا عدوى)

معنى قوله: (لا عدوى) وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا عدوى) له معنيان: أحدهما: أن (لا) نافية، ويقصد ما كان يعتقده أهل الجاهلية: من أن المرض يعدي بطبعه وبنفسه وبقوته، وليس ذلك بقدر الله وإرادته، فيكون المنفي هو ما يعتقده أهل الجاهلية في هذا، وليس المنفي أن مخالطة المريض تكون سبباً لمرض الصحيح، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بزيارة المرضى، ثم إنه ليس كل مرض يعدي هذا معنى نفي العدوى، وهو المعنى الأول. المعنى الثاني: أن تكون (لا) هذه ناهية، (لا عدوى) يعني: لا يتسبب أحد بإعداء أحد، ويدل على هذا آخر الحديث، ويدل عليه أيضاً الحديث الذي في الصحيح: (لا يورد ممرض على مصح) وفيه أيضاً: (وفر من المجذوم فرارك من الأسد). وذلك أن مخالطة الصحيح للمريض قد تكون سبباً، والعدوى قد اتفق على وقوعها بين الأطباء، وبين العلماء، وأنها قد تتعدى إلى الصحيح، وجاءت النصوص بهذا، فثبت أنه صلى الله عليه وسلم لما قدم إليه وفد من وفود العرب كان فيهم مجذوم فقال له: (ارجع فقد بايعناك)، والحديث الذي ذكرناه سابقاً: (لا يورد ممرض على مصح)، وكذلك قوله: (وفر من المجذوم فرارك من الأسد) ونحو ذلك من الأحاديث، وهذه كلها تدل على أن المعنى في قوله: (لا عدوى)، المقصود به النهي، يعني: لا يكن أحدكم متسبباً في عدوى غيره، وهذا واضح ظاهر. أما الإجماع: فإنه ثبت أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه لما ذهب إلى الشام ومعه الصحابة، وفي أثناء الطريق جاءه خبر: أن الطاعون وقع في الشام، فاستشار الصحابة، فقالت طائفة: (خرجت لأمر فامض إليه، وتوكل على الله)، وقالت طائفة أخرى: (معك بقية أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام ووجهاء الناس فلا تقدم بهم على هذا الوباء)، فرجع، فعند ذلك قال له أبو عبيدة: (أفراراً من قدر الله؟ فقال: لو غيرك قالها، نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله، ثم قال له: أرأيت لو كان لك إبل ومررت بواد له جانبان، جانب فيه مرعى، والجانب الآخر مجدب، أيهما ترعى؟ فقال: الذي فيه مرعى، فقال: أفليس ذلك بقدر الله؟ قال: نعم، فقال: كذلك ما فعلنا)، فهذا كلام واضح وإجماع من الصحابة، وقد رجعوا بعد أن سألوا عن ذلك، ورأوا أنه ليس مخالفاً لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد ثبت عند الأطباء -ثبوتاً لا مجال لإنكاره- أن كثيراً من الأمراض تكون بسبب الجراثيم الصغيرة، وأنها تنتقل من المريض إلى الصحيح، فيحدث المرض بسبب ذلك، والشرع لا يأتي بالشيء الذي يخالف الواقع، بل يكون موافقاً له ودالاً عليه؛ لأنه وحي من عند الله جل وعلا، ويكون هذا المعنى في قوله: (لا عدوى) أرجح من المعنى الأول.

معنى قوله: (ولا طيرة)

معنى قوله: (ولا طيرة) أما قوله: (ولا طيرة)، ظاهره أنه نهي، وليس المقصود: نفي وجود الطيرة، فالطيرة موجودة في الناس، وكثير من الناس يتطير، وليس المعنى أن الرسول صلى الله عليه وسلم ينفي أن تكون الطيرة موجودة في الخلق، وإنما أراد صلوات الله وسلامه عليه أن ينهى عن التطير، وهذا مما يرجح المعنى الثاني الذي قلناه في قوله: (لا عدوى)، فيكون النسق واحداً، وكلاهما نهي، فيكون معنى (لا طيرة): أي: لا تفعلوا الطيرة فتقعوا في الشرك، فإن الطيرة من الشرك وحد الطيرة -كما سيأتي- ما جاء في الحديث: (الطيرة ما أمضاك أو ردك)، أما أن يقع في نفسك شيء من التطير ثم تمضي ولا تلتفت إليه فليس هذا طيرة، وإنما الطيرة أن تعمل بها، بأن تمضي إذا رأيت أنها تدل على خير، أو تحجم وترجع إذا رأيت أنها تدل على شر.

معنى قوله: (ولا هامة)

معنى قوله: (ولا هامة) وقوله: (ولا هامة)، الهامة جاء فيها تفسيران: أحدهما: أن المقصود بالهامة: البومة، الطائر المعروف الذي يكون في الخرابات ويأتي في الليل، وقد يقع على الحيطان أو على البيوت، فكانت العرب تتشاءم به أشد الشؤم، وإذا وقع على بيت أحدهم قالوا: نعى إلينا أنفسنا أو نعى إلينا أحدنا، وأنه سوف يموت واحد منهم؛ فأبطل الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك فقال: (لا هامة) يعني: ما كان يعتقده الكفار بالهامة، وما يعتقده أهل الجاهلية في ذلك لا حقيقة له، فأبطله عليه الصلاة والسلام، وقد يكون من باب النهي عن فعل ما يفعله أولئك؛ لأن شأن المؤمن غير شأن المشرك. والتفسير الثاني: أن أهل الجاهلية كانوا يعتقدون أو بعضهم: أن الإنسان إذا قتل مظلوماً ووضع في قبره يخرج من هامته طائر، فلا يزال يصيح ويقول: اسقوني اسقوني على قبري، حتى يؤخذ بثأره ويقتل قاتله، أما إذا لم يقتل قاتله، فإنه لا يزال كذلك، هذا شيء كان يعتقده بعض العرب. فبين الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذا لا حقيقة له، والمعنيان كلاهما صحيح، وكلاهما منهي عن اعتقادهما أو فعلهما.

معنى قوله: (ولا صفر)

معنى قوله: (ولا صفر) وقوله صلى الله عليه وسلم: (ولا صفر) فيه ثلاثة تفاسير، وكلها صحيح، أحدها: أن كثيراً من أهل الجاهلية يتشاءمون بشهر صفر، ويرون أنه مشئوم، فيتركون الأسفار فيه والأعمال مثل التجول وغيره، ويقولون: هذا شهر مشئوم، من سافر فيه وصنع شيئاً فيه فإنه لا يوفق ولا يتم له، فأبطل الرسول صلى الله عليه وسلم هذه العقيدة. التفسير الثاني: أن المقصود: النسيء الذي ذكره الله في القرآن عنهم، وهو أنهم كانوا يؤخرون شهر محرم إلى صفر، ويقدمون صفر ويجعلونه بدل محرم في السنة، وفي السنة الثانية يتركونه كما هو، يؤخرونه عاماً ويقدمونه عاماً، ويتركونه على ما هو عليه عاماً. فبين صلى الله عليه وسلم أن هذا من فعل الجاهلية وأنه باطل، وذلك أن القتال في محرم محرم لا يجوز، وكانوا يعتقدون هذا ولا يقاتلون في شهر محرم، ولكن لما كانت الأشهر الحرم ثلاثة متوالية: ذو القعدة وذو الحجة ومحرم صاروا يقولون: طال علينا الأمد بترك القتال، مما جعلهم يقاتلون في محرم ويحرمون صفر، وهذا من التحريف والتغيير لدين الله جل وعلا. فبين الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذا لا يجوز، والله جل وعلا أخبر أن ذلك زيادة في الكفر، {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة:37] وهذا هو النسيء: ينسئون صفر إلى محرم، ومحرم يؤخرونه ويقدمون بدله صفر، ومرةً أخرى يتركونه على ما هو عليه، هذا هو النسيء. التفسير الثالث: أن المقصود بصفر: دابة أو حية تكون في صفر، وأنها تعدي أشد من إعداء المجذوم، فهذه العقيدة باطلة لا حقيقة لها. والصواب أن هذه التفاسير كلها باطلة أبطلها الرسول صلى الله عليه وسلم.

معنى قوله: (ولا نوء)

معنى قوله: (ولا نوء) أما قوله: (لا نوء) في زيادة مسلم: النوء واحد الأنواء، وكانوا يعتقدون أن المطر يكون بالأنواء، وأن بعضها محموداً وبعضها منحوساً، بعضها أنواء نحس لا يأتي فيها خير وبعضها محمودة، ولهذا كانوا يسمون بعضها: سعداً أو سعد السعود، أو سعودات، وبعضها يتشاءمون بها أشد التشاؤم كسعد الذابح، فيقولون: هذا نوء غير محمود، يعني: أنه لا يحصل فيه المطر ولا يحصل فيه الخير أو لا يحصل به الخير. وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم لما كان في الحديبية وقع مطر في الليل، فلما صلى واستقبل المسلمين، قال لهم: (أتدرون ما قال ربكم الليلة؟ قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب)، فالأنواء: هي الكواكب التي هي منازل للقمر، بمعنى أنه كل ليلة يكون موازياً لواحد منها، وسميت: أنواء؛ لأنه كلما طلع واحد غرب واحد مقابله من الغرب، وعددها ثمان وعشرون نوءاً، منازل القمر كل ليلة في واحدة منها، ويرى منها أربعة عشر، كلما غرب واحد خرج مقابله واحد من الشرق، ويكون منها أربعة عشر فوق الأرض تنظر، وأربعة عشر تحتها مغطيةً لها، وهي مدبرة مأمورة تسير بأمر الله تعالى، وقد أخبر جل وعلا أنه قدر القمر منازل؛ وأن ذلك لمعرفة عدد السنين والحساب حكمةً من الله جل وعلا. وسيأتي أن الكواكب خلقت لأمور ثلاثة -وأن من اعتقد غير ذلك فإنه ضال-: خلقت رجوماً للشياطين، وزينةً للسماء، وعلامات يهتدى بها في ظلمات البر والبحر في المسير. كما أنها أيضاً علامات على عظمة الرب جل وعلا، وآيات دالة على أنه هو الخالق المتصرف، وأنه هو الذي يجب أن يعبد، ومن اعتقد غير ذلك فهو ضال، فليس عند النجوم تقدير وليس عندها سر من الأسرار، وإنما هي مدبرة مأمورة مطيعة لله جل وعلا، فهذا معنى قوله: (ولا نوء) يعني: أن ما يعتقده أهل الجاهلية من أن المطر ينزل بالأنواء لا حقيقة له وباطل، بل هو من الشرك.

معنى قوله: (ولا غول)

معنى قوله: (ولا غول) أما قوله: (ولا غول) فالغول واحد الغيلان، والغيلان يقولون: هم سحرة الجن؛ لأن الجن فيهم سحرة، وهم يتغولون المسافر يعني: يتراءون للمسافر ليضلوه، وقد يأتونه بنار أو يأتونه بأمور تزعجه وتخيفه، هكذا كانوا يعتقدون، فأخبر صلى الله عليه وسلم أن هذا لا حقيقة له، ولكن جاءت آثار تدل على وجود الغيلان، منها حديث: (إذا تغولت الغيلان فنادوا بالأذان)؛ لأن الأذان يطرد الجن والشياطين؛ ولأنه ذكر لله. وجاء عن بعض الصحابة أنه قال: كان أحد الصحابة عنده طعام، وكان قد وضعه في مكان، وكانت الغيلان تأخذ منه إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على وجود الغيلان. أما ما كان يعتقده أهل الجاهلية من أن الغيلان تتسلط على الناس، وتضلهم في أسفارهم، فهذه عقيدةٌ باطلة، ولا حقيقة لها. وليس المعنى نفي وجود الغيلان، ولكن المعنى أنهم لا يستطيعون أن يضلوا أحداً إلا من تولى الشيطان، فإن هذا قد تضله الجن والشياطين، وقد تلابسه، وقد تؤذيه، وقد تقتله. أما المؤمن الذاكر فإنه يتحصن بذكر الله، فلا يصيبه شيء من أذاهم، فيكون المعنى المراد: أنه لا حقيقة لما يعتقده أهل الجاهلية من أن الغيلان تضل المسافرين وتتراءى لهم، وإنما ذلك يكون بالكفار جزاءً لأعمالهم وكفرهم. أما المؤمن الذي يؤمن بالله فإنه لا يصيبه ذلك الغول؛ لأنه يتحرز بذكر الله وبالإيمان، والله لم يجعل للشيطان على المؤمنين سلطاناً.

الجمع بين حديث: (لا عدوى) وحديث: (لا يورد ممرض على مصح)

الجمع بين حديث: (لا عدوى) وحديث: (لا يورد ممرض على مصح) قال الشارح رحمه الله: [قال أبو السعادات: العدوى: اسم من الإعداء. كالرعوى. يقال: أعداه الداء، يعديه إعداءً: إذا أصابه مثل ما بصاحب الداء، وقال غيره: لا عدوى، اسم من الإعداء وهو مجاوزة العلة من صاحبها إلى غيره، والمنفي نفس سراية العلة، أو إضافتها إلى العلة، والأول هو الظاهر]. الأول ليس هو الظاهر؛ لأن سراية العلة إلى الصحيح هذا أمر متفق عليه اليوم وقد ظهر، وكذلك معروف أن وجود الصحيح بين المرضى قد يكون سبباً لتعدي المرض إليه. والرسول صلى الله عليه وسلم لا يقول شيئاً يخالف الواقع، فيكون المعنى الظاهر للحديث هو النهي، ودل على هذا المعنى النصوص الأخرى، كما دل عليه الواقع الذي اتفق عليه بين الأطباء، وبين من اطلع على ذلك. قال الشارح رحمه الله: [وفي راوية لـ مسلم: أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يحدث بحديث: (لا عدوى)، ويحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يورد ممرض على مصح) ثم إن أبا هريرة اقتصر على حديث: (لا يورد ممرض على مصح) وأمسك عن حديث: (لا عدوى) فراجعوه، وقالوا: سمعناك تحدث به، فأبى أن يعترف به. قال أبو سلمة -الراوي عن أبي هريرة: - فلا أدري أنسي أبو هريرة أو نسخ أحد القولين الآخر؟] النسخ لا يكون بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن المعنى: أن أبا هريرة علم أن الأخير قد نسخ الأول فترك التحديث به، علم ذلك في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن ظاهر هذين الحديثين التعارض، وكلا الحديثين في الصحيح، حديث: (لا عدوى)، وحديث: (لا يورد ممرض على مصح) فكلاهما ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أنه إذا أمكن الجمع بين الحديثين فإنه لا يصار إلى النسخ، وقد بينا الجمع بينهما، وأنه لا معارضة بينهما، فإذا قيل: إن معنى قوله: (لا عدوى) النهي، يعني: لا يكون أحدكم سبباً لإعداء أخيه، سواءً بنفسه أو بفعله أو بغير ذلك، فإنه يكون على هذا متفق مع الحديث الآخر،: (لا يورد ممرض على مصح) وليس بينهما أية معارضة، بل كل واحد يصدق الآخر ويوافقه، وهذا أولى من أن يقال: إن هذا الأخير ناسخ للأول. أما كون أبي هريرة رضي الله عنه أنكر أنه حدث بهذا، فهذا لأنه نسي، وهذا نادر جداً، بل لم يأت أن أبا هريرة نسي شيئاً إلا هذا، فإنه كان من الحفاظ، وبدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم له بالحفظ، وقد حفظ ما لم يحفظه غيره من الصحابة، وكثرت الأحاديث عنه، ومن أجل ذلك أغاظ كثيراً من أعداء الإسلام فصاروا يقدحون فيه، ومعلوم أن صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم عدول، عدلهم الله جل وعلا فقال: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [التوبة:100]، فأخبر الله جل وعلا أنه رضي عنهم، وأنهم راضون عنه، فدل هذا على أنهم خير الناس بعد الأنبياء؛ لأنه أخبر أنه أعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار، وإذا أخبر الله جل وعلا عن أحد من الخلق أنه قد رضي عنه فلا يمكن أنه يكفر أو يرتد؛ لأن الله علام الغيوب، يعلم ما سيكون، فهو يعلم أنهم سيستمرون على ذلك إلى أن يلقوا ربهم. وهكذا في الآيات الأخرى قوله جل وعلا: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29] إلى آخر الآية، ولهذا اتفق أهل السنة على أنهم عدول بتعديل الله لهم، وتعديل رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد جاء تحذير الرسول صلى الله عليه وسلم عن الوقوع فيهم، فقال: (الله الله، لا تتخذوا أصحابي غرضاً، فإن من أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم)، وفي الحديث الصحيح أنه قال صلى الله عليه وسلم: (دعو لي أصحابي، فوالله لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه) يعني: لو أنفق مثل أحد ذهباً -لو أمكن هذا- لم يبلغ المد الذي أنفقه أحدهم في سبيل الله ولا نصف المد، وذلك أن الله اختارهم لرسوله صلى الله عليه وسلم، فسعدوا بصحبته، وبتلقي العلم والإيمان من الرسول صلى الله عليه وسلم، وبمجالسته وامتثال أمره، والقتال بين يديه، وغير ذلك مما فضلهم الله جل وعلا به.

الجمع بين أحاديث نفي العدوى وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالفرار من المجذوم

الجمع بين أحاديث نفي العدوى وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالفرار من المجذوم يقول الشارح رحمه الله: [وقد روى حديث: (لا عدوى) جماعة من الصحابة: أنس بن مالك، وجابر بن عبد الله، والسائب بن يزيد، وابن عمر رضي الله عنهم وغيرهم، وفي بعض روايات هذا الحديث: (وفرّ من المجذوم كما تفر من الأسد)، وقد اختلف العلماء في ذلك، وأحسن ما قيل فيه: قول البيهقي وتبعه ابن الصلاح وابن القيم وابن رجب وابن مفلح وغيرهم، أن قوله: (لا عدوى) على الوجه الذي يعتقده أهل الجاهلية، من إضافة الفعل إلى غير الله تعالى، وأن هذه الأمور تعدي بطبعها، وإلا فقد يجعل الله بمشيئته مخالطة الصحيح من به شيء من الأمراض سبباً لحدوث ذلك، ولهذا قال: (وفر من المجذوم كما تفر من الأسد)]. هذا قبل أن يعلم أن كثيراً من الأمراض بسبب الجراثيم، وأن الجراثيم تنتقل من المريض إلى الصحيح، أما إذا علم ذلك فيتبين مراد الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يخالف الواقع. قال الشارح رحمه الله: [وقال (لا يورد ممرض على مصح)، وقال في الطاعون: (من سمع به في أرض فلا يقدم عليه)، وكل ذلك بتقدير الله تعالى. ولـ أحمد والترمذي عن ابن مسعود مرفوعاً (لا يعدي شيء شيئاً -قالها ثلاثاً- فقال أعرابي: يا رسول الله! إن النقبة من الجرب تكون بمشفر البعير أو بذنبه في الإبل العظيمة فتجرب كلها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فمن أجرب الأول؟ لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر، خلق الله كل نفس وكتب حياتها ومصائبها ورزقها)]. وهذا معناه أيضاً لا يخالف ما سبق، فالإنسان قد يكون سبباً لمرض غيره، وإذا كان سبباً فليس معنى ذلك أنه هو الذي يفعل هذا، فالأسباب كتبها الله جل وعلا، وقد أمر الإنسان أن يفعل السبب الذي يتوقع فيه الخير، ويجتنب السبب الذي يتوقع منه الأذى والشر، وإن أصيب بشيء من ذلك فيؤمن بأن هذا بقدر الله وقضائه، وأنه لا مفر له من ذلك، وإلا لو كان على ظاهر ما يقال -وهو أن المراد به النفي- فإن فعل الصحابة من رجوعهم من بلاد الشام يكون مخالفاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم، بل هم أحرى الناس وأولى الناس في فهم ما قاله، وهم الذين يمتثلون قوله أكثر من غيرهما، ثم قول الرسول صلى الله عليه وسلم لا يخالف الواقع؛ لأنه وحي من الله. قال الشارح رحمه الله: [فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن ذلك كله بقضاء الله وقدره، والعبد مأمور باتقاء أسباب الشر إذا كان في عافية، فكما أنه يؤمر أن لا يلقي نفسه في الماء وفي النار، مما جرت العادة أنه يهلك أو يضر، فكذلك اجتناب مقاربة المريض كالمجذوم، والقدوم على بلد الطاعون؛ فإن هذه كلها أسباب للمرض والتلف، فالله سبحانه هو خالق الأسباب ومسبباتها، لا خالق غيره ولا مقدر غيره. وأما إذا قوي التوكل على الله، والإيمان بقضاء الله وقدره -فقويت النفس على مباشرة بعض هذه الأسباب اعتماداً على الله، ورجاءً منه أن لا يحصل به ضرر- ففي هذه الحال تجوز مباشرة ذلك، لاسيما إذا كانت مصلحة عامة أو خاصة]. وهذا الكلام أيضاً فيه نظر؛ لأنه وإن قويت نفس الإنسان وقوي توكله فإنه غير مأمور بأن يلقي نفسه في الضرر، ولا يجوز، إلا إذا كان هناك مصلحة للإسلام والمسلمين ظاهرة، مثل ما يروى أن خالد بن الوليد احتسى سماً، لما قيل له في حصن حاصره: لن ننزل إلا أن تأكل هذا السم، فأخذه بكفه وقال: باسم الله توكلاً على الله وثقة به، فأكله، فأصابه عرق ولم يضره، وهذا لأنه لمصلحة الإسلام، فبين لهم أن هذه آية من آيات الله جل وعلا، وكذلك حدث لـ سعد بن أبي وقاص ومن معه عندما مشى على البحر بالخيل، وأصبحت تمشي كأنها تمشي على الرمال، وذلك أنهم وثقوا بالله وتوكلوا عليه، وقالوا: نحن في سبيل الله، وعباد الله، ولن يضيعنا ربنا، فمثل هذا فيه مصلحة عامة ظاهرة، ويجعلها الله جل وعلا آية، أما أن يلقي الإنسان يلقي بنفسه في المهالك بدون معنى ولا جدوى فهذا لا يجوز. قال الشارح رحمه الله: [وعلى هذا يحمل الحديث الذي رواه أبي داود والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم (أخذ بيد مجذوم فأدخلها معه في القصعة، ثم قال: كل باسم الله، ثقة بالله، وتوكلاً عليه)، وقد أخذ به الإمام أحمد، وروي ذلك عن عمر وابنه وسلمان رضي الله عنهم]. لا يلزم أن تكون مخالطة المريض على كل حال تعدي هذا شيء، ثم إن المقصود بالنفي: هو المبالغة في المخالطة، لا كما يعتقده، كثير من الناس من أنه لا ينبغي أن يقرب المريض، ولا أن ينظر إليه، حتى إن بعض العلماء أصيب بشيء من الوسوسة في هذا، وكان لا يعود المريض! فلما قيل له: إن هذا جاء في الشرع! فكيف لا تعود المريض؟! قال: ينبغي أن تكون عيادته من بعيد، وأن يكون الكلام والسلام بالإشارة، لا يكون قريباً منه، إن قربانه والإتيان إليه يكون سبباً للعدوى بالمرض، وهذا إسراف في الواقع، والمنهي المخالطة: كأن يأخذ ثيابه، أو يجلس في لحافه، أو ما أشبه ذلك من الأمور التي هي معروفة أنها تكون من الأسباب المعدية، فهذا هو الذي لا ينبغي، والوسط هو المطلوب، والرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال هذا القول، هو الذي قال القول الآخر، فلا تكون متضاربة ومتخالفة.

توكل الصحابة والتابعين وثقتهم بالله

توكل الصحابة والتابعين وثقتهم بالله قال الشارح رحمه الله: [ونظير ذلك ما روي عن خالد بن الوليد رضي الله عنه أنه أكل السم، ومنه مشي سعد بن أبي وقاص وأبي مسلم الخولاني رضي الله عنهم على متن البحر، قاله ابن رجب رحمه الله]. أما مشي سعد بن أبي وقاص فكان في نهر دجلة، وذلك لما كان في قتال القادسية، فإنه لما وصل إلى المدائن فر الفرس وعبروا النهر، ثم كسروا الجسور، ولم يبق جسر يعبر عليه المسلمون، فبقوا أياماً على ضفة النهر، وأولئك على الضفة الأخرى، فقال لهم سعد: إنه وقع في نفسي شيء سأقوله لكم، ولا أدري هل ستوافقونني عليه أم لا؟ قالوا: ما هو؟ قال: وقع في نفسي أننا نخوض هذا النهر، فقالوا: تقدم ونحن معك، نحن في سبيل الله، ونحن عباد الله، ولن يضيعنا ربنا، فركب فرسه وقال: اتبعوني، فركب فرسه، وقال: باسم الله، ودخل النهر في غرق، ثم تبعوه، فصارت الخيل تمشي من فوق الماء كأنها تمشي على الرمال، فلما رآهم الفرس صاروا يصيحون: مجانين! مجانين! ليسوا مجانين، وإنما هم وثقوا بالله جل وعلا، فأعطاهم ما رجوا. وأما أبو مسلم الخولاني فليس صحابياً وإنما هو تابعي، وهو الذي قال له الأسود العنسي: أتشهد أني رسول الله؟ قال: لا أسمع، قال: أتشهد أن محمد رسول الله؟ قال: نعم. فألقاه في النار فلم تضره، ثم جاء إلى المدينة فاستقبله عمر، وقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى رأيت في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من فعل به كما فعل بإبراهيم، وكانت النار عليه سلاماً وبرداً كما كانت على إبراهيم. وسار مرة وهو في الجهاد مع فريق، واعترضهم البحر، فقال: اتبعوني، فتبعوه، فصاروا يمشون على متن البحر، حتى قطعوه على خيولهم، فلما وصل إلى البر وقف وقال: هل فيكم أحد فقد شيئاً، فأدعو الله أن يأتي به، فقال رجل: أنا فقدت قعباً لي كنت أتوضأ به -وكان العقب خلف راحلته- فالتفت وإذا هو قد تعلق بناقته، وهذه قصة مشهورة، وليس معنى ذلك أن الإنسان يلقي بنفسه ويقول: أثق بالله وأتوكل عليه! لا إذا كان الإنسان عنده ثقة بالله تامة، وفي نصرة الله، وخدمة دينه وإظهاره، فتكون هذه آية من آيات الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي من كرامات من وقعت على يده.

الطيرة المنفية في الحديث

الطيرة المنفية في الحديث قال الشارح رحمه الله: [قوله: (ولا طيرة)، قال ابن القيم: يحتمل أن يكون نفياً أو نهياً، أي: لا تطيروا، ولكن قوله في الحديث: (ولا عدوى، ولا صفر، ولا هامة) يدل على أن المراد النفي، وإبطال هذه الأمور التي كانت الجاهلية تعانيها، والنفي في هذا أبلغ من النهي؛ لأن النفي يدل على بطلان ذلك وعدم تأثيره، والنهي إنما يدل على المنع منه]. النفي، أي: نفي الشيء الذي يعتقده الكفار، وليس نفي وجود الطيرة أو ما ذكر معها، فإن هذا موجود ولا ينفى، وإنما ينتفي الشيء الذي يترتب عليها كما هي عقيدة أهل الجاهلية فيها، والنهي موجه لمن يمتثل أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن لا يفعل شيئاً من ذلك، وإذا جاء النهي فمعنى ذلك أنه باطل، وهو يشمل أيضاً النفي، وإن كان النفي في مثل هذا أبلغ. قال الشارح رحمه الله: [وفي صحيح مسلم عن معاوية بن الحكم أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (ومنا أناس يتطيرون، قال: ذلك شيء يجده أحدكم في نفسه فلا يصدنكم)، فأخبر أن تأذيه وتشاؤمه بالطير إنما هو في نفسه وعقيدته، لا في المتطير به]. ولكن قد يبتلى الإنسان إذا استرسل مع ذلك، أو تحراه ونظر إليه، فيصاب بالشيء الذي يتخيله أو يتوقعه جزاءً له؛ لأنه مال إلى وهم الشيطان وتخييله وتزيينه، ولو كان توكل على ربه جل وعلا وعلم أنه لا يقع شيء إلا بإذنه تعالى، وأن الطيور والبهائم والدواب وأصوات الناس ومناظيرهم وأحوالهم لا تغير شيئاً، ولا توجد نفعاً ولا ضراً، إذا علم الإنسان ذلك وتوكل على ربه لن يضره شيء إلا بإذن ربه جل وعلا، فالواقع أنه لا حقيقة له، وإنما يزينه الشيطان ويخوف به من ينظر إلى ذلك، فالمقصود أنه قد يبتلى الإنسان، إما فتنة له؛ لينظر هل يميل إلى ذلك ويصدقه، أم أنه سيعرض عنه نهائياً، ويعلم أن هذا شيء وقع بقدر الله، فوافق ذلك الشيء موافقة فقط، وأن ذلك الشيء -أعني فعل الطير، أو الكلام الذي يسمعه، أو الشيء الذي ينظره- لا صلة له بتقدير الله جل وعلا، ولا ما يصيب الإنسان من خير أو شر.

قطع النبي صلى الله عليه وسلم لعلائق الشرك والتشبه بأهل الجاهلية

قطع النبي صلى الله عليه وسلم لعلائق الشرك والتشبه بأهل الجاهلية قال الشارح رحمه الله: [فأخبر أن تأذيه وتشاؤمه بالطيرة إنما هو في نفسه وعقيدته لا في المتطير به، فوهمه وخوفه وإشراكه هو الذي يطيره ويصده، لاما رآه وسمعه. فأوضح صلى الله عليه وسلم لأمته الأمر، وبين لهم فساد الطيرة؛ ليعلموا أن الله سبحانه لم يجعل لهم عليها علامة، ولا فيها دلالة، ولا نصبها سبباً لما يخافونه ويحذرونه، ولتطمئن قلوبهم، وتسكن نفوسهم إلى وحدانيته تعالى التي أرسل بها رسله، وأنزل بها كتبه، وخلق لأجلها السماوات والأرض، وعمر الدارين الجنة والنار بسبب التوحيد، فقطع صلى الله عليه وسلم علق الشرك من قلوبهم؛ لئلا يبقى فيها علقة منها، ولا يتلبسوا بعمل من أعمال أهل النار ألبتة]. والوحدانية هنا كالربوبية، والله جل وعلا هو رب كل شيء وخالقه، والمتصرف فيه، ولا أحد من الخلق يؤثر في شيء من الوجود إلا إذا جعله جل وعلا سبباً في ذلك، والله جل وعلا لم يجعل أفعال الطيور وأصواتها، وأفعال البهائم، أو أصوات الناس أو ما أشبه ذلك سبباً لجلب الخير أو جلب الشر، وقد أخبر أن الأمور كلها بيده جل وعلا، فيجب أن يوحد الإنسان ربه في هذا، ويعلم أنه هو المتوحد في التصرف والتدبير والخلق والتقدير والمشيئة، لا يقع شيء إلا بمشيئته وتدبيره، وبعد إذنه وعلمه. ثم بعد ذلك يأتي توحيد العبادة، في أن يتجه إلى الله جل وعلا بالعبادة، ولهذا صار توحيد الربوبية دليلاً على وجوب توحيد الإلهية؛ لأنه هو المطلوب أولاً، ثم توحيد الإلهية ثانياً، وإن كان توحيد الإلهية يتضمن توحيد الربوبية، إلا أن توحيد الربوبية مستلزم توحيد الإلهية، فإذا عرفت أن الله ربك ورب كل شيء، وأنه هو الذي بيده الخير والشر، وجب عليك أن تعبده وحده، وهذا معنى التضمن، فلهذا أخبر الله جل وعلا كتابه أن الناس -بعد أن أقام عليهم الحجج- يقرون بتوحيد الربوبية في الجملة، ولكنهم يناقضون ذلك عندما يتطيرون مثلاً، أو يجعلون وساطة بينهم وبين الله في الدعوة والتوجه والتوسل وما أشبه ذلك، فيكون هذا منافياً لتوحيد الربوبية، كما قال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21]، وكلهم مقرون بأن الله هو خالقهم، وخالق من قبلهم، ومن بعدهم، ليس معه خالق آخر تعالى وتقدس. ثم قال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22]، يعني: يعلمون أن الله جل وعلا هو الذي مهد الأرض، وجعلها على هذا الوضع، وهم عليها مستقرون، ويستطيعون الانتفاع بها، والمشي على ظهرها والحرث، والسماء فوقهم ينظرون إليها ويرون عظمها، فما من مخلوق من بني آدم يعتقد أن أحداً شارك الله جل وعلا في وضع الأرض، أو في بناء السماء، كما أنه لا يوجد أحد يعتقد أن شيئاً من المخلوقات أنزل المطر من السماء، وأنبت النبات الذي يأكله الناس والأنعام، ولهذا قال: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22]، يعني: أنتم تعلمون أنه هو المتفرد فيما ذكر، فكيف إذاً تعبدون معه غيره؟ والعبادة التي تصدر منهم في مثل هذا هي أنهم يجعلون الأشجار والأحجار أو الملائكة أو الأولياء أو الجن وسائط يتوسلون بهم إلى الله، يقولون: ندعوهم، ثم هم يشفعون لنا عند الله، ويتوسطون لنا؛ فمنهم من ليس عليه ذنوب، ومنهم صالحون مقربون عند الله، هذا هو شركهم. فما فيهم أحد يعتقد أن الشجر يدبر مع الله، أو يتصرف مع الله، بل ما فيهم أحد يعتقد أن الملائكة تدبر مع الله، وتتصرف مع الله تعالى الله وتقدس! فالإنسان يجب عليه أن يعرف الشيء الذي خاطب الله جل وعلا به عباده في كتابه، ويعرف الوضع الذي كان عليه المشركون، حتى يستفيد من ذلك، بأن يجتنب ما كانوا يفعلونه.

ما يحمل عليه حديث: (الشؤم في ثلاثة)

ما يحمل عليه حديث: (الشؤم في ثلاثة) قال الشارح رحمه الله: [فمن استمسك بعروة التوحيد الوثقى، واعتصم بحبله المتين، وتوكل على الله، قطع هاجس الطيرة من قبل استقرارها، وبادر خواطرها من قبل استمكانها، قال: عكرمة كنا جلوساً عند ابن عباس فمر طائر يصيح، فقال رجل من القوم: خير خير، فقال: ابن عباس رضي الله عنه: لا خير ولا شر، فبادره بالإنكار عليه؛ لئلا يعتقد تأثيره في الخير والشر، وخرج طاوس مع صاحب له في سفر، فصاح غراب، فقال الرجل: خير، فقال طاوس: وأي خير عند هذا؟ لا تصحبني انتهى ملخصاً. وقد جاءت أحاديث ظن بعض الناس أنها تدل على جواز الطيرة، كقوله صلى الله عليه وسلم: (الشؤم في ثلاث: في المرأة، والدابة، والدار) ونحو هذا، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: إخباره صلى الله عليه وسلم في الشؤم في هذه الثلاثة ليس فيها إثبات الطيرة التي نفاها الله سبحانه، وإنما غايته أن الله سبحانه قد يخلق منها أعياناً مشئومة على من قاربها وساكنها، وأعياناً مباركة لا يلحق من قاربها منها شؤم ولا شر، وهذا كما يعطي سبحانه الوالدين ولداً مباركاً يريان الخير على وجهه، ويعطي غيرهما ولداً مشئوماً يريان الشر على وجهه، وكذلك ما يعطاه العبد من ولاية أو غيرها فكذلك الدار والمرأة والفرس]. قوله: (إن يكن الشؤم في شيء ففي ثلاث) (إن) هنا شرطية، يجوز وقوع الشرط ويجوز عدمه، والمقصود بالشؤم: الأخلاق التي تصدر ممن يتشاءم بأخلاقه وأفعاله، وليس أن هناك أموراً مقدرة في الغائب تقع على هذا في مصاحبته أو مقارنته له، وهذه الأمور الثلاثة غالباً ما تلازم الإنسان: فالمرأة قد تطول صحبتها مع الإنسان، وكذلك الدار، وكذلك الفرس؛ والفرس عند العرب كالولد، فإذا اشترى العربي فرساً فإنه يعتنى بها ويخدمها؛ لأنهم يرون أن بها عزهم ومنعتهم من الأعداء، فلهذا يقدمونها على الأولاد في الإكرام والطعام، ويعتنون بها كثيراً، بخلاف غيرها من الدواب، فإنها سرعان ما تستبدل أو تذهب عند أي مناسبة. فلما كانت هذه الأشياء تكثر ملازمتها للإنسان، ويصعب مفارقته إياها، فالمرأة قد تكون حسنة الأخلاق مطيعة، وتنظر الشيء الذي يلائم زوجها فتفعله، فيكون فيها سعادة له وبركة، وقد تكون بالعكس، فإذا كانت بعكس ذلك صار ذلك شؤماً عليه من جراء أخلاقها، وليس من الأمور المستقبلة، والدار كذلك قد تكون مثلاً ضيقة، وقد يكون فيها أو حولها ما يتأذى به، وهو يصعب عليه استبدال تلك الدار بدار بأخرى، فيقع عليه الشؤم، ولكن إذا وقع شيء من ذلك للإنسان فينبغي أن يستبدل به غيره، فيفارق المرأة، ويفارق الفرس بفرس غيرها، ويفارق كذلك الدار إلى دار أخرى ترتاح فيها نفسه، هذا هو المعنى المقصود من قوله: (إن كان الشؤم في شيء). قال الشارح رحمه الله: [والله سبحانه خالق الخير والشر، والسعود والنحوس، فيخلق بعض هذه الأعيان سعوداً مباركة، ويقضي بسعادة من قاربها، وحصول اليُمن والبركة له، ويخلق بعضها نحوساً يتنحس بها من قاربها. وكل ذلك بقضائه وقدره، كما خلق سائر الأسباب وربطها بمسبباتها المتضادة والمختلفة، كما خلق المسك وغيره من الأرواح الطيبة، ولذذ بها من قاربها من الناس، وخلق ضدها وجعلها سبباً لألم من قاربها من الناس. والفرق بين هذين النوعين مدرك بالحس، فكذلك في الديار والنساء والخيل، فهذا لون والطيرة الشركية لون. انتهى]. إذا اعتقد أن عيناً من الأعيان تكون منحوسة أو مسعدة، فهذا هو الذي جاء النهي عنه، لأن المقصود في الحديث إنما هو ذلك الشيء الذي تعمله هذه العين: أخلاقها وأعمالها، فإنها قد تكون شراً، وكإنسان مطبوع على الشر، وعلى كراهية الخير، وأعماله سيئة، فمفارقة مثل هذا راحة ومقاربته شؤم، وقد يكون بخلاف ذلك، فيكون كل من قاربه أو صاحبه مرتاحاً معه، بل يكون معاوناً له على الخير، أما الدار فليس لها أخلاق، ولكن قد يصاب الإنسان فيها بمصائب، فيجد نفسه يكره هذا المكان فله أن يفارقه لأن النفس جبلت على أن تنفر من المكان الذي أصيبت فيه بمصيبة، أما المكان فليس له تأثيراً بداً، هذا هو المقصود، أما أن يعتقد أن هناك مخلوق منحوس ومخلوق سعود، فهذا ليس بصحيح، والصحيح أن أخلاقه وأعماله هي التي تكون نحساً أو سعداً.

حقيقة التشاؤم بصفر ومعناه

حقيقة التشاؤم بصفر ومعناه قال الشارح رحمه الله: [قوله: (ولا هامة) بتخفيف الميم على الصحيح، قال الفراء: الهامة: طير من طيور الليل، كأنه يعني البومة. قال ابن الأعرابي: كانوا يتشاءمون بها إذا وقعت على بيت أحدهم، يقول: نعت إلي نفسي أو أحداً من أهل داري، فجاء الحديث بنفي ذلك وإبطاله. قوله: (ولا صفر) بفتح الفاء، روى أبو عبيدة في غريب الحديث عن رؤبة أنه قال: هي حية تكون في البطن تصيب الماشية والناس، وهي أعدى من الجرب عند العرب، وعلى هذا: فالمراد بنفيه ما كانوا يعتقدونه من العدوى، وممن قال بهذا سفيان بن عيينة والإمام أحمد والبخاري وابن جرير. وقال آخرون: المراد به شهر صفر، والنفي لما كان أهل الجاهلية يفعلونه في النسيء، وكانوا يحلون المحرم ويحرمون صفر مكانه، وهو قول مالك. وروى أبو داود عن محمد بن راشد عن من سمعه يقول: إن أهل الجاهلية يتشاءمون بصفر، ويقولون: إنه شهر مشئوم، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك]. وهذا معنى ثالث من معاني قوله (ولا صفر)، أي: أنهم كانوا يتشاءمون فيه، فلا يسافرون فيه، ولا يتزوجون فيه، ولا يبنون فيه، فأبطل الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك. ومعلوم أن التشاؤم بالشهور أو بالأيام من فعل الجاهلية، فالشهور والأيام خلقها الله جل وعلا مطيعة وتقع فيها الحوادث التي تكون من الخلق كالطاعات والمعاصي، وإلا فهي ليس لها تصرف في شيء ولا لها إسعاد أو إنحاس، وكثير من الناس ما زال على ما كانت عليه الجاهلية، فتجد بعضهم يتشاءم بيوم الأربعاء، وبعضهم يتشاءم ببعض الشهور، ويتزوج في ليلة معينة؛ لأنه يرى أنها خير من غيرها، وهذا كله من العقائد الفاسدة، فالإنسان ليس له إلا ما قدر له، ولا يجزى إلا بعمله الذي عمله، فإن عمل الخير فله الخير في وإلا أي وقت كان، وفي أي يوم كان، وفي أي شهر كان، فلا شهر يكون فيه خير من شهر إلا بالأعمال التي تقع فيها، ما وقع من تفضيل الله لبعض الشهور والأيام على بعض فيكون العمل في تلك الشهور أو الأيام أفضل من العمل في غيرها: كرمضان مثلاً وأيام الحج وليلة القدر قال تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:3] يعني: العمل فيها أفضل من عمل ألف شهر، فهذا إلى الله، أما أن يقول الإنسان: إن هذا الشهر إذا عملت فيه كذا وفقت، أو هذا اليوم إذا فعلت فيه كذا وفقت، واليوم الآخر لو عملت فيه عملاً فلن يأتي التوفيق، فهذا تخييل من الشيطان، وإيهام منه، وهو من فعل الجاهلية. قال الشارح رحمه الله: [قال ابن رجب: ولعل هذا القول أشبه الأقوال، والتشاؤم بصفر هو من جنس الطيرة المنهي عنها، وكذلك التشاؤم بيوم من الأيام كيوم الأربعاء، وتشاؤم أهل الجاهلية بشوال في النكاح فيه خاصة. قوله: (ولا نوء) النوء: واحد الأنواء، وسيأتي الكلام عليه في بابه إن شاء الله تعالى].

معنى الغول والمراد بنفي النبي صلى الله عليه وسلم له في الحديث

معنى الغول والمراد بنفي النبي صلى الله عليه وسلم له في الحديث قال الشارح رحمه الله: [قوله: (ولا غول) هو بالضم اسمه، وجمعه أغوال وغيلان، وهو المراد هنا، قال أبو السعادات: الغول: واحد الغيلان، وهو جنس من الجن والشياطين، كانت العرب تزعم أن الغول في الفلاة تتراءى للناس، تتلون تلوناً في صور شتى، وتغولهم أي: تضلهم عن الطريق وتهلكهم، فنفاه النبي صلى الله عليه وسلم وأبطله]. ليس معنى نفي النبي صلى الله عليه وسلم للغول نفي وجود الجن والشياطين، فهؤلاء موجودون، وكثير منهم يريد أذى ببني آدم، ويتعرضون لهم، ويظهرون كثيراً بأنهم أعداؤهم، وقد أخرج أبوهم من الجنة؛ بسبب عداوته لآدم كما هو معلوم، فأقسم لربه جل وعلا أنه سوف يحتنك ذرية بني آدم، يعني: يستولي عليهم ويضلهم، إلا من استثناه الرحمن جل وعلا، فهم حريصون جداً على أذية بني آدم، ومن كان منهم على نهج أبيه فإنه يحرص كل الحرص على أذيتهم بأي شيء كان. ولكن من رحمة الله جل وعلا أنه ما جعل لهم سلطاناً على المؤمنين، فإن المؤمن يتحصن بحصن حصين لا يستطيعون أن يأتوا إليه أو يقربوه إذا جاء به وهو ذكر الله، فإذا قال: طردهم وحمى منهم، وكذلك تلاوة القرآن، والأذان، وغير ذلك من الأذكار فليس على المؤمنين منهم ضرر. أما تسلطهم على المشركين والغافلين، فهذا يجوز أن يقع كما هو معلوم للناس، لهذا لا يكون الإيذاء منهم إلا للغافل الذي لا يذكر الله جل وعلا، فلا يتعرضون للمسافر، ولا لغيره إذا كان ذاكراً لله جل وعلا، وإذا ظهر له شيء فذكر الله، فإنه يزول ذلك ويذهب عنه، لهذا جاءت الآثار: (أنه إذا تغولت الغيلان فبادروا بالأذان)، يعني: إذا رأيتم شيئاً من هؤلاء فاذكروا الله جل وعلا، فإنهم يهربون. قال الشارح رحمه الله: [فإن قيل: ما معنى النفي وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا تغولت الغيلان فبادروا بالأذان)؟ أجيب عنه: بأن ذلك كان في الابتداء، ثم دفعها الله عن عباده]. هذا الجواب غير صحيح، وهي ما زالت موجودة، وقد تتعرض للرجل، فإذا ذكر الله زالت وذهبت واختفت، كما بشهد بذلك الواقع. قال الشارح رحمه الله: [أو يقال: المنفي ليس وجود الغول، بل ما يزعمه العرب من تصرفه في نفسه، فيكون المعنى بقوله: (لا غول)، أنها لا تستطيع أن تضل أحداً مع ذكر الله والتوكل عليه]. هذا هو الصواب، فلا تستطيع أن تضل أحداً مع ذكره لله جل وعلا والإيمان به، فإنها تذهب وتزول وتنتهي، وإنما يكون تسلطهم على الكافرين المشركين، وعلى الغافلين الذين يغفلون عن ذكر الله جل وعلا، ويعرضون عنه، ويكثرون من المعاصي، ويقلّون من الطاعات. قال الشارح رحمه الله: [ويشهد له الحديث الآخر: (لا غول ولكن السعالي: سحرت الجن)، أي: ولكن في الجن سحرة لهم تلبيس وتخييل، ومنه: الحديث (إذا تغولت الغيلان فبادروا بالأذان)، أي: ادفعوا شرها بذكر الله، وهذا يدل على أنه لم يرد بنفيها عدمها، ومنه: حديث أبي أيوب: (كان لي تمر في سهوة، وكانت الغول تجيء فتأخذ)]. الغول يعني: الجن الشياطين، والجن من تمرد منهم يكون شيطاناً، وحتى الإنس يكون منهم شياطين، كما قال الله جل وعلا: {شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام:112]، وفي حديث أبي ذر: (تعوذ بالله من شياطين الجن والإنس، فقلت: أو للإنس شياطين؟ قال: نعم) كذلك الحديث الذي في الصحيحين، في قصة زكاة الفطر التي جمعها الصحابة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووضعها في المسجد حتى يفرقها، وسأل أبا هريرة أن يحرسها في الليل، فجاءه رجل وصار يحثو من التمر فأمسكه، فجعل يترجاه ويقول: دعني؛ فإني فقير محتاج وعندي عيال، يقول: فرحمته فتركته، فلما غدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم: (ما صنع أسيرك يا أبا هريرة؟ فقلت: زعم أنه بحاجة وعليه عيال فرحمته وتركته -وذلك لأن هذا التمر سيوزع لذوي الحاجة والفقراء- فقال له صلى الله عليه وسلم: أما إنه سيعود، فرجع الليلة الثانية، فأمسكته، وقلت: مرة ثانية، مرة لا أتركك حتى أذهب بك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصار يترجاه كثيراً، ويلح ويقول: أنا محتاج، وأنا فقير، وعندي عيال فقراء، فتركه، فلما غدا على النبي صلى الله عليه وسلم قال له كما قال في الأولى، وقال: إنه سيعود، فجاءه في الليلة الثالثة، فقال: الآن لا أتركك، هذه ثالث مرة تزعم فيها أنك لن تعود فتعود -والكذب ظاهر- فقال: دعني أعلمك شيئاً ينفعك الله به -وكانوا حريصين على الخير- قال: نعم، فقال له: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي، فإنه لا يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فلما ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أخبره بهذا، قال: صدقك وهو كذوب، أتدري من تخاطب منذ ثلاث؟ قلت: لا، قال: ذاك الشيطان) أي: شيطان من الشياطين وقوله: (صدقك وهو كذوب)، يعني: أن هذا صحيح وصدق، ولكن هذا الشيطان ما استطاع أن يضر الصحابة في دينهم، فحاول أن يضرهم ولو بأخذ هذا التمر، وكيد الشيطان ضعيف دائماً. فالمقصود أنه يعرض للإنسان، وقد يراه في صورة إنسان يخاطبه ويكلمه، ويظن أنه من بني آدم، ويتخاطب معه، وقد يأتي -مثل ما ذكر- في صورة غول، يعني: صورة منكرة مخيفة، حتى يخيف الإنسان، وهذا الغول مأخوذ من غول؛ لأنه يتصور بصورة منكرة مخيفة، فيرعب الإنسان ويخوفه، وقد يهرب الإنسان عنه حتى يضل ويهلك، وهذا لا يقع للمؤمن الذي يذكر الله جل وعلا، هذا هو المنفي عنه.

شرح فتح المجيد [80]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [80] ليس في الإعجاب بالفأل ومحبته شيء من الشرك، بل ذلك إبانة عن مقتضى الطبيعة، وموجب الفطرة الإنسانية؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه، ويحث عليه، أما الطيرة: فهي نوع من الشرك؛ لأنه تعلق بغير الله، وسوء ظن به، فمن وجد ذلك في قلبه، فعليه أن يصرفه، ويتوكل على الله، قائلاً: اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك

الفأل معناه وعلاقته بالطيرة

الفأل معناه وعلاقته بالطيرة قال المصنف رحمه الله: [ولهما عن أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل، قالوا: وما الفأل؟ قال: الكلمة الطيبة)].

التعريف الشرعي للفأل

التعريف الشرعي للفأل كان الفأل يعجب النبي صلى الله عليه وسلم، والشيء الذي يعجب النبي صلى الله عليه وسلم يكون محبوباً مطلوباً مرغوباً فيه، والسبب في هذا أن الإنسان إذا رجا الخير، وظن أنه يكون على خير، فإن الله جل وعلا عند ظن عبده به؛ وليس معنى ذلك أن الفأل يكون دليلاً على وقوع القدر، لا، ولكنه رجا الخير وظن حصوله فصار مطلوباً ومحبوباً. والفأل فسر في الحديث أنه: الكلمة الطيبة، يسمعها الإنسان، ويتساءل في الطيب والخير، فالتساؤل مطلوب؛ لأنه رجا الخير وظنه، أي: أنه يظن أن يقع الخير ويرجوه، كأن يكون مثلاً مريضاً فيسمع قائلاً يقول: يا معافى! فيتفاءل أنه سيعافى ويبرأ، أو مثلاً يكون فاقداً شيئاً فيسمع إنساناً يقول: يا واجد! أو يا راشد! فيتفاءل أنه سيجده أو يرشد إلى ما يطلبه وهكذا، فهذا هو الفأل، وليس هذا من الطيرة؛ لأنه ليس معنى ذلك أن يجعل هذا الكلام الذي يقوله دليلاً على وقوع الشيء كما يفعله المتطير، ولكنه يرجو ويظن خيراً بالله جل وعلا، ومن ظن بربه خيراً فإن الله يكون عند ظنه به.

الفرق بين الفأل والطيرة

الفرق بين الفأل والطيرة قال الشارح رحمه الله: [قوله: (ويعجبني الفأل) قال أبو السعادات: الفأل -مهموز- فيما يسر ويسوء، والطيرة لا تكون إلا فيما يسوء، وربما استعملت فيما يسر، يقال: تفاءلت بكذا وتفاولت، على التخفيف والقلب، وقد أولع الناس بترك الهمز تخفيفاً، وإنما أحب الفأل؛ لأن الناس إذا أملوا فائدة الله، ورجوا عائدته عند كل سبب ضعيف أو قوي فهم على خير، وإذا قطعوا آمالهم ورجاءهم من الله تعالى كان ذلك من الشر. وأما الطيرة: فإن فيها سوء الظن بالله، وتوقع البلاء، والتفاؤل: أن يكون رجل مريض فيسمع آخر يقول: يا سالم! أو يكون طالب ضالة فيسمع آخر، يقول: يا واجد! فيقع في ظنه أنه يبرأ من مرضه ويجد ضالته]. ليست الطيرة ظن الشر فقط، وأنها ممنوعة من أجل ذلك، فهذا ممنوع ولا يجوز أن يظن الإنسان الشر، والله جل وعلا أخبر أنه لا يصيب الإنسان شيء إلا بما كسب: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]، ولكن الطيرة تمنع لهذا، ولأن الإنسان يعتقد أن هذا الطائر أو هذا الذي تطير به أنه سبب عليه وقوع الشر والحوادث، وأن هذا علامة على وقوعه، وهذا رجم بالغيب وكذب، فالله ما جعل هذا علامة، ويجب على الإنسان أن يتبع أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، ويعلم أن الله جل وعلا هو المتصرف في كل شيء، وأنه ليس نعيق الغراب -مثلاً- سبباً في غربة الإنسان أو موته، أو ظهور الثعلب أمامه سبب في ظفره وسعادته، هذا كذب على قدر الله وتصرفه، فإن هذه الأشياء ليس عندها الخير لا الغراب ولا الثعلب ولا غير ذلك، فالطيرة ممنوعة، ليس لأنها ظن الشر فقط، بل لأن الإنسان رتب على ذلك وقوع أشياء يقدرها الله، وهذا تكذيب لله جل وعلا، فهو لا يقع شيء إلا بإذنه وإرادته. أما قول القائل: إن الله جعل التقدير مرتباً على وجود ذلك، فهذا كذب أيضاً، فمن أين له أن الله جعل ذلك مرتباً على هذا؟ فالرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن هذا باطل وشرك، فتعلق الإنسان بهذا الطائر -مثلاً- أو ذاك الحيوان، وظنه أن التصرفات والأمور تقع بسبب نعيقه أو حركته أو ظهوره، فهذا أشرك بالله في ذلك، حيث أضاف الحوادث إلى غير إرادة الله ومشيئته، فالله ما جعل ذلك دليلاً على أنه أراد شيئاً؛ لأن هذا تكذيب بخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، ولقول الله جل وعلا. فالمقصود أن الطيرة ممنوعة؛ لأنها ظن الشر، ولأنه يزعم المتطير أن هذا الشيء -طائر أو غيره- تقع الحوادث بسببه، أو بظهوره، فهذا هو معنى كونها شركاً. [قوله: (قالوا: وما الفأل؟ قال: الكلمة الطيبة)، بين صلى الله عليه وسلم أن الفأل يعجبه، فدل على أنه ليس من الطيرة المنهي عنها. قال ابن القيم: ليس في الإعجاب بالفأل ومحبته شيء من الشرك، بل ذلك إبانة عن مقتضى الطبيعة، وموجب الفطرة الإنسانية، التي تميل إلى ما يوافقها ويلائمها، كما أخبرهم صلى الله عليه وسلم أنه حبب إليه من الدنيا النساء والطيب، وكان يحب الحلواء والعسل، ويحب حسن الصوت بالقرآن والأذان ويستمع إليه، ويحب معالي الأخلاق ومكارم الشيم]. يعني: أنه جبل في الطبيعة على حبها والميل إليها، ولكن الفأل ليس هو هذا، الفأل: ظن الخير ورجاؤه كما سبق، وقد يكون الفأل في إظهار الحق وقمع العدو، مثلما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم يوم ذهب إلى خيبر وأتاهم صباحاً، وهم لا يعلمون به، فرآهم قد استقبلوه بالعمال ومعهم المساحي والفئوس للعمل، قال صلى الله عليه وسلم: (الله أكبر! خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بقوم فساء صباح المنذرين)، يعني: لما رأى آلات الهدم كالمساحي والفئوس، تفاءل بأن خيبر خربت؛ لأنها عمرت على المعصية، وعلى محاربة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فتفاءل بذلك، فحقق الله جل وعلا ذلك له، وهذا لا يمنع العمل والاجتهاد والجد، ولكنه رجاء وظن، يرجو من الله ويظن به أن يحقق له هذا الرجاء، وهو مثلما سبق، إذا رجا الناس ربهم -ولو كان السبب ضعيفاً أو العلامة ضعيفة- فإنهم على خير؛ لأن رجاء الله عبادة، وظن الخير به عبادة، فيكونون على خير، بخلاف الطيرة، فإنها تطبيق للشيطان، واتباع لمخلوق ليس عنده أي تصرف، وتكون شركاً.

الدعاء الوارد في إذهاب الطيرة والتشاؤم

الدعاء الوارد في إذهاب الطيرة والتشاؤم [وبالجملة يحب كل كمال وخير، وما يفضي إليهما، والله سبحانه قد جعل في غرائز الناس الإعجاب بسماع الاسم الحسن، ومحبته، وميل نفوسهم إليه، وكذلك جعل فيها الارتياح والاستبشار والسرور باسم الفلاح، والسلام والنجاح والتهنئة، والبشرى والفوز والظفر ونحو ذلك، فإذا قرعت هذه الأسماء الأسماع استبشرت بها النفوس، وانشرح لها الصدر، وقوي بها القلب، وإذا سمعت أضدادها أوجب لها ضد هذه الحال، فأحزنها ذلك، وأثار لها خوفاً وطيرة وانكماشاً وانقباضاً عما قصدت له وعزمت عليه، فأورث لها ضرراً في الدنيا، ونقصاً في الإيمان، ومقارفة الشرك. وقال الحليمي: وإنما كان صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل لأن التشاؤم سوء ظن بالله تعالى بغير سبب محقق، والتفاؤل حسن ظن بالله، والمؤمن مأمور بحسن الظن بالله تعالى على كل حال. قال المصنف رحمه الله: ولـ أبي داود بسند صحيح عن عقبة بن عامر قال: ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أحسنها الفأل، ولا ترد مسلماً، فإذا رأى أحدكم ما يكره، فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك). ] هذا معناه أنه أدخل الفأل في الطيرة فقال: (أحسنها الفأل) وأن الطيرة لا يلتفت إليها المسلم، ولا يعتمد عليها، والفأل أيضاً لا يعتمد عليه، ولا يبني عليه شيئاً، وإنما يبني عليه ظناً ورجاءً فقط، يظن الخير ويرجوه، وإلا فهي مقطوعة عن التصرف. وكذلك فيه الإرشاد إلى اللجوء إلى الله، والهروب إليه، والتوسل إليه بدعائه أنه لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يذهب بالسيئات إلا هو، والحسنات: كل خير، وكل ما فيه أنس ومسرة من أمور الدنيا والآخرة، والسيئات: كل مضر، وكل ما يسوءه ويضره في الدنيا والآخرة فهو سيئة، فصار هذا عاماً شاملاً في أن الأمور كلها بيد الله. قوله: (لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يذهب بالسيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك)، يعني: أنني لا أستطيع أن أتحول من حال إلى أخرى إلا إذا قويتني وأعنتني على ذلك، فمعنى ذلك أنه لجوء إلى الله، وتبرؤ من قوة النفس وتصرفها، وأنه لا قوة له ولا تصرف له إن لم يجعل الله جل وعلا له قوة وتصرفاً، فهو توحيد لله جل وعلا بالأفعال، وبالخضوع له والالتجاء إليه، والتبري من القوة أو التحول من حال إلى أخرى إلا بالله جل وعلا. هذا من أعظم ما ينبغي للإنسان أنه يسأله ويلجأ إليه، ألا يعتمد على فأل ولا طيرة. أما قوله: (ولا ترد مسلماً) ففيه تنبيه على أن الذي ترده الطيرة قد يكون خارجاً عن الإسلام؛ لأن المسلم لا ترده الطيرة، يعني: لو رآها -مثلاً- وقعت له فإنه يعرض عنها، ويتوكل على ربه جل وعلا، ويقول هذا الدعاء، ولا يأتيه إلا خير بإذن الله تعالى. قال الشارح رحمه الله: [قوله: وعن عقبة بن عامر هكذا وقع في نسخ التوحيد، وصوابه: عن عروة بن عامر كذا أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما]. فالمؤلف رحمه الله نقله من كتاب ابن السني، وابن السني هكذا وقع الخطأ في كتابه عقبة بن عامر، وليس الخطأ من الشيخ، وإنما وقع الخطأ في المصدر الذي هو كتاب عمل اليوم والليلة لـ ابن السني، فالمؤلف رحمه الله نقله منه، وهذا الخطأ الذي فيه إما من الناسخ أو من بعض الرواة. والله أعلم. قال الشارح رحمه الله: [وهو مكي اختلف في نسبه، فقال أحمد: عن عروة بن عامر القرشي وقال غيره: الجهني، واختلف في صحبته فقال البارودي: له صحبة، وذكره ابن حبان في ثقاة التابعين، وقال المزي: لا صحبة له تصح. قوله: (فقال: أحسنها الفأل) قد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم كان يعجبه الفأل، وروى الترمذي وصححه عن أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج لحاجته يحب أن يسمع يا نجيح! يا راشد!!) وروى أبو داود عن بريدة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يتطير من شيء، وكان إذا بعث عاملاً سأله عن اسمه، فإذا أعجبه فرح به، وإن كره اسمه رئي كراهية ذلك في وجهه) وإسناده حسن. وهذا فيه استعمال الفأل. قال ابن القيم: أخبر صلى الله عليه وسلم أن الفأل من الطيرة، وهو خيرها، فأبطل الطيرة، وأخبر أن الفأل منها ولكنه خير منها، ففصل بين الفأل والطيرة لما بينهما من الامتياز والتضاد، ونفع أحدهما، ومضرة الآخر، ونظير هذا: منعه من الرقى بالشرك، وإذنه في الرقية إذا لم يكن فيها شرك؛ لما فيها من المنفعة الخالية من المفسدة. قوله: (ولا ترد مسلماً)، قال الطيبي: تعريض بأن الكافر بخلافه. قوله: (اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت)، أي: لا تأتي الطيرة بالحسنات، ولا تدفع المكروهات، بل أنت وحدك لا شريك لك الذي تأتي بالحسنات وتدفع السيئات، والحسنات هنا النعم، والسيئات المصائب، كقوله سبحانه: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا * مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:78 - 79]، ففيه نفي تعلق القلب بغير الله في جلب نفع أو دفع ضر وهذا هو التوحيد، وهو دعاء مناسب لمن وقع في قلبه شيء من الطيرة، وتصريح بأنها لا تجلب نفعاً ولا تدفع ضراً، ويعد من اعتقدها سفيهاً مشركاً. قوله: (ولا حول ولا قوة إلا بك) استعانة بالله تعالى على فعل التوكل، وعدم الالتفات إلى الطيرة التي قد تكون سبباً لوقوع المكروه عقوبة لفاعلها، وذلك الدعاء إنما يصدر عن حقيقة التوكل، الذي هو أقوى الأسباب في جلب الخيرات ودفع المكروهات، والحول: التحول، وهو الانتقال من حال إلى حال، والقوة على ذلك بالله وحده لا شريك له، ففيه: التبري من الحول والقوة والمشيئة بدون حول الله وقوته ومشيئته، وهذا هو التوحيد في الربوبية، وهو الدليل على توحيد الإلهية الذي هو إفراد الله تعالى بجميع أنواع العبادة، وهو توحيد القصد والإرادة، وقد تقدم بيان ذلك بحمد الله].

حديث: (الطيرة شرك)

حديث: (الطيرة شرك) قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن ابن مسعود مرفوعاً: (الطيرة شرك، وما منا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل)، رواه أبو داود والترمذي وصححه، وجعل آخره من قول ابن مسعود]. قوله صلى الله عليه وسلم: (الطيرة شرك! الطيرة شرك)، التكرار هنا للتأكيد والمبالغة في البلاغ، وذلك يدل على أن الطيرة كانت منتشرة في الناس في ذلك الوقت، فلهذا بالغ الرسول صلى الله عليه وسلم في النهي عنها، وأخبر أنها شرك، والشرك معلوم عند المخاطبين أنه أكبر الذنوب، وقوله: (شرك) مطلق، قد يكون شركاً أكبر، وقد يكون أصغر، وتبين فيما سبق التفصيل في هذا وهو أن الإنسان إذا كان يعتقد أن فعل الطيرة هو الذي يكون فيه الخير، أو مثلاً نعيقه، أو أن الخير معلق بظهور الحيوان، فهذا من الشرك الأكبر، أما إذا كان يعتقد أن الله جعله سبباً لذلك فهذا يكون من الشرك الأصغر. وقوله: (ما منا إلا)، يعني: ما منا أحد إلا ويقع في نفسه شيء عندما يسمع شيئاً من ذلك (ولكن الله يذهبه بالتوكل)، يذهب هذا الشيء الذي يقع، وحذف المقدر لعلمه به، وليس هذا من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقع في نفسه شيء؛ لأنه صلوات الله وسلامه عليه أعظم الناس إيماناً وتوكلاً على الله، ولكن هذا من كلام ابن مسعود رضي الله عنه، ولهذا بين الترمذي رحمه الله أن هذا مدرج، وأنه من كلام ابن مسعود، (وما منا إلا) أي: يقع في نفسه شيء من ذلك، غير أنه لا يلتفت إليه ولا يعول عليه، وإنما يعرض عنه ويتوكل على ربه، فيذهب الله جل وعلا ذلك الذي يقع بالتوكل عليه، وعدم الالتفات إلى غيره، هذا هو معنى الكلام. قال الشارح رحمه الله: [وروى ابن ماجة وابن حبان ولفظ أبي داود: (الطيرة شرك، الطيرة شرك، الطيرة شرك) ثلاثاً. وهذا صريح في تحريم الطيرة، وأنها من الشرك؛ لما فيها من تعلق القلب على غير الله تعالى، قال ابن حمدان: تكره الطيرة، وكذا قال غيره من أصحاب أحمد]. قوله: (تكره الطيرة) يجب أن تحمل كلمة (تكره) على التحريم؛ لأن الشرك ليس فيه شيء مكروه كراهة تنزيه، بل كله محرم، والعلماء في القديم إذا قالوا: يكره كان مقصودهم أنه حرام، ولكن بعضهم يتورع عن كلمة حرام للخوف؛ لأن الله جل وعلا يقول: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل:116]، يخاف أن يقول: حرام، فلا يقول على الشيء أنه حرام إلا إذا تأكد تأكداً تاماً بأن الله قد حرمه، هذا هو السبب، وكان في اصطلاحهم أيضاً أن وضع الكراهة على المحرم أمر شائع، وإنما اصطلح المتأخرون على تقسيم الكراهة إلى قسمين: قسم يكون كراهة تحريم، وقسم يكون كراهة تنزيه, وهذا اصطلاح حادث ما كان يعرفه السلف قديماً، ولا يجوز أن يحمل كلام العلماء في القديم على هذا الاصطلاح الحادث. قال الشارح رحمه الله: [قال ابن مفلح: والأولى القطع بتحريمها لأنها شرك، وكيف يكون الشرك مكروهاً الكراهية الاصطلاحية؟! قال في شرح السنن: وإنما جعل الطيرة من الشرك؛ لأنهم كانوا يعتقدون أن الطيرة تجلب لهم نفعاً أو تدفع عنهم ضراً إذا عملوا بموجبها، فكأنهم أشركوا مع الله تعالى. قوله: (وما منا إلا)، قال أبو القاسم الأصبهاني والمنذري: في الحديث إضمار، والتقدير: وما منا إلا وقد وقع في قلبه شيء من ذلك. انتهى، وقال الخلخالي: حذف المستثنى لما يتضمنه من الحالة المكروهة، وهذا من أدب الكلام. قوله: (ولكن الله يذهبه بالتوكل)، أي: لكن لما توكلنا على الله في جلب النفع أو دفع الضر أذهبه الله عنا بتوكلنا عليه وحده. قوله: (وجعل آخره من قول ابن مسعود)، قال ابن القيم: وهو الصواب، فإن الطيرة نوع من الشرك].

كفارة من ردته الطيرة عن حاجته

كفارة من ردته الطيرة عن حاجته قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولـ أحمد من حديث ابن عمرو (من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك، قالوا: فما كفارة ذلك؟ قال: أن تقول: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك)]. قال الشارح رحمه الله: [هذا الحديث رواه أحمد والطبراني عن عبد الله بن عمرو بن العاص وفي إسناده ابن لهيعة وبقية رجاله ثقات. قوله: (من حديث ابن عمرو) هو عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل السهمي أبو محمد وقيل: أبو عبد الرحمن أحد السابقين المكثرين من الصحابة، وأحد العبادلة الفقهاء، مات في ذي الحجة ليالي الحرة -على الأصح- في الطائف. قوله: (من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك) وذلك أن الطيرة هي التشاؤم بالشيء المرئي أو المسموع، فإذا رده شيء من ذلك عن حاجته التي عزم عليها -كإرادة السفر ونحوه- فمنعه عما أراده وسعى فيه ما رأى وسمع تشاؤماً فقد دخل في الشرك كما تقدم، فلم يخلص توكله على الله بالتفاته إلى ما سواه، فيكون للشيطان منه نصيب. قوله: (فما كفارة ذلك) إلى آخره، فإذا قال ذلك، وأعرض عما وقع في قلبه، ولم يلتفت إليه، كفر الله عنه ما وقع في قلبه ابتداء؛ لزواله عن قلبه بهذا الدعاء المتضمن للاعتماد على الله وحده، والإعراض عما سواه. وتضمن الحديث: أن الطيرة لا تضر من كرهها، ومضى في طريقه، وأما من لم يخلص توكله على الله، واسترسل مع الشيطان في ذلك فقد يعاقب بالوقوع فيما يكره؛ لأنه أعرض عن واجب الإيمان بالله، وأن الخير كله بيده، فهو الذي يجلبه لعبده بمشيئته وإرادته، وهو الذي يدفع عنه الضر وحده بقدرته ولطفه وإحسانه، فلا خير إلا منه، وهو الذي يدفع الشر عن عبده، فما أصابه من ذلك فبذنبه، كما قال تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79]. قال المصنف رحمه الله: [وله من حديث الفضل بن عباس رضي الله عنه: (إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك)] في هذا الحديث -وإن كان الحديث ضعيفاً، وفيه انقطاع، فمثل هذا لا يعتمد عليه- حد الطيرة، وهو: أن يكون الإنسان عاملاً بما يقع له، إما أن يمضي في مراده إذا سمع الشيء الذي يرى أنه خير، أو يمتنع إذا رأى أنه شر، فهذه هي الطيرة، أما أن يقع في نفسه شيء ثم لا يلتفت إليه، ويمضي في طريقه وعمله فهذا لا يضر، هذا لا يكون طيرة، وهذا معنى قوله: (إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك)، يعني: إذا وقع في نفسك شيء فعملت به ومضيت على أساس ذلك في النهج الذي تريده وتقصده، أو رجعت إذا كان بعكس ذلك وتركت العمل فهذه هي الطيرة، أما أن يقع في نفس الإنسان شيء ثم لا يلتفت إلى هذا الشيء، ويمضي معتمداً على ربه جل وعلا فهذا لا يضره، وليس هذا طيرة. والحديث فيه انقطاع ونكارة، فهو منكر منقطع، ووجه النكارة أنه قال: (خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم فبرح لنا ظبي فمال إلى شقه فالتزمته، فقلت: تطيرت يا رسول الله؟! فقال: إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك)، الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعمل مثل هذا، ولا يقع منه مثل هذا، لهذا هذا الحديث لا يعتمد عليه. قال الشارح رحمه الله تعالى: [هذا الحديث عند الإمام أحمد من حديث الفضل بن عباس رضي الله عنهما، قال: (خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فبرح ظبي، فمال في شقه فاحتضنته، فقلت: يا رسول الله! تطيرت؟! فقال: إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك)، وفي إسناده انقطاع، أي: بين مسلمة راويه وبين الفضل وهو الفضل بن العباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن معين: قتل يوم اليرموك، وقال غيره: قتل يوم مرج الصفر سنة ثلاث عشرة، وهو ابن اثنتين وعشرين سنة. وقال أبو داود: قتل بدمشق، كان عليه درع النبي صلى الله عليه وسلم]. وهذا فيه اضطراب كثير جداً، حتى إن بعض المؤرخين يرى أنه قتل في قرب الصين في بلاد بعيدة، وبعضهم يرى أنه قتل في سمرقند، وعلى كل حال فمثل هذا ليس مهماً، المهم ما في الحديث من قوله: (فمال عن شقه فاحتضنته)، فهذا لا يثبت، ولا يقع منه صلى الله عليه وسلم مثل هذا الشيء. قال الشارح رحمه الله: [قوله: (إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك)، هذا حد الطيرة المنهي عنها، أنها ما يحمل الإنسان على المضي فيما أراده، ويمنعه من المضي فيه كذلك، وأما الفأل الذي كان يحبه النبي صلى الله عليه وسلم: فيه نوع بشارة، فيسر به العبد ولا يعتمد عليه، بخلاف ما يمضيه أو يرده، فإن للقلب عليه نوع اعتماد فافهم الفرق والله أعلم]. يعني: أن الفأل رجاء من الله وظن حسن، وإن كان السبب ضعيفاً وتافهاً فالإنسان يكون على خير، والله عند ظن عبده به، إذا ظن خيراً أعطاه خيراً، ومع ذلك لا يجوز أن يعتمد على الفأل، ويجعله دليلاً له، ويمضي من أجل ذلك، فإن هذا لا يجوز، وإنما يظن أنه يحصل له خير، ويعتمد على ربه ويتوكل عليه، ويعمل الأسباب التي أمر بها. أما الطيرة: فهي شر بل هي شرك؛ لأنه يجعل المستقبل الذي يقع معتمداً على فعل طير أو فعل حيوان أو شيء يراه أو ما أشبه ذلك، ومعلوم أن هذه الأشياء لا تصرف لها في الوقائع والحوادث، وإنما الحوادث التي ستحدث بيد الحي القيوم، الذي بيده ملكوت كل شيء، فلا يشاركه فيها أحد، ثم علم الغيب يختص بالله جل وعلا، فهذه الحيوانات وغيرها لا تعلم من المغيبات شيئاً، ولا تستطيع أن تتصرف في أمور الدنيا بشيء، فهذا هو الصواب وهذا هو الفرق بين الفأل والطيرة، فالطيرة: لا يجوز أن يعمل بها مطلقاً وهي من الشرك، أما الفأل: فهو الظن الحسن والرجاء من الله جل وعلا، ومع ذلك لا يعتمد عليه؛ لأن الاعتماد على ما أمر به الشارع، فما أمر الله جل وعلا به من الأفعال التي يحبها الله ويرضاها يعتمد عليه، ويتوكل على ربه.

مسائل باب: ما جاء في التطير

مسائل باب: ما جاء في التطير

التنبيه على قوله سبحانه وتعالى: (ألا إنما طائرهم عند الله)

التنبيه على قوله سبحانه وتعالى: (أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ) قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل: الأولى: التنبيه على قوله سبحانه وتعالى: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} [الأعراف:131] مع قوله: {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} [يس:19]]. يعني: أنه لا معارضة بين هذه وهذه، وقوله: (طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ) يعني: جزاؤهم وما يستحقونه، وقوله: (طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ) يعني: أعمالكم التي تعملونها هي سبب ما يقع عليكم من العقوبات، فالمعنى واحد.

نفي العدوى

نفي العدوى [الثانية: نفي العدوى: الثالثة: نفي الطيرة]. سبق أن نفي العدوى المقصود به: ما يعتقده المشركون قديماً، فإنهم يعتقدون أن المرض بطبعه وقوته هو الذي يعدي، ولا ينظرون إلى قدر الله، وأنه يجعل أسباباً يوجد بها هذا المرض، فالمنفي هو ما يعتقده المشركون، وليس المنفي أن مخالطة المريض قد تكون سبباً في مرض الصحيح، هذا لم ينف؛ لأن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقواله لا تتعارض، وقد نهى أن يورد الممرض على المصح، يعني: لا يختلط المريض بالصحيح لئلا يحدث بسبب ذلك مرض، وكذلك: (فر من المجذوم كفرارك من الأسد)، وسبق أن الراجح في هذا هو النهي، وإذا كان نهياً فلا إشكال فيه، والأمر واضح.

نفي الهامة

نفي الهامة [الرابعة: نفي الهامة. ] الهامة سبق تفسيرها، وأنها فسرت على تفسيرين، أحدهما: البومة المعروفة، الطائر الذي يكون في الليل، ويألف الخراب، وكان المشركون والجهلة يتشاءمون به أشد التشاؤم، ويتطيرون به، ويرون أنه إذا وقع على بيت أحدهم أنه سيموت، إما هو أو ولده أو والده أو قريب له، وهذا هو الذي نفي. التفسير الثاني: وهو جهل آخر كان يعتقده المشركون، وهو أن الرجل إذا قتل مظلوماً ولم يؤخذ بثأره فإنه يخرج من هامته، -يعني: من دماغه- طائر يبقى صائماً على قبره: اسقوني! اسقوني! حتى يؤخذ بثأره، ولهذا يقول شاعرهم: أو غبت حتى تقول الهامة اسقوني فهذا أيضاً لا حقيقة له، وهو منفي وكلاهما مقصود.

تفسير الصفر المنفي في الحديث

تفسير الصفر المنفي في الحديث [الخامسة: نفي الصفر]. الصفر تقدم أيضاً أنه فسر بثلاثة تفسيرات، أحدها: أنه شهر صفر، وكانوا يتشاءمون به، وأنه لا يأتي إلا بشر، هكذا كان يقولون، فلا يسافرون فيه، ولا يتزوجون فيه، وهذا منكر وباطل، فالشهر لا دخل له في الوقائع ولا في المستقبلات. الثاني: أنه هو النسيء الذي ذكره الله في القرآن، وهو أنهم كانوا يقدمون شهر صفر إلى المحرم، فيجعلونه محرماً سنة، ويؤخرون شهر محرم إلى صفر حتى يستحلوا القتال في محرم، والسنة الأخرى يتركونه على ما هو عليه، فقال الله جل وعلا: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} [التوبة:37]. الثالث: أن المقصود بالصفر: حية تكون في بطن كنف الرجال، وتكون عندهم أعدى من الجرب، هكذا زعموا، وكل هذا باطل، وقد نفي هذا كله في حديث: (لا صفر)، وكل هذه الأمور الثلاثة باطلة بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

تفسير الفأل

تفسير الفأل [السادسة: أن الفأل ليس من ذلك، بل مستحب. السابعة: تفسير الفأل]. أي: بأنه الكلمة الطيبة يسمعها الرجل أو تقال له، هكذا جاء تفسيره في الحديث: (قالوا: وما الفأل يا رسول الله؟! قال: الكلمة الطيبة يسمعها أو تقال له)، ووضح ذلك العلماء بأن الإنسان قد يكون مثلاً فاقداً شيئاً، فيسمع قائلاً يقول: يا واجد! أو يا راشد! فيتفاءل بأنه سيجد وسيرشد إلى طلبه، أو يكون مريضاً ويسمع قائل يقول: يا معافى! أو ما أشبه ذلك، فيتفاءل بأنه سيشفى، ومع ذلك لا يعتمد على هذا، وإنما يرجو ويظن الخير.

التطير الواقع في القلوب لا يضر وبيان ماذا يقول من رأى شيئا يتطير منه

التطير الواقع في القلوب لا يضر وبيان ماذا يقول من رأى شيئاً يتطير منه [الثامنة: أن الواقع في القلوب من ذلك مع كراهته لا يضر بل يذهبه الله بالتوكل]. أي: لا يضر إذا لم يعتمد عليه الإنسان ولم يمض على سبيل ذلك، فإذا أعرض عنه وتركه وصد عنه وتناساه فإنه لا يضره. [التاسعة: ذكر ما يقول من وجده]. يعني: أن يقول: (اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك، ولا حول ولا قوة إلا بك) يقول هذا ويمضي. [العاشرة: التصريح بأن الطيرة شرك. الحادية عشرة: تفسير الطيرة المذمومة]. وقد تقدم الكلام على ذلك.

شرح فتح المجيد [81]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [81] النجوم خلقها الله عز وجل لثلاثة أغراض: زينة للسماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات يُهتدى بها، وليس لها أي تصرف أو تدبير، ومن نسب إليها شيئاً من ذلك فقد وقع في الشرك، وهكذا من تعلم التنجيم فقد تعلم السحر، والسحر كفر بالله عز وجل، ويستثنى من ذلك تعلم منازل النجوم والقمر الذي يسمى بعلم الفلك؛ فقد أجازه كثير من العلماء.

حكم التنجيم وأقسامه

حكم التنجيم وأقسامه قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في التنجيم] التنجيم: تفعيل نسبة إلى النجوم، يعني: الأفعال التي تعتقد في النجوم. والتنجيم قسمه العلماء إلى قسمين: قسم شرك بالله جل وعلا، وهذا الذي جعل المصنف يدخل التنجيم في كتاب التوحيد. وقسم آخر جائز لا بأس به، وإن كان بعض العلماء ينهى عن التوغل فيه، والإكثار منه. أما القسم الأول: فهو الاستدلال بسير النجوم وطلوعها وأفولها على الأمور المستقبلة من الحوادث، كهبوب الرياح، ونزول الأمطار، وحدوث الأمراض، وقيام الحروب، وما أشبه ذلك مما يحدث في الأرض، ولهذا عرف ذلك بعض العلماء، فقال: هو الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية، والأحوال الفلكية يعني: السير والطلوع والأفول، واقتران بعض النجوم ببعض، وليس المقصود باقترانها أنها تلتصق، ولكنها تتقارب في رأي العين، فيظن الرائي أنها اقترنت، ويسمى ذلك التقارب اقتراناً، فكل ما يضاف إلى النجوم من أن لها تأثيراً في الحوادث، وفي النفوس، والسعود، والأرزاق، والإفقار، أو غير ذلك فهو من الشرك. وهذا القسم له أقسام عدة، وكلها من الشرك، ومنه ما يكون عند المنجمين، كقولهم: إن الإنسان إذا ولد في النجم الفلاني أو في الفلك الفلاني يكون له كذا وكذا وكذا، وإذا سافر في النجم الفلاني يكون له كذا، ويحصل له كذا، وإذا تزوج بالنجم الفلاني يحصل له كذا، وإذا عقد صفقة من تجارة أو غيرها في النجم الفلاني يحصل له ربح أو يحصل له خسارة أو ما أشبه ذلك، وهذا لا يزال مستعملاً إلى اليوم؛ يستعمله كثير من الناس، فهذا من أقل هذه الأنواع، ومع ذلك فهو من الشرك -نسأل الله العافية-؛ لأن النجوم ليس عندها تصرف، وليس عندها تأثير، وإنما هي مدبَرة مسخرَة، تسير بأمر الواحد القهار جل وعلا، مطيعة خاضعة لربها جل وعلا. وقسم آخر وهو: أن هذه الكواكب لها روحانيات، وهذه الروحانيات تتصرف عندما يُخضع لها، وتُنادى وتطاع، فتنفع وتضر، وهذا فعل المشركين القدامى كقوم إبراهيم عليه السلام وغيرهم؛ فإنهم كانوا يعبدون الكواكب يعتقدون فيها، ولهذا ناظرهم إبراهيم عليه السلام فأبطل عبادتهم، فإنه نظر إلى كوكب فقال -من باب المناظرة: {قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام:76]، والتقدير: أهذا ربي؟ {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام:76]، والأفول هو: الغروب؛ والإله لا يغيب، وغيبوبته تدل على أنه يجهل، وأنه غير كامل، وكذلك قال في القمر وفي الشمس، ثم بعد ذلك قال لهم: {كَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام:81]، ثم بين الحكم فقال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} يعني: بشرك {أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82]، فهذا التنجيم من أعظم الشرك وأكبره، ومثل هذا لا يحصل إلا لمن كفر بالله جل وعلا وكفر بشرعه. وقسم ثالث: وهو ربط الأحوال التي تكون في الأرض بهذه الكواكب ربطاً لا ينفك عنه، وهذا زعم باطل أيضاً، وقد يستعمله بعض من يدعي الإسلام، فيستدلون على الأحوال التي تكون في الأرض بطلوع الكواكب أو غروبها، أو كون الكوكب الفلاني في البرج الفلاني، أو كونه في وقت كذا، وهذا كثير أيضاً، وهو نوع من الشرك، وكل هذا داخل فيما ذكر. أما القسم الذي هو جائز: فهو الاستدلال بالأجرام السماوية على الجهات، وعلى الأوقات، والأعداد، وكذلك الأبعاد، والتفكر في ذلك، فهذا جائز، وهذا هو الذي يسمى الآن بـ (علم الفلك)، وقد وضعت له الأرصاد والمناظر المكبرة والمقربة، فصار هذا العلم يختلف عن العلم السابق، وهذا العلم نهى العلماء عن الإيغال فيه؛ لأن أقل ما فيه أنه يشغل عن ما هو أفضل منه، ومع ذلك لا ينكر مثل هذا، وهو ليس مقصوداً في الباب.

الأغراض التي خلقت لها النجوم

الأغراض التي خلقت لها النجوم وقد ذكر الله جل وعلا أن النجوم خلقت لأغراض ثلاثة ذكرها لنا جل وعلا: الأول: أنها زينة للسماء، كما قال جل وعلا: {زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [الملك:5]. الثاني: أنها رجوم للشياطين، وفي الآية أيضاً: {وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} [الملك:5]، وذلك أن الشياطين -مردة الجن- يركب بعضهم بعضاً حتى يصلوا إلى عنان السماء -أي: قرب السحاب أو ما أشبه ذلك- ليستمعوا إلى كلام الملائكة، والملائكة يكونون بين السماء والأرض أو يكونون في السحاب أو حيث يشاء الله جل وعلا، فحينما يدبرهم ويأمرهم بتصريف الأمور، فإن الجن يريدون أن يستمعوا إلى ما يتكلم به الملائكة فيحاولون استراق السمع، فيلتقطون بعض الكلمات فيأتون بها إلى أوليائهم من السحرة والكهنة، فجعل الله جل وعلا النجوم شهباً يرجمون بها، كما كان الوحي الذي يوحيه الله إلى أوليائه مانعاً لهم من استقراق السمع إلا أن الوحي قد انقطع ولم يبق إلا الرجم الذي يرسل عليهم، فيقتل منهم ما شاء الله أن يقتل، ويسلم بعضهم. الأمر الثالث: أنها علامات يهتدى بها، كما قال الله جل وعلا: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:16]، يعني: يهتدون في طرقهم في البر والبحر، وهذا شيء مألوف ومعروف، وكذلك يهتدون بها على القبلة والجهات. وسيأتي قول قتادة: أن من بحث في النجوم عن غير هذه الأمور الثلاثة فقد أضاع سبيله ونصيبه من الآخرة وضل، وترك ما أمره الله جل وعلا به، واتبع طريق الضلالة. وأما معرفة النجوم بأحوالها وأبعادها وأجرامها فهذا من هذا النوع؛ لأن فيه دليلاً على الله وعظمته جل وعلا، كما أخبر الله جل وعلا عن ذلك في آيات عدة، فهي داخلة في القسم الثالث: قسم الاهتداء بما، فيُهتدى بها إلى الطرق، ويُهتدى بها إلى معرفة الله جل وعلا؛ لكونها من الآيات، مثل: السموات، والأرض، والجبال، والشجر، والنبات، والإنسان، وغير ذلك من المخلوقات التي تدل على وجود الرب جل وعلا.

تعريف التنجيم

تعريف التنجيم قال الشارح رحمه الله: [قوله: (باب ما جاء في التنجيم): قال شيخ الإسلام رحمه الله: التنجيم هو: الاستدلال بالأحوال الفلكية، على الحوادث الأرضية. وقال الخطابي: علم النجوم المنهي عنه: ما يدعيه أهل التنجيم، من علم الكوائن والحوادث التي ستقع في مستقبل الزمان، كأوقات هبوب الرياح ومجيء المطر، وتغير الأسعار، وما في معناها من الأمور التي يزعمون أنها تدرك معرفتها بمسير الكواكب في مجاريها، واجتماعها وافتراقها، يدعون أن لها تأثيراً في السفليات، وهذا منهم تحكم على الغيب، وتعاطٍ لعلم قد استأثر الله به، ولا يعلم الغيب سواه]. قد يقع شيء مما يخبر به المنجم -مثل ما يحصل مع الكاهن- وليس معنى ذلك أنه يعرف شيئاً، ولكن صادف القدر فصار فتنة لمن صدق به، وإلا هو ضرب من التخمين، وقد علم الناس كذب المنجمين، فكم من الحوادث التي وقعت حكموا بأنها ستأتي على هيئة كذا وكذا، وجاء الواقع بخلاف ذلك، وهناك وقائع وحوادث مشهورة جداً، دلت على ما نقول، ذكرها المؤرخون، وكان المنجمون يجمعون على شيء، فيصبح كذبهم ظاهراً وواضحاً، ومع ذلك المؤمن لا يحتاج إلى مثل هذا؛ لأنه يعرف كذبه من أول وهلة، وأن النجوم لا دخل لها في الحوادث المستقبلة. وقوله هنا: الأزمان المستقبلة، والحوادث المستقبلة، يقصد به: الشيء الذي سيقع ولو في اليوم، بخلاف الذي وقع فإنه قد علم، أما الذي لم يقع فهو من أمور الغيب، لا يعلمه إلا الله، والنجم ليس له دخل في ذلك.

حكم تعلم منازل القمر، وشرح أثر قتادة في ذلك

حكم تعلم منازل القمر، وشرح أثر قتادة في ذلك قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال البخاري في صحيحه: قال قتادة: (خلق الله هذه النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات يهتدى بها، فمن تأول فيها غير ذلك أخطأ، وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به) ا. هـ وكره قتادة تعلم منازل القمر، ولم يرخص ابن عيينة فيه. ذكره حرب عنهما. ورخص في تعلم المنازل أحمد وإسحاق]. الصواب: أن تعلم منازل القمر لا بأس به؛ لأن بذلك يعرف الحساب، ويعرف الوقت، فهو لا تأثير له في الحوادث وغيرها، إلا أن هذه المعرفة لا طائل تحتها، غير أنها أمر مباح، وشرح ذلك: أن القمر له منازل، كل ليلة يكون في واحدة، إلا ليلتين في الشهر أو ليلة، فإذا كان كاملاً فيكون في ليلتين ليس له منزلة، ويسمى الاستسرار، وإذا كان ناقصاً فليلة واحدة ليس له منزلة، والمنازل ثمان وعشرون منزلة فقط، وسميت منازل لأن القمر يكون بحذائها أو قريباً منها، وإلا فهي فوقه بكثير، ليست معه ولا قريباً منه، والكواكب كما هو معلوم تتفاوت في البعد، فبعضها بعيد بعداً شاسعاً جداً، وبعضها أقرب من ذلك، والصواب أنها كلها تحت السماء الدنيا، وليس منها شيء فوق السماء الدنيا، أو في السماء الثانية، أو الثالثة، أو الرابعة، أو السابعة، كما يقول المنجمون قديماً، فإنهم يزعمون -كما هو مشهور عندهم- أن القمر في السماء الدنيا، وأن الشمس في السماء الرابعة، وأن زحل في السماء السابعة، وهكذا كانوا يجعلون كل كوكب من الكواكب السيارة السبعة وغيرها في منزل، فهذا في سماء، وذاك في سماء أخرى. فإذا قيل لهم: كيف ذلك؟ قالوا: إن السماوات شفافة، يعني: أن الكواكب ترى من خلفها، وهذا تحكم، وليس لهم عليه أيّ دليل، بل هو كذب، وعلم هذا عند الله جل وعلا، والله جل وعلا أخبرنا في كتابه أنها في السماء الدنيا، فقال سبحانه: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} [الصافات:6]، وجاء في عدد من آيات الله جل وعلا يخبر أنها في السماء الدنيا، ولكن بعضها تحت بعض؛ لأن كل واحد منها له فلك يسير فيه، وهي مختلفة المسير، فبعضها بطيئة السير، وبعضها سريعة، وبعضها يكون سيرها عكسياً، ولكنها متقنة إتقاناً عجيباً؛ حيث إنها تسير سيراً منتظماً، وبعضها كبير وبعضها موغل في الكبر، وبعضها أصغر من ذلك، وبعضها ثابت، وبعضها غير ثابت، بمعنى: أنه لا يقطع السماء إلا بعد ثلاثين سنة، أعني: يغيب عن الأرض ويخرج عليها مرة أخرى بعد ثلاثين سنة، وبعضها في أقل من ذلك بكثير، وبعضها في شهر، وبعضها في أسبوع، وبعضها في أقل من ذلك، فهي تختلف، وكل هذه الأمور من النظر إلى مسيرها، وإلى أوقاتها، وإلى أجرمها وأبعادها يدخل في تعلم منازل القمر، وقد ذكر عن قتادة أنه لم يرخص فيه، ورأى أنه من الأمور التي قد تكون -أقل ما تكون- مشكلة عند غيره. وبعضهم رخص في ذلك، وقال: لا بأس به؛ لأن فاعل ذلك يعترف أنها مدبَرة ومسخرَة، وأنها آيات دالة على وجود الله جل وعلا، أما إذا كان يتعلق فيها بشيء آخر كمعرفة الحوادث ووقائع الأمور فهذا أمر آخر، وسبق أنه لا يجوز. والمقصود: أن القمر ينزل كل ليلة في واحدة من هذه المنازل، وكل واحدة من هذه المنازل تسمى (منزلة القمر)، وليس معنى ذلك أن الكوكب يقترن بها، بل يكون محاذياً لها، وقد يكون عن يمينها، أو عن شمالها، أو أمامها، أو خلفها، وهي فوقه بكثير؛ لأن القمر هو أقرب الكواكب إلى الأرض؛ وكل الكواكب فوقه، فتسميتها منازلاً هذا معناه: أنه يكون قريباً منها، وكل منزلة بينها وبين الأخرى ثلاثة عشر يوماً في الطلوع والغروب، أعني: إذا طلعت هذه فبعد ثلاثة عشر يوماً تطلع التي بعدها، وكذلك إذا غربت تلك تطلع المقابلة لها من الشرق؛ لأن على سطح الأرض دائماً يُرى أربعة عشر منه، وتحت الأرض أربعة عشر، فهي دائمة المسير هكذا. وهذه هي التي يسميها العرب (الأنواء)، ويضيفون إليها هطول المطر، وهبوب الرياح، وما إلى ذلك، وقد أنكر ذلك السلف، ولهذا لما قال رجل عند الحسن البصري: طلع سهيل وبرد الليل، قال الحسن: ليس عنده أي شيء لا من البرودة ولا من الحرارة، والله جعل الأوقات مختلفة، فلا يجوز إضافة شيء من ذلك إلى سهيل ولا إلى غيره، وإنما هو الفاعل الله جل وعلا، وهو الذي جعل الأوقات متغيرة: فمرة تكون برداً، ومرة تكون حراً، ووقتاً تكون معتدلة وهكذا، فهذا كله إلى الله، لا يجوز أن نضيفه إلى النجوم، ولا إلى مخلوق من مخلوقاته؛ لأنه صنع رب العالمين جل وعلا، وهو الذي يدبر الكون كله. وكذلك منازل القمر ليس عندها شيء من هذا، وإن كان يستدل بها على هذه الأوقات؛ لأن السنة تتكون من بروج معروفة، وهي: اثنا عشر برجاً، كل برج له أربع من هذه المنازل. وعلى كل حال هذه الأمور: أمور الحساب، ومعرفة القمر من الأشياء المباحة، ولكن غيرها أنفع منها. قال الشارح رحمه الله: [هذا الأثر علقه البخاري في صحيحة، وأخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وغيرهم. وأخرجه الخطيب في كتاب (النجوم) عن قتادة، ولفظه قال: (إنما جعل الله هذه النجوم لثلاث خصال: جعلها زينة للسماء، وجعلها يهتدى بها، وجعلها رجوماً للشياطين، فمن تعاطى فيها غير ذلك فقد قال برأيه، وأخطأ حظه، وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به، وإن ناساً جهلة بأمر الله، قد أحدثوا في هذه النجوم كهانة: من أعرس بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا، ومن سافر بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا، ولعمري ما نجم إلا ويولد به الأحمر والأسود، والطويل والقصير، والحسن والدميم، وما علم هذه النجوم وهذه الدابة وهذا الطائر بشيء من هذا الغيب، ولو أن أحداً علم الغيب لعلمه آدم الذي خلقه الله بيده، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء). انتهى]. قوله: (وعلمه أسماء كل شيء)، أي: هو فُضّل بذلك على سائر الخلق، فلو كان هذا فيه منة وفيه خير لعلمه. وقوله: (لعمري)، قد يشكل على بعض طلبة العلم؛ لأنهم يظنون أن هذا قسم، والقسم لا يجوز أن يكون بغير الله جل وعلا، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)، وقال: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)، وقال: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم)، فلا يجوز أن يحلف الإنسان بغير الله، وكلمة: (لعمري) ليست بحلف، إنما هي أسلوب من أساليب اللغة العربية للتأكيد فقط، ولهذا جاءت عن الصحابة وعن غيرهم من السلف كما في قول قتادة هنا. وأما قوله جل وعلا: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:72]، فهو قسم بعمر النبي صلى الله عليه وسلم، وليس فيه دليل على جواز الحلف بغير الله، بل هذا جارٍ على أسلوب اللغة العربية، والقرآن نزل بلغة العرب.

بيان أن النجوم والكواكب ليست ملاصقة للسماء الدنيا، والرد على من يورد شبها في ذلك

بيان أن النجوم والكواكب ليست ملاصقة للسماء الدنيا، والرد على من يورد شبهاً في ذلك قال الشارح رحمه الله: [فتأمل ما أنكره هذا الإمام مما حدث من المنكرات في عصر التابعين، وما زال الشر يزداد في كل عصر بعدهم حتى بلغ الغاية في هذه الأعصار، وعمت به البلوى في جميع الأمطار، فمقل ومستكثر، وعز في الناس من ينكره، وعظمت المصيبة به في الدين، فإنا لله وإنا إلي راجعون. قوله: (خلق الله هذه النجوم لثلاث) قال الله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} [الملك:5]، قال تعالى: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:16]. وفيه إشارة إلى أن النجوم في السماء الدنيا، كما روى ابن مردويه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما السماء الدنيا فإن الله خلقها من دخان، وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وزينها بمصابيح، وجعلها رجوماً للشياطين، وحفظاً من كل شيطان رجيم)]. ولا ينبغي أن يفهم أن النجوم والكواكب ملاصقة للسماء، ولا يلزم ذلك، فإن المعروف أن هناك تفاوتاً بين بعضها البعض، فبين القمر وغيره تفاوت هائل في البعد، والقرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن تكون مخالفة للواقع، وبعض الناس قد يقول قولاً يظنه حقاً ويصر عليه، ويزعم أن القرآن يدل على ذلك، ولما يتثبت بعد من صحة ما فهم، فيكون في هذا فتنة له ولغيره. فمثلاً الذي يقول: إن القمر في السماء، وإنه ملاصق لها! وقد شاهد الناس أو المختصون بهذا بعد القمر عن السماء، وأنه إلى الأرض أقرب منها إلى السماء بكثير جداً، فإذا ما سمع خبراء الفلك وعلماء الكواكب التفسير السابق المدعم بالأدلة -كما يزعم صاحبه- ظنوا أن القرآن يخالف الواقع والحقائق العلمية، وماكان كذلك فلا يكون صحيحاً. كما أنه وجد -مثلاً- من يقول: بأن الأرض مسطحة وليست كروية، مستدلاً على ذلك بقول الله جل وعلا: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية:17 - 20]، وقال في الآية الأخرى: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات:30] وما أشبه ذلك، فإذا سمع الإنسان الذي يعرف كروية الأرض وليس عنده في ذلك شك فإنه سينسب الخطأ إلى القرآن، وسيقول: هذا دليل على القرآن ليس صحيحاً، ولو كان صحيحاً ما كان مخالفاً للواقع، فيكون فتنة له، ولهذا لا يجوز للإنسان أن يتكلم بالشيء الذي لا يعرفه، بل يجب أن يكون كلامه عن علم ومعرفة، وألا يقول على الله جل وعلا شيئاً لا يعرف حقيقته. فلهذا يقول العلماء: إن القول على الله بلا علم يكون أعظم من الشرك أو معادلاً له؛ لأن فيه مفاسد عظيمة: إما نسبة الباطل إلى دين الله وإلى حكمه وإلى قوله، أو نسبة الكذب إليه، نسأل الله العافية. والمقصود: أنه ليس معنى قوله هنا: إن الكواكب في السماء الدنيا: أنها ملاصقة للسماء، فكل ما فوق الإنسان يصح أن يقال له: سماء، والشيء الذي فوقنا كله في السماء، السحاب في السماء، والهواء الذي يأتي من فوق في السماء، وكذلك النجوم وغيرها، ولكن في نظر العين إذا نظر الإنسان فوقه فإنه يرى أن الكواكب كأنها مصابيح معلقة في السماء، وهي زينة على كل حال عند النظر إليها.

من فوائد النجوم الاهتداء بها

من فوائد النجوم الاهتداء بها قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: (وعلامات) أي: دلالات على الجهات (يهتدى بها) أي: يهتدي بها الناس في ذلك، كما قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام:97] أي: لتعرفوا بها جهة قصدكم، وليس المراد أنه يهتدى بها في علم الغيب كما يعتقده المنجمون، وقد تقدم وجه بطلانه، وأنه لا حقيقة له، كما قال قتادة، (فمن تأول فيها غير ذلك) -أي: زعم بها غير ما ذكره الله في كتابه من هذه الثلاث- فقد أخطأ، حيث زعم شيئاً ما أنزل الله به من سلطان، وأضاع نصيبه من كل خير؛ لأنه شغل نفسه فيما يضره ولا ينفعه]. والنجوم كذلك يستدل بها على جهة القبلة، وعلى الجهات الرئيسية المعروفة، وقد ذكر الفقهاء مسألة، فقالوا: هل يجب على الإنسان أن يتعلم الأمور التي يعرف بها جهة القبلة؟ فبعضهم يوجب هذا، ويقول: واجب عليه أن يعرف؛ لأن الإنسان لا ينفك عن السفر وعن الذهاب والإياب في الأرض، ويكون وحده أحياناً، وقد يكون مع جماعة لا يعرفون القبلة، واستقبال القبلة شرط في صحة الصلاة، فينبغي أن يكون عنده معرفة من ذلك ليجتهد، والنجوم تعرف بها جهة القبلة، فأما إذا كان في النهار فيكون ذلك إما بالشمس أو بالجبال أو بالرياح؛ لأن هناك جهات رئيسية غالباً تهب منها الرياح، والجبال كلها -إلا نادراً- تكون مستقبلة للغرب، ووجوهها إلى الغرب، هذا إذا كانت جبال كبيرة، وأما الجبال الصغيرة فلا عبرة فيها، فلهذا جعلت من الأقسام التي يستدل بها على القبلة.

المنجم دجال كالكاهن

المنجم دجال كالكاهن قال الشارح رحمه الله: [فإن قيل: المنجم قد يصدق، قيل: صدقه كصدق الكاهن يصدق في كلمة ويكذب في مائة، وصدقة ليس عن علم، بل قد يوافق قدراً فيكون فتنة في حق من صدقه، وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلامَاتٍ} [النحل:15 - 16] فقوله: (وعلامات) معطوفاً على ما تقدم مما ذكره في الأرض، ثم استأنف فقال: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:16]، ذكر ابن جرير عن ابن عباس بمعناه. وقد جاءت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بإبطال علم التنجيم، كقوله: (من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد). وعن رجاء بن حيوة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن مما أخاف على أمتي التصديق بالنجوم، والتكذيب بالقدر، وحيف الأئمة) رواه عبد بن حميد. وعن أبي محجن مرفوعاً: (أخاف على أمتي ثلاثاً: حيف الأئمة، وإيماناً بالنجوم، وتكذيباً بالقدر) رواه ابن عساكر وحسنه السيوطي. وعن أنس رضي الله عنه مرفوعاً: (أخاف على أمتي بعدي خصلتين: تكذيباً بالقدر، وإيماناً بالنجوم)، رواه أبو يعلى وابن عدي والخطيب في كتاب (النجوم)، وحسنه السيوطي أيضاً. والأحاديث في ذم التنجيم والتحريم منه كثيرة. [قال الخطابي: أما علم النجوم الذي يدرك من طريق المشاهدة والخبر الذي يعرف به الزوال، وتعلم به جهة القبلة: فإنه غير داخل فيما نهي عنه، وذلك أن معرفة رصد الظل ليس شيئاً بأكثر من أن الظل مادام متناقصاً، فالشمس بعد صاعدة نحو وسط السماء من الأفق الشرقي، وإذا أخذ في الزيادة فالشمس هابطة من وسط السماء نحو الأفق الغربي، وهذا علم يصح إدراكه بالمشاهدة، إلا أن أهل هذه الصناعة قد دبروها بما اتخذوا له من الآلات التي يستغني الناظر فيها عن مراعاة مدته ومراصدته. أما ما يستدل به من النجوم على جهة القبلة: فإنها كواكب رصدها أهل الخبرة بها من الأئمة الذين لا نشك في عنايتهم بأمر الدين ومعرفتهم بها، وصدقهم فيما أخبروا به عنها، مثل أن يشاهدها بحضرة الكعبة، ويشاهدها على حال الغيبة عنها، فكان إدراكهم الدلالة منها بالمعاينة، وإدراكنا ذلك بقبول خبرهم، إذ كانوا عندنا غير متهمين في دينهم، ولا مقصرين في معرفتهم. ا. هـ]. هذا ليس بقاصر عليهم، بل كل عاقل إذا نظر إلى ذلك أدركه وعرفه، فليس معنى ما سبق أنه متوقف عليهم، وإذا أخبروا وجب قبول خبرهم، بل يجب أن يُنظر ويُسبر الحال؛ لأن الأمر واضح وجلي، وكل من له عقل وفكر ونظر يدرك هذا.

ذكر من رخص في تعلم منازل القمر

ذكر من رخص في تعلم منازل القمر قال الشارح رحمه الله تعالى: [روى ابن المنذر عن مجاهد أنه كان لا يرى بأساً أن يتعلم الرجل منازل القمر. وروى عن إبراهيم أنه كان لا يرى بأساً أن يتعلم الرجل من النجوم ما يهتدي به]. معنى تعلم منازل القمر: أن يعرفها بأعيانها، أن يعرف أن القمر ينزل في كذا، ويعرف أن منها أربعة عشر منزلاً يدور على القطب الجنوبي، وأربعة عشر أخرى تدور على القطب الشمالي، ولهذا تسمى بعضها يمانية، وبعضها شامية، وعلى كل حال أمرها سهل، وليس تحت تعلمها طائل، إلا أن يكون بها معرفة الحساب. قال الشارح رحمه الله تعالى: [قال ابن رجب: والمأذون في تعلمه علم التسيير لا علم التأثير، فإنه باطل محرم، قليله وكثيره، وأما علم التسيير فيتعلم منه ما يحتاج إليه من الاهتداء، ومعرفة القبلة، والطرق، جائز عند الجمهور]. وكذلك إذا عرف أجرام الكواكب وأبعادها جائز؛ لأنها آيات دالة على الله جل وعلا، وقد أخبر جل وعلا أنها آيات.

ترجمة حرب الكرماني وإسحاق بن راهويه

ترجمة حرب الكرماني وإسحاق بن راهويه قال الشارح رحمه الله: [قوله: (ذكره حرب عنهما) هو الإمام الحافظ حرب بن إسماعيل أبو محمد الكرماني الفقيه من جلة أصحاب الإمام أحمد، روى عن أحمد وإسحاق وابن المديني وابن معين وغيرهم، وله كتاب المسائل التي سئل عنها الإمام أحمد وغيره، مات سنة ثمانين ومائتين. وأما إسحاق فهو ابن إبراهيم بن مخلد أبو أيوب الحنظلي النيسابوري الإمام المعروف بـ ابن راهويه، روى عن ابن المبارك وأبي أسامة وابن عيينة وطبقتهم. قال أحمد: إسحاق عندنا إمام من أئمة المسلمين. روى عنه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم، وروى هو أيضاً عن أحمد. مات سنة تسع وثلاثين ومائتين].

شرح حديث: (ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر)

شرح حديث: (ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر) قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر، وقاطع الرحم، ومصدق بالسحر) رواه أحمد وابن حبان في صحيحه]. سبق أن التنجيم نسبة إلى النجوم، وأنه منقسم إلى أقسام: منه ما هو جائز، ومنه ما هو كفر بالله جل وعلا، ومنه ما هو مختلف فيه كما سبق، فأما الذي هو جائز: فهو الاستدلال بها على الجهات في المسير، سواء في البحر أو في البر أو على القبلة وما أشبه ذلك. وأما المختلف فيه: فهو تعلم منازل القمر، فإن فيه خلاف بين العلماء، منهم من أجازه وأباحه، ومنهم من كرهه. وأما المحرم: فهو الاستدلال بطلوع الكواكب أو اقترانها أو مسيرها على أنه سيحدث في الأرض شيء من مرض، أو رياح، أو حروب، أو غلاء أسعار أو رخصها، أو سعادة أو شقاء، أو ما أشبه ذلك؛ فإن هذا كفر بالله جل وعلا؛ لأنه يضيف الحوادث إلى غير موجدها وإلى غير خالقها. أما ما ذكره في هذا الحديث فإنه قسم آخر، فقوله: (ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر، وقاطع الرحم، ومصدق بالسحر) المدمن هو: المديم على الشيء، الذي يفعل الشيء ولا يقلع عنه، بل يستديم عليه، من أدمن الشيء إذا تردد فيه وألفه، وصار ديدنه ذلك، بخلاف الذي يفعله مرة ثم يتركه، فإن هذا لا يُعد مدمناً، وإنما يكون مدمناً الذي يألف الشيء ويستمر عليه، والخمر أم الخبائث، والواقع أنه ليس المقصود بالخمر الذي هو عصير العنب أو عصير الشعير أو عصير التمر، وما يصنع من هذه الأشياء، ليس هذا المقصود، فالخمر: اسم جامع لكل ما يخامر العقل ويغطيه من كل شيء كان، سواء كان من الأمور التي يزعم أن فيها نفعاً، أو من الأمور التي هي ضرر كلها ليس فيها نفع، قال الله جل وعلا: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219]، فإن كل شيء يكون فيه النفع للإنسان مباحاً، فإذا كان ضرره أكثر من نفعه فهو محرم، وإن كان فيه نفع، ولكن هناك أشياء من المسكرات ضررها محض ليس فيها أي نفع، وهي أنواع شتى وكثيرة جداً، وبعضها أعظم من بعض، ولكن كلها تدخل في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: مدمن الخمر، وقد جاء صلوات الله وسلامه عليه بجوامع الكلم حيث إنه قال: (كل مسكر خمر)، وقال: (وما أسكر كثيره فقليله حرام). والسكر هو: تغطية العقل، وقد يكون بالمفتر أو بالمخدر الذي يفتر البدن ويخدره، لأنه نوع من الإسكار، فإذا اعتاد الإنسان شيئاً من ذلك فقد لا يؤثر عليه، ومع ذلك يكون حكمه ما ذكر. والشاهد هنا قوله: (ومصدق بالسحر)، وإذا كان هذا الوعيد بحق من صدق الساحر، فكيف بالساحر نفسه؟! لهو أشد جرماً وأعظم إثماً. وكذلك التنجيم يدخل في هذا النوع، فقد جاء في حديث ابن عباس مرفوعاً: (من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد)، والسحر هو: ما لطف وخفي سببه، أي: خفي على بعض الناس، وهو لا يكون إلا بواسطة الشياطين، ومثله الاقتباس من النجوم بأن تجعل الحوادث المستقبلة بطلوع النجوم أو بغروبها أو بأفولها أو ما أشبه ذلك، وهذا يعد رجماً بالغيب ليس لها صلة بالحوادث أصلاً، وإنما هو كذب وافتراء على الله جل وعلا، وقد يقع شيء من ذلك فيكون فتنة لمن يصدق بهذا. أما قوله: (لا يدخلون الجنة) القول الصحيح فيه من أقوال العلماء: أنه لا يتعرض له لا بتأويل -يعني: تفسير- ولا برد، مع الثقة بأن مرتكب الكبيرة لا يكون كافراً، ولكن هذا إلى الله جل وعلا، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم وأخبر الله جل وعلا عن ذلك، فيبقى على ما أخبرا به، والخوف قائم على هذا الإنسان الذي فعل هذا الفعل، وهو على خطر عظيم، ولكنه بهذا الفعل لا يخرج من دين الإسلام، فقول الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10]، يبقى خطاب الله جل وعلا على ما قال، ويبقى آكل أموال اليتامى على خطر عظيم، ولكن أكلهم لأموال اليتامى لا يخرجهم من الدين الإسلامي، إلا أن هذا الوعيد فيهم، وأمرهم إلى الله، يجوز أن الله جل وعلا يمضي ذلك فيهم، وهذا هو الظاهر، ويجوز أن يعفو عنهم ولا يعاقبهم، فالأمر إليه، أما العباد فلا يجزمون بشيء، ولهذا يجب أن يُمتنع من الجزم بشيء؛ فإن الإنسان لا يخاطر بنفسه، وهكذا سائر الذنوب الكبار التي وردت فيها النصوص الشديدة، مثل: شرب الخمر، وتصديق السحر، وأكل الربا. أما المتأول لها فإنه أيضاً على خطر ويخشى أن يكون من القول على الله بلا علم؛ لأنه عين معنىً، وليس له عليه دليل إلا عمومات الألفاظ، فالأولى أن يترك ما جاء على ما جاء، والشاهد في هذا قوله: (ومصدق بالسحر)، وعلم التأثير -تأثير النجوم بالأحوال- علم مبني على الكذب والحدس والظنون الكاذبة، وفيه أيضاً نسبة الحوادث إلى غير محدثها وموجدها، فيكون معتقد ذلك مستحقاً هذا الوعيد. قال الشارح رحمه الله تعالى: [هذا الحديث رواه أيضاً الطبراني والحاكم وقال صحيح، وأقره الذهبي، وتمامه: (ومن مات وهو يدمن الخمر سقاه من نهر الغوطة، نهر يجري من فروج المومسات، يؤذي أهل النار ريح فروجهن)]. أحوال النار التي أخبر الله جل وعلا بها فوق ما تتصوره عقول الناس، فالنار التي نراها ونشاهدها تحرق كل شيء، تحرق الرطب واليابس، ولكن نار جهنم أخبرنا الله جل وعلا أن فيها شجر الزقوم، ومع أنها متناهية في الحرارة ففيها كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم نهر الغوطة: الذي يجري من فروج الزواني والزانيات في نار جهنم، وهو شيء قبيح جداً يؤذي أهل النار، فهذا الذي يشرب الخمر يُسقى من هذا القبيح المنتن. وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قال: (حق على الله جل وعلا أن يسقيه من طينة الخبال؟ فقيل: وما طينة الخبال؟ قال: عصارة فروج أهل النار)، وكل هذه الأشياء التي وردت أنها تحصل في النار يجب الإيمان بها، وإن كانت على خلاف ما يعهده الإنسان، ثم فيها أمور أخرى: فيها حيات، وفيها عقارب، وفيها كلاب، وفيها أنواع العذاب، ومع ذلك فيها ملائكة يدبرون أمورها، ويعذبون أهلها، ولكنهم خلقوا لهذا فلا تضرهم، والله أخبر أن: {عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، كل هذه الأمور التي يخبر الله جل وعلا بها لا يجوز أن نقيسها على الشيء الذي نفهمه ونعرفه، وهي أمور غيبية تبنى على خبر الله وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا غالب أمور الآخرة، بل كل ما بعد الموت فغالبه أنه لا يخضع للعقل، ومن أخضعه لعقله قد يصبح زنديقاً لعدم إيمانهبالله، واستيعاب علقه له؛ لأن عقل العبد قاصر، والواجب أن يؤمن العبد بكل ما أخبر الله جل وعلا به وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم.

الرد على من يحملون نصوص الوعيد على التكفير

الرد على من يحملون نصوص الوعيد على التكفير قال الشارح رحمه الله: [قوله: (وعن أبي موسى) هو عبد الله بن قيس بن سليم بن حضّار بفتح المهملة وتشديد الضاد، أبو موسى الأشعري، صحابي جليل، مات سنة خمسين. قوله: (ثلاثة لا يدخلون الجنة)، هذا من نصوص الوعيد التي كره السلف تأويلها، وقالوا: أمروها كما جاءت، ومن تأولها فهو على خطر من القول على الله بلا علم]. وهذا القول هو الصحيح، والناس فيها على مذهبين: أحدهما راجح، والآخر باطل قطعاً، والمذهب المختار هو الذي ذكره هنا، أما المذهب الباطل قطعاً فهو مذهب الخوارج، الذين يجعلون هذه النصوص دليلاً على كفر مرتكب الكبيرة، وهذا باطل بلاشك. وهناك مذهب أهل التأويل الذين يقولون: هذا جزاؤه لو جازاه، ولكن الله يخلف الوعيد، وأما الوعد فإنه لا يُخلفه، ويقولون: هذا جزاؤه أيضاً لو استحله، وهذا ليس عليه دليل. والواقع أن الإنسان في هذا القول على خطر عظيم؛ لأنه قد يكون قال على الله ما لم يقل، فالصواب أن يقول الإنسان أمام هذه الأشياء: الله أعلم بمراده، وعلينا أن نؤمن بها ونحذر، ونقول: الله أعلم بمراده. أما مرتكب الكبيرة -على مذهب أهل السنة- إذا لم يستحل الفعل المحرم المجمع على حرمته فهو مسلم، أما إذا استحله فهو بالاتفاق كافر، ومثله من حرم حلالاً معروفاً من الشرع أنه حلال فإنه يكون كافراً، وهذا لا خلاف فيه. أما كون قولنا: القول الصواب في هذه النصوص الوعيدية أن نقول: الله أعلم بمراده فهو لأمرين: الأمر الأول: أنه أسلم، فإن من تأوله على خطر. والأمر الثاني: أنه أدعى للانزجار والانكفاف عن فعل هذه الأمور وهذه المعاصي، وهذا هو الذي أراده الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الأخبار؛ فإنه أراد أن يكون ذلك مانعاً من فعل واقتراف هذه المعاصي، بخلاف التأويل فإنه يقلل من خطرها.

تحريم قطيعة الرحم

تحريم قطيعة الرحم قال الشارح رحمه الله تعالى: [وأحسن ما يقال: إن كل عمل دون الشرك والكفر المخرج من ملة الإسلام فإنه يرجع إلى مشيئة الله، فإن عذبه به فقد استوجب العذاب، وإن غفر له فبفضله وعفوه ورحمته. قوله: (مدمن الخمر)، أي: المداوم على شربها. قوله: (وقاطع الرحم)، يعني: القرابة، كما قال الله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد:22] الآية]. تمام الآية: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:23]، فأخبر سبحانه أن قاطع الرحم ملعون، وقطيعة الرحم: هو عدم صلتها، وصلة الرحم تكون بالشيء الذي يعتاده الناس ويتعارفون عليه ولو بالكلام، ولو بالزيارة، ولا يلزم أن تكون الصلة بالمال، لكن القطيعة هي عدم المواصلة، لا بكلام، ولا بزيارة، ولا بالشيء الذي يتعارف عليه الناس. والرحم هي: كل قرابة من جهة النسب، فكل قرابة من جهة النسب هي رحم، ومعلوم أنها تختلف: فمنها ما هو ألزم من بعض وأوجب من بعض، فتقدم قرابة الأبوة والبنوة، ثم الأخوة، ثم العمومة، وهكذا، فالقرابات تختلف، وحقوقها تختلف باختلاف قربها، وإن كانت بعيدة من جهة النسب فهي أيضاً قرابة ويجب أن توصل كما أمر الله جل وعلا بصلتها. وليست الصلة أنه يذهب كل يوم يزور أرحامه، أو يكلمهم كل يوم، أو كل أسبوع، أوكل شهر، أو كل سنة، بل هذا يرجع إلى العرف، فإذا كان القريب إذا زرته في الشهر مرة أو في السنة يقتنع بهذا ويرضى فإن هذه تكون صلة، والمقصود ألا يكون بين القريب وقريبه نفرة وعداوة يكون مصدرها وسببها الجفاء، فإذا كانت المودة موجودة وإن تباعدت الديار، وإن تباعدت الزيارات، فلا يعد ذلك قطيعة، إنما القطيعة هي الجفاء، وعدم القيام بالشيء الذي يطلب منه، سواء كان زيارة وتكليماً أو ما أشبه ذلك.

السيميا نوع من السحر

السيميا نوع من السحر قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: (ومصدق بالسحر)، أي: مطلقاً، ومنه التنجيم؛ لما تقدم من الحديث، وهذا وجه مطابقة الحديث للترجمة. قال الذهبي في (الكبائر): ويدخل فيها تعلم السيميا وعملها، وعقْد المرء عن زوجته، ومحبة الزوج لامرأته، وبغضها وبغضه، وأشباه ذلك بكلمات مجهولة. قال: وكثير من الكبائر -بل عامتها إلا الأقل- يجهل خلق من الأمة تحريمه، وما بلغهم الزجر فيه ولا الوعيد عليه. ا. هـ]. السيميا: نوع من السحر، كما أن عقد الرجل عن زوجته أو بالعكس عقدها عنه نوع من السحر أيضاً، وقد سبق ذكره، والسحر كله حرام، قليله وكثيره ولكن الذي يفعله ويتعاطاه أعظم ممن يُفعل ويُصنع له.

مسائل باب ما جاء في التنجيم

مسائل باب ما جاء في التنجيم قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل: الأولى: الحكمة في خلق النجوم. الثانية: الرد على من زعم غير ذلك]. الحكمة في خلق النجوم سبق أنها ثلاثة أشياء، كما ذكرها الله جل وعلا في القرآن: زينة للسماء، وعلامات يهتدى بها، ورجوم للشياطين، هذه هي الحكمة. [الثالثة: ذكر الخلاف في تعلم المنازل]. منازل القمر الصواب: أن تعلمها جائز، وهذه المنازل الثمان والعشرون سبق أنها في كل ثلاثة عشر ليلة تغرب منها واحدة وتطلع التي تقابلها، وفي نهاية السنة تنتهي، ثم تبدأ من جديد وهكذا، وهذا تدبير لله جل وعلا، يدل على تمام قدرته، وعلى إتقانه جل وعلا كل شيء، ومثل تعلمها تعلم البروج، وكذلك الكواكب السيارة السبعة وغيرها، فالكواكب مثلاً تختلف باختلاف مسيرها؛ كما تختلف في أبعادها وأجرامها وأفلاكها، فمن نظر فيها للاهتداء والاستدلال على قدرة الله وعظمته جل وعلا فلا بأس بهذا، بل قد يكون ذلك مستحباً، أما إذا نظر فيها ليستدل بها أو بمسيرها أو بطلوعها وأفولها على حدوث شيء أو سعادة شيء أو شقاوته فهذا هو المحظور الذي لا يجوز. [الرابعة: الوعيد فيمن صدق بشيء من السحر، ولو عرف أنه باطل].

شرح فتح المجيد [82]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [82] جاء نبينا صلى الله عليه وسلم بإبطال كل أمر من أمور الجاهلية لا يكون موافقاً للحق، والاستسقاء بالأنواء من عادة أهل الجاهلية ومن دينهم، وقد جعله النبي صلى الله عليه وسلم كفراً؛ لأنهم أضافوا ما نزل بهم من رحمة ورزق من الله إلى طلوع كوكب ما أو غروبه، ومن أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أن هذا الفعل باق في هذه الأمة ومستمر فيها.

تعريف الاستسقاء بالأنواء وحكمه

تعريف الاستسقاء بالأنواء وحكمه قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: ما جاء في الاستسقاء بالأنواء]. الاستسقاء: طلب السقيا، استسقى إذا طلب أن يُسقى، والاستسقاء بالأنواء: أن يضاف نزول المطر إليها، والأنواء هي: منازل القمر، والعرب كانوا يعتنون بها ويعرفونها، وذلك أنه كان غالب مساكنهم الصحراء، وكانوا يعتمدون على المطر لمواشيهم، وهذا هو مصدر رزقهم، ليس عندهم زراعات ولا تجارات ولا صناعات، فلأجل ذلك كانوا يعتنون بالنظر في الأفق في السماء كثيراً؛ يتطلبون نزول المطر الذي فيه رزقهم، ويرون أنه مصدر رزقهم، وإذا تأخر عليهم المطر ساءت أحوالهم؛ فلهذا صاروا ينظرون إلى الكواكب كثيراً، وينظرون متى يطلع الكوكب الفلاني ومتى يغرب، ويسبرون مجيء السحاب ونزول الأمطار، فإذا وافق نزول المطر طلوع هذا الكوكب أو أفوله يضيفون المطر إليه، ويقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا، وقد يتكرر هذا أحياناً، وأحياناً يجعلون هذا الكوكب كوكب سعد، وأحياناً يجعلونه كوكب نحس؛ لأنهم ما رأوا فيه أمطاراً، ولهذا سموا بعضها سعد السعود، وبعضها سعد بلاء وسعد الأخبياء وهكذا، فكل واحد كانوا يسمونه حسب عقيدتهم وحسب نظرهم، وهي عقيدة قاصرة جداً؛ ومبنية على أمور ظاهرة، وليست مهتدية بهداية الله أو بوحيه. والرسول صلى الله عليه وسلم جاء بإبطال كل أمر من أمور الجاهلية لا يكون موافقاً للحق، فالاستسقاء بالأنواء من عادة أهل الجاهلية الكفار، ومن دينهم وشأنهم؛ ولهذا جعله الرسول صلى الله عليه وسلم كفراً، وأخبر أنه يستمر في هذه الأمة ويدوم فيها، كما قال صلى الله عليه وسلم: (أربع من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الطعن في الأنساب، والفخر بالأحساب، والنياحة على الميت، والاستسقاء بالنجوم) فذكر أن الاستسقاء بالأنواء مستمر فيهم. والمقصود: أن الاستسقاء بالأنواء معناه: أنهم أضافوا ما نزل من رحمة ومن رزق من الله لهم إلى طلوع الكوكب أو غروبه. وأما أنهم كانوا يعتقدون أن الكوكب هو الذي ينزل المطر، وهو الذي يخلقه ويوجده، فهذا لا يوجد في اعتقادهم؛ كما ذكر الله جل وعلا ذلك عنهم فقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت:63]؛ فلا يقولون: الكواكب، وإنما يقولون: الله، فهم يقرون بهذا، ولكن يضيفون نزوله إلى الكوكب، ويقولون: هذا الكوكب محمود؛ لأنه في وقته تأتي الأمطار، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذا كفر. كما سيأتي.

تعريف الأنواء

تعريف الأنواء قال الشارح رحمه الله تعالى: [أي: من الوعيد، والمراد: نسبة السقيا ومجيء المطر إلى الأنواء، والأنواء: جمع نوء، وهي منازل القمر]. وسمي النوء لأنه ينوء إذا طلع، يعني: يظهر ويبين، أو ينوء إذا غرب، يعني: يختفي ويذهب، والنوء من الأضداد، مثل: عسعس إذا اختفى، وعسعس إذا بان، وكذلك ناء إذا ظهر وبان، وناء إذا غرب واختفى، فيجوز أن يضاف النوء إلى الغروب، ويجوز أن يضاف إلى الطلوع، وكلها لغة عربية معروفة؛ لأن كلام العرب له أنواع شتى، منها: الأضداد، فنوء هنا تطلق على الضدين: على الطلوع، وعلى الأفول، فالنوء معناه: الفعل الذي يضيفونه إلى الكوكب، سواء كان غروباً أو طلوعاً، والكوكب لا يفعل بنفسه، وإنما هو مدبَّر مسيَّر بأمر الله جل وعلا، جعله الله آية من آياته. قال الشارح رحمه الله: [قال أبو السعادات: وهي ثمان وعشرون منزلة، ينزل القمر كل ليلة منزلة منها، ومنه قول الله تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} [يس:39]، يسقط في الغرب كل ثلاثة عشر ليلة منزلة مع طلوع الفجر، وتطلع أخرى مقابلتها ذلك الوقت من المشرق، فتنقضي جميعها مع انقضاء السنة، وكانت العرب تزعم أن مع سقوط المنزلة وطلوع رقيبها يكون المطر، وينسبونه إليها ويقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا، وإنما سمي نوءاً؛ لأنه إذا سقط الساقط منها ناء الطالع بالمشرق، أي: نهض وطلع].

معنى قوله تعالى: (وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون)

معنى قوله تعالى: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقول الله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة:82]]. هذه الآية جاء تفسيرها مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن الرزق هو المطر، والمعنى: تجعلون شكركم تكذيبكم، يعني: والتكذيب أنكم تضيفون نزوله إلى غير منزله ومسقيه وموليه الذي هو الله، وتقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا، والواجب أن يقول العبد: مطرنا بفضل الله ورحمته؛ فالله هو الذي أمطر، أما الكوكب فإنه لا دخل له في ذلك، فتجعلون نزول الرزق -الذي هو المطر- تكذيباً، وكان الأحرى بكم أن تشكروه، وتكذيبهم هو: نسبتهم المطر إلى النوء هذا قول. القول الثاني في الآية: أي: تجعلون نصيبكم وحظكم من الإيمان بهذا الكتاب أنكم تكذبون به وتردونه، وكلا المعنيين صحيح وحق، ويدخل في الآية الأول والثاني. قال الشارح رحمه الله: [روى الإمام أحمد والترمذي -وحسنه- وابن جرير وابن أبي حاتم والضياء في (المختارة) عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ) يقول: شكركم، (أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) تقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا، بنجم كذا وكذا)، وهذا أولى ما فسرت به الآية. وروي ذلك عن علي، وابن عباس، وقتادة، والضحاك، وعطاء الخرساني وغيرهم]. إذا كان كذلك فيكون هذا من الشرك الأصغر، وهو شرك الألفاظ؛ لأنهم ما كانوا يعتقدون أن الكواكب هي التي تنزل المطر؛ ولكن يضيفون نزوله إلى طلوع الكوكب، يعني: أنه وقت طلوعه حصل لنا المطر الذي أنزله الله، وهذا لا يجوز، ويكون من الشرك الأصغر: شرك الألفاظ، فيجب على العبد أن يجتنبه، وأن يقول: نزل المطر بفضل الله وبرحمته، لا بطلوع الكوكب ولا بغيره، ولهذا اختلف العلماء في مجرد اللفظ، وفي كون الإنسان يقول: إن هذا من السبب أو جزء من السبب أو ما أشبه ذلك، فهل يجوز أو لا يجوز؟ الصواب: أنه لا يجوز؛ لأن كله داخل في ذلك، أما لو قال مثلاً: مطرنا في نوء كذا، فهذا مثل أن يقول: مطرنا في الشهر الفلاني، أو في اليوم الفلاني، يعني: أنه حصل المطر في ذاك الوقت، فهذا ليس داخلاً في ذلك؛ لمجيء كلمة (في) الظرفية أما إذا جاء بالباء السببية، فلا يجوز؛ لأن فيه إضافة إلى غير المسبب الموجد. أما ما سيذكره عن القرطبي رحمه الله: أن من العرب من يعتقد أن الكوكب هو الذي ينزل المطر، وهو الذي يخلقه ويوجده، فهذا غير صحيح، ولا يوجد أحد من خلق الله من يعتقد ذلك، وإنما يجعلون ذلك سبباً أو جزءاً من السبب فقط، ومع ذلك إذا جعله سبباً يكون كفراً أكبراً، بخلاف ما إذا أضافه إضافة لفظية فقط، وعلى ما جرى في الألسن والعادة، فهذا يكون من الشرك الأصغر، وشرك الألفاظ التي يجب أن تجتنب، والرسول صلى الله عليه وسلم حذر من كل لفظ يكون فيه انتهاك لحق الله أو لقدره وعظمته، وحمى الأمة من الوقوع في المحذور، وهذه الحماية هي التي يسميها العلماء حماية جناب التوحيد وسد الذرائع، فسد كل ذريعة توصل إلى الشرك حتى في الألفاظ، وهذا من تمام نصحه صلوات الله وسلامه عليه للأمة. قال الشارح رحمه الله تعالى: [وهو قول جمهور المفسرين، وبه يظهر وجه استدلال المصنف رحمه الله بهذه الآية]. أي: القول الأول: وهو كونهم يجعلون رزقهم أنهم يكذبون بأنهم يضيفون نزول المطر إلى الكواكب، يقول الشارح: هذا هو قول جمهور المفسرين، ولكن القول الثاني صحيح تدل عليه الآية أيضاً، وكلام الله له معانٍ واسعة كثيرة، والرسول صلى الله عليه وسلم حينما يبين ذلك، إنما يكون بحسب حاجة المتكلم أو السامع، وهذا التفسير هو مثل ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم لما سئل عن قوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التوبة:108] أي مسجد هذا يا رسول الله؟! فقال: (هو مسجدي هذا)، مع أن المعروف أن الآية نزلت في مسجد قباء؛ حينما ساق الله قصة مسجد الضرار، ومسجد الضرار بناه المنافقون قرب مسجد قباء؛ يريدون أن يكون محلاً لاجتماعهم ومؤامراتهم على الإسلام والمسلمين، فجعلوه بصفة المسجد، وزعموا أنه يكون لليلة الشاتية، وللإنسان الضعيف، والشيخ الكبير، أو المريض الذي لا يستطيع أن يصل إلى مسجد قباء، هكذا زعموا، فلما سئل صلى الله عليه وسلم عن هذا المسجد نزلت الآية في شأنه وفي شأن أهله، وأمر الله جل وعلا رسوله صلى الله عليه وسلم ألا يقوم فيه أبداً، وقال: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108]، وقد جاء في الصحيح أنه قال لأهل قباء: (إن الله أحسن الثناء عليكم فما هذه الطهارة؟) فأخبروه أنهم إذا قضوا الحاجة غسلوا أدبارهم، أي: استجمروا أتبعوا ذلك بالماء، فقال: (هو ذاكم فعليكموه)، ومع ذلك جاء في صحيح مسلم أنه سئل فقيل له: (أي مسجد هذا الذي أسس على التقوى؟ فقال: هو مسجدي هذا)، أي: إذا كان مسجد قباء أسس على التقوى، فمسجد الرسول صلى الله عليه وسلم من باب أولى أن يكون مؤسساً على التقوى، والقصد من إيراد هذا المثل: أنه إذا ذكر معنى من المعاني للآية، فإنه لا يدل على أن المعنى الثاني باطل أو أنه مردود، والذي ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم في تفسير الآية السابقة واضح وأولى أن تفسر الآية به، إلا أنه لا ينفي أن يكون لها معنىً آخر، وهو أن الكفار جعلوا حظهم من القرآن تكذيبه، وجعلوا حظهم من الإيمان والانتفاع به أنهم ردوه وكذبوا به، وبئس الحظ هذا. قال الشارح رحمه الله تعالى: [قال ابن القيم رحمه الله تعالى: أي: تجعلون حظكم من هذا الرزق الذي به حياتكم: التكذيب به، يعني: القرآن. قال الحسن: تجعلون حظكم ونصيبكم من القرآن أنكم تكذبون، قال: وخسر عبد لا يكون حظه من القرآن إلا التكذيب].

شرح حديث: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية)

شرح حديث: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية) قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة). وقال: (النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب) رواه مسلم]. قوله: (أمر الجاهلية) ذكر الجاهلية هنا ليدلنا على أن هذه الأفعال معيبة، وأنه لا يجوز أن يتحلى الإنسان بشيء منها. والجاهلية: نسبة إلى الجهل، وليست إلى أشخاص معينين أو زمن معين، فكل ما كان مخالفاً للحق مخالفاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فهو جاهلية، سواء كان زمنه قديماً أو جديداً. وقوله: (في أمتي) يعني: في مجموعها، وليس في كل واحد منها، بل يوجد في مجموع الأمة.

الدلائل على أن القرآن كلام الله

الدلائل على أن القرآن كلام الله قال الشارح رحمه الله: [قال ابن القيم رحمه الله: ونظيره {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة:13]، وقوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل:102]. هو إثبات علو الله تعالى على خلقه، فإن النزول والتنزيل الذي تعقله العقول، وتعرفه الفطر هو: وصول الشيء من أعلى إلى أسفل، ولا يرد عليه قوله {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر:6]، لأنا نقول: إن الذي أنزلها فوق سماواته فأنزلها لنا بأمره]. والدليل على أن القرآن نازل من الله جل وعلا من وجهين: أحدهما: كلمة تنزيل، في قوله {تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الواقعة:80]. الثاني: قوله: {مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:61]، فكلمة (من) تدل على أنه منه جل وعلا، وقولاً قاله، وقد جاءت النصوص الكثيرة تدل على هذا، وهذا واضح وجلي، والمسلمون -والحمد لله- كلهم يؤمنون بهذا، ولا يردونه، ولا يكذبون به، وإنما يكذب به من انتكست فطرته، وتغيرت عقيدته بكلام اليونان وبغيره، وبالأمور المستوردة الغريبة عن الإسلام، الذين أنكروا صفات الله جل وعلا، وأنكروا أنه يتكلم ويقول، وهذا أمر واضح البطلان. وقد أراح الله جل وعلا المسلمين -والحمد لله- من شر هؤلاء، ومن سيطرتهم على الإسلام، لأنهم كانوا في وقت من الأوقات مسيطرين على المسلمين، وكان بيدهم القضاء والحكم وغير ذلك، فأراح الله جل وعلا المسلمين منهم، وكاد هذا المذهب الباطل أن ينسى، لولا أن كثيراً ممن يعتنق مذهب الأشاعرة يتبنى هذا القول، ويقول: إن الكلام الذي يضاف إلى الله كلام نفسي، أما كلام ينطق به ويسمع منه فهذا ينكرونه، ومع ذلك فإن هذا القول الذي يقولونه لا تقبله العقول والفطر، بل هو من أبطل الباطل، والأمر في هذا واضح -والحمد لله- ليس فيه خفاء. أما قوله: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر:6]، والمقصود بهذا: الامتنان على العباد، وأن الله منّ عليهم ما أعطاهم من هذه الأنعام التي ينتفعون بها: بركوبها، وبالحرث عليها، وبأكل لحومها، وبغير ذلك من المنافع الكثيرة التي منّ الله جل وعلا بها عليهم، فهو منزل لها عليهم كما ينزل المطر، وليس معنى ذلك أنها نزلت من السماء، بل يجوز أن نقول: إنه النزول من ظهور الفحول في أرحام الإناث، فتنتج وتتناسل وتتكاثر، فتكون نعمة. كما أنه أنزل الحديد وإنزال الحديد قد يكون من الجبال، وقد يكون من أشياء مرتفعة من الأرض أو غير ذلك، وهو منّة من الله جل وعلا، منّ بها علينا، فلا يرد تنزيل القرآن بمثل هذه التي قد يكون فيها شيء من المتشابه، ومعلوم أن أهل الباطل والزيغ يتعلقون بالمتشابه، ويتركون الواضح الجلي البين، وهذه علامة اتباع الهوى. قال الشارح رحمه الله: [قال ابن القيم رحمه الله: وذكر التنزيل مضافاً إلى ربوبيته للعالمين، المستلزمة لملكه لهم، وتصرفه فيهم، وحكمه عليهم، وإحسانه إليهم، وإنعامه عليهم، وأن من هذا شأنه مع الخلق، كيف يليق به مع ربوبيته التامة أن يتركهم سدى، ويدعهم هملاً، ويخلقهم عبثاً، لا يأمرهم ولا ينهاهم، ولا يثيبهم ولا يعاقبهم؟! فمن أقر بأنه رب العالمين، أقر بأن القرآن تنزيله على رسوله، واستدل بكونه رب العالمين على ثبوت رسالة رسوله وصحة ما جاء به، وهذا الاستدلال أقوى وأشرف من الاستدلال بالمعجزات والخوارق، وإن كانت دلالتها أقرب إلى أذهان عموم الناس، وتلك إنما تكون لخواص العقلاء]. يقصد رحمه الله: أن الاستدلال بأسمائه وصفاته أقوى وأظهر من الاستدلال بالمعجزات التي جاءت بها الرسل، وإن كان الاستدلال بالمعجزات أقرب إلى أذهان عامة الناس، ولكن هذه إلى قلوب الخاصة أظهر وأبين، لأنه أمر مرتبط بعضه ببعض. وعلى كلٍّ: فالدلائل على كون الله جل وعلا هو رب العباد وخالقهم، وهو المنعم عليهم، وهو الذي يجب أن يعبدوه، وهو الذي يكون مآلهم إليه، فيجازيهم بأعمالهم: لا حصر لها، فهي كثيرة جداً: في الأنفس، وفي الآفاق، وفي الأمور الخارجة عن العادة، وفي كل شأن من شئون الحياة، إذا فكر الإنسان في ذلك، فالأمر ليس مقصوراً على نوع من الأنواع. قال الشارح رحمه الله: [قوله: {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ} [الواقعة:81]، قال مجاهد: أتريدون أن تمالئوهم فيه وتركنوا إليهم؟]. المقصود بالحديث في هذه الآية: القرآن، أي: أفبهذا القرآن الذي نزل عليكم تداهنون الكفار؟! تمالئونهم وتجارونهم على ما يريدون، وتتركون معاداتهم ومبادأتهم بالعداوة، وإظهار البغضاء والكراهة لهم، فإن هذا هو الذي يجب. قال الشارح رحمه الله: [قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ثم وبخهم على وضعهم الإدهان في غير موضعه، وأنهم يداهنون فيما حقه أن يصدع به ويفرق به، ويعض عليه بالنواجذ، وتثني عليه الخناصر، وتعقد عليه القلوب والأفئدة، ويحارب ويسالم لأجله، ولا يلتوى عنه يمنة ويسرة، ولا يكون للقلب التفات إلى غيره، ولا محاكمة إلا إليه، ولا مخاصمة إلا به، ولا اهتداء في طرق المطالب العالية إلا بنوره، ولا شفاء إلا به، فهو روح الوجود، وحياة العالم، ومدار السعادة، وقائد الفلاح، وطريق النجاة، وسبيل الرشاد، ونور البصائر، فكيف تطلب المداهنة بما هذا شأنه ولم ينزل للمداهنة، وإنما نزل بالحق وللحق؟! والمداهنة إنما تكون في باطل قوي لا يمكن إزالته، أو في حق ضعيف لا تمكن إقامته، فيحتاج المداهن إلى أن يترك بعض الحق ويلتزم بعض الباطل، فأما الحق الذي قام به كل حق فكيف يداهن به؟ وقوله: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة:82]، تقدم الكلام عليها أول الباب والله تعالى أعلم].

مسائل باب: ما جاء في الاستسقاء بالأنواء

مسائل باب: ما جاء في الاستسقاء بالأنواء [فيه مسائل: الأولى: تفسير آية الواقعة. الثانية: ذكر الأربع التي من أمر الجاهلية]. وهي: الطعن في الأنساب، والفخر في الأحساب، والنياحة على الميت، والاستسقاء بالأنواء، هذه الأربع من أمور الجاهلية، وإضافتها للجاهلية كان على سبيل الذم والتحذير منها، فينبغي للإنسان أن يحذر من الوقوع فيها، وإذا وقع فيها فإنه واقع في أمر من أمور الجاهلية التي يعاقب الإنسان على فعلها.

كفر دون كفر

كفر دون كفر [المسألة الثالثة: ذكر الكفر في بعضها]. أي: هو كفر النعمة، وكفر دون كفر، وليس الكفر المخرج من الدين الإسلامي؛ لقوله: (ثلاث في أمتي هم بهن كفر: الطعن في الأنساب، والفخر في الأحساب، والنياحة على الميت). وقوله: (هم بهن كفر) جاءت كلمة الكفر هنا نكرة فيكون المراد به حنيئذ الغير مخرج من الدين الإسلامي، وإنما هو خصلة من خصال الكفر. [المسألة الرابعة: أن من الكفر ما لا يخرج من الملة، المسألة الخامسة: قوله: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بسبب نزول النعمة]. فيكون كافراً كفر النعمة، وليس كافراً الكفر الذي يخرجه من الدين الإسلامي.

إضافة النعمة للمنعم الحقيقي إيمان، وإنكارها كفر

إضافة النعمة للمنعم الحقيقي إيمان، وإنكارها كفر [المسألة السادسة: التفطن للإيمان في هذا الموضع]. يعني في قوله: (مؤمن) حيث جعل إضافة النعمة والإقرار بها إلى الله إيماناً. [المسألة السابعة: التفطن للكفر في هذا الموضع]. يعني: كونه أضاف النعمة إلى غير المنعم بها، فصار ذلك كفراً.

ماذا يعنون بقولهم: مطرنا بنوء كذا وكذا

ماذا يعنون بقولهم: مطرنا بنوء كذا وكذا [المسألة الثامنة: التفطن لقوله: لقد صدق نوء كذا وكذا]. يقصد: قولهم الذي يقولون: صدق نوء كذا وكذا، فإنهم لا يريدون في ذلك أن النوء يخلق المطر ويوجده من العدم، وينعم به على العباد، هذا لا يقوله أحد، وإنما أضافوا نزول المطر إلى طلوعه أو إلى غروبه، فصار هذا كفراً للنعمة التي يجب أن تضاف إلى المنعم، ويشكر عليها. [المسألة التاسعة: إخراج العالم للمتعلم المسألة بالاستفهام عنها لقوله: أتدرون ماذا قال ربكم؟ المسألة العاشرة: وعيد النائحة].

شرح فتح المجيد [83]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [83]

الخلاف في الذين سكتوا من بني إسرائيل عن الإنكار على أصحاب السبت هل هلكوا أو نجوا؟

الخلاف في الذين سكتوا من بني إسرائيل عن الإنكار على أصحاب السبت هل هلكوا أو نجوا؟ Q يقول السائل: فضيلة الشيخ! حفظكم الله، ما هو الراجح من أقوال المفسرين في الصنف الثالث، الذي سكت الله تعالى عنهم في سورة الأعراف؟ وهل هناك حديث صحيح يدل على أنهم يعاقبون؟ A كان ابن عباس رضي الله عنه يظن أنهم هلكوا، ويقول: إن الله جل وعلا ذكر صنفين، فقال في الهالكين: إنه مسخهم قردة، وقال في الذين نهوا عن السوء: إنه نجاهم، وأولئك لما سكت عنهم كانوا مع الهالكين، فقال له مولاه عكرمة: (ليس كذلك، بل الله جل وعلا عاقب الفاعلين، والذين نهوا أثابهم ونوه بأنه نجاهم، والذين سكتوا سكت عنهم، فليسوا هالكين، فكساه بردته لأجل ذلك، أي: أعجبه هذا القول فكساه بردته، وهذا مما يدل على أنه رضي بذلك، وهذا هو الراجح. والله أعلم. وإن كان بعض السلف يقول: إنهم مع الهالكين، ويستدل بذلك على وجوب الإنكار، وأن من لم ينكر فإنه يهلك، ولكن هذا غير صحيح؛ وذلك أن قولهم: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ} [الأعراف:164]، يدل على كراهتم هذا الفعل، ومن كان كذلك فهو ناجٍ.

العذاب لا يعم الأمة جمعاء

العذاب لا يعم الأمة جمعاء Q ذكرتم -بارك الله فيكم- أن الله عز وجل ينزل حجارة من السماء على هذه الأمة، فكيف نجمع بين هذا وبين قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} [الأنعام:65]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بوجه الله) الحديث. A هذا الحديث لا يخالف ما قلت؛ لأنه إذا وقع في طائفة فلا يلزم أن يكون واقعاً في جميع الأمة، بل طائفة من الأمة قد يصيبها ذلك، وقد كان المقصود: أن الشرك وقع في أولئك، وسيقع في هذه الأمة، وفيه الرد على القائلين: بأن هذه الأمة لا يقع فيها شرك.

من شروط الإيمان الكفر بالطاغوت ولو كان حاكما

من شروط الإيمان الكفر بالطاغوت ولو كان حاكماً Q إذا كان الطاغوت يطلق على الحاكم بغير ما أنزل الله، فكيف تكون عبادته؟ وكيف يكون الكفر به؟ A إذا اتخذ قوانين تخالف شرع الله، وعمل بها، واعتاض بها عن شرع الله، فهذه هي عبادته، وليست العبادة فقط ركوعاً وسجوداً. وأما الكفر به فيكون في تركه والابتعاد عنه مع بغضه، والله جل وعلا يقول: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} [البقرة:256]، فقدم الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله، مما يدل على أن هذا شرط في صحة الإيمان.

الكلمات غير العربية في القرآن

الكلمات غير العربية في القرآن Q كلمة (الجبت) ذكرت في القرآن، فهل يعني: أنه يوجد في القرآن كلمات ليست عربية، مع أن الله يقول: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [يوسف:2]؟ A نحن قلنا: إن الصواب أن الكلمة إذا تكلم بها العرب، فإنها تكون عربية وإن كانت في الأصل ليست عربية، وقد أنكر بعض العلماء: أن يكون في القرآن شيء من غير لغة العرب، وبعضهم قال: إن فيه من جميع اللغات، حتى ألف السيوطي رحمه الله مؤلفاً في هذا، وذكر الكلمات التي في القرآن من غير لغة العرب، ولكن لا يوافق على هذا. والصواب: أن العرب إذا تكلموا بكلمة، وعرف ذلك وانتشر، فإنها تكون عربية، وإذا قال لنا قائل: أن هذه الكلمة ليست من لغة العرب، يؤخذ على القبول، فغيره هو يقول: لا، إذاً هذه الكلمة من اللغة.

القرآن كلام الله

القرآن كلام الله Q ما هي عقيدة أهل السنة والجماعة في القرآن، هل هو حادث، بمعنى: أن الله تكلم به بعد أن لم يكن متكلماً به، أم هو أزلي؟ A بل هو جديد، كما قال الله جل وعلا: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ} [الأنبياء:2] فسماه محدثاً، بمعنى: أنه جديد، وهذه هي عقيدة السلف، وذلك أن الله يتكلم إذا شاء أن يتكلم، ولا يجوز أن نقول: القرآن قديم، فإن أول من عرف أنه قال ذلك هو: عبد الله بن سعيد بن كلاب، ولم يكن معروفاً عند السلف ذلك، وليس هذا من عقيدتهم، فعقيدتهم أن الكلام يتعلق بمشيئة الله، وأن هذا الكتاب هو آخر ما أنزله الله جل وعلا، وأنه تكلم به حسب الوقائع التي وقعت.

لا تجوز موالاة الكفار لا ظاهرا ولا باطنا

لا تجوز موالاة الكفار لا ظاهراً ولا باطناً Q فضيلة الشيخ! حفظكم الله، ما مقصود المصنف رحمة الله عليه بقوله: (وفيه معرفة الإيمان بالجبت والطاغوت في هذا الموضع، هل هو اعتقاد قلب، أو هو موافقة أصحابها مع بغضها ومعرفة بطلانها؟) وما حد هذه الموافقة؟ وهل يعذر الإنسان بجهله إذا كان لا يعلم أن هذه الموافقة داخلة في الإيمان بالجبت والطاغوت، خاصة إذا كان لا يعلم أن هذا الذي يظهر له الموافقة يعتبر بالشرع جبتاً أو طاغوتاً، مع علمه أنه من دعاة الضلال والبدع؟ A من الظاهر -والآية واضحة- أن المراد: موافقتهم ظاهراً، مع بغضهم واعتقاد القلب ببطلان ما هم عليه، هذا هو الواقع؛ وإلا فإن اليهود كانوا يبغضون أهل الشرك عبدة الأوثان، وكانوا يعرفون أن ما هم عليه باطل، ومع ذلك يوافقونهم ظاهراً، والقصد: أن الذي يوافق أهل الباطل في الظاهر وإن قال: إن باطنه على خلاف ذلك، لا يقبل منه ذلك، خصوصاً في هذه المسائل التي تعد من أصل الدين. وقد عد العلماء من الردة عن الإسلام موالاة الكفار، مثل أن ينصرهم، وأن ينصح لهم، ويود ما هم عليه، وأن يكون معهم.

النظر إلى اعتقاد القلب

النظر إلى اعتقاد القلب Q كيف لا يعتبر الاعتقاد، مع اعتباره في حديث حاطب بن أبي بلتعة لما قال له عليه الصلاة والسلام: (ما هذا يا حاطب؟! قال: لا تعجل علي يا رسول الله! إني كنت امرأً من قريش ولم أكن من أنفسهم)؟. A هذه القصة ليس فيها مناسبة مع ما سبق، ولا موازنة معه، فإن حاطباً أخبر أن الرسول سيأتي الكفار بجيش لا قبل لهم به، فهل يدل هذا على الموالاة وعلى النصرة؟! و A لا. قال رضي الله عنه: (لقد علمت) أي: تيقنت (أن الله سوف ينصر رسوله) سواء أخبرت أو لم أخبر، كما أنه فعل ذلك لغرض معين، فليس هناك نسبة بين هذا وهذا.

حكم الصلاة في المسجد الذي فيه قبر

حكم الصلاة في المسجد الذي فيه قبر Q فضيلة الشيخ! هناك مسجد أمامه قبر، وفي المسجد كوة تطل على القبر، والمسجد يسمى باسم صاحب القبر، ولكن باب القبر خارج المسجد، فيدخل زائر القبر ويخرج منه دون الدخول في المسجد، والقبر في اتجاه القبلة، فهل تجوز الصلاة في هذا المسجد أم لا؟ وجزاكم الله خيراً. A يقول العلماء: إذا كان القبر خارج المسجد وحائط المسجد دون القبر فالصلاة تصح، أما إذا كان القبر داخل المسجد ولو كان وراء حائط فإن الصلاة لا تصح، ولكن لا يجوز أن تكون القبور قرب المساجد؛ لأن بعض الجهلة يتعلقون بالموتى وإن كانت قبورهم خلف المسجد.

حديث: (لولاك لما خلقت الأفلاك) حديث موضوع

حديث: (لولاك لما خلقت الأفلاك) حديث موضوع Q هذا بيت يقول فيه بعض شعراء الصوفية: ما مد لخير الخلق يداً أحد إلا وبه سَعُد والآخر يقول: لولاك لولاك يا حبيب! لما خلقت الأفلاك هل يجوز هذا أم هو من الشرك؟ A هذا يروون فيه حديثاً موضوعاً: (لولاك لولاك إلى آخره) وهو مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الالتفات في قوله سبحانه: (وتعزروه وتوقروه وتسبحوه)

الالتفات في قوله سبحانه: (وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ) Q كيف التف السياق في قوله تعالى: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفتح:9]، من الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الله عز وجل؟ A ينبغي للقارئ إذا وصل إلى قوله تعالى: (وتعزروه وتوقروه) أن يقف، ثم يقرأ: (وتسبحوه)؛ لأنه معطوف على ما سبق، وهذا يقصد به تسبيح الله جل وعلا.

معنى حديث: (ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة)

معنى حديث: (ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة) Q في الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة)، فهل طرق الصوفية مثل البرهانية وغيرها من هذه الفرق الضالة؟ وما حكم التصوف في هذا الدين؟ A لو عد الإنسان هذه الاشتقاقات التي تحدث في الفرق لربما تبلغ الآلاف، وليس سبعين، ولكن المقصود الفرق الكبيرة التي تتفرع منها فرق أخرى، وقد كتب العلماء في هذه الفرق كتباً، فعلى الإنسان أن يرجع إلى كتب الملل والفرق. مثل (الفِصَل) لـ ابن حزم، ومثل كتاب الأشعري (اختلاف المصلين)، وكذلك (الملل والنحل) للشهرستاني، وكذلك (الفرق بين الفرق) وغيرها من الكتب الكثيرة.

لا حجة في بناء المساجد على القبور بوجود قبر النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد

لا حجة في بناء المساجد على القبور بوجود قبر النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد Q ما هو الرد على من قال: إن الذين يرون بناء المساجد على القبور يستدلون ببناء المسجد على قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ما هو الرد عليهم؟ A هذا البناء لم يقع من الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما وقع من الملوك الذين لا ينظرون إلى الشرع، والذي أدخله في المسجد هو الوليد بن عبد الملك ولم يكن باستشارة العلماء، ولا باستدلالأ ولا بغير ذلك، وكان الأمين على المدينة عمر بن عبد العزيز، وقد تضايق منه من تضايق، ولم يكن هناك أحد من الصحابة، فإن هذه الحادثة وقعت بعد موت جابر بن عبد الله، وهو آخر من مات من الصحابة في المدينة، وإنما كان فيها من التابعين مثل سعيد بن المسيب وأمثاله، وقد أنكروا هذا، ولكن لم يلتفت إليهم. والمقصود أن هذا ليس فيه قدوة، ثم إن قبر الرسول صلى الله عليه وسلم لما أدخل وأحيط بالحوائط قالوا: إن هذه الحوائط تمنع من الاتجاه إليه، ويكتفى بذلك، وليس هو كغيره، ومع ذلك إدخاله ليس شرعياً، ولا يجوز أن يكون فعل الوليد بن عبد الملك قدوة يقتدى به في ذلك، بل نقتدي بقول رسولنا صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو القدوة.

حكم لبس الثياب الخاصة بالكفار

حكم لبس الثياب الخاصة بالكفار Q فضيلة الشيخ! هل اللباس المعروض الآن: كالبنطلون من التشبه بالكفار، أم أنهم يشتركون فيه مع المسلمين؟ A إذا كان الشيء منتشراً وليس خاصاً لقوم فلا يكون في ذلك تشبه، وإنما يكون التشبه فيما إذا كان خاصاً بهم، وفعله الإنسان حباً لهم أو اقتداء بهم، فهذا هو التشبه.

تتابع الصيام ليس شرطا في القضاء

تتابع الصيام ليس شرطاً في القضاء Q فضيلة الشيخ! امرأة وضعت حملها في رمضان، فبقي عليها أيام لم تصمها في رمضان، وتريد الآن القضاء، هل يجب عليها تتابع هذا القضاء؟ A تتابع القضاء ليس واجباً، فلو قضته متفرقاً جاز، وليس في هذا خلاف؛ لأن الله جل وعلا يقول: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184].

المخرج من الفتن

المخرج من الفتن Q ما موقف المسلم من الفتن تجاه نفسه وتجاه مجتمعه؟ A الفتن تختلف، فقد تكون الفتنة فتنة في النفس -نفس الإنسان-، كأن يحدث له فتنة في قلبه، بمعنى: أنه ينصرف عن حب الله وعبادته، ولا يجد لذة العبادة، وقد تكون الفتنة في حب الدنيا، وقد تكون في الأولاد والأهل، وقد تكون غير ذلك، فعلى الإنسان أن يعتصم بالله، ويسأله العافية من الفتن، ويحرص على التمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فقد جاء في الحديث: (أنه ستكون فتن)، فقيل للرسول: (ما العاصم؟ فقال: كتاب الله، فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم)، فالمخرج هو التمسك بكتاب الله وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

وجود الدجال ومكانه

وجود الدجال ومكانه Q هل الدجال موجود الآن كما في حديث الجساسة في صحيح مسلم، أو أنه غير موجود؟ A الله أعلم، أما حديث الجساسة فالظاهر فيه أنه موجود ومربوط في البحر، هذا ظاهره؛ لأنهم رأوه موثقاً وثاقاً عظيماً، وصار يسألهم عن أشياء معينة، فسألهم عن رسول العرب، فقال: أخرج؟ وسألهم عن نخل بيسان، فقالوا له: موجود، فقال: يوشك ألا ينبت، وسألهم عن بحيرة طبرية، فقال: أموجودة؟ قالوا: نعم، قال: يوشك أنها تذهب، فإذا ذهبت أذن لي بالخروج، وكذلك إذا ذهب نخل بيسان، وبيسان أظنها في الأردن، فالمقصود: أن الكلام هذا يدل على أنه الدجال، وفي صحيح مسلم أنه يخرج من خلة بين الشام والعراق، يتبعه من يهود أصبهان سبعون ألفاً، وهذا ليس مستحيلاً، فالعلم عند الله جل وعلا.

معنى حديث: (من أراد أن يبسط له في رزقه) الحديث

معنى حديث: (من أراد أن يبسط له في رزقه) الحديث Q كيف نفسر حديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (من أراد أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أجله فليصل رحمه)، وما صحة الحديث؟ A ليس هذا مخالفاً للقدر؛ لأن صلة الرحم من الأسباب التي كتبت في الأزل، ولابد أن الإنسان يفعل الشيء الذي كتب له، والإنسان عنده عقل، وعنده اختيار، ومقدرة على فعل الخير، فمن أراد الله جل وعلا به خيراً فسييسره، وسيصل رحمه، ولهذا لما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده في الجنة أو في النار، قالوا: ألا نتكل على الكتابة وندع العمل؟ قال: لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له)، يعني: أن الإنسان لا يدخل الجنة بالكتابة، كما أنه لا يدخل النار بها، بل لابد من العمل، والعمل مكتوب ومنه الصلة، وقد كتب أن هذا الإنسان سيصل، وسيكون عمره زائداً بسبب هذه الصلة.

ليس بين الله وبين أحد من خلقه قرابة

ليس بين الله وبين أحد من خلقه قرابة Q كيف نجمع بين ما جاء في الحديث: (أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا غيمت السماء يقبل ويدبر، ويتغير لونه؛ مخافة نزول العذاب)، وحديث: إعطاء الله له ألا يعذب قومه بسنة عامة؟ A الرسول صلى الله عليه وسلم هو أعرف الناس بالله جل وعلا، وليس بين الناس وبين الله جل وعلا صلة تصلهم به يأمنون بها، إلا الطاعة والإيمان ومتابعة أمره، فإذا عصوا أهلكهم الله جل وعلا ولا يبالي بهم. والأمر بيده: يفعل ما يشاء ويحكم بما يريد، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر يدعو ويجتهد ويبالغ في الدعاء، ويقول: (يا رب! إن شئت لا تُعبد بعد اليوم، اللهم إن تهلك هذه العصابة فلا تعبد بعد هذا اليوم)، حتى إن أبا بكر قال: يكفيك مناشدتك ربك، والله! لينصرنك الله جل وعلا، قال هذا ثقة بالله جل وعلا، فالمقصود: أنه لا يوجد أمان تام بأنه لا يحصل العذاب؛ لأن العذاب يحصل بسبب الذنوب، وإذا حصل العذاب فقد يكون مثلما قال الله جل وعلا: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25]، يعني: أنها تعم الظالم وغير الظالم. وفي حديث عائشة: (أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر فيكم الخبث)، وفي الحديث الآخر الذي في صحيح البخاري في ذكر الجيش الذين يخسف بهم، قالت: (كيف يخسف بهم وفيهم من ليس منهم؟! قال: يخسف بهم ثم يبعثون على نياتهم).

أسباب تسلط الأعداء على الأمة الإسلامية

أسباب تسلط الأعداء على الأمة الإسلامية Q إن الله تعالى -كما في الحديث- لا يسلط على الأمة عدواً من غيرهم فيستبيح بيضتهم، إلا بشروط -كما ذكرتم- فما هي هذه الشروط؟ A هذه الشروط مذكورة في الحديث، ومنها: حتى يكون بعضهم يسبي بعضاً، وبعضهم يقتل بعضاً، فإذا وقع فيهم مثل هذا يجوز أن يسلط عليهم عدواً من غيرهم، كما جاء التتار، وجاء غيرهم من الكفرة والصليبيون واستباحوا المسلمين، وقتلوهم قتلاً، وأخذوا كثيراً من أموالهم وبلادهم.

من لم يؤمن بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين فهو كافر

من لم يؤمن بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين فهو كافر Q فرقة القاديانية هل يحتاج في تكفير أفرادها إلى إقامة الحجة عليهم، أم قد كفروا لإنكارهم شيئاً معلوماً من الدين بالضرورة؟ A مثل هؤلاء لا يحتاج أنه يقام عليهم الحجة، فمن لم يصدق بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين فهو كافر بلا تردد.

هدية الكافر

هدية الكافر Q هل تُقبل أموال من نصارى؛ يتبرعون بها لصالح جمعية خيرية، تقوم بالإنفاق على فقراء المسلمين؟ A الهدية من الكافر يجوز قبولها، وقد قبل الرسول صلى الله عليه وسلم هدايا بعض الكفار.

من علامات الساعة الكبرى خروج المهدي

من علامات الساعة الكبرى خروج المهدي Q ذكرت الدجال وعيسى عليه السلام، فماذا عن المهدي المنتظر؟ A المهدي كذلك صحت فيه الأحاديث، ولكن المهدي اختلف الناس فيه، فكل فرقة من فرق الناس لهم مهدي، ولكن المهدي الذي صحت الأحاديث بأنه يخرج في آخر الزمان: اسمه كاسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من أبناء الحسن بن علي، وإذا خرج يكون معه المؤمنون، وحينها يخرج الدجال، ولهذا قال بعض العلماء: إن أول علامات الساعة الكبرى خروج المهدي، وجاء فيه أحاديث عدة، وكلها ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الجمع بين حديث: (لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق) وحديث: (لا يضرهم من خالفهم إلى قيام الساعة)

الجمع بين حديث: (لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق) وحديث: (لا يضرهم من خالفهم إلى قيام الساعة) Q كيف نجمع بين قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق)، وقوله: (لا يضرهم من خالفهم إلى قيام الساعة)؟ A قوله: إلى قيام الساعة، أي: ساعتهم، وهي الريح التي تأتي لقبض كل من في قلبه مثقال ذرة من إيمان، فلا يكون هناك مخالفة بين الحديثين.

معنى حديث: (لعن الله من آوى محدثا)

معنى حديث: (لعن الله من آوى محدثاً) Q ما معنى قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (لعن الله من آوى محدثاً)؟ A ( محدثاً) روي بكسر الدال وروي بفتحها: (لعن الله من آوى محدِثاً)، و (لعن الله من آوى محدَثاً)، وكلاهما صحيح، ومعنى الإيواء: إما الرضا بذلك والعمل به، وإما أنه يحول بينه وبين من يمنعه من الحدث، أو يقيم عليه الحد الذي يلزم في الشرع، فإما أن يحميه، وإما أن ينضم إليه ويكون مثله، فكل هذا إيواء.

معنى قوله: وإن لم يقم لهم دينهم يقم سبعين سنة

معنى قوله: وإن لم يقم لهم دينهم يقم سبعين سنة Q ما المقصود بقوله صلى الله عليه وسلم: (وإن لم يقم لهم دينهم يقم سبعين سنة)، فمتى بدأت هذه السبعون عاماً، ومتى انتهت؟ A بدأت في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وانتهت في زمن عثمان على ما يظهر، ولهذا لما سئل: (أفيما مضى أو فيما بقي؟ قال: فيما مضى).

كل الأعمال والأقوال مكتوبة في اللوح المحفوظ

كل الأعمال والأقوال مكتوبة في اللوح المحفوظ Q قلتم: إن الأعمال والأقوال كلها مكتوبة من قبل أن يخلق الله السماوات والأرض، فما هو توجيه فضيلتكم لما كان يدعو به بعض السلف: (اللهم إن كنت كتبتني شقياً فامحني واكتبني سعيداً)، وجزاكم الله خيراً؟ A لا يمكن أن يعارض هذا بما جاءت به النصوص، فإن كان هذا الدعاء لبعض العلماء فإن الراجح خلافه.

مجيء الموت يوم القيامة بصورة كبش

مجيء الموت يوم القيامة بصورة كبش Q هل ورد أو صح عن النبي عليه الصلاة والسلام أن الموت يمثل يوم القيامة، وأن الله يذبحه بين الجنة والنار ويقول: (يا أهل الجنة! خلود ولا موت، ويا أهل النار! خلود ولا موت)؟ A نعم، لقد جاء في ذلك حديث، ولكن ليس فيه أن الله يذبحه، وإنما فيه أنه يؤتى به على صورة كبش، فيقال لأهل الجنة: (هل تعرفون هذا؟)، وفي رواية: (أنه ينادى: يا أهل الجنة! فينظرون، وينادى: يا أهل النار! فيشرئبون وينظرون، ويقولون: لعل الفرج يأتي، فيقال لهم: أتعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت؛ لأنهم يعرّفون به، فيذبح) وليس فيه أن الله يذبحه، فيقال: (خلود ولا موت)، فيزداد أهل الجنة فرحاً وسروراً، ويزداد أهل النار عذاباً وحزناً وأسفاً.

حكم قول: (تبارك من كذا، أو تبارك في كذا)

حكم قول: (تبارك من كذا، أو تبارك في كذا) Q إذا أتى شخص على طعام فإنا نقول له: تعال تبارك من الأكل، وقصدنا: خذ من بركة الطعام، فهل في ذلك شيء؟ A لا يجوز أن يقال: تبارك في كذا، وما يدريه أن هذا طعام فيه البركة، فالواجب أن تجتنب الألفاظ التي تختص بالله جل وعلا، فلا يجوز أن يقال: تعال تبارك بساعة، أو تبارك بفلان، أو تبارك بهذا المكان، وكل هذا يقع من بعض الناس، ولكن هذا لا يجوز؛ لأن هذه اللفظة خاصة بالله جل وعلا، ولا يجوز إطلاقها على مخلوق.

سبب تقديم البخاري كتاب (بدء الوحي) على كتاب (الإيمان)

سبب تقديم البخاري كتاب (بدء الوحي) على كتاب (الإيمان) Q هل بين الإيمان والتوحيد عموم وخصوص، علماً بأن الإمام البخاري رحمة الله عليه في صحيحه جعل كتاب الإيمان بعد كتاب بدء الوحي، وفي آخر صحيحه أتى بكتاب التوحيد؟ والمقصود: أن تشرحوا لنا -بارك الله فيكم- الارتباط بين الإيمان والتوحيد؟ A أولاً: البخاري رحمه الله من أفقه الناس، وهذا الترتيب الذي رتب به صحيحه هو الترتيب الذي ينبغي أن يكون؛ لأن الإيمان والتوحيد لا يكون إلا بالوحي، فهو بدأ بالوحي أولاً ثم بالعلم؛ لأن العلم لابد منه، وأتى بالإيمان بعد ذلك؛ لأن الإيمان يكون بالوحي. وأما كونه أخر كتاب التوحيد إلى آخر الصحيح فهو أراد شيئاً آخر، وهو: أن الرسول صلى الله عليه وسلم بين كل ما يلزم الناس في دينهم، وفي ذلك يرد على أهل البدع المخالفين، من مرجئة ومعتزلة وجهمية وغيرهم، فهو قصد هذا، ولهذا ختم كتابه بحديث: (كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان)، وإذا تأمل الإنسان ذلك علم وعرف فقه هذا الرجل رحمه الله، ورسوخه فيه. وهناك ارتباط بين الإيمان والتوحيد، فلا يوجد توحيد بلا إيمان، ويجب أن يكون مقيداً بالكتاب والسنة، فالتوحيد أخذاً من أن العبادة تكون واحدة لواحد، كما قال ابن القيم: كن واحداً لواحد في واحد أعني: طريق الحق والإيمان (كن واحداً) يعني: أنت واحد، (لواحد) يعني: اجعل عبادتك وأفعالك لله، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162]، (في واحد) يعني: في طريق واحد الذي هو طريق الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال: (أعني: طريق الحق والإيمان) فسواء قلت: إيمان أو توحيد فكله سواء، إلا أن التوحيد أخص منه في المعنى.

معنى أن الله زوى لنبيه المشارف والمغارب

معنى أن الله زوى لنبيه المشارف والمغارب Q زوى الله لنبيه صلى الله عليه وسلم المشارق والمغارب بخلاف الجنوب والشمال، فهل معنى ذلك: أن الإسلام لا يصل إلى الشمال والجنوب؟ A لا، ومعنى ذلك أن ملك أمته لا يتسع حتى يشمل الشمال والجنوب، وليس معناه: أن الإسلام لا يتعدى الشمال والجنوب، فهذا لا يفهم منه.

سبب خذلان العبد

سبب خذلان العبد Q هل لحصول خذلان الإنسان بعد كونه على الهدى سبب من الإنسان نفسه، أو أنه محض الإرادة الكونية والإلهية؟ A بلا شك أنه بسبب الإنسان، فالإنسان قد يصدر منه كبر وقد يصدر منه عجب، وقد يصدر منه أمراض أخرى، تكون سبب شقائه، مع العلم أن الله جل وعلا هو الذي خلق الأسباب والمسببات وقدرها، ولابد من وقوعها، إلا أن للإنسان في كل ما يفعله إرادة يحاسب عليها، وما يصيبه بعد ذلك فهو من جراء فعله. فكل مصيبة تصيبه أو عذاب ينزل به فهو يستحقه؛ لأنه مذنب ومستحق لذلك، كما قال الله جل وعلا: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]، ثم ليعلم الإنسان أن التوحيد فضل من الله، والإنسان لا يستحقه، فإذا تفضل الله جل وعلا على عبده بأن وفقه وحبب إليه الإيمان وزينه في قلبه، وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان فإن هذا فضل الله، ولا يستحقه الإنسان لمجرد كونه إنساناً، ولكن الله منَّ عليه وتفضل به ابتداء، فعليه أن يحمد الله ويشكره على ذلك، وكلما تفضل الله عليه بشيء يزداد حباً لله، وشكراً له، وتقرباً إليه. أما إذا منع ذلك الخير فهو لم يظلمه؛ لأنه فضله يؤتيه من يشاء ويمنعه عمن يشاء، ولهذا جاء في القصة التي وقعت بين أبي إسحاق الإسفرائيني والقاضي عبد الجبار المعتزلي في مجلس كبير فيه العلماء والأدباء والأمراء، وكان القاضي عبد الجبار المعتزلي يتزعم مذهب القدرية الذين يرون أن الإنسان يخلق أفعاله، وأن الله لا يخلق أفعال الناس، وأنه لا يخلق المعاصي، فدخل أبو إسحاق الإسفرائيني، فقام عبد الجبار أمام هؤلاء الكبراء وقال: سبحان من تنزه عن الفحشاء! وأبو إسحاق فهم مقصوده، فقال مجيباً له على الفور: سبحان من لا يكون في ملكه إلا ما يشاء، أراد المعتزلي: أنكم تقولون: إن الله موصوف بالفحشاء؛ لأنه يخلق الشر، ويخلق الفسق والكفر الذي يتصف به الإنسان، هذه فحشاء عنده، فقال أبو إسحاق: سبحان من لا يكون في ملكه إلا ما يشاء، أي: أنكم تقولون: إن الناس يخلقون مع الله، فهل يكون في ملكه شيء لا يشاؤه؟! فقال له المعتزلي: أيريد ربنا أن يعصى؟ فقال له أبو إسحاق: أيعصى ربنا قهراً؟ أيعصى وهو لا يريد؟ فقال له المعتزلي: أرأيت إن حكم عليّ بالردى أحسن إليّ أم أساء؟ قال: إن كان منعك حقك فقد أساء، وإن كان منعك فضله فهو يؤتي فضله من يشاء، فقال الحاضرون: والله! ليس عن هذا جواب، فكأنما ألقم هذا المبتدع حجراً. المقصود: أن المنن والإحسان والإيمان والطاعات كل هذه فضل من الله، يتفضل بها على من يشاء من الناس، أما إذا منعه ذلك، ووكله إلى نفسه، فيعاقب على فعله.

كل مخلوق ميسر لما خلق له

كل مخلوق ميسر لما خلق له Q ما معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)، هل سبق في علم أنه غير صادق في إيمانه وعمله أم لا؟ A الله جل وعلا علم أن هذا المخلوق سيوجد في وقت كذا، وأنه سيعمل كذا وكذا، وأنه سيموت على كذا وكذا، فكتب الله جل وعلا ذلك، وقد شاءه قبل ذلك، ولكن مثلما قال صلى الله عليه وسلم: (فيسبق عليه الكتاب فيعمل)، فلابد من العمل، ولا يؤاخذ أحد بمجرد الكتابة ومجرد العلم السابق لله، لقوله: (فيعمل). ثم إنه قال عليه الصلاة والسلام: (كل مخلوق ميسر لما خلق له)، فأهل السعادة ييسرون لعمل أهل السعادة، وأهل الشقاء ييسرون لعمل أهل الشقاء، والأمور مخبوءة ومغيبة لا يدري الإنسان عن شيء من ذلك، وقد أمر بفعل الخير، والاجتهاد والحرص عليه، وأمر بفعل الأسباب، فعليه أن يجتهد في فعل السبب، ويحرص على ما ينفعه، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (احرص على ما ينفعك ولا تعجزن، فإن أصابك شيء -يعني: على خلاف ما تريد- فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا، فإن لو تفتح عمل الشيطان، ولكن قل: قدر الله، وما شاء فعل)، فيجب على العبد أن يؤمن بأن الله علم الأشياء وقدرها وكتبها، وأن كل شيء يقع بمشيئته، وأنه هو الخالق وحده جل وعلا وما سواه مخلوق.

سب الله أو دينه أو رسوله كفر مخرج من الملة

سب الله أو دينه أو رسوله كفر مخرج من الملة Q هل سب الدين يخرج من الملة الإسلامية؟ A نعم، سب الدين أو سب الله أو سب الرسول كفر بالله جل وعلا، وكذلك الاستهزاء بالله أو بكتابه أو برسوله أو بالمؤمنين.

الأولى لمن أكره على فاحشة ألا يفعلها

الأولى لمن أكره على فاحشة ألا يفعلها Q رجل دعته امرأة إلى نفسها فاستعصم، فهددته إن لم يفعل فسوف تخبر زوجها أو وليها بأن فلاناً راودها عن نفسها فإن فعلت وأخبرت زوجها: قتله زوجها أو وليها، وإن وقع عليها فقد عصى رب العرش، فماذا يصنع؟ A عليه أن يتقي الله ولا يفعل، وسوف يجعل الله جل وعلا له مخرجاً، وأما قول المرأة فينبغي أن يعرف صدقها فيه، فليس بمجرد أن تقول المرأة: إنه صنع كذا، أنه يحكم بقولها، بل يجب أن يثبت الأمر أولاً، والمقصود: أن الإنسان إذا اتقى الله جل وعلا جعل له مخرجاً، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق:2] في أي شيء كان، فإذا كنت مع الله كان الله معك.

قد يعفو ولي المسلمين عن القاتل لمصلحة يراها

قد يعفو ولي المسلمين عن القاتل لمصلحة يراها Q لماذا لم يقتل النبي صلى الله عليه وسلم المرأة التي قتلت الصحابي، أعني: بسحرها؟ A نقول: إن هذا لشيء يتعلق بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وله أن يعفو عن ذلك، فهو صلوات الله وسلامه عليه ولي المؤمنين. Q هذه المرأة التي في القصة، إن تابت وأسلمت هل يقبل إسلامها وتوبتها أم لا؟ A الصحابة توقفوا في أمرها، أفتريدنا أن نفتيها؟!

معنى قوله تعالى: (ولا يفلح الساحر حيث أتى)

معنى قوله تعالى: (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى) Q يا فضيلة الشيخ! ما هو ردكم على من استدل بقوله تعالى: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:69]، على أنه ليس للسحر حقيقة بل هو خيال؟ A ليس معنى قوله تعالى: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:69] أنه ليس للسحر حقيقة، بل معناه: أنه لا يحصل له الفلاح -والفلاح هو: الظفر- لأنه في حزب الشيطان حزب الباطل، والشيطان كيده باطل وضعيف، والباطل زاهق إذا جاءه الحق.

تأثير السحر والساحر في المسحور

تأثير السحر والساحر في المسحور Q كيف التوفيق بين قوله تعالى: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:69]، وبين ما جاء في الحديث: أن الساحر قد أثر في النبي صلى الله عليه وسلم بسحره؟ A السحر غير الساحر، أما الساحر فلا يفلح، وأما السحر -الذي هو فعل الساحر- فيؤثر في الأبدان، وقد يقتل، وكما قال الله جل وعلا: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة:102]، فهو لا يصنع شيئاً، إلا شيئاً أراده الله وقضاه، وعمله ذلك معصية بل كفر بالله جل وعلا، والمقصود: أن الساحر نفسه لا يقع في فلاح؛ لأنه أطاع الشيطان واتبع أمره، ومن كان من حزب الشيطان فهو خاسر في الدنيا والآخرة.

معنى حديث: (لا يدخل الجنة مصدق بالسحر)

معنى حديث: (لا يدخل الجنة مصدق بالسحر) Q جاء في الحديث: (لا يدخل الجنة مصدق بالسحر)، بين لنا معنى: مصدق بالسحر؟ A ينبغي -أولاً- البحث في صحة هذا الحديث، فإذا ثبتت صحته فالمصدق بالسحر معناه: الذي يؤمن به ويفعله، فإذا آمن به وفعله فهو شريك للساحر.

حكم الذهاب إلى الكهان للسؤال عن المفقود

حكم الذهاب إلى الكهان للسؤال عن المفقود Q ما حكم من يذهب إلى السحرة ويطلب منهم أن يدلوه على شيء مفقود؟ A هذا هو الذي جاء فيه الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من جاء كاهناً فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)، فلا يجوز الذهاب إلى الكاهن، والكاهن أقل ضرراً من الساحر.

إقامة الحدود من خصوصيات ولي الأمر

إقامة الحدود من خصوصيات ولي الأمر Q من الذي يقتل الساحر؟ هل هو الأمير، أم هذا موكل إلى أي أحد كان؟ A لا يجوز أن يترك لأي أحد كان، بل الذي يقتله هو ولي الأمر، أما لو وكلت الأمور إلى أي أحد، لصارت فوضى، ولكان كل واحد يذهب ويقتل من شاء، ويدعي أنه ساحر، أو قاتل ونحو ذلك، وإنما القصاص والأحكام ينفذها ولي الأمر.

الجمع بين قوله تعالى: (لا يعصون الله ما أمرهم) وبين قوله سبحانه: (يعلمون الناس السحر)

الجمع بين قوله تعالى: (لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ) وبين قوله سبحانه: (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) Q كيف نوفق بين قوله تعالى في الملائكة: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} [التحريم:6]، وبين أن الملكين {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة:102] والكفر؟ A قصة الملكين أنكرها بعض العلماء، وقال: هذه القصة تحتاج إلى أن تكون ثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ويمكن أن تكون مأخوذة عن علماء أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وعلماء الكتاب يذكرون الشيء الذي قد يكون واقعاً والشيء الذي لا يكون واقعاً، فلا نصدقهم ولا نكذبهم، إلا فيما كذبهم كتابنا أو رسولنا أو صدقهم، فالذي صدقهم فيه نصدقهم فيه، والذي كذبهم فيه نكذبهم فيه، والشيء المسكوت عنه نسكت عنه، ونقول: الله أعلم، يجوز أن يكون صحيحاً ويجوز ألا يكون صحيحاً، ونقول: آمنا بما أنزل الله من كتاب.

لا يلزم في الرقية وضع اليد على المرقي

لا يلزم في الرقية وضع اليد على المرقي Q عند الرقية هل يلزم أن يضع الراقي يده على الرأس أو الجسم؟ A ليس بلازم، فإنه لم يثبت في قصة لديغ الحي أن أبا سعيد وضع يده على الذي لدغته الحية، وإنما أقبل يقرأ عليه الفاتحة فقط، فقرأها عليه، فبرأ كأنما نشط من عقال، يعني: كأن رجله كانت محزومة بحبل، ففك الحبل، فأصبح يمشي ليس فيه أي داء.

القذف يكون بالزنا ويكون باللواط

القذف يكون بالزنا ويكون باللواط Q قال الشارح في شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) المراد: الحرائر العفيفات، والمراد: رميهن بزنا أو لواط، هل النساء فيهن لواط، أم أنه يشير بهذا إلى قذف الرجال، مع أنه لم يرد في الحديث؟ A المقصود بالقذف: القذف بالزنا أو باللواط -والزنا يكون في الفرج ويكون في الدبر- ثم يكون هذا في النساء وفي الرجال، فالقذف ليس المقصود به فقط المرأة، بل حتى الرجال، فإذا قذف رجل رجلاً بأنه زانٍ -سواء كان قصده أنه فعل في امرأة أو في صبي أو في غير ذلك- فهو قاذف، وداخل في هذا الوعيد.

المزح في الحرمات محرم

المزح في الحرمات محرم Q هل يدخل في القذف ما لو كان الإنسان مازحاً؟ A هذه الأمور لا يجوز فيها المزح، بل المزح يجب أن يكون في الشيء الذي يكون مباحاً، أما الحرمات فليس فيها مزح.

توبة القاتل

توبة القاتل Q هل يغفر للقاتل إذا أخذ جزاءه في الدنيا؟ A قاتل النفس يلزمه ثلاثة حقوق: حق للمقتول، وحق لله، وحق لأولياء المقتول، فحق أولياء المقتول يسقط بالقصاص أو بدفع الدية، وحق الله يسقط بالتوبة، ويبقى حق المقتول لابد أن يؤدى إليه ولا يضيع حقه. ومن هنا قيل: إنه لا توبة للقاتل، والسبب: هو في كيف يرضي المقتول؟ ولكن إذا علم الله جل وعلا صدق توبة عبده، فإن الله يرضي المقتول عنه، ويرضيه عنه بما يشاء.

السحر له حقيقة وتأثير

السحر له حقيقة وتأثير Q يقول بعض الناس: إن السحر خداع للحواس، وليس له أي حقيقة ولا تأثير، وعندما ذكر له أن النبي صلى الله عليه وسلم سُحِر، قال: هذا الحديث ضعيف، ولو صح هذا الحديث تكون حواس النبي قد خدعت! فما ردّكم؟ A هذا جهل؛ بل الخداع هو نوع من أنواع السحر وليس كل السحر، والسحر أنواع ثمانية، أحدها: الخداع، وهذا الذي ذكر في قوله تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66]، وقد سبق الكلام على ذلك، وأما تكذيب الحديث فهذا لا يجوز، فالحديث ثابت في الصحيحين، والرسول صلى الله عليه وسلم أثر عليه السحر، وصار -كما قالت عائشة - يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولم يفعله، وهذا أشد أنواع السحر.

السحر لا ينفك عن الشرك

السحر لا ينفك عن الشرك Q ما وجه الدلالة في أن السحر كفر من حديث أبي هريرة: (اجتنبوا السبع الموبقات؟)؟ A وجه الدلالة: أن السحر لا ينفك عن الشرك، فحديث أبي هريرة فيه أنه موبق، والموبق مغدق، وكذلك -من أوجه الدلالة- قرنه بالشرك.

دخول الجنة هو بسبب العمل وليس عوضا للعمل

دخول الجنة هو بسبب العمل وليس عوضاً للعمل Q كيف يجمع بين قول الله تعالى: {تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:43]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل أحد الجنة بعمله، قيل: ولا أنت يا رسول الله؟) إلى آخر الحديث؟ A ليس هناك -في الواقع- معارضة؛ لأن الجنة لا تكون عوضاً للعمل، ولكن العمل سبب لدخول الجنة، فقوله: (بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) الباء هنا: سببية وليست عوضية، ليست مثلما تقول: الكتاب بعشرة دراهم، أما دخول الجنة فهو برحمة الله وفضله وإحسانه، وهذا معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله)، يعني: لا يكون العمل عوضاً عن الجنة، وإنما هو من باب السبب فقط.

من صمم على فعل المعصية في الحرم فهو داخل في قوله تعالى: (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم)

من صمم على فعل المعصية في الحرم فهو داخل في قوله تعالى: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ) Q هل مجرد التفكير بالمعصية في الحرم معصية؟ A أما قول الله جل وعلا: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25]، فإنه يشمل من أراد معصية ولو لم يفعلها، ولكن الإرادة هي: العزم المصمم، فإذا عزم على الشيء وصمم على فعله فقد دخل في قوله: ((ومن يرد))، أما مجرد الفكرة التي تزول وتنتهي بدفعها فهذه ينبغي ألا تكون داخلة في ذلك، ولا تضر، فهناك فرق بين الفكرة والعزيمة.

الحسد ذنب من الذنوب ولو لم يظهره صاحبه

الحسد ذنب من الذنوب ولو لم يظهره صاحبه Q يجد الإنسان الحقد والحسد في قلبه لمن يحسده عدة مرات، فهل في ذلك حرج؟ وما هو العلاج لذلك الأمر؟ A بلا شك أن فيه حرج، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، فإذا وجد في قلبه خلاف ما في هذا الحديث فهو حرج وإثم، وأما العلاج: فبمحاولة إزالته ودفعه، ويود لأخيه ما يود لنفسه، ويريد له الخير دائماً، ويسعى فيه.

الكبائر تتفاوت

الكبائر تتفاوت Q عطف النبي صلى الله عليه وسلم القتل والربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات على الشرك والسحر، فهل هذه المذكورات تعتبر من الشرك، أم هي بمنزلته في الإثم، أم هي في مرتبته في عدم الغفران؟ A لا هذا ولا هذا، وإنما جميعها موبقة، لكن مع التفاوت، ولهذا يقول العلماء: الذنوب تتفاوت، فمنها أمور كبار وأكبر، والشرك هو أكبر الجميع وأعظمها، ولهذا بدأ به صلى الله عليه وسلم.

حكم أخذ الفوائد الربوية

حكم أخذ الفوائد الربوية Q أنا أعمل في شركة، وهذه الشركة تحجز المرتب إلى يوم عشرين من الشهر القادم في البنك؛ وذلك للفائدة، وبعد ذلك تسقط المرتبات لفوائدها الربوية، فما حكم ما أتقضاه منها؟ A الربا حرام، ولا يجوز للشركة أن تعمل هذه الطريقة، وتؤكِّل عمالها رباً، وإذا علم العامل أن ذلك رباً فلا يجوز أن يأخذه، وإذا لم يعلم فالإثم على الشركة.

كيفية الاستفادة من المسائل الملحقة بآخر الأبواب في كتاب التوحيد

كيفية الاستفادة من المسائل الملحقة بآخر الأبواب في كتاب التوحيد Q لا شك في وجود فائدة من ذكر صاحب المتن لمسائل في آخر الباب، فما طريقة الاستفادة منها؟ A الاستفادة منها: أن تفهم مراد المؤلف رحمه الله؛ لأن هذا هو فقه الباب، اختصره بالمسائل، وإذا ذكر في المسائل شيئاً لم تفهمه فعد إلى ما ذكره في الأصل، حتى يتبين لك، فالماتن أراد أن يسهل الباب على الطالب بهذه المسائل ويقربه إلى الفهم.

يترك الساحر إذا تاب قبل أن يرفع إلى الحاكم

يترك الساحر إذا تاب قبل أن يرفع إلى الحاكم Q ما الحكم لو تاب الساحر قبل أن يصل إلى يد الحاكم؟ A إذا تاب قبل ذلك وظهر صدق توبته فيترك.

فعل الساحر للسحر بينة على سحره

فعل الساحر للسحر بينة على سحره Q كيف تقام البينة على أن هذا ساحر أو لا؟ A بفعله السحر، فإذا ثبت فعله السحر فيكفي، وهذه هي البينة.

من سب الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كافر

من سب الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كافر Q هل كل من سب النبي صلى الله عليه وسلم يعد كافراً عيناً سواء كان عن غضب أو غير ذلك؟ A كل من سب النبي صلى الله عليه وسلم يجب أن يقتل -سواء قال: أنا غضبان، أو أنا ما قصدت، أو لم يقل شيئاً من ذلك، وتوبته لا تقبل، هذا في الظاهر، أما في الباطن فأمره إلى الله يحكم به يوم القيامة.

من قام بالحق فهو أمة ولو كان وحده

من قام بالحق فهو أمة ولو كان وحده Q ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يضرب ضربة واحدة فيكون أمة واحدة)؟ A يقول العلماء معناه: أن الذي يقوم بإنكار المنكر وإقامة الحد فإنه يبعث أمة واحدة؛ لأنه قام بأمر لم يقم به غيره في ذلك الموقف. فالإنسان الذي يأتي بالحق ويتخلف الناس عنه يعتبر وحده أمة، كما أخبر جل وعلا عن إبراهيم أنه كان أمة؛ لأنه كان في ذلك الوقت وحده على الحق.

حقوق الناس لابد من المؤاخذة بها

حقوق الناس لابد من المؤاخذة بها Q هل الزاني وآكل الربا وآكل مال اليتيم تترتب عليهم حقوق في الآخرة ولو تابوا مثل القاتل؟ A نعم، تترتب عليهم حقوق الناس، ولكن الزاني يكون عليه حق للزوج، وحق للمرأة إذا كانت كارهة، وحق لأهلها، وقد جاء أن الذي يزني بامرأة الغازي في سبيل الله، يوقف له الغازي يوم القيامة، ويقال: خذ ما شئت من حسناته، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما رأيكم هل يترك له شيء؟!)، يعني: أنه لا يترك له ولا حسنة واحدة، بل يأخذ كل حسناته؛ لأنه انتهك حرمة أهله، وخانه في ذلك، وهناك حقوق تتعلق بالغير كثيرة.

قتل الساحر لا يكون إلا إلى ولي الأمر

قتل الساحر لا يكون إلا إلى ولي الأمر Q يقول أهل العلم رحمهم الله: إن قتل الساحر لا يكون إلا لولي الأمر وإلا لحصل الهرج بين الأمة، فكيف نوجه قتل حفصة للمرأة، وقتل جندب للساحر؟ وجزاكم الله خيراً. A هذا ليس في الساحر فقط، بل هذا في جميع الحدود، فالحدود لا يقيمها إلا ولي الأمر، ولا يجوز للناس أن يقيموها، وأما جندب فإن الأمير الذي في وقته كان قد عطل الحد، فخاف جندب أن يترك إقامة الحد فقام به، ولهذا جاء أنه يبعث وحده من أجل ذلك، أما حفصة: فالساحرة كانت مملوكة لها، والمملوك يقيم عليه الحد وليه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد، ثم إن زنت فليجلدها الحد، ثم إن زنت فليبعها ولو بحبل من شعر)، فالمملوك سيده هو الذي يقيم عليه الحد.

سبب فتوى ابن عباس في عدم توبة القاتل

سبب فتوى ابن عباس في عدم توبة القاتل Q هل سبب فتوى ابن عباس رضي الله عنهما بأن القاتل المتعمد ليس له توبة: هو من أجل أنه رأى رجلاً يريد أن يقتل رجلاً آخر؟ A ليس معنى ذلك: أن ابن عباس رجع إلى قول الجمهور، ولكن السبب هو الرد على قول من قال: إن له لا توبة، وقد سبق أن شرحنا هذا.

معنى الطاغوت

معنى الطاغوت Q هل كلمة طاغية أو طاغوت لا تطلق إلا على الكافر؟ A لا، بل تطلق على كل ما طغى وزاد عن حده، كما قال تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة:11]، فكل شيء يزيد عن حده يسمي طاغوتاً، ولهذا عرفه ابن القيم رحمه الله بقوله: (الطاغوت هو: كلما تجاوز به العبد حده: من متبوع أو معبود أو مطاع) فقوله: (كل ما تجاوز به العبد) يعني: حد ذلك الشيء المتجاوز به، ورفعه عن الحد الذي حده له الشرع، فالعبد حده أن يكون عبداً ولا يكون معبوداً، فإذا رفعه إنسان إلى أن يكون معبوداً فقد صار طاغوتاً عند الذي فعل هذا الشيء، فإذا كان المعبود راضياً بذلك فهو في نفسه أيضاً طاغوت، بل ومن رؤساء الطواغيت، والمقصود أن هذا التعريف مأخوذ من اللغة.

توجيه ابن عباس لآية النساء

توجيه ابن عباس لآية النساء Q قال ابن عباس: إنه لا توبة لمن قتل مؤمناً متعمداً، فما توجيهه رضي الله عنه لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]؟ A توجيهه: أن الآية التي في قتل النفس هي آخر ما نزل، ولم ينزل شيء بعدها ينسخها -بمعنى: يخصصها، فقصده بالنسخ هنا التخصيص- هذا هو توجيهه.

ليس كل دجل سحرا

ليس كل دجل سحراً Q الذي يضع على جسمه بعض الدهون أو قشوراً معينة، ثم يدخل النار فلا يصيبه شيء: هل من يفعل هذه الأشياء يعتبر ساحراً؟ A هذا دجل وحيل وشعوذة، وليس هذا من السحر، وكل من يفعله يعد من الدجالين، وهو محرم من المحرمات.

أنواع السحر

أنواع السحر Q يقول بعض أهل العلم: إن السحر نوعان فقط، أحدهما: سحر حقيقي، وهو ما سحر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، والثاني: تخييلي، وهو كسحر سحرة فرعون. فما تقول في ذلك؟ A السحر أنواع شتى وليس نوعين، بل أكثر من نوعين، وقد أوصلها الرازي رحمه الله إلى ثمانية أنواع، ولكن بعضها -مثلما قال-: ليست سحراً حقيقياً؛ بل هي بحيل وأمور قد تدرك، وأما ثلاثة أنواع منها أو أربعة فهي بواسطة الشيطان، أي: سحر فيه عبادة للشيطان.

الجبت رنة الشيطان

الجبت رنة الشيطان Q قال بعض أهل العلم: إن تفسير الحسن للجبت بأنه: رنة الشيطان، مصحف لما في مسند الإمام أحمد رحمه الله أنه قال: قال الحسن: إنه الشيطان؟ A ( إنه الشيطان) هذا هو المصحف، وقد سبق أن قول عمر رضي الله عنه: إن الجبت: السحر؛ لأن التصحيف لا يكون إلا من شيء ثابت إلى شيء مصحف.

الاستدلال بالنجوم على الحوادث الأرضية

الاستدلال بالنجوم على الحوادث الأرضية Q ذكرتم أن الاستدلال بالنجوم من الشرك، في حين أنه يستدل بها على حوادث الأرض، فما رأيكم؟ A الاستدلال بالنجوم من السحر، ويكون شركاً إذا اعتقد الإنسان به، كأن يعتقد أن اقتران هذا النجم أو طلوعه يدل بذاته على حادث يحدث في الأرض، أو يدل على المطر، أو يدل على الريح، أو يدل على أن هذا الإنسان يحصل له كذا، أو أنه يحدث أمراضاً، أو يحدث حوادث في الأرض: من تغير حكومة وإتيان حكومة أخرى، وما أشبه ذلك، مما يقوله المنجمون.

علم الفلك لا يدخل في التنجيم

علم الفلك لا يدخل في التنجيم Q هل علم الفلك الذي يدرس الآن بذكر الأحوال الجوية التي تقع في الغد يدخل في التنجيم؟ A هذا من العلم الذي يقرأ ويدرس، وقد فصلنا وذكرنا أنه لا يدخل في ذلك.

حكم الذهاب إلى السحرة والدجالين والموقف ممن يذهب إليهم

حكم الذهاب إلى السحرة والدجالين والموقف ممن يذهب إليهم Q أرجو أن تعرفونا حكم الله في الزوجة التي تذهب إلى السحرة والدجالين، وتكذب على الزوج وتأتي بالغيبة والنميمة بين الناس؟ A الذي يذهب إلى السحرة واقع في الإثم بلا شك، سواء كانت الزوجة أو غيرها، فإن تعدى ذهابه إلى أن يطلب من الساحر أن يعمل سحراً فإنه يزداد إثماً، وإذا كان الإنسان له سلطة على من يفعل ذلك فعليه أن يمنعه من هذا الشيء، ويخبره أن هذا من المحرم -لأن الإنسان قد يفعل أفعالاً لا يدري هل هي محرمة أو غير محرمة، وقد يقول: إنها جائزة- فإن أبى من الامتناع بعدما أخبره بحرمتها فإنه يمنعه -إذا كان يستطيع ذلك- بالقوة، وإن أدى ذلك إلى تأديبه فاليؤدبه.

الكلام على الغائب بدون ذكر اسمه

الكلام على الغائب بدون ذكر اسمه Q إذا ذكرت، الغائب بما يكره بدون ذكر اسمه فهل يعتبر ذلك من الغيبة أم لا؟ A الغيبة هي: ذكرك أخاك بما يكره، أما قول: بعض الناس يقول كذا، وبعض الناس يفعل كذا، فهذا إذا كان القائل صادقاً ويريد الإصلاح فله نيته، أما إذا كان كاذباً فهو يدخل في إثم المغتاب.

القول في جنس إبليس

القول في جنس إبليس Q قال الشارح رحمه الله: لما لعن الله تعالى إبليس تغيرت صورته عن صورة الملائكة، فهل هذا يدل على أن الشارح رحمه الله يرى أن إبليس كان من جنس الملائكة؟ A إبليس كان من جنس الملائكة؛ لأنه كان معهم، فالله جل وعلا لما قال للملائكة: {اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا} [البقرة:34] استثنى منهم إبليس، فقال: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى} [البقرة:34]، وفي آية أخرى قال عنه: (إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف:50]، فهذه الآية تدل على أنه من نوع آخر، ولكنه كان معهم يعبد الله جل وعلا.

قراءة قسم الأبراج في المجلات والصحف

قراءة قسم الأبراج في المجلات والصحف Q هل من قرأ قسم الأبراج في المجلات والصحف لا تقبل له صلاة أربعين يوماً؟ ومن صدق بها فقد كفر بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؟ A من قرأها فقد دخل في التنجيم المنهي عنه الذي هو شرك، والذي يقرؤها ويصدق بها فهو من الذين يصدقون بقول المنجمين، ومن صدق بقول منجم فهو مثله.

كذب بعض المشعوذين في ادعائهم معالجة الكسور بالقراءة

كذب بعض المشعوذين في ادعائهم معالجة الكسور بالقراءة Q يُذكر أن رجلاً يجبر الكسور بمجرد القراءة من وقته، وبعض الناس يتحدثون عنه أنه من أولياء الله، فهل هذا صحيح؟ A هذا نوع من الدجل، والكسر لا يجبر بالقراءة، بل لابد أن يجبر تجبيراً حقيقياً؛ لأن هذا أمر له سبب ظاهر، والذي يقول: إن الذي يقرأ على الكسر فيجبر ولي فهو كذاب، وذاك ليس ولياً لله، بل هو ولي للشيطان، وولي الله لا يقول: أنا ولي الله، فلا يظهر شخص نفسه ويشهر أنه ولي إلا من يريد الدنيا، ويريد أن يستولي على أموال الناس.

حكم بناء المساجد والقباب على القبور

حكم بناء المساجد والقباب على القبور Q ما حكم بناء القباب والأضرحة على من يراه الناس من الصالحين؟ وما حكم العمل والمساعدة في بنائها؟ A سبق هذا وتكلمنا فيه، وذكرنا الأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم في بيان أن من وسائل الشرك -التي وقع فيها كثير من الناس- بناء المساجد على القبور، وأكبر منه إذا تطور إلى بناء قباب عليها.

الذهاب إلى المدينة ليس من أعمال الحج

الذهاب إلى المدينة ليس من أعمال الحج Q مما ينتشر بين الناس البقاء في المدينة لأداء أربعين صلاة بها، فهل يجوز للحاج أن يغادر المدينة قبل إكمال هذه الأربعين؟ A يجوز للحاج ألا يأتي إلى المدينة أصلاً، فلو ذهب إلى مكة ولم يأتِ إلى المدينة فلا أحد يقول: إنه آثم، أو إن حجه ناقص، فإتيان المدينة والصلاة فيها ليس من أعمال الحج، وإنما الحج في مكة فقط، أما كونه يأتي ويصلي في المسجد النبوي فهذا فضل، والصلاة فيه بألف صلاة، ولكن الصلاة في مكة بمائة ألف صلاة، وعلى هذا تكون الصلاة بمكة أفضل من الصلاة في المدينة، والمقصود: أن الحج والمناسك تكون في مكة وليس في المدينة، وزيارة المدينة أمر خارجي عن الحج، وليس له دخل في الحج.

السكتة بعد تكبيرة الإحرام

السكتة بعد تكبيرة الإحرام Q السكتة بعد قراءة الفاتحة، هل هي سنة أم لا؟ وهل يقرأ المأموم فيها شيئاً؟ A السكتة بعد قراءة الفاتحة هي سكتة لطيفة بقدر ما يرتد إليه نفسه فقط، أما السكتة الطويلة فهي بدعة، وسكوت الإمام حتى يقرأ المأموم الفاتحة يعد من البدع، كما نص عليه العلماء، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يفعل ذلك، وإنما كانت له سكتة لطيفة بعد تكبيرة الإحرام، وهي التي سأله عنها أبو هريرة رضي الله عنه: ما تقول فيها؟ فأخبره أنه يقول فيها دعاء الاستفتاح، أما بعد قراءة الفاتحة فسكوت لطيف ليرجع إليه نفسه ثم يقرأ.

الحج عن الغير

الحج عن الغير Q هل يجوز الحج عن أحد الأقارب المتوفى؟ A إذا كان الإنسان قد حج عن نفسه أولاً فيجوز أن يحج عن أقاربه وعن غير أقاربه، وليس بلازم أن يكون من أقاربه، فلو كان هناك إنسان أجنبي فيجوز أن يحج عنه.

حكم الصلاة خلف من يعتقد بالقبور

حكم الصلاة خلف من يعتقد بالقبور Q فضيلة الشيخ! ذكرتم: أنه لا تجوز الصلاة وراء من يعتقد بالأضرحة، فقال بعض الإخوان: إنه لم تقم عليه الحجة، فهل عندما يصلي بالناس أصلي معهم وأعيد صلاتي لوحدي، أم أخرج من المسجد وأنتظر؟ وإن خرجت من المسجد وانتظرت قد تحدث فتنة بالمسجد بهذا العمل. A إذا كان الذي يؤم الناس ممن يعتقد في القبور، ويطوف حولها، ويسأل أصحابها، ويجعلها واسطة بينه وبين الله، فهذا ليس بمسلم، ولا تجوز الصلاة خلفه، فالمسلم يقتدي بمسلم، ولا يقتدي بمشرك، فلا تصح الصلاة خلفه سواء كان هناك خوف من الناس أو خوف من الفتنة، ولو قدر أن أحداً صلى معه فيجب عليه أن يعيد الصلاة، وكان عليه أن ينظر إلى إمام مسلم لا يعبد غير الله، ولا يعبد القبور، فيصلي معه.

صلاة الكاهن

صلاة الكاهن Q بعض الكهنة يعمل بعض الأعمال ويقوم بأداء الصلاة، فهل تقبل صلاته؟ وما حكم من يصلي وراءه؟ A مثل هذا لا يجوز أن يكون إماماً بحال من الأحوال، فهو نفسه صلاته غير مقبولة، بل قد يكون كافراً بالدين الإسلامي، فكيف يكون إماماً يقتدى به، أو ينظر أنها تقبل صلاته أو لا تقبل؟! فالرسول صلى الله عليه وسلم قد أجاب على هذا، وليس بعد جواب رسول الله جواب.

العراف هو الذي يدعي الغيب سواء كان غيبا مطلقا أو نسبيا

العراف هو الذي يدعي الغيب سواءً كان غيباً مطلقاً أو نسبياً Q هل يشترط في العراف الذي يتعاطى أمور الغيب أن يكون هذا الغيب مطلقاً أم حتى النسبي يدخل في ذلك؟ A نعم، النسبي يدخل في هذا، فكل ما غاب عن الإنسان فهو غيب، فإذا تكلم الإنسان في الشيء الذي يغيب عنه فقد تكلم في الغيب، فالغيب النسبي: هو بالنسبة للبعض، فالذي لا يغيب عنه ليس غيباً، أما الذي يغيب عنه فهو غيب، فمن تكلم بالغيب فهو داخل في ذلك.

حكم إعانة من يذهب إلى الكهان

حكم إعانة من يذهب إلى الكهان Q هل يجوز للإنسان أن يعين أخاه المبتلى بالذهاب إلى الكاهن، وبقائه عنده، عند اشتداد ما أصابه من المرض؟ A لا يجوز أن يذهب إلى الكاهن مريض ولا غيره، فالكاهن ليس عنده شفاء، وإنما عنده مرض القلوب ومرض الدين، ولا يأتي بشيء، إلا إنه قد يبتلى الإنسان بالشيطان حتى يذهب به إلى الكاهن فيكون فتنة له، فعلى الإنسان أن يعتصم بالله جل وعلا، ويتعالج بالعلاجات والأدوية الطبيعية، أو بالقراءة على نفسه، أو بالرقية ممن يثق به، ويعرف دينه، وصحة مقصده.

الكفر أعم من الشرك

الكفر أعم من الشرك Q ما هو الفرق بين الشرك والكفر؟ ولماذا كانت الطيرة شركاً والكهانة والسحر كفراً؟ A الكفر أعم من الشرك؛ لأنه قد يوجد الكفر ولا يوجد الشرك، فالشرك أخص، والمشرك شركاً أكبر كافر، أما إذا كان أصغر فلا، وكذلك الكفر يكون أكبر وأصغر، ولكن إذا كان الشرك أكبر والكفر أكبر فالشرك أخص؛ لأن الشرك معناه: عبادة غير الله، أما الكفر فقد يوجد والإنسان لا يعبد شيئاً، وقد يوجد فيمن يعبد الله وحده، كأن لا يصدق بالرسول صلى الله عليه وسلم ولا يؤمن به، فيكون كافراً كمثل حالة اليهود.

الانتقام من الكاهن

الانتقام من الكاهن Q كاهن آذى شخصاً، فهل يجوز لذلك الشخص أن ينتقم من هذا الكاهن؟ وما هي الحكمة من ذكر أربعين صلاة؟ A إذا آذى الإنسان فله ذلك: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل:126]، فإذا استطاع أن يصنع به الشيء الذي يكون مكافئاً: فله أن يفعل ذلك. وأما كون الصلاة قيدت بأربعين فالله أعلم، وهذه ما لا نعرف الحكمة فيه.

زيارة الكهان إذا كانوا أقارب

زيارة الكهان إذا كانوا أقارب Q هل يجوز زيارة الكهان خاصة إذا كانوا من الأقرباء، على أن الزيارة تكون على أساس صلة الرحم؟ A لا يجوز ويجب أن تقطع الصلة التي بينك وبينه، فإذا كان كاهناً فليس بينك وبينه صلة، والصلة الحقيقية هي الصلة الدينية، أما إذا كان أخوك أو أبوك مخالفاً لدينك فليس بينكما صلة، والله جل وعلا يقول: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22]، من أقرب من الأب والابن؟! فإذا خالف دينك فليس لك بأخ وليس لك بولي، بل هو معادٍ لك.

العمرة والحج للنبي صلى الله عليه وسلم

العمرة والحج للنبي صلى الله عليه وسلم Q ما الحكم في رجل يريد أن يؤدي عمرة أو حجاً ويكون الأجر للرسول صلى الله عليه وسلم؟ A هذا لا يجوز؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم غني عن ذلك، ولم يشرع صلوات الله وسلامه عليه هذا، وأي عمل يعمله الإنسان فللرسول صلى الله عليه وسلم مثل أجره، سواء عمرة أو حج أو صلاة أو أي شيء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: (من دعا إلى هدى فله من الأجر مثل أجور من اهتدى، من غير أن ينقص من أجورهم شيء)، فحينئذٍ لا حاجة إلى هذا العمل.

تأخير سجود التلاوة إلى نهاية القراءة

تأخير سجود التلاوة إلى نهاية القراءة Q هل يجوز أن يؤخر الإنسان سجود التلاوة إلى أن ينتهي من الجزء أو السورة؟ A لا، بل سجود التلاوة يكون عند السجدة، فإذا وصلت إلى السجدة فاسجد، والسجود سنة، فإن سجدت تحصلت على الأجر، وإن لم تسجد فليس عليك شيء.

تعدد الفدية عن ترك واجب من واجبات الحج

تعدد الفدية عن ترك واجب من واجبات الحج Q إذا ترك الحاج بعض واجبات الحج، فهل عليه عند ترك كل واجب دم، أم دم واحد يكفي عن ذلك؟ A هذا يختلف: فإذا كان الواجب من جنس واحد فعليه دم واحد، مثل: ترك رمي الجمرات: الأولى والثانية، فلو ترك واحدة فعليه دم واحد، ولو ترك الثلاث فعليه دم واحد، أما إذا كان الواجب مختلفاً فإن كل واجب عليه دم.

كتابة الآيات وشرب مائها للشفاء

كتابة الآيات وشرب مائها للشفاء Q هل كتابة الآيات بماء الزعفران وشربها للشفاء جائزة؟ A نعم، هذا جائز، وهذا داخل في قوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ} [الإسراء:82]، وتكتب في الشيء الذي لا ضرر فيه، مثل: الزعفران، أما الحبر فإن فيه مادة سمية، فلا يجوز أن تكتب به؛ لأنه مضر، وإذا كتب بغير الزعفران كالشيء الخالي من الضرر جاز، والسلف كانوا يفعلون هذا، والإمام أحمد روي عنه ذلك.

أخذ الأجرة على الرقية

أخذ الأجرة على الرقية Q هل يجوز أخذ مال على الرقية؟ A إذا شفي المرقي جاز للراقي أن يأخذ على رقيته مالاً، أما إذا لم يشف المرقي فلا يجوز للراقي أن يأخذ شيئاً، ولا يجوز للراقي أن يشترط شيئاً مقابل الرقية إلا أن يتبرع له المريض أو غيره بشيء، بمعنى: أن ما يعطيه ليس جزاءً للرقية.

احتراف الرقية

احتراف الرقية Q هل يجوز أن يحترف الإنسان المسلم الرقية؟ A لا يجوز، لا يجوز للإنسان أن يحترف الرقية ليجمع فيها الفلوس، وهذه الرقية غالباً لا تفيد ولا تجدي شيئاً، بل عليه يفعل ذلك من باب المعاونة والرحمة والشفقة على أخيه، أما أن يكون ذلك مكسبة فهذا من اشتراء آيات الله بثمن قليل، وأما إذا كانت الرقية بغير الآيات، بأمور مباحة كعلاجات وما أشبه ذلك، فهذا نوع من الطب لا بأس به.

تحضير الجن

تحضير الجن Q هل إحضار الجني من السحر؟ A لا يلزم أن يكون من السحر، فالجني قد يحضر إذا خدم وعبد، يحضر لنفع وإضلال الإنسان، والجن موجودون مع الناس ولكنهم لا يظهرون، وإذا طلب من الجني أن يظهر ويعمل العمل الذي طلب منه فقد يظهر إذا رضي، وهذا ما يسميه من أراد أن يجعل الشرك متمدناً بـ (تحضير الأرواح) أو بـ (التنويم المغناطيسي) أو ما أشبه ذلك من الأمور التي هي من عمل الجاهلية، بل من عمل المشركين، فهذا لا يجوز، والمؤمن يجب أن يكون متعلقاً بربه جل وعلا، لا أن يتعلق بجني أو بإنسي، ويجب عليه أن يحترز من الجن بذكر الله جل وعلا، والاستعاذة بالله منهم.

حكم أخذ طالب العلم من الصدقة

حكم أخذ طالب العلم من الصدقة Q هل لطالب العلم أن يأخذ المال من الناس؛ ليستعين به على مواصلة طلب العلم، بشراء الكتب مثلاً؟ A طالب العلم إذا كان فقيراً ومحتاجاً لشراء الكتب؛ لمواصلة دراسته، وليس عنده ما يكفيه، فيجوز له أن يأخذ من الصدقات مما يتبرع به ذوو الطول والإحسان، فإن هذا من الجهاد في سبيل الله، وطلب العلم من أفضل الأعمال، والذي لا يستطيع ذلك فإعانته لطالب العلم من أفضل الأعمال.

الأخذ من اللحية

الأخذ من اللحية Q هل يجوز للمسلم أن يأخذ من لحيته؟ A اللحية قد جاءنا الأمر بتوفيرها وبإكرامها وبإعفائها، فلا يجوز أن يؤخذ منها شيء.

زيارة المريض لا تتسبب في العدوى

زيارة المريض لا تتسبب في العدوى Q إذا كان الحديث نهى أن يتسبب الإنسان في عدوى أخيه، فكيف نوفق بين ذلك وبين حث النبي صلى الله عليه وسلم على زيارة المرضى؟ A ليس معنى ألا يتسبب الإنسان في عدوى أخيه أنه يمتنع من قربان المريض أصلاً، ولكن المقصود ألا يخالطه مخالطة مثل: أن يلبس ثيابه، أو يجلس في فراشه، وما أشبه ذلك من الأمور التي تكون سبباً في انتقال المرض إليه، أما زيارته والكلام معه فلا يدخل في هذا.

حكم السفر بغير رضا الوالد

حكم السفر بغير رضا الوالد Q عندما يريد شخص السفر يلاحظ أمارات الحزن على وجه والده، وكأن يشير له بعدم السفر، فيقع ذلك في نفسه، فهل يسافر أم لا؟ A الواجب طاعة الوالد إذا كان أمراً مباحاً، فإذا أمره ألّا يسافر فلا يسافر، أما إذا كان سفره -مثلاً- لأمر واجب يتعين عليه فإنه لا يلتفت إلى نهي الوالد عن السفر؛ لأن طاعة الله أولى.

لا تعارض بين قوله: (لا عدوى)، وبين قوله: (لا يورد مصح على ممرض)

لا تعارض بين قوله: (لا عدوى)، وبين قوله: (لا يورد مصح على ممرض) Q ألا يدل قوله صلى الله عليه وسلم لصاحب الإبل: (فمن أعدى الأول) على رجحان القول الأول: وهو أنه لا عدوى؟ A لا يدل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا يورد مصح على ممرض)، ولا تكون الأحاديث متعارضة، وقوله: (لا يورد ممرض على مصح) واضح.

من أسباب العدوى بالمرض

من أسباب العدوى بالمرض Q قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (فر من المجذوم فرارك من الأسد)، ولدينا قريب مريض بالجذام ونحن نعوده منذ عشرة أشهر فهل هناك تعارض؟ A لا تعارض، وقد سبق أن ذكرنا أن من أسباب العدوى ملامسة فضلات المريض أو سائله أو غطائه، أو ما أشبه ذلك، وهذا ينبغي للإنسان أن يجتنبه؛ لأنه قد يكون سبباً للمرض.

شرح فتح المجيد [84]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [84] الحب هو أصل الدين، ويجب على العبد أن يخلصه لله جل وعلا وحده، وأن يحرص على كل الأسباب التي تزيده محبة لله عز وجل.

قول الله تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا)

قول الله تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً) قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165]]. لما كان الحب هو أصل الدين الإسلامي، ويجب على العبد أن يخلصه لله جل وعلا، نبه المصنف رحمه الله بهذه الترجمة على وجوب إخلاص الحب لله وحده، وأن الحب لله جل وعلا يكمل بتوابعه التي تتبعه، كمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومحبة أهل الطاعة الذين يطيعون الله جل وعلا، ويكون حبهم لله فقط؛ لأن الذي يحب لذاته هو الله وحده جلا وعلا، أما غيره من سائر الخلق فهم يحبون بما يقع على أيديهم من الطاعات والإحسان أو غير ذلك. ثم المحبة قد تختلط على كثير من الناس، فلا يميز بين الواجب الذي يتعين أن يكون لله وحده وبين ما يكون للعباد أو يكون للرسول صلى الله عليه وسلم، وقد يجعل كثير من الناس المحبة الواجبة لله مشتركة بين الله وبين خلقه فيقع في الشرك. والاشتراك في المحبة يكون من الشرك الأكبر الذي يكون مخرجاً من الدين الإسلامي، وذلك أن الباعث على العمل هو الحب، بل الباعث على كل شيء والمحرك للبدن وللجوارح هو الحب والإرادة، ولهذا أخبر الله جل وعلا أنه يجب أن يحب وحده، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول للناس: (أحبوا الله من كل قلوبكم) يعني: تكون المحبة خالصة لله جل وعلا.

أقسام المحبة

أقسام المحبة يجب أن يعلم أن المحبة تنقسم إلى قسمين: محبة مشتركة بين الخلق كلهم، وهذه ليس فيها ضير على الإنسان، وليس فيها شرك، وهذه المحبة أقسام ثلاثة: القسم الأول: محبة الشفقة والحنو والرحمة، كمحبة الولد الصغير، ومحبة الضعفاء وما أشبه ذلك، فهذه ليس فيها ضير على المحب، بل يثاب على ذلك. القسم الثاني: محبة تقدير وإجلال، كمحبة الوالد، ومحبة من يقدره. القسم الثالث: محبة الاشتراك، كمحبة الزمالة أو المصاحبة في عمل، أو في سفر، أو في مسكن، أو ما أشبه ذلك، وهذه تقع حتى للحيوانات بعضها مع بعض، وهذه الأمور الثلاثة لا تستلزم الذل والخضوع والتعظيم، يعني: أنها ليست محبة عبودية، بل هي محبة لهذه الأمور المذكورة، هذا القسم من أقسام المحبة وهذه التي تكون في الخلق. أما محبة العبودية -وتسمى المحبة الخاصة- فهذه يجب أن تكون لله جل وعلا، وهي التي تتضمن الذل والخضوع والتعظيم، فلا يجوز أن يقع لمخلوق من المخلوقات محبة من هذا النوع، هذه المحبة تتضمن الذل والخضوع والتعظيم، فإنها إذا وقعت لمخلوق فتكون محبة عبادة، ويكون من وقعت منه مشركاً بالله جل وعلا. وهذا الذي أنكره الله جل وعلا على المشركين في الآية التي ذكرها المؤلف، وهي قوله جل وعلا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165] إلى آخر الآية، وكذلك الآيات التي بعدها.

معنى محبة المؤمنين ومحبة المشركين في الآية

معنى محبة المؤمنين ومحبة المشركين في الآية قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: باب قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165]، لما كانت محبته سبحانه هي أصل دين الإسلام الذي يدور عليه قطب رحاه، فبكمالها يكمل، وبنقصها ينقص توحيد الإنسان -نبه المصنف على ذلك بهذه الترجمة. قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا} [البقرة:165] الآية]، قال في شرح المنازل: أخبر تعالى أن من أحب من دون الله شيئاً كما يحب الله تعالى فهو ممن اتخذ من دون الله أنداداً، فهذا ند في المحبة لا في الخلق والربوبية، فإن أحداً من أهل الأرض لا يثبت هذا الند بخلاف ند المحبة، فإن أكثر أهل الأرض قد اتخذوا من دون الله أنداداً في الحب والتعظيم، ثم قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165]، وفي تقدير الآية قولان: أحدهما: والذين آمنوا أشد حباً لله من أصحاب الأنداد لأندادهم وآلهتهم التي يحبونها ويعظمونها من دون الله. وروى ابن جرير عن مجاهد في قوله تعالى: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165] مباهاة ومضاهاة للحق بالأنداد {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165] من الكفار لأوثانهم]. هذا قول مرجوح، الراجح القول الثاني، وهو أن الذين آمنوا أشد حباً لله من المشركين لله، هذا هو القول الصحيح وهذا مبني على قولين في أول الآية، لأن قوله جل وعلا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165]، (يحبونهم كحب الله) يعني: أن المشركين يحبون الأنداد كمحبتهم لله، فصارت المحبة مقسمة قسمين: قسم منها لله، وقسم منها للأنداد، وهذا هو الشرك الأكبر، فهم يحبون أندادهم مثل محبتهم لله جل وعلا، وهذه المحبة محبة عبادة، وهذا الذي جعلهم خالدين في النار، وهذه المحبة هي التي يلوم المشركون عليها أنفسهم، ويلوم بعضهم بعضاً إذا كانوا في النار، ويقولون كما أخبر الله عنهم: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:97 - 98]، يخاطبون أندادهم وآلهتهم بهذا الخطاب يقولون: (تالله إن كنا في ضلال مبين، إذ نسويكم برب العالمين) يعني: سووهم في المحبة، (برب العالمين) يعني: نحبكم كما نحب رب العالمين، فالآية تدل على أنهم يحبون الله، ولكنهم شركوا في محبة الله الأنداد؛ فصاروا بذلك مشركين، وليس معنى ذلك أن المشركين يحبون الأنداد كمحبة المؤمنين لله، هذا قول باطل، وقد قيل هذا في الآية، ولكنه في الواقع قول ضعيف. ثم ركب على هذا ما في آخر الآية: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165]، يعني: الذين أمنوا حبهم أشد من حب أصحاب الأنداد لله، وليس من حب أصحاب الأنداد لأندادهم، وهذا قول ذكر في تفسير الآية، ولكنه قول ضعيف. والقول بأن محبة المؤمنين لله أشد من محبة الكافرين لله يدل على أن المشركين يحبون الله حباً كثيراً، ولكنه حب صار فيه شركة، وهو الشرك الذي جعلهم كفاراً، وجعلهم في النار. فدلت الآية على وجوب إخلاص المحبة لله، وأنه يجب أن تكون المحبة لله وحده، ولا يكون معه مشارك فيها مهما كان، وسيأتي أنه فرض على المسلم أن يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من محبته لولده ووالده وماله، ومن نفسه أيضاً، ومن الناس أجمعين.

الفرق بين محبة الله ومحبة رسوله

الفرق بين محبة الله ومحبة رسوله ما الفرق بين محبة الرسول صلى الله عليه وسلم ومحبة الله؟ نقول: إن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم فرع عن محبة الله، يعني: يحبه لله ومن أجل الله، يحبه لأن الله يحبه، يحب في الله ولا يحب مع الله، وإنما يحبه لأن الله أمر بحبه؛ ولأنه قام بما يجب عليه لله جل وعلا، فمن لازم محبة الحبيب أن تحب ما يحبه. وكذلك محبة عباد الله المؤمنين وأوليائه وأتقيائه، يحبون لله وفي الله، ومن أجل الله جل وعلا، وليست محبة مع الله، أما المحبة مع الله فتكون محبة فيها التعظيم والذل والخضوع والعبودية، وهذه لا تجوز أن تكون إلا لله وحده كما سبق. قال الشارح رحمه الله: [ثم روى عن ابن زيد قال: هؤلاء المشركون أندادهم آلهتهم التي عبدوا مع الله، يحبونهم كما يحب الذين آمنوا الله، والذين آمنوا أشد حباً لله من حبهم آلهتهم. انتهى]. قلنا: هذا قول ضعيف. قال الشارح: [والثاني: والذين آمنوا أشد حباً لله من المشركين بالأنداد لله]. قلنا: هذا هو القول الصحيح، وهو الصواب، أما الأول فضعيف. قال الشارح: [فإن محبة المؤمنين خالصة، ومحبة أصحاب الأنداد قد ذهبت أندادهم بقسط منها، والمحبة الخالصة أشد من المشتركة، والقولان مرتبان على القولين في قوله تعالى: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165]، فإن فيها قولين أيضاً. أحدهما: يحبونهم كما يحبون الله، فيكون قد أثبت لهم محبة الله، ولكنها محبة أشركوا فيها مع الله تعالى أندادهم. والثاني: أن المعنى يحبون أندادهم كما يحب المؤمنون الله]. القول الثاني باطل؛ لأنه ليست محبة المشركين لأندادهم كمحبة المؤمنين لله، هذا شيء معروف، وإن كانت محبتهم فيها ذل وخضوع وتعظيم، ولذلك صارت عبادة، ولكنها ليست كمحبة المؤمنين لربهم تعالى وتقدس. قال الشارح: [ثم بين تعالى أن محبة المؤمنين لله أشد من محبة أصحاب الأنداد لأندادهم]. هذا فيه تناقض، كيف تقول مثلاً: إنهم يحبون أندادهم كمحبة المؤمنين لله، ثم تقول: إن محبة المؤمنين أشد وأعظم؟! يصير الكلام متناقضاً أوله مع آخره، وهذا يدل على ضعفه.

كلام ابن تيمية في تفسير الآية

كلام ابن تيمية في تفسير الآية قال الشارح رحمه الله: [وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يرجح القول الأول ويقول: إنما ذموا بأن شركوا بين الله وبين أندادهم في المحبة، ولم يخلصوها لله كمحبة المؤمنين له، وهذه التسوية المذكورة في قوله تعالى حكاية عنهم وهم في النار أنهم يقولون لآلهتهم وأندادهم وهي محضرة معهم في العذاب: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:97 - 98]، ومعلوم أنهم ما سووهم برب العالمين في الخلق والربوبية، وإنما سووهم به في المحبة والتعظيم، وهذا أيضاً هو العدل المذكور في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1] أي: يعدلون به غيره في العبادة التي هي المحبة والتعظيم. وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]، وهذه تسمى آية المحنة، قال بعض السلف: ادعى قوم محبة الله فأنزل الله تعالى آية المحنة: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]]. يعني: أنهم امتحنهم الله بهذه الآية، وجازوا الامتحان حين امتحنهم بذلك، فدليل المحبة الاتباع، فمن كان يحب الرسول صلى الله عليه وسلم فعلامة ذلك أنه يتبع سنته، ويقتفي أثره، ويحرص على ذلك أشد الحرص. أما إذا كان يدعي أنه يحبه وهو مخالف لسنته، فهذه دعوى، وكذلك من يزعم أنه يحب الله فعلامة ذلك أنه يطيع أمره ويجتنب نهيه، فهذه علامته. فليست الدعوى مقبولة إلا بدليل، ودليل محبة الله الطاعة والاتباع، وكذلك محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلا فالدعاوى لا تفيد، فاليهود يزعمون أنهم أبناء الله وأحباؤه، هكذا يقولون: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18]، ولكنها دعوى غير مقبولة، لأن الواقع ينافيها، لأنهم عصاة كفرة. وكذلك الذين يزعمون من هذه الأمة أنهم يحبون الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من غيرهم، يقول: لابد أن يبرهن المحب للرسول صلى الله عليه وسلم محبته، وبرهان ذلك اتباع سنته صلى الله عليه وسلم، وطاعة أمره، والابتعاد عما نهى عنه، هذا هو الدليل على المحبة، أما إذا كانت المحبة مجرد تقليد أو مجرد دعوى أو على شيء من أمور الهوى أو من الأمور التي تشتهيها الأنفس؛ فهذا ما يجدي شيئاً ولا ينفع. وهذه الآية التي في سورة آل عمران: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31] تسمى آية المحنة؛ لأن سبب نزولها أن قوماً قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إننا نحب ربنا حباً شديداً، فأنزل الله جل وعلا هذه الآية لتكون علامة للمحب: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31] يعني: إن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم هو العلامة التي تصحح دعوى المحبة. قال الشارح: [فأنزل الله تعالى آية المحنة: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]، إشارة إلى دليل المحبة وثمرتها وفائدتها، فدليلها وعلامتها: اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وفائدتها وثمرتها محبة المرسل لكم]. ومحبة المرسل تكون تابعة لها.

قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه)

قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه) قال الشارح رحمه الله: [فما لم تحصل منكم المتابعة فمحبتكم له غير حاصلة، ومحبته لكم منتفية، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54]، ذكر لهم أربع علامات: إحداها: أنهم أذلة على المؤمنين، قيل: معناه: أرقاء رحماء مشفقين عاطفين عليهم، فلما ضمن أذلة هذا المعنى عداه بأداة (على)، قال عطاء رحمه الله: للمؤمنين كالولد لوالده، وكالعبد لسيده، وعلى الكافرين كالأسد على فريسته: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29]]. قوله: (أشداء على الكافرين) ما ذكرها الشارح لظهورها ووضوحها، وتكلم على كونهم (أذلة على المؤمنين) يعني: يرحمونهم ويوالونهم ويحبونهم، (وأعزة على الكافرين) يعني: أنهم أشداء عليهم، وغلظاء عليهم، يبغضونهم ويكرهونهم لأنهم كفروا بالله جل وعلا، ويعادونهم أشد المعاداة ولو كانوا من أقربائهم في النسب، كما قال الله جل وعلا: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22]. قالوا: إن هذه الآية نزلت في بعض الصحابة مثل أبي عبيدة بن الجراح وغيره الذين قتلوا بعض أقربائهم يوم بدر، ومنهم من تبع أباه ليقتله لأنه كان مع الكافرين، فنزلت هذه الآية؛ ولهذا قال: {أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ} [المجادلة:22] يعني: أن الذي دعاهم إلى مقاتلة أقربائهم أنهم آمنوا بالله جل وعلا، وعادوا الكفار في الله جل وعلا. قال الشارح: [العلامة الثالثة: الجهاد في سبيل الله بالنفس واليد والمال واللسان؛ وذلك تحقيق دعوى المحبة]. العلامة الرابعة: أنهم لا تأخذهم في الله لومة لائم، وهذه علامة صحة المحبة، فكل محب أخذه اللوم على محبوبه فليس بمحب على الحقيقة. وقال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء:57]، فذكر المقامات الثلاثة: الحب وهو ابتغاء القرب إليه، والتوسل إليه بالأعمال الصالحة، والرجاء والخوف يدل على أن ابتغاء الوسيلة أمر زائد على رجاء الرحمة وخوف العذاب]. يعني: عمل عملاً زائداً وهو طلب المرضاة باتباع الأمر واجتناب النهي.

أنواع المحبة وما يجوز إثباته لله منها

أنواع المحبة وما يجوز إثباته لله منها قال الشارح رحمه الله: [ومن المعلوم قطعاً أنه لا يتنافس إلا في قرب من يحب قربه، وحب قربه تبع لمحبة ذاته، بل محبة ذاته أوجبت محبة القرب منه، وعند الجهمية والمعطلة ما من ذلك كله شيء، فإنه عندهم لا تقرب ذاته من شيء، ولا يقرب من ذاته شيء، ولا يحب، فأنكروا حياة القلوب، ونعيم الأرواح، وبهجة النفوس، وقرة العيون، وأعلى نعيم الدنيا والآخرة؛ ولذلك ضربت قلوبهم بالقسوة، وضرب دونهم ودون الله حجاب على معرفته ومحبته، فلا يعرفونه ولا يحبونه ولا يذكرونه إلا عند تعطيل أسمائه وصفاته، فذكرهم أعظم آثامهم وأوزارهم، بل يعاقبون من يذكره بأسمائه وصفاته ونعوت جلاله، ويرمونهم بالأدواء التي هم أحق بها وأهلها، وحسب ذي البصيرة وحياة القلب ما يرى على كلامهم من القسوة والمقت، والتنفير عن محبة الله تعالى ومعرفته وتوحيده، والله المستعان. وقال رحمه الله تعالى أيضاً: لا تحد المحبة بحد أوضح منها، فالحدود لا تزيدها إلا خفاء، فحدها وجودها، ولا توصف المحبة بوصف أظهر من المحبة، وإن تكلم الناس في أسبابها وموجباتها وعلاماتها وشواهدها وثمراتها وأحكامها]. المحبة قسمت أقساماً كما هو معروف في لغة العرب، فلها أول، ولها وسط، ولها آخر، فأولها: الإرادة، وهي الميل إلى المحبوب بإرادته، وهي دون العلاقة التي تغني أن يتعلق قلبه به، ثم الصبابة وهي: أن ينصب القلب إلى المحبوب مثل انصباب الماء في منحدره، ثم المودة وهي: خالص الحب، ثم الشغف وهي: أن تصل المحبة إلى شغاف القلب وتتغلغل فيه، ثم بعد الشغف العشق وهو: الحب الذي فيه خطر على الإنسان، ولكن مثل هذا ما يوصف الله جل وعلا به، ولا يجوز أن يقول العبد: أنا عاشق لله؛ لأن العشق محبة فيها شهوة، وهذه لا يجوز أن يوصف بها الله جل وعلا أو تكون للعبد في الله تعالى. ثم بعد ذلك التتيم وهو التعبد، ثم الخلة، وهي نهاية المحبة، ومعناها أن الحب تخلل جميع أجزاء القلب فلم يبق فيه مكان؛ ولهذا الله جل وعلا ما اتخذ خليلاً إلا إبراهيم ومحمداً صلوات الله وسلامه عليهما؛ لأنهما اللذان كملا المحبة لله جل وعلا، وغيرهما لا يقدر على ذلك. ولا يجوز أن يوصف الله جل وعلا بأقسام هذه المحبة كلها، وإنما يوصف بما ورد به النص، فالذي ورد به النص يوصف به جل وعلا وتقدس؛ لأن صفاته تتوقف على النص، فما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم أثبت ووصف به وسمي به وإلا لا يجوز. قال الشارح رحمه الله: [وأجمع ما قيل في ذلك: ما ذكره أبو بكر الكتاني عن الجنيد، قال أبو بكر: جرت مسألة في المحبة بمكة ـأعزها الله بأيام الموسم ـ فتكلم الشيوخ فيها، وكان الجنيد أصغرهم سناً فقالوا: هات ما عندك يا عراقي! فأطرق رأسه، ودمعت عيناه ثم قال: عبد ذاهب عن نفسه، متصل بذكر ربه، قائم بأداء حقوقه، ناظر إليه بقلبه، أحرق قلبه أنوار هيبته، وصفا شرابه من كأس مودته، وانكشف له الحياء من أستار غيبه، فإن تكلم فبالله، وإن نطق فعن الله، وإن تحرك فبأمر الله، وإن سكن فمع الله].

الأسباب الجالبة للمحبة

الأسباب الجالبة للمحبة قال الشارح: [وذكر رحمه الله تعالى: أن الأسباب الجالبة للمحبة عشرة: أحدهما: قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه وما أريد به. الثاني: التقرب إلى الله تعالى بالنوافل بعد الفرائض. الثالث: دوام ذكره على كل حال باللسان والقلب والعمل والحال، فنصيبه من المحبة على قدر هذا. الرابع: إيثار محابه على محابك عند غلبات الهوى. الخامس: مطالعة القلب لأسمائه وصفاته، ومشاهدته وتقلبه في رياض هذه المعرفة وميادينها]. هذه التي ذكر من أسباب تنمية المحبة لله وإيجادها في القلب، وهي:

قراءة القرآن بتدبر

قراءة القرآن بتدبر الأول: أن يقرأ القرآن بتدبر، وتفهم لمعانيه؛ لأن التدبر والتفهم مقصوده العمل، فيتصور القارئ أنه يقرأ خطاب الله جل وعلا، وأن الله يخاطبه بهذا الكلام، فيتفهمه حتى يمتثل ما أمره به، ويجتنب ما نهاه عنه، فيكون هذا مقصده ومراده من القراءة، وكذلك تلذذه بتلاوة كلام ربه جل وعلا، فإن هذه نعمة عظيمة جداً على المؤمن، فتخلو بنفسك تقرأ كلامه وتردده، فإذا استشعرت النعمة، وتدبرت كلامه؛ يزيدك الله جل وعلا بهذا علماً ومحبة للطاعة التي هي ثمرة محبة الله جل وعلا.

إيثار محاب الله على محاب النفس

إيثار محاب الله على محاب النفس الثاني: أن تؤثر محبة الله على محبة نفسك ومحبة من تحبه، ومعنى ذلك أنه إذا صار أمامك أمران: أحدهما تعلم أنه محبوب لله جل وعلا، ولكنه قد يكون ثقيلاً على النفس، والآخر بعكس ذلك، فإنك تقدم ما هو محبوب لله جل وعلا، وتجتهد في ذلك، وتتحمل إذا كان فيه مشقة وصعوبة على النفس، وهذا ينمي محبة الله جل وعلا.

المبادرة إلى طاعة الله

المبادرة إلى طاعة الله الثالث: إذا حضر أمر الله فبادر إليه ولا تتوان، فإن التواني عن المبادرة بأمر الله قد يورث معصية ومقتاً، كما أخبر الله جل وعلا عن الذين قعدوا عن الجهاد وتأخروا، فقال الله جل وعلا لهم: {اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:46]؛ لأنهم في أول الأمر ما سارعوا إلى ذلك، وكذلك يقول جل وعلا: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:110]؛ بسبب أنهم تذكروا أول الأمر ولم يسارعوا إلى امتثال أمر الله جل وعلا. ثم إن المحبة هي أصل الدين الإسلامي؛ لأن محبة الله هي: أن يألّه ربه، ولا يكون في قلبه آلهة يألهها غير الله جل وعلا، والتألّه قد يتفاوت، ولكن محبة الله التي تتضمن الذل يجب أن تكون خالصة، لأن العبادة هي امتثال الأمر مع غاية الذل وغاية التعظيم، هذه هي العبادة، فمحبة الله عبادة، ولابد أن يكون الإنسان عارفاً لذلك وممتثلاً له، وهذا هو معنى لا إله إلا الله، فإذا كان في القلب محبوب يزاحم محبة الله جل وعلا أو يقدم عليها فمعنى ذلك أن الإنسان لم يخلص. وأهل المحبة الخالصة هم الذين لا تمسهم النار ولا يعرضون عليها، بخلاف الذي فيهم شائبة فلابد من تطهيرهم أو أن يبقوا في النار؛ لأن الذين أشركوا بهذه المحبة هم المشركون كما سبق في الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165] يعني: أنهم يحبون أندادهم مثل محبتهم لله جل وعلا. والند: هو كل ما كان مقصوداً بشيء من التعظيم أو الذل أو الحب الذي يكون فيه الخضوع، ولا يلزم أن يكون الند صنماً أو يكون رجلاً، فالند قد يكون مالاً يقدمه على محبة الله، وقد يكون شهوات، وقد يكون رئاسة، وقد يكون معنى معلوماً. فالمقصود: أن يكون العبد خالصاً لله جل وعلا، ولا تكن عبوديته موزعة، أما إذا كانت موزعة بين الله جل وعلا وبين المظاهر أو الأغراض الأخرى فإنه لا يكون مخلصاً، وأهل الإخلاص هم أهل النجاة الذين ينجيهم الله جل وعلا من عذابه.

طاعة الله واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم

طاعة الله واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم وأعظم الأسباب التي تجلب محبة الله في الجمل، ويعرفها الإنسان ولا تشكل عليه؛ هي طاعة الله، واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، إذا حرص الإنسان على طاعة الله جل وعلا واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما يعرفه ويعلمه، وصار حرصه عليه أشد من حرصه على جمع المال، فإنه يزداد خيراً ومحبةً، والله جل وعلا كذلك يحبه، ويزيد في حبه له؛ لأنه كما جاء في الحديث: (لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)، النوافل هي الزائدة على الفرائض، ولكن أداء الفرائض هو الأصل في هذا، فإذا أدى الإنسان الفرائض التي افترضها الله عليه، ثم بعد أداء الفرائض كان عنده رغبة في طاعة الله، فلابد أن يفعل شيئاً من النوافل، وقد يزيد.

مشاهدة بره وإحسانه سبحانه وتعالى

مشاهدة بره وإحسانه سبحانه وتعالى [السادس: مشاهدة بره وإحسانه ونعمه الظاهرة والباطنة]. يجب مشاهدة النعم، وهي تزيد في الطاعة، ومعنى مشاهدتها: إشعار القلب بها، والنعم لا حصر لها، فالبصر الذي يبصر به نعمة كبيرة من الله، والسمع الذي يسمع به نعمة عظيمة يجب أن يشكر الله جل وعلا على ذلك، ويعبده بذلك، فيستعمل السمع والبصر في عبادة الله جل وعلا، والعقل نعمة عظيمة على الإنسان؛ ولهذا يقول جل وعلا: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36] يعني: هذه نعم يسأل عنها الإنسان، هل استعملها في طاعة الله جل وعلا، أم أنه استعملها في المعاصي واتباع الشيطان؟ ومن النعم العظيمة: صحة البدن، فكون الله جل وعلا وهبك صحة في بدنك هذه نعمة يجب أن تعبد الله جل وعلا بهذه الصحة، وتنتهز الفرصة قبل أن يأتي المرض. ومن النعم عدم الشغل، كونك ما عندك شيء يشغلك ويمنعك من التعبد والذكر والتلاوة وغير ذلك، وهذا شيء قد يغفل عنه الإنسان، ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ)؛ لأن الإنسان ما يدوم صحيحاً، لابد أن يمرض، ولا يبقى أيضاً فارغاً، لابد أن يشغله شيء، وفي النهاية يموت وينتهي. كذلك من النعم العظيمة التي أنعم الله جل وعلا بها على عباده كونه سخر لهم ما في السماء وما في الأرض، كل شيء مسخر للإنسان، السحاب والمطر والأرض والنبات وغيرها، قال الله: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34]، فهي كثيرة جداً، فيجب على الإنسان أن يستشعر نعم الله جل وعلا عليه في كل صغيرة وكبيرة، ويستعين بالنعمة على عبادته، وهذا إذا فعله الإنسان كان سبباً لمحبة الله له، فيحبه الله جل وعلا ويزيده طاعة؛ لأن شكر النعمة وعد الله جل وعلا عليه بالزيادة. وأعظم النعم على الإطلاق أن الله جل وعلا هداك للإسلام، وجعلك مسلماً، وإذا نظر الإنسان إلى الناس الذين في الأرض اليوم يرى أن أكثرهم كفاراً، فما الذي خصك من بين هؤلاء الخلق؟ ما هو إلا فضل من الله، ونعمة تفضل بها عليك، فعليك أن تعترف بهذا، وتشكر الله جل وعلا؛ لأن ثمرة الإنسان هي حياته هذه، إذا اكتسب فيها العمل الصالح وكان مؤمناً بالله، فبعد الموت تكون الحياة الحقيقة الأبدية الدائمة، أما إذا كان بالعكس فقد اكتسب بهذه الحياة الشقاء السرمدي الذي لا نهاية له، والمقصود أن نعم الله كثيرة جداً، ولكن أعظمها وأكبرها أن يكون الإنسان مسلماً، ويموت على الإسلام.

انكسار القلب بين يدي الله

انكسار القلب بين يدي الله [السابع -وهو أعجبها-: انكسار القلب بين يديه]. انكسار القلب يعني: خشوعه، وخضوعه، وذله لله جل وعلا، والقلب ما ينكسر حتى يعرف ربه، ويستشعر نعمه وعذابه، وعظمته جل وعلا، والإنسان ضعيف في الحقيقة، ولكن الله جل وعلا لا ينسى شيئاً ولا يفوته شيء من خلقه، ولهذا لما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لـ أبي بن كعب: (إن الله أمرني أن أقرأ عليك: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة:1] قال أبي: وسماني الله لك، قال: نعم)، فصار يبكي فرحاً لأن الله سماه، ولأن الله ذكره. ما حقيقة الإنسان؟ حقيقته أنه إذا نظر في عظمة الله ومخلوقاته تبين له أنه مخلوق حقير صغير من مخلوقات الله، فإذا أنعم الله جل وعلا عليه، وجعله عبداً له، وأعطاه من العقل والسمع والبصر ما ازداد به هدى إلى الله جل وعلا؛ فهذه ليست من قوة الإنسان، وليست من عقليته، وإنما هي نعم، كل الناس لهم عقول، وعندهم أسماع وأبصار، ولكن ما استطاعوا أن يهتدوا بعقولهم وأسماعهم إلى الحياة الحقيقية. فإذا لم يكن للإنسان هادٍ من الله فلا هادي له، كما قال الله: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف:17] مهما كان عند الإنسان من العقل والنظر والفكر والقوة والمادة لا يستطيع أن يهتدي، والله جل وعلا يخاطب أفضل الخلق رسوله صلى الله عليه وسلم ويأمره أن يقول: {وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} [سبأ:50] يعني: هدايته بالوحي الذي أوحاه الله إليه، وأكثر الناس معرضون عن هذه الهداية، لا يهتم بها، ولا يلتفت إليها، وبعضهم يحاربها أشد المحاربة، ويبذل قوته وجهده وماله في المحاربة! فإذا نظر الإنسان في الناس، وجد منهم الذي يحارب الإسلام، ومنهم الذي يعبد غير الله، واختلفت معبوداتهم حتى أن منهم من يعبد الحيوانات، ومنهم من يعبد الفئران والبقر والقرود والحيات وغيرها، وكلهم عندهم عقول وأسماع وأبصار، فإذا نظر الإنسان إلى هؤلاء حمد الله حيث هداه، وحيث منّ عليه بأن جعله مسلماً متبعاً للرسول صلى الله عليه وسلم، وحياة الإنسان قصيرة جداً، وهذه الحياة القصيرة ينبغي أن يكتسب بها القرب إلى الله والسعادة الأبدية في الجنان، وليست الجنة مثل ملك ملك من الملوك؛ لأن نعيم الجنة وملكها ما يتصوره الإنسان، لأنه لا يشاهده ولا يعرف جنسه، وقد ذكر الله جل وعلا منها صفات كثيرة. وملائكة الرحمن يدخلون عليهم من كل باب، يقولون لهم: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:24]، الملائكة الكرام الذين لا يعصون الله ما أمرهم مذ خلقوا يكونون شبه الخدم لهم، ولهم كل ما تشتهي نفوسهم من المشتهيات والمناظر التي تلذ أبصارهم، ولا يذوقون فيها الموت، ولا يخافون الخروج، ولا يعتريهم مرض، ولاذل أو خوف، يحيون في أمن ونعيم، وفيما تشتهيه أنفسهم، خالدين فيها أبداً، وفوق هذا كله أن الله يرضى عنهم، فرضوان الله أكبر من الجنة. وقد يكتسب الإنسان في هذه الحياة القصيرة سخط الله وعذابه السرمدي، وليس عذاب الآخرة مثل العذاب الذي يعهده الإنسان في هذه الدنيا، بل من شدته أن الله قال: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56]، الجلود تنضج ولكن تبدل، نفس الجلد الذي نضج يعاد مرة أخرى، وليس معناه أنه يذهب ويأتي غيره، لا، جلد الإنسان هو جلده، هذا الجلد الذي عصى، وهذه الأعضاء التي عصت، هي التي تتبدل، كلما احترقت عادت دائماً، ويأتيه أسباب الموت من كل مكان، و {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [إبراهيم:17]، ما يموت، {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر:36]. فالإنسان إما أن يكون في هذه أو يكون في هذه، إما أن يكون في الشقاء الذي يتمنى أن يكون عدماً ولكن هيهات لا يفيد التمني، أو يكون في كرامة الله جل وعلا التي ما خطرت على قلب بشر، ولا رآها أحد من الناس. فلهذا يقال: إن الخطر على الإنسان عظيم جداً، والرسول صلى الله عليه وسلم كثيراً ما نبه على هذه الأمور، قال صلى الله عليه وسلم: (لا تنسوا العظيمتين: الجنة والنار) يعني: اذكروهما دائماً، وليكن بين أعينكم الجنة والنار؛ لأن المآل إليهما، والإنسان لابد أن يستقر في واحدة منهما: في الجنة أو النار.

الخلوة وقت النزول الإلهي وتلاوة كتابه

الخلوة وقت النزول الإلهي وتلاوة كتابه [الثامن: الخلوة وقت النزول الإلهي وتلاوة كتابه ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة]. يعني: في آخر الليل يتعرض الإنسان لفضل الله جل وعلا في ذلك الوقت، والوقت قصير، وكل عمر الإنسان قصير، وإذا كان له همة يعلو بها فسوف يقوم، فإذا كان آخر الليل ينزل الرب جل وعلا إلى السماء الدنيا ويقول: (من يدعوني فأستجيب له؟ من يستغفرني فأغفر له؟ من يسألني فأعطيه؟)، هكذا يخاطب خلقه، وأكثرهم إما نائم، أو غافل، أو لا يهمه ذلك، قليل جداً من عباد الله الذين يهتمون بهذا الأمر، فيقومون ليتعرضوا لنفحات الكريم المنان، فيسألونه ويدعونه، ويتلون كتابه، ثم بعد ذلك إذا فرغوا قبيل طلوع الفجر يستغفرون ربهم، قال الله تعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران:17]. فمن كان بهذه الحالة يزيده الله جل وعلا قرباً ويحبه، ويزيده حباً، ويكون ذلك من أسباب محبته، وإذا أحب الله جل وعلا عبداً فإنه ينادي جبريل فيقول له: (إني أحب فلاناً فأحبه)، ثم ينادي جبريل في السماء ويقول: (إن الله يحب فلاناً فأحبوه، ثم يوضع له القبول في الأرض) والمحبة عند الناس تكون ولو لم يقدم لهم شيئاً من المنافع، فإذا أحب الله جل وعلا عبداً فإنه يكون محبوباً، بحيث إنه إذا رآه الإنسان ذكر الله، وتذكر الطاعة والعبادة، وقيام الليل، وغير ذلك من الأسباب التي تجلب للإنسان محبة الله جل وعلا.

مجالسة المحبين الصادقين

مجالسة المحبين الصادقين [التاسع: مجالسة المحبين الصادقين، والتقاط أطايب ثمرات كلامهم، ولا تتكلم إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام، وعلمت أن فيه مزيداً لحالك، ومنفعة لغيرك]. المقصود من هذا زيادة الخير، فهو في مجالسة الخير يزداد خيراً؛ لأن أهل الخير يعينونه ويحضونه على الخير، ويجعلونه نشيطاً بما يتكلمون به، ويحرصون عليه، ويقولون: إن الحياة قليلة شهر ويوم وساعة وإذا الأمر قد انتهى وقيل: مات فلان! فاصبر وصابر حتى تلقى ما تحب، هذا هو المقصود بالمجالسة، وليست المجالسة للمصافحة أو للتفرج أو للكلام في فلان وفلان، فإن هذا مرض، إذا كان من تجالسه كلامه وحديثه في فلان وفلان، فهذا هو المرض الذي يعمي القلب ويميته، فيجب أن يبتعد الإنسان عمن هذه صفته، ويجب على الإنسان أن يعرف مصلحته، فيجالس من يزداد في مجالسته خيراً، وقديماً قيل: عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي لابد أن يؤثر الجليس بجليسه، فليتق الله الإنسانُ في نفسه، فلا يكون مجالساً لمن يغريه بالشر، أو يزيده فساداً، أو يزين له الفساد، فيكون الإنسان لا يتجنب الشر، ويعمى عن الخير، ومثل هذا يحتاج إلى معالجة حتى يعرف الفرق بين الخير والشر.

مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل

مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجلّ [العاشرة: مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل]. خلاصة هذا كله: الحرص على طاعة الله جل وعلا، ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم. قال رحمه الله: [فمن هذه الأسباب العشرة وصل المحبون إلى منازل المحبة ودخلوا على الحبيب]. قوله: (ودخلوا على الحبيب) معناه أنهم كما قال صلى الله عليه وسلم: (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، يعني: يصبح الإنسان يأتي بكل ما يستطيع من إحسان العمل، لأن قلبه يشاهد ربه، وإن كان ربه جل وعلا على العرش مستوياً، فهو يعلم أن الله ينظر إليه، ويعلم ما في قلبه، ويعلم ما تنطوي عليه نيته، وما يقصد من ذلك، فيزيد في حسن العمل ما استطاع، هذا معنى أنه يدخل على ربه.

شرح فتح المجيد [85]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [85] محبة الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان، والناس يتفاوتون في الإيمان بحسب حبهم لله ورسوله، واتباعهم لكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، وللإيمان حلاوة، ولا يذوق العبد طعمه حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.

آية التهديد والوعيد لمن قدم محبة الدنيا على محبة الله ورسوله

آية التهديد والوعيد لمن قدم محبة الدنيا على محبة الله ورسوله [قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة:24]]. هذه الآيات من آخر ما نزل من القرآن، وهي خطاب للصحابة في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم أمر الله جل وعلا رسوله أن يقول لهم: إن كانت هذه الثمانية الأشياء المذكورة في الآية، أحب إليكم من الله ورسوله، وجهاد في سبيل الله (فتربصوا): انتظروا حتى يحل بكم العذاب، فهو تهديد ووعيد لمن كانت الدنيا بما فيها من الأقرباء والآباء والأبناء والأزواج والأموال والمساكن والتجارات، أحب إليه من الله ورسوله، ومن الجهاد في سبيله، وهذا فاسق لقوله: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24]، لأنه من كان بهذه الصفة فهو من الفاسقين، والفاسق هو الذي خرج عن طاعة الله جل وعلا إلى المعصية. فهذا يدلنا على وجوب تقديم محبة الله جل وعلا ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم ومحبة الجهاد في سبيله على الآباء، والأبناء، والأزواج، والأموال، والمساكن الحسنة الجميلة، والمراكب، والتجارات وغيرها من أمور الدنيا، يجب على العبد أن تكون هذه أمام محبة الله، ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومحبة الجهاد في سبيله؛ مبذولة في هذا السبيل، لا تحول بين الإنسان وبين ذلك، فإن كان يختارها فهو من الفاسقين. وجاء في الحديث بمعنى هذه الآية، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة، واتبعتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد في سبيل الله؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه منكم حتى تراجعوا دينكم)، لأن اتباع الدنيا ومحبتها وتقديمها لا يجتمع مع محبة الله ومحبة رسوله، والجهاد في سبيله، والمقصود بالدنيا أن ينتفع بها الإنسان، وأن تكون الدنيا في طاعة الله جل وعلا، يكتسب الإنسان بها مرضاة الله، أما إذا كان الأمر بالعكس فهي وبال وشقاء وعذاب، يزداد بها الإنسان عذاباً، وعن قريب يتركها لمن يأكلها، ولا يحمده، بل قد يكون حسرة عليه؛ لأنه يتقوى بها على المعاصي، ويكون عليه كفل من الذنوب والعذاب، لأنه هو السبب في جمعها. وقوله جل وعلا: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُم} [التوبة:24]، إلى آخر الآية وعيد من الله جل وعلا لمن كانت هذه صفته، ثم الله يتهدده ويتوعده بعذاب يأتيه في الدنيا قبل الآخرة، ولهذا قال في آخرها (فتربصوا) يعني انتظروا ماذا يحل بكم من العذاب؟ ثم قال جل وعلا: (إن الله لا يهدي القوم الفاسقين) يعني: من كانت هذه صفته فهو فاسق، فتبين بهذا البيان الواضح وجوب تقديم محبة الله ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومحبة طاعته -ومنها الجهاد في سبيله- على الآباء والأبناء والزوجات والمساكن الحسنة الجميلة، والتجارات التي يخشى الإنسان كسادها، يعني: أنها تكون تجارة متهيئة مطلوبة، فيها الربح الكثير. فإذا كانت هذه الأمور كلها أحب إلى الإنسان من الله، ومن رسوله، ومن الجهاد في سبيله؛ فهو من العصاة الذين يستحقون الوعيد. فهذا أمر واضح وجلي، فهو كلام الله جل وعلا، وقلنا: إن هذا من آخر ما نزل ليتبين أن الصحابة رضوان الله عليهم لما كان عندهم شيء من ذلك نبههم الله جل وعلا على هذا الأمر حتى لا تكون الدنيا مائلة لهم عن محبة الله أو محبة رسوله أو مشغلة لقلوبهم عن ذلك وعن الجهاد في سبيله. ولهذا فإنهم رضوان الله عليهم خشوا من ذلك، وصاروا يجاهدون في سبيل الله، وما جلس في المدينة منهم إلا قلة قليلة، وجلهم مات في الجهاد في سبيل الله في بلاد بعيدة في سائر البلاد، في الشرق والغرب، وفي الشمال، وفي كل مكان؛ خوفاً أن يقعوا فيما حذرهم الله جل وعلا منه.

وجوب تقديم محبة الله على غيره

وجوب تقديم محبة الله على غيره قال الشارح رحمه الله تعالى: [أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتوعد من أحب أهله وماله وعشيرته وتجارته ومسكنه فآثرها أو بعضها على فعل ما أوجبه الله عليه من الأعمال التي يحبها الله تعالى ويرضاها، كالهجرة والجهاد ونحو ذلك. قال العماد ابن كثير رحمه الله تعالى: أي: إن كانت هذه الأشياء {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا} [التوبة:24] أي: انتظروا ماذا يحل بكم من عقابه، روى الإمام أحمد وأبو داود -واللفظ له- من حديث أبي عبد الرحمن السلمي عن عطاء الخراساني عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم)]. العينة هي أن يبيع الإنسان سلعة بقيمة مؤجلة، ثم يشتريها من المشتري بثمن أقل مما باعها به، فهو عين الشيء الذي بيع، اشتري بثمن أقل من الثمن الذي باعه به، وهذا من أنواع الربا في أي شيء كان، سواء كان بيتاً أو سيارة أو طعاماً أو غير ذلك، فكل من فعل ذلك فقد وقع في العينة، وهو نوع من الربا الذي يقول الله جل وعلا فيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة:278]، ذروه يعني: اتركوه وابتعدوا عنه، وأخبر جل وعلا أن الذي يأتيه أمر الله ثم لا يجتنب الربا فإنه محارب لله ولرسوله. أما اتباع أذناب البقر فمعناه أن الناس يشتغلون بالزرع، وبأذناب البقر؛ لأن البقر كان يحرث عليها الأرض، فمعنى ذلك أن الاشتغال بالزرع هو ترك الجهاد في سبيل الله، ولهذا قال: (ورضيتم بالزرع)، وفي الصحيح عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه لما كان في قتال الروم في زمن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وكان عليهم يزيد بن معاوية وكانوا محاصرين للقسطنطينية قريباً منها، وكان الروم أمامهم، والمسلمون مقابلون لهم، فخرج رجل من المسلمين يعدو حتى انغمس في صفوف الروم، فقال الناس: سبحان الله! ألقى بنفسه إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: ليس كما تقولون، إن هذه الآية: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] نزلت فينا معشر الأنصار، وذلك أننا لما نصر الله جل وعلا رسوله، وفتح عليه، قال بعضنا لبعض: هلم لنصلح زراعتنا وفلاحتنا، فقد نصر الله جل وعلا رسوله، فأنزل الله جل وعلا: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195]، فالتهلكة: هي الخلود إلى الدنيا، وإصلاح أمور الدنيا، فبين الله أن التهلكة هي الحرث والزراعة وترك الجهاد في سبيل الله جل وعلا، وهذا أيضاً هو معنى قوله: (ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد في سبيل الله)، وقوله: (سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه منكم حتى تراجعوا دينكم)، لأن المسلمين حينئذ يخافون أعداءهم خوفاً شديداً، ويذلون لهم، ويبذلون لهم الطاعة، وقد يبذلون لهم الأموال، وقد يسلط الله عليهم الأعداء ويأخذون ما بأيديهم، والرسول صلى الله عليه وسلم نصره الله بالرعب مسيرة شهر، فمن الخصائص التي خصه الله بها من بين الأنبياء: أنه أعطاه الرعب في قلوب العدو مسيرة شهر، يخافه العدو وإن كان بينه وبينهم مسيرة شهر، وهذا يكون أيضاً للمؤمنين الذين يتبعون الرسول صلى الله عليه وسلم إذا صدقوا، أما إذا تخلوا عن طاعة الله، واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يكون لهم ذلك، بل تنعكس القضية فيصبحوا أذلاء خائفين، يخافون أن يأخذ العدو ما بأيديهم، ويتسلط عليهم، هذا الواقع الذي إذا نظر الإنسان إليه وجده كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم تماماً، صلوات الله وسلامه عليه. قال رحمه الله: [فلابد من إيثار ما أحبه الله من عبده وأراده على ما يحبه العبد ويريده، فيحب ما يحبه الله، ويبغض ما يبغضه، ويوالي فيه، ويعادي فيه، ويتابع رسوله صلى الله عليه وسلم كما تقدم في آية المحنة ونظائرها. قال المصنف رحمه الله تعالى: وعن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين) أخرجاه أي: البخاري ومسلم]. (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده ووالده والناس أجمعين)، هذه محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، قوله: (لا يؤمن أحدكم)، يعني: الإيمان الذي تكون به النجاة من عذاب الله، لا يحصل للإنسان الإيمان الذي ينجو به من عذاب الله حتى يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه من ولده ووالده وجميع الناس.

حكم من قدم محبة الدنيا على محاب الله ورسوله

حكم من قدّم محبة الدنيا على محابِّ الله ورسوله قال الشارح رحمه الله تعالى: [قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: وعامة الناس إذا أسلموا بعد كفر أو ولدوا على الإسلام، والتزموا شرائعه، وكانوا من أهل الطاعة لله ورسوله، فهم مسلمون، ومعهم إيمان مجمل، لكن دخول حقيقة الإيمان إلى قلوبهم يحصل شيئاً فشيئاً، إن أعطاهم الله ذلك، وإلا فكثير من الناس لا يصلون إلى اليقين، ولا إلى الجهاد، ولو شككوا لشكوا، ولو أمروا بالجهاد لما جاهدوا، إذ ليس عندهم من علم اليقين ما يدرأ الريب، ولا عندهم من قوة الحب لله ورسوله ما يقدمونه على الأهل والمال، فهؤلاء إن عوفوا من المحنة، وماتوا، دخلوا الجنة، وإن ابتلوا بمن يدخل عليهم شبهات توجب ريبهم، فإن لم ينعم الله عليهم بما يزيل الريب وإلا صاروا مرتابين، وانتقلوا إلى نوع من النفاق. انتهى]. في الحديث قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من أهله وماله وولده والناس أجمعين)، قوله: (لا يؤمن) نفي، فما هو هذا الإيمان الذي لا يحصل لمن لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه من أهله وولده ووالده وماله ونفسه والناس أجمعين؟ هل الإيمان المنفي شيء مستحب بحيث لو تركه الإنسان يكون غير تارك للواجب أو أنه شيء واجب إذا لم يكن الإنسان بهذه المثابة فهو من أهل الكبائر؟ الصواب أن من لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه من ولده ووالده وأهله ونفسه والناس أجمعين فإنه من أهل الكبائر، ولكنه غير خارج من الدين الإسلامي، عنده إسلام، وكل مسلم يجب أن يكون عنده إيمان لابد؛ لأن الإيمان محله القلب، فيعلم أن الله جل وعلا هو إلهه وربه، ويعلم أنه أرسل رسولاً، وأنه يجب أن يطاع، ويعلم أن وعد الله حق وأنه سيبعثه بعد موته ويجازيه، لابد أن يكون عنده هذا الإيمان. أما الإسلام فهو الطاعة والانقياد، أن يطيع وينقاد ويستسلم، ولا يكون عنده معارضة، يعني: ما يعارض أوامر الله وأوامر رسوله، إذا أمره الله جل وعلا بالصلاة صلى، وإذا أمره بالصيام صام، وإذا أمره بالحج حج، وإذا أمره بالصدقة تصدق. أما إذا امتنع من الأوامر فهو ليس بمسلم، وإن زعم أنه مسلم في نفسه؛ لأن الإسلام معناه فعل الأوامر والاستسلام والانقياد بالطاعة، أما إذا لم يطع فهو لم يسلم، فالإسلام هو الانقياد وعدم المعارضة، أن ينقاد للأمر ولا يعارض، أما إذا حصلت المعارضة وعدم الانقياد فليس بمسلم. ولهذا فسره الرسول صلى الله عليه وسلم بشهادة أن لا إله إلا الله؛ لأن هذا الإيمان لابد منه، يعني: المسلم لابد أن يشهد أن لا إله إلا الله، فهذا الإيمان، ولابد أن يكون عنده إيمان أولاً، ثم إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والحج، فإذا لم يفعل الإنسان هذه الأمور لا يكون مسلماً أصلاً، وإذا مات فهو من أهل النار. وإذا فعل هذه الأمور، فلابد أن يتقدم فعل هذه الأمور إيمان، وهو المعبر عنه بشهادة أن لا إله إلا الله، فإذا لم يحصل على ما أوجبه الله عليه من محبته جل وعلا ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يصبح مسلماً، ولكنه متعرض لوعيد الله جل وعلا، ويكون من أهل الكبائر. يكون أمره إلى الله: إن شاء عذبه على تركه هذا الواجب، وإن شاء عفا عنه، يعني: أنه إذا مات على هذه الحالة يموت وقد ترك ما أوجبه الله عليه من كونه يجب عليه أن يقدم محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم على محبة أولاده ووالديه وماله ونفسه، وإذا ما كان بهذه المثابة ومات وكان يؤدي الواجبات فقط، عنده إيمان ولكنه ما يقدم محبة الرسول على هذه الأشياء، فإنه يكون من أهل الكبائر الذين يستحقون العقاب والعذاب، فإن عفا الله عنه وتجاوز فهو فضله، وإن عاقبه فهو يستحق هذا العقاب، ولكن بعد العقاب والعذاب الذي يستحقه يكون مئاله إلى الجنة، وأكثر الناس على هذا الوصف، وهذه الحالة، حيث إنه يكون ولده أحب إليه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمال أحب إليه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومتى يعرف من هذه صفته؟ هذا أمر واضح يعرف بالنظر إلى أفعاله، فإن كان يحرص على طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباع سنته، ولو كان في هذا الطريق شيء من تعب بدنه أو ذهاب شيء من مصالحه؛ فهذا هو الذي يقدم محبة الرسول صلى الله عليه وسلم على محبة الدنيا ومن فيها. هذا بالنسبة إلى محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكيف بمحبة الله؟ محبة الله محبة عبودية لابد أن تتضمن مع الحب الذل والخضوع والتعظيم.

محبة النبي صلى الله عليه وسلم

محبة النبي صلى الله عليه وسلم محبة الرسول صلى الله عليه وسلم تكون تبعاً لمحبة الله، يحبه لأن الله يحبه، ولأن الله أمر بحبه، ولأنه جل وعلا أكرمه بالرسالة، الله جل وعلا أنقذك على يديه من النار، فمحبته مقدمة على محبة الوالد والأولاد والمال والنفس. فمحبته تكون لهذه الأمور: أولاً: لأن الله أوجب ذلك، فأنت يجب عليك أن تمتثل ما أوجبه الله عليك لأنك عبد لله، والعبد يمتثل أمر سيده، ولا يجوز أن يسأل سيده ويناقشه: لماذا أمرت بكذا؟ ولماذا أوجبت علي كذا؟ بل يقول: سمعاً وطاعة. ثانياً: أن المحب يحب حبيب حبيبه ولابد، ويبغض من يبغض حبيبه، وإلا لم تكن محبته صحيحة، يعني: كون الإنسان يكون له محب يحبه، ويعلم أن هناك عدواً له، ثم يذهب يصاحب العدو فيصافيه ويوده، هذا دليل على أنها محبة زائفة وغير صحيحة، فلابد للمحب أن يكون محباً لمن يحبه، ويبغض من يبغضه حبيبه، وإلا لا تكون محبة صادقة، بل تكون كاذبة بالادعاء، والادعاء ما يفيد. إذاً: محبة الرسول صلى الله عليه وسلم فرض عين على كل مسلم ومسلمة، أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه من جميع من في الدنيا، بما فيها نفسه، فكيف بالمال؟! والمحبة هذه ليست كما يقول بعض المتكلمين: إنها محبة عقلية، يقول: إن العقل ينظر للعواقب، فإذا عرف أن عاقبة محبة الرسول صلى الله عليه وسلم تئول إلى المصالح آثرها بعقله وليس بقلبه، هذا كلام باطل لأن الحب محله القلب. والمتكلمون ينكرون أن يكون الله جل وعلا يحَب أو يحب؛ فقالوا هذا القول على قواعدهم الباطلة، وكل يعرف المحبة، ويجد المحبة في نفسه، فهي تكون في القلب ومن عمل القلب، ثم يظهر ذلك على الأعمال والجوارح، فهذه هي المحبة التي يتحدث عنها، والتي جاء فيها الحديث: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)، وكذلك من نفسه. المحبة القلبية هي التي يكون فيها الإيثار والتقديم، فإذا صار مثلاً أمام المؤمن شيئان: أحدهما: محبوب للرسول صلى الله عليه وسلم، يعني: أنه أمر به وجاء به. والآخر: ليس فيه مصلحة ظاهرة عاجلة له، فإن قدم ما فيه طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم على ما فيه حظ نفسه العاجل، فهذا علامة على أنه يحب الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من محبته المال، وأكثر من محبته لولده وأهله والناس، وهنا ظاهر، والدليل على هذا قوله جل وعلا: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]، وسبق أن هذه الآية تسمى آية المحنة؛ لأن الله امتحن بها الذين قالوا: إننا نحب ربنا حباً شديداً، فامتحنهم الله جل وعلا بذلك، وأن هذا الحب يصدق بهذه العلامة، وهي علامة ظاهرة وواضحة. أما أن يصل الإنسان إلى الكمال فهذا ليس بلازم، ما يلزم أنه يصل إلى الكمال، يعني: آحاد الناس لا يمكن أن يكون الحب عنده والإيمان والعمل مثلما كان عند أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أو مثلما كان عند عمر أو عثمان أو علي وأشباههم، فهذا فضل الله يؤتيه من يشاء. ولهذا كان الإيمان درجات لأجل تفاوت ما في القلوب من هذه المحبة، فالتوقير توقير الله جل وعلا، وتقديره وتعظيمه، ولكن المهم أن الإنسان لا يرتكب الكبائر، ويحافظ على الشيء الذي أوجبه الله عليه، أما الشيء الذي أمر به أمر استحباب فهذا يتفاوت الناس فيه تفاوتاً عظيماً، وليس واجباً على الإنسان أن يفعله، وإن كان فيه فضل. وقد ذكر الله جل وعلا طبقات الناس الذين يرثون الجنة، فقال: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:32]. فالظالم لنفسه: هو الذي ترك بعض الواجبات. والمقتصد: هو الذي اقتصر على الواجب وترك المستحبات. أما السابق بالخيرات فهذا الذي فعل الواجب أولاً، ثم فعل المستحبات ثانياً، وهؤلاء هم أعلى المؤمنين في الدنيا عند الله وفي درجات الآخرة، وليس المعنى أن الإنسان إذا ترك بعض الواجبات أنه يكون خارجاً من الدين الإسلامي لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم)، فإن هذا فيه إشكال عند كثير من الناس، وكثير من شراح الحديث يقول: لا يؤمن الإيمان الكامل، ويحتمل أن المراد به الكامل يعني: الإيمان الذي وجب عليه، وهو كامل وواجب، ويحتمل أنه الكمال المستحب، فإن قال: المستحب فهذا لا يجوز، لماذا؟ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينفي الإيمان عمن ترك مستحباً لا يعاقب عليه، لا يمكن أن يكون هذا. فمثلاً الذي حج حجة الفريضة ثم لم يحج بعد ذلك، هل يجوز أن يقال: إنه ليس مؤمناً الإيمان الكامل؟ لا يجوز أن يقال هذ، مع أن الحجة الثانية مستحبة، والمستحبات كثيرة جداً، والناس يتفاوتون فيها تفاوتاً عظيماً. ولا يمكن أن يأتي بالعبادات مثلما أتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم من الكمال، ولا يمكن لأحد من الناس أن يأتي بالأعمال مثلما أتى بها. فإذاً: الكمال المستحب يتفاوت تفاوتاً عظيماً، ولا يجوز أن ينفى الإيمان عمن لم يفعل الكمال المستحب، وإنما ينفى الإيمان عمن ترك واجباً هو فرض عليه، وهذا كثير في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينفي الإيمان إما لفعل محرم أو لترك واجب، فمثال ترك الواجب هذا الحديث، ومثال فعل المحرم قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن). فنفى الإيمان عنه في هذه الحالة، والمنفي ليس هو أصل الإيمان، وإنما هو الواجب الذي يجب على الإنسان أن يتحلى به، ثم يمنعه من فعل المحرمات؛ لأن من كان عنده إيمان وتحلى به لا يجوز أن يقتحم ما حرمه الله عليه، فإذا فعل ذلك فمعناه أنه زال عنه الإيمان الذي يحبس صاحبه عن الوقوع في المحرمات، وبقي عنده أصل الإيمان، ولكن هذا الأصل لا يقوى على منعه من العذاب ومن دخول النار، ولو فعل هذه الحالة فإن حكمه في الظاهر أنه يدخل النار إذا شاء الله، ثم بعد ذلك ينجيه الله جل وعلا بعدما يتطهر. ويكثر في الأحاديث وفي النصوص أن أهل الكبائر في النار، كما قال جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10]، ومعروف أن هذه كبيرة، أكل مال اليتيم ما يخرج الإنسان به من الدين الإسلامي، ولا يجعله كافراً، ولكنه يكون مرتكباً لكبيرة، ومتوعداً بالنار، وكذلك آكل الربا والقاتل وغير ذلك مما جاءت به النصوص. كل نص فيه نفي الإيمان، أو فيه التوعد على فعل محرم بأنه من أهل النار، أو من أهل الفسق، أو إنه ليس من المسلمين أو ما أشبه ذلك، فهذا لأنه ترك واجباً عليه، أو فعل محرماً لا يجوز فعله، فتوعد على ذلك، إيمانه يكون ناقصاً، ولكنه لا يكون زائلاً وخارجاً بالكلية، بل عنده شيء من الإيمان، وبهذا الإيمان الذي عنده يكون له عاقبة السعادة، وإن ناله ما ناله. ولهذا يكثر العذاب في المسلمين في القبر، وفي الموقف، وفي النار، فإن النصوص جاءت بذكر أناس كثير يعذبون في القبر، وبعضهم لا يكفي عذابه في القبر، بل يستمر عذابه في القبر إلى أن يبعث الله جل وعلا الناس، ثم يزاد عذاباً في الموقف، وبعضهم لا يكفيه ذلك بل يستمر عذابه ويدخل النار، وقد كثرت النصوص في ذكر الشفاعة لإخراج من يدخل النار، وهي لا تكون إلا للمسلمين المؤمنين، ما يمكن أن تكون الشفاعة لكافر؛ لأن الله أخبرنا أن الكفار لا تنالهم الشفاعة، وأنهم لا تنفعهم شفاعة الشافعين، ولا تفيدهم، وإنما تنفع المؤمنين. فهؤلاء أصحاب الكبائر الذين تركوا واجبات أو ارتكبوا محرمات، وهذا كله يدلنا على تفاوت الإيمان عند الناس، منهم من إيمانه يمنعه من العذاب, ومنهم من يكون إيمانه ضعيفاً لا يمنعه من العذاب فيعذب، ومنهم من يكون إيمانه زائداً على الواجب حتى وصل إلى المستحب، فهذا هو الذي يسبق إلى الجنة؛ لأن حسناته صارت راجحة, بل وزائدة على السيئات زيادة واضحة، فمثل هذا لا يعذب ولا يناله العذاب.

الفرق بين محبة الله ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم

الفرق بين محبة الله ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم قال الشارح رحمه الله: [وفي هذا الحديث: أن الأعمال من الإيمان؛ لأن المحبة عمل القلب. وفيه: أن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة تابعة لمحبة الله لازمة لها، فإنها محبة لله ولأجله, تزيد بزيادة محبة الله في قلب المؤمن ,وتنقص بنقصها، وكل من كان محباً لله فإنما يحب في الله ولأجله كما يحب الإيمان والعمل الصالح، وهذه المحبة ليس فيها شيء من شوائب الشرك كالاعتماد عليه, ورجائه في حصول مرغوب منه أو دفع مرهوب منه، وما كان فيها ذلك فمحبته مع الله لما فيها من التعلق على غيره والرغبة إليه من دون الله]. يعني: الفرق بين محبة الله جل وعلا ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم أن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم مكملة لمحبة الله؛ لأنها تابعة لها، فهي محبة لله وفي الله، وليست محبة مع الله. أما المحبة مع الله فهي شركية، تكون محبة شرك, وذلك أنه يجعل له من المحبة مثل ما يكون من جنس المحبة التي تكون لله، والمحبة التي تكون لله عرفنا أنها ما كان فيها عبودية وذل وخضوع وتعظيم ورجاء وخوف. والرسول صلى الله عليه وسلم ما يملك مع الله شيئاً، لو أن إنساناً دعاه واستغاث به وقال: أرجوك أن تنجيني من النار، أرجوك أن تغفر ذنوبي، أرجوك أن تصلح قلبي، أرجوك أن تهب لي مالاً، وما أشبه ذلك؛ فمعنى ذلك أنه جعله في منزلة الله، وصار يعبده عبادة؛ لأن الدعاء والرجاء والخوف يجب أن يكون لله وحده، وكذلك الخوف العيني الذي يخاف منه الإنسان, والمخوف غائب عنه، أو أن يدعى له ما هو من خصائص الله من معرفة الغيب والاطلاع على ما في القلوب، ومعرفة المستقبلات والماضيات, والاطلاع على اللوح المحفوظ وما فيه ,أو كونه يستطيع أن يغير الكون أو يبدله أو أن يجعل هذا الشقي سعيداً أو هذا السعيد شقياً وما أشبه ذلك؛ هذا لا يجوز أن يكون إلا لله. فمن جعل شيئاً من ذلك لأحدٍ من خلق الله سواء كان رسولاً أو ولياً أو ملكاً فقد أشرك، ووقع في الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله جل وعلا إلا بالتوبة منه، ومن مات على ذلك فهو في النار خالداً فيها، من مات معتقداً وفاعلاً لهذه الأمور فهو مشرك الشرك الأكبر، ولا ينفعه دعواه أن هذه محبة؛ لأن المحبة يجب أن تكون على وفق أمر الله ,ووفق ما كلفك الله جل وعلا به، وليست بهوى النفس ولا بالتقليد ولا بالأوضاع التي يتواضع عليها الناس، بل يجب أن تكون بالشرع الذي جاء به رسول الهدى صلوات الله وسلامه عليه. والرسول صلى الله عليه وسلم بين هذا ووضحه وحذر منه كثيراً، وسيأتي شيء من ذلك في هذا الكتاب، حتى إنه لما قال له رجل: (ما شاء الله وشئت، قال: أجعلتني لله نداً؟! بل ما شاء الله وحده) مع أنه يخاطبه وله مشيئة، ولكن أراد صلوات الله وسلامه عليه أن يسد الباب الذي يمكن أن يدخل الشيطان منه ,ويفسد على أمته دينها. ولما جاءه القوم وقالوا له: (أنت سيدنا وابن سيدنا, وأنت خيرنا وابن خيرنا, كره ذلك وقال: أيها الناس! قولوا بقولكم أو ببعض قولكم، لا أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله جل وعلا إياها، أنا عبد الله ورسوله، فقولوا: عبد الله ورسوله). والعبودية هي أكمل مقاماته صلوات الله وسلامه عليه، يعني: عبوديته لله لأنه كملها، ولهذا أثنى الله جل وعلا عليه بالعبودية، وإلا فهو بشر صلوات الله وسلامه عليه، كما قال الله جل وعلا له: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف:110] هو بشر مثلنا، ولكن ميز وخصص بأنه يوحى إليه: {يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الكهف:110] فهذه هي الميزة والخصيصة التي خصه الله بها، أما الأصل فهو مثل الناس. وقول كثير من الغلاة: إنه أصل الوجود، ويقولون: إنه جاء في الحديث: (لولاك لولاك ما خلقت الأفلاك)، فهذا كذب! ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم هذا، وهذا خلاف كتاب الله، وكذلك الذين يقولون: أول مخلوق هو نوره، ويقولون: نوره من نور الله ,وأن الله خلقه من نوره، كله غلو مخالف لكتاب الله, وهو من سنن النصارى في غلوهم في عيسى عليه السلام، وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عنهم بأن هذه الأمة ستفعل كما فعلت الأمم قبلها، والخبر من باب التحذير. والمقصود: أن يميز الإنسان بين ما يجب لله جل وعلا وما يجب لعبده، فالواجب لله العبودية, والعبودية هي الحب الذي يتضمن الذل مع التعظيم والخضوع والرجاء والخوف، ثم يتبع ذلك الدعاء والخشية وغيرها، أما محبة رسوله صلى الله عليه وسلم فهي محبة له, تحبه لأن الله يحبه ولأن الله أمر بحبه ,ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق طاعة لله جل وعلا. إذاً: تكون محبته تبعاً لمحبة الله, وليست محبة مع الله، أما المحبة مع الله فهي التي تشترك مع محبة العبودية, وهذه شرك ولا يجوز أن تكون لأحد من الخلق. فبهذا يحصل التمييز بين المحبة في الله ولأجله التي هي من كمال التوحيد وبين المحبة مع الله التي هي محبة الأنداد من دون الله.

أقوال أهل البدع في منزلة العمل من الإيمان

أقوال أهل البدع في منزلة العمل من الإيمان من فوائد الحديث السابق أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، وهذا من الأمور التي خالف فيها بعض أهل البدع أهل السنة, حيث زعموا أن الإيمان هو مجرد تصديق القلب فقط , أما الأعمال فهي خارجة عن ذلك. وهؤلاء الذين قالوا هذا القول قسمان: قسم يجعل الواجب الذي به النجاة هو ما كان في القلب فقط، ولو أن الإنسان أتى بأي ذنب كان، وإيمانه في قلبه كامل، أو ترك الأعمال؛ فإنه في الجنة وإن ترك الصلاة والصوم والحج والزكاة. فهذا قول مجانب للحق, هو من أبطل الباطل, وهؤلاء يسمون المرجئة المحضة، وهم الجهمية؛ لأنهم زعموا أن الإيمان المعرفة فقط. ولهذا يقول لهم أهل السنة: يلزم من هذا أن يكون إبليس مؤمناً لأنه يعرف ربه, وأنتم قلتم: الإيمان هو المعرفة، ويلزم أن تكونوا أنتم كفاراً؛ لأنكم ما عرفتم ربكم، فهم أجهل الناس بالله جل وعلا, وهذا القول لا وجود له الآن، زال مع أهله الذين زالوا والحمد لله، ونرجو ألا يكون له وجود. القسم الثاني: ما يسمى بمرجئة أهل السنة، يسمون هكذا، وبعضهم يقول: مرجئة الفقهاء، وكثير من المحققين يقول: إن الخلاف معهم خلاف لفظي وليس معنوياً، لأنهم يقولون: من ترك العمل فهو معرض للعذاب والعقاب. ويقولون: الأعمال من مقتضى الإيمان, ولكنها لا تدخل في مسماه، الإيمان في القلب, أما الأعمال فهي التي يقتضيها الإيمان، إذا وجد الإيمان فلابد من وجود العمل، فإذا كان هذا قولهم فيكون الخلاف لفظياً. والصواب: أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، يعني: أن العمل يكون إيماناً, وهذا دلت عليه النصوص كما قال الله جل وعلا: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143]، يعني: عملكم كما جاء في سبب النزول، فإن سبب نزول الآية: تحويل القبلة, كانوا يصلون أولاً إلى جهة الشام, فأمروا بالاتجاه إلى الكعبة، فسأل المؤمنون: كيف بصلاتنا التي صليناها نحو الشام؟ فنزلت الآية: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] يعني: صلاتكم التي صليتموها إلى تلك الجهة محفوظة عند الله, وسوف يجزيكم عليها, فسماها إيماناً. وكذلك قوله جل وعلا: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11]، قال مجاهد: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله, فيرضى ويسلم. فسمى الرضا والتسليم إيماناً, ومعلوم أن الرضا عمل, والتسليم عمل، وهذا شيء كثير جداً. ولكن القول الأول الذي قالوه ممتنع عقلاً وواقعاً, لا يمكن أن يوجد في قلب إنسان إيمان ولا يوجد عمل! هذا ممتنع, ومستحيل مثل هذا، إذا وجد الإيمان في قلب الإنسان فلابد أن يبعثه على العمل، ولا يمكن أن يكون هناك إيمان بلا عمل، فالقول الذي قاله أولئك المبتدعة هو قول مقدر ذهني فقط،، يعني: فرض ذهني, أما أن يكون واقعاً فلا وجود له, ولا يمكن أن يوجد؛ لأنه لابد أن يكون صاحب الإيمان عاملاً, فإذا ترك العمل فهو دليل على أنه ليس عنده إيمان.

شرح فتح المجيد [86]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [86] حلاوة الإيمان هي ثمرة العلم النافع والعمل الصالح، ومعناها: استلذاذ الطاعات، وتحمل المشاق، وإيثار ذلك على شهوات الدنيا، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بثلاث خصال، من وجدت فيه وجد حلاوة الإيمان، فينبغي معرفتها والحرص على العمل بها.

حديث: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان)

حديث: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان) قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولهما عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار)، وفي رواية: (لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى)، إلى آخره]. قوله: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان)، والرواية الأخرى: (لا يجد)، الرواية الأخرى فيها النفي، فالإنسان لا يجد حلاوة الإيمان حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وحتى يحب المرء لا يحبه إلا لله، وحتى يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار. إذا وجدت هذه في قلب الإنسان، وتحلى بها؛ فإنه يجد بها حلاوة الإيمان، ففي هذا دليل على أن الإنسان قد يجد الحلاوة وقد لا يجدها، وأن الإيمان له حلاوة توجد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (يجد)، أو (يجد بهن)، ويقول: (لا يجد عبد حلاوة الإيمان حتى يكون)، فوجود الحلاوة يكون بهذه الخصال الثلاث. وقوله: (لا يجدها حتى) دليل على أنها أمر محسوس، وأن الإيمان له حلاوة، وهذه الحلاوة ليست حلاوة عقلية كما يقوله من يقوله أو حلاوة معنوية، بل هي حلاوة محسوسة يحس بها الإنسان، وحلاوته أحلى من الطعام المشتهى، وأحلى من الشراب الحلو المشتهى؛ لأنها تشمل البدن كله، وتعم الجوارح وتبقى معه، بل يزول بها الآلام التي قد يجدها، ويتحمل في سبيلها ما لا تتحمله الجبال إذا وجد هذه الحلاوة. فمثلاً: كان الرسول صلى الله عليه وسلم في غزاة، وأراد أن يبيت صلوات الله وسلامه عليه مع المسلمين، فأمر رجلين من أصحابه أن يذهبا إلى شعب معين ويحرسا في الليل، فلما ذهبا قال أحدهما للآخر: إما أن تنام أنت أول الليل أو أنام أنا، فقال: بل أنا أنام وأقوم آخر الليل، فنام صاحبه وهو قام يصلي، فجاء رجل من الكفار قد أخذت زوجته، وأقسم أن يذهب خلف المسلمين حتى يريق فيهم دماً، فجاء فرأى شخص الرجل الذي يصلي، فعرف أنه رجل من المسلمين، فصوب إليه نبله فضربه وأثبته فيه، فنزعه من بدنه، واستمر في قراءته، ثم صوب إليه السهم الثاني وضربه، فنزعه واستمر في قراءته، ثم صوب إليه الثالث وضربه، فعند ذلك أيقظ صاحبه، ولما استيقظ صاحبه رأى الدماء تسيل منه قال: سبحان الله! لماذا ما أيقظتني في أول الأمر؟ فقال: والله لولا أني خفت على المسلمين، ما أيقظتك فإني كنت في آيات فكرهت أن أقطعها قبل أن أوقظك. ما الذي حمله على احتمال الألم؟ حلاوة الإيمان وتلاوة القرآن، تحمل في سبيل الله هذا الأمر حتى كاد يصل إلى القتل، والأمثلة على هذا كثيرة جداً، هذه الحلاوة هي فوق حلاوة الطعام، وذلك إذا تحلى قلبه وجوارحه بأن الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، من كل شيء حتى من نفسه؛ صارت الطاعة مقدمة على هذه الأمور، كما حدث لهذا الرجل، قدمها حتى على نفسه، وإنما حمله على أن يقطع قراءته ومناجاته خوفه على المسلمين، وامتثاله أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما نفسه فلم تكن هي المؤثرة في ذلك. هذا أمر يجعل الإنسان يتحمل في سبيله المشاق والأمور العظيمة، والإنسان قد يجد في نفسه هذا الشيء، أنه إذا عمل طاعة لله يجد لذة وطمأنينة، بخلاف ما إذا عمل بالمعصية، فإنه يجد وحشة وخوفاً وقلقاً يقلقه، ولكن هذا الشيء لا يشعر به من كانت معاصيه كثيرة. وكذلك من كانت الطاعة ليست من شأنه وليس بمتحلٍ بها، وإنما تأتي منه مرة وتذهب أخرى لا يجد ذلك؛ لأن الذنوب تضاد هذه الأمور أو تضعفها فلا تظهر، فيكون الإنسان شبه ميت، والميت إذا جرح لا يحس بالجرح؛ لهذا يقول الله جل وعلا: {بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] الران هو آثار الذنوب، غطاها فأصبح لا يحس الإنسان بأثر الذنب، خلافاً لصاحب الطاعة فإنه إذا وقع في معصية ندم وخاف، وأصابه الوجل حتى يقلع عن ذلك، ويكتسب طاعات تكفر عنه هذا الأمر. قال الشارح رحمه الله تعالى [قوله: (ولهما عنه) أي: البخاري ومسلم عن أنس قوله: (ثلاث) أي: ثلاث خصال، قوله: (من كن فيه) أي: وجدت فيه تامة، قوله: (وجد بهن حلاوة الإيمان) الحلاوة: هنا هي التي يعبر عنها بالذوق، لما يحصل به من لذة القلب ونعيمه وسروره وغذائه، وهي شيء محسوس يجده أهل الإيمان في قلوبهم]. حلاوة الإيمان في الواقع هي ثمرة الطاعات، فعندما يستشعر الإنسان أنه أدى عبادة لله جل وعلا على الوجه الذي أمره به، ويشعر أن الله جل وعلا تفضل عليه وأنعم عليه حيث قربه في ذلك، فمن أعظم نعم الله على العبد: أن يعمل بطاعة الله جل وعلا على نور من الله، يرجو ثوابه، ويخاف عقابه. وهذا في الواقع هو النعيم الذي يكون في الدنيا قبل الآخرة، وليس النعيم والحلاوة لذة البدن الحيوانية التي يشترك فيها العاقل وغير العاقل من البهائم وغيرها، وإنما اللذة والحلاوة والنعيم أن يتصل القلب بربه جل وعلا اتصالاً وثيقاً، يؤمن به إيماناً يقينياً، ثم يكون ذلك على نور، يعني: اتباع للرسول صلى الله عليه وسلم وهديه، وأن يكون على يقين لأنه يستيقن أنه على الطاعة والهدى، وهذا الذي أخبر الله جل وعلا أنه يجعل له نوراً يمشي به في الناس، هذا هو النور والهدى والحياة: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} [الأنعام:122]. الموت الحقيقي يكون بالجهل وبالإعراض عن الله جل وعلا، وليس الموت كونه يفارق البدن، هذا شيء قضى الله جل وعلا به على جميع خلقه، ولكن قد تكون حياته بعد المفارقة أحسن من قبل بكثير، حياة حقيقية وليست حياة وهمية تصورية، ولهذا يقول الله جل وعلا: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} [البقرة:154]، لا تشعرون بحياتهم وبما أعد الله لهم. وفي الآية الأخرى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169]. فالحياة الحقيقية هي أن يتحلى الإنسان بطاعة الله جل وعلا، وتكون هذه الطاعة تصل إلى قلبه، ويتنعم بها ويجد اللذة، ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة. وليست هذه الجنة بساتين ورياحين، وإنما هي اللذة بطاعة الله جل وعلا والتنعم، حتى وإن أوذي، حتى وإن كان فقيراً مدقعاً يجد النعيم في ذلك.

حلاوة الإيمان وعلاقتها بحفظ الجوارح

حلاوة الإيمان وعلاقتها بحفظ الجوارح ووجود حلاوة الإيمان يكون بالقلب والبدن، فإن البدن يتبع القلب، ولهذا جاء في تفسير قوله جل وعلا: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه:123] يقول ابن عباس: لا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الدنيا قبل الآخرة، وليس معنى الشقاء: كونه يتعب في بدنه في العبادة أو يقوم الليل أو يصوم النهار، هذا ليس شقاءً ولا تعباً، هذا يكون نعيماً، وأهل الطاعة تكون أبدانهم أقوى من أبدان أهل المعصية، وإن كانوا يتنعمون بالملذات. أحد السلف مضى عليه تسعون سنة، فكان يثب كوثوب الشباب فقال له رجل من الحاضرين: ارفق بنفسك فإنك كبير السن، فقال له: هذه جوارح حفظناها في الصغر عن معاصي الله؛ فحفظها الله جل وعلا لنا في الكبر. والله جل وعلا يحفظ عبده الذي يحفظ جوارحه عن المعاصي والمخالفات، كما في حديث ابن عباس في وصية النبي صلى الله عليه وسلم: (احفظ الله يحفظك)، الحفظ يكون على نوعين: حفظ في الدين والعقيدة، وهذا أهم شيء يحفظه الله جل وعلا في دينه وعقيدته فلا يتزعزع، ولا يدخل في الشكوك والانحرافات. وحفظ يكون في بدنه وجوارحه كالسمع والبصر وغيرها؛ لأنه لا يصيب الإنسان مصيبة بمرض أو غيره إلا من جراء ذنوبه، قال جل وعلا: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]. الحسن البصري رحمه الله أوصى أصحابه في الجهاد فقال: إنهم وإن هملجت بهم البغال، وطقطقت بهم البراذين؛ فإن ذل المعصية لفي قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه، فالمعصية فيها ذل وخزي، وفيها هدم للعمر والروح؛ لأنها محاربة لله جل وعلا، وفيها نزع البركة من البدن والجوارح والأعمال، وفيها أيضاً ظلمة في القلب، ووحشة فيما بينه وبين كل من يدور حوله في حياته، يجد قلبه يخفق دائماً، حتى لو حركت الريح الباب وجدته يفزع ويخاف ما الذي حدث؟ ما الذي صار؟ أما أهل الطاعة فعندهم الطمأنينة والسكون؛ لأنهم يعرفون أن ما يصيبهم فبإذن ربهم، فيرضون ويسلمون وينقادون. حلاوة الإيمان هي التي يجدها الإنسان في عبادته لربه جل وعلا من شيء يكون في القلب، ويكون في الجوارح، ثم الشيء الذي يؤمله ويرجوه في المستقبل فإنه يثق بربه جل وعلا وثوقاً لا يكون فيه إذلال، ولا يكون فيه غرور، ولا يمنعه من الاجتهاد؛ لأنه يعرف قدره هو, ولكنه يعرف فضل ربه جل وعلا. لما حضرت الوفاة بلالاً رضي الله عنه كانت زوجته قريبة منه وهي تقول: وا كرباه! فقال: وا قرباه! غداً ألقى الأحبة، محمداً وحزبه. فهو يفرح ويستبشر، هكذا يكون العبد في أحلك المواقف وأشدها فرحاً مطمئناً؛ لأن حلاوة الإيمان عنده، والطاعة التي يجدها أنه يفعلها على بصيرة، وليس كمن يفعل شيئاً ويقول: ما أدري هل هذا صواب أولا؟ ما أدري هل أنا على حق أم أنا على باطل؟ المقصود: أن حلاوة الإيمان ليست شيئاً خالياً في قلبه أو شيئاً يتصوره في العقل فقط، ولا يجده في قلبه ولا في بدنه، كلا، بل هو كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم: يجد حلاوة الإيمان في قلبه، وهذه الخصال الثلاث إذا اجتمعت فيه تامة فإنه يجد حلاوتها، أما إذا وجد بعضها دون بعض فلا يلزم أن يجد حلاوتها, قد لا يجد وقد يجد, وقد يجد شيئاً ضعيفاً, وإنما يجد الحلاوة من اجتمعت فيه هذه الثلاثة الأمور.

معنى حلاوة الإيمان عند العلماء

معنى حلاوة الإيمان عند العلماء قال الشارح رحمه الله: [قال السيوطي رحمه الله في التوشيح: (وجد حلاوة الإيمان) فيه استعارة تخييلية، شبه رغبة المؤمن في الإيمان بشيء حلو، وأثبت له لازم ذلك الشيء, وأضافه إليه. وقال النووي: معنى حلاوة الإيمان: استلذاذ الطاعات, وتحمل المشاق, وإيثار ذلك على أغراض الدنيا، ومحبة العبد لله بفعل طاعته, وترك مخالفته, وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم]. في الواقع أن هذه ثمرة وجود الإيمان، استلذاذ الطاعات هي ثمرة ذلك ونتائجه. [قال يحيى بن معاذ: حقيقة الحب في الله: أن لا يزيد بالبر، ولا ينقص بالجفاء]. معنى قوله: (لا يزيد بالبر، ولا ينقص بالجفاء) البر: هو أن يحسن إليك الذي أحببته, ويصلك بأمور الدنيا, أو بنفع البدن بالخدمة وغير ذلك، فلو فعل ذلك ما زاد حبه؛ لأن الحب ليس لهذا، الحب لله (ولا ينقص بالجفاء)، لو مثلاً جفاك، وأصبح لا يزورك ولا يكلمك ولا يصلك, وانقطعت الصلة بينك وبينه, وليس ذلك عن عداوة، بل مجرد أنه لا يأتي أو أنه مشغول أو غير ذلك، فلا تنقص المحبة من أجل ذلك, لأنها ليست لأمر نفع دنيوي, وإنما هي لشيء قام به وهو طاعة الله، فهو يحب لله، وليس لذاته ولا لشيء يقدمه, وإنما يحب لأنه يحب الله, فأنت تحبه لأنه يحب حبيبك، إذا كانت أمور الدنيا بهذه المثابة لا تزيد ولا تنقص سواء جاءت أو ذهبت، فالمحبة لله أعظم، أما المحبة للدنيا وللناس فهذه ما تجدي شيئاً, فهذه تنقطع بسرعة، لما حصلت مبادلة النفع زادت، فإذا نقصت أو زالت ذهب ذلك وزال لأنه ليس لله، وكل ما لم يكن لله فهو زائل وذاهب لأنه باطل، وإنما يثبت الحق الذي لله جل وعلا.

قوله: (أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)

قوله: (أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما) قال الشارح رحمه الله: [قوله: (أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما) يعني: بسواهما, ما يحبه الإنسان بطبعه كمحبة الولد والمال والأزواج ونحوها، فتكون (أحب) هنا على بابها]. قد يأتي الإشكال الذي جاء في صحيح مسلم في حديث الرجل الذي كان يخطب عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى) فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (بئس خطيب القوم أنت، قل: ومن يعص الله ورسوله)، فلابد أن يفرق بين الله وبين الرسول في المعصية، وهنا يقول: (أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)، قال: (سواهما): فجمعهما في ضمير الجمع، فهنا يحتاج إلى جواب, وقد أجيب عن هذا بأجوبة منها: أن المعصية كل واحدة منهما مستقلة, معصية الله ومعصية رسوله، إذا عصى الرسول فقد عصى الله, وإذا عصى الله فقد عصى رسوله صلى الله عليه وسلم, والمحبة المعتبر فيها المجموع، يعني: أن يحب الله جل وعلا ويحب رسوله جميعاً, المحبة لابد من اجتماعهما وهذا يقول عنه الشارح: إنه جواب بليغ, فإذا كان بليغاً وحسناً فيكتفى به. الجواب الثاني: أن هذا على سبيل الأدب يعني: أنه من الأدب المستحب أن يفرق بين الضميرين, ولا يجمع بينهما, وهذا يدل على الجواز، فيكون النهي ليس للتحريم في قوله: (بئس خطيب القوم أنت)، وإنما ينبغي أن يسلك هذا المسلك من باب الاستحباب. الجواب الثالث: أن الخطبة محل البيان والإطناب والإيضاح, خلاف الكلام الذي يراد منه الحفظ والفهم, ففرق بين الخطبة وبين الكلام الذي يراد منه التعليم، فإنه غالباً يكون موجزاً جامعاً حتى يحفظ, كما كانت عادة الرسول صلى الله عليه وسلم. الجواب الرابع: أن هذا جاء على الأصل السابق, والحديث الذي في صحيح مسلم -حديث نهي الخطيب- نقل عن الأصل, فيجب أن يصار إليه، يعني: يكون شبه ناسخ له، هذا معناه، يعمل بما جاء في حديث الخطيب فلا يجمع بين الضميرين ويكون حديث أنس قبل ورود النهي. هذه أجوبة العلماء على هذا، والله أعلم.

كلام الخطابي في شرح الحديث والرد عليه

كلام الخطابي في شرح الحديث والرد عليه قال الشارح رحمه الله: [وقال الخطابي: المراد بالمحبة هنا حب الاختيار لا حب الطبع كذا قال]. (حب الاختيار لا حب الطبع) يعني: إذا قدم على محبة الله محبة رسوله يكون ذلك باختياره، أما إذا كان بطبعه لا يستطيع أن يترك طبعه, فهذا لا يلام عليه، ولكن هذا غير صحيح؛ لأن نص الحديث: (حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين) ومعروف أن محبة الولد والوالد تكون محبة طبيعية، لا يستطيع الإنسان أن يمتنع منها، فهذا غير صحيح. والصواب: أنها على ظاهرها مطلقة, أن تكون محبة الرسول صلى الله عليه وسلم مقدمة على كل محبة، وأن يتطبع الإنسان بهذا الطبع, بأن يترك الطبع الذي يكون طبعاً بهيمياً, ويتطبع بطبع الإيمان الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا هو الواجب.

ما يتفرع عن محبة الله من مسائل

ما يتفرع عن محبة الله من مسائل قال الشارح رحمه الله: [وأما المحبة الشركية التي قد تقدم بيانها فقليلها وكثيرها ينافي محبة الله ورسوله، وفي بعض الأحاديث: (أحبوا الله بكل قلوبكم)، فمن علامات محبة الله ورسوله: أن يحب ما يحبه الله, ويكره ما يكرهه الله، ويؤثر مرضاته على ما سواه، ويسعى في مرضاته ما استطاع، ويبعد عما حرمه ويكرهه أشد الكراهة، ويتابع رسوله صلى الله عليه وسلم, ويمتثل أمره, ويترك نهيه كما قال الله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]، فمن آثر أمر غيره على أمره, وخالف ما نهي عنه، فذلك علم على عدم محبته لله ورسوله، فإن محبة الرسول من لوازم محبة الله، فمن أحب الله وأطاعه أحب الرسول وأطاعه, ومن لا فلا، كما في آية المحنة ونظائرها، والله المستعان. قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان؛ لأن وجود الحلاوة للشيء يتبع المحبة له، فمن أحب شيئاً واشتهاه, إذا حصل له مراده فإنه يجد الحلاوة واللذة والسرور بذلك، واللذة أمر يحصل عقيب إدراك الملائم الذي هو المحبوب أو المشتهى. قال: فحلاوة الإيمان المتضمنة للذة والفرح تتبع كمال محبة العبد لله وذلك بثلاثة أمور: تكميل هذه المحبة، وتفريعها، ودفع ضدها، فتكميلها: أن يكون الله ورسوله أحب إلى العبد مما سواهما، فإن محبة الله ورسوله لا يكتفى فيها بأصل الحب، بل لا بد أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما. قلت: ومحبة الله تعالى تستلزم محبة طاعته، فإنه يحب من عبده أن يطيعه، والمحب يحب ما يحبه محبوبه ولابد. ومن لوازم محبة الله أيضاً: محبة أهل طاعته كمحبة أنبيائه ورسله والصالحين من عباده]. تفريعها المقصود به: تفريعها بأن يفرع عليها محبة الرسول صلى الله عليه وسلم, ومحبة أولياء الله من أهل الطاعات، هذا فرع عليها، وهذا من مكملاتها.

خلاف العلماء في توجيه جمع الضمير في قوله: (مما سواهما)

خلاف العلماء في توجيه جمع الضمير في قوله: (مما سواهما) قال الشارح رحمه الله: [فمحبة ما يحبه الله ومن يحبه الله من كمال الإيمان، كما في حديث ابن عباس الآتي. قال: وتفريعها: أن يحب المرء لا يحبه إلا لله. قال: ودفع ضدها: أن يكره ضد الإيمان كما يكره أن يقذف في النار. قوله: (أحب إليه مما سواهما) فيه جمع ضمير الله تعالى وضمير رسوله صلى الله عليه وسلم، وفيه قولان: أحدهما: أنه ثنى الضمير هنا إيماءً إلى أن المعتبر هو المجموع المركب من المحبتين, لا كل واحدة، فإنها وحدها لاغية، وأمر بالإفراد في حديث الخطيب؛ إشعاراً بأن كل واحد من العصيانين مستقل باستلزام الغواية، إذ العطف في تقدير التكرير، والأصل استقلال كل من المعطوفين في الحكم. الثاني: حمل حديث الخطيب على الأدب والأولى، وهذا على الجواز. وجواب ثالث: وهو أن هذا ورد على الأصل، وحديث الخطيب ناقل, فيكون أرجح. قوله: (كما يكره أن يقذف في النار) أي: يستوي عنده الأمران.

عصمة الأنبياء

عصمة الأنبياء قال الشارح رحمه الله: [وفيه رد على الغلاة الذين يتوهمون أن صدور الذنب من العبد نقص في حقه مطلقاً وإن تاب منه. والصواب: أنه إن لم يتب كان نقصاً, وإن تاب فلا، ولهذا كان المهاجرون والأنصار رضي الله عنهم أفضل هذه الأمة, مع كونهم في الأصل كفاراً, فهداهم الله إلى الإسلام, والإسلام يمحو ما قبله, وكذلك الهجرة, كما صح الحديث بذلك]. يعني: أن الإنسان ما ينفك عن الذنب, ولكن كونه يقع في الذنب هذا ليس نقصاً, وإنما النقص أن يصر على الذنب ويكرره، أما إذا وقع فيه وتاب فهذا ليس نقصاً, ولا ينقصه بل ربما زاده؛ لأنه قد يكون بعد الذنب حالته أحسن منها قبله, كما قيل في أنبياء الله عندما ذكروا مسألة العصمة, وقد اختلف الناس في ذلك فقال طوائف: هم: معصومون مطلقاً من الذنوب الكبائر والصغائر, ومن أن يخطئوا في التبليغ أو غير ذلك. وطوائف من أهل السنة يقولون: العصمة فيما يبلغونه عن الله جل وعلا فقط، أما الذنوب فليسوا معصومين منها، ولكنهم ما يقرون على ذنب، إذا وقع أحدهم في ذنب نبهه الله؛ فرجع وصارت حالته بعد الذنب أحسن منها قبله، واستدل القائل بهذا بأن الله جل وعلا يحب التوابين، ولا يحرم أولياءه من هذه المحبة. فإذا تاب الإنسان من ذنبه فقد يكون الذنب الذي وقع فيه سبباً لانكسار قلبه وحيائه من ربه, ولا يزال يطالع في قلبه ذلك الذنب, ويحدث توبة وانكساراً وذلاً واستغفاراً حتى يكسب بسبب هذا الذنب أشياء ما يكتسبها لو لم يقع فيه. وهذا واقع لكثير من الناس, ولهذا جاء في الحديث: (إن الرجل يذنب الذنب يدخل به الجنة)، قيل: كيف؟ قال: إنه لا يزال مستحياً من ربه, منكسر القلب, يستغفره حتى يدخل بسبب ذلك الجنة، وهذا هو الصواب. ولهذا ذكر الله جل وعلا عن آدم وهو نبي كريم مكلم كلمه الله سبحانه, أنه أكل من الشجرة التي نهي عنها وعصى ربه فغوى: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه:122]. وذكر عن كليمه موسى عليه السلام أنه قتل نفساً بغير نفس, وأن الله جل وعلا تاب عليه، وهكذا حتى أشرف الأنبياء محمد صلوات الله وسلامه عليه، خاطبه الله جل وعلا بقوله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} [عبس:1 - 10]. هب أن أحداً من الناس يخاطب بمثل هذا الخطاب، يقال له: إنك عبست وتوليت لما جاءك فلان وهو تقي, ربما يغضب ويقول: أنت ما تقدرني، أنت ما تعرف تخاطبني، هذا رب العالمين جل وعلا يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم هذا الخطاب. وكذلك يقول له: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب:1]، يخاطبه بهذا الخطاب، وكثير من الناس لو يواجه ويقال له: اتق الله يا فلان! اتق الله، لقال مستنكراً: ماذا صنعت أنا؟ هل أنا فعلت ذنباً؟ المقصود أن الله جل وعلا يؤدب رسوله صلى الله عليه وسلم بالقرآن تأديباً فيه شيء من التنبيه. كذلك يقول جل وعلا في خطابه له: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة:43]، وهذا إنكار. كذلك قوله جل وعلا: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:68] الكتاب السابق أنكم لا ينزل عليكم العذاب، وهذا بسبب أخذهم الفداء من أسرى أهل بدر الكفار، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو نزل علينا عذاب لم يفلت منا إلا عمر)؛ لأن عمر اعترض وقال: (أرى أن تمكن كل واحد منا من قريبه فيضرب عنقه). والرسول صلى الله عليه وسلم رأى ما في أصحابه من الحاجة والتعب؛ فرحمهم وأخذ الفداء من أجل أن يكون ذلك نفعاً لهم، فنزل عليه العتاب صلوات الله وسلامه عليه. وقال الله جل وعلا: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:1 - 2]، ويقول بعض المفسرين: ليغفر الله لأمتك ذنوبها المتقدمة والمتأخرة، أما هو فليس عليه ذنوب، وهذا تحريف, بل هذه مغالطة. وكذلك قوله جل وعلا: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1 - 3]. قال بعضهم: واستغفره لذنوب أمتك, أما أنت فليس عليك ذنوب، وهؤلاء بعضهم يجعل الرسول صلى الله عليه وسلم قريباً من منزلة الله جل وعلا، حتى إن بعضهم يقول في مثل هذا: إن هذا ليس خطاباً له، وإنما هو خطاب لأمته، ولكن لما كان الوحي ينزل عليه وجه إليه، يقول: الخطاب لأمته. هذا شيء عجيب! يعني: كأنها مغالطة ورد لقول الله جل وعلا. الرسول صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح يقول: (استغفروا الله وتوبوا إليه, فإني أتوب إليه في اليوم أكثر من مائة مرة)، ويقول الصحابة: (كنا نحسب له في المجلس الواحد أكثر من سبعين مرة، يقول: أستغفر الله وأتوب إليه, أستغفر الله وأتوب إليه) وليس هناك أحد غني عن ربه جل وعلا، كما أنه ليس بين الله جل وعلا وبين خلقه صلة إلا بالطاعة، من كان لله أطوع فهو أكرم عند الله, وأقرب إلى الله, بغض النظر عن كونه فلاناً أو من فلان أو غيره.

لا يخلو أحد من الناس من المعاصي

لا يخلو أحد من الناس من المعاصي كل الخلق لا ينفكون عن المعاصي, ولكن يختلفون اختلافاً عظيماً جداً، ولهذا يقولون: إن مما يعد حسنة لبعض الناس يعد سيئة للبعض، كيف يعد سيئة للبعض؟ مثل أهل القرب والولاية, لا يقنعون بالشيء الذي يرى عامة الناس أنه قربات، بل يستغفرون من عباداتهم؛ لأنهم ما جاءوا بها على الوجه الأكمل، يعني: ما جاءوا بها في مقام الإحسان؛ فيستغفرون ربهم من العبادات، أيقولون: ويدل على هذا أنه شرع لنا بعد نهاية الصلاة أن يستغفر الإنسان ربه ثلاثاً كما هي السنة (أستغفر الله, أستغفر الله, أستغفر الله) والصلاة من أفضل القربات, وبعدها مباشرة تستغفر ربك. ففيه إشارة إلى أن الإنسان لا يستطيع أن يأتي بالطاعة على الوجه الأكمل, وهذا شيء معروف يجده الإنسان من نفسه, ولا يستطيع أحد من الأمة أن يأتي بالصلاة كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي بها؛ لأن معرفة ربه جل وعلا والقيام بأمره على الوجه الأكمل خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم، لهذا يقول: (أنا أعلمكم بالله, وأتقاكم له, وأخشاكم له) صلوات الله وسلامه عليه، بل ما يستطيع الإنسان أن يأتي بالطاعة في الصلاة كما أتى بها أبو بكر أو عمر أو غيرهما من الصحابة. ولهذا يقول ابن القيم رحمه الله: يقوم الرجلان في الصف الواحد، كل بجوار الآخر في الصلاة، وبين هذا وهذا مثلما بين السماء والأرض, يكون هذا كأنه يشاهد ربه, ويكون قلبه ساجداً بين يديه, خاضعاً له, ويستشعر عظمته وخطابه, ويود أنه ما ينتهي من الصلاة. والثاني يكون أقل من هذا, أو ربما يكون يفكر في أمور الدنيا, وفيما يزاوله, فيخرج من صلاته وهو يخطط لأموره التي سيفعلها في الدنيا، وربما لا يدري ماذا قرأ الإمام؟ وماذا قال هو؟ ومثل هذا صلاته لا روح فيها في الواقع, يعني: مثل البدن الذي لا روح فيه. المقصود أنه لا يوجد أحد من الناس يخلو من الذنب أبداً، حتى الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ينبههم الله جل وعلا على بعض المخالفات، فنوح عليه السلام لما قال: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [هود:45]، قال الله جل وعلا: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود:46]. هذا خطاب الله جل وعلا لرسول كريم من أولي العزم من الرسل، ثم يقول: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود:47]. وإذا نظر الإنسان إلى خطاب الرب جل وعلا لأوليائه من الأنبياء والرسل؛ يجد أنه ينبههم على أشياء يرجعون عنها، ويستغفرون ربهم منها, ويرون أنها ذنوب؛ ولهذا ففي يوم القيامة يعتذرون من ذلك للناس ويذكرون ذنوبهم كآدم وإبراهيم وموسى، فيعتذرون للناس مما كان منهم في الدنيا. فآدم يقول: من الذي أخرجكم من الجنة؟ إنما خرجتم من الجنة بسببي فلست كما تظنون. اذهبوا إلى غيري، إن ربي نهاني أن آكل من الشجرة فأكلت منها وعصيته، مع أنه يعلم أن الله قد غفر له، والذنب إذا غفر كأنه لا وجود له، ولكنه مقام الاستحياء من الله جل وعلا. وكذلك نوح عليه السلام يقول: إني سألت ربي ما ليس لي به علم. اذهبوا إلى غيري، مع أنه يعلم أن الله قد غفر له ذلك. وكذلك إبراهيم عليه السلام يعتذر عن أمور كان يجادل بها عن دين الله، وتعد من قبيل حسناته، ولكنه استحيا من ربه؛ لأنها ليست على ظاهرها، وكان فيها شيء من التعمية والتورية، وخشي أن تكون كذباً، وأن تكون ذنباً فاعتذر. وكذلك موسى عليه السلام يعتذر بالقتل مع أن الله خاطبه وأعلمه بأنه قد غفر له، لما قال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي} [الأعراف:151]، فغفر الله له، إلا أنه مستح من الله تعالى أيضاً. فالمقام مقام عظيم جداً، فيستحيون من ربهم أنهم وقعوا في شيء من الذنوب وإن كان قد تاب عليهم، فهم أعظم الأولياء، وأقربهم إلى الله جل وعلا، وهؤلاء خلاصة الخلق الذين أخلصهم الله من بني آدم، فكيف بآحاد الناس ممن هم سوى الأنبياء؟! إن آحاد الناس قد يقع منه الذنب في اليوم عدة مرات، والذنوب قد تكون من قبل ذنوب القلوب التي هي أعظم من ذنوب الجوارح، فالحق أن ذنب القلب أعظم من ذنب الجارحة، مثل الحسد والغل والحقد على المسلمين أو بغضهم على باطل، أو حب على باطل، أو ما أشبه ذلك. كبائر القلوب تهلك، وهي كثيرة جداً، وكثير من الناس لا يبالي بها، وكثير منهم يجعل الغيبة نصيحة. والمقصود: أن الإنسان لا يقنط بسبب الذنب، في الصحيح: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم)، وهذا مقتضى أسماء الله، مثل الغفور والتواب والعفو. وليس عيباً أن الإنسان يذنب، ولكن العيب كونه يصر على ذنبه، وإلا فالله جل وعلا يحب التوابين، والتواب هو الرجاع كثير التوبة، وكثرة التوبة تدل على كثرة الذنوب، فكلما أذنب ذنباً تاب، وكون الإنسان يتصور أن فلاناً ليس له ذنوب هذا خطأ، لا يوجد أحد ليس له ذنوب, ولكن إذا كان الإنسان رجاعاً أواباً ينوب إلى ربه ويرجع إليه فهذا هو الكمال. [قوله: وفي رواية: (لا يجد أحد) هذه الرواية أخرجها البخاري في الأدب من صحيحه ولفظها: (لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلا لله، وحتى أن يقذف في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، وحتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما). وقد تقدم أن المحبة هنا: عبارة عما يجده المؤمن من اللذة والبهجة والسرور والإجلال والهيبة ولوازم ذلك، قال الشاعر: أهابك إجلالاً وما بك قدرة علي ولكن ملء عين حبيبها]. هذا يخاطب امرأة يحبها، ولا يجوز أن يكون لمخلوق محبة مثل هذه، يقول: أهابك إجلالاً وما بك قدرة علي ولكن ملء عين حبيبها فقال: ملء عين، والقلب يمتلئ، ولكن مثل هذا يجب أن يكون لله جل وعلا أن يهاب ويجل ويحب، أما إذا كان لمخلوق فهو عابد لذلك المخلوق، وبعض الناس يعبد شهوته فيكون حظه من العبادة لمخلوق مثله، ثم هذه المحبة تكون عداوة ولعنة فيما بعد, فكل واحد يلعن الآخر ويتبرأ منه يوم القيامة.

شرح فتح المجيد [87]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [87] إن من أعظم معالم الدين الإسلامي: المحبة في الله، وهي التي يرجى بها الأجر والثواب من الله عز وجل، لأنها لم تكن لأمر دنيوي، أو غرض شخصي. ومن المعالم أيضاً: الولاء لأولياء الله تعالى، والبراء من كل أعدائه عز وجل، وبهذا تنال ولاية الله، ولن يجد عبد طعم الإيمان -وإن كثرت صلاته وصومه- حتى يعقد الولاء لأولياء الله، والبراء من أعدائه.

أثر ابن عباس: (من أحب في الله، وأبغض في الله)

أثر ابن عباس: (من أحب في الله، وأبغض في الله) قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (من أحب في الله, وأبغض في الله, ووالى في الله, وعادى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك، وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا, وذلك لا يجدي على أهله شيئاً) رواه ابن جرير]. قال ابن عباس هذا وهو في آخر حياته رضي الله عنه، وقوله هذا بالنسبة لمن في وقته إلى ما كان عليه الصحابة زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كانوا على جانب عظيم من محبة الله جل وعلا, ومن المؤاخاة في الله جل وعلا، قال عبد الله بن عمر: (ما كان أحدنا يرى أنه أحق بدرهمه من أخيه)، والله جل وعلا يقول في كتابه في وصفهم: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9] أي: أنهم يقدمون غيرهم على ما يحتاجونه، ويعطونهم إياه وهم بحاجة إليه، ولكنهم يطلبون رضوان الله جل وعلا، وقوله: (وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) يعني: ولو كان بهم الحاجة والفاقة إلى هذا الشيء, ومع ذلك يبذلونه حباً لطاعة الله جل وعلا وامتثال أمره، فقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يتحابون في الله أعظم المحبة, وكانت موالاتهم في الله وليس لشيء آخر. وكذلك إذا أبغضوا أحداً فبغضهم لله، فيبغضون من كان عنده كفر أو فسق، فيبغضه الواحد منهم من أجل ذلك ولو كان قريبه، وهذا أمر لابد منه، وهو من واجب الإيمان؛ لأن الله جل وعلا يقول: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22]، ومن أقرب من الابن والأب من الناس؟! فإذا كان عدواً لله فيجب أن تعاديه، ولا يكون بينك وبينه مودة، فالمودة إنما تكون لله جل وعلا، قال ابن عباس: ولا تنال ولاية الله إلا بذلك، ولو كثرت صلاة الإنسان وصومه فلن يجد طعم الإيمان- حتى يحب لله، ويبغض لله، ويعادي لله، ويوالي لله. فالأصل ليس كثرة الصلاة والصوم، الأصل هو الحب الذي هو العبودية لله، فلابد للعبد أن يحب من يحبه الله ويبغض من يبغضه الله، هذا شيء لابد منه؛ لأن هذه فروع محبة الله، ولا يمكن أن يقول الإنسان: أنا أحب ربي، وهو يوالي عدو الله! مستحيل أن يدعي الإنسان المحبة ويكون حليفاً لعدوه، هذا لا يمكن؛ ولهذا حذرنا الله جل وعلا كثيراً من موالاة الكفار فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة:51]، وقد ذكر جل وعلا ما وقع من بعض الصحابة وهي واقعة قد يتصور الإنسان أنها سهلة وليست بشيء، ولكنها عظيمة جداً أنزل الله فيها قرآناً يتلى، وهي قصة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه, فلما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يغزو قريشاً لما نقضوا العهد الذي بينهم وبينه، فدعى ربه: (اللهم عم عليهم أخبارنا حتى نبغتهم)، وصار يسأل عن الطرق التي في شمال المدينة، فكتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً أرسله إلى قريش فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش, أما بعد: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءكم بجيش لا قبل لكم به. وهذا فيه إنذار بالواقع لهم، ومع ذلك جاءه الخبر من السماء بأن كتاباً أرسل مع امرأة, وهي في مكان كذا وكذا؛ فأمر صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب والزبير وقال: (ستجدان ظعينة في روضة خاخ معها كتاب فائتياني به). فذهبا فوجدا المرأة معها غنم, فسألاها الكتاب، قالت: ليس معي كتاب، قالا لها: والله ما كَذبنا ولا كُذبنا، والله لتخرجن الكتاب أو لننزعن الثياب -يعني: نجردك من ثيابك ونبحث, فالكتاب معك ولابد- فلما رأت الجد أخرجت الكتاب من عقيصتها -يعني: وضعت الكتاب في رأسها، وظفرت عليه شعرها- فأخرجته ودفعته إليهما. فدعاه الرسول صلى الله عليه وسلم, وقال: ما هذا؟ قال: يا رسول الله لا تعجل علي، والله ليس بي شك، وإني أعلم أن الله سينصرك، وأن هذا الكتاب لا ينفع قريشاً، ولكني رجل غريب في قريش, وكل من معك لهم أقارب في مكة، فأردت أن أتخذ عندهم يداً مع علمي أنه لا يضرك ولا يضر المسلمين، فقال عمر: دعني أضرب عنقه، فقال له صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، عند ذلك ذرفت عينا عمر، وقال: الله ورسوله أعلم. والمقصود بهذه القضية: نزول قول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} [الممتحنة:1] إلى آخر الآيات، ثم ختمت السورة بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة:13]. فبدئت السورة بالنهي عن موالاة الكفار، وختمت بالنهي عن ذلك، وفيها: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4]؛فلابد أن يكون لكم أسوة في هؤلاء الأكارم الأطايب، وأن تقولوا مثلما قالوا، وهذه من آخر ما نزل من السور.

الولاء والبراء في الإسلام

الولاء والبراء في الإسلام قال الشارح رحمه الله تعالى: [وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم الجملة الأولى منه فقط. قوله: (من أحب في الله) أي: أحب أهل الإيمان بالله وطاعته من أجل ذلك. قوله: (وأبغض في الله) أي: أبغض من كفر بالله وأشرك به، وفسق عن طاعته؛ لأجل ما فعلوه مما يسخط الله وإن كانوا أقرب الناس إليه، كما قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22]. قوله: (ووالى في الله). هذا والذي قبله من لوازم محبة العبد لله تعالى، فمن أحب فيه, والى أولياءه, وعادى أهل معصيته وأبغضهم, وجاهد أعداءه, ونصر أنصاره. وكلما قويت محبة العبد لله في قلبه قويت هذه الأعمال المترتبة عليها، وبكمالها يكمل توحيد العبد، ويكون ضعفها على قدر ضعف محبة العبد لربه؛ فمقل ومستكثر ومحروم. قوله: (فإنما تنال ولاية الله بذلك) أي: توليه لعبده، و (ولاية) بفتح الواو لا غير, أي: الأخوة والمحبة والنصرة, وبالكسر الإمارة، والمراد هنا الأول، ولـ أحمد والطبراني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يجد العبد صريح الإيمان حتى يحب لله, ويبغض لله؛ فإذا أحب لله وأبغض لله فقد استحق الولاية لله)، وفي حديث آخر: (أوثق عرى الإيمان: الحب في الله، والبغض في الله عز وجل) رواه الطبراني. قوله: (ولن يجد عبد طعم الإيمان) إلى آخره. أي: لا يحصل له ذوق الإيمان ولذته وسروره وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك، أي: حتى يحب في الله, ويبغض في الله, ويعادي في الله, ويوالي فيه. وفي حديث أبي أمامة مرفوعاً: (من أحب لله, وأبغض لله, وأعطى لله, ومنع لله؛ فقد استكمل الإيمان) رواه أبو داود. قوله: (وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا, وذلك لا يجدي على أهله شيئاً) أي: لا ينفعهم بل يضرهم، كما قال تعالى: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]، فإذا كانت البلوى قد عمت بهذا في زمن ابن عباس خير القرون، فما زاد الأمر بعد ذلك إلا شدة؛ حتى وقعت الموالاة على الشرك والبدع والفسوق والعصيان، وقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم بقوله: (بدأ الإسلام غريباً, وسيعود غريباً كما بدأ)، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم من المهاجرين والأنصار في عهد نبيهم صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما يؤثر بعضهم بعضاً على نفسه؛ محبة في الله وتقرباً إليه، كما قال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9]، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (لقد رأيتنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وما منا أحد يرى أنه أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم) رواه ابن ماجة]. المؤمن يجب أن يكون ولياً لله جل وعلا، فقد والى الله جل وعلا بين عباده؛ حيث جعل بعضهم أولياء للرحمن وعباداً له، وبعضهم أولياء للشيطان وعباداً له، والفريقان بينهما معاداة ولابد, ولا يمكن أن تكون مصالحة بين أولياء الله وأعدائه من أولياء الشيطان، وقد بين ذلك جل وعلا في آيات كثيرة, وحذر من أن يركن المسلم المؤمن إلى الذين كفروا، فإنه إذا ركن إليهم مسته النار. والولاية هي المناصرة والمودة والإخاء، والمؤمن لا يكون مؤاخياً لعدو الله ولا مناصراً له ولا مساعداً، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: (اللهم إني أعوذ بك أن يكون لفاجر علي منة فيوده قلبي)، فهو يسأل ربه ألا يكون هناك سبب من الأسباب التي قد تجلب المودة للفجار، الذين هم أعداء الله جل وعلا. وقد علم بالطبع والواقع أنه إذا كان الإنسان له صديق حميم, وهذا الصديق الحميم له عدو، فكونه يذهب يصادق عدوه فهذا منافٍِِ للمحبة، ولا يمكن وجود المحبة في مثل ذلك، بل تكون المقاطعة. وليس بين العباد وبين الله جل وعلا صلة أو نسب إلا بطاعته واتباع أمره واجتناب نهيه، وطاعته أن يكون المؤمن متولياً لله جل وعلا والمؤمنين، يتولى الله ورسوله والمؤمنين، {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة:55]، هذه هي الموالاة، والموالاة أن يكون الرجل موالياً للآخر ومحباً له ومساعداً له ومناصراً له، وليس للبغضاء والعداوة مدخل فيهم إلا إذا مالوا إلى الدنيا، وتركوا هذا المبدأ، عندها يأتي الشيطان. وسبق أن الحب لله والبغض لله تابع لمحبة الله جل وعلا، يكمل بكمال محبة العبد لله، ويضعف بضعف محبة العبد لربه جل وعلا، فكلما كانت محبة العبد لله جل وعلا أكمل فإنه يحب أهل طاعته أكثر، ويبغض أهل معاصيه ومخالفاته أكثر، وينفر منهم. فإذا وجدت من إنسان عدم المحبة للمؤمنين وأولياء الله, فمعنى ذلك: أن محبة الله لا وجود لها, أو أنها ضعيفة لا أثر لها، وكذلك بالعكس: إذا وجدت محبة أعدائه وموالاتهم، فإما أن تكون محبة الله معدومة عند الإنسان أو تكون ضعيفة ليس لها أثر، وإذا كانت ضعيفة قد تنفع وقد لا تنفع، وإذا رجع إلى ربه جل وعلا وتاب وأقلع عما هو فيه؛ فالله كريم، يقبل توبة عبده إذا تاب، أما إذا بقي على ذلك فهذه ظاهرة مخالفة لله جل وعلا، وكم جاء في القرآن التحذير من هذا، آثات كثيرة جداً، وتقدم أن من علامة ولاية الله أن يبغض العبد كل من كان عدواً لله ولو كان أباه أو ابنه أو زوجه أو أخاه. هذا لو كان أقرب الناس إليه فكيف بالأبعدين؟! فهذا أمر لازم، وليس هذا من باب الاستحباب بل الوجوب الذي هو من الإيمان بالله جل وعلا، ولهذا قال الله جل وعلا الإيمان وقال: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22].

علاقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالولاء والبراء

علاقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالولاء والبراء كل من خالف وارتكب معاصي الله جل وعلا عمداً فإنه ممن حاد الله، والإنسان حده أن يكون عبداً لله، فإذا خرج عن عبودية الله فقد خرج عن حده. فالطاعة لها حد، والمعصية لها حد، والشرع له حدود، فكلما كان الإنسان ممتثلاً لأمر الله جل وعلا فإنه واقف عند حدود الله، أي: أنه عبد لله تعالى ما فعل الواجب وترك المحرم، أما إذا فعل المحرمات وترك الواجبات فإنه قد ارتكب حدود الله، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه)، الحدود هي التي حرمها الله، وجعلها علامات ظاهرة. وإذا كان الإنسان يصادق على المحرمات، ويوالي عليها؛ فمعنى ذلك أنه صار شبيهاً بالشيطان تماماً؛ لأن الشيطان خرج عن طاعة الله جل وعلا لمعصيته، وصار يدعو إلى المعصية، وينهى عن الطاعة. ومعلوم أن أمر الله جل وعلا الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ليس صعباً على النفوس إذا اهتدت وانقادت، وإنما يصعب عليها إذا كانت مطيعة للشيطان، ومتبعة لهواها، والواقع أنه سهل، ولكن هناك أمور يزينها الشيطان، كونه يقول: لم تعادي الناس، وتكثر عليك الأعداء؟ الأفضل أنك تكثر من الأصدقاء، أما كونك تعاديهم بأن تأمرهم بشيء يكرهونه أو تنهاهم عن شيء يحبونه، فهذا مما يجلب عداوتهم، قد يخوف الشيطان العبد بهذا، ويدعي أنك إذا أمرتهم أو نهيتهم أو أخبرتهم أنك تكرههم على هذا الشيء؛ أنهم يجلبون لك الأذى، وينتقمون منك. والناس في هذه الحياة لابد لهم من الأذى، سواء كانوا مؤمنين أو كافرين؛ لأن هذه الحياة خلقت على الأكدار، ولهذا أخبر الله جل وعلا أن الناس إذا قالوا: آمنا، فإنهم يبتلون ويفتنون حتى يظهر صدق قولهم، ويكون صدقهم ظاهراً بارزاً، أو أنهم ينتكسون ويعرف أنهم غير صادقين، ولكن العاقبة في الدنيا والآخرة للمؤمنين، لكن لا بد أن يحصل الابتلاء أولاً، فقد يبتلى الإنسان بأهله وبأولاده، وقد يبتلى بوالده وبأخيه وقريبه، وقد يبتلى بالبعيدين، فيكون ذلك تمحيصاً وزيادة لحسناته، أو انتكاساً وفتنة، ولابد للإنسان أن يصبر على هذا، ويعلم أن الوقت ليس طويلاً، وأنه خارج من هذه الدنيا، ثم إذا كان الإنسان صابراً على أمر فإن الله يحمد عقباه، وإذا كان بخلاف ذلك يندم ندامة لا تفيد ولا تجدي.

صفات المتحابين في الله تعالى

صفات المتحابين في الله تعالى يجب على الإنسان أن يكون عبداً لله جل وعلا، وعباد الله لهم صفات، منها: أنهم يتولون الله جل وعلا، ويفعلون أوامره، ويحبون أهل طاعته ويوالونهم، ويعادون أعداءه ويكرهونهم ويبغضونهم، ولا يكفي كون هذا في القلب، بل لابد أن يظهر على اللسان، وكذلك بالكلام، وكذلك بالفعل إذا أمكن. لذا جاء أن من أعظم ما يتقرب إليه الإنسان أن يعادي أعداء الله، وفي الأثر: (أن الله جل وعلا أمر بإهلاك قرية، فقال ملك لله جل وعلا: إن فيها عبدك فلاناً، قال: به فابدأ؛ فإنه لم يتمعر وجهه فيّ يوماً قط) يعني: لم يغضب لله جل وعلا من المعاصي التي تقع في تلك القرية. وأخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن بني إسرائيل لعنوا على لسان أنبيائهم؛ لأنهم كانوا إذا رأى أحدهم من يرتكب منكراً نهاه وقال: يا فلان! اتق الله، ثم لا يمنعه كونه رآه على منكر أن يكون جليسه وأكيله وصاحبه، فلما رأى الله جل وعلا فعلهم ذلك ضرب قلوب بعضهم ببعض ثم لعنهم، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (كلا والذي نفسي بيده! لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليفعلن الله بكم كما فعل بهم). والأمر بالمعروف معناه: موالاة الله جل وعلا، ومعاداة أعدائه، وليس انتصاراً للنفس أو انتقاماً من الغير، هذا لا يجوز أن يكون، وإنما هذا اتباع لأمر الله، يفعل الإنسان ذلك لأن الله أمره بهذا، وهو يرجو هدايتهم ويفرح بذلك، فمعاداته على طريق صحيح، ليس لأجل هوى النفس أو انتقام أو لأنه من آل فلان أو من غيرهم، بل كل ما يكون من الحب والبغض هو لأجل امتثال أمر الله، ولأنه يحب الله ويحب طاعته، فمن اتصف بهذا أحبه ووالاه وصار عطوفاً عليه، وإن كان من أبعد الناس عنه نسباً، وإن كان بعكس بذلك كرهه وأبغضه، ويجب أن يظهر ذلك بفعله من قول وغيره، وليس معنى ذلك أنه يصبح مقاطعاً له مقاطعة كاملة بحيث لا يكون هناك بينهما أي معاملات، فالبيع والشراء والإيجار وما أشبه ذلك شيء آخر، يصح أن يكون بين الكافر والمؤمن وبين التقي والشقي؛ لأن هذه مبادلة بالمال، وليس لأحد فيها منة، وإنما الممنوع المؤاخاة والمصادقة والمودة التي تجلب الألفة، وليست لأجل مبادلة المال، فالمحبة لأجل الله جل وعلا لا يجوز أن تكون إلا بين المؤمنين فقط. وقد أخبر الله جل وعلا بالعاقبة إن لم يحصل هذا، وذلك لما أخبر أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، ثم أخبر أن الكافرين بعضهم أولياء بعض، قال بعدها جل وعلا: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73]، لما حصل ذلك من المؤمنين وجدت الفتنة والفساد الكبير، والفتنة فتنة في الدين، وانحراف عن الصراط المستقيم، وعند ذلك حري أن تقع عليهم العقوبة، وأن يصابوا بعذاب يغدقهم، والفتنة إذا جاءت لا تخص بل تعم؛ لأن الفساد العام العريض الكبير -مثل هذا- يعم، وإن كان في النتائج والنهايات كل محاسب على قدر نيته وعمله. ففي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن جيشاً يغزو مكة، فإذا كانوا في بيداء من الأرض خسف بهم، ولا يبقى فيهم إلا من يخبر عنهم، فقالت عائشة: أيخسف بهم وفيهم أسواقهم؟ قال: (نعم يخسف بهم ثم يبعثون على نياتهم) يعني: يأخذهم العذاب عموماً، ثم بعد ذلك يحاسبون على نياتهم وأعمالهم، فمن هو عاجز وكاره لا يكون مثل الطائع القادر. والمقصود: أنه يجب على المؤمن أن يتميز بطاعة الله وبموالاة الله وموالاة المؤمنين ومودتهم، وبكراهة الكافرين وبغضهم ومعاداتهم، وهذه هي ملة إبراهيم التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله جل وعلا: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4] يعني: لا مصالحة ولا مودة بل بغض ومعاداة إلى أن يؤمن الكفار. أما قول الله جل وعلا: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} [الممتحنة:8]، فهذا من الإحسان الدنيوي؛ إذا كان هناك من الكافرين من له صلة بك فلا مانع من أن تحسن إليه بالمال وغيره، وأما المودة فلا؛ ولهذا قال جل وعلا عن المودة: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً} [الممتحنة:7]، فالمودة قد تكون منهم بأن يؤمنوا، أما المؤمن فلا يحصل منه مودة للكافرين أبداً إلا أن يزول منه الإيمان والعياذ بالله، قال الله: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [المجادلة:22] أي: أن هذا غير موجود، فمن وادّ الكفار فإيمانه إما ضعيف جداً أو منتفٍ، وإذا كان الإيمان ضعيفاً فلا أثر له، وحينها لا يمنع الإنسان من ارتكاب المعاصي، ولا يحمله على فعل الطاعات، فيكون أثره ضعيفاً، وإنما الإيمان النافع الذي يمنع من ارتكاب المعاصي، ويحمل على فعل الطاعات، وهو الإيمان القوي.

قوله تعالى: (وتقطعت بهم الأسباب)

قوله تعالى: (وتقطعت بهم الأسباب) قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال ابن عباس في قول الله تعالى: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [البقرة:166]، قال: المودة] الأسباب التي تتقطع بهم يوم القيامة هي المودة، ومعلوم أن الناس ليس معهم حينئذ إلا أسباب العمل فقط، أما الأموال والمناصرات في الأمور التي تكون في الدنيا فهي منتهية، وكل الخلق يأتون الله فرادى كأنهم خرجوا من بطون أمهاتهم، لا كسوة ولا نعال ولا طعام ولا أي شيء، يخرجون هكذا من بطون القبور عراة حفاة غرلاً، ولهذا يقول الله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:94]، فأين شركاؤكم؟ وأين نصراؤكم؟ وأين أولياؤكم؟ كل واحد ليس معه إلا عمله: إن كان من الفجار والكفار فعمله كما قال الله جل وعلا: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:39]، وقوله: {كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم:18]، الرماد إذا ذري في اليوم العاصف هل يمسك منه شيء؟! هذا دليل على أن المودة والإخاء إذا كان على غير طاعة الله فهي الأسباب التي تتقطع بهم، كما قال الله جل وعلا عن خليله إبراهيم عليه السلام: ((إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا))، الأوثان التي يتولونها ويعبدونها {مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [العنكبوت:25] هذه هي الحقيقة التي تكون يوم القيامة، وكما قال الله جل وعلا: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ} [القصص:62]، ماذا يقولون؟ يقولون: (ضلوا عنا) يعني ذهبوا فما ندري أين هم، ولا يوجد شركاء ينصرونهم، والشركاء هم الأولياء الذين يزعمون أنهم يتولونهم في الدنيا، ويقول جل وعلا: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأحقاف:5] يعني: الأموات، فهم الذين لا يستجيبون لأحد إلى يوم القيامة، وكذا الغائبين. {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:6] يعني: يكفرون بهم ويقولون: كفرنا بقولكم وبدعوتكم وبعبادتكم، وتبرأنا إلى الله منكم، فماذا تكون حالتهم عندئذٍ؟ الذين كانوا يظنون أنهم سينفعونهم وسيشفعون لهم هم أسوء حالاً منهم، وهذه هي المودة والأسباب التي تتقطع، يقول ابن عباس في الأسباب: هي المودة، يعني: المودة التي على غير طاعة الله، كل مودة على معصية أو على غير طاعة الله فإنها تنقطع وتنتهي بل تكون عذاباً ووبالاً على أصحابها، أما الإخاء في الله والموالاة في الله فهذا الذي ينفع، كما قال جل وعلا: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]، كل خليل عدو لخليله إذا كان في غير طاعة الله إلا المتقي الذي يحب لله ويوالي في الله؛ فإن هذا هو الذي يظله الله جل وعلا في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، كما جاء في الحديث الصحيح: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ومنهم: اثنان تحابا في الله اجتمعا عليه، وتفرقا عليه). هذا هو الذي يفيد وينفع أما ما عدا ذلك من المعاداة والموالاة فإنها تكون عداوة وبغضاء وحسرة وندامة، حتى إن الله أخبرنا بالحقائق التي تكون؛ فالداعي لهؤلاء يصبح خطيباً فيهم إذا اجتمعوا في جهنم، يقوم الشيطان يخطب فيهم بعد أن استقر أهل الجنة بالجنة، وأهل النار بالنار، يقوم الشيطان خطيباً في أصحابه وأتباعه وأوليائه فيقول في خطبته التي أخبرنا الله بها: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [إبراهيم:22] أي: ليس عندي حجة ولا برهان لما دعوتكم، إنما هي مجرد دعوى {إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم:22]، يعني: مجرد دعوى خالية من الدليل، {فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} [إبراهيم:22]، أرجعوا اللوم لأنفسكم؛ لأني ليس لي عليكم سلطان أقهركم به، ولكن أنتم لما سمعتم الدعوة استجبتم لها، وانقدتم إليها طواعية. ثم يقول: {مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ} [إبراهيم:22] يعني: ما أنا بمغيثكم ولا مغني عنكم شيئاً {وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم:22] ولا أنتم تنفعوني، فكل واحد لا ينفع الثاني، ثم يقول: {إني كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم:22]، يكفر بطاعتهم وعباداتهم، ولهذا يقول الله في مثل الضال الكافر: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ} [الحشر:16]، وهذا هو الواقع، ويوم القيامة يتبرأ الأول من الثاني ويلعن كل واحد الآخر، ومع ذلك يقرن كل واحد مع شيطانه: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات:22] يعني: كل واحد يزوج مع نظيره ويقرن معه حتى يتم العذاب لهما، وينظر إلى عدوه وبغيضه لأنه يصبح أعدى الأعداء وأبغض الأشياء إليه، فيقرن معه حتى يتم العذاب لهما بالحسرة؛ لأن الشر والخبث كله يجمع في جهنم. قال الشارح رحمه الله تعالى: [قال ابن عباس في قوله تعالى: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [البقرة:166]، قال: المودة، هذا الأثر رواه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه. قوله: (قال: المودة) أي: التي كانت بينهم في الدنيا خانتهم أحوج ما كانوا إليها]. يعني: المودة على معاصي الله هي التي تتقطع بهم وتخونهم أحوج ما كانوا إليها، وتصبح عليهم وبالاً.

تبرؤ الكفرة من بعضهم يوم القيامة

تبرؤ الكفرة من بعضهم يوم القيامة قال الشارح رحمه الله: [وتبرأ بعضهم من بعض، كما قال تعالى: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [العنكبوت:25]. قال العلامة ابن القيم في قوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ} [البقرة:166]: فهؤلاء المتبوعون كانوا على الهدى، وأتباعهم ادعوا أنهم على طريقهم ومناهجهم، وهم مخالفون لهم سالكين غير طريقهم، ويزعمون أن محبتهم لهم تنفعهم مع مخالفتهم؛ فيتبرءون منهم يوم القيامة؛ فإنهم اتخذوهم أولياء من دون الله. وهذا حال كل من اتخذ من دون الله وليجة وأولياء؛ يوالي لهم، ويعادي لهم، ويرضى لهم ويغضب لهم، فإن أعماله كلها باطلة، يراها يوم القيامة حسرات عليه مع كثرتها وشدة تعبه فيها ونصبه. إذ لم يجرد موالاته ومعاداته وحبه وبغضه وانتصاره وإيثاره لله ورسوله، فأبطل الله عز وجل ذلك العمل كله، وقطع تلك الأسباب، فينقطع يوم القيامة كل سبب وصلة ووسيلة ومودة كانت لغير الله، ولا يبقى إلا السبب الواصل بين العبد وربه، وهو حظه من الهجرة إليه وإلى رسوله، وتجريده عبادته لله وحده ولوازمها من الحب والبغض والعطاء والمنع والموالاة والمعاداة والتقريب والإبعاد، وتجريد متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم تجريداً محضاً بريئاً من شوائب الالتفات إلى غيره، فضلاً عن الشرك بينه وبين غيره، فضلاً عن تقديم قول غيره عليه. فهذا السبب هو الذي لا ينقطع بصاحبه، وهذه هي النسبة التي بين العبد وربه، وهي نسبة العبودية المحضة، وهي آخيته التي يجول ما يجول وإليها مرجعه، ولا تتحقق إلا بتجريده متابعة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم. إذ هذه العبودية إنما جاءت على ألسنتهم وما عرفت إلا بهم، ولا سبيل إليها إلا بمتابعتهم، وقد قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]، فهذه هي الأعمال التي كانت في الدنيا على غير سنة رسله وطريقتهم ولغير وجهه يجعلها الله هباءً منثوراً، لا ينتفع منها أصحابها بشيء أصلاً، وهذا من أعظم الحسرات على العبد يوم القيامة: أن يرى سعيه ضائعاً، وقد سعد أهل السعي النافع بسعيهم. انتهى ملخصاً]. معنى الآية: (إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا) يقول: هؤلاء المتبوعون كانوا على الهدى، والتابعون كانوا على الضلالة، والآية أعم من هذا: فإذا كان المتبع على الهدى فإنه لا يرضى أن يكون تابعه يتبعه وهو على ضلالة، وفي الحقيقة أنه ليس تابعاً له وإنما هو تابع لهواه ونفسه، وإنما الآية ظاهرها: أن الكفار وعوامهم يتبرءون من سادتهم وقادتهم؛ لأنهم أتباعهم، ويتمنون أن يكون لهم رجعة فيتبرءون منهم، وكل واحد من الفريقين يتبرأ من الآخر، ويكفر به، فالآية نظير الآية التي في سورة العنكبوت وغيرها، يعني: أن كل رئيس في معصية الله، وكل من هو مرءوس؛ يصبح هذا عدواً للآخر متبرئاً منه، كما هو صريح قوله جل وعلا: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [العنكبوت:25]، كل واحد يكفر بالثاني، وكل واحد يلعن الثاني، وليس بعضهم مؤمناً وبعضهم كافراً، بل كلهم على طريقة واحدة. أما إذا كان المتبع قد اتبع من هو مهتدٍ ولكنه اتبعه على غير ما كان عليه من الهدى، فهذا أمر آخر، وقد يقع مثل هذا، وهو يشير إلى أنه وجد من المقلدين الذين يقلدون بعض العلماء، ويوالون على التقليد ويعادون عليه، وإذا قيل لهم: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول كذا، والله جل وعلا يقول كذا، قالوا: الإمام أعلم منكم، والإمام أدرى، لو كان هذا صحيحاً ما خالفه الإمام، فهو يشير إلى مثل هؤلاء، وهؤلاء قلة بالنسبة لما ذكره الله جل وعلا في الآية؛ لأن الآية عامة في الخلق كلهم، وكل الناس معروف أن بعضهم يتبع بعضاً، وهذه سنة متبعة، ولهذا يقول الكفار للرسل: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23] يعني: وجدناهم على ملة ودين ولن نترك ملتهم ولا دينهم، هؤلاء هم الذين يتبرأ بعضهم من بعض، وكذلك لما جاء موسى عليه السلام إلى فرعون، قال فرعون لما حاجه في تجاهل العالم يقول: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23] لا أنه لا يعرف رب العالمين، بل يعرفه ولكن هذا جحود منه، فقال له: {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الشعراء:24] إلى أن قال فرعون: (فما بال القرون الأولى) يعني: الذين مضوا لماذا كانوا على الشرك والكفر؟ يعني: لنا فيهم قدوة وأسوة، فهذه حجة تدل على كثرة العالم الذين يكونون على هذه الطريقة، فهم الذين يتبرأ بعضهم من بعض يوم القيامة، ويلعن بعضهم بعضاً، ويكفر بعضهم ببعض.

مسائل باب قول الله تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله)

مسائل باب قول الله تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله)

تفسير قوله: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا)

تفسير قوله: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً) قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل الأولى: تفسيره آية البقرة]. آية البقرة هي قوله جل وعلا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165]، مضى أن معناها: أن من الناس من يحب حب الخوف والذل والخضوع كحب المخلوق، وهذا الحب والتعظيم والذل والعبودية لا يجوز أن يكون لمخلوق، فهم يحبونهم هذه المحبة التي تقتضي ذلهم وخضوعهم وتعظيمهم، وهذا الحب يجب أن يكون لله، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا} [البقرة:165]، والند هو المثل والنظير ولو في صفة من الصفات، فيكون الند مماثلاً لنده من كل وجه، وجعلهم أنداداً لله لأنهم صاروا يحبونهم حباً كحب الله، ولهذا لما قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما شاء الله وشئت، قال: أجعلتني لله نداً؟!) يعني: في الجمع بين مشيئة الله ومشيئته بالواو، والجمع بالواو يقتضي المساواة. فمن الشرك أن يلحق مخلوقاً من المخلوقات في شيء من حقوق الله التي يجب أن تكون له خالصة أو في صفة من صفاته، فإذا فعل الإنسان ذلك فقد اتخذه نداً، وما زال الكلام على الآية.

تفسير قوله: (قل إن كان آباؤكم)

تفسير قوله: (قل إن كان آباؤكم) [المسألة الثانية: تفسير آية براءة]. آية براءة وهي: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24]، هذه الآية فيها: أن من رضي بالدنيا بما فيها مما ذكر من هذه الأصناف الثمانية: الآباء والأبناء والأزواج والأموال والتجارات والمساكن الطيبة الواسعة الفسيحة وغيرها، إذا كانت هذه الأمور أحب إلى الإنسان من الله ورسوله فلينتظر عذاب الله، فهذا وعيد معجل؛ لأنه قال: (فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين) أي: من كان أولئك عنده أفضل وأحب من الله فهو من الفاسقين الخارجين عن طاعة الله جل وعلا، وهو مهدد بعذاب الله عاجلاً قبل الآجل.

وجوب تقديم محبة النبي على كل محبة

وجوب تقديم محبة النبي على كل محبة [المسألة الثالثة: وجوب محبته صلى الله عليه وسلم على النفس والأهل والمال]. يعني: أن تكون محبته مقدمة على محبة النفس والأهل والمال، وهذه المحبة محبة إيمانية، وهي تابعة لمحبة الله جل وعلا، وإذا كان الإنسان حبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم أقل من محبته لنفسه ولولده ووالده وللناس أجمعين؛ فهو لم يؤمن الإيمان الواجب الذي ينجيه من عذاب الله. فإن كان ليس على هذه الصفة فلا يلزم أن يكون الإيمان منتهياً نهائياً، بل يجوز أن يكون عنده إيمان ناقص، ونقصه هذا يستلزم أن يعذب عليه إن لم يتب منه، وهذا يعني أن الذي لا يحب الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من محبته لنفسه وماله وأكثر من محبته لولده ولزوجه ووالده وإخوته والناس أجمعين؛ أنه من أصحاب الكبائر، ويكون من الفسقة أصحاب المعاصي الذين يستوجبون عقاب الله، وهذا معناه: أنه ترك ما يجب عليه.

نفي الإيمان لا يدل على الخروج من الإسلام

نفي الإيمان لا يدل على الخروج من الإسلام [المسألة الرابعة: نفي الإيمان لا يدل على الخروج من الإسلام]. نعم، لا يدل على الخروج من الإسلام، ولكنه يدل على نقص الإيمان الواجب، وذلك يقتضي أن يعذب على نقصه، وهذا مما يدل على أن الإنسان يكون كافراً، ولايلزم ذلك أن يكون مؤمناً، ولكن إيمانه ضعيف ناقص. فما ارتكب المحرمات وترك الواجبات أو بعضها، إلا لضعف إيمانه، وإذا عفا الله جل وعلا عنه فهو فضله وإحسانه، وربما أخذه الله جل وعلا وعاقبه إن لم يتب من ذلك، ويرجع إلى ما أمره الله به، وتكون محبة الله جل وعلا هي أعظم شيء لديه؛ ثم تكون محبة الرسول صلى الله عليه وسلم على هذه الصفة لأنها تابعة لمحبة الله، وتقدم أن علامة محبة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون الإنسان مقتفياً سنته، مبتعداً عما نهاه عنه.

للإيمان حلاوة حقيقية

للإيمان حلاوة حقيقية [المسألة الخامسة: أن للإيمان حلاوة قد يجدها الإنسان وقد لا يجدها]. حقيقية وليست عقلية كما يقول بعض الناس، فالحلاوة حقيقية يجدها المؤمن، ويلتذ بها أعظم من الالتذاذ بالأكل والشرب الحسي؛ لأن التذاذ الروح والقلب أعظم من ذلك بكثير.

الأعمال التي تنال بها ولاية الله

الأعمال التي تنال بها ولاية الله [المسألة السادسة: أعمال القلب الأربعة التي لا تنال ولاية الله إلا بها، ولا يجد أحد طعم الإيمان إلا بها]. وهي: الحب في الله، والبغض في الله، والموالاة فيه، والمعاداة فيه، وهي كلها تابعة لمحبة الله؛ لأنها لوازم ومكملات لمحبة الله، فهذه هي التي يتحصل بها العبد على ولاية الله وأما بغيرها فلا.

عاقبة المؤاخاة على أمر الدنيا

عاقبة المؤاخاة على أمر الدنيا [المسألة السابعة: فهم الصحابي للواقع: أن عامة المؤاخاة على أمر الدنيا]. يقصد قول ابن عباس: (وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئاً)، ويقصد بقوله: (على أمر الدنيا) الأموال والمشاركة فيها وما أشبه ذلك، ولكن المشكل إذا كانت المؤاخاة على المعاصي والبدع والكفر فهذه أعظم مما ذكره ابن عباس، ويوجد بكثرة أناس يتآخون ويتصاحبون على المعاصي، ويساعد بعضهم بعضاً عليها، ويؤز بعضهم بعضاً عليها، فهم من أشباه الشياطين، قال الله جل وعلا: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم:83] يعني: تؤزهم على المعاصي والكفر بقوة وبسرعة وبلهف.

نفع محبة الله وضرر محبة المشركين يوم القيامة

نفع محبة الله وضرر محبة المشركين يوم القيامة [المسألة الثامنة: تفسير {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [البقرة:166]. المسألة التاسعة: أن من المشركين من يحب الله حباً شديداً]. هذا على القول الصحيح، فإنهم يحبون أندادهم كحب الله، يعني: أن الحب عندهم صار مقسماً بين الأنداد وبين الله، وهذا هو الشرك الذي حرم الله جل وعلا على صاحبه الجنة إذا مات عليه؛ لأن الحب يجب أن يكون لله، وليس هذا هو الحب الطبيعي. وسبق أن قسمنا الحب إلى أقسام: منه ما هو حب خاص، وهو الذي يقتضي الذل والتعظيم والخضوع؛ فهذا يجب أن يكون لله وحده ولا يجوز أن يكون لغيره، وهذا هو الذي أشرك فيه المشركون؛ لأنهم يخافون من معبوداتهم، ويودونها، وينتصرون بها، ويطلبون نصرها، كما قال أبو سفيان لما كان مشركاً يوم أحد، لما انتهت الوقعة وصار يصوت بأعلى صوته: أفيكم فلان؟ أفيكم فلان؟ إلى أن قال: أعل هبل، أعل هبل، أعوذ بالله! فقال لهم الرسول: (أجيبوه، قالوا: ماذا نجيب؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل)، ثم قال: العزى لنا ولا عزى لكم. هكذا يعتزون بأوثانهم وأصنامهم، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أجيبوه، قالوا: ماذا نقول؟ قال: قولوا: الله مولانا، ولا مولى لكم)، والعزى لا تفيد أحداً، فالمقصود أنهم كانوا يودونها ويعظمونها ويجعلون لها من الحب ما هو لله جل وعلا، ويحبون الله ولكن حبهم لله لا يفيدهم، وتوزيع حب الله بين الله وبين غيره من المخلوقات من الشرك الأكبر، وهذا الحب يجب أن يكون خالصاً لله ليس لأحد فيه شيء، والذي أوجبه جل وعلا هو حبه وحده محبة الذل والتعظيم والخضوع، وهو معنى قول: لا إله إلا الله، وهذه الكلمة هي التي يدخل بها الإنسان الإسلام، ومن كانت آخر كلامه من الدنيا دخل الجنة، هذا إذا كان يعرف معناها وقالها بصدق. [المسألة العاشرة: الوعيد على من كان الثمانية أحب إليه من دينه]. لأنه قال جل وعلا: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24]، فمن كانت هذه الثمانية أحب إليه من الله ورسوله وجهاد في سبيله فإنه متوعد بالعذاب العاجل، وهو الذي دل عليه قوله: (فتربصوا) يعني: انتظروا، (حتى يأتي الله بأمره) يعني: بعذابه الذي يصيبكم به، وكذلك هو من الفاسقين؛ لأنه قال جل وعلا: (والله لا يهدي القوم الفاسقين). [المسألة الحادية عشرة: أن من اتخذ نداً تساوي محبته محبة الله فهو الشرك الأكبر].

شرح فتح المجيد [88]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [88] الخوف من أفضل مقامات الدين وأجلها، وأجمع أنواع العبادة التي يجب إخلاصها لله تعالى، والمشركون -قديماً وحديثاً- لم يخصلوا خوفهم لله تعالى، بل خافوا غيره كخوفهم إياه أو أشد، وذلك حينما عظم الشيطان في قلوبهم معبوداتهم، وخوفهم بها. وما كان لمؤمن أن يخاف غير الله تعالى، أو أن يرتجف فؤاده من سواه، لأن الخوف عبودية القلب، فلا يصلح إلا لله. أما عمارة المساجد فتكون حساً ومعنى: بإقامة بنيانها، وإقامة الطاعة فيها، ولا تقبل كلتا الإقامتين إلا فمن آمن بالله واليوم الآخر.

بيان عظم الخوف من الله تعالى وأقسامه

بيان عظم الخوف من الله تعالى وأقسامه قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب قول الله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]]. لما ذكر المؤلف رحمه الله وجوب محبة لله جل وعلا، وأن حب العبادة يجب أن يكون خالصاً لله؛ ذكر أن من لوازم حب الله جل وعلا -حب العبادة والخضوع- أن يحب الإنسان ما يحبه الله، وأعظم ذلك حب الرسول صلى الله عليه وسلم، وذكر أن من لوازمه أيضاً: أن يبغض ما يبغضه الله من الأعيان والأفعال، كالأشخاص والمعاصي، ولما ذكر أن هذا واجب أراد أن يبين أن الخوف يجب أن يكون لله ومن الله وحده؛ لأن الخوف من أعظم المقامات -مقامات الإيمان- التي أوجبها الله جل وعلا؛ فيجب إخلاصه لله، ومن أشرك فيه مع الله غيره فإنه لا يكون مخلصاً في التوحيد، بل يكون توحيده ناقصاً - لذهاب كماله الواجب- أو معدوماً، ولهذا ذكر الآية: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] (إن) هنا: شرطية، والمعنى: إن كان عندكم إيمان يلزم أن تكون هذه صفتكم وهذا شأنكم. كما قلنا: لما كان الخوف من أعظم مقامات الإيمان, وهو خصلة عظيمة وواجبة على الإنسان أراد المؤلف أن يبين وجوب إخلاصها لله، ولا يجوز أن يشرك معه فيه أحد من الخلق. هذا مقصود الباب؛ لأن المؤلف رحمه الله سبق أن ذكر أن التوحيد: هو معنى لا إله إلا الله، وبين معناها، وقال بعد ذلك: (وشرح هذا في الأبواب التي بعده)، أي: الأبواب التي جاءت في الكتاب هي شرح لتلك الترجمة؛ فمرة يذكر ما يجب من حقوق هذه الكلمة، ومرة يذكر ما هو خادش لمعناها، أو منافٍ لشيء من شروطها أو أركانها أو واجباتها. والخوف من أركان لا إله إلا الله، ولهذا يقول العلماء: يجب على المسلم المؤمن أن يكون دائماً خائفاً من ربه، راجياً لرحمته، فالخوف عند المخالفة والتقصير، والله جل وعلا قد أثنى على عباده الذين يخافونه في آيات كثيرة. قوله: (إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه)، والمعنى: يخوفكم أولياءه، يعني: يعظمهم في صدوركم ويكبرهم، ويقول: إنهم ذوو بأس ولهم شدة، وعندهم قوة، ولهم كثرة وأنصار تخافونهم، هكذا يقول الشيطان، والله يقول: (فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين)، و (إن) هنا كما سبق شرطية، يعني: إن كان الإيمان مستقراً في نفوسكم فلتمتثلوا هذا الأمر، ومعنى ذلك: أن من لم يكن خائفاً من الله جل وعلا، لا يكون عنده الإيمان الذي أوجبه الله جل وعلا، هذا معنى قوله: (إن كنتم مؤمنين). ثم جاء في آيات كثيرة الثناء على الخائفين {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41]، وقوله: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46]، وكذلك يقول جل وعلا: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، ويقول: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب:39] , والخشية هي: الخوف، وكذلك أخبر جل وعلا أن من كان يخاف ربه؛ فإن الله يجعل له من جميع ما يكيده مخرجاً، ويرزقه من حيث لا يحتسب.

أقسام الخوف ودرجاته

أقسام الخوف ودرجاته ذكر العلماء أن الخوف على أقسام ثلاثة، وبعضهم يجعلها أربعة:

القسم الأول: الخوف مما يعبد من دون الله

القسم الأول: الخوف مما يعبد من دون الله هذا الخوف الذي يسمى: خوف غيبي، يخافه أي: يخاف شيئاً وهو غائباً عنه، لا يشاهده وليس حاضراً عنده، ولكن يخاف أن يصيبه بمصيبة مستقبلة، أو بألم في بدنه، أو بمصائب في ماله أو أهله، أو ما يستقبله من حياته. وهذا يسمى خوف السر، ومعنى خوف السر: أنه يخافه لسر فيه، وأنه يأتي عقابه سراً، لا يأتي بجيوش ولا بدبابات ولا مدافع، يأتيه ويصيبه ولو كان في عقر بيته. وهذا الخوف لا يجوز أن يكون إلا من الله وحده، وهو الذي ذكر الله جل وعلا أنه يقع من المشركين، ويقع من المشركين سابقاً ولاحقاً، فسواء زعموا أنها كرامة يعطيها الله جل وعلا بعض أوليائه، فيؤثر في قلب من يبغضه أو يخالفه، أو في بدنه أو ماله أو أهله، أو يصيبه بخبل أو ما أشبه ذلك، أو أن ذلك من باب الشفاعة: أن الوليّ يطلبه من ربه ويشفع فيه، ثم يصيبه به جل وعلا؛ لأنه خالف هذا الولي. فهذا من الشرك الأكبر الذي إذا مات عليه الإنسان يكون خالداً في النار، وهذا الذي أراد المؤلف أن يبين أنه لا يجوز أن يكون إلا لله جل وعلا. وقد ذكر الله جل وعلا في كتابه عن أوليائه المرسلين أن المشركين خوفوهم بآلهتهم، كما قال جل وعلا في قصة إبراهيم: {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الأنعام:80]، وهذا يدل على أنهم خوفوه بشركائهم، ثم قال: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام:81]، ثم قال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82]، أي: الذين آمنوا وأخلصوا إيمانهم وخوفهم لله جل وعلا، فلم يداخل إيمانهم وخوفهم ظلم - يعني: شرك - هم الحقيقون بالأمن والاهتداء. وكذلك قال جل وعلا في قصة هود عليه السلام عندما قالوا له: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود:54]، يقولون له: إن ما أصابك هو بسبب بعض آلهتنا، فأصبحت تقول ما تقول، وتنهانا عما تنهانا عنه، فقال جواباً لهم: {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:54 - 56]، فتحداهم، وقال: اجتمعوا أنتم ومعبوداتكم، ثم كيدوني بما تستطيعون، ولا تتأخروا وعجلوا ذلك، فلن تستطيعوا؛ لأن وليي الله، وهكذا قالوا لنوح عليه السلام بل وسائر الأنبياء، وقالوا لخاتم الرسل صلى الله عليه وسلم ذلك أيضاً، فقال جل وعلا: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [الزمر:36]، يعني: بما يشركون من أصنامهم، وهكذا المشركون اليوم، إذا نهيت الذين يعبدون الأولياء والأضرحة، قالوا لك: أما تخاف من الولي؟ فإذا نهيت عن الشرك أو أمرت بالتوحيد وبإخلاص الدعوة لله، والتوجه إليه، يخوفونك به وقالوا لك: يمكن أن يصيبك الولي بالعذاب؛ لأنك خالفته، وأنت تبغضه ولا تحبه، فطريقة المشركين طريقة واحدة، سواء في أول الزمان أم في آخره، فبعضهم يتابع بعض، فالله جل وعلا ذكر أن كل أمة كانت تخوف نبيها بمن يعبدونهم مع الله جل وعلا، ولهذا وجب أن يكون الخوف لله وحده، هذا قسم.

القسم الثاني: أن يترك الإنسان ما يجب عليه خوفا من بعض الناس

القسم الثاني: أن يترك الإنسان ما يجب عليه خوفاً من بعض الناس قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران:173] وسبب نزول هذه الآية، كما قال ابن إسحاق وغيره من العلماء: أنه لما صارت واقعة أحد يوم السبت في منتصف شوال، ثم كان يوم الأحد في السادس عشر من شوال نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذهاب خلف قريش، وأنه لا يذهب خلفهم إلا من حضر الواقعة بالأمس؛ لأن الذين تخلفوا منافقون لا يحضرون مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا خير فيهم ولا في حضورهم؛ فانتدب لها المسلمون فقط، وكان فيهم الجراحات والآلام؛ حتى إنه جاء أن أخوين من بني عبد الأشيم كان فيهم جراحاً كبيرة، فيقول أحدهم: فخرجت أنا وأخي وقلت: لا تفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان إذا عجز حملته عقبة - يحمله على ظهره إذا عجز عن المسير - فساروا إلى أن بلغوا حمراء الأسد، فلما جاءوها ألقى الله جل وعلا الرعب في قلب أبي سفيان ومن معه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وجنده، فخافوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم يلحقهم، فلقيهم ركب يريدون المدينة ليشتروا منها طعاماً، فقال أبو سفيان لهم: بلغوا عني محمداً وأبدلكم رحائل جديدة يوم عكاظ، قالوا: نعم، قال: قولوا له: إن أبا سفيان يجمع لك الجموع، وأنه أسف على ترك المدينة، فإنه يقول: لا محمد قتلنا ولا الكواعب أردفنا، فقالوا: نعم، فمروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأخبروهم بهذا الخبر، فقالوا الصحابة: حسبنا الله ونعم الوكيل، أي: هو كافينا ولن نخاف هؤلاء، فنزلت الآية: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} [آل عمران:173 - 175]، والمعنى: أن الشيطان يخوفكم بالكفار، فالخوف الذي يلقى في قلب المؤمن من الكفار من جراء تخويف الشيطان، والواجب أن يكون الخوف من الله وحده. وهذا الخوف محرم؛ لأنه ترك ما يجب عليه خوفاً من بعض الناس، وهو أيضاً نقص في الإيمان؛ لأنه نفث من الشيطان، ولهذا جاء في مسند الإمام أحمد وغيره أن الله جل وعلا يقول للعبد يوم القيامة: (ألم تر منكراً فلم تغيره ولم تنه عنه، فيقول: يا رب! خفت الناس، فيقول: إياي أحق أن تخاف)، وهذا السؤال سؤال عن واجب تركه، وقد يعاقب عليه. وهذا النوع أقل من الذي قبله، أما الذي قبله فهو شرك أكبر، أما هذا فقد يصل بالإنسان إلى الشرك وقد لا يصل به إلى الشرك، ويكون قد ترك واجباً، إذا حمله خوف الناس على ترك الواجب، وهو نقص في توحيده وإيمانه، ويخشى أن يعاقب على تركه هذا الواجب.

القسم الثالث: الخوف الطبيعي

القسم الثالث: الخوف الطبيعي الخوف الطبيعي: هو الذي يكون مطبوعاً عليه الإنسان في نفسه، كخوفه من السبع، والحية، وجدار أن يسقط عليه، أو ماء يغرق فيه، أو ما أشبه ذلك؛ فهذا لا بأس به؛ لأن هذا أمر مطبوع عليه الإنسان، وليس هو مثل خوف السر الذي يجتمع فيه شيئان: الخوف والإجلال، وخوفه منه كان لسر فيه. والواجب أن يخاف الإنسان من ربه، وأما الأسباب الظاهرة المؤدية للهلاك أو التلف فإنه لا يجوز له أن يلقي نفسه فيها ولا يجوز له أن يلقي نفسه في الأشياء الخطرة التي لا له عنها محيص ولا منجى، مثل: كونه يجلس تحت جدار مائل أو ما أشبه ذلك، أو كونه يلاقي السباع أو الحيات أو ما أشبه ذلك، ويقول: أنا لا أخاف، كما يحدث من بعض قاصري النظر أو الفكر. كما ذكر ابن الجوزي رحمه الله: أن رجلاً من الصوفية -الذين يقولون: إنهم يتوكلون على الله ولا يخافون غيره- ذهب حاجاً ماشياً على سبيل التوكل، وليس معه زاد وراحله، يقول: فصادفته سباع في الطريق، فكأن نفسه خافت -الخوف الطبيعي الذي في النفوس- فعاد على نفسه باللوم، وقال: كيف تخافين، لابد أن أقصد هذه السباع في وسط الطريق، فحمل نفسه على ذلك، فما تحملت النفس ذلك، فعندما وصل إلى السباع ذهب عقله وسقط مغشياً عليه، فبقي كذلك إلى أن أيقظه حر الشمس، وقد تفرقت عنه السباع! ومثل هذا العمل لا يجوز. والله جل وعلا أخبر عن موسى عليه السلام أنه خرج من المدينة خائفاً يترقب من عدوه أن يدركه ويقتله، وهذا خوف طبيعي، وليس الخوف الذي يمكن أن يكون فيه نقص في توحيد الله جل وعلا، والمقصود: أن هذا النوع من الخوف لا ضير على الإنسان فيه إذا حصل.

القسم الرابع: الخوف من عذاب الله

القسم الرابع: الخوف من عذاب الله أما القسم الرابع الذي قسمه بعض العلماء من القسم الأول؛ حيث جعلوا قسماً منه أعلى مما ذكرنا، وهو الخوف من عذاب الله، فهذا أعلى المقامات والنسبة إليه -نسبة الذي ذكرنا إلى هذا- كنسبة الإيمان إلى الإحسان، والإحسان أعلى من الإيمان، ولهذا أثنى الله جل وعلا على الخائفين. ففي هذه الآية يقول جل وعلا: {فَلا تَخَافُوهُمْ}، يعني: لا تخافوا الكفار، ولا يؤثر فيكم تخويف الشيطان وتعظيمه إياهم في نفوسكم ووسوسته لكم، واجعلوا خوفكم من الله وحده، فإنه يكفيكم ويحميكم إذا كنتم مؤمنين بخبر الله جل وعلا، وبما أرسل به رسوله صلى الله عليه وسلم، فيجب أن تتحلوا بذلك {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}. وبهذا يتبين أن ترك أمر من أمور الدين، مما أوجبه الله أو التقصير فيه خوفاً من الخلق أنه من تخويف الشيطان، وأنه يجب على المؤمن أن يمتثل أمر ربه جل وعلا ويجتنب نهيه، وإن اعترض عليه من يعترض من الناس فإنه لا يخافه، بل يجب أن يكون الخوف من الله وحده، فإن ترك واجباً مما أوجبه الله، أو فعل محرماً مما حرمه الله خوفاً من الناس؛ فإن هذا يكون نقصاً في الإيمان والتوحيد وقدحاً فيهما، وربما كان دليلاً في النهاية على زوال الإيمان، كما تدل عليه الآية: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]، وقد يكون دليلاً على ضعفه.

خوف السر الواقع من عباد القبور

خوف السر الواقع من عباد القبور قال الشارح رحمه الله تعالى: [الخوف من أفضل مقامات الدين وأجلها، وأجمع أنواع العبادة التي يجب إخلاصها لله تعالى، قال تعالى: {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:28]، وقال تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:50]، وقال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46]، وقال تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40]، وقال تعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة:44]، وأمثال هذه الآيات في القرآن كثير. والخوف من حيث هو على ثلاثة أقسام: أحدها: خوف السر: وهو أن يخاف من غير الله، من وثن أو طاغوت أن يصيبه بما يكره، كما قال تعالى عن قوم هود عليه السلام أنهم قالوا له: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} [هود:54 - 55]]. معروف عند عباد الأولياء والقبور ما يسمى بخوف السر، أي: أن صاحب القبر فيه سر، فمن قدم له طاعة ونذوراً نفعه سره وجاءه النفع منه، ومن لم يفعل ذلك فإن سره يضره، وقد يميته أو يمرضه أو يفقره، أو يميت أولاده وما أشبه ذلك، هكذا يتصورونه. والمعنى: أنه خوف غيبي؛ فهو يخافه وهو غائب عنه، وهذا المخوف إما غائب مجهول، وإما في بلد آخر، وإما أنه مما لا يسمع الكلام كشجرة العزى أو حجر كاللات ومناة، أو غير ذلك من المعبودات التي تعبد، ولولا أنهم يرجون نفعها ويخافون ضرها ما عبدوها وما قدموا لها. وذكر عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم أنه قال لما كان في الشرك: أرسلني أهلي بلبن وزبد للصنم، وكنت محتاجاً له، ولكن منعني خوف الآلهة أن آكل منها شيئاً، فجئت ووضعتها عنده، فجاء الثعلب فأكلها وشربها، ثم بال عليه. سبحان الله! كيف ينطلي على عقل الإنسان أن يخاف حجراً أو شجرة، ويقدم لها ما يقدم؟ وهكذا فعل بعض شباب الأنصار في أحد ساداتهم لما تأخر إسلامه، وهو عمرو بن الجموح حين كان له صنم، فكانوا يجتمعون في الليل، فيأتون الصنم وينكسونه على رأسه، ثم إذا جاء الصباح أخذه ومسح عنه الغبار، وقال: لو أعلم من صنع بك هذا لفعلت به كذا وكذا، وفي الليلة الأخرى جاءوا وألقوه في مزبلة منكساً، فجاء وغسله، وقال: لو أعلم من صنع بك هذا لفعلت به كذا وكذا، وفي الليلة التي تليها جاءوا ونكسوه وربطوا فيه كلباً ميتاً، ثم جاء ونظر إلى حالته وفكر في نفسه، قال: والله إنه لهين! ما قيمة هذا الإله الذي يربط به كلب، ويلقى في المزبلة في النجاسات والقاذورات؟! هل هذا يجوز أن يعبد؟! فانتبه وهداه الله جل وعلا. عقول سخيفة لعب عليها الشيطان، فصارت تخاف إما من ميت مقبور تحت الثرى، لا يستطيع أن يمتنع من الديدان التي تمزق بدنه، ولا يستطيع أن يضع من صحيفة سيئاته سيئة واحدة، ولا أن يضيف إلى صحيفة حسناته حسنة واحدة. فالحي أقدر منه على الاستغفار والعمل وغير ذلك، وأما ذاك فهو مرتهن بعمله، فكيف يرجى؟ وكيف يخاف؟ وكيف يتجه إليه؟ لولا أن الشيطان يلعب على الإنسان ويفسد عقله، ويأتيه بالأمور التي تكون عنده معظمة، مثل أن فلاناً وفلاناً يعمل هذا، وأن فلاناً عمل هذا وصار له كذا وصار له كذا، وهكذا الذين يعبدون الأولياء عمدتهم كلها خرافات، إما منامات يأتي بها الشيطان، أو حكايات مكذوبة لا أصل لها، أو توهمات يوهمهم إياها الشيطان. ولهذا يذكر الله جل وعلا أنه ليس لهم على ذلك من دليل ولا برهان بل الأدلة والبراهين على خلاف ذلك، والمقصود: أن خوف السر يعني به الخوف الغيبي، فهو يخاف منه وهو غائب عنه ليس حاضراً، إما أن يكون مدفوناً، أو لا يسمع، أو بعيداً في بلد آخر، أو أنه في بيته معلقاً عليه بابه ويخاف أنه يصيبه شيء إذا خالف معبوده، كما هو الواقع من المشركين قديماً وحديثاً، والشرك وإن اختلفت أساليبه وأسبابه فهو شيء واحد.

الخوف من أولياء الشيطان

الخوف من أولياء الشيطان قال الشارح رحمه الله: [وقال تعالى: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [الزمر:36]، وهذا هو الواقع من عباد القبور ونحوها من الأوثان، يخافونها ويخوفون بها أهل التوحيد إذا أنكروا عبادتها، وأمروا بإخلاص العبادة لله، وهذا ينافي التوحيد. الثاني: أن يترك الإنسان ما يجب عليه خوفاً من بعض الناس، فهذا محرم، وهو نوع من الشرك بالله المنافي لكمال التوحيد]. أي: المنافي لكمال التوحيد الواجب؛ لأن كمال الإيمان نوعان: كمال واجب، وكمال مستحب. فالكمال المستحب قد لا يصل إليه أكثر الناس، ولكن الواجب يتعين على كل فرد أن يفعله، وهذا من الكمال الواجب، وإذا فقد الكمال الواجب صار الإنسان من أهل الكبائر، من أصحاب الكبائر المعرضين للعذاب. قال الشارح: [وهذا هو سبب نزول هذه الآية، كما قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:173 - 175]، وفي الحديث: (إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: ما منعك إذ رأيت المنكر ألا تغيره؟ فيقول: رب خشيت الناس، فيقول: إياي كنت أحق أن تخشى). الثالث: الخوف الطبيعي: وهو الخوف من عدو أو سبع أو غير ذلك، فهذا لا يذم، كما قال تعالى في قصة موسى عليه السلام: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص:21]. ومعنى قوله: (إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه)، أي: يخوفكم أولياءه، (فلا تخافوهم وخافون)، وهذا نهى من الله تعالى للمؤمنين أن يخافوا غيره، وأمر لهم أن يقصروا خوفهم على الله، فلا يخافون إلا إياه، وهذا هو الإخلاص الذي أمر به عباده ورضيه منهم]. يعني: يخوفكم بأوليائه، وأولياؤه هم الكفار والفجار والعصاة، ومعنى ذلك: أنه يجعل لأوليائه في صدوركم مقاماً، ويعظمهم ويجلهم في نفوسكم، هكذا يوسوس الشيطان في الصدور والواقع خلاف ذلك. والواجب على الإنسان ألا يخاف إلا من ربه جل وعلا، وإذا خاف الله ولم يخف الناس كفاه الله جل وعلا الناس كلهم، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (واعلم أن الخلق لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يضروك بشيء، ولو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك لم ينفعوك بشيء).

معنى قوله: (وقالوا حسبنا الله)

معنى قوله: (وقالوا حسبنا الله) قوله جل وعلا: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]، الحسب: هو الكافي، يعني: أننا نكتفي بالله ونعتصم به، ونعم الكافي ونعم من يتوكل عليه؛ فإن من استكفى به وتوكل عليه لن يصل إليه عدو، ولن يضره شيء. أما الأقدار التي يقدرها الله جل وعلا على الإنسان فلابد من نفاذها وحصولها، ولكن لا يكون ذلك بسبب فعل الواجب الذي أوجبه الله أو اجتناب المحرم الذي حرمه الله، لكنه شيء أراده الله جل وعلا إما تمحيصاً للذنوب أو زيادة في الحسنات للمؤمن؛ فإذا أصيب المؤمن بأذى من عدوه؛ فلا يخلو: إما أن يكون ذلك رفعاً لدرجاته وزيادة في حسناته، أو تكفيراً لسيئاته وتمحيصاً لما صنع وفعل. وهو في كلا الحالتين على خير، ولا يكون المؤمن إلا على هذه الطريقة، فإن أصابته النعمة فهي من الله، وإن أصابه شيء من النقم فهو بسبب ذنوبه أو أيضاً نعمة: ترفع بها درجاته يوم القيامة ويزاد في حسناته. وقد جاء أن العبد يكون له الدرجة عند الله لا يصلها بعمله، فيبتليه الله جل وعلا بالمصائب؛ حتى يصل إليها بسبب ذلك. وجاء عن ابن عباس أنه قال: (قوله: (حسبنا الله ونعم الوكيل)؛ قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قال له الناس: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران:173]. ومعنى ذلك: أن هذا قول أفضل الرسل، وكلاهما خليل لله جل وعلا: إبراهيم ومحمد صلوات الله وسلامه عليهما، والخلة هي غاية المحبة ونهايتها، وليس كما يقول بعض قاصري المعرفة: إن إبراهيم خليل الرحمن ومحمد حبيبه، وأن المحبة أبلغ. كلا هذا ليس بصحيح، بل الخلة أعلى وأجل، ولهذا كان يقول صلى الله عليه وسلم: (لو اتخذت منكم خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الله) يعني: نفسه صلوات الله وسلامه عليه، ومن كان خليله الرحمن جل وعلا لا يتخذ من الخلق خليلاً. قال الشارح: [فإذا أخلصوا له الخوف وجميع العبادة أعطاهم ما يرجون، وأمنهم من مخاوف الدنيا والآخرة، قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [الزمر:36]. قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: ومن كيد عدو الله: أنه يخوف المؤمنين من جنده وأوليائه لئلا يجاهدوهم، ولا يأمروهم بمعروف ولا ينهوهم عن منكر، وأخبر تعالى أن هذا من كيد الشيطان وتخويفه، ونهانا أن نخافهم. قال: والمعنى عند جميع المفسرين: يخوفكم بأوليائه. قال قتادة: يعظمهم في صدوركم، فكلما قوي إيمان العبد زال خوف أولياء الشيطان من قلبه، وكلما ضعف إيمانه قوي خوفه منهم، فدلت هذه الآية: على أن إخلاص الخوف من شروط الإيمان].

إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر

إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر قال المصنف رحمه الله تعالى: وقول الله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:18]. أخبر تعالى: أن مساجد الله لا يعمرها إلا أهل الإيمان بالله واليوم الآخر، الذين آمنوا بقلوبهم]. معلوم أن سورة التوبة من آخر ما نزل من القرآن، فإنها نزلت في غزوة تبوك في السنة التاسعة، وفيها ما هو متقدم نزوله، فبعض آياتها نزل متقدماً، وبعضها نزلت متأخرة، ثم يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بوضعها في المكان المناسب، فالمشركون افتخروا بأنهم أهل البيت وأنهم عُمَّاره، أي: يقومون على صيانته ونظافته وإكرام من يثب إليهم، فيقولون: هذا أفضل من كونكم اتبعتم الرسول. فأخبر الله جل وعلا أن عمارة المسجد لا تحصل من المشرك، وإنما تحصل ممن آمن بالله واليوم الآخر، أما المشرك الكافر فعمله (كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً فإذا جاءه لم يجده شيئاً)، أو: {كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم:18] لا يقدر عليه، وإذا عمل شيء فإن الله يجعله هباءً منثوراً؛ لأن من شرط قبول العمل أن يكون العامل مؤمناً: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [طه:112]، أما إذا كان كافراً فأي عمل يعمله فإنه لا ينفع ولا يجدي؛ لأن الأساس فاسد. وكذلك يجب أن يكون العمل على وفق أمر الله، لا على هوى النفس، أو كونه وجد آباءه يعظمون هذا الشيء ويعملونه، فصار يعمله ويفتخر به، هذا لا يجدي شيئاً ولا ينفع. وأخبر جل وعلا أن الذي يعمر المساجد هو المؤمن، وعمارتها بالطاعة والتقوى، وبعبادة الله فيها بالتوحيد وإخلاص العمل له. هذه عمارتها. ولهذا كان مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم -في وقته- أعمدته جذوع النخل، وسقفه جريد النخل، وإذا جاء المطر يغرق المسجد، ثم يسجد الرسول صلى الله عليه وسلم على الماء والطين، ويصبح أثره في وجهه، وهو معمور أعظم العمارة؛ لأنه يعبد فيه الله جل وعلا، ويطاع ويمتثل أمره، وينتهى عن نهيه. إذاً: المقصود بعمارة المساجد: أن يطاع الله فيها، وتقام شعائر الدين، وينطلق منها الجهاد، أما المشركون فليسوا أهلاً لذلك، ولو قدر أنهم يبنونها، أو يقدمون نفعاً لمن يقصدها أو ما أشبه ذلك كما كانت قريش تفعل، فقد كانوا يسقون الحجيج، ويقدمون لهم الكسوة ويعملون في خدمتهم، ولذلك قالوا: إنهم أفضل من أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالآية نزلت لما افتخروا بذلك، وأخبر الله جل وعلا أن هذا لا يحصل منهم، وأنه ليس كما يقولون، وإنما عمارة المساجد تكون لمن آمن بالله واليوم الآخر، واتبع الرسول صلى الله عليه وسلم، وسواء كانت العمارة عمارة بالبناء وصيانة المساجد أو بالطاعة، فكلها مما يحبه الله ويأمر به، ولهذا جاء أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة)، يعني وإن كان صغيراً يبني الله جل وعلا له بيتاً في الجنة، ومعلوم أنه من شرط العمل أن يكون خالصاً لله، وأن يكون على وفق سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم كل عمل لابد له من هذين الشرطين حتى ينفع، أما إذا دخل في العمل إرادة الدنيا أو وجوه الناس أو غير ذلك فهو لا ينفع ولا يفيد عند الله. فإذاً: العمارة تشمل عمارة المسجد بطاعة الله جل وعلا، وتشمل عمارته الفعلية بالبناء والصيانة، وهذه كلها من عمارة المساجد، وجاء في الحديث: (إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان)، أي: يتردد عليها لأداء العبادة لله جل وعلا فيها. قال الشارح رحمه الله تعالى: [أخبر تعالى أن مساجد الله لا يعمرها إلا أهل الإيمان بالله واليوم الآخر، الذين آمنوا بقلوبهم، وعملوا بجوارحهم، وأخلصوا له الخشية دون من سواه، ثبت لهم عمارة المساجد بعد أن نفاها عن المشركين؛ لأن عمارة المساجد بالطاعة والعمل الصالح، والمشرك وإن عمل فعمله: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور:39]، أو {كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم:18]، وما كان كذلك فالعدم خير منه، فلا تكون المساجد عامرة إلا بالإيمان الذي معظمه التوحيد مع العمل الصالح الخالص من شوائب الشرك والبدع، وذلك كله داخل في مسمى الإيمان المطلق عند أهل السنة والجماعة]. إذا قيل: الإيمان المطلق فمعناه: الكامل، وإذا قيل مطلق الإيمان، فهو: الإيمان الناقص. فالكمال المطلق للإيمان المطلق، بمعني أنه يشمل جميع فعل الواجبات والمستحبات، وترك جميع المحرمات مع المكروهات، وهذا هو الصواب عند أهل السنة: بأنه لابد من القول باللسان، ولابد من عقيدة القلب -أعني: علم القلب ومعرفته- ولابد من عمل الجوارح. كل هذا من الإيمان، فالإيمان إذاً يكون مركباً من أمور ثلاثة: عمل اللسان الذي هو قول: (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، ولا يكون الإنسان مؤمناً إلا بهذا، هذا مبدأ الإيمان. ثم لابد أن يعرف معنى هذه الكلمة، فيعتقد قلبه ما دلت عليه، ثم لابد أن ينبعث من القلب ما يدعوه إلى فعل الواجبات، من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم وغير ذلك. أما أن يأتي بقول: (لا إله إلا الله)، ثم لا يصلي، ولا يزكي، ولا يصوم ولا يفعل شيئاً من الواجبات؛ فهذا لا يكون مؤمناً؛ أو أنه قال بلسانه، وقلبه يعتقد خلاف ذلك؛ فهذا يكون منافقاً، والمنافق يكون في الدرك الأسفل من النار. فمقصود الشرع في ذلك: أن يبين أن قول أهل البدع مثل قول المرجئة: إن الإيمان هو مجرد المعرفة، أو أنه قول اللسان فقط، باطل، أما الأول: فيلزم منه أن يكون الشيطان مؤمناً، لأن الشيطان يعلم ويعرف ربه، ولكنه كفر بعد المعرفة، فليست معرفة القلب كافية ولا نافعة إلا إذا وافق معرفة القلب العمل والقول، وأما الثاني: فيلزم منه إيمان المنافقين. فإذاً: الأعمال من الإيمان، والأعمال يدخل فيها قول اللسان من الشهادة ومن الذكر والتلاوة والتسبيح والتكبير، وأعمال الجوارح وجميع الأعمال، وكلها إيمان، ولهذا يقول جل وعلا: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143]، والإيمان هنا المقصود به الصلاة التي صليت إلى الشام، لا يضيعها الله عليكم بل يجزيكم بها. قال الشارح: [قوله: (ولم يخش إلا الله)، قال ابن عطية: يريد خشية التعظيم والعبادة والطاعة، ولا محالة أن الإنسان يخشى المحاذير الدنيوية، وينبغي أن يخشى في ذلك كله قضاء الله وتصريفه. وقال ابن القيم رحمه الله: الخوف عبودية القلب؛ فلا يصلح إلا لله، كالذل والإنابة والمحبة والتوكل والرجاء وغيرها من عبودية القلب. قوله: {فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:18]، قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: (يقول: إن أولئك هم المهتدون، وكل (عسى) في القرآن فهي واجبة)]. السبب في هذا: أن (عسى) من أدوات الترجي، فعسى أن يكون كذا، يعني: يرجى أن يكون كذا، وهذا يكون لمن لا يعرف العواقب، أما رب العالمين جل وعلا فإنه لا يخفى عليه شيء، فإذا جاءت عسى في كلامه فمعناها أنها واقعة، ولهذا قالوا: عسى من الله واجبة، وعسى من الله حق، يعني إذا قال: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]، فسوف يبعثه المقام المحمود، فهو خبر، وليست على بابها من الترجي؛ لأن الله جل وعلا يعلم ذلك ويخبر عما سيقع، إلا أن الكلام جاء على أسلوب العرب؛ لأنه بلغتهم، فخاطبهم بلغتهم التي يعرفونها، وقد علم المقصود. فالله جل وعلا يعلم ما يكون، وأنه سوف يكون على كذا وكذا، ولا يمكن أن يتجاوز علمه شيء، ولهذا يخبرنا جل وعلا عن الشيء الذي لا يكون لو كان كيف يكون، كما قال جل وعلا عن الكفار الذين في النار، حينما يتمنون، أنهم يقولون: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا} [الأنعام:27]، يقولون هذا وهم في النار، ليتنا نرد إلى الدنيا فنؤمن بآيات ربنا وبرسله، ونتقي ونعمل العمل الصالح، فماذا قال الله جل وعلا؟ قال: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام:28]، وهذا لن يحصل، ولكن لو قدر أنه يحصل فسوف يكونون على كفرهم السابق، فالله جل وعلا لا يخفى عليه شيء، ولهذا السبب قالوا: إن (عسى) من الله واجبة. قال الشارح: [وفي الحديث: (إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد، فاشهدوا له بالإيمان، قال الله تعالى: ((إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)) [التوبة:18])، رواه أحمد والترمذي والحاكم عن أبي سعيد الخدري].

شرح فتح المجيد [89]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [89] هناك أناس ادعوا الإيمان بألسنتهم، ولم يثبت في قلوبهم، إذا جاءتهم محنة وفتنة في الدنيا، كأن يؤذوا في الله، جعلوا ما جاءهم من أذى وفتنة كعذاب الله، فانتكسوا وارتدوا على أعقابهم. وهؤلاء هم الذين يرضون الناس بسخط الله، ويحمدون الناس على رزق الله، ويذمونهم على ما لم يؤتهم الله. والذي دعاهم إلى ذلك عدم خوفهم من الله وإخلاصهم له في ذلك.

فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله

فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله قال المصنف رحمه الله تعالى: وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10]]. هذه الآية يخبر الله جل وعلا فيها: أن الناس إذا جاءهم رسول انقسموا إلى قسمين: قسم يقول: آمنا، وقسم يقول: كفرنا، والذي يقول: كفرنا ليس بمعجز لله جل وعلا، بل سوف يأخذه ويعذبه، وهو هين عند الله لا يساوي شيئاً، والذين قالوا: آمنا، لابد من ابتلائهم واختبارهم، كما قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2]، والفتنة المقصود بها هنا: الاختبار والامتحان، والاختبار يكون بالأوامر والنواهي، ويكون كذلك بمعاداة أكثر الناس وله؛ القريب منهم والبعيد، ومثل هذا يكون صعباً على النفوس. وهذا هو الامتحان والابتلاء، فمن الناس من يصبر ويتحمل الأذى في هذا السبيل ولا يبالي، يؤذونه ويعيرونه ويتخذون معه كل طرق الصد، فيزداد بذلك قوة وإيماناً وعزة ويقيناً، ومنهم من ينتكس ويجعل أذية الناس وعذابهم كعذاب الله، ويستعجل العافية ويقول: ما لي ولمعاداة الناس، وتحمل عذابهم، ومقابلتهم بالقتال وبالأمر والنهي، آمرهم وأنهاهم وهم يتسلطون علي بالأذى وبالمحاربة وبغير ذلك، فينتكس، فيكون مستعجلاً للعذاب العاجل ومستأجلاً للعذاب الآجل. قال الشارح رحمه الله تعالى: [قال ابن كثير رحمه الله تعالى: يقول تعالى مخبراً عن صفات قوم من المكذبين الذين يدعون الإيمان بألسنتهم ولم يثبت في قلوبهم: إنهم إذا جاءتهم محنة وفتنة في الدنيا اعتقدوا أنها من نقمة الله بهم؛ فارتدوا عن الإسلام، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (يعني: فتنته أن يرتد عن دينه إذا أوذي في الله). وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: الناس إذا أرسل إليهم الرسل بين أمرين: إما أن يقول أحدهم: آمنا، وإما أن لا يقول ذلك بل يستمر على السيئات والكفر، فمن قال: آمنا امتحنه ربه وابتلاه وفتنه، والفتنة: الابتلاء والاختبار ليتبين الصادق من الكاذب، ومن لم يقل: آمنا؛ فلا يحسب أنه يعجز الله ويفوته ويسبقه. فمن آمن بالرسل وأطاعهم عاداه أعداؤهم وآذوه، وابتلي بما يؤلمه، ومن لم يؤمن بهم ولم يطعهم عوقب في الدنيا والآخرة وحصل له ما يؤلمه، وكان هذا الألم أعظم وأدوم من ألم أتباعهم، فلابد من حصول الألم لكل نفس آمنت، أو رغبت عن الإيمان، لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداء، ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة، والمعرض عن الإيمان تحصل له اللذة ابتداء، ثم يصير في الألم الدائم، والإنسان لابد أن يعيش مع الناس، والناس لهم إرادات وتصورات؛ فيطلبون منه أن يوافقهم عليها، وإن لم يوافقهم آذوه وعذبوه، وإن وافقهم حصل له العذاب تارة منهم وتارة من غيرهم، كمن عنده دين وتقىً حلَّ بين قوم فجار ظلمة لا يتمكنون من فجورهم وظلمهم إلا بموافقته لهم أو سكوته عنهم، فإن وافقهم أو سكت عنهم سلم من شرهم في الابتداء، ثم يتسلطون عليه بالإهانة والأذى أضعاف ما كان يخافه ابتداء لو أنكر عليهم وخالفهم، وإن سلم منهم فلابد أن يهان ويعاقب على يد غيرهم. فالحزم كل الحزم بما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لـ معاوية رضي الله عنه: (من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله مئونة الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئاً)؛ فمن هداه الله وألهمه رشده، ووقاه شر نفسه، امتنع من الموافقة على فعل المحرم وصبر على عداوتهم، ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة كما كانت للرسل وأتباعهم. ثم أخبر تعالى عن حال الداخل في الإيمان بلا بصيرة: أنه إذا أوذي في الله جعل فتنة الناس له، وهي أذاهم ونيلهم إياه بالمكروه، وهو الألم الذي لابد أن ينال الرسل وأتباعهم ممن خالفهم جعل ذلك -في فراره منه وتركه السبب الذي يناله به- كعذاب الله الذي فر منه المؤمنون بالإيمان. فالمؤمنون لكمال بصيرتهم فروا من ألم عذاب الله إلى الإيمان، وتحملوا ما فيه من الألم الزائل المفارق عن قرب، وهذا لضعف بصيرته، فر من ألم أعداء الرسل إلى موافقتهم ومتابعتهم، ففر من ألم عذابهم إلى ألم عذاب الله، فجعل ألم فتنة الناس في الفرار منه بمنزلة عذاب الله، وغبن كل الغبن إذ استجار من الرمضاء بالنار، وفر من ألم ساعة إلى ألم الأبد، وإذا نصر الله جنده وأولياءه قال: إني كنت معكم والله أعلم بما انطوى عليه صدره من النفاق. انتهى].

اختبار الله لعباده بالابتلاءات الدنيوية

اختبار الله لعباده بالابتلاءات الدنيوية من المعلوم أن هذه الدنيا دار ابتلاء واختبار، وعمل، وليست دار نعيم وبقاء، وجعلها الله جل وعلا مزرعة للآخرة، فمن قدم فيها خيراً وصبر وصابر، وتعلق بربه جل وعلا، ودافع بذلك كل ما يرد عليه من موارد الشيطان وأعوانه، فإن الله جل وعلا يجعل له عوناً من نفسه ومن غير نفسه على ذلك، ثم ما هي إلا فترة بسيطة وينتهي وينسى كل ما مر عليه. ولا يتصور الإنسان أن هذه الدنيا سالمة من كل أذى لابد أن يحصل الأذى لكل أحد في هذه الدار، سواء كان من المؤمنين أو من الكافرين الفاجرين، ثم في النهاية يموت، ولكن الله جل وعلا وضع في الإنسان عقلاً وفكراً، وجعل له إرادة وقوة، ثم بين له جل وعلا الأمر الذي يلزمه، والأمر الذي يجب أن يمتنع عنه، وجعل لذلك أسبابه وعلاماته، فللصبر أسباب وللجزع أسباب، وللإيمان أسباب وللكفر أسباب، وكلها يقدم عليها الإنسان وهو راضٍ بها وعارف، فيصبح اللوم عليه؛ لأنه يفعل ذلك بإرادته وقوته. ومعلوم أن الله جل وعلا خلق الخلق ليعبدوه، وعبادته هي امتثال أمره ونهيه، وكثيراً ما يكون أمر الله جل وعلا ثقيلاً وشاقاً على كثير من نفوس الناس، فإذا جاءه أمر الله استثقله. ثم هناك مثبطات من شياطين الجن والإنس، أما شياطين الجن: فيتعرضون لك بكل ما يستطيعون حتى لا يفعل أمر الله، وذلك إما بالوسوسة أو بالوعد والوعيد أو بالتمني أو بالتزيين أو بغير ذلك. أما إن كان من شياطين الإنس: فهو أنكى وأشد وذلك يقع إما بالفعل، وإما بالقول والتهديد، وإما بالسخرية والاستهزاء، أو بغير ذلك كما هو واقع الناس اليوم، فإن كان نظره قصيراً وبصيرته عمياء؛ فإنه لا يستطيع أن يمضي في أمر الله جل وعلا، ولاسيما إذا كان إيمانه ضعيفاً، فلابد من أن يتعثر، فإما أن ينتكس نهائياً ويصبح مع عدوه، أو يصبح موافقاً له في الظاهر، ونفسه تطالبه أن يفعل أمر الله جل وعلا ويجتنب نهيه. وهذا قد ينجو وقد يعاقب قد ينجو في النهاية إذا من الله عليه بالتوبة والرجوع إليه، وقد يهلك مع الهالكين إذا لم تتداركه عناية الله؛ فإن المؤمن لابد أن يتميز بطاعة الله جل وعلا وطاعة رسوله. فهذه من الأمور التي لا ينفك عنها الناس، بل قد يبتلى حتى من أهله وأولاده وأقاربه فضلاً عن البعيدين، بل قد يصاب في نفسه: إما بمرض أو بفقر، أو بمصائب تكون في ماله أو أهله أو ولده أو غير ذلك، لابد من البلوى فينظر الله هل يصبر، أو ينتكس ولا يصبر؟ وكثيراً ما نسمع من بعض الذين أصيبوا بمرض أو بغير ذلك تضجرهم وتوجعهم، ولو أمكنهم لصرحوا بالشكوى من الله أنه ظلمهم، ولهذا تجد أحدهم يقول: أنا لا أدري ماذا صنعت؟ أنا أصلي، وهذه المصيبة لا أدري من أين جاءتني؟ فكأنه يقول: إني أصبت بشيء لا أستحقه. وهذه من البلوى التي يصاب بها كثير من الناس، لينظر الله هل يصبر؟ هل يعلم أن كل ما أصابه فبذنب اقترفه؟! وأن الله لطيف رحيم بر جواد؟ وأنه إذا صبر عبده على ما أصابه به -سواء كان في نفسه أو من الناس- أنه يعينه على ذلك ويثيبه؟ فإنه جل وعلا يوفي الصابرين أجرهم بغير حساب.

عاقبة الصابرين

عاقبة الصابرين لم يذكر الله جل وعلا في الصبر أن الحسنة فيه بعشر أمثالها أو بسبعمائة ضعف، لا، بل أخبر أنه يوفي الصابر أجره بغير حساب، بدون تضعيف في الأجر أو أن أجره ينتهي إلى عدد معين، وذلك لما يواجهه الصابر من البلاء والامتحان والفتن، ولا يطيق ذلك إلا من تمحص إيمانه وأيقن بربه جل وعلا، وأصبحت لا تؤثر عليه المصائب التي دون دينه، فكل مصيبة دون الدين يرى أنها ليست بشيء، وأنها سوف تنتهي وتضمحل. ولا شك أن الأمر سريع جداً، فإذا قدر أن إنساناً اتبع أمر الله واجتنب نهيه على مضض ومرارة وآلام ومقاساة، وإنسان آخر ارتكب مناهي الله ولم يمتثل أمره، وصار يمرح ويفعل ما يريد وما يشاء، فإن أمر هذا وأمر هذا سوف ينتهي سريعاً كأن لم يكن شيء من ذلك، ثم العاقبة بعد ذلك أن هذا يكون في نعيم لا نهاية له، وهذا في عذاب لا انقطاع له، ويصبح الشيء الذي مر نسياً كأن لم يكن، فيكون هذا الذي ارتكب المناهي هو المغبون الذي باع نفسه، وخسر كل الخسران. والآخر صبر ساعة وانتهت كأن لم تكن، فحمد عقبى صبره، ولقي رضى ربه، وفاز بثوابه الذي لا انقطاع له، وعن هذا المعنى يعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى يوم القيامة بأشد الناس نعيماً في الدنيا من أهل الكفر؛ فيغمس في النار غمسة، ثم يقال له: يا ابن آدم! هل مر بك نعيم قط؟ هل رأيت خيراً قط؟ فيقول: لا والله ما مر بي نعيم قط ولا رأيت خيراً قط، ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الإيمان، ويغمس في الجنة غمسة، ثم يقال له: يا ابن آدم! هل مر بك شدة قط؟ هل رأيت بؤساً قط؟ فيقول: لا والله ما رأيت شدة قط، ولا مر بي بؤس قط). وهل الحلف هنا من هذين الرجلين على أنه ما مر بهم شيء كذب؟ لا، لأن الأمر بالنسبة لهم نسي نهائياً، وأصبح في طي النسيان، فهم يحلفون على شيء اعتقدوا أنه صحيح وواقع؛ لأنه كحلم المنام فقط، وقد يمر عليك حلم في منامك فتنساه، فهذا مثله، نسوه نهائياً، وأصبح وكأنه ليس له وجود. لهذا المعنى أيضاً يقول صلى الله عليه وسلم: (ما الدنيا في الآخرة إلا مثل أن يدخل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر ماذا يرجع عليه؟)، إذا أدخلت أصبعك في البحر ثم رفعته، ماذا ينقص من البحر؟ أو بماذا يأتي أصبعك؟ بلا شيء، يأتي ببلل ينتهي سريعاً، والدنيا هكذا بالنسبة للآخرة.

الصبر على مكدرات الدنيا وأذية أهلها

الصبر على مكدرات الدنيا وأذية أهلها هذه الدنيا طبعت على المكدرات والآلام، وخلقت للابتلاء بتلك المكدرات والآلام، فإن كان المبتلى مؤمناً وصبر؛ فإنه سوف يلقى الجزاء على ذلك، ويصبح صبره حلواً، والآلام التي مرت به يستلذها؛ لأنها وقعت في طاعة الله ومرضاته. أما الآخر فبالعكس: الآلام التي تستقبله بالنسبة لما مضى لا يمكن أن تنسب، لا نقول: حر مثل حر الشمس بالنسبة إلى حر جهنم، فجهنم أشد وأعظم؛ لأن الأولى عبارة عن ساعات نسيت، بعكس الأخيرة. فإذاً الحزم أن يعزم الإنسان على طاعة ربه في هذه الدنيا، ولا يلتفت إلى المؤذيات والمنكدات، سواء من الناس أو من الأقدار التي يقدرها الله عليه أو غير ذلك، وليعلم أن كل ما يصيبه فإنه بسبب معاصيه، والله جل وعلا جعل بحكمته العداء بين أهل الحق وأهل الباطل منذ أبى الشيطان أن يسجد لأبينا آدم، فمن ذلك الوقت والحرب قائمة بين الحق والباطل، ولكل منهما جنود وأنصار، والله يبلو بعضهم ببعض، فأحياناً تظهر بارزة وأحياناً تكون في النفس، من الأمور التي يقدرها حتى يظهر ما لدى الإنسان، ومعلوم أن الله جل وعلا علام الغيوب لا يخفى عليه شيء، يعلم الشيء الذي سوف يكون أنه يكون كذا وكذا، كما جاء في الحديث الصحيح: أنه يقال للكافر وهو في النار: (أرأيت لو كانت لك الدنيا بما فيها أكنت مفتدياً هذا العذاب؟ فيقول: نعم وأكثر من ذلك، فيقول الله جل وعلا: أردت منك ما هو أقل من هذا، أردت منك ألا تشرك بي وأنت في صلب أبيك آدم، فأبيت إلا الكفر والشرك)، ومعنى هذا: أن الله علم ما سيفعله هذا المخلوق قبل وجوده، وأنه سيأبى الإيمان، وأنه سيكفر إذا وجد، فكتب الله جل وعلا ذلك قبل أن يوجد الناس وهم في أصلاب آبائهم، كتب ذلك وعلمه، والله جل وعلا لا يؤاخذ على كتابته وعلمه، فلابد أن يظهر العمل بارزاً مشاهداً فيعذر من الخلق، ولهذا أرسل الرسل، وأنزل الكتب حتى تقوم الحجة على الناس. والمقصود: أن الحرب قائمة بين الحق والباطل، ولكل واحد منهما أنصار وجنود، فعلى العبد أن يجتهد كل الاجتهاد أن يكون من أنصار الحق وأعوانه، وألا يتأثر بالباطل ودعاياته، وقد يصيبه أذى من أهله، فإن تأثر من ذلك فإنه سوف يكون على حساب نفسه، إما أن ينتكس معهم ويصبح من أهل العذاب، أو يكون ضعيف الإيمان وقد نال منه العدو ما نال؛ فينقص من درجته يوم القيامة ومن ثوابه على أقل تقدير، وقد يناله عذاب في الدنيا وعذاب في القبر وعذاب يوم القيامة حتى يطهر لكونه لم يجاهد في الله، والجهاد أنواع: منها جهاد الشيطان، وجهاد العدو الخارجي، وجهاد النفس، وهذه هي التي يجب أن يصبر الإنسان فيها ويصابر ويثابر، ولا يتعجل الأمر فهو قريب، وهو أمر عام لكل أحد. أما ما ذكر في الآية فهو أخص من هذا؛ فالله جل وعلا ذكر أنه إذا أرسل رسولاً إلى الناس فمنهم من يقول: آمنا بألسنتهم، ثم إذا وقع لهم أذى من حروب أو خوف، أو أصيبوا بمصائب في أنفسهم إذا هم ينتكسون ويرجعون، ويقولون: هذه كلها بأسباب هذا الدين، ما لنا وله، ثم يتركونه، وهذا معنى كونهم جعلوا فتنة الناس كعذاب الله، يعني: أنهم توقوا ما يصيبهم من أذى الناس بترك الإيمان، ووافقوهم على مطلوبهم وما يريدون؛ حتى يسلموا من أذيتهم، تصوروا أن هذا فيه السلامة، فتجد أحدهم يلاقي المؤمنين مخبراً لهم بأنه معهم بلسانه، وهو كاذب في قرارة نفسه، فإذا خلا بالمنافقين أصحابه أو بالكافرين صار يضحك معهم ويسخر، ويقول: أنا أستهزئ بأولئك وأوافقهم لآتيكم بأخبارهم، وإلا فأنا معكم قلباً وقالباً، فهذا وأمثاله الذين ذكرهم الله في الآية، ولهذا قال مجاهد وابن عباس: إنه يترك دينه، والمعنى: أنه يترك دينه لأجل الخوف مما يصيبه من أذى الناس، ويتركه موافقة لهم؛ لأنهم لابد أن يحاربوه. ثم بعد ذلك ماذا يكون؟ تنتهي الأمور، وتكون العاقبة -ولابد- للمتقين للصابرين الذين صبروا على الأذى، وتحملوا ذلك في طاعة الله جل وعلا، كما أخبر الله جل وعلا في كتابه أن هذه عاقبة المؤمنين دائماً، وأن العاقبة للتقوى، وأن عباد الله هم الذين تكون لهم عقبى الدار، لكن المنافق إذا جاءت النتائج صار يتأسف على مامضى، أو صار يأتي إلى المؤمنين ويقول: أنا كنت معكم -يعني في الظاهر- هذا إذا حصل لهم من المغنم ومن أمور الدنيا جاء إليهم، يقول ذلك حتى يصيب ما يصيب من أمور الدنيا، وإلا فهو في الحقيقة ليس معهم. والمقصود: أنه تعجل دفع أذية الخلق، ولم يبال بعذاب الله جل وعلا؛ إما لأنه كان مستبعداً له ويقول: هذا بعيد، والحياة طويلة، ولا يمكن أن تتغير الأحوال، أو أنه يكذب به نهائياً ولا يؤمن به، فإذا كان لا يؤمن به، فهذا معناه أنه لا يرجى له خير أبداً. أما إذا كان يستبعده، فهناك أمل ضعيف أنه يتوب ويستدرك، والغالب أنه لا يتوب؛ لأن الذنوب بعضها يجر بعضاً، وتتراكم على القلب، ثم يأتي الران الذي يغطي القلوب، ثم ينتكس القلب، ويشرب حب المعاصي وكراهية الطاعة، فيصبح هالكاً مستحكماً هلاكه، والغالب أنه يكون بهذه المثابة، ولا يسلم وسوف ينتهي، وربما انقلبت عليه الأمور التي يقدرها وينظر إليها، فيصيبه العذاب من حيث لا يحتسب. والمقصود: أن الإنسان في هذه الحياة لابد أن يختبر ويمتحن، وعند الاختبار والامتحان يكرم المرء أو يهان إما أن تظهر كرامته أو يظهر هوانه؛ لأن هذا نتيجة عمله فهو يجزى بالعمل، وهذا شيء لابد منه للخلق كلهم في هذه الحياة، والابتلاء والامتحان يكون -كما مر- بأمر الله جل وعلا ونهيه، فمن أطاع أمر الله واتبعه وحرص على ذلك -وإن خالفه القريب والبعيد- فإنه سوف يكون في طمأنينة في نفسه، وإن أوذي واشتد أذاه، ففي مستقبله سوف يكون في غاية السعادة. أما إن كان على العكس من ذلك فإنه لا يعجز الله، وسوف يأخذه في الدنيا، ثم مصيره إلى عذاب الله، هذه هي حقيقة الأمر للناس كلهم، وقد يعافى الإنسان -ولكن هذا قليل- من الابتلاء في الدين، أو من أذية الناس، وتبقى مصائب الدنيا ومحن القدر التي ليس منها مفر، ولا يسلم منها أحد، فينظر الله هل يصبر على هذه الأقدار والمصائب أم يعترض ويتضجر؟ وبهذا الامتحان يتخلص المؤمنون وتيطهروا من كل أدناس الذنوب والعيوب، إلا أن مصائب الدين أعظم وأشد وأنكى من مصائب النفس والمال والولد.

الرد على المرجئة والكلابية في حقيقة الإيمان

الرد على المرجئة والكلابية في حقيقة الإيمان قال الشارح رحمه الله: [وفي الآية رد على المرجئة والكرامية، ووجهه: أنه لم ينفع هؤلاء قولهم: آمنا بالله. مع عدم صبرهم على أذى من عاداهم في الله، فلا ينفع القول والتصديق بدون العمل، فلا يصدق الإيمان الشرعي على الإنسان إلا باجتماع الثلاثة: التصديق بالقلب وعمله، والقول باللسان، والعمل بالأركان. وهذا قول أهل السنة والجماعة سلفاً وخلفاً، والله سبحانه وتعالى أعلم]. الكرامية والكلابية من الطوائف القديمة، أما الكرامية فنسبة لـ ابن كرام، والكلابية نسبة لـ أبي سعيد عبد الله بن محمد بن سعيد بن كلاب، وكلاهما من الذين قاموا على أهل البدع من المعتزلة وغيرهم، ولكن المشكلة أنهم ردوا عليهم ببدع مثل بدعهم فأخطئوا، وإن كانوا أقرب إلى أهل السنة من أولئك. إلا أن مذهب الكلابية لا يزال موجوداً وهو مذهب الأشاعرة اليوم؛ فمذهب الكلابية أصل مذهب الأشاعرة، والمقصود بالرد: أن الإيمان عند أهل السنة مركب من أمور ثلاثة: من عمل محله القلب، ومن قول يكون باللسان، ومن عمل يكون بالجوارح، وإذا تخلف شيء من ذلك فالإيمان متخلف غير موجود. فالقول المقصود به قول: (لا إله إلا الله)، وهذا مما لابد منه، فإن الإنسان لو اعتقد في قرارة نفسه، جازماً بصحة الإسلام، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنه لم ينطق بالشهادتين؛ فإنه يكون كافراً بإجماع العلماء، لابد من النطق بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: (لا إله إلا الله)). ثم مجرد القول لا يكفي، فلابد أن يعرف معنى هذا القول ويعتقد صحته، لأنه لو كان مجرد القول كاف لما كان الكفار والمشركون الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم متوقفين عن هذا القول أن يقولوه، ويبقوا على دينهم، ولكنهم علموا أن المقصود بالقول المعنى، وأن هذا القول يبطل كل شرك كائن. ولأنهم يعرفون حقيقة الألفاظ، قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:5] لما قال لهم قولوا: لا إله إلا الله، فهم عرفوا أنه جعل التعلق كله لله، والآلهة كلها باطلة فأبوا أن يقولوا هذا القول، أما لو كان مجرد قول باللسان فقط مع بقائهم على دينهم لسارعوا إلى ذلك ولم يترددوا، وقد عرضوا على الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يعبد آلهتهم يوماً وهم يعبدون الله يوماً، فأمره الله جل وعلا أن يتبرأ من ذلك، وقال: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:1 - 3] إلى آخرها. الأمر الثالث: العمل، فإذا قال واعتقد صحة القول لكنه لا يصلي ولا يزكي ولا يصوم ولا يحج، ولا يعمل الأعمال التي أمر بها، فهذا لا ينفعه قوله وعقيدته، فلابد من اجتماع هذه الأمور الثلاثة، هذا قول أهل السنة. أما هؤلاء الذين ذكرهم فعندهم أن القول والتصديق بالقلب كاف، وهذا رد لكتاب الله جل وعلا ولما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وكثيراً ما كان الله يقرن العمل بالإيمان في كتابه، كقوله تعالى: (الذين آمنوا وعملوا الصالحات)، مما يدل على أن مجرد الإيمان بلا عمل لا يمكن، وإنما هذا تقدير يقدرونه في أذهانهم، أما إن وجد الإيمان الحقيقي في القلب فلابد أن يبعث على العمل. ومن هنا علم أن الإيمان مركب من أمور ثلاثة: من القول الاعتقاد، ومن الأعمال، وهي الفروض التي فرضها الله جل وعلا، وهذا هو الحق، الذي تدل عليه الآيات الكثيرة، وجاء كلام الشارح هذا عرضاً واستطراداً. قال الشارح: [وفيه الخوف من مداهنة الخلق في الحق، والمعصوم من عصمه الله تعالى]. المداهنة معناها: أن يوافقهم على باطلهم وهو يعتقد بطلان ذلك، ولا ينكر عليهم ولا يتبرأ من فعلهم، وهو كاره لذلك مبغض له في حقيقة الأمر، ولكنه وافقهم في الظاهر، فهذه مداهنة، والمداهنة لا تكون إلا لخائف أو لضعيف، فإذا كان ضعيفاً أو خائفاً داهن، والحق لا يجوز أن يكون فيه مداهنة؛ لأن أمر الله جل وعلا أولى بالطاعة والامتثال، وخوف الناس لا يجوز أن يسيطر على الإنسان، لا يجوز للإنسان أن يجعل خوف الناس أكثر من خوف الله جل وعلا، فإنه إذا كان بهذه المثابة فهو ضعيف الإيمان وقد يقع في الشرك؛ لأن تقديم خوف الناس على خوف الله من أنواع الشرك.

شرح حديث: (إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله)

شرح حديث: (إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله) [قال المصنف رحمه الله تعالى: وعن أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعاً: (إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله؛ إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره)]. هذا الحديث ضعيف؛ لأنه من رواية محمد بن مروان السدي الصغير، وكذلك من رواية عطية العوفي، وكلاهما متروك، ومثل هذا -إذا كان بمثل هذا السند- متفق على ضعفه، ولكن هذا الحديث معناه صحيح وثابت في نصوص أخرى، ولهذا ذكره، أما لو كان المقصود به الاعتماد عليه، فإنه لا ينبغي له أن يذكره؛ لأن مثل هذا لا ينبغي أنه يذكر، وإنما ذكره لأجل المعنى الصحيح فقط. ومعنى هذا الحديث واضح وجلي: وهو أن رزق الله لا يجلبه حرص حريص ولا يرده كراهة كاره، فإذا قدر الله لك شيء، فعملك الذي تعمله وتحرص عليه لم يؤد إلى زيادة شيء لم يكتبه الله لك. وكذلك كراهة الناس بأن يمنعوك مما كتب الله لك هذا لا يمكن، وهذا المعنى هو الذي جاء به حديث ابن عباس: (واعلم أن الخلق لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يستطيعوا ذلك، وأن الخلق لو اجتمعوا كلهم على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك لم يستطيعوا ذلك، جفت الأقلام وطويت الصحف بما هو كائن إلى يوم القيامة)، رواه الترمذي وغيره، وهذا معنى هذا الحديث، فمن ضعف اليقين أن يرضي الإنسان الناس بسخط الله، واليقين المقصود به غاية الإيمان؛ لأن اليقين أعم من مجرد التصديق. فإذا أصبح يطلب رضى الناس بسخط الله، فمعنى ذلك أن إيمانه إما أن يكون ناقصاً أو معدوماً، وعلى العكس: إذا كان الإنسان يرضي الله بسخط الناس فإن هذا دليل على قوة إيمانه وأن عنده يقين؛ لأنه خاف الله ولم يخف الناس، وطلب رضى الله ولم يبال بسخط الناس، فالعكس بالعكس تماماً. ثم أخبر أن الرزق لا تجلبه الأسباب الظاهرة إذا لم يرده الله؛ لأن الله هو مسبب الأسباب، وهو الذي رتب المسببات على السبب، ولو شاء لعطل ذلك ومنعه، وليس معنى هذا أن الإنسان يترك السبب، كلا، فالسبب يفعل؛ لأن ترك السبب قدح في الشرع. والله أمر بفعل الأسباب، ولكن لا يجوز الاعتماد عليها، فإن الاعتماد عليها شرك بالله جل وعلا، وتعطيلها قدح في العقل والشرع، وكل شيء جعله الله سبباً ينبغي أن يفعله العبد، معتمداً على الله جل وعلا في حصول المراد، فإن حصل له المراد حمد الله وأثنى عليه، وعبده بهذه النعمة التي حصلت له، وازداد إيماناً على إيمانه، وإن لم يحصل له المطلوب فلا يعود على ذم الناس، وكأنه لا يعلم أن هذا بتدبير الله، وأنه لو أراد جل وعلا لصار، فلا ينبغي أن ينظر إلى السبب على أنه هو المؤثر الجالب أو المانع، بل المؤثر هو الله جل وعلا، الذي قدر الأقدار وجعل لها أسباباً وموانع. وعليه؛ إذا حصل له على يد أحد من الناس رزقاً فلا يشكر هذا الإنسان كالذي يعبده، بل يشكر الله جل وعلا، ويعلم أن ذلك من الله، وليس معنى ذلك أنه أيضاً ينسى الفضل الذي يرتبه الله جل وعلا على بعض أيدي عباده، فقد جاء في الحديث: (من لا يشكر الناس لا يشكر الله)، وجاء فيه أيضاً: (ومن صنع إليكم معروفاً فكافئوه)، ومن المعلوم أن الإنسان لا يصنع المعروف بقوته وخلقه وإيجاده وإنما يكون سبباً، والمكافئة إما بإعطائه، وإما بالدعاء له، أما أن يجعل قلبه متعلقاً به فيعطيه ما يعطي الله، فهذا حرام، وهو من الشرك الذي لا يجوز. هذا هو معنى هذا الحديث، وكما سبق أن ألمحنا أن هذا الحديث في ذاته لا يعتمد عليه في إثبات حكم أو نفيه، وإنما جاء به المصنف لأن معناه وافق نصوصاً أخرى. قال الشارح رحمه الله تعالى: [هذا الحديث رواه أبو نعيم في الحلية، والبيهقي وأعله بـ محمد بن مروان السدي، وقال: ضعيف، وفي إسناده أيضاً عطية العوفي ذكره الذهبي في الضعفاء والمتروكين، وموسى بن بلال، قال الأزدي: ساقط، ومعنى الحديث صحيح، وتمامه: (وإن الله بحكمته جعل الروح والفرح في الرضى واليقين، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط)]. هذه الجملة الأخيرة يظهر أنها حديث آخر، ولهذا ذكره البخاري معلقاً في بعض تراجم صحيحه، وذكر الحافظ أن هذه الجملة الأخيرة رواها الطبراني في المعجم، وأن سندها حسن، فيظهر أن هذا أيضاً حديث آخر، وإن كان ذاك من تمامه، فهذا من معنى قوله: إن معناه صحيح، يعني: أنه وافق نصوصاً أخرى في المعنى. قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: (إن من ضعف اليقين)، الضعف: يضم ويحرك ضد القوة، ضعف ككرم ونصر، ضعفاً، وضعفة، وضعافية، فهو ضعيف وضعوف وضعفان، والجمع: ضعاف وضعفاء وضعفة وضَعْفى وضعَفى أو الضعف -بالفتح- في الرأي، وبالضم في البدن فهي ضعيفة وضعوف. و (اليقين) المراد به كمال الإيمان، كما قال ابن مسعود: (اليقين الإيمان كله، والصبر نصف الإيمان)، رواه الطبراني بسند صحيح وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في الزهد من حديثه مرفوعاً]. يعني أن اليقين: الإيمان الكامل، هذا معناه، وإذا كان كذلك فإنه إذا وقع لإنسان ما يضعف يقينه فليس هذا دليل على أنه ليس عنده إيمان، ولكن دليل على أن إيمانه ضعيف. قال الشارح: قال: ويدخل في ذلك تحقيق الإيمان بالقدر السابق، كما في حديث ابن عباس مرفوعاً: (فإن استطعت أن تعمل بالرضى في اليقين فافعل، فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً)، وفي رواية: (قلت: يا رسول الله! كيف أصنع باليقين؟ قال: أن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك).

معنى قوله: أن تحمدهم على رزق الله وأن تذمهم على ما لم يؤتك

معنى قوله: أن تحمدهم على رزق الله وأن تذمهم على ما لم يؤتك قوله: (أن ترضي الناس بسخط الله) أي: تؤثر رضاهم على رضى الله؛ وذلك إذا لم يقم بقلبه من إعظام الله وإجلاله وهيبته، ما يمنعه من استجلاب رضى المخلوق بما يجلب له سخط خالقه وربه ومليكه، الذي يتصرف في القلوب، ويفرج الكروب، ويغفر الذنوب، وبهذا الاعتبار يدخل في نوع من الشرك؛ لأنه آثر رضى المخلوق على رضى الله، وتقرب إليه بما يسخط الله، ولا يسلم من هذا إلا من سلمه الله، ووفقه لمعرفته، ومعرفة ما يجوز على الله من إثبات صفاته على ما يليق بجلاله، وتنزيهه تعالى عن كل ما ينافي كماله، ومعرفة توحيده في ربوبيته وإلهيته، وبالله التوفيق. قوله: (وأن تحمدهم على رزق الله) أي: على ما وصل إليك من أيديهم، بأن تضيفه إليهم وتحمدهم عليه، فإن المتفضل في الحقيقة هو الله وحده، الذي قدره لك وأوصله إليك، وإذا أراد أمراً قيض له أسباباً، ولا ينافي هذا حديث: (من لا يشكر الناس لا يشكر الله)؛ لأن شكرهم إنما هو بالدعاء لهم، لكون الله ساقه على أيديهم، فتدعو لهم أو تكافئهم، وفي الحديث: (من صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه) فإضافة الصنيعة إليهم؛ لكونهم صاروا سبباً في إيصال المعروف إليك، والذي قدره وساقه هو الله وحده. قوله: (وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله)؛ لأنه لم يقدر لك ما طلبته على أيديهم، فلو قدره لك لساقته المقادير إليك، فمن علم أن المتفرد بالعطاء والمنع هو الله وحده، وأنه هو الذي يرزق العبد بسبب وبلا سبب ومن حيث لا يحتسب، لم يمدح مخلوقاً على رزق، ولم يذمه على منع، ويفوض أمره إلى الله، ويعتمد عليه في أمور دينه ودنياه، وقد قرر النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى بقوله في الحديث: (إن رزق الله لا يجره حرص حريص ولا يرده كراهية كاره)، كما قال تعالى: {مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [فاطر:2]. قال شيخ الإسلام رحمه الله: اليقين يتضمن اليقين في القيام بأمر الله وما وعد الله أهل طاعته، ويتضمن اليقين بقدر الله وخلقه وتدبيره، فإذا أرضيتهم بسخط الله لم تكن موقناً لا بوعده ولا برزقه، فإنه إنما يحمل الإنسان على ذلك: إما ميل إلى ما في أيدي الناس، فيترك القيام فيهم بأمر الله لما يرجوه منهم، وإما ضعف تصديقه بما وعد الله أهل طاعته، من النصر والتأييد والثواب في الدنيا والآخرة، فإنك إذا أرضيت الله نصرك ورزقك وكفاك مئونتهم، وإرضاؤهم بما يسخطه إنما يكون خوفاً منهم ورجاءً لهم، وذلك من ضعف اليقين، وإذا لم يقدر لك ما تظن أنهم يفعلونه معك فالأمر في ذلك إلى الله لا لهم، فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فإذا ذممتهم على ما لم يقدر كان ذلك من ضعف يقينك، فلا تخفهم ولا ترجهم ولا تذمهم من جهة نفسك وهواك، ولكن من حمده الله ورسوله منهم فهو المحمود، ومن ذمه الله ورسوله منهم فهو المذموم، ولما قال بعض وفد بني تميم: (أي محمد! أعطني، فإن حمدي زين وذمي شين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ذاك الله). ودل الحديث على أن الإيمان يزيد وينقص، وأن الأعمال من مسمى الإيمان].

حقيقة العبودية أن ترضي الله دون النظر إلى الناس

حقيقة العبودية أن ترضي الله دون النظر إلى الناس قال المصنف رحمه الله تعالى: وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من التمس رضى الله بسخط الناس، رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضى الناس بسخط الله، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس)، رواه ابن حبان في صحيحه]. روي هذا الخبر عن عائشة مرفوعاً، وروي موقوفاً، ومعناه واضح وهو: أن العبد يجب أن يكون عبداً لله جل وعلا، فإذا كان عبداً لله حقيقة فلا يبالي بسخط الناس، وإنما يكون همه رضى الله، فإن وافق رضى الله مراد الناس وتصورهم فإنه يمضي به، وإن خالفه فلا يبالي بذلك، بل يتقرب إلى الله جل وعلا بأن يسخطهم لمرضاته، ويكون هذا من باب الجهاد في سبيل الله جل وعلا، فإنه لابد أن يجاهد نفسه ويجاهد المكروه الذي يكرهه، وسيكون بعد ذلك منصوراً، والذي أسخطه في رضى الله قد يعود عليه حامداً ومحباً، ولا يلزم أن يكون هذا النصر وعود من أسخطه محباً له لكل أحد، ولكن الغالب وجوده، إلا أن يكون هذا في الكفار والمنافقين فإن ذلك لا يقع منهم، وأما إذا كان ذلك مع المؤمنين الضعفاء أصحاب المعاصي، فتقرب صاحب الحق إلى الله جل وعلا بإسخاطهم، فإن الغالب أن الله يرضيهم عنه، وكذلك يكونون محبين له؛ جزاءً لصبره ومجاهدته. أما إن أتى العكس: فأرضى الناس بسخط الله، فإنه يعود عليه هذا الذي أرضاه بسخط الله: بالأذى وبالمقت وبالذم، وإن وافق أن أثنوا عليه أو نفعوه بشيء، فإنه لابد -إذا تقرب إلى الناس بسخط الله- أن ينقلب عليه ذلك ضداً، ويؤذى فيه. قال الشارح رحمه الله: [هذا الحديث رواه ابن حبان بهذا اللفظ، ورواه الترمذي عن رجل من أهل المدينة قال: (كتب معاوية رضي الله عنه إلى عائشة رضي الله عنها: أن اكتبي لي كتاباً توصيني فيه، ولا تكثري عليَّ، فكتبت عائشة رضي الله عنها إلى معاوية: سلام عليك، أما بعد: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من التمس رضى الله بسخط الناس كفاه الله مئونة الناس، ومن التمس رضى الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس، والسلام عليك)، ورواه أبو نعيم في الحلية. قوله: من التمس: أي: طلب. قال شيخ الإسلام: وكتبت عائشة إلى معاوية، وروي أنها رفعته: (من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله مئونة الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئاً)، هذا لفظ المرفوع، ولفظ الموقوف: (من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله عاد حامده من الناس له ذاماً)، وهذا من أعظم الفقه في الدين، فإن من أرضى الله بسخطهم كان قد اتقاه، وكان عبده الصالح، والله يتولى الصالحين، والله كافٍ عبده: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]، والله يكفيه مئونة الناس بلا ريب. وأما كون الناس كلهم يرضون عنه فقد لا يحصل ذلك، لكن يرضون عنه إذا سلموا من الأغراض، وإذا تبين لهم العاقبة، (ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئاً)، كالظالم الذي يعض على يديه، وأما كون حامده ينقلب ذاماً، فهذا يقع كثيراً، ويحصل في العاقبة، فإن العاقبة للتقوى لا تحصل لهم ابتداءً عند أهوائهم. اهـ. وقد أحسن من قال: إذا صح منك الود يا غاية المنى فكل الذي فوق التراب تراب قال ابن رجب رحمه الله: فمن تحقق أن كل مخلوق فوق التراب، فهو تراب فكيف يقدم طاعة من هو تراب على طاعة رب الأرباب؟! أم كيف يرضي التراب بسخط الملك الوهاب؟! إن هذا لشيء عجاب! وفي الحديث: عقوبة من خاف الناس وآثر رضاهم على الله، وأن العقوبة قد تكون في الدين، عياذاً بالله من ذلك، كما قال تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة:77].

مسائل متفرقة في الباب

مسائل متفرقة في الباب

تفسير آية آل عمران وآية براءة

تفسير آية آل عمران وآية براءة قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل: الأولى: تفسير آية آل عمران]. المقصود بآية آل عمران قوله جل وعلا: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]، وسبق سبب نزولها، وأنها متصلة في النزول بما بعدها: {إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ} [آل عمران:175]، وسبق أن المعنى: يخوفكم بأوليائه: بأن يعظمهم في صدروكم، ويبرز قوتهم، وأن عندهم قوة وجبروتاً وعندهم وعندهم، وكل هذا من تخويف الشيطان، والذي يجب أن يخاف منه هو الله وحده جل وعلا، فإذا خاف الإنسان ربه فإن كل المخلوقين لا يساوون شيئاً، فمادام أن الإنسان عبد لله، يخاف الله ويخشاه، فلا يرهب جانب المخلوق، ولكنه يتق الله ربه في المخلوق، فلا يحقره ولا يظلمه، بل يفعل ما أمره الله جل وعلا به؛ لأنه عبد لله. [المسألة الثانية: تفسير آية براءة]. آية براءة أيضاً: مر تفسيرها، وكذلك عرفنا معناها، والمقصود بها، وأنها تتفق مع آية آل عمران. [المسألة الثالثة: تفسير آية العنكبوت]. وكذلك آية العنكبوت تقدمت قريباً، وهي قوله جل وعلا: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10]، يعني: أنه يفر مما يناله من أذى الناس -في طاعة الله وفي إيمانه- فيوافقهم على المعصية؛ خوفاً من أذاهم، مستهيناً بعذاب الله جل وعلا، ومثل هذا كمن يفر من الرمضاء إلى النار، إلى نار جهنم، والناس لابد أن ينالهم الأذى في هذه الحياة؛ لأن هذه الحياة طبعت على الأكدار، ولا تصفو لأحد، إلا للمؤمن فقط، وصفوها: أنه يكون مطمئناً بربه، راضياً بما يقدر له، سائراً في طريقه إلى الحياة الأبدية، متصلاً بربه، إن مسه ضر دعاه، وإن نالته نعمة شكره وعبده وأناب إليه، فيكون في ذلك مرتاحاً مطمئناً سعيداً، أما من يظن أن لن يناله أذى في هذه الدنيا أبداً، فهذا مستحيل، وطن خاطئ.

اليقين يضعف ويقوي ولكل علامة

اليقين يضعف ويقوي ولكل علامة [المسألة الرابعة: أن اليقين يضعف ويقوى]. اليقين: سبق أنه الإيمان كله، وأنه كمال الإيمان، وقد يطلق اليقين على الإيمان، ومعلوم أن قوة اليقين: أن يكون الإنسان آخذاً بجميع أوامر الله جل وعلا، مجتنباً نواهيه حسب طاقته، فقد يضعف يقين الإنسان، مع وجود أصل الإيمان عنده، فيرضي الناس بسخط الله، فهذا من ضعف اليقين: أن يرضي الناس بسخط الله، ويرتكب مساخط الله لأجل موافقة الناس ورضاهم، فهذا سببه ضعف اليقين وضعف الإيمان. [المسألة الخامسة: علامة ضعفه ومن ذلك هذه الثلاث]. والثلاث التي يقصدها: كونه يوافق الناس على المعاصي؛ خوفاً من أذاهم، وكونه إذا حصل له على أيديهم نفع أرجعه إليهم، وكونه إذا لم يحصل له على أيديهم شيء عاد عليهم بالسب والشتم واللعن، فهذه كلها من علامات ضعف الإيمان، ونقص اليقين، وسبق أنه تدخل في هذا أشياء كثيرة، من كون الإنسان لا يرضى بأقدار الله، وتسخطه لها، وهذا الفعل قد يخرج الإنسان من الإيمان، نسأل الله العافية.

إخلاص الخوف لله من الفرائض

إخلاص الخوف لله من الفرائض [المسألة السادسة: أن إخلاص الخوف لله من الفرائض]. الخوف يجب أن يكون من الله جل وعلا، وهو فريضة، وهو عبادة من أعظم العبادات: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]، و (إن) هنا شرط، يعني: إن كنتم تحليتم بالإيمان فيجب عليكم أن تجعلوا الخوف من الله فقط، وليس من عدو من أعدائكم، فدل هذا على أن الخوف فريضة، فإذا كان فريضة فيجب إخلاصه لله، وإذا أشرك فيه الإنسان مع ربه أحداً من الخلق، فإنه يكون واقعاً في الشرك. قوله: [المسألة السابعة: ذكر ثواب من فعله]. يعني: من خاف من الله جل وعلا وكان خوفه لله، فإن الله جل وعلا يجزيه الجزاء الذي وعد به تعالى وتقدس. قوله: [المسألة الثامنة: ذكر عقاب من تركه].

شرح فتح المجيد [90]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [90] إن التوكل على الله من أعظم العبادات، وأجمع الطاعات، لما ينشأ عنه من الأعمال الصالحة، فإن العبد إذا اعتمد على الله في جميع أموره الدينية والدنيوية -دون كل من سواه- صح إخلاصه ومعاملته مع الله تعالى، ومع هذا فلابد للعبد مع التوكل من الإتيان بالأسباب؛ لأن تعطيل الأسباب قدح في العقل، وإعراض عن الشرع.

باب التوكل

باب التوكل قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب قوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23]]. {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ}: هذه الآية في سياق قصة موسى عليه السلام، لما أمر قومه أن يدخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله جل وعلا لهم، قال في خاتمة ذلك: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ}: يعني: هم جبابرة، ولهذا قالوا: {إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ} [المائدة:22]، {إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا} [المائدة:24]، ومعلوم أن عندهم من الإباء والتعنت والاستكبار والامتناع من طاعة رسولهم الشيء الذي ذكره الله جل وعلا عنهم، فلهذا قالوا في هذه الآية: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24]، وفي هذا تحدٍ وعناد وتكبر على الله وعلى رسوله موسى كليم الرحمن صلى الله عليه وسلم، ولهذا فقد لقي موسى منهم الأذى الكثير، ولكنه صبر، ولما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: وهو يقسم مالاً -حسبما أمره الله جل وعلا- بين كبار القبائل رؤساء القبائل يتألفهم به حتى يؤمنوا فتؤمن قبائلهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إني قاسم ولست بمعط المعطي هو الله)، يعني: أنه يفعل ما أمره الله، فكان يقسم ذهباً جاءه من اليمن فقسمه بين أربعة أنفار من رؤساء القبائل يتألفهم لعلهم يسلمون فتسلم قبائلهم، فجاء رجل وقال له: إن هذه القسمة لم يرد بها وجه الله! هل يقال للرسول صلى الله عليه وسلم مثل هذا الكلام؟! ولهذا تغير لون وجهه صلى الله عليه وسلم ثم رجع وقال: (رحم الله موسى لقد أوذي أكثر مما أوذيت فصبر)، فصبر صلوات الله وسلامه عليه تأسياً بموسى، فموسى عليه السلام يأمر قومه لما نجاهم الله جل وعلا من فرعون وأراهم الآيات الباهرة: من فلق البحر لهم حتى صاروا يمشون فيه في طرق يابسة لا يخافون فيها غرقاً ولا زلقاً، والبحر واقف عن يمينهم وعن شمالهم كهيئة الجبال، وهم يسيرون في وسط البحر في طريق يابس، ثم لما تكاملوا خارجين من البحر، ودخل فرعون وقومه وتكاملوا في الدخول أمر الله جل وعلا عبده ورسوله موسى أن يضرب البحر مرة أخرى بعصاه، فالتأم البحر عليهم وأهلكم وبنو إسرائيل ينظرون، وكونه يهلك عدوهم هلاكاً جماعياً بحيث لم يبق منهم أحداً، فهذه نعمة كبيرة يجب عليهم أن يشكروها، ويقابلوها بالعبادة الخالصة لله جل وعلا، وقد قالوا قبل ذلك لما صار البحر أمامهم وفرعون خلفهم: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61]، أين المفر؟ البحر من الأمام وفرعون من الخلف! يخاطبون موسى: (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ): يعني: فرعون أدركنا، فقال موسى عليه السلام: {كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62]، الذي أمره بهذا المسير وبهذا الطريق الله، وإذا كان أمره الله فلن يدرك، فلهذا أمره الله جل وعلا أن يضرب البحر بعصاه، فضربه فصار طريقاً يابساً، فلما عبروا منه أطبقه الله على فرعون وجنوده وأغرقهم أجمعين. وبعد ذلك وعدهم الله جل وعلا الأرض المقدسة وكان فيها جبابرة يقال: إنهم من العرب، فأمرهم موسى أن يقاتلوهم ويأخذوا بلدهم، فخافوهم وقالوا: إنهم جبارين، كبار الأجسام والقوى لا نستطيع أن نقاتلهم، قال لهم: {ادْخُلُوا عَلَيْهِمْ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} [المائدة:23]، فأبوا. والمقصود: أنه ذكر في آخر القصة قوله: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23]، ومعلوم أن هذا الخطاب نزل على خاتم الرسل محمد صلوات الله وسلامه عليه، وإن كان المذكور قصة بني إسرائيل مع نبيهم فنحن المقصودون، أما أولئك فقد أبوا أن يؤمنوا وأبوا أن يقبلوا خطاب الله -أعني: بقاياهم- وأما الذين كان فيهم موسى وكانت فيهم هذه القصة فقد هلكوا وذهبوا، فالمؤمن أكرمه الله جل وعلا، والكافر أهانه الله جل وعلا، ومعلوم أن بني إسرائيل فيهم المؤمنون وفيهم الأتقياء، وفيهم من هداه الله، وقد قال جل وعلا: {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الجاثية:16]، ولكن المقصود بالعالمين: عالم وقتهم وليس هذا عاماً لمن يأتي بعدهم، فإن هذه الأمة أفضل منهم، والأسوة في اتباع الأنبياء؛ لأن دينهم واحد وكلهم جاءوا بالأمر بطاعة الله جل وعلا، ولهذا قال الله: جل وعلا عند قصة كل نبي أن ذلك النبي قال لهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] فالدعوة واحدة والدين واحد. والتوكل: هو اعتماد القلب على من بيده أزمة الأمور مع فعل الأسباب، وليس التوكل: تعطيل الأسباب فإن هذا عجز ولا يكون توكلاً. فقوله: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا} [المائدة:23]، يعني: قاتلوا واعتمدوا على ربكم في نصركم، {إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23]، إن: هذه شرطية، يعني: إن كان الإيمان عندكم فافعلوا التوكل، أما إذا لم يحصل التوكل، فهو دليل على انتفاء الإيمان؛ لأن انتفاء شرط مركب على شيء مشروط إذا لم يوجد فمعنى ذلك: أنه لم يوجد، وبهذا يستدل على أن التوكل فريضة على كل عبد. والتوكل قد ذكره الله جل وعلا في كتابه في آيات كثيرة، وقرنه مع العبادات بأنواعها، فقرنه بالعبادة وقرنه بالتقوى، وقرنه بالإيمان، وجميع صفات المؤمنين قرنت به، وجعل شرطاً في حصول الإيمان فدل هذا على أنه لازم، وأنه لا يجوز أن يكون لغير الله، ويجب أن يكون خالصاً لله جل وعلا، فمن صرفه لغير الله وتوكل على غير الله فإنه يكون مشركاً.

أنواع التوكل على غير الله

أنواع التوكل على غير الله والتوكل على غير الله نوعان: أحدهما: أن يتوكل على ميت أو غائب من ولي أو نبي، فيتوكل عليه؛ ليحصل على مطلوبه سواء كان مطلوبه في الدنيا أو في الآخرة، سواء كان مرغوباً أو مرهوباً منه، يعني: حصول نفع في بدنه: من صحة، أو في أهله أو في ماله أو نصر على عدو والنكاية فيه أو كان شيئاً يطلب يوم القيامة: من شفاعة أو غيرها، فمن توكل على ميت بهذا المعنى فهو مشرك شركاً أكبر، وهذا يوجد بكثرة في بعض من يدعون الإسلام فتراهم يتوكلون على الأموات ويطلبون منهم الطلبات التي لا يجوز أن تطلب إلا من رب الأرباب جل وعلا. النوع الثاني من التوكل على المخلوق: أن يتكل الإنسان على سلطان أو أمير، أو ما أشبه ذلك في حصول مطلوب له، ويكون باستطاعة ذلك الشخص تنفيذه، ولكنه يعتمد عليه، أو يعتمد عليه في دفع الأذى أو ما أشبه ذلك، وهذا نوع من الشرك، والواجب أن يكون التوكل على الله وحده مع فعل السبب. أما التوكيل وهو: كون الإنسان يوكل إنساناً في فعل أمر من أمور دنياه فهذا جائز؛ لأنه أنابه في شيء يستطيع القيام به، ولكن لا يعتمد على هذا الوكيل في أنه يحصل له كذا وكذا، ولكنه يفوض إليه الأمر ويقول: افعل كذا وكذا ويعتمد على ربه جل وعلا في حصول النتائج.

وجوب التوكل على الله مع الأخذ بالأسباب

وجوب التوكل على الله مع الأخذ بالأسباب إن اعتماد القلب لا يجوز أن يكون على المخلوق، ويجب أن يكون على الله وحده، سواء كان الذي يرجى حصوله أمراً عادياً أو كان أمراً عظيماً، فيجب أن يكون اعتماد القلب على الله وحده. فإذا اعتمد قلب العبد على ربه جل وعلا فقد توكل عليه، وعليه أن يفعل السبب كما في هذه الآية، فإن الله أمرهم بالدخول على الجبابرة، والدخول معناه: الاستعداد بأخذ القوة والعدة والتأهب، وهذا هو فعل السبب، ثم يتوكلون في هزيمتهم وحصول النصر لهم على الله، لا على أسبابهم وقوتهم، وهكذا فجميع ما يفعله العبد يجب أن يكون بهذه الصفة، وإذا كان على هذه الصفة يكون موحداً لله جل وعلا، ويكون فاعلاً ما أمره الله جل وعلا به، وهذا من واجبات التوحيد وهو تفسير عملي لـ (لا إله إلا الله). أما كون الإنسان يعطل السبب فهذا ليس من الدين، بل هذا قدح في عقل الإنسان، وإعراض عن الشرع، فبعض الناس يقول: أجلس في بيتي وأتوكل على الله، وإذا قدر لي شيء فسيأتي! وهذا من العجز، وكذلك الذي يقول: أنا أريد أن أكون عالماً، وإذا كان ذلك مقدراً فسيأتي فأتوكل على الله وسيأتي، وهذا يعد غير عاقل؛ لأنه إذا كان يريد أن يكون عالماً فعليه أن يتعلم ويأخذ بالأسباب، وهذا مثل الذي يقول: أنا لا أتزوج، إن كان الله جل وعلا قد قدر لي ولداً فسيأتي! لا يأتي شيء إلا بسبب، فالله جل وعلا جعل لكل شيء سبباً، ولكن يجب عليك أن تفعل السبب المشروع وتتقي ربك في ذلك، ثم تعتمد على الله في حصول النتائج لا على السبب، وإن جئت به على أتم وجه؛ لأنه قد يتخلف المسبب ولا يحدث، وذلك إذا أراد الله جل وعلا؛ لأنه لا يقع شيء إلا بإرادة الله وبمشيئته جل وعلا، ولهذا وجب التوكل عليه جل وعلا في حصول النتائج؛ لأنه لو شاء عطل السبب وصار غير مفيد، وغير مجد، ومن توكل على الله فهو كافيه. قال الشارح رحمه الله تعالى: [قال أبو السعادات يقال: توكل بالأمر: إذا ضمن القيام به، ووكلت أمري إلى فلان: إذا اعتمدت عليه، ووكل فلان فلاناً: إذا استكفاه أمره ثقةً بكفايته أو عجزاً عن القيام بأمر نفسه. انتهى]. أبو السعادات هو ابن الأثير صاحب جامع الأصول، والنهاية في غريب الحديث، وغيرهما من كتبه المعروفة. والتوكيل الذي ذكره الشارح عن أبي السعادات هو التوكيل من حديث اللغة. أما تعريف التوكل: فهو اعتماد القلب على الله جل وعلا في حصول المطلوب.

تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر

تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر قال الشارح رحمه الله: [وأراد المصنف رحمه الله بهذه الترجمة بالآية: بيان أن التوكل فريضة يجب إخلاصه لله تعالى فإن تقديم المعمول يفيد الحصر، أي: وعلى الله فتوكلوا لا على غيره، فهو من أجمع أنواع العبادة وأعظمها]. قوله: (تقديم المعمول يفيد الحصر)، أي: المعمول الذي عمل به عامل، والمعمول: هو الفضلة الذي يكون معمولاً لفعل، يعني: مفعول، فتقديم المفعول على الفاعل يفيد الحصر؛ لأن حق المفعول أن يتأخر وأن يكون الفاعل متقدماً على وضع اللغة، وإذا قدم ما حقه التأخير فلابد أن يكون لأمر مقصود، والأمر المقصود هو الحصر، فيكون التوكل على الله هذا معناه فقط، وهو مثل قوله جل وعلا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5]، لو كان في غير القرآن لجاز أن تقول: نعبدك يا الله! على وضع اللغة، فإذا قدم ما حقه التأخير أفاد الحصر يعني: حصر العبادة على الله فقط ولا يجوز أن تكون لغيره، وهكذا في هذه الآية: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا} [المائدة:23]، العامل هو توكلوا، والوضع اللغوي الطبيعي هو: توكلوا على الله، فلما قدم الجار والمجرور الذي هو معمول للفعل دل على الحصر وأنه يجب أن يحصر التوكل على الله وحده. ومعنى ذلك: أنه لا يجوز أن يتوكل على مخلوق مهما كان، سواء كان نبياً أو كان ولياً أو ملكاً أو غير ذلك، ويجب أن يكون التوكل على الله وحده فقط، وهذا من الأدلة على وجوبه، وأنه عبادة خاصة بالله جل وعلا لا يجوز جعل شيء منه لمخلوق، فإن جعل شيئاً من التوكل لمخلوق فإن ذلك من الشرك الأكبر الذي إذا مات عليه الإنسان -نسأل الله العافية- يكون من أهل النار خالداً فيها.

التوكل من أعظم منازل إياك نعبد وإياك نستعين

التوكل من أعظم منازل إياك نعبد وإياك نستعين قال الشارح رحمه الله: [فهو من أجمع أنواع العبادة وأعظمها؛ لما ينشأ عنه من الأعمال الصالحة، فإنه إذا اعتمد على الله في جميع أموره الدينية والدنيوية دون كل من سواه صح إخلاصه ومعاملته مع الله تعالى، فهو من أعظم منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]]. منازل (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] المقصود بها: العبادات المفروضة التي دل عليها قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]؛ لأن العبادة أنواع متعددة، وكل نوع يكون أصلاً في هذا فهو منزلة من المنازل، وهذا اصطلاح. والتوكل من أعظم المنازل، يعني: أنه عبادة عظيمة يجب أن تخلص لله جل وعلا، ويدل على هذا: الحديث الذي تقدم في أول الكتاب حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب فإنه جعل وصفهم الجامع: (وعلى الله يتوكلون) ولما سئل عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (هم الذين لا يتطيرون ولا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون)، فقوله: (وعلى ربهم يتوكلون)، هو وصف جامع للخصال المتقدمة، وهو سبب دخولهم الجنة، يعني: أنهم جاءوا بالتوكل كاملاً وتاماً فبسبب ذلك سبقوا إلى الجنة.

حصول كمال التوحيد مرتبط بكمال التوكل

حصول كمال التوحيد مرتبط بكمال التوكل قال الشارح رحمه الله: [فلا يحصل كمال التوحيد بأنواعه الثلاثة إلا بكمال التوكل على الله كما في هذه الآية، وكما قال تعالى: {وقال موسى يا قوم إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس:84]]. أنواع التوحيد الثلاثة مترابطة، وكل واحد منها لا يجزء عن الآخر، ولو جاء الإنسان باثنين ولم يأت بالثالث لا يكون مسلماً إلا بعد أن يأتي بها كلها، وهي: الأول: أن يعبد الله جل وعلا وحده- بحقه الذي أوجبه على العباد، وهذا يسمى: توحيد العبادة أو توحيد الإلهية. الثاني: أن يعتقد أنه واحد في خلقه وتصرفاته وأفعاله ولم يشاركه في ذلك أحد، وهذا يتعلق بأفعال الرب جل وعلا، ويسمى بتوحيد الربوبية. الثالث: أن يوحده في أوصافه وأساميه، والاسم الذي وصف به نفسه يجعله خاصاً له، فلا يصف مخلوقاً بشيء من هذه الصفات ولا يسم مخلوقاً بشيء من هذه الأسماء، بل هذه خاصة لله فيكون موحداً، وهذا الأمر دلت عليه كل آية في التوحيد.

سبب تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام

سبب تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام وأما التقسيم بهذه الصورة فليس فيه آية أو حديث، ولم يكن العرب إذ ذاك يحتاجون له، وإنما احتجنا إلى هذا التقسيم في زماننا لما كنا نجهل كلام العرب وفسدت ألسنتنا واختلط كلامنا بكلام العجم، وصرنا نحتاج إلى أن نتعلم اللغة كما نتعلم الشيء الغريب، مع أننا عرب في الأصل، ولكن عربيتنا فسدت؛ لأن الألسن تداخلت وضاعت القواعد التي كان عليها العرب، وإلا فإن العرب لم يكونوا يحتاجون تعلم اللغة، بل لو حاول واحد منهم أن ينطق باللحن ما استطاع. وقد ذكر: أن معلماً للصبيان في القرون الأولى -الصبيان كانوا عرباً والمعلم غير عربي- كان يلقنهم القرآن! فصار يلقن واحداً منهم ويقول له: قل: تبت يدا، فيقول الصبي: تبت يدان، فيضربه ويقول: قل تبت يدا، فما يستطيع أن يقول: تبت يدا، بل يأتي بالمثنى: تبت يدان، فرآه رجل عربي وقال: هذا عربي، انطق بالمضاف إليه حتى يستطيع أن يتكلم به، أما بهذا الشكل فما يستطيع، فقال له: قل تبت يدا أبي لهب وتب، فنطق بها كما قال؛ لأن هذه سليقته. وسمع عربي مؤذناً يقول: أشهد أن محمداً رسولَ الله فصار يقول: ما له؟ لأنه ما جاء بالخبر؛ حيث نصب الخبر فصار اسم أن: (محمداً رسولَ)، فيكون (رسولَ) منصوباً على أنه بدل من (محمداً) والخبر لم يذكر، ولذلك لابد أن يقول: أشهد أن محمداً رسولُ الله برفع (رسول) حتى تتم الجملة ويصير الكلام عربياً، أما إذا نصبه كما هي عادة كثير من المؤذنين فإن هذا لا يكون مفيداً ولا يكون كلاماً عربياً. المقصود: أن هذا التقسيم احتيج إليه لما جهل الناس كثيراً من معاني كلام الله ومعاني كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو تقسيم سبري، يعني: سُبر القرآن وتُتبع فأُخذ ذلك التقسيم من آيات متعددة. قال الشارح رحمه الله: [وقوله:: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} [المزمل:9]، والآيات في الأمر به كثيرة جداً. قال الإمام أحمد رحمه الله: التوكل عمل القلب. وقال ابن القيم رحمه الله في معنى الآية المترجم بها: فجعل التوكل على الله شرطاً في الإيمان فدل على انتفاء الإيمان عند انتفائه، وفي الآية الأخرى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس:84]، فجعل دليل صحة الإسلام التوكل. ولا فرق بين هذه الآية والتي قبلها (إن كنتم مسلمين) و (إن كنتم مؤمنين)؛ لأن الإسلام إذا ذكر وحده مفرداً دخل فيه الإيمان، وإذا ذكر الإيمان وحده مفرداً دخل فيه الإسلام، أما إذا جاء الإسلام والإيمان معاً فالإسلام يفسر بالأعمال الظاهرة والإيمان يفسر بالأعمال الباطنة، والتي هي أعمال القلب.

التوكل أصل جميع مقامات الإيمان والإحسان وأعمال الإسلام

التوكل أصل جميع مقامات الإيمان والإحسان وأعمال الإسلام قال رحمه الله تعالى: [فجعل دليل صحة الإسلام التوكل، وكلما قوي إيمان العبد كان توكله أقوى، وإذا ضعف الإيمان ضعف التوكل، وإذا كان التوكل ضعيفاً كان دليلاً على ضعف الإيمان ولابد، والله تعالى يجمع بين التوكل والعبادة، وبين التوكل والإيمان، وبين التوكل والتقوى، وبين التوكل والإسلام، وبين التوكل والهداية. فظهر أن التوكل أصل لجميع مقامات الإيمان والإحسان، ولجميع أعمال الإسلام وأن منزلته منها كمنزلة الرأس من الجسد، فكما لا يقوم الرأس إلا على البدن فكذلك لا يقوم الإيمان ومقاماته وأعماله إلا على ساق التوكل]. يعني: أن التوكل هو البدن والرأس هو الإيمان، فمعلوم أن الرأس يعتمد على البدن فكذلك الإيمان يعتمد على التوكل، فإذا بطل التوكل بطل الإيمان؛ لأنه لا يوجد رأس بلا بدن. [قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [وما رجا أحد مخلوقاً ولا توكل عليه إلا خاب ظنه فيه؛ فإنه مشرك: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31]]. قال الشارح رحمه الله تعالى: [قلت: لكن التوكل على غير الله قسمان: أحدهما: التوكل في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله. كالذين يتوكلون على الأموات والطواغيت في رجاء مطالبهم: من نصر أو حفظ أو رزق أو شفاعة، فهذا شرك أكبر. الثاني: التوكل في الأسباب الظاهرة، كمن يتوكل على أمير أو سلطان فيما أقدره الله تعالى عليه من رزق أو دفع أذىً ونحو ذلك، فهذا نوع من الشرك الأصغر. والوكالة الجائزة: هي توكيل الإنسان في فعل ما يقدر عليه نيابةً عنه، لكن ليس له أن يعتمد عليه في حصول ما وكل فيه، بل يتوكل على الله في تيسير أمره الذي يطلبه بنفسه أو نائبه وذلك من جملة الأسباب التي يجوز فعلها ولا يعتمد عليها، بل يعتمد على المسبب الذي أوجد السبب والمسبَّب].

التوكل على الله من صفات المؤمنين

التوكل على الله من صفات المؤمنين قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2]]. ذكر الله جل وعلا في هذه الآية: خمس صفات للمؤمنين وحصرهم بـ (إنما) التي تفيد الحصر. ومعنى ذلك: أنهم إذا خرجوا عن هذه الصفات فليسوا بمؤمنين، لقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} وإنما: تفيد الحصر في المذكور وتنفيه عما عدا ذلك. {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} والوجل: هو خوف القلب، فيخاف ويتحرك إذا ذكر بالله عند أمر من الأمور إن كان منهياً عنه وخاف من الله وتوقف، وإن كان مأموراً به فعله. الصفة الثانية: أنهم إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً، وزيادة الإيمان تكون بزيادة العمل، يعني: إذا جاءتهم الآيات تذكرهم بالعمل وتأمرهم به اجتهدوا فيه وعملوا فيزدادون بذلك إيماناً؛ لأن المؤمنين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً. الصفة الثالثة: على ربهم يتوكلون، كما في قوله: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}، وسبق في الآية أنه قدم المعلول فيها لإفادة الحصر، يعني: أن يكون توكلهم على الله وحده فقط. الصفة الرابعة: إقامة الصلاة، كما في قوله: {يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [الأنفال:3]، وإقامتها بأن يأتي بها الإنسان على الوجه المشروع، وليس إقامتها بمجرد الإتيان بالركوع والسجود؛ لأن الإنسان قد يركع ويسجد ويقوم ويقرأ وقلبه غافل ساهٍ فلا يكون مقيماً لها، ولكنه يعد مصلياً ويسقط عنه الفرض، ولكن قد تكتب له نصف صلاة أو ربعها أو عشرها أو أقل أو أكثر حسب عقله، فيكون الذي كتب له هو الشيء الذي أقامه، أما الباقي فهو عليه لا له، ولكنه لا يؤمر بأن يعيد الفرض، وإن كان لا يدري ماذا قال في الصلاة ولا يدري ماذا قال الإمام ولا يدري هل هو بين يدي الله أو أنه مع الناس، فإقامة الصلاة: أن يأتي بها مجتهداً بأن يكون خاشعاً مؤدياً لشروطها وأركانها وواجباتها حسب استطاعته، ومجاهداً لنفسه والشيطان. الصفة الخامسة: أداء الزكاة كما في قوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الأنفال:3]، وهذا يكون بأداء الزكاة الواجبة التي تجب على الإنسان في ماله، فيجب أن يؤديها راضياً بذلك مغتبطاً به، راجياً ثواب الله وخائفاً من عقابه فيما لو أخل بها. هذه الصفات الخمس التي ذكرت في هذه الآيات، وحصر المؤمنين فيمن تحلى بهذه الصفات الخمس يدل على أن من ترك شيئاً من هذه الصفات الخمس أنه خارج عن ذلك، ومن أعظمها التوكل: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2]، وهذا هو الشاهد من الآيات. قال الشارح رحمه الله: [قال ابن عباس في الآية: (المنافقون لا يدخل في قلبوهم شيء من ذكر الله عند أداء فرائضه ولا يؤمنون بشيء من آيات الله ولا يتوكلون على الله ولا يصلون إذا غابوا، ولا يؤدون زكاة أموالهم، فأخبر الله أنهم ليسوا بمؤمنين ثم وصف المؤمنين فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2]، فأدوا فرائضه) رواه ابن جرير وابن أبي حاتم. ووجل القلب من الله يستلزم القيام بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه. قال السدي: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}: (هو الرجل يريد أن يظلم أو قال: يهم بمعصية، فيقال له: اتق الله، فيجل قلبه) رواه ابن أبي شيبة وابن جرير].

إجماع أهل السنة على أن الإيمان يزيد وينقص

إجماع أهل السنة على أن الإيمان يزيد وينقص قال الشارح رحمه الله: [قوله: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً} [الأنفال:2]: استدل الصحابة والتابعون ومن تبعهم من أهل السنة بهذه الآية ونظائرها على زيادة الإيمان ونقصانه. قال عمير بن حبيب الصحابي: إن الإيمان يزيد وينقص، فقيل له: وما زيادته ونقصانه؟ قال: إذا ذكرنا الله وخشيناه فذلك زيادته، وإذا غفلنا ونسينا وضيعنا فذلك نقصانه. رواه ابن سعد]. يعني: أن الإيمان يزيد بالعمل، ولهذا قال أهل السنة في تعريف الإيمان: هو قول واعتقاد وعمل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فجعلوا الزيادة والنقص من تمام التعريف؛ لأن أهل البدع، -مثل المعتزلة والخوارج- وإن وافقوا أهل السنة أول التعريف، إلا أنهم خالفوهم فيما يتعلق بالزيادة والنقصان، فالإيمان عند الخوارج والمعتزلة هو فعل الطاعات وعقيدة القلب -يعني: تصديقه- وكذلك عمل الأركان: القول والعمل، فلو كان يأتي بجميع الواجبات مصدقاً عاملاً بها ثم ترك واجباً فإنه يكون خارجاً من الإيمان عند الخوارج وعند المعتزلة، إلا أنه عند الخوارج يصير كافراً وعند المعتزلة يبقى في منزلة بين الكفر والإيمان، فلا يكون كافراً ولا مؤمناً، وإنما يكون قد خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر! وهذه من بدعهم التي انفردوا بها، ولم يقل بها أحد غيرهم. ثم إنهم وافقوا الخوارج في حكم الآخرة وقالوا: إذا مات على ذلك صار في النار، أما أهل السنة فزادوا في تعريفهم للإيمان: قول واعتقاد وعمل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فقولهم: يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، من تمام التعريف وهو لمخالفة المبتدعة، أما غيرهم من أهل البدع فيجعلونه: قولاً، وبعضهم يجعله تصديقاً، وجعله قولاً هذا من أغرب ما يكون؛ لأنه يلزم منه أن الإنسان إذا قال بلسانه فهو مؤمن وإن كان كافراً بقلبه. وعلى كل حال فكل من خالف ما جاء في كتاب الله وما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلابد أن يقع في الأخطاء الفضيعة الواضحة. قال الشارح رحمه الله: [وقال مجاهد: الإيمان يزيد وينقص وهو قول وعمل. رواه ابن أبي حاتم]. يدخل في القول: قول اللسان وقول القلب مثل الخوف والخشية والوجل والإنابة والمحبة والرضا هذا كله من قول القلب؛ لأن القول ينقسم إلى قسمين عند أهل السنة: قول يكون باللسان، وقول يكون بالقلب وهو: عقيدته وعمله. قال الشارح رحمه الله: [وحكى الإجماع على ذلك الشافعي وأحمد وأبو عبيد وغيرهم رحمهم الله تعالى. وقوله: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2]، أي: يعتمدون عليه بقلوبهم، مفوضين إليه أمورهم فلا يرجون سواه، ولا يقصدون إلا إياه ولا يرغبون إلا إليه، ويعلمون أن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه المتصرف في الملك وحده والمعبود وحده لا شريك له. وفي الآية وصف المؤمنين حقاً بثلاثة مقامات من مقامات الإحسان وهي: الخوف، وزيادة الإيمان، والتوكل على الله وحده]. بل خمس مقامات؛ لأن تمام الآية: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الأنفال:3]، فهي خمس مقامات واضحة. قال الشارح رحمه الله: وهذه المقامات تقتضي كمال الإيمان وحصول أعماله الباطنة والظاهرة، مثال ذلك: الصلاة، فمن أقام الصلاة وحافظ عليها وأدى الزكاة كما أمره الله استلزم ذلك العمل بما يقدر عليه من الواجبات، وترك جميع المحرمات كما قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45]].

معنى قوله تعالى: (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين)

معنى قوله تعالى: (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين) قال المصنف رحمه الله: [وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64]]. قال الشارح رحمه الله: [قال ابن القيم رحمه الله: أي: الله وحده كافيك وكافي أتباعك فلا تحتاجون معه إلى أحد وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وقيل المعنى: حسبك الله وحسبك المؤمنون. قال ابن القيم رحمه الله: وهذا خطأ محض لا يجوز حمل الآية عليه. فإن الحسب والكفاية لله وحده كالتوكل والتقوى والعبادة، قال الله تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:62]، ففرق بين الحسب والتأييد، فجعل الحسب له وحده، وجعل التأييد له بنصره وبعباده، وأثنى على أهل التوحيد من عباده حيث أفردوه بالحسب، فقال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]، ولم يقولوا: حسبنا الله ورسوله، ونظير هذا قوله سبحانه: {وقالوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة:59]، فتأمل كيف جعل الإيتاء لله والرسول وجعل الحسب له وحده، فلم يقل: وقالوا حسبنا الله ورسوله، بل جعله خالص حقه، كما قال: {إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ}، فجعل الرغبة إليه وحده، كما قال: {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:8]، فالرغبة والتوكل والإنابة والحسب لله وحده، كما أن العبادة والتقوى والسجود والنذر والحلف لا يكون إلا له سبحانه وتعالى. انتهى. وبهذا يتبين مطابقة الآية للترجمة، فإذا كان هو الكافي لعبده وجب ألا يتوكل إلا عليه، ومتى التفت إلى سواه وكله الله إلى من التفت إليه كما في الحديث: (من تعلق شيئاً وكل إليه). قال المصنف رحمه الله: [وقوله: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3]]. قال الشارح رحمه الله: [قال ابن القيم: أي: كافيه. ومن كان الله كافيه وواقيه فلا مطمع فيه لعدو، ولا يضره إلا أذىً لابد منه كالحر والبرد والجوع والعطش، وأما أن يضره بما يبلغ به مراده فلا يكون أبداً. وفرق بين الأذى الذي هو في الظاهر إيذاء، وفي الحقيقة إحسان وإضرار بنفسه وبين الضرر الذي يتشفى به منه. قال بعض السلف: جعل الله لكل عمل جزاء من نفسه، وجعل جزاء التوكل عليه نفس كفايته، فقال: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3]، ولم يقل: فله كذا وكذا من الأجر، كما قال في الأعمال، بل جعل نفسه سبحانه كافي عبده المتوكل عليه وحسبه وواقيه، فلو توكل العبد على الله حق توكله وكادته السماوات والأرض ومن فيهن، لجعل الله له مخرجاً وكفاه رزقه ونصره. انتهى. وفي أثر رواه أحمد في الزهد عن وهب بن منبه قال: قال الله عز وجل في بعض كتبه: (بعزتي إنه من اعتصم بي فكادته السماوات بمن فيهن والأرضون بمن فيهن فإني أجعل له من ذلك مخرجاً، ومن لم يعتصم بي فإني أقطع يديه من أسباب السماء، وأخسف من تحت قدميه الأرض فأجعله في الهواء، ثم أكله إلى نفسه، كفى بي بعبدي مآلاً، إذا كان عبدي في طاعتي أعطيه قبل أن يسألني، وأستجيب له قبل أن يدعوني، فأنا أعلم بحاجته التي ترفق به منه)].

ما جاء في الآية من بيان فضل التوكل والتنبيه على الأخذ بالأسباب

ما جاء في الآية من بيان فضل التوكل والتنبيه على الأخذ بالأسباب قال الشارح رحمه الله: [وفي الآية: دليل على فضل التوكل، وأنه أعظم الأسباب في جلب المنافع ودفع المضار؛ لأن الله تعالى علق الجملة الأخيرة على الأولى تعليق الجزاء على الشرط فيمتنع أن يكون وجود الشرط كعدمه؛ لأن الله تعالى رتب الحكم على الوصف المناسب له، فعلم أن توكله هو سبب كون الله حسباً له. وفيها: تنبيه على القيام بالأسباب مع التوكل؛ لأنه تعالى ذكر التقوى ثم ذكر التوكل كما قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ} [المائدة:11]، فجعل التوكل مع التقوى الذي هو قيام بالأسباب المأمور بها، فالتوكل بدون القيام بالأسباب المأمور بها عجز محض، وإن كان مشوباً بنوع من التوكل، فلا ينبغي للعبد أن يجعل توكله عجزاً ولا عجزه توكلاً، بل يجعل توكله من جملة الأسباب التي لا يتم المقصود إلا بها كلها. ذكره ابن القيم بمعناه].

نموذج من توكل الخليلين عليهما السلام

نموذج من توكل الخليلين عليهما السلام قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا له: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]. رواه البخاري]. قال الشارح رحمه الله: [قوله: حسبنا الله: أي كافينا، فلا نتوكل إلا عليه، قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر:36]. قوله: ونعم الوكيل: أي نعم الموكول إليه، كما قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج:78]، ومخصوص (نِعمَ) محذوف تقديره (هو). قال ابن القيم رحمه الله: هو حسب من توكل عليه وكافي من لجأ إليه، وهو الذي يؤمِّن خوف الخائف ويجير المستجير، فمن تولاه واستنصر به وتوكل عليه وانقطع بكليته إليه؛ تولاه وحفظه وحرسه وصانه، ومن خافه واتقاه؛ أمَّنه مما يخاف ويحذر، ويجلب إليه ما يحتاج إليه من المنافع. قوله: قالها إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار قال تعالى: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمْ الأَخْسَرِينَ} [الأنبياء:68 - 70]. قوله: وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا له: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]، وذلك بعد منصرف قريش والأحزاب من أحد، بلغه أن أبا سفيان ومن معه قد أجمعوا الكرة عليهم فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في سبعين راكباً حتى انتهى إلى حمراء الأسد فألقى الله الرعب في قلب أبي سفيان فرجع إلى مكة بمن معه، ومر به ركب من عبد القيس فقال: أين تريدون؟ قالوا: نريد المدينة، قال: فهل أنتم مبلغون محمداً عني رسالة؟ قالوا: نعم، قال: فإذا وافيتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم، فمر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد فأخبروه بالذي قال أبو سفيان فقال: (حسبنا الله ونعم الوكيل). ففي هاتين القصتين فضل هذه الكلمة العظيمة، وأنها قول الخليلين عليهما في الشدائد. وجاء في الحديث: (إذا وقعتم في الأمر العظيم، فقولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل)].

مسائل في باب قوله تعالى: (وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين)

مسائل في باب قوله تعالى: (وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين) قال المصنف رحمه الله: [فيه مسائل: الأولى: أن التوكل من الفرائض. الثانية: أنه من شروط الإيمان. الثالثة: تفسير آية الأنفال. الرابعة: تفسير الآية في آخرها. الخامسة: تفسير آية الطلاق. السادسة: عظم شأن هذه الكلمة وأنها قول إبراهيم عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم في الشدائد].

شرح فتح المجيد [91]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [91] الأمن من مكر الله من كبائر الذنوب، لأنه يجعل الإنسان يتمادى في غيه وضلاله ومعاصيه، وكذلك اليأس من روح الله من كبائر الذنوب أيضاً؛ لأنه يجعل الإنسان يترك التوبة والرجوع إلى الله تعالى، والواجب على الإنسان أن يكون بين الخوف والرجاء، فيخاف من ذنوبه ويتوب إلى الله تعالى منها، ويرجو ثواب الله تعالى ولا يقنط من رحمته سبحانه، فيجعل الخوف والرجاء عنده كالجناحين للطائر، حتى يبلغه ذلك رضوان الله تعالى وجنته.

باب قول الله تعالى: (أفأمنوا مكر الله فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون

باب قول الله تعالى: (أفأمنوا مكر الله فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون قال المصنف رحمه الله: [باب قول الله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99]. قصد المصنف رحمه الله بهذه الآية التنبيه على أن الأمن من مكر الله من أعظم الذنوب، وأنه ينافي كمال التوحيد، كما أن القنوط من رحمة الله كذلك؛ وذلك يرشد إلى أن المؤمن يسير إلى الله بين الخوف والرجاء كما دل على ذلك الكتاب والسنة وأرشد إليه السلف والأئمة. ومعنى الآية: أن الله تبارك وتعالى لما ذكر حال أهل القرى المكذبين للرسل، بين أن الذي حملهم على ذلك هو الأمن من مكر الله وعدم الخوف منه، كما قال تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:97 - 99]، أي: الهالكون؛ وذلك أنهم أمنوا مكر الله لما استدرجهم بالسراء والنعم، فاستبعدوا أن يكون ذلك مكراً. قال الحسن رحمه الله: (من وسع الله عليه فلم ير أنه يمكر به فلا رأي له). وقال قتادة: (بغت القوم أمر الله، وما أخذ الله قوماً قط إلا عند سلوتهم ونعمتهم وغرتهم، فلا تغتروا بالله). وفي الحديث: (إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج)، رواه أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم. وقال إسماعيل بن رافع: من الأمن من مكر الله: إقامة العبد على الذنب يتمنى على الله المغفرة. رواه ابن أبي حاتم، وهذا هو تفسير المكر في قول بعض السلف: (يستدرجهم الله بالنعم إذا عصوه ويملي لهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، وهذا هو معنى المكر والخديعة ونحو ذلك. ذكره ابن جرير بمعناه].

الأمن من مكر الله من كبائر الذنوب

الأمن من مكر الله من كبائر الذنوب من المعلوم أنه لا يراقب الله جل وعلا ولا يخاف منه إلا المؤمن، الذي يؤمن بأن كل شيء بيد الله، وأنه خلق العباد لعبادته، وأنه هو الذي يأمر وينهى، وهو الذي يجب أن يطاع أمره ويجتنب نهيه، وهو الذي خلق العباد للجزاء أو العقاب، وإذا لم يكن عند الإنسان تصور لما تقدم، وليس عنده تصور لوقوفه بين يدي الله فيجازى بعمله الذي عمله؛ يصبح كالبهيمة لا يبالي بشيء، بل يسعى للشيء الذي يروق له ويناسب شهواته، فمثل هؤلاء أمنوا مكر الله؛ لأنهم في الواقع لم يلتفتوا إلى ما خلقوا له، ولم يبالوا بأمر الله الذي خلقوا من أجله وهو طاعته، وإنما رأوا أنهم خلقوا للأكل والشرب والتمتع بالملذات حسب المستطاع الذي يستطيعونه، فهؤلاء لا عبرة فيهم وفي لهوهم ولعبهم وانشغالهم بالدنيا، وإنما الذي يوجه إليه مثل قوله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99] هم الذين يستشعرون بأن الله جل وعلا خلقهم وأنه سيحاسبهم، هؤلاء هم الذين يستفيدون من الخطاب أو قد يستفيدون منه. ثم من المعلوم أن خطاب الله جل وعلا في القرآن الكريم وإن كان عاماً شاملاً للخلق كلهم فإنما يستفيد منه المؤمنون فقط، فالمؤمنون هم الذي يستفيدون منه ويمتثلون ذلك، ولهذا وجه إليهم النداء بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، في كثير من الآيات؛ لأنهم هم الذين ينتفعون بهذا، وإلا فالجميع سيلاقون ربهم ويسألهم جل وعلا وهم عبيده. ثم إن من حكمة الله جل وعلا أن جعل الجزاءات والعقوبات غير معجلة، ولذلك ترى الإنسان يتمادى في غيه وفي معاصيه والله تعالى يغدق عليه من الأرزاق والصحة والعافية، فيبتعد كل البعد عما خلق له من الطاعة ومن العمل، فهذا من المكر؛ لأنه كلما عمل سيئة تحسن في نظره وفي فكره فيعمل سيئة أخرى وهكذا حتى يصل إلى اقتراف السيئات الكبيرة والكثيرة، وهذا الإملاء هو الذي حذر منه السلف في هذه الآثار: (إذا رأيت الرجل يعطى النعم وهو مقيم على المعاصي فإنه مكر). ولكن يوجد من الناس من يؤمن بالله، وأنه سيلاقي ربه فيجازيه، وأنه عبد لله، وأنه خلق لطاعته وتوحيده واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك تراه يعصيه وهو يعلم، وقد يقع كثير من الناس في المعاصي وهم لا يدرون أنها معصية؛ وذلك لقصورهم في العلم وجهلهم؛ فتراهم لا يهتمون بالعلم الذي يوصلهم إلى الله، وإنما أكثر الناس يهتم بالدنيا أكثر من اللازم، أما أمور الدين فلا يعطيها من الاهتمام إلا شيئاً يسيراً، والناس يختلفون في هذا اختلافاً كبيراً، فمنهم من ينسى آخرته، ويكون كل اهتمامه وغايته الحصول على الدنيا، وهذا كثير، وهؤلاء هم أبناء الدنيا، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره: (إن للدنيا أبناء وللآخرة أبناء)، والمقصود بالأبناء: الذين يجعلون عملهم وكدهم وكدحهم وتحصيلهم لهذه أو لهذه، وقد جاء: أن الدنيا والآخرة ضرتان لا تقبل على واحدة إلا أضررت بالأخرى. فلابد للإنسان أن يجعل نصب عينيه دائماً الجنة والنار؛ لأن هذه هي الغاية، فالناس يتسابقون إما إلى الجنة أو إلى النار ولابد، فإن هذه نهايتهم ومنتهاهم، وهذه الحياة منتهية بلا شك وستمضي، سواء كانت في الأمور التي يحبها الإنسان أو في الأمور التي يكرهها ويبغضها، وتنسى لقلتها وحقارتها وقصر أمدها، وإنما الشأن في كون الإنسان يستشعر الذي خلق له، ويعلم أن مصيره إلى ربه جل وعلا، وأنه سوف يجازيه بعمله، فيحاسب نفسه ويسير على هذا المنوال، ثم يجب أن يكون خائفاً من ذنوبه وراجياً لرحمة ربه، فيكون بين هذين الأمرين: في خوف يمنعه من اقتراف المعاصي، ورجاء يدفعه إلى التعلق بربه جل وعلا. وكذلك يكون عاملاً بالأوامر مجتنباً للنواهي، ولهذا يقول الله جل وعلا: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9]، فأخبر أن الذي يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه هو العامل الذي يقوم آناء الليل ساجداً وقائماً بين السجود والقيام، وكذلك يقول جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ} [البقرة:218]، فالرجاء يكون مع العمل، والراجي لرحمة الله هو المحسن، كما قال الله جل وعلا: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56]، أما إذا كان الإنسان يسيء العمل ويأتي بما يخالف ما أمر به وما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يتمنى على الله الأماني ويقول: أنا أرجو الله ورحمة الله واسعة، فلا شك أن رحمة الله واسعة، ولكن أنت مأمور بأوامر فلا تهملها، ولا يكن أمر الله عندك من أقل الأوامر، فإنه إذا كان أمر الله قليل الشأن لدى الإنسان فإنه لا يبالي به، فرحمة الله واسعة، ولكنها للعاملين الذين يعملون، أما الذي يترك أوامر الله وراء ظهره ولا يبالي بها، وربما تمادى في المعاصي باستهتار، فيستهتر بكل ما أمره الله جل وعلا به؛ فهذا يخشى عليه أن يطبع على قلبه ثم ينتكس، فيصبح يحب المعاصي ويألفها حتى يدعوه ذلك إلى الخروج من الدين الإسلامي نهائياً، ويكره الحق ويبغضه، فإذا كان بهذه المثابة فهو من الخاسرين الذين أمنوا مكر الله.

القنوط من رحمة الله من كبائر الذنوب

القنوط من رحمة الله من كبائر الذنوب ومن ناحية أخرى لا يجوز للإنسان أن يستولي عليه الخوف حتى يستبعد أن يغفر الله له ويرحمه، فينتقل من محذور إلى آخر؛ لأن القنوط من رحمة الله واليأس من روحه من الكبائر العظام التي تنقص التوحيد وتذهب بكماله، فلابد أن يكون الإنسان خائفاً من ذنوبه راجياً لرحمة الله، وفضل الله واسع، وكرمه لا نهاية له، ولكنه لا يكون للمفرط العاصي الذي لا يبالي بأمر الله، وإنما يكون لمن فرط ووقع في المعاصي من غير أن يكون مستخفاً بأمر الله جل وعلا ولا مستهتراً به، أما إذا جاء الاستخفاف والاستهتار وعدم المبالاة فهذا يخشى أن ينزع منه الإيمان نهائياً، ويصبح محباً للمعاصي وأهل المعاصي، ثم تتراكم عليه المعاصي حتى يصبح ممن قال الله جل وعلا فيهم: {بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14]. ومعلوم أن من كانت ذنوبه غالبة عليه فهو ممن قال الله جل وعلا فيهم: {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة:8 - 9]، فمن ثقلت موازينه ولو بالشيء القليل فهو من المفلحين، ومن خفت موازينه فهو من الخاسرين، فمن ثقلت موازينه فهو في عشية راضية، وأما من خفت موازينه فأمه هاوية، والهاوية: هي جهنم، نسأل الله العافية، فالأعمال توزن، ولكن من فضل الله وكرمه أنه لو فضل للإنسان مثقال ذرة من الحسنات فإن الله يضاعفها له ويدخله بها الجنة، يضاعف هذا المثقال ويدخله به الجنة، ولكن المشكل أن يأتي الإنسان بحسنات كثيرة ويأتي بسيئات أكثر! ومن المعلوم أن اكتساب الحسنات ليس في الصلاة والصوم والزكاة وتلاوة القرآن والذكر فقط، بل هناك أعمال القلوب التي تكتسب بها الحسنات والسيئات، فأعمال القلوب فيها كبائر وصغائر كما أن أعمال الجوارح فيها كبائر وصغائر، فمن أعمال القلوب: الحسد والغل وبغض الحق وكراهيته، فهذه من عظائم الذنوب وإن لم ينطق بها الإنسان، وكذلك النيات الطيبة -كمحبة الخير ونحو ذلك- يتفاوت فيها الناس تفاوتاً كبيراً، وعلى إثر ذلك يؤجرون. والمقصود: أن الله جل وعلا يذكر لنا في كتابه أنه شديد العقاب، كما يذكر لنا أنه غفور رحيم، ويذكر لنا الجنة وما فيها وما أعد لأهلها، ويذكر لنا النار وما فيها وما أعد لأهلها فيها، كما أنه يذكر أعمال الأمم السابقة التي بسببها أخذوا وأهلكوا، ويذكر أعمال الصالحين التي بسببها نصروا وأكرموا؛ لتكون عبرة لنا فنستمع القول فنتبع أحسنه، وننظر إلى الأعمال ونفعل الأعمال الحسنة ونجتنب الأعمال السيئة، فنرجو الجنة ونخاف من النار.

كيفية تحصيل النعم ودفع الألم

كيفية تحصيل النعم ودفع الألم هناك أمر -كل إنسان يدركه- وهو أن كل حي يسعى إلى تحصيل الملذات والنعم، ويسعى إلى إبعاد كل مؤلم عنه، هذا في الأمور المحسوسة المشاهدة، ولا يمكن أن يخالف في هذا إلا من ليس عنده عقل، ولكن إذا كان في أمور موعود بها وهي غائبة فقد يستبعد الإنسان هذا الشيء، وتسول له نفسه حتى يستولي عليه الشيطان، إلا إذا كان عنده الإيمان الكامل الذي يمنعه من اقتراف المعاصي، فخاف أن يقترف هذه الملذات الزائلة فتفوته الملذات الدائمة، ولكن كثيراً من الناس إيمانهم غير كامل. ثم إن تحصيل النعم واجتناب الألم له أسباب، فلابد من تحصيل سبب هذا وتوقي سبب ذاك، فهذه أمور أربعة: طلب الخير والنعيم، ودفع الشر والألم، وسبب هذا وسبب هذا، وهذه كلها بيد الله جل وعلا، والإنسان لا يملكها، فإذا آمن بالله واتبع أمره واجتنب نهيه فإن الله يوصله إلى مراده، ويسهل عليه الطريق، فيتحصل على النعيم، أولاً: نعيم الأنس بالله وبطاعته، ثم بعد ذلك إذا فارق هذه الدنيا يكون ذلك هو خير أيامه التي مرت عليه، ويكون خير يوم يمر عليه يوم يلاقي الله جل وعلا، ثم إن أعظم الشدائد التي يلاقيها وأصعبها هو الموت فقط، أما بعد ذلك فهو ينتقل من خير، إلى ما هو أخير إلى أن يستقر في دار القرار في جنة رب العالمين التي أعدها لعباده، أما إن كان بالعكس فالأمور بالعكس: فأسهل الشدائد التي تمر عليه الموت وما بعد الموت أشد منه، ثم ينتقل من شدة إلى ما هو أشد، إلى أن تجتمع الشدائد كلها والآلام كلها في جهنم. هذا هو المصير الذي ينتهي إليه الناس جميعاً، إما هذا وإما هذا، ومن المعلوم أن الناس فيهم المجتهد في هذا والمجتهد في هذا، فيهم من يجتهد في تحصيل الملذات والنعيم من الطريق الصحيح، ويجتهد في إبعاد المؤلم والمؤذي بفعل الأسباب، ومنهم من يكون أقل، ومنهم من يكون بالعكس، ولهذا تفاوتت جزاءاتهم وعقاباتهم تفاوتاً عظيماً، حتى إن من المؤمنين من يدخل النار، وذلك إذا لم تكن المصائب والشدائد كافية في تطهيره، فإن الموت والمرض والمصائب والمؤلمات التي تمر بالمؤمن قد تكون كفارات له من الذنوب، ولا يلزم أن يكون هذا لكل أحد، ثم بعد الموت يكون عذاب في القبر، وعذاب القبر بلا شك أنه أطول بكثير مما يلاقيه الإنسان في حياته من نعيم أو ألم؛ لأن بقاءه في القبر أكثر من بقائه على ظهر هذه الأرض، ثم قد لا يكفي كل هذا، فيلاقي الصعوبات والشدائد في الموقف في يوم القيامة، حتى إن من الناس في الموقف من يتمنى أن يذهب به إلى النار حتى يرتاح من الموقف، وهذه طبيعة الإنسان: أنه كلما وقع في شيء مؤلم يتمنى أن ينتقل منه إلى غيره ولو كان ذلك أشد؛ لأنه لا يتصور أن الذي بعده أشد، ثم قد ينتقل من ذلك إلى جهنم -وإن كان عنده إيمان- ثم بعد ذلك إذا لقي جزاءه يرحمه الله جل وعلا برحمته إذا كان عنده أصل الإيمان فيخرجه منها، ولكن هل يخاف الإنسان من كونه يلاقي هذه الشدائد وهذا العذاب؟! فالعاقل هو الذي يبحث عن النعيم الذي يتنعم به دائماً، ويبحث عن وقاية من المؤلم دائمةً.

الأمور التي تدفع الإنسان إلى فعل الخير لينال النعيم

الأمور التي تدفع الإنسان إلى فعل الخير لينال النعيم إذا استشعر الإنسان هذا بحقيقته وعرفه فإنه يحدوه إلى العمل؛ وذلك لأنه أولاً يؤمن بأن الله يعذب العصاة، فإذا وقع في المعصية يجب عليه أن يخاف فيحترز من ذلك، ويحدث توبة وأعمالاً يرجو أن يقبلها الله منه ويعفو عما سلف. فأولاً: يكون مؤمناً بأن الله لما توعد ووعد أنه لابد من وقوع ذلك، فيجتنب الأعمال التي يترتب عليها الوعيد، ويفعل الأعمال التي يترتب عليها الوعد. ثانياً: من الأمور التي تدفع الإنسان إلى أنه يجتهد: أنه لا يدري هل قبلت أعماله أو ردت؛ لأن الأعمال لها آفات كثيرة، والله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً لوجهه وكان على سنة المصطفى صلوات الله وسلامه عليه: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110]، قوله: {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً}: يعني على السنة، أما إذا كان على غير السنة فهو ليس بصالح: {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} أي: يجب أن يكون العمل خالصاً لله جل وعلا لا يقصد به غير الله. الأمر الثالث: أنه لا يدري على ماذا يموت، فيجوز أن يموت على غير ما عاش عليه، والأمور كلها بيد الله يتصرف فبها كيف يشاء، فمن شاء أن يهديه هداه ومن شاء أن يضله أضله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]، فيخاف من سوء الخاتمة فقد يؤخذ الإنسان بغتة على أسوأ أعماله، وهذا مشاهد، فقد يكون الإنسان في أسوأ حالة ثم يموت على ذلك، نسأل الله العافية. فهذه الأمور تجعل الإنسان يجتهد، وإذا اجتهد فيجب أن يكون اجتهاده على وفق أمر الله، فيكون بين هذا وهذا خائفاً راجياً، فذكر الجنة والنار سيكون حادياً للعمال الذين يعملون للجنة ومانعاً لهم عن العمل الذي يقرب إلى النار، أما رب العالمين جل وعلا فإنه غني بذاته عن عمل عباده كلهم، فلا تنفعه طاعة المطيع ولا تضره معصية العاصي، ولو أن عباده كلهم صاروا على أكفر قلب رجل واحد منهم ما ضره ذلك بشيء، وإنما يضرون أنفسهم فقط، ولهذا جاء في الحديث القدسي أن الله جل وعلا يقول: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحدٍ منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، ثم قال: إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله؛ -لأن ذلك بتوفيقه وبنعمته وفضله- ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) , النفس هي الملومة؛ لأنها هي التي اكتسبت ذلك، ولا يدخل أحد النار إلا بعمله، كما أنه لا يدخل أحد الجنة إلا بالأسباب التي جعلها الله سبباً لذلك، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر منادياً بالمجامع أن ينادي: (إنه لن يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة)؛ ليكون ذلك معلوماً، ويكون ذلك بلاغاً بلغ به الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه جل وعلا، فعلى الإنسان أن يسعى لخلاص نفسه على وفق إرشاد الله لنا وتوجيهه لنا، فنخاف ذنوبنا ونرجو رحمة ربنا دائماً، مع فعل الأوامر واجتناب النواهي.

القنوط من رحمة الله ضلال وهلكة

القنوط من رحمة الله ضلال وهلكة قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقول الله تعالى: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ} [الحجر:56]]. القنوط: هو اليأس وفقد الأمل، كأن يعمل عملاً يستعظمه فيقول: هلكت ولن تنفعني توبة ولا عمل صالح، فكونه يستبعد المغفرة ويغلق الباب أمامه هذا من أعظم الكبائر، وهذا أيضاً من الأمور التي تذهب بكمال التوحيد، ولهذا ذكره، فقد ذكر الآية الأولى التي فيها التحذير من الأمن من مكر الله، وهو أن يعمل الإنسان المعاصي ولا يخاف من عقاب الله، فهذا هو الأمن من مكر الله، ثم ذكر هذه الآية وفيها التحذير من القنوط، وهو: أن الإنسان إذا عمل معصية يقنط ويقول: لست أهلاً للمغفرة، ولن يغفر لي، ويستبعد أن يغفر الله له ويتوب عليه، فيكون بهذا القنوط قد انتقل من ذنب إلى ما هو أكبر منه، وهذا هو الذي يريده الشيطان. فيجب على الإنسان مهما كان ذنبه أن يعلم أنه إذا تاب صادقاً فإن الله يتوب عليه، وأن رحمته وسعت كل شيء، فيخاف من ذنبه ويتعلق برحمة ربه، وهذا يدلنا على أن الإنسان يجب أن يكون دائماً بين الخوف والرجاء، كما أرشد إلى ذلك كتاب الله جل وعلا في كثير من الآيات قال الله جل وعلا: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر:49 - 50]، فبدأ أولاً بالمغفرة وأنه غفور رحيم، ثم ذكر أن عذابه عذابٌ أليم، وقال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً} [التحريم:8]، والتوبة النصوح: هي التي تتضمن الصدق، فيصدق فيها ويندم على وقوعه في الذنب، ويعزم عزماً صادقاً على أن لا يعاود الذنب، ثم لو قدر أنه عاد إلى ذنب فعليه أن يتوب وهكذا، ولو تكرر ذلك في اليوم فلا يجوز أن يقنط من رحمة الله ويقول: كثرت ذنوبي وأصبحت لا أستحق أن يغفر الله لي، فإن الشيطان حريص على أن يوصل الإنسان إلى هذه المرحلة حتى يجعله هالكاً.

سعة رحمة الله وحبه الخير لعبده وفرحه بتوبته

سعة رحمة الله وحبه الخير لعبده وفرحه بتوبته جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده التائب من أحدكم يفقد راحلته عليها طعامه وشرابه في أرض مهلكة، فيطلبها فييأس من وجودها، ثم يضع رأسه تحت شجرة ينتظر الموت قد أيس من الحياة، فبينما هو كذلك في انتظار الموت إذا راحلته قائمة على رأسه، فيأخذ بخطامها فيقول: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح) , ففرح الله وجوده وكرمه عظيم، وهذا غاية ما يتصور من الفرح، فهذا إنسان فقد الحياة وأيس منها، ثم تعود إليه في لحظة ينتظر فيها الموت! فإنه يفرح فرحاً عظيماً وهو غاية ما يصل إليه الفرح: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده)، هل لأن الله جل وعلا يحتاج إلى عبده؟ كلا! ولكن لكرمه وجوده وفضله وحبه للخير تعالى وتقدس، فيحب أن يكون عبده ممن يفعل الخير ويريده ويتعرض له، ويكره أن يكون عبده معذباً، ولكن يأبى العبد إلا أن يقع في الأذى كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (كلكم يدخل الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى)، فالأمر يتعلق بالإنسان نفسه وبطاعته ومعصيته. وفي الصحيح أيضاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر رجلاً مسرفاً على نفسه، قتالاً سفاكاً للدماء، قد قتل تسعاً وتسعين نفساً بغير حق، ثم بعد ذلك ألقى الله جل وعلا في قلبه الندم وطلب التوبة، وصار يبحث ويسأل ويقول: دلوني على عالم أسأله، فدل على رجل عابد فسأله فقال: إنه لا توبة لك؛ لأن الذي يقتل النفس الواحدة كأنما قتل الناس جميعاً، فكيف وقد قتلت تسعاً وتسعين نفساً؟ فعند ذلك قتله وكمل به المائة! ومع ذلك عاد على نفسه باللوم وقال: كيف هذا التمادي؟! فأصبح يسأل، فدل على رجل عالم فسأله هل لي من توبة؟ قال: نعم، ومن يحول بينك وبين التوبة؟ ولكن أنت في أهل بلد فساد وإسراف، وتوجد هناك بلد خير وأهله أهل خير وطاعة فهاجر إليها وتب صادقاً، فامتثل ذلك وهاجر صادقاً تائباً مقبلاً على ربه جل وعلا، وفي أثناء الطريق أدركه الموت، فجاءته ملائكة العذاب تريد أن تقبض روحه إلى جهنم، وجاءت ملائكة الرحمة تريد أن تقبض روحه إلى رحمة الله؛ لأنه جاء تائباً، فأصبحوا يتخاصمون عنده كل فريق يقول: نحن أولى به، فهؤلاء يقولون: هذا مسرف قتال ما عمل خيراً قط، وهؤلاء يقولون: جاء تائباً منيباً صادقاً، والتوبة هي نهايته وآخر عمله فنحن أولى به، فاختصموا، وعند ذلك أرسل الله جل وعلا إليهم ملكاً ليكون حكماً بينهم، فقال: قيسوا ما بينه وبين البلدين، فأيهما كان إليها أقرب فهو من أهلها، فوجدوه إلى بلد الخير أقرب بشبر أو ذراع فقبضته ملائكة الرحمة. وفي رواية -وهي تدل على صدقه- (أنه كان ينوء بصدره -وهو يكابد الموت- يعجز أن يسير فينوء بصدره ليقرب من البلد الصالح). وفي رواية: (أن الله أوحى إلى البلد الخير أن تقاربي، وإلى البلد الشر أن تباعدي). والمقصود: أن هذا يدل على عظم رحمة الله جل وعلا، وأنه لا يهلك إلا الهالكون، غير أنه يجب أن يعلم أن هناك أموراً تقتضي رحمة الله: أولاً: أن يكون الإنسان على الإيمان. الثاني: أن يكون على السنة، فلا يكون على بدعة وضلال، فيعمل أعمالاً على خلاف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وإن كانت كثيرة، فإنه إن كان بهذه المثابة فهو ممن قال الله جل وعلا فيهم: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف:104] , وقال جل وعلا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * {تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} [الغاشية:2 - 5]، فذكر أنهم يخشعون ويعملون وينصبون، والنتيجة: أنهم يصلون النار الحامية؛ لأنهم على ضلال وبدع، فإذا كان الإنسان على السنة، وإن كان عمله قليلاً وإن كان عنده إسراف، فيجب أن لا يقنط من رحمة الله ولا ييأس من روح الله، مع أنه يجب أن يخاف حتى يكون الخوف حاملاً له على العمل وداعياً له إلى اجتناب المعاصي، ويكون الرجاء مرغباً له في فعل الطاعة.

الخوف والرجاء

الخوف والرجاء قال الشارح رحمه الله تعالى: [القنوط استبعاد الفرج واليأس منه، وهو يقابل الأمن من مكر الله وكلاهما ذنب عظيم وتقدم ما فيه لمنافاته لكمال التوحيد. وذكر المصنف رحمه الله تعالى هذه الآية مع التي قبلها تنبيهاً على أنه لا يجوز لمن خاف الله أن يقنط من رحمته؛ بل يكون خائفاً راجياً، يخاف ذنوبه ويعمل بطاعته ويرجو رحمته، كما قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9]، وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:218]]. يقول بعض العلماء: ينبغي للإنسان ما دام في صحته وقوته أن يكون الخوف أغلب عليه حتى يكون العمل أمامه، أي: يعمل لأجل ذلك، أما إذا كان في المرض والضعف فإنه ينبغي أن يعكس القضية ويكون الرجاء أغلب عنده من الخوف؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن ظنه بربه) , وفي الحديث الآخر أن الله جل وعلا يقول: (أنا عند ظن عبدي بي، فإذا ظن خيراً وجده وإن ظن شراً وجده) , فيقدم الرجاء، وينبغي إذا كان في المرض أن يذكر بأعماله الطيبة الصالحة حتى يكون ذلك داعياً لرجائه فيغلب الرجاء، وذلك لأنه في هذه الحالة أصبح لا يستطيع أن يعمل، وبقي معه عمل القلب فقط، فيأتي بعمل القلب وهو الرجاء حتى يغلب الخوف فيكون ممن ظن ظناً حسناً؛ ليكون الله عند ظنه هذا الذي ذكره بعض العلماء، وبعضهم يقول: بل يكون بين الخوف والرجاء دائماً، فإنه إذا غلب أحدهما الآخر فسد القلب، فالذي يغلبه الخوف يقع في طريقة الخوارج والحرورية وأهل الوعيد مثل المعتزلة، والذي يغلبه الرجاء قد يدعوه ذلك إلى أن يقع في طريقة المرجئة الذين تركوا الأعمال وأصبحوا يرون أن الإيمان يكفي فيه عمل القلب الذي يقولونه، وإلا فليس هو عمل قلب في الواقع، وإنما هي أمور وتصورات خاطئة، ويجب أن يكون الإنسان بين هذا وهذا بين الخوف والرجاء دائماً. قوله: [الرجاء مع المعصية وترك الطاعة غرور من الشيطان؛ ليوقع العبد في المخاوف مع ترك الأسباب المنجية من المهالك، بخلاف حال أهل الإيمان الذين أخذوا بأسباب النجاة خوفاً من الله تعالى وهرباً من عقابه وطمعاً في المغفرة ورجاءً لثوابه. والمعنى: أن الله تعالى حكى قول خليله إبراهيم عليه السلام لما بشرته الملائكة بابنه إسحاق: {قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِي الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} [الحجر:54]؛ لأن العادة أن الرجل إذا كبر سنه وسن زوجته استبعد أن يولد له منها، والله على كل شيء قدير، فقالت الملائكة: (بشرناك بالحق) الذي لا ريب فيه، فإن الله إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون، (فلا تكن من القانطين) أي: من الآيسين، فقال عليه الصلاة والسلام: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ} [الحجر:56]، فإنه يعلم من قدرة الله ورحمته ما هو أبلغ من ذلك وأعظم، لكنه -والله أعلم- قال ذلك على وجه التعجب!]. هو على وجه التعجب؛ لأن العادة التي أجرى الله جل وعلا عليها خلقه أن المرأة إذا كبرت وتعدت الخمسين لا يولد لها، فهذا شيء اعتاد عليه الخلق، فإذا خرج عن ذلك شيء فهو من آيات الله، وإلا فإن إبراهيم عليه السلام يعلم أن الله على كل شيء قدير، فهو الذي خلق آدم من التراب، وخلق عيسى من امرأة من دون ذكر، وخلق حواء من ذكر بلا امرأة، فهو قادر على أن يخلق ما يشاء، فخلق بني آدم وجعلهم جل وعلا على أصناف أربعة؛ ليبين قدرته: فآدم خلق من تراب، فهو إنسان حي سميع بصير يعلم ويتكلم ومع ذلك خلق من تراب ميت يابس! فهذا من تراب بقدرة الله جل وعلا. هذا قسم. القسم الثاني: المرأة التي خلقت من آدم -حواء- فإنها خلقت من ضلعه فهي بضعة منه. والقسم الثالث: عكس القسم الثاني: رجل خلق من امرأة فقط بدون أن يتصل بها ذكر وهو عيسى عليه السلام فقط. والقسم الرابع: العادة التي أجراها الله أن المولود يكون من بين ذكر وأنثى، ولهذا لا يستغرب الناس ذلك مع أنه غريب في الواقع، ولهذا يأمر الله جل وعلا بالتفكر فيه، كيف يخلق هذا الحي العجيب من نطفة؟! ولهذا كثيراً ما يذكر الله جل وعلا هذا لنتعجب ولنتفكر فيقول جل وعلا: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21]، يعني فيها آيات ولكنكم معرضون عنها: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ} [الطور:35]، {فَلْيَنظُرْ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ} [الطارق:5]، ينظر ويتعجب من أين خلق؟! {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس:17 - 22]. إلى غير ذلك من الآيات الدالة على وجوب التفكر في هذا الخلق. فإبراهيم عليه السلام نظراً للعادة التي عليها الخلق، لما بشروه بإسحاق وقد بلغ من السن عتياً هو وزوجته ولماذا إسحاق وليس إسماعيل؟ لأن ولده الكبير إسماعيل ليس من زوجته بل من أمته هاجر، وهي أمة وهبتها له زوجته سارة، فلما ولدت غارت منها، فهاجر بها إبراهيم إلى مكة ووضعها هي وابنها هناك، وتركهما وليس معهما أحد، كما هو معروف في القصة، وهذه البشارة جاءت بعد ذلك حينما جاءت الملائكة لإهلاك قوم لوط، كما ذكر الله جل وعلا ذلك في سورة الذاريات: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ} [الذاريات:31 - 33] , يعني: قوم لوط، {قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا} [العنكبوت:32]. فالمقصود: أن هذه البشارة كانت متأخرة عن مولد إسماعيل، ولهذا فإن إسحاق هو أبو الأنبياء، فإن الذين جاءوا من بعده كلهم من ولد إسحاق إلا محمداً صلى الله عليه وسلم فقط فهو من ولد إسماعيل، أما البقية فمن ولد إسحاق، والله جل وعلا ما أرسل نبياً بعد إبراهيم إلا من ذريته، فكل الأنبياء الذين أرسلوا بعد إبراهيم من ذرية إبراهيم. المقصود: أنه قال هذا لما قَالُوا: بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ, أي: بالشيء الواقع الثابت الذي لا يتغير ولا يتبدل: {فَلا تَكُنْ مِنْ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ} [الحجر:55 - 56]، أي: لست من القانطين، ولكن هذا أمر خرج عن العادة، فقوله: (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) كأنه ظنهم من آحاد الناس فقال: كيف تبشرونني بهذا وأنا في هذا السن وزوجتي عجوز -كما قالت هي: عجوز عقيم- يعني: كيف تلد وهي بهذه الصفة؟ فأخبروه أنهم رسل الله وأنها بشارة من الله جل وعلا، فلما كان كذلك لم يكن هناك مجال للقنوط. وقوله: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ} [الحجر:56]، الضال: هو الذي ترك الحق وارتكب غيره -أضاع طريقه- فصار طريقه ليس الطريق السليم المنجي بل هو المهلك، ولهذا فسره بعض العلماء بالهالكين، فالذي ضل يهلك، والذي يقنط من رحمة ربه يكون هالكاً. قال رحمه الله: [قوله: (إِلاَّ الضَّالُّونَ)، قال بعضهم: إلا المخطئون طريق الصواب أو إلا الكافرون، كقوله تعالى: {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87]].

الفرق بين اليأس والقنوط

الفرق بين اليأس والقنوط اختلف في الفرق بين اليأس والقنوط، فمن العلماء من يقول: القنوط شدة اليأس، فيكون الفرق بينهما مثل الفرق بين الدعاء والاستغاثة، فالاستغاثة دعاء خاص في حالة خاصة وهي داخلة في الدعاء، فيكون القنوط يأساً ولكنه أعظم اليأس وأشده، وقد أخبر جل وعلا في قصة يوسف ويعقوب حفيد إبراهيم أن يعقوب قال لبنيه: {يَا بَنِي اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87]، فالذي ييأس يكون كافراً.

اليأس من روح الله والأمن من مكر الله

اليأس من روح الله والأمن من مكر الله قال المصنف رحمه الله رحمة واسعة: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الكبائر؟ فقال: (الشرك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله)]. قال الشارح رحمه الله تعالى: [هذا الحديث رواه البزار وابن أبي حاتم من طريق شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما، ورجاله ثقات إلا شبيب بن بشر فقال: ابن معين رحمه الله: ثقة، ولينه أبو حاتم. وقال: ابن كثير: في إسناده نظر، والأشبه أن يكون موقوفاً. قوله: (الشرك بالله) هو أكبر الكبائر، قال: ابن القيم رحمه الله تعالى: الشرك بالله هضم للربوبية وتنقص للإلهية وسوء ظن برب العالمين. انتهى. ولقد صدق ونصح، قال تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1]، وقال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، ولهذا لا يغفره الله إلا بالتوبة منه. قوله: (واليأس من روح الله) أي: قطع الرجاء والأمل من الله فيما يخافه ويرجوه؛ وذلك إساءة ظن بالله وجهل به وبسعة رحمته وجوده ومغفرته. قوله: (والأمن من مكر الله) أي: من استدراجه للعبد وسلبه ما أعطاه من الإيمان، نعوذ بالله من ذلك! وذلك جهل بالله وبقدرته وثقة بالنفس وعجب بها.

الكلام على الكبائر والصغائر

الكلام على الكبائر والصغائر قال الشارح رحمه الله: واعلم أن هذا الحديث لم يرد به حصر الكبائر في الثلاث، بل الكبائر كثيرة، وهذه الثلاث من أكبر الكبائر المذكورة في الكتاب والسنة، وضابطها: ما قاله المحققون من العلماء: كل ذنب ختمه الله بنار أو لعنة أو غضب أو عذاب، زاد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أو نفي الإيمان. قلت: ومن برئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قال: (ليس منا من فعل كذا وكذا)، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع، غير أنه لا كبيرة من الاستغفار ولا صغيرة من الإصرار)]. من الكبائر: الإشراك بالله والأمن من مكر الله واليأس من روح الله. ومعلوم أن الذنوب تنقسم إلى قسمين: قسم كبير وقسم صغير، لقول الله جل وعلا: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31]، فاشترط جل وعلا لتكفير السيئات اجتناب الكبائر، فدل هذا على أن الذنوب منها ما هو كبير ومنها ما هو صغير، وبعض العلماء ينكر هذا ويقول: الذنوب كلها كبيرة، وهذا بالنظر إلى من عُصي؛ لأن الرب جل وعلا شأنه عظيم، ومجرد المعصية كبيرة وإن كان الذنب صغيراً في نظر العاصي إلا أنه كبير، ولكن ما دلت عليه الأدلة أولى، والأدلة دلت على أن الذنوب منها الكبير ومنها الصغير، وفي أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الكبائر ويقول: الكبائر كذا، وجاء أنه صلوات الله وسلامه عليه ذكر أن: (الصلاة إلى الصلاة والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا لم تغش الكبائر)، ومن هنا قال العلماء: إن الكبائر لابد فيها من التوبة، أما الصغائر فتكفر بمجرد اجتناب الكبائر، ثم اختلفوا في الفرق بين الصغيرة والكبيرة بعد الاتفاق على أن هناك ذنوباً منصوصاً عليها بأنها من الكبائر. ومعلوم أن الشرك هو أعظمها؛ لقول الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فجعل ما دون الشرك داخلاً تحت مشيئته جل وعلا، إذا شاء أن يغفره غفره وإن شاء أن يؤاخذ به آخذ به، أما إذا مات الإنسان على الشرك فهو غير مغفور له، والشرك ليس متساوياً بل بعضه أكبر من بعض، ففيه ما هو صغير وما هو كبير، وإن كان الذي يلحق بالصغائر ليس داخلاً فيه؛ لأنه لا يخرج من الدين الإسلامي يسير الرياء؛ كالحلف بغير الله الذي يجري على اللسان بدون قصد تعظيم المحلوف به، وما أشبه ذلك، فمثل هذا وإن كان من الكبائر فإنه لا يدخل في الشرك الأكبر الذي يخرج من الملة؛ لأنه لا يخرج من الدين الإسلامي، أما الشرك الأكبر فإنه يخرج من الدين الإسلامي، وهو أعظم الذنوب؛ وذلك لأن المشرك تنقص الله جل وعلا وصرف حقه لمخلوق مثله لا يستطيع أن ينفع نفسه ويجلب لها النفع ولا أن يدفع عنها الضرر فكيف بغيره! وهذا عام في المخلوقين كلهم، وهو أن يجعل شيئاً من العبادة لمخلوق أو يشركه فيها، كأن يتوجه إليه بالدعاء فيدعوه ويقول: يا فلان أغثني أصلح قلبي ارزقني اشفع لي عند الله، وما أشبه ذلك، أو ينذر له نذراً سواء كان ذبيحة أو طعاماً أو غير ذلك، ويعتقد أن الميت يقبل هذا النذر ويثيبه عليه! أو يتبرك به أو بقبره ويطوف عليه أو يجلس عنده؛ لأن الجلوس والعكوف عبادة، ولهذا أثنى الله جل وعلا وأمر أن يطهر بيته للعاكفين وللقائمين والساجدين، فالعكوف عبادة، وكذلك سائر العبادات، مثل الخوف كأن يخافه الخوف الغيبي، أو الرجاء كأن يرجوه أن ينفعه نفعاً غير قائم على سبب، وأنواعه كثيرة جداً، وضابطها: أن تكون عبادة لله جل وعلا يثيب عليها أو يعاقب عليها ثم يجعلها للمخلوق أو يجعل بعضها للمخلوق، فيشرك بينه وبين الرب جل وعلا، فهذا من الشرك الأكبر وهو أعظم الكبائر. أما بقية الكبائر فمن العلماء من حاول عدها وذكرها بأعيانها، فمنهم من ألف فيها مؤلفات في سردها، كالحافظ ابن القيم رحمه الله فله مؤلف في الكبائر (كتاب الكبائر)، وكذلك الذهبي له كتابان في هذا: كتاب كبير وكتاب صغير، وكذلك ابن حجر الهيثمي له كتاب: (الزواجر في اقتراف الكبائر)، وهو أوسع الكتب التي ألفت في هذا الباب، وقد ذكر فيه كبائر كثيرة وقسمها إلى: كبائر تفعل بالجوارح الظاهرة وكبائر تفعل بالقلب كالحسد والغل وما أشبه ذلك. ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لم يرد حصر الكبائر بهذا الحديث؛ لأنه سبق أن مر معنا: (اجتنبوا السبع الموبقات) فجعلها سبعاً وهنا ثلاثاً، وفي بعض الأحاديث أكثر وبعضها أقل، ولهذا اختلفوا في ضابطها ما الذي يفرق بينها وبين غيرها؟ ومنهم من ضبطها بأنها: كل ما ترتب عليه حد في الدنيا أو وعيد في الآخرة بالنار أو بالغضب أو بالعذاب فإنه يكون من الكبائر، بل بعضهم قال: إذا توعد فاعلها، أو قيل في حقه: إنه ليس منا أو ليس على ملتنا، أو تبرأ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أنا بريء ممن فعل كذا وكذا) مثل ما جاء في الاستنجاء بالعظم والروث، فيكون هذا منها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم تبرأ ممن فعل ذلك. وهذا التفريق حتى تتميز الذنوب الكبيرة من الذنوب الصغيرة، ويعرف الإنسان الشيء الذي وقع فيه وأنه يجب عليه أن يبادر للتوبة ويتوب؛ لأنه إذا مات بدون توبة فإنه يكون مؤاخذاً بذلك إلا أن يشاء الله فيعفو عنه، مع أن التوبة تجب حتى من الصغائر؛ لأن الصغائر إذا اجتمعت تكون كبيرة، وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً لذلك بقوله: (وإياكم ومحقرات الذنوب)، سميت محقرات: لكون الإنسان يحقرها ويستصغرها، ثم لا يبالي بها فتكثر، فضرب لذلك مثلاً فقال: (فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا منزلاً فصاروا يجمعون حطباً هذا يأتي بعود وهذا يأتي بعود، حتى جمعوا ما أنضجوا به خبزهم) فهذا مثلها، فإذا اجتمعت أحرقت الإنسان وأهلكته، وقول ابن عباس: إنها إلى السبعمائة أقرب منها إلى السبع أو قال إلى السبعين، يعني: أنها كثيرة غير محصورة.

التوبة النصوح وشروطها

التوبة النصوح وشروطها ولكن يقول: (لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار) يعني: أن الإنسان إذا وقع في الكبائر وتاب فإنها تمحى ويُعفى عنها؛ لأن المقصود بالاستغفار التوبة، والتوبة: هي التوبة النصوح، ولها شروط ثلاثة أو أربعة: أولاً: أن يقلع عن الذنب، ولا يصر عليه. الثاني: أن يندم على وقوعه فيه. الثالث: أن يعزم عزماً جازماً أنه لا يعاوده، فإذا فعل ذلك فتكون التوبة مقبولة بإذن الله، ولو عاد فعليه أن يتوب مرة أخرى، بشرط أن لا تكون عنده نية بأنه سيعود، فإن كانت عنده نية فهو مصر. فإن كان الذنب يتعلق بحق آدمي فإنه يضاف إلى ما تقدم هذا الشرط: أن يستسمح ممن أذنب في حقه ويرد له مظلمته. يقول العلماء: هذه هي التوبة النصوح المقبولة عند الله، وهي التي أمر الله بها بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً} [التحريم:8]، يعني: أن تكون صادقةً توفرت فيها الشروط السابقة يرجو بها ثواب الله، وأعظم الذنوب الشرك بالله جل وعلا، وسواء كان شركاً في الربوبية، وأمره واضح وظاهر، ولكن قد يقع فيه بعض الناس، أو كان شركاً في العبادة، أي: العبادةِ التي تصدر من الإنسان؛ لأن الإنسان عبدٌ لله جل وعلا، وقد كلف بأوامر وكلف بأن ينكف عن نواهي نهي عنها، فيجب أن يكون دائماً بين أمر الله فاعلاً له وتاركاً لما نهاه عنه مراقباً لهذا النهي لا يقربه، وبذلك تستقيم عبوديته لله جل وعلا. فهذه العبادة يجب أن تكون لله خالصة، وضدها الشرك وهو: أن يقصد بعمله مخلوقاً من خلق الله جل وعلا، أو يقصد بعبادته أمراً دنيوياً ومصلحة عاجلة يتحصل عليها، سواء كانت رفعة أو ثناء يثني عليه الناس ويمدحونه فإن هذا نوع من عبادة النفس؛ لأنه يريد أن يكون هو الذي ينظر إليه ويشار إليه، ولكن يجب أن يعرف قدره عند الله بالنظر إلى عمله، فيعرض عمله على كتاب الله فربما يكون ممقوتاً عند الله، فلو كان كذلك فماذا يفيده لو أشار الناس إليه أو أثنوا عليه؟ لا يفيده ذلك شيئاً. كذلك من الأمور التي قد تكون كبيرة والإنسان لا يشعر بها: العجب، فكونه يعجبه عمله ويرى أنه أفضل من غيره، أو أن يكون عنده من الحسد والحقد والبغضاء والكراهية للحق، فإن هذا أمره عظيم وقد يدخل في الشرك؛ لأن الذي يحمله على ذلك إما حب النفس أو حب أمر من أمور الدنيا، سواء كان من الأشخاص أو من المعاني. ثم الأمن من مكر الله ومعناه: أن يتهاون بأمر الله ويستصغره ولا يهتم به، ولا يخاف من عقاب الله جل وعلا لو فعل ما نهى عنه، ولهذا يقال: إذا رأيت الإنسان مقيماً على المعصية وهو معافى فهذا هو الأمن من مكر الله، فيجب أن يكون الإنسان خائفاً مراقباً لربه جل وعلا، وإذا أمن مكره وقع في الكبيرة، وعكس هذا القنوط من رحمة الله وهو من الكبائر، وهو أنه يخاف خوفاً كبيراً ويقول: لا يغفر لي؛ لأني فعلت ذنوباً عظيمةً، فييأس ويقنط من رحمة الله، وهذا من إساءة الظن بالله جل وعلا، والله قد أخبر بأنه يغفر الذنوب جميعاً، وأنه إذا أراد أن يفعل شيئاً فلا يمنعه أحد، ولا يتعاظم الإنسان ذنباً من الذنوب فيبقى الباب أمامه موصداً، وهذا من تزيين الشيطان له ليهلكه، فيجب أن يرجع إلى ربه جل وعلا دائماً، ويعلم أن رحمة الله واسعة وسعت كل شيء، فيكون خائفاً من ذنوبه مراقباً لنفسه ألا تستمر على معصية وتتمادى عليها، ويكون عارفاً بفضل الله العظيم ورحمته وسعة مغفرته، فيكون بين هذا وهذا، ولا يصر على الصغيرة؛ لأن الاستمرار على الصغيرة يصيرها من الكبائر؛ لأن الله جل وعلا نهاه عن الذنوب مطلقاً، واستمراره على الذنب -وإن كان صغيراً- هو استسهالٌ للأمر واحتقار له فلذلك يصير كبيراً عند الله، أو أن الذنوب تتكاثر فإذا كثرت صارت كبيرة كما مثل الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (أكبر الكبائر الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله)، رواه عبد الرزاق]. قوله: (أكبر الكبائر الإشراك بالله) أي: في ربوبيته أو عبادته وهذا بالإجماع. قوله: (والقنوط من رحمة الله) قال أبو السعادات: هو أشد اليأس. وفيه التنبيه عن الرجاء والخوف فإذا خاف فلا يقنط ولا ييأس بل يرجو رحمة الله، وكان السلف يستحبون أن يقوي في الصحة الخوف، وفي المرض الرجاء، وهذه طريقة أبي سليمان الداراني وغيره، قال: وينبغي للقلب أن يكون الغالب عليه الخوف، فإذا غلب الرجاء الخوف فسد القلب, قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك:12]، وقال سبحانه وتعالى: {يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:37]، وقال: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:60 - 61] , وقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9]، وقدم الحذر على الرجاء في هذه الآية]. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل: الأولى: تفسير آية الأعراف. الثانية: تفسير آية الحجر. الثالثة: شدة الوعيد فيمن أمن مكر الله. الرابعة: شدة الوعيد في القنوط].

شرح فتح المجيد [92]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [92] الإنسان معرض للبلايا والمصائب، وأقدار الله تعالى نازلة على كل أحد، فيجب على المسلم تجاهها أن يتسلح بسلاح الصبر، وأن يعلم أنه عبد لله تعالى، يتصرف فيه كيف يشاء، وأن الدنيا فانية، فمن صبر ورضي فله الرضا والأجر والمثوبة من الله تعالى، ومن سخط فله السخط، والصبر أمر واجب، فمن تركه كان ناقص التوحيد، وهو معرض لعذاب الله تعالى.

باب: من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله

باب: من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله]. وجه مطابقة هذا الباب للكتاب: أن الصبر على القدر مأمور به وواجب، فمن تركه يكون ناقص التوحيد، فيبقى معرضاً لعذاب الله جل وعلا؛ لأن الذي ينقص كمال توحيده الواجب يكون قد ارتكب كبيرة. فمن لم يصبر على قدر الله فإنه قد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب، وقد يتمادى في هذا حتى يخرجه ذلك من التوحيد مطلقاً، كما يحصل لبعض الناس إذا أصيب بمصيبة: بفقر أو مرض أو موت قريب أو ذهاب مال أو ما أشبه ذلك، فيحمله ذلك على السخط على الله، وربما دعاه إلى السب والشتم، كما يقع من بعض ضعاف الإيمان الذين يستولي عليهم الشيطان فيخرجهم بذلك إلى الكفر، نسأل الله العافية.

توطين النفس على الصبر

توطين النفس على الصبر الإنسان في هذه الحياة معرض للبلايا والمصائب، ولابد لكل حي أن يصاب بمصائب, وكل حي سيموت ومن حوله، فيجب أن يوطن نفسه على أنه أولاً: عبدٌ لله جل وعلا يتصرف به كيف يشاء، وليس له من نفسه في نفسه تصرف فالتصرف لله. الثاني: أن يعلم أن هذه الدنيا لا قرار لها وأنها ستنتهي، وأن الشيء الذي يرضى به ويفرح به إما أن يذهب عنه ويزول، أو هو يتركه لغيره ولابد من ذلك، فهذا أمر عام, فيوطن نفسه على الصبر والاحتساب، وأن الشيء الذي كتبه الله لا بد أن يقع رضي أم سخط، فإن رضي أجر، والقدر سائر وماض، وإن سخط فله السخط وقدر الله جل وعلا لا بد من نفاذه.

أنواع الصبر ومعناه

أنواع الصبر ومعناه الصبر أقسام ثلاثة: قسم يكون على الطاعة، فيصبر الإنسان على الطاعة؛ لأن النفس قد تكون غير منقادة للطاعة، وقد تشق عليها بعض الطاعات فيحملها على هذا بالصبر. القسم الثاني: صبر عن المعصية؛ لأن المعاصي كثير منها تهواه النفوس وتريدها، فيحمل نفسه على الصبر فيصبر ويحبسها عن هذا الشيء، ويرجو بذلك الأجر من الله، فيصبر خوفاً من الله ورجاءً في ثوابه. القسم الثالث: الصبر على أقدار الله. إذاً: فالأقسام ثلاثة: صبرٌ على مأمور، وصبر عن محظور، وصبر على مقدور، ولا بد أن يقع الإنسان في هذه الأمور، فإن صبر فله الأجر والثواب، وإن لم يصبر فقدر الله ماض وعليه الوزر والعقاب. ثم الصبر مأخوذ من الحبس والمنع، ومنه الذي يقتل وهو محبوس -يحبس ثم يقتل- أو يمسك ثم يقتل، فيقال: قتل صبراً، أي: محبوس ليس له تصرف في نفسه. فالصبر معناه: الحبس على الشيء ومنع النفس منه، فيمنع نفسه من التفلت من الطاعة ويحملها عليها ويصبر على ذلك، أو يصبر نفسه عن المعصية ويمنعها. ويكون الصبر للقلب واللسان والجوارح، فالقلب لا يبغض ولا يكره بل يرضى ويسلم بقدر الله، واللسان لا يشتكي ولا يتكلم بالشيء الذي يسخط الله جل وعلا، والجوارح لا تلطم ولا تشق ولا تحثو التراب ولا تفعل فعلاً ينافي الصبر, فكل هذا يحملها على التسليم والطاعة والانقياد والرضا لله جل وعلا. والإنسان إما أن يفعل طاعة مأموراً بها، أو ينهى عن معصية، أو أن عنده نعمة ثم قد يفقد شيئاً منها، فيجب أن يصبر على الطاعة، ويصبر عن المعصية، ويصبر على ما قدر عليه.

جزاء الصبر

جزاء الصبر بالصبر ينال الأجر العظيم فإن الله جل وعلا يوفي الصابر أجره بغير حساب: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]؛ لأنه ليس كالحسنات الأخرى، فإنه قد ذكر الله جل وعلا أن من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وهذا عام، وفي بعض المواطن يكون له بالحسنة الواحدة سبعمائة حسنة، كما قال جل وعلا: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} [البقرة:261]، فهذه حبة واحدة أصبحت سبعمائة حبة، حسنة واحدة تصبح سبعمائة حسنة، وهذا في الإنفاق في سبيل الله، وكذلك سائر الحسنات تكون الحسنة فيه بسبعمائة، ولكن الصبر ليس فيه عدد، وإنما يعطى الصابر أجره بلا حساب، مما يدل على عظمه: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]، لا سبعمائة ولا ألف ولا ألفين وليس هناك عدد محصور. فإذا كان الله جل وعلا يقول: بغير حساب، فهو أمر عظيم جداً، فدل هذا على عظم الصبر وأنه جل وعلا يوفي الصابر جزاءه عظيماً بلا تقدير وعد, وهذا يجعل الإنسان يعرف أن أمر الصبر ليس سهلاً بل عظيم جداً، والسبب في هذا: أن الصبر يشق على النفوس مشقة لا يتحملها إلا من استشعر أمر الله وعرف قدر الله وقدر ثوابه وقدر عقابه، فرضي بأن يكون عبداً لله صادقاً، فيصبر ويعلم أنه بصبره ذلك في عبادة عظيمة، ولو لم يصبر لخسر ولا يؤثر عدم صبره في شيء, ثم إن الله جل وعلا أثنى على الصابرين في مواطن كثيرة من كتابه, جاء عن الإمام أحمد أن الله جل وعلا ذكر الصبر في تسعين موضعاً من كتابه، وجاء عن علي رضي الله عنه أنه قال: (الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد) فإذا ذهب الرأس فما الفائدة من الجسم؟! وقال عمر رضي الله عنه: (وجدنا أطيب عيشنا بالصبر) والواقع أن الصابر يكون معه ربه جل وعلا, ويدرك مراده بالصبر. وقد أخبر الله جل وعلا أن الإمامة تنال بالصبر: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [السجدة:24]، صاروا أئمة يقتدى بهم بالصبر، وكثيراً ما يقرن الصابر بأن الله معه: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153]، ومن كان الله معه فلا يضره شيء, ولكن الصبر يجب أن يكون لله جل وعلا وبالله ولن يحصل صبر إلا بالله جل وعلا: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ} [النحل:127].

أمر الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر

أمر الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر الرسول صلى الله عليه وسلم يؤمر بالصبر من أول الأمر، فإن أول ما أنزل عليه في تكليف الرسالة قوله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر:1 - 7]، فأمره بالصبر في أول الأمر؛ لأن الإنسان معرض لكل شيء ولاسيما الذي يحتاج إليه الناس، فإنه لابد أن يناله شيء ولاسيما الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فلابد أن يؤذى ولابد أن يتكلم فيه ولابد أن يعادى، فأمر بالصبر والتحمل لله جل وعلا, وليس لأجل الناس، ولهذا قال له: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر: 6]، وكثير من الآيات التي نزلت في مكة تأمره بالصبر، قال جل وعلا: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} [المعارج:5]، والصبر الجميل: هو الصبر بلا شكاية، يصبر ولا يشكو مما وقع فيه، أما إذا حصلت الشكوى والتوجع فليس صبراً جميلاً وإن كان صبراً ولكنه ليس بجميل، فيجب على العبد أن يقتدي بنبيه صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه امتثل أمر ربه جل وعلا.

لا إيمان لمن لا صبر له

لا إيمان لمن لا صبر له قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: باب: من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله. قال الإمام أحمد رحمه الله: ذكر الله الصبر في تسعين موضعاً من كتابه، وفي الحديث الصحيح: (الصبر ضياء) , رواه أحمد ومسلم. وللبخاري ومسلم مرفوعاً: (ما أعطي أحد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر). قال: عمر رضي الله عنه: (وجدنا خير عيشنا بالصبر) رواه البخاري. قال علي رضي الله عنه: (إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ثم رفع صوته فقال: ألا إنه لا إيمان لمن لا صبر له]. قوله: (ألا إنه لا إيمان لمن لا صبر له) هذا واضح، وذلك أن الطاعة تحتاج إلى صبر، والمعصية تحتاج إلى صبر، والمصائب تحتاج إلى صبر، فإذا كان الإنسان ليس عنده صبر خرج من الدين لأول وهلة، فلا بد أن يصبر ويكون صبره لله، أي: يحتسب صبره أنه طاعة لله جل وعلا يثيبه عليه، ولا يكون صبره كصبر البهائم لا يقصد من ورائه شيئاً، بل يصبر طاعة لله جل وعلا ورجاءً لثوابه، لا لأجل الدنيا ولا لنيل مراد معجل بل لله جل وعلا، فيصبر على طاعة ويصبر عن معصية ويصبر على أمر مقدر أصيب به، ومع صبره على المقدر عليه أن يعلم أنه من عند الله جل وعلا أن الله قدر ذلك عليه وأنه لا بد أن يمضي, ثم يسلم ويحتسب ولا يتضجر ولا يشكو ربه لمخلوق؛ فإنه إذا شكا لمخلوق وقال: لقد أصبت بكذا وكذا فمعنى ذلك أنه يشكو من يرحمه إلى من لا يرحمه، يشكو من بيده أزمة الأمور كلها إلى ضعيف مسكين ليس عنده شيء، وهذا دليل على عدم الصبر ودليل على عدم الرضا، وإن كان عنده صبر فإنه ناقص وليس صبراً كاملاً, أما إذا خرج من ذلك إلى التسخط ووجدته يقول: أنا ما عملت عملاً أستحق به هذا الواقع الذي أنا فيه! فإن معنى ذلك أنه يرى أن ربه ظلمه وأن حكمه جائر، فيكون بذلك خارجاً من الدين الإسلامي نهائياً، نسأل الله العافية. فيضحك عليه الشيطان ويخرجه من الدين الإسلامي بكلمات يسيرة، أو يزين له في قلبه سخط القضاء والتضجر منه وبغضه وكراهته، وإن كان يتكلم به بينه وبين نفسه ولم يكلم الناس بذلك.

أقسام الناس عند المصائب

أقسام الناس عند المصائب ولهذا فإن الناس ينقسمون عند المصائب إلى قسمين: قسم تزيده قوة وإيماناً وخيراً وحسنات، وهو الذي يعلم أنها بقدر الله ثم يصبر ويرضى بذلك ويسلم، هذا يزداد بها خيراً وتكون المصيبة خيراً له من عدمها. الثاني: من يخرج بالمصيبة إلى كفر أو إلى معصية عظيمة، بأن يسخطها ولا يصبر ويتضجر، أو أن يسخط ذلك ويعترض على ربه جل وعلا، ومعلوم أن أفعال الله جل وعلا كلها خير، ولا يجوز أن ينسب إلى الله شر بحال من الأحوال، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (والشر ليس إليك) , فكل مصيبة يصاب بها الإنسان فهي من جراء فعله: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]، وأما قول الله جل وعلا عن الكفار: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} [النساء:78] , ثم قال جل وعلا: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء:78]، ثم قال: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79]، المقصود هنا بالسيئة: الشيء الذي يسوء الإنسان: من فقده لولدٍ أو فقده مالاً أو انتصار عدو عليه أو ما أشبه ذلك, والمقصود بالحسنة هنا: الشيء الذي ينفعه عاجلاً، كرزق عاجل أو صحة في بدنه أو يرزق ولداً أو نصراً وتأييداً، أو ما أشبه ذلك من الأمور الظاهرة، هذا هو المقصود بالحسنة والسيئة في الآية. وقوله: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء:78]، لا يعارض قوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79]؛ لأن قوله: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء:78]، أي: كله مقدر من الله جل وعلا تقديراً وجزاءً، وأما سببها فهو إما طاعة وإما معصية، إن كانت حسنة فسببها الطاعة، والله جل وعلا هو الذي تفضل على العبد وزين في قلبه الإيمان وكره إليه المعصية فعمل الطاعة فكان فضلاً، ثم جاء جزاؤها فصار فضلاً آخر، وهذا كله من الله، وأما إذا كانت سيئة (مصيبة) فإن سببها المعصية وهي من الله جزاءً، وجزاء السيئة عدل، فكون المسيء يجزى على سيئته هذا عدل وحكم حق. وأما إذا كانت مصائب لا دخل للإنسان في ظاهر نظره فيها، فإنها لابد أن يكون لها أسباب، فإن لم يكن لها أسباب ظاهرة فلها أسباب الله يعلمها، والإنسان قد يخفى عليه، فإن قدر أن الإنسان مطيع فأصيب بمصائب، فإنه لا يخلو إما أن تكون له درجة عند الله رفيعة لا يصلها بعمله، فيصاب بهذه المصيبة حتى ترفع درجته بذلك إذا رضي وسلم واحتسب، أو يكون هو من الجاهلين الذين لا يعرفون ما للمعاصي وما حق الله جل وعلا. ومعلوم أن الإنسان لا يستطيع أن يؤدي حق الله على الوجه الأتم المطلوب، مهما أوتي من المقدرة والعبادة والقوة، ولكن الله جل وعلا يقبل اليسير إذا صدق العبد، ويعفو عن الذنب الكبير، فإذا استشعر الإنسان هذه الأمور يهون عليه الأمر ويتسلى بالصبر، فالله جل وعلا جعل الصبر مسلاة لعباده المؤمنين، يصبرون حتى يجعل الله جل وعلا لهم الفرج مما هم فيه، وقد أخبر جل وعلا أن الصبر فيه خير كثير، وأنه ما صبر وصابر إنسان إلا حمد عاقبة صبره، وأن مع العسر يسرين؛ لأنه قال جل وعلا: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح:5 - 6]، فجاء بالعسر معرفاً بـ (أل)، واليسر منكراً مرتين، فالمعرف هو واحد، أما اليسر فإنه يسران، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يغلب عسر يسرين) وهذا في كل الأمور. قال رحمه الله: [واشتقاقه من صبر: إذا حبس ومنع، والصبر: حبس النفس عن الجزع، وحبس اللسان عن التشكي والتسخط، والجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب ونحوهما، ذكره ابن القيم رحمه الله. واعلم أن الصبر ثلاثة أقسام: صبر على ما أمر الله به، وصبر عما نهى عنه، وصبر على ما قدره من المصائب].

أقدار الله جل وعلا تقع بمشيئته وحكمته

أقدار الله جل وعلا تقع بمشيئته وحكمته قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقول الله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن:11]]. قوله: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11]، قبلها أول الآية: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} [التغابن:11] يعني: بأمره ومشيئته، كل مصيبة تقع فقد شاءها الله جل وعلا وقدرها وكتبها، فمن آمن بأنها من عند الله وبقدره ثم صبر وسلم، ولم يعترض على المقدور، بل رضي بفعل ربه وقال: أنا عبد لله جل وعلا وإنا لله وإنا إليه راجعون، فإنه يهدي قبله، يعوضه هداية القلب، وهداية القلب بأن يجعل قلبه يحب الخير ويطلبه ويكره الشر ويبغضه ويبتعد عنه، فيزداد إيماناً مع إيمانه وعملاً صالحاً يكتسب به رضا ربه جل وعلا. ومعنى ذلك: أن الإيمان هنا ذكر بفضل العمل: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} [التغابن:11]، و (من مصيبة) هنا نكرة تعم أي مصيبة: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ)، يؤمن أن هذه المصيبة من عند الله تقديراً ومشيئةً وإرادةً، وأنه لابد منها، (يهدِ قلبه) فسر ذلك بالرضا والصبر، والرضا والصبر عمل، فدخل العمل في الإيمان، وهذا أمر واضح، ولهذا فإن هذه الآية من أظهر ما استدل به العلماء على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، كما هو مذهب أهل السنة، والآيات والأحاديث في هذا كثيرة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأول الآية: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} [التغابن:11] قال ابن عباس بأمر الله. يعني: عن قدره ومشيئته، أي: بمشيئته وإرادته وحكمته، كما قال في الآية الأخرى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22]]. هذه الآية: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22] أي: أن هذا شيء مكتوب ومفروغ منه، والضمير هنا في (نبرأها) يعود على النفس المصابة، أي: قبل أن تخلق وتوجد كتب عليها ذلك، ولابد من وقوعه، فإذا علم الإنسان ذلك يتسلى به ويصبر ويحتسب. ومعلوم أن الله جل وعلا علام الغيوب، وفي الحديث الصحيح: (أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة)، وهذا قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، كما في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كتب الله مقادير الأشياء قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء)، فكل شيء يقع صغيراً أو كبيراً حتى سقوط القلم من يد الإنسان، بل حركة أصابعه، بل حركة عروقه ونبضها مكتوب ومقدر، فكل شيء مكتوب قبل وجوده، وكل شيء فإنه مكتوب ومفروغ منه، والإيمان بهذا من أركان الإيمان التي لا يصح إيمان الإنسان إلا بها، ولابد منه. ثم يضاف إلى هذا أن الإنسان يجب أن يؤمن بأن الله هو الخالق وحده، وليس معه متصرف لا العبد ولا غيره، فهو الذي يصرف العبد، ويقدر عليه ما يشاء، وهو الذي كل كائنة تقع في الكون فبإذنه وأمره، ويضاف إلى هذا أيضاً أنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، لابد أن يعلم هذا، ويضاف إلى هذا أيضاً: أن العبد عبدٌ لله، يجب أن يكون ممتثلاً، وأنه تجب عليه أحكامه وأقداره، وليس خارجاً عن ذلك، إما أن يكون عبداً طوعاً أو يكون عبداً قهراً، حتى وإن تمرد وأبى فلا يخرجه ذلك عن كونه عبداً، كما قال جل وعلا: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} [مريم:93]، يعني: ذليلاً خاضعاً مقهوراً ليس له من نفسه تصرف، فإذا عرف هذا واستسلم وانقاد طائعاً صار عبداً حقيقة؛ لأن العبد ينقسم إلى قسمين: عبد بمعنى عابد أي: صدرت منه العبودية، وهذا هو الذي ينفع ويفيد، وعبد بمعنى معبّد مقهور مذلل مسخر، وهذا على الخلق كلهم الكافر والمؤمن والبر والفاجر، فيختار الإنسان أحدهما: إما أن يكون ممن تجري عليه الأقدار وهو مأزور ومقهور، أو ممن تجري عليه الأقدار وهو مأجور ويكون مطيعاً عبداً لله جل وعلا.

الرضا والتسليم بأقدار الله تعالى

الرضا والتسليم بأقدار الله تعالى قال المصنف رحمه الله: [وقال: {وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155 - 157]. قوله: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11]، أي: من أصابته مصيبة فعلم أنها بقضاء الله وقدره فصبر واحتسب جازاه الله بهدايته قلبه التي هي أصل كل سعادة وخير في الدنيا والآخرة، وقد يخلف الله عليه في الدنيا ما كان أخذه، أو خيراً منه. قوله: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن:11]، تنبيه على أن ذلك إنما يصدر عن علمه المتضمن لحكمته؛ وذلك يوجب الصبر والرضا. قال المصنف رحمه الله تعالى: قال علقمة: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم. هذا الأثر رواه ابن جرير وابن أبي حاتم، وعلقمة هو ابن قيس بن عبد الله النخعي الكوفي، ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وسمع من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسعد وابن مسعود وعائشة وغيرهم، وهو من كبار التابعين وأجلائهم وعلمائهم وثقاتهم، مات بعد الستين. قوله: (هو الرجل تصيبه المصيبة إلخ)، هذا الأثر رواه الأعمش عن أبي ظبيان قال: كنا عند علقمة، فقرئ عليه هذه الآية: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11]، قال: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم. هذا سياق ابن جرير وفي هذا دليل على أن الأعمال من مسمى الإيمان. قال سعيد بن جبير: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11]، يعني: يسترجع يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون. وفي الآية بيان أن الصبر سبب لهداية القلوب، وأنها من ثواب الصابر]. في قول الله جل وعلا: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11]، قوله: (ما أصاب من مصيبة) عموم، أي: ما يخرج عنه من شيء صغيراً أو كبيراً، كل مصيبة تقع للإنسان فهي بإذن الله، أي: بمشيئته وإرادته وتقديره، بمعنى: من الإيمان أن يؤمن أنه شيء مقدر، وأنه لا محيد للإنسان عنه، وأن الله جل وعلا قد كتبه قبل وجود هذا المخلوق الذي أصيب بالمصيبة. وقوله: (فيرضى ويسلم) يعني: يرضى بالمقدر له، والرضا عند كثير من العلماء ليس واجباً، وإنما الواجب التسليم والصبر، أن يسلم ويصبر، دون الرضا، فهذا صعب، كأن يكون الإنسان في مرض أو أصيب بمصائب فيرضى بتلك المصائب، فكونه يلزم بالرضا هذا لا يصل إليه إلا أفذاذ من الناس، ولهذا الذي جاء في النصوص الثواب على الرضي وليس على العمل، بخلاف الصبر فإن الصبر جاء الأمر به، مما يدل على أنه واجب لابد منه، أما كون الإنسان يرضى بالمصيبة فهذه درجة فوق الصبر، وهي درجة لا يصل إليها إلا الكمل من عباد الله جل وعلا. أما التسليم فكونه لا يعترض ولا يتسخط، بل يعلم أنه ملك لله، وأنه ما أصيب بشيء إلا بذنب اقترفه من جراء ذنوبه، وأن المصيبة رحمةٌ من الله جل وعلا يشكره عليها، حيث إنه يكفر عنه بها من خطاياه، كما سيأتي: (إن الله إذا أراد بعبده خيراً عجل له العقوبة حتى يخفف عنه، وإذا أراد به شراً أخر عنه العقوبة حتى يوافي يوم القيامة بجميع ذنوبه، فيكون جزاؤه في ذلك اليوم). معلوم أن كل قضية تقع وتنتهي الصبر فيها سهل، ليس كأمر الآخرة، والله جل وعلا لن يرضى أن تكون الدنيا محلاً لعقاب أعدائه، فإنه يؤخرهم، ولن يرضى أن تكون الدنيا محلاً لجزاء أوليائه، بل تصيب منهم ويبتلون، وأشد منهم بلوى الأنبياء، ثم الأمثل، ثم الأمثل، كما جاء نص ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه إذا كان الإنسان في دينه صلابة زيد من بلائه، فلهذا إذا تأمل الإنسان ماذا حدث للرسل ولأولياء الله يتبين له أن المصائب لا يصبر الإنسان عليها فحسب، بل ينبغي أنه إذا أصيب بشيء أن يفرح به؛ لأنه إما عقوبة لذنب معجلة وتنتهي، ويكون كفارة له، أو يجزى عليه الثواب وثواب الله يصل إليه. وقد اختلف العلماء هل يوجد جزاء في المصائب؟ أم أنها مجرد كفارات لما يقع منه؟ ويكفي أن تكون كفارة. فكونه يرضى ويسلم أمر قد لا يتحصل عليه، وقد لا يصل إليه أكثر الناس لصعوبته؛ إذ كيف يرضى بالمصيبة؟ لأن الرضا قد يكون مرتبطاً بالشيء الذي هو فيه إما مرض وإما مصيبة أو غير ذلك، ولكن الصبر لابد منه، والتسليم كذلك، وهو أن لا يعترض على القضاء والقدر.

الحزن عند المصائب لا ينافي الرضا والتسليم

الحزن عند المصائب لا ينافي الرضا والتسليم وليس الرضا كونه إذا مات له ميت أو أصيب بمصيبة يفرح بهذا ويضحك لذلك، فبكاء العين وحزن القلب هذا أفضل من كونه لا يبكي ولا يحزن، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما توفي ابنه إبراهيم بكى ودمعت عيناه، فالبكاء يكون في العين لا من الصوت فقيل له: ما هذا؟ فقال: (هذه رحمة جعلها الله جل وعلا في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء). وكذلك ما ثبت في الحديث الذي في الصحيحين: لما ذهب إلى إحدى بناته وعندها ابن في سكرات الموت، وقد شخصت عيناه ونفسه تقعقع -كأنها شن يقلبه الهواء من شدة جلبه لنفسه- ففاضت عيناه صلى الله عليه وسلم، فقال له سعد: ما هذا يا رسول الله؟ فمعنى (فاضت) صارت تذرف دمعاً، وقد سمع أنه ينهى عن البكاء، قال: ما هذا؟ يعني: أنك كنت تنهانا عن البكاء، فقال: (هذه رحمة جعلها الله جل وعلا في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء)، وجاء في الحديث الآخر: (إنما نهيت عن صوتين فاجرين أحمقين: صوت عند مصيبة، وصوت عند نعمة)، فصوت اللسان ندب أو دعوى الويل، وكذلك ضرب شيء من البدن إما الوجه أو الفخذ أو الصدر، وكذلك شق الثياب ونحوه، فهذا هو المنهي عنه الذي هو من عمل الشيطان، أما كون الإنسان يحزن قلبه، وتذرف عيناه، فهذا لا ينافي الصبر، ولا ينافي التسليم، وإنما يفعل ذلك لأن هذا المسكين الذي وقع في شدة حالة الموت، ثم يستقبله القبر بظلمته ووحشته وسؤاله وفتنته، فيرحم الإنسان من أجل ذلك، ويبكي عليه من أجل هذا، وتذرف العين من أجل ذلك، وليس لحظ فاته منه، فإن كان يبكيه لأجل حظ نفسه فإن هذا منهي عنه، وإنما يبكى عليه رحمةً له. وكذلك كونه يحزن عليه القلب، والحزن هذا شيء فات وانتهى، أما الخوف فهو في أمور مستقبلة، ولهذا فإن الملائكة إذا حضروا عند المؤمن لوفاته يقولون: لا تخف ولا تحزن، فالشيء الذي أمامك لا تخف منه فإنك آمن، يطمئنونه في ذلك؛ لأن الحزن يكون على الشيء الذي فات وهو في أمور الدنيا، فيقولون: الشيء الذي تركته وخلفته من مال وأولاد ومشاكل وغيره لا تحزن عليه، فإن أمامك ما هو خير. والمقصود: أن الصبر أمر واجب، وحق لابد منه، فرض على الإنسان أن يصبر عند المصائب، فإن لم يصبر فإنه آثم، وسوف تمضي المصيبة وإن كان جازعاً، ولا يفيد جزعه شيئاً، وإنما يكتسب بجزعه العقاب ويفوته الثواب، وإن صبر وسلم واحتسب اكتسب الأجر، واكتسب رضا ربه جل وعلا، وانقاد لأمره، وربما يخلف الله جل وعلا عليه أفضل مما ذهب. لما مات أبو سلمة كانت زوجته أم سلمة قد سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من أصيب بمصيبة فاسترجع وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أؤجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها) سمعته يقول هذا فقالت هذا القول، ثم قالت في نفسها: ومن يكون خيراً من أبي سلمة؟ فجاءها رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي هو خير من أبي سلمة ومن غيره، فهكذا الإنسان إذا سلم وانقاد وصبر، وامتثل أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، ربما يخلف عليه ما هو خير، وسلم من الشيء الذي أصيب به.

الأمر بالصبر والرضا يدل على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان

الأمر بالصبر والرضا يدل على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان قوله: (إن هذا يدل على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان) وذلك لأن الصبر والتسليم عمل، فيحبس لسانه عن التشكي وجوارحه عن اللطم أو الشق أو ما أشبه ذلك، فهذه من أعمال الجوارح لا من عمل القلب، فهذا دليل واضح على أن الأعمال داخلة في الإيمان؛ لأنه قال: (فمن يؤمن) يعني: يؤمن بالصبر ويسلم، وكذلك إذا أمكن أن يرضى فهو صبر عظيم، وعلى كل: الرضا ليس واجباً على القول الصحيح. وكذلك قول سعيد بن جبير أنه قول: إنا لله وإنا إليه راجعون، هذا أيضاً دليل على أن العمل يدخل في مسمى الإيمان؛ لأنه قال جل وعلا: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ} [التغابن:11]، فهو يقول: الإيمان بأنه قول: إنا لله وإنا إليه راجعون، ويفسره بأنه الرضا والصبر والتسليم، وسواء قلنا هذا أو هذا. والصواب أن كله داخل في هذا، فيكون دليلاً واضحاً على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، بمعنى: أن الإيمان يكون تصديقاً وعلماً وقولاً وعملاً، ومجموع هذه هو الإيمان. وبعبارة أخرى نقول: يكون الإيمان مركباً من أمور ثلاثة: من التصديق والعلم، ومن القول الذي هو قول اللسان، ومن العمل الذي هو عمل الجوارح، فالمجموع كله هو الإيمان، فيكون الإيمان مركباً من أجزاء ثلاثة، وكل واحد من هذه الأجزاء ركن من هذه الأركان، وليس هذا -مثلاً- من لوازم الإيمان كما يقوله بعض العلماء؛ لأن اللازم غير الركن. هذا هو قول أهل السنة وهو الصواب، خلافاً لقول أهل البدع: أن الإيمان إما عقيدة قلب -تصديقه- أو أنه العلم، أو أنه مجرد التصديق. وعلى كل: لا يجوز أن يكون هذا هو تعريف الإيمان؛ لأن الإيمان دخل فيه كل الأعمال التي أمر بها، كالصلاة والصوم والزكاة والحج وغيرها، فهذه من الإيمان، فقد دخل فيه كل عمل يعمله الإنسان يرجو به ثواب الله جل وعلا، وكل ترك يتركه الإنسان خوفاً من الله ومن عواقبه، فالدين كله هو الإيمان. ومعلوم أن الدين فيه أعمال القلوب التي منها: الخوف والخشية والإنابة والرجاء وما أشبه ذلك، وهذا كثير، وعمل اللسان مثل: الذكر والتلاوة والتكبير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنه عمل الأركان، مثل كونه يصلي أو يبذل المال، أو يعين أخاه المسلم على عمل من الأعمال، أو يزيح شيئاً يؤذي المسلمين من الطرق أو غيرها، ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)، ومعلوم أن قول لا إله إلا الله هو عمل اللسان، وإماطة الأذى عن الطريق فعل الجوارح، ومعلوم أن الخشية والإنابة والرجاء والخوف داخل في ذلك الإيمان، والتصديق بما جاء عن الله ورسوله، وهذا هو الذي يتبعه أهل السنة دون أهل البدع، وهو الذي دلت عليه النصوص من القرآن ومن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وسيرته ودعوته، والأمر واضح وجلي والحمد لله، وليس فيه خفاء.

شرح حديث: (اثنتان في الناس هما بهم كفر)

شرح حديث: (اثنتان في الناس هما بهم كفر) قال المصنف رحمه الله تعالى: [وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت)].

معنى الكفر الوارد في الحديث

معنى الكفر الوارد في الحديث معنى الحديث: أن هاتين الخصلتين قائمتان في الناس، وأنهم لا يتركونهما، وهما من خصال الكفر، وقوله: (هما بهم كفر)، يعني: أن هذا الشيء من خصال الكفر، ومن قامت به خصلة منها ففيه خصلة من خصال الكفر، ومن قامت به الثنتان ففيه خصلتان من خصال الكفر، ولا يلزم أن يكون كافراً؛ لأن الذي يكون عنده خصلة من خصال الكفر أو فصلتان لا يلزم أن يكون كافراً خارجاً عن الدين الإسلامي، وإذا قيل: (كفر) بالتنكير فهذا يدل على أن هذا الفعل نفسه يسمى كفراً وليس الذي قام به يسمى كافراً، بل فعل هذا الشيء كفر، أي: أنه من خصال الكفر، بخلاف ما إذا قال الكفر، فإن هذا يدل على أنه كافر خارج عن الدين الإسلامي، كقوله صلى الله عليه وسلم: (بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة)، فإذا ترك الصلاة يكون كافراً، هذا الكفر الذي يخرج من الدين الإسلامي، فإذا ورد بـ (أل) فمعنى ذلك أنه كفر حقيقي مخرج من الدين الإسلامي، أما إذا جاء لفظ الكفر منكراً، فمعنى ذلك أنه قام به شيء من أمور الكفر فقط وليس كافراً. ويجب أن يترك هذا الشيء، ولا يقتضي ذلك أنه يكون معذباً على ذلك، بل يجوز أن يثاب عليه، وأن تكون له حسنات تمحو هذا الكفر، ويجوز أن الله يعفو عنه بدون توبة؛ لأنه من الأمور التي تعترض الناس، ولكنه كبيرة.

الطعن في النسب

الطعن في النسب أما الطعن في النسب فمثل أن يقول: فلان ليس أبوه فلاناً، أو أن يقول مثلاً: فلان وضيع النسب، وفيه كذا، فطعن في نسبه؛ لأن هذا من أمور الجاهلية، والإسلام جاء بالتعاليم التي ترضي الجميع، قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] بغض النظر عن الشعوب والقبائل والأصحاب، فلان من قبيلة كذا وفلان من قبيلة كذا فمن كان أتقى لله فهو الكريم عند الله، بغض النظر عن النسب واللون، وعن الانتماء إلى طائفة معينة أو غيرها. وكذلك الطعن في الأشخاص أنفسهم هو من أمر الجاهلية الذي هو كفر، كونه يطعن فيه بأنه قصير أو دقيق أو بأن فيه آفة أو ما أشبه ذلك، هذا لا يجوز، وهو داخل في النهي الوارد في الحديث. وكذلك في أي شيء لا دخل للإنسان فيه، فإنه في الواقع يعيب ربه ولا يعيب الإنسان؛ لأن الإنسان لا دخل له في ذلك، فمثلاً إذا قال: هذا وجهه طويل، وهذا وجهه دقيق، وهذا وجهه عريض، أو خشمه طويل أو أعور أو فيه كذا فإن هذا عيب لمن أوقع ذلك به تعالى وتقدس، فلا يجوز، بخلاف ما إذا كان هذا من باب التعريف فقط، كأن لا يعرف إلا بذلك، كقولهم: الأعمش أو الأعرج للذي يعرف بهذا الشيء، ويؤتى ذلك للتعريف لا للعيب، أما إذا ذكر للعيب فهو ذنب، وقد يكون كبيراً حتى وإن كان إنساناً مثلاً مستقيماً، وفيه ميول إلى المعاصي، فإنه لا يطلق التهم والعيب على البناء، وإنما يوجه العيب على من بناه. كذلك ابن آدم هو من مخلوقات الله جل وعلا، فهو الذي خلقه وأوجد فيه هذه الأمور، ولا يجوز الطعن على الناس في هذه الأمور، وإنما يطعن عليهم في أعمالهم التي يفعلونها باختيارهم وبإرادتهم ومقدراتهم، فلابد أن يحاسب الإنسان على عمله وفعله، فيطعن عليه بذلك أو يثنى، إما أن يمدح ويثنى عليه، أو يعاب عليه بعمله الذي يصدر منه، أما خلْقه فلا دخل له فيه، فهذا من الله جل وعلا. وكذلك النسب: الأصل أن كل الناس أبناء رجل واحد، وهذا الرجل خلق من تراب كما أخبر الله جل وعلا، ومعلوم أنهم يتفاوتون بالأعمال، فمن كان عمله أحسن وأتقى لله فهذا هو الكريم عند الله جل وعلا، وإلا ففيهم المؤمن والكافر والشيطان وفيهم النبي، والإنس فيهم شياطين كثيرون، ففيهم دعاة جهنم الذين جندهم الشيطان للدعوة إلى أن يكونوا معه في جهنم، وفيهم ضيوف الرحمن الدعاة إلى الخير والإيمان، وإلى عبادة الله، وإلى الجنة إلى جواره جل وعلا، فالتفاوت بالأعمال فقط وليس بالخلْق؛ لأن الخلق إلى الله.

النياحة على الميبت

النياحة على الميبت أما النياحة فهي النياحة على الميت، كرفع الصوت، وتعداد محاسن الميت؛ تأسفاً على الشيء الذي فاته منه، وهذا الأمر معروف في الجاهلية وعند العرب، وقد يكون عن غيرهم أيضاً معلوماً، وهو مضاف إلى أنه من الكفر؛ لأنه في الواقع تسخط لقضاء الله، ولأنه رد لحكمه؛ لأنه رد الشيء الذي حكم الله به وقضاه، فيكون هذا جوراً وظلماً. وأحياناً يضيف الناس هذا الجور إلى الزمن والدهر، وإلى الأيام والليالي؛ وذلك لأنهم لا يستطيعون أن يضيفوه إلى رب العالمين؛ لأنه كفر ظاهر جلي، فذهبوا يضيفونه إلى الزمن، والنتيجة واحدة، ولهذا ثبت في الصحيحين أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله جل وعلا: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر، وأنا الدهر أقلب ليله ونهاره)، يسب الدهر كأن يقول: إن الدهر أصابنا بكذا وكذا فالحقيقة أن الدهر ظرف لما يقع فيه فقط، فهو مدبر مخلوق مصرف، وإذا سُبَّ المخلوق المأمور فإن السب يرجع إلى خالقه وآمره، ولهذا سماه أذية فقال: (يؤذيني ابن آدم)، فلا يجوز للعبد أن يؤذي ربه تعالى وتقدس، والله جل وعلا يتأذى من أفعال الناس؛ لأن الأذى هو الشيء الخفيف الذي لا يضر، مثل أن يسمع كلاماً سيئاً فهذا يؤذي ولكن لا يضر، ولهذا أخبر الله جل وعلا أن الكفار إذا سبوا المؤمنين وشتموهم أنه لا يضرهم ذلك، وإنما هو أذى يسمعونهم أذية فقط، والأذى هو ما خف أثره وضعف، أي: يكون أثره ضعيفاً وخفيفاً بخلاف الضر؛ لأنه لا أحد يضر الله جل وعلا مهما عمل من الأعمال، ومهما عمل من الكفر والمعاصي. فالنياحة صارت كفراً من أجل أنها تسخط لقضاء الله، ورد لحكمه؛ ولأجل أنه تضاف النعم التي يسديها الله جل وعلا إلى ضعيف لا يتصرف ولا يستطيع أن يفعل شيئاً، فهم يقولون: وا جذلاه! وا عضداه! وا ناصراه! وا كذا وا كذا يقولونه للميت، وليس هو كذلك فيكون هذا هو النياحة. كذلك كونه يفعل شيئاً مع رفع الصوت، وكله من عمل الشيطان، ولهذا سماه كفراً، وهو كما سبق إذا كان هذا فيه فلا يدل على أنه كافر، فإن الكافر قد يوجد فيه خصلة من خصال المؤمنين ولا يكون مؤمناً، أو يوجد فيه أكثر من خصلة كخصلتين أو ثلاث أو أكثر من خصال الإيمان مثل الصدق والإحسان إلى الغير، وكذلك المؤمن إذا وجد فيه شيء من خصال الكفر فلا يلزم أن يكون كافراً. فهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (هما بهم كفر)، يعني: كفر قائم بهم، ولا يخرجهم هذا الكفر عن دينهم، ولكن يضرهم ذلك؛ لأنهم يعاقبون عليه. قال المصنف رحمه الله: [أي: هما بالناس كفر، حيث كانتا من أعمال الجاهلية، وهما قائمتان بالناس، ولا يسلم منها إلا من سلمه الله تعالى، ورزقه علماً وإيماناً يستضيء به، ولكن ليس من قام به شعبة من شعب الكفر يصير كافراً الكفر المطلق، كما أنه ليس من قام به شعبة من شعب الإيمان يصير مؤمناً الإيمان المطلق]. إذا قال العلماء: الإيمان المطلق، فيقصدون جميع الإيمان الكامل، بخلاف ما إذا قالوا: مطلق الإيمان، فمطلق الإيمان يعني: مسماه فقط، ولا يلزم أن يكون كاملاً، بل قد يكون ناقصاً، فالإيمان المطلق هو الذي من قام به منعه من فعل المعاصي ومنعه من ترك الواجبات، فلا يقترف كبائر ولا يترك واجبات إذا كان إيمانه الإيمان المطلق أي: الكامل؛ لأن إيمانه يمنعه من ذلك، وهذا هو الفرق بين مطلق الإيمان والإيمان المطلق، فيقصد بالإيمان المطلق: الكامل، أما إذا قال: مطلق الإيمان، فهذا لا يلزم أن يكون كاملاً، بل إيمانه ناقص يصاحبه ذنوب، ويصاحبه ترك واجبات. قال: [وفرق بين الكفر المعرف باللام كما في قوله: (ليس بين العبد وبين الكفر أو الشرك إلا ترك الصلاة)، وبين كفر منكر في الإثبات. قوله: (الطعن في النسب) أي: عيبه، ويدخل فيه أن يقال: هذا ليس ابن فلان مع ثبوت نسبه. قوله: (والنياحة على الميت) أي: رفع الصوت بالندب، وتعداد فضائل الميت؛ لما فيه من التسخط على القدر المنافي للصبر، كقول النائحة: وا عضداه! وا ناصراه! ونحو ذلك. وفيه دليل على أن الصبر واجب، وأن من الكفر ما لا ينقل عن الملة].

شرح فتح المجيد [93]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [93] الصبر على المصائب والأقدار أمر واجب، ومن لم يصبر فقد ترك واجباً من الواجبات، وهناك أعمال تنافي الصبر، ومن فعلها فهو غير صابر، منها: ضرب الخدود، وشق الجيوب، والدعاء بدعوى الجاهلية عند حلول المصائب، أما البكاء والحزن الذي لا يصاحبه شيء من ذلك فلا بأس به، ومن فعله فهو غير آثم.

قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من ضرب الخدود)

قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من ضرب الخدود) قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولهما عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً: (ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية)]. هذا من الصيغ التي تدل على أن هذا الفعل كبيرة من كبائر الذنوب، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا)، والمقصود: منا نحن المسلمين، ثم لا يدل هذا على أن من فعل هذا الفعل يكون خارجاً من المسلمين، ويكون كافراً؛ لأن هذا من باب الوعيد، ونصوص الوعيد يجب أن تبقى على ما هي عليه دون تأويل؛ لأن التأويل يضعف من شأنها، ويقلل مما وضعت له، كما يفعله أكثر الشراح، فيؤولونها ويقولون: لابد من تأويلها، ولكن معلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما أراد بمثل هذا أنه يكون كافراً، إنما أراد الوعيد على ذلك، فهذا يدل على أن من فعل ذلك مرتكب كبيرة من كبائر الذنوب يجب أن يتوب منها.

ضرب الخدود عند المصيبة

ضرب الخدود عند المصيبة قوله: (ليس منا من ضرب الخدود)، هذا عند المصيبة، والعادة أن أهل الجاهلية إذا أصيب أحدهم بمصيبة أنه يلطم وجهه، وقد يكون الخد، وقد يكون الرأس، وقد يكون الصدر، وقد يكون غير ذلك، وهذا كله داخل في هذا، إذا أصبح يضرب وجهه أو رقبته أو ظهره أو بطنه أو رأسه عند المصيبة فإن هذا يدل على الجزع والتسخط، وهذا من الكبائر، فإن الإنسان مأمور بالصبر في مثل هذا، فيمنع يده عن الضرب، ويمنع لسانه عن الكلام الذي لا يرضي الله، وكذلك يمنع قلبه أن يتسخط على ربه جل وعلا، بل يصبر ويعلم أنه ملك لله، وأن الذي أخذه الله منه هو الذي أعطاه، ولهذا كان السلف الصالح يعملون هذه الأعمال؛ لأنه جاء عن أبي طلحة رضي الله عنه أنه كان له ابن مريض، فكان يشتد به المرض، وكان له زوجة صالحة، فخرج وهو مريض، وعند خروجه مات، فجاء إلى بيته فسأل زوجته: ما فعل ولدي؟ قالت: هو أهدأ مما كان، وهيأت له الطعام، وتعرضت له حتى أصاب منها، فلما رأته قد اطمأن قلبه قالت: أرأيت لو كان عندك وديعة لإنسان أودعك إياها، ثم طلبها منك هل تمنعه؟ قال: لا، لا يجوز ذلك، فقالت: إذاً احتسب ولدك، فقال: فعلت كذا وفعلت كذا ولما رأيتيني تلطخت بك أخبرتني! فلما علم الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك قال: (بارك الله لكما في ليلتكما)، إلى آخر القصة. المقصود: أن الرضا بالمصائب والتسليم بذلك شأن المؤمن، وليس شأن المؤمن أن يلطم وجهه أو يقول قولاً لا يرضي الله، أو يتسخط قلبه، وليس الحزن والبكاء داخلاً في هذا، فإن البكاء قد لا يملكه، وحزن القلب قد لا يملكه الإنسان فهو غير ملوم عليه، بل قد يثاب على دموع عينه، وكذلك حزن قلبه يثاب عليه، ولكن الذي يعاقب عليه هو الصوت والندب والتسخط، والأفعال التي تدل على الاعتراض والتسخط والتوجع من هذا الشيء.

شق الجيوب عند المصيبة

شق الجيوب عند المصيبة وكذلك شق الجيوب، والجيب: هو الفتحة التي يدخل منها الرأس كما هو معروف، والعادة عن الجاهلية أن أحدهم إذا أصيب بمصيبة شق جيبه حتى ينشق ثوبه، وسواء فتحه فتحة كاملة أو بعضه فكله داخل في هذا، داخل في أنه ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب. وكذلك لو شق غير الجيب جزعاً من ثوب أو غيره مما كان يلبسه، أو رمى به في الأرض جزعاً من هذا، فإنه يكون داخلاً في ذلك. والمقصود: أنه لا يجوز أن يفعل فعلاً يدل على التسخط، سواء فعله في بدنه، أو فعله في ثيابه أو في غير ذلك، فإنه إذا فعل فعلاً يدل على سخطه، وعلى أنه يرى أن هذا الشيء وقع عليه وهو لا يستحقه، فإنه داخل في قوله: (ليس منا) وهو معترض على الله جل وعلا، ومتسخط في قضائه وقدره، ومرتكب لكبيرة من كبائر الذنوب التي يجب أن يتوب منها.

دعوى الجاهلية

دعوى الجاهلية وأما دعوى الجاهلية فهي الدعوة بالويل والثبور، كقول: وا ويلاه! وا ثبوراه! أو كونه يضيق ويذكر الشيء الذي افتقده، أو يزعم أنه كان ناصره ورازقه، وكأنه يعبده، وكأنه هو المعطي وما أشبه ذلك، فإن هذا من دعوى الجاهلية. ويدخل أيضاً في دعوى الجاهلية كون الإنسان يعمل أي عمل من أعمال الجاهلية التي أضيفت إليهم، وذمهم عليها الرسول صلى الله عليه وسلم، وكتاب الله الذي جاء به، مثل التعصب، كونه يتعصب له ويرد الحق الذي يأتي من غيره، أو يناصره على باطل ونحو ذلك مما يفعله بعض الناس من كونه يتعصب لشيخ معين، ويرى أن غيره ضال، بدون دليل، وبدون مبرر، فإن هذا من عمل الجاهلية، فيفرق بين المسلمين، ويوغر صدور بعضهم على بعض، فهو من أمر الجاهلية الذي يجب أن يفارق ويترك، وهو معصية؛ لأن الله جل وعلا يقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]، فالاعتصام بحبل الله هو دينه أو كتابه أو رسوله، كل ذلك سواء، والاعتصام به أن يعمل بما جاء به، وأن يجتمعوا على ذلك ولا يتفرقوا، فإن حصل التفرق فأسباب التفرق محرمة، والذي يدعو إليها ويفعلها مرتكب كبيرة، وقد تكون كبيرة أعظم مما لو كانت كبيرة تقتصر عليه هو؛ لأن العمل إذا تعدى إلى الغير يكون عظيماً وليس سهلاً، ولهذا جاء أن كل نفس تقتل فعلى ابن آدم الأول كفل منها؛ لأنه أول من سن القتل، وقد قال الله جل وعلا فيمن يقتل النفس: {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة:32]، وأعظم من القتل كونه يضل عن الهدى وعن الطريق، وترك كتاب الله ومعصية أمره من الضلال. والمقصود: أن أمر الجاهلية كثير، وليس مقتصراًَ على كونهم يدعون بالويل والثبور عند المصيبة فقط، أو كونهم يندبون المصاب، أو يندبون الميت، وقد يقع ذلك من الإنسان على غير اعتياد منه، فإن كان يسيراً فهو معفو عنه، كما وقع لـ أبي بكر رضي الله عنه عندما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وقد توفي، فقبله ثم قال: وا نبياه! وا خليلاه! وكذلك ما وقع لـ فاطمة أنها قالت شيئاً من ذلك، فمثل هذا الشيء القليل يعفى عنه إذا كان بصدق، أما إذا كان غير صحيح ما يقولون فيه فإنه يؤاخذ به، ويكون مرتكباً أمراً عظيماً، ومع ذلك يكون الميت يعذب بهذا الشيء الذي يقال له، يعذب به إذا نيح عليه؛ لما جاءت به الأحاديث الصحيحة: (أن الميت يعذب بالبكاء عليه)، والمقصود بالبكاء النياحة والندب، وهذا لا ينافي قوله جل وعلا: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]؛ لأن الإنسان يجب أن ينهى أهله إذا كان يخاف من هذا، أن يقول لهم: أنا بريء مما برئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد جاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم برىء: (من الصالقة والحالقة والشاقة). الصالقة: التي ترفع صوتها عند المصيبة، والحالقة: التي تحلق شعرها عند المصيبة. فيجب أن يتقدم إليهم بذلك، فإن لم ينصحهم ويتقدم إليهم بالنصيحة صار مؤاخذاً بما يقال عليه ويعذب به.

إمرار نصوص الوعيد على ظاهرها وعدم تأويلها

إمرار نصوص الوعيد على ظاهرها وعدم تأويلها قال الشارح رحمه الله: [هذا من نصوص الوعيد، وقد جاء عن سفيان الثوري وأحمد: كراهة تأويلها، ليكون أوقع في النفوس وأبلغ في الزجر، وهو يدل على أن ذلك ينافي كمال الإيمان الواجب]. التأويل الذي يقصده الإمام أحمد وغيره من أئمة العلم والحديث: ما يفعله أكثر الشراح إذا جاء عند قوله: (ليس منا)، فيشرحه ويقول: أي: ليس على طريقتنا المثلى ليس على طريقتنا الكاملة ليس على سنتنا الكاملة الحسنة، فيهون الأمر في هذا، ويكون الأمر هيناً، وهذا خلاف ما أراده الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أراد بهذا الزجر والابتعاد عن هذه الأعمال، فيجب أن يبقى كلامه على ما هو عليه، ولكن يجب أن يعتقد أنه لا يخرج به الإنسان إلى الكفر؛ لأن المسلم لا يخرج من الإيمان إلا بما ينافي الإيمان. وكذلك بقية النصوص مثل: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [النساء:93] هذا شيء صعب جداً، ومع ذلك كثير من المفسرين أولوه، فقالوا: هذا جزاؤه إذا استحله، لماذا قالوا ذلك؟ قالوا: لأنه يوجد دليل على أن المسلم لا يخرج من الدين الإسلامي إلا بالكفر، وليس هذا من الكفر، ولأن الله جل وعلا أخبر عن القاتل أنه أخ للمقتول وأخ لوليه فقال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:178]، فجعله أخاً له، وهذه الأخوة قطعاً هي أخوة الإيمان، وليست أخوة النسب، فدل على أنه لا يخرج من الدين الإسلامي، ولكن مع هذا كله لا يجوز أن نقول هذا، ولا يجوز أن نتأوله لأمرين: الأمر الأول: ما ذكر من أن هذا يكون تركه على ظاهره، أي: يمر على ظاهره بدون تأويل، مع اعتقاد أن الفاعل لا يكفر؛ لأنه أدعى للانزجار والابتعاد، وأبلغ في ذلك. الأمر الثاني: أن المتأول على خطر؛ لأنه لا يدري هل هذا مراد الرسول صلى الله عليه وسلم أو غيره؟ فيجوز أن يتقول على الرسول صلى الله عليه وسلم قولاً لم يرده، فإذا تركه بدون تأويل يكون أسلم. قال الشارح رحمه الله: [قوله: (من ضرب الخدود) قال الحافظ: خص الخد لكونه الغالب، وإلا فضرب بقية الوجه مثله]. بقية البدن ليس الوجه، البدن كله، فلو ضرب فخذه أو ضرب صدره، أو أي موضع منه عند المصيبة، فإنه يكون داخلاً في ذلك، ولكن العادة جرت أنه يضرب الوجه والخد.

خلاف العلماء في حكم البكاء على الميت

خلاف العلماء في حكم البكاء على الميت قال الشارح رحمه الله: [قوله: (وشق الجيوب) هو الذي يدخل فيه الرأس من الثوب، وذلك من عادة أهل الجاهلية حزناً على الميت. قوله: (ودعا بدعوى الجاهلية) قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: هو ندب الميت. وقال غيره: هو الدعاء بالويل والثبور. وقال ابن القيم رحمه الله: الدعاء بدعوى الجاهلية كالدعاء إلى القبائل والعصبية، ومثله التعصب إلى المذاهب والطوائف والمشايخ وتفضيل بعضهم على بعض، يدعو إلى ذلك، ويوالي عليه ويعادي، فكل هذا من دعوى الجاهلية. وعند ابن ماجة وصححه ابن حبان عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعن الخامشة وجهها والشاقة جيبها، والداعية بالويل والثبور)، وهذا يدل على أن هذه الأمور من الكبائر، وقد يعفى عن الشيء اليسير من ذلك إذا كان صدقاً وليس على وجه النوح والتسخط نص عليه أحمد رحمه الله؛ لما وقع لـ أبي بكر الصديق رضي الله عنه وفاطمة رضي الله عنهما لما توفي رسول صلى الله عليه وسلم. وليس في هذه الأحاديث ما يدل على النهي عن البكاء؛ لما في الصحيح أن رسول صلى الله عليه وسلم لما مات ابنه إبراهيم قال: (تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون)، وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد رضي الله عنه: (أن رسول صلى الله عليه وسلم: انطلق إلى إحدى بناته ولها صبي في الموت، فرفع إليه ونفسه تقعقع كأنها شن؛ ففاضت عيناه، فقال سعد: ما هذا يا رسول الله؟! قال: هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء)]. اختلف العلماء في حكم البكاء على الميت، فمنهم من قال: يجوز البكاء على الميت قبل أن يموت الميت، أما إذا مات فلا يجوز، فيكون البكاء الذي ورد منسوخاً؛ لأنه جاء في غزوة أحد: (أنه لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم سمع نساءً من بني عبد الأشهل يبكين على قتلاهن، فقال صلى الله عليه وسلم: (ولكن حمزة لا بواكي له، فجاء نساء من الأنصار فصرن يبكين على حمزة، فلما خرج قال: لا يبكين بعد اليوم على ميت)، فقالوا: هذا ناسخ، والصواب: أنه ليس هناك نسخ؛ لأن هناك أحاديث كثيرة جاءت بعد هذا النهي، منها قصة وقعت في مؤتة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ينهاهم وعيناه تذرفان بالدمع صلوات الله وسلامه عليه، وكذلك قصة موت عثمان بن مظعون، وكذلك قصته لما زار قبر أمه صلى الله عليه وسلم، وهذا في السنة الثامنة من الهجرة، فإنه بكى وأبكى من عنده، وقال صلى الله عليه وسلم: (استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يأذن لي، واستأذنته بزيارة قبرها فأذن لي أن أزور قبرها)، والأحاديث كثيرة، وهي تدل صراحة على أن البكاء -يعني: دمع العين- جائز، بل جاء أنه رحمة، كما في هذا الحديث.

قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا)

قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا) قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة)]. هذا الحديث المقصود بالخير والشر فيه: الجزاء، وإلا فأفعال الله جل وعلا كلها خير، ولكن الشر يكون إضافياً، أي: يكون بالنسبة إلى المجزي به شراً عقاباً له، وهو جزاء أعماله، ولكن بالنسبة لله جل وعلا فهو خير وأمن؛ لأن الله لا يفعل إلا خيراً.

معنى إرادة الخير للعبد في تعجيل العقوبة له

معنى إرادة الخير للعبد في تعجيل العقوبة له فقوله: (إذا أراد الله بعبده الخير)، إرادة الخير هنا رحمته والإحسان إليه حتى يكون يوم القيامة ناجياً من النار، فيعجل له جزاء أعماله التي عصى الله بها، ويكون ذلك عقاباً له وكفارة يكفر عنه بالعقوبة التي تصيبه، سواء كانت العقوبة في بدنه من مرض أو ما أشبه ذلك، أو في ماله أو في أهله، فكل ما يتصل به من المصائب يكون عقوبة لما فعل، وهذا مطلق، فكل إنسان لا يصاب بشيء إلا بما عمل من جراء عمله، كما قال الله جل وعلا: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]، {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر:45]، يعني: لو أن الناس يؤاخذون بجراء أعمالهم لأهلكوا عاجلاً. وقد جاء في الأثر: (أن رجلاً من الأنصار أثر عليه المرض حتى صار كالفرخ، فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله: هل كنت تدعو بشيء؟ قال: نعم، كنت أقول: اللهم ما أردت أن تعاقبني به في الآخرة فعجله لي في الدنيا، قال: سبحان الله! أنت لا تستطيع ذلك، ولكن اسأل ربك العافية)، وهذا يدلنا على أن الإنسان لا ينفك من المعاصي، ولا ينفك من التقصير دائماً، وعفو الله أعم وأشمل، ولكن هناك ذنوب كثيرة، وبعضها يكون عن جرأة وعمد لابد أن يعاقب عليها، وإذا أريد بالعبد خيراً عجل عقابه، سواء كان العقاب إقامة حد من الحدود التي يرتكبها -لأن إقامة الحد كفارة- أو كان مصيبة تصيبه في بدنه أو في ماله أو غير ذلك.

معنى إرادة الله بعبده الشر في تأخير العقوبة عنه

معنى إرادة الله بعبده الشر في تأخير العقوبة عنه وإذا أراد الله أن يوقع بعبده الشر عافاه في الدنيا حتى يوافي بذنوبه كاملة يوم القيامة، فيكون عقابه أشد وأنكى وأبقى، فالعقاب الحقيقي هو العقاب في الآخرة، أما في الدنيا فكل من كان فيها سواء مر بأزمات وشدائد أو بنعم فإنها تنتهي، وهذا لقصرها وحقارتها، والله جل وعلا لن يرضى أن تكون الدنيا محلاً لعقاب أعدائه، فكيف تكون جزاءً لأوليائه؟ إنها لا تساوي عند الله شيئاً، وهي زائلة: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، أو عالماً أو متعلماً)، فالشيء الذي يراد به الدنيا مبعد، أما الذي يراد به الله جل وعلا فيها فهو الذي ينفع. ومعنى (أراد به الشر) أي: جازاه بالشر الذي هو عمله، فيؤخر جزاءه إلى أن يلقاه يوم القيامة، فيجازيه بهذا العذاب الباقي الشديد، نسأل الله العافية.

أحوال الناس تجاه المصائب وأقدار الله

أحوال الناس تجاه المصائب وأقدار الله قال الشارح رحمه الله تعالى: [هذا الحديث رواه الترمذي والحاكم، وحسنه الترمذي، وأخرجه الطبراني، والحاكم عن عبد الله بن مغفل، وأخرجه ابن عدي عن أبي هريرة والطبراني عن عمار بن ياسر. قوله: (إذا أراد الله بعده الخير عجل له العقوبة في الدنيا) أي: يصب عليه البلاء والمصائب؛ لما فرط من الذنوب منه فيخرج منها وليس عليه ذنب يوافي به يوم القيامة. قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: المصائب نعمة؛ لأنها مكفرات للذنوب، وتدعو إلى الصبر، فيثاب عليها، وتقتضي الإنابة إلى الله والذل له والإعراض عن الخلق، إلى غير ذلك من المصالح العظيمة. فنفس البلاء يكفر الله به الخطايا، وهذا من أعظم النعم، فالمصائب رحمة ونعمة في حق عموم الخلق، إلا أن يدخل صاحبها بسببها في معاصي أعظم مما كان قبل ذلك، فتكون شراً عليه من جهة ما أصابه في دينه، فإن من الناس من إذا ابتلي بفقر أو مرض أو وجع حصل له من النفاق والجزع ومرض القلب أو الكفر الظاهر، أو ترك بعض الواجبات وفعل بعض المحرمات ما يوجب له ضرراً في دينه، فهذا كانت العافية خيراً له من جهة ما أورثته المصيبة لا من جهة نفس المصيبة، كما أن من أوجبت له المصيبة صبراً وطاعة كانت في حقه نعمة دينية، فهي بعينها فعل الرب عز وجل ورحمة للخلق، والله تعالى محمود عليها]. ظاهر قول الشيخ رحمه الله أنه يرى أن المصائب تكفر الذنوب، وهذا هو الظاهر، أما حصول الثواب والأجر فهو بأسباب أخرى، كأن يكون بالصبر عليها، وكونه تحدث للإنسان إنابة إلى الله، وذل وتعلق به، ودعاء إليه، فهذا أمر آخر، أما المصيبة نفسها فهي كفارة فقط، تكفر ما وقع منه، وليس فيها أنه يكتب له فيها الثواب، وإنما يكفر عنه بها ما وقع من المعاصي، وترك الطاعات الواجبة عليه إذا اتصل بها شيء سواء كان مما يدعو إلى الإنابة والتوبة والاستغفار والدعاء فهذا أمر آخر يثاب عليه، أما إذا كانت سبباً للإعراض والتضجر والاعتراض على الله جل وعلا والسخط مما قضاه عليه، فإنها تكون مصيبة أخرى ليس له فيها كفارة، وربما وقعت منه مصيبة أكبر من المصيبة التي أصيب بها، فهذا يقع كثير من الناس. وبعض الناس يكون المرض الذي يقع فيه غير منبه له، بل يبقى على حالته التي هو عليها حتى تجده يترك الصلاة؛ لأن كونه مريضاً لا يستطيع أن يتوضأ ولا يستطيع أن يصلي، وهذا يوجد في كثير من المرضى، وهذا خطر عظيم ومعصية كبيرة، بل قد تكون كفراً، نسأل الله العافية. فالصلاة لا تسقط عن الإنسان بحال من الأحوال، وإذا مرض الإنسان فينبغي له أن يحرص على أداء الصلاة على حسب حاله {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:286]، ولكن لا يترك الصلاة، وإن استطاع أن يتوضأ توضأ، وإن استطاع أن يصلي قائماً صلى قائماً، وإن لم يستطيع الوضوء تيمم، فالتيمم ليس صعباً، فإذا لم يكن عنده من يوضئه ويعينه على وضوئه تيمم، فإن كان عنده من يفعل ذلك فإنه يجب عليه ذلك، أما إذا كان لا يستطيع أن يخرج فيوضع له قليل من التراب في إناء ويتيمم فيمسح وجه ويديه، وإذا لم يستطع هو ذلك فالذي عنده يفعل به ذلك وييممه، فيأخذ بيديه ويضعها على التراب، ثم يسمح بها وجهه وكفيه، ثم يقول له: صل، فيصلي على حسب حاله ولو بالإشارة يشير برأسه، فإذا لم يستطع يومئ بعينيه، فمادام العقل عنده صاحياً فلا تسقط عنه الصلاة بحال، ولا يجوز أن يترك الصلاة، فقد يموت قبل أن يشفى فيكون موته وهو تارك للصلاة، نسأل الله العافية، فهذا خطر عظيم يجب أن ينبه عليه الناس، فمثل هذا يكون المرض -وهو مصيبة- قد سبب مصيبة أخرى أكبر منها، نسأل الله العافية. فالمسألة: الناس يختلفون في البلاء الذي يصيبهم، فمنهم من يرجع إلى الله بسببه وينيب، ومنهم من يبتعد عن الله جل وعلا ويكون سبباً في تضجره وتسخطه على الله، ويقول: أنا لا أستحق هذا الشيء -يعني: أن الله ظلمه عياذاً بالله- وأنا ما عملت شيئاً، أنا أصلي وأنا أفعل كذا، وأنا وأنا ولكن ما أدري من أين جاءت هذه المصيبة؟! هكذا نسمع بعضهم يقول! والذي لا يقول هذا بلسانه يمكن أن يقول في قلبه شيئاً من ذلك، وإذا كان في قلب الإنسان شيء من ذلك فإنه يكفي في هلاكه؛ لأن الله جل وعلا يحكم بالعدل، ولا يصاب من مصاب إلا بسبب أمر تركه أو ذنب ارتكبه، كما أخبر الله جل وعلا. ويجب أن يتعظ الإنسان بالمصائب، فتكون المصيبة موعظة له، فيتعظ ويحاسب نفسه، ويبتعد عن المعائب التي يعاب عليها ديناً، فيبتعد عنها ويستغفر ربه منها، فمثل هذا تكون المصيبة قد طهرته من الذنب، وكفرت عنه ذنبه، ولهذا يوجد من الناس من إذا وقع في مصيبة يخرج منها كأنه ليس عليه شيء، كأن لم يعمل ذنباً، كيوم ولدته أمه، وهذا من فضل الله ورحمته بالعبد، فلهذا العبد لا يسوؤه أنه يصاب بشيء، لا ينبغي أن تكون هذه السيئة تسوؤه، فليعلم أن هذا فضل من الله وعدل، ثم لينزجر ويتعظ، ويكثر الرجوع إلى الله، وليجعل ذلك سبباً لرجوعه وتعلقه بالله جل وعلا؛ لأن الإنسان ضعيف، فلو جوزي مثلاً بما يعمل أو جمع كل ما يعمله حتى يوافى به يوم القيامة فقد يهلك، يمكن أن ترجح سيئاته على حسناته فيكون من الخاسرين. فيجب على الإنسان أن يحمد ربه، وهذه صفة المؤمن، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عجباً للمؤمن إن أمره كله له خير، إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن)، أما المنافق والكافر فهو مثل البعير الذي يعقل ثم يطلق عقاله ولا يدري لماذا عقل، ولا يدري لماذا أطلق عقاله؟! فالمؤمن ينبغي أن يكون بهذه الصفة: إذا أصيب بشيء يكره صبر واحتسب، وصار هذا سبباً في خضوعه وذله ورجوعه إلى الله واستغفاره، وإن أصيب بنعم حمد الله وشكره وأوجب ذلك له زيادة طاعة لله جل وعلا، حيث أحدث له نعماً فيحدث لله طاعة. قال الشارح رحمه الله: [فمن ابتلي فرزق الصبر، كان الصبر عليه نعمة في دينه، وحصل له بعدما كفر من خطاياه رحمة، وحصل له بثنائه على ربه صلاة ربه عليه، قال تعالى: {أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة:157]، وحصل له غفران السيئات ورفع الدرجات، فمن قام بالصبر الواجب حصل له ذلك. انتهى ملخصاً]. أي: أنه يمتثل الآية، كما في قوله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156]، ومعنى: (إنا لله) أي: نحن ملك له وعبيد له يتصرف فينا كيف يشاء، لا نملك لأنفسنا شيئاً، فإذا أصابنا بشيء فهو إليه جل وعلا، ولا يجوز لنا أن نعترض على شيء من ذلك، إنا لله ملكاً وعبيداً، يفعل بنا ما يشاء، (وإنا إليه راجعون)، أي: مرجعنا إليه فيجازينا على أعمالنا، فإن كان الإنسان شاكراً جازاه خيراً، وإن كان كافراً لا يلقى إلا جزاء عمله فقط، ولا يظلم شيئاً، والشاكرون هم الذين يقول جل وعلا: {أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة:157]، وصلاة الله على عبده أن يثني عليه عند الملائكة، ومن أثنى الله عليه عند ملائكته أحبته الملائكة وصارت تدعو له بسبب بذلك، ملائكة الله جل وعلا الذين في السماء يستغفرون له ويدعون الله له، فيكتسب عملاً ما كان يعمله هو استغفار الملائكة، وهذه الصلوات صلوات الله، وأما الرحمة فأمر آخر: {أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة:157]، ثم {وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:157]، هذا الذي ينبغي أن يكون عليه العبد إذا أصيب بشيء أن يقول هذا، لعله يتحصل على هذا الفضل العظيم، وهو صلاة الله ورحمته جل وعلا، ولو لم يكن في المصيبة إلا هذا لكفى أن يرتبط الإنسان به، وكون الإنسان يكون معافىً دائماً ينبغي أن لا يفرح، فقد يكون دليلاً على أن الله لا ينظر إليه، وأنه معرض عنه، نسأل الله العافية! قال الشارح رحمه الله: [قوله: (وإذا أراد بعبده شراً أمسك عنه بذنبه) أي: أخر عنه العقوبة بذنبه. (حتى يوافي به يوم القيامة) وهو بضم الياء وكسر الفاء منصوباً بـ (حتى) مبنياً للفاعل، قال العزيزي: أي: لا يجازيه بذنبه في الدنيا حتى يجيء في الآخرة مستوفر الذنوب وافيها، فيستوفي ما يستحقه من العقاب، وهذه الجملة هي آخر الحديث. فأما قوله: (وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن عظم الجزاء مع عظم البلاء) إلى آخره، فهو أول حديث آخر، لكن لما رواهما الترمذي بإسناد واحد وصحابي واحد جعلهما المصنف كالحديث الواحد. وفيه التنبيه على حسن الرجاء وحسن الظن بالله فيما يقضيه لك، كما قال تعالى: {وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216]. ]

شرح فتح المجيد [94]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [94] الابتلاء سنة ماضية، يبتلى الناس على قدر دينهم، فمن ثخن دينه اشتد بلاؤه، ومن قل دينه قل بلاؤه، وأشد الناس ابتلاء هم الأنبياء عليهم السلام، والواجب عند نزول البلاء هو الصبر والرضا وعدم التسخط، فمن صبر ورضي أجر على مصيبته، وكفر بها من سيئاته، ومن سخط وقعت عليه مصيبته، ولم يؤجر عليها، وليعلم أن عظم الجزاء مع عظم البلاء.

عظم الجزاء مع عظم البلاء

عظم الجزاء مع عظم البلاء قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط) حسنه الترمذي]. هذا الحديث ظاهره هو أصل المسألة التي ذكرنا: أن البلاء والمصائب عليها جزاء؛ لقوله: (إن عظم الجزاء مع عظم البلاء) يعني: إذا كان الإنسان ابتلاؤه أعظم فجزاؤه أعظم وأكبر، فيدل على أن المصيبة يجزى بها الإنسان. وقد جاء صريحاً في حديث ابن مسعود: لما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو مريض، قال له: (إنك لتوعك وعكاً شديداً، قال: نعم، أو قال: أجل، كما يوعك اثنان منكم، وقال: ألأن لك أجرين؟ قال: نعم) يعني: إذا كان هذا مرضه أشد فيكون أجره أكثر، وهذا الحديث صريح في ذلك، وهذا هو الصواب أن الإنسان إذا أصيب بمصيبة إن كان له ذنوب كفرت بها، مقابل ذلك، ولا يخلو أحد من الذنوب أبداً. (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)، وفي الحديث الصحيح: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون الله فيغفر لهم)؛ لأن الله جل وعلا من أسمائه الغفار والعفو والرحيم والتواب، فلابد أن تظهر آثار أسمائه جل وعلا على خلقه، فهذا مقتضى خلقه وأسمائه وصفاته تعالى وتقدس، فكل بني آدم والجن -وهم المكلفون- يقعون في أخطاء كثيرة، وخيرهم الذي إذا أخطأ تاب، ثم الملائكة خلقوا للعبادة، أي أنه: خلص خلقهم للعبادة وكلفوا بذلك، ولهذا لا يوجد عندهم ما عند بني آدم من العصيان: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، دائماً وأبداً فهم جنس آخر من غير جنس بني آدم. فإذا كان الإنسان خطؤه عظيماً فتكون المصيبة مقابل الخطأ، فإن كانت أكبر وأشد من خطئه صار منها ما هو مكفر ومنها ما هو في رفعة درجاته عند الله، وفي الأثر: أن الإنسان تكون له درجة عند الله لا يبلغها بعمله، فيبتليه الله جل وعلا بالمصائب حتى يبلغ تلك الدرجة. وهذا القول هو الصواب من أقوال العلماء: أنه يختلف الناس فيها، إذا اشتد البلاء والإنسان ليس له من الذنوب ما يقابل ذلك فإن هذا رفعة لدرجاته، وزيادة في حسناته، ولهذا فإن الأنبياء صلى الله عليهم وسلم يبتلونَ بتكذيب قومهم وبأذيتهم وربما بقتلهم. ومعلوم أنهم خير الخلق، فخير بني آدم هم الأنبياء والرسل: (أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الإنسان على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة خفف في بلائه) فتكون بلواه على حسب ما عنده من الدين، وهذا من رحمة الله جل وعلا، لأنه لو زيد في بلاء الإنسان الذي دينه ضعيف لقدم دينه دون عرضه حتى يسلم، فالله جل وعلا لطيف بعباده، وهو حسب مصالحهم، فإنه إذا أراد الخير بعبده هيأ له أسباب ذلك بفعله هو، وإن لم يكن من فعله ما يصل به إلى الدرجة العالية وقد أراد الله له تلك الدرجة ابتلاه بالمصائب، سواء كانت مصائب قدرية أو مصائب بسبب الناس، وإن كانت كلها بالقدر، فما يقع شيء إلا بقدر الله جل وعلا، ولكن الأسباب قد تكون أثراً من آثار الناس الذين يفعلون ذلك وهم مسئولون عن أفعالهم، وإن كان أمرهم مقدراً؛ لأن العاقل والمكلف لابد أن يطالب بأعماله، وليس لأحد حجة بالقدر، فيقول: هذا مقدر علي أنا فعلت الشيء المقدر علي لأن الإنسان مكلف بأعمال محددة من الطاعات، ومنهي عن أعمال محددة من المعاصي يستطيع أن يتركها، والطاعات يستطيع أن يفعلها، وقد علم بذلك وقيل له: هذا طريق الخير فاسلكه، وهذا طريق الشر فاجتنبه. فإذا ارتكب شيئاً من المناهي بعد ذلك فاللوم عليه، وليس له أن يقول: إن الله قدر علي ذلك، فهو الذي فعله، وما يدريك أنه قدر عليك قبل أن تفعل ذلك، فعليك أن تجتهد، فإذا وقعت في ذنب فلا تقل: هذا مقدر، ولكن قل: أستغفر الله وأتوب إليه، فاستغفر واسترجع، وعد على نفسك باللوم، أما إذا قال الإنسان: أنا وقعت في القدر، فمعنى ذلك: أن أجعل اللوم على القدر لا على نفسي، يبرئ نفسه من ذلك، ويجعل اللوم على ربه، فهذا يكون مقتدياً بإبليس عندما قال لربه: {بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر:39] الله أغواه أك هو الذي أغوى نفسه؟ هو الذي اختار الغواية، ولما قيل له: اسجد، أبى وقال: أنا خير منه وهناك سجدت الملائكة، ولكنه أبى هو باختياره، فهو الذي غوى بفعله. فلا يحتج بأن الله قدر ذلك، الله جل وعلا قدر كل شيء؛ لأنه هو المالك لكل شيء، ولكن أعطاك المقدرة على الفعل الذي كلفك به، وأعطاك المقدرة على ترك الأفعال التي حرمها عليك، فإذا امتثلت الأمر كنت موافقاً للقدر وموافقاً للشرع، وإذا لم تمتثل الأمر كنت عاصياً، وإن كنت لا تخرج عن مقدور الله جل وعلا، فلا أحد يخرج عن مقدور الله، ولكن العقلاء كلفوا بعدما أعطوا العقل بالشيء الذي يستطيعونه.

إذا أحب الله قوما ابتلاهم

إذا أحب الله قوماً ابتلاهم قال الشارح رحمه الله: [قال الترمذي: حدثنا قتيبة، حدثنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن سعد بن سنان، عن أنس، وذكر الحديث السابق، ثم قال: وبهذا الإسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن عظم الجزاء) الحديث، ثم وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، ورواه ابن ماجة. ورواه الإمام أحمد عن محمود بن لبيد رفعه: (إذا أحب الله قوماً ابتلاهم، فمن صبر فله الصبر، ومن جزع فله الجزع)، قال المنذري: رواته ثقات. قوله: (إن عظم الجزاء) بكسر العين وفتح الظاء فيها، ويجوز ضمها مع سكون الظاء، أي: من كان ابتلاؤه أعظم كمية وكيفية. وقد يحتج بهذا الحديث من يقول: إن المصائب يثاب عليها مع تكفير الخطايا، ورجح ابن القيم أن ثوابها تكفير الخطايا فقط، إلا إذا كانت سبباً لعمل صالح كالصبر والرضا والتوبة والاستغفار، فإنه حينئذ يثاب على ما تولد منها، وعلى هذا يقال في معنى الحديث: إن عظم الجزاء مع عظم البلاء إذا صبر واحتسب]. على كلٍ الحديث مطلق، والأحاديث التي ذكرنا مطلقة، فكوننا نقيد الأحاديث بشيء لم يقيدها به رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا ليس وارداً، والمفهوم شيء والمنطوق شيء آخر. ومعلوم أن النصوص يجب أن يؤخذ بظاهرها إلا إذا جاءت نصوص أخرى تخالفها؛ لأن النصوص من كتاب الله جل وعلا ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا تتعارض، بل يصدق بعضها بعضاً.

ابتلاء الأنبياء والأولياء دليل على أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا دفعا

ابتلاء الأنبياء والأولياء دليل على أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا دفعاً قال الشارح رحمه الله: [قوله: (وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم)، ولهذا ورد في حديث سعد: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: (أي الناس أشد بلاءً؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي في الأرض وما عليه خطيئة)، رواه الدارمي وابن ماجة والترمذي وصححه. وهذا الحديث ونحوه من أدلة التوحيد، فإذا عرف العبد أن الأنبياء والأولياء يصيبهم البلاء في أنفسهم الذي هو في الحقيقة رحمة، ولا يدفعه عنهم إلا الله؛ عرف أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا دفعاً، فلأن لا يملكوه لغيرهم أولى وأحرى، فيحرم قصدهم والرغبة إليهم لقضاء حاجة أو تفريج كربة، وفي وقوع الابتلاء بالأنبياء والصالحين من الأسرار والحكم والمصالح وحسن العاقبة ما لا يحصى]. هذا واضح وجلي، فقد ابتلي بعض الناس -نسأل الله العافية- بالتعلق بدعاء المخلوق والشرك به ويوجد كثير من الناس يعبد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعبد الأولياء، ويتلمس لذلك الأدلة، مع أن كتاب الله جل وعلا ودعوة الرسل كلها جاءت بوجوب إخلاص العبادة لله وحده، وأن الإلهية له وحده، ولكن الشيطان لا يزال بالإنسان حتى يحرف الأمور الواضحة الجلية، فيجعل العبادة غير العبادة، ويجعل التعلق في قالب آخر، فإذا جاء الشر صريحاً صار يؤوله. والمعروف أن كثيراً من الناس يتعلقون بمن يسمونهم أولياء، مع أن الولاية أمرها خفي، فقد يظهر للإنسان أن فلاناً صالح أمام الناس، وهو في نفسه فاسد ليس صالحاً، وليست المسألة مسألة ما يظهر للناس، وإنما هو الشيء الذي يكون عند الله للإنسان، فقد يري الناس مثلاً أنه مطيع ومن الفضلاء، فإذا توارى عن الناس تجرأ على الله جل وعلا في المعاصي، وهذا يوجد بكثرة، وقد يكون هذا المرض واضحاً عند كثير من الناس. فكون هذا ولياً أمر لا يعلمه إلا الله، إلا أن يخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن إنسان بعينه، وكونهم مثلاً يتعلقون به أمر محرم. هذا أمر. الأمر الثاني: أن الدين الإسلامي جاء بوجوب الإخلاص لله وحده، ووجوب متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم في مثل هذين الأمرين، فكون العبادة كلها لله خالصة ليس فيها شيء لغيره، وكون العبادة جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تكون بالاختيار أو بالنظر أو بالاستحسان، أو بما يتعارف عليه الناس ويصطلحون عليه كالموالد وما أشبه ذلك من الأمور التي يفعلونها ثم يبحثون عن الأدلة من بعيد، ويتعلقون بأشياء عجيبة، فيقولون: إنها مشروعة، كيف كانت مشروعة وهي أول ما أحدثت في القرن السادس؟! هل احتفل الرسول صلى الله عليه وسلم بمولده؟ وهل احتفل به أحد من صحابته؟ هذا لا يثبته إلا كذاب مكابر، فكيف يكون بعد ذلك عبادة وفيها هوى النفوس واستيلاء الجهل عليها؟! وأشياء كثيرة من هذا القبيل، وهذا مثال فقط. ثم كون العمل مقصود به وجه الله وحده فقط، ثم إذا دخله شيء من الإرادات والمقاصد فإنه إما أن يفسد فيصبح حابطاً، وإما أن يكون ناقصاً على الأقل كما سيأتي. وإن ذهب بعضه وبقي بعضه إذا كان شيئاً واحداً فالله لا يقبل إلا ما كان خالصاً له، وبعد هذا كله كيف يكون مخلوق مكلف خلقه الله ليتعبده كيف يكون شريكاً لله في الإلهية أو في العبادة؟ والأمور في هذا واضحة، ولكن الذين يحبون الشرك ويدعون إليه يغالطون. الله جل وعلا لما أخبر عن الملائكة أنهم عباد مكرمون، وأنهم يفعلون ما يؤمرون ولا يعصون الله ما أمرهم قال: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ} [الأنبياء:29]، ماذا يكون؟ {فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:29]، يصلى جهنم. فالقرآن كله ودعوات الرسل كلها تصب في هذا الأصل العظيم الذي ضل عنه كثير من الناس، وصار يغالط ولا يعتمد إلا على رؤيا كقولهم: رأيت كذا وفلان رأى كذا أو على حكايات وقصص خرافية، كقولهم: إن فلاناً دعا الولي الفلاني أو تعلق به فحصل له كذا وحصل له كذا أو على أحاديث مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو على تحريفات كتحريفات اليهود الذين حرفوا النصوص تحريفات واضحة، ثم يستاء بعد ذلك أن يقال: إن بلوى الرسل وما يصابون به دليل على أنهم عباد، وأنهم ليس لهم من الربوبية مع الله شيء، وليس لهم من الإلهية مع الله شيء! احتج على القول لشدة الجهل والعناد، وشدة ترك ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من بعض الناس. ومعلوم ما وقع فيه سيد الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم من أعدائه، لقد أخرج من مكة ثم لم يستطع الدخول إلا بجوار رجل مشرك، وذهب إلى الطائف فرموه بالحجارة حتى أدموا عقبيه صلوات الله وسلامه عليه، وردوا عليه رداً من أسوأ ما يكون لو كنت نبي أحد الناس ما قبلك ثم قال جاهل من ثلاثة من كبارهم وساداتهم كانوا مجتمعين فعرض عليهم أمر الله ودعاهم فقال أحدهم: ما وجد الله أحداً غيرك حتى أرسلك؟! بهذه السخرية والتهكم، والآخر قال: إنه يسرق كسوة الكعبة إن كنت رسولاً، وهذا استهزاء صريح، والآخر قال: لا أكلمك كلمة، لئن كنت صادقاً فلأنت أعظم من أن أرد عليك، ولئن كنت كاذباً فلأنت أحقر من أن أكلمك أهذا جواب الذي جاء بالبينات والهدى الواضحات؟! ثم بعد ذلك يغرى به السفهاء والصبيان، فيرمونه بالحجارة ويضربون عقبيه حتى يخرج منه الدم صلوات الله وسلامه عليه، ثم يخرج ولا يدري إلى أين يتجه صلوات الله وسلامه عليه، قد ذهب فكره، فلم يفق إلا وهو بقرن الثعالب الذي يسمى: السيل العالي من الطائف، وهناك رجع إلى فكره ودعا بالدعوة المعروفة المشهورة وقال فيها: (إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي)، فيقول: إلا مصيبة تصيبني بها لا أبالي ما دام أنه بأمرك ولطاعتك، فيحمد الله على ذلك. ثم كذلك يوم بدر قالت له عائشة رضي الله عنها: (يا رسول الله! هل مر بك يوم أشد من يوم أحد؟ قال: يا عائشة! لقد لقيت من قومك) وذكر يوم الطائف. ويوم أحد شج في وجهه صلوات الله وسلامه عليه، وجعل الدم يسيل على وجهه وهو يقول: (كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى الله؟!)، ثم بعد ذلك أنزل الله جل وعلا عليه: {لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128]، فالأمر كله لله، فامتثل أمر سيدك، وامض حيث أمرت وكلفت، ثم بعد هذا يأتي قائل ويقول: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي فضلاً فقل يا زلة القدم ولم يضيق رسول الله جاهك بي إذا الكريم تجلى باسم منتقم يقول: إذا غضب الله يوم القيامة فأنا أستجير بك من الله! -نسأل الله العافية- ثم يقول: فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم إذا كان من جملة جود النبي صلى الله عليه وسلم الدنيا والآخرة، ومن جملة علومه علم اللوح الذي كتب فيه كل شيء، والقلم الذي كتب كل شيء، فماذا بقي لله؟ ما أبقى لله شيئاً، نسأل الله العافية! ثم يصبح هذا الكلام نصاً، ويصبح يحفظ كما تحفظ الفاتحة؛ بل بعض الناس يقرؤه مساءً وصباحاً ويجعله ورداً كآية الكرسي والمعوذتين وما أشبه ذلك. وليس هذا إلا انحرافاً واضحاً، وتعلقاً بالمخلوق وتركاً للخالق جل وعلا الذي بيده أزمة الأمور وكل شيء، ومن الذي يزين هذه الأمور؟ يزينها شياطين الجن والإنس، ويحسنونها ويجعلونها بقالب تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ومعرفة حقوقه. يؤخذ خالص حق الله جل وعلا ويوضع في المخلوق، فإنه لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مواجهاً لهم لقاتلهم أشد من قتاله لكفار قريش؛ لأنهم خالفوه صراحة، وجاءوا بما لم يأت به مشرك من المشركين، نسأل الله العافية.

الرضا صفة من صفات الله تعالى

الرضا صفة من صفات الله تعالى قال الشارح رحمه الله: [قوله: (فمن رضي فله الرضا)، أي: من الله تعالى، والرضا قد وصف الله تعالى به نفسه في مواضع من كتابه، كقول الله تعالى: {جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [البينة:8]، ومذهب السلف وأتباعهم من أهل السنة إثبات الصفات التي وصف الله بها نفسه، ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم، على ما يليق بجلاله وعظمته، إثباتاً بلا تمثيل، وتنزيهاً بلا تعطيل، فإذا رضي الله تعالى عنه حصل له كل خير، وسلم من كل شر]. أي: أنه لا يجوز أن تفسر صفة الله جل وعلا بلازمها ولا بأثرها، لا بأثر الصفة ولا بلازم الصفة. بل يجب أن يوصف الله جل وعلا بها، فإذا أخبر أنه يسخط فيثبت هذا له، فإنه يسخط على من يشاء من أهل المعاصي والكفر، وليس سخطه هذا ظلماً، وكذلك ليس سخطه المصائب التي يصاب بها الإنسان، وكذلك الرضا فإنه جل وعلا يرضى عمن يشاء من عباده، ورضاه صفة له، ولا يجوز أن يفسر الرضا بأثره أو بلازمه من محبة الطاعة أو الإثابة، فإن كونه يثيب هذا من لازم صفة الرضا، وكذلك الطاعة سبب من أسباب رضا الله جل وعلا. فيجب أن تثبت الصفات لله جل وعلا كما جاءت من غير تحريف ولا تعطيل، والتحريف: يقصد به التأويل الباطل الذي يفعله أهل الكلام كالأشاعرة ونحوهم، أنهم يحرفون تحريفاً يذهب بالمراد نهائياً، الله جل وعلا يخبر أنه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، فلا يجوز للإنسان إذا قيل له: إن الله يسخط، وإن الله يرضى ويغضب ويضحك ويفرح ويعجب -أن يجعل هذا من جنس الشيء الذي يعرفه من نفسه، لا يجوز ذلك؛ لأن الله جل وعلا يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، في ذاته تعالى، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، ولا في حقوقه، الحق الذي له لا يجوز أن يكون مثله للمخلوق، وقوله وفعله لا يجوز أن يكون مثل قول المخلوق وفعله ووصفه، كما أن نفسه تعالى وتقدس ليست كالمخلوقين: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]. فيجب أن تكون هذه قاعدة نسير عليها، وهذا الذي كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم، وكان عليه أتباعهم إلى اليوم على هذا الشيء، ومن خالف في هذا فهو ضال قد ضل في دينه.

رضا العبد بأقدار الله تعالى وعدم تسخطه

رضا العبد بأقدار الله تعالى وعدم تسخطه قال الشارح رحمه الله: [قال: والرضا: هو أن يسلم العبد أمره إلى الله]. يعني: رضا المخلوق، كونه يرضى بالقضاء وبالقدر أن يسلم أمره لله، ولا يعترض ولا يتضجر، بل يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، ما أصابنا شيء إلا بإذن ربنا، وله الحمد على ذلك، فيكون عبداً صحيحاً، فيسلم وينقاد، لا يعترض ولا يتضجر، ولا يتوجع، ولا ينافي هذا كونه يتعالج إذا كان مريضاً، أو كونه يصف المرض ويقول: أنا عندي كذا وكذا وأجد كذا وكذا لمن يكون عنده شيء من العلاج، فهذا لا ينافي كونه يسلم وينقاد لعدم الاعتراض، كما أنه لا ينافي التسليم كونه يئنّ في مرضه، وبعض العلماء يقول: الأنين شكاية، كما روي عن طاوس رحمه الله، ولهذا لما بلغ ذلك الإمام أحمد وهو في مرضه صار لا يئنّ حتى مات رحمه الله، ولكن كون المريض يجد في أنينه شيئاً من الراحة فلا بأس، وليس معناه أنه يشتكي أو يتوجع. فالمقصود: التسليم والرضا، وهو أن يسلم وينقاد، وألا يكون قلبه متسخطاً أو متوجعاً من ربه، فإذا تعالج أو وصف مرضه فإنه لا يكون منافياً لذلك؛ لأن العلاج سبب من الأسباب التي وضعها رب العالمين، والأسباب أمر الله جل وعلا أن نبذلها كما جاء في الحديث: لما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (هل نتداوى؟ قال: نعم. تداووا عباد الله، فإن الله ما وضع داءً إلا ووضع له شفاء، علمه من علمه، وجهله من جهله، إلا داءً واحداً وهو الهرم، وفي رواية: الموت)؛ لأن هذه الحياة لابد أن تنتهي. قال الشارح رحمه الله: [ويحسن الظن به، ويرغب في ثوابه، وقد يجد لذلك راحة وانبساطاً، محبةً لله وثقة به، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: (إن الله بقسطه وعدله جعل الروح والفرح باليقين والرضا، وجعل الهم والحزن بالشك والسخط). قوله: (ومن سخط): هو بكسر الخاء، قال أبو السعادات: السخط الكراهية للشيء وعدم الرضا به. أي: من سخط على الله فيما دبره فله السخط من الله، وكفى بذلك عقوبة، وقد يستدل به على وجوب الرضا، وهو اختيار ابن عقيل، واختار القاضي عدم الوجوب، ورجحه شيخ الإسلام وابن القيم]. الإلزام بهذه المنزلة صعب، أي: كون الإنسان يرضى بالشيء الذي وقع له من المصائب؛ لأن الرضا معناه أن يغتبط بهذا الشيء ويفرح به، فهذا لا يستطيعه إلا الأفذاذ، ولكن الواجب هو الصبر وعدم الاعتراض، أما الرضا فإذا وصل إليه الإنسان فهو فضل عظيم، وإن لم يصل إليه فلا يكلف به. قال الشارح رحمه الله: [قال شيخ الإسلام: ولم يجئ الأمر به كما جاء الأمر بالصبر، وإنما جاء ثناؤه على أصحابه. قال: وأما ما يروى: (من لم يصبر على بلائي ولم يرض بقضائي فليتخذ رباً سواي)، فهذا خبر إسرائيلي لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال شيخ الإسلام: وأعلى من ذلك -أي: من الرضا- أن يشكر الله على المصيبة؛ لما يرى من إنعام الله عليه بها. انتهى، والله أعلم.

مسائل باب: من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله

مسائل باب: من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله قال المصنف رحمه الله: [فيه مسائل: الأولى: تفسير آية التغابن. الثانية: أن هذا من الإيمان بالله. الثالثة: في الطعن في النسب. الرابعة: شدة الوعيد فيمن ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية. الخامسة: علامة إرادة الله بعبده الخير. السادسة: إرادة الله به الشر]. هذه خلاصة الباب الذي سبق، وهي: تفسير الآية التي في سورة التغابن، وهي قوله جل وعلا: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن:11]، يعني: أن الإنسان يعرف معناها، يعرف ما أراد الله جل وعلا بها، وهنا (ما أصاب من مصيبة) عامة، لا يخرج عنه شيء، أي شيء يسمى مصيبة، (إلا بإذن الله): بقدره وكتابته وأمره القدري، وأنه خالق لذلك، فلابد أن يعلم، ثم يسلم له وينقاد، فمن فعل ذلك جازاه الله جل وعلا بهداية القلب؛ بأن الله يهدي قلبه، وهداية القلب: أن يكون متبعاً للحق، معرضاً عن الباطل، محباً للخير، مبغضاً للشر، ويستمر على ذلك، فمن فعل ذلك جوزي بحسنات يعملها، ويكتسب بها الأعمال التي توصله إلى رضا الله، وهو أمر عظيم، وقد سبق أن هذا يدل على أن العمل من الإيمان. أما الطعن في النسب فهو من شأن الجاهلية، وهو أيضاً يقدح في دين الإنسان، إذا فعله فإنه معصية يقدح في دينه؛ لأن الواجب على العبد المؤمن أن يزن الإنسان بعمله، وإنما يوزن الناس بأعمالهم وليس بأنسابهم. والإنسان ليس له دخل في والده ولا أمه من ناحية الجزاء والعقاب، فلا تزر وازرة وزر أخرى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} [النجم:39]، ولا يؤخذ الإنسان بجريرة غيره في حكم الإسلام، فكونه يطعن في نسبه هذا قادح في دينه، وهو معصية يقدح في توحيده. وكذلك النياحة على الميت، وقد سبق أنها: رفع الصوت وتعداد المحاسن، أي: أنه يأسف أنه فاته حظه من هذا الميت، فإنه يبكي حظه ولا يبكي الميت رحمه الله.

شرح فتح المجيد [95]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [95] الرياء آفة خطيرة يفسد العمل ويحبط الأجر، وهو أخوف ما يخاف على الصالحين؛ لأنه أخفى من دبيب النمل؛ ولذا كثر التحذير منه في كتاب الله وسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، فيجب على المسلم أن يراقب قلبه، وأن يكثر الاستعاذة بالله منه.

ما جاء في ذم الرياء والتحذير منه

ما جاء في ذم الرياء والتحذير منه قال المصنف رحمه الله: [باب ما جاء في الرياء. وقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110]]. الرياء: مأخوذ من الرؤية، والأصل في هذا أن الإنسان يعمل لنفسه، وكأنه يعبد نفسه، فيعمل العمل الذي يمدح به ويثنى عليه به بين الناس، يريد أن يرى مكانه ويتبوأ في قلوب الناس مكاناً عظيماً، فالأصل فيه أن عمله لنفسه، فكأنه عبد نفسه، وهذا من الشرك، فإذا كان قصده من العمل الذي فعله ليمدح ويثنى عليه ويقال: إنه عابد، أو إنه جواد، أو إنه عالم أو إنه متكلم، أو ما أشبه ذلك؛ فهو مشرك لا يشك فيه، وهو ممقوت عند الله، وصاحبه مستحق لعقابه جل وعلا، فضلاً عن أن يقال: إن عمله يمكن أن يقبل أو إنه لا يعاقب عليه. فإن كان العمل من الأشياء التي تسمع كالذكر والقراءة وما أشبه ذلك، فهذا يسمى سمعة، فالسمعة أن الإنسان يتحدث عند الناس بأنه عمل كذا وعمل كذا في عمل قد خفي على الناس؛ فيظهره لهم لأجل أن يمدحوه ويثنوا عليه، أو يتبوأ عندهم مقاماً مرموقاً، فهذا رياء إلا أن مصدره سماع القول، سواء صدر منه أو أذاعه ونشره ليذكر به. وهذا يختلف الناس فيه: فمنهم من يكون رياؤه شركاً أكبر! ومنهم من يكون رياؤه محبطاً للعمل الذي يقارنه، ومستحقاً عقاب الله عليه، وهو من الشرك، ولكنه لا يكون من الشرك الأكبر، ومنهم من يطرأ عليه ذلك في أثناء العمل، ثم يدفعه ويصلح نيته، ويجعلها خالصة لله جل وعلا، ويطرد ما يقع في نفسه من ذلك، ويعرض عنه، ويستحضر عظمة الله، وأن الناس لا ينفعونه، فمثل هذا لا يضره ذلك، وإن كان هذا ليس كالعمل الذي يكون خالصاً لله جل وعلا من أصله. والناس يتفاوتون عند الله جل وعلا في الإخلاص، ومن هذا الباب أن يعمل الإنسان لأجل الدنيا، وسيأتي في الباب الذي بعد هذا أنه يجب أن يكون عمله الصالح الذي عمله لأجل تحصيل الجنة، أو لأن الله أمر به؛ أما إن عمله من أجل الدنيا فهذا نوع من الشرك كما سيأتي في الباب الذي بعد هذا، ولكن في هذا الباب ذكر مجرد المراءاة، والسبب في هذا أن الإنسان يحب أن يكون فوق غيره، ولا يريد أن يكون أحد من الناس متقدماً عليه في الفضل، ويريد أن يتقدم هو من عدة نواح. فهذا من حظوظ النفس العاجلة، وهذا يدخل في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23] يعني: أنه يهوى هذه الأشياء ويحبها، ويريد أن يحظى بها في الدنيا، وفي الواقع أن هذا يحصل من الإنسان الذي نظره قصير، وعقله ضعيف، وإيمانه قليل، ومراقبته لربه جل وعلا ليست تامة، بل غائبة عنه. والعلاج أن يعلم أنه عبد لله جل وعلا يجب أن يخلص عمله لربه، وأنه إذا لم يكن عمله خالصاً فإن الله غني عنه، وهو يتركه كما سيأتي. ومع ذلك الترك فإنه يعاقبه ويعذبه، وعذاب الله جل وعلا لا يشبه عذاب الناس، ولا يقابله منفعة يتمتع بها في الدنيا، المنافع هذه بعضها خيال قد يصل إليه شيء، وقد لا يصل إليه شيء، وسنة الله جل وعلا في خلقه أن المرائي تنعكس عليه أموره، ويتبين للناس من خلال سيرته وعمله أنه مراء، ثم يمقت على هذا، وتصبح مراداته معكوسة، أراد أن يحب ويمدح ويثنى عليه لكنه يبغض ويكره ويمقت، وإن لم يصرح للناس بذلك؛ لأن الأمور لا تخفى على الذي له عقل ومعرفة بأحوال الناس، يعرف ذلك من خلال أعمالهم وأقوالهم مع أن المرائي يكون ليناً في مقالته مع الناس؛ ليصرف وجوههم إليه، ويكون ألين ممن يريد وجه الله ولا يبالي بمدح أو ذم، بل كونه لا يمدح أحب إليه من أن يمدح ويثنى عليه؛ لأنه لا يقصد بهذا العمل إلا وجه الله. والإخلاص لابد منه في صحة العمل، فكل عمل يعمله الإنسان إن لم يكن خالصاً فهو مردود عليه. ومعروف أن الإنسان كلف بأمر الله جل وعلا امتثالاً، وبنهي الله جل وعلا اجتناباً، والأمر لا يكون إلا عن طريق الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك النهي لابد أن يأتي عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو الذي جاء به؛ لأنه أمر الله، وأمر الله يأتي بالوحي، والوحي لا ينزل إلا على رسول، فالله يرسل الرسول خاصة للأمم، وآخر الرسل صار عاماً للناس كلهم، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، فلابد أن يبين ذلك ويوضحه. ثم العمل الذي يعمله الإنسان، والاجتناب الذي يجتنبه، يجب أن يكون من أجل الله جل وعلا فقط، خوفاً منه، ورجاءً لثوابه فقط، ولا يكون لأمر آخر من أمور الناس والدنيا، فإن دخله شيء من المنافع سواء كانت معنوية كالمدح والمحبة والثناء وما أشبه ذلك أو حسية كأن يتوصل بهذا العمل إذا أظهره إلى نفع من منافع الدنيا -وظيفة أو غير ذلك- فإن عمله يكون حابطاً، ويكون عابداً لنفسه في الحقيقة مع ربه، أو عابداً للدنيا مع ربه، وهذا أمر خطير جداً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم خافه على صحابته وقال: إنه يخافه عليهم أكثر من خوفه عليهم من المسيح الدجال كما سيأتي. والسبب في هذا أن الدافع والداعي له أمر موجود في النفوس، وهو كامن في النفس، وكل نفس موجود فيها هذا الشيء، فإذا لم تهذب النفس بخوف الله ومراقبته فلابد من وقوعها في ذلك. إذاً: الرياء يخاف منه على الصالحين فكيف بمن ليس منهم؟ فالخوف عليهم أشد. والشأن في الإخلاص عظيم، وإن كان العمل الخالص قليلاً فهو في الواقع كثير، أما إذا كان العمل كثيراً وهو غير خالص فهو في الواقع قليل، وقد يحبط ويكون وبالاً على صاحبه كما سيأتي تفسير ذلك في النصوص. واسم هذا الكتاب الذي وضعه المؤلف: (كتاب التوحيد)، والتوحيد هو: أن يكون العمل لله وحده فقط، لا يكون لغيره، فإن دخله شيء من مقاصد الناس لم يكن توحيداً، وصار موزعاً بين الرب جل وعلا وبين المقاصد الأخرى، وهذا هو الشرك؛ لأنه لا يوجد في بني آدم من يعبد الصنم فقط، وإنما يعبد الصنم ويعبد الله، كل الذين يعبدون غير الله يشركون، أما أن يوجد قوم لا يعبدون إلا الصنم فهذا لا وجود له؛ لظهور الأدلة الواضحة في وجوب عبادة الله جل وعلا، ولو من جهة الربوبية، وهذا أمر الإنسان مضطر إليه، فإذا خلص الإنسان من هذه البلية فهو من المخلصين الذين خلصهم الله جل وعلا من بين الخلق. والأمور تختلف في هذا، فهناك أعمال يكون الإخلاص فيها سهلاً كالصوم مثلاً، وهناك أعمال الإخلاص فيها عزيزٌ جداً، ولا يوجد إلا عند من كان إيمانه قوياً كالصدقة الظاهرة، وغيرها من الأعمال الظاهرة التي تكون أمام مرأى الناس ومسمعهم، فإن هذه تحتاج إلى مجاهدة، وتحتاج إلى أن تتجدد النية، وكلما عرض له شيء يجدد نيته من جديد، فيجعلها خالصة لله، وإلا قد لا يسلم له شيء؛ لأن العمل الذي يخالطه الرياء يكون حابطاً.

قوله تعالى: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي)

قوله تعالى: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي) واستدل المؤلف هنا في أول الباب بقول الله جل وعلا: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110]. معلوم أن الآية الواحدة (من كتاب الله جل وعلا تشتمل على معان كثيرة جداً، فالله يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس هذا الكلام فقال: (قل)، فهذا أمرٌ من الله: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ}: يعني لست برب ولا إله، أنا بشر مخلوق، ولكن الله جل وعلا خصه بالرسالة، وكلفه بأعبائها وتبليغها، هذا الذي خص به من دون الناس، أما في خلقه وخصائصه من الأكل والشرب والنوم وما أشبه ذلك، وكونه خلق من ذكر وأنثى؛ فهو مثل الناس تماماً، ليس كما يزعم أهل البدع والانحرافات أنه خلق من النور، وأنه أصل المخلوقات، وأنه لولاه ما خلق شيء، وغير ذلك من أنواع الغلو التي تئول بصاحبها إلى الشرك بالله جل وعلا في الربوبية. يقول: {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}، والذي أتميز به عنكم {يُوحَى إِلَيَّ}، تميز بالوحي فقط، أن الله يوحي إليه أمره ونهيه الذي كلفه أن يبلغه إلى الناس، كلفه به ليقوم بأعبائه، ثم جعل الوحي في شيء واحد؛ لأن هذا هو الأصل: {يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}؛ لأن هذا الذي يدور عليه جميع العمل الذي كلف به بنو آدم. والإله: هو المألوه الذي تألهه القلوب حباً وخوفاً، ورجاءً وإنابة، وتوكلاً وخشية، فيجب أن يكون هو المألوه في أداء الأعمال، وتؤدى له فقط: {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}، وهو الله جل وعلا. ثم قال: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ}، الرجاء: يقصد به الاعتقاد والإيمان، واللقاء: يتضمن الرؤية والمعاينة. والمقصود الحساب، فمن كان عنده إيمان بأن الله سيميته، ثم يبعثه، ثم يوقفه بين يديه ويحاسبه: {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}، من كان يرجو ذلك فليكن عمله صالحاً، أما الصلاح فيقصد به أن يكون موافقاً لأمر الله جل وعلا ونهيه، وإذا لم يكن موافقاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فهو فاسد غير صالح. (فليعمل عملاً صالحاً) فليعمل بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فقط، لا بهوى نفسه، ولا بما وجد عليه الناس، ولا بمقتضى عقله، ولا بغير ذلك من الأمور التي تكون مصدراً للعمل، وإنما يتعرف على أمر الله الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ويجتهد في معرفته ثم يعمل به: {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}، ولا: هنا ناهية. والشرك هنا يقصد به صغيره وكبيره، ولهذا قال: (أَحَداً) نكرة في سياق النهي، وهذا من العمومات التي لا يخرج عنها شيء، فدخل فيه الشرك الأكبر والشرك الأصغر، ومن ذلك الرياء، ولا يلزم أن يكون شركاً صغيراً فقد يكون كبيراً؛ لأن الرياء إذا كان في أصل العمل فهذا من شأن الكفار والمنافقين، فالله جل وعلا أخبر عنهم أنهم: {خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ} [الأنفال:47]، مراءاة للناس، أما المنافقون فيقول جل وعلا أنهم {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:142]، والرياء في الأعمال بالباطنة لا يصدر من مسلم، أما في الأعمال الظاهرة التي ترى فقد يصدر منه الرياء ويقع فيه، مثل الحج، والصلاة وما أشبه ذلك، يريد أن يذكر، وربما يشهر نفسه، حتى إن بعض الناس إذا حج سمى نفسه: الحاجُّ فلان، لماذا الحاج فلان؟ حتى يعرفوه أنه قد حج! فيجب أن يكون العمل لله وحده، ولا يذكره للناس حتى يثنوا عليه به أو يسموه به، فهذا من أقل ما يقال، وإلا فالأمور التي تقدح في العمل كثيرة جداً، ولكن هذا واضح يجب على العبد أن يجتنبه حتى يكون عمله صالحاً خالصاً لله، ويكون ممن امتثل أمر الله في هذه الآية: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110]، يعمل عملاً صالحاً إن كان يرجو لقاء ربه. ولقاء الله جاء كثيراً في القرآن يقصد به المواجهة والمحاسبة، وفي ضمن ذلك رؤية الله جل وعلا، قال السلف: كل لقاء في القرآن يتضمن الرؤية؛ لأن لقاء الرؤية يكون بعد الكدح والعمل كما قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6]، فاللقاء يكون بعد كدح العمل. ومعلوم أن كل إنسان عامل، وعمله إما له أو عليه، فإذا كان عليه فاللقاء بمعنى الجزاء للكفار ونحوهم؛ لأنهم لا يرون ربهم، وإن كان مؤمناً فإن لقاءه يتضمن معاينة ربه وكلامه، ومحاسبته، وقد يكون فيه تهديد، وقد يكون فيه تقرير له على أعماله السيئة، ثم يعفو عنه جل وعلا كما في حديث عبد الله بن عمر الذي في الصحيح لما قيل له: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى؟ يعني: مناجاة الرب جل وعلا لعبده، وهذا مما يجب أن نؤمن به، فإن الله يكلم عباده جهاراً، ويكلم عبده بينه وبينه، والنجوى لغة: أن يكلم شخص آخر ولا يسمعه من بجواره، فلما سئل: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى؟ قال: سمعته يقول: (يدني الله عبده المؤمن فيضع عليه كنفه)، والكنف: هو الستر، يستره لئلا يراه أهل الموقف فيفتضح أمامهم، فيقرره بذنوبه يقول: عملت كذا في وقت كذا في يوم كذا في مكان كذا، وما يستطيع أن ينكر، ويقول: بلى، وكلما قال له: عملت كذا وكذا عملت كذا وكذا يتغير لونه، ويظن أنه هلك، وأن الله سوف يأخذه ويعذبه بذلك، وهذا سبب كونه يضع عليه الستر، قال: (فإذا قرره بذنوبه قال الله جل وعلا له: أنا سترتها عليك في الدنيا وأغفرها لك اليوم، ثم يعطى كتابه بيمينه)، عند ذلك يفرح الفرح الكبير، ويتصور أن أهل الموقف كلهم يهمهم أمره، فيرفع كتابه بيده ويقول: هاؤم اقرءوا كتابيه، يعني: يا هؤلاء! اقرءوا كتابيه، انظروا أعطيت الكتاب باليمين، وهذا هو عنوان السعادة، فمن شدة الفرح واستيلاء السرور عليه يقول هذا الكلام. أما الكافر أو الفاجر فإنه يقال للملائكة: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:30 - 32]، هكذا يكون جزاؤه. يجب أن يحسب الإنسان اللقاء حساباً، فإن كان عنده له حساب فليكن عمله صالحاً موافقاً للسنة، وليكن خالصاً لله جل وعلا، وليس للناس فيه شيء، لا ينظر إليهم، ولا يهمونه، ويعلم أن الخلق كلهم لو اجتمعوا على أن ينفعوه بشيء ما استطاعوا إلا بشيء قدره الله له، ولو اجتمعوا على أن يضروه بشيء ما استطاعوا إلا بشيء قدره الله عليه، ولا يكون ذلك إلا من جراء ذنوبه.

نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن مدح الشخص أمام وجهه

نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن مدح الشخص أمام وجهه قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله (باب ما جاء في الرياء). أي: من النهي عنه والتحذير، قال الحافظ: هو مشتق من الرؤية، والمراد به إظهار العبادة لقصد رؤية الناس لها؛ فيحمدون صاحبها، والفرق بينه وبين السمعة: أن الرياء لما يرى من العمل كالصلاة، والسمعة لما يسمع كالقراءة والوعظ والذكر، ويدخل في ذلك التحدث بما عمله]. قوله: (يحمدونه) أي: يثنون عليه ويمدحونه ويحبونه، ويثقون به، وربما يريد أن يقبلوا يداه ورأسه أو ما أشبه ذلك، حتى يكون له مقام عند الناس، وهذا من عبادة النفس التي يجب أن يكون الإنسان كارهاً لها، مبغضاً لها، دافعاً لها لا يريدها، ولكون النفس تحب هذا الشيء نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن مدح الشخص أمامه، لا يجوز أن تأتي إلى أخيك وتمدحه وتقول: أنت فيك وفيك وأنت كذا وكذا؛ لأن نفسه ضعيفة قد تغلبه؛ وذلك أنه إذا سمع بالمدح -وإن كان هو أعلم بنفسه من المادح- فقد تغالطه نفسه ويقول: لعلي كذلك، وإن كانت هذه مغالطة في الواقع، لكن قد يكون الدافع لهذا قوياً، وهو حب الإنسان أن يكون مقدماً عند الناس، ومحبوباً لهم، ومثنىً عليه، وهذا شيء قوي تريده النفوس، وكل إنسان يريد أن يكون فوق أبناء جنسه، ولا يريد أن يكون دونهم؛ لهذا تجد كل إنسان معجباً بنفسه وعمله، وربما يزدري الآخرين من باب الإعجاب، فلهذا نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ولما سمع إنساناً يمدح آخر قال: (ويلك قطعت عنقه)، كيف قطع عنقه؟ يعني: أنه يسلط عليه نفسه. فيترك ما أمر به من الإخلاص، وازدراء النفس، وقد لا يعرف قدره إذا مدح، فإذا لم يعرف قدره فإنه يهلك، وإذا أراد أن يعرف قدره فليعرض عمله على كتاب الله إن كان من الذين يقول الله جل وعلا فيهم: {كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات:17 - 19]، {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون:2 - 4] إلى آخر ما ذكر الله جل وعلا من صفات الذين يثني عليهم، فإذا كان من هؤلاء فهو عند الله جل وعلا محبوب وله الجزاء، وإن لم يكن وصفه هكذا فليراجع عمله ونفسه، ويجتهد لعله يصل إلى شيء من ذلك، وإلا أصبح مثلما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لينتهين أقوامٌ عن فخرهم بأناس هم فحمٌ من فحم جهنم أو ليكونن أهون عند الله من الجعلال الذي يدهده النتن بأنفه)، فهو أهون عند الله من هذه الدابة التي تختار النتن القذر وتدهدهه بأنفها؛ لأن الإنسان ما له قيمة إلا بعمله، وإذا كان يعمل لأجل نفسه فهو ممقوت عند الله مكروه، ومن مقته الله جل وعلا فإنه يفضحه ويخزيه ويعذبه، نسأل الله العافية.

وجوب توحيد الله بالعبادة

وجوب توحيد الله بالعبادة قال الشارح رحمه الله: [قوله: وقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} أي: ليس لي من الربوبية ولا من الإلهية شيء، بل ذلك كله له وحده لا شريك له، أوحاه إلي: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ} أي: يخافه: {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110]. قوله (أحداً): نكرة في سياق النهي تعمه، وهذا العموم يتناول الأنبياء والملائكة والصالحين والأولياء وغيرهم. قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: أما اللقاء فقد فسره طائفة من السلف والخلف بما يتضمن المعاينة وقالوا: لقاء الله يتضمن رؤيته سبحانه وتعالى يوم القيامة، وذكر الأدلة على ذلك. قال ابن القيم رحمه الله تعالى في الآية: أي: كما أن الله واحد لا إله سواه، فكذلك ينبغي أن تكون العبادة له وحده لا شريك له، فكما تفرد بالإلهية يجب أن يفرد بالعبودية، فالعمل الصالح هو: الخالص من الرياء، المقيد بالسنة]. والدليل على هذا أن الله جل وعلا تفرد بالخلق والإيجاد والتصرف، فهذا الدليل لا ينكره أحد، ويقر به كل أحد، لا أحد يقول: إن فلاناً هو الذي خلق السموات مع الله، أو ما أشبه ذلك، كل الناس يقرون بأن الله هو الخالق وحده، وهو الذي يملك الكون كله وحده. فهذا دليل على وجوب عبادته وحده، فإذا كان هو المتفرد بالخلق والإيجاد والتصرف فإنه يجب أن يفرد بالتأله والقصد والإرادة، وأن يكون العمل له وحده خالصاً، وهذا هو الذي استدل الله جل وعلا به على الكفار في آيات كثيرة، كقوله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21] يعني: أنتم تقرون وتعترفون أنه هو الذي خلقكم، وخلق من قبلكم، ويخلق من بعدكم، ولا يشاركه في ذلك أحد، فكيف تجعلون له أنداداً وأنتم تقرون بهذا؟ {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22] فهم يعلمون أن الله هو الخالق لهم وحده، ولمن قبلهم وبعدهم، ويقرون بأنه هو الذي جعل الأرض على هذه الصفة التي يمكن للإنسان الانتفاع منها، كالفراش الذي يتمكن من الجلوس عليه والانتفاع به. والسماء جعلها بناءً مرفوعة يشاهدونها، وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الأرض ما يأكلونه وتأكله بهائمهم التي ينتفعون بها، فقد كانوا يقولون: إن الله هو المتفرد بهذا، وليس معه أحد، وهذا معنى قوله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}. إذاً: الأنداد التي يجعلونها ليست في الخلق، وإنما هي في التوجه والقصد والعبادة، فصار توحيد الربوبية دليلاً على توحيد الإلهية والعبادة، وهذا فرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية؛ لأن الكفار أقروا بالأول، وجعله الله دليلاً عليهم موجباً لهم أن يعبدوا هذا الذي أقروا بأنه تفرد بالإيجاد والخلق والرزق: {أَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ} هذا لله وحده، هل يوجد أحد يقول: إن عبد القادر الجيلاني هو الذي ينزل المطر وينبت النبات أو أحمد البدوي أو غيرهما؟ لا يوجد، ولكن الشيطان يأتيهم بقالب آخر يقول: هؤلاء أولياء، ومحبوبون عند الله، فإذا توجهنا إليهم وطلبنا منهم، فهم بدورهم يطلبون من الله لنا؛ فيكون هذا أقرب إلى الإجابة، وتكون وساطة قياساً على أمور الدنيا، فإن الإنسان إذا كان له حاجة عند رئيس أو معظم يذهب أولاً إلى من يعرفه أو إلى من يكون قريباً منه، فيطلب منه التوسط حتى تنجح مسألته، فقاسوا الخالق جل وعلا بالمخلوق تعالى الله وتقدس، مع أن الواجب أن يكون الفعل الذي يفعله الإنسان متقرباً به إلى الله على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فقط، وهذا الشرك ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم بل نهى عنه، وهو الذي كان المشركون يفعلونه فيقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، يعني: يشفعوا لنا.

سبب الشرك الذي وقع فيه المشركون

سبب الشرك الذي وقع فيه المشركون الشرك الذي وقع فيه جميع المشركين هو من باب الشفاعة فقط، ادعوا أنهم يشفعون لهم، فقال الله جل وعلا: {أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ} [الزمر:43] (أم) إذا جاءت في القرآن فالمفسرون يقولون: معناها: بلِ اتخذوا: {أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ} [الزمر:43]، كثيرٌ منهم لا يعقل؛ لأنه إما ميت وإما جماد كشجر أو حجر أو غير ذلك، فهو لا يعقل كلامك وما تقصده منه، لأنه لا يسمع، وقد تكون قريباً منه ولكنه لا يعقل؛ لأنه جماد. ثم قال جل وعلا: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} [الزمر:44] الشفاعة لله فاطلبها منه فقل: اللهم! شفع فيَّ نبيك، اللهم! إني أسألك أن تشفع فيَّ نبيك، فهذا هو الطريق لها، أما إذا ذهبت تطلبها من المخلوق فهذا سبب في منعك إياها؛ لأن الله جل وعلا يقول: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، ومعلوم أن الشفعاء الذين ذكرهم الله جل وعلا لا يشفعون إلا لمن يرضى الله جل وعلا عنه، والله لا يرضى إلا بالتوحيد والإخلاص له، أما إذا كان مشركاً فالشرك سبب منع الشفاعة، فيأتيه المنع والحرمان من حيث ظن أنه يحصل له النفع والشفاعة، فانعكست عليه القضية تماماً، وهكذا المخالفون لأمر الله جل وعلا تنعكس عليهم يوم القيامة، وإذا مات الإنسان انتهت القضية، وختم على عمله، وأصبح لا ينفعه شيء ولو ندم أو تحسر. قال الشارح رحمه الله: [قال: وفي الآية دليل على أن أصل الدين الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم والمرسلين قبله هو إفراده تعالى بأنواع العبادة، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]. والمخالف لهذا الأصل من هذه الأمة أقسام: إما طاغوت ينازع الله في ربوبيته وإلهيته، ويدعو الناس إلى عبادته، أو طاغوت يدعو الناس إلى عبادة الأوثان، أو مشرك يدعو غير الله ويتقرب إليه بأنواع العبادة أو بعضها، أو شاك في التوحيد، أو جاهل يعتقد أن الشرك دين يقرب إلى الله، وهذا هو الغالب على أكثر العوام؛ لجهلهم وتقليدهم من قبلهم، لما اشتدت غربة الدين ونسي العلم بدين المرسلين.

ترك الله لعمل ابن آدم إذا أشرك فيه معه غيره

ترك الله لعمل ابن آدم إذا أشرك فيه معه غيره قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً (قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه)، رواه مسلم]. أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم تنقسم إلى قسمين: قسم يقوله صلى الله عليه وسلم آمراً به وناهياً، حسب تكليف الله له جل وعلا، ويقول ذلك عن وحي أيضاً. وقسم يضيفه إلى ربه جل وعلا يقول: قال الله تعالى يقول الله تعالى وهذا القسم يسمى قدسياً، فالقدسي نسبه إلى الطهارة والنزاهة والرفعة يعني: أنه قول الله. والحديث القدسي لفظه ومعناه من الله، والرسول صلى الله عليه وسلم يبلغه، ولكنه ليس كالقرآن من ناحية التحدي به، والتعبد بتلاوته، وصحة الصلاة به، وما أشبه ذلك من الأمور التي يتميز بها القرآن عن الحديث القدسي. أما القسم الأول: فالعبارة من الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن المعنى من الله جل وعلا؛ لأن الله جل وعلا يقول: {وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4] يعني: كل ما يتكلم به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأوامر والنواهي وحي من الله. فعلى هذا؛ يكون هذا الحديث من القسم الثاني، يقول الله جل وعلا: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه)، وغناه جل وعلا أمر ظاهر، وكذلك كرمه وجوده يقتضي أنه لا يقبل العمل إذا كان فيه شرك؛ لأنه يتركه لغناه وكرمه، ولكونه جل وعلا لا يقبل إلا الطيب الطاهر الخالص. قوله: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك)، يعني: لا يمكن أن يكون الشريك مقارباً لله جل وعلا في الغنى، ومعروف من الأمور البديهية في أمر الدين الإسلامي أن الله غني بذاته عن كل ما سواه، وليس عمل الإنسان وإخلاصه ينفع الله جل وعلا وتعالى وتقدس، بل عمله لنفسه فقط: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ} [فصلت:46] فالله غني عن عمله، ولكنه كلف عبده أن يعمل أعمالاً صالحة خالصة، كلفه بهذا حتى يتميز من يكون عبداً لله جل وعلا ومن يكون عبداً لغير الله، وكل من لم يعبد ربه لابد أن يعبد الشيطان بمظاهره المختلفة، فإن الشيطان يظهر بمظاهر كثيرة، فقد يكون في مظهر حب النفس، ومظهر الشهوة، وقد يكون في مظهر أمور يحبها الإنسان وتغلب عليه كلعبة معينة يترك بسببها أمر الله ونهيه ولا يبالي بذلك، فكل من لم يعبد الله لابد أن يعبد غيره، حتى الملاحدة الذين يقولون: الحياة مادة، ولا يوجد جنة ولا نار ولا بعث، ولا يوجد إلا هذه الحياة فقط، فهم في الواقع يعبدون شهواتهم، ويعبدون رؤساءهم وساداتهم وكبراءهم. فهم لما لم يعبدوا الله جعلهم الله جل وعلا يعبدون نظراءهم، أو من هو أخس منهم وأحقر؛ جزاءً وفاقاً، فكل إنسان لابد أن يعبد ربه، فإن لم يعبد ربه فإنه سيعبد شيئاً آخر من مظاهر الكون والمخلوقات، وفي النهاية تكون العبادة للشيطان؛ لأنه هو الذي يأمر بعبادة غير الله، ويزين الشرك والكفر والإلحاد والفسوق والعصيان في أعين الناس. يقول جل وعلا: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك)، ولا شك أن غناه تام وكامل، فهو غني بذاته عن كل ما سواه، فصار من مقتضى غناه أنه إذا وقع عمل وصار هذا العمل مشتركاً بين الله وبين غيره؛ أن يترك هذا العمل لهذا الشريك، لهذا قال: (من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه) قوله: (تركته) الضمير يعود على العمل، أي: تركت العمل فيكون حابطاً باطلاً، ويجوز أن يعود على صاحبه، أي: تركت صاحبه وشركه، يعني: أن الشريك هو الذي يتولى جزاءه ويتولى ثوابه، فإذا كان يوم القيامة يقول الله جل وعلا: انظر إلى من أشركته في عملك فاطلب جزاءك عنده، والنتيجة خسارة وعذاب في جهنم.

معنى حديث: (من عمل عملا أشرك فيه غيري)

معنى حديث: (من عمل عملاً أشرك فيه غيري) قال الشارح رحمه الله: [قوله: (من عمل عملاً أشرك فيه غيري) أي: من قصد بعمله غيري من المخلوقين، (تركته وشركه)، ولـ ابن ماجة: (فأنا منه بريء، وهو للذي أشرك)، قال الطيبي: الضمير المنصوب في قوله: (تركته) يجوز أن يرجع إلى العمل. قال ابن رجب رحمه الله تعالى: واعلم أن العمل لغير الله أقسام: فتارة يكون رياءً محضاً كحال المنافقين كما قال تعالى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء:142]، وهذا الرياء المحض لا يكاد يصدر عن مؤمن في فرض الصلاة والصيام، وقد يصدر في الصدقة أو الحج الواجب أو غيرهما من الأعمال الظاهرة أو التي يتعدى نفعها، فإن الإخلاص فيها عزيز، وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابط، وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة، وتارة يكون العمل لله ويشاركه الرياء، فإن شاركه من أصله فالنصوص الصحيحة تدل على بطلانه]. إذا شاركه في الأصل، أي: كان الباعث عليه من أصل المبدأ أنه يريد المراءاة، فهذا حابط بلا شك. قال الشارح رحمه الله: [وذكر أحاديث تدل على ذلك، منها هذا الحديث، وحديث شداد بن أوس مرفوعاً: (من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك، وإن الله عز وجل يقول: أنا خير قسيم لمن أشرك بي، فمن أشرك بي شيئاً فإن جدة عمله وقليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به، وأنا عنه غني) رواه أحمد. وذكر أحاديث بالمعنى ثم قال: فإن خالط نية الجهاد مثلاً نية غير الرياء، مثل أخذ أجرة للخدمة، أو أخذ شيء من الغنيمة أو التجارة، نقص بذلك أجر جهاده ولم يبطل بالكلية]. إذا كان عنده طمع بأن يحصل على غنيمة أو على نفع دنيوي خاص به، فهذا يكون نقصاً في جهاده، أما إذا كان الباعث له على الجهاد أن يحصل على الأموال فقط فهذا من الشرك الذي سيأتي ذكره في الباب الذي بعد هذا، فيقول الله فيه: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16]. ومعنى الآية: أن الذي يعمل الأعمال الصالحة ويقصد بها الدنيا فجزاؤه بهذه الصفة، ولكن إذا كان الباعث له على العمل طاعة الله وطاعة رسوله، والطمع في ثوابه والنجاة من عقابه، ودخل في هذا أنه يحصل على نفع دنيوي كالغنيمة؛ فهذا لا يحبط عمله، ولكن ينقص أجره، فلا يكون مثل الذي صار عمله كله للآخرة.

الأجر على قدر النية

الأجر على قدر النية قال الشارح رحمه الله: [قال ابن رجب رحمه الله: وقال الإمام أحمد رحمه الله: التاجر والمستأجر والمكري أجرهم على قدر ما يخلص من نياتهم في غزواتهم]. المكري هو الأجير الذي يُستأجَر مع دابته ليوصل الحجاج مثلاً؛ لأن الحاج قد لا يكون عنده سيارة مثلاً فيستأجر صاحب السيارة، فيقول: اذهب بنا إلى مكة، فهذا يذهب إلى مكة من أجل أنه مستأجر ثم يحج فلا يكون حجه تاماً، ولكن إذا كانت نيته خالصة فيكون حجه تاماً، وإذا قصد النفع وأخذ الأجرة؛ فله ما قصد. [ولا يكونون مثل من جاهد بنفسه وماله لا يخلط به غيره. وقال أيضاً فيمن يأخذ جعلاً على الجهاد: إذا لم يخرج لأجل الدراهم فلا بأس؛ كأن خرج لدينه، فإن أعطي شيئاً أخذه. وروي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: إذا أجمع أحدكم على الغزو فعوضه الله رزقاً فلا بأس بذلك، وأما إن كان أحدكم إن أعطي دراهم غزا، وإن لم يعط لم يغز؛ فلا خير في ذلك. وروي عن مجاهد رحمه الله أنه قال في حج الجمَّال وحج الأجير وحج التاجر: هو تام لا ينقص من أجره شيء أي: لأن قصدهم الأصلي كان هو الحج دون التكسب. قال: وأما إن كان أصل العمل لله، ثم طرأ عليه نية الرياء: فإن كان خاطراً ثم دفعه فلا يضره بغير خلاف، وإن استرسل معه فهل يحبط عمله أم لا، فيجازى على أصل نيته؟ في ذلك اختلاف بين العلماء من السلف قد حكاه الإمام أحمد وابن جرير، ورجحا أن عمله لا يبطل بذلك، وأنه يجازى بنيته الأولى، وهو مروي عن الحسن وغيره. وفي هذا المعنى جاء حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه سئل عن الرجل يعمل العمل من الخير يحمده الناس عليه فقال: تلك عاجل بشرى المؤمن) رواه مسلم انتهى ملخصاً. قلت: وتمام هذا المقام يتبين في شرح حديث أبي سعيد، إن شاء الله تعالى].

تعريف الحديث القدسي

تعريف الحديث القدسي هذا الحديث، هو قول الرسول صلى الله عليه وسلم عن الله تبارك وتعالى وهو حديث قدسي كما سبق، والحديث القدسي: هو ما أضيف إلى الله جل وعلا قولاً ومعنى، فالرسول صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربه تبارك وتعالى، بخلاف الحديث الذي يضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه صلوات الله وسلامه عليه يعبر عن المعنى الذي أوحي إليه بالعبارة التي تناسب من قوله صلوات الله وسلامه عليه. أما المعنى في الحديث فهو كله من الله؛ لأن الله جل وعلا يقول: {وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4] يعني: أن كل ما تكلم به الرسول صلى الله عليه وسلم في أمر الدين أو من الإخبار عما سيكون في المستقبل أو عن الماضي، وكل ما يتعلق بأمر الله وخبره؛ فهو وحي من الله جل وعلا. قوله جل وعلا: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)، معلوم عند الخلق كلهم أن الله جل وعلا غني بذاته عن كل ما سواه، فالخلق كلهم لا ينفعونه بطاعتهم، ولا يضرونه بمعصيتهم: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت:46]، بل العباد هم الفقراء: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} [فاطر:15]، فكل مخلوق فقير إلى الله جل وعلا فقراً لا ينفك عنه، فقير في منشئه ومبدئه، فقير في حاله وما هو عليه، فقير في مآله ومنتهاه، فهو فقير إلى الله دائماً، ويتضح فقر العبد بما يلي: أولاً: خلقه الله جلا وعلا ولم يكن شيئاً. ثانياً: هو فقير في حياته، فإن تخلى الله جل وعلا عنه تخطفته الشياطين، وتحكمت به الأهواء، وهلك من حيث لا يشعر. ثالثاً: هو فقير في مآله ومنتهاه إلى الله جل وعلا، فإن لم يتغمده الله جل وعلا برحمته فهو هالك، وكل الخلق إلى الله فقراء، وقد أوجب الله على عباده أن يعبدوه وحده، وأن تكون العبادة له وحده، فإن دخل العبادة شيء من القصد لغير الله فمقتضى غنى الله جل وعلا وكرمه أن يترك هذا العمل للذي قصد، وهذا عام مطلق في كل عمل، فإذا دخل العمل الرياء فإنه يكون داخلاً في هذا النص سواء كان في مبدأ ذلك ومنشئه، أي: نشأ معه في العمل أو طرأ عليه في أثنائه، فإنه يكون قد أشرك فيه غير الله، فيكون الجزاء أن الله يتركه وشركه، والضمير في قوله: (تركته وشركه)، إما أن يعود إلى العمل أو إلى صاحبه. أما ما ذكر من أنه إذا كان منشأ العمل وأصله ومبعثه لله جل وعلا خالصاً، ولكن طرأ عليه الرياء، ثم ذكر الخلاف فيه، فالحديث نفسه يفصل في هذا، فلا وجه للخلاف في ذلك، فإن الشرك إذا طرأ على عمل أفسده، ولكن إذا كان خاطراً يخطر في نفسه، ثم دفع ذلك الخاطر وأعرض عنه وأصلح نيته وأخلصها، فإن هذا لا يضره؛ لأنه مجرد شيء عرض ولم يتحقق. أما إذا استدعاه بنفسه بأن عرض له في نفسه ثم طلبه واستدعاه واسترسل معه، فهذا يكون محبطاً للعمل، والعمل الذي يحبط بذلك هو العمل الذي قارنه الشرك فقط، أما شيء قبله أو شيء بعده فهذا له حكمه: إن كان مخلصاً فيه فهو لله جل وعلا، وإن كان فيه شيء من الرياء وإرادة النفس وإرادة الدنيا فهو داخل في ذلك، فيتركهُ الله وشركه. ومعنى ترك الله جل وعلا له: عدم الاعتداد به، والثواب عليه، بل يترك لصاحبه ويقال له: (اذهب إلى الذي كنت ترائي، فاطلب ثوابك منه)، وقد يأتي الإنسان يوم القيامة بأعمال ظاهرها أنها خالصة لله على ما يرى، ثم تصبح باطلة ومحبطة، ويصبح جزاء صاحبها عذاب الله جل وعلا، فإذا كانت قد خفيت على الملائكة الذين يكتبون ذلك، فإنها لا تخفى على علام الغيوب الذي يعلم نية العبد ومقصده، ويقول الله جل وعلا: إنها عملت لأجل فلان ثم يردها جل وعلا، ولكن الغالب أن المرائي لا يخفى أمره.

عاجل بشرى المؤمن

عاجل بشرى المؤمن ذكر الشارح حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن العبد يثنى عليه بالعمل فقال: ذاك عاجل بشرى المؤمن)، هذا في عملٍ عُمِل خالصاً لله جل وعلا، ولم يتعرض العامل فيه لطلب الثناء أو وجوه الناس، ولكنه ظهر وهو لا يريد إظهاره؛ فأثني عليه بذلك. والمؤمن لا يجوز أن يفرح بالثناء ويطلب المدح، بل يجب أن يخاف أن يكون هذا من حظ النفس، وأن يكون هذا مبطلاً لعمله، ولكن إذا جاء شيء لم يطلبه وهو واقع على عمل معمول لله جل وعلا، فهذا هو الذي جاء فيه الحديث أن ذلك عاجل بشرى المؤمن، والمعنى: أن هذا دليل على أن عمله مقبول وأن الله جل وعلا أثابه عليه وقبله.

خوف النبي عليه الصلاة والسلام على أمته من الرياء

خوف النبي عليه الصلاة والسلام على أمته من الرياء قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعاً: (ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: الشرك الخفي يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل) رواه أحمد]. هذا الحديث خطاب للصحابة رضوان الله عليهم، والصحابة هم خير هذه الأمة؛ فهم أبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأخلصها عملاً، وأعلمها بالله، وأتبعها لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولا أحد يصل إلى ما وصلوا إليه، ومع ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من الدجال؟ ومعلوم ما هو الخوف من الدجال فإن الرسول صلى الله عليه وسلم حذر أمته منه، وقال: (إذا أحد به الإنسان فلينأ عنه -أي: يبتعد- فإن الرجل يأتيه وهو واثق بدينه فلا يزال به حتى يفتن ويصدقه)، ولهذا أمرنا صلوات الله وسلامه عليه أن نستعيذ بالله من شره ومن فتنته في كل صلاة ومع ذلك يقول: (إن هذا الأمر أخوف عليكم عندي من الدجال، فهذا يدل على أن هذا الأمر يجلب الخوف خصوصاً على الصالحين الذين عندهم كمال، فكيف بضعفاء الإيمان الذين ينظرون إلى الدنيا كثيراً وتستميلهم؟ فلا شك أن هؤلاء يجب أن يكونوا أكثر خوفاً من أولئك. إذاً: من الشرك كون الرجل يصلي ثم يزين صلاته لما يرى من نظر الناس إليه، وهذا يعني أن الصلاة ليست للرجل بل هي لله جل وعلا، ولكنه يحسنها بإطالتها وآدابها وركوعها وسجودها وقيامها؛ لنظر من يراه معظماً عنده، حتى يكون له وقع في قلبه من أجل ذلك، وهذا من عبادة النفس، فمن عادة النفس حب الثناء عند الناس، ومن المعلوم أن المؤمنين يحبون المؤمن، وكلما كان الإنسان أطوع لله تكون محبته عندهم أكثر، فهو يريد أن يقدم في المجالس أو في الخطابات أو في ما شاء الله من أمور الدنيا التي ينظر إليها، فكل من زين عمله لأجل ذلك فلا خير في عمله، وهذا هو الذي دل عليه هذا الحديث: (من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه). ثم هذا لا يدعو الإنسان لأن يترك تحسين الصلاة وفعل السنن من أجل نظر الناس، فهذا لا يجوز؛ لأن العمل من أجل الناس شرك، وترك العمل من أجلهم لا يجوز. فالإنسان يجب أن يكون عمله لله جل وعلا، وأن يكون عبداً لله خالصاً مخلصاً، يخلص نفسه وأعماله من الشوائب التي تتوارد عليها بحظوظ النفس أو إرادات الدنيا وما أشبه ذلك. والأعمال آفاتها كثيرة، وهذا من أعظم آفاتها، وهذا يدلنا على شدة نصح الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته، فانظر كيف حذرنا من الآفات التي تكون في النفوس وتدخل القلوب ولا يعلمها إلا علام الغيوب، ولكنه بعث للدعوة إلى الله، وإخلاص الدين له، فكل أمر يخالف الدين وينافي الإخلاص فإنه بينه ووضحه، ويجب أن يكون العمل لله جل وعلا وحده، وذلك هو العمل النافع، فليس الاعتبار بكثرة الأعمال، ولكن بسلامة العمل وخلوصه من الشوائب، فإذا كان العمل خالصاً لله فهو النافع المجدي وإن كان قليلاً، فإن الله جل علا إذا قبل حسنة واحدة بارك فيها حتى ينجو بها الإنسان من النار إن لم يكن له سيئات تأتي عليها. قال جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:40]، فإذا كان عند الإنسان حسنة ولو صغيرة مقبولة خالصة لله؛ فإن الله جل وعلا يبارك فيها ويعظمها حتى ينجو بها الإنسان، ولكن يجب أن تكون خالصة لله.

هل يدخل الرياء في الصيام؟

هل يدخل الرياء في الصيام؟ العلماء يذكرون أن الصيام لا يدخله الرياء، إلا أنه قد يدخله في حالة من يأتي إلى الناس ويبين لهم أنه صائم ويظهر ذلك، ومعنى كلام العلماء أن أصل الصيام في نفسه سر بين العبد وبين ربه، فيمكن أن يخلو الإنسان في بيته فيأكل ويشرب ولا يطلع عليه أحد، فإذا امتنع من ذلك دل على أنه يريد وجه الله جل وعلا، ولكن ذلك لا يمنع أن يدخله الرياء كما ذكرنا، مثل أن يقول: إنه يصوم اليوم الفلاني واليوم الفلاني؛ لأجل أن يثنى عليه ويمدح، أما فلا تسلم من الرياء إذا كانت أمام الناس، والسلامة فيها صعبة. والإنسان إذا أتى بحسنات كثيرة من هذا القبيل فيها رياء فهي خسارة عليه؛ لأن كل عمل ليس خالصاً لله غير مقبول، فإن الله طيب لا يقبل من الأعمال إلا ما كان طيباً، والذي يدخله شيء من إرادة النفس وإرادات الدنيا ليس طيباً، بل هو خبيث لا يقبله الله، بل يرده على صاحبه، وهذا أمر مهم جداً يجب أن يُعتنى به كثيراً. وعلى الإنسان أن يعتني بنفسه، وينظر إلى الناس على أنهم بشر مثله لا ينفعونه ولا يضرونه، ولا يجوز له أن يحتقرهم ويزدريهم، بل يجب أن يعرف لهم حقهم، وعليه أن يعرف قدر نفسه، وأنه ضعيف إن لم يتداركه ربه جلا وعلا برحمته هلك؛ لأن الأعداء تحتوشه من كل جانب، حتى نفسه الأمارة بالسوء عدوة له، وكذلك الشيطان الذي قال صلى الله عليه وسلم عنه: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)، فيعرف ماذا يميل إليه فيزينه له. فالعبرة بإخلاص العمل، وكذلك المتابعة، وهذان شرطان في كل عمل، فيشترط أن يكون العمل ليس فيه شيء من البدع، وأن يكون خالصاً لوجه الله جل وعلا، وكل عمل لم يشتمل على هذين الأمرين فهو مردود على صاحبه مهما كانت كثرته، ومهما كان وقعه في الناس، فهو لا يفيد إلا إذا كان خالصاً لله جل وعلا، وكان على سنة المصطفى صلوات الله وسلامه عليه.

شرك السرائر

شرك السرائر قال الشارح رحمه الله تعالى: [وروى ابن خزيمة في صحيحه عن محمود بن لبيد قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيها الناس! إياكم وشرك السرائر، قالوا: يا رسول الله! وما شرك السرائر؟ قال: يقوم الرجل فيصلي، فيزين صلاته لما يرى من نظر الرجل إليه، فذلك شرك السرائر)]. سمي شرك السرائر؛ لأنه سر لا يعلمه إلا الله، فهو كامن في نية الإنسان، والنية هي التي تبعث على الأعمال، ومحلها القلب الذي هو منشأ الأعمال؛ لأنه ملك الأعضاء، والعمل يكون مترتباً على النية، فهي سرٌ لا يعلمها إلا من يعلم خفي الأمور جل وعلا، وإن كان الغالب أن الذي يرائي لا يخفى على الناس؛ ولهذا يعرفه كثير من الناس حتى يقال: هذا مراء، ولو لم يقل ذلك أو ينشره، فإن الله جل وعلا يظهره من آثار أعماله وأقواله، ويعرف في لحن القول وفي سيما العمل، وقد لا يظهر إلا قليل منه، والكثير يكون خافياً، ولكن الواجب على الإنسان أن يراقب ربه، ولا يكون للناس في عمله قدر ولا نصيب، ولهذا كان أمير المؤمنين عمر يدعو ربه ويقول: (اللهم! اجعل عملي لك خالصاً، ولا تجعل لأحد من خلقك منه شيئاً). الإنسان لا يستطيع أن يكون سالكاً الطريق المرضي إلا بتوفيق الله.

الرياء قد يكون شركا أكبر

الرياء قد يكون شركاً أكبر قال الشارح رحمه الله: [قوله: (الشرك الخفي) سماه خفياً؛ لأن صاحبه يظهر أن عمله لله، وقد قصد به غيره، أو شركه فيه بتزيين صلاته لأجله. وعن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: (كنا نعد الرياء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الشرك الأصغر)، رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الإخلاص، وابن جرير في التهذيب، والطبراني والحاكم وصححه]. في الواقع أن شرك الرياء قد يكون أصغر وقد يكون أكبر، إذا كان الرياء مخالطاً لأصل العمل فهذا لا يكون أصغر بل أكبر، ولهذا وصف الله جل وعلا به الكفار، فقال جل وعلا في قريش لما جاءوا يقاتلون الرسول صلى الله عليه وسلم: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ} [الأنفال:47]، أي: خرجوا يراءون الناس، وكذلك وصف به المنافقين فقال جل وعلا: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ} [النساء:142]، وقال جل وعلا: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} [الماعون:4 - 6]. أي: يراءون الناس في أعمالهم، فهم يصلون ويعملون أعمالاً ويراءون فيها غير الصلاة، لهذا يقال له: ويل، ولا يقال ويل في الشرك الأصغر لكنه يقال في الشرك الأكبر، فإذا استرسل الإنسان مع الرياء ولم يدافعه فإنه يكون شركاً أكبر لا أصغر، ولكن إذا طرأ على الإنسان أو عرض له الرياء، ثم جاهد نفسه في ذلك وصده، فهذا من الشرك الأصغر، ومعنى ذلك: أنه إذا وجد في العمل أحبطه وأبطله.

ذكر أفراد للشرك الأصغر

ذكر أفراد للشرك الأصغر قال الشارح رحمه الله: [قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وأما الشرك الأصغر فكيسير الرياء والتصنع للمخلوق والحلف بغير الله]. يسير الرياء شرك؛ لأنه يتزين للناس بالأعمال ليظهرها لهم، وكذلك في الأقوال، فيجب أن يكون عمل الإنسان كله لله جل وعلا، لا يقصد به غيره. وإذا كان العمل له نفع يتعدى فهذا يحتاج إلى جهاد النفس كثيراً، ويجب أن يكون الجهاد مستمراً، ولا يكون في وقت دون وقت؛ لأن النية تتقلب كتقلب القلب، والإنسان بحاجة إلى أن يستمر في جهاده لنفسه، فإذا كان العمل يتعدى نفعه كالقراءة، أو الدعوة، أو النصح، أو التعلم، فإن الناس قد يثنون على الإنسان به، وقد يستدعي أن يجتهد في ذلك حتى يثنوا عليه، وذلك من حظوظ النفس التي يبطل بها عمل الإنسان نسأل الله العافية! وكذلك إذا عمل عملاً يتعدى نفعه إلى الغير، فإنه يحتاج إلى أن يكون مجاهداً لنفسه في جميع وقته، ومخلصاً لله جل وعلا، ولا يبالي بالذم، بل إذا قوبل بالذم فإنه يرتاح له أكثر من المدح؛ لأنه لا يريد ما عند الناس، بل يريد ما عند الله جل وعلا، والواجب على المؤمن أن يكون بهذه المنزلة؛ ولهذا كانت الأعمال في الخفاء أفضل منها في العلانية كالصدقة مثلاً، فإن فضيلة إخفائها عن الناس ليس من أجل أمر من الأمور، ولكن من أجل أن تكون خالصة لله فقط؛ ولهذا جاءت الأحاديث الكثيرة في فضل صدقه السر، لحديث: (صدقه السر تطفئ غضب الرب)، وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها)، ومن ذلك فضل صلاة التطوع في البيت على الصلاة في المسجد، فإن الإنسان في بيته يكون بعيداً عن رؤية الناس، فلا يكون لهم شيء من عمله، وكلما كان العمل خالصاً لله كان هو المطلوب شرعاً، والإنسان إذا كان في المسجد أو مع الجماعة كان ذلك أنشط له من ناحية أنه لا يود أن يكون غيره سابقاً له، وليس من ناحية أنه يريد أن يريهم أنه نشيط في العمل؛ فإنه إذا كان كذلك دخل في الرياء نسأل الله العافية، ومع ذلك تكون صلاته وحده أفضل، وكذلك غيرها من الأعمال إذا كانت خالصة، والأسباب التي يحصل بها الإخلاص مطلوبة. [وقول الرجل للرجل: ما شاء الله وشئت، وهذا من الله ومنك، وأنا بالله وبك، ومالي إلا الله وأنت، وأنا متوكل على الله وعليك، ولولا الله وأنت لم يكن كذا وكذا. وقد يكون هذا شركاً أكبر بحسب حال قائله ومقصده انتهى].

لا يوجد ضابط للشرك الأصغر

لا يوجد ضابط للشرك الأصغر الشرك يكون في الأعمال ويكون في الألفاظ، ويكون في النيات والمقاصد، وكلها قد تكون شركاً أكبر، وقد تكون شركاً أصغر، حسب ما يقوم في القلب من مقاصد هذه الأعمال، والألفاظ تبع لما في القلب وكذلك الأعمال؛ ولهذا يصعب تعريف الشرك الأصغر، فلا يوجد هناك ضابط يضبطه، ولهذا قال ابن القيم رحمه الله: (كيسير الرياء وكالتصنع للخلق، وقول الرجل لولا الله وأنت، وأنا بالله وبك، ومالي إلا الله وأنت، وأنا متوكل على الله وعليك، ولولا أنت لم يكن كذا وكذا). فهذا من الشرك الأصغر، وقد يكون أكبر حسب ما يكون في قلب الإنسان. إذاً: ليس هناك ضابط معين يحدد الشرك الأصغر، ويكون جامعاً مانعاً، وإنما يمثل ويحدد بالأمثلة، لكون الأعمال لا تنضبط في ذلك، أما ضبطه بأنه: كل وسيلة تكون مقربةً أو داعيةً أو موصلة إلى الشرك الأكبر؛ فهذا غير صحيح؛ لأن من الأعمال ما هو وسائل إلى الشرك الأكبر وليست من الشرك الأصغر كالصلاة عند القبر، فكون الإنسان يصلي لله عند القبر مخلصاً، هذه وسيلة إلى الشرك الأكبر، وهي ليست من الأصغر، وغير ذلك من الأعمال المعروفة.

الإخلاص شرط لصحة العمل وقبوله

الإخلاص شرط لصحة العمل وقبوله قال الشارح رحمه الله: [ولا خلاف أن الإخلاص شرط لصحة العمل وقبوله، وكذلك المتابعة، كما قال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى في قول الله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود:7] قال: أخلصه وأصوبه، قيل: يا أبا علي! ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً، فالخالص ما كان لله، والصواب ما كان على السنة. وفي الحديث من الفوائد: شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته ونصحه لهم، وأن الرياء أخوف على الصالحين من فتنة الدجال، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يخافه على سادات الأولياء مع قوة إيمانهم وعلمهم، فغيرهم ممن هو دونهم بأضعاف أولى بالخوف من الشرك أصغره وأكبره]. قوله: (سادات الأولياء) يعني بهم الصحابة، فهم سادات وأولياء هذه الأمة على الإطلاق، لا يكون مثلهم في الأمة أحد، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: (خير الناس قرني الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)، وكلمة (ثم) للترتيب: (ثم يأتي قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته) يعني: أنه يكثر فيهم الكذب، ويكثر فيهم التصنع، قال: (ويظهر فيهم السمن)؛ لأن الدنيا تكون همهم التي يركنون إليها ويميلون إليها. ولما حصلت مشاجرة بين بعض الصحابة الذين تأخر إسلامهم وبين بعض السابقين قال صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي، فوالله! لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً؛ ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)، فهذا الخطاب قيل للصحابة الذين أسلموا بعد الفتح أو قريباً منه، وقد أخبر الله جل وعلا أن الذين أسلموا قبل الفتح وأنفقوا وجاهدوا ليسوا كالذين أسلموا بعد الفتح وأنفقوا وجاهدوا، وأخبر أن كلاً وعد الله الحسنى، ولكن بعضهم أرفع من بعض. والمقصود أن صحابة رسول صلى الله عليه وسلم هم أفضل الأمة بإجماع العلماء الذين هم أهل العلم، أما أهل البدع وأهل الجهل فإنه لا عبرة بخلافهم ولا ينظر إليهم، وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من الوقوع فيهم، وأخبر أن من أحبهم فإنه أحبهم لحبه، ومن أبغضهم فإن الذي دعاه إلى ذلك بغضه للرسول صلى الله عليه وسلم، والذي يقع فيهم كأنه واقع في رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك أنهم هم الذين جاهدوا معه، وقاموا بامتثال أوامره، والدعوة إلى الله، والتنفيذ لما أمرهم به، ثم قاموا نقل أقواله وما أنزل عليه إلى الناس، فهم خير الناس وهم الأمناء، وهم الذين عدّلهم الله جل وعلا في كتابه، وأثنى عليهم. فالذي يطعن فيهم فإنما يطعن في الإسلام نفسه، وفي الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس في أعراضهم فحسب؛ لأنهم هم الواسطة بين الأمة وبين رسولها صلوات الله وسلامه عليه في نقل الدين، فإذا قدح فيهم فقيل: إنهم مرتدون أو إنهم منافقون؛ أصبحت الأمة تعتمد في دينها على من لا يجوز الاعتماد عليه؛ فيكون دينها غير صحيح، بل يكون مبنياً على كذب وعلى زور وعلى عدم ثقة. فتجب محبة صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، والدعاء لهم والاستغفار؛ ولهذا يقول جل وعلا: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10]، وهؤلاء هم الذين يشهد لهم بالإيمان، أما من كان في قلوبهم غل للذين سبقوهم بالإيمان فليسوا من هذا الصنف، ويقول الله جل وعلا: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ} [التوبة:100]، فإذا كان الله جل وعلا يخبر بأنه رضي عنهم فهل يجوز أن يأتي دجال ويقول: هؤلاء مغضوب عليهم، هؤلاء منافقون، هؤلاء كفروا؟ وكيف كفروا بعد أن قال الله جل وعلا فيهم: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ}؟ فالله علام الغيوب، إذا أخبر عن أحد من خلقه أنه مرضي عنه، فلا يمكن أنه يطرأ عليه كفر؛ لأنه يعلم كيف يكون تعالى الله وتقدس.

مسائل باب ما جاء في الرياء

مسائل باب ما جاء في الرياء قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل: الأولى: تفسير آية الكهف]. آية الكهف هي قوله جل وعلا: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110]، وهي آخر آية في سورة الكهف، وقد سبق تفسيرها، وفيها الرد على طوائف المبتدعة وطوائف الغلاة والطوائف المشركة، وفيها رد على الصوفية الغلاة الذين يزعمون أن الرسول صلى الله عليه وسلم نور، وأنه ليس من جنس بني آدم. يقول الله جل وعلا: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}، أي: مثلكم في البشرية يجوز عليه ما يجوز عليهم صلوات الله وسلامه عليه، وإنما فضل بقوله: {يُوحَى إِلَيَّ}، ففضله جل وعلا بالوحي الذي أوحاه إليه، ثم كأن غرض الوحي محصور في قوله: {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}؛ لأن المقصد الأعظم من الوحي هو أن يكون التأله لله والعبادة له وحده جل وعلا. [المسألة الثانية: الأمر العظيم في رد العمل الصالح إذا دخله شيء لغير الله]. هذا عظيم؛ لأنه في الواقع كثير ويخفى على كثير من الناس، فصار عظيماً لذلك، وإلا فليس عظيماً بالنسبة لله جل وعلا، فإنه طيب لا يقبل من العمل إلا ما كان طيباً خالصاً له، فإذا داخله شيء من الخبث -كأن: قصد به غيره- فإنه يرده ويبطله. [الثالثة: ذكر السبب الموجب لذلك وهو كمال الغنى]. أي: كمال الرب جل وعلا، فهو أغنى الشركاء عن الشرك. [الرابعة: أن من الأسباب أنه تعالى خير الشركاء]. الله خير الشركاء؛ لأنه غني تعالى وتقدس، وغناه يأبى الشركه، ومع أن الشرك أعظم الذنوب فهو أعظم الظلم؛ لأنه وضع للعمل في غير موضعه؛ لأن موضعه أن يكون لله، فإذا قصد به الإنسان مخلوقاً ضعيفاً لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً؛ فهذا أعظم الظلم، فرتب على ذلك أن يُترَكَ. [الخامسة: خوف النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه من الرياء. السادسة: أنه فسر ذلك بأن يصلي المرء لله، لكن يزينها لما يرى من نظر رجل إليه]. أي: أن يزيد في صفة العمل والأصل أنه لله، فيأتي في العمل وصفٌ طرأ عليه، ولكن هذا الوصف الطارئ يجعل العمل باطلاً؛ لأن الباعث لهذا الوصف هو المخلوق، وهذا واضح في أن الرياء إذا داخل العمل فإن العمل يصير مردوداً.

شرح فتح المجيد [96]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [96] لا يقبل الله من العمل إلا ما كان خالصاً لوجهه، فإذا عمل المرء عملاً يريد به الدنيا غير ملتفت إلى الله، فهو عمل باطل، وصاحبه آثم، وقد يجزيه الله عليه في الدنيا، ويكون في الآخرة من الخاسرين.

باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا

باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا]. فإن قيل: ما الفرق بين هذه الترجمة وبين ترجمة الباب قبله؟ ف A بينهما عموم وخصوص، فإرادة الدنيا أعم من الرياء، فقد يعمل الإنسان أعمالاً خالصة لله ولكنه يريد بها حماية نفسه بالصحة وحماية ماله بالتنمية، فيعمل لأجل هذا ويقطع نظره عن كونه يطلب بهذا العمل الجنة والهرب من النار، وكذلك يدخل فيه ما إذا عمل أعمالاً من القرب مثل الأذان وتعلم القرآن وتعلم العلم لأجل الوظيفة وحتى تكون مصدر رزق له، فإذا عمل العمل من أجل ذلك فقد أراد الدنيا بعمله، وهو داخل في الوعيد الذي يأتي ذكره في الآية. وقد يعمل أعمالاً ظاهرها الإخلاص وفيها شيء من إرادة الدنيا وإرادة وجوه الناس، مثل الحج، فيحج لأجل أن يحصل على مال يدفع له من أجل الحج، كأن يعطيه أحد الناس مالاً ويقول: لتحج عن فلان، فهو يحج لأجل هذا المال فقط ولو لم يأته المال ما حج، فهذا عمله من أجل الدنيا ولا خير فيه. ولهذا يقول العلماء في مثل هذا: إذا كان الإنسان يحج ليأخذ المال فهذا لا خير في عمله، أما إذا كان يأخذ المال ليحج، أي أنه يتقوى به على الحج؛ لأنه لا يستطيع أن يحج بلا مال، فهذا هو الذي يجوز فعله، أما إذا كان يحج لأجل أن يتاجر بالحج فيأخذ المال من أجل ذلك، فهذا عمل للدنيا وهو داخل في الوعيد، وغير ذلك من الأمور التي سيذكرها الشارح في هذا الباب. قال المصنف: [باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا. وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16]. وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد آخذٍ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع)]. قوله رحمه الله: (باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا): المقصود بالعمل العمل الذي يكون للآخرة، فمن عمل عملاً للآخرة مثل الصلاة والصوم والحج والصدقة والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما أشبه ذلك من القربات التي رتب الله عليها الجزاء وهو يريد به الدنيا، فإنه داخل في وعيد هذه الآية.

إرادة الدنيا أنواع

إرادة الدنيا أنواع وإرادة الدنيا أنواع: فقد يريد بها أن يجزيه الله مقابل عمله جزاءً عاجلاً في هذه الدنيا فقط، ويقطع النظر عن الآخرة، فلا تهمه الآخرة وإنما يريد الدنيا فقط، فمثل هذا يجزى بعمله الذي عمله إذا كان صالحاً في هذه الدنيا، ولكن الجزاء في الآخرة حابط والعمل باطل فهو من الخاسرين. وقد يعمل عملاً من الأعمال التي وضعت قربات يتقرب بها إلى الله، ولكنه يريد وجوه الناس مراءاة حتى يُحبُّوه أو يثنوا عليه أو يمدحوه وما أشبه ذلك، فهذا أيضاً أراد الدنيا، ولكن الذي قبله أعقل منه؛ لأن الذي قبله أراد نفعاً خاصاً به، أما هذا فيريد خيالاً ليس له حقيقة، وقد يعمل الذي يريد الدنيا أعمالاً يتقرب بها، ولكنه على عمل يكفره، أو على بدعة تخرجه من الدين الإسلامي كاليهود والنصارى الذين لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، فإنهم قد يتصدقون ويحسنون إلى الناس حباً للإحسان وطلباً للجزاء. ومعلوم أن اليهود النصارى يؤمنون بالله جل وعلا ويؤمنون بالبعث؛ ولكنهم يعتقدون أنهم على دين صحيح وهو الدين الذي جاء به موسى وجاء به عيسى صلى الله عليهما وسلم؛ فهؤلاء إذا عملوا أعمالاً صالحة من صدقة وإحسان وما أشبه ذلك، يجزون بأعمالهم في الدنيا فقط، أما الآخرة فحابط عملهم وباطل. وقد يعمل العامل للدنيا عملاً صالحاً مثل طلب العلم وحفظ القرآن وإتقانه، ولكنه يريد بذلك وظيفة من الوظائف التي يتعيش بها، فقصده من التعلم والحفظ والتلاوة هو هذه الوظيفة، فهذا أيضاً داخل في الآية. وقد يحج الإنسان عن غيره فيكون بالنسبة له تطوعاً، ولكن يكون في مقابل ذلك مال فيكون حجه لأجل أخذه المال وليس لأجل أنه يذهب إلى المشاعر المعظمة ويطوف ويدعو الله، ويعمل ما يعمله الحجاج الذين يتعرضون لنفحات الله وكرمه وجوده؛ وإنما يفعل ذلك لأجل المال فقط، ولو لم يحصل له مال ما حج ولا طلب الحج، فمثل هذا ليس له من عمله ومن حجه إلا هذا المال الذي أخذه، وأعماله حابطة نسأل الله العافية. هؤلاء كلهم يدخلون في هذه الآية، وقد ذكر السلف من المفسرين رحمهم الله هذه الأنواع، وذكروا غيرها عند هذه الآية.

تفسير آية هود: (من كان يريد الحياة الدنيا)

تفسير آية هود: (من كان يريد الحياة الدنيا) ثم إن معنى قوله جل وعلا: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} أي: ينويها ويقصدها بعمله {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} أي: نجزيهم جزاء أعمالهم في هذه الدنيا إما بصحة أبدان أو وفرة مال وكثرته أو ما أشبه ذلك من مقاصدهم التي يريدها الله؛ لأنه ليس كل من صنع هذا يلقى جزاءه تماماً، قد يكون خسران فلا تتحصل له الدنيا ولا الآخرة؛ وتكون هذه الآية مقيدة بقوله جل وعلا: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء:18]، فقيد المعجل بالشيء الذي يشاؤه جل وعلا ولمن يريده من هؤلاء وليس كل واحد ولا هو كل شيء، ولهذا يقول المفسرون: إن هذه الآية مقيدة بآية سورة الإسراء فيكون التعجيل لما يشاء الرب جل وعلا من الجزاء، ويكون لمن يريده ممن يعمل هذه الأعمال فليس كل واحد وليس كل عمل يكون مجزياً به في الدنيا. وبعض المفسرين يقول: إنها منسوخة بآية الإسراء ومقصوده بالنسخ التقييد؛ لأن النسخ في لسان السلف لم يكن معناه أن يزال الحكم بحكم متأخر عنه كما هو اصطلاح المتأخرين، بل يطلقون النسخ على التقييد وعلى البيان كما قالوا في قول الله جل وعلا: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} [البقرة:187]، نزلت هكذا ثم نسخت بقوله: {مِنْ الْفَجْرِ} [البقرة:187]، وهذا إيضاح وليس نسخاً، ولكنهم يجعلونه نوعاً من النسخ، أي: أن تقييد المطلق وتفسير المبهم وما أشبه ذلك يدخل في النسخ عند السلف. ثم بعد ذلك يتوعدهم جل وعلا في الآخرة: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ) أي: جزاء أعمالهم (فيها)، أي: في الدنيا: (وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ)، أي: لا يظلمون شيئاً من عملهم فالله يجزيهم إياه في هذه الحياة، إما بصحة أبدانهم أو بإعطائهم مالاً أو بإعطائهم أولاداً أو بإعطائهم مناصب أو ما أشبه ذلك، فيكون هذا جزاء أعمالهم، وقد يعطيهم فوق أعمالهم ثم يعاقبهم الله جل وعلا يوم القيامة، مع أن كل نعمة في الإنسان من الإيجاد والحياة والسمع والبصر والأيدي والأرجل والأكل والشرب وغير ذلك، كلها من الله جل وعلا، فالإنسان لا يستطيع شيئاً بدون تسخير الله جل وعلا وإقباله عليه، ولهذا يحاسب الإنسان على ذلك يوم القيامة كما قال جل وعلا: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء:36]. فيسأل الإنسان عن سمعه وعن بصره وعن نياته وأعماله ومراداته وعزائمه وفؤاده وهو القلب، وفي الحديث الذي عند الترمذي وصححه وكذلك صححه الحاكم في المستدرك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه هل عمل به). فالساعات التي يعيشها قد يضيعها وقد يحفظها، فيسأل عنها: هل استعملها في طاعة الله جل وعلا، أو استعملها في المعاصي، أو أنها ضاعت عليه سدى، وإضاعة الوقت معصية يسأل عنها الإنسان. وكذلك قوته التي أعطاها الله جل وعلا إياه في شبابه يجب أن تستغل فيما ينفع، ولا يجوز أن تضيع، لهذا فإنه يسأل عنها يوم القيامة. وكذلك المال يسأل عنه: من أين اكتسبه؟ وفيما أنفقه؟ وكذلك هل عمل بما علم؟ هذه المسائل الأربع كل واحدة يسأل عنها يوم القيامة، والسؤالات تختلف يوم القيامة ففي موقف يسأل عن هذه، وفي موقف يسأل فيقال: ماذا أجبتم المرسلين؟ وماذا كنتم تعبدون من دون الله؟ ولابد للسؤال من جواب، فإذا كان الإنسان حافظاً نعم الله عليه، وإلا فسوف يعاقب يوم القيامة؛ لأن الله جل وعلا أمره أن يستعملها في الطاعة.

الأعمال سبب للثواب وليست موجبة للجنة بذاتها

الأعمال سبب للثواب وليست موجبة للجنة بذاتها جاء في مستدرك الحاكم وصححه هو وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم، (أنه ذكر له جبريل عليه السلام: رجلاً ممن كان في الأمم قبلنا كان في جزيرة عمرها خمسمائة سنة وهو يعبد الله منعزلاً لا يشتغل بالناس ولا يشتغل بالدنيا ولا بغيرها، فأخرج الله جل وعلا له من البحر عيناً عذبة، وشجرةً تخرج له كل يوم عذقاً يأكله ويشرب من الماء ويعبد ربه، فسأل ربه أن يقبضه ساجداً فقبضه الله جل وعلا وهو ساجد، وإذا كان يوم القيامة، يؤتى به بين يدي الله فيقول الله جل وعلا لملائكته: اذهبوا بعبدي وأدخلوه الجنة برحمتي، فيقول: لا يا رب! بل أدخل الجنة بعملي! فيقول الله جل وعلا: ردوه، فيحاسبه الله جل وعلا؛ يقول له: من الذي أوجدك ولم تكن شيئاً؟ من الذي أعطاك السمع؟ ومن الذي أعطاك البصر؟ ومن الذي أعطاك الأيدي والأرجل؟ ومن الذي أخرج لك عيناً عذبة من الماء المالح؟ ومن الذي أخرج لك من الشجرة كل يوم عذقاً وهي لا تثمر في السنة إلا مرة؟ ومن الذي قواك على عبادة خمسمائة سنه؟ وهو يقول: أنت يا رب. عند ذلك يقول جل وعلا: حاسبوه على النعم مقابل عبادتي، فتوزن نعمة البصر أو قال نعمة السمع خمسمائة سنه، ثم يقول الله جل وعلا: اذهبوا به إلى جهنم، فيصيح: يا رب أدخلني الجنة برحمتك يا رب أدخلني الجنة برحمتك، فيقول الله جل وعلا: ردوه وأدخلوه الجنة برحمتي). ولا أحد يدخل الجنة إلا برحمة الله جل وعلا، فيجب على الإنسان أن يعرف نعم الله عليه: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34]، فكل ما يعمله الإنسان في هذه الدنيا فإنه لا يقابل شيئاً من نعم الله! ثم إنه يجزى بذلك، ولو لم يكن الأمر ظاهراً للناس جلياً، فهو في الواقع مجزي به، وهكذا كل عامل لا يريد بعمله الآخرة، يعجل له جزاء عمله في الدنيا، ثم يوافي يوم القيامة ربه مفلساً، ليس له حسنة يقابل بها ربه فيجزيه عليها، فلهذا يقول جل وعلا: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:16]. ثم قد سبق أن الفرق بين هذا الباب وباب الرياء الذي قبله أن هذا أعم، فذاك خاص بالرياء والسمعة فقط، أما هذا فهو عام يدخل فيه الرياء ويدخل فيه الأعمال التي يراد بها جزاء عاجل وهي من القربات التي لا يجوز أن يطلب بها شيء من أمور الدنيا، وإنما يطلب بها الثواب من الله جل وعلا والنجاة من عذابه يوم القيامة والفوز بثوابه. قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا. فإن قيل: ما الفرق بين هذه الترجمة وبين ترجمة الباب قبله؟ قلت: بينهما عموم وخصوص مطلق يجتمعان في مادة، وهو ما إذا أراد الإنسان بعمله التزين عند الناس، والتصنع لهم والثناء، فهذا رياء كما تقدم بيانه، كحال المنافقين، وهو أيضاً إرادة للدنيا بالتصنع عند الناس وطلب المدحة عندهم والإكرام، ويفارق الرياء بكونه عمل عملاً صالحاًُ أراد به عرضاً من الدنيا كمن يجاهد ليأخذ مالاً، كما في حديث: (تعس عبد الدينار)] أي: أنه لا يرائي، ولكنه يأخذ شيئاً عاجلاً ولا يريد التظاهر بالعمل، ولكن يريد الدنيا، فبهذا خالط الرياء، فصار هذا أعم من الرياء، كذلك الأمثلة التي ذكرنا تفارق الرياء ولكنها شرك بالله؛ لأنه قصد الدنيا وما قصد وجه الله حتى يثيبه الله جل وعلا، بخلاف المؤمن المخلص فإنه يقصد بالعمل الصالح وجه الله، وإن حصل له شيء من الدنيا فإنما هو تبع لا يريده قصداً، وليس معنى ذلك أن الإنسان إذا جاهد أو عمل أعمالاً ترتب عليها منافع دنيوية، أن هذا داخل في الرياء أو داخل في قوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [هود:15]؛ لأن العمل الذي عمله المؤمن عمله لله جل وعلا، وإذا جاءه شيء من الدنيا فهي تبع، وليس مقصود العمل من أجلها وإنما تأتي تبعاً لذلك العمل، وإذا جاءت تبعاً فلا بأس بها، فقد يتفضل الله جل وعلا على عبده المؤمن بنعمة في الدنيا، من مال وصحة وغير ذلك، ولكن أجره محفوظ له في الآخرة. المقصود هنا من يقطع رجاءه في الآخرة فلا يريد ثواب الآخرة إنما يريد بعمله الدنيا، فهذا يكون مشركاً، ومعلوم أن مثل هذا هو المتوعد بجهنم، وأن عمله يكون حابطاً، ولا يكون هذا شركاً أصغر غير مخرج من الدين الإسلامي.

طلب الدنيا بالقربات شرك موجب لجهنم

طلب الدنيا بالقربات شرك موجب لجهنم قال الشارح: [أو يجاهد للمغنم، أو لغير ذلك من الأمور التي ذكرها شيخنا عن ابن عباس رضي الله عنهما، وغيره من المفسرين في معنى قول الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [هود:15]]. المقصود بقوله: (شيخنا) جده محمد بن عبد الوهاب؛ لأن صاحب الكتاب عبد الرحمن بن حسن، تلميذ الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فهو حفيد الشيخ ابن ابنه، وهو يقول (شيخنا) لأنه أدرك شيئاً من أيامه، ولو قال: والدنا وإمامنا لكان أفضل، ولكن هكذا عادة العلماء، ثم إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله سئل عن معنى هذه الآية: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [هود:15]؟ فأجاب جواباً خاصاً وذكر تحته أربعة أقسام، مما ذكر الصحابة والمفسرون أنه يدخل في هذه الآية وقد أطال الجواب، وسيذكره الشارح ملخصاً عن جواب الشيخ. قال الشارح: [وأراد المصنف رحمه الله بهذه الترجمة وما بعدها، أن العمل لأجل الدنيا شرك ينافي كمال التوحيد الواجب، ويحبط الأعمال، وهو أعظم من الرياء؛ لأن مريد الدنيا قد تغلب إرادته تلك على كثير من عمله، وأما الرياء فقد يعرض له في عمل دون عمل، ولا يسترسل معه، والمؤمن يكون حذراً من هذا وهذا. قال المصنف: (وقول الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16]). ذكر في معنى هذه الآية حديث أبي هريرة المشهور وهو حديث صحيح، عن شفي بن ماتع قال: (قدمت المدينة فإذا الناس مجتمعون على رجل، وسألت من هذا؟ فقيل لي: هذا أبو هريرة، فدنوت منه حتى قعدت بين يديه، حتى إذا ذهب الناس وانصرفوا، أقسمت عليه بحقي -يعني: حق المسلم على المسلم- أن يحدثني حديثاً سمعه عن رسول صلى الله عليه وسلم، فقال: نعم سوف أحدثك حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا البيت، ليس فيه غيري وغيره، ثم نشج نشجة ثم مال وكاد يغمى عليه، ثم قال: لأحدثك حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا البيت ليس فيه غير وغيره، ثم نشج نشجة ثم مال وغشي عليه طويلاً، ثم لما أفاق قال: سأحدثك، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يؤتى يوم القيامة بثلاثة، مجاهد ومتعلم ومتصدق، فيقال للمتصدق: ماذا عملت؟ بعد ما يقرر بنعم الله عليه فيقر بها فيقول: بذلت المال في كل وجه تحبه، فيقول الله: كذبت. وتقول الملائكة: كذبت، ولكنك بذلته ليقال هو جواد وقد قيل، ثم يأمر به إلى النار. ثم يؤتى بالمتعلم أو قال: بالقارئ فيقرر بنعم الله جل وعلا فيقر بها، فيقول الله جل وعلا: ماذا عملت؟ فيقول: تعلمت فيك العلم وعلمته، فيقول الله جل وعلا: كذبت. وتقول الملائكة: كذبت، ولكنك تعلمت ليقال هو عالم وقد قيل، يعني أنك قد لقيت جزاءك من قول الناس هذا الذي قصدت، ثم يؤمر به إلى النار. ثم يؤتى بالمجاهد الذي قتل في سبيل الله في الظاهر، فيقرر بنعم الله فيقر بها فيقول الله: ماذا عملت؟ فيقول: يا رب! بذلت نفسي حتى قتلت في سبيلك، فيقول الله: كذبت. وتقول الملائكة: كذبت، ولكنك قاتلت ليقال هو شجاع، هو جريء، وقد قيل، ثم يؤمر به إلى النار. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أبي هريرة: هؤلاء الثلاثة هم أول من تسعر بهم النار، فيقول شفي: قدمت الشام، فدخلت على معاوية وحدثته بهذا الحديث فبكى بكاءً شديد حتى أشفقوا عليه وقال من عنده: لقد جاءنا هذا الرجل بشر، ثم بعد ذلك مسح دموعه وقال صدق الله وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله جل وعلا: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [هود:15]، وأكمل الآيتين). يعني الشارح أن هذا الحديث مطابق للآيتين؛ لأن هؤلاء الثلاثة ليسوا ثلاثة نفر فقط، ولكن المقصود ثلاثة أصناف من الناس، فكل من كان هذا صنيعه وهذا عمله فهذا مصيره وتلك نهايته، وهي مصيبة كبرى، فهو في الظاهر يعمل أعمالاً صالحة من أفضل الأعمال، لأنها إما صدقة وإما علم وتعليم، وإما جهاد في سبيل الله، ثم كانت النتيجة أنهم أول من توقد بهم النار، نسأل الله السلامة! في الظاهر أنه يعمل أعمالاً صالحة من أفضل الأعمال: فإنها إما صدقة، أو علم تعلمه وعلمه، وإما جهاد في سبيل الله, ثم بعد تلك النتيجة أنه تسعر به النار قبل عباد الأوثان والمشركين, نسأل الله العافية, لماذا؟ لأن هؤلاء مشركون في الواقع, وهم يريدون أعراضاً لا طائل تحتها, يريدون مدح الناس وثناءهم، ففي الواقع هم يعبدون أهواءهم وشهواتهم. فهذه يخشى منها كثيراً, وهي أن يعمل الإنسان العمل وهو يريد النفع الخاص, بأن يكون مقدماً في الناس، محبوباً لديهم، مثنىً عليه، وهذه مكانة تكون هي جزاء عمله، سواء يثني عليه بأنه شجاع ومقدام أو أنه يفعل ويفعل أو أثني عليه بأنه جواد متصدق، يحب الخير ويرغب فيه, أو أثني عليه بأنه عالم، وأنه يستطيع أن يرد على فلان ويعمل ويعمل وما أشبه ذلك، فهذا الشيء الذي ناله وتحصل عليه هو جزاؤه، وأعماله في الآخرة حابطة وفاسدة, ويكون من أهل جهنم نسأل الله العافية! وفي الحديث الآخر الصحيح: (أنه يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في جهنم فتندلق أقتابه -أي: تخرج أمعاؤه- فيدور حولها في جهنم كما يدور الحمار بالرحى، ويصيح حتى يتأذى به أهل النار, فيجتمعون عليه ويقولون: يا فلان مالك؟! ألست كنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟! فيقول: بلى، كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه) يعني: هذا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أمام الناس، ولكنه إذا غاب واختفى فعل المنكر وترك المعروف، وإنما: يرائي الناس فقط والعياذ بالله. والأحاديث واضحة في أن الله جل وعلا خلق عباده ليعبدوه وحده، وتكون أعمالهم مقصوداً بها وجه الله والخلاص من اليوم العسير الذي ينتظرنا، بل هو أمامنا ونحن سائرون إليه، بلا شك أن كل يوم يقربنا إلى هذا اليوم، وإن كان الإنسان قد لا يهتم بهذا كثيراً بسبب الغفلة وطول الأمل وحب الدنيا، ولكنه في الواقع إذا رجع إلى نفسه وعقله علم أنه لابد من ذلك اليوم، فيجب أن يكون مقصود الإنسان أنه عبد لله جل وعلا، يعمل الأعمال حسب أمر الله ومرضاته، وأنه سائر إلى ربه يرجو أن يثيبه ربه جل وعلا، ويعفو ويتجاوز عن الخطأ، وما فعله مخالفاً لأمر الله، فيثيبه بالعمل القليل الجزاء الكثير، هذا شأن المؤمن أنه يكون بهذه الصفة، أما إذا قصر همته ومقصده على الدنيا، فالدنيا ستنتهي ثم تكون العاقبة الوخيمة السيئة، نسأل الله العافية.

عاقبة من أحب الدنيا وقدمها على مرضاة الله

عاقبة من أحب الدنيا وقدمها على مرضاة الله قال الشارح رحمه الله: [قال ابن عباس رضي الله عنهما: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} أي: ثوابها {وَزِينَتَهَا} أي: مالها: {نُوَفِّ} نوفر إليهم ثواب أعمالهم بالصحة والسرور في المال والأهل والولد {وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} [هود:15] أي: لا ينقصون، ثم نسختها: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء:18] الآيتين رواه النحاس في ناسخه]. معنى نسختها: قيدتها، والمقصود بالنسخ هنا التقييد؛ لأن هذه التي في سورة هود مطلقة عامة، والآية التي في سورة الإسراء قيدها جل وعلا بإرادته، وبمن يريد أن يعجل له، فصارت أخص منها، والخاص يقيد العام. [قوله: ثم نسختها أي: قيدتها، فلم تبق الآية على إطلاقها. وقال قتادة: من كانت الدنيا همه وطلبته ونيته، جازاه الله بحسناته في الدنيا، ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة يعطى بها جزاءً، وأمَّا المؤمن فيجازى بحسناته في الدنيا، ويثاب عليها في الآخرة. ذكره ابن جرير بسنده]. إذا جوزي في الدنيا نقص جزاؤه في الآخرة, كما نصت على ذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الغزاة إذا غنموا تعجلوا الشيء من جزائهم, وإذا لم يغنموا شيئاً وفر لهم جزاء غزوتهم كاملاً يوم القيامة) , ليس معنى ذلك: أنهم يدخلون فيمن يريدون الدنيا، ولكن الله يجزيهم، فقد يكون الجزاء معجلاً أو بعضه معجلاً وبعضه مؤجلاً.

حديث أبي هريرة في أول من تسعر بهم النار

حديث أبي هريرة في أول من تسعر بهم النار قال الشارح: [ثم ساق حديث أبي هريرة عن ابن المبارك عن حيوة بن شريح. قال: حدثني الوليد بن أبي الوليد أبو عثمان، أن عقبة ابن مسلم حدثه, أن شفي بن ماتع الأصبحي حدثه: أنه دخل المدينة فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناس, فقال: من هذا؟ فقالوا: أبو هريرة، فدنوت منه حتى قعدت بين يديه وهو يحدث الناس, فلما سكت وخلا, قلت: أنشدك بحقي وبحق الله لما حدثتني حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم عقلته وعلمته، قال: فقال أبو هريرة: أفعل، لأحدثنك حديثاً حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا البيت، ما فيه أحد غيري وغيره, ثم نشغ أبو هريرة رضي الله عنه نشغة, ثم أفاق فقال: لأحدثنك حديثاً حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا البيت ما فيه أحد غيري وغيره, ثم نشغ أبو هريرة رضي الله عنه نشغةً أخرى، ثم مال خاراً على وجهه, واشتد به طويلا، ثم أفاق فقال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة نزل إلى أهل القيامة ليقضي بينهم، وكل أمة جاثية, فأول من يدعو به رجل جمع القرآن، ورجل قتل في سبيل الله، ورجل كثير المال, فيقول الله للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ قال: بلى يا رب! قال: فماذا عملت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم آناء الليل وآناء النهار, فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله له: بل أردت أن يقال: فلان قارئ، فقد قيل ذاك! ويؤتى بصاحب المال فيقول الله له: ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى يا رب! قال: فما عملت فيما آتيتك؟ قال: كنت أصل الرحم، وأتصدق, فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت, ويقول الله له: بل أردت أن يقال: فلان جواد، وقد قيل ذلك! ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله, فيقال له: في ماذا قتلت؟ فيقول: أمرت بالجهاد في سبيلك، فقاتلت حتى قتلت, فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت, ويقول الله له: بل أردت أن يقال: فلان جريء، فقد قيل ذلك, ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتي فقال: يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة). ]. نشغ أبو هريرة، وغشي عليه رضي الله عنه خوفاً من أن يدخل في عمله شيء كهؤلاء؛ لأنه أبو هريرة رضي الله عنه وصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فخاف على نفسه حتى صار يغشى عليه من شدة الخوف, وذلك لأن آفات الأعمال والعوارض التي تعرض للعبد كثيرة, فيجب أن يحرص الإنسان على تطهير عمله من إرادة وجوه الناس وإرادة الدنيا، وأن يكون خالصاً لله جل وعلا, وكل إنسان مهما كانت حالته يريد من الآخر نفع نفسه فقط, بصرف النظر عن نفعك. كل الناس يريدونك لهم ولكن الله جل وعلا يريدك لك, إذا عملت عملاً وفاك إياه وزادك, فإن الله لا تنفعه الطاعة كما أنه لا تضره المعصية جل وعلا, فإذا أمر عبده بشيء فهو لمصلحة العبد فقط، وليس لمصلحة الله, الله جل وعلا لا مصلحة له من طاعة الناس، ولا من أمرهم ولا من معصيتهم، فإذا تعدوا حرمات الله فلن يعجزوه جل وعلا, وسوف يأخذهم في الوقت المناسب الذي يريده جل وعلا، ويلقيهم في جهنم ولا يبالي؛ لأنهم عبيده وملكه، يتصرف فيهم كيف يشاء، ولأنهم عصوه, فما أهون أهل النار على الله جل وعلا؟! لأنهم يتضاغون فيها، ويصيحون حتى تنقطع بهم نفوسهم, ولكن لا يفيد الصياح شيئاً. جاء في التفسير عند قوله جل وعلا: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77]: أن الجواب يأتي بعد آلاف السنين, ويقول لهم: {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77]، وكذلك الآية الأخرى: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} [المؤمنون:106]، إلى قوله: {أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:107]، أخرجنا منها فإن عدنا يعني: أخرجنا إلى الدنيا مرةً أخرى لنعمل الأعمال الصالحة ونطيع, وبعد فتره طويلة جداً يأتيهم الجواب، يقول لهم: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108]، عند ذلك انقطع الرجاء نهائياً, وتصبح ليس فيها إلا زفير وشهيق دائماً, فأي هوان أهون من هؤلاء على الله جل وعلا؟ قد هانوا غاية الهوان, ومقتهم الله جل وعلا وعذبهم. أما يخشى الإنسان من هؤلاء؟ لهذا كان بعض السلف يبكي بكاءً شديداً؛ ثم إذا لامه أهله, قال: كيف تلوموني وقد توعدني ربي جل وعلا إن عصيته أن يلقيني في جهنم؟ والله لو توعدني أن يسجنني في حمام لحق لي أن أبكي ولا تبقى لي دمعة! ولكن الناس يغفلونَ عن ذلك, ولهذا إذا حضر الإنسان الموت يتغير حاله تغيراً عظيماً جداً, وقد يجزع جزعاً هائلاً، ولكن الناس لا يعرفون عنه شيئاً، والإنسان ما دام صحيحاً فإن أمامه المجال والفسحة, وعليه أن يستعتب ربه ويطلب العتبى من ربه -يعني: يتوب عليه- ويعتذر إلى ربه ويعمل؛ لأنه لا يدري متى يبغته الموت، فإنه يأتيه الموت في أي وقت, فالإنسان ما عنده ضمان في أنه يعيش عشر سنوات أو عشرين سنة أو سنة أو يوماً، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34]، هل غداً يكون مريضاً أو يكون صحيحاً؟ أو يكون في عداد الأموات؟ فإذا قيل: فلان مات, انتهى وانقطع العمل والأمل، وأهل الدنيا ينسونه, يعني: آخر خبر به يوم صلي عليه ودفن، يذكرونه أياماً ثم ينسى، وانتهت القضية, من الذي يصلي له؟ من الذي يصوم له؟ قد طبع على عمله وانتهى, إن كان عمل صالحاً فيرتبط بالعمل ويفرح, وإن كانت أعماله فاسدة فما أكثر الحسرات؟! فالإنسان إذا شاهد هذه القبور يراها ساكنة وفيها البلاء, وفيها أمور هائلة جداً, والإنسان سيصير عما قريب إلى ما صار إليه أولئك الذين تقدموه, وهذا في كل وقت، وإلى الآن يصلى على عدد من الجنائز, فالناس الذين تراهم الآن معك لن يبقى بعد مائة سنة منهم على وجه الأرض عين تطرف, كلهم يكونون تحت الأرض، ويأتي آخرون مكانهم وهكذا إلى أن ينتهوا. فالأمور سائرة بسرعة، ولكن شأن الإنسان وأمره قصير؛ لأن كل الوقت الذي يكون مزرعة له هو عمرهُ فقط، والعمر -كما هو معلوم- أكثره ضائع, بعضه في المجالس قيل وقال, وبعضه في الأكل، وبعضه في النوم، وبعضه في المشي وإضاعة الوقت والتفرج, والذي يعمل فيه لله جل وعلا هو القليل، فلو تبصر الإنسان حق التبصر لطرأ له حالة أخرى غير هذه الحالة، والله المستعان.

أنواع الأعمال التي يفعلها الناس من العبادات

أنواع الأعمال التي يفعلها الناس من العبادات قال الشارح: [وقد سئل شيخنا المصنف رحمه الله عن هذه الآية فأجاب بما حاصله: ذكر عن السلف فيها أنواع مما يفعله الناس اليوم، ولا يعرفون معناه, فمن ذلك العمل الصالح الذي يفعله كثير من الناس ابتغاء وجه الله, من صدقة، وصلاة، وصلة، وإحسان إلى الناس، وترك ظلم ونحو ذلك مما يفعله الإنسان أو يتركه خالصاً لله, لكنه لا يريد ثوابه في الآخرة، إنما يريد أن يجازيه الله بحفظ ماله وتنميته، أو حفظ أهله وعياله, أو إدامة النعم عليهم, ولا همة له في طلب الجنة والهرب من النار, فهذا يعطى ثواب عمله في الدنيا وليس له في الآخرة من نصيب, وهذا النوع ذكره ابن عباس. النوع الثاني: وهو أكبر من الأول وأخوف, وهو الذي ذكره مجاهد في الآية: أنها نزلت فيه، وهو أنه يعمل أعمالاً صالحةً ونيته رياء الناس لا طلب ثواب الآخرة]. صالحة يعني فيما يظهر للناس، وإلا فهي في الباطن فاسدة؛ لأن النية فاسدة. [النوع الثالث: أن يعمل أعمالاً صالحةً يقصد بها مالاً, مثل أن يحج لمال يأخذه لا لله، أو يهاجر لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها, أو يجاهد لأجل المغنم, فقد ذكر أيضاً هذا النوع في تفسير هذه الآية]. هذا إشارة إلى سبب الحديث الذي قاله الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه)، يقول العلماء: سبب هذا القول أن رجلاً خطب امرأة في مكة يقال لها: أم قيس , فأبت وقالت: ما أثيبك إلا أن تهاجر، فإن هاجرت فلا بأس، فهاجر من أجل ذلك, فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: (إنما الإعمال بالنيات إلى آخره)، يقولون: هذا سببه, وإن كان هذا السبب فيه ضعف، كما قاله ابن رجب أنه ضعيف, ولكن يكفي قوله: (من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله, ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها -أو قال: يتزوجها- فهجرته إلى ما هاجر إليه)، يعني: ليس له من الهجرة إلا ذلك, ومعروف أن الهجرة من أفضل الأعمال, ولهذا حق للمهاجرين أن يقدموا على غيرهم بالفضل لهجرتهم؛ لأن الهجرة هي هجر البلد الذي عاش فيه, وفيه ماله وأهله؛ إلى بلد آخر يكون فيه الإسلام ظاهراً وعزيزاً، ومحارباً للكفر والفساد. [وكما يتعلم الرجل لأجل مدرسة أهله أو مكسبهم أو رياستهم، أو يتعلم القرآن ويواظب على الصلاة لأجل وظيفة المسجد كما هو واقع كثيراً. النوع الرابع: أن يعمل بطاعة الله، مخلصاً في ذلك لله وحده لا شريك له, لكنه على عمل يكفره كفراً يخرجه عن الإسلام, مثل اليهود والنصارى إذا عبدوا الله أو تصدقوا أو صاموا ابتغاء وجه الله والدار الآخرة]. مثل الذي يكون من المسلمين في العمل ولكنه على بدعة تكفره, كأن يعبد أصحاب القبور ويدعوهم، ويطوف عليها، ويتقرب إليهم, وهو يقول: لا إله إلا الله، ويصلي ويصوم, فمثل هذا أعماله فاسدة باطلة؛ لأنه لم يخلص في العبادة ولم يعبد الله وحده، بل عبد معه صاحب القبر، فإن هذا عمله يجزى به في الدنيا فقط. [ومثل كثير من هذه الأمة الذين فيهم كفر أو شرك أكبر يخرجهم من الإسلام بالكلية، إذا أطاعوا الله طاعة خالصة يريدون بها ثواب الله في الدار الآخرة, لكنهم على أعمال تخرجهم من الإسلام، وتمنع قبول أعمالهم, فهذا النوع أيضاً قد ذكر في هذه الآية عن أنس بن مالك وغيره, وكان السلف يخافون منه. قال: بعضهم: لو أعلم أن الله تقبل مني سجدة واحدة لتمنيت الموت؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]. ثم قال: بقي أن يقال: إذا عمل الرجل الصلوات الخمس، والزكاة، والصوم، والحج ابتغاء وجه الله, طالباً ثواب الآخرة, ثم بعد ذلك عمل أعمالاً قاصداً بها الدنيا, مثل: أن يحج فرضه لله، ثم يحج بعده لأجل الدنيا, كما هو واقع فهو لما غلب عليه منهما, وقد قال بعضهم: القرآن كثيراً ما يذكر أهل الجنة الخلص، وأهل النار الخلص، ويسكت عن صاحب الشائبتين: وهو هذا وأمثاله]. يعني: إذا كان الغالب عليه الإخلاص والتقى, فيكون ناجياً بإخلاصه وتقاه, وإذا كان الغالب عليه المراءاة وإرادة الدنيا, فيكون هالكاً، فهو خاضع لما غلب عليه بالعمل، وهو ما يختم له به؛ لأنه قد يختم للإنسان بعمل صالح يكفر عنه ما سبق, كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالخواتيم)، وقد ينعكس الأمر فيختم للإنسان بأعمال سيئة يموت عليها، وتكون خاتمته أنه مات على أسوأ أعماله, نسأل الله العافية!

شرح فتح المجيد [97]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [97] قد تطغى شهوات الدنيا على قلب عبد، فيعمل لها حتى يصير عبداً لشهواته، تسيره كما تشاء، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، ووصف فاعل ذلك بأنه عبد لغير الله، ودعا عليه بالتعاسة والشقاء.

حديث أبي هريرة: (تعس عبد الدينار)

حديث أبي هريرة: (تعس عبد الدينار) قال المصنف رحمه الله تعالى: [وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار, تعس عبد الدرهم, تعس عبد الخميصة, تعس عبد الخميلة, إن أُعطي رضي, وإن لم يعط سخط, تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش. طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله, أشعث رأسه، مغبرة قدماه, إن كان في الحراسة كان في الحراسة, وإن كان في الساقة كان في الساقة, إن استأذن لم يؤذن له, وإن شفع لم يشفع)]. قوله: (في الصحيح) يعني: في صحيح البخاري، وذكره في موضعين في الجهاد وفي الرقاق.

معنى قوله: (تعس عبد الدينار)

معنى قوله: (تعس عبد الدينار) قوله: (تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم, تعس عبد الخميلة, تعس عبد الخميصة). الدينار: هو قطعه من الذهب كما هو معروف, سواء كان مضروباً أم لم يكن, والدرهم: قطعة من الفضة, أما الخملية فهي كساء له خمل، أي: له أهداب، وأما الخميصة فهي كساء مربع. وسماه عبداً لهذه الأشياء؛ لأنه يعمل لها, ويجتهد ويكد لأجلها, وكأن عمله للدينار والدرهم والأقمشة والأكسية وغيرها مما يقتنى. المقصود: أن عمله إنما هو للدنيا، ومعنى قوله: (تعس) سقط وهلك، وقيل: معناه انتكس عليه أمره، يعني أنه لم يفلح, وهذا قد يكون دعاء وقد يكون خبراً, إذا كان دعاءً فالرسول صلى الله عليه وسلم دعاؤه مستجاب, فهو يدعو عليه بالتعاسة, والتعاسة هي الشقاء كما قال جل وعلا: {فَتَعْساً لَهُمْ} [محمد:8]، أي: يعني شقاءً لهم, وقد يكون خبراً يخبر عنه أن هذه حالته؛ لأنه لا يخرج عن هذه الحالة, إذا كان الإنسان يعمل للدنيا فإنه يكون تعساً, ولا يلزم أن يكون في نظر العامل أنه تعس, وأشد التعاسة وأعظمها أن يكون في عمله بعيداً عن ربه جل وعلا وعما يسعده, فكلما تمادى في ذلك -وإن كان يظن أنه في سعادة- فهو يتمادى في التعاسة. وقوله: (وانتكس) الانتكاس مثل أن يشفى المريض ثم يعود إلى مرضه, انتكس في مرضه يعني: عاد إلى أسوأ ما كان, وهنا كأنه دعاء يقرر عليه, يكون تعساً ثم ينتكس في أمره أشد مما كان عليه. وقوله: (وإذا شيك فلا انتقش)، أي: إذا أصابته الشوكة فلا انتقش, والانتقاش: هو إخراج الشوكة بالمنقاش، والمعنى: أنه إذا وقع في شدة فإنه لا يخرج منها؛ لأن الذي إذا شيك ولا ينتقش لا يجد من ينقشه ومعناه: أنه قد هلك فلا يستطيع الخلاص مما وقع فيه. والمعنى: أن الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر أن من كانت هذه حالته, فقد وصل إلى الغاية في الهلاك, وهو عدم الخروج مما وقع فيه من المآزق وهي عبادة الدنيا؛ لأن هذا يتمادى حتى يغطي على قلبه، فيصبح عنده الباطل كأنه حق, ويكره الحق ويبغضه، ويحب الباطل, وهذه غاية التعاسة والشقاء, فخروجه من هذا صعب إن لم تداركه رحمة من ربه جل وعلا، وإلا فإنه لا يخرج من ذلك ولا يجد من يخرجه.

معنى كونه عبدا للدينار والدرهم

معنى كونه عبداً للدينار والدرهم ثم كونه سماه عبداً للدينار وعبداً للدرهم وعبداً للكساء الملبوس، أو الموضوع المفروش, ليس معنى ذلك أنه يسجد لهذه الأشياء ويدعوها ويصلي لها, ولكن المعنى أنه يعمل لأجلها ولا يعمل لآخرته, ولهذا وضح ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: (إن أعطي رضي, وإن منع سخط) يعني: أنه إذا حصل له ما يعمل له استمر في عمله ومضى فيه, أما إذا لم يحصل له الشيء الذي يعمل له وهو الدينار والدرهم والأقمشة والأكسية وغيرها مما يكون مراداً له, فإنه يتوقف ويسخط العمل ويتركه. (إن أعطي رضي وإن منع سخط): فهذا واضح في أنه يعمل لأجل الدنيا، لأنه لو عمل لله جل وعلا ما نظر إلى هذه الحالة, كونه إذا منع ترك العمل، وإذا أعطي استمر فيه, فهذا تفسير لقوله: (عبد الدينار وعبد الدرهم).

العبد المخلص المقابل لعبد الدنيا

العبد المخلص المقابل لعبد الدنيا ثم ذكر العبد الذي يكون مقابلاً لهذا, وهو الذي يكون عبداً لله جل وعلا, هذا عبد الدنيا والذي يقابله هو عبد الله, فقال: (طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله)، وطوبى: كلمة يراد بها الفعل الطيب أو الخير الذي يصل إليه, يعني: أنه يحصل على الجزاء الطيب المتناهي في الطيب، وقيل: إن (طوبى) هي الجنة، وقيل: إن (طوبى) شجرة في الجنة, وهذه أقوال متلازمة. والمعنى واضح في أنه صلى الله عليه وسلم يدعو لهذا العبد الذي هذه صفته أن يكون من أهل الجنة أو أنه يخبر عنه بأنه من أهل الجنة. والعنان معروف، وهو الحبل الذي يكون في رأس الفرس، يقوده به، وهو الزمام الذي يمسكه، ومعنى ذلك: أنه مجتهد في سبيل الله. وقال: (أشعث رأسه، مغبرة قدماه)، والمقصود بذلك: أنه لا يعتني بنفسه، قد شغل عن ترجيل رأسه وتسريحه وتنظيفه, شغله الجهاد في سبيل الله عن ذلك. وكذلك الغبرة التي تلحقه، فهي تعني أنه لا يعتني ببدنه بالتنظيف والغسل؛ لأنه مشغول عن ذلك، ويعمل عملاً يرى أنه لا يجوز التساهل فيه أو الغفلة عنه، فهو في أمر مهم؛ لأنه يطلب رضا الله جل وعلا، والوصول إلى أعلى الدرجات. ثم قال: (إن كان في الحراسة كان في الحراسة) هذا الشرط اتحد مع الجواب، يعني: أنه إن كان في الحراسة قام بما يلزم ولم يكن مقصراًَ فيها, فهو في الاجتهاد والعمل غير مقصر، (وإن كان في الساقة كان في الساقة)، والحراسة والساقة كلاهما من أشد المواقف. فذكر هذين الموقفين ليدل على أنه قائم بما يلزمه طاعةً لله جل وعلا، وطلباً لمرضاته, وأنه مجتهد غاية الاجتهاد لا يفتر ولا يقصر في ذلك. ثم قال: (إن استأذن لم يؤذن له, وإن شفع لم يشفع)، يعني: أنه يعمل عملاً لله، ولا يقصد به وجوه الناس ولا يقصد به الدنيا, فلهذا يكون غير معروف عند ذوي المناصب والمسئولين, لأنه لا يظهر نفسه حتى يعرفوه, بل يعمل لربه جل وعلا, فلهذا إذا طلب شيئاً لا يعطاه، وإذا شفع لأحد لم تقبل شفاعته. إن استأذن على الكبراء لم يؤذن له لأن عمله ليس للدنيا, فهو يحرص على أن يكون عمله خافياً, وألا يكون مطلوباً به وجوه الناس ورضاهم. وإن شفع لأحد لم تقبل شفاعته؛ لأنه لا قيمة له عندهم, فهذا معناه أنه مغمور عند الناس, وليس له ذكر ولا نباهة عندهم ولا وجه, ولكنه عند ربه رفيع القدر وعظيم الجزاء؛ لأن قصده وجه الله جل وعلا؛ ولأنه عبد لله، فهذا يقابل الأول, فالأول عبد الدنيا وهذا عبد ربه جل وعلا. وهذا مثلما يأتي في القرآن, فإن الله جل وعلا يذكر المتقابلين، يذكر مرة الصالحين ثم يتبعهم الفاسدين الكافرين، أو يذكر الجنة ثم يتبع ذلك ذكر النار. فهنا في هذا الحديث ذكر عابد الدنيا، ثم ذكر عابد ربه الذي يقصد بعمله وجه الله جل وعلا، ويتقرب به إلى الله, والشاهد في هذا واضح, أنه سمى الذي يعمل للدنيا عبداً للدينار، وعبداً للدرهم، وعبداً للخميلة، وعبداً للخميصة. فدل على أن من عمل عملاً يقصد به الدنيا, فإنه عند الله من الخاسرين, فالحديث مطابق للآية التي ترجم بها المؤلف الباب، وهي قوله جل وعلا: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16]، فمعلوم أن الأول باطل عمله في الآخرة، وأنه ممن يستحق النار، ويكون خالداً فيها؛ لأنه عبدٌ للدنيا ويعمل لأجلها, ولهذا يرضى لها ويسخط من أجلها. أما الثاني: فهو يقابل هذا تماماً, فالدنيا ما أهمته، ولا يلتفت إليها، ولا يعيرها أي اهتمام, ولهذا كان عمله عظيماً, إذا وقف في المواقف وقف موقف الرجال, ولم يؤت من قبله, ولكنه لا يظهر ذلك بل يخفيه؛ لأنه يريد وجه الله جل وعلا, ولهذا لا يتحصل له جاه عند الناس, بل يكون مطموراً مغموراً، لا يؤتى به ولا يلتفت إليه؛ لأن عمله لله جل وعلا، وهذا هو المقصود.

شرح ألفاظ الحديث

شرح ألفاظ الحديث قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله (في الصحيح): أي: صحيح البخاري. قوله: (تعس) وهو بكسر العين، ويجوز الفتح, أي: سقط, والمراد هنا هلك، قاله: الحافظ. وقال في موضع آخر: وهو ضد سعد أي: شقي, وقال أبو السعادات: يقال: تعس يتعس إذا عثر وانكب لوجهه, وهو دعاء عليه بالهلاك. قوله: (عبد الدينار) هو المعروف من الذهب، كالمثقال في الوزن. قوله: (تعس عبد الدرهم) وهو من الفضة، قدره الفقهاء بالشعير وزناً, وعندنا منه درهم من ضرب بني أمية, وهو زنة خمسين حبة شعير, وخمسا حبة، سماه عبداً له، لكونه هو المقصود بعمله]. يعني: في القرن الثالث عشر يقولون: عندنا درهم من ضرب بني أمية يعني: بقي إلى ذلك الوقت، ولا يزال عند بعض الناس, واشترى أحد التلاميذ درهماً من أول الإسلام وهو محتفظ به, وهذا يترتب عليه أحكام من أحكام الشرع, كمعرفة المكاييل والموازين، وهو أمر مهم؛ لأن فيها الزكاة وفيها الكفارات وفيها الأحكام التي تتعلق بها كثيراً, فمعرفتها مهمة، فإذا وجد مثل ذلك دينار أو درهم فشيء جيد؛ لأن هذا هو الذي كان في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه يعينه كثيراً على معرفة المقادير والموازين. قال الشارح: [فكل من توجه بقصده لغير الله, فقد جعله شريكاً في عبوديته, كما هو حال الأكثر. قوله: (تعس عبد الخميصة) قال أبو السعادات: هو ثوب خز أو صوف معلم, وقيل: لا تسمى خميصة إلا أن تكون سوداء معلمة, وتجمع على خمائص, والخميلة بفتح الخاء المعجمة, وقال أبو السعادات: ذات الخُمل: ثياب لها خُمل من أي شيء كان. قوله: (تعس وانتكس): قال الحافظ: هو بالمهملة أي: عاوده المرض. وقال أبو السعادات: أي: انقلب على رأسه؟ وهو دعاء عليه بالخيبة، قال الطيبي: فيه الترقي بالدعاء عليه؛ لأنه إذا تعس انكب على وجهه، فإذا انتكس انقلب على رأسه بعد أن سقط. قوله: (وإذا شيك): أي: أصابته شوكة. (فلا انتقش) أي: فلا يقدر على إخراجها بالمنقاش، قاله أبو السعادات. والمراد: أن من كانت هذه حاله فإنه يستحق أن يدعى عليه بما يسوءه في العواقب، ومن كانت هذه حاله فلابد أن يجد أثر هذه الدعوات في الواقع فيما يضره في عاجل دنياه وآجل أخراه].

كلام ابن تيمية على منزلة المال عند المسلم

كلام ابن تيمية على منزلة المال عند المسلم قال الشارح رحمه الله: [قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الدينار والدرهم، وعبد القطيفة، وعبد الخميصة، وذكر فيه ما هو دعاء عليه بلفظ الخبر، وهو قوله: (تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش)، وهذه حال من إذا أصابه شر لم يخرج منه، ولم يفلح؛ لكونه تعس وانتكس، فلا نال المطلوب، ولا خلص من المكروه. وهذا حال من عبد المال، وقد وصف ذلك بأنه: (إن أعطي رضي، وإن منع سخط)، كما قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة:58]، فرضاهم لغير الله، وسخطهم لغير الله. وهكذا حال من كان متعلقاً منها برئاسة أو بصورة، ونحو ذلك من أهواء نفسه، إن حصل له رضي، وإن لم يحصل له سخط، فهذا عبد ما يهواه من ذلك، وهو رقيق له، إذ الرق والعبودية في الحقيقة: هو رق القلب وعبوديته، فما استرق القلب واستعبده فهو عبده - إلى أن قال: وهكذا أيضاً طالب المال، فإن ذلك يستعبده ويسترقه، وهذه الأمور نوعان: فمنها ما يحتاج إليه العبد، كما يحتاج إلى طعامه وشرابه، ومنكحه ومسكنه، ونحو ذلك، فهذا يطلبه من الله، ويرغب إليه فيه، فيكون المال عنده يستعمله في حاجته بمنزلة حماره الذي يركبه، وبساطه الذي يجلس عليه، من غير أن يستعبده فيكون هلوعاً. ومنها ما لا يحتاج إليه العبد، فهذا ينبغي أن لا يعلق قلبه بها، فإذا تعلق قلبه بها صار مستعبداً لها، وربما صار مستعبداً ومعتمداً على غير الله فيها، فلا يبقى معه حقيقة العبودية لله، ولا حقيقة التوكل عليه، بل فيه شعبة من العبادة لغير الله، وشعبة من التوكل على غير الله. وهذا من أحق الناس بقوله صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة)، وهذا هو عبد لهذه الأمور، ولو طلبها من الله فإن الله إذا أعطاه إياها رضي، وإن منعه إياها سخط، وإنما عبد الله: من يرضيه ما يرضي الله، ويسخطه ما يسخط الله، ويحب ما أحبه الله ورسوله، ويبغض ما أبغض الله ورسوله، ويوالي أولياء الله، ويعادي أعداء الله، فهذا الذي استكمل الإيمان انتهى ملخصاً]. هذا الكلام ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في العبودية، وكلامه في منزلة المال عند الإنسان، يقول: المال يكون عند الإنسان على قسمين: أحدهما: الشيء الذي لابد له منه مثل المسكن والطعام -المأكل والمشرب- والملبس ونفقة الزوجة وما أشبه ذلك. فهذه يجب أن تكون مطلوبة من الله جل وعلا، ولا يتعلق قلبه بها، وإنما تكون لأجل الحاجة؛ لأنه محتاج إلى ذلك، ولكن لا تشغله ولا تصده عن عبادة ربه، وكون قلبه خالصاً لربه لا تأخذ شيئاً منه، فتكون هذه بمنزلة الحمار الذي يركبه، ولو قلنا السيارة فإنه يمكن أن يتعلق قلبه بها، وتجده إذا كانت مثلاً جميلة ينظفها، بل ينبغي أن يكون المال بمنزلة الحمار الذي يركبه. ثم يقول بعد هذا: بل يجب أن يكون المال عند المؤمن بمنزلة المحل الذي يقضي فيه حاجته ولا يتعلق به قلبه نهائياً؛ لأنه إذا تعلق به القلب لابد أن يعمل من أجله، ثم يأخذ شعبة من قلبه فيصبح عنده شيء من العبودية لغير الله جل وعلا، فالعبودية الخالصة أن تكون لله وحده، وهذا هو الذي يكون كامل الإيمان، وهو الذي إذا بعث يوم القيامة يدخل الجنة بلا حساب ولا عذاب، أما إذا كان قلبه قد تشعب شعبة للمال، وشعبة للعمل، وشعبة للرئاسة، وما أشبه ذلك من الأمور التي يتعلق بها، فإنه ينطبق عليه قوله صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم)، إلى آخره. يعني: عنده عبادة لغير الله جل وعلا، وهذه تختلف: إما أن تكون عبادة كاملة فيصبح ممن تشمله الآية ويدخل فيها أو تكون عنده خصلة من خصال العبادة، فقد تكون كبيرة، وقد تكون صغيرة، فالناس يتفاوتون في هذا، فهذا الشيء الذي يحتاجه ينبغي أن يكون بهذه المنزلة، والأمور الضرورية ينبغي أن تكون للمؤمن بهذه المنزلة، أما الأمور التي لا يحتاجها وهي فضلة زائدة، فهذه يقول: إنها عذاب يعذب بها الإنسان، وكونه يعمل ويجمع لها فإنه يصير خادماً لها -يعني: عبداً لها- ويصبح أقل ما يقال فيه إنه صد عن عبادة الله وأعرض عنها إلى عبادة ما يضره ولا ينفعه، وسوف يخدمه ويتعب نفسه وبدنه في جمعه وحراسته ثم يأكله غيره وينتفع به غيره. وقد يسعد به غيره فتكون عليه الحسرات، إذا وجد من سعد بالشيء الذي شقي هو فيه تصبح عليه الحسرة فقط، وقد يشقى فيه غيره أكثر من شقائه، وذلك بأن يعصي الله جل وعلا فيه، فيكون عليه شيء من التبعات، فهو لا ينفك عن المسئولية، لماذا؟ لأنه في الواقع خرج عن الشيء الذي طلب منه، وليس معنى ذلك أن الإنسان لا يجوز أن يعمل على وجود المال، وإنما لا يجوز أن يطلبه من الأمور المحرمة، وألا يمنعه المال من أداء الواجبات، ويجب ألا يدعوه المال إلى ارتكاب المحرمات، فإذا لم يكن يدخل في ذلك -يعني: ما منعه جمع المال من ترك واجب، ولا حمله على فعل محرم- فإنه يكون سالماً وليس مذموماً، ولكن الغالب في صاحب المال أنه لا يسلم من أحد شيئين: إما ترك واجب، وإما فعل محرم من أجل المال. وهذا أمر مشاهد، حتى إن كثيراً من الناس يثقل عليه كثيراً إخراج الزكاة التي هي ركن من أركان الإسلام لمحبة المال، وبعضهم قد لا يخرجها؛ لأنه قد يستكثرها مثلاً مع أنها ليست كثيرة، فيمنعه حب المال من إخراج الزكاة، وهذا في الواقع قد أخذ المال شعبة كبيرة من قلبه، فأصبح القلب متعبداً له، وكذلك قد يبخل في أداء الواجب من المال ويعجز، وإن لم يكن مثل الذي منع الزكاة، ولكنه يكون عليه من إثم ذلك بحسب ما منعه من الواجب، سواء كان الواجب يتعلق بمن يجب عليه نفقته أو يتعلق بغيره، فإذا كان الإنسان عبداً لله جل وعلا خالصاً فيكون المال عنده بمنزلة الشيء الذي لا يؤبه له، ولا يتعلق قلبه به؛ لأنه يعمل في هذه الدنيا للدار التي سيسكنها سكنىً لا تنقطع، فهو يعمل على عمارة تلك الدار بكل وسيلة، بالبدن وبالمال الذي يكون بعض الناس خادماً له وعبداً له، فهو إذا كان عبداً لله يستخدم المال ويوظفه لأعماله التي تكون مرضية لربه جل وعلا. فالإنسان لا ينفك إما أن يكون بهذه الصفة أو يكون بالصفة الأخرى، وكل إنسان يجد من نفسه شيئاً من ذلك، ولابد من المجاهدة والعمل والكدح، فإن الله جل وعلا يقول: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6]، والكدح: إما أن يكون في الخير أو يكون في الشر، ولابد من ملاقاة الله جل وعلا، ثم محاسبته وجزاؤه على الكدح الذي كدحه الإنسان.

معنى كلمة (طوبى)

معنى كلمة (طوبى) قال الشارح رحمه الله: [قوله: (طوبى لعبد)، قال أبو السعادات: طوبى: اسم الجنة. وقيل: هي شجرة فيها، ويؤيد هذا ما رواه ابن وهب بسنده عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: (قال رجل: يا رسول الله! وما طوبى؟ قال شجرة في الجنة مسيرة مائة سنة، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها). وروى الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى، سمعت ابن لهيعة قال حدثنا دراج أبو السمح، أن أبا الهيثم حدثه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! طوبى لمن رآك وآمن بك، قال: طوبى لمن رآني وآمن بي، ثم طوبى ثم طوبى ثم طوبى لمن آمن بي ولم يرني، قال له رجل: وما طوبى؟ قال شجرة في الجنة مسيرة مائة عام، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها) وله شواهد في الصحيحين وغيرهما]. ذكر البخاري في صحيحه أن طوبى هذه كلمة تقال لكل عمل طيب، ولكل جزاء طيب، وهي على وزن فعلى، وكلامه هذا يدل على أن الحديث لم يصح عنده، ولو كان الحديث صحيحاً لبين ذلك في الترجمة كعادته، وإن كان الحديث ليس على شرطه، فإنه إذا لم يكن على شرطه -يذكر ذلك في ترجمة ولا يرويه- يذكر معناه، وذكره هذا يدل على أن هذا الحديث غير صحيح عنده.

أثر وهب بن منبه في وصف بعض نعيم الجنة

أثر وهب بن منبه في وصف بعض نعيم الجنة قال الشارح رحمه الله: [وقد روى ابن جرير، عن وهب بن منبه هاهنا أثراً غريباً عجيباً. قال وهب رحمه الله: إن في الجنة شجرةً يقال لها طوبى، يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها: زهرها رياط، وورقها برود، وقضبانها عنبر، وبطحاؤها ياقوت، وترابها كافور، ووحلها مسك، يخرج من أصلها أنهار الخمر واللبن والعسل، وهي مجلس لأهل الجنة، فبينما هم في مجلسهم إذ أتتهم الملائكة من ربهم يقودون نجباً مزمومة بسلاسل من ذهب، وجوهها كالمصابيح من حسنها، ووبرها كخز المزعري من لينه، عليها رحال ألواحها من ياقوت ورفوفها من ذهب، وثيابها من سندس وإستبرق، فينيخونها ويقولون: إن ربنا أرسلنا إليكم لتزوروه وتسلموا عليه، قال: فيركبونها، قال: فهي أسرع من الطائر، وأوطأ من الفراش، نجباً من غير مهنة، يسير الراكب إلى جنب أخيه وهو يكلمه ويناجيه، لا تصيب أذن راحلة منها أذن صاحبتها، ولا ترك راحلة ترك صاحبتها، حتى إن الشجرة لتنتحي عن طريقهم؛ لئلا تفرق بين الرجل وأخيه. قال: فيأتون إلى الرحمن الرحيم، فيسفر لهم عن وجهه الكريم حتى ينظروا إليه، فإذا رأوه قالوا: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، وحق لك الجلال والإكرام، قال: فيقول تبارك وتعالى عند ذلك: أنا السلام، ومني السلام، وعليكم حقت رحمتي ومحبتي، مرحباً بعبادي الذين خشوني بالغيب، وأطاعوا أمري، قال: فيقولون: ربنا إنا لم نعبدك حق عبادتك، ولم نقدرك حق قدرك، فأذن لنا بالسجود قدامك، قال: فيقول الله: إنها ليست بدار نصب ولا عبادة، ولكنها دار ملك ونعيم، وإني قد رفعت عنكم نصب العبادة، فسلوني ما شئتم، فإن لكل رجل منكم أمنيته، فيسألونه حتى إن أقصرهم أمنية ليقول: ربي تنافس أهل الدنيا في ديناهم فتضايقوا، رب فآتني من كل شيء كانوا فيه من يوم خلقتها إلى أن انتهت الدنيا، فيقول الله تعالى: لقد قصرت بك اليوم أمنيتك، ولقد سألت دون منزلتك، هذا لك مني وسأتحفك بمنزلتي؛ لأنه ليس في عطائي نكد ولا قصر يد. قال: ثم يقول: اعرضوا على عبادي ما لم تبلغ أمانيهم، ولم يخطر لهم على بال، قال: فيعرضون عليهم حتى تقصر بهم أمانيهم التي في أنفسهم، فيكون فيما يعرض عليهم: براذين مقرنة على أربعة منها سرير من ياقوتة واحدة، على كل سرير منها قبة من ذهب مفرغة، في كل قبة منها فرش من فرش الجنة مظاهرة، في كل قبة منها جاريتان من الحور العين، على كل جارية منهن ثوبان من ثياب الجنة، وليس في الجنة لون إلا وهو فيهما، ولا ريح طيب إلا قد عبق بهما، ينفذ ضوء وجوههما غلظ القبة، حتى يظن من يراهما أنهما دون القبة، يرى مخهما من فوق سوقهما كالسلك الأبيض في ياقوتة حمراء، يريان له من الفضل على صحابته كفضل الشمس على الحجارة أو أفضل، ويرى لهما مثل ذلك، ثم يدخل إليهما فيحييانه ويقبلانه ويعانقانه، ويقولان له: والله ما ظننا أن الله يخلق مثلك، ثم يأمر الله تعالى الملائكة فيسيرون بهم صفاً في الجنة، حتى ينتهي كل رجل منهم إلى منزلته التي أعدت له. وقد روى هذا الأثر ابن أبي حاتم بسنده عن وهب بن منبه وزاد: فانظروا إلى مواهب ربكم الذي وهب لكم، فإذا بقباب في الرفيق الأعلى، وغرف مبنية من الدر والمرجان، وأبوابها من ذهب، وسررها من ياقوت، وفرشها من سندس وإستبرق، ومنابرها من نور، يفور من أبوابها وعراصها نور مثل شعاع الشمس، عنده مثل الكوكب الدري في النهار المضيء. وإذا بقصور شامخة في أعلى عليين من الياقوت يزهوها نورها، فلولا أنه مسخر إذاً لالتمع الأبصار، فما كان من تلك القصور من الياقوت الأبيض فهو مفروش بالحرير الأبيض، وما كان منها من الياقوت الأخضر فهو مفروش بالسندس الأخضر، وما كان منها من الياقوت الأصفر فهو مفروش بالأرجوان الأصفر، مزودة بالزمرد الأخضر، والذهب الأحمر، والفضة البيضاء، قوائمها وأركانها من الجوهر، وشرفها قباب من لؤلؤ، وبروجها غرف من المرجان. فلما انصرفوا إلى ما أعطاهم ربهم قربت لهم براذين من ياقوت أبيض، منفوخ فيها الروح، تحتها الولدان المخلدون، بيد كل وليد منهم حكمة برذون من تلك البراذين، ولجمها وأعنتها من فضة بيضاء منظومة بالدر والياقوت، سروجها موضونة مفروشة بالسندس والإستبرق. فانطلقت بهم تلك البراذين تزف بهم، ينظرون رياض الجنة، فلما انتهوا إلى منازلهم وجدوا الملائكة قعوداً على منابر من نور، ينتظرونهم ليزوروهم ويصافحوهم، ويهنئوهم كرامة ربهم، فلما دخلوا قصورهم وجدوا فيها جميع ما تطاول به عليهم، وما سألوا وتمنوا، وإذا على كل باب قصر من تلك القصور أربعة جنان: جنتان ذواتا أفنان، وجنتان مدهامتان، وفيهما عينان نضاختان، وفيهما من كل فاكهة زوجان، وحور مقصورات في الخيام. لما تبوءوا منازلهم، واستقروا قرارهم، قال لهم ربهم: فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؟ قالوا: نعم وربنا، قال: هل رضيتم ثواب ربكم؟ قالوا: ربنا رضينا فارض عنا، قال: فبرضاي عنكم أحللتكم داري، ونظرتم إلى وجهي، فعند ذلك قالوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر:34 - 35]، وهذا سياق غريب، وأثر عجيب، ولبعضه شواهد في الصحيحين]. هذا الأثر من كلام وهب بن منبه، وقصارى الأمر أن يكون منقولاً عن بني إسرائيل، فلا يجوز إثباته واعتقاد ما فيه، وفيه أشياء منكرة، وهو كما وصفه بأنه أثر عجيب غريب، فالعجيب والغريب ينبغي أن لا يثبت، ولكن أورده لما فيه من الترغيب في الجنة، وفيه أشياء تحرك القلوب للعمل، ولكن خير من ذلك وأفضل ما في كتاب الله جل وعلا. ولا شك أن الجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، وأعظم مما ذكر هنا بكثير، والله جل وعلا يقول: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:17]، (فلا تعلم نفس) هذه نكرة تشمل الملائكة وغيرهم، فهي لا تعلم الشيء الذي أخفي لهم. ثم إن هناك شيئاً فيه نكارة، والحديث الذي في الصحيحين يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا سألتم الله جل وعلا الجنة فاسألوه الفردوس؛ فإنه أعلى الجنة، ووسط الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة، وسقفه عرش الرحمن)، فعرش الرحمن فوق ما يذهبون إليه أي: أنهم يسيرون، وتتفرق الشجر عنهم، فيزورون الله جل وعلا، الله أكبر من كل شيء وأعظم، فإذا أراد جل وعلا النظر إليهم أزاح الحجاب فنظر إليهم في أماكنهم، وكلموه وكلمهم تعالى وتقدس، ولا يحتاج أنهم يركبون ويذهبون يمشون بين الشجر كما يذكر هنا؛ لأنه يقول: (وسقفه عرش الرحمن) ولكن في الجنة الفردوس وهو أعلى ما في السماء، وليس فوقه إلا عرش الرحمن تعالى وتقدس. كذلك ما يذكر من وجود براذين من كذا وكذا هذا ليس بعجيب على قدرة الله جل وعلا، ولكن يحتاج إلى أن يثبت ذلك عن المعصوم صلوات الله وسلامه عليه، أو عن قول الله جل وعلا، أما إذا كان منقولاً عن كتب بني إسرائيل فبيننا وبينهم مفاوز تنقطع دونها أعناق الإبل، فلا يجوز أن نثبت ذلك إلا بشيء ثبت من كتاب الله أو من أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن كان ذلك في الفضائل والترغيب متسامحاً فيه، لكن نكتفي بما صح وثبت في كتاب الله جل وعلا، وفي هذا غنية وخير كثير. وكم من النقص دخل على المسلمين بسبب ما يذكره كعب الأحبار ووهب بن منبه وغيرهما من أحبار اليهود الذين أسلموا وصاروا يذكرون هذه الأشياء في أمور كثيرة، بعضها قد يخالف ما في كتاب الله، ولهذا في صحيح البخاري عن أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه أنه قال: (لا تسألوا أهل الكتاب، فإن كتابكم هو أحدث كتاب نزل، فو الله ما رأينا واحداً منهم أتى يسأل، وإن من أصدق هؤلاء كعب الأحبار، وإننا لنبلو عليه الكذب). هكذا يقول: يعني: أنه قد يظهر من بعض ما يخبر شيء فيه مخالفة لما في كتاب الله ولما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم. والمقصود: أن هذا لا يعتمد عليه في مثل هذا الأثر الطويل الذي فيه هذه الأمور التي ذكر؛ لأنه ليس له مستند ثابت صحيح، لا من كتاب الله، ولا من قول رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما قاله وهب رحمه الله وعفا الله عنا وعنه، نقلاً عن الكتب السابقة، والله أعلم به، ومعلوم أن الذي ينقل عن بني إسرائيل على أقسام ثلاثة: قسم يكون موافقاً لما جاء به رسولنا صلى الله عليه وسلم، فهذا حق يجب تصديقه والإيمان به. وقسم بعكس ذلك، يكون مخالفاً له، فهذا يجب تكذيبه. وقسم ثالث ليس عندنا شيء يدل على أنه صحيح ولا أنه باطل، فمثل هذا لا يصدق ولا يكذب، بل يوقف فيه ويقال: الله أعلم، ونقول: آمنا بما أنزل الله في كتابه.

هل الجنة فيها صبيان

هل الجنة فيها صبيان قال الشارح رحمه الله: [وقال خالد بن معدان: إن في الجنة شجرة يقال لها طوبى ضروع كلها، ترضع صبيان أهل الجنة]. الجنة فيها صبيان، هذا يحتاج إلى دليل، قد اختلف العلماء: هل أهل الجنة يولد لهم صبيان أو لا يولد؟ وأكثر قول العلماء أنه لا يولد لهم، إنما هم في نعيم فقط، ولا يحتاجون إلى الولدان، ثم إن في الحديث الصحيح: أن كل من يدخل الجنة على شكل واحد، وعلى صورة أبيهم آدم، طوله ستون ذراعاً في السماء، كلهم على هذه الصفة، وكذلك يكونون مرداً، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم ما فيهم كهل واحد، فإذا كان لهم صبيان يرضعون فإنه يحتاج إلى دليل يثبت. [وإن سقط المرأة يكون في نهر من أنهار الجنة يتقلب فيه حتى تقوم القيامة، فيبعث ابن أربعين سنة. رواه ابن أبي حاتم]. السقط يكون في الدنيا وليس في الجنة، يعني: إذا أسقطت في الدنيا من المؤمن، أما الجنة فليس فيها سقط، ولا فيها حمل، ولا فيها أولاد على القول الصحيح وإذا أثبت شيء من ذلك يجب أن يكون على دليل جلي.

فضل الجهاد في سبيل الله

فضل الجهاد في سبيل الله قال الشارح رحمه الله: [قوله: (آخذ بعنان فرسه في سبيل الله): أي: في جهاد المشركين. قوله: (أشعث) مجرور بالفتحة؛ لأنه اسم لا ينصرف للوصفية ووزن الفعل، و (رأسه) مرفوع على الفاعلية، وهو طائر الشعر، أشغله الجهاد في سبيل الله عن التنعم بالادهان وتسريح الشعر. قوله: (مغبرة قدماه) هو بالجر، صفة ثانية لعبد]. يجب أن يكون (عبدٌ) مرفوعاً، ويكون (مغبرة قدماه) صفة للعبد، أقول: هذا هو الأقرب. [قوله: (إن كان في الحراسة) هو بكسر الحاء أي: حماية الجيش عن أن يهجم العدو عليهم. قوله: (كان في الحراسة) أي: غير مقصر فيها، ولا غافل، وهذا اللفظ يستعمل في حق من قام بالأمر على وجه الكمال. قوله: (وإن كان في الساقة كان في الساقة): أي: في مؤخرة الجيش، أي: يقلب نفسه في مصالح الجهاد، فكل مقام يقوم فيه إن كان ليلاً أو نهاراً؛ رغبة في ثواب الله وطلباً لمرضاته، ومحبة لطاعته. قال ابن الجوزي: وهو خامل الذكر لا يقصد السمو. وقال الخلخالي: المعنى: ائتماره لما أمر، وإقامته حيث أقيم، لا يفقد من مقامه، وإنما ذكر الحراسة والساقة لأنهما أشد مشقة. انتهى. وفيه: فضل الحراسة في سبيل الله]. قد ورد في فضل الحراسة في سبيل الله أحاديث، ولكنها ليست على شرط الصحيحين منها: أن من حرس ليلة في سبيل الله فهي خير من ألف ليلة يقوم ليلها ويصوم نهارها، ويقول الحافظ: إن هذا الحديث رجاله ثقات إلا فلاناً وذكره. وكذلك ورد: أن من حرس في سبيل الله لا تمسه النار، كذلك جاء نحو هذا في الرباط في سبيل الله، والمرابطة: هي لزوم الثغور في الأماكن المخوفة التي يتوقع أن يأتي منها العدو، ومعلوم أن الجهاد في سبيل الله مثلما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ذروة سنام الإسلام)، يعني: هو أرفع شيء في الأعمال، وإذا ترك الجهاد في سبيل الله عطل أموراً كثيرة، وأصبح دليلاً على ضعف المسلمين، بل وضعف الإسلام أيضاً كما هو الواقع اليوم، فإن المسلمين صاروا أكلة لأعدائهم، يريدون أن يأخذوا منهم ما أرادوا بدون خوف، ولا يردهم شيء عن ذلك، والسبب في هذا تقاعس المسلمين عما أمرهم الله جل وعلا به، وما حضهم عليه رسوله صلى الله عليه وسلم. وقد سبق في الدرس الماضي الحديث الذي ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم: أنهم إذا تركوا الجهاد سلط الله عليهم ذلاً لا يرفع عنهم حتى يراجعوا دينهم وبهذا يتبين أن عز المسلمين في الجهاد، وفي التمسك بدينهم، وأنهم إذا أعرضوا عن دينهم ذلوا، ولابد أن يذلوا، والواقع شاهد بهذا، الواقع الذي ينظر إليه الإنسان من أول الإسلام إلى اليوم يشهد بهذا الأمر. قال الشارح رحمه الله: [قوله: (إن استأذن لم يؤذن له)، أي: إذا استأذن على الأمراء ونحوهم لم يأذنوا له؛ لأنه لا جاه له عندهم ولا منزلة؛ لأنه ليس من طلابها، وإنما يطلب ما عند الله، لا يقصد بعمله سواه. قوله: (وإن شفع) بفتح أوله وثانيه، (لم يشفع) بفتح الفاء مشددة يعني: لو ألجأته الحال إلى أن يشفع في أمر يحبه الله ورسوله لم تقبل شفاعته عند الأمراء ونحوهم. وروى الإمام أحمد ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره)]. ليس معنى ذلك أنه يفعل ما يشاء، وأنه يقسم على الله ثم يطيعه الله، ولكن هذا عبد مطيع لله جل وعلا ممتثل لأمره، فإذا طلب من الله أعطاه، وطلبه لا يكون من باب الإدلال على الله، ولكنه من باب أنه عبده حقاً، فيطلبه من باب العبودية والذل والتعلق به وحده، فيعطيه مع ذله وخضوعه لربه جل وعلا واستكانته له، وليس الإقسام معناه: أنه الذي يأمر أمراً ملزماً فيعطيه ذلك، كما هو الواقع بين الخلق، هذا ليس المراد، بل المراد أنه مطيع لله، وإذا طلب من ربه شيئاً من باب الجزم والعزم فإنه يطلبه من باب الذل والخضوع والاستكانة لربه جل وعلا، فمعلوم أن الله جل وعلا إذا ذل له عبده وخضع له أعطاه ما يريد ولكن حسب مشيئته، فما أحد يلزم الله جل بشيء، لهذا يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا دعا أحدكم فليعزم المسألة ولا يقل: اللهم اغفر لي إن شئت، فإن الله لا مكره له)، أي: لا أحد يكرهه على شيء، والأمر كله بيده جل وعلا، يتصرف بخلقه كيف يشاء. قال الشارح رحمه الله: [قال الحافظ: فيه ترك حب الرئاسة والشهرة، وفضل الخمول والتواضع. انتهى]. هذا العبد الذي ذكر أنه أشعث رأسه إلى آخره، هذا من باب الثناء والمدح، فصار دليلاً على أن هذا أمر مطلوب، ينبغي للإنسان أن يطلب هذه الصفات حتى يتصف بها، فيكون عبداً لله جل وعلا.

فضل الحراسة في سبيل الله

فضل الحراسة في سبيل الله قال الشارح رحمه الله: [وروى الإمام أحمد أيضاً عن مصعب بن ثابت أن عبد الله بن الزبير قال: عثمان رضي الله عنه -وهو يخطب على منبره-: إني محدثكم حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكن يمنعني أن أحدثكم به إلا الضن بكم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (حرس ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة يقام ليلها ويصام نهارها)]. هذا الحديث الذي قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: إن رواته ثقات وهذا شيء عجيب! لأن هذا أتى في ليلة القدر، كما قال الله جل وعلا: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:1 - 3]، ألف شهر أي: قرابة ثلاثة وثمانين سنة، أي أن الإنسان يعمل هذه الليلة عملاً صالحاً خير وأكثر من عمر إنسان فيه صلاة وصيام. قال الشارح رحمه الله: [وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن المبارك قال: قال عبد الله بن محمد، قاضي نصيبين، حدثني محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة أنه أملى عليه عبد الله بن المبارك هذه الأبيات بطرسوس، ووعده الخروج، وأنفذها معه إلى الفضيل بن عياض في سنة سبع وسبعين ومائة قال: يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب ولقد أتانا من مقال نبينا قول صحيح صادق لا يكذب لا يستوي وغبار خيل الله في أنف امرئ ودخان نار تلهب هذا كتاب الله ينطق بيننا ليس الشهيد بميت لا يكذب قال: فلقيت الفضيل بكتابه في المسجد الحرام، فلما قرأ ذرفت عيناه فقال: صدق أبو عبد الرحمن ونصحني، ثم قال: أنت ممن يكتب الحديث؟ قلت: نعم، قال لي: اكتب هذا الحديث: وأملى علي الفضيل بن عياض: حدثنا منصور بن المعتمر عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال: (يا رسول الله! علمني عملاً أنال به ثواب المجاهدين في سبيل الله فقال: هل تستطيع أن تصلي فلا تفتر وتصوم فلا تفطر؟ فقال: يا رسول الله! أنا أضعف من أن أستطيع ذلك، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: فو الذي نفسي بيده لو طوقت ذلك ما بلغت فضل المجاهد في سبيل الله، أما علمت أن فرس المجاهدين ليستن في طوله فيكتب له بذلك حسنات؟). معروف أن عبد الله بن المبارك رحمه الله من العلماء العاملين المجاهدين الذين كانوا يلازمون الثغور وهذه الأبيات أرسلها إلى الفضيل بن عياض وسماه عابد الحرمين؛ لأن الفضيل كان في مكة، وفيها إشارة إلى أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم منها أنه جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يجتمع غبار في سبيل الله في منخر عبد ودخان جهنم)، يعني: أن الذي يقاتل في سبيل الله ويدخل في أنفه غبار لا يرى النار أبداً، وكذلك هذا الغبار في سبيل الله أطيب من ريح العبير، والعبير هو طيب الطيب، وهذا أيضاً جاء فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفيه أيضاً أنه يقول: جاء مع نبينا أن الشهيد حي، يقول الله جل وعلا: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} [البقرة:154] أي: وإن كانت قد فارقت روحه بدنه في القتل، فهو حي حياة الله أعلم ما هي، ولكنها حياة أكمل من حياة الدنيا.

المجاهدون أحياء عند ربهم يرزقون

المجاهدون أحياء عند ربهم يرزقون وفي آية أخرى يقول جل وعلا: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] ومعنى يرزقون: أنهم يتنعمون بالأكل والشرب وغيره، وهذا شأن الحي. وليست الحياة بالروح كما يتصور بعض الناس: أن حياة الشهيد حياة بالروح؛ لأن الروح لا تموت، فحياة الروح يستوي فيها المؤمن والكافر والبر والفاجر، وروح كل إنسان لا تموت وإنما تفارق البدن، ولابد أن تكون الحياة التي ذكرها الله جل وعلا للشهداء غير حياة الروح، ولهذا يبقى بدن الشهيد طرياً ولا تأكله الأرض ولا يكون كغيره، وهذا قد شوهد كثيراً، ومن المعروف أن أرض المدينة ليست كالأراضي الأخرى؛ لأنها سبخة وتأكل ما وضع فيها بسرعة، ومع ذلك فإن شهداء أحد وجدوا بعد أربعين سنة أو بعد ستين سنة في مناسبات معروفة، ومرة أخرج السيل بعضهم، ومرة حُفر ليزالوا عن طريق عين أجريت من هناك فوجدوا كما هم ودماؤهم طرية كما هي، وهذا من معاني كونهم أحياء، وليست الحياة على البدن فقط، وأنه لا تأكله الأرض، بل هي أعم من هذا، فهم كما قال جل وعلا: {عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169]. وقد ذكر العلماء أشياء عجيبة غريبة من هذا القبيل. والشيخ العالم المجاهد ابن النحاس رحمه الله في كتابه مصارع العشاق في ذكره للجهاد في سبيل الله، ذكر قصصاً من هذا القبيل فيها مشاهدة لعلماء كبار مما يدل على أن حياة الشهيد محسوسة وليست معنوية.

تمني الشهداء العودة إلى الدنيا

تمني الشهداء العودة إلى الدنيا ثم إنه قد علم أن الجهاد في سبيل الله هو ذروة سنام الإسلام كما في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره من حديث معاذ بن جبل لما قال: (ألا أدلك على رأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله)، وذروة سنام الشيء: أعلاه. وليس هناك ميت من المؤمنين المتقين يموت ويفارق الدنيا ويرى ما أعد الله جل وعلا له من الفضل والسعادة والخير، فيتمنى العودة إلى الدنيا إلا الشهيد، لما يرى من فضل ما أعد الله له، فإنه يتمنى أن يعود إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى! وقد جاء في الصحيح في قصة عبد الله بن حرام والد جابر بن عبد الله: (لما قتل في أحد، يقول جابر: جيء به -يعني: والده- وهو ميت، يقول: فصرت أبكي، فينهاني الناس ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينهاني، ثم بعد ذلك قال له: إن الله جل وعلا قد كلم أباك كفاحاً، فقال له: يا عبدي تمن، فقال: أتمنى أن تعيدني إلى الحياة مرة أخرى فأقتل في سبيلك، قال الله جل وعلا: إني كتبت: ألا يعودوا إليها مرة أخرى). وهكذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لوددت أني أقتل في سبيل الله، ثم أحيا ثم أقتل في سبيل الله، ثم أحيا ثم أقتل في سبيل الله)، وهذا الذي يوده الرسول صلى الله عليه وسلم هو أعلى ما يمكن أن يطلب في مرضاة الله جل وعلا، والآثار والأحاديث في هذا واضحة وجلية وظاهرة. وكذلك نوه الله جل وعلا به في كتابه، فإنه أخبر أنه: {اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ} [التوبة:111] ثم يقول بعد هذا: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ} [التوبة:111]، هل يوجد أحد أوفى من الله جل وعلا؟! ثم يقول: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} [التوبة:111]، فهذا عقد مبايعة؛ لأن الإنسان المؤمن يبذل نفسه وماله في سبيل الله، وهذه المبايعة وجدت في أفضل كتب الله التي أنزلها: التوراة والإنجيل والقرآن، وعقد المبايعة وقع على يدي رسل الله جل وعلا جبريل ومحمد وموسى وعيسى، فأكد هذا وبينه كأنه حاصل وموجود؛ لأنه موثوق به تمام الثقة. وجاء أيضاً في الحديث الصحيح: (أن الصحابة تذاكروا فيما بينهم: أي الأعمال أفضل؟ فانتهى الأمر إلى أن سألوا النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله جل وعلا في ذلك قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} [الصف:10 - 11]) إلى آخر الآيات، فهذا فصل للنزاع، و A أن هذا هو أفضل الأعمال. ولهذا أملى الفضيل بن عياض على الذي جاءه بكتاب أخيه عبد الله بن المبارك بعدما قال إنه نصح جزاه الله خيراً؛ لأنه في هذه الأبيات يحضه على العمل الفاضل، وهو الجهاد في سبيل الله، ويقول: إن هذا لا يستوي مع عبادتك، وإن كنت تبكي وتسيل الدموع على خديك من خشية الله جل وعلا، فغبار في سبيل الله أفضل من هذا، فلهذا قال: نصحني جزاه الله خيراً، ثم أملى عليه الحديث الذي رواه، وفيه: أن المجاهد في سبيل الله لا يعدل فضله عمل من الأعمال، وأنه سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن عمل يعدل الجهاد في سبيل؟ فقال: لا أجده، والشيء الذي لا يجده الرسول صلى الله عليه وسلم لا وجود له، ثم قال له: هل تستطيع أن تصوم النهار ولا تفطر -يعني: جميع حياتك- وتقوم الليل ولا تنام -يعني: صلاة التهجد طوال حياتك- قال: لا يستطيع ذلك أحد، قال: إن المجاهد في سبيل الله كالصائم الذي لا يفطر والقائم الذي لا يفتر. ثم ذكر أنه تكتب له الأعمال التي لا يعملها هو، إذا ربط فرسه بحبل طوله، الطول: هو الحبل الذي يوضع في يد الفرس، ويطول له حتى إنه يمتد فيرعى من حول مربطه الذي يوضع فيه الحبل، هذا يسمى طول الفرس، وإذا مشى فيه فإنه يكتب له حسنات، وإذا أكل يكتب له حسنات، وإذا بال يكتب له حسنات، وإذا راث يكتب له حسنات، يكتب ذلك للمجاهد الذي أمسك هذا الفرس في سبيل الله، وكذلك لو رجع ووضعه في بيته فإنه تكتب له الأجور دائماً ما دام أعده للجهاد في سبيل الله، فتكتب له خطواته وما يأكله وما يخلفه. كذلك الشيء الذي يعده مثل العدة التي يعدها، فقد جاء: أن السهم يدخل فيه الجنة ثلاثة: صانعه ومعده محتسباً ذلك في سبيل الله ولجهاد أعداء الله، والذي يناوله من يرمي به، والرامي به، ثلاثة يدخلون الجنة بسهم، فكيف الذي يراق دمه ويكون مقبلاً غير مدبر؟! ومن الخصائص التي يختص بها الشهيد في سبيل الله أنه لا يجد ألماً للموت إلا مثل عضة القراد الذي يكون في الدابة، وأنه يأمن من فتنة القبر، وأنه يزوج سبعين من الحور العين، وغير ذلك مما ذكر في الأحاديث، ويكفي في هذا ما قاله الله جل وعلا: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169].

مسائل باب: من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا

مسائل باب: من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل: الأولى: إرادة الإنسان الدنيا بعمل الآخرة]. عمل الإنسان الذي يطلب به الدرجات عند الله إذا أراد به الدنيا فإنه لا خلاص له، ويكون داخلاً في قوله جل وعلا: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:16]. والإرادة هنا: المقصود بها الإرادة التي هي عن عمل القلب، ومعلوم أن عمل القلب وإرادته يتبعها عمل الجوارح، ولا يمكن أن يوجد عمل للجارحة إلا وقد سبقته إرادة القلب فهو الباعث إلى الأعمال، ويعبر بالإرادة عن العمل كله، يعني: أن العمل صدر مراداً ومنوياً به هذا الشيء، فإذا صدر العمل من إنسان -مما يتقرب به إلى الله كطلب العلم والحج والصدقة والجهاد في سبيل الله وما أشبه ذلك- لا يريد به إلا تحصيل الدنيا ولا يرغب في الآخرة، وإنما رغبته في الدنيا فهو المقصود بهذه الآية. [الثانية: تفسير آية هود. الثالثة: تسمية الإنسان المسلم عبد الدينار والدرهم والخميصة]. لابد أن يفهم كونه يسمى عبداً للدينار والدرهم والخميصة والخميلة، وعرفنا أن الخميصة كساء، يقول الحافظ ابن حجر: الخميلة كساء معلم فيه أعلام، والأعلام هي النقوش والأهداب التي تكون في الثوب للزينة، أما الخميصة: فهي الكساء المربع، ويشبه الشيء الذي يلتف به كالرداء وما أشبه ذلك، فكيف يكون العاقل عبداً لهذا؟! أما الدينار والدرهم فمعروفان، ولكن ليس المقصود أنه يعمل العمل ويطلب الشيء من الخميلة والخميصة أو الدرهم أو الدينار، ولكن المقصود أنه يريد بعمله الدنيا، ولهذا سمي عبداً لها؛ لأنه جعل عمله من أجلها، فهو يخدم المال يخدم الدينار والدرهم يعمل على تحصيله ويتعب نفسه في ذلك، وهمه جمعه وحياطته وحيازته، وإذا حصل له اجتهد في العمل ورضي، وإن لم يحصل له ذلك ترك العمل وسخط؛ لأنه ليس له مقصد إلا هذا فيكون عبداً له، ويكون مثلما ذكر في الآية: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [هود:15]. أما كون المسلم يحب المال ويجمع المال فلا ينافي أنه مسلم ومؤمن؛ لأن هذا شيء لابد منه ولكن لا يجوز أن يكون عمله من أجل ذلك، بل يكون همه وكدحه هو الحصول على رضا ربه، وإذا ذهبت الدنيا فلا يأسف عليها ولا تهمه كثيراً، فيقدم الدين على الدنيا، أما إذا قدم دنياه على دينه فيكون عابداً للدنيا. ومعروف أن العبادة يجب أن تكون لله ولا يجوز أن تكون لأحد غير الله جل وعلا، والعبادة قد يقصد بها شيء محسوس مشاهد كما هو معروف عند الكفار والمشركين: منهم من يعبد الأصنام، ومنهم من يعبد الشجر والحجر، ومنهم من يعبد القبور كما هو معلوم، وقد تكون العبادة متجهة لشيء معنوي من رئاسة ومنصب ووظيفة أو مال، وكثير من الخلق اليوم يعبدون بطونهم وفروجهم نسأل الله العافية؛ لأنهم يعملون على تحصيل شهواتهم فقط، فهذه أهم ما لديهم، وكذلك كثير من الناس يعبد حبه وإراداته وشهواته كما قال الله جل وعلا: {أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23]، يقول العلماء: من اتخذ إلهه هواه معناه: الذي إذا اشتهى شيئاً فعله بدون مراقبة لله جل وعلا أو خوف منه، أو يرجو ثوابه، بل يقدم هوى نفسه. فالمسلم ليس هذا شأنه وإن حصل على الدنيا وطلبها، ولكن طلبه إياها على وفق أمر الله جل وعلا، فلا يطلبها بفعل محرم، ولا يطلبها من الطريق الذي حرمه الله جل وعلا، ولكنه يطلبها بالطرق التي أباحها الله جل وعلا وأمر بها. ثم هو بالمال يعبد ربه، فيؤدي زكاته، وكذلك يستعين به على عبادة الله، وكذلك يبذله فيما وجب عليه، وكذلك يتقرب به أو بما يسر الله منه في طاعة الله جل وعلا، وترك المال والعزوف عنه ليس من شأن المسلمين وليس من أمر الدين الإسلامي، بل الإسلام يحث على تحصيل المال، ولكن من الطرق الصحيحة المشروعة. ولهذا إذا نظر الإنسان في كتاب الله يجد أن الله جلا وعلا يقدم الجهاد في سبيل الله بالمال على النفس، لا تجد آية في كتاب الله من الآيات التي فيها الأمر بالجهاد في سبيل الله إلا ويذكر الجهاد بالمال قبل الجهاد بالنفس، مما يدل على أنه لابد من المال، ولكن يجب أن يكون طيباً حتى يكون مقبولاً ونافعاً، أما إذا كان من الطرق التي حرمها الله، فإنه إن أنفق منه لم يقبل، وإن أكل منه أفسد عليه قلبه، وإن خلفه فتركه خلفه صار عذاباً وحساباً عليه، فلابد أن يكون المسلم متقيداً بأمر الله جل وعلا في طلب المال وفي غيره، فإنه في عبادة إذا كان متقيداً بالشرع، أما الزهد في المال والإعراض عنه نهائياً فإن هذا ليس مطلوباً؛ لأن الإنسان لابد له من شيء يقتات به، ولابد له من شيء يتمتع به، وكونه يستغني بعمله وبما يكسبه لنفسه أمر مطلوب شرعاً، حتى يستغني عما في أيدي الناس، وإذا فعل ذلك قصداً لكف نفسه وإغنائها عن الخلق والقيام على من أوجب الله عليه القيام عليهم، كان في عبادة فكيف إذا بذله في الجهاد في سبيل الله؟! ولهذا السبب ذهب فقراء المهاجرين إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا:: (يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويجاهدون كما نجاهد، ولكنهم ينفقون وليس عندنا شيء ننفقه، فقال صلى الله عليه وسلم: ألا أدلكم على شيء تسبقون به من لم يعمل به وتلحقون من سبقكم به، تكبرون الله وتسبحونه وتحمدونه دبر كل صلاة: ثلاثاً وثلاثين)، يعني: ثلاثاً وثلاثين تكبيرة، وثلاثاً وثلاثين تسبيحة، وثلاثاً وثلاثين تحميدة، فذهبوا بهذا المكسب، (فسمع إخوانهم من أهل الدثور فقالوا مثلما يقولون، فرجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله! إخواننا سمعوا ذلك فقالوا مثلنا)، يعني: فهم يحصلون على الأجر مثلما نحصل عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء)، يعني: أن الصدقة وبذل المال تفضل الله به على الأغنياء وبذلك فضلوا الفقراء، وعلى هذا يكون أهل الدثور وأهل الأموال أفضل من الفقراء في تحصيل الأعمال إذا قصدوا بها وجه الله واتبعوا فيها الكتاب والسنة. قال المصنف رحمه الله: [الرابعة: تفسير ذلك بأنه إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط. الخامسة: قوله: (تعس وانتكس). السادسة: قوله: (وإذا شيك فلا انتقش). قوله: (تعس وانتكس)، يجوز أن يكون خبراً، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر عن حالته أنه له التعاسة والشقاء، وأنه إذا وقع في شدة لا يستطيع أن يتخلص منها، فهو يهلك عند أول أمر يقع فيه من الشدائد، ويجوز أن يكون دعاء من الرسول صلى الله عليه وسلم عليه بالتعاسة والشقاوة وعدم الخروج من الورطات التي يقع فيها؛ لأنه عمل أعمالاً لم يقصد بها وجه الله، بل خالف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فاستحق الدعاء عليه. [السابعة: الثناء على المجاهد الموصوف بتلك الصفات]. يشير إلى تلك الصفات: أشعث رأسه، مغبرة قدماه، آخذ عنان فرسه في سبيل الله، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، يعني: أنه قائم أتم القيام في أمر الله وفي محاربة أعداء الله وإعلاء كلمة الله يطلب بذلك مرضاة الله جل وعلا، ولا يهمه كونه إذا شفع لم يشفع وإذا طلب شيئاً لا يناله ولا يعطاه من المسئولين؛ لأن هذا ليس مقصوده، إنما مقصوده مرضاة الله ولهذا قال: (إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع)، يعني: أن عمله ليس للناس وليس للدنيا، ومعروف أن غالب الناس ينظرون إلى الذي يكون بيده شيء من أمور الدنيا ومن المناصب وغيرها أكثر من غيره، أما هذا فعدل عن ذلك نهائياً، فآثر الخمول وعدم الظهور على كونه يظهر ويبرز ويشار إليه؛ لأنه لا يريد ما في أيدي الناس، وإنما يريد ما عند الله جل وعلا فآثر ذلك، فهذا هو الذي يستحق الثناء؛ لما قال له صلى الله عليه وسلم: (طوبى له)، وطوبى: تعني السعادة الطيبة والحياة الطيبة أو الجنة بما فيها.

شرح فتح المجيد [98]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [98] إن الطاعة المطلقة لا تكون إلا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو معنى الإسلام، فلا يجوز أن تصرف هذه الطاعة المطلقة لأحد غير الله ورسوله؛ لأن الطاعة المطلقة هي العبادة، وعليه؛ فإن طاعة العلماء والأمراء لا تجوز إلا تبعاً لطاعة الله ورسوله، وإن أطيع العلماء والأمراء طاعة مطلقة في تحريم الحلال وتحليل الحرام فقد اتخذوا أرباباً من دون الله جل وعلا.

طاعة العلماء في تحليل الحرام وتحريم الحلال شرك أكبر

طاعة العلماء في تحليل الحرام وتحريم الحلال شرك أكبر قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله فقد اتخذهم أرباباً من دون الله]. من أطاع العلماء والأمراء في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله، فقد اتخذهم أرباباً من دون الله؛ لأن الله جل وعلا يقول: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} [التوبة:31]، وهذه الآية يقصد بها اليهود والنصارى. والأحبار هم العلماء، والرهبان هم العباد، وأما المسيح عليه السلام فهو رسول الله الذي جاء بالإنجيل وجاء بالرسالة التي فيها التخفيف على بني إسرائيل، ووضع كثيراً من الآصار التي كانت عليهم، وهو من أولي العزم، فاتخذوه إلهاً مع الله؛ لأنه -كما هو معلوم- آية ظاهرة من آيات الله جل وعلا، حيث وجد من أنثى لم يتصل بها ذكر، وإنما خلقه الله جل وعلا من مريم بواسطة نفخة الملك الذي أرسل إليها وهو جبريل عليه السلام، كما ذكر تفصيل ذلك ربنا جل وعلا في سورة مريم وفي غيرها، فلما كان بهذه المثابة زين الشيطان للناس أنه الله أو ابن الله أو أنه ثالث ثلاثة، يعني: أن الآلهة ثلاثة: الله ومريم وعيسى، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً. فالمقصود هنا كونه قرن اتباع الأحبار والرهبان مع العلم بمخالفتهم لأمر الله؛ بعبادة النصارى لعيسى فإنهم عبدوه عبادة واضحة ظاهرة. فكونه قرن الرهبان والأحبار مع عيسى يدلنا على أنه لا فرق بين أن يطيع الإنسان مخلوقاً في تحليل الحرام أو تحريم الحلال، وبين أن يعبده عبادة صريحة واضحة، وقد جاء حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أوضح هذا المعنى تمام الإيضاح؛ فإنه صلى الله عليه وسلم: (لما قدم عدي بن حاتم وهو نصراني من نصارى العرب كما هو معروف وهو ابن حاتم الجواد المعروف المشهور في أشعار العرب وكلامهم، ولكنه لما جاءت سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بلاد طيء وقد أعد نجائب ليهرب عليها إلى الشام، فأخذت خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخته إلى آخر القصة)، ولكنه جاء بسبب كتابة أخته له: فإنها لما جاءت المدينة في الأسرى، كان إذا مر عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول له: من علي من الله عليك، فإني كبيرة لا أستطيع الخدمة ولا وافد لي ولا فادي لي، فقد ذهب الوافد وقل الرافد، فقال لها: ومن الوافد؟ قالت: عدي بن حاتم -أخوها- فقال: ذاك الذي هرب من الله ومن رسوله. ثم أعادت عليه الكلام مرة أخرى فقال لها صلى الله عليه وسلم: إذا جاء وفد قومك فأعلمين، فجاء وفد قومها، فمن عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لها علي بن أبي طالب رضي الله عنه: اسأليه الحملان، فسألته فأعطاها ما سألته. فلما ذهبت كتبت إلى أخيها تؤنبه تقول: كيف تركت عوراتك وهربت؟! ليس هذا فعل أبيك ولا فعل من يهمه أمر أهله؟ ثم قالت: ائت إليه فهو والله خير من أبيك، وهو يعطي العطاء الذي لا يستطيع أبوك أن يعطيه، ائت إليه وضع يدك في يده فلن تجد إلا خيراً وحسناً، فجاء ممتثلاً لأمرها، ودخل على النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد وهو لا يعرفه، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يعرفه، وكان صلى الله عليه وسلم إذا جلس مع أصحابه لا يتميز عنهم، فليس له مجلس مرتفع لا كرسي ولا غيره، وإنما يجلس معهم في مجلسهم فإذا جاء الغريب لا يعرفه. فوقف فقال: أيكم محمد صلى الله عليه وسلم؟! فقال من عنده للرسول صلى الله عليه وسلم: هذا عدي بن حاتم، وكان صلى الله عليه وسلم يكرم رؤساء الناس وكبارهم، فقام معه صلى الله عليه وسلم وذهب به إلى بيته، يقول عدي: (فصار يتلو هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة:31]، فقلت: يا رسول الله: إننا لم نعبدهم، قال: بلى، ألم يحللوا لكم الحرام فتتبعوهم؟ ويحرموا عليكم الحلال فتتبعوهم؟ فقلت: بلى، قال: تلك عبادتهم)، هذا أمر واضح جلي؛ لأن طاعة المخلوق في معصية الله جل وعلا عبادة له.

الطاعة المطلقة لا يجوز أن تكون إلا لله

الطاعة المطلقة لا يجوز أن تكون إلا لله ولما كان هذا الكتاب في باب التوحيد الذي يجب على العبد أن يكون عارفاً به وعاملاً به، ولا يجوز أن يجهل مسائل التوحيد أو يترك العمل بها؛ لأنه من أهم الأمور؛ نبه المصنف رحمه الله في هذا الباب على أن الطاعة المطلقة يجب أن تكون لله؛ لأنها هي العبادة، وقد فسر العلماء العبادة بأنها: الطاعة بإتباع الأمر واجتناب النهي. فبين في هذا أن الطاعة لا يجوز أن تكون للمخلوق إلا إذا كانت تبعاً لطاعة الله جل وعلا، أما قول الله جل وعلا: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]، فقد فسر العلماء (أولي الأمر): بأنهم العلماء، وبعضهم يقول: الأمراء، وبين ابن القيم رحمه الله أن الأمراء والعلماء كليهما مقصود في الآية، فالعلماء يبينون أمر الله ويوضحونه والأمراء ينفذون أمر الله، فالله أمر بطاعتهم: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]، فأولو الأمر هم العلماء والأمراء. وإنما يطاعون إذا كانت طاعتهم تبعاً لطاعة الله، وقد وردت أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها الحث على طاعة الأمراء وولاة الأمر منها قوله صلى الله عليه وسلم: (أطيعوا ذوي أمركم وإن تأمر عليكم عبد حبشي مقطع الأطراف يقودكم بكتاب الله فأطيعوه)، وإن جاء أن الأمراء من قريش، إلا أن هذا إذا لم يحصل ذلك. وقال صلى الله عليه وسلم: (من أطاع الأمير فقد أطاعني ومن عصى الأمير فقد عصاني ومن عصاني فقد عصى الله).

إنما الطاعة بالمعروف

إنما الطاعة بالمعروف وبين أن الطاعة بالمعروف فقال: (لا طاعة إلا بالمعروف)، والمعروف: هو الدين الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم على سرية من السرايا أميراً وحث على طاعته، فقال: (من أطاعه فقد أطاعني ومن عصاه فقد عصاني) ثم إنه في أثناء السفر غضب الأمير على من معه، فقال لهم: اجمعوا لي حطباً فجمعوا الحطب، فقال: أججوا فيه ناراً، فأججوا النار فقال: ألم يأمركم الرسول صلى الله عليه وسلم بطاعتي؟ قالوا: بلى، قال: ادخلوا في النار، قالوا: لا ندخل في النار، من النار فررنا! فبقوا هكذا حتى طفئت النار وذهب غضبه، ثم لما رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالوا له ذلك، فقال: لو دخلتموها ما خرجتم منها أبداً، إنما الطاعة بالمعروف، لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق}. إذاً: فهذه الآية غير مخالفة للآية التي ترجم بها المؤلف رحمه الله، يعني: أن الطاعة التي أمر بها لذوي الأمر إنما هي في طاعة الله جل وعلا، أما إذا كانت في معصية الله فلا يطاع. إذاً: فكل مخلوق سواء كان والدك أو من هو دونه إذا أطعته في معصية الله فأنت عاصٍ وقد اتخذته إلهاً من دون الله، وإن لم تسجد له وتدعوه؛ لأن من خصائص الله جل وعلا التي لا يجوز أن ينازع فيها: الأمر والنهي والتحليل والتحريم، ولذلك صار من فعل ذلك واتبع عليه صار رباً، وهذا هو سر التعبير بالأرباب في الآية: اتخذوهم أرباباً؛ لأن الرب هو الذي يأمر وينهى وهو الذي يحلل ويحرم، ولا يجوز لمخلوق أن يحلل شيئاً أو يحرم شيئاً فإذا وقع ذلك من مخلوق ثم اتبع عليه فقد اتخذ رباً من دون الله جل وعلا. ومعلوم أن هذا الأمر مناف للتوحيد ولذلك أراد المؤلف رحمه الله أن يبين هذا الأمر حتى يكون الإنسان على بينه ولا يقع في الخطأ أو في مناقضة التوحيد.

لا يقدم قول أحد على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم

لا يقدم قول أحد على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون: قال أبو بكر وعمر!)] قال ابن عباس رضي الله عنهما هذا الكلام بمناسبة أنه كان يأمر بالمتعة -متعة الحج- ويقول إنها أفضل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بها آخر الأمر وكرر ذلك وأكده وسئل عن ذلك فقيل له: (أهذا لنا خاصة؟ فقال: بل للناس عامة) وكان أبو بكر رضي الله عنه وعمر رضي الله عنه يودان أن الإنسان يأتي بالحج مفرداً وبالعمرة مفردة ويقولان: حتى لا يخلو البيت من طائف وزائر؛ لأنه إذا اجتمعت العمرة والحج في سفرة واحدة قل رواد البيت القاصدين له، مع أنه جاء في قول الله جل وعلا: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196]: أن إتمام الحج وإتمام العمرة أن يأتي بهما في سفرة واحدة من الميقات، هكذا فسروا الآية. فهذه وجهة نظر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في النهي عن المتعة، وليس نهياً من باب المنع والتحريم، بل يقولان: هذا أفضل، حتى لا يبقى البيت خالياً من القاصدين والزائرين والطائفين، فكان ابن عباس يخالف ذلك وينهى عن هذا ويقول: بل يؤتى بالحج متمتعاً يعني: بالحج والعمرة معاً، فقالوا له: إنك تأمر بشيء ينهى عنه أبو بكر وعمر فقال: يوشك -يعني: يقرب ويسرع- أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول لكم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون قال أبو بكر وعمر؟! فهذا من فقهه رحمه الله ورضي الله عنه وتعظيم السنة. ومعلوم أنه لا أحد يوازى بـ أبي بكر وعمر من الأمة مع أن قصدهما معروف، ولم ينهيا عن التمتع نهي تحريم، وإنما للفضل والاختيار، ومع ذلك يقول: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء؛ لأنكم فعلتم فعلاً أو قلتم قولاً تستحقون به نزول الحجارة وهو: أني أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فتعارضون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول أبي بكر وعمر! فدل هذا على أنه لا يجوز أن يعارض قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قول الله جل وعلا بقول أحد من الناس مهما كان، وهذا هو الحق، وقد دل كتاب الله وسيرة رسوله صلى الله عليه وسلم وسنته على أنه لا يجوز أن يعارض شيء من أمر الله أو أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بقول أحد من الناس.

باب: في طاعة العلماء والأمراء ومتى تكون شركا

باب: في طاعة العلماء والأمراء ومتى تكون شركاً قال الشارح رحمه الله تعالى: [باب: من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله فقد اتخذهم أرباباً من دون الله، لقول الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31]، وتقدم تفسير هذا في أصل المصنف رحمه الله عند ذكر حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه]. لما كانت الطاعة الخاصة هي العبادة، والمقصود بالطاعة الخاصة: الطاعة في التحليل والتحريم؛ لأن هذه من خصائص الله جل وعلا، وهي في الواقع أن يأمر بالشيء فيطاع، وينهى عن الشيء فيمتنع منه، فكان الذي يشاركه في هذا ويتبع عليه بمنزلة الرب، ولذلك ذكر الرب هنا؛ لأن الرب جل وعلا هو المالك المتصرف الذي يملك كل شيء ويتصرف فيه، ومن تصرفه الأمر والنهي، فيشرع لعباده شرعاً ويأمرهم أن يفعلوه، ويمنعهم من موانع ويعينها لئلا يقربوها. ولا يجوز أن يشارك الرب جل وعلا في هذا أحد من الخلق فإن شاركه أحد من خلقه فقد نازعه في ربوبيته وملكه، ثم الذي يتبع هذا المخلوق في التحليل والتحريم والتشريع يكون متخذاً لهذا المخلوق رباً من دون الله, ومعلوم أن الحكمة من خلق الخلق هي طاعة الله جل وعلا، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله جل وعلا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، قال: (إلا لآمرهم وأنهاهم)، فيكون الأمر والنهي في التشريع من خصائص الله جل وعلا، ولهذا نص المؤلف على هذا الأمر لأن تركه مضاد للتوحيد، أي أن من أطاع غير الله في التحليل والتحريم فقد وقع في الشرك الأكبر، وقد ذكر الله جل وعلا في آيات كثيرة حال هذا النوع يوم القيامة فقال: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنْ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً} [الأحزاب:67 - 68]، ولكن هذا لا يفيد في شيء؛ لأن التابع والمتبوع يجتمعان في جهنم في عذاب النار، ويا ليت وما أشبه ذلك لا تفيد شيئاً في ذلك اليوم. والمقصود: أن المقلد في هذا لا ينفعه تقليده ولو اعتذر بالجهل أو اعتذر بالغرور، ولذلك فالواجب على العبد أن يخلص نفسه. وقلنا: في الطاعة الخاصة؛ لأن طاعة المخلوق إذا لم تكن في معصية الخالق فإنها غير ممنوعة. والمعصية إما أن تكون في تحليل الحرام أو تحريم الحلال وليس شرطاً أن ينص على هذا بقوله: هذا حلال وهذا حرام، ولكن إذا كان أمره مخالفاً لأمر الله ومصادماً له فهذا هو المحذور والذي لا يجوز أن يقع من الإنسان، وهو الذي يكون فيه الشرك أكبر، ولهذا أمر الله جل وعلا بطاعة أولي الأمر تبعاً لطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم. ولذلك فإن الولاة والعلماء يطاعون إذا أمروا بطاعة الله، أما إذا أمروا بمعصية فلا طاعة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إنما الطاعة في المعروف)، وقال: (لا طاعة لمخلوق في معصية الله)، وهذا عام يشمل الوالد ويشمل من هو أبعد منه، فكل مخلوق لا يطاع في معصية الله جل وعلا فإن أطاعه وهو يعلم فقد اتخذه رباً، أما إذا كان جاهلاً ولا يعرف بل يتصور أن طاعته ليست مخالفة لأمر الله فإذا كان هذا الأمر من الأمور الواضحة الجلية فهو داخل فيمن يطيع وهو يعلم، أما إذا كان فيه خفاء فأمره إلى الله وله حكم أهل الجرائم، ولكنه لا يكون كافراً. ثم استدل على هذه المسألة بأدلة كعادته التي سار عليها في هذا الكتاب، أنه يعتمد على آيات من كتاب الله ثم يأتي بأحاديث تكون موضحة لهذه الآيات، وربما تكون بعض هذه الأحاديث التي يأتي بها فيها شيء من الضعف؛ لأنه ليس العمدة عليها، وإنما العمدة على الآيات التي يذكرها، وهذه تأتي من باب البيان والتفسير، وهذه طريقة العلماء.

وجوب تقديم الأدلة على الآراء والاجتهادات

وجوب تقديم الأدلة على الآراء والاجتهادات فبدأ أولاً بقول ابن عباس، وهذا ثابت عن ابن عباس في الصحيحين وغيرهما، أنه قال: (يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء)، ومعنى (يوشك) يقرب ويسرع، يعني: أنكم تستحقون أن ترموا بحجارة من السماء، وهذا يقوله عن محض الإيمان الذي في قلبه وتعظيماً لله جل وعلا وتقديراً له، حيث أمر الناس باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يجوز أن يعتل بقول فلان وفلان ويترك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم. والسبب في هذا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الناس بالتمتع في الحج، يعني: أن الذي أحرم بالحج مفرداً أو أحرم بالعمرة والحج معاً لما وصل إلى مكة قال لهم: (طوفوا بالبيت واسعوا بين الصفا والمروة ثم حلوا)، وكان هذا الأمر مستعظماً في الجاهلية، ويرون أن الإتيان بالعمرة في أيام الحج من أفجر الفجور! فأراد صلى الله عليه وسلم أن يبطل هذا الاعتقاد وهذه العادة السيئة بأمره الذي أمرهم به، وأكد ذلك عليهم تأكيداً مكرراً ومبالغاً فيه، حتى إنهم راجعوه وقالوا له: ما بقي بيننا وبين يوم عرفة إلا أربعة أيام أو ثلاثة أيام، فقال: (أقول لكم فافعلوا ما أقول لكم)، فامتثلوا ذلك. وقد فهم كبار الصحابة من هذا أن مقصوده صلى الله عليه وسلم الرفق بأمته وأن يأتوا بالنسكين في سفرة واحدة وفي عام واحد، ورأوا أن الفضل أن يكرر الإنسان الإتيان للبيت، وقد صرح بذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما حيث قالا: نكره أن يخلو البيت من طائف فيه وقاصد له، فكانا يأمران أو يفعلان الإفراد في الحج، فحدث في ذلك إشكال على بعض الناس، فلما سئل ابن عباس أخبرهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له السائل: أبو بكر وعمر ينهيان عن المتعة، فقال هذا القول: (يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول لكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون لي: قال أبو بكر وعمر!) يعني: أنكم تعارضون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول أبي بكر وعمر، فبذلك تستحقون الرجم من السماء، مع أن قول أبي بكر وعمر خرج عن اجتهاد ودين وقصدا به عبادة الله، وليس فيه مصلحة لهما، فكيف بالذي إذا قيل له: قال الله وقال رسوله، قال: ولكن فلاناً يقول: كذا وكذا! ولكن مذهب فلان كذا وكذا ولكن رأي فلان كذا وكذا يخشى على هذا أن يكون قد نزع منه الإيمان نهائياً يخشى أن يكون خرج من الدين الإسلامي؛ لأنه جعل فلاناً بمنزلة الرسول صلى الله عليه وسلم أو حاكماً على قول الرسول صلى الله عليه وسلم. وبهذا يتبين أن التقليد في الأمر الواضح لا يجوز، أما الإنسان الجاهل فعليه أن يقلد العلماء الموثوق بعلمهم وتقواهم، فإن هذا هو الذي يستطيعه، والله جل وعلا يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، فهذه وظيفتهم، فإذا لم يعلم سأل أهل الذكر وأخذ بقولهم، هذا هو الواجب عليه بنص كلام الله جل وعلا، ولكن يجب أن يكون المسئول من أهل الذكر وأهل الذكر: هم الذين يعلمون ويعملون بعلمهم ويتقون الله جل وعلا، وليس أهل الذكر الذين يجانبون الحق وإن كان عندهم علم.

التفسير النبوي لقوله تعالى: (اتخذوا أحبارهم)

التفسير النبوي لقوله تعالى: (اتخذوا أحبارهم) ثم ذكر قول الله جل وعلا الذي هو الأصل في هذا ثم فسرها بالتفسير الواضح (وهو التفسير النبوي) كما جاء في حديث عدي بن حاتم: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ} [التوبة:31] إلى آخره. وكان عدي بن حاتم نصرانياً من نصارى العرب، وعدي هذا هو ابن حاتم الطائي الجواد المشهور الذي يضرب بجوده المثل، ولكن حاتماً مات في الجاهلية كافراً فلا ينفعه جوده ولا ينفعه كرمه؛ لأنه لم يكن مسلماً، وكان عدي كريماً مثل أبيه ورث منه ذلك، ولكنه كان متنصراً وكان في طيء، أي: في حائل، وكان له مال وغلمان، وكان يحذر من دعوة الرسول، فكان يقول لغلمانه إذا رأيتم خيل محمد فأخبروني، وقد أعد له نجائب فأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم سرية بقيادة علي بن أبي طالب إلى طي فوصلوا إليه فجاء أحد غلمانه وقال: ما كنت صانعاً إذا جاءتك خيل محمد؟ فركب مطاياه وذهب إلى الشام إلى النصارى إلى أهل دينه، وترك أهله وماله فاراً بدينه كما زعم، ولكنه يفر إلى الشيطان، إلا أن الله يمن على من يشاء، فأخذت الخيل أخته مع السبايا التي سبيت، وأخته كانت كبيرة في السن. فلما وصلت إلى المدينة وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر السبايا قالت له: (مُنَّ عليَّ من الله عليك فقد ذهب الوافد وقل الرافد)، يعني: ليس لها شيء تفدى به وليس لها من يطالب بها، فقال لها: (ومن الوافد؟ قالت: عدي بن حاتم قال: ذاك الذي فر من الله ورسوله)، ثم ذهب وتركها، فلما جاء مرة أخرى أعادت عليه الكلام فقال لها: إذا جاء ركب من قومك فأعلميني، فقال لها علي بن أبي طالب: اسأليه الركوب والمركوب يعني: اسأليه شيئاً تتبلغي به، فصارت تسأل، فلما جاء الركب أخبرته وسألته أن يعطيها ما تتبلغ به فأعطاها ما سألت صلى الله عليه وسلم ومن عليها وذهبت إلى بلادها، فلما وصلت إلى بلادها كتبت إلى أخيها تؤنبه تقول: والله إنه أكرم من أبيك فأت إليه. فجاء إلى المدينة والرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يعرفه، فدخل عليه وهو جالس في المسجد مع أصحابه صلى الله عليه وسلم، وكان الرجل الغريب إذا جاء إليه لا يميزه من أصحابه؛ لأن مجلسه بينهم وليس له مجلس مرتفع عليهم، بل يجلس معهم كأحدهم ولا يدع أحداً يقف، بل إذا جاء وهم جلوس لا يدع أحداً يقوم وينهى عن ذلك أشد النهي، ويقول: (من أحب أن يتمثل له الناس قياماً فليتبوأ مقعده من النار)، كان الرجل إذا جاء يقول: أين محمد بن عبد الله؟ أو أين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيشيرون إليه. فلما جاء كان في أصحابه من يعرف عدي فقال له: يا سول الله! هذا عدي بن حاتم، وكان صلوات الله وسلامه عليه يكرم كرماء الناس، فلما قالوا له قام معه إلى بيته، وقال: هلم، وكان في رقبة عدي صليب من ذهب، فقال له صلى الله عليه وسلم: ألق هذا الوثن عنك، ثم قال له: أتفر أن يقال: لا إله إلا الله! وهل تعلم إلهاً يستحق العبادة غير الله؟! ثم قال: أتفر أن يقال: الله أكبر! وهل تعلم شيئاً أكبر من الله؟! يدعوه إلى الدخول في الإسلام، يقول عدي: فلقيته امرأة في الطريق قبل أن يصل إلى بيته، فقالت: إن لي إليك حاجة، فترك عدياً وأقبل عليها حتى قضى حاجتها، تستفتيه أو تسأله شيئاً يقول: فعلمت أنه ليس ملكاً، لأن الملك لا يقف مع المرأة الضعيفة في مثل هذا الموقف، يقول: فدخل إلى بيته فألقيت له وسادة فوضعها لي، فقلت: لك! فجعلها بيني وبينه، ثم تلا الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً} [التوبة:31]، عند ذلك قال له عدي: (يا رسول الله! إننا لم نعبدهم، فقال له: بلى، ألم يحلوا لكم الحرام فتتبعوهم، ويحرموا عليكم الحلال فتتبعوهم؟ فقلت: بلى قال: تلك عبادتهم)، يعني: أن اتباعهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال هي العبادة التي قصدت في الآية، عند ذلك قال عدي: إني حنيف مسلم يقول: فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل مسروراً فرحاً بإسلامه حيث أسلم. والمقصود هنا: أن قول الله جل وعلا: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ}، الأحبار: العلماء، أما الرهبان فهم العباد، والأحبار غالباً من اليهود، واليهود يغلب عليهم العلم ولكن تغلب عليهم القساوة والجفاء والعناد والكبر والإباء وعدم العمل بالعلم، ولهذا صاروا أهل غضب الله عليهم ولعنته. أما النصارى فيغلب عليهم الجهل ويكثر فيهم التعبد والترهبن، فالرهبان منهم، والرهبانية هي ترك الدنيا والتخلي للعبادة والتقشف والانعزال عن الخلق، يكون الواحد منهم في صومعة يترهبن وهذا يوجد في النصارى بكثرة، ولكنهم على ضلال وعلى جهل، فالجهل يغلب عليهم، ولكن الناس -غالباً- جبلوا على طاعة العلماء وتعظيمهم وكذلك العباد الذين يتعبدون ويتزهدون، فلهذا قال جل وعلا: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31]. وعدي بن حاتم بين أنهم ما كانوا يسجدون لهم وما كانوا يدعونهم في كشف الخطوب وإزالة الكروب وإيهاب المرغوب، وإنما كانوا يطيعونهم إذا أمروهم بأوامر ويعرفون أن هذه الأوامر ليست في التوراة التي نزلت على موسى، ولا في الإنجيل الذي أنزل على عيسى عليهما الصلاة والسلام، فأحسنوا الظن بهم فاتبعوهم في ذلك وقالوا: هم الذين يعرفون المعاني ويفسرون كلام الله جل وعلا ونحن نتبعهم ونكتفي بأقوالهم، فصاروا بذلك متبعين لهم عابدين لهم.

لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق

لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ومقصود المؤلف من ذلك أن يطبق هذه الآية على هذه الأمة؛ لأن كل ما ذكر في أهل الكتاب يقصد به تحذير المسلمين منه. فالمقصود بالخطاب من يمتثل الخطاب ويؤمن به ويقبله، ولهذا ذكر في المسائل: أن طاعة الفقهاء في كونهم يقولون الحكم كذا وكذا وهو مخالف لقول الله وقول رسوله أنه مثل اتخاذ الأحبار أرباباً، وأن طاعة العباد والزهاد في تشريع ما يقترحونه ويقولونه ويأتون به أنه من عبادتهم. ثم يقول: (ثم تغيرت الأحوال إلى أن عبد من دون الله من ليس من الصالحين) أي: بالمعنى الأول، وهم أناس متعلمون وليسوا علماء، فاتبعوا على ذلك فصار ذلك الاتباع عبادة لهم، وعبد بالمعنى الثاني من ليس من العباد بل هو من الشياطين، يعني: الذين يعلمون أنهم يتعبدون بالبدع ويدعون أنهم أولياء فيضلون الناس، ومقصوده أن يطبق ذلك على الواقع الذي كان في زمنه ولا يزال هذا في بلاد المسلمين، والأمر أعم من هذا وأشمل، فكل من أطاع مخلوقاً في معصية الله جل وعلا وهو يعلم فإنه داخل في هذه الآية وفي هذا الحكم، وإن كان والده أو والدته فضلاً عن غيرهما فلا طاعة لمخلوق في معصية الله جل وعلا. وقد ثبت في صحيح مسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث سرية وأمر عليها رجلاً من الأنصار وحضهم على طاعته فقال: (من أطاع الأمير فقد أطاعني ومن عصى الأمير فقد عصاني) فغضب عليهم أميرهم فقال لهم: ألم يقل لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أطاع الأمير فقد أطاعني ومن عصاه فقد عصاني؟ قالوا: بلى، قال: اجمعوا لي حطباً، فجمعوا له حطباً كثيراً فلما جمعوه قال: أججوا فيه ناراً فأججوا فيه النار عند ذلك قال: اقتحموا في النار فوقفوا وقالوا: لا نقتحم في النار نحن من النار فررنا، ولما سكن غضبه وطفئت النار وعاد الأمر على ما هو عليه، يعني: ساروا في طريقهم وفي مقصدهم ثم لما رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ذكروا له القصة، فقال صلى الله عليه وسلم: (لو دخلتموها ما خرجتم منها، لا طاعة لمخلوق في معصية الله إنما الطاعة بالمعروف)، والمعروف هو الشرع الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ومن خالف الشرع فقد أتى بمنكر لا بمعروف. إذاً: تكون طاعة المخلوق تبعاً لطاعة الله جل وعلا ولاسيما أولي الأمر فإنهم ينفذون أمر الله والعلماء يبينون أمر الله ويطاعون تبعاً لطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.

شرح فتح المجيد [99]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [99] إن من الأصول التي يجب على المسلم تحقيقها: متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقديم قوله على قول من سواه، والتحاكم إليه عند التنازع، وهذا مقتضى شهادة أن محمداً رسول الله. وإن في مخالفته صلى الله عليه وسلم، وتقديم قول غيره على قوله من الخطورة بمكان، حتى إنه يخشى على صاحبها زيغ قلبه، وذهاب إيمانه والعياذ بالله.

الربوبية والألوهية متلازمتان

الربوبية والألوهية متلازمتان قال الشارح رحمه الله تعالى: [باب: من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله فقد اتخذهم أرباباً من دون الله. لقول الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31]، وتقدم تفسير هذا في أصل المصنف رحمه الله عند ذكر حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه]. في هذه الآية: أن الربوبية والإلهية متلازمتان، فيلزم من كون الإنسان يتأله ويعبد الله أن يكون هذا المعبود هو المالك المتصرف الذي يملك الأمر والنهي، وإذا لم يكن كذلك فلا يصلح أن تكون الإلهية والتأله له، وكذلك فإن الآمر والناهي هو الذي يجب أن يعبد وأن تكون العبادة له. وكثير من الناس لا يعرف الفرق بين الإلهية والربوبية حتى أنكر بعض الجهلة الذين يتصدرون الناس ويزعمون أنهم علماء تقسيم التوحيد وقال: التوحيد هو توحيد الربوبية، وهذا أجهل من أبي جهل في الواقع؛ لأن أبا جهل يعلم أن الله هو الخالق الرازق المتصرف، ولكنه يقول: أعبد هبل واللات والعزى؛ لأنها تشفع لي وأتخذها واسطة! وهذا جهل، أما هذا المتكلم فاجتمع له الجهل باللغة والجهل بالشرع والجهل بالواقع، فصار جهلاً على جهل على جهل، فهو جهلٌ مركب، وهذه نهاية الجهل وليس وراء ذلك شيء من الجهل. وهذا من علامات الساعة، أعني كون الجاهل جهلاً مركباً يتصدر الناس ويكتب الكتب فتطبع وتنشر في العالم الإسلامي، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن يرفع العلم ويفشو الجهل)، مع أنه جاء في الحديث: (إن من أشراط الساعة فشو العلم وفشو القلم وفشو الكتابة)، يعني: ظهورها، والكتابة -كما هو معروف- لم تصل في وقت من الأوقات إلى ما وصلت إليه الآن. والمقصود: أن الآية فيها بيان أن الربوبية والإلهية متلازمان، وأن الربوبية غير الإلهية، وهذا كثير جداً في القرآن، وجهله من أعظم الجهل. قال المصنف: [وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون: قال أبو بكر وعمر). قال الشارح: قوله: (يوشك) بضم أوله وكسر الشين المعجمة أي: يقرب ويسرع. وهذا القول من ابن عباس رضي الله عنهما جواب لمن قال له: إن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما لا يريان التمتع بالعمرة إلى الحج ويريان أن إفراد الحج أفضل، أو ما هو معنى هذا، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يرى أن التمتع بالعمرة إلى الحج واجب ويقول: (إذا طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط فقد حل من عمرته شاء أم أبى، لحديث سراقة بن مالك رضي الله عنه حين أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعلوها عمرة، ويحلوا إذا طافوا بالبيت وسعوا بين الصفا والمروة، فقال سراقة: (يا رسول الله! ألعامنا هذا أم للأبد؟ قال: بل للأبد)، والحديث في الصحيحين. ]. يعني: أنه يرى أنه يتحتم على الحاج إذا لم يسق الهدي من الحل إلى الحرم أن يكون متمتعاً ولو لم ينو ذلك، فإذا طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وجب عليه أن يقصر من رأسه ويلبس ثيابه ويحل الحل كله، ويقول: لا يسعه إلا ذلك؛ لأن هذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا مذهب طائفة من العلماء منهم أهل الظاهر وبعض المحدثين وغيرهم.

جواز الإتيان بأحد أنساك الحج الثلاثة اتفاقا

جواز الإتيان بأحد أنساك الحج الثلاثة اتفاقاً ولكن الصواب: أنه يجوز أن يأتي الإنسان بنسك من الأنساك الثلاثة وهذا باتفاق العلماء الذين عليهم مدار الفتوى، فاتفقوا أنه يجوز أن يكون الحاج متمتعاً ويجوز أن يكون قارناً ويجوز أن يكون مفرداً، وأنه ليس حتماً، وإنما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم اليسر والسهولة بالناس، غير أن الأفضل في الأنساك أن يكون الإنسان متمتعاً لاسيما إذا جاء من بعيد أو كان هذا أول حج يحجه ولم يسق هدياً فالأفضل في حقه أن يكون متمتعاً. وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: اتفق العلماء على أن الإنسان إذا كان يرتاد مكة في السنة -يعني: قد جاء بالعمرة في هذه السنة التي يحج بها- أن الأفضل في حقه أن يأتي بالحج مفرداً، هذا بالاتفاق، ثم ذكر قول أبي بكر وعمر وأنهم أرادوا أن يأتي الإنسان في السنة نفسها بعمرة، ثم يأتي بالحج مفرداً وذلك حتى يكثر رواد البيت وطوافه، والآن في هذه الأوقات والحمد لله لكثرة الخير والأمن والسعة للناس صار كما هو معلوم. بل إن الإنسان يخشى على نفسه من كثرة الزحام عند البيت في الطواف وغيره، فإذا أتى الإنسان بالحج والعمرة مفرداً فبها، وإن أتى بالحج متمتعاً فهذا أولى وأفضل له، أما إذا كان يعتمر في رمضان أو في غير رمضان من السنة فالأفضل في حقه أن يأتي بالحج مفرداً، وقد قال كثير من المفسرين من الصحابة وغيرهم في قول الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196]، قالوا: إتمام الحج والعمرة: أن تأتي بكل واحد منهما بسفرة تامة، فهذا إتمامها.

وجوب اتباع أدلة الكتاب والسنة

وجوب اتباع أدلة الكتاب والسنة قال الشارح: وحينئذ فلا عذر لمن استفتي أن ينظر في مذاهب العلماء وما استدل به كل إمام ويأخذ من أقوالهم ما دل عليه الدليل إذا كان له ملكة يقتدر بها على ذلك، كما قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59]]. قوله: (لا عذر لمن استفتي) يعني: أن الإنسان إذا سئل عن مسألة وكان يعرف النص فيها فهذا لا إشكال فيه، ولكن إذا كان لا يعرف النص وإنما يستنبط استنباطاً، ومعلوم أن الحوادث من أفعال الناس لا حصر لها ولا تنتهي، وليس بلازم أن يكون منصوصاً على كل فعل يفعله الناس، وإنما الشرع كليات وجوامع وقواعد يدخل تحتها ما لا حصر له من الأمور، بل يكفي لعمل الناس إلى يوم القيامة، ولكن يحتاج إلى فقه وإلى علم، فإذا سئل الإنسان عن حادثة ما: فإذا كانت لا نص عليها من كتاب الله وسنة رسوله فيجب أن يجتهد في النظر في أقوال العلماء فيها ويبحث عن أقرب قول إلى الدليل وأصوبه، ثم يفتي بذلك مجتهداً، هذا إذا كان أهلاً للاجتهاد، أما إذا كان ليس عنده ملكة، ولا يميز بين الأقوال الصحيحة من غير الصحيحة، فهذا يجب أن يقول: لا أدري، ويسأل غيره.

خطورة القول على الله بلا علم

خطورة القول على الله بلا علم وليس بلازم أن يفتي إذا سئل، لا سيما إذا كان جاهلاً؛ لأن الذي يفتي كأنه يقول: حكم الله كذا وكذا، وقد يقول الله جل وعلا له: كذبت! ليس هذا حكمي، فما هو موقفه أمام الله جل وعلا إذا كان يقول على الله ما لا يعلم، وهذا أعظم من الشرك بالله نعوذ بالله من ذلك؛ لأن الله جل وعلا يقول: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33]. فبدأ بالأسهل، ثم بما هو أعظم، ثم بما هو أكبر، وختم الأمر بالقول عليه بلا علم وجعله بعد الشرك، فدل على أن القول عليه بلا علم أعظم من الشرك نسأل الله العافية، فإن كان الشرك عظيماً فهذا أعظم؛ لأنه يتضمن الشرك وزيادة، نسأل الله العافية. قال الشارح: [وللبخاري ومسلم وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت) هذا لفظ البخاري في حديث عائشة رضي الله عنها، ولفظه في حديث جابر: (افعلوا ما أمرتكم به، ولولا أني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم)، في عدة أحاديث تؤيد قول ابن عباس]. قال هذا صلى الله عليه وسلم تطييباً لنفوسهم، ولئلا يحتج بالاقتداء به ويقال: إنك ما حللت إنك بقيت على حجك! فأخبر أن المانع له هو سوق الهدي، وأنه لو لم يسق الهدي لحل معهم، فدل هذا على أن الذي يسوق الهدي أي: يأتي به من الحل، أنه يلزمه أن يكون قارناً وأن يبقى محرماً حتى ينتهي من حجه، أما الذي ليس معه هدي فإنه يتعين عليه إذا طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة أن يحل من إحرامه ويتمتع بالحل، والتمتع: هو الحل من الإحرام، وسمي تمتعاً؛ لأنه يترك الإحرام ويصبح حلالاً يتمتع بما أحله الله جل وعلا.

كلام الأئمة في اتباع الأدلة وترك أقوالهم المخالفة للأدلة

كلام الأئمة في اتباع الأدلة وترك أقوالهم المخالفة للأدلة قال الشارح: [وبالجملة فلهذا قال ابن عباس لما عارضوا الحديث برأي أبي بكر وعمر رضي الله عنهما: (يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء) الحديث. وقال الإمام الشافعي رحمه الله: أجمع العلماء على أنه من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد. وقال الإمام مالك رحمه الله تعالى: (ما منا إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم)، وكلام الأئمة في هذا المعنى كثير. وما زال العلماء رحمهم الله يجتهدون في الوقائع، فمن أصاب منهم فله أجران ومن أخطأ فله أجر كما في الحديث، لكن إذا استبان لهم الدليل أخذوا به وتركوا اجتهادهم، وأما إذا لم يبلغهم الحديث أو لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم عندهم فيه حديث أو ثبت وله معارض أو مخصص ونحو ذلك فحينئذ يسوغ للإمام أن يجتهد، وفي عصر الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى إنما كان طلب الأحاديث ممن هي عنده باللُقي والسماع، ويسافر الرجل في طلب الحديث إلى الأمصار عدة سنين. ثم اعتنى الأئمة بالتصانيف ودونوا الأحاديث ورووها بأسانيد وبينوا صحيحها من حسنها من ضعيفها، والفقهاء صنفوا في كل مذهب، وذكروا حجج المجتهدين، فسهل الأمر على طالب العلم، وكل إمام يذكر الأمر بدليله عنده. وفي كلام ابن عباس رضي الله عنها ما يدل على أن من بلغه الدليل فلم يأخذ به تقليداً لإمامه فإنه يجب الإنكار عليه بالتغليظ؛ لمخالفته الدليل. وقال الإمام أحمد حدثنا أحمد بن عمر البزار قال حدثنا زياد بن أيوب قال حدثنا أبو عبيدة الحداد عن مالك بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس رضي اله عنهما قال: (ليس منا أحد إلا ويؤخذ من قوله ويدع، غير النبي صلى الله عليه وسلم). وعلى هذا فيجب الإنكار على من ترك الدليل لقول أحد من العلماء كائناً من كان، ونصوص الأئمة على هذا، وأنه لا يسوغ التقليد إلا في مسائل الاجتهاد التي لا دليل فيها يرجع إليه من كتاب ولا سنة فهذا هو الذي عناه بعض العلماء بقوله: لا إنكار في مسائل الاجتهاد، وأما من خالف الكتاب والسنة فيجب الرد عليه كما قال ابن عباس والشافعي ومالك وأحمد وذلك مجمع عليه كما تقدم في كلام الشافعي رحمه الله تعالى]. معلوم أن مسائل الاجتهاد هي المسائل التي تستنبط من النصوص، وليس فيها نصوص بعينها، أما إذا جاء الدليل فلا اجتهاد فيه، فإذا دل الدليل على مسألة بعينها فلا يجوز الاجتهاد في ذلك، وإنما يجب أن يؤخذ بالدليل، فإن خالف الإنسان ذلك عامداً فهو في الواقع عاص، وإن لم يبلغه الدليل فله عذره حتى يبلغه الدليل.

إنكار الإمام أحمد لاتباع الرأي مع وجود الحديث

إنكار الإمام أحمد لاتباع الرأي مع وجود الحديث قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال الإمام أحمد: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته ويذهبون إلى رأي سفيان والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]، أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك. لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك]. قول الإمام أحمد رحمه الله يشبه قول ابن عباس. يعني: أن الإنسان إذا بلغه الحديث وعرف صحته بالسند فإنه لا يسوغ له تركه لقول أحد من الناس. وسفيان المقصود به: سفيان الثوري الإمام المشهور، فهو من كبار الأئمة وكان له أتباع إلا أنه لم تحفظ أقواله ولم يعتن بها أصحابه فانقرضت أقواله إلا أنها موجودة في الكتب التي تذكر أقوال العلماء، وهو نظير الإمام مالك ونظير الإمام أحمد والشافعي وأبي حنيفة رحمهم الله. والمقصود أنه قيل له: إن قوماً يعتنون بقوله ويدعون الحديث، فقال: عجبت لهم؛ لأنهم يخالفون مخالفة ظاهرة، والله جل وعلا يقول: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور:63]، أي: عن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم: {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]، يقول الإمام أحمد: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: هي الشرك. لعله إذا رد بعض قوله -يعني: قول الرسول صلى الله عليه وسلم- أن يزيغ قلبه فيهلك. يعني: أن يرد قوله إما بهواه وإما لقول شخص من الناس يعظمه فيكون في ذلك زيغه وهلاكه؛ لأنه اتخذ هذا الشخص أو الهوى رباً كما في الآية التي استدل بها المصنف، وهذا هلاك ليس بعده هلاك، وأما قوله: {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]، فالمقصود به: أن يعاجله بعذاب في الدنيا؛ لشدة المخالفة، وهذا يوافق قول ابن عباس: (يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء). فالآية تنص على هذا، وهذا يدلنا على فقه ابن عباس رضي الله عنه، وهذا شيء معروف ومعلوم فقد دعا له الرسول صلى الله عليه وسلم ولهذا سمي حبر الأمة وترجمان القرآن؛ لأنه دعا له الرسول صلى الله عليه وسلم بالفقه في الدين ومعرفة التأويل -أي: التفسير- فالآية تدل على أن من خالف أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يخاف عليه أن يقع في الشرك، وزيادة على ذلك أن يصاب بعذاب عاجل في الدنيا. قال الشارح رحمه الله تعالى: [هذا الكلام من الإمام أحمد رحمه الله رواه عنه الفضل بن زياد وأبو طالب قال الفضل عن أحمد: نظرت في المصحف فوجدت طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في ثلاث وثلاثين موضعاً، ثم جعل يتلو: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [النور:63]، الآية، فذكر من قوله: الفتنة الشرك -إلى قوله- فيهلك، ثم جعل يتلو هذه الآية: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65]. وقال أبو طالب عن أحمد: وقيل له: إن قوماً يدعون الحديث ويذهبون إلى رأي سفيان وغيره، فقال: أعجب لقوم سمعوا الحديث وعرفوا الإسناد وصحته يدعونه ويذهبون إلى رأي سفيان وغيره! قال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]، أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الكفر، قال الله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ} [البقرة:217]، فيدعون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتغلبهم أهواؤهم إلى الرأي، ذكر ذلك عنه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى. قوله: (عرفوا الإسناد) أي: اسناد الحديث وصحته، فإذا صح إسناد الحديث فهو صحيح عند أهل الحديث وغيرهم من العلماء. وسفيان هو الثوري الإمام الزاهد العابد الثقة الفقيه، وكان له أصحاب يأخذون عنه، ومذهبه مشهور يذكره العلماء رحمهم الله في الكتب التي يذكر فيها مذاهب الأئمة كالتمهيد لـ ابن عبد البر والاستذكار له وكتاب الإشراف على مذاهب الأشراف لـ ابن المنذر والمحلى لـ ابن حزم والمغني لـ أبي محمد عبد الله بن قدامة الحنبلي وغير هؤلاء. فقول الإمام أحمد رحمه الله: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته إلى آخره إنكار منه لذلك، وأنه يئول إلى زيغ القلوب الذي يكون به المرء كافراً].

من المنكر ترك الكتاب والسنة والتمسك بآراء الفقهاء

من المنكر ترك الكتاب والسنة والتمسك بآراء الفقهاء قال الشارح: [وقد عمت البلوى بهذا المنكر، خصوصاً لمن ينتسب إلى العلم، نصبوا الحبائل في الصد عن الأخذ بالكتاب والسنة، وصدوا عن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وتعظيم أمره ونهيه، فمن ذلك قولهم: لا يستدل بالكتاب والسنة إلا المجتهد، والاجتهاد قد انقطع. ويقول: هذا الذي قلدته أعلم منك بالحديث وبناسخه ومنسوخه، ونحو ذلك من الأقوال التي غايتها ترك متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، والاعتماد على قول من يجوز عليه الخطأ، وغيره من الأئمة يخالفه ويمنع قوله بالدليل، فما من إمام إلا والذي معه بعض العلم لا كله. فواجب على كل مكلف إذا بلغه الدليل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفهم معنى ذلك: أن ينتهي إليه ويعمل به وإن خالفه من خالفه، كما قال الله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف:3]، وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت:51]، وقد تقدم حكاية الإجماع على ذلك، وبيان أن المقلد ليس من أهل العلم، وقد حكى أيضاً أبو عمر بن عبد البر وغيره الإجماع على ذلك]. يقصد بقوله: (نصبوا الحبائل في الصد عن الأخذ بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم) الذين يضعون الكتب في المذاهب ويبنون المسائل على الآراء والأقيسة التي تلقوها عن بعضهم، ومعلوم أن الرأي إذا كان غير مستند إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فلا يجوز أن ننسبه إلى الشرع؛ لأنه محل للخطأ، وقد يصيب في بعض المسائل، ولكن يوجد فيه خطأ بلا شك؛ لأن الله جل وعلا يقول: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82]، فدل هذا على أن كل كلام ليس من الرسول صلى الله عليه وسلم ولا من الوحي الذي أوحي إليه أنه لابد أن يكون فيه اختلاف، فالآراء لا يجوز أن تؤخذ مجردة عن الدليل. فيقصد بهذا كتب الفقه التي توضع في المذاهب، فيقال: إن حكم المسألة كذا وكذا وليست معتمدة على الدليل، فإذا جيء بالأدلة وقيل إن الدليل يدل على خلاف هذا، قالوا: أنت خارج عن مذهب المسلمين، وقد يقولون له: أنت جئت بمذهب خامس ويخطئونه ويقولون: لا يجوز للإنسان أن يأخذ فقهه من كتاب الله؛ لأن هذا يحتاج إلى اجتهاد والاجتهاد يزعمون أنه منقطع من زمن الأئمة، وهذه من دسائس الشيطان؛ لأن الاجتهاد لا ينقطع كما قال الإمام أحمد مستدلاً على أن الاجتهاد يبقى إلى يوم القيامة بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)، فهؤلاء فيهم أهل الاجتهاد؛ لأن النصرة وكونهم على الحق دليل على أنهم مجتهدون. ومعلوم أن كتاب الله ميسر للذكر: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]، يقول العلماء: هل من طالب علم فيعان عليه، يعني: لأنه ميسر. فكل من عرف اللغة العربية وتلقى هذا الكتاب لابد أن يدرك ما يدرك وإن اختلف الناس، فهذا أمر معلوم. ولهذا إذا تأمل الإنسان في القرآن -وإن كان عامياً- فإنه يجد فيه من المعاني ويفهم فيه من الخطاب ولو في العموم، ولكن إذا جاء الإنسان دليل من قول الله وقول رسوله فيجب أن يترك قوله أو قول الآخرين لهذا الدليل، هذا هو المقصود وهذا مراده، يقول: لا يجوز أن نعارض كلام الله أو كلام رسوله برأي الإمام أحمد أو برأي الإمام مالك أو برأي الإمام أبي حنيفة أو الشافعي فضلاً عن غيرهم، بل لا يجوز أن نعارض قول الله وقول رسوله بأقوال الصحابة الذين هم أفضل من هؤلاء، وقد مر معنا قول ابن عباس: (يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون قال أبو بكر وعمر). فالذين ينصبون الحبائل ويصدون عن كتاب الله، يعني أنهم يعتلون بأن الناس اليوم كلهم أهل تقليد وأنه يجب أن يقلد الإنسان الإمام فلاناً أو الإمام فلاناً، وهذا صد عن تدبر كتاب الله وفهمه والتعلم منه وسد للباب في هذا، وهذا إنما جاء به الشيطان، وأحياناً يذكرون أشياء عجيبة كما هو مذكور الآن في بعض الكتب يقولون: لا يجوز أن يعتمد الإنسان في استنباطه على الكتاب أو السنة إلا بشروط: منها أن يكون عالماً باللغة، عالماً بأسباب النزول، عالماً بالناسخ والمنسوخ، عالماً بالخاص والعام، عالماً بالمقدم والمؤخر، إلى ما يقرب من أربعين شرطاً وسيأتي أن المصنف رحمه الله يقول: هذه الشروط لعلها لا تجتمع في أبي بكر يعني: لا توجد مجتمعة في أحد من الناس.

أقسام الذين منعوا الأخذ من الكتاب والسنة

أقسام الذين منعوا الأخذ من الكتاب والسنة إذاً: المعنى أنه يمتنع الأخذ من كتاب الله أو من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم على هذا! وعلى هذا يكون الناس قسمين: قسم: يقولون ذلك في مسائل الفقه الاجتهادية، فإذا جاء إنسان يستدل على مسأله اجتهادية بالدليل عابوا عليه وقالوا: أنت خالفت الأئمة خالفت قول الفقهاء خالفت الإمام فلاناً ونحن نأخذ بأقواله، مع أن الأقوال التي توجد الآن في كتب الفقه المتأخرة ليست أقوال الأئمة وإنما هي تفريعات عن أقوالهم وتخريجات لأصحابهم وقد يكونون متأخرين. القسم الثاني: ما هو أشد من هذا وأعظم، وهم أصحاب الكلام الذين وضعوا كتباً صدوا بها الناس عن معرفة الله جل وعلا ووصفه بما وصف به نفسه وقالوا: لابد للإنسان أن يأخذ التوحيد من هذه الكتب ويسمونها علم الكلام أو علم التوحيد، وهي مبنية على آراء وقواعد قعدها أناس حسب آرائهم وعقولهم أو حسب المنطق اليوناني الذي أخذوه من كتب اليونان وغيرها، معرضين بذلك عما جاء في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ويقولون: إن الذي جاء في الكتاب والسنة نصوص ظاهره لا تدل على يقين وإنما تدل على ظنون، والظن لا يجوز أن يعمل به في مسائل الاعتقاد، بخلاف هذه القواعد التي نقعدها والكتب التي نؤلفها فإنها مبنية على العقليات والقطعيات! ويجعلون العقليات أموراً قطعية وهي في الواقع مبنية على قياس وشبه، ولا تزيد من تعمق فيها إلا شكوكاً وضلالة وبعداً عن الحق. وبهذا صد الشيطان الناس عن الاهتداء بهدى الله جل وعلا الذي أنزله ليهتدي به الناس، وأخبر أنه هدى وشفاء لأمراض الشبهات والشكوك، وهدى لمن عمل به ليصل إلى الحق، أما هذه فهي بضد ذلك، وهذا أعظم مما ذكره المؤلف ولكنه يذكر الشيء الذي انتشر في وقته، فإن الشيخ رحمه الله لما دعا الناس إلى الأخذ بكتاب الله وسنة رسوله إذا بأناس يقولون: أنت خارج عن الإجماع وأنت جئت بمذهب خامس وأنت مخالف للأئمة، فإن هذه كتب الأئمة بيننا فليس فيها شيء مما تقوله، وهو يقول: قال الله وقال رسوله ولم يقل: هذا رأيي أو هذا رأي فلان وفلان. وأما علم الكلام الذي يعتمده أصحابه ويصدون به عن كتاب الله فهذه عافى الله جل وعلا منه من قام بالدعوة فيهم، ولم تصل إليهم شبهات أولئك وإلا فأمرها شديد، ومع ذلك فقد بين أن هذا مما ينافي الإيمان بالله وبرسوله، وسيأتي في الباب الذي بعد هذا: أنه لابد من تحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ما يطرأ للإنسان من خلاف أو من رأي أو غير ذلك، ولابد أن يرجع إلى حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلا لم يكن مؤمناً. وهذه المسألة ليست من مسائل الخلاف أو من المسائل الفرعية التي يكون فيها سعة، ولكنها مسألة إيمان وكفر نسأل الله العافية، فإنه لابد من تحيكم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في كل شيء، هذا بالنسبة لأهل العلم الذين يدركون الدليل ويستطيعون أن يفهموا الأدلة. أما بالنسبة لعامة المسلمين فليس هذا بلازم؛ لأنه لو كلف مثلاً غير طالب العلم أن يستنبط الأحكام من كتاب الله وسنة رسوله ما استطاع؛ لأن هذا ليس من شأنه، وإنما عليه أن يتابع العلماء وإذا أشكل عليه شيء يسألهم، والدليل على هذا قول الله جل وعلا: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، فجعل الواجب على الذين لا يعلمون سؤال أهل الذكر، وأهل الذكر: هم العلماء. والكلام الذي ذكره الإمام أحمد يشير إلى هذا؛ لأنه قال: عجبت لقوم عرفوا الاسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان ويدعون الحديث، فمعنى ذلك: أن الذي ما عرف الإسناد ولا عرف صحة الإسناد يجوز له أن يذهب إلى قول فلان وفلان من العلماء ولكن العارف الذي عرف الإسناد لا يجوز له.

مخالفة المقلدة لأئمتهم

مخالفة المقلدة لأئمتهم قال الشارح: [قلت: ولا يخالف في ذلك إلا جهال المقلدة؛ لجهلهم بالكتاب والسنة ورغبتهم عنهما، وهؤلاء وإن ظنوا أنهم قد اتبعوا الأئمة فإنهم في الحقيقة قد خالفوهم واتبعوا غير سبيلهم كما قدمنا من قول مالك والشافعي وأحمد، ولكن في قول الإمام أحمد رحمه الله إشارة إلى أن التقليد قبل بلوغ الحجة لا يذم، وإنما ينكر على من بلغته الحجة وخالفها لقول إمام من الأئمة. وذلك إنما نشأ عن الإعراض عن تدبر كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والإقبال على كتب من تأخر والاستغناء بها عن الوحيين، وهذا يشبه ما وقع من أهل الكتاب الذين قال الله فيهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31]، كما سيأتي بيان ذلك في حديث عدي بن حاتم]. وقوله: إنه في الواقع مخالف للأئمة؛ لأن الأئمة حذروا من تقليدهم وترك الدليل، وقد صح عن الأئمة التحذير من ذلك، فـ الشافعي رحمه الله يقول: (إذا صح الحديث فهو مذهبي، وإذا وجدتم الحديث يخالف قولي فدعوا قولي وخذوا بالحديث)، وكذلك الإمام مالك قال: (كلنا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم) يعني: أن الحق الكامل مع الرسول صلى الله عليه وسلم فقط، أما من عداه فيجوز أن يقع عليه الخطأ وأن يُرد ويَرد، وكذلك قول أبي حنيفة رحمه الله: (إذا جاء الحديث فعلى الرأس والعين، وإذا جاءت أقوال الصحابة فعلى الرأس والعين، وإذا جاءت أقوال التابعين فنحن رجال وهم رجال) يعني: لا يلزمنا قول التابعين، ولكن قول الرسول صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن يعارض برأي، وكذلك قول الإمام أحمد كما سمعنا. فالذي يقلد الأئمة ويترك الحديث مخالف لهم؛ لأن هذه أقوالهم تخالف هذا المذهب، فهو غير متبع لهم في الواقع. قال الشارح: [فيجب على من نصح نفسه إذا قرأ كتب العلماء ونظر فيها وعرف أقوالهم، أن يعرضها على ما في الكتاب والسنة، فإن كل مجتهد من العلماء ومن تبعه وانتسب إلى مذهبه لابد أن يذكر دليله، والحق في المسألة واحد، والأئمة مثابون على اجتهادهم، فالمنصف يجعل النظر في كلامهم وتأمله طريقاً إلى معرفة المسائل واستحضارها ذهناً وتمييزاً للصواب من الخطأ بالأدلة التي يذكرها المستدلون، ويعرف بذلك من هو أسعد بالدليل من العلماء فيتبعه].

ليس كل مجتهد مصيبا

ليس كل مجتهد مصيباً قوله: (إن الحق في المسألة واحد) هذا هو مذهب أهل السنة؛ لأن المصيب واحد من المجتهدين وليس كل مجتهد مصيباً، فالحق لا يتعدد؛ لأن الحكم في المسألة واحد فقط، ولا يمكن أن يفتي في المسألة الواحدة عدد من الناس فتاوى مختلفة ثم يكون كل واحد مصيباً، بل لابد أن يكون المصيب واحداً فقط والبقية مخطئون، ولكن إذا كان للإنسان أهلية اجتهاد واجتهد حسب استطاعته فقال: المسألة كذا وكذا وأخطأ فإنه يغفر له خطؤه ويثاب على اجتهاده، هذا إذا كان أهلاً للاجتهاد، أما إذا كان ليس أهلاً للاجتهاد فهو مخطئ على كل حال وآثم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا أخطأ فله أجر). الأول والأجران هما: أجر الاجتهاد فيثاب على اجتهاده، وأجر الإصابة، فيثاب لكونه أصاب الحق، أما إذا أخطأ فإنه ليس له إلا أجر الاجتهاد والخطأ معفو عنه. أما إذا كان ليس أهلاً للاجتهاد فإنه وإن أصاب فهو مخطئ، مثل الذي يقول في القرآن برأيه فهو مخطئ وإن أصاب، جاء في الحديث: (من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار). فالمقصود: أن الصواب واحد وليس كل مجتهد مصيباً، بل المصيب من المجتهدين واحد والحق لا يتعدد، ولهذا ذكر الله جل وعلا أن صراطه واحد: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]، فجعل غير صراطه سبلاً متعددة كثيرة، وصراطه واحداً في جميع المسائل، وهذا هو قول أهل السنة، أما الذين يقولون كل مجتهد مصيب فهم أهل البدع، وهو خطأ، والأدلة على خلاف ذلك.

تقديم أدلة الكتاب والسنة على أدلة النظر والاجتهاد

تقديم أدلة الكتاب والسنة على أدلة النظر والاجتهاد قال الشارح: [والأدلة على هذا الأصل في كتاب الله أكثر من أن تحصر، وفي السنة كذلك كما أخرج أبو داود بسنده عن أناس من أصحاب معاذ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبعث معاذاً إلى اليمن قال: (كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله تعالى، قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في كتاب الله؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو، قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره، وقال الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله)]. الحديث ضعيف ولا يجوز الاعتماد عليه، بل حكم بعض العلماء بأنه موضوع، ولكن العلماء الذين تكلموا في الأصول قالوا: شهرته تغني عن سنده، فقد علم أن معناه صحيح وقبله العلماء وقالوا به، يعني: بمعناه، فلا التفات إلى سنده وإنما الالتفات إلى المعنى، والمعنى دلت عليه النصوص الأخرى وقد جاء في سنن ابن ماجة أيضاً عكس هذا تماماً، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا عرض لك قضاءٌ فلا تقض برأيك حتى تعرف الدليل أو ترفع ذلك إلي)، وهذا عكس هذا، ولكن هذا أيضاً ضعيف؛ لأن في سنده محمد بن سعيد المصلوب قيل: إنه أحد الكذابين الذين عرفوا بوضع الحديث، وإن قال ابن القيم رحمه الله: هذا أحسن سنداً من الأول، أي: هذا الذي رواه ابن ماجه أحسن سنداً من الأول وأجود سنداً من الأول، ولكن الأول دلت عليه قواعد ونصوص فأغنت كما يقول علماء الأصول؛ لأن هذا يذكر في كتب الأصول، وقبول العلماء له وأخذهم به واتفقاهم على الأخذ به يغني عن البحث في سنده، والاستناد على قواعد الشرع يغني عن إسناده وإن كان إسناده واهياً، فلا اعتماد على السند وإنما الاعتماد على المعنى وعلى القواعد. قال الشارح: [وساق بسنده عن الحارث بن عمر عن أناس من أصحاب معاذ بن جبل رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن) بمعناه. والأئمة رحمهم الله لم يقصروا في البيان، بل نهوا عن تقليدهم إذا استبانت السنة، لعلمهم أن من العلم شيئاً لم يعلموه وقد يبلغ غيرهم، وذلك كثير كما لا يخفى على من نظر في أقوال العلماء. قال أبو حنيفة رحمه الله: (إذا جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن الصحابة رضي الله عنهم فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن التابعين فنحن رجال وهم رجال)]. معنى ذلك: أنه إذا صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يجوز أن يعارض ولا يجوز أن يخالف ويجب أن يؤخذ به ويعمل به، وكذلك إذا جاءت أقوال الصحابة نأخذ بها ولا نعارضها بآرائنا وأفكارنا، بل نقبلها ونسلم لها؛ لأنهم اهتدوا بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاهدوا نزول الوحي، وهم أهل اللسان الذين تعلموا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقوا عنه، أما إذا جاء عن التابعين الذين بعد الصحابة فيقول: (هم رجال ونحن رجال) يعني: هذا اجتهاد ونحن نجتهد مثلهم. فمعنى ذلك: أنه لا يأخذ أقوال التابعين ونحوهم إذا عارضها دليل من كتاب الله وسنة رسوله، هذا معناه. قال الشارح: [وقال: (إذا قلت قولاً وكتاب الله يخالفه فاتركوا قولي لكتاب الله، قيل: إذا كان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم يخالفه؟ قال: اتركوا قولي لخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، قيل: إذا كان قول الصحابة يخالفه؟ قال اتركوا قولي لقول الصحابة). وقال الربيع: سمعت الشافعي رحمه الله يقول: (إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا ما قلت). وقال: (إذا صح الحديث بما يخالف قولي فاضربوا بقولي الحائط). وقال مالك: (كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم). وتقدم له مثل ذلك، فلا عذر لمقلد بعد هذا، ولو استقصينا كلام العلماء في هذا لخرج عما قصدناه من الاختصار، وفيما ذكرناه كفاية لطالب الهدى].

رد قول الرسول صلى الله عليه وسلم سبب لزيغ القلب

رد قول الرسول صلى الله عليه وسلم سبب لزيغ القلب قال الشارح: [قوله: (لعله إذا رد بعض قوله) أي: قول الرسول صلى الله عليه وسلم (أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك) نبه رحمه الله أن رد قول الرسول صلى الله عليه وسلم سبب لزيغ القلب، وذلك هو الهلاك في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف:5]]. معنى زاغوا: عدلوا عن الدليل وعدلوا عن القول الذي قيل لهم ومالوا، فالزيغ: هو الميل والعدول، زاغ عنه: إذا مال عنه وعدل عنه وتركه قصداً، {أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5]، يعني: جعلها كارهة للحق قابلة للباطل جزاءً وفاقاً؛ لأن الجزاء من جنس العمل، قال جل وعلا: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:110]، أي: جزاء أنهم لم يقبلوه أول مرة، وهذا واضح في أن من ترك الحق من أول وهلة يكون عقابه إزاغة القلب وعدم القبول، ويكون الإنسان ضالاً بذلك نسأل الله العافية وهذا أمر خطير جداً. وعلامة المسلم أن يكون مستسلماً لقول الله جل وعلا ومنقاداً له ومتبرئاً من الشرك وأهله؛ لأن هذا هو الإسلام، فالإسلام: هو الاستسلام والطاعة والانقياد والخلوص من الشرك وتوابعه وأهله، ولا يكون الإنسان ناجياً، حتى يقبل الحق ممن قاله وإن كان عدواً له، فإذا جاء الحق وجب قبوله.

لي أعناق النصوص لتوافق المذهب مذمومة

ليُّ أعناق النصوص لتوافق المذهب مذمومة ولهذا قال: الحق ضالة المسلم إذا وجدها أخذها بغض النظر عن الذي قال ذلك، سواء كان صديقاً أو عدواً فإنه يجب عليه أن يقبل؛ لأن الهدف طاعة الله وطاعة رسوله فقط، فيقبل القول ممن قاله إذا كان موافقاً لأمر الله وأمر رسوله مهما كان القائل، فلا يجوز أن نعتبر القول بقائله، بل يجب أن تتعبر الأقوال وتعرض على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا وافقت قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم وجب قبولها، وإذا خالفت قول الله وقول رسوله ردت، وإن كان القائل لها صديقاً أو عالماً؛ لأن الإنسان مهما كان يجوز عليه الخطأ وليس أحد معصوماً إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولياء الله يجوز عليهم الذنب ويجوز أن يقعوا في الخطأ، ولكنهم إذا نبهوا على الخطأ رجعوا، بخلاف الذين يتبعون أهواءهم أو تكون لهم أغراض فإنهم يتعصبون لأقوالهم ويتركون الأدلة ويحاولون أن تأتي موافقة لأقوالهم، فهم يسخرون الأدلة لتتفق مع ما يقولون، مع أن الواجب أن تكون الأقوال تابعة للأدلة، وأما تحريف الأدلة لتوافق الأقوال فهو الذي عابه الله جل وعلا على اليهود الذين يلبسون الحق بالباطل يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ولكنهم يصدون عنه يعرفون الحق كما يعرفون أبناءهم ويعرفون الرسول صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم ومع ذلك يلبسون الحق بالباطل! أي: يلبسون على الناس حتى ينطلي عليهم قولهم، ولهذا يقول العلماء: كل من ضل من علماء هذه الأمة ففيه شبه من اليهود، وكل من ضل من عبادته وزهده ففيه شبه من النصارى. قال الشارح: [قال شيخ الإسلام رحمه الله في معنى قول الله تعالى: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور:63]: فإذا كان المخالف لأمره قد حُذر من الكفر والشرك، أو من العذاب الأليم دل على أنه قد يكون مفضياً إلى الكفر والعذاب الأليم. ومعلوم أن إفضاءه إلى العذاب الأليم هو مجرد فعل المعصية، فإفضاؤه إلى الكفر إنما هو لما يقترن به من الاستخفاف في حق الآمر، كما فعل إبليس لعنه الله تعالى ا. هـ]. فإبليس لما أمره الله جل وعلا بالسجود استخف بالأمر وقال: أنا خير منه، وكان الأولى أن تأمره أن يسجد لي! لأنه خلق من النار وأما آدم فخلق من الطين، والنار أفضل من الطين على حد زعمه، فهذا استخفاف بأمر الله جل وعلا، وكذلك إذا رد الإنسان قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم لقول أحد من الناس صار هذا الإنسان الذي قبل قوله أعظم عنده من الله ومن رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا معنى إفضائه إلى الكفر، فيكون بذلك كافراً نسأل الله العافية. وهذا فيه: أن هذا العمل ليس مجرد معصية؛ لأن الإنسان إذا عصى وهو يعلم أنه عاصٍ فإن هذا لا يكون كفراً، بل مجرد معصية، وإن خالف أمراً صريحاً وارتكب النهي الصريح وهو مقر على نفسه بأنه عاصٍ فمثل هذا يكون مذنباً فقط وليس بكافر، أما إذا كان مستخفاً بأمر الله وليس لأمر الله عنده قيمة فيقول: وإن أمرني الله فلا أبالي! فمثل هذا يخشى عليه أن يكون خارجاً من الدين الإسلامي نسأل الله العافية.

التحذير من مخالفة أمره صلى الله عليه وسلم

التحذير من مخالفة أمره صلى الله عليه وسلم قال الشارح: [وقال أبو جعفر بن جرير رحمه الله تعالى عن الضحاك: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [النور:63]، قال: يطبع على قلبه فلا يؤمن أن يظهر الكفر بلسانه فتضرب عنقه]. أي: يقول الكفر بلسانه فتضرب عنقه وهذا عقابه في الدنيا، وعقاب الدنيا سهل، ولكن المصيبة عقاب الآخرة، وكونه أظهر الكفر يدل على أن الكفر في قلبه فيموت كافراً فيكون خالداً في النار، وهذا أعظم من القتل، وهو المصيبة الكبرى. قال الشارح: [قال أبو جعفر: أدخلت (عن) لأن معنى الكلام: فليحذر الذين يلوذون عن أمره ويدبرون عنه معرضين]. ذكر العلماء أن سبب نزول هذه الآية أن بعض الناس الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الخندق اعتذروا بأعذار واهية يريدون أن لا يشاركوه في أمره فنزلت هذه الآية، ولهذا جاء فيها: أنه إذا استأذن المؤمنون لبعض شأنهم أمره بأن يأذن لهم ويستغفر لهم. فحذرهم الله جل وعلا من ذلك أن يصيبهم العقاب العاجل قبل عذابه الأليم الذي يكون في الآخرة. وإن كان سببها معيناً فالمقصود عموم اللفظ إلى يوم القيامة، فكل من صد عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن سنته أو حاول ذلك، فإنه يكون داخلاً في هذا الأمر ويخشى عليه أن يقع في هذا العقاب. أي: يخشى أن الله يكره إليه الحق ويزين له الباطل فيصبح من أنصار الباطل ويصبح مضاداً للحق وكارهاً له، ومن كان كذلك فهو منافق النفاق الخالص الذي يكون صاحبه في الدرك الأسفل من النار تحت الكفار نسأل الله العافية. قال الشارح رحمه الله: [قوله: (أو يصيبهم) في عاجل الدنيا عذاب من الله موجع على خلافهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم]. قال الصنف رحمه الله تعالى: [عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31] (فقلت له: إنا لسنا نعبدهم، قال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ فقلت بلى، قال: فتلك عبادتهم)، رواه أحمد والترمذي وحسنه]. قال الشارح: [هذا الحديث قد روي من طرق فرواه ابن سعد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي. قوله: (عن عدي بن حاتم) أي: الطائي المشهور، وحاتم هو: ابن عبد الله بن سعد بن الحشرج -بفتح الحاء- المشهور بالسخاء والكرم]. قدم عدي على النبي صلى الله عليه وسلم في شعبان سنة تسع من الهجرة فأسلم، وعاش مائة وعشرين سنة. إذا أراد الإنسان أن يتكلم عن الحديث فيجب أن يجمع الطرق ويطلع عليها ولا يجوز له أن يحكم على حديث ولم يستقص طرقه، كما يصنعه كثير من طلبة العلم اليوم أو كثير من المتسرعين فإنهم يقعون في الخطأ الفظيع، وهم بذلك على خطر شديد جداً؛ لأنهم يأخذون طريقاً أو طريقين -فقط- فيحكمون عليها ويقولون: هذا الحديث ضعيف أو موضوع! ويوجد هذا بكثرة، قد تجرأ أحدهم وكتب كتاباً سماه: (ضعيف كتاب التوحيد) ذكر فيه أحاديث موضوعة اعتماداً على طريق من الطرق، وهذا من الجهل، بل هذا من الخطر الشديد؛ لأن الواجب على الإنسان إذا أراد أن يحكم على حديث بعينه أن يحيط بالطرق التي روي بها، ولهذا تجد بعض الأئمة يذكرون أحاديث صحيحة عن بعض الرواة الذين ضعفوا، والسبب في ذلك أن هذه الأحاديث صحت عندهم من طرق أخرى، وإن كان هذا الراوي ضعيفاً لو انفرد به فإن ذلك لا يضر لوجود طريق أخرى صحيحة، فأثبتوا الحديث، والشيء الذي أنكر على البخاري وعلى مسلم هو من هذا النوع، ولهذا فالحفاظ الكبار حكموا بأن الحق مع البخاري ومع مسلم رحمهم الله تعالى. وهذا أمر لا يمكن الاجتهاد به الآن، وإنما يذكر كلام العلماء في ذلك، وقد يبلغه شيء وتغيب عنه أشياء كثيرة، فإذا كان لابد أن يحكم فليقل: هكذا تبين لي في هذا، والله أعلم.

طاعة العلماء والعباد في المعصية عبادة لهم

طاعة العلماء والعباد في المعصية عبادة لهم قال الشارح: [وفي الحديث دليل على أن طاعة الأحبار والرهبان في معصية الله عبادة لهم من دون الله ومن الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله لقوله تعالى في آخر الآية: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31]]. ليس هذا خاصاً بالرهبان والأحبار، وسبق أن الأحبار هم العلماء، والرهبان هم العباد، ولكن هذا عام مطلق، إلا أنه في التحليل والتحريم، فإذا أطيع المخلوق في كونه أحل حراماً أو حرم حلالاً واتبع في هذا فهذه عبادة له، سواء كان عالماً أو غير عالم، فهو مطلق قيده بالعلم؛ لأن هذا هو الغالب؛ ولأن الناس لا يعتمدون على جاهل في التحليل والتحريم، إنما العلماء هم الذين يعتمد على أقوالهم ويستفتون، ولهذا ذكروا في ذلك وإلا فالمسألة عامة شاملة، ولهذا جاء في الحديث أنه: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، (إنما الطاعة بالمعروف). قال الشارح: [ويظهر ذلك قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121]]. أي: أطعتموتهم في المجادلة التي يجادلون فيها، وجاء في سبب ذلك أن المشركين قالوا للمؤمنين: كيف تأكلون مما تذبحون أنتم ولا تأكلون مما يذبحه الله؟! أي: الميتة. فأخبر الله جل وعلا أن هذا من وحي الشيطان وأنه يوحيه إلى أوليائه المشركين ليجادلوا المؤمنين الذين آمنوا بالله، ثم قال: (وإن أطعتموهم) أي: في ذلك (إنكم لمشركون) لأن الواجب اتباع ما حكم الله جل وعلا به وما قاله. قوله: [وهذا قد وقع فيه كثير من الناس مع من قلدوهم لعدم اعتبارهم الدليل إذا خالف المقلَّد، وهو من هذا الشرك، ومنهم من يغلو في ذلك ويعتقد أن الأخذ بالدليل -والحالة هذه- يكره أو يحرم فعظمت الفتنة، ويقول: هم أعلم منا بالأدلة ولا يأخذ بالدليل إلا المجتهد، وربما تفوهوا بذم من يعمل بالدليل! ولا ريب أن هذا من غربة الإسلام كما قال شيخنا رحمه الله في المسائل. فتغيرت الأحوال وآلت إلى هذه الغاية، فصار عند الأكثر عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال ويسمونها ولاية، وعبادة الأحبار هي العلم والفقة، ثم تغيرت الحال إلى أن عبد من ليس من الصالحين وعبد بالمعنى الثاني من هو من الجاهلين. وأما طاعة الأمراء ومتابعتهم فيما يخالف ما شرع الله ورسوله فقد عمت بها البلوى قديماً وحديثاً في أكثر الولاة بعد الخلفاء الراشدين وهلم جرا. وقد قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص:50]. وعن زياد بن حدير قال: قال لي عمر رضي الله عنه: (هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قلت: لا، قال: يهدمه زلة العالم وجدال المنافق بالقرآن وحكم الأئمة المضلين) رواه الدارمي جعلنا الله وإياكم من الذين يهدون بالحق وبه يعدلون].

مسائل باب: طاعة العلماء والأمراء في مخالفة أمر الله

مسائل باب: طاعة العلماء والأمراء في مخالفة أمر الله قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل: الأولى: تفسير آية النور]. وهي قوله جل وعلا: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]، معنى الآية: أنه تحذير من الله جل وعلا للذين يخالفون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، وأما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فالتحذير لمن خالف سنته، فيجب على المسلم أن يحذر وأن لا يقع في هذه المخالفة، فإن وقع فإنه على خطر عظيم، ويخشى أن يزيغ قلبه وقد يكون مشركاً بسبب ذلك، وقد يصاب بالعذاب العاجل؛ لأن الله جل وعلا يقول: {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]، فالعذاب الأليم في الدنيا كما ذكر ذلك المفسرون، وكذلك أشار إليه ابن عباس بقوله: (يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء). [الثانية: تفسير آية براءة]. وهي قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً} [التوبة:31]، وتفسيرها كما مر: أن الرسول صلى الله عليه وسلم فسرها وبين معناها في حديث عدي؛ بطاعتهم في معصية الله وطاعتهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال، فهذه عبادتهم. [الثالثة: التنبيه على معنى العبادة التي أنكرها عدي]. العبادة التي أنكرها عدي هي ظنه أن العبادة هي السجود لهم ودعوتهم والتعلق بهم وسؤالهم فقال: ما نعبدهم، فبين له الرسول صلى الله عليه وسلم أن العبادة أعم من ذلك وأنها ليست مقصورة على هذا، بل لو أطعتهم في معصية الله فتلك عبادة لهم. [الرابعة: تمثيل ابن عباس بـ أبي بكر وعمر وتمثيل أحمد بـ سفيان]. يعني بتمثيل ابن عباس قوله: (إنه يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول لكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون قال أبو بكر وعمر) ومقصوده فكيف بالذي يقول: قال الشيخ الفلاني أو قال فلان؟! هل بين هذا الشيخ وبين أبي بكر مقارنة؟! لا مقارنة بينهما، إذاً: فاتباع من دون أبي بكر والتعصب لقوله أعظم وأخطر من قول القائل: نترك متعة الحج؛ لأن أبا بكر يأمر بخلافها، هذا مقصوده. وكذلك قول سفيان الثوري وسفيان من كبار الأئمة المعروفين بالتقى والورع والعلم ومع ذلك يقع في الخطأ، وإن كنا نعلم أنه لا يتعمد الخطأ ولا يتعمد خلاف الحق لكنه يقع في الخطأ، ولذلك لا يجوز أن يأخذ الإنسان بقوله تاركاً قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن فعل ذلك فهو كما قال الإمام أحمد: يوشك أن يقع في الشرك ويصاب بالعذاب الأليم. [الخامسة: تغير الأحوال إلى هذه الغاية، حتى صار عند الأكثر عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال وتسمى الولاية، وعبادة الأحبار هي العلم والفقه، ثم تغيرت الحال إلى أن عبد من دون الله من ليس من الصالحين، وعبد بالمعنى الثاني من هو من الجاهلين]. قصده بالولاية هنا طاعة العباد، وبعضهم قد يزعم أنه عابد وأنه فقيه، وهو في الواقع ليس كذلك وإنما يدعي الولاية وهو ليس بولي، ومع ذلك يطيعونه في المعاصي، وقد يرونه يرتكب معصية فيقولون: ليس عليه إثم في ذلك؛ لأنه ولي والإثم مرفوع عنه، وهذا في الواقع خطر شديد، وهذا شبيه بفعل اليهود الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله. أما المعنى الثاني فهو عبادة العلماء، بمعنى: أنه تركت الأدلة لأقوالهم وأخذ بأقوالهم ولم يؤخذ بقول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا واضح في الآية التي ذكرها من سورة براءة، وكذلك الحديث الذي فسرها: حديث عدي وفيه: أن هذا عبادة. قوله: (ثم تغيرت الأحوال) أي: فعبد بالمعنى الأول من ليس من الأولياء، بل هو من الأشقياء، ويشير بهذا إلى ما وقع في زمنه من أناس معينين معروفين مشعوذين يتلبسون بالنجاسات ولا يصلون، ويفعلون الفواحش الظاهرة ومع ذلك يزعمون أنهم أولياء فيخشى الناس مخالفتهم ويخافونهم، فعبدوهم بهذا. وأما المعنى الثاني: وهو عبادة الجهلة، فإن كثيراً من المتأخيرن ليسوا كالمتقدمين علماً ولا عملاً، ويقصد بهذا الفقهاء المتأخرين الذين اعتمدوا على الرأي وعلى تحقيق المسائل من غير رجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا جاءت الأدلة من الكتاب والسنة قالوا: لا يلتفت إليها؛ لأننا لا نفهمها ولسنا أهلاً لفهم هذه الأدلة والأخذ بها، ولا يجوز لنا ولا لكم أن تأخذوا ذلك؛ لأن باب الاجتهاد قد انسد وانقطع، فالذي يقول مثل هذا القول ليس من العلماء، بل من الجهلة، ومع ذلك يعتمد على أقوالهم أكثر الناس مع أنها تعرض عليهم الأدلة! هذا مقصوده.

شرح فتح المجيد [100]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [100] الكفر بالطاغوت من أركان التوحيد، ولأهميته قدمه الله على الإيمان به في آية البقرة، فيجب على كل مسلم أن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله، ويدخل في ذلك: وجوب التحاكم إلى حكم الله ورسوله، والكفر بما خالفهما، ويجب مع التحاكم إلى الله ورسوله التسليم لحكمه والرضا به، وألا يجد المسلم في صدره حرجاً من حكم الله ورسوله.

بيان شهادة أن محمدا رسول الله

بيان شهادة أن محمداً رسول الله قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} [النساء:60 - 62]. إن التوحيد الذي هو دين الإسلام بل دين الله جل وعلا الذي أرسل به الرسل كلهم هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وهذا يتكون من شيئين: الأول: شهادة ألا إله إلا الله. الثاني: شهادة أن محمد رسول الله، وهما ركن واحد من أركان الإسلام، والإسلام مبني على خمسة أركان: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والحج لمن يستطيع إليه. ولما كان أصل الإسلام شهادة ألا إله إلا الله، فكل إنسان يشهد ألا إله إلا الله ولا يعمل بذلك، لا يفيده هذا ولا يجعله مسلماً، فلابد أن يعمل بهذه الشهادة وينضم إليها شهادة أن محمداً رسول الله، وهذا الكتاب من أوله إلى آخره بني على هذه الشهادة، ومن أول الكتاب إلى هذا الباب كله في بيان شهادة أن لا إله إلا الله. والمؤلف رحمه الله بدأ بقوله: [كتاب التوحيد] وبين معنى التوحيد وأنه العبادة، وبين أن العبادة لا يمكن أن تكون عبادة إلا إذا كانت حسب الأمر وخالصة لله جل وعلا، ثم ذكر بعض الأبواب وقال: [باب تفسير التوحيد وشهادة ألا إله إلا الله]، وذكر النصوص التي توضح هذا وتبينه، ثم قال: [وتفسير هذا الباب ما بعده من الأبواب إلى آخر الكتاب]، وكل ما ذكره بعد هذا الباب من الأبواب فهو تفسير للتوحيد وشهادة ألا إله إلا الله، ولما كان الأمر معلوماً لدى جميع المسلمين الذين يعرفون حقيقة الاسلام أن شهادة ألا إله إلا الله بدون شهادة أن محمداً رسول الله لا تجدي ولا تنفع ولو شهد الإنسان بذلك فإنه لا يكون مسلماً أراد بهذا الباب أن يبين معنى شهادة أن محمداً رسول الله، ومراده بهذا الباب بيان الركن الثاني من الشهادة؛ لأنها ركنان: شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

خطورة التحاكم إلى الطاغوت

خطورة التحاكم إلى الطاغوت وذكر الترجمة بالآية كعادته في كثير من أبواب الكتاب فقال: [باب قول الله جل وعلا: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} [النساء:60]] إلى آخر الآيات، ومن المعروف في اللغة العربية أن كلمة: (زعم) و (يزعم) تأتي للأمر المشكوك الذي ليس متيقناً، فقوله: (يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا) معنى ذلك أنهم يقولون قولاً لم يتحقق بفعلهم ولا بقلوبهم، وإنما هو مجرد قول، ويمكن أن يكون كذباً؛ لأن القول إذا لم يكن صادراً عن القلب ولم يكن معمولاً به فإنه يكون كذباً، ولهذا جاء: (بئس مطية المرء زعموا)؛ لأن الزعم غالباً يطلق على الكذب، وهذا يشعر بأنهم لم يتحققوا الإيمان ولم يدخل الإيمان في قلوبهم. فقوله تعالى: (يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ) يبين أن ادعاءهم الإيمان مجرد زعم والواقع أنهم لم يؤمنوا. والسبب في كونه كذباً ظاهراً هو أنهم (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ)، وقد جاء الأمر في جميع الشرائع بالكفر به، وكونهم يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت -والإرادة: هي القصد الجازم- يدل على أنهم ليسوا بمؤمنين.

تعريف الطاغوت

تعريف الطاغوت قال الإمام مالك: الطاغوت: كل ما عبد من دون الله، وعرفه ابن القيم تعريفاً جامعاً فقال: الطاغوت: كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو مطاع أو متبوع. وقوله: (كل ما تجاوز به العبد حده) سبق أن شرحناه وبينا معناه، وحد المخلوق: أن يكون عبداً لله، فإذا تجاوز حد العبودية لله جل وعلا والخضوع له والذل بأن جعل له نصيباً منها، أو تجاوز حد الطاعة التي هي طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وأراد أن يطاع في معصية الله أو في تحليل الحرام أو تحريم الحلال أو ما أشبه ذلك فإنه يكون طاغوتاً أو يكون متبوعاً على الهوى وبدون حق، ولهذا لما ذكر ابن القيم هذا التعريف قال: وهذه طواغيت العالم إذا نظرت إليها وجدت الأرض مملوءة من هذه الطواغيت، ولا يخلو الإنسان الذي يترك شرع الله وعبادة الله واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم من أن يكون عابداً لهذا الطاغوت. والمقصود هنا بيان معنى شهادة أن محمداً رسول الله على ما أراده المؤلف، وأورد هذه الآية من أجل ذلك، وذلك أن العباد كلفوا بعبادة الله وبطاعته واتباع أمره بواسطة الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز أن يعبدوا الله أو يفعلوا فعلاً يتعبدون به أو يتركون شيئاً يتعبدون به إلا إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد جاء به وبينه لهم، ومن ذلك التحاكم وفض النزاع والخصومات، وكذلك الخلاف الذي يقع بين الناس يجب أن يرجع فيه إلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وإن لم يفعل الإنسان ذلك فمعنى هذا أنه ما جاء بشهادة أن محمداً رسول الله على الوجه الأكمل والمطلوب الذي ينجو به؛ لأن العبادة وكذلك الطاعة وكذلك الحلال والحرام لا يجوز أن يؤخذ من قول فلان ولا من فعل فلان، وإنما يجب أن يؤخذ مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. ومعنى هذا أن الإنسان لا اختيار له فيما يفعله تعبداً، وإنما الأمر إلى الله، وأمر الله الذي كلف به الإنسان ما يتبين للإنسان إلا بمجيء الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا يقول جل وعلا: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [الأحزاب:36] يعني: ما لهم الاختيار ولا يجوز أن يكون لهم اختيار في ذلك، بل يجب عليهم أن ينفذوا ويمتثلوا وإلا لم يكونوا مؤمنين. فعلى هذا يكون معنى (شهادة أن محمداً رسول الله) أنه رسول جاء بالرسالة من الله وفيها العبادة وفيها الأمر والنهي وفيها التكليف، وأنه لا يقدم الإنسان على عبادة أو أمر يصبح فيه ثقل بينه وبين من خالفه أو يكون فيه حكم بينه وبين من خالفه إلا إذا اتبع الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك وصار الحاكم هو قوله أو قول ربه الذي جاء به، فهذا هو معناها الحقيقي، وهو الذي أراده المؤلف عند استدلاله بهذه الآية. ومعنى ذلك أنه يجب التحاكم إلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، والتحاكم أمر عام، سواءً أكان في فض النزاعات التي فيها حقوق، أم إنهاء الخلاف في مسائل العلم أم غيرها مما يحدث فيه خلاف بين الناس -ولابد من الخلاف-، فلابد أن يكون مردوداً إلى ماجاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم يكون هو الحاكم، فيرضى المحكوم عليه بهذا ويسلم وينقاد، وإلا فلا يكون مسلماً إن لم يفعل هذا، ولهذا ختم هذه الآيات بقوله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65]، فبين في هذه الآيات أن الذي لا ينقاد إلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم إما أنه عابد للطاغوت أو يكون منافقاً يظهر الموافقة ويبطن الكفر ويريد أن يوفق بين الحق وبين الباطل على حد زعمه، وهذا مستحيل لا يمكن، ولكن هكذا يزعمون أنهم يوفقون بين هذا وهذا برأيهم وبعقولهم، وهو ظن بعيد جداً عن الصواب، بل مصدره من الشيطان الذي دعاهم إلى ذلك، ولهذا أخبر جل وعلا أن الشيطان يريد أن يضلنا ضلالاً بعيداً، وهو حريص على اضلالهم وقد أطاعوه في هذا.

معنى شهادة أن محمدا رسول الله

معنى شهادة أن محمداً رسول الله فالخلاصة أن معنى شهادة أن محمداً رسول الله -بعد العلم اليقيني بأنه بشر أوحي إليه شرع-: طاعته في أمره، وتحيكمه فيه، والانتهاء عما نهى عنه، وأنه جاء بشرع من عند الله، وليس هو رباً يتصرف في الكون، ولا معبوداً يعبد مع الله، وإنما يعبد الله جل وعلا بما جاء به من عند الله جل وعلا، ويكون الذي جاء به مهيمناً على حياة الإنسان كلها في الطاعة والحكم وفض النزاع وغير ذلك، وإلا فلا يكون الإنسان جاء بالشهادة كما ينبغي. قال الشارح رحمه الله تعالى: [قال العماد ابن كثير رحمه الله: والآية ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة، وتحاكم إلى ما سواهما من الباطل، وهو المراد بالطاغوت هاهنا. وتقدم ما ذكره العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في حده للطاغوت، وأنه: كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، فكل من حاكم إلى غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فقد حاكم إلى الطاغوت الذي أمر الله تعالى عباده المؤمنين أن يكفروا به؛ فإن التحاكم ليس إلا إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومن كان يحكم بها]. هذا الحد قد يحتاج إلى تبيين. وقد سبق أن بيناه في موضعه، ولكن قوله: (الطاغوت: كل ما تجاوز به العبد حده) العبد هنا فاعل التجاوز، فهو كل ما تجاوز به العبد حده، والضمير في قوله: (حده) مفعول عائد على الطاغوت الذي حدث به التجاوز. ومعنى ذلك أن الذي اتُبِع أو عُبِد لا يخلو إما أن يكون إنساناً عاقلاً، فإن كان إنساناً عاقلاً فهو مكلف بأن يكون عبداً لله جل وعلا، ولا يجوز أن يخرج عن حد العبودية، فإن خرج عن حد العبودية بأن دعا إلى عبادة نفسه، أو رضي أن يكون مشاركاً لله جل وعلا في شيء من العبادة صار طاغوتاً. والطاغوت: مأخوذ من الطغيان الذي هو التجاوز، فهو طغى على حد العبودية، وخرج منها إلى الربوبية أو الإلهية، أما إذا كان غير عاقل مثل الشجر أو الحجر فالشجر والحجر خلق للانتفاع والعبرة، وليس له تصرف. أي: أن العاقل ينتفع به، ويعتبر في خلقه فقط، وليس عنده نفع ولا ضر يمكن أن يوجده، فإن قصد منه شيء مما هو خارج عما خلق له فإنه قد جعل طاغوتاً، أي: خُرِجَ به عن حده وتجاوز به الذي أخرجه حده الذي حد له، وهو أن يكون مخلوقاً ينتفع به في بناء أو في سدود، أو ما أشبه ذلك إذا كان حجراً، وأما إذا كان شجراً فيكون متاعاً للبهائم، أو وقوداً للنار، وما أشبه ذلك من الانتفاع الذي ينتفع به الإنسان. فإن طلب منه بركة، أو نفعاً غيبياً، أو مستقبلياً، أو جعل له شيئاً من التصرف فقد تجاوز به الحد وجعله طاغوتاً كطواغيت الكفار من الأحجار والأشجار. وإذا كان قبراً فالقبر وضعه مثل وضع الحجارة والأشجار؛ لأن المقبور أصبح رفاتاً وتراباً لا يستطيع أن ينفع نفسه، فإذا اتجه إليه بالدعاء وطلب منه النصر، أو ما أشبه ذلك فقد جعله طاغوتاً. وكذلك إذا جعل مخلوقاً غير رسول الله صلى الله عليه وسلم حكماً يتحاكم إليه في فض النزاعات ويرجع فيما اختلف فيه إليه فقد تجاوز به حده؛ لأن حده أن يكون متبعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهكذا، فهذا معنى قوله: (كل ما تجاوز به العبد حده). ثم فصّل فقال: سواء أكان هذا الذي تجوز به الحد معبوداً، أم كان متبوعاً، أم كان مطاعاً؛ لأن المطاع يجب أن تكون طاعته بأمر الله وأمر رسوله، فيطاع لأنه أمر بأمر الله وأمر رسوله، أما إذا تجاوز إلى غير ذلك فإنه يكون خارجاً عن حد العبودية، وإذا اتبع على ذلك صار المتبع له يتبع طاغوتاً. وسواء أكان معنى أم كان شيئاً قائماً بنفسه مجسداً يلمس وينظر إليه، فلا فرق بين هذا وهذا. قال الشارح رحمه الله: [فمن حاكم إلى غيرهما فقد تجاوز به حده، وخرج عن ما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأنزله منزلة لا يستحقها، وكذلك من عبد شيئاً دون الله فإنما عبد الطاغوت. فإن كان المعبود صالحاً صارت عبادة العابد له راجعة إلى الشيطان الذي أمره بها، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ * فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ * هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [يونس:28 - 30]. وكقوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ:40 - 41]]. يعني أن المعبود الذي يعبد من دون الله قد يكون رجلاً مطيعاً صالحاً، فكيف يسمى طاغوتاً؟! فهل يطلق عليه أنه طاغوت؟ لا وإذا كان كذلك فالطاغوت هو من أمر بعبادته وهو الشيطان، وأما الرجل الصالح فلا يمكن أن يرضى بأن يعبد من دون الله أو يأمر بذلك، وقد عيد كثير من الناس الملائكة، والأنبياء والصالحين. فإذا كان يوم القيامة جمعهم الله جل وعلا وسأل المعبودين من الملائكة ومن الأنبياء وغيرهم ويقول لهم أمام العابدين: {أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} [سبأ:40]؟ فيتبرءون منهم. فمنهم من يقول: كنا غافلين عن ذلك ما لنا علم؛ لأنهم أموات لا يعرفون ماذا يقع، والملائكة يقولون: {سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} [سبأ:41]، والمقصود بالجن الشياطين، فهي التي أمرتهم بعبادة غير الله. ولهذا تكون العبادة للشيطان، وكذلك إذا كان المعبود غير عاقل فإن العبادة للشيطان؛ لأن الله جل وعلا جعل في عقل الإنسان تمييزاً بين من يتصرف ومن لا يتصرف، ولكن الشيطان هو الذي يزين بأن هذا ينفع وأن هذا يشفع وأن هذا ينفع وأن هذا يضر. ولهذا فإن الذين يعبدون الشمس يعبدون الشيطان؛ لأنه هو الذي أمر بعبادتها، فإذا سجدوا لها ذهب ووقع مقارناً للشمس فيقع السجود له، كما في صحيح مسلم من حديث عمرو بن عبسة أنه لما سأله عن الصلاة قال: (صل صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس وترتفع، فإنها تطلع بين قرني الشيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار). وكذلك إذا غربت تغرب بين قرني الشيطان، فإن الشيطان يقارنها حتى يقع السجود والعبادة له. ولهذا لما لما نزل قول الله جل وعلا: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98] جاء أحد الكفار ليخاصم الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك، فسأله: أليس عيسى يعبد، وأمه تعبد، والعزير يعبد، والملائكة تعبد؟ فإذاً يكون هؤلاء حصب جهنم! فأنزل الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} [الأنبياء:101 - 102]. والعبادة التي وقعت ممن عبدهم تكون للشيطان. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري في حديث الشفاعة الطويل أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا شفع الشفاعة الكبرى إلى الله جل وعلا بأن يفصل بين خلقه أن الله يشفعه في ذلك، ثم يأتي الرب جل وعلا فيخاطبهم جميعاً، ويقول لهم: إني أنصت لكم منذ خلقتكم فأسمع كلامكم وأحصي أعمالكم فأنصتوا لي الآن، فلابد من الحساب خضوعاً وذلاً، ويقول جل وعلا: أليس عدلاً مني أن أولي كل واحد منكم ما كان يتولاه في الدنيا؟ ما الجواب؟ A بلى فهو العدل، فيؤتى بكل معبود كان يعبد في الدنيا وينصب أمامهم، سواء أكان المعبود من الأصنام أم من غيرها. أما إذا كان المعبود ملكاً أو نبياً أو رجلاً صالحاً فإنه يؤتى بالشيطان على مثاله، ويقال لعابده: هذا معبودك فاتبعه، فتذهب المعبودات إلى جهنم فيتبعها العابدون، فيكبكبون فيها جميعاً، ويبقى في الموقف المؤمنون فقط، ومعهم المنافقون الذين كانوا يحكم عليهم ظاهراً بأحكام الإسلام، ولكنهم في الباطن كفرة، فيقول الله جل وعلا لهم ما الذي أبقاكم وقد ذهب الناس -أي: ذهبوا إلى جهنم-؟ فيقولون: إنما فارقناهم أشد ما كنا إليهم حاجة. أي: في الدنيا فارقناهم وتركناهم وكنا نحتاج إليهم، واليوم لا نحتاج إليهم، فليس لنا بهم حاجة؛ لأنهم لا يغنون عنا شيئاً. والمقصود أنه يؤتى بالإنسان المعبود إذا كان المعبود رجلاً طائعاً لله جل وعلا من نبي أو ملك، أو رجل صالح، ثم يؤتى بالشيطان على مثاله وصورته التي كان يتخيلها العابد؛ لأن العابد لابد أن يتخيل شيئاً عند عبادته، فيتخيل أن هذا النبي كان كذا وكذا، وهذا النبي كذا وكذا، فيؤتى به على ذلك القوام الذي كان يتخيله، ويقال له: هذا معبودك فاتبعه. والواقع أنه ما عبد إلا الشيطان؛ لأن الشيطان هو الذي أمره بذلك فهو يطيعه، ولهذا إذا استقروا في النار جميعاً وتكاملوا فيها يقوم الشيطان خطيباً فيهم في النار، يقول بعض المفسرين: إنه ينصب له منبر في وسط جهنم والمهم أنه يقوم فيهم خطيباً؛ لأنه رئيسهم وقائدهم وإمامهم، فيقول لهم: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم:22] يعني: ما كان لي حجة ولا برهان في دعوتي إياكم، إنما هي مجرد دعوة: {إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم:22]، فيكفر باتباعهم له ويتبرأ منهم، ويقول: أنتم اليوم لا تغنون عني شيئاً.

التوحيد هو الكفر بكل طاغوت عبد من دون الله

التوحيد هو الكفر بكل طاغوت عبد من دون الله قال الشارح رحمه الله: [وإن كان ممن يدعو إلى عبادة نفسه، أو كان شجراً أو حجراً أو قبراً أو غير ذلك مما يتخذه المشركون أصناماً على صور الصالحين والملائكة وغير ذلك فهي من الطاغوت الذي أمر الله تعالى عباده أن يكفروا بعبادته ويتبرءوا منه ومن عبادة كل معبود سوى الله كائناً من كان، وهذا كله من عمل الشيطان وتسويله، فهو الذي دعا إلى كل باطل وزينه لمن فعله، وهذا ينافي التوحيد الذي هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله. فالتوحيد هو الكفر بكل طاغوت عبده العابدون من دون الله، كما قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4]، وكل من عبد غير الله فقد جاوز به حده وأعطاه من العبادة ما لا يستحقه. قال الإمام مالك رحمه الله: الطاغوت: ما عبد من دون الله]. أي: ما عبد من دون الله مطلقاً، إلا أن يكون نبياً أو ولياً أو ملكاً، فهو يحتاج إلى قيد: (ما عبد من دون الله وهو راضٍ بهذه العبادة) إذا كان عاقلاً مكلفاً، فلابد أن يقيد بأن يكون راضياً، أما إذا كان غير راض أو غير عالم بذلك فأن العبادة تقع على الشيطان؛ لأن الشيطان هو الذي أمر بذلك. ومع ذلك إذا كان المتوجه إليه بعد موته في قبره فإن هذا القبر يكون وثناً، ويكون طاغوتاً، ولكن المقبور إذا لم يكن راضياً بهذا ولا آمراً به فليس كذلك، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، فيدعو أن لا يكون قبره وثناً يعبد، فدل على أنه لو عبد لكان وثناً، ولكن الله جل وعلا حماه من ذلك.

تحكيم الله ورسوله من مقتضى الإيمان

تحكيم الله ورسوله من مقتضى الإيمان قال الشارح رحمه الله: [وكذلك من دعا إلى تحكيم غير الله ورسوله فقد ترك ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ورغب عنه، وجعل لله شريكاً في الطاعة، وخالف ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أمره الله تعالى به في قوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة:49]. وقوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]. ومن خالف ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم بأن حكم بين الناس بغير ما أنزل الله، أو طلب ذلك اتباعاً لما يهواه ويريده فقد خلع ربقة الإسلام والإيمان من عنقه وإن زعم أنه مؤمن؛ فإن الله تعالى أنكر على من أراد ذلك، وأكذبهم في زعمهم الإيمان لما في ضمن قوله: (يزعمون) من نفي إيمانهم؛ فإن (يزعمون) إنما يقال غالباً لمن ادعى دعوى هو فيها كاذب لمخالفته لموجبها وعمله بما ينافيها، يحقق هذا قوله: {وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} [النساء:60]؛ لأن الكفر بالطاغوت ركن التوحيد كما في آية البقرة، فإذا لم يحصل هذا الركن لم يكن موحداً]. آية البقرة هي قوله جل وعلا: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256]، فبدأ أولاً بالكفر بالطاغوت، مما يدل على أنه لابد من الكفر به، والكفر به معناه أن يتبرأ الإنسان منه ويبتعد عنه، ويبتعد عن أهله والذين يحكمون به أو يعملون به ولابد من ذلك، أما كونه يتركه فقط فلا يكفي، بل لابد من تركه وكراهته والتبرؤ منه؛ لأن الله جل وعلا يقول: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ} [المجادلة:22]. ويقول جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ} [المائدة:51]، ويقول: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]، فلما ذكر أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض سواء أكانوا من المهاجرين المقاتلين أم من الذين لم يهاجروا وإنما اشتركوا بالإيمان والطاعة والإتباع ذكر أن بعضهم أولياء بعض، ثم ذكر أن الكافرين بعضهم أولياء بعض، ثم قال بعد ذلك: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73]. يعني: إن لم تحصل موالاة المؤمنين بعضهم لبعض، وكونهم معتزين بأنفسهم معادين للكفار منابذين لهم حصلت الفتنة والفساد الكبير، فهذا هو التوحيد الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وكلف كل مكلف به، وليس هذا من الأمور التي فعلها مستحب ومن تركها لا لوم عليه، بل هذا أمر فرض على كل إنسان ولابد أن يعتقده ويعمل به.

الكفر بالطاغوت من أركان التوحيد

الكفر بالطاغوت من أركان التوحيد قال الشارح رحمه الله: [فإذا لم يحصل هذا الركن لم يكن موحداً، والتوحيد هو أساس الإيمان الذي تصلح به جميع الأعمال وتفسد بعدمه، كما أن ذلك بين في قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256]، وذلك أن التحاكم إلى الطاغوت إيمان به. وقوله: {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:60] يبين تعالى في هذه الآية أن التحاكم إلى الطاغوت مما يأمر به الشيطان ويزينه لمن أطاعه، ويبين أن ذلك مما أضل به الشيطان من أضله، وأكده بالمصدر، ووصفه بالبعد، فدل على أن ذلك من أعظم الضلال وأبعده عن الهدى. ففي الآية أربعة أمور: الأول: أنه من إرادة الشيطان. والثاني: أنه ضلال. والثالث: تأكيده بالمصدر. الرابع: وصفه بالبعد عن سبيل الحق والهدى. فسبحان الله! ما أعظم هذا القرآن وما أبلغه! وما أدله على أنه كلام رب العالمين أوحاه إلى رسوله الكريم، وبلغه عبده الصادق الأمين صلوات الله وسلامه عليهما.

التحاكم إلى الطاغوت من صفات المنافقين

التحاكم إلى الطاغوت من صفات المنافقين قال الشارح رحمه الله: [قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء:61] بين تعالى أن هذه صفة المنافقين، وأن من فعل ذلك أو طلبه وإن زعم أنه مؤمن فإنه في غاية البعد من الإيمان. قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: هذا دليل على أن من دعي إلى تحكيم الكتاب والسنة فأبى أنه من المنافقين. قوله: (ويصدون) لازم، وهو بمعنى (يعرضون)؛ لأن مصدره صدوداً]. أي: أنه لازم، ولو كان متعدياً لكان مصدره (صداً)، فإذا كان مصدره (صدوداً) دل على أنه لازم، يعني أن الصدود لازم لهم، أي أنهم هم الذين يصدون ولم يصدهم غيرهم، فهذا هو معنى كونه لازماً؛ لأن الصد وقع من أنفسهم ولم يقع عليهم من غيرهم؛ إذ لو كان واقعاً من غيرهم لكان متعدياً، وكان مصدره (صداً). قال الشارح رحمه الله: [فما أكثر من اتصف بهذا الوصف، خصوصاً ممن يدعي العلم، فإنهم صدوا عما توجبه الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إلى أقوال من يخطئ كثيراً ممن ينتسب إلى الأئمة الأربعة في تقليدهم من لا يجوز تقليده، واعتمادهم على قول من لا يجوز الاعتماد على قوله، ويجعلون قوله المخالف لنص الكتاب والسنة وقواعد الشريعة، هو المعتمد عندهم الذي لا تصح الفتوى إلا به، فصار المتبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم بين أولئك غريباً، كما تقدم التنبيه على هذا في الباب الذي قبل هذا. فتدبر هذه الآيات وما بعدها يتبين لك ما وقع فيه غالب الناس من الإعراض عن الحق وترك العمل به في أكثر الوقائع، والله المستعان].

معصية الله ورسوله فساد في الأرض

معصية الله ورسوله فساد في الأرض قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:11]]. هذه الآية يقصد بها أن معصية الرسول صلى الله عليه وسلم فساد، وأن صلاح الأرض في طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:11] يعني: بزعمهم، وهم في الواقع يفسدون في الأرض؛ لأنهم لا يطيعون الله ولا يطيعون رسوله، فكل معصية يعصى الله جل وعلا بها ويخالف الرسول صلى الله عليه وسلم فيها أمراً ونهياً، تكون من الفساد في الأرض، ومن ذلك أنهم يتحاكمون إلى غير الرسول صلى الله عليه وسلم، أو يريدون التحاكم إلى غيره، فإنه من الإفساد في الأرض، هذا هو وجه الاستدلال بالآية، فكل معصية وقعت من الناس فهي فساد في الأرض، وكل طاعة تكون من الصلاح، لأن الله أصلح الأرض بالرسالة، والذي يخالف ما جاء به الرسول يكون مفسداً، سواء أكان عالماً بأنه مفسد أم غير عالم فالفساد واقع. ولهذا فإن إخوة يوسف لما سمعوا المؤذن يقول: {أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ * قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ * قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف:70 - 72] قالوا بعد ذلك: {تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ} [يوسف:73]؛ لأن السرقة إفساد في الأرض، فكل معصية تقع من الناس فهي إفساد في الأرض، وكل طاعة -ولا تكون الطاعة إلا باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم- تكون إصلاحاً للأرض، فالله أصلح الأرض برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك رسالة الرسل قبله فإنها للإصلاح، ومخالفتها تكون إفساداً، ومن ذلك كون الإنسان يريد أن يفض النزاع وينهي الخلاف بشيء غير الوحي الذي جاء به الرسول بشخص أو غيره، فإنه يكون من الإفساد في الأرض. قال الشارح رحمه الله: [وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:11] قال أبو العالية في الآية: يعني: لا تعصوا في الأرض؛ لأن من عصى الله في الأرض أو أمر بمعصية الله فقد أفسد في الأرض؛ لأن صلاح الأرض والسماء إنما هو بطاعة الله ورسوله. وقد أخبر تعالى عن إخوة يوسف عليه السلام في قوله تعالى: {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ * قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ * قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} [يوسف:70 - 73] فدلت الآية على أن كل معصية فساد في الأرض]. وكذلك قصة شعيب عليه السلام بمحاجته قومه، فقد أمرهم بأن يوفوا الكيل والميزان ولا يطففوا، وقال لهم بعد ذلك: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} [الأعراف:56] وهذا يدل على أن تطفيف الميزان وعدم الوفاء به إفساد في الأرض، فدل ذلك على أن كل معصية تكون فساداً في الأرض. قال الشارح رحمه الله: [ومناسبة الآية للترجمة أن التحاكم إلى غير الله ورسوله من أعمال المنافقين، وهو من الفساد في الأرض. وفي الآية التنبيه على عدم الاغترار بأقوال أهل الأهواء وإن زخرفوها بالدعوى، وفيها التحذير من الاغترار بالرأي ما لم يقم على صحته دليل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم].

الباطل لا ينفق إلا بتحسين الهيئة والمنطق وقلب الحقائق

الباطل لا ينفق إلا بتحسين الهيئة والمنطق وقلب الحقائق وجه الاستنباط من الآية قولهم: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:11] في قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:11] فجعلوا الإفساد إصلاحاً، ولابد أن يحسنوا أعمالهم ويزينوها أمام الناس، وكذلك أقوالهم حتى يغتر بها من لا يعرف الواقع ويعرف الحقيقة. وهذا يفيدنا أنه ينبغي للإنسان أن يتفطن لأقوال الناس وأعمالهم ويعرف ويميز بين ما هو موافق للكتاب والسنة، وبين ما هو مخالف، فيقبل ما وافق الكتاب ويرد المخالف للكتاب والسنة، ولا يغتر بتزيين الكلام فإنه قد يراد به باطلاً، فقد يكون الإنسان ذو مقدرة على تحسين الكلام، وتزيينه، وإلباسه لباساً يستدعي الاستماع إليه، وقبوله، وهو في الواقع باطل. ولهذا يقول الله جل وعلا في سورة المنافقين: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون:4] يعني: أنهم لهم المرأى الحسن والمنظر الجميل والطلعة البهية واللباس الفاخر، فإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم -أي: مناظرهم- {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون:4] يعني أن عندهم بلاغة وفصاحة وبياناً يستطع أحدهم أن يلفت النظر إليه بهيئته، ويلفت الأسماع بقوله، وهؤلاء من أضر الخلق على الخلق، ولهذا حذر منهم جل وعلا، فقال: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون:4]، فأخبر أنهم هم العدو، وليس معنى ذلك أن العدو محصور فيهم، ولكن لشدة ضررهم وعداوتهم على المسلمين والإسلام حصر العداوة فيهم، وإلا فهناك أعداء غيرهم. قال الشارح رحمه الله: [فما أكثر من يصدق بالكذب ويكذب بالصدق إذا جاءه، وهذا من الفساد في الأرض، ويترتب عليه من الفساد أمور كثيرة تخرج صاحبها عن الحق وتدخله في الباطل، نسأل الله العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة. فتدبر تجد ذلك في حال الأكثر إلا من عصمه الله ومَنَّ عليه بقوة داعي الإيمان وأعطاه عقلاً كاملاً عند ورود الشهوات، وبصراً نافذاً عنده ورود الشبهات، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم]. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56]]. سبق أن المعاصي هي التي يقع بها الإفساد في الأرض، فكل معصية تكون فساداً، وإن كانت محصورة على المفسد نفسه؛ لأنه أفسد في نفسه، والأرض خلقها الله جل وعلا لتكون متاعاً لعابديه، ثم قال جل وعلا: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة:29]. والخطاب للمؤمنين الذين يؤمنون به، أما الذين يفسقون -والفسوق: الخروج عن الطاعة- فإنهم لا يستحقون أن يكونوا في أرض الله وفي ملك الله؛ لأنهم خرجوا عن طاعته، والله جل وعلا لا يفوته شيء، وإنما يمهلهم حتى يوافوه فيجازيهم بما يستحقون، فكل معصية وقعت في الأرض فهي من الفساد، ومعروف أن الفساد يتفاوت. وقوله: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} [الأعراف:56] المقصود بالإصلاح إصلاحها بالدعوة التي جاءت بها الرسل، وفي هذه الآية جعل الإفساد مطلقاً، فتبين بهذا أن كل خروج عن طاعة الله جل وعلا يكون فساداً في الأرض. والشاهد من الآية أن الخروج عن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وعدم تحكيمه في النزاع وغيره من الفساد في الأرض، بل هو من أعظم الفساد في الأرض، بل ربما يكون أصل الفساد في الأرض عدم الانقياد للأوامر التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم.

طاعة الله ورسوله إصلاح في الأرض ومعصيتهما فساد

طاعة الله ورسوله إصلاح في الأرض ومعصيتهما فساد قال الشارح رحمه الله تعالى: [قال أبو بكر بن عياش في الآية: إن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم إلى أهل الأرض وهم في فساد، فأصلحهم الله بمحمد صلى الله عليه وسلم، فمن دعا إلى خلاف ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فهو من المفسدين في الأرض. وقال ابن القيم رحمه الله: قال أكثر المفسرين: لا تفسدوا فيها بالمعاصي والدعاء إلى غير طاعة الله بعد إصلاح الله لها ببعث الرسل وبيان الشريعة والدعاء إلى طاعة الله. فإن عبادة غير الله، والدعوة إلى غيره، والشرك به هو أعظم فساد في الأرض، بل فساد الأرض في الحقيقة إنما هو بالشرك به ومخالفة أمره، فالشرك والدعوة إلى غير الله وإقامة معبود غيره ومطاع متبع غير رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أعظم فساد في الأرض، ولا صلاح لها ولا لأهلها إلا بأن يكون الله وحده هو المعبود المطاع، والدعوة له لا لغيره، والطاعة والإتباع لرسوله ليس إلا، وغيره إنما تجب طاعته إذا أمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا أمر بمعصيته وخلاف شريعته فلا سمع له ولا طاعة. ومن تدبر أحوال العالم وجد أن كل صلاح في الأرض سببه توحيد الله وعبادته وطاعة رسوله، وكل شر في العالم وفتنة وبلاء وقحط وتسليط عدو وغير ذلك فسببه مخالفة رسوله والدعوة إلى غير الله ورسوله. اهـ. ووجه مطابقة هذه الآية للترجمة أن التحاكم إلى غير الله ورسوله من أعظم ما يفسد الأرض من المعاصي، فلا صلاح لها إلا بتحكيم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو سبيل المؤمنين، كما قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115]]. معنى قوله: (نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى) يعني: نوكله إلى العمل الذي يعمله والشيء الذي يستند إليه، فإذا كانت المعصية فإنه يتمادى فيها حتى الموت؛ لأنه من جزاء المعصية: المعصية وبعدها، ومن جزاء الحسنة الحسنة وبعدها، وهذا في الغالب، وقد يتوب الله جل وعلا على من يشاء، فتوليته ما تولى إذا كان تولى هواه أو تولى شهواته، أو تولى مخلوقاً يطيعه في معصية الله فإنه يوكل إليه ويتخلى الله جل وعلا عنه. ومن وكل إلى مخلوق أو إلى نفسه فإنه يكون ضائعاً وهالكاً، وقوله: (ونصليه جهنم) هذا في الآخرة، فيولى ما تولى في الدنيا في حياته، ثم بعد موته يصلى جهنم، وهذا من أعظم الوعيد، نسأل الله العافية.

التحاكم إلى غير الله ورسوله تحاكم إلى الجاهلية

التحاكم إلى غير الله ورسوله تحاكم إلى الجاهلية قال المنصف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50]]. (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) يعني أن كل من طلب أن يتحاكم إلى غير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه يطلب حكم الجاهلية ويريده. والله جل علا قد أنزل كتابه حاكماً بين خلقه، وهو خير الحاكمين، وحكمه أحكم الأحكام وأعدلها وأقومها، فمن ابتغى غيره فإنه منتكس في عقله وفي دينه، واعتاض بالجاهلية عن العلم والإيمان والحق وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ويكون ضلال ذلك واضحاً لمن هداه الله جل وعلا وبصره. قال الشارح رحمه الله تعالى: [قال ابن كثير رحمه الله: ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله تعالى المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء، والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الجهالات والضلالات، كما يحكم به التتار من السياسات المأخوذة عن جنكيز خان الذي وضعه لهم (الياسق)، وهو عبارة عن كتاب أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية، وفيها كثير من الأحكام أخذها عن مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعاً يقدمونها على الحكم بالكتاب والسنة، ومن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم بسواه في قليل ولا كثير]. هذا يقوله الحافظ ابن كثير رحمه الله في وقته، في القرن الثامن الهجري، ولم يكن هناك في ذلك الوقت من الأحكام الوضعية والقوانين الوضعية التي وضعت واعتيض بها عن شرع لله جل وعلا في كثير من البلاد الإسلامية، وإنما هذا وقع من التتار، والذي وقع بعده أعظم مما فعله جنكيز خان وأتباعه بكثير؛ لأنهم جعلوا هذه القوانين حاكمة في البلاد بدل شرع الله مع علمهم أن لله شرعاً، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء به، وأن الله أوجب أن يحكم به. وهذا مبدأ ظهور ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من أن القرآن يرفع في آخر الزمان، فإنه إذا ترك العمل به واعتاض الناس عنه بغيره بآرائهم وأفكارهم وأوضاعهم وما يرونه يناسبهم مع قصور آرائهم -ولا شك أنها قاصرة- إذا اعتاضوا عنه بذلك فانه يرفع فيسرى عليه في ليلة واحدة فيرفع من المصاحف ثم من صدور الرجال فلا يبقى منه حرف واحد، ثم بعد ذلك على هؤلاء الذين رفع منهم القرآن تقوم الساعة، وهم شر خلق الله، كما جاء في صحيح مسلم: (شر الخلق الذين يتخذون القبور مساجد، ومن تقوم عليهم الساعة). وفيه أيضاً أنها تقوم الساعة إذا أصبح لا يقال في الأرض الله الله، وإنما يتهارجون تهارج الحمر، والمقصود أن هذا مبدأ الإعراض ومبدأ رفع القرآن؛ لأن القرآن نزل للعمل ولم ينزل ليتبرك به أو يداوى به المرضى، أو ليجعل في المساجد فقط، وإنما نزل ليكون حاكماً في شئون الناس كلها ويكون حاكماً في حياتهم، وإذا لم يكن كذلك فلا يكون الإنسان مسلماً الإسلام الذين ينجيه، وإنما يكون عاصياً يستحق عقاباً من الله جل وعلا، فلابد أن يحكم كتاب الله جل وعلا في جميع شئونه في الشيء الذي يخصه وفي الشيء الذي بينه وبين الخلق، سواء أكانوا قريبين أم بعيدين. فالواجب المتعين على كل فرد أن يكون الحاكم في نفسه وفيما شجر بينه وبين غيره هو كتاب الله جل وعلا، وهذا أمر لا يخفى وأمر واضح وجلي، ولكن الأمور الضرورية التي تعرف من الدين بالضرورة قد تخفى إذا كثر الباطل، وكثرة المجانبة لها فقد تخفى على بعض الناس.

حكم الله أحسن الأحكام

حكم الله أحسن الأحكام قال الشارح رحمه الله: [قوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] استفهام إنكار، أي: لا حكم أحسن من حكمه تعالى، وهذا من باب استعمال (أفعل) التفضيل فيما ليس له في الطرف الآخر مشارك، أي: ومن أعدل من الله حكماً لمن عقل عن الله شرعه وآمن وأيقن أنه تعالى أحكم الحاكمين، وأرحم بعباده من الوالدة بولدها، العليم بمصالح عباده، القادر على كل شيء، الحكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره؟ وفي الآية التحذير من حكم الجاهلية واختياره على حكم الله ورسوله، فمن فعل ذلك فقد عرض عن الأحسن -وهو الحق- إلى ضده من الباطل]. قوله: [من باب استعمال أفعل التفضيل فيما ليس له في الطرف الآخر مشارك]. يعني أن أفعل التفضيل إذا جاء في اللغة العربية فلابد أن يكون له مشارك يقابله، تقول: فلان أفضل من فلان ولابد أن يكون بينهما شيء من الاتصاف والعمل الذي يتصفون به ويعملون به، ولا يصح أن تقول: الإنسان أفضل من هذا الحجر. فلابد أن يكون الذي فضل عليه مشاركاً له في الأوصاف، وفي الأعمال، ومعلوم أن الإنسان لا يشارك الرب جل وعلا في حكمه، وفي علمه، وفي أحكامه، وفي عدله، وفي غير ذلك من صفاته وأفعاله، فقال: إنه استعمل فيما لا مقابل له؛ لأن هذا حكم الله. وهذا كثيراً ما يأتي، كقول الله جل وعلا: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل:59]، وليس هنا أحد ممن يعقل يقول: إن الأوثان نظير الله أو مماثلة لله جل وعلا، فضلاً عن أن يقول: إنها خير منه تعالى الله وتقدس. وكذلك قوله: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان:24]، فهل بين الجنة، وبين النار شيء من الاشتراك حتى يقال: إنها أفضل؟ وإنما هذا يستعمل في الشيء الذي لا يكون له مقابل يشاركه فيه، وهذا مثله. والمقصود أن هذا أسلوب جاء به القرآن، وهو أسلوب عربي، ويفهم من هذا الخطاب أن المقابل لا يشارك من فضل عليه بشيء. أما الجاهلية فهي كل ما خالف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، سواء أكان قبل مجيء الإسلام، أم بعده، ولا يلزم أن تكون سابقة، بل قد تكون الجاهلية اللاحقة أسوأ من الجاهلية السابقة.

شرح فتح المجيد [101]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [101] إن مذهب أهل السنة والجماعة في الإيمان أنه يتفاوت بين الناس، فمنهم من يكون إيمانه كاملاً، ومنهم من يكون إيمانه ناقصاً، والإيمان المطلق هو الإيمان الكامل الذي لا يطلق إلا على من أتى بالواجبات وترك المنهيات، مع ما قام في قلبه من معرفة الله جل وعلا وتعظيمه وخوفه والذل له. ومن كان هواه خلاف ما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم فلن يكون من أهل الإيمان الكامل، وإنما يكون في درجة أهل الإساءة والمعاصي من أهل الإسلام.

الكلام على حديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به)

الكلام على حديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) قال المصنف رحمه الله تعالى: [عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أن سول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) قال النووي: حديث صحيح، رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح]. هكذا قال النووي رحمه الله: إنه حديث صحيح، وقوله (رويناه في كتاب الحجة) الحجة هو: كتاب (الحجة على تارك المحجة) لـ أبي نصر الشافعي رحمه الله، وهو كتاب متداول معروف، وموضوعه في بيان العقائد على طريقة المحدثين. ومعنى قوله: (رويناه) أنه روى الكتاب عن مشايخه بسنده إلى المؤلف، وكل ما فيه يكون مروياً بهذه الطريقة، وهكذا الكتب التي يرويها العلماء بهذا المعنى، وهذا الحديث جعله النووي رحمه الله في كتابه (الأربعون النووية) الذي اشترط أنه لا يدخل فيه إلا حديثاً صحيحاً. فجمع أربعين حديثاً يدور عليها دين الإسلام، ولكن الحافظ ابن رجب رحمه الله في شرحه لهذا الحديث قال: تصحيحه بعيد جداً يعني: كون الحديث صحيحاً بعيد جداً من وجوه، ثم ذكر الوجوه التي فيها ضعفه وأن الحديث ضعيف فضعفه، ومعلوم أن العلماء تختلف أنظارهم في مثل هذا، فقد يصحح عالم من علماء الحديث، ويأتي غيره ويضعفه، وقد يكون العكس، وهذا حسب الاجتهاد. ولكن الحديث معناه صحيح؛ لأن القرآن دل على ذلك، كما قال الله جل وعلا: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] يعني: أنه لابد أن يكون المؤمن متبعاً أمر الله جل وعلا، ولابد أن يكون الاتباع ليس عن طريق المجاملة، أو طريق الموافقة بل لابد أن يكون عن طريق الاتباع والحب والإرادة وطلب الثواب والهرب من العذاب لابد أن يكون بهذا المعنى، وإلا فلا يفيد، ويقول الله جل وعلا: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] فأخبر الرب جل وعلا أنه لا يحصل لأحدهم الإيمان حتى يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في الشجار الذي يحصل بينه وبين غيره. ومن ذلك الشجار مع نفسه، كونه يكون عنده تردد أو شك أو ريب، فلابد أن يحكم كتاب الله الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم مجرد التحكيم لا يكفي في الإيمان بل لابد أن يسلم، والتسليم معناه: ألا تكون هناك منازعة، وألا يكون هناك طلب لحكم غير الرسول صلى الله عليه وسلم. ثم أيضاً لابد من الرضا بهذا، ولهذا قال: {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا} [النساء:65] يعني: ما يكون في نفسه ضيق من هذا، فيتمنى أن يكون الحكم على خلاف ما هو عليه، بل لابد أن يرضى به، وهذا معنى أن يكون هواه تبعاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فالرضا بأحكام الرسول صلى الله عليه وسلم متعين، وهذا الحديث يتفق مع مثل هذه الآية والآيات في هذا كثيرة. قال الشارح رحمه الله تعالى: [هذا الحديث رواه الشيخ أبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي الشافعي في كتاب (الحجة على تارك المحجة) بإسناد صحيح، كما قاله المصنف رحمه الله عن النووي. ورواه الطبراني وأبو بكر بن عاصم والحافظ أبو نعيم في (الأربعين) التي شرط لها أن تكون من صحيح الأخبار، وشاهده في القرآن قوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65]. وقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]، وقوله: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص:50] ونحو هذه الآيات]. وكذلك قوله جل وعلا: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:9] فكراهة ما أنزل الله جل وعلا محبطة للعمل، ومعنى ذلك أنه لابد من الرضا به، ويرتبط به ويصبح ارتباطه به أكثر من ارتباطه بكل شيء، ولابد من هذا، والآيات في هذا كثيرة. قال الشارح رحمه الله: [قوله: (لا يؤمن أحدكم) أي: لا يكون من أهل كمال الإيمان الواجب الذي وعد الله أهله عليه بدخول الجنة والنجاة من النار، وقد يكون في درجة أهل الإساءة والمعاصي من أهل الإسلام]. يعني أن الإيمان الذي يجب أن يكون كاملاً هو الإيمان الواجب على كل أحد، وهو الإيمان الذي يدعو الإنسان للانقياد لأمر الله، والانتهاء عن نهيه، ويكون راغباً في ذلك وراهباً، فهذا إذا كان بهذه المنزلة كان إيمانه كاملاً، فيصبح ليس عليه خوف فيما يستقبله، ولا يخاف أن يقع في العذاب. أما إذا انتقص مما وجب عليه من الإيمان الذي يقتضي فعل المأمور، وترك المحظور المنهي عنه المحرم انتقص من ذلك شيئاً فقد انتقص من الإيمان، أو انتقص من مقتضاه، ومقتضاه أنه يفعل ما أمر به وينتهي عما نهي عنه فقد يرتكب منهياً عنه وقد يترك واجباً عليه، فيكون عاصياً بذلك، ويكون إيمانه ناقصاً؛ لأنه ترك الإيمان الواجب الكامل الذي ينجو به، ويأمن به من العذاب، ويبقى معه مطلق الإيمان الذي يجعله مسلماً ولا يخرج من دائرة الإسلام، ولكنه يكون من أهل الوعيد، أي: ممن يعرض للعذاب، سواء في الدنيا أو في الآخرة، وقد يكون عذاب الدنيا غير كاف، فيعذب في الآخرة.

الذنوب سبب للمصائب

الذنوب سبب للمصائب معلوم أن كل ما يصيب الإنسان من ألم وعذاب في حياته، وبعد موته هو من جراء فعله، وبسبب ذنوبه، وإلا فلو أطاع الله وأطاع رسوله صلى الله عليه وسلم لم يصبه إلا ألم الموت ومرض الموت الذي لابد منه، والذي كتب عليه؛ لأن الله جل وعلا يقول: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]. ويقول جل وعلا في آية أخرى: {لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ} [الكهف:58]. وفي آية أخرى: {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر:45] يعني: إذا أخذهم بذنوبهم ما بقي على الأرض حي إلا أهلكه، ولكن سعة حلمه وعدم تعجيله بالعقاب يبقيهم وإن كانوا يعصونه، بل ويعافيهم ويرزقهم. ولهذا ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله؛ يجعلون له ولداً ويعافيهم ويرزقهم). يعني الكفار الذين ينسبون الولد لله جل وعلا، وهذا غاية المسبة وغاية التنقص لله جل وعلا، حيث جعلوه نظيرهم، تعالى الله وتقدس عن قول الظالمين والمشركين. والمقصود أن الإنسان لو أطاع الله الطاعة الواجبة عليه لسلم من المؤاخذات ومن تسليط العدو، ومن المصائب التي تصيبه، إلا أن مقتضى حكمة الله جل وعلا أن جعلهم يذنبون، ثم منهم من يتمادى في ذنوبه ويأتي العصيان كاملاً، ومنهم من يكون عنده شيء من الإيمان لا يخرج به عن كونه من جملة المؤمنين، ولكنه يكون معذباً بحسب ما ترك من الواجب وما فعل من المحرمات. وهذا هو مذهب أهل السنة، أن الإيمان يتفاوت بين الناس، فمنهم من يكون إيمانه كاملاً، ومنهم من يكون إيمانه ناقصاً، والإيمان المطلق هو الإيمان الكامل، ولا يطلق الإيمان الكامل فيقال: (المؤمن فلان)، إلا لمن كمل في فعل الواجبات واجتنب فعل المنكرات مع ما قام بنفسه وفي قلبه من معرفة الله جل وعلا، وتعظيمه، وخوفه والذل له. وإذا انتقص من ذلك شيئاً فإنه ينقص من الإيمان الواجب الذي عليه فيكون إيمانه ناقصاً، ولا يجوز أن يطلق عليه الإيمان المطلق، بل يقال: مؤمن عاص، فلابد أن يقيد فيقال: مؤمن عاص، أو يقال: مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته ولهذا ثبت في الصحيحين أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزني الزاني حين يزني، وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن). ومعلوم أن الزاني والسارق لا يخرجان من دائرة الإيمان، ولكن الإيمان الذي نفي عنهما هو الإيمان الكامل أي: الواجب الذي يتعين عليه أن يفعله حتى يمتنع من ارتكاب المحرمات، فترك ذلك فترتب على ذلك أنه من أهل الوعيد، أي: ممن يستحق العذاب إلا أن يعفو الله جل وعلا عنه، ولكنه لا يخرج بفعله هذا عن مطلق الإيمان، ولا يخرج من دائرة الإيمان، بل يبقى معه إيمان يبقيه مسلماً، والإيمان يتجزأ فيكون الإنسان عنده جزء منه، وآخر عنده أكبر منه، والآخر يكون عنده إيمان كامل، وهكذا.

ضلال أهل البدع في باب الإيمان

ضلال أهل البدع في باب الإيمان أما أهل البدع فأنهم ما استطاعوا أن يستوعبوا هذا وقالوا: الشيء الذي يتجزأ إذا ذهب جزؤه ذهب كله، فإذاً إذا وقع شيء من مقتضيات الكفر يكون كافراً، مثل فعل الزنا والسرقة وشرب الخمر وغيرها، فجعلوه كافراً بارتكاب الكبيرة، وهؤلاء هم الخوارج الذين خرجوا عن الحق إلى الباطل، فأخرجوا المسلمين العصاة من الدين الإسلامي وجعلوهم كفرة، وحكموا عليهم بأنهم يجب أن يقتلوا وتسلب أموالهم، وإذا ماتوا كانوا في النار خالدين فيها، هذا هو مذهبهم الذي يعملون به. فصاروا يقتلون المسلمين ويدعون الكافرين، ولا يوجد أحد من الخوارج قاتل الكافرين، وإنما قاتلوا المسلمين، أما إخوانهم من أهل البدع كالمعتزلة فإنهم خالفوهم في التسمية. قالوا: لا نسميه كافراً، كما أننا لا نسميه مؤمناً أي: أن الإنسان إذا شرب الخمر فقد خرج من الإيمان ولكنه لم يدخل في الكفر، فصار بين الإيمان والكفر، وهذا شيء استحدثوه ولم يسبقوا إليه، وجعلوا هذا أصلاً من أصول دين الإسلام عندهم، فقالوا: الدين الإسلامي مبني على خمسة أركان هذا أحدها، وهو المنزلة بين المنزلتين، وهذه الأركان مخالفة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. أما بعد الموت فإنهم وافقوا إخوانهم الخوارج فقالوا: إذا مات فهو في النار خالداً فيها لا تنفعه شفاعة الشافعين. إذاً فما الفائدة من هذه التفرقة في الاسم وقد وافقوا الخوارج في الحكم في الآخرة، وخالفوهم في التسمية فقط، وكذلك الحكم عليه بأنه كافر في الدنيا، وهذا كله مخالف لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو خروج عن الكتاب والسنة، وهذه الأقوال من الفساد بل من أعظم الفساد في الأرض. ولهذا ترتب على ذلك القتال والخلاف والمنابذة والمعاداة، بل وقعت حروب كلامية بين أهل السنة وبين هؤلاء من المعتزلة ومن نحا نحوهم، فأضعفت المسلمين، وذهبت بريحهم، وسلطت عليهم الأعداء، ولا يزالون في آثار ذلك من جراء هذا، فهذا من أعظم الفساد في الأرض، نسأل الله العافية.

المعاصي تذهب كمال الإيمان الواجب

المعاصي تذهب كمال الإيمان الواجب قال الشارح رحمه الله: [قوله: (حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) الهوى -بالقصر- أي: ما يهواه وتحبه نفسه وتميل إليه. فإن كان الذي تحبه وتميل إليه نفسه ويعمل به تابعاً لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخرج عنه إلى ما يخالفه فهذه صفة أهل الإيمان المطلق، وإن كان بخلاف ذلك. أو في بعض أحواله أو أكثرها انتفى عنه من الإيمان كماله الواجب، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن). يعني أنه بالمعصية ينتفي كمال الإيمان الواجب، وينزل عنه إلى درجة الإسلام، وينقص إيمانه فلا يطلق عليه الإيمان إلا بقيد المعصية، أو الفسوق، فيقال: مؤمن عاصٍ، أو يقال: مؤمن بإيمانه فاسق بمعصيته، فيكون معه مطلق الإيمان الذي لا يصح إسلامه إلا به، كما قال تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92]. والأدلة على ما عليه سلف الأمة وأئمتها أن الإيمان قول وعمل ونية يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تحصر. ومن ذلك قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] أي: صلاتكم إلى بيت المقدس قبل تحويل القبلة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس: (آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ شهادة أن لا إله إلا الله) الحديث وهو وفي الصحيحين والسنن]. بيان هذا: أن الإيمان مركب من أمور ثلاثة، وليس الإيمان جزءاً كما تزعمه المرجئة ومن نحا نحوهم من أهل البدع، وأنه مجرد التصديق أو القول وما أشبه ذلك، أو أنه إذا ذهب بعضه ذهب كله، فلا زيادة ولا نقصان، فهذا باطل، بنص كلام الله جل وعلا؛ فإنه أخبر جل وعلا أن المؤمنين {إِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال:2] {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا} [الفتح:4]، {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر:31] في آيات كثيرة متعددة. وهذا شأن أهل البدع يتركون النصوص الجلية الواضحة التي لا إشكال فيها، ويتعلقون بما يوافق أهواءهم من المتشابه، ويتركون الواضح، وقد حذرنا الله جل وعلا ورسوله منهم، فأخبر أنه أنزل الكتاب، وأن الكتاب يشتمل على آيات محكمات وأخر متشابهات، فقال: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ} [آل عمران:7]، يعني: يتبعون المتشابه طالبين الفتنة التي وقعوا فيها وهي الانحراف، ثم يؤولونه ويحرفونه بالتأويل الذي يتفق مع مرادهم، ومن فعل ذلك لا يكون راضياً بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، بل يكون غير راض به، ويكون متبعاً لمراده وهواه. وهذا قد يكون خارجاً عن دين الإسلام -نسأل الله العافية-؛ لأنه لم يرض بحكم الله، ولم يتابع الرسول صلى الله عليه وسلم، فالإيمان يكون في القلب، ويكون في اللسان يكون بالعمل بالأعمال. أما القلب فلابد أن يعلم الإنسان يقيناً أن الله ربه وإلهه، وأنه لا يستحق العبادة غيره، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول الحق جاء من عند الله بالهدى، وأن ما جاء به هو الذي ينجي من اتبعه، ومن لم يتبعه فهو ضال وهالك.

التلازم بين إيمان القلب ونطق اللسان وعمل الجوارح والأركان

التلازم بين إيمان القلب ونطق اللسان وعمل الجوارح والأركان وكذلك لابد أن يقول: (لا إله إلا الله، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم) فلابد أن يشهد بهذا، وهذا قول اللسان، وقد اتفق العلماء على أن الإنسان لو علم في قلبه، وأيقن في قلبه أن الله الإله الحق، وأنه هو القهار المتفرد في كل شيء، وأنه هو الذي يجب أن يعبد ولا يجوز أن يعبد غيره، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حق جاء بالرسالة من عند اللهـ لو علم الإنسان هذا يقيناً في قلبه، ولم ينطق بالشهادتين -شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله- ومات على ذلك فهو خالد في النار وكافر بالله جل وعلا وبرسوله، فلابد من النطق بالشهادتين، وهذا اتفق عليه العلماء وقد نقل إجماعهم النووي رحمه الله وغيره. وكذلك اتفقوا على أن الإنسان لو قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان هذا العلم يقيناً، ثم أحجم عن العمل فلم يصل، ولم يؤد الزكاة الواجبة عليه، ولم يصم، ولم يفعل الأفعال فإنه يكون كافراً وليس بمسلم، فإذاً لابد من اجتماع الأمور الثلاثة: أن يعلم في قلبه، ويوقن، وأن ينطق بلسانه بالشهادتين، وأن يعمل بجوارحه فيقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويصوم رمضان، وهذا هو معنى قولهم: إن الإيمان مركب من أمور ثلاثة: من عقيدة القلب، ومن قول اللسان ونطقه، ومن عمل الأركان وعمل الجوارح من الصلاة والصوم والزكاة والحج وغيرها مما أوجبه الله جل وعلا. وكل هذه الوجوه إيمان، فدل هذا على أن الأعمال داخلة في الإيمان، وأنها تسمى إيماناً، ثم ذكر الدليل، والأدلة كثيرة جداً كما قال، ومنها قوله جل وعلا: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] يعني: صلاتكم والآية في نقل التوجه بالصلاة إلى الشام نحو بيت المقدس إلى مكة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما كان في مكة كان يتجه إلى الشام، ويجعل الكعبة أمامه ويصلي، ولكن لما جاء إلى المدينة لا يمكنه أن يفعل ذلك، فكان يستدبر الكعبة ويستقبل الشام، فبقي على هذا ما يقرب من ستة عشرة شهراً، أو ثمانية عشر شهراً، وهو يرجو من ربه أن يصرفه إلى قبلة إبراهيم، ولكنه لم يفعل إلا ما أمره الله جل وعلا به، فنزلت آيات كثيرة، وفيها توطئة بأن لله المشرق والمغرب، وأن المتوجه أينما توجه فإنه ثم وجه لله، فأينما يمم بالصلاة فثم وجه الله. يعني أن الله جل وعلا محيط بكل شيء، ثم نزل التصريح: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة:144]، وأخبر أن اليهود يعرفون أن هذا هو الحق، وأنه جاء من عند الله؛ لأن عندهم في كتابهم أن قبلة هذا النبي هي قبلة إبراهيم الكعبة، ولما نزلت هذه الآية والآيات التي بعدها قال الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم: كيف بصلاتنا التي صليناها إلى بيت المقدس؟ أي: هل بطلت؟ فأنزل الله جل وعلا: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143]. يعني: صلاتكم التي صليتموها إلى بيت المقدس فهذا واضح في أن الصلاة تسمى إيماناً، وكذلك الحديث الذي ذكر من حديث وفد عبد القيس، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (آمركم بالإيمان، أتدرون ما الإيمان؟ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وأن تؤتوا الخمس من المغنم) فذكر هذا الشيء، وهذا واضح جلي بأن القول والعمل داخل في الإيمان، والأدلة على هذا كثيرة جداً، والمخالف في هذا ليس عنده دليل إلا مجرد الأوهام، فالذي يذهب إليه أهل السنة أن الإيمان مركب من أمور ثلاثة: من العقيدة والعلم، ومن القول والنطق، والعمل، وأنه يزيد وينقص، فإذا عمل الإنسان وكثر عمله زاد إيمانه، والزيادة ليست في العمل فقط، فقد تكون الزيادة في اليقين، فقد يكون الإنسان في وقت أكثر يقيناً منه في وقت آخر، وكذلك القول قد يكون القول مطابقاً لما في القلب ومطابقاً لما في الواقع، وقد يكون مجرد قول قاله ولم يعرف معناه، ومعلوم أن مثل هذا يتفاوت، وكذلك الأعمال تتفاوت، فالزيادة والنقص في الجميع، في العلم وفي القول وفي العمل.

زيادة الإيمان ونقصانه

زيادة الإيمان ونقصانه وزيادة الإيمان جاءت في كتاب الله في مواضع كثيرة صريحة، وأن كل ما أنزل الله جل وعلا شيئاً ازداد الذين آمنوا إيماناً، ولكن النقص هل جاء صريحاً؟ الواقع أنه جاء شبه الصريح، ومن ذلك قوله جل وعلا: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]. ومعلوم أن الذي كمل كان قبل الكمال ناقصاً، ولهذا استدل البخاري رحمه الله في صحيحه بهذه الآية على نقصان الإيمان وأنه ينقص، ولا يلزم من هذا أن الصحابة الذين كانوا قبل نزول هذه الآية كانوا ناقصي الإيمان؛ لأنهم آمنوا بما وجب عليهم. ولأن نفس الدين الذي هو الإيمان ما كمل، ومعلوم أن الذي يأخذه كله ليس كالذي يأخذ بعضه، وكذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم الذي في الصحيح وهو يخاطب النساء: (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن) خاطبهن بأنهن ناقصات عقل ودين، وكذلك في الحديث الآخر لما خطب النساء صلوات الله وسلامه عليه وأمرهن بالصدقة قال: (إني رأيتكن أكثر أهل النار، فقامت امرأة وقالت: لماذا نحن أكثر أهل النار؟ فقال: لأنكن ناقصات عقل ودين، أما نقصان العقل فشهادة امرأتين بشهادة رجل، وأما نقصان الدين فإن إحداكن تبقى شطر الدهر لا تصلي) يعني: زمن العادة. وإن كان هذا بغير اختيارها، ولكن هذا دليل على أن الذي يعمل أكثر يكون إيمانه أكمل، فهو دليل على نقصان الدين، وإلا فليس واجباً عليها أن تصلي في وقت العادة. فالمقصود أن هذا نقص من الإيمان؛ لأن كل ما قبل الزيادة فهو يقبل النقص، فكل شيء يقبل الزيادة بمقتضى العقل فإنه يقبل النقص. فالأدلة التي تدل على زيادة الإيمان هي دليل على نقصانه، فيكون الذي لم يزدد إيماناً يكون ناقصاً.

ذكر بعض الأدلة على زيادة الإيمان

ذكر بعض الأدلة على زيادة الإيمان قال الشارح رحمه الله: [والدليل على أن الإيمان يزيد قوله تعالى: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر:31]، وقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [التوبة:124] خلافاً لمن قال: إن الإيمان هو القول -وهم المرجئة-، ولمن قال: إن الإيمان هو التصديق، كالأشاعرة. ومن المعلوم عقلاً وشرعاً أن نية الحق تصديق، والعمل به تصديق، وقول العقل تصديق، وليس مع أهل البدع ما ينافي قول أهل السنة والجماعة، ولله الحمد والمنة. قال الله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا} [البقرة:177] أي: فيما عملوا به في هذه الآية من الأعمال الظاهرة والباطنة، وشاهده في كلام العرب قولهم: حملة صادقة]. يعني أن هذه الأمور المذكورة في الآية كلها إيمان، والبر والتقوى والإحسان والإيمان كلها مترادفة، فبعضها يدل على بعض، وقوله: (لَيْسَ الْبِرَّ) يعني: الإيمان، (أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) إلى آخر الآيات، فجعل المجموع هو البر. وكذلك قال جل وعلا: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ} [البقرة:285] إلى آخر الآية. والآيات في هذا كثيرة، وكلها تجعل الأعمال إيماناً، ولم يأتِ في كتاب الله -في الغالب الكثير- ذكر الإيمان أو ذكر (الذين آمنوا) إلا ويقرن بالعمل الصالح لقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:25]، فلابد من التصديق، وإذا قيل: إن التصديق هو الإيمان فلابد من العمل معه، فمجرد التصديق لا يكفي ولا يفي، ولا يجعل مجرد التصديق الإنسان مؤمناً. والأشاعرة ونحوهم الذين قالوا: إن الإيمان هو التصديق استدلوا بقوله تعالى في قصة يوسف: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف:17] يعني: بمصدق قولنا. فقالوا: دلت الآية على أن الإيمان هو التصديق، ولكن لو قدر أن هذا صحيح وسلم لهم أن التصديق يسمى إيماناً فيقال: إن كان هذا الإيمان في اللغة فليس هذا هو الإيمان الشرعي الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه جاء بوجوب القول ووجوب العمل، وهو كله إيمان، والأمر في هذا لا إشكال فيه، ولكن إذا كان الإنسان له هوى أو كان مقيداً بمذهب معين لا يريد الخروج عنه فإن هذا هو الذي يمنعه من اتباع الحق، فيجعل ذلك عقبات أمامه.

وجوب محبة الله جل وعلا ومحبة شرعه، وبغض ما نهى عنه

وجوب محبة الله جل وعلا ومحبة شرعه، وبغض ما نهى عنه قال الشارح رحمه الله تعالى: [وقد سمى الله تعالى الهوى المخالف لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم إلهاً فقال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:43] قال بعض المفسرين: لا يهوى شيئاً إلا ركبه. قال ابن رجب رحمه الله: أما معنى الحديث، فهو أن الإنسان لا يكون مؤمناً كامل الإيمان الواجب حتى تكون محبته تابعةً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأوامر والنواهي وغيرها، فيحب ما أُمر به، ويكره ما نُهي عنه، وقد ورد القرآن بمثل هذا المعنى في غير موضع، وذم سبحانه من كره ما أحبه الله أو أحب ما كره الله، كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:28]. فالواجب على كل مؤمنٍ أن يحب ما أحبه الله محبة توجب له الإتيان بما أوجب عليه منه، فإن زادت المحبة حتى أتى بما نُدب إليه منه كان ذلك فضلاً، وأن يكره ما يكره الله كراهة توجب له الكف عما حرم عليه منه، فإن زادت الكرهة حتى أوجبت الكف عما كرهه تنزيهاً كان ذلك فضلاً. فمن أحب الله ورسوله محبة صادقة من قلبه أوجب ذلك له أن يحب بقلبه ما يحب الله ورسوله، ويكره ما يكره الله ورسوله، فيرضى بما يرضى به الله ورسوله ويسخط ما يسخط الله ورسوله، ويعمل بجوارحه بمقتضى هذا الحب والبغض، فإن عمل بجوارحه شيئاً يخالف ذلك بأن ارتكب بعض ما يكرهه الله ورسوله وترك ما يحب الله ورسوله، مع وجوبه والقدرة عليه دل ذلك على نقص محبته الواجبة، فعليه أن يتوب من ذلك، ويرجع إلى تكميل المحبة الواجبة التي هي ركن العبادة إذا كملت، فجميع المعاصي تنشأ عن تقديم هوى النفس على محبة الله ورسوله]. محبة الله جل وعلا هي عبادته، ومحبته هي محبة ذل وخضوع واستكانة وتعظيم، وهذا لا يجوز أن يكون لمخلوق؛ لأن هذا هو التأله الذي بنيت عليه العبادة، وأنه هو إله الخلق، وهنا إذا كملت المحبة هذه وتمت صار يحب أمره، ويحب أن يبتعد عن نهيه، وكل ما أحبه الله جل وعلا من العباد الذين يعبدون الله ويحبونه يحبهم من أجل الله، ويحبهم في الله. وكذلك من خالف ذلك فهو يبغضه لله، وبهذا تكمل العبادة، وليس هذا من الأمور التي تكون مستحبه إذا فعلها الإنسان أثيب على فعلها وإن لم يفعلها لم يعاقب، بل هذا أمر لازم لابد منه، فلابد أن يحب الله جل وعلا ويحب رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن محبته من محبة الله جل وعلا، فيحبه لأن الله أحبه، وأمر بمحبته، ولأنه هو الذي جاء ببيان وجوب محبة الله جل وعلا ودل عليه. وكذلك عباد الله الذين يحبهم الله من الملائكة والرسل وبني آدم، وفي مقابل ذلك يبغض من يبغضهم الله ورسوله، لهذا يقول الله جل وعلا: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:98] فمن عادى أولياء الله فإنه يعادي الله جل وعلا، ولهذا جاء في الحديث الصحيح: (من عادى لي ولياءً فقد آذنته بالحرب) أي: بالمحاربة ومن الذي يقوم لمحاربة الله جل وعلا. والمقصود: أن الذي يُحب للذل والخضوع ويُحب لذاته هو الله جل وعلا وحده، أما المخلوقات فتحب للصفات التي فيها، فالمخلوق يُحب لما يتصف به من محبة الله وطاعته فقط، ولا يحب لأنه لحم ودم ولأنه على هذا الشكل، وإنما يُحب لما يتصف به، وإنما الذي يُحب لذاته هو الله وحده، ولا يشاركه في ذلك شيء، فيجب أن يُحب الحب الذي يكون خاصاً به، ولا يُشارك في حبه نبي ولا ولي؛ فإن حبه حب عبادة، أما حب العباد فهو حب لأنهم يحبون الله ويقومون بأمره، ويجتنبون نهيه، فهو حب لله وفي الله، فكل مخلوق إذا كان يُحب الله ويقوم بأمره فهو يُحب لله وفي الله، ولا يحب لذاته، وإنما الذي يحب لذاته هو الله وحده فقط. وفي هذا الحديث يقول: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) يعني: لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به، هنا نفى الإيمان، والإيمان المنفي هنا ليس هو الإيمان من أصله؛ لأن هذا يوجد في أهل المعاصي الذين يرتكبون المعاصي ويحبون المعصية، ولولا أنهم يحبون المعصية ما ارتكبوها، وكذلك منهم من يكره نوعاً من الكراهة فعل الطاعة وتثقل عليه، ومع ذلك لا يكون بهذا خارجاً من الدين الإسلامي، بل عنده شيء من الإيمان يصح به إسلامه؛ لأنه يؤمن بالله أنه هو الذي خلقه، وهو الذي إليه مصيره، وهو الذي كلفه بالعبادة، ولكنه يتساهل، فمثل هذا ناقص الإيمان، وقد ترك من الإيمان ما هو واجب عليه، فيعاقب على تركه إن لم يتب من ذلك ويرجع إلى ربه عوقب على هذا الترك، وإنما يستكمل الإنسان الإيمان إذا كان يحب الطاعات، وتكون هذه موافقة لما في نفسه، فلا يكون عنده تضجر ولا إباء، ولا عنده أيضاً تردد في ذلك أو كرهيه له، بل يرى أن الطاعة فيها سعادته، بل هي أحب إليه من الأكل والشرب، ويكون فيها قرة عينه، فإذا كان كذلك فقد استكمل الإيمان، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (وجعلت قرة عيني في الصلاة)، فقرة عينه صلوات الله وسلامه عليه كانت في الصلاة، والذي يكون له نصيب من اتباعه لابد أن يرث شيئاً من ذلك، والإنسان قد يكون مستقلاً وقد يكون مستكثراً. وكذلك يكون كارهاً ومبغضاً لما نهى الله عنه من المعاصي، وتزداد الكراهة كلما عظمت المعصية، حتى إذا وصل الأمر إلى الكفر يود أنه تُمزق أشلاؤه ويُحرق في النار ولا يدخل في الكفر، فإذا كان كذلك فإن هذا من تمام الإيمان ومن كماله الواجب الذي يجب أن يفعله الإنسان، وإذا رأيت الإنسان يرتكب المعاصي ويتهاون بالطاعات والأوامر فهو ناقص الإيمان، وليس عنده الإيمان الذي يجب أن يحمله على الفعل أو الترك، ولهذا جاء في الحديث: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم وهو مؤمن). فقوله: (وهو مؤمن) هنا الواو حالية، يعني: حالة كونه يفعل هذه الأفعال يكون ليس مؤمناً. وليس معنى هذا أنه يكون كافراً، لا، ولكن ليس عنده الإيمان الكامل الذي يمنعه من ارتكاب هذه الجرائم؛ لأن الإيمان الكامل يمنع الإنسان أن يفعل هذه الأفعال، فإذا نقص إيمانه صح أن ينفى عنه الإيمان، فإذا ذهب ركن أو جزء من الإيمان الواجب صح أن ينفى عنه، كما يقال: لا صلاة لمن لم يتوضأ، فيصح هنا نفي الصلاة، وكذلك: لا صلاة لمن لم يقم صلبه في الصلاة؛ لأن إقامة الصلب ركن من إقامة الصلاة، فهذا هو المذهب الذي عليه أهل السنة، خلافاً للخوارج الذين يأخذون بظاهر مثل هذه النصوص، ويطبقونها على المسلمين، ويجعلونهم كفاراً خارجين من الدين الإسلامي، وهذا ضلال ظاهر؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما زنت المرأة رجمها وصلى عليها. وكذلك لما شتم إنسان أو سب شارب الخمر نهاه عن ذلك وقال: (إنه يحب الله ورسوله)، والله جل وعلا يقول في القاتل الذي يقتل مسلماً: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:178]، فسماه أخاً، يعني أن القاتل أخ للمقتول، وهذه الأخوة ليست أخوة النسب، وإنما هي أخوة في الإيمان. والنصوص في هذا كثيرة، ومعلوم أن أقوال الله جل وعلا وأخبار الرسول صلى الله عليه وسلم وأقواله لا تتضارب، ولا يناقض بعضها بعضاً، بل يجب أن يجمع بينها، وأن يصدق بعضها بعضاً، كما فعله أهل السنة، خلافاً للخوارج والمعتزلة وغيرهم من أهل البدع.

وجوب بغض المشركين وتحريم موالاتهم

وجوب بغض المشركين وتحريم موالاتهم قال الشارح رحمه الله: [وقد وصف الله المشركين باتباع الهوى في مواضع في كتابه، فقال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص:50]. وكذلك البدع إنما تنشأ من تقديم الهوى على الشرع، ولهذا سمي أهلها أهل الأهواء، وكذلك المعاصي إنما تنشأ من تقديم الهوى على محبة الله ومحبة ما يحبه، وكذلك حب الأشخاص الواجب فيه أن يكون تبعاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ويجب على المؤمن محبة من يحبه الله من الملائكة والرسل والأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين عموماً، ولهذا كان من علامات وجود حلاوة الإيمان أن يحب المرء لا يحب إلا لله، فتحرم موالاة أعداء الله ومن يكرههم الله عموماً، وبهذا يكون الدين كله لله، ومن أحب لله وأبغض لله، وأعطى لله ومنع لله، فقد استكمل الإيمان، ومن كان حبه وبغضه وعطاؤه ومنعه لهوى نفسه، كان ذلك نقصاً في إيمانه الواجب، فتجب التوبة من ذلك. انتهى ملخصاً]. بغض أعداء الله من واجبات الإيمان، وليس بغضهم فقط هو بغض في النفس، بل بغضهم ومعاداتهم وإظهار ذلك لهم لابد منه، كما قال الله جل وعلا: {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51]. ويقول جل وعلا: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22]. ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1]. وفي آيات كثيرة جداً ينهى الله عز وجل عن موالاتهم، وعن مودتهم وعن توليهم، بل نهى عن الركون إليهم، وأن من ركن إليهم تمسه النار ولو قليلاً، بل نهى رسوله صلى الله عليه وسلم عن الركون إلى ذلك وتوعد عليه، وهذا أمر من لوازم الدين الإسلامي. وكذلك المبادأة لهم بالعداوة، كما قال الله جل وعلا: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَه} [الممتحنة:4]. وهل المراد هنا أنهم صارحوا قومهم وواجهوهم بالقول وأظهروه لهم، أو أنهم قالوا: (نبغضكم) في نفوسهم ويكفي، وقالوا: لسنا مكلفين بأن نواجههم؟ A الإنسان المسلم مكلف بأن يظهر أنه عدو للكافر، وأنه عدو لعدو الله جل وعلا، ويبغضه في الله جل وعلا، ولا يتم الدين الإسلامي إلا بهذا، فإن الله جل وعلا جعل الإسلام مبنياً على تأله الله، وفعل الطاعة، وموالاة المؤمنين، وأخبر أنه إن لم يكن هذا حصل الفساد العريض والكبير في الأرض، ولما ختم سورة الأنفال بأن المؤمنين بعضهم أولياء بعض ذكر أن الكافرين بعضهم أولياء بعض، ثم قال: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73]. فكذلك يحرم كون الإنسان يكون مكثراً لسوادهم أو يبيت معهم، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أنا بريء من مسلم بات بين ظهراني المشركين)، ثم قال: (لا تتراءى ناراهما) يعني: نار المسلم ونار المشرك في القتال إلا في سبيل الله، أي: إذا كان يواجهه بالقتال.

الفرق بين أهل الإيمان وأهل النفاق

الفرق بين أهل الإيمان وأهل النفاق قال الشارح رحمه الله: [ومناسبة الحديث للترجمة بيان الفرق بين أهل الإيمان وأهل النفاق والمعاصي في أقولهم وأفعالهم وإراداتهم]. يعني: أن الترجمة هي: باب قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:60]. يعني أن طاعة الله ومحبته علامة المؤمنين، وطاعة الطاغوت واتباعه علامة النفاق والكفر، ومن الطاغوت الهوى، فإنه من المعبودات من دون الله، كما قال جل وعلا: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:43]، فجعل الهوى إلهاً، يقول المفسرون: معناها: أنه إذا هوي شيئاً أو اشتهى شيئاً فعله بغير مبالاة أنه معصية.

شرح فتح المجيد [102]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [102] الواجب على كل مؤمن أن يحب ما يحبه الله عز وجل ورسوله، وأن يبغض ما يبغضه الله ورسوله، وأن يوالي من والاه الله ورسوله، ويعادي من عاداه الله ورسوله: كالمنافقين واليهود والنصارى، فإن خبثهم ودسائسهم على الإسلام والمسلمين معروفة على مر التاريخ.

بيان خبث المنافقين واليهود ونقضهم للعهود

بيان خبث المنافقين واليهود ونقضهم للعهود قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال الشعبي: كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومه، فقال اليهودي: نتحاكم إلى محمد لأنه عرف أنه لا يأخذ الرشوة، وقال المنافق: نتحاكم إلى اليهود لعلمه أنهم يأخذون الرشوة، فاتفقا أن يأتيا كاهناً من جهينة، فيتحاكما إليه، فنزلت: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ} [النساء:60] الآية. وقيل: نزلت في رجلين اختصما، فقال أحدهما: نترافع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الآخر: إلى كعب بن الأشرف ثم ترافعا إلى عمر رضي الله عنه، فذكر له أحدهما القصة فقال للذي لم يرض برسول الله صلى الله عليه وسلم: أكذلك؟ قال: نعم، فضربه بالسيف فقتله]. هذا الأثر مشهور ذكره المفسرون في تفسيرهم في بيان سبب النزول، ومن المعلوم المتقرر عند العلماء أنه لا يُعتبر بسبب النزول، وإنما العبرة بعموم اللفظ، أي: أن اللفظ يكون عاماً للأمة كلها من أولها إلى آخرها، وإن كانت الآية نزلت في رجل أو رجلين أو جماعة، فإن هذا لا يُقصر عليهم، وإنما كل من فعل فعلاً يدخل تحت هذا العموم فهو داخل في ذلك، وكون اليهود يعرفون أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقضي بالحق ويقوله هذا أمر يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، ولهذا كانوا يتحاكمون إليه؛ لأنهم يعلمون أنه يقول الحق ويحكم به، ولكن المنافق هو الذي يأبى هذا، والمنافقون هم الذين يأبون ذلك لأنهم نفعيون يريدون أن تحصلوا على ما ينفع نفوسهم وعلى الأمور العاجلة، ويبذلون في سبيل ذلك الرشاوي وغيرها حتى يحصل لهم مرادهم، أما أهل الحق فلا يُقبل ذلك عندهم. وكذلك إذا كان التحاكم إلى الطاغوت وإلى الكهنة فهو داخل في هذا، فلما أرادا التحاكم إلى كاهن في جهينة كان أيضاً داخلاً فيه، ومن ذلك أيضاً التحاكم إلى كعب بن الأشرف اليهودي؛ لأنه من الطواغيت، وقد عرف بمعاداته لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، وانتقض عهده في ذلك، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتله، فإنه لما جاء البشير من وقعة بدر بأن النصر وقع للرسول صلى الله عليه وسلم وللصحابة، وأن صناديد قريش قد قتلوا، وأنه أُسر منهم من أُسر طار عقله وصار يقول: أحق هذا؟ لئن كان هذا حقاً لبطن الأرض خير من ظهرها، ثم لما تأكد ذلك اغتم غماً شديداً، وذهب إلى قريش وصار يؤلبهم، وكان شاعراً، فجعل يقول الشعر يحضهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرثي قتلاهم، ويخبرهم بأنهم خير من محمد صلى الله عليه وسلم، وأن دينهم أفضل، وببعض هذا ينتقض عهده. ثم العجيب أنه لما نزل على امرأة من قريش جعل رحله عندها وصار يتكلم بمثل هذا الكلام، فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم حسان بن ثابت وقال له: إنه نزل عند فلانة. فقال حسان فيها شعراً، فلما بلغها ذلك أخذت رحله ورمته، وقالت: هذا يهودي يهجونا حسان بسببه. ثم كلما نزل عند قوم أرسل إليهم حسان أشعاراً يهجوهم بها، حتى تبرءوا منه وطردوه، فجاء إلى المدينة، فصار يقول الأشعار، ويشبب بنساء المسلمين، ويهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: من لي بـ كعب بن الأشرف فقد آذى الله وآذى رسوله؟ فقال له محمد بن مسلمة: أنا له، أتحب أن أقتله؟ قال: نعم، فقال: ائذن لي أن أقول، فقال: قل، فذهب إليه هو وجماعة من إخوانه، فأروه بأنهم كرهوا ما عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، فقالوا له: أمرنا هذا الرجل بالصدقة، واحتجنا وجئنا إليك لتسلفنا أو تبيعنا إلى أجل، وقد عنانا فلما سمع مثل هذه الكلمة فرح وقال: أجل، والله! لتملنه، فقالوا: إنا نكره أن نتركه حتى نرى ماذا يصير إليه، ولكن نريد أن تعطينا ونرهنك رهينة، قال: ماذا ترهنوني؟ ارهنوني أبناءكم، فقالوا: تعيرهم العرب، فيقال لأحدهم: رهن بكذا من الطعام، فقال: ارهنوني نساءكم، فقالوا: هذا عار علينا، وأنت أجمل العرب، ولا يمكن أن نرهنك نساءنا فيفتن بك، ولكن نرهنك السلاح، فقال: نعم، فوعدوه أن يأتوا إليه، ويأتوا أيضاً بغيرهم. فجاءوه ليلاً، وكان مع زوجته في حصنه، فدعاه محمد بن مسلمة وهو عند زوجته، فقام فأمسكت ثوبه فقالت: والله إني لأسمع صوتاً كأن الدم يقطر منه، فقال: دعيني؛ فإن الكريم لو دعي إلى طعنة لأجاب، هذا محمد بن مسلمة ورضيعه أبو نائلة، فكان محمد بن مسلمة قد اتفق معهم فقال: إذا نزل سوف أمسك رأسه ثم عليكم به، فلما نزل قال له محمد بن مسلمة: ما رأيت كالليلة طيباً أحسن منك، فقال: أجل! فعندي أعطر نساء العرب، فقال: أتأذن لي أن أشم؟ فقال: نعم، فأخذ رأسه فشمه ثم أرسله ليأمن، ثم قال: أتأذن لي أن أعود قال: نعم، فأمسك رأسه وقال: دونكم الخبيث، فضربوه حتى قتلوه. فأتوا إلى رسول صلى الله عليه وسلم وأخبروه بذلك. فالمقصود أنه انتقض عهده لكونه صار يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك يهجوه ويهجو المسلمين، ولهذا أخذ العلماء من هذه القصة أن كل من سب الرسول صلى الله عليه وسلم يجب أن يقتل سواء أكان له عهد أم ليس له عهد. قال رجل عند علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لم يكن قتل كعب بن الأشرف إلا خديعة -أو قال: خيانة- فأمر به فقتل؛ لأنه قتل بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس ذلك خديعة ولا خيانة، وإنما لأنه خبيث صار يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويهجو المسلمين، وكذلك يشبب بنسائهم، والمعاهدة التي وقعت بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين اليهود على المناصرة على كل من قصد المدينة، فإذا فعلوا شيئاً مما يخلف ذلك ينتقض عهدهم. وهذه الواقعة كانت في السنة الثالثة من الهجرة، وقتله كان في ربيع الثاني في ليلة أربع عشرة منه كما ذكره المؤرخون وأهل السير، وقد فرح الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، والصحابة كانوا يتسابقون على قتل من يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو معروف، وكما ذكر قصصهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه (الصارم المسلول على من سب الرسول صلى الله عليه وسلم).

ترجمة الشعبي

ترجمة الشعبي قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: وقال الشعبي: هو عامر بن شراحيل الكوفي عالم أهل زمانه، وكان حافظاً علامة ذا فنون، كان يقول: ما كتبت سوداء في بيضاء، وأدرك خلقاً كثيراً من الصحابة، وعاش بضعاً وثمانين سنة. قاله الذهبي]. وكان رحمه الله تعالى من نوادر الحفاظ، ما يسمع شيئاً إلا حفظه، حتى إنه كان إذا دخل السوق يضع في أذنيه كرسفاً -أي: قطناً- ويقول: حتى لا أسمع أقوال الناس فأحفظها؛ لأنه كان كلما سمع شيئاً حفظه، ولهذا لم يكن يكتب، ولا يحتاج إلى الكتابة؛ لأنه كان يستمع الشيء فيحفظه، وهذا من النوادر التي يقل وجودها في الناس، أي: الحافظة الخارقة، وله نظراء من الحفاظ المعروفين.

بيان صفات المنافقين، وأنهم أخبث من اليهود والنصارى

بيان صفات المنافقين، وأنهم أخبث من اليهود والنصارى قال الشارح رحمه الله: [وفي ما قاله الشعبي ما يبين أن المنافق يكون أشد كراهة لحكم الله ورسوله من اليهود والنصارى، ويكون أشد عداوة منهم لأهل الإيمان، كما هو الواقع في هذه الأزمان وقبلها من إعانة المنافقين العدو على المسلمين، وحرصهم على إطفاء نور الإسلام والإيمان]. المنافقون في هذه الأزمنة والأزمنة الآتية والموجودة والماضية هم العدو، كما سماهم الله جل وعلا العدو فقال: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون:4]. والنفاق: هو إبطان الكفر وإظهار الوفاق؛ أي: أنه مع المسلمين، ثم هو يعمل على اجتثاث الإسلام وإبطاله وإذلال أهله، ويكون مع الكفار في كل مناسبة وفرصة، وهم كثيرون وأنواع، والله جل وعلا جلى صفاتهم في سورة (براءة) فكثيراً ما يقول: (ومنهم) فيصفهم بأن منهم كذا، ومنهم كذا حتى افتضحوا، وكذلك في سورة (المنافقون)، كما يقول جل وعلا فيها: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ) يعني: لهم مناظر جميلة وحسنة وثياب نظيفة وأبهات {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون:4] يعني: أنهم عندهم فصاحة وبلاغة يلفتون النظر والأسماع إلى ما يقولون، يقول جل وعلا: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون:4]. ومن علامة ذلك أنهم لا يبالون بالشيء الذي يفعلونه، وأنهم يرون المعاصي -كما يقولون-: حرية، وأن الإنسان حر يفعل ما يشاء، وأنها مباحة لا بأس بفعلها، بل يتنقصون الإنسان إذا نهاهم عن ذلك، ويقولون: أنت لم تطلع على ما عليه المدنية وما عليه الناس، ولا تزال متحجراً. وأوصافهم كثيرة جداً، وينبغي للإنسان أن يعرفهم؛ لأنهم لا يخلو منهم مكان، نسأل الله السلامة والمعافاة من ذلك، ومع ذلك الإنسان قد يكون عنده صفة من هذه الصفات، وقد يخفى عليه ذلك؛ لأن صفات النفاق مثلما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)، فهذه أمور ظاهرة، فمن اتصف بشيء منها فعنده شيء من النفاق العملي الظاهر، وهناك شيء باطن لا يظهر يكون في القلب، ولكن العمل يكون دليلاً عليه، وهو بغض الحق وبغض أهله، وهذا من أعظم الصفات، إذا كان الإنسان مبغضاً للحق ومبغضاً لأهل الحق، ومحباً للباطل ومحباً لأهل الباطل، فهذا من أعظم صفات النفاق الاعتقادي الذي يكون صاحبه خالداً في جهنم، بل يكون في الدرك الأسفل من النار تحت الكفار، نسأل الله العافية.

قتل المنافق المغموس في النفاق

قتل المنافق المغموس في النفاق قال الشارح رحمه الله: [ومن تدبر ما في التاريخ وما وقع منهم من الوقائع عرف أن هذا حال المنافقين قديماً وحديثاً، وقد حذر الله نبيه صلى الله عليه وسلم من طاعتهم والقرب منهم، وحضهم على جهاد في مواضع من كتابه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73]، وفي قصة عمر رضي الله عنه وقتله المنافق الذي طلب التحاكم إلى كعب بن الأشرف اليهودي دليل على قتل من أظهر الكفر والنفاق. وكان كعب بن الأشرف هذا شديد العداوة للنبي صلى الله عليه وسلم والأذى له والإظهار لعداوته، فانتقض به عهده وحل به قتله، وروى مسلم في صحيحه عن عمرو قال سمعت جابراً يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لـ كعب بن الأشرف؟ فإنه قد آذى الله ورسوله، قال محمد بن مسلمة: يا رسول الله! أتحب أن أقتله؟ قال: نعم، قال: ائذن لي فلأقل، قال: قل)، فأتاه وقال له وذكر ما بينهم، وقال: إن هذا الرجل قد أراد صدقة وقد عنانا، فلما سمعه قال: وأيضاً والله لتملنه، قال: إنا قد اتبعناه الآن، ونكره أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير أمره، قال: وقد أردت أن تسلفني سلفاً، قال: فما ترهنني؟ قال: ما تريد، قال: ترهنني نساءكم، قال: أنت أجمل العرب أنرهنك نساءنا؟! قال: ترهنوني أولادكم، قال: يسب ابن أحدنا فيقال: رهن في وسقين من تمر، ولكن نرهنك اللأمة -يعني: السلاح- قال: فنعم، وواعده أن يأتيه بـ الحارث وأبي عبس بن جبر وعباد بن بشر، قال: فجاءوا ليلاً فدعوه فنزل إليهم، قال سفيان: قال غير عمرو: قالت له امرأته: إني اسمع صوتاً كأنه صوت دم، قال: إنما هذا محمد بن مسلمة ورضيعه أبو نائلة، إن الكريم إذا دعي إلى طعنة ليلاً لأجاب، قال محمد: إني إذا جاء فسوف أمد يدي إلى رأسه، فإذا استمكنت منه فدونكم، قال: فلما نزل وهو متوشح قالوا: نجد منك ريح الطيب، قال: نعم تحتي فلانة أعطر نساء العرب، قال: فتأذن لي أن أشم منه؟ قال: نعم، فشم، فتناول فشم، ثم قال: أتأذن لي أن أعود؟ قال: فاستمكن من رأسه ثم قال: دونكم، قال: فقتلوه). وفي قصة عمر رضي الله عنه بيان أن المنافق المغموس بالنفاق إذا أظهر نفاقه قتل، كما في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما ترك من أظهر نفاقه منهم تأليفاً للناس؛ فإنه قال: (لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه) فصلوات الله وسلامه عليه]. معنى قوله: [المغموس بالنفاق]: المتهم الذي يظن أنه منافق، وليس معنى المغموس الذي غاص فيه وعلم؛ فإن هذا أمره ظاهر، ولكن المتهم في النفاق إذا أظهر نفاقه وظهر وبان فإنه يقتل.

فوائد ومسائل الباب

فوائد ومسائل الباب

فهم قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا) يعين على فهم معنى الطاغوت

فهم قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا) يعين على فهم معنى الطاغوت قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل: الأولى: تفسير آية النساء، وما فيها من الإعانة على فهم الطاغوت]. قوله: [ما فيها من الإعانة على فهم الطاغوت] يعني: أنه جل وعلا قال فيها: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [النساء:60] يعني: أن هؤلاء ذهبوا إلى إما إلى كعب أو إلى الكاهن، وهذا هو الطاغوت، فإذاً: يكون التحاكم إلى غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم طاغوتاً أياً كان المتحاكم إليه، والآية يجب أن تفهم على ما أرادها ربنا جل وعلا، يقول: وهذا مما يعين على فهمها. يعني: هذه القصة وسبب النزول، ومعلوم أن سبب النزول يعين على فهم الكلام، ولهذا يقول العلماء: المفسر يجب عليه أن يعرف ويعتني بأسباب النزول.

معنى قوله تعالى: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض)

معنى قوله تعالى: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض) قال المصنف رحمه الله: [الثانية: تفسير آية البقرة: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ} [البقرة:11] الآية]. هذه الآية أيضاً في المنافقين؛ لأن سورة البقرة قسمت الناس في أولها إلى ثلاثة أقسام: المؤمنون الذين: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة:3 - 4] ثم ثلاث آيات ذكرت في المؤمنين، ثم بعد ذلك ذكر الله الكافرين، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:6 - 7]، فهذه في الكافرين. ثم ذكر المنافقين فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة:8 - 10] يعني: مرض النفاق {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:10 - 11]. يعني: إذا قيل لهم: لا تفعلوا هذه الأفعال التي تفعلونها فإنها فساد في الأرض وطاعة الكفار، وكذلك هي من موالاة الكفار، ومن محبتهم وبغض المؤمنين وبغض الحق وأهله، قالوا: إنما نحن مصلحون، يعني: يقصدون أنهم يصلحون الأوضاع والسياسات، فيقولون: نحن نجاري هؤلاء وهؤلاء، وبذلك تصلح أحوالنا وتصلح أوضاعنا، وتكون هذه في زعمهم سياسة وعقلانية، فجعلوا ذلك صلاحاً. فأخبر الله جل وعلا أنه فساد في الأرض؛ لأن كون الإنسان يكون مع المؤمنين في الظاهر ومع الكافرين في الباطن هذا من أعظم الإفساد. ثم كل معصية يُعصى الله جل وعلا بها فهي فساد، والمعاصي لا تكون إلا على الأرض، أما السماء فالذي في السماء خلقهم الله جل وعلا لطاعته، فهم لا يعصون ما أمرهم الله جل وعلا به، ولكن الفساد إنما يكون في الأرض في برها وبحرها، ويكون الفساد فيها بالمعاصي. فإذاً قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ} [البقرة:11] بمعنى: لا تعصوا ولا تخالفوا أمر الله، ولا تخالفوا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم.

معنى قوله تعالى: (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها)

معنى قوله تعالى: (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) قال المصنف رحمه الله: [الثالثة: تفسير آية الأعراف: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} [الأعراف:56]]. يعني أنها مثل آية البقرة، إلا أن آية الأعراف أعم؛ لأن آية البقرة في المنافقين، وأما تلك فهي عامة، بل جاءت في خطاب المؤمنين، فإن الله جل وعلا يقول فيها: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:54 - 56]. فهي عامة، والخطاب فيها للمؤمنين، فتبين بذلك أن كل معصية يُعصى الله بها جل وعلا بها فهي فساد في الأرض، والصلاح في الأرض يكون بالأنبياء؛ لأن الأنبياء هم الذين يأتون بصلاح الأرض، وهم الذين يأمرون بالطاعة ويدلون عليها ويزينونها ويذكرون وعد الله عليها، ويكونون أدلاء على الله، والذين يعبدون الله جل وعلا إنما هم بسببهم، وكل خلاف يقع لهم فهو فساد في الأرض.

معنى قوله تعالى: (أفحكم الجاهلية يبغون)

معنى قوله تعالى: (أفحكم الجاهلية يبغون) قال المصنف رحمه الله تعالى: [الرابعة: تفسير: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة:50]]. معروف أن الجاهلية -كما سبق- هي كل ما خالف الإسلام، فكل ما خالف الإسلام فهو جاهلية، سواء أكان قديماً أم حديثاً، فمن طلب حكم الجاهلية فمعناه أنه ترك حكم الله ورغب عنه، فالذي يرغب عن حكم الله ويتركه فإنه يطلب حكم الجاهلية، وحكم الله هو الأحسن، وهو العدل الصواب، ولكن لمن كان يوقن ويؤمن بالله ويخافه، أما الذي يكون في قلبه مرض فإنه يرى أنه ليس حسناً.

معنى الإيمان الصادق

معنى الإيمان الصادق قال المصنف رحمه الله تعالى: [الخامسة: ما قال الشعبي في سبب نزول الآية الأولى. السادسة: تفسير الإيمان الصادق والكاذب]. الإيمان الصادق هو في الذي يكون صاحبه مطيعاً لله جل وعلا، ويكون في قوله صادقاً، وليس الذي يكون عاصياً ويكون في قوله كاذباً، فإذا أخفى في قلبه شيئاً خلاف العمل الذي يعمله فإنه يكون كاذباً؛ لأن الصدق هو مطابقة الشيء في الواقع، والكذب أن يختلف عن الواقع.

من كان هواه تبعا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فقد حقق الإيمان الكامل

من كان هواه تبعاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فقد حقق الإيمان الكامل قال المصنف رحمه الله تعالى: [السابعة: قصة عمر مع المنافق. الثامنة: كون الإيمان لا يحصل لأحد حتى يكون تبعاً لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم]. المقصود بالإيمان هنا الإيمان الواجب، وليس المقصود أصل الإيمان؛ فإن أصل الإيمان يوجد عند من تكون هذه صفته، ولا يكون بذلك خارجاً من الدين الإسلامي، ولكن يكون من أهل الوعيد، من الذين يجوز أن يعذبوا إن لم يعف الله جل وعلا عنهم.

شرح فتح المجيد [103]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [103] أساس الإيمان بالله جل وعلا هو معرفة أسمائه وصفاته، فمن عرف أسماء الله وصفاته فقد عرف الله ربه، ومن جحدها وقع في الكفر والعياذ بالله، وهذا ما وقع فيه كثير من المشركين، فالواجب أن نعرف الله عز وجل بأسمائه وصفاته، ونؤمن بها من غير جحود أو تأويل.

حكم من جحد شيئا من الأسماء والصفات

حكم من جحد شيئاً من الأسماء والصفات قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: من جحد شيئاً من الأسماء والصفات. وقول الله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد:30]]. قوله: [باب من جحد شيئاً من الأسماء والصفات] يعني: ما حكمه؟ وهل يكون مسلماً أو كافراً؟ والأسماء المقصود بها أسماء الله جل وعلا وصفاته التي أثبتها لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، أي: بعد ثبوتها وورودها في النص، فالذي يجحدها يكون قد وقع في الكفر؛ لأن الله جل وعلا يقول: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد:30]، وسبب النزول كما ذكر المفسرون أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما صالح كفار قريش يوم الحديبية أمر علي بن أبي طالب رضي الله عنه بكتابة الصلح، فكتب: (بسم الله الرحمن الرحيم)، فقال مفوضهم سهيل بن عمرو: لا تكتب بسم الله الرحمن الرحيم، ما نعرف الرحمان إلا رحمان اليمامة -يقصد بذلك مسيلمة الكذاب لعنه الله، فإنه كان يسمي نفسه رحماناً-، ولكن اكتب كما كنا نكتب: (باسمك اللهم)؛ لأن أهل الجاهلية هكذا كانوا يكتبون، فقال له أصحابه رضي الله عنهم: نقاتلهم؟ فقال: لا. أكتب (باسمك اللهم)، ثم لما كتب (باسمك اللهم) قال: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله قريشاً. فقال: لا. لئن كنت رسولاً لله وصددناك عن البيت فقد ظلمناك، -أو لقد ظلمنا-، ولكن أكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله قريشاً، فقال الصحابة: نقاتلهم؟ قال: لا، الله يعلم أني رسول الله، وأنا محمد بن عبد الله فكتب كما أرادوا، فأنزل الله جل وعلا هذه الآية: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد:30] وقوله: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد:30] يعني: ينكرون هذا الاسم، وقيل أيضاً في سبب النزول غير هذا، وقد ذكر المفسرون أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصلي عند الكعبة ويدعو فيقول: يا الله يا رحمن! فسمعه أبو جهل أو غيره فقال: يدعونا إلى أن نعبد إلهاً واحد وهو يدعو إلهين يقول: يا الله يا رحمن! فنزلت هذه الآية: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي} [الرعد:30] ونزل قوله جل وعلا: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110]. وجاء قول الله جل وعلا: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان:60] هنا الاستفهام استفهام إنكار ((وما الرحمن)) والإنكار هذا إنكار جحود، وهو كفر، وهذا الإنكار هو في طائفة منهم فقط، وإلا فقد وردت أشعار من أشعار الجاهلية فيها ذكر الرحمن والإقرار به وتسميته سبحانه به. فإذاً يكون هذا إما من باب العناد؛ لأنهم ما كانوا يكتبونه، أو يكون أنكره طائفة منهم فقط، وغيرهم لا ينكره بل يقر به. ومن المعلوم أن كفرهم أنواع، ولكن أعظمه في العبادة، أي: في كونهم يجعلون وسائط بينهم وبين الله جل وعلا يدعونها ويزعمون أنها تقربهم إلى الله زلفى، ومعنى (أنها تقربهم إلى الله زلفى) كما قال الله عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] يعني: ليشفعوا لهم، فإنهم يقولون: إنا ندعوهم ونتقرب إليهم ونطوف عليهم ونجلس عندهم لأجل أن يشفعوا لنا، كما يقول ذلك عباد القبور اليوم، فإنهم يذهبون ويستنجدون بالموتى ويطلبون منهم تفريج الكربات وإزالة الملمات وإغاثة اللهفات، بل يطلبون أعظم مما كان يطلبه كفار قريش وغيرهم من العرب، يطلبون منهم رفع الدرجات في الجنات، وهم أموات رميم قد أكل الدود لحومهم، بل وأصبحت عظامهم نخرة، وأصبحت تراباً، لا يستطيعون أن يجيبوهم، بل هم غافلون عن دعوتهم، وهم يزعمون أنهم يسمعون ويعقلون ويجيبون. ولهذا يأتون إليهم بالقربات، ويجعلون لهم من أموالهم وأولادهم نصيباً، كما كان الكفار يفعلون وينذرون لهم النذور، ويغويهم الطواغيت الذين يجلسون عند صناديق النذور، ويحضونهم على تقديم الأموال فيها حتى يأخذوها ويأكلوها.

شرك الأولين وقع فيه المتأخرون وزادوا عليه

شرك الأولين وقع فيه المتأخرون وزادوا عليه والعجيب أن هذه الأمور تقع في بلاد المسلمين، وربما كان معهم ممن معه أعلى الشهادات التي يأخذها من الجامعات الكبيرة، مثل جامعة الأزهر وغيرها، فيكون معهم، ويقرهم على هذا الشرك الأكبر الذي يكون صاحبه قد تجاوز الشرك بدرجاته بجهله، ثم مع ذلك يزعمون أنهم مسلمون. فهذا من الأمور العجيبة، وقد سمعت كلمات عند قبر أحمد البدوي الطاغوت الكبير من بعضهم يسأل رفيقه فقال: أيهما خير: الله أو السيد أحمد البدوي؟ فقال مجيباً له: السيد أحمد البدوي خير من الله؛ سيدي يجيب ويعطي، والله لا يعطي ولا يجيب! فمثل هذا الطغيان وهذا العمى في القلب وفي العمل وفي العقل يقع في بلاد المسلمين -وللأسف- على مسمع ومرأى من كثير من العلماء، وهذا يوجد في جميع البلاد، نسأل الله العافية، ففي أكثر البلاد توجد عبادة القبور والاستنجاد بهم ودعاؤهم صراحة، بل إن أحدهم يستقبل القبر ويدعوه: يا فلان! أريد كذا وكذا يا فلان! أنا وقعت في كذا وكذا ويقول: يا سيدي! أعطني كذا وكذا! وربما يأتي ثم يكشف رأسه ويطأطئه ويقبل العتبات، وربما وضع خده على القبر وصار يتمرغ عليه ويذل له، يسأله سؤالاً لا يسأل بمثله الفرد الصمد رب السماوات والأرض، وكل هذا من الجهل الفظيع، ولكن لا يجوز أن يقع هذا الجهل، فالإنسان إذا وقع في مثل هذا فليس معذوراً، ولا يقال: إنه جاهل؛ لأن هذا لا يجوز أن يقع ممن عنده شيء من العقل؛ لأن المقبور الذي وضع تحت التراب كيف يجيب الدعاء؟! وكيف يسمع؟! ولو قدر أنه يسمع كيف يغيث؟! وكيف يجير؟! وهو إما معذب في قبره يكون عليه ناراً، وإما منعم إذا كان ولياً، ومع ذلك كله هو غافل عمن يدعوه، كما قال الله جل وعلا: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف:5]، وقوله: (إلى يوم القيامة) يعني أنه لا يستجيب له أبداً. ثم ذكر ماذا يكون يوم القيامة فقال: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:6] يعني: هؤلاء الذين يدعون وهم في الدنيا غافلون لأنهم في قبورهم إذا حشروا وجمعوا مع من عبدهم كفروا بهم وعادوهم ولعنوهم وتبرءوا منهم إلى الله وقالوا: أنت ولينا من دونهم. فهذا هو الواقع كما ذكره الله جل وعلا، وهذا العمل هو شرك المشركين الذين كانوا في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، بل المشركون الأوائل جعلوهم وسائط وشفعاء، ولم يصلوا إلى هذا الحد، فقد كانوا إذا أرادوا أن يسألوا المطر سألوه من الله، وإذا أرادوا أن يسألوا الرزق أو الولد سألوه من الله، ويقولون: اللات والعزى لا تفيد، وإنما تكون شافعة فقط وإذا وقعوا في كرب وفي شدة أخلصوا دعاءهم لله جل وعلا، كما قال الله جل وعلا: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت:65] أي: يدعون الله فقط، ويتركون شركهم، ولكن إذا نجوا وجاء الرخاء عادوا إلى الشرك: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65] بخلاف هؤلاء؛ لأن أولئك أصح عقولاً وأتم أفكاراً، وكذلك نظرهم أحسن من نظر هؤلاء، فهؤلاء لا عقول ولا أفكار ولا أنظار، وإنما وقعوا في التقليد الأعمى، وجدوا آباؤهم يفعلون ذلك ففعلوا، حتى صار هذا الشيء متوارثاً، ولا أحد يجرأ على أن ينكر ذلك، وأمور عجيبة، يذكر أحد العلماء الذين كتبوا عن شيء من ذلك قصة وقعت له، فيقول: إنه كان عند شيخ في طنطا يدرس عليه في مسجد أحمد البدوي الذي يسمونه السيد، والحقيقة أنه كان جاسوساً لدولة الرافضة، هذا الذي عرف عنه، وما عُرف أنه سيد، وذكر أحد المؤرخين أنه زاره بعض من يعظمه يوم جمعة في بيته، فلما قربت الصلاة والخطبة قال: الصلاة، فذهب معه، فجلس في المسجد ولم يصل، وإنما بال فيه وخرج، والعجيب أن هذه جعلت منقبة له، كونه بال في المسجد وخرج، يقول: فما أحد جرؤ أن ينكر عليه؛ لأنه ولي من الأولياء. والمقصود أن هذا الذي يذكر عن شيخه أنه كان يدرسه، يقول: فجاء وقت المولد واجتمع الناس الفلاحون وغيرهم، وكأن الناس في عرفات من كثرتهم، وهم مع أطفالهم ونسائهم، ولهم ضجيج وصخب، يقول: فأصبح الماء الذي يُتوضأ به مختلطاً مع القاذورات من كثرة الأوساخ والأشياء التي ترمى فيه، يقول: فلما أراد هذا الشيخ أن يصلي أتى وتوضأ بهذا الماء، فقلت له: كيف تتوضأ بهذا؟! قال: اسكت، ثم أراد أن يكون إماماً لي في الصلاة، فقلت: لا. ولن أصلي معك، فقال: يا بني! والله لو كنت استسيغه لشربته، هؤلاء جاءوا إلى السيد أحمد البدوي وهو يرفع كل السيئات عنهم، يقول: وإني أخشى عليك أن يصيبك، كل هذا لأنه أنكر عليه أن يتوضأ بهذا الماء القذر الخبيث النجس نجاسة ظاهرة، وهذا في حوض السيد أحمد البدوي. يقول: وبعد أيام مرض مرضاً شديداً، فأتيت إليه وقلت له: ها أنا في صحة وعافية وأنت في مرض تقاسي الحمى تكاد تموت، فأين نفع السيد أحمد البدوي؟! ولكنهم لا يعقلون، نسأل الله العافية! وإلا فهذا شيء لا يحتاج إلى مثل هذه الأمور؛ لأنه أمر ظاهر. والإنسان يجب أن يكون متميزاً بعقله عن الحيوانات وعن غيرها، ويعرف من الذي خلق، ويعرف من الذي تجب العبادة له، فكيف يعبد إنساناً مثله؟! بل ليس مثله؛ لأن الميت ليس مثل الحي، الحي ينفع ويتصرف، والميت لا ينفع ولا يتصرف، بل هو مرتهن بعمله، ولكن إذا جاءت الفتنة وجاء البلاء وجاء التقليد الأعمى زال العقل وذهب، ويصبح الإنسان كأنه لا عقل له.

شرك المشركين ليس خاصا في نفس الأسماء والصفات

شرك المشركين ليس خاصاً في نفس الأسماء والصفات شرك المشركين ليس في نفي الصفات والأسماء، بل كانوا يقرون بأن الله هو الخالق الرازق المدبر المالك لكل شيء الذي يحيي ويميت، وكانوا يؤمنون بهذا، وهذا من الأسماء والصفات، وإن كان يُسمى توحيد الربوبية؛ لأنه مرتبط به تماماً، وإنما أنكروا هذا الاسم إما عناداً وتكبراً، وإما لأنهم ما كانوا يعرفونه، ولكن غيرهم من العرب كانوا يعرفونه كما جاء في أشعارهم وفي خطاباتهم وكلامهم، مما يدل على أنهم يقرون بهذا الاسم. وأما المنكرين له وكفرهم به بقولهم: لا نعرف الرحمن، فسمى الله جل وعلا هذا كفراً فقال: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد:30] فعلى هذا إذا أنكر إنسان المعنى الذي أخذ منه الاسم وهو الصفة يدخل في هذا. فمثلاً: أنكر أن تكون لله رحمة يتصف بها، أو أنكر أن تكون لله عزة أو أن تكون لله حكمة أو ما أشبه ذلك، فإنه يكون داخلاً في هذا. ثم إذا ورد في القرآن شيء من ذلك أو في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم صار يؤوله تأويلاً غريباً على اللغة وغريباً على الوحي الذي نزل ليعمل به، فيقول -مثلاً-: الرحمة رقة تكون في القلب تعتري الراحم يحدث منها الميل إلى المرحوم، وهذه الرقة فيها ضعف، ولا يجوز أن نصف الله بذلك، هكذا يعلل، أما الحكمة فهي العمل لغرض من الأغراض، والله لا يجوز أن يعمل لغرض؛ لأنه تعالى غني عن ذلك، وهذه من صفات الأجسام، فمن وصفه بالرحمة أو الحكمة أو ما أشبه ذلك فإنه يكون مشبهاً. فيكون هذا الإنكار بُني على أصل فاسد خبيث، وهو أنه لا يعرف أن من هذه الأسماء أو من هذه الصفات إلا ما يعرف من المخلوق، فصار أساس ذلك التشبيه؛ لأنهم شبهوا أولاً ثم كفروا ثانياً بالتعطيل والنفي، ثم شبهوا ثالثاً في كونهم ألحقوه بالناقصات، تعالى الله وتقدس. وهذا بلاء أصاب الأمة على أيدي أناس مدسوسين فيها مشبوهين لا يعرف أصلهم، بل يجوز أنهم من اليهود أو من المجوس أو من النصارى أو من الماسونية الخبيثة التي تريد أن تفسد الأديان أو من غيرهم، وهذا هو الواقع، فيكونون يجتهدون ويدرسون هذه الأفكار ثم ينظرون إنساناً جريئاً ويأمرونه بإخراجها، ثم تنسب هذه الأفكار إلى هذا الرجل، والواقع أن خلفه مؤسسات وجمعيات، وليس هذا من ابتكار هذا الرجل، فإذا قيل -مثلاً-: (جهمية) فالجهمية ينكرون الأسماء والصفات، ويُنسبون إلى جهم بن صفوان رجل من أهل ترمذ، وهل هذه أفكاره فقط أو أنه ظهر بها من جمعيات ومؤسسات تريد بذلك إفساد الإسلام؟! وكذلك أيضاً الذين تبنوا غير ذلك من الأفكار مثل الرافضة ومثل الخوارج ومثل المعتزلة والقدرية وغيرهم، ولا ينكر أن يكون هناك رجل له دور كبير في هذا الشيء المعروف، والذي يتتبع الحوادث وكتب التاريخ يجد من ذلك شيئاً واضحاً، فمثلاً: إنكار القدر، المشهور في الكتب أن أول من تكلم في القدر رجل يقال له: معبد الجهني من جهينة من العرب، ولكن تقرأ -مثلاً- في تاريخ ابن جرير فنجده يقول: أول من تكلم بإنكار القدر رجل يقال له: سيسويه رجل مجوسي من الأسوار ونقرأ في كتاب آخر ونجد أنه يقول: أول من تكلم بالقدر رجل يقال له كذا نصراني من النصارى. وقد عُرف أن أول من قال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم له وصي، وإنه ما مات نبي إلا وله وصي هو عبد الله بن سبأ، وهذا رجل يهودي جاء من صنعاء، يقال له: عبد الله بن وهب بن سبأ فجاء وألب الجهال والطغام حتى قاموا على أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه فقتلوه -كما هو معروف-، وكل هذا بإغرائه وإغوائه، وقد صار إلى جهات متعددة، من أجل ذلك ذهب إلى العراق، وذهب إلى الشام، وذهب إلى مصر، ولم يعدم أنصاراً من هذه البلدان، فكون له أنصاراً، ثم كان مثل الشيطان يوقعهم في البلاء، ثم كان يفر ويذهب ولا يعرف إلى أين كان يذهب، وإذا ذهب إلى مكان أفسد فيه. والغريب أنه لما قام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه للخلافة قام أيضاً بتأليب الطغام والجهلة اتباع كل ناعق، وصار يقول لهم: إن علياً هو الإله، أو أن الله حل فيه، أو إن فيه جزءاً من الإلهية، فهو إلهنا، فكون جماعة من هؤلاء، فبعضهم ذهب وقابل علي بن أبي طالب، فلما خرج من بيته قاصداً المسجد قالوا له: أنت هو، قال: ومن أنا؟ قالوا: أنت إلهنا، قال: ويلكم! هذا الكفر، إن لم ترجعوا عن ذلك قتلتكم. وفي اليوم الثاني قابلوه كذلك وقالوا له ذلك، وفي اليوم الثالث كذلك، ثم لما أوقعهم في هذه الواقعة فر وذهب إلى بلاد أخرى، وأمير المؤمنين رضي الله عنه غضب لله جل وعلا حماية للتوحيد ولعبادة الله، فأمسكهم وحفر حفراً وأوقد فيها النيران ثم قذفهم فيها غضباً لله جل وعلا، ومع ذلك ما رجعوا، بل تحملوا أن تأكلهم النار وهم أحياء ليبقوا على هذا الكفر، وهذا بإغراء هذا الرجل الخبيث وغيره، ويجوز أن يكون معه آخرون ممن هم من المفسدين. وابن حزم رحمه الله يقول في (الفصل) لما جاء إلى ذكر هذه الطائفة قال: هذا أمر معروف سببه، وهو أن العرب كانت عند الفرس وعند الروم -خصوصاً الفرس- من أحقر الأمم وأضعف الأمم، فكانوا يحقرونهم مع ما عندهم من تعظيم أنفسهم، فكانوا يرون أن الناس عبيد كلهم وهم الأحرار السادة. وذكر على هذا شواهد من التاريخ، يقول: فلما ابتلوا على أيدي هذه الأمة الضعيفة التي كانوا يعتقدون ضعفها وحقارتها ابتلوا بإزالة ملكهم على أيديهم، وكثير منهم ما استساغ أنه يقبل هذا الدين، بل حنق حنقاً عظيماً، وأصبح يجتهد طاقته في مواجهة هذا الدين، ولكنهم عجزوا عن المواجهة بالقوة، ولم تبق إلا الحيل، فأسسوا المؤسسات التي يريدون بها إفساد العقائد. كل هذا هو السبب في إنكار أسماء الله وصفاته؛ لأنهم عرفوا أن المسلمين ما داموا متمسكين بالوحي وبما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فلن يقوم أمامهم قوة؛ لأن الله جل وعلا معهم، عرفوا هذا وتيقنوه وقالوا: ليس أمامنا إلا إفساد العقيدة، والطريقة أن يدخل جماعات من هؤلاء الإسلام في الظاهر وهم في الباطن ليسوا مسلمين بل أعداء للمسلمين حتى يتمكنوا من إفساد العقائد، ومعروف أن الداعية إذا جاء يدعو إلى مبدأ لا يُعدم من مجيب، ثم قد تكون الدعوة بأمور تظهر على حسب ما عند الداعية من قوة البيان والقدرة على الإغواء والضلال ولبس الحق بالباطل، كما هو معلوم، وهي سنة الله جل وعلا. ثم هذه الأمور لابد من وجودها؛ لأن العداوة لابد منها، فالله جل وعلا لما أمر آدم عليه السلام بأن يهبط هو وزوجته من الجنة لما أكلا من الشجرة قال في إهباطهم: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة:36] أي: الذرية التي تخرج من آدم وزوجه يكون بعضها لبعض عدواً، وهذا إلى يوم القيامة؛ لأن الحق ما كلٌ يقبله، والذي يقبل الحق لابد أن يعادي صاحب الباطل، وكثير من الناس لا يعجبه أن يعبد الله، ولا أن يقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ولذا فهو يسعى ويبذل جهده وأمواله في إفساد ذلك. فبدأ الإفساد بأصل عقيدة المسلمين في الله، فصاروا يبدءون بإخفاء أشياء قد تخفي على بعض العوام ولا تخفى على العلماء، ولهذا لما قيل لأحد العلماء: إن قوماً ينكرون أن الله يتكلم فقال: من اليهود؟ قيل: لا. قال: من النصارى؟ قيل: لا، قال: من المجوس؟ قيل: لا، بل من المسلمين قال: كلا، المسلمون لا ينكرون أن الله يتكلم؛ لأن الله يرسل الرسل، وينزل الكتب، ويأمر وينهى، وهذا المسلمون لا ينكرونه، ولكن هؤلاء مدسوسون في المسلمين، فكان العلماء يعرفون هذا ولا يخفى عليهم. فالمؤلف هنا عندما أردا أن يبين أن الأيمان بالأسماء والصفات أمر لازم للمسلم حتى يكون مؤمناً، وأن إنكار شيء من ذلك كفر بالله جل وعلا ذكر هذه الآية بعد ما ذكر الترجمة وإن كانت مجملة. وقوله: [باب: من جحد شيئاً من الأسماء والصفات] يعني أن فعله يكون كفراً، وإن لم يحكم على إنسان بعينه بأنه كافر إذا فعل ذلك، ولكن هذا الفعل كفر، أما إذا وقع إنسان في شيء من ذلك فأنكر -مثلاً- أن يكون الله موصوفاً بالرحمة أو موصوفاً بالعلو أو موصوفاً بأنه ينزل إلى السماء الدنيا أو ما أشبه ذلك فقد يكون عنده شبه، فيجب أن تزال الشبه عنه، فإذا أزيلت الشبه عنه وأصر على الإنكار فله حكم آخر، غير أننا نقول: إن فعلك أو قولك هذا كفر، فإذا تبين له الحق وأقر به يكون كافراً، نسأل الله العافية. فمراده هو هذا، أنه يجب أن يجمع المؤمن بين أقسام التوحيد: توحيد العبادة، وتوحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الربوبية؛ لأن ربنا جل وعلا تعرف إلينا بأسمائه وصفاته، وأسماؤه وصفاته تبع لذاته، ولا يدل على أنه إذا أخبرنا أنه رحمان وأنه رحيم وأنه عزيز وأنه حكيم وأنه عليم وغير ذلك أن يكون المخلوق الذي يشارك في هذه والصفات وهذه الأسماء مشابهاً له، تعالى الله وتقدس. بل أسماء الله وصفاته تليق به، وتابعة لذاته، وأسماء المخلوق وصفات المخلوق تليق به، فإذا أضيف الاسم إلى الله أصبح المخلوق لا يشارك الله فيه، وكذالك إذا أضيفت الصفة إلى الرب جل وعلا مثل الرحمة وغيرها فالمخلوق لا يشارك الرب جل وعلا في صفته، وكذالك إذا أضيفت إلى المخلوق فقيل: فلان ذو رحمة، وفلان يرحم، وفلان رحيم، فإن هذا خاص بهذا المخلوق، والله لا يشاركه في هذه الرحمة؛ لأن المخلوق رحمته تناسبه وتليق به، وتناسب ضعفه وتليق بضعفه، ولا يمكن أن يكون الرب جل وعلا مشاركاً له، فيجب أن يُفرق بين هذا وهذا، ولا يكون مثلما يقول هؤلاء: إذا وصفنا الله جل وعلا بأنه له رحمة أو له يد، أو أن له حكمة أو ما أشبه ذلك يلزمنا أن نكون مشبهين؛ لأن المخلوق له رحمة وله يد، ويقولون: إذا قلنا: إنه سبحانه يكون فوق ويكون المخلوق تحته فإن المخلوق يوصف بهذا، فلا يجوز أن نصف الرب جل وعلا بأنه فوق عرشه، أو أنه ينزل إلى السماء الدنيا؛ لأن من كان فوق شيء يكون محتاجاً إلى ذلك الشيء، مثل الذي يكون راكباً على الطائرة أو على السطح أو على السفينة، فإنها إذا سقطت سقط، ولو سقط المركوب لسقط الراكب، وعلى هذا يكون محتاجا

سبب نزول قوله تعالى: (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن) الآية، والرد على من ينكر تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام

سبب نزول قوله تعالى: (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن) الآية، والرد على من ينكر تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام قال الشارح رحمه الله تعالى: [سبب نزول هذه الآية معلوم مذكور في كتب التفسير وغيرها، وهو أن مشركي قريش جحدوا اسم الرحمن عناداً، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110]]. والآن في الوقت الحاضر وجد من ينكر أن يكون التوحيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام، وأصبح يكتب الكتب وينشرها، وهذا الرجل له تلاميذ، وله مؤيدون في كثير من البلاد، وكتبه انتشرت، ويقول: إن أول من قال: إن التوحيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام ابن تيمية وهو ضال مضل، ثم تبعه على ذلك ابن عبد الوهاب وهو كذلك ضال مضل هكذا يقول، ثم يلبس بأشياء ما تنطوي إلا على الجهال، ويقول: أين الدليل من كتاب الله أو من أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم على أن الله قال: التوحيد ثلاثة أقسام، أو أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: التوحيد ثلاثة أقسام، أو أن الصحابة قالوا: التوحيد ثلاثة أقسام؟ ائتونا بشيء من ذلك، فيلبس على الناس بهذا الكلام. فيقال لمثل هذا الجاهل: إن الصحابة رضوان الله عليهم ومن تبعهم ما كانوا بحاجة إلى أن يقولوا: التوحيد ثلاثة أقسام؛ لأنهم يعرفون ويعلمون ما خوطبوا به تمام المعرفة، ولو سأل سائل عن ذلك لعدوه جاهلاً لا يعرف شيئاً، بل العجائز لا يحتجن إلى هذا التقسيم، ولكن لما كثرت العجمة في الناس وفسدت ألسنتهم واختلطت اللغة العربية بغيرها أصبحوا لا يفهمون كلام الله إلا بقراءة كتب التفسير وقراءة كتب اللغة، لذلك وضعوا هذه التقسيمات، وإلا فالأمر واضح موجود في القرآن، فمثلاً الله جل وعلا يقول: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106] فيقال لهذا الجاهل: أخبرنا عن إيمانهم ما هو الإيمان الذي أخبرنا الله جل وعلا أنهم ما يؤمنون إلا وهم مشركون؟ أخبرنا عن إيمانهم وشركهم ما هو؟ يؤمنون بماذا؟ ولأنه جاهل لن يعرف، ولكن يجب أن يرجع إلى كلام السلف، فالسلف بينوا أن إيمانهم هو قولهم: إن الله ربنا، وإن الله خالقنا ورازقنا فإنك إذا سألتهم من خلق السموات والأرض قالوا: الله، وإذا سألتهم من أنزل من السماء ماءً فأحيا بها الأرض بعد موتها قالوا: الله، هذا إيمانهم، وشركهم أنهم يدعون مع الله غيره. فإذاً دعوتهم مع الله غيره هذا توحيد الدعوة وتوحيد العبادة الذي كفروا به، وإيمانهم هو توحيد الربوبية؛ لأنهم أقروا بأن الرب هو الذي يربي الخلق ويعطيهم ما يحتاجون إليه، ويملكهم ويتصرف فيهم، ليس فيهم أحد ينكر هذا المعنى. وكذلك يقول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21] يعني: هل أنكروا أن الله خلقهم أو خلق من قبلهم؟ A كلا، ولهذا صار حجة عليهم: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22]. فيقال لهذا الجاهل: فهل إقرارهم بأن الله خلقهم وخلق من قبلهم، وأن الله خلق الأرض وجعلها على هذه الصفة، وأن الله أنزل من السماء ماءً فأنبت به النبات الذين يأكلون منه وتأكل منه أنعامهم هل هذا هو التوحيد المطلوب؟ وهل هذا هو المطلوب منهم؟ إن كان المطلوب منهم فقد جاءوا به فما معنى كونهم مشركين؟ وما معنى كونهم يجعلون لله أنداداً؟ وما هي الأنداد؟ وهم جعلوا لله أنداداً في الدعوة وفي الدعاء؛ لأنهم قالوا -مثلاً-: اللات إذا دعوناها تشفع لنا، وكذلك العزى وغيرها. فالدعاء والعبادة والفعل الذي يصدر منهم يرجون به نفعاً غيبياً، ويرجون من الذي يدعونه نفعاً أو دفعاً، وهذه هي العبادة التي يجب أن تخلص لله، أما الإقرار بأفعال الله التي يفعلها فهذا هو الذي يسمى توحيد الربوبية. والحقيقة أن هذا الذي يقول هذا القول ما عرف الإسلام، هذه هي الحقيقة الواقعة، فيجب أن يتوب إلى الله وأن يسلم من جديد، ويعرف الإسلام، وإلا فأمامه مصير -أعوذ بالله من ذلك- الكفار، نسأل الله العافية، والآيات في هذا لا حصر لها، بل كل كتاب الله على هذا الطريق، فالله جل وعلا جعل توحيد الربوبية حجة على وجوب توحيد الإلهية في آيات كثيرة ألزم الكفار بذلك، ويقول الله جل وعلا في آخر سورة في المصحف: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ} [الناس:1 - 3] فهل رب الناس وملك الناس وإله الناس معنا واحد؟ ما أحد قال هذا إلا هذا الجاهل المركب. فالمقصود أن الأمر كما قال عثمان بن سعيد الدارمي رحمه الله لما رد على أشباه هذا الرجل، بل هم أكثر منه علماً، يقول: ما كنا نتصور أننا نحتاج إلى ذكر مثل هذه الأشياء؛ لأن الصبيان الذين يلعبون في الشارع والعجائز يعرفون ذلك تمام المعرفة، فكيف يخفى ذلك على العلماء أو على طلبة العلم؟! ولكن الفتن والدعوات المضللة هكذا تصنع بالناس، نسأل الله العافية.

حكم من أنكر الأسماء والصفات

حكم من أنكر الأسماء والصفات قال الشارح رحمه الله: [والرحمن هو اسمه وصفته، دل هذا الاسم على أن الرحمة صفته سبحانه، وهي من صفات الكمال، وإذا كان المشركون جحدوا اسماً من أسمائه تعالى وهو من الأسماء التي دلت على كماله سبحانه وبحمده فجحود معنى هذا الاسم ونحوه من الأسماء يكون كذلك، فإن جهم بن صفوان ومن تبعه يزعمون أنها لا تدل على صفة قائمة بالله تعالى، وتبعهم على ذلك طوائف من المعتزلة والأشاعرة وغيرهم، ولهذا كفرهم كثيرون من أهل السنة، قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: ولقد تقلد كفرهم خمسون في عشر من العلماء في البلدان واللالكائي حكاه الإمام حكاه عنـ ـهم بل حكاه قبله الطبراني]. فقوله: خمسون في عشر يعني: خمسمائة عالم، يقول: إنهم حكموا بأنهم كفار، ويقول: إن هذا حكاه ونقله الطبراني في كتاب (السنة)، وكتاب (السنة) للطبراني مفقود الآن لا وجود له؛ لأن هذا من الكتب التي أغاضت هؤلاء، فصاروا يتتبعون الكتب التي تؤلف في الرد عليهم ويحرقونها، بل يشترونها بغالي الإثمان ويحرقونها حتى لا توجد في الناس؛ لأنها تفضحهم. وكذلك حكى هذا القول ونقله اللالكائي في كتابه (شرح أصول أهل السنة)، وهذا الكتاب موجود ومطبوع والحمد لله، فهو ذكر هذا القول، وذكر أن خمسمائة من كبار العلماء حكموا بأن الجهمية كفار؛ لإنكارهم الأسماء والصفات.

الرد على أهل التعطيل والتشبيه

الرد على أهل التعطيل والتشبيه قال الشارح رحمه الله تعالى: [فإن هؤلاء الجهمية ومن وافقهم على التعطيل جحدوا ما وصف الله به نفسه ووصفه رسوله من صفات كماله ونعوت جلاله، وبنو هذا التعطيل على أصل باطل أصلوه من عند أنفسهم، فقالوا: هذه الصفات هي صفات الأجسام، فيلزم من إثباتها أن يكون الله جسماً هذا منشأ ضلال عقولهم لم يفهموا من صفات الله إلا ما فهموا من خصائص صفات المخلوقين، فشبهوا الله في ابتداء أرائهم الفاسدة بخلقه، ثم عطلوه عن صفات كماله، وشبهوه بالناقصات والجمادات والمعدومات، فشبهوه أولاً وعطلوه ثانياً، وشبهوه ثالثاً بكل ناقص ومعدود. فتركوا ما دل عليه الكتاب والسنة من إثبات ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله على ما يليق بجلاله وعظمته، وهذا هو الذي عليه سلف الأمة وأئمتها، فإنهم أثبتوا لله ما أثبته لنفسه، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم إثباتاً بلا تمثيل، وتنزيهاً بلا تعطيل، فإن الكلام في الصفات فرع عن الكلام عن الذات يحتذي حذوه، فكما أن هؤلاء المعطلة يثبتون لله ذاتاً لا تشبه الذوات فأهل السنة يقولون ذلك، ويثبتون ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات كماله ونعوت جلاله، لا تشبه صفاته صفات خلقه، فإنهم آمنوا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يتناقضوا، وأولئك المعطلة كفروا بما في الكتاب والسنة من ذلك، وتناقضوا، فبطل قول المعطلين بالعقل والنقل -ولله الحمد والمنة- وإجماع أهل السنة من الصحابة والتابعين وتابعيهم وأئمة المسلمين. وقد صنف العلماء رحمهم الله تعالى في الرد على الجهمية والمعطلة والمعتزلة والأشاعرة وغيرهم في إبطال هذه البدع وما فيها من التناقض والتهافت، كالإمام أحمد في رده المشهور، وكتاب (السنة) لابنه عبد الله، وصاحب (الحيدة) عبد العزيز الكناني في رده على بشر المريسي، وكتاب (السنة) لـ أبي عبد الله المروزي، و (رد عثمان بن سعيد على الكافر العنيد) وهو بشر المريسي، وكتاب (التوحيد) لإمام الأئمة محمد بن خزيمة الشافعي، وكتاب (السنة) لـ أبي بكر الخلال، وأبي عثمان الصابوني الشافعي، وشيخ الإسلام الأنصاري، وأبي عمر بن عبد البر النمري، وخلق كثير من أصحاب الأئمة الأربعة وأتباعهم وأهل الحديث، ومن متأخريهم أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامه، وشيخ الإسلام ابن تيمية وأصحابه، وغيرهم رحمهم الله تعالى، فلله الحمد والمنة على بقاء السنة وأهلها مع تفرق الأهواء وتشعب الآراء. والله أعلم]. من المعلوم أن كتاب الله جل وعلا هو وحيه وقوله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ لأنه تنزيل من حكيم حميد جل وعلا، يعلم ما يكون ويعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون، ويعلم الكائنات السابقة، وعلمه سابق لكل شيء، ولا يفوته شيء، هو محيط بكل شيء جل وعلا، كما قال سبحانه: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3]، وهو الله جل وعلا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، فهو كامل بذاته وبصفاته وبأفعاله لا يتطرق إليه نقص بوجه من الوجوه، تعالى الله وتقدس. ولكن من حكمة الله جل وعلا أنه جعل لعباده أموراً يختبرهم ويبتليهم بها، وهي أمور غيبية يخبرهم بها حتى يتبين من يصدق في إيمانه واتباعه ممن يتبع هواه أو يتبع من يعظمه من المخلوقين، وبذلك يتميز الصادق من الكاذب، ويتميز الذي يستحق الثواب ممن يستحق العقاب، وإن كان الله عالماً بكل شيء يعلم من الذي سيصدق قبل وجوده، ويعلم من الذي ينحرف ويلحد قبل وجوده، وقد كتب ذلك جل وعلا في كتاب لا يضل ولا ينسى، كتاب لا يغادر شيئاً، ولا يقع إلا ما في هذا الكتاب، وذلك من كمال علمه. ولما كان جل وعلا رحيماً بعباده صار كل شيء يحتاج إليه العباد وجوده أكثر وأعم وأشهر، ولهذا صار الناس بحاجة ضرورية ماسة جداً إلى الماء، وصار وجوده كثيراً جداً، وكذلك الهواء، وكذلك الملح وغير ذلك، ومن ذلك معرفته جل وعلا، فطرق معرفته جل وعلا كثيرة جداً لا حصر لها، تعرف إلى خلقه بأمور كثيرة، حتى قال القائل: وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد تعالى الله وتقدس. فالدلائل عليه من أفعاله ومن خلقه ومن آياته الكونية والمنزلة التي نزلها على رسوله صلى الله عليه وسلم كثيرة جداً. أما الخلقية فهي كثيرة جداً، وهي قريبة جداً، حتى قال جل وعلا: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] أي: وفي أنفسكم آيات تدلكم على الله جل وعلا، فذكر صفات الله جل وعلا وأسمائه في كتاب الله جل وعلا كثير جداً، حتى قل آية إلا وتجد فيها اسماً من أسماء الله أو صفة من صفاته، وهذا له حكمة، ذلك أن الله جل وعلا بعلمه الأزلي علم أن الناس يحتاجون إلى هذا، وعلم بوجود الذين يحاولون إضلالهم وإخراجهم من دينهم. وهذا حدث بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلا ففي وقته لم يكن أحد ينكر أسماء الله جل وعلا إلا نوادر وشواذ، كما ذكر في هذا الباب في سبب نزول قوله جل وعلا: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد:30] ذكر أن طائفة من قريش وليسوا كلهم -عناداً وتكبراً- أنكروا أن يكتب الرسول صلى الله عليه وسلم (بسم الله الرحمن الرحيم)، وقالوا: الرحمان ما نعرفه، وإنما نكتب كما كان آباؤنا يكتبون، وهذا مثل قولهم: لا نعبد إلهاً واحد وإنما نعبد ما كان آباؤنا يعبدون، وليس معنى ذلك أنهم ينكرون ويلحدون في صفات الله جل وعلا مطلقاً، وإنما ذلك للعناد والتكبر، ومع ذلك بيّن ربنا جل وعلا أن هذا كفر، فإذا كانوا قالوا: ما نعرف أن الرحمن من أسماء الله، وإنما نكتب (باسمك اللهم) كما كان آباؤنا يكتبون فإن هذا عده الله جل وعلا كفراً فقال: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد:30] فكيف بالذي ينكر معاني الأسماء؟! لأن الأسماء أخذت من المعاني، فالرحمان أخذ من الرحمة، والعزيز من العزة، والحكيم من الحكمة، والعليم من العلم، وهكذا كل اسم اشتق من الصفة، والصفات هي المعاني التي دلت الأسماء عليها؛ لأنها أخذت منها، فالذي ينكر الصفات أعظم جرماً وإثماً وكفراً من الذين أنكروا مجرد الأسماء، فالصفات أهل البدع لا يؤمنون بها بل ينكرونها، حتى سرى هذا الوباء وهذا المرض إلى أكثر المسلمين وللأسف، وأقصد بالمسلمين طلبة العلم، أما العوام فالله جل وعلا فطرهم على الحق فهم لا ينكرون ذلك بل يقرون به، وإذا جاءهم الخبر من الله صار مطابقاً لما في فطرهم فأقروا وآمنوا به، ولكن المقصود الذين تغيرت فطرهم بالتعليم، الذين تلقوا عن شيوخهم الكفر بالصفات وجحدها. وهذا الكفر بالصفات أنواع، فمنه جحود وإنكار مطلقاً، ومنه طرق ملتوية، كالذين لا يجحدون النصوص ولكن يؤولونها تأويلاً يؤول بهم إلى إنكارها، وهؤلاء هم الأشاعرة، وأما الذين أنكروها رأساً فهم المعتزلة ومن سلك طريقهم من الطوائف، وربما يقول قائل: هؤلاء -والحمد لله- لا وجود لهم، فلماذا يُذكرون؟ ولماذا تنبش القبور وتذكر بشيء كان فبان ولا داعي إلى ذلك، وإنما الواجب أن يذكر الشيء الذين ينفع المسلمين ويفيد السامعين مما هم فيه وما يُحذر ويخشى عليهم منه؟ فنقول: إن لكل قوم وارثاً ولاشك، وأولئك لم يذهبوا، فقد ورثهم من ورثهم، وإن اختلفت الأسماء واختلفت الأنظار والطرق حسب اختلاف الزمن، وإلا فالمسألة واحدة فيما تؤول إليه. والواقع أن أصل الملاحدة الذين ينكرون الآخرة، وينكرون وجود الله، وينكرون أن يكون بعد هذه الحياة حياة تكون حياة جزاء أصلهم مأخوذ من أولئك؛ لأن الإنسان العاقل إذا سمع أولئك يقولون -مثلاً-: إن الله ليس فوق وليس تحت، وليس يميناً وليس شمالاً، وليس داخل العالم ولا خارج العالم، وليس في مكان ولا يجري عليه زمان، إذا سمع الإنسان مثل هذا القول ماذا يتصور في ذهنه؟ يقول: لا وجود له، وهذا هو العدم تماماً، وهذه هي العقيدة الفاسدة الخبيثة التي سلكها أولئك، فينكر وجود الله جل وعلا ثم بناءً على ذلك ينكر الجزاء، وينكر الإعادة، وينكر الجنة النار، ويقول: إنما هي حياة مادة فقط، وليس بعد ذلك شيء، وإنما تبقى هذه الأيام وهذه العوالم على ما هي عليه دائماً قوم يموتون ثم يرثهم آخرون وهكذا، فيقال لهم: هؤلاء الذين يموتون من أين أتوا؟ ومن الذي جاء بهم؟ وما أصلهم؟ والعجيب أنهم يقولون: إن أصل هؤلاء حيوانات أو نبات من الأرض، ثم تطورت شيئاً فشيء إلى أن صارت بهذا الشكل، فإذا كان يتطور فلماذا هذا التطور؟! ولماذا لا يستمر هذا التطور؟! وما الذي يمنعه إذا كان كذلك؟ وكل ما يمكن أن يقولوه فهو باطل بالعقل، ولا يمكن أن يقتنع به عاقل أبداً، ولابد أن ينتهي وجود خلق إلى خالق، فالإنسان لا يمكن أن يستوعب في عقله أنه توجد سيارة بغير صانع أبداً، فسيارة بدون صانع وجدت بهذه الدقة وبهذا النظام وبهذا الشكل هذا لا يمكن، ولا يمكن أن يوجد كتاب مرتب على معانٍ وبكلمات وحروف بغير كاتب أبداً، هذا مستحيل، فالمخلوقات هذه لابد لها من موجد، ولابد لها من خالق، ثم هذه المخلوقات لا يمكن أن يوجدها مخلوق مثلها؛ لأن المخلوق نفسه عاجز عن إيجاد نفسه، فكيف يوجد غيره؟! فلابد أن ينتهي الأمر إلى موجدٍ قادرٍ عليمٍ كامل بنفسه غني بذاته عن كل ما سواه، وهو الله جل وعلا. ولهذا جاء أن جبير بن مطعم لما سمع قول الله جل وعلا: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35] يقول: أحسست بقلبي كأنه أنخلع، وكأنه شيء مجذوب ثم لم يتمالك أن ذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأسلم، بسبب تأثره بقوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} [الطور:35] يعني: هل وجدوا بلا موجود؟ هذا لا يقبله العقل، فإذا كان هذا باطل جاء التقدير الثاني: هل هم خلقوا أنفسهم؟ وهذا أيضاً

الهدى والخير في امتثال أمر الله ورسوله، ومن خالفها وقع في الحيرة والشك والانحراف

الهدى والخير في امتثال أمر الله ورسوله، ومن خالفها وقع في الحيرة والشك والانحراف وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول: {وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} [سبأ:50] أي: أن هدي الرسول صلى الله عليه وسلم بالوحي، فإذا كان هداه بالوحي فكيف يهتدي غيره بغير الوحي؟! هذا مستحيل لا يمكن. فإذاً أصل القول بأن الواجب أن ينظر في مثل هذه الأمور إلى العقول قول باطل، ويسمون نظرهم وعقيدتهم وقواعدهم الكلامية يسمونها براهين قطعية، مع أنها في الواقع شكوك وسراب بقيعة إذا رآه الإنسان يحسبه شيئاً فإذا وجده لم تحصل على شيء، هذا هو الواقع. ولهذا عند النهاية إذا كان الإنسان ذكياً من هؤلاء يحار، ويصبح يتمنى أن يكون مثل أمه، ومثل العجائز، ويقول: يا ليتني على دين العجائز مثل ما حصل لكثير من هؤلاء، حتى إن أحدهم يقول: إني إذا أمسيت أضع الملحفة على وجهي وأتفكر في دليل فلان ودليل فلان فيأتي الصباح وأنا لم أهتد إلى شيء، فالنوم يذهب عنه، والأكل يذهب عنه؛ لأنه في حيرة، وعند الموت يتمنى أنه على دين العجائز، كما قال الجويني عفا الله عنا وعنه لما حضره الموت قال يوصي أصحابه: لا تشتغلوا بالكلام، والله لو كنت أعرف أنه يصل بي إلى ما وصل ما اشتغلت به، وقد تركت أهل الإسلام وعلومهم وخضت البحر الخضم، والآن إن لم يتداركني ربي فالويل لي. هكذا كان يقول، ثم يقول: وهأنذا لم أعرف شيئاً، بل أموت على عقيدة عجائز نيسابور. وهل هذا صحيح؟ الشيء الذي في القلب لا يمكن يزول. وكان يقرر عقيدته الفاسدة ويقول: كان الله ولا مكان، وهو الآن على ما كان عليه قبل خلق المكان، فأين كان؟ وأين هو الآن؟ هكذا يقول. فقام رجل من المسلمين أمامه وكان على كرسي فقال له: دعنا من هذا الكلام، ولكن أخبرنا عن شيء نجده في أنفسنا وأنت تجده في نفسك ضرورة، ما قال قائل: يا الله إلا وجد دافعاً من نفسه يدفعه إلى أن يطلب ربه من فوق، وما يطلبه من أسفل، ولا يمين ولا شمال، ولا تحت، فأخبرنا كيف نزيل هذه الضرورة؟ كيف نصدها من نفوسنا؟ فسكت، وصار يفكر في نفسه، ثم وضع يده على رأسه ونزل وصار يبكي، ويقول: حيرني الرجل حيرني! حيره لأنه لم تكن عقيدته على أساس فحار. ودخل رجل آخر على عالم من هؤلاء من كبرائهم وعظمائهم، دخل عليه في بيته فوجده مستغرقاً في الفكر، فسلم عليه فلم يرد عليه السلام، ثم أعاد عليه السلام ولم يرد عليه السلام، ثم أعاد السلام فلم يرد عليه؛ لأنه مشغول في فكره، عند ذلك قال الرجل المسلِّم: لابد أن هذا الرجل زال عقله فلماذا أجلس؟ أراد أن ينصرف، عند ذلك تنبه له فرفع رأسه وقال: يا فلان! ماذا تعتقد؟ فضحك به ساخراً، وقال: أعتقد ما يعتقده المسلمون، والحمد لله، فأطرق رأسه وجعل يبكي ويقول: ولكني -والله- ما أدري ماذا أعتقد فهذا رجل له من العمر ستون سنة، وهو يدرس ويناظر ويكتب ويتكلم، وبعد ذلك يقول: ولكني -والله- ما أدري ماذا اعتقد فكيف ذهب العمر وذهب التعب؟! وما السبب؟ السبب هو الإعراض عن كتاب الله، هذا هو السبب، أعرض عن كتاب الله وعن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فصار هذا جزاءه. إذاً لا هدي ولا طمأنينة وإيمان إلا بكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن اعترض على ذلك فلابد أن يضل، ولابد أن يحار، وإذا كان ذكياً وأصبحت الأدلة تتكافأ أمامه، ويجد دليل فلان يقابله دليل فلان، وكلما جاء بدليل أبطله الآخر فالنتيجة أنه سيحار ويصبح حائراً، أما كتاب الله فلا يمكن أن يبطل؛ لأنه حق، ولأنه من لدن حكيم عليم جل وعلا، وهو يخبر عن الواقع، فإذا اكتفى الإنسان وتحصن به فهو في طمأنينة وفي سكون وفي إيمان وفي عافية من هذا البلاء. وقد سبق أن قلت: إن مبدأ هذا الشيء جاء من اليهود ومن النصارى ومن المجوس لأجل إفساد عقائد المسلمين، وليس عن أمور مقنعة، فأدخلوا هذه الأمور على المسلمين حتى يحصل الخلاف بينهم وتذهب ريحهم وتضعف قوتهم، هذا هو المقصود فقط؛ لأنهم ما استطاعوا أن يقابلوا المسلمين بالقوة ففي كل موطن يقابلونهم بالقوة يهزمهم الله جل وعلا ويجعل أموالهم غنيمة للمسلمين وأكتافهم ممنوحة لهم، فعند ذلك قالوا: لابد من الحيلة، ولابد من أن يقاتلوا في عقائدهم؛ لأن هذه العقيدة التي جاءوا بها لا يمكن أن تقاوم بالقوة المادية، حتى إذا فسدت أمكن ضعفهم، وهذا هو الواقع، ولا يزال هذا الأثر إلى الآن، وسيستمر إلى أن يشاء الله جل وعلا. وسنة الله جل وعلا أنه جعل بين الحق وبين الباطل صراعاً يتصارع الحق مع الباطل دائماً، ولا يمكن أن يكون الباطل مصاحباً الحق، فهذه سنة الله جل وعلا في خلقه، ومن وقف مع كتاب الله جل وعلا ومع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فسوف يكون له النصر في نفسه، وقد يكون النصر متعدياً في نفسه ظاهراً حسب إرادة الله جل وعلا.

أساس الإيمان معرفة الله جل وعلا بأسمائه وصفاته

أساس الإيمان معرفة الله جل وعلا بأسمائه وصفاته أساس الأيمان هو معرفة الله جل وعلا بأسمائه وصفاته، وهذا هو السبب الذي ذكر المؤلف هذا الباب من أجله، فيبيّن أنه لابد للمسلم من أن يؤمن بأسماء الله وصفاته على ما جاء في كتاب الله من غير التحريف الذي يقول أصحابه: إنه تأويل، أي: أنه تفسير، وهو في الحقيقة تأويل، فيجعلون ظاهر الكلام غير مراد، ويقولون: والمراد شيء آخر، دلنا على هذا المراد العقل والقرائن. ونقول: كيف يكون العقل دالاً على خلاف كلام الله جل وعلا وعلى خلاف ظاهره؟! هذا لا يمكن. وكما ذكرت فهم يقولون -مثلاً-: الرحمة رقة تكون في قلب الراحم يحدث منها ميله إلى المرحوم، فيحدث العطف عليه والإحسان إليه، والله يجب أن ينزه عن مثل هذا؛ لأن هذا فيه نقص. ونقول: هذه يقال فيها: هذه رحمة النساء، ورحمة الضعفاء، ورحمة المخلوق الضعيف التي تليق به، أما رحمة الله فهي رحمة لا تشبه رحمة المخلوق، وكما أنه جل وعلا لا يشبه المخلوق، فكذلك صفاته، هكذا يجب أن يكون الجواب عليهم، وكلما قالوا شيئاً يجابون بهذا. ولهذا لما جاء رجل إلى الأمام مالك وقال له: الرحمن على العرش استوى كيف استوى؟ فقال له الأمام مالك: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان بالاستواء واجب، والسؤال عن الكيفية بدعة، ولا أراك إلا رجل سوء)، ثم أمر به أن يطرد من المجلس لأنه أساء. فالكيفية هي الحالة التي يكون عليها الموصوف، وهذه الحالة تحتاج إلى المشاهدة، ولا أحد يشاهد الله جل وعلا، وأما معنى الاستواء فهو معلوم، ففي اللغة معناه واضح، وهو العلو على الشيء والارتفاع والصعود عليه، هذا معنى الاستواء. وهكذا يقال في السمع، والبصر، والعلم، والقدرة، والإرادة، والنزول، وغير ذلك من صفات الله كلها يقال فيها: المعنى الذي خوطبنا به معلوم نعرفه، وكيفية اتصاف الرب جل وعلا في ذلك أمر مجهول لا يمكن أن يُوصل إليه؛ لأن هذا لابد له من أحد شيئين: إما المشاهدة، وإما أن يكون الموصوف له نظير مثله يشاهد فنقيسه عليه، وكلا الأمرين مستحيل في هذه الدنيا. والله لا مثل له، ولا أحد يشاهده جل وعلا. ثم ذكر المؤلف أن منشأ التعطيل هو التشبيه؛ لأنهم شبهوا فقالوا: إننا لا نعرف من هذه الصفات إلا ما نعرفه من نفوسنا فصاروا ينفونها لئلا يقعوا في التشبيه إذا أثبتوها، ثم إنهم عطلوه، وألحقوه بالمعدومات أو بالجمادات، فصاروا مشبهين له بالناقصات، فصار التشبيه الأخير أشر من التشبيه الأول؛ لأن المعطل يلزمه أن يكون مشبهاً ولا ينفك عن التشبيه؛ إذ كل معطل مشبه؛ لأنه يشبه بالناقصات أو المعدومات، تعالى الله وتقدس.

شرح فتح المجيد [104]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [104] الواجب على المسلم التسليم للشرع في كل ما جاء به، والإيمان بمحكم النصوص ومتشابهها، وقد اختلفت آراء السلف في تعيين المتشابه، إلا أن جميع ما قالوه لا يدخل فيه أسماء الله وصفاته.

شرح أثر علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (حدثوا الناس بما يعقلون)

شرح أثر علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (حدثوا الناس بما يعقلون) قال المصنف رحمه الله رحمة واسعة: [وفي صحيح البخاري قال علي رضي الله عنه: (حدثوا الناس بما يعرفون؛ أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟)]. ذكر المصنف هنا أثر علي: (حدثوا الناس بما يعرفون؛ أتريدون أن يكذب الله ورسوله). وذكر العلماء أن سبب هذا القول من علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن في وقته كثر القصاص، والذين يذكرون الحكايات التي يكون فيها غرابة، بل قد يكون فيها أمور غير معروفة، وقد تكون هذه الأمور الغريبة مأخوذة إما من التوراة أو من الإنجيل أو من الكتب الأخرى التي جاءت من عند الله ويكون أصلها حقا، ولكن عقول السامعين لا تحتملها، فنهاهم أن يحدثوهم إلا بالشيء الذي ينفعهم، والشيء الذي يعرفونه، وليس معنى هذا أنه يقول: لا تحدثوا الناس بصفات الله حتى لا يقعوا بالإنكار في الكفر، فإن هذا لا يقوله عالم يعرف الحق فضلاً عن أن يقوله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكتاب الله مملوء من صفات الله جل وعلا، وكذلك أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، فقد كان يحدث في المجامع بأحاديث الصفات، ولم يُحك أنه أنكر ذلك. أما ما يروى عن الإمام مالك أنه كره أن تذكر الصفات عند عامة الناس فهذا لا يصح عنه كما قال العلماء؛ لأن الكتاب والسنة على خلاف هذا، وإنما المقصود في هذا الأمور الغريبة، مثل الذي يحدث في صفات الملائكة التي قد لا تستوعبها عقول كثير من الناس العوام، فلا ينبغي أن يُحَّدث في مثل هذه الأمور التي يستنكرونها؛ لأنهم إذا استنكروها وقعوا في محظور إنكار الحق إذا كان حقاً، ويكون ذلك نقصاً عليهم، وإذا تركوا على ما هم عليه وحدِّثوا بالشيء الذي يلزمهم من معرفة الله جل وعلا ومعرفة دينه فهذا هو الواجب، وهذا هو المقصود في الحديث، وليس معنى ذلك أن صفات الله جل وعلا تنكرها العقول، بل العقول تقر بها، وهي موافقة لما في الفطر، إلا أنه جل وعلا أعظم من كل شيء، وكلما يقدر الإنسان في نفسه من شيء فالله أعظم منه، قال جل وعلا: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]. وكلما حدث للإنسان شيء من الأمور التي يستعظمها يجب أن يذكر هذا الآية، فإذا كانت المخلوقات كلها الأرض، والسموات، ومن فيهما يقبضها الله جل وعلا بيده وتكون صغيره بالنسبة إليه فكيف يمكن أن يوصف بشيء من أوصاف المخلوق؟! تعالى الله وتقدس: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67].

النهي عن أحاديث القصاص التي لا فائدة منها، وبيان بعض المبالغات التي فيها

النهي عن أحاديث القصاص التي لا فائدة منها، وبيان بعض المبالغات التي فيها قال الشارح رحمه الله: [علي هو أمير المؤمنين أبو الحسن علي بن أبي طالب، وأحد الخلفاء الراشدين، وسبب هذا القول -والله أعلم- ما حدث في خلافته من كثرة إقبال الناس على الحديث، وكثرة القصاص وأهل الوعظ، فيأتون في قصصهم بأحاديث لا تعرف من هذا القبيل، فربما أستنكرها بعض الناس وردها، وقد يكون لبعضها أصل أو معنىً صحيح، فيقع بعض المفاسد لذلك، فأرشدهم أمير المؤمنين رضي الله عنه إلى أنهم لا يحدثون عامة الناس إلا بما هو معروف ينفع الناس في أصل دينهم وأحكامه؛ من بيان الحلال من الحرام الذي كلفوا به علماً وعملاً، دون ما يشغل عن ذلك مما قد يؤدي إلى رد الحق وعدم قبوله فيفضي بهم إلى التكذيب، ولاسيما مع اختلاف الناس في وقته وكثرة خوضهم وجدلهم. وقد كان شيخنا المصنف رحمه الله لا يحب أن يقرأ على الناس إلا ما ينفعهم في أصل دينهم وعباداتهم ومعاملتهم الذي لا غنى لهم عن معرفته، وينهاهم عن القراءة في مثل كتب ابن الجوزي كـ (المنعش) و (المرعش) و (التبصرة) لما في ذلك من الإعراض عما هو أوجب وأنفع، وفيها ما الله به أعلم مما لا ينبغي اعتقاده، والمعصوم من عصمه الله]. (المنعش) و (المرعش) و (التبصرة) من كتب ابن الجوزي، وهي مطبوعة ومعروفة، ولكن فيها حكايات وفيها كلام يحتاج إلى نظر في الواقع، والعادة التي جرى عليها الناس أن هذه الكتب تُقرأ على العوام، وهذه تقرأ على العوام وفيها شيء قد لا يكون له أصل، مثلما ذكر أن آدم عليه السلام لما أهبط نزل في وادي (صرمديد) فبكى حتى جرى ذلك الوادي من دموعه، ونبت على دموعه الدرافين والفلفل، وصار من طير ذلك الوادي الطاووس، ومثل هذا لا يجوز أن يعتقد ولا أساس له، وكما يذكر أيضاً أن فلاناً بكى حتى نبت من دموعه العشب على الأرض، وهكذا، فمثل هذه الأشياء تكون باطلة ولا تعقل. فلا ينبغي أن يحدث بها الناس الذين إذا سمعوها صدقوا بها وآمنوا بها وجعلوا يتناقلونها وربما اعتقدوها، وهذه وأمثالها كثيرة توجد في مثل هذه الكتب، فلهذا كره شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله أن تُقرأ على العوام، أما كون الإنسان إذا كان طالب العلم يقرأ فيها ويميز بين الحق والباطل ويستفيد منها فلا بأس، أما أن تقرأ على عوام المسلمين الذين لا يميزون بين الحق والباطل فهذا لا ينبغي، فهذا الذي كرهه من هذه الناحية. فلا ينبغي في مثل هذا أن يعتقد أن آدم نزل يبكي، بل آدم صلى الله عليه وسلم نزل ليعمر الأرض بالطاعة والعبادة، وليس بمجرد البكاء، فهو مثل ما قال الله جل وعلا: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]، فالخليفة هو الذي يخلف من سبقه، وليس معنى ذلك أنه خليفة لله كما يقوله كثير من الناس، فالله ليس له خليفة تعالى الله وتقدس، وإنما هو خليفة لمن سبقه في الأرض، وقد قال المفسرون: إن آدم سبقه الجن إلى الأرض وأفسدوا فيها فقاتلتهم الملائكة، ولهذا قالت الملائكة لما قال جل وعلا: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة:30] أي: كما حدث ممن كان قبله، قالوا ذلك لأنه حدث مثل هذا ممن كان قبله. فالمقصود: أن آدم عليه السلام ونوح وداود وأنبياء الله حياتهم كانت ليست لأجل البكاء فقط، فهم يبكون من خشية الله ومن خوفه، لكن لم يجلسوا يبكون حتى سالت الأودية من دموعهم، بل لا يعقل أن آدمياً يسيل من دموعه الوادي ثم تنبت عليه الأشجار ويكون من طيوره الطاووس وما أشبه ذلك، فهذه كلها حكايات وكلام لا يجوز أن يُصدق، وليس عليها دليل، حتى ذكر في هذه الكتب وغيرها ما هو من وصف نبينا محمد الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهي كلها غير صحيحة. ومثل أمورٍ يذكرونها عن عمر رضي الله عنه أنه كان يقرأ الآية ثم يمرض ويبقى أياماً يعوده الناس من جراء قراءته للآية، وهذا كله غير صحيح، بل كان رضي الله عنه يقرأ الآية ويبكي، ثم بعد أن ينتهي من صلاته يدبر أمر الجيش الذي يرسله، وقد يفكر فيه في نفسه ويدبره، فيجمع في قلبه بين خشية الله وتدبر القرآن والبكاء وبين الأعمال الصالحة من الجهاد في سبيل الله وتدبير الأمور، وهكذا كل الكتب الذي ذكرها الشيخ وغيره فيها من هذا النوع شيء كثير، وأكثرها باطل لا يجوز اعتقاده.

نهي السلف للقصاص عن القص، وسبب ذلك

نهي السلف للقُصاص عن القص، وسبب ذلك قال الشارح رحمه الله: [وقد كان أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ينهى القصاص عن القصص؛ لما في قصصهم من الغرائب والتساهل في النقل وغير ذلك، ويقول: (لا يقص إلا أمير أو مأمور)، وكل هذا محافظة على لزوم الثبات على الصراط المستقيم علماً وعملاً ونية وقصداً، وترك كل ما كان وسيلة إلى الخروج عنه من البدع ووسائلها، والله الموفق للصواب ولا حول ولا قوة إلا بالله]. قال المصنف رحمه الله رحمةً واسعة: [وروى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه رأى رجلاً انتفض لما سمع حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصفات استنكاراً لذلك، فقال: ما فَرَق هؤلاء؟ يجدون رقة عند محكمه ويهلكون عند متشابهه! انتهى]. المقصود بالقصص الذي ذكر بأنه يُنهى عنه وأنه لا يقصه إلا أمير أو مأمور مثل الخطب والمحاورات التي تُلقى على العامة؛ لأن هذه يكون فيها تساهل في ذكر الأشياء والنقل، وقد يُقصد بها الأمور التي تعجز الناس ويكون ليس لها أصل، وهذا غالب على الوعاظ؛ فإنهم يذكرون الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة، ويذكرون القصص عن الأولين وما فيها من الغرائب، مثل المنامات والحكايات التي تكون فيها مخالفة لما ثبت في كتاب الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم يترتب على ذلك اعتقاد ما في هذه القصص؛ لأن السامع لا يفرق بين ما هو ثابت وما ليس بثابت، ولهذا ينهى عن مثل هذه الأشياء حفاظاً على عقائد المسلمين أن تتغير بهذه الأمور، وإذا كان الذي يقص غير مأمور فمعنى ذلك أنه مختار، وأنه يستطيع أن يميز بين الضار والنافع، فإذا كان هذا الذي يقص من قبل نفسه غير أهل لهذا الأمر فإنه ينهى عنه. أما إذا كان مأموراً من قبل المسئول ولي الأمر فإن في الغالب أن يكون أهلاً لذلك، فيعرف كيف يقص، ويعرف الذي يكون ثابتاً من الذي يكون غير ثابت، وكذلك إذا كان أميراً فهو كذلك من هذا القبيل يكون عارفاً بالأمور التي يقصها والتي تنفع من التي لا تنفع، هذه هي صفة الوضع في الزمن المتقدم، ومثل ذلك الكتب التي تؤلف في المواعظ والقصص والحكايات، فإن فيها كثيراً مما لا يجوز اعتقاده؛ لهذا لا ينبغي أن يقرأها الذي لا يميز بين الصحيح من غيره، ولا يجوز أن يقرأها، وإذا قرأها فيجب أن يكون عنده من يميز ذلك لئلا يعتقد باطلاً. أما الحديث الذي ذكره عن عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس أنه ذكر حديثاً فانتفض رجل عنده فقال: (ما فَرَقُ هؤلاء؟ يجدون رقة عند محكمه ويهلكون عند متشابهه!) فقوله: (ما فَرَقُ) هكذا جاء من باب الاستفهام، و (الفَرَقُ) هنا معناه: الخوف والجزع، وجاء في رواية: (ما فرّق هؤلاء) فتكون (ما) نافية، ويجوز في الراء أن تكون مشددة ويجوز أن تكون مخففة: (ما فرَق هؤلاء؟) و (ما فرَّق هؤلاء)، وعلى الرواية الأولى تكون (ما) استفهامية، وعلى الثانية تكون (ما) نافية، والمعنى على الأولى أنه استفهام من باب النهي، وأن هؤلاء إذا جاءهم من النصوص ما هو محكم وواضح يجدون رقه في قلوبهم ويجدون خشوعاً، أما إذا جاء منها شيء متشابه عليهم فإنهم يهلكون، ومعنى (يهلكون) أنهم يكذبون بها أو يردونها؛ لأن هذا الذي انتفض انتفض إنكاراً لما سمع وهو حق؛ لأنه استعظم إما لأنه لم يألفه أو أن قلبه لم يستوعبه ويدرك معناه، فصار كبيراً عنده، ففرق منه، أي: خاف وحصل له ما حصل. وبذلك يكون رد حقاً فيهلك في هذا، والمعنى على الرواية الثانية: أنهم ما فرقوا بين الحق والباطل، وبين الذي يجب أن يُقبل وبين الذي يجب أن يُرد، والذي يكون عنده فرقان هو الذي يعلم ويتعلم ويعرف ويسلك الطريق الحق، وليس معنى هذا أن هناك في النصوص شيء متشابه لا يفهم ولا يعرف؛ لأنه لم يرد في كتاب الله جل وعلا إلا ما هو معلوم للمخاطب، حيث خاطبنا ربنا جل وعلا بقرآن عربي مبين وواضح، وليس فيه شيء لا يُفهم.

تعريف المحكم والمتشابه

تعريف المحكم والمتشابه وقد اختلف العلماء: ما هو المتشابه؟ وما هو المحكم؟ فمنهم من قال: المتشابه: هو ما ورد ثم نسخ، والمحكم هو: الناسخ الذي نسخ ما سبقه. ومنهم من قال: المتشابه مثل فواتح السور التي بدأت بالحروف المقطعة (ألم، حم، طس، طه) وما أشبه ذلك، فهذه متشابهة؛ لأن هذه الحروف لا يعرف معناها، والمحكم ما عدا ذلك. ومنهم من قال: المتشابه: هو ما احتمل معناه حقاً موافقاً للمحكم. ومنهم من قال: المحكم: هو الأوامر والنواهي الواضحة الجلية من الأحكام كالأمر بالتوحيد والعبادة، وأما المتشابه فهو: الإخبارات بالأمور المغيبة التي لا يدرك كنهها ولا حقيقتها إلا بالمشاهدة، والوقوف عليها، فإذا جاء تأويله يوم القيامة عرفت. وفي كل هذه الأقوال ليس فيها أن آيات الصفات وأحاديث الصفات من المتشابه، كما يقوله من يقوله من المتأخرين من علماء الأشعرية وغيرهم، فإنهم جعلوا آيات الصفات متشابهه، مثل قوله جل وعلا: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، وقوله: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] وقوله: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] وما أشبه ذلك من الآيات الكثيرة، وهذا باطل قطعاً لم يقل أحد من السلف: إنه من المتشابه، وإنما قال به هؤلاء الذين سلكوا غير طريق السلف فضلوا في ذلك. فالصفات محكمة وظاهرة وواضحة، كما قال الإمام مالك: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول) أي أن كيفية الصفة مجهولة؛ لأن الكيفية هي الحالة التي يكون الموصوف عليها، هذه هي الكيفية، وهذه تتطلب المشاهدة، ولا أحد يشاهد الرب جل وعلا، فصارت مجهولة، ولكن المعنى الذي خوطبنا به واضح وجلي وليس فيه أي تشابه. والصواب أن التشابه في كتاب الله جل وعلا نسبي، ومعنى أنه نسبي أنه قد يكون عند شخص متشابهاً وعند غيره واضحاً جلياً محكماً ظاهراً ليس فيه تشابه، ولهذا اختلف العلماء في الوقف على قوله جل وعلا: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} [آل عمران:7]، فمنهم من يقف هنا ويقول: هنا وقف لازم (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ)، ومنهم من لا يقف، ويقرأها: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:7] ويقف هنا، يعني أن الراسخين في العلم يعرفون تأويله، وهذا قول ابن عباس رضي الله عنه وغيره من علماء الصحابة وغيرهم أنه ليس في كتاب الله شيء لا يعلم -كما يعتقده من يعتقده- لأنه واضح، وإن كان بعض الناس قد يشتبه عليه، ولكن عند الرجوع إلى المحكمات أو إلى العلماء يزول هذا التشابه، ويصبح ليس فيه متشابه، ويصبح واضحاً محكماً جلياً، وهذا هو القول الصحيح من أقوال العلماء. وكل ذلك لا يدل على أن الصفات متشابهة، بل هي محكمة ظاهرة جلية وواضحة، ونحن خوطبنا بشيء نفهمه ونعرفه، أما الكيفيات والحقائق فهذه لم تطلب منا، وإنما طلب منا أن نكلها إلى عالمها. والآية تدل على هذا، وقوله جل وعلا: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران:7] يعني: هن أصل الكتاب، فإذا رددت الذي فيه تشابه إليها تبين ووضح وزال التشابه، {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران:7] تُردُّ إلى هذا الذي هو أم الكتاب فيزول التشابه. وقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران:7] يدل على أن الزيغ الذي في قلوب هؤلاء يدعوهم إلى أن يتركوا المحكم الجلي ويتبعوا الشيء الذي فيه تعلق لهم طلباً للفتنة، يطلبون الفتنة التي هي زيغ القلوب والضلال، أما إذا كان الإنسان خالياً من هذه الصفة ليس في قلبه زيغ ولا يطلب الفتنة فإنه لا يحدث له ذلك، ولا يحدث عنده تشابه، فإذاً التشابه عند قوم معينين يطلبون الفتنة، والزيغ موجود في قلوبهم، وهو الذي يدعوهم إلى ذلك، والفتنة هي أن يوافق الأمر الذي يريدونه ما في قلوبهم مخالفاً للحق الذي أريد، فيكون هذا أيضاً زيادة فتنة لهم، نسأل الله العافية، والواقع شاهد بهذا، فكل مبتلى يمكن أن يتعلق بشيء من القرآن ولو من بعيد، حتى إن الدجالين الكذابين الذي كذبهم ظاهر جلي مثل البهائية والبابية والأحمدية وغيرهم ممن كذبهم لا يخفى على العقلاء فضلاً عن الذين عندهم علم، حاولوا أن يتعلقوا بشيء من القرآن ويزعموا أنه يدل على باطلهم، مع أن القرآن فيه قول الله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40]، وهم زعموا أنهم أنبياء، فكيف القرآن يدل على زعمهم؟ هذا من أمحل المحال، ولكن المقصود أن كل ضال يمكنه أن يتعلق بشيء ولو من بعيد، ويلبس على الجهال، ويزعم أن القرآن يدل على مقصوده وقوله. ومن العجائب التي تكون مضحكة في الواقع أن الرسول صلى الله عليه وسلم نص نصوصاً بلغت حد التواتر أنه خاتم النبيين وأنه لا نبي بعده، فقال: (لا نبي بعدي)، وعلى أمته تقوم الساعة، ثم يأتي كذاب دجال أشر ويقول: أنا اسمي (لا) حتى يلبس على الناس ويقول: أنا الذي قال في الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا نبي بعدي) يحرف الكلام الذي يكون نصاً على إبطال دعواه ليدل على دعواه، ولهذا النصارى منهم من زعم أن القرآن يدل على التثليث، وهذا أيضاً من هذا الجنس من العجائب، فقالوا: إنا نجد في القرآن (إنا) و (نحن) ضمائر الجمع، وهذا يدل على أن المعبودين جماعة. وهذه أدلة للمبطلين الذين باطلهم ظاهر لكل أحد، يتعلقون بشيء من النصوص بالتدليس والكذب والتغطية-تغطية الباطل الواضح-حتى يمكن أن ينطلي على الجهال، فكيف بالذي أعطي منطقاً وأوتي علماً وأعطي كذلك فصاحة وبياناً؟ إنه يستطيع أن يدلس، ويستطيع أن يلبس فيضل، ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أخوف ما أخاف على أمتي منافق عليم اللسان يجادل في كتاب الله)، فإن هذا يكون فتنة لكل مفتون، نسأل الله العافية، يفتن الناس بهذا السبب. والخلاصة أن العبد عليه إذا ورد شيء من النصوص في كتاب الله أو في حديث رسوله صلى الله عليه وسلم وصح ذلك أنه يقبله ويقول: آمنت بما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو لم يفهم، ثم معرفة معناه إذا أمكن، وإذا لم يمكن يكفيه ذلك، وأن يعرف أنه حق وإن لم يدرك معناه ويكتفى بهذا، ويكفيه ذلك في النجاة، فإذا عرف معناه وأرجعه إلى الواضح الجلي فهذا هو المطلوب، وهذا الذي يكون به زوال الشك إذا قُدِّر أنه يرد على القلب. أما إذا لم يستطع ذلك فليسلم ولينقد وليؤمن بالله وبما جاء عن الله تعالى، ويؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال الإمام الشافعي رحمه الله: آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله جل وعلا، وآمنت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم. يعني أنه يسلم وينقاد، وهذا هو الواجب. قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: وروى عبد الرزاق. هو ابن همام الصنعاني المحدث، محدث اليمن، صاحب التصانيف، أكثر الرواية عن معمر بن راشد صاحب الزهري، وهو شيخ عبد الرزاق يروي عنه كثيراً، ومعمر -بفتح الميمين وسكون العين- أبو عروة بن أبي عمرو راشد الأزدي الحراني ثم اليماني، أحد الأعلام من أصحاب محمد بن شهاب الزهري يروي عنه كثيراً]. معمر بن راشد ليس من اليمن، وإنما هو من أهل البصرة، وتعلم في البصرة وأخذ العلم عن البصرة، وكان عالماً كبيراً وحافظاً مشكوراً، فذهب إلى اليمن على عادة العلماء في الرحلة، ولكنه لما أتى إلى اليمن أعجب أهل اليمن بكثرة روايته وغزارة علمه، ولم يكن ذا أهل باليمن ولا بغيرها، فأراد أن يرجع من اليمن، فاجتمعوا وتشاوروا كيف يصنعون، فقال أحدهم: قيدوه. قالوا: كيف نقيده؟ قال: زوجوه فزوجوه وقيدوه بالزوجة، فصار من أعظم من نشر العلم هناك، وهو شيخ عبد الرزاق، وعبد الرزاق شيخ الإمام أحمد وغيره من الأئمة الكبار الذين أخذوا عنه. قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: عن ابن طاوس هو عبد الله بن طاوس اليماني، قال معمر: كان من أعلم الناس بالعربية، وقال ابن عيينة: مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة. قوله: عن أبيه هو طاوس بن كيسان الجندي -بفتح الجيم والنون- الإمام العلم، قيل: اسمه ذكوان. قاله ابن الجوزي. قلت: وهو من أئمة التفسير ومن أوعية العلم، قال في تهذيب الكمال: عن الوليد الموقري عن الزهري قال: قدمت على عبد الملك بن مروان فقال: من أين قدمت يا زهري؟ قال: قلت: من مكة. قال: ومن خلفت يسودها وأهلها؟ قلت: عطاء بن أبي رباح. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي. قال: فبم سادهم؟ قال: قلت: بالديانة والرواية. قال: إن أهل الديانة والرواية لينبغي أن يسودوا. قال: فمن يسود أهل اليمن؟ قلت: طاوس بن كيسان. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من الموالي. قال: فبم سادهم؟ قلت: بما ساد به عطاء. قال: إنه لينبغي ذلك. قال: فمن ي

دلالات نصوص الصفات

دلالات نصوص الصفات قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: عن ابن عباس قد تقدم، وهو حبر الأمة وترجمان القرآن، ودعا له النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)، وروى عنه أصحابه أئمة التفسير، كـ مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح وطاوس وغيرهم. قوله: ما فَرَقُ هؤلاء؟ يستفهم من أصحابه يشير إلى أناس ممن يحضر مجلسه من عامة الناس، فإذا سمعوا شيئاً من محكم القرآن ومعناه حصل لهم فرق -أي: خوف-، فإذا سمعوا شيئا من أحاديث الصفات انتفضوا كالمنكرين له، فلم يحصل منهم الإيمان الواجب الذي أوجبه الله تعالى على عباده المؤمنين]. يقول هذا لأنه ورد في رواية أنه ذكر الحديث: (إذا جلس الله على عرشه يوم القيامة) فانتفض رجل، ولهذا قال هذا القول، فقال: إنه إذا ورد شيء من هذه الصفات -بناء على هذه الرواية- انتفضوا كالمنكرين. قال الشارح رحمه الله تعالى: [قال الذهبي: حدث وكيع عن إسرائيل بحديث: (إذا جلس الرب على الكرسي) فاقشعر رجل عند وكيع، فغضب وكيع وقال: أدركنا الأعمش وسفيان يحدثون بهذه الأحاديث ولا ينكرونها. أخرجه عبد الله بن أحمد في كتاب الرد على الجهمية]. كلمة (جلس) هذه لم يرد فيها حديث صحيح، أعني (جلس على الكرسي) أو (على العرش)، وإنما الذي ورد الاستواء، وهو أن الله استوى على عرشه، ويجب أن يقف الإنسان في الصفات على الوارد فقط ولا يتعداه، وإن كان اللفظ الثاني بالمعنى، إلا أن يكون ذلك تفسيراً له، فيفسره بلفظ مرادف له فهذا لا بأس به، فيكون هذا من باب التفسير إذا سأل إنسان: ما معنى الاستواء؟ لأن بعض الناس يجهل معنى الاستواء، فيقال له: معنى الاستواء: الارتفاع عن الشيء، أو العلو عليه، أو الاستقرار عليه، أو الصعود فوقه وكل هذه بمعنى واحد، فليس معنى هذا أنها نصوص يجب أن تقال، ولكن نقول: هذا تفسير للاستواء، فهذا معناه المفهوم في اللغة. وهكذا إذا قال إنسان: ما معنى السمع؟ تقول: السمع هو إدراك المسموعات وإن دقت. يدركها جل وعلا ولا تفوته، كما أن البصر إدارك المبصرات، وهكذا، فالسؤال عن معنى الصفة ليس ممنوعاً إذا كان الإنسان لا يعرفها، ولكن الممنوع السؤال عن الكيفية، فالكيفية مجهولة، أما المعنى فهو معروف في اللغة التي خوطبنا بها، ومن جهل المعنى يوضح له ويبين. ثم إنه لا يجوز أن يثبت شيء لله جل وعلا لم يثبت بالنص، لهذا عند العلماء أن الصفات مأخوذة من القواعد التي قعدوها أخذاً من الكتاب والسنة، وما قعدوا شيئاً من عند أنفسهم، بل قالوا: إنها توقيفية. أي: إننا نقف معها على النص فقط، فلا نقيس، ولا نبني على العقل ولا على النظر، وإنما نقف على النص فقط. فهذا هو الطريق، فإذا جاء في كتاب الله جل وعلا أو صح عن النبي صلى الله عليه وسلم وجب أن نقول به ونصف الله به ونضيفه إلى الله جل وعلا صفة أو اسما، أما إذا لم يصح الحديث فلا يجوز أن نصفه بما في الحديث الضعيف، ولا يجوز أن نثبت به صفة من صفات الله جل وعلا، وكما أنه لا يثبت به حكم من الأحكام التي تتعلق بأفعال المكلفين فكيف يثبت به صفة من صفات الله جل وعلا؟!

أسباب لانحراف أهل البدع

أسباب لانحراف أهل البدع قال الشارح رحمه الله تعالى: [وربما حصل معهم من عدم تلقيه بالقبول ترك ما وجب من الإيمان به، فتشبه حالهم حال من قال الله فيهم: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85]، فلا يسلم من الكفر إلا من عمل بما وجب عليه في ذلك من الإيمان بكتاب الله كله واليقين، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [آل عمران:7]، فهؤلاء الذين ذكرهم ابن عباس تركوا ما وجب عليهم من الإيمان بما لم يعرفوا معناه من القرآن وهو حق لا يرتاب فيه مؤمن، وبعضهم يفهم منه غير المراد من المعنى الذي أراد الله فيحمله على غير معناه، كما جرى لأهل البدع كالخوارج والرافضة والقدرية ونحوهم ممن يتأول بعض آيات القرآن على بدعته، وقد وقع منهم الابتداع والخروج عن الصراط المستقيم، فإن الواقع من أهل البدع وتحريفهم لمعنى الآيات يبين معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما، وسبب هذه البدع جهل أهلها وقصورهم في الفهم، وعدم أخذ العلوم الشرعية على وجهها وتلقيها من أهلها العارفين لمعناها الذين وفقهم الله تعالى لمعرفة المراد، والتوفيق بين النصوص والقطع بأن بعضها لا يخالف بعضا ورد المتشابه إلى المحكم، وهذه طريقة أهل السنة والجماعة في كل زمان ومكان، فلله الحمد لا نحصي ثناء عليه]. وقد يكون هناك سبب غير هذا، وهو الظاهر، فهناك أسباب متعددة، وليس ما ذكره هو السبب الوحيد لانحراف أهل البدع، بل من أعظم الأسباب اتباع الهوى، فهذا من أعظم أسباب انحرافهم؛ لأنهم يتبعون أهواءهم، ولهذا يسميهم أهل السنة (أهل الأهواء)؛ لأنهم يتبعون ما يهوونه وما يشتهونه، وقد يكون أيضاً هناك سبب آخر، وهو أن يكون يريد إفساد الدين، فهو زنديق منافق يدخل مع المسلمين في الظاهر وهو في الباطن يريد حربهم وإفساد دينهم، وهذا وجد وصار له تأثير. فالمقصود أن البدع صار لها أسباب متعددة ليست مقصورة على الجهل فقط.

تفسير المتشابه عند السلف

تفسير المتشابه عند السلف قال الشارح رحمه الله تعالى: [ذكر ما ورد عن علماء السلف في المتشابه. قال في الدر المنثور: أخرج الحاكم -وصححه- عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد، فنزل القرآن من سبعة أحرف: زجر، وأمر، وحلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال، فأحلوا حلاله وحرموا حرامه، وافعلوا ما أمرتم به، وانتهوا عما نهيتم عنه، واعتبروا بأمثاله، واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه، وقولوا: آمنا به كل من عند ربنا)]. التشابه على هذا القول هو الذي يشتبه معناه على السامع، فيصبح معناه مشتبهاً، فما يدري أمعناه كذا أو معناه كذا. ومثل هذا يجب عليه أن يقول: آمنت به فهو من عند الله. وليست هذه صفة القرآن في الواقع، فالقرآن بين واضح، وقد أخبر الله جل وعلا أنه كله محكم، قال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} [هود:1]، فكل آياته محكمة ومفصلة من لدن حكيم خبير جل وعلا. أما ما جاء في وصفه بأنه كله متشابه كما قال الله جل وعلا: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الزمر:23] فكونه متشابه هنا يعني أن معناه يشبه بعضه بعضا، لا أنه متشابه على السامع يختلف عليه، بل معناه أنه يصدق بعضه بعضا، ويشبه بعضه بعضاً لكونه من الله جل وعلا وحده، كما قال جل وعلا: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82]، فوصف مرة بأنه كله محكم، ووصف أخرى بأنه كله متشابه، والإحكام واضح بأنه محكم مفصل، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا يأتيه نقص، ولا يأتيه تناقض، وليس فيه تفاوت، بل هو محكم مفصل -أي: مبين-، ومحكم ليس فيه شيء يناقض شيئاً، ولا يمكن أن يدخله تعارض. وأما كونه كله متشابهاً فهو أنه يشبه بعضه بعضاً في الإحكام والتفصيل والإعجاز والبيان والإيضاح وكونه أعظم كتاب لا أحد يستطيع أن يأتي بشيء مثله. وليس في هذا يشتبه على السامعين فلا يعرفون معانيه، ليس هذا المقصود، بل التشابه يكون في بعض الآيات نسبياً، ومعنى أنه بالنسبة لبعض الناس يكون متشابهاً، أما العلماء فليس عندهم بمتشابه، بل هو واضح وجلي، ولهذا جاء عن ابن عباس وصفه لكتاب الله أنه على أقسام: قسم تعرفه العرب من كلامها، وقسم يعرفه العلماء، وقسم لا يجهله أحد، بل العامة تعرفه، فإذا قال الله: (أقيموا الصلاة)، و (اعبدوا الله) فما هناك أحد يعرف اللغة العربية إلا وهو يعرف هذا المعنى، ولم يجعل فيه شيء لا يعرفه إلا الله. نعم. بعض العلماء قال: إن هناك أشياء لا يعلمها إلا الله، وهي حقائق الأمور المخبر عنها، مثل حقائق ما أخبر عنه جل وعلا في الموقف، أو في الجنة أو في النار، فهذا شيء معلوم في الجملة أنه له نظير، ولكن ليس مثله ولا قريباً منه، فالله أخبرنا أن في الجنة عنباً ونخلاً وفواكه، وأنَّ فيها زوجات، وأن فيها أنهاراً، ولو قيل لإنسان: هناك نهر من لبن فلن يصدق، فالمقصود أن اللبن والخمر والعسل نعرفه عندنا، ولكن هل هو الذي في الجنة؟ لا ولا بقريب منه، وإنما يتفق معه في الاسم فقط، أما في اللون وفي الرائحة وفي الطعم وفي الحقيقة فهو لا يعرفه إلا من كان فيه وأكله أو شربه أو نظر إليه. والله جل وعلا يقول في المؤمنين: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:17] و (نفس) نكرة، يعني: لا يعلم ذلك ملك، ولا رسول، ولا بشر، ولا أحد يعرف ذلك وابن عباس يقول: ليس عندكم مما في الجنة إلا الأسماء، أما حقائق الأشياء فليست معروفة. وكذلك النار -نسأل الله السلامة والعافية-، فعذابها وأغلالها وعقاربها وحياتها ومقارعها وزقومها وكل ما فيها ما يعرفه على الحقيقة إلا من كان فيه، وإن كان في الجملة له نظير نفهم بواسطة ما خوطبنا به، ولهذا استدل العلماء بهذه الأمور على أن الواجب على الإنسان إذا سمع صفات الله جل وعلا أن يؤمن بها على ظاهرها مع مخالفة الحقائق لما يعرفه، فحقائقها مختلفة، فإذا كانت الحقائق للمخلوقات لا تتفق فكيف بين الخالق والمخلوق جل وعلا. ولهذا كان رجل ممن عنده انحراف أو من المتسرعين يتكلم في آيات الصفات، فبلغ شيخه أنه يتكلم، فاستدعاه لينصحه، فقال له: يا بني! أخبرني عن مخلوق من مخلوقات الله صغير له ستمائة جناح، جناحان في جنبيه، فالبقية أين تكون؟ فقال: كيف أصفه لك؟ لا أعرف. قال: كيف لا تعرف مخلوقاً من مخلوقات الله، ولا تعرف وصفه وتذهب تتكلم في الله جل وعلا الذي هو أعظم من كل شيء وأكبر من كل شيء؟! فصارت هذه موعظة له وانتهى عما كان فيه. فالمقصود أن التشابه ليس كما يدعي بعض الناس ويقول: إن صفات الله متشابهة ويجب ألا نخوض فيها. فهذا معناه أنه يجب ألا نعتقد ظاهرها، ولهذا إذا ذكر الاستواء وما أشبه ذلك قالوا: هذا من المتشابه الذي لا يجوز أن نعتقد ظاهره. ثم يذهب القائل يؤول، فكيف يكون متشابهاً ثم يذهب يأوله ويقول: معناه كذا ومعناه كذا؟ تناقض دعاه إليه ما في قلبه من الزيغ، نسأل الله العافية. قال الشارح رحمه الله تعالى: [قال: وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران:7] الآية قال: طلب القوم التأويل فأخطأوا التأويل وأصابوا الفتنة، وطلبوا ما تشابه منه فهلكوا بين ذلك. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} [آل عمران:7] قال: منهن قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام:151] إلى ثلاث آيات، ومنهن: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء:23] إلى آخر الآيات]. يعني الآيات التي فيها الأوامر الواضحة الجلية من المحكمات، وهي كثيرة جداً. قال الشارح رحمه الله تعالى: [وأخرج ابن جرير من طريق أبي مالك عن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وناس من الصحابة رضي الله عنهم: المحكمات الناسخات التي يعمل بهن، والمتشابهات المنسوخات]. هذا قول ثالث ولا يخالف ما سبق. قال الشارح رحمه الله تعالى: [وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن إسحاق بن سويد أن يحيى بن يعمر وأبا فاختة تراجعا هذه الآية: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران:7]، فقال أبو فاختة: هن فواتح السور منها يستخرج القرآن. {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة:1 - 2] منها استخرجت البقرة، و {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} [آل عمران:1 - 2] منها استخرجت آل عمران. وقال يحيى: هن اللاتي فيهن الفرائض والأمر والنهي والحلال والحرام والحدود وعماد الدين. وأخرج ابن جرير عن محمد بن جعفر بن الزبير قال: المحكمات فيهن حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم والباطل، ليس فيها تصريف ولا تحريف عما وضعت عليه، وأخر متشابهات في الصدق لهن تصريف وتحريف وتأويل ابتلى الله بهن العباد كما ابتلاهم بالحلال والحرام، لا يصرفن إلى الباطل ولا يحرفن عن الحق]. وفي هذا قول رابع، وهو أن المحكم هو الذي لا يحتمل إلا معنى واحداً، والمتشابه هو الذي يحتمل عدة معانٍ، أما المحكم فهو يكون واضحاً معناه لا يحتمل إلا معنى، كقوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [النساء:36]، وكذلك (أقيموا الصلاة) وما أشبه ذلك، وهذا يعود إلى القول الثالث. قال الشارح رحمه الله تعالى: [وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان أنه قال: (هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ) لأنه ليس من أهل دين لا يرضي بهن، (وأخر متشابهات) يعني -فيما بلغنا- (الم) و (المص) و (المر). ]. من أشهر ما ذكر أن من المتشابه فواتح السور التي فتحت بالحروف المقطعة، ولهذا كثير من المفسرين إذا جاء إليها قال: الله أعلم بمراده. فيقفون ولا يتكلمون فيها، ويرون أنها من المتشابه، ويقولون: الله أعلم بمراده؛ لأنها حروف مقطعة، ولكن بعض العلماء تكلم فيها وبين معانيها وقال: إنها تدل على التحدي. فالله جل وعلا يقول: هذا الكتاب الذي يتلى عليكم هو من الحروف التي تنطقون بها التسعة والعشرين حرفاً، فإذا كنتم تزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرسل أو أنه ساحر أو أنه كاهن فأتوا بشيء نظير ما جاء به وهو من كلامكم الذي تنطقون به وتتحدثون به. ولهذا يقول: ما جاء حرف من هذه الحروف إلا وذكر بعده القرآن، كما قال الله جل وعلا: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة:1 - 2]، فهو إشارة إلى التحدي وإعجازهم بذلك. أما ما ورد من أنها عبارة عن عمر الدنيا وبقاء هذه الأمة فليس صحيحاً، وليس عليه من دليل؛ لأنهم جعلوها من حروف (الأبجد) التي يتكلمون فيها في الأعداد، فالَألِفُ واحد، والباء اثنان، والجيم ثلاثة، وإذا رجعت مرة أخرى تضاعفت الأعداد إلى آخره، فهذا غير صحيح، فعمر الأمة أو عمر الدنيا لا يعلمه إلا الله، وليس هذا إشارة إليها.

إنكار قريش لاسم الرحمن وأسبابه

إنكار قريش لاسم الرحمن وأسبابه قال الشارح رحمه الله تعالى: [قلت: وليس في هذه الآثار ونحوها ما يشعر بأن أسماء الله تعالى وصفاته من المتشابه، وما قال النفاة من أنها من المتشابه دعوى بلا برهان]. قال المصنف رحمه الله رحمة واسعة: [ولما سمعت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الرحمن أنكروا ذلك، فأنزل الله فيهم: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد:30]]. قال الشارح رحمه الله: [روى ابن جرير عن قتادة: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد:30]: ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية حين صالح قريشا كتب: (هذا ما صالح عليه محمد رسول الله. فقال مشركوا قريش: لئن كنت رسول الله ثم قاتلناك لقد ظلمناك، ولكن اكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله. فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! دعنا نقاتلهم. فقال: لا اكتبوا كما يريدون؛ إني محمد بن عبد الله، فلما كتب الكاتب (بسم الله الرحمن الرحيم) قالت قريش: أما الرحمن فلا نعرفه. وكان أهل الجاهلية يكتبون (باسمك اللهم)، فقال أصحابه: دعنا نقاتلهم. قال: لا ولكن اكتبوا كما يريدون). وروي أيضا عن مجاهد قال: قوله: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمْ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد:30] قال: هذا ما كاتب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً في الحديبية، كتب (بسم الله الرحمن الرحيم) قالوا: لا تكتب الرحمن؛ لا ندري ما الرحمن؟ لا نكتب إلا (باسمك اللهم) قال تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد:30] الآية. وروي أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ساجداً: يا رحمن يا رحيم. فقال المشركون: هذا يزعم أنه يدعو واحدا وهو يدعو مثنى مثنى! فأنزل الله: {قُلْ ادْعُوا اللَّهَ أَوْ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110] الآية)]. في هذه الآية تعدد الأسباب والمعنى واحد، ولكن سبق أن هذا ليس من قريش كلها، وإنما من طائفة منهم، كما أنه عرف في أشعارهم ذكر (الرحمن) وأنهم يؤمنون به جاء في أشعارهم أشعار الجاهلية، وهذا من باب العناد والتكبر وإباء الحق، فأبوا، ومع ذلك وصفوا بأنهم كفرة: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد:30] أي: ينكرونه لأن أصل الكفر هو الإنكار والجحود والتغطية، غطوه بجحودهم فعرف بأنه كفر، وعلى ذلك فالذي ينكر اسماً من أسماء الله جل وعلا يجوز أن يقال: إنه كافر كفر بهذا الاسم وجحده. أما تعدد الأسباب في آية واحدة فهذا يقع، فيكون أكثر من سبب والمعنى واحد، ويكون المقصود المعنى، وكل سبب يكون داخلاً في هذا المعنى، وقد قال جل وعلا: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} [الفرقان:60]، فهذا كفر به وإنكار، وهذا يكون لبعضهم، ويجوز أن يكون ذلك أيضاً سبباً، فأنزل الله جل وعلا قوله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد:30].

مسائل وفوائد الباب

مسائل وفوائد الباب

جحد اسم أو صفة خروج عن الإيمان

جحد اسم أو صفة خروج عن الإيمان قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل: الأولى: عدم الإيمان بجحد شيء من الأسماء والصفات]. يعني أن الإنسان إذا جحد اسماً من أسماء الله وصفة من صفاته يجوز أن نصفه بأنه غير مؤمن، ويكون المعنى أنه غير مؤمن بهذا الاسم وبهذه الصفة، ويجوز أن يكون كافراً كفراً مخرجاً من الدين، ويجوز أن يكون كافراً كفراً دون كفر. قال المصنف رحمه الله: [المسألةالثانية: تفسير آية الرعد]. هي قوله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد:30].

لا يحدث بما لا يفهم السامع، وليس ذلك في صفات الله

لا يحدث بما لا يفهم السامع، وليس ذلك في صفات الله قال المصنف رحمه الله تعالى: [المسألة الثالثة: ترك التحديث بما لا يفهم السامع]. يعني أن الشيء الذي يشكل على السامع ويكون فتنة له لا ينبغي أن يحدث به، وليس معنى ذلك أن صفات الله جل وعلا لا يحدث بها الناس، بل كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحدث بها ويذكرها على المنبر، ويخطب بها في المجامع، لهذا جاء في السنن أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله ينظر إليكم أزلين قنطين فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب، فقام رجل من الحاضرين أعرابي وقال: يا رسول الله! أو يضحك ربنا؟ قال: نعم، فقال: إذاً لا نعدم خيراً من ربنا إذا ضحك). فالمقصود: أنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب بصفاته جل وعلا ويبينها، وإذا سئل عنها بينها ووضحها وأقرها.

وجوب القبول لما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم

وجوب القبول لما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم قال المصنف رحمه الله: [المسألة الرابعة: ذكر العلة أنه يفضي إلى تكذيب الله ورسوله، ولو لم يتعمد المنكر] يعني: أنه إذا رد الشيء من الحق يكون ذلك تكذيباً له، وهذا يدلنا على أنه يجب على كل من عرف شيئاً مما قاله الله أو قاله الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقبله ويسلم له وينقاد له ولو لم يعرف معناه؛ لئلا يقع في التكذيب. قال المصنف رحمه الله: [المسألة الخامسة: كلام ابن عباس لمن استنكر شيئا من ذلك، وأنه أهلكه].

شرح فتح المجيد [105]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [105] قد يسدي البعض نعماً على بعض عباد الله، فينسى المنعم الحقيقي الذي هو الله، ومن ثم تصرف عبادة الشكر لغيره، وهذا قدح في التوحيد.

باب قول الله: (يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها)

باب قول الله: (يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها) قال المصنف رحمه الله رحمة واسعة: [باب قول الله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمْ الْكَافِرُونَ} [النحل:83]]. المقصود بهذا الباب بيان أن ما يحصل للإنسان من نعم يجب إضافتها إلى الله جل وعلا، ولا يجوز إضافتها إلى السبب؛ فإن الأسباب خلقها الله جل وعلا، وهو الذي رتب عليها المسببات، وجعلها جزءاً مما يترتب عليه وجود النعم، فإضافتها إلى غير مسديها وموليها يكون من باب الكفر الذي هو كفر النعمة، ويكون أيضاً شركاً، من الشرك الخفي الذي يكون ذاهباً بكمال التوحيد؛ لأن كمال التوحيد أن يكون الإنسان عبداً لله في جميع تصرفاته أفعاله وأقواله، وأن يضيف جميع ما يحدث إلى الله جل وعلا، ولكن هذا في الشيء الذي يكون فيه ثناء على الله جل وعلا فهو نعمة.

معنى الكفر بنعمة الله تعالى بعد معرفتها

معنى الكفر بنعمة الله تعالى بعد معرفتها ومن باب التأدب مع الرب جل وعلا ألا يضيف الإنسان ما أنعم به على عبده إلى غيره، ولو كان ذلك سبباً لوجود تلك النعمة، فإنه لا يجوز إضافتها إلى ذلك السبب؛ لأن السبب مخلوق، والمخلوق ليس له في نفسه تصرف فضلاً عن أن يوجد له على غيره نعمة ولهذا عاب الله جل وعلا على الكفار أنهم يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها، وسواءٌ أكانت المعرفة جزئية أم كانت عامة، كما سيأتي في أقوال المفسرين في الآية، والصواب أنها عامة في جميع ما يكون فيه خير ونفع للإنسان، فيجب أن يكون مردها إلى الله، ثم يشكر الله جل وعلا عليها، وبذلك يكون الإنسان قد جاء بالمطلوب منه في مثل هذه الجزئية، ولا يكون داخلاً عليه النقص في إضافة النعم إلى غير الله جل وعلا فيكون كافراً بنعم الله ويدخل عليه الشرك الأصغر، وقد جاء في الحديث: (الشرك أخفى في هذه الأمة من دبيب النملة على الصخرة السوداء في ليلة ظلماء). قال رحمه الله تعالى: [قال مجاهد ما معناه: هو قول الرجل: هذا مالي ورثته عن آبائي. وقال عون بن عبد الله: يقولون: لولا فلان ما كان كذا. وقال ابن قتيبة: يقولون: هذا بشفاعة آلهتنا]. هذه الأقوال متقاربة ومعناها واحد، وهو أن الإنسان إذا كان عنده مال قال: هذا مالي ورثته عن آبائي. أو يقول: حصلت عليه بكسبي، أو بقوتي، أو بمعرفتي، أو بكوني أستطيع أن أتصرف أو ما أشبه ذلك. أي: أن يضيف المال أو النعمة إلى غير الله فإنه يكون كافراً بنعمة الله بعد معرفته بأن الله هو الذي خلقه، وبأنه هو الذي يتصرف في الكون كله، فهذا معنى المعرفة، فمعناها أنه يعترف بأن الله هو المتصرف في كل شيء، والكفر معناه أن يضيف النعمة إلى السبب، بأن يقول: هذا بسبب كسبي أو بسبب معرفتي. أو ورثته عن آبائي. ويضيف المال إليه فيقول: مالي ورثته. سواءٌ أقال: ورثته عن آبائي أم قال: حصلته بكسبي أو بمعرفتي. وكذلك قولهم: إنها بشفاعة آلهتنا، كما قال ابن قتيبة. يعني أن النعم حصلت بشفاعة الآلهة. والآلهة صماء عمياء ليس لها تصرف، ولا تملك مع الله شيئاً، بل هو كفر بنعمة الله جل وعلا، بل هذا يكون من الكفر الأكبر؛ لأنهم أضافوا شفاعة الآلهة إلى الله جل وعلا مع أنه أبطلها، ومع أنه أخبر أنه لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه تعالى وتقدس، والآلهة هذه لا تشفع، فشفاعتها باطلة. والمقصود بالآلهة كل ما عبد من دون الله، وكل ما أله من دون الله، سواءٌ أكانت أصناماً، أم كانت قبور أولياء أم غير ذلك. وكذلك قوله: لولا فلان لكان كذا. ولولا فلان لحصل كذا وكذا، فإن هذا أيضاً من الشرك الخفي، وهو أيضاً من إضافة الشيء إلى غير الله جل وعلا. كذلك كونه يجعل حصول الشيء بالسبب الذي عمله هو، فيقول مثلاً: ركبت سيارة جديدة وجئت بسرعة لأجل ذلك. فيضيف النعمة التي أنعم الله عليه بها من السلامة والوصول بسرعة إلى السيارة وإتقانها، فهذا أيضاً من هذا النوع. فيجب أن يضاف كل شيء يحصل له فيه نعمة إلى الله، وإن كان هناك سبب فالله جل وعلا هو الذي أوجده، ولو شاء لأبطل ذلك السبب وإن كان متقناً.

تفسير النعمة في آية النحل

تفسير النعمة في آية النحل في قوله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ} [النحل:83] أقوال غير ما ذكر للمفسرين في تفسير النعمة. منها: أن النعمة الرسول صلى الله عليه وسلم، يعرفون أنه مرسل من عند الله ثم يكذبون ويعرضون عن دعوته، ويكون معنى ذلك أن هذا من الكفر الأكبر. ومنها: أن النعمة الإسلام، يعرفون أنه دين الحق ثم يعرضون عنه، ويكون أيضاً هذا من الكفر الأكبر المخرج من الدين الإسلامي. ومما لا شك فيه أن الإسلام هو أكبر نعمة على العبد، فأكبر ما أنعم الله جل وعلا على عبده بعد أن خلقه وأوجده أن جعله مسلماً، فيجب أن يشكر الله جل وعلا على ذلك، وألا يضيف إلى المخلوق شيئاً أنعم الله جل وعلا به عليه، وإن كان ذلك المخلوق سبباً، ولا ينافي هذا أن الإنسان يحمد من حصل على يده خير له، بل قد جاء في الحديث: (لا يشكر الله من لا يشكر الناس)، ولكن ليس معنى هذا أنه يضيف النعمة إليهم، بل معناه أنه يكافئهم، أو يدعو لهم إن لم يجد ما يكافئهم به، فهذا هو شكرهم، وليس شكرهم إضافة النعم إليهم وأنهم هم الذين صنعوها أو أوجدوها، لهذا جاء الإرشاد إلى ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: (من صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه به فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه)، فجعل المكافأة أن يعطى مقابل المعروف، فإن لم يكن الإنسان في يده شيء من ذلك فإنه يدعو له، والدعاء يكون مكافأة له. أما إضافة الشيء إليه فيقول: أنت الذي جئت بهذا الشيء لي، وأنت الذي كنت، وأنت الذي صنعت وعملت فهذا لا يجوز؛ لأن هذا من كفر النعمة؛ لأنها كلها بيد الله، والناس كلهم لو اجتمعوا على أن يعطوا الإنسان شيئاً لم يكتبه الله له لم يستطيعوا، ولو اجتمعوا على أن يضروه بشيء كتب الله جل وعلا أنه لا يحدث له لم يستطيعوا ذلك، فالأمور كلها بيد الله جل وعلا، فيجب أن يكون العبد عبداً لله جل وعلا وينظر إلى الناس أنهم كلهم عبيد لله، فمن أطاع الله أحبه لطاعته لله، ومن عصى الله كرهه وأبغضه لمعصيته لله جل وعلا، وأن كل نعمة تحدث للإنسان فهي من الله جل وعلا. قال الشارح رحمه الله تعالى: [ذكر المصنف رحمه الله ما ذكر بعض العلماء في معناها، وقال ابن جرير: فإن أهل التأويل اختلفوا بالمعني بالنعمة فذكر عن سفيان عن السدي: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} [النحل:83] قال: محمد صلى الله عليه وسلم، وقال آخرون: بل معنى ذلك أنهم يعرفون أن ما عدد الله تعالى ذكره في هذه السورة من النعم من عند الله، وأن الله هو المنعم عليهم بذلك، ولكنهم ينكرون ذلك فيزعمون أنهم ورثوه عن آبائهم. وأخرج عن مجاهد: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} [النحل:83] قال: هي المساكن والأنعام وما يرزقون منها، والسرابيل من الحديد والثياب، تعرف هذا كفار قريش، ثم تنكره بأن تقول: هذا كان لآبائنا فورثونا إياه. وقال آخرون: معنى ذلك أن الكفار إذا قيل لهم: من رزقكم؟ أقروا بأن الله هو الذي يرزقهم ثم ينكرونه بقولهم: رزقنا ذلك شفاعة آلهتنا. وذكر المصنف مثل هذا عن ابن قتيبة، وهو أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري قاضي مصر، النحوي اللغوي، صاحب المصنفات البديعة المفيدة المحتوية على علوم جمة، اشتغل ببغداد، وسمع الحديث على إسحاق بن راهويه وطبقته، توفي سنة ست وسبعين ومائتين]. النعمة الصواب أنها عامة ليست خاصة في معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم، أو فيما عدده الله جل وعلا في سورة النحل، فإنه عدد نعماً كثيرة، وكذلك ما ذكر ابن عباس أنها البيوت، أو أنها اللباس، أو أنها ما يقي من الحرب من الحديد وغيره فإن هذه أمثلة فقط، ولا يقصد بها أنها تجمع النعم، فكل ما أنعم الله به على عباده يجب أن يشكروه عليها، وأن يضيفوها إليه معترفين له بالفضل والكرم والجود، ولا يجوز أن تضاف إلى غيره. فالآية عامة، ولكن من أعظم النعم إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم، فمن أعظم نعم الله أن أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الناس يعرفهم بالله جل وعلا ويدعوهم إلى دار السلام، فإذا اعتنق الإنسان دعوته فهذه من أكبر نعم الله عليه، فعليه أن يحمد ربه جل وعلا على ذلك، ويرتبط بهذه النعمة، ويسأل الله جل وعلا أن يثبته عليها حتى يلقاه، وليس هناك نعمة أكبر من هذه. قال رحمه الله تعالى: [وقال آخرون: ما ذكره المصنف عن عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي أبو عبد الله الكوفي الزاهد -عن أبيه وعائشة وابن عباس، وعنه قتادة وأبو الزبير والزهري، وثقه أحمد وابن معين، قال البخاري: مات بعد العشرين ومائة- {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} [النحل:83] قال: إنكارهم إياها أن يقول الرجل: لولا فلان ما كان كذا وكذا، ولولا فلان ما أصبت كذا وكذا. واختار ابن جرير القول الأول، واختار غيره أن الآية تعم ما ذكره العلماء في معناها، وهو الصواب والله أعلم. قوله: (قال مجاهد): هو شيخ التفسير الإمام الرباني مجاهد بن جبر المكي مولى بني مخزوم، قال الفضل بن ميمون: سمعت مجاهداً يقول: عرضت المصحف على ابن عباس مرات أقفه عند كل آية وأسأله: فيم نزلت؟ وكيف نزلت؟ وكيف معناها؟ توفي سنة اثنتين ومائة وله ثلاث وثمانون سنة رحمه الله].

الذم لمن يضيف النعمة إلى غير الله تعالى

الذم لمن يضيف النعمة إلى غير الله تعالى قال رحمه الله تعالى: [قال: وقال أبو العباس بعد حديث زيد بن خالد الذي فيه أن الله تعالى قال: (أصبح اليوم من عبادي مؤمن بي وكافر) الحديث. وهذا كثير في الكتاب والسنة، يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره ويشرك به، قال بعض السلف: هو كقولهم: كانت الريح طيبة والملاح حاذقاً، ونحو ذلك مما هو جار على ألسنة كثير]. قال رحمه الله تعالى: [قوله: (وقال أبو العباس) -هو شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الإمام الجليل رحمه الله. (بعد حديث زيد بن خالد) - وقد تقدم في باب الاستسقاء بالأنواء. قال: (وهذا كثير في الكتاب والسنة، يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره ويشرك به، قال بعض السلف: هو كقولهم: كانت الريح طيبة والملاح حاذقاً، ونحو ذلك مما هو جار على ألسنة كثير) انتهى]. الحديث تقدم، وهو حديث ثابت في صحيح مسلم وفي غيره عن زيد بن خالد في قصة غزوة الحديبية: (صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح على إثر سماء كانت من الليل، فقال: أتدرون ما قال ربكم البارحة؟ قال: أصبح من عبادي مؤمن بي كافر بالكوكب ومؤمن بالكوكب كافر بي. أما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب)، وسبق أن معنى الإيمان هنا الاعتراف بالفضل ونسبة النعمة إلى الله جل وعلا، أما الكفر فمعناه جحد النعمة وإضافتها إلى غيره. والإيمان بالكوكب هو كونه نسب إليه نزول المطر، فيقال: مطرنا بنوء كذا، ومن المعلوم -كما سبق- أنه ليس المقصود أن الكوكب هو الذي يخلق المطر وهو الذي ينزله، فما كانوا يعتقدون هذا، وإنما كانوا يقولون: إن المطر جاء بسبب هذا الكوكب في طلوعه، لهذا يضيفون إليه ذلك، فيقولون: النوء الفلاني محمود وغزير المطر وكثيره، والنوء في الواقع ليس عنده مطرْ وليس عنده قحط، وليس عنده شيء من التصرفات، إنما هو مسخر مدبر يسير حيث سيره الله، فنسبة المطر إليه أو غير المطر من أعظم جحود النعم، ومن الخطأ الواضح، ومن ذلك ما يحدث اليوم كثيراً في بعض الصحف وفي بعض المجلات، وقد يوجد في بعض الإذاعات أن الطالع الفلاني يكون فيه كذا وكذا، وأن من كان طالعه كذا فسيصيبه كذا وكذا، وأنك في هذا اليوم أو في هذا الشهر ستصنع كذا ويصيبك كذا ويحدث لك كذا، وهذا كله من الكفر بالله جل وعلا، وإذا كان اعتقد الإنسان أن هذا حقيقة فهو كفر أكبر، أما إذا أضافه مجرد إضافة مع اعتقاده بأن الله جل وعلا هو المصرف لكل شيء والمدبر لكل شيء، وإنما جعل هذه أسباباً، فهذا من الكفر الذي لا يخرج من الدين الإسلامي، ولكنه كفر، وهو مذهب لكمال التوحيد، فيجب على الإنسان أن يتنبه لهذه الأمور، والأفعال سواءٌ أكانت في الأجرام السماوية، أو في الأرض مثل هبوب الرياح، أو كون الإنسان يوفق إلى عمل معين وأنه يحدث له شيء وإن كان هو الذي يقوم بالسبب كلها بتيسير الله جل وعلا وبتقديره وبتفضله على العبد، فلا يجوز أن يضيفه إلى غير الله جل وعلا. أما الأمور التي وقعت وانتهت مثل شيء عمله فإنها أيضا يجب أن تكون إضافتها إلى الله جل وعلا، ولا يجوز أن تضاف إلى مخلوق من المخلوقات أو جزء ممن جعل سبباً لها. والطريق في هذا أنه إذا أراد أن يضيف إلى سبب أو شيء يقول: إن هذا حدث من الله ثم من فلان، ومع ذلك لا يجوز أن يكون هذا على الحقيقة، فهو سبب فقط، بل الذي أوجد كل شيء وتصرف في كل شيء هو الله جل وعلا، والمخلوق ليس له دخل في هذه الأشياء، وربنا جل وعلا يخبرنا أنه جعل لكل شيء سببا، ولكن السبب لا يكون سبباً واحداً مستقلاً، وقد تكون هناك موانع كثيرة، فيكون جزءاً من السبب، وقد تكون هناك أسباب عدة يكون واحداً منها، فلو شاء لعطل الأسباب كلها أو بعضها ولم يحدث شيء. وكم يصنع الإنسان من أشياء يقدر في نفسه أنه مهيمن عليها ثم لا يستطيع ذلك وإن وجدت الأسباب التي معه؛ لأن الأمور كلها بيد الله، ولهذا لما قيل لبعض العرب: كيف عرفت الله؟ قال: بنقض العزائم. لأن الإنسان يعزم على الشيء ثم في لحظة يبدو له غير ذلك، فمن أين جاءه هذا؟ فالأمور كلها بيد الله جل وعلا يصرفها. فإذا حدث للإنسان حادث هو سبب فيه أو غيره سبب فيه فإنه يجب أن يضاف ذلك إلى محدثه، ولا يمنع هذا من أن الإنسان يؤاخذ بأعماله، ويؤاخذ بما كان سبباً في وجوده؛ لأنه يجب أن يتصرف على وفق الشرع، ولا يكون سبباً في إتلاف شيء أو في منع شيء مما هو لغيره، فإن حصل ذلك فهو مؤاخذ بما كان هو السبب فيه، ومع ذلك كل الأمور بيد الله جل وعلا.

إضافة النعمة إلى غير الله تعالى سبب لدخول الكفر مع الإيمان

إضافة النعمة إلى غير الله تعالى سبب لدخول الكفر مع الإيمان قال الشارح رحمه الله تعالى: [وكلام شيخ الإسلام يدل على أن حكم هذه الآية عام فيمن نسب النعم إلى غير الله الذي أنعم بها وأسند أسبابها إلى غيره، كما هو مذكور في كلام المفسرين المذكور بعضه هنا. قال شيخنا رحمه الله: وفيه اجتماع الضدين في القلب، وتسمية هذا الكلام إنكاراً للنعمة]. قصده باجتماع الضدين الإيمان والكفر؛ لأنه قال: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} [النحل:83]، فيجتمع في القلب ضدان، المعرفة وضدها الإنكار، والإيمان وضده الكفر، فكونه أخبر أنهم يعرفون النعمة لا ينافي أنهم ينكرونها، وكونه أخبر أنهم يؤمنون لا ينافي أنهم يكفرون، كما قال جل وعلا: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106]، وقد سبق أن معناها أنك إذا سألتهم: من خلق السموات والأرض؟ قالوا: الله. فهو إيمان بالربوبية، وأما الشرك فكونهم يعبدون مع الله غيره. وكذلك النعم يقرون بأن الله جل وعلا هو الخالق وهو المتصرف في كل شيء، وهو الذي ينزل المطر، ولكن يضيفون نزول المطر إلى الكوكب، وقد يضيفونه إلى ما هو سبب، لهذا جاء عن ابن عباس أنه قال: يشركون بكل شيء حتى بالكلب فيقولون: لولا كلبة فلان لأتى اللصوص، أو: لولا الكلب مع الغنم لعدا عليها الذئب أو لأكل منها الذئب. فكل هذا يكون من جعل الند مع الله جل وعلا؛ لأن النعم يجب أن تضاف إلى الله جل وعلا؛ فهو مسديها، وهو الذي جعل هذه أسباباً وسخرها للعباد. وقد أخبر جل وعلا أنه خلق لنا ما في السموات والأرض جميعاً منه، وسخر لنا ما في السموات وما في الأرض، وسخر لنا البحار والأنهار، وسخر لنا الشمس والقمر، وسخر لنا كل ما فيه نفعنا من ملائكة ومن مخلوقات وغيرها، فهي كلها بتسخير الله جل وعلا، وعلى ذلك لا يجوز أن تضاف إلى غيره جل وعلا، فهو المتصرف وهو المنعم، ثم تضاف إلى مخلوق مربوب مقهور ليس له من التصرف شيء.

مسائل باب قول الله: (يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها)

مسائل باب قول الله: (يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها)

تفسير معرفة النعمة وإنكارها

تفسير معرفة النعمة وإنكارها قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل: الأولى: تفسير معرفة النعمة وإنكارها]. المعرفة: هي الإقرار بأن الله هو الموجد لها وهو المتصرف في الكون، هذه هي المعرفة، أما إنكارها فإن تضاف إلى غيره جل وعلا؛ فيقول مثلاًً: هذا المال أنا استطعت أن أكسبه وأتصرف فيه. أو أنه جاء به فلان. أو يقول: الريح طيبة والملاح حاذق، وهذا لما كانت السفن تجري بالرياح وليس فيها ما يجريها من المحركات النارية كانوا يضيفون حسن جريها إلى الريح وإلى حذق الملاح الذي يصرفها، وهذا كفر بالله جل وعلا. وهكذا السيارة والطيارة وغيرهما، وكل ما هو نعمة أنعم بها على المخلوق يجب أن يعترف أنها من الله؛ لأن الله جل وعلا هو الذي جعل في الإنسان العقل والفكر والقوة على إيجاد الأشياء، ثم هو الذي سخر له ما في الأرض كما هو مشاهد لمن تأمل ونظر، فيجب أن تضاف إليه جل وعلا.

إنكار النعمة وجريانه على ألسنة كثير من الناس

إنكار النعمة وجريانه على ألسنة كثير من الناس [المسألة الثانية: معرفة أن هذا جار على ألسنة كثير]. المقصود: كثير من الناس، ليس الكفار فقط، بل حتى المسلمين، فهذا شيء يجري على ألسنة أكثر الناس، فيقولون: لولا فلان ما صار كذا ولولا كذا صار كذا بالإثبات والنفي، فيجب أن يتنبه الإنسان لمثل هذه الأشياء. [المسألة الثالثة: تسمية هذا الكلام إنكاراً للنعمة]. [المسألة الرابعة: اجتماع الضدين في القلب].

شرح فتح المجيد [106]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [106] يخطئ كثير من الناس عندما يظنون أن الشرك مقصور على الإشراك في عبودية الأفعال، والصواب: أن الشرك داخل في جميع أنواع العبادة: القلبية واللسانية والقائمة على الجوارح، وقد جاء النهي عن اتخاذ الأنداد والشفعاء من دون الله في كل ذلك.

باب قول الله تعالى: (فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون)

باب قول الله تعالى: (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب قول الله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22]]. سبق أن التوحيد هو إخلاص العمل لله جل وعلا، وأن الإخلاص هو أن يكون العمل خالصاً ليس فيه شيء لغير الله جل وعلا، وأن تحقيق التوحيد أن يكون لله وحده، وتحقيقه تخليصه وتصفيته من شوائب الشرك ومن الذنوب ومن البدع، فجميع الأعمال تصفى وتخلص من شوائب الشرك فلا يكون لأحد فيها شيء. وأن يجتنب الإنسان البدع كلها والذنوب، فإذا كان بهذه الصفة فهو من المحققين للتوحيد، وإذا مات على ذلك دخل الجنة بلا حساب. والند هو المثيل والنظير، ولا يلزم أن يكون مماثلاً من جميع الوجوه، فإذا كان مماثلاً ولو بوجه من الوجوه، في صفة من الصفات، أو مماثلاً في فعل من الأفعال صح أن يقال: إنه ند، وقول الله جل وعلا: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22] هذا جاء بعد قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21]، فهنا جعل الخطاب عاماً (يَا أَيُّهَا النَّاسُ)، فأمر بالعبادة، (اعْبُدُوا رَبَّكُمْ)، ومعلوم أنه ليس هناك أحد ينفك عن عبادة الله، فجميع الخلق لا ينفكون عن العبادة ولو جزئياً بأن يعترفوا بأن الله هو خالقهم، ولكن هذه العبادة لا تكون عبادة شرعية، وإنما تكون شرعية إذا كانت على وفق أمر الله وليس فيها شيء من الشرك، فهنا تكون عبادة مفيدة ومثمرة. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ)، فبدأ بأنه خلقهم لأنهم يعترفون بهذا، وهذا يدل على أن المعبود يجب أن يكون الخالق الذي خلق، وأن الخالق هو الذي يستحق العبادة، أما الذي لا يخلق ولا يرزق فلا يستحق العبادة؛ لأنه مخلوق. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ والذين مِنْ قَبْلِكُمْ) يعني: ليس الخلق خاصاً بكم أنتم، بل خلق كل شيء، فهو الخالق لكل شيء، وهم يعترفون بهذا ولا ينكرونه، وهذا معناه أنهم يقرون بتوحيد الأفعال، أو إن شئت فقل: بتوحيد الربوبية. فالأفعال التي تصدر من العبد يؤمر فيها أن تكون أفعاله خالصة لله، وعبادته خالصة لله، وإلا كان هناك تناقض، فلو كان التوحيد شيئاً واحداً لصار هذا الكلام متناقضاً؛ فكيف يقول: اعبدوا ربكم. ثم يقول: الذي خلقكم والذين من قبلكم؟ فيقال: العبادة موجودة؛ لأنهم يعترفون أن الله هو الذي خلقهم، فهذا هو التوحيد، ولكن لما جعل هذا موجباً للعبادة الصادرة منهم دل على أنهم لو استمروا على الاعتراف بأن الله هو الذي خلقهم والذين من قبلهم وهو الذي أوجد لهم النعم فهذا لا يجدي شيئاً، وأنهم على الكفر، فهم كفار وإن اعترفوا بهذا، ولهذا قال بعد ذلك: (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) عطفاً على قوله: (الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي: يبين لكم هذا الأمر لعلكم تجعلوا بينكم وبين عذاب الله شيئاً واقياً وذلك بامتثال أمره، وليس معنى ذلك أن الله لا يعلم ما يحدث منهم. فالتعليل الذي يذكره الله جل وعلا لا يدل على أنه يخفى عليه شيء، بل هو عالم بكل شيء، وعالم بما سيكون منهم، ولكن التعليل بالنسبة لما يُذكرهم به علَّهم أن يحدث لهم اتعاظ وخوف ورجوع إلى الحق، قال الله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشاً} [البقرة:22] أي: جعلها ممهدة تطمئنون فيها بالاستقرار عليها والمسير فيها والانتفاع بها، ولم تكن مضطربة لا تستطيعون الاستقرار عليها، بل جعلها كالفراش الذي تجلس عليه وتنام. قوله: (وَالسَّمَاءَ بِنَاءً)، أي: جعلها فوقكم تشاهدونها، ولا يعتقد أحد أن مخلوقاً ما هو الذي سوى الأرض بهذا الشكل، أو أنه هو الذي رفع السماء وجعلها فوق الأرض، أو أنه شارك الله في ذلك، بل كلهم يعترفون بأن الله جل وعلا هو الخالق لكل شيء. (وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً) المقصود بالسماء العلو، أي: أنه أنزل من فوق رءوسكم ماء خلقه في الجو، بل جبال من المياه تحملها السحب، ولو شاء لأغرقكم بذلك، ولكنه برحمته جعل نزولها على صفة لا يضر من نزل عليه رحمة منه بكم، من الذي يتصرف هذا التصرف؟ هل الماء نفسه يتصرف بذلك؟ لا يمكن. {وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ} [البقرة:22] ثمرات الأرض: كل شيء تأكلونه وتأكله أنعامكم، وهو الذي أنزل الماء، وفتق الأرض له فخرجت منها أنواع متعددة. التراب واحد والماء واحد، ولكن الخارج متنوع الطعوم والألوان كل هذا دليل على أن الله جل وعلا هو المتصرف في كل شيء.

إبطال اتخاذ الأنداد في الشرع

إبطال اتخاذ الأنداد في الشرع قال الله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22] أي: لا تجعلوا له نظراء في الحق تصرفون لهم العبادة، مثل الأصنام وغيرها. وكونهم يعلمون، أي: أنهم يعلمون أنه جل وعلا هو الفاعل لما ذكر من الخلق وفرش الأرض ورفع السماء وإنزال المطر وإنبات النبات، فإذا كانوا يعلمون هذا كيف يعبدون معه غيره؟ هذا ضلال في الواقع. إذاً: المعرفة ليست معرفة العبادة، وإنما هي المعرفة في الأفعال التي يفعلها الله جل وعلا، وبهذا يتضح أن توحيد الأفعال الصادرة من الله وكونها تضاف إليه وحده ولا يشرك معه فيها غيره؛ أنها لا تفيد في إسلام الإنسان وفي نجاته حتى يضم إليها توحيد العبادة الصادرة من العبد لله وحده. أما الأمور التي تصدر من الله فهو يعتقد أنه هو المتوحد في إيجادها، وهذا دليل على وجوب أن تكون العبادة له، وهذا كثير في القرآن جداً، وبهذا يتبين أن توحيد العبادة غير توحيد الربوبية؛ فعلى هذا قوله: (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً) هو الذي له المثل أو النظير ولو في جزئية من الجزئيات، ولا يلزم أن يفعل الند كفعل الله، ولكن إذا جعل له شيء مما هو لله صار نداً له.

شرك الألفاظ

شرك الألفاظ يبين هذا ويوضحه أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال له الرجل: ما شاء الله وشئت، قال: (أجعلتني لله نداً؟)، ومن المعروف أن العبد له مشيئة يتصرف فيها، ولكن هذه المشيئة مخلوقة لله، وهو الذي وهبها للإنسان، ولما قال له: ما شاء الله وشئت في شيء فعله، قال: (أجعلتني لله نداً؟)، فلما جمع مشيئة الله ومشيئة الرسول صلى الله عليه وسلم بالواو كان الإشراك واقعاً، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (قل: ما شاء الله ثم شئت)؛ لأن (ثم) تأتي للترتيب ولا تدل على الجمع والاشتراك، فهذا يدل على أن الشرك يحصل ولو في اللفظ، مع أن الذي قال له هذا القول لا يعتقد أنه شريك لله جل وعلا في أفعاله، لكنه لما جمع بين مشيئة الله ومشيئة الرسول صلى الله عليه وسلم بالواو قال: (أجعلتني لله نداً). وكذلك لو قال الإنسان: لولا الله وفلان. فيكون جاعلاً له نداً لما جمع بين الله جل وعلا وبين فلان في الفعل. فهذه التنديدات تكون شركاً بالألفاظ، وهي قادحة في التوحيد ومنقصة له، ومثل ذلك ما سبق من إضافة النعم إلى أسبابها، فإنه يكون أيضاً من التنديد. قال الشارح رحمه الله تعالى: [الند: المثل والنظير، وجعل الند لله هو صرف أنواع العبادة أو شيء منها لغير الله؛ كحال عبدة الأوثان الذين يعتقدون فيمن يدعونه ويرجونه أنه ينفعهم ويدفع عنهم ويشفع لهم. وهذه الآية في سياق قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:21 - 22]، قال العماد بن كثير رحمه الله في تفسيره: قال أبو العالية: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً}، أي: عدلاء شركاء. وهكذا قال الربيع بن أنس وقتادة والسدي وأبو مالك وإسماعيل بن أبي خالد وقال ابن عباس: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي: لا تشركوا بالله شيئاً من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر وأنتم تعلمون أنه ربكم لا رب لكم يرزقكم غيره، وقد علمتم أن الذي يدعوكم الرسول إليه من توحيده هو الحق الذي لا شك فيه. وكذلك قال قتادة. وعن قتادة ومجاهد: ((فلا تجعلوا لله أنداداً)) قال: أكفاء من الرجال تطيعونهم في معصية الله. وقال ابن زيد: الأنداد هي الآلهة التي جعلوها معه، وجعلوا لها مثل ما جعلوا له. وعن ابن عباس: ((فلا تجعلوا لله أنداداً)): أشباهاً. وقال مجاهد رحمه الله: ((فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون)) قال: تعلمون أنه إله واحد في التوراة والإنجيل.

شرك الأوثان والأصنام

شرك الأوثان والأصنام ومن عادة السلف في تفسير القرآن: أن أحدهم يذكر الجزئية من المعنى الكلي للآية بحسب حاجة السامع، وإلا فالمعلوم أن خطاب الله جل وعلا في كتابه يشمل جميع أفراد ما دخل تحت هذا المعنى، والند ليس من اللازم أن يكون شبيهاً لله جل وعلا، فالله جل وعلا ليس له شبيه ومثيل تعالى وتقدس، ولكنه يدعى ذلك في شيء من الأشياء التي تجب أن تكون لله، وهذه الأشياء التي يمكن أن تكون لله هي الأفعال التي تصدر من المخلوق فقط، أما أفعال الله جل وعلا مثل: الخلق والرزق والإحياء والإماتة ومحاسبة الخلق وجزائهم وعقابهم وغير ذلك، فهذا لا يمكن أن يكون له ند فيه، ولا أحد يدعي أن الله جل وعلا يشاركه أحد في شيء من ذلك إلا إذا كان مكابراً أو في عقله آفة، فمثل هذا لا يلتفت إليه. وإنما الأنداد التي تقع من العباد هي في أفعالهم التي تصدر منهم من التأله والدعاء والتعبد وما أشبه ذلك، وذلك كما إذا دعا الله ودعا معه مخلوقاً من المخلوقات سواء كان نبياً أو ملكاً أو ولياً أو غير ذلك فقد جعل لله نداً، وإن زعم أنه بذلك يتعلق بالوسيلة التي يزعم أنها تقربه إلى الله، فإن هذا ند لله جل وعلا؛ لأنه جل وعلا حكم أن لا يكون بينه وبين عبده وساطة في الدعاء والتعبد، بل يجب أن يتجه العبد إلى ربه في كل ما يهمه ولا يطلب من العبد أن يفعله؛ فإذا التفت إلى غير الله جل وعلا ولو في جزئية من الجزئيات فقد جعل لله نداً. فهذا المقصود بالند الذي يصدر من العبد نفسه في اعتقاده وفعله، فلو أنه نذر للولي الفلاني أو القبر الفلاني وهو يعتقد أنه يقبل ذلك ويثيب عليه أو يعاقب عليه إذا لم يفعله، فهذا قد جعله نداً لله؛ لأن النذر عبادة يجب أن تكون لله خالصة. وكذلك إذا جلس عند القبر يطلب البركة، أو طاف به، أو التمس البركة منه بأن يتمسح بجدرانه أو ما أشبه ذلك مما يفعله الجهال، أو أشباههم ممن هو محسوب على أهل العلم إذا فعل ذلك فقد جعل لله نداً؛ لأن التبرك وكذلك العكوف عبادة يجب أن تكون مطلوبة من الله جل وعلا لا من غيره. وكذلك في الألفاظ كما سيأتي، فإن الألفاظ التي تضاف إلى الأفعال الصادرة من الله أو الواقعة في قوله، يجب أن تكون لله وحده، ولا تضاف إلى سبب ولا جزء السبب؛ فإذا قال الإنسان: لولا الله وفلان، شاء الله وشاء فلان، وما أشبه ذلك، فإن هذا من التنديد، وكل هذه أمور جزئية، وهي من الأقوال التي تدخل في قوله جل وعلا: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً}، مع أن ظاهر الآية أنها نزلت في العبادة التي وقعت من الكفار لأصنامهم، ولكن كثيراً من الناس اليوم لا يعرف العبادة التي تصدر من المشركين، ويظن أنها إنما كانت سجوداً وركوعاً، وأنهم يعتقدون أن هذه الأصنام شريكة لله في التصرف، وهذا ظن بعيد عن الواقع جداً؛ إذ كانوا يعبدون أشجاراً وأحجاراً والملائكة والجن والأنبياء وغيرهم، فكل عبادتهم لهم جميعاً يطلبون بها وساطة لهم عند الله ويطلبون شفاعتها، كما أخبر الله جل وعلا عنهم في ذلك فقال: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إلى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، وهم يعلمون أنهم ليس لهم من الأمر شيء، وأن الأمر كله لله، ولكنهم قاسوا ما يطلبونه من الله على ما يقع بينهم عند المعظمين من بني آدم، فقالوا: إذا كان لك حاجة عند الملك وأردت أن تحصل لك فاذهب إلى من هو قريب منه من وزير أو أمير أو ما أشبه ذلك، فتجعله وساطة لك حتى تلبى حاجتك، وزعموا أنك إذا جعلت وساطة بينك وبين الله أن هذا من باب التعظيم، لكنه قياس فاسد، وذلك أن الله جل وعلا ليس دونه حجب، وليس له أعوان، ولا يخفى عليه شيء، ولا يمكن أن تخفى عليه بعض حاجات العباد حتى يوصلها بعضهم إليه ويعلمه بها تعالى الله وتقدس عن ذلك. فكل الشرك جاء من باب القياس الفاسد، قياس الخالق على المخلوق. والمقصود: أن عبادة الكفار كانت طلب الشفاعة ممن يتوجهون إليهم، سواء كانت أشجاراً أو أحجاراً أو أولياء أو ملائكة أو أنبياء أو غيرهم، فهم يدعون من يدعونه ويقولون: (حتى يقربنا إلى الله زلفى)، يعني: يتوسط لنا فيشفع لنا؛ ولهذا ذكر الله جل وعلا الشفاعة في أماكن متعددة في الكتاب، وأن الشفاعة التي يطلبها الكفار غير واقعة.

إبطال اتخاذ الشفعاء من دون الله

إبطال اتخاذ الشفعاء من دون الله ثم قال جل وعلا: {أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ} [الزمر:43] المقصود بها (بل اتخذوا من دون لله شفعاء)، وهي العبادة التي يتعبدون بها، وقال جل وعلا: {قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شيئاً وَلا يَعْقِلُونَ} [الزمر:43]، أي: كيف تتخذونهم شفعاء وهم لا يملكون شيئاً؟ ثم كثير منهم لا عقل عنده؛ لأن ما يعبده إما حجر أو شجر أو ميت لا يدري ماذا يدور للأحياء، {أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شيئاً وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر:43 - 44]، وفي هذا إبطال دعوة المشركين، المتقدمين منهم والمتأخرين حيث يقولون: نحن نتوسل بالأولياء نحن نجعلهم وسيلة لنا، والتوسل معناه: الدعاء، ثم يزعمون أن الأولياء بدورهم يدعون الله لهم، وهذا هو شرك المشركين بعينه. وقد يربو شرك هؤلاء المتأخرين على شرك القدماء بأن يزعموا أن الأموات أو الأولياء يتصرفون في المطلوبات منهم بدون أن يأذن الله جل وعلا في شيء من ذلك، وهذا شرك ما بلغه شرك المشركين الأوائل؛ لأنهم أتم عقولاً من هؤلاء، فلم يصلوا إلى مثل هذا. والمقصود: أن الأنداد التي يمكن أن يجعلها العباد لله جل وعلا هي في الأفعال التي تصدر منهم من الدعاء أو الاعتقاد، أو النذور، أو الذبح، أو بغير لله عز وجل، ومن حلف بغير لله فقد جعل ذلك المحلوف به نداً لله جل وعلا كما سيأتي.

شرح حديث: (إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات)

شرح حديث: (إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات) قال الشارح رحمه الله [وذكر حديثاً في معنى هذه الآية الكريمة، وهو ما في مسند الإمام أحمد، عن الحارث الأشعري: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله أمر يحيى بن زكريا عليه السلام بخمس كلمات: أن يعمل بهن، وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، وإنه كاد أن يبطئ بها، فقال له عيسى عليه السلام: إن الله أمرك بخمس كلمات أن تعمل بهن، وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن؛ فإما أن تبلغهن وإما أن أبلغهن، فقال: يا أخي! إني أخشى إن سبقتني أن أعذب أو يخسف بي. قال: فجمع يحيى بن زكريا بني إسرائيل في بيت المقدس حتى امتلأ المسجد وقُعد على الشرف، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن لله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن، وآمركم أن تعملوا بهن: أولاهن: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، فإن مثل ذلك كمثل رجل اشترى عبداً من خالص ماله بذهب أو ورق، فجعل يعمل ويؤدي غلته إلى غير سيده، فأيكم يسره أن يكون عبده كذلك؟! وإن الله خلقكم ورزقكم؛ فاعبدوه ولا تشركوا به شيئاً. وآمركم بالصلاة، فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده مالم يلتفت، فإذا صليتم فلا تلتفتوا. وآمركم بالصيام، فإن مثل ذلك كمثل رجل معه صُرة من مسك في عصابة كلهم يجد ريح المسك، وإن خَلوف فم الصائم أطيب عند الله من المسك. وآمركم بالصدقة؛ فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فشدّوا يديه إلى عنقه، وقدموه ليضربوا عنقه، فقال لهم: هل لكم أن أفتدي نفسي منكم؟ فجعل يفتدي بالقليل والكثير حتى فَكَّ نفسه. وآمركم بذكر الله كثيراً؛ فإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعاً في أثره، فأتى حصناً حصيناً فتحصن فيه، وإن العبد أحصنُ ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله. قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا آمركم بخمسٍٍ الله أمرني بهن: الجماعة، والسمع والطاعة، والهجرة، والجهاد في سبيل لله؛ فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع، ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من جثى جهنم. قالوا: يا رسول الله! وإن صلى وصام؟ قال: وإن صلى وصام، وزعم أنه مسلم، فادعوا المسلمين بأسمائهم التي سماهم الله عز وجل: المسلمين المؤمنين عباد الله)]

الأمر بتوحيد الله دين كل الأمم

الأمر بتوحيد الله دين كل الأمم هذا حديث عظيم يجب أن يتأمل ثم يعمل به، ولا شك أنه خرج من مشكاة النبوة وقاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم فيه من العبر: أن التوحيد دين الأنبياء كلهم، فالله جل وعلا أوحى إلى زكريا -وهو نبي من أنبياء بني إسرائيل- بهذه الأمور الخمسة، وأمره أن يعمل بهن ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، وزكريا وعيسى عليهما السلام كلاهما كان في وقت واحد، وهما أبناء خالة، ومعلوم كثرة أنبياء بني إسرائيل؛ وقد يبعث فيهم في وقت واحد عدد منهم. وقد علم عيسى عليه السلام أن الله أوحى إلى يحيى بن زكريا بهذه الكلمات وأنه تأخر قليلاً عن إبلاغها، فقال له عيسى: إما أن تبلغهن أو أبلغهن، فقال له: يا أخي! والله لو سبقتني-يعني: في إبلاغهن- أخشى أن يعذبني ربي جل وعلا عذاباً عظيماً، فجمع بني إسرائيل في المسجد الأقصى حتى لم يتسع لهم فجلسوا فوق الجدران، ثم أمرهم بهن، فقال: (الأولى: أن الله جل وعلا أمركم أن تعبدوه وحده لا شريك له)، وضرب لهم مثلاً في ذلك، فقال: مثل ذلك كمثل رجل اشترى عبداً من خالص ماله، ثم أعطاه عملاً يعمل فيه وينتج، وقال: إذا أنتجت شيئاً فهذا مالي، فصار هذا العبد إذا أنتج شيئاً ذهب به إلى غير سيده، وهذا مثل المشرك، فالله خلق الناس ولم يشاركه في خلقهم أحد، ورزقهم وعافاهم وأنعم عليهم بسائر النعم، ثم كثير منهم يعبد غيره، فمثالهم مثل العبد الذي أساء المعاملة لسيده، اشتراه بخالص ماله، فصار يأخذ غلة عمله ويذهب بها إلى غير سيده، من الذي يرضى مثل هذا؟ لهذا قال: (أيكم يسره أن يكون عبده كذلك؟)، لا أحد يرضى هذا لنفسه فكيف يرضاه لربه جل وعلا؟! والمقصود: أن الخلق كلهم عبيد لله جل وعلا: فلا يسوغ للعبد أن يخضع لعبد مثله، وأن يصرف العبادة إلى عبد فقير محتاج مثله، فإن فعل ذلك فهو ضال في دينه وعقله.

الصلاة وعظم قدرها في الشرع

الصلاة وعظم قدرها في الشرع قال: (وآمركم بالصلاة)، وهذا دليل على أن الصلاة كانت مفروضة على بني إسرائيل، ولكنها ليست على مثل هذه الصفة التي فرضت علينا، ثم قال: (فإن الله ينصب وجهه لوجه المصلي مالم يلتفت)، ومعنى ذلك: أن المصلي إذا قام في الصلاة أن الله يستقبله وينظر إليه، وقوله: (ما لم يلتفت)، يعني: أنه إذا التفت انصرف الله عنه وتركه، ومن يرضى بأن ينصرف الرب جل وعلا عنه في صلاته؟ ثم الالتفات هنا يقصد به شيئان: الالتفات بالبدن عن القبلة ولو التفت تكون صلاته باطلة، ويعرض الله جل وعلا عنه، والالتفات إذا كان بالبدن جميعاً بحيث صارت القبلة عن يساره أو يمينه أو خلفه فإن الصلاة تكون باطلة، أما إذا التفت برأسه وبدنه مستقبل القبلة؛ فمثل هذا يكون مكروهاً، وهو اختلاس من الشيطان يختلسه به من صلاة العبد، وينقصها، وإما أن يكون شيئاً يسيراً لحاجة؛ فلا بأس به. القسم الثاني: التفات القلب، وهو أعظم من التفات البدن، ويظهر أنه هو المقصود في الحديث؛ لأن روح الصلاة حضور القلب وخشوعه، فإذا التفت الإنسان بقلبه إلى غير ما هو فيه من صلاته؛ فإن الله يعرض عنه، ويكله إلى ما اشتغل به من أفكار الدنيا وغيرها. وعلى هذا يجب على العبد أن يحرس قلبه عن الاشتغال في الصلاة بغير صلاته، والتفكر فيما يقوله ويسمعه ويفعله، فإنه إذا دخل في الصلاة ورفع يديه وكبر كأن معنى ذلك: أن الحجاب رفع بينه وبين ربه، فهو يقابل ربه فليفكر ماذا يقول له، وهل هناك شيء أكبر من الله؟ يجب أن يكون في قلبه تقدير لله جل وعلا، وأنه أكبر من كل شيء؛ فلا يلتفت إلى غير ربه جل وعلا، ثم يفكر بما يقول ويتأمله، ويجاهد الوساوس والشيطان، وأحرص ما يكون الشيطان على إفساد صلاة العبد؛ ولهذا جاء: (أنه إذا سمع النداء ذهب وله ضراط)؛ لأنه الذكر يطرده، فإذا انقطع صوت المؤذن جاء مسرعاً إلى المصلي، ويقول: له اذكر كذا اذكر كذا، ويذكره بالأشياء التي لم يكن يذكرها. ثم هو يعرف قلب الإنسان ويدرك ميوله إلى أي شيء يكون؛ فيذكر له الأشياء التي يميل قلبه إليها، فيذكره بها ليشتغل بها عن الصلاة، فيجب أن يجاهد الإنسان نفسه ويجاهد الشيطان في هذه الدقائق القصيرة، حتى لا ينصرف الرب جل وعلا عنه ويعرض عنه، وهذا من الأمور المهمة جداً والتي ينبغي للإنسان أن يتفطن لها وأن يعمل عليها، عله يكون ممن يستمع له ربه وينظر إليه في صلاته حتى ينتهي؛ فتكون صلاته محفوظة، ويكون من الذين أقاموا الصلاة؛ لأن إقامة الصلاة هي أن يأتي بها كاملة على الوجه المطلوب.

الصدقة وتكفيرها لذنوب العباد

الصدقة وتكفيرها لذنوب العباد قال: (وآمركم بالصدقة)، والظاهر أنها صدقة التطوع لا الفرض، وذكر مثالاً لها قال: مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو في أثره سراعاً حتى أدركوه، يريدون قتله، فصار يفتدي منهم بكل ما معه من قليل وكثير حتى فك نفسه من ذلك ونجا. ومعنى ذلك: أن الصدقة تكفر الذنوب؛ لأن الذنوب هي عدو الإنسان، وهي التي تطلبه حتى تهلكه، فإذا بذل الصدقة فإنه يفك نفسه من عدوه بالصدقات، فيصبح طليقاً حراً بعد أن كان مأسوراً يراد قتله.

أجر الصيام

أجر الصيام قال: (وآمركم بالصوم)، وذكر مثل الصوم: أنه كمثل رجل في جماعة معه صرة من مسك، وكلهم يجد رائحة المسك الطيب، فالصوم جعل لصاحبه رائحة طيبة؛ لأنه في الواقع سر بين العبد وربه، وقد جاء نظير ذلك في الحديث الصحيح: (لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)، ومعنى الخلوف: هو الآثار التي تخلفها المعدة وتتصاعد منها الأبخرة عند خلو الطعام، ومعلوم أنها رائحة عند الناس كريهة مستكرهة ولكنها عند الله طيبة، حيث إنها أثر الطاعة التي حبس نفسه عليها، والصوم صبر، والصبر ليس له جزاء إلا الجنة.

تحصن العبد بذكر الله

تحصن العبد بذكر الله قال: (وآمركم أن تذكروا الله كثيراً)، وضرب لذلك مثلاً، وقال: مثل الذكر كمثل رجل طلبه العدو، ثم تحصن بحصن منيع، فلم يستطع الوصول إليه، ومعنى ذلك: أن الذكر حصن يتحصن به الإنسان من الشيطان. وقد ذكر الله ذلك في القرآن أن العدو قسمان: قسم مشاهد يواجه ويرى. فهذا يمكن أن يدافع، وقسم غير مرئي وغير مشاهد، فقال للمشاهد: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34]، فهذا العدو المشاهد الإنسان، يعني: أن علاجه أنك تدفعه بالإحسان إليه إذا أساء إليك، فإن هذا يجعله لك صديقاً حميماً حبك وتذهب العداوة، هذا علاج ولكن هذا كما قال الله جل وعلا: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35] أي: حظ من العلم والحلم والدين والتوفيق من الله جل وعلا؛ لأنه صعب على النفوس أن تحسن إلى من أساء إليها، ولكن أثره حسن جيد جميل؛ لأنه يجعل العدو صديقاً. القسم الثاني: ذكره جل وعلا في قوله: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [الأعراف:200]، فهذه طريقة التحصن من الشيطان فالاستعاذة من الشيطان بذكر أسماء الله وصفاته والتحرز بها منه، وهذا كثير جداً في القرآن وفي أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم. وهذه الخمس التي أمر بها يحيى عليه السلام قومه، نحن مأمورون بها أيضاً، ولم تأت هذه مجرد حكاية وإنما لنعمل به؛ لأنه جاء على لسان رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم أنه يأمر بهذه الخمس التي هي: عبادة الله وحده. وهي دين الرسل كلهم، وكذلك الصدقة، والصوم، وذكر الله جل وعلا، والصلاة وعدم الالتفات فيها، وهذه كلها نحن مأمورن بها.

من وصايا الرسول لأمته

من وصايا الرسول لأمته أضاف الرسول صلى الله عليه وسلم زيادة على تلك الوصايا خمساً فقال: (وأنا آمركم بخمس: بالجماعة) هذه واحدة، والجماعة معناها: الاجتماع على الحق، وأن يعتصم المسلمون بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، والجماعة ما كان هو الحق ولو كان عليه فرد واحد، أما إذا كان الناس على خلاف الحق فليسوا جماعة وإن كثروا، كما قال الصحابة رضوان الله عليهم: الجماعة من كان على الحق وإن كان وحده. إذ قال الله جل وعلا: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً} [النحل:120]. الثانية: السمع. الثالثة: الطاعة لولي الأمر، وولاة الأمور هم العلماء والأمراء، فالعلماء يبينون الحق والشرع والأمراء ينفذونه. هؤلاء هم الذين يسمع لهم ويطاع ما أطاعوا الله جل وعلا، أما إذا أمروا بشيء فيه معصية فقد جاءت الأحاديث الصحيحة أنه لا سمع لهم ولا طاعة، فالسمع والطاعة فيما وافق الحق، وفيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن كان السمع والطاعة في الحق موافقاً له وجب على كل مأمور أن يقوم به وإن كان الآمر ظالماً، وإن كان يعتدي على الإنسان ويضربه ويأخذ ماله، فيجب أن يسمع له ويطيع ما دام أنه يأمر بما أمر الله به وأمر به رسوله وإن منع حقه؛ لأنه يطاع في أمر الله وأمر رسوله، أما الحق الذي منعه فهو يطلب من الله وسوف يحاسبه الله جل وعلا على ذلك، فأمره إلى الله كما بين الرسول صلى الله عليه وسلم هذا. الرابعة: الهجرة، قال: (وآمركم بالهجرة) والهجرة هنا معناها: هجر المعاصي سواء كانت المعاصي مقاربة الكفار والمكوث معهم في ديارهم أو في أعمالهم فيجب أن تهجرهم، أو كانت غير ذلك. و (تهجرها) أي: تتركها، فهي تشمل الانتقال من بلد الكفر أو البدع إلى بلد الحق والإسلام، وتشمل ترك المعاصي مطلقاً، فهذه كلها يأمر بها الرسول صلى الله عليه وسلم. الخامسة: الجهاد في سبيل الله جل وعلا، فهو مما أمر به صلى الله عليه وسلم، وهذا الأمر به كثير في كتاب الله جل وعلا. ثم نهى عن دعوى الجاهلية، ودعوى الجاهلية هي كل دعوى تخالف الإسلام، فالدعوة التي تكون ضد الخصلة الأولى -الجماعة- والتي تدعو إلى التفرق، كأن يكون هناك أحزاب أو جماعات، فيكون بينهم معاداة، وكل جماعة تعادي الأخرى، فهذا من أمر الجاهلية. وكذلك كون الإنسان يجعل أسماء للمؤمنين والمسلمين ليست مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، أو يسميهم بأسماء تدل على سلوكهم ونهجهم وأعمالهم، فإن هذا أيضاً من دعوى الجاهلية؛ ولهذا قال: (فادعوا المسلمين بأسمائهم التي سماهم الله عز وجل: المسلمين، المؤمنين، عباد الله)، ثم أخبر أن من صنع ذلك فإنه من جُثى جهنم، يعني: أنه يجثى ويلقى فيها، فقالوا له: (وإن صلى وصام؟ قال: وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم). فهذا حديث عظيم والشاهد فيه: قول يحيى بن زكريا عليه السلام: (آمركم أن تعبدوا الله وحده)، وهذه الخصلة هي دين الله جل وعلا منذ بعث الرسل إلى قيام الساعة وهم متفقون على هذا، وعلى وجوب عبادة الله وحده، وأن المشرك خارج على أمر الله، وعلى العقل والفطرة. [وهذا حديث حسن]. الحديث صحيح ثابت رواه الإمام أحمد، ورواه أبو يعلى في المسند، والحاكم في المستدرك، وهذا الحديث من الأحاديث التي استدركها الدارقطني على مسلم، يعني: ألزمه بها؛ لأن الدارقطني رحمه الله تعالى له كتاب الإلزامات التي يقول: إنه يلزم الإمام مسلماً أن يخرجها؛ لأنها على شرطه، فهذا منها، وهذا الحديث التي من هذه الأحاديث ذكرها الدارقطني، والحديث ثابت لا شك فيه.

آيات الله في الآفاق والأنفس دليل على وجوده

آيات الله في الآفاق والأنفس دليل على وجوده قال الشارح: [والشاهد منه في هذه الآية قوله: (إن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئاً)، وهذه الآية دالة على توحيد الله تعالى بالعبادة وحده لا شريك له، وقد استدل بها كثير من المفسرين على وجود الصانع، وهي دالة على ذلك بطريق الأولى، والآيات الدالة على هذا المقال في القرآن كثيرة جداً، وسئل أبو نواس عن ذلك؛ فأنشد: تأمل في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك عيون من لُجين ناظرات بأحداق هي الذهب السبيك على قُضُب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك] مقصوده في هذا أن النبات دليل من دلائل وجود الله جل وعلا، والعيون الناظرات أي: الأزهار التي تختلف ألوانها، وروائحها وطعومها والتربة واحدة والماء والهواء واحد، فكيف خرجت هذه الزهور من هذا التراب؟ من الذي أخرجها؟ هذه كلها تدل على أن الله جل وعلا هو الذي خلقها، وهذه جزئية، وإلا ففي كل شيء دليل يشهد أن الله جل وعلا هو الخالق وحده وليس معه مشارك في ذلك؛ حتى لو أن الإنسان تأمل في نفسه: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21]، لوجد ذلك. وكذا لو نظر الإنسان في العالم كله لا يجد شخصاً يمكن أن يكون مشتبهاً بالآخر من كل وجه بحيث لا يميز عنه أبداً، هذا مع كثرتهم، وكذلك أصواتهم لا يوجد من يشبه صوته صوت الآخر، إذ الرجل صوته متميز عن الآخر وعن المرأة، والمرأة صوتها متميز عن الأخرى، وكذلك أبدانهم، مثل الأنامل التي لا يمكن أن تكون واحدة مطابقة للأخرى في كل الناس على كثرتهم، كما قال الله جل وعلا: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق:5 - 6] {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} [عبس:17 - 19]. ماء مهين فكيف خرج منه هذا العاقل؟! كيف صار له السمع والبصر واللسان والأمعاء والفم والأيدي والأرجل؟! هل يستطيع أحد أنه يأتي بهذا من هذا الماء؟ ولو وضع على منضدة أمام طب العالم فلا يمكن أن يستخرجوا منه عظمة أو لحمة، والله جل وعلا خلق منه الذكر والأنثى بهذه الصفة العجيبة. المقصود: أن الآيات في الأنفس والآفاق الدالة على الله جل وعلا لا حصر لها. قال الشارح: [وقال ابن المعتز: فيا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد؟! وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد].

شرك الألفاظ وأنواعه

شرك الألفاظ وأنواعه قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال ابن عباس في الآية: الأنداد هو الشرك، أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن تقول: والله وحياتك يا فلان، وحياتي. وتقول: لولا كليبة هذا لأتانا اللصوص، ولولا البط في الدار لأتانا اللصوص. وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت. وقول الرجل: لولا الله وفلان. لا تجعل فيها فلاناً، هذا كله به شرك. رواه ابن أبي حاتم]. هذه ثلاثة أنواع تقع كثيراً من الناس، وجعلها أهل العلم من اتخاذ الأنداد:

النوع الأول: الحلف بغير الله تعالى

النوع الأول: الحلف بغير الله تعالى فلا يجوز أن يحلف الإنسان بغير الله جل وعلا؛ فإن حلفه هذا يجعله مشركاً، وهذا الشرك قد يكون أصغر لا يخرجه من الدين الإسلامي، وقد يكون أكبر؛ على حسب ما يكون في نفسه من تعظيم المحلوف به، فإن جعله مثل ما يجعله كثير من الجهلة وعبدة القبور؛ حيث إنه إذا طلب منه الحلف بالله حلف بلا مبالاة في كل ما يطلب منه، وإذا طلب منه أن يحلف بـ أحمد البدوي أو بـ الحسين أو بـ عبد القادر يتأذى ويرتعد، ويصفر لونه ويأبى أن يحلف، فمثل هذا شركه أكبر يجعله خارجاً من الدين الإسلامي؛ لأنه جعل المخلوق أعظم من الله، وأقدر من الله في عقابه، أما إذا كان شيء يجري على لسانه عادة، فهذا من شرك الألفاظ التي يجب أن يتنزه ويستغفر منه، والشرك وإن كان صغيراً فهو في الواقع أكبر من الكبائر.

النوع الثاني: إضافة الأسباب إلى غير خالقها

النوع الثاني: إضافة الأسباب إلى غير خالقها أن تضاف الأمور إلى أسبابها أو إلى جزء سببها، فهذا شرك، فقوله: (لولا البط في الدار لأتانا اللصوص، لولا كليبة فلان لأتانا اللصوص)، يعني: البط قد ينبه صاحب البيت حتى يتنبه للسارق، وكذلك الكلب ينبح ويتنبه الإنسان لما يأتيه، فيكون هذا جزءاً من السبب في الحراسة، فإذا أضيف الأمر الذي أوقعه الله جل وعلا إلى هذا الجزء أو إلى هذا السبب صار تنديداً وشركاً.

النوع الثالث: إشراك الخالق والمخلوق في إيجاد شيء

النوع الثالث: إشراك الخالق والمخلوق في إيجاد شيء لا يجوز أن يشرك الرب جل وعلا مع المخلوق في إيجاد شيء، وقولك: (ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان لصار كذا وكذا). فجعل هذه الأمور كلها من التنديد؛ ولهذا قال: (لا تجعل فيها فلاناً) أي: قل: لولا الله. واترك فلاناً، هذا كله شرك بالله جل وعلا. فيجب أن ينزه الإنسان ألفاظه ولسانه وأعماله من الشرك وإن كان صغيراً؛ لأن هذا من الشرك الأصغر الذي لا يجعل الإنسان كافراً، وإنما يكون مرتكباً كبيرة بل أكبر من الكبيرة كما سيأتي في قول ابن مسعود رضي الله عنه: (لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقاً).

حكم الحلف بغير الله عز وجل

حكم الحلف بغير الله عز وجل قال الشارح: [بين ابن عباس رضي الله عنهما أن هذا كله من الشرك، وهو الواقع اليوم على ألسنة كثير ممن لا يعرف التوحيد ولا الشرك؛ فتنبه لهذه الأمور، فإنها من المنكر العظيم الذي يجب النهي عنه والتغليظ فيه؛ لكونه من أكبر الكبائر، وهذا من ابن عباس رضي الله عنهما تنبيه بالأدنى من الشرك على الأعلى].

أجوبة العلماء عن حلف النبي بأبيه

أجوبة العلماء عن حلف النبي بأبيه قد يحتج بعض الناس بما ثبت في صحيح مسلم وغيره: (أنه جاء أعربي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن شرائع الإسلام فقال: أن تعبد الله، وتقيم الصلاة، وتؤدى الزكاة، فصار يقبضها بيده، ثم قال: هل عليَّ غيرها؟ قال: لا إلا أن تتطوع، فذهب وقال: والله لا أزيد عليها ولا أنقص منها. فقال: أفلح وأبيه إن صدق). واختلف العلماء في الجواب على هذا الحديث، منها ما قاله ابن عبد البر، قال: هذا غلط من الراوي، والصواب: أفلح والله إن صدق، وقد جاء هذا في إحدى الروايات: (أفلح والله إن صدق)، فيكون قوله: (وأبيه) غلطاً من الراوي، ولكن هذا الجواب لا يتأتى إلا في هذا الحديث فقط, وقد جاءت أحاديث أُخرى غير هذا ولا يتأتى عليها هذا الجواب، ثم تغليط الراوي لا يصار إليه؛ لأنه لو كانت كل لفظة فيها مخالفة قلنا: غلط الراوي؛ لكان كل إنسان يقول ذلك إذا لم ترق له بعض الألفاظ. الجواب الثاني: ما قاله الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم: إن هذا كان يجري على ألسنتهم من دون قصد، وليس مقصوداً به الحلف. والواقع أن هذا كلام باطل، فلا يجوز أن يكون ذلك جرى على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم على عادة الذين يحلفون بغير الله، فالله يحمي رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجري على لسانه شيء من الباطل أو الشرك. وهذا جواب باطل. الجواب الثالث: أجاب بعض العلماء بأن هذا يراد به تأكيد الخبر ولا يراد به الحلف، كما كان على عادة العرب، وهذا أفسد مما قاله النووي، فهو أيضاً باطل، فلا يجوز أن يكون جرى على لسان رسول لله صلى الله عليه وسلم شيء من هذا القبيل، ومعروف أن الحلف يراد به التأكيد بذكر المعظم الذي يستطيع أن يعاقب الكاذب إذا كان كاذباً، هذا هو مقصود الحلف. الجواب الرابع -وهو الصواب الذي يجب أن يعتمد-: أن هذا الحديث وأمثاله منسوخ بالأحاديث التي ثبتت في الصحيحين: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، ومن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)، وقد جاء كثيراً أنهم كانوا يحلفون بآبائهم، ثم جاء النهي عن ذلك، فصار النهي ناسخاً؛ فقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك عمر بن الخطاب وهو يحلف بأبيه، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم)، فقال عمر: (والله ما حلفت بعدها بأبي لا ذاكراً ولا آثراً)، وكذلك جاء عن غيره، فهذا يدل على أنها منسوخة. وهذا هو الصواب.

شرح فتح المجيد [107]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [107] لا يجوز الحلف بغير الله؛ لما في ذلك من الغلو في المحلوف به، ومنازعة الله فيما هو من خصائصه، ومن الغلو المحرم أيضاً: الغلو في النبي صلى الله عليه وسلم، ورفعه فوق مكانته التي أعطاه الله إياها.

من أحكام الحلف بغير الله

من أحكام الحلف بغير الله

كفر من حلف بغير الله

كفر من حلف بغير الله قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف بغير لله فقد كفر أو أشرك)، رواه الترمذي وحسنه، وصححه الحاكم]. قوله في هذا الحديث: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)، الحلف يراد به: تأكيد المحلوف عليه بذكر اسم الله العظيم الذي يعاقب الكاذب إذا كان كاذباً، ويثيب الصادق ويعلم صدقه ويطلع على ذلك ويثيب عليه، ولا يجوز الحلف بغير الله جل وعلا أو بصفة من صفاته؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت). وفي هذا: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) قيل: إن (أو) هنا للشك، يعني: شك الصحابي هل قال النبي صلى الله عليه وسلم: كفر، أو قال: أشرك، وقيل: إنها بمعنى الواو. يعني: أنه وقع في الكفر والشرك؛ لأن الشرك يكون كفراً، وإن كان من الشرك الأصغر فهو من الكفر الأصغر، أما إذا كان من الشرك الأكبر فهو من الكفر الأكبر. والعلماء قسموا الكفر إلى أقسام خمسة: أحدها: الشرك، والشرك قسم إلى أقسام منها: شرك الدعوة، وشرك المحبة، وشرك الطاعة. وفي هذا نص على أن الحلف بغير الله لا يجوز؛ لأنه محرم، وهو من التنديد الداخل تحت قوله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22]. والحلف قد يدخل في شرك الربوبية، وقد يدخل في شرك العبادة، ومعلوم أن التنديد بواحد من أنواع التوحيد هو من أعظم الذنوب كما في الحديث الصحيح عن ابن مسعود: (قلت: يا رسول الله! أيُّ الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك)، والند هو الشبيه والنظير ولو في صفة من الصفات، أو بحق من الحقوق، أو بفعل من الأفعال، وسيأتي قوله صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي قال: ما شاء الله وشئت، أنه قال له: (أجعلتني لله نداً؟! بل ما شاء الله وحده)، وفي هذا أن الحلف بغير لله يكون تنديداً وشركاً، وتختلف درجته باختلاف الحالف، فإن كان الحالف جرى ذلك على لسانه من غير قصد، أو أنه تكلم بهذا وهو لا يريد تعظيم المحلوف به التعظيم الذي يوصله إلى العبادة؛ أو أنه ناسٍ أو ساهٍ، فهذا يكون من الشرك الأصغر؛ شرك الألفاظ التي يجب أن يطهر المسلم لسانه منها. أما إذا كان يقصد بذلك تعظيم المحلوف به، واقترن مع ذلك عقيدته في أنه يطلع على حاله، وأنه قد يعاقبه؛ فإن هذا يكون من الشرك الأكبر الذي يخرج من الدين الإسلامي. ثم الحلف بغير الله لا يجوز بأي شيء كان: لا بالأمانة، ولا بالذمة، ولا بالكعبة، ولا بالنبي، ولا بالملائكة، ولا بالسماء، ولا بغير ذلك من مخلوقات الله، وما قاله بعض العلماء من أنه استثنى من ذلك الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه جائز؛ فهذا باطل لا دليل عليه؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم إنما جاء بإخلاص الدين لله جل وعلا، فلا يجوز أن يشرك بالله جل وعلا في شيء من الأشياء: لا بالحلف ولا بالفعل الذي قد يضاف مثلاً إلى سببه كما سيأتي، ولا التصرف، ولا في التأله، ولا الحب والتعظيم، ولا الابتلاء، ولا في شيء من خصائص الله جل وعلا. ثم إن الشرك وإن كان في الألفاظ وإن كان غير مقصود فإنه عظيم، حتى كان يجري على اللسان من غير قصد فإنه أعظم من الكبائر، فيجب على المسلم أن يتوب من ذلك.

تعظيم الصحابة للحلف بغير الله

تعظيم الصحابة للحلف بغير الله قال المصنف رحمه الله: [وقال ابن مسعود رضي الله عنه: لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلي من أحلف بغيره صادقاً]. معلوم أن الكذب محرم في جميع الأديان، ولا يجوز للمؤمن أن يكذب، كما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل له: (أيسرق المؤمن؟ قال: نعم، قيل: أيزني المؤمن؟ قال: نعم، قيل: أيكذب المؤمن؟ قال: لا)، وأخبر أن الكذب لا يصلح في شيء، ولكن رخص فيه في ثلاثة مواضع: في الحرب، والرجل لزوجه أو المرأة لزوجها، ولا يتضمن ذلك إبطال حق أو إغفاله أو إحقاق باطل، أو الرجل يصلح بين المتخاصمين، وفي الواقع أن هذه الأمور الثلاثة هي من المعاريض وليست من الكذب. يأتي إنسان مثلاً إلى المتخاصمين يقول: أنتم إخوة فلان يحبك ويريد لك الخير والفلاح ونحو هذا الكلام يريد به أن يصلح ما بينهما. وكذلك كلامه مع زوجه، وكذلك في الحرب أن يوري إما في القول أو الفعل خلاف ما يقصد، وما عدا ذلك فلا يجوز الكذب في شيء من الأشياء. والصدق حسنة وهو من صفات المؤمنين، والله يحض عليه ويأمر به، ويقول: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119]، ومع هذا يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقاً) والسبب في هذا: أن الحلف بغير الله شرك، والشرك أعظم الذنوب وأكبرها، وهو رضي الله عنه لا يحب هذا ولا هذا، ولكن يريد أن يبين المفاضلة بين الكذب فيما هو توحيد وعبادة لله وما هو شرك. قوله (لأن الحلف بالله كاذباً) قيل: إنها هي اليمين الغموس، وقد جاء عَدُّ ذلك في الموبقات التي توبق صاحبها في النار وتهلكه إذا حلف بالله كاذباً، وقال آخرون: إن اليمين الغموس هي أن يحلف كاذباً على حق لغيره ليقتطعه بيمينه. والمقصود بهذا: أن حسنة الصدق لا تساوي ولا تقاوم سيئة الشرك في أي وجه من الوجوه، وسيئة الشرك أعظم من الكذب، بل الشرك هو أعظم الذنوب، وقد جاء ذلك صريحاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (يا رسول الله! أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك)، والند هو الشريك، ويشمل أن يكون نداً في العبادة أو الصفات أو الأفعال التي يفعلها الله جل وعلا، فإذا جعل الإنسان لله نداً في ذلك فقد وقع في الشرك الذي هو أعظم الذنوب، والحلف من هذا. وهذا يدلنا على عظم الشرك عند الصحابة رضوان الله عليهم، وأنهم عرفوا عظمه، بخلاف الذين يأتون بالمتناقضات، يقول: لا إله إلا الله وهو يدعو ميتاً رميماً تحت التراب يستغيث به ويناديه، وقد يطوف بقبره أو يسجد عليه، أو يأخذ من ترابه، أو يقدم له نذراً، وما أشبه ذلك. وهذا كله من الشرك الأكبر الذي إذا مات عليه الإنسان يكون خالداً في النار؛ لأن الله جل وعلا يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، ويقول: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة:72]. وليس الشرك هو الاعتقاد أن فلاناً شارك الله في خلق السموات والأرض، أو أنه شاركه في إنزال المطر، أو الإحياء والإماتة والتصرف، فإن هذا لا يعتقده عاقل، وإنما كان شرك المشركين الذين بعثت إليهم الرسل هو من طريق طلب الوساطة: أنهم يطلبون من المخلوق أن يكون واسطة لهم عند الله يقربهم إلى الله ويشفع لهم، هذا هو الشرك الأكبر الذي كثر ذكره في كتاب الله جل وعلا حتى نعلم أن فئاماً من المسلمين لا يعلمون الشرك، ولا يعرفون حقيقة الشرك، ولا يعرفون حقيقة التأله والعبادة مع أن هذا لا يعذر في جهله أحد؛ لأنه من الأمور الضرورية التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم. على كل حال هذا الأثر عن عبد الله بن مسعود يبين لنا خطر الشرك، وأن الصحابة رضوان الله عليهم قد عرفوا قدر التوحيد، وأن الشرك أكبر من جميع الذنوب.

مقارنة بين مشركي زماننا ومشركي العرب

مقارنة بين مشركي زماننا ومشركي العرب قال الشارح رحمه الله رحمة واسعة: [قوله: (فقد كفر أو أشرك) يحتمل أن يكون شكاً من الراوي، ويحتمل أن تكون (أو) بمعنى الواو، فيكون قد كفر وأشرك ويكون من الكفر الذي هو دون الكفر الأكبر، كما هو من الشرك الأصغر، وورد مثل هذا عن ابن مسعود بهذا اللفظ. قال المصنف رحمه الله: (وقال ابن مسعود: لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقاً). ومن المعلوم من أن الحلف بالله كاذباً كبيرة من الكبائر، لكن الشرك أكبر من الكبائر وإن كان أصغر كما تقدم بيان ذلك، فإذا كان هذا حال الشرك الأصغر فكيف بالشرك الأكبر الموجب للخلود في النار؟ كدعوة غير الله والاستغاثة، به والرغبة إليه، وإنزال حوائجه به، كما هو حال الأكثر من هذه الأمة في هذه الأزمان وما قبلها من تعظيم القبور، واتخاذها أوثاناً، والبناء عليها، واتخاذها مساجد، وبناء المشاهد باسم الميت لعبادة من بنيت باسمه وتعظيمه، والإقبال عليه بالقلوب والأعمال والأقوال. وقد عظمت البلوى بهذا الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله وتركوا ما دل عليه القرآن العظيم من النهي عن هذا الشرك وما يوصل إليه، قال الله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنْ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [الأعراف:37] كفرهم الله تعالى بدعوتهم من كانوا يدعونه من دونه في دار الدنيا]. هذا إقرار بأنهم كفرة، وقوله جل وعلا في هذه الآية لما سألهم: (أين الذين كنتم تدعونهم)، يعني: كنتم تستغيثون بهم وتنزلون بهم حاجاتكم، أو تجعلونهم وسطاء بينكم وبين الله؟ (قالوا ضلوا عنا) أي: ذهبوا عنا فلا نراهم؛ لأنها دعوى باطلة، ولو كانوا أمامهم لكفروا بهم وتبرءوا منهم، ثم قال الله تعالى في الآية الأخرى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:5 - 6]. ويقول جل وعلا في آية أخرى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ} [البقرة:166]؛ فالأسباب التي تقطعت بهم هي الوسائل التي يزعمون أنها توصلهم وتقربهم بقولهم: إنا نتوسل بهم، أو قولهم: نتشفع بهم، ويجعلون التشفع الذي هو من قبيل الشرك الأكبر، تشفعاً، أو توسلاً، وقد يسمونه تعظيماً للصالحين، وإحسان الظن بهم، وإذا نهوا عن ذلك قالوا: هذا لا يحب الصالحين، ويجعلون التوحيد منكراً والشرك معروفاً؛ لأنهم عاشوا على هذا وتربوا عليه ووجدوا كبراءهم كذلك، وربما علماء يجدونهم على هذا، ثم هم يستبعدون أن يكون هذا شرك أبي لهب، وأبي جهل وأضرابهما، مع أنه أعظم من شركهما. {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا} [البقرة:167]، يعني: أن كل واحد من الداعي والمدعو يتبرأ من الآخر، وتصبح الدعوى في ذلك المكان حسرة على الداعي، وكذلك يكون المدعو عدواً له متبرئاً منه، كما قال الله جل وعلا عن إبراهيم عليه السلام وهو يخاطب قومه: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [العنكبوت:25]، هكذا يكفر الداعي بالمدعو، والمدعو بالداعي، ويلعن المدعو الداعي، وكذلك الداعي؛ لأنها كلها ضلالات، وذلك لأن الحسرات والعذاب كله بحذافيره يجري على المشرك يوم القيامة يتحسر على فعله حيث فعل فعلاً أوبقه وأوجب له النار، ثم لا يغني عنه هذا التحسر وهذه الندامة شيئاً، فلا بد له من العذاب الأليم. أما في هذه الدنيا فيمكنه أن يتوب، ويطلب من ربه العتبى، ويراجع نفسه، ويعلم ما أوجب الله عليه من توحيده والكفر بالطاغوت، وكل معبود من دون الله فهو طاغوت، سواء كان معبوداً حقيقة أو معنىً، وسواء كان من أجل الدعوة والتوسل، أو من أجل الحكم واتخاذه قانوناً أو دستوراً غير الشرع، فهو طاغوت يجب أن يكفر به، والكفر بالطاغوت قبل الإيمان بالله يجب أولاً، لأن الله تعالى يقول: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256]، فالتوحيد ليس مجرد صلاة وصوم فقط، بل مبني على شيئين: عبادة الله والإخلاص له، والكفر بالطواغيت عموماً والبراءة منها، وإلا كان الإنسان من الهالكين. والمقصود أن الوقوع في الشرك كثير جداً، فالإنسان لا يستبعد ذلك، فإن الشرك أنواع شتى، وسيأتي أنه أخفى من دبيب النملة على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهذا يكون في شرك النيات والمقاصد، وقد يكون في شرك الأقوال. أما الشرك الذي هو مخرج من الدين الإسلامي فهو واضح في كتاب الله وجلي، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أوضحه، والله جل وعلا أوضحه.

غلو الصوفية

غلو الصوفية قال الشارح رحمه الله: [وقد قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18] وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا} [الجن:21] [الجن:20]]. المساجد قد تطلق على جميع ما يسجد فيه لله تعالى، فكل مكان سجد الإنسان فيه فهو مسجد، فيكون المعنى أن السجود لله جل وعلا. ولا يجوز أن يدعى مع الله في ذلك أحد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً)، الأرض كلها جعلت له مسجداً وطهوراً صلوات الله وسلامه عليه، فاحتمل أن المقصود أن البيوت التي بنيت لله جل وعلا، فيجب أن تكون العبادة التي تقام فيها خالصة لله جل وعلا كما يجب أن يكون بناؤها خالصاً لله جل وعلا، ومعلوم أن الآية إذا جاءت تشمل المعاني الصحيحة كلها أولى من أن تقصر على معنى واحد.

الغلو في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم

الغلو في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم قال الشارح رحمه الله: [وهؤلاء المشركون عكسوا الأمر، فخالفوا ما بلغ به الرسول الأمة، وأخبر به عن نفسه صلى الله عليه وسلم، فعاملوه بما نهاهم عنه من الشرك بالله، والتعلق على غير الله، حتى قال قائلهم: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم فإن من جودك الدنيا وخيرتها ومن علومك علوم اللوح والقلم]. هذه يقولها البوصيري في قصيدته التي تسمى البردة، والتي يغلو فيها كثير من الناس، ويجعلها أفضل من آية الكرسي، ويجعلها ورداً له، يحفظها ويقرؤها مساء صباح، وهذا في الواقع من الشرك الذي أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة تفعله كما فعلته اليهود والنصارى. ومعلوم أن قائل هذه الأبيات هو ممن كان يكتب التفسير والحديث، وهذا دليل على أنه لا يجوز الاغترار بالإنسان وإن كان من العلماء؛ لأن الواجب أن ينظر في فعل الإنسان هل هو موافق لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، أو أنه مخالف، أما بعض الذين يدافعون عنه فيقولون: هذا كله من باب الشفاعة، فألفاظها لا تساعده، بل هي صريحة في الشرك، خصوصاً عند قوله: ما لي من ألوذ به). وأين الله؟ مع أنه يستعيذ بالرسول صلى الله عليه وسلم من الله، ووجود مخلوق يستعاذ به من الله هذا أمر جلل، تعالى الله وتقدس! (ما لي من ألوذ به سواك)، يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول: أنت وحدك الذي ألوذ به؛ فنسي رب العالمين، وهو الملاذ والمعاذ الذي يجب أن يلاذ ويستعاذ به. وقوله: (عند حلول الحادث العمم) الحادث العمم الذي يعم الخلق كلهم إذا جمعوا في صعيد واحد، وقاموا لرب العالمين، ولهذا قال في البيت الثاني يخاطب الرسول أيضاً: إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم يعني: إن لم تتفضل يا رسول الله وتأخذ بيدي، وتنقذني من عذاب الله وغضبه، فقد زلت قدمي، وهويت بالعذاب، وهذا صريح في أنه يلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم من الله، ومن عذابه تعالى الله وتقدس. ولهذا قال: ولن يضيق رسول الله جاهك بي إذا الكريم تحلى باسم منتقم يقول: إذا غضب الله جل وعلا يوم القيامة على خلقه فأنا مستجير بكرمك، ولا يضيق كرمك بي أن تحميني من غضب الله، نعوذ بالله من الخذلان. ويقول في البيت الآخر: فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم إذاً: ما الذي تركه لله تعالى إذا كانت الدنيا والآخرة من جملة جود النبي صلى الله عليه وسلم، فماذا بقي فوق هذا من غلو النصارى نسأل الله العافية. ومع ذلك يأتي من هو واقع في الشرك، وفي عبادة الأشخاص، ويعتبر أن هذا الشرك من التشفع ويقول: هذا تشفع. مع أن الشفاعة لا تطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا طلبت منه فهو الشرك؛ لأن الشفاعة تطلب من الله مالكها، كما قال جل وعلا: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر:43 - 44]، ويقول جل وعلا: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، ولا يوجد أحد يشفع بدون إذنه. ولما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم شفاعته التي يكرمه الله جل وعلا بها في الموقف، ذكر أنه يسجد لله أولاً، ثم يدعه الله جل وعلا ما شاء، ثم يأمره برفع رأسه، ويقول: ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع، فقبل أن يقول له: اشفع. لا يمكن أن يشفع. وفي رواية: أنه يحد له حداً هذا في الشفاعة الأخرى، أما الشفاعة الكبرى فلا حد فيها، لأنها شفاعة في أن يحاسب الله خلقه فقط، وإنما الحد في الشفاعة في الذين دخلوا النار، فإنه إذا شفع يحد الله جل وعلا له حداً معيناً، لأن الشفاعة لله جل وعلا. وحقيقة الشفاعة: هي أن الله جل وعلا يريد رحمة هذا المشفوع له، وإكرام الشافع وإظهار كرامته فقط، وإلا فلا أحد يملك مع الله شيئا، وكل هذه المزاعم مزاعم شركية وثنية لا تعدو أن تكون من دين أبي جهل وأبي لهب وغيرهم بل هي فوقه. وكم وقع الناس في هذا البلاء والشرك العظيم باسم مدح الرسول صلى الله عليه وسلم؛ مع أنه صلى الله عليه وسلم لما قيل له: (يا سيدنا وابن سيدنا، ويا خيرنا وابن خيرنا، قال لهم: قولوا بقولكم أو بعض قولكم، فأنا عبد الله ورسوله لا أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله جل وعلا)، وفي حديث آخر يقول: (ولا يستجرينكم الشيطان)، يعني: لا يتخذكم مراكز له ويجريكم في الباطل، وترتكبوا ما نهيتكم عنه. فقد بين صلوات الله وسلامه عليه الحق الذي يجب اتباعه، وحمى حق الله جل وعلا خير حماية، وسد طرق الشرك التي يمكن أن يدخل الشيطان منها، ولكن يأبى كثير من الناس إلا أن يخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم صراحة، ويزين له الشيطان أن هذا من حبه مع أنه من بغضه؛ فالذي يفعل ذلك يبغضه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله جل وعلا يقول: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]. فحبه صلى الله عليه وسلم في طاعته، واتباع أمره؛ فمن كان محباً له أطاع أمره، واستن بسنته، وانتهى عما نهى عنه، وإلا فهو كاذب في دعواه.

مقام النبي صلى الله عليه وسلم عند ربه جل وعلا

مقام النبي صلى الله عليه وسلم عند ربه جل وعلا قال الشارح رحمه الله: [فانظر إلى هذا الجهل العظيم؛ حيث اعتقد أنه لا نجاة له إلا بعياذه ولياذه بغير الله، وانظر إلى هذا الإطراء العظيم الذي تجاوز الحد في الإطراء الذي نهى صلى الله عليه وسلم عنه بقوله: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد؛ فقولوا عبد الله ورسوله)، رواه مالك وغيره. وقد قال تعالى: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} [الأنعام:50]]. هو عبد، والعبد هو العابد. هذا هو العبد الممدوح الذي يعبد ربه، وقد أثنى الله جل وعلا عليه بلفظ العبودية في أشرف المقامات؛ لأن أشرف مقام الإنسان أن يحقق عبادة ربه؛ قال جل وعلا: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان:1]، وأثنى عليه جل وعلا في مقام الدعوة فقال: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن:19]، وأثنى عليه جل وعلا في مقام الإسراء فقال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء:1]، وأثنى عليه جل وعلا في مقام التحدي: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ} [البقرة:23]. هذه المقامات الأربع هي أشرف مقامات الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فذكره الله جل وعلا فيها بلفظ العبودية؛ وذلك أنه ليس شريكاً لله جل وعلا في الإلهية، أو الربوبية، أو له شيء من الإلهية، بل هو عبد يتأله ربه، وكان يصيبه ما يصيبه فيلجأ إلى ربه جل وعلا، وكان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة كان يمد يديه إلى ربه مفتقراً إليه يسأله متضرعاً خاشعاً، وهو أعلم خلق الله جل وعلا. ومع ذلك قد يصيبه الكفار بالأذى، كما جرحوا وجهه صلوات الله وسلامه عليه يوم أحد، وكسروا ثنيته فصار الدم يسيل على وجهه صلوات الله وسلامه عليه، وكان يقول: (كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم)، وهو يدعوهم إلى الله جل وعلا، فينزل الله جل وعلا عليه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} [آل عمران:128] يعني: أنك عبدي فامتثل أمري، وامض في الدعوة التي كلفتك بها، أما هؤلاء فهم عبادي إن شئت عذبتهم، وإن شئت عفوت عنهم؛ فهو ليس له من الأمر شيء صلوات الله وسلامه عليه. أما دعوى الأفاكين المبطلين فهي مخالفة لكتاب الله جل وعلا، ولسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولدعوته، ولنهج السلف الذين عرفوا الحق، وميزوا بين الحق والباطل، لكن الشيطان يأتي إلى الإنسان في صورة تعظيم الرسول صلى لله عليه وسلم فيزين له الشرك، ويجعل هذا الشرك من تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم، ويجعل له ما هو من خصائص الله جل وعلا حتى يخرج به من الدين الإسلامي إلى الكفر، والله أعلم. ثم هذا الكلام وهذه الأبيات للبوصيري صاحب البردة نقول: هذه الأبيات شرك صراح، ولكن الرجل لا يجوز أن نحكم عليه بأنه مشرك؛ لأننا لا ندري ما الذي مات عليه، فربما هداه الله وتبرأ من ذلك وتاب منه، أما إذا علم أنه مات على هذه العقيدة فهو مشرك، ولكن هذا لا يعلم؛ فالحكم على الكلام ليس على الشخص، أما الشخص فأمره إلى الله، فلربما أنه تاب، وعرف الحق ورجع عن الباطل. قال الشارح رحمه الله: [فانظر إلى هذه المعارضة العظيمة للكتاب والسنة، والمحادة لله ورسوله. وهذا الذي يقوله هذا الشاعر هو الذي في نفوس كثير، خصوصاً ممن يدعون العلم والمعرفة، ورأوا قراءة هذه المنظومة ونحوها لذلك، وتعظيمها من القربات، فإنا لله وإنا إليه راجعون]. ولا يزال هذا الأمر له من ينميه، ومن ينشره بين الناس، ويدعو إليه، ويروون في هذا حكايات باطلة، أو منامات قد يريهم إياها الشيطان ليضلهم بها، أو أحاديث مكذوبة لا أصل لها، أو دعاوي هي تلبيس للحق بالباطل، وليس لهم دليل على هذه الأمور أبداً، وأدلتهم لا تخرج عن كونها مرائي يريهم إياها الشيطان، أو حكايات تحكى عن بعض الناس قد يكون لها أصل، وأصلها الشيطان، وقد لا يكون لها أصل وإنما هي مكذوبة؛ لأن الحكايات لا يجوز أن يعتمد عليها إلا ما كان من كتاب ربنا وسنة رسولنا صلى الله عليه وسلم، أو أحاديث مكذوبة يريدون أن يجعلوا الحق يدل على الباطل فيها؛ هذه هي أدلتهم لا تخرج عن ذلك.

النهي عن قول: ما شاء الله وشاء فلان

النهي عن قول: ما شاء الله وشاء فلان قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: وعن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله، ثم شاء فلان)، رواه أبو داود بسند صحيح. ] هذا من حماية التوحيد؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم حمى جناب التوحيد من كل جانب، وقوله: (لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان)، وذلك أن الواو تقتضي الجمع والتشريك بين المعطوف والمعطوف عليه، وقد يكون فيها مساواة، وقد لا يكون فيها مساواة، بخلاف (ثم) فإنها تدل على الترتيب مع التراخي، فإذا وجد الترتيب مع التراخي زال المحظور أي: لم يكن هناك تشريك، (ولكن قولوا: ما شاء الله، ثم شاء فلان)؛ فإن (ثم) هذه ليست كالواو للمعنى الذي ذكرنا. وهذا فيما يكون فيه لله مشيئة وللعبد مشيئة، أما الأمور التي يختص بها الله جل وعلا فلا يجوز أن يقال فيها مثل هذا، حتى ما كان له سبب، فالأسباب قد يقوم بها إنسان، ومعلوم أن الأسباب لا تقتضي وجود المسبب بالسبب نفسه، فإن السبب قد يجعل الله جل وعلا له موانع تمنع من حصول المسبب، والأمور كلها بيد الله جل وعلا؛ لأنه هو المالك المتصرف في كل شيء. المقصود بهذا أن نبين أن الله جل وعلا هو الذي يملك كل شيء ويتصرف فيه، وإذا كان هناك سبب جعله الله لمخلوق فلا يجوز أن يساوى فيه بين الخالق والمخلوق، بل لابد من التمييز بكلمة (ثم). قال الشارح: [وذلك لأن المعطوف بالواو يكون مساوياً للمعطوف عليه، لكونها إنما وضعت لمطلق الجمع فلا تقتضي ترتيباً، ولا تعقيباً، وتسمية المخلوق بالخالق شرك إن كان في الأصغر -مثل هذا- فهو أصغر، وإن كان في الأكبر فهو أكبر، كما قال الله عنه في الدار الآخرة: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:97 - 98]، بخلاف المعطوف بثم؛ فإن المعطوف بها يكون متراخياً عن المعطوف عليه بمهلة، فلا محظور لكونه صار تابعاً]. يجب أن يعلم أن هذا القسم الذي صدر من الكفار وهم في النار {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الشعراء:98] يخاطبون فيها من كانوا يعبدونهم، ويتوجهون إليهم، ومعلوم أن هذه التسمية ما سموهم بها ويقصدون فيها خلق السموات والأرض، هذا لا يقوله عاقل، ولا في إيجاد الجنة والنار ولا التصرف في الكون، وإنما التسوية التي سووهم فيها إما الحكم والتعظيم، أو التعلق القلبي التي تعلقوا بها فقط، هذا الذي سووهم فيه، فقولهم: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الشعراء:98]، أي: وقت تسويتنا لكم برب العالمين وإن سووهم به في الحكم، أوالدعاء، أو التعلق القلبي حيث يقولون: نرجوهم أن ينفعونا ويشفعوا لنا. هذا أمر واضح وضحته الآيات الأخرى، وكذلك الواقع يوضحه. قال المصنف رحمة الله تعالى: [وجاء عن إبراهيم النخعي رحمه الله أنه يكره أن يقول الرجل: أعوذ بالله وبك، ويجوز أن يقول: بالله ثم بك قال: ويقول: لولا الله ثم فلان، ولا يقول: لولا الله وفلان]. أي: يجوز أن يتعوذ بمخلوق إذا كان المخلوق حياً حاضراً قادراً على أن يعيذك بهذا الشيء؛ لأنه استعاذ بالله أولاً، والاستعاذة بالله من التوحيد بلا شك، ولا ينافي ذلك كون الإنسان يستعيذ بحي حاضر بشيء يمكله هو، أما إذا كان ميتاً أو غائباً أو لا يملك هذا الشيء، فالاستعاذة به تكون شركاً. قوله: (أعوذ بالله ثم بك)، ولا يقول: (أعوذ بالله وبك)؛ لأن الأمر كما مضى أن الواو تجعل المعطوف مساوياً للمعطوف عليه بالشيء الذي ذكر، فهذا من الشرك بالله. والمقصود في هذا أن الموحد المؤمن يتنزه في ألفاظه التي يتلفظ بها أن يقع في الشرك، والألفاظ قد تجري عادة بدون قصد، ومع ذلك لا يجوز ذلك، كما يجري على ألسنة كثير من الناس الحلف بالنبي، وهذا حلف بغير الله جل وعلا وهو من الشرك؛ فيجب أن يتنزه عن ذلك، وأن يستغفر الله من ذلك؛ لأنه لا يجوز الحلف إلا بالله جل وعلا أو بصفة من صفاته، وكذلك الاستعاذة، وكذلك اللياذ، وكل ذلك من أنواع العبادة. وكذلك لا يجوز أن يضاف الأمر إلى سببه، كأن يقول: لولا الله وأنت ما صار كذا وكذا، فإن هذا تشريك ممنوع من جهتين: - الجهة الأولى: التشريك. - والثانية: أنه لا يجوز أن يضاف الفعل إلى فلان الذي قد يكون هو السبب، أو جزءاً من السبب، بل يجب أن يضاف إلى الله جل وعلا. قال الشارح: [وقد تقدم الفرق بين ما يجوز، وما لا يجوز من ذلك، وهذا إنما هو في الحي الحاضر الذي له قدرة وسبب في الشيء، وهو الذي يجري في حقه مثل ذلك، وأما في حق الأموات الذين لا إحساس لهم بمن يدعوهم، ولا قدرة لهم على نفع ولا ضر، فلا يقال في حقهم شيء من ذلك، فلا يجوز التعلق عليه بشيء ما بوجه من الوجوه، والقرآن يبين ذلك وينادي بأنه يجعلهم آلهة إذا سئُلوا شيئاً من ذلك، أو رغب إليهم أحد بقوله، أو عمله الباطن أو الظاهر، فمن تدبر القرآن، ورزق فهمه صار على بصيرة من دينه، وبالله التوفيق]. يجب على كل مؤمن أن يتدبر القرآن؛ لأن الله أمر به؛ فإن من لم يتدبره فهو مرتكب لمحرم وسوف يحاسبه الله على ذلك، وبالنسبة للميت كالغائب فلا يجوز أن يستعاذ به، وإنما يستعاذ بالحي الحاضر القادر. قال الشارح رحمه الله: [والعلم لا يؤخذ قسراً وإنما يؤخذ بأسباب ذكرها بعضهم في قوله: أخي لن تنال العلم إلا بستة سأنبيك عن تفصيلها ببيان ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة وإرشاد أستاذ وطول زمان]. هذه الأسباب كلها إذا فعلها الإنسان قد ينال العلم وقد لا يناله، وإنما الذي سبب الأسباب هو الله جل وعلا؛ فإذا أراد بعبده خيراً فإنه ييسر له هذه الأسباب. قال الشارح رحمه الله [وأعظم من هذه الستة: من رزقه الله تعالى الفهم والحفظ، وأتعب نفسه في تحصيله، فهو الموفق لمن شاء من عباده، كما قال تعالى: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء:113]. ولقد أحسن العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى حيث قال: والجهل داء قاتل وشفاؤه أمران بالتنفيذ متفقان نص من القرآن أو من سنة وطبيب ذاك العالم الرباني والعلم أقسام ثلاث ما لها من رابع والحق ذو تبيان علم بأوصاف الإله وفعله وكذلك الأسماء للرحمن والأمر والنهي الذي هو دينه وجزاؤه يوم المعاد الثاني والكل في القرآن والسنن التي جاءت عن المبعوث بالقرآن والله ما قال امرؤ متحذلق بسواهما إلا من الهذيان]. يعني: أن العلم لا يخرج عن هذه الأقسام الثلاثة، وهو العلم بالله بأسمائه وصفاته، والعلم بأمره وخبره، يعني: أخباره التي يخبر بها، وأمره الذي يأمر به عباده. وهذا هو العلم النافع وما عدا ذلك لا خير فيه.

ذكر المسائل التي اشتمل عليها الباب

ذكر المسائل التي اشتمل عليها الباب قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل: - الأولى: تفسير آية البقرة في الأنداد]. آية البقرة هي قوله جل وعلا: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22]، وهي في سياق قوله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:21 - 22]. أي: يعلمون أن ما ذكر يختص بالله الذي خلقهم، وخلق من قبلهم، وهو الذي جعل الأرض على هذه الصفة، وجعل السماء فوق الأرض مبنية، وهو الذي ينزل من السماء ماء فينبت به النبات الذي يأكلون منه وتأكل منه أنعامهم يعلمون أنه لا يشاركه في ذلك شيء، وإذا كانوا يعلمون أنه لا مشارك له في هذه الأفعال فيجب أن تكون العبادة له وحده، ولا يجوز أن يتوجه إلى شيء من المخلوقات، سواء كانت من الأحياء المتصرفة أو الجمادات بأن يجعلوها وسائط بينهم وبين الله يدعونها ويزعمون أنها تقربهم، فإن هذا من الضلال. هذه إقامة الحجة عليهم بالشيء الذي يقرون به وبالشيء الذي يرتكبونه وينكرونه. ثم يدخل في هذا ما ذكر بعد ذلك كله من قول: لولا الله وفلان؛ هذا بحسب الألفاظ، وكذلك بالحلف بغير الله، وكذلك التشريك في الشيء الصغير والكبير حتى بالألفاظ التي تدخل في التنديد، كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما ذكره ابن عباس صريحاً. [المسألة الثانية: أن الصحابة رضي الله عنهم يفسرون الآية النازلة بالشرك الأكبر أنها تعم الأصغر]. يعني: أنها تعم الشرك عموماً صغيره وكبيره، وإن قصد بها في الأصل الشرك الأكبر، ولكن الأصغر يدخل فيها، فإن الشرك كله منهي عنه. [المسألة الثالثة: أن الحلف بغير الله شرك]. لحديث: (فقد كفر أو أشرك) ووجه كونه شركاً: ما سبق أنه يذكر اسم المحلوف عليه تعظيماً له، وتصديقاً للخبر، فهو كأنه يقول: إن كنت كاذباً فهذا الذي ذكرته يعاقبني، وإن كنت صادقاً فهو يثيبني، وأن هذا المذكور يطلع على ما أقوله، وإذا كان بهذا المعنى فقد دخل في الشرك الأكبر، وليس الأصغر، وإنما يكون من الشرك الأصغر إذا جرى على اللسان مجرداً عن هذا المعنى فقط بدون أن يكون في نيته أنه يعاقب، أو يطلع، أو يثيب. [المسألة الرابعة: أنه إذا حلف بغير الله صادقاً فهو أكبر من اليمين الغموس]. اليمين الغموس: هي أن يحلف الإنسان عند الحاكم على مال لغيره كاذباً فيقتطعه بيمينه، وقد جاء في خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم يوم الحج الأكبر أنه قال: (من اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان). والحلف بغير الله صادقاً أكبر من هذا، وذلك أن الحلف بغير الله شرك، والشرك أعظم الذنوب، وأما اليمين الغموس فهي من الجرائم، والموبقات، ولكنها لا تصل إلى الشرك. [المسألة الخامسة: الفرق بين الواو وثم في اللفظ]. الفرق: أن الواو تقتضي مطلق الجمع، والتسوية بين المعطوف عليه والمعطوف. أما (ثم) فإنها تدل على التراخي مع الترتيب فيختلف الحكم في العطف بها، ولهذا أذن صلى الله عليه وسلم بأن يقول: لولا الله ثم أنت، ولا يقول: لولا الله وأنت، وما أشبه ذلك، فثم تختلف عنها؛ لأن هذا وضعها في اللغة العربية، وهذا لمن يفهم اللغة، أما الذي لا يفهمها، ويقول (ثم) ومقصده التسوية أو المشاركة، فالحكم واحد وهو آثم، وواقع في الشرك.

شرح فتح المجيد [108]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [108] حمى النبي صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد من كل جانب، وسعى لسد كل ثغرة قد يدخل منها الشرك، حتى لو كان ذلك من قبل النطق باللسان دون الاعتقاد بالجنان، ومن حمايته صلى الله عليه وسلم لكمال جناب التوحيد: أمره من حُلِف له بالله أن يصدق الحالف.

باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله

باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله [قال المصنف رحمه الله تعالى: باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله]. الحلف بالله هو منتهى الاجتهاد في إثبات صدق الخبر، وقد أخبر الله جل وعلا عن الكفار والمشركين أنهم إذا اجتهدوا في أيمانهم أقسموا بالله، {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [الأنعام:109]، فأصبح القسم بالله هو جهد اليمين، يعني: ليس وراءه شيء، وكذلك: مقتضى الوضع أن الذي يحلف بالله جل وعلا وهو صادق فمعناه أنه يعلم أن الله مطلع عليه، وأن الله يثيبه على صدقه. أما الكاذب فبخلاف ذلك، يعني: إما أنه مستهتر بالله جل وعلا ومتهاون به، أو أنه لا يعتقد أن الله يعلم ما في قلبه، وأن الله يعاقب على ذلك، وكل هذا خلاف كمال التوحيد، ومن تعظيم اسم الله جل وعلا ألا يذكر إلا على حق، ثم إذا ذكر له فإنه يقتنع ويرضى به، ولكن هذا ليس في كل موطن، وإنما يكون ذلك في الأيمان الشرعية عندما يكون هناك حكم شرعي؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (البينة على المدعي، وعلى المنكر اليمين)، فالمدعى عليه يقسم بالله، ويبرأ، فإذا حصل الحلف بالله يجب على المحلوف له أن يرضى؛ لأن هذا حكم شرعي شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم، ووجب أن يرضى به، والذي لا يرضى يكون إما ناقص التوحيد؛ لأنه ارتكب محرماً، أو لأنه لم يقدر الله جل وعلا حق قدره، أما في مخاطبات الناس ومحاوراتهم فإن هذا لا يلزم؛ لأن كثيراً من الناس يحلف بالله إما على ظن ضعيف، وإما على غير ظن. فإذا كان الإنسان يعلم أن الأمر في الواقع بخلاف حلفه لم يلزمه أن يرضى بذلك؛ غير أن المؤمن يجب أن يحفظ أيمانه، وكذلك عند الاعتذارات: إذا اعتذر أخ لأخيه، أو عند التهم: إذا اتهم بشيء فحلف بالله أنه ما صار كذا، وأنه ما وقع مني كذا، أو حلف بالله يعتذر له، ويقول: إنه صادق، فإنه ينبغي عليه أن يرضى بذلك، ويصدق ويحمل أخاه على المحمل الطيب الحسن، فإن هذا من حق المسلم على المسلم، ومن لم يفعل ذلك فإنه آثم وتوحيده ناقص، أي أنه لم يأت بكمال التوحيد، فهذا هو وجه إدخال هذا الباب في كتاب التوحيد من هذا الوجه. والذي لا يرضى بما حلف له على وجه الاعتذار أو رفع التهمة من أخيه يكون مذنباً، ويكون ذلك نقصاً في توحيده، أما الحلف بغير الله جل وعلا فإنه مضى أنه من الشرك، وقد يكون شركاً أكبر وقد يكون أصغر على حسب ما يقوم في نفس الحالف. قال المصنف: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تحلفوا بآبائكم؛ من حُلف له بالله فليصدق، ومن حُلف له بالله فليرض، ومن لم يرض فليس من الله)، رواه ابن ماجة بسند حسن]. أما قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تحلفوا بآبائكم) فقد سبق بيانه، وأن الحلف بغير الله جل وعلا شرك أو كفر، سواء كان بالآباء، أو بالأمانات، أو بالبيت، أو بالنبي، أو بأي مخلوق من المخلوقات فإنه لا يجوز أن يحلف بغير الله جل وعلا، أو بصفة من صفاته؛ لأننا منعنا من غير ذلك. وأخبرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أن الحلف بغير الله شرك؛ فلا يجوز أن يرتكب هذا النهي، ولو كان ذلك يجري على لسانه مجرد كلام لا يقصد به حقيقته فإنه محرم، ويكون من الشرك اللفظي الذي يكون من الشرك الأصغر، أما إذا كان يقصد الحقيقة، فهذا قد يرقى عن الشرك الأصغر إلى الأكبر. وأما قوله: (ومن حلف بالله فليصدق)، فهذا من حفظ الأيمان، والإنسان يحفظ يمينه والصدق مأمور به مطلقاً، فالله أمرنا أن نكون مع الصادقين، وأمر بالصدق ونهى عن الكذب، فالصدق من الحسنات، والكذب من صفات المنافقين، والمؤمن لا يكذب كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لما سئل: (أيزني المؤمن؟ قال: نعم، قيل: أيسرق المؤمن؟ قال: نعم، قيل: أيكذب المؤمن؟ قال: لا)، فالكذب محرم قليله وكثيره، ولا يصلح منه شيء إلا ما استثني في الحديث من الأمور الثلاثة، وفي الواقع أنها من المعاريض وليست كذباً صريحاً، ولكن الأخبار التي يخبر بها تحمل على فهم السامع، فإذا كان الخبر على خلاف ظاهره فإنه يحتمل أن يكون مراداً ويحتمل أن لا يكون مراداً، وإذا كان له غرض صحيح فلا بأس بذلك، ولهذا جاء في الحديث: (إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب)، يعني: فيها مجال ومتسع يغني عن أن يكذب الإنسان، فالكذب لا يجوز منه شيء، والصدق واجب، فكيف إذا كان مع الخبر يمين فإن الكذب يكون أكبر وأعظم جرماً مما لو كذب بلا حلف، لهذا قال: (ومن حلف بالله فليصدق)، وهذا أمر يقتضي الوجوب. ثم قال: (ومن حلف له بالله فليرض)، أي: أذا أخبرك مخبر ثم أقسم على خبره بالله أن هذا هو الواقع، فيجب عليك أن ترضى إن لم يكن المخبر معروفاً بانتهاك الدين وبكونه لا دين له؛ لأنه جاء في قصة محيصة وحويصة اللذين قتل أخوهما في خيبر ولا يدرى من قتله، ومعلوم أن الذي قتله اليهود؛ لأنهم أعداء المسلمين في ذلك اليوم، فلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره قال: (تبرئكم يهود بخمسين يميناً، قال: إنهم لا أيمان لهم)، يعني: كيف نرضى بهذا؟! فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم عدم الرضا؛ لأن هؤلاء لا دين لهم، وقد يحلفون وهم كذبة. وكذلك الرجل الذي جاء يخاصم آخر في أرض قد استولى عليها أحدهم، قال له: (ألك بينة؟ قال: لا. قال: إذاً لك يمينه، فقال: إذاً يأكل مالي)؛ لأنه رجل فاجر، فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، ولا قال: يلزمك أن ترضى بهذا، بل قال: (ليس لك إلا يمينه)، فدل هذا على أن المتهم في دينه لا يلزم أن يصدق يمينه إذا حلف. غير أن الحكم الشرعي إذا حكم الحاكم باليمين يلزم المحكوم عليه أن يرضى بهذا الحكم ويسلم بذلك؛ لأن هذا هو حكم الشرع. (ومن لم يرض فليس من الله في شيء): هذا كقوله جل وعلا: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} [آل عمران:28]، يعني: ليس له نصيب في الآخرة؛ فهو من الوعيد الشديد الذي يقتضي وجوب الرضا بالحلف بالله جل وعلا في الحكم، قال بعض العلماء: إن الحديث خاص بالحكم؛ لأنه يجب الرضا به، ويظهر أنه عام فيما إذا جاء إليك أخوك معتذراً من أمر قد بدر منه، ويحلف لك أنه صادق، وأنه ليس لديه إلا النصح لك والمودة، فإنه يجب عليك أن ترضى بهذا. وكذلك إذا اتهم في شيء وعوتب في ذلك، ثم حلف أنه على خلاف هذا، فإنه يجب أيضاً عليك أن ترضى، ومن لم يرض فإنه داخل في هذا الوعيد. ومناسبة الحديث للباب: أن الذي لا يرضى بالحلف بالله متوعد بقوله: ((فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْء))، وهذا يدل على نقص توحيده: إما ذهابه كله، وإما ذهاب كماله.

آثار تصديق الحالف في اليمين

آثار تصديق الحالف في اليمين قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: (لا تحلفوا بآبائكم) تقدم النهي عن الحلف بغير الله عموماً. قوله: (من حلف بالله فليصدق) هذا مما أوجبه الله على عباده، وحضهم عليه في كتابه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119]، وقال: {وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ} [الأحزاب:35] وقال: {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد:21]، وهو حال أهل البر، كما قال تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} إلى قوله: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177]]. قوله: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا) يعني: كل الخصال التي ذكرت في أهل البر صدقوا فيها، فهذا يدلنا على أن الصدق يجمع خصال الخير كلها، فهو وصف أهل الإيمان، وأهل التقى والبر، أما خلاف الصدق فهو الكذب، فهو صفة أهل النفاق. [وقوله: (من حلف له بالله فليرض ومن لم يرض فليس من الله)، أما إذا لم يكن له بحكم الشريعة على خصمه إلا اليمين فأحلفه، فلا ريب أنه يجب عليه الرضا، وأما إذا كان فيما يجري بين الناس مما قد يقع في الاعتذارات من بعضهم لبعض ونحو ذلك؛ فهذا من حق المسلم على المسلم أن يقبل منه إذا حلف له معتذراً أو متبرئاً من تهمة. ومن حقه عليه أن يحسن به الظن إذا لم يتبين خلافه، كما في الأثر عن عمر رضي الله عنه: (ولا تظنن بكلمة خرجت من مسلم شراً وأنت تجد لها من الخير محملاً). وفيه من التواضع والألفة والمحبة وغير ذلك من المصالح التي يحبها الله ما لا يخفى على من له فهم؛ وذلك من أسباب اجتماع القلوب على طاعة الله، ثم إنه يدخل في حسن الخلق الذي هو أثقل ما يوضع في ميزان العبد، كما في الحديث، وهو من مكارم الأخلاق. فتأمل أيها الناصح لنفسه ما يصلحك مع الله من القيام بحقوقه، وحقوق عباده، وإدخال السرور على المسلمين، وترك الانقباض عنهم، والترفع عليهم؛ فإن فيه من الضرر ما لا يخطر بالبال، ولا يدور في الخيال، وبسط هذه الأمور، وذكر ما ورد فيها مذكور في كتب الأدب وغيرها. فمن رزق ذلك والعمل بما ينبغي العمل به منه، وترك ما يجب تركه من ذلك؛ دل على وفور دينه وكمال عقله، والله الموفق والمعين لعبده الضعيف المسكين. والله أعلم]. يعني: هذا من حق المسلم على المسلم، ومما يجب أن يعتنى به ولا يتهاون به؛ لأن هذا مقتضى الإيمان، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا؛ أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام فيما بينكم). فقوله: (لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا)، هذا أمر من ضروريات الشرع وأن الإيمان لابد منه، وأن الجنة لا يدخلها إلا نفس مؤمنة، وقوله: (ولا تؤمنوا حتى تحابوا) المقصود به التحاب في الدين وعلى العقيدة، فتحبه لأنه يعبد الله، ولأنه شاركك في الإيمان بالله، وفي طاعة الله جل وعلا، فتود له ما تود لنفسك، وهذا يجب على جميع المسلمين، ومن أخل به فإنه ناقص الإيمان إن لم يكن إيمانه زائلاً بالكلية، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم كالجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)، كذلك يمثلهم بأنهم كالبنيان يشد بعضهم بعضاً، يعني: أنه يجب التعاون فيما بينهم، ويجب أن يتراحموا، ويكون بينهم ألفة الإيمان، ويكون المؤمن مرآة المؤمن، والمرآة ينظر فيها حتى يزيل الأذى من وجهه وبدنه، فالمؤمن يزيل الأذى عن أخيه، ويبعده عنه، هذا معناه: أنه لا يكون إلا جالباً للخير لأخيه. أما إذا انعكست الأمور وصار يجلب له الأذى والشر، فمعنى ذلك إما أن يكون الإيمان زائلاً بالكلية، وأنه لا أثر له في أعماله فهذا إيمانه ضعيف وغير مؤثر، وقد يزول في وقت ما. والذي ينظر إلى حالة المسلمين ولاسيما في المشاعر والطواف مثل رمي الجمار ويرى بعضهم يدوس بعضاً، وبعضهم يقتل بعضاً يعرف أن الإيمان عندهم إما معدوم، وإما ضعيف وإلا لو كانوا يتحلون بما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يمكن أن يقتل مؤمناً مؤمن برجليه يدوسه وهو يؤدي فريضة من فرائض الله جل وعلا، وليس الأمر لأن هذه الأماكن تقتضي ذلك، كلا. ولكن الواقع أن الفعل يصدر مهم لجهلهم وعدم مراعاة حقوق إخوانهم بعضهم لبعض. وهكذا في جميع المجالات يجب أن يراعى حق المؤمن لأمر لله جل وعلا واتباعاً لشرعه، وكذلك عندما يبدو منه بادرة تدل على المخالفة؛ فإنه يجب نصحه أولاً فربما يكون ذلك لأنه جاهل ولو عرف الحق لم يفعل ذلك، ولا يجوز أن تعنف عليه بالكلام، أو السب والشتم، بل يجب أن يكون ذلك برفق وبلين يقصد به هدايته، وإذا اعتذر يجب أن يقبل عذره في جميع المجالات التي يمكن أن يسعه الاعتذار فيها في أمور الدين، أما أمور الدنيا فلا تساوي شيئاً كلها ولا يجوز أن يتعادى عليها أو يتباغض من أجلها، فإن حصل ذلك فهذا من الظلم.

المسائل التي اشتمل عليها الباب

المسائل التي اشتمل عليها الباب قال المصنف رحمه الله: [فيه مسائل: الأولى: النهي عن الحلف بالآباء. المسألة الثانية: الأمر للمحلوف له بالله أن يرضى. المسألة الثالثة: وعيد من لم يرض].

شرح فتح المجيد [109]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [109] لا يجوز أن يشرك مع الله أحد من خلقه في مشيئته وإرادته سبحانه، أو صفاته وأفعاله؛ ولذا أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على قول الرجل: (ما شاء الله وشئت)، وقال: (أجعلتني لله نداً؟!).

باب قول: ما شاء الله وشئت وأمثالها

باب قول: ما شاء الله وشئت وأمثالها قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب قول: (ما شاء الله وشئت): عن قتيلة: (أن يهودياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنكم تشركون؛ تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة. فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة، وأن يقولوا: ما شاء الله وشئت) رواه النسائي وصححه]. يعني: ما حكم هذا القول هل هو جائز، أو أنه ممنوع، وإذا كان ممنوعاً فهل هو معصية أو شرك؟ فإن كان معصية؛ فإنه يكون ذاهباً بكمال التوحيد لمن وقع منه، وإن كان شركاً؛ فإنه إما أن يكون ذاهباً بالكمال أو بالكل، على حسب ما يقوم بقلب القائل، وحسب ما يصدر منه. والجواب عن هذا: أن هذا لا يجوز، وأن قول: (ما شاء الله وشئت) من الشرك، ولكنه من الشرك الأصغر، وقد يكون من شرك الألفاظ، وإذا وافق القلب اللسان في ذلك فإنه أيضاً يكون من شرك الاعتقاد؛ فربما وصل إلى الشرك الأكبر. وقوله في هذا في حديث قتيلة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهاهم أن يقولوا ذلك، وأن يقولوا: (ما شاء الله ثم شئت) يعني: منع من الشرك وأباح الشيء الذي يعوض عنه، وهو الإتيان بلفظ لا يدل على مساواة المعطوف بالمعطوف عليه، والمعطوف يكون مخلوقاً والمعطوف عليه هو الخالق جل وعلا. سبق أن قلنا إن هذا لمن يفهم اللغة، أما الذي لا يفهم اللغة ويأتي بثم ومقصوده التسوية، والتشريك فيكون بذلك واقعاً في الشرك، غير أنه يجب أن يفهم الإنسان ما يتكلم به ويفهم كلام الله وكلام رسوله، وهو لا يفهم ذلك إلا إذا عرف اللغة العربية. وهذا يدلنا على لطف الرسول صلى الله عليه وسلم، وشفقته على أمته، وحمايته جناب التوحيد وكل الطرق التي تفضي إليه، حتى في مثل هذه الألفاظ نهى عنها ومنع منها، فكيف لو حصلت استغاثة بمخلوق أو دعاء له، أو حصل ذبح له، أو نذر ماذا يكون؟ يكون مضاداً لدعوته صلى الله عليه وسلم، ومنافياً لها، ولهذا كانوا يعرفون هذه الأمور تماماً، ولم يقع منهم شيء من ذلك وإنما يقع شيء فيه خفاء لا يعرفه إلا الخواص، مثل هذا اللفظ.

الجواب عما ورد في القرآن من الجمع بين فعل الله ورسوله بالواو

الجواب عما ورد في القرآن من الجمع بين فعل الله ورسوله بالواو قد يقول قائل: إنه جاء في القرآن ما يدل على جواز مثل هذا، أي: جواز العطف بالواو، مثل قوله جل وعلا: {لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:37]، فعطف بالواو على ما فعله الله جل وعلا يقصد به الرسول، وكذلك قوله جل وعلا: {أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [التوبة:74]، فعطف الرسول على الله، وقد يحتج محتج بمثل هذا، ويقول: هذا يدل على الجواز. فالجواب عن هذا: أن يقال: كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم لا يتضاربان ولا يتعارضان بل كلاهما حق وكلاهما يدل على التوحيد، ولا يمكن أن أحدهما يدل على خلاف التوحيد. أما الجواب المفصل فنقول: هذا من الله، والله جل وعلا يقول ما يشاء ويفعل ما يشاء، وقد أخبرنا جل وعلا أنه يقسم بما يشاء من مخلوقاته، أما نحن فممنوعون من مثل هذا، فيكون هذا مثل القسم الذي أقسم الله جل وعلا به في قوله جل وعلا: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا} [الشمس:1 - 3] إلى آخر الأقسام الكثيرة التي تقسم بالمخلوقات والتي تدل على عظمتها، وأنها آية من آيات الله. الجواب الثاني: أن يوجد فرق بين ما في هذه الآيتين، وما في الحديث، فالحديث فيه: أن الفعل واحد (ما شاء الله وشئت)، أما هذه فأفعال مختلفة؛ وفعل الله غير فعل رسوله؛ فالله أغناهم من فضله ورسوله صلى الله عليه وسلم أغناهم بفعله حقيقة، ولكنه داخل تحت قدرته، وهو من نعم الله جل وعلا، وكذلك بالنسبة إلى زيد فالله أنعم عليه بالإسلام والهداية، والرسول صلى الله عليه وسلم أنعم عليه بأن أعتقه، فالفعل هنا متغاير وليس مثل ما في الحديث.

ما يستفاد من حديث قتيلة

ما يستفاد من حديث قتيلة قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن قتيلة: (أن يهودياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تشركون: تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة. فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة، وأن يقولوا: ما شاء الله ثم شئت) رواه النسائي وصححه]. في هذا الحديث من الاعتبارات: أولاً: كيف أن اليهود يعرفون مثل هذه الدقائق وينكرونها على المسلمين، وهم يقولون: (عزير ابن الله)، (يد الله مغلولة)، (نحن أغنياء والله فقير)، ويفعلون الأفعال التي تنافي وحدانية الله جل وعلا، ثم ينكرون على المسلمين مثل هذا الشيء الدقيق، فهذا يدل على أن صاحب الهوى قد يفهم شيئاً دقيقاً لأجل هواه لا من أجل الحق. ثانياً: أن الحق إذا جاء -وإن كان من عدو- يجب أن يقبل، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قبل ذلك ونهى عنه، وهو إنما جاء من اليهود وهم أعداء الله، وأعداء رسوله، وأعداء المسلمين، والحق ضالة المؤمن فيجب أن يقبله ويقول به، وإن كان صادراً من عدو. ثالثاً: أن الإنسان ظلوم جهول قد يعرض عن الأمور العظائم التي يفعلها، وينتقد الأمور الدقيقة الضعيفة على غيره. قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: (عن قتيلة) بمثناة، مصغرة، قتيلة بنت صيفي الأنصارية صحابية مهاجرة، لها حديث في سنن النسائي وهو المذكور في الباب، ورواه عنها عبد الله بن يسار الجعفي. وفيه: قبول الحق ممن جاء به كائناً من كان. وفيه: بيان النهي عن الحلف بالكعبة، مع أنها بيت الله التي حجها وقصدها بالحج والعمرة فريضة. وهذا يبين أن النهي عن الشرك بالله عام لا يصلح منه شيء لا لملك مقرب، ولا لنبي مرسل، ولا للكعبة التي هي بيت الله في أرضه. وأنت ترى ما وقع من الناس اليوم من الحلف بالكعبة، وسؤالها ما لا يقدر عليه إلا الله، ومن المعلوم أن الكعبة لا تضر ولا تنفع؛ وإنما شرع الله لعباده الطواف بها والعبادة عندها وجعلها للأمة قبلة، فالطواف بها مشروع، والحلف بها ودعاؤها ممنوع، فميز أيها المكلف بين ما يشرع وما يمنع، وإن خالفك من خالفك من جهلة الناس الذين هم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً]. شبيه بقول هذا اليهودي ما سمعناه من بعض النصارى، فإنهم يقولون في هذه المسألة: إن المسلمين عندهم بقايا وثنية حيث يذهبون إلى الكعبة ويتمسحون بها ويطوفون عليها. وهذا غريب من هؤلاء المشركين الذين يجعلون المسيح بن مريم ابن الله أو أنه ثالث ثلاثة ويعبدونه، فهم يعبدون رجلاً كان في بطن امرأة حملاً، ثم وضع فصار رضيعاً ضعيفاً، إلى أن جاءت عليه الأطوار التي تأتي على الإنسان، ثم يقولون: هو ربهم، وأنه هو الذي يتصرف، ثم ينتقدون هذا الانتقاد، هذا من أعجب العجب. والجاهل الذي لا يعرف حكم الإسلام، ولا يعرف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قد ينطلي عليه مثل هذا الكلام؛ لأن القائل نفسه يعلم أنه باطل، وأن مقصوده به التشويه، وكذلك يقصد به أن ينفر عن الإسلام من لا يعرفه، وإلا فإن أهل الإسلام يعلمون أن الكعبة مبنية من الحجر والطين، وأنها لا تضر ولا تنفع أحداً، وإنما يمتثلون أمر ربهم حيث أمرهم بقصدها والطواف عليها وبالتوجه إليها بالصلاة والدعاء. فهذا مثلما ذكر الله جل وعلا أنه أمر الملائكة بأن يسجدوا لآدم فسجدوا طاعة لله وليس عبادة لآدم، فكذلك المسلمون يذهبون إلى الكعبة ويطوفون بها طاعة لله جل وعلا، ويعبدون رب الكعبة وليست الكعبة هي المعبودة، وإنما المعبود ربها الذي أمر بتعظيمها وبقصدها وبالطواف عليها. أما التمسح بها فليس مشروعاً بل لا يجوز وهو من المحرمات، وإذا وقع فإنما يقع من الجهلة الذين لا يعرفون الحكمة، وإنما الذي يمسح هو الحجر الأسود والركن اليماني فقط، وأما غير ذلك فلا يجوز التمسح كما يقول هؤلاء الأعداء، وإنما يفعلون ما أمروا تعبداً لله جل وعلا وتقرباً. وأما الوقوف بعرفات فهو عبادة أمروا بها تعبداً لله، وكذلك المبيت بمزدلفة، ورمي الجمار وسائر مواقف الحج والمشاعر، كلها عبودية للقلب وللبدن؛ فالقلب أولاً يخضع لله جل وعلا ممتثلاً أمره وليس لهذه المظاهر التي يزعم الأعداء أنها من بقايا الوثنية، إذ إنهم إما جاهلون بالحكم وبالواقع، أو أنهم عرفوا الحكم فكذبوا على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين، فعليهم جريمة الكذب وجريمة معاداة الحق.

مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله تعالى

مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله تعالى قال الشارح رحمه الله: [قوله: (إنكم تشركون، تقولون: ما شاء الله وشئت)، والعبد وإن كانت له مشيئة فمشيئته تابعة لمشيئة الله، ولا قدرة له على أن يشاء شيئاً إلا إذا كان الله قد شاءه، كما قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:28 - 29] وقوله: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان:30]))]. ومعلوم أن الذي يقول هذا القول ليس قصده أن مشيئة المخلوق كمشيئة الخالق؛ هذا لا يخطر ببال عاقل من العقلاء، وإنما الذي ينكر مجرد الجمع بين مشيئة الله ومشيئة المخلوق؛ لأن الجمع يقتضي تشريكاً فقط، يعني: أن مشيئة المخلوق تشارك مشيئة الخالق ولو مشاركة ضعيفة، فنهي عن هذا وجعل ذلك من الشرك، هذا هو الذي دل عليه الحديث. أما كون الإنسان له مشيئة ومشيئته جعلها الله جل وعلا مملوكة له، فهذا لا ينكر وهذا معلوم، ولكن هذه المشيئة ضعيفة تناسب ضعف المخلوق، فلا يجوز أن يجمع بينها وبين مشيئة القادر على كل شيء رب العباد جل وعلا، يجب أن يكون العبد عبداً لله موحداً منزهاً لله عن جميع المشاركة حتى في الألفاظ التي توهم مجرد مشاركة ولو ضعيفة حتى يكون عبداً لله حقاً. والرسول صلى الله عليه وسلم جاء بكمال التوحيد فبين جميع ما يجب على العبد أن يفعله أو يقوله، وكذلك جميع ما يجب أن يمتنع منه.

الرد على نفاة المشيئة من القدرية والمعتزلة

الرد على نفاة المشيئة من القدرية والمعتزلة قال الشارح رحمه الله: [وفي هذه الآيات والحديث: الرد على القدرية والمعتزلة نفاة القدر، الذين يثبتون للعبد مشيئة تخالف ما أراده الله تعالى من العبد وشاءه، وسيأتي ما يبطل قولهم في: (باب ما جاء في منكري القدر) إن شاء الله تعالى، وأنهم مجوس هذه الأمة]. القدرية ما قالوا ذلك لأنهم يقدسون الإنسان، ولا لأنهم يجعلونه مشاركاً لله جل وعلا في ذلك قصداً، وإنما قالوه من باب الجهل والفرار من باطل اعتقدوه فوقعوا في باطل آخر أكبر منه، وهو أنهم قالوا: لو قلنا إن مشيئة الله جل وعلا عامة شاملة، وأن العبد ليس له مشيئة إلا بعد مشيئة الله؛ فهي داخلة في مشيئته؛ فلو قلنا هذا للزم من ذلك أن نقول إن الله يشاء الكفر من العبد ثم يعذبه عليه، ويكون ذلك ظلماً. هذا الذي دعاهم إلى قولهم: إن العبد له مشيئة غير داخلة في مشيئة الله، ومعلوم أن مثل هؤلاء مثل الذي استجار من الرمضاء بالنار، فهم فروا من شيء متوهم يريدون تنزيه لله ووقعوا في الشرك في الربوبية؛ حيث جعلوا هناك أشياء مخلوقة لغير الله جل وعلا. فإذاً: يكون المخلوق مشاركاً لله جل وعلا في الخلق، وهذا أعظم وأكبر مما فروا منه، فإن الله جل وعلا خلق الإنسان وجعل له قدرة واختياراً فخلق له القدرة على اختيار الفعل التي هي المشيئة، وخلق له قدرة التي هي مناط القيام بالفعل، وبها يفعل، وخلق له أيضاً إرادة التي هي المشيئة فجعلها ملكاً له، وأمره بما يستطيع، فإذا فعل ذلك فإنه يفعله بإرادته وقدرته، وإذا تركه فإنه يتركه بإرادته وقدرته، وعلى ذلك يستحق العبد إذا ترك ما أمر به وفعل ما نهي عنه يستحق الثواب إذا امتثل الأمر واجتنب النهي؛ لأنه وقع بإرادته وقدرته.

عقيدة أهل السنة في القدر

عقيدة أهل السنة في القدر قال الشارح رحمه الله: [وأما أهل السنة والجماعة فتمسكوا بالكتاب والسنة في هذا الباب وغيره، واعتقدوا أن مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله تعالى في كل شيء مما يوافق ما شرعه الله، وما يخالفه من أفعال العباد وأقوالهم؛ فالكل بمشيئة الله وإرادته، فما وافق ما شرعه رضيه وأحبه، وما خالفه كرهه من العبد، كما قال تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7]. وفيه: بيان أن الحلف بالكعبة شرك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أقر اليهودي على قوله: إنكم تشركون]. أقره على تسميته ذلك شركاً ونهى عنه، وليس معنى هذا أن اليهودي ينبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعلمه، ولكن هذا يكون من الأمور المسموح بها أولاً، ثم بعد ذلك نهي عنها، وقد جاء أنه كان يجوز أن يحلفوا بغير الله أولاً ثم نسخ ذلك ونهوا عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)، وقال: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم)، وقال: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك). قال المصنف رحمه الله تعالى: [وله أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما شاء الله وشئت، فقال: أجعلتني لله نداً، ما شاء الله وحده)]. قوله: (أجعلتني لله نداً)، الند: هو المثيل والنظير الذي يكون مناظراً لنده، يقال: (هذا ند) إذا كان مثله، ونديده إذا كان مساوياً له، ولا يلزم أن تكون المساواة من كل وجه بل ولو في صفة من الصفات. قوله: (أجعلتني لله نداً)، هذا من باب الإنكار عليه وأن هذا من الشرك، كما قال صراحة: (أجعلتني لله نداً؟) فدل على أن هذا شرك، وهو من الشرك الأصغر الذي يجب أن يتنزه عنه، ووجوده يكون منقصاً لتوحيد الإنسان. ثم أرشده إلى التوحيد الخالص فقال: (بل ما شاء الله وحده)، أي: قل: ما شاء الله وحده ولا تعطف عليه أي شيء، وهذا أكمل مما لو قال: (ما شاء الله ثم شئت)، مع أنه جائز ولكن قوله: (ما شاء الله وحده) أكمل وأبعد عن المشاركة عن الشرك في الوجود؛ وأرشد إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أن الأمر الذي وقع هو بمشيئة الرسول صلى الله عليه وسلم، أعني: المشيئة المقدور له فعلها بنفسه، ولكن لا يقع شيء في الكون إلا بمشيئة الله. فالله هو الذي أقدر المخلوق على أن يفعل هذا الشيء؛ فإنه لا تكون له حركة ولا سكون إلا بإرادة الله جل وعلا: {مَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [الأنعام:59] فالله جل وعلا أراد ذلك وشاءه، والشيء الذي لا يريده ولا يشاؤه لا يمكن أن يقع؛ غير أن الله جل وعلا جعل لكل شيء سبباً، والسبب لا يجوز أن يكون هو المعتمد عليه، والمنظور إليه، بل ينظر إليه على أن الله جعله سبباً، فترجع الأمور كلها إلى الله جل وعلا، وهذا منها، فإذا فعل مخلوق فعلاً يجب أن يُنظر إلى أنه وقع بإرادة الله، والله هو الذي أقدر هذا المخلوق عليه، وقد شاء الله وقوعه، ولولا مشيئته ما وقع؛ لأنه وإن كان السبب تاماً فإن له موانع جعلها الله جل وعلا فإذا أراد أن لا يقع لم يقع. قال الشارح رحمه الله تعالى: [هذا يقرر ما تقدم: من أن هذا شرك لوجود التسوية في العطف بالواو. وقوله: (أجعلتني لله نداً)، فيه بيان أن من سوى العبد بالله ولو في الشرك الأصغر فقد جعله نداً لله، شاء أم أبى، خلافاً لما يقوله الجاهلون بما يختص بالله تعالى من عبادته، وما يجب النهي عنه من الشرك بنوعيه و (من يرد به الله خيراً يفقه في الدين).

حديث الطفيل (إنكم لأنتم القوم)

حديث الطفيل (إنكم لأنتم القوم) قال المصنف رحمه الله تعالى: ولـ ابن ماجة عن الطفيل أخي عائشة لأمها، قال: (رأيت كأني أتيت على نفر من اليهود، قلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: عزير ابن الله، قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد، ثم مررت بنفرٍ من النصارى فقلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله، قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد. فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته قال: هل أخبرت بها أحداً؟ قلت: نعم، قال: فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد: فإن طفيلاً رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم، وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها، فلا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله وحده)].

وجوب تمييز أفعال الله عن أفعال خلقه

وجوب تمييز أفعال الله عن أفعال خلقه إن من أعظم الذنوب التي توعد الله جل وعلا عليها العقاب الشرك، والشرك يكون بالفعل ويكون بالاعتقاد، ويكون بالقول بالألفاظ، والألفاظ قد لا يعتقد الإنسان معانيها، ومع ذلك تكون شركاً. وهذا الحديث من هذا النوع، أي: من نوع الشرك بالألفاظ؛ لأن الذي يقول: ما شاء الله وشئت لا يعتقد أن مشيئة المخلوق مساوية لمشيئة الخالق جل وعلا، ولا أنه يوجد بها ما يوجد بمشيئة الله جل وعلا، هذا لا يعتقده عاقل، ولكن مجرد الجمع بين المشيئتين في اللفظ يجعل ذلك شركاً؛ لأنه يجب أن تميز أفعال الله جل وعلا عن أفعال خلقه؛ لأن الله جل وعلا لا شريك له في ذاته، ولا في أوصافه، ولا في أفعاله، ولا في حقوقه التي يستحقها على عباده، كل هذه يجب أن يكون مفرداً بها لا يشرك فيها معه أحد. والرسول صلى الله عليه وسلم جاء بالدين الخالص، وجاء في بيان حق الله جل وعلا على عباده بأنواعه؛ لهذا أنكر مثل هذا الشيء الدقيق.

الرؤيا قد تكون سببا في حكم شرعي

الرؤيا قد تكون سبباً في حكم شرعي وهذه رؤيا رآها أحد المسلمين وهو الطفيل، ولكن الرؤيا قد تكون سبباً لأمرٍ يشرعه الله، كما صارت الرؤيا سبباً في مشروعية الأذان، ففي حديث عبد الله بن زيد (أنه انصرف من عند النبي صلى الله عليه وسلم وهو مهتم بأمر الصلاة كيف يتحينون لها وقتاً! ولا كان ينادى لها، فمنهم من يقترح أن يكون هناك ناقوس يضرب به أو نار، لكن النبي صلى الله عليه وسلم كره هذه الأمور، فذهب ورأى في منامه أنه جاءه آت ومعه بوق فقال له: ألا تبيع هذا؟ قال: وماذا تصنع به؟ قال: أنادي به للصلاة، قال: أولا أدلك على خير من ذلك؟ قال: بلى، فقال: تقول: الله أكبر الله أكبر إلى آخر الأذان، ثم ذكر له الإقامة، فذهب وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إنها رؤيا حق، ألقها على بلال فإنه أندى منك صوتاً). فكان هذا سبب مشروعية الأذان، وهذه الرؤيا سبب النهي عن مثل هذا القول، أن يجمع الإنسان بين ما هو من فعل الله وما هو من فعل المخلوق في كلمة واحدة وذلك (بالواو) كقول: ما شاء الله وشئت، أو: هذا بك وبالله، أو أن هذا فعلك وفعل الله، أو ما أشبه ذلك، فإن هذا لا يجوز؛ لأن هذا يكون من الشرك بالألفاظ؛ لأنه جمع بينه وبين فعل الله جل وعلا. وهذه المحاورة التي حصلت في الرؤيا بين الطفيل وبين جماعة من اليهود وجماعة من النصارى تدل على أن الرؤيا ليست خيالية، بل هي أمور واقعية، وتدل كذلك على تعصب أهل العقيدة الباطلة، فإنهم يتعصبون لعقيدتهم، وتدل على فهم أصحاب الباطل، فإنهم يفهمون الدقائق ومع ذلك لا ينفعهم. وهنا لما قال لهم: (إنكم لأنتم القوم) يعني: إنكم عندكم كمال غير أن فيكم عيباً، وهو: أنكم تقولون: عزير ابن الله، وعزير رجل صالح جعلوه ابن لله، لأن الله جل وعلا علمه التوراة، فهذا من أعظم الشرك بالله جل وعلا، ومن أعظم التنقيص من المخلوق لله جل وعلا، فإنه جهول ظلوم، جهل عظمة الله ولم يقدره حق قدره، فعدلوا عن هذا الإنكار وهذا العيب العظيم إلى شيء يسير ولكنه من نوعه، قالوا: (وأنتم لأنتم القوم) يعني: عندكم من الكمال والاستعداد (لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد) يعني: أن هذا هو عيبكم حيث لم تخلصوا لله جل وعلا. وكذلك قال النصارى لما قال لهم: (إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله) وهذا من جنس قول اليهود، ومن أعظم الشرك والتنقص لله جل وعلا، كيف يكون الرب جل وعلا له ابن وهو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد؟ تعالى الله وتقدس، هو الأول بلا ابتداء، وهو الآخر بلا انتهاء: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3] هو الغني بذاته عن كل ما سواه، وكل الخلق فقراء، وكانوا عدماً فأوجدهم، ولابد أن يصيروا إلى العدم فهم فقراء، فهذا من جهل الإنسان وظلمه، وإذا اجتمع الجهل والظلم فإنه يتحتم ويجتمع البلاء كله، نسأل الله العافية. فلما قص الرؤيا على الرسول صلى الله عليه وسلم بادر إلى إنكار هذا القول الذي يصدر منهم، فقال: (إنكم تقولون كلمة كنت أعرفها، ولكن كان يمنعني من إنكارها كذا وكذا)، وجاء في رواية: (يمنعني من إنكارها الحياء) ومعنى ذلك: أنه كان يمنعه من إنكارها أن الله لم يوح إليه فيها شيئاً، وإلا فمجرد الحياء لا يمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من إنكار المنكر، غير أنه لا يقول إلا بأمر الله جل وعلا، وهذه الرؤيا من أقسام الوحي، وقد جاء أنها جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، وإذا كانت صالحة فهي حق، ولكن هذا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أعني أن تكون الرؤيا سبباً لتشريع أمر من الأمور، أما بعد ذلك فلا يجوز أن يثبت بالرؤيا حكم من الأحكام، وإنما تكون الرؤيا إما بشارة وإما نذارة، يعني: تبشر الإنسان إذا كان من أهل الخير المحبين، أو تنذره إذا كان من أهل المعاصي، وقد فسر قول الله جل وعلا: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس:64] بالرؤيا الصحيحة الصادقة، والرؤيا إذا كانت من إنسان صالح ويصدق الحديث فغالباً ما تكون صادقة، أما إذا كان لا يصدق ويكذب في الحديث فرؤياه لا تصدق ولا تكون صحيحة.

أقسام الرؤيا

أقسام الرؤيا والرؤيا التي تقع للناس على أقسام ثلاثة: - قسم يكون مما يزاوله الإنسان في حياته ويعيش عليه، فتكون روحه مشدودة به، ونفسه مشغولة به، فإذا نام صارت النفس تشتغل بهذه الأمور التي كان قلبه عاكفاً عليها، ومتعلقاً بها، وهذه الأمور يجب أن يستغفر الإنسان ويتوب منها، فقد يكون ممن يزاول التجارة فيراها في المنام، وهكذا ويخشى على من كان بهذه المثابة أنه إذا حضره الموت، واشتد مرضه، أن يصبح هذا أمامه يشتغل به، ويخشى أن يموت على ذلك، لهذا نقول: يجب أن يستغفر من هذه الأمور، ويتوب منها؛ لأن الإنسان خلق لعبادة الله جل وعلا، ما خلق لعبادة الدنيا. النوع الثاني: أمور من الشيطان يخوف بها الإنسان، وهذه ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم، وذكر العلاج فيها: أن الإنسان إذا رأى شيئاً يزعجه ويخيفه أنه ينفث عن يساره ثلاثاً، ثم يتعوذ بالله من الشيطان، ثم يغير حالته التي كان عليها في النوم، فإذا كان على جنب يتحول للجنب الثاني، ثم لا يذكر ذلك لأحد، ولا يحدث به أحداً فإنه لا يضره؛ لأن هذا من كيد الشيطان وأعماله. القسم الثالث: الرؤيا، وهي عبارة عن أمثال يضربها الملك الموكل بالرؤيا، حيث يأتي إلى روح النائم ويضرب لها أمثالاً، وقد يكون فيها كلام، وقد يكون فيها أمور يعرفها، وقد يكون فيها أمور لا يعرفها، وهذه هي الرؤيا التي تكون إما بشارة وإما نذارة، ومع ذلك لا يعتمد عليها، ولكنها قد تكون بشارة يستبشر بها الإنسان ولا يعتمد عليها، وإنما الاعتماد على أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله كمل لنا الدين على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يحتاج إلى رؤيا ولا إلى غيرها.

مكانة النبي صلى الله عليه وسلم التي أنزله الله إياها

مكانة النبي صلى الله عليه وسلم التي أنزله الله إياها وفي هذا الحديث: أن هذا الكلام إذا قيل حتى لأشرف الخلق الذي هو رسول الله صلى عليه وسلم فإنه يكون شركاً، يعني: إذا شركت المشيئة أو الفعل مع الله جل وعلا في كلمة واحدة وعطفت بالواو فإنه يكون شركاً، ولا فرق بين كونه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مع غيره من الخلق، يجب أن يتنزه منه، ويبتعد عنه. وفي هذا دليل واضح على أن الله جل وعلا هو وحده الذي يملك كل شيء، وهو وحده المتصرف في كل شيء، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يملك مع الله شيئاً، وإنما هو رسول كلفه الله جل وعلا بإبلاغ الرسالة إلى عباد الله، هذه هي مهمته أكرمه الله جل وعلا بطاعته، ولهذا كان يناله الأذى من الناس، ويناله كذلك المرض، ويناله ما ينال غيره من المؤذيات الطبيعية، وهو كذلك يأخذ بالأسباب التي أمر الله جل وعلا بها، يلبس الدرع ويأخذ السلاح، ويقاتل العدو بالسلاح، ويستعد لذلك، حتى إنه مرة ظاهر بين درعين، أي: لبس درعاً على درع، وفي يوم أحد أصيب صلى الله عليه وسلم بما أصيب به، فكسرت البيضة على رأسه، ودخلت حلقة المغفر في وجنته وجهه صلوات الله وسلامه عليه، وكسرت رباعيته، وصار الدم يسيل على وجهه وهو يسلته بيده ويقول: (كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى الله تعالى؟!) فأنزل الله جل وعلا عليه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128]. وكذلك يوم خيبر حصل ما حصل عليه وعلى صحابته من الجوع، وكذلك المرض الذي سببه الحمى ووباء المنطقة؛ لأنها كانت وبيئة بالحمى وغير ذلك من الأمور التي تحصل. فإذاً: النبي صلى الله عليه وسلم ليس إلهاً ولا رباً، وإنما هو بشر مكلف بعبادة الله جل وعلا، وإبلاغ الرسالة، ولهذا يخاطبه الله جل وعلا ويقول له: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا} [الجن:21] ويقول له: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110] ويقول له: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف:188] في آيات كثيرة يأمره الله جل وعلا أن يخبر بالواقع الذي هو فيه. فإذا كان ليس له مع الله شيء فكذلك غيره من الملائكة والرسل ومن هو دون الرسل والأنبياء كالأولياء، فإنهم دونهم لا يصلون إلى مقام الأنبياء، فإذاً: لا يملكون شيئاً مع الله، فلا يجوز أن يدعوا، ولا يجوز أن ينادوا ويقال لهم: بحسبكم أو إننا نستغيث بكم أو نسألكم كذا وكذا من الأمور التي هي بيد الله جل وعلا، ولا يكونون واسطة بين العباد وبين ربهم جل وعلا؛ لأن الله علام الغيوب، وهو قريب ممن دعاه، ولم يجعل بينه وبين عباده واسطة، بل قال جل وعلا: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] فهو قريب من عبده، وأقرب ما يكون الرب جل وعلا من عبده وهو ساجد، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، أي: أقرب ما يكون الرب إلى عبده إذا ظهر منه الذل والانكسار والخضوع لله جل وعلا، فإن السجود مظهر للذل والخضوع، وكلما كان متذللاً لربه خاضعاً له فإن الله جل وعلا يكون قريباً منه. المقصود أن هذا حق الله؛ فيجب أن يكون خالصاً لله جل وعلا، الدعوة وطلب النفع والضر، وكذلك التصرف في الكون كله الدقيق والجليل فإنه لا يكون شيء في المخلوقات كلها إلا بإذن الله جل وعلا بعد إرادته ومشيئته.

متى تثبت الأحكام الشرعية بالرؤى

متى تثبت الأحكام الشرعية بالرؤى قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله (عن الطفيل أخي عائشة لأمها) هو الطفيل بن عبد الله بن سخبرة، أخو عائشة لأمها، صحابي له حديث عند ابن ماجه، وهو ما ذكره المصنف في الباب، وهذه الرؤيا حق، أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمل بمقتضاها، فنهاهم أن يقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، وأمرهم أن يقولوا: ما شاء الله وحده، وهذا الحديث والذي قبله: أمرهم فيه أن يقولوا: ما شاء الله وحده، ولا ريب أن هذا أكمل في الإخلاص، وأبعد عن الشرك من أن يقولوا: ثم شاء فلان؛ لأن فيه التصريح بالتوحيد المنافي للتنديد من كل وجه، فالبصير يختار لنفسه أعلى مراتب الكمال في مقام التوحيد والإخلاص. قوله: (كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها) ورد في بعض الطرق: أنه كان يمنعه الحياء منهم، وبعد هذا الحديث الذي حدثه به الطفيل عن رؤياه، خطبهم صلى الله عليه وسلم فنهاهم عن ذلك نهياً بليغاً، فما زال صلى الله عليه وسلم يبلغهم حتى أكمل الله له الدين، وأتم له به النعمة، وبلغ البلاغ المبين، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين. وفيه معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة) قلت: وإن كانت رؤيا منام فهي وحي، يثبت بها ما يثبت بالوحي أمراً ونهيا، والله أعلم]. فلا يثبت بالرؤيا حكم إلا إذا كانت من النبي صلى الله عليه وسلم أو عرضت قصة الرؤيا عليه مثل هذه، ثم أثبت بها شيئاً، أما من غيره فلا يثبت بها حكم أصلاً، وهذا باتفاق العلماء، وإنما قد تكون الرؤيا قرينة من القرائن التي يثبت بها الدليل فتكون من جملة الأدلة، وهناك أدلة غيرها فتكون مرجحة فقط كما في رؤيا ثابت بن قيس بن شماس خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إذا جاءت الوفود يقدمه النبي صلى الله عليه وسلم فيخطب، ولما كان القتال مع مسيلمة الكذاب وأصحابه تحنط، ثم تقدم وصمد حتى قتل رضي الله عنه، ثم في الليل رآه أحد أصحابه فقال له: اذهب إلى أمير الجيش خالد بن الوليد فقل له: إن درعي عند فلان قد ألقى عليها برمة، وتجدون عند خبائه فرساً تستن برباطه، ثم قل له إذا قدم على أبي بكر: إن عليّ كذا لفلان من الدين، وإن عبدي الفلاني عتيق، وإياك أن تقول هذه أضغاث أحلام! فلما أصبح غدا على خالد وأخبره، فذهبوا إلى المكان الذي وصفه فوجدوا درعه كما وصفه ملقىً عليها برمة فأخذها، ولما أتى خالد إلى أبي بكر أخبره بذلك فنفذ وصيته، وليس هذا عمل بالرؤيا، وإنما لأنها صارت هناك قرينة وأدلة يعتمد عليها، وفي جميع الأوقات لا يثبت فيها حكم من الأحكام، وإنما تكون دليلاً على شيء، إما بشارة أو نذارة أو غير ذلك. أما الرؤيا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي وحي، واختلف العلماء في معنى قوله: (الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة) فقالوا: إن معنى هذا أنه بدئ صلى الله عليه وسلم بالرؤيا الصادقة قبل أن يأتيه الوحي، لما كان يخلو في غار حراء ويتحنث، يعني: يتعبد، فكان إذا رأى رؤيا جاءت كمثل فلق الصبح، كأنها شيء واقعي يراه عياناً، وكانت هذه المدة ستة شهور، ثم جاء بالوحي بعد ذلك، فهذه الستة الشهور إذا نسبت إلى ثلاث وعشرين سنة صارت جزءاً من ستة وأربعين جزءاً، وهذه بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم، وهذا هو أظهر الأقوال في هذا الحديث، أنها (جزء من ستة وأربعين جزءاً) والله أعلم.

مسائل باب: قول ما شاء الله وشئت

مسائل باب: قول ما شاء الله وشئت

معرفة اليهود بالشرك الأصغر

معرفة اليهود بالشرك الأصغر قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل: الأولى: معرفة اليهود بالشرك الأصغر]. معرفة اليهود بالشرك الأصغر وكذلك النصارى مع أنهم يقعون في الشرك الأكبر، فكيف يعرفون الأصغر ويوجد منهم الأكبر؟ بسبب الهوى وإتباع شهوات الأنفس، فالإنسان إذا كان له هوى فإنه يفهم الدقائق وهو مرتكب للعظائم، وهذا في اليهود وفي المسلمين.

قوله صلى الله عليه وسلم: (أجعلتني لله ندا؟! فكيف بمن قال: يا أكرم الخلق؟

قوله صلى الله عليه وسلم: (أجعلتني لله نداً؟! فكيف بمن قال: يا أكرم الخلق؟ [الثانية: فهم الإنسان إذا كان له هوى. الثالثة: قوله صلى الله عليه وسلم: (أجعلتني لله نداً؟) فكيف بمن قال: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك والبيتين بعده؟!]. رجلٌ يحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر من الأمور، فأخبره الرسول صلى الله عليه وسلم بالشيء الذي يوافقه فقال الرجل: ما شاء الله وشئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أجعلني لله نداً؟) وذلك أنه قرن مشيئة الرسول صلى الله عليه وسلم مع مشيئة الله، فصار مقتضى ذلك أنها مشاركة لها بهذا اللفظ، يعني: مشاركة بمقتضى العطف واللفظ، والمشاركة تدل على الشرك. وهذا مجرد اللفظ فقط وإلا فالمعنى لا يعتقده هذا، ومع ذلك أنكره الرسول صلى الله عليه وسلم وجعله تنديداً ونوعاً من الشرك؛ لأن الند هو المثل والنظير، فإذا كان كذلك فكيف بالذي يقول: (ما لي من ألوذ به سواك) يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقصد بها صاحب البردة البوصيري حينما يقول: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم ولن يضيق رسول الله جاهك بي إذا الكريم تحلى باسم منتقم فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علوم اللوح والقلم إلى آخر ما يقول: فإن هذا أمر عظيم جداً! فإنه جعل ما لله جل وعلا للرسول صلى الله عليه وسلم، بل صار يستغيث بالرسول من الله: (ما لي من ألوذ به سواك)، أين الله؟! (إذا الكريم تحلى باسم منتقم)، يعني يقول: إذا غضب الله يوم القيامة فما لي إلا أنت ألوذ به، وهذا من أعظم الشرك، بل ما كان المشركون يقولون هذا ولا قريباً منه. وكذلك قوله: (ولن يضيق رسول الله جاهك بي) يعني: هو يناديه يقول: لا يضيق جاهك يا رسول الله بي يوم القيامة! فأنا أحتمي به! فمعنى ذلك أنه يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم من دون الله، وهذا هو الشرك الأعظم. وقوله: (فإن من جودك الدنيا وضرتها) هذا كذب واضح، الدنيا وضرتها التي هي الآخرة كلها لله، ما لأحد فيها شيء، لا للرسول ولا لغيره. وهذه المنظومة كثير من الناس اتخذها له شبه الورد الذي يتقرب بقراءته وتلاوته إلى الله، مع أنها شرك أكبر، وليس معنى ذلك أن نحكم على الرجل الذي قالها - البوصيري - بأنه مشرك؛ لأننا لا ندري ماذا مات عليه، فيقول: أمره إلى الله، ولكن هذا القول وهذا الكلام الذي يقوله هو شرك، فإن كان مات عليه فإنه مات مشركاً، ولكن يرجى أنه تاب ورجع إلى ربه جل وعلا، وليس المقصود إنساناً بعينه أو كلاماً بعينه، وإنما المقصود الموازنة بين قول الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل الذي قال له: (ما شاء الله وشئت) وبين قول الذين يزعمون أنهم يحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يصبحون ينادونه ويستغيثون به ويجعلونه هو ملاذهم وعياذهم من دون الله جل وعلا، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بخلاف ذلك، ودينه يبطل هذا. فلا يجتمع هذا الاعتقاد مع اعتقاد أن محمداً رسول الله، فإن معنى شهادة أن محمداً رسول الله طاعته في أمره، واتباعه على شرعه، وأن الدين ليس إلا ما جاء به فقط، هذا هو معناه، فمن اعتقد غير ذلك فهو ضال.

هل قول: (ما شاء الله وشئت) شرك أكبر

هل قول: (ما شاء الله وشئت) شرك أكبر [الرابعة: أن هذا ليس من الشرك الأكبر لقوله: يمنعني كذا وكذا]. الظاهر أن هذا كان في أول الأمر، لما كان ذلك جائزاً ولم يشرع النهي عنه، فهو مثل الحلف بغير الله، فإنه كان في أول الإسلام لا ينهى عنه، ثم نسخ، فالظاهر أن هذا مثله لما جاء الوحي نهى عنه. أما أنه يكون شركاً والرسول صلى الله عليه وسلم يمتنع من إنكاره من أجل الحياء فمعاذ الله أن يكون ذلك! فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمنعه من إنكار المنكر مانع. [الخامسة: أن الرؤيا الصالحة من أقسام الوحي. السادسة: أنها قد تكون سبباً لشرع بعض الأحكام].

شرح فتح المجيد [110]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [110] نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن سب الدهر، لأن فيه إيذاء لله سبحانه، فهو الذي خلق الدهر، وخلق الليل والنهار، يقلبهما كيف يشاء، وهو مدبر الأمور.

باب من سب الدهر فقد آذى الله

باب من سب الدهر فقد آذى الله [قال المصنف رحمه الله تعالى: باب من سب الدهر فقد آذى الله. وقول الله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية:24]. وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر وأنا الدهر، أقلب الليل والنهار) وفي رواية: (لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر)].

تعريف السب شرعا

تعريف السب شرعاً أولاً: السب: هو الشتم واللعن، أن يشتمه أو يلعنه أو يذمه بالقول الذي يصدر منه. والدهر: هو الزمن، ومعلوم أن الزمن هو الليل والنهار، فبالليل والنهار يتكون الأسبوع والشهر والسنة، وكله بهذا، والليل والنهار ظرف للحوادث التي تحدث للناس من الخير والشر، وجميع ما يحصل للإنسان فهو بسبب كسبه وعمله، ولكن الله جل وعلا يخبرنا عن ظلم الإنسان وجهله، وهلعه وجزعه.

الفرق بين الأذى والضرر

الفرق بين الأذى والضرر ومعلوم أن الليل والنهار مخلوق لله جل وعلا، كما قال الله جل وعلا: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [فصلت:37] ويقول جل وعلا: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} [الحج:61] ويقول جل وعلا: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} [الأعراف:54]. فالله جل وعلا هو الذي خلق الليل والنهار، وجعله مسخراً مدبراً، فالليل والنهار مخلوق مطيع لله جل وعلا، سائر بأمره، ليس له تصرف، وليس عنده نفع ولا ضر. وسب الدهر يدل على أن الأذى يقع من ابن آدم على الله، والأذى يكون للشيء الخفيف الذي أثره قليل، أي: ما خف أثره وقل تأثيره من الشرك والقول الكذب والكفر، وقد أخبر الله جل وعلا عن بعض الناس أنهم يؤذون الله ورسوله، ويؤذون المؤمنين، ولكن أخبرنا ربنا جل وعلا أنه لا أحد يضره: {وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا} [آل عمران:176]. فالله لا يلحقه الضرر، ولكن يلحقه الأذى، ولهذا نقول: إن الأذى هو الشيء الخفيف الذي لا يكون له أثر على من لحقه، ولهذا يقول الله جل وعلا للمؤمنين عندما حرضهم على قتال الكافرين: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى} [آل عمران:111]. يعني: من قول تسمعونه أو فعل يصدر منهم فتتأذون به، أما الضر فلا يلحقكم. فالله أعظم وأجل من أن يلحقه ضر من خلقه، ففي الحديث القدسي الذي في صحيح مسلم أن الله جل وعلا يخاطب خلقه بقوله: (إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني،) وفي التنزيل كما سمعنا: {لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا} [آل عمران:176]. أما الأذى فثبت في هذا الحديث، وفي القرآن آيات تخبر أن الله يتأذى بفعل بني آدم، كمثل الذين يقولون: إن له ولداًَ تعالى الله وتقدس، ومثل الذين يعبدون معه غيره، ومثل الذين ينادون مخلوقاً رميماً تحت التراب، ويقولون له: أغثنا أعطنا نحن نعتمد عليك وما أشبه ذلك؛ لأن هذا من حق الله، يجب أن ينادى الله به، أما أن يجعل لله ما يجعل للمخلوق فهذا من الأمور التي تؤذي الله تعالى الله وتقدس.

سب الدهر نوع من الشرك

سب الدهر نوع من الشرك ومن ذلك ما ذكر في هذا الباب من أن سب الدهر يؤذي الله، ثم إن مناسبة ذكر هذا الباب لكتاب التوحيد أن ساب الدهر لا يخلو من الشرك؛ وذلك لأنه إذا صدر السب منه، إما أن يكون معتقداً أن الليل والنهار والدهر يؤثر في ذلك، وأنه هو الفاعل المصرف في الحوادث الواقعة التي حصل السب من أجلها، فهذا شرك ظاهر وشرك أكبر، وإما أن يكون أضاف الحوادث -على سبيل ما يصدر من الناس وما يسمعه- إلى غير محدثها، وإنما هو على سنن الجاهلية، فيكون أيضاً شركاً ولكنه دون الأول، فتكون المناسبة ظاهرة في أن سب الدهر من الشرك، وقد جعله ابن الجوزي رحمه الله من أعظم الكفر بالله جل وعلا، وهذا يصدر من الناس ولاسيما من الأدباء الذين لهم أشعار، فإنه يصدر منهم كثيراً، وهو في الواقع من أعظم الجهل، ومن أعظم الجرأة على الله جل وعلا، فيحب على العبد أن يحترز من ذلك. ومن هذا ما يصدر من بعض الجهلة والسفلة، إذا لقي أمراً ليس رائقاً له وجدته يلعن الوقت الذي رأى هذا الشخص فيه، يسب الساعة أو اليوم الذي رأى الشخص فيه، فهذا من أعظم الأذية لله جل وعلا، وهو ظلم وشرك بالله جل وعلا.

ما يستثنى من وصف الأيام بالشدة ونحوها

ما يستثنى من وصف الأيام بالشدة ونحوها وليس من ذلك وصف الوقت بالشدة، كأن يقال مثلاً: هذه سنة شديدة، أو هذا فصل بارد أو هذا فصل حار؛ لأنه جاء في القرآن في قصة لوط عليه السلام أنه قال: هذا يوم عصيب، وكذلك يقول الله جل علا: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} [الحاقة:7] وسماها في آية أخرى نحسات، فوصف الأيام بالشدة ليس داخلاً في ذلك، وإنما المقصود أن تضاف إليها الحوادث فتسب.

ما يقابل السب وهو مدح الدهر

ما يقابل السب وهو مدح الدهر وكذلك يقابل هذا المدح كما يحصل لبعض الأدباء إذا حصل له مراده من محبوبه أو غيره سماها أيام وصل، وحمدها، وأثنى عليها، فهذا عكس السب يعني: أنه أضاف هذه الأمور إليها، فيكون أيضاً مذموماً؛ لأنه أضاف الحوادث إلى غير محدثها وموجدها جل وعلا. والإنسان يجب عليه إذا حصل له ما يريده أن يحمد الله ويثني عليه، وإذا حصل له ما يتأذى به من مصائب ونحوها أن يستغفر ربه ويتوب إليه، ويعلم أنه أصيب بسبب ذنوبه.

تفسير آية الجاثية: (وما هي إلا حياتنا الدنيا)

تفسير آية الجاثية: (وما هي إلا حياتنا الدنيا) وقول الله جل وعلا: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية:24] يذكر جل وعلا عن طائفة من العرب وغيرهم كبعض الدهرية من الفلاسفة وغيرهم، أنهم لا يؤمنون بالبعث بعد الموت، ولا بحياة أخرى يكون فيها جزاء، وإنما يعتقدون أن الإنسان إنما يتنعم في الحياة الدنيا فقط كما يقوله الملاحدة اليوم الحياة مادة، ونهاية الإنسان وغايته أن يكون تراباً في هذه الأرض فلا حياة بعد ذلك ولا جزاء. هذا هو الذي ذكره الله جل وعلا عن هؤلاء قولهم: (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا) أي: ليس وراء هذه الحياة الدنيا حياة أخرى، إنما الحياة محصورة في هذه الدنيا، وقوله عنهم جل وعلا: (نَمُوتُ وَنَحْيَا) معناه: يموت قوم ويولد آخرون، فهذا معنى (نموت ونحيا) يعني: إذا انتهت أمور الإنسان وهرم مات، ويولد أناس جدد يفنيهم أيضاً الدهر: (مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا) فقط (نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ) يعني: ما يهلكنا إلا مرور الأيام والليالي، فإذا انتهى عمر الإنسان وهرم مات، ثم أصبح نسياً منسياً، ليس وراء ذلك شيء. فقولهم: (مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا) كذب وافتراء على الواقع، وافتراء على أخبار الله وقضائه جل وعلا، حينما قضى أن هذه الحياة هي مزرعة للحياة الآخرة، وقولهم: (نَمُوتُ وَنَحْيَا) مقصود هؤلاء أنهم يحيون حتى تنتهي أعمارهم، ثم يموتون ويحيا قوم آخرون، أي: يولد قوم آخرون يكونون مكانهم، وأن الأمور مستمرة على هذا الوضع فقط، ومن مات لا يعود أبداً. ولهذا قالوا: (وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ) وهذا موضع الشاهد، حيث نسبوا الهلاك إلى الدهر، ومعنى ذلك أن الذي يهلكهم إما الكوارث وإما مرور الليالي والأيام، والهرم إذا هرموا ماتوا وليس للموت تقدير ولا حدود محددة، يوجدون بعدها ويبعثون. وهذا المذهب من أخبث المذاهب، وهو مذهب طائفة قديمة، ولا يزال الآن في الوجود، وقد صار له دول ودعاة يدعون إليه، ولكنها دعوات باطلة؛ لأنها لا تنطوي على العقول، ولا على الفطر، فالعقل يكذبها، والواقع يكذبها، والفطر تأباها ولا تقبلها، ولهذا قال جل وعلا: (وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ) يعني: ليس لهم أدلة على هذا القول، وإنما هو مجرد افتراء وكذب، أما الظن الذي ظنوه هنا فهو مجرد الوهم، والأدلة على خلاف ذلك. من المعلوم من دين الإسلام أنه من أنكر البعث أو شك فيه يعتبر كافراً؛ لأن مبنى الإسلام على الإيمان بالغيب، والإيمان بالأخبار التي يخبر الله جل وعلا أنها ستكون، ومن ذلك ما يلاقيه الميت بعد موته في قبره من مساءلة ومن عذاب أو نعيم، ثم إخراجه من قبره حياً كما مات، ثم تركيبه تركيباً جديداً، بحيث لا يقبل الموت، وجزاؤه على عمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر، هذا هو أصل الإيمان بالله جل وعلا وبرسله، فمن كذب ذلك أو شك فيه وتردد، فهو كافر بالله جل وعلا. الشاهد في هذا أنهم أضافوا الهلاك إلى الدهر، فيكون فيه مسبة الدهر، وإضافة الحوادث إليه من الضر أو النفع، وهذا من سنة الكفرة والملاحدة الذين يلحدون في آيات الله وصفاته، وفي هذا من الشرك ما هو معلوم، حيث جعلوا المتصرف غير الله جل وعلا؛ لأن التصرف في الحياة والأشخاص والذوات والمعاني وفي كل شيء لله وحده.

الفرق بين الحديث القدسي وغيره

الفرق بين الحديث القدسي وغيره ثم ذكر الحديث، وهو حديث ثابت وصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر وأنا الدهر) فهذا يسمى حديث قدسي، نسبة للرب جل وعلا أنه قاله وتكلم به، والقداسة هي التنزيه والطهارة؛ لأن الله منزه عما يصفه به الظالمون. والحديث القدسي اختلف العلماء فيه، فمنهم من قال: إن معناه من الله ولفظه من الرسول صلى الله عليه وسلم، فالرسول يضيف ذلك إلى الله جل وعلا، ولكن هو الذي يتلفظ بالكلام، ويقوله، ولهذا قالوا: يجوز روايته بالمعنى. القول الثاني وهو الصواب: أن معناه ولفظه من الله، ولكنه ليس كالقرآن يتعبد بتلاوته، وذلك أن كلام الله جل وعلا لا ينحصر لا في القرآن ولا في الإنجيل ولا في غير ذلك، ولهذا يذكر الرسول صلى الله عليه وسلم قول الله جل وعلا الذي يقوله في الوقت الحاضر وفي المستقبل، ويكون هو قول لله مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الآخر فيقول: هل من مستغفر فيُغفر له؟! هل من سائل فيُعطى؟!) وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه في الصحيحين وغيرهما أن الله يقول لآخر من يخرج من النار من أهل التوحيد: (لعلك تسأل غير ما سألت! فيقول: لا يا رب، ويعطي المواثيق والعهود أنه لا يسأل غير ذلك، ثم إذا أعطي ما سأل رأى شيئاً أحسن منه، فيبقى صابراً ما شاء الله أن يصبر ثم يسأل ربه ذلك الذي رآه، فيقول الله جل وعلا له: ويلك يا ابن آدم ما أغدرك! إلى أن قال له: اذهب فادخل الجنة فإن لك ما رأيت). وغير ذلك من القول الكثير الذي يذكره النبي صلى الله عليه وسلم عن الله جل وعلا، فهو قوله بالمعنى واللفظ، وإلا فإن كل ما يذكره، وكل ما جاء به فمعناه من الله، فإذاً: لا يكون هناك فرق بين الحديث القدسي وبين الحديث النبوي؛ لأن المعنى من الله، لقول الله جل وعلا: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4].

علاقة إيذاء الله بسب الدهر

علاقة إيذاء الله بسب الدهر ثم قوله: (يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر) عرفنا معنى الأذى، ومعنى سب الدهر، وأن الدهر هو الليل والنهار. ومعنى قوله: (أنا الدهر) فسر بقوله: (أقلب ليله ونهاره) يعني: أنه هو الذي أوجد الدهر وخلقه، وجعله متقلباً، مرة يزيد هذا، ومرة ينقص هذا، ويغشي الليل النهار، ويغشي النهار الليل، أي: يدخل هذا في هذا وكل واحد يطلب الآخر مسرعاً، هذا فعل الله جل وعلا. فالذي يسب الدهر ويضيف الحدث إليه يقع السب على الله جل وعلا، ومثال ذلك في الشيء الذي نحن فيه: لو نظر ناظر إلى هذا الحائط، ورأى أن فيه ميلاناً فصار يشتم الحائط ويسبه لماذا يميل؟! معلوم أن الحائط لا فعل له، وإنما هذا من صنع الصانع الذي صنعه، فإن شتمه وسبه يقع على الفاعل الذي فعل ذلك، والله جل وعلا يجب أن يقدره عبده حق قدره، ويجب أن يعظمه حق تعظيمه، ويجب أن يضيف إليه ما هو من فعله وصنعه، ويجب أنه إذا أصيب بمصائب أن يتوب إلى ربه ويستغفر، وإذا حصل له حسنات أو حصل له شيء من النعيم أن يحمد ربه ويشكره على ذلك؛ لأن ذلك من فضله، فالحسنات من الله، والسيئات من النفس من جراء فعله. وقوله في رواية أخرى: (فإن الله هو الدهر) يعني: أن الله هو الذي خلق الدهر، وليس الدهر اسماً من أسماء الله؛ لأن الدهر هو الليل والنهار، وأسماء الله حسنى متوقفة على النص، والحسن هو الذي لا يلحقه نقص ولا عيب، والدهر مخلوق، وأسماء الله لا تكون مخلوقة، تعالى الله وتقدس؛ لأن الله جل وعلا بأسمائه وصفاته أزلي قديم بلا ابتداء. ولهذا يعلم خطأ الذين يقولون: إن الدهر من أسماء الله، ومعنى (إن الله هو الدهر) كما قال: (يقلب ليله ونهاره) يعني: هو الذي صنع الدهر، فهو فعله، والفعل يضاف إلى الفاعل على أنه مفعول له، وإذا وقع السب على الفعل فالساب في الواقع يكون ساباً للفاعل وليس للفعل.

الدهرية وإضافتهم الخير والشر للدهر

الدهرية وإضافتهم الخير والشر للدهر قال الشارح رحمه الله تعالى: [قال العماد ابن كثير في تفسيره: يخبر تعالى عن دهرية الكفار ومن وافقهم من مشركي العرب من إنكار المعاد: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا} [الجاثية:24] ما ثمَّ إلا هذه الدار، يموت قوم، ويعيشون آخرون، وما ثم معاد ولا قيامة. وهذا يقوله مشركو العرب المنكرون للمعاد، ويقوله الفلاسفة الإلهيون منهم، وهم ينكرون البداءة والرجعة، وتقوله الفلاسفة الدهرية الدورية المنكرون للصانع المعتقدون أن في كل ستة وثلاثين ألف سنة يعود كل شيء إلى ما كان عليه، وزعموا أن هذا قد تكرر مرات لا تتناهى فكابروا المعقول، وكذبوا المنقول، ولهذا قالوا: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24] قال الله تعالى: {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية:24] أي: يتوهمون ويتخيلون]. الظن يأتي بمعنى: العلم، ويأتي بمعنى: التردد بين شيئين، ويأتي بمعنى: الوهم الذي لا حقيقة له. أما إتيانه بمعنى العلم اليقيني كقوله جل وعلا: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:46] فهنا يظنون بمعنى: يوقنون ويعلمون. وأما إتيانه بمعنى التردد بين شيئين ويكون أحدهما أرجح من الآخر فهذا كثير في كلام الناس، وكذلك في اللغة، فإذا أخبر الإنسان بخبر وعنده أحد الطرفين أرجح فيقول: أظن الأمر كذا. وأما الظن بمعنى الوهم فهو مثل ما ذكر عن هؤلاء، فهو ظن بمعنى الوهم، وهذا هو الذي لا يغني من الحق شيئاً. ذكر الله جل وعلا أنه وهم وأنه ليس فيه شيء من العلم والحق.

دهرية الجاهلية وجاهلية اليوم

دهرية الجاهلية وجاهلية اليوم قال الشارح: [فأما الحديث الذي أخرجه صاحبا الصحيح وأبو داود والنسائي من رواية سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار) وفي رواية: (لا تسبوا الدهر فإني أنا الدهر)، وفي رواية: (لا يقل ابن آدم: يا خيبة الدهر! فإني أنا الدهر، أرسل الليل والنهار، فإذا شئت قبضتهما). قال في (شرح السنة): حديث متفق على صحته، أخرجاه من طريق معمر من أوجه عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: (ومعناه أن العرب كان من شأنها ذم الدهر وسبه عند النوازل؛ لأنهم كانوا ينسبون إليه ما يصيبهم من المصائب والمكاره، فيقولون: أصابتهم قوارع الدهر، وأبادهم الدهر، فإذا أضافوا إلى الدهر ما نالهم من الشدائد سبوا فاعلها، فكان مرجع سبها إلى الله عز وجل، إذ هو الفاعل في الحقيقة للأمور التي يصفونها، فنهوا عن سب الدهر. انتهى باختصار]. وهذه العادة السيئة لا تزال موجودة عند الناس، وإن تغيرت الأساليب، وقد تضاف الأمور والحوادث إلى شيء شبيه بالدهر كقولهم مثلاً: الكوارث الطبيعية، فإذا وقع زلزال أو أمطار وفيضانات أو رياح سموها كلها كوارث طبيعية نسبة للطبيعة، وهذا كقولهم: أهلكنا الدهر؛ لأن كل ما يقع في الأرض من تدبير الله جل وعلا، لا يقع على الناس حوادث من فيضانات أو رياح أو زلازل أو براكين إلا بسبب ذنوبهم، يعقبهم الله جل وعلا بها، فيجب أن يعترفوا أن هذا بتقدير الله وتدبيره. أما الطبيعة فهي لا تصنع شيئاً؛ لأن الطبيعة التي يركن إليها أكثر الناس لا يعرف ما هي حقيقتها، فإن كان يقصد بها شيئاً موجوداً من الرطوبة واليبوسة أو الرياح أو غيرها فهذه مقدرة ومسخرة، لها رب يدبرها أو يسخرها ويقهرها وهي لا تصنع شيئاً، فهذا إنكار منهم واتباع للدهرية الذين يقولون: ما يهلكنا إلا الدهر، وهو من الذنوب التي يجب أن يبتعد عنها الإنسان؛ لأن كل شيء يصيب الإنسان فهو من الله جل وعلا عقاب، والسبب في ذلك ذنوبه؛ لأن الإنسان لا يصاب إلا بما كسبت يده كما أخبرنا الله جل وعلا في قوله: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]، يخبرنا جل وعلا أنه لو يؤاخذ الناس بما عملوا ما ترك على ظهر الأرض من دابة، أي أنه يهلكهم، ولكنه يحلم عنهم ولا يعجل عليهم، ويمهلهم، بل يكفرون به وهو يرزقهم ويعافيهم في أبدانهم، وينعم عليهم النعم التي لا عدد لها بحلمه جل وعلا، وكونه لا يعجل عليهم. ولهذا جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما أحد أصبر على أذىً سمعه من الله؛ يجعلون له الولد ثم يرزقهم ويعافيهم) كذلك يشركون به ويرزقهم ويعافيهم، وكذلك يحاربون دينه، ويحاربون عباده ويرمونهم بالعظائم، بل ويقتلونهم، وهو يرزقهم ويعافيهم؛ لأن مآلهم إليه، فسوف يجازيهم عن قرب، فالجزاء ليس ببعيد، بل هو قريبٌ جداً؛ لأن حياة الإنسان قصيرة جداً.

معنى سب الدهر عند أهل الجاهلية

معنى سب الدهر عند أهل الجاهلية قال الشارح: [وقد أورده ابن جرير بسياق غريب جداً، بهذا الطريق، قال: كان أهل الجاهلية يقولون: إنما يهلكنا الليل والنهار، وهو الذي يهلكنا ويميتنا ويحيينا، فقال الله في كتابه: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24]، ويسبون الدهر، فقال الله عز وجل: (يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار)، وكذا رواه ابن أبي حاتم، عن أحمد بن منصور، عن شريح بن النعمان، عن ابن عيينة مثله، ثم روى: عن يونس، عن ابن وهب، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يقول الله تعالى: يسب ابن آدم الدهر وأنا الدهر، بيدي الليل والنهار) وأخرجه صاحب الصحيح، والنسائي من حديث يونس بن يزيد به. وقال محمد بن إسحاق عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله عز وجل: استقرضت عبدي فلم يعطني، وسبني عبدي، يقول: وادهراه، وأنا الدهر). قال الشافعي، وأبو عبيد وغيرهما من الأئمة في تفسير قوله: (لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر)، كانت العرب في جاهليتها إذا أصباهم شدة أو بلاء أو نكبة قالوا: يا خيبة الدهر! فيسندون تلك الأفعال إلى الدهر ويسبونه، وإنما فاعلها هو الله تعالى، فكأنما سبوا الله سبحانه؛ لأنه فاعل ذلك في الحقيقة، فلهذا نهى عن سب الدهر بهذا الاعتبار؛ لأن الله هو الدهر الذي يعنونه ويسندون إليه تلك الأفعال، هذا أحسن ما قيل في تفسيره -وهو المراد- والله أعلم. وقد غلط ابن حزم ومن نحا نحوه من الظاهرية في عدهم الدهر من الأسماء الحسنى، أخذاً من هذا الحديث، انتهى. وقد تبين معناه في الحديث بقوله: (أقلب الليل والنهار)، وتقلبيه تصرفه تعالى فيه بما يحبه الناس ويكرهونه. وفي هذا الحديث زيادة لم يذكرها المصنف رحمه الله تعالى وهي قوله: (بيدي الأمر). قوله: وفي رواية: (لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر) معنى هذه الرواية: هو ما صرح به في الحديث، من قوله: (وأنا الدهر أقلب الليل والنهار) يعني: أن ما يجري فيه من خير وشر بإرادة الله وتدبيره بعلم منه تعالى وحكمة، لا يشاركه في ذلك غيره، ما شاء كان وما لم يشاء لم يكن. فالواجب عند ذلك حمده في الحالتين، وحسن الظن به سبحانه وبحمده، والرجوع إليه بالتوبة والإنابة، كما قال تعالى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف:168] وقال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35]، ونسبة الفعل إلى الدهر ومسبته كثيرة، كما في أشعار المولدين كـ ابن المعتز والمتنبي وغيرهما. وليس منه وصف السنين بالشدة ونحو ذلك، كقوله تعالى: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ} [يوسف:48] الآية، قال بعض الشعراء: إن الليالي من الزمان مهولة تطوى وتنشر بينها الأعمار فقصارهن مع الهموم طويلة وطوالهن مع السرور قصار وقول أبي تمام: أعوام وصل كاد ينسي طيبها ذكر النوى فكأنها أيام ثم انبرت أيام هجر أعقبت نحوي أسى فكأنها أعوام ثم انقضت تلك السنون وأهلها فكأنها وكأنهم أحلام]

مسائل باب: من سب الدهر فقد آذى الله

مسائل باب: من سب الدهر فقد آذى الله قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل: الأولى: النهي عن سب الدهر. الثانية: تسميته أذىً لله. الثالثة: التأمل في قوله: (فإن الله هو الدهر)]. يعني بهذا تأمل أنه ليس من أسماء الله، وإنما هو الفاعل للدهر، وإذا سب الإنسان الفعل رجع السب إلى الفاعل، فهذا هو الذي يقصد بالتأمل، فهذا مفسر بالروايات التي مرت أنه يقلب الليل والنهار، ومعلوم أن الدهر هو الزمن، والزمن ظرف لما يقع من الحوادث السارة والضارة التي تقع في الليل والنهار، فهو ظرف لها، وليس هو الذي يوقعها، وإنما الموقع لها هو الله جل وعلا، فيجب أن يحمد على النعماء، ويجب أن يتاب من السيئات ويرجع إليه، وكذلك يحمد على فعله؛ لأنه هو المحمود على كل حال. [الرابعة: أنه قد يكون ساباً ولو لم يقصده بقلبه]. أي: بالقول يكون ساباً وإن لم يكن معتقداً حقيقة ما يقول، فيقع منه السب، ومعلوم أن هذا يكون أقل إثماً ممن اعتقد أن الفاعل هو الليل والنهار، ثم أضاف إليه الحوادث التي هو ظرفها، فإن هذا يكون من الشرك الأكبر، ويضاف إلى الشرك مسبة ما ليس مستحقاً للسب. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

شرح فتح المجيد [111]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [111] لله عز وجل أسماء وصفات يختص بها؛ فلا يجوز منازعة الله عز وجل فيها بالتسمي أو الاتصاف بها، ومن ذلك: قاضي القضاة وملك الملوك ونحوها، فمن تسمى أو اتصف بذلك فقد نازع الله تعالى فيما هو من خصائصه، وهذا فيه منافاة للتوحيد، ورفع للنفس فوق قدرها.

حكم التسمي بقاضي القضاة ونحوه

حكم التسمي بقاضي القضاة ونحوه قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب التسمي بقاضي القضاة ونحوه. في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك، لا مالك إلا الله) قال سفيان مثل: شاهان شاه. وفي رواية: (أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه) قوله: (أخنع) يعني: أوضع]. قوله: (باب التسمي بقاضي القضاة ونحوه) يعني: ما حكم هذا؟ هل يكون هذا منافياً للتوحيد أو منقصاً لكماله؟! لأن كل شرك لا يخلو إما أن يكون منافياً للتوحيد أصلاً، أو يكون شركاً أصغر؛ فيكون ذاهباً بكماله، أو يكون معصية من المعاصي والذنوب والكبائر، وهذا أيضاً يكون منقصاً للإخلاص والكمال، ولتحقيق التوحيد، ويكون ذاهباً بتحقيقه، فيكون معرضاً بالإنسان لعذاب الله جل وعلا من جراء ذلك. والتسمي بهذا الاسم لا يخلو من شيء من ذلك، فيكون صاحبه واقعاً إما في منازعة الله جل وعلا فيما هو مستحق له، ومن خصائصه، وهذا من أعظم الشرك، أو يكون رفع نفسه فوق ما وضعه الله عليه، وتكبر على عباد الله، فاستحق بذلك أيضاً العقاب، أو يكون مثلاً رغب أن يكون له سيطرة، ويكون له ما ليس لغيره من الرفعة والعظمة والتكبر على الناس، ولو لم يحصل له ذلك، فإذا كان هذا في قلبه فهو واقع في الإثم. والقاضي هو الذي يفصل بالحكم سواءً كان الحكم حقاً أو باطلاً، فكل فاصل بحكم يكون قاضياً، أما الاتصاف بقاضي القضاة، فهذا لا يصدق إلا على رب العالمين؛ لأنه هو الذي يقضي بين خلقه، ويقضي بين القضاة، والقضاة: كل حاكم حكم بين اثنين فهو قاضٍ، سواء جعل حاكماً من قبل الإمام، أو أن أصحاب الخصومة اصطلحوا على أن يحكموه بينهم، وكذلك المسئول عن مسائل العلم، فإذا قيل: ما حكم كذا وكذا؟ فأفتى وقال: حكم كذا كذا، فهو قاضٍ بهذه الفتوى، فإن كان متبعاً للحق فإنه يؤجر على ذلك، وإن كان قال ذلك بالهوى أو بالجهل فإنه قائل على الله بما لا علم له به، وسوف يعاقبه الله. إذاً: القضاء يدخل فيه الفصل بين المتخاصمين والمتنازعين، ويدخل فيه الإخبار عن حكم من أحكام الشرع إذا سئل عنه، وهذا أعم وأشمل. وإذا أطلق الإنسان على نفسه أنه قاضي القضاة فمعنى ذلك: أنه قاضي العالمين وقاضي الخلق كلهم، وكل من هو قاضٍ وكل من هو مفتٍ فهو القاضي عليهم، وهذا لا يصدق إلا على الله جل وعلا؛ لأنه هو الذي يفصل بين خلقه، وهو الذي يقضي بينهم يوم القيامة، ولا أحد يستحق هذا الاسم إلا الله، وهذا ليس في هذا الاسم فقط، بل كل ما أعطى هذا المعنى فإنه داخل فيه، وهذا مثل الذي يطلق عليه أنه سيد الخلق أو سيد الناس، أو أنه الحاكم على الخلق، أو أنه ملك الملوك، وسواء قيل ذلك باللغة العربية أو بغيرها، ولهذا قال سفيان راوي الحديث: مثل شاهان شاه يعني: أن شاهان شاه باللغة الفارسية هو: ملك الملوك، فكل من أطلق عليه شيء من ذلك فإنه مستحق بأن يكون أخنع وأغيظ اسم عند الله جل وعلا وأحقر وأذل، ويعاقبه الله جل وعلا إما في الدنيا عاجلاً، وإما أن يمهله في الدنيا ثم يعاقبه في الآخرة.

حكم التسمي بسيد الناس

حكم التسمي بسيد الناس وأما سيد الناس أو سيد الخلق فهذا لا يجوز أن يكون إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو سيد بني آدم صلوات الله وسلامه عليه، والسيد في اللغة العربية: الذي ساد وتقدم غيره، وصار له من المعاني ما جعلته يسود ويتقدم بها على غيره، وهذا لا يوجد إلا في رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حكم الألقاب التي تدل على العظمة

حكم الألقاب التي تدل على العظمة وكل الألقاب التي يتلقب بها الناس مما تدل على العظمة فإنها مكروهة ومبغضة، ولم تكن عادة العرب تعظيم بعضهم لبعض بالألقاب وبالأسماء التي تدل على ترفع بعضهم على بعض، وإنما جاءت هذه من العجم؛ لأنهم هم الذين يستعبد بعضهم بعضاً، ويكون بعضهم عبداً لبعض، أما المسلمون فكلهم سواء، وليس بعضهم معبود ولا عابد لبعضهم، وإنما كلهم يعبدون الله جل وعلا، ولهذا لما قدم المغيرة بن شعبة رضي الله عنه إلى رستم قائد الفرس، وكان على كرسي مرتفع وبجواره مجالس لا يجلس عليها أحد، والناس وقوف عنده، ذهب قاصداً وجلس بجواره على الكرسي، فأنكر ذلك واستعظمه، فسحبوه، فقال لهم: (كنا نتحدث أن عندكم عقولاً، والآن تبين لي أنكم لا عقول عندكم، ولو كنتم أخبرتموني أولاً أن بعضكم عبيد لبعض لكان أحسن من صنعكم هذا). والمقصود: أن الأسماء التي فيها تعظيم للمخلوق وترفع على غيره كلها مكروهة.

حكم إطلاق أسماء الله الخاصة به على غيره

حكم إطلاق أسماء الله الخاصة به على غيره أما إذا كانت الأسماء لا يصح إطلاقها ولا يصح معناها إلا لله جل وعلا، فإطلاقها على غيره من العظائم، وهو منافٍ لتوحيد الله جل وعلا، وفيه منازعة لله جل وعلا، فإن ملك الملوك هو الله جل وعلا، وهو الذي يرجع إليه الأمر كله، وهو الذي بيده الملك، كما قال جل وعلا: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:26]. فكل ملك أو رئيس فملكه عارية، وسوف يُنتزع الملك منه، وسوف يُنزع من الملك ويُعطى لغيره، وإنما ملك في مدة محدودة أعطاه الله جل وعلا إياها، فملك الملوك هو الله، ولهذا لما تسمى بعض الملوك المساكين بهذا الاسم أخزاهم الله جل وعلا وأذلهم في الدنيا قبل الآخرة.

حكم الترفع على الغير

حكم الترفع على الغير كذلك إذا كان الإنسان يترفع على غيره بفعل دون الأسماء فسوف يُذم ويلقى جزاءه، ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم ينهى أن يقوم الناس على الرجل وهو جالس، ويقول: (من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار). وكان صلوات الله وسلامه عليه لا يدع أحداً من أصحابه يسير خلفه، وإنما يسيرون عن يمينه وعن شماله، ويقال: إن السير خلف الإنسان فتنة للمتبوع ومذلة للتابع. فعباد الله بعضهم من بعض، لا يجوز أن يترفع بعضهم على بعض.

حكم المدح

حكم المدح كذلك مدح الإنسان فإنه يكون فتنة؛ لأن فيه أنه قد يُعطى من الثناء ما ليس فيه، فربما استأنست نفسه بذلك، ثم يطلب ذلك ويصير آثماً بهذا الطلب الذي يطلبه، والخلق كلهم عباد لله جل وعلا، وأكرمهم أتقاهم، ومن كان لله أتقى فهو عند الله أرفع وأكثر مثوبة.

جزاء الذي لا يعرف قدر نفسه

جزاء الذي لا يعرف قدر نفسه الذي يكون أنفع للخلق هو الذي ينفعهم النفع الحقيقي الذي هو الدلالة على الله جل وعلا، وفاعل ذلك يكون أكثر أجراً، ومع ذلك يجب أن يكون عارفاً بقدره، وقدر الإنسان أنه عبد لا يخرج عن العبودية في حال من الأحوال، فإن ترفع عن كونه عبداً لله فإن الله يضعه ويعاقبه، ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أخنع اسم عند الله رجل تسمى بملك الأملاك) وأخنع: من الخناعة، وهي: الوضاعة، يعني: أوضع، وهذا الوضع قد يكون في الدنيا قبل الآخرة، ولهذا جاء في الحديث: (إن المتكبرين يوم القيامة يحشرون أمثال الذر يطؤهم الناس بأقدامهم جزاء تكبرهم) هذا في المحشر، وما بعد المحشر فهو أشد منه وأفضع؛ فإنهم من أصحاب جهنم. نسأل الله العافية. وعلى هذا يتبين لنا معنى قوله: (أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك لا مالك إلا الله)، فالمالك والملك هو الله جل وعلا مالك كل شيء، وهو الملك الذي يملك كل شيء ويتصرف فيه، فمهما أعطي الإنسان في هذه الدنيا من معاني أو أموال أو سلطات فإنها زائلة، وسوف ينتقل منها إلى قبره فريداً وحيداً، فيصبح كالفقراء، بل هو ربما كان أحقر من الفقير بالتبعات التي تكون عليه.

عقوبة من تسمى بقاضي القضاة وملك الملوك ونحوه

عقوبة من تسمى بقاضي القضاة وملك الملوك ونحوه قال الشارح رحمه الله تعالى: [ذكر المصنف رحمه الله هذه الترجمة إشارة إلى النهي عن التسمي بقاضي القضاة قياساً على ما في حديث الباب، لكونه شبهة في المعنى فينهى عنه. قال المصنف رحمه الله: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك، لا مالك إلا الله). قال سفيان: مثل: (شاهان شاه). وفي رواية: (أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه). قوله: (أخنع) يعني: أوضع]. قوله: (أغيظ) يعني: أن من فعل هذا الفعل فإن الله يغاظ عليه أي: يغضب عليه غضباً شديداً، ومن غضب الله عليه عذبه؛ وذلك لأنه نازع الله جل وعلا بهذا التسمي، ونازعه فيما هو من خصائصه، ومن أظلم الظلم منازعة الله جل وعلا في خصيصة من خصائصه. قال الشارح رحمه الله تعالى: [لأن هذا اللفظ إنما يصدق على الله تعالى؛ فهو ملك الأملاك لا ملك أعظم ولا أكبر منه، مالك الملك ذو الجلال والإكرام، وكل ملك يؤتيه الله من يشاء من عباده فهو عارية يسرع ردها إلى المعير، وهو الله تعالى، ينزع المَلِكَ من ملكه تارة وينزع المُلْكَ منه تارة، فيصير لا حقيقة له سوى اسم زال مسماه، وأما رب العالمين فملكه دائم كامل لا انتهاء له، بيده القسط يخفضه ويرفعه، ويحفظ على عباده أعمالهم بعلمه سبحانه وتعالى، وما تكتبه الحفظة عليهم، فيجازي كل عامل بعمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر، كما ورد في الحديث: (اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، أسألك من الخير كله وأعوذ بك من الشر كله). قوله: قال سفيان -يعني: ابن عيينة -: مثل شاهان شاه، عند العجم عبارة عن ملك الأملاك، ولهذا مثل به سفيان لأنه عبارة عنه بلغة العجم. قوله: (أغيظ): من الغيظ، وهو مثل الغضب والبغض، فيكون بغيضاً إلى الله مغضوباً عليه. والله أعلم]. وهذا يدل على أن الله يوصف بأنه يغيظ على بعض من يشاء، وأنه يوصف بالغيظ على بعض من يشاء من عباده، كما يوصف بأنه يبغض بعض خلقه، كما أنه يحب بعض خلقه، وكذلك يغضب على بعض خلقه، وهذه أوصاف تخص الله جل وعلا ولا يشابه المخلوق في وصفه؛ فصفة المخلوق تليق به، أما صفة الله فهي تخصه، وإن اشتركت صفة المخلوق وصفة الخالق جل وعلا في الاسم أو في المعنى العام قبل الإضافة والتخصيص فهذا لا يقتضي تشبيهاً، ولا يقتضي مساواة، فالله له ما يخصه والمخلوق له ما يخصه.

حكم القيام للأشخاص

حكم القيام للأشخاص قال الشارح رحمه الله: [قوله: (وأخبثه) وهو يدل أيضاً على أن هذا خبيث عند الله، فاجتمعت في حقه هذه الأمور لتعاظمه في نفسه وتعظيم الناس له بهذه الكلمة التي هي من أعظم التعظيم، فتعظمه في نفسه وتعظيم الناس له بما ليس له بأهل وضعه عند الله يوم القيامة، فصار أخبث الخلق وأبغضهم إلى الله وأحقرهم؛ لأن الخبيث البغيض عند الله يكون يوم القيامة أحقر الخلق وأخبثهم؛ لتعاظمه في نفسه على خلق الله بنعم الله. قوله: (أخنع يعني: أوضع)، هذا هو معنى (أخنع)، فيفيد ما ذكرنا في معنى (أغيظ) أنه يكون حقيراً بغيضاً عند الله. وفيه التحذير من كل ما فيه تعاظم، كما أخرج أبو داود عن أبي مجلز قال: خرج معاوية رضي الله عنه على ابن الزبير وابن عامر، فقام ابن عامر وجلس ابن الزبير، فقال معاوية لـ ابن عامر: اجلس؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار)، وأخرجه الترمذي أيضاً وقال: حسن]. معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار) يتمثل أي: أنهم يقومون له وهو جالس تعظيماً له، إما أن يقوموا على رأسه أو أمامه تعظيماً له. وقوله: (فليتبوأ مقعده من النار) تبوأ أي: اتخذ مكاناً باء به، والمعنى: أنه يكون له مقعد من النار جزاء تعاظمه، وجزاء كونه أحب أن يكون نظراؤه من العباد أشباه العبيد له، فكانوا يعظمونه ويخضعون له. والقيام عبادة، ولهذا يقول الله جل وعلا: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238]، فأمر بالقيام له، والقيام في الصلاة قنوت فهو عبادة، وكل عبادة لا يجوز أن يكون جنسها لمخلوق، فالقيام من جنس الركوع، ومن جنس السجود، ومن جنس الطواف، ومن جنس كشف الرأس في الإحرام تعبداً لله جل وعلا، فكل ما هو عبادة لا يجوز أن يكون لمخلوق من المخلوقين، فإن أحب المخلوق أن يكون له شيء من ذلك فهو طاغوت من الطواغيت الذين يدعون إلى عبادة أنفسهم، بل يكون أسوأ الطواغيت؛ لأن الطواغيت كثيرون جداً، ولكن رؤساءهم أنواع، ومنهم الذين يحبون أن يُعبدوا أو يدعون إلى عبادة أنفسهم. ومن ذلك الانحناء، فكون الإنسان إذا لقي آخر ينحني له ويطأطئ رأسه فإن هذا نوع من السجود ونوع من الركوع، والركوع سجود، فلا يجوز أن يكون هذا لمخلوق؛ لأن هذا من خصائص الخالق جل وعلا، فمن رضي بذلك فهو من هذا النوع يتبوأ مقعده من النار. فالمقصود: أن القيام على الإنسان الجالس تعظيماً له نوع من العبادة، ولهذا توعد فاعله بأنه يكون قد تبوأ مكاناً في النار، يجلس فيه ويتخذه مباءة، أي: مسكناً ومحلاً ومقاماً له، وهذا من أعظم الوعيد؛ لأنه نازع الله جل وعلا في حقه، والأول: نازعه في اسم من أسمائه، فتسمى: ملك الملوك، أو قاضي القضاة، أو حاكم الحكام، أو ما أشبه ذلك، وكل من نازع الله جل وعلا فيما يستحقه فهو ينصب نفسه معبوداً من دون الله جل وعلا، وجزاؤه أن يكون متبوئاً مقعده في جهنم.

صفات الله تعالى تمر كما جاءت بلا تأويل

صفات الله تعالى تمر كما جاءت بلا تأويل قال الشارح رحمه الله: [وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئاً على عصا فقمنا إليه فقال: لا تقوموا كما تقوم الأعاجم، يعظم بعضهم بعضاً) رواه أبو داود. وقوله: (أغيظ رجل) هذا من الصفات التي تمر كما جاءت، وليس شيء مما ورد في الكتاب والسنة إلا ويجب اتباع الكتاب والسنة في ذلك، وإثباته على وجه يليق بجلال الله وعظمته تعالى، إثباتاً بلا تمثيل، وتنزيهاً بلا تعطيل كما تقدم، والباب كله واحد، وهذا هو قول أهل السنة والجماعة من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من الفرقة الناجية من الثلاث والسبعين فرقة، وهذا التفرق والاختلاف إنما حدث في أواخر القرن الثالث وما بعده، كما لا يخفى على من له معرفة بما وقع في الأمة من التفرق والاختلاف والخروج عن الصراط المستقيم. والله المستعان]. قوله: (تمر كما جاءت) معناه: أن النص لا يفسر التفسير الذي يخرجه عن ظاهر لفظه، بل تفسيره ما يفهم من لفظه؛ لأن الغيظ والبغض والمحبة معروفة، وكل من سمع هذا عرف المعنى، ولكن يجب أن يعلم أن تغيظ الله وبغض الله وغضبه ليس كتغيظ المخلوق وبغضه وغضبه؛ لأن الله جل وعلا في ذاته لا يشبهه شيء، وكذلك أوصافه؛ والوصف يكون تابعاً للموصوف، والأسماء كذلك، وإن شارك المخلوق الرب جل وعلا في شيء من الأسماء في اللفظ أو في المعنى، مثل: ملك، فالإنسان يُسمى ملكاً، والله جل وعلا مالك يوم الدين وملك يوم الدين، كما جاء ذلك في القراءات، وكما يسمى المخلوق: رءوفاً، والله جل وعلا رءوف رحيم، وقد سمى الله رسوله صلى الله عليه وسلم رءوفاً رحيماً فقال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، فالرأفة والرحمة تليق بالمخلوق إذا أضيفت إليه، وإذا أضيفت إلى الله جل وعلا فهي خاصة به لا يشاركه المخلوق فيها، وكذلك سائر الأسماء على هذا الباب، فهذا معنى قوله: (تمر كما جاءت) يعني: على ظاهر ما يفهم من اللفظ، فلا يجوز أن تؤول التأويل الذي يخرجها عن معانيها، كما يفعله أهل التفرق والاختلاف وأهل البدع، بل هذا مسلك الصحابة ومن سار معهم؛ لأنهم يقدرون الله حق قدره، ويعلمون أن الله جل وعلا لا يشاركه مخلوق في خصائصه التي تخصه من الأسماء والصفات، كما أنه لا يشاركه أحد من الخلق في ذاته تعالى وتقدس.

مسائل باب التسمي بقاضي القضاة ونحوه

مسائل باب التسمي بقاضي القضاة ونحوه

النهي عن التسمي بملك الأملاك

النهي عن التسمي بملك الأملاك قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل: الأولى: النهي عن التسمي بملك الأملاك]. النهي مفهوم من قوله: (أغيظ اسم عند الله)، ومن قوله: (أخنع اسم)؛ لأن الشيء الذي يبغضه الله ويعذب عليه فإنه ينهى عنه، وهذا أبلغ مما لو جاء النهي بلفظ: لا تفعلوا ولا تسموا. ولهذا قال: النهي يقتضي التحريم؛ والسبب في إدخال هذا الباب في هذا الكتاب: أن الذي يفعل ذلك إما أن يكون قد ترك التوحيد رأساً فيكون كافراً؛ لأنه نازع الله جل وعلا، أو يكون فعل ذلك عن جهل وعدم إرادة لمنازعة الله جل وعلا، فيكون بذلك نقص في توحيده، فيجب أن يبتعد عن ذلك.

ما كان في معنى ملك الأملاك يأخذ حكمه

ما كان في معنى ملك الأملاك يأخذ حكمه قال المصنف رحمه الله: [الثانية: إن ما في معناه مثله كما قال سفيان]. يعني: أن مثل قاضي القضاة: حاكم الحكام ونحو ذلك، وقوله: (كما قال سفيان) سفيان قال نفس هذا، فهو قال: مثل: (شاهان شاه) ولكن هذا في لغة أخرى، يعني: أنه إذا سمي اسماً بأي لغة من اللغات يدل على هذا المعنى فهو داخل في ذلك، وشاهان شاه: هو ملك الأملاك في لغة الفرس.

التغليظ في النهي عن التسمي بملك الأملاك ونحوه

التغليظ في النهي عن التسمي بملك الأملاك ونحوه قال المصنف رحمه الله: [الثالثة: التفطن للتغليظ في هذا ونحوه، مع القطع بأن القلب لم يقصد معناه]. غلظ في هذا لأن فيه منازعة لله جل وعلا في حقه؛ لأن هذا من حقوق الله جل وعلا التي يجب أن تكون خالصة له، والمخلوق حقه أن يكون عبداً خاضعاً ذليلاً، ولا يجوز أن يتعدى طوره. قال المصنف رحمه الله: [الرابعة: التفطن أن هذا لأجل الله سبحانه]. وهذا كما سبق.

شرح فتح المجيد [112]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [112] تعظيم أسماء الله تعالى وصفاته من تعظيم الله تعالى، ويكون ذلك باحترامها، وعدم امتهانها، وعدم مشاركة الله تعالى فيها بالتسمي بها، فمن تسمى بشيء من أسماء الله تعالى أو اتصف بصفة من صفاته وجب عليه تغيير ذلك؛ لأن فيه نقصاً في توحيد العبد، وعدم تعظيم لله تعالى.

باب احترام أسماء الله تعالى وتغيير الاسم لأجل ذلك

باب احترام أسماء الله تعالى وتغيير الاسم لأجل ذلك قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: احترام أسماء الله تعالى وتغيير الاسم لأجل ذلك. عن أبي شريح: أنه كان يكنى أبا الحكم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله هو الحَكَم وإليه الحُكْم. فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم فرضي كلا الفريقين، فقال: ما أحسن هذا! فما لك من الولد؟ قال: شريح ومسلم وعبد الله، قال: فمن أكبرهم؟ قلت: شريح، قال: فأنت أبو شريح) رواه أبو داود وغيره]. قوله: (باب: احترام أسماء الله، وتغيير الاسم لأجل ذلك). الفرق بين هذا الباب والذي قبله: أن الذي قبله من باب المنازعة ومن باب مشاركة الرب جل وعلا فيما هو خاص به، وهذا أمره عظيم جداً. أما هذا فليس من باب المنازعة؛ لأنه قد يكون غير مقصود، وقد يكون لأمر يفعله الفاعل فيسمى باسم مأخوذ من الفعل كما في هذا الحديث، وقد يكون أيضاً عن قصد حسن، ولكنه ما فهم معنى هذا التكني أو هذا التسمي، فيكون غير آثم حتى يطلع على الحكم، فإذا اطلع على ذلك وجب عليه أن يغير الاسم، تعظيماً لله جل وعلا واحتراماً لأسمائه، فيكون هذا الباب في الخطورة أقل من الباب الذي قبله، ومع ذلك فهذا من كمال التوحيد، أي: تغيير الاسم احتراماً لأسماء الله جل وعلا وتعظيماً له يكون من كمال التوحيد.

الحكم والتحاكم عند الجاهلية

الحكم والتحاكم عند الجاهلية وقوله: (عن أبي شريح) هو أبو شريح الخزاعي، وأبو شريح صحابي أسلم بعد الفتح، وجاء أن هذه القصة وقعت في زمن الوفود، والوفود كانت في سنة تسع من الهجرة وما بعدها، فلما وفد مع قومه سمع الرسول صلى الله عليه وسلم قومه يدعونه ويكنونه بهذه الكنية فدعاه وسأله. وقوله: (إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم فرضي كلا الفريقين) معناه: أنه كان يقوم بالإصلاح بينهم، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما أحسن هذا!) يعني: الصلح بين الفريقين، فكانوا يرضون بحكمه، وهذا كان قبل أن يسلم، ومع ذلك حسنه الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس تحسين الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك تحسيناً لأحكام الجاهلية، وأهل الجاهلية كان لهم حكام وكانوا لا يقتنعون إلا بالشيء الذي يمكن أن يكون له وجه، فالحاكم الذي ينصب نفسه حكماً للناس عليه أن يعلم أن الناس عقلاء، فيجب أن يأتي بحكم يُقنع الفريقين، أما إذا كان على سبيل الإلزام وبالقوة، واتباع الأسلاف والآباء، وأن هذا حكم يجب أن يُخضع له، فهذا من أمور الجاهلية، ومن أحكام الطواغيت إذا كان بغير حكم الله جل وعلا، ولكن المقصود أن يرضى الفريقان -عن اقتناع بحق- بالحق بالعدل، والعدل كل يرضى به، فالذي حسنه الرسول صلى الله عليه وسلم هو العدل الذي يرضى به الفريقان، وليس حكم الجاهلية؛ حتى لا يلزم أن يقال: إن هذا كان قبل إسلامه عند أن كان يحكم بأمور الجاهلية، فيلزم أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم حسن ذلك، وهذا غير لازم؛ لأن تحسين الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو للحكم بالعدل الذي يرضى به الفريقان. ومعلوم أن العرب وغيرهم كان لهم حكام يحكمون بين المتخاصمين والمتنازعين، إما طواغيت، وإما كهان يحكمون لهم بالشيء الذي يكون غائباً، أو يكون الحكم بأمور يتعارفون عليها فيما بينهم وهو ما يسمى بطريقة الآباء، وكل هذا من حكم الجاهلية الذي لا يجوز أن يتحاكم إليه، بل التحاكم إليه تحاكم إلى الطاغوت، ومع هذا كله فإن الحكام الذين يحكمون بينهم لابد أن يحكموا بشيء مقنع؛ لأن الحكم ليس اعتباطاً أو تعسفاً، فإن هذا لا يرضى به أحد، ولهذا ذكروا أن أحد حكامهم الذين كانوا يتحاكمون إليهم جاءه قوم في مسألة وراثية مشكلة؛ لأن العرب كانوا يورثون الذكور ولا يورثون الإناث؛ لأن الذكور -في زعمهم- هم الذين يركبون الخيل ويحمون المال، ويذودون عن الأعراض، أما الأنثى فكانوا لا يعطونها شيئاً من الإرث، وحصل مرة في أهل بيت من العرب أنه توفي رجل منهم وخلف أبناء ومنهم واحد له آلتان: آلة أنثى وآلة ذكر، فأشكل عليهم كيف يصنعون هل يورثونه أم يحرمونه من الإرث؟ فذهبوا إلى أحد حكامهم الذين يحكمون، فلما جاءوا إليه أشكل عليه الأمر، فبقي أربعين يوماً لا يستطيع أن يحكم بينهم، وكل يوم يذبح لهم شاة، وبعد مضي أربعين يوماً بات ليلةً ساهراً ما استطاع أن ينام؛ لأنه وقع في مشكلة لم يعرف كيف يتخلص منها، ففطنت جارية له فقالت: مالك؟ قال: انصرفي عني مالك ولما أنا فيه؟ فلم تزل به حتى أخبرها وقال: الأمر فيه كذا وكذا، فقالت: الأمر سهل، انظر من أي آلة يبول فاحكم عليه بذلك، ففرح وقال: فرجت عني كرباً عظيماً، ولما أصبح الصباح دعاهم وحكم بينهم بهذا فاقتنعوا به. والشاهد في هذا: أنهم ما كانوا يحكمون إلا بشيء يُقتنع به، ومع ذلك كانت أحكامهم أحكاماً جاهلية، ولكن الناس العقلاء لا يقتنعون بالشيء الذي يكون شبه أفعال الصبيان. وهذا أبو شريح لم يكن من هذا القبيل، وإنما كان ممن يفصل بين الناس، فإذا كان هناك نزاع بين فريقين وأصلح بينهم صلحاً رضي الفريقان بصلحه؛ لأنه كان يتحرى العدل والإنصاف، ولا يميل إلى فريق دون آخر، وإنما يعدل بينهم فيرضى الفريقان، وعند ذلك سموه: أبا الحكم، مبالغةً في أن حكمه يكون حسناً وصحيحاً ومقبولاً.

معنى اسم الله جل وعلا (الحكم)

معنى اسم الله جل وعلا (الحَكَم) والحَكَم من أسماء الله جل وعلا، وقد جاء في أسمائه الحسنى مقروناً بالعدل، فهو الحكم العدل جل وعلا؛ لأن حكمه عدل، تعالى وتقدس، وهو الذي يحكم بين خلقه، كما قال جل وعلا: {وَلَهُ الْحُكْمُ} [القصص:70]، ويقول جل وعلا في آيات كثيرة: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57]، ويقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء:59]، والرد إلى الله جل وعلا هو الرد إلى حكمه، وحكمه يكون في كتابه الذي أنزله، أما الرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فهو الرد إليه في حياته، أما بعد وفاته فإلى سنته، وسنته: هي تقريراته وأقواله وأفعاله صلوات الله وسلامه عليه. فالحَكَم هو الله؛ لأنه يحكم بين خلقه في الدنيا بشرعه الذي جعله حاكماً بينهم، والإنسان إذا لم يحكم الشرع فإنه غير مؤمن، ولا يكون مؤمناً إلا بتحكيم الشرع، كما قال جل وعلا: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]. فهو الحكم مطلقاً، في الدنيا يحكم بين خلقه بالشرع الذي شرعه لهم، ويجب أن يتحاكموا إليه وألا يتحاكموا إلى غيره.

حكم الله تعالى بين خلقه في الآخرة

حكم الله تعالى بين خلقه في الآخرة وأما في الآخرة فهو الذي يتولى الحكم بين خلقه بنفسه، فلا يحكم بينهم ملك ولا رسول، بل كل واحد منهم سوف يحكم الله جل وعلا فيه، وهو علام الغيوب لا يخفى عليه شيء من أفعال هذا المخلوق، قد أحصاها عليه، فيقرره بأفعاله كلها، ويأتي خصمه فيحكم بينه وبينه، والحكم في ذلك الموقف إنما هو بالحسنات والسيئات، فيؤخذ للمظلوم من حسنات الظالم حتى يكتفي، فإن لم يكن للظالم حسنات أُخذ من سيئات المظلوم فطُرحت على الظالم، ثم طُرح في النار. فكل واحد يحكم الله جل وعلا فيه، سواء فيما بينه وبين ربه: هل التزم أوامره واجتنب نواهيه؟ أو فيما وبين الخلق في المظالم والحقوق، فالحكم يكون عاماً في كل ما يفعله المخلوق في الدنيا من علاقاته مع ربه أو علاقاته مع الخلق، ولهذا ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر تلقاء وجهه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة)، وهذا الحكم يكون بعد الوقوف الطويل، فالخلق يخرجون من قبورهم، ويحشرون في مكان واحد جميعاً، فيقفون وقوفاً طويلاً، وهذا الوقوف وقوف ثقيل وعظيم كما قال تعالى: {إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا} [الإنسان:27]، ويقول جل وعلا: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:1 - 6]. فيقومون على أرجلهم ألف سنة وهم في مكان واحد، والشمس فوق رءوسهم واقفة لا تسير، فإذا اشتد بهم الكرب ويتمنى كثير منهم أن يُذهب به ولو إلى النار؛ لشدة هذا الموقف، فإذا أراد جل وعلا أن يحكم بينهم، يلهمهم أن يطلبوا الشفاعة من الرسل، والرسل وقوف معهم، فيبدءون بآدم عليه السلام وينتهون إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وكل واحد من آدم إلى عيسى يعتذر ويقول: لا أستطيع أن أشفع في هذا اليوم العظيم؛ وربنا غضب اليوم على خلقه غضباً شديداً، وكل واحد يقول: لا أسأل ربي إلا نفسي، فيشفع محمد صلى الله عليه وسلم في أن يأتي الرب جل وعلا للفصل بين خلقه والحكم بينهم، وهذه شفاعة يشترك فيها المؤمنون والكفار والأبرار والفجار، ثم يأتي الرب جل وعلا وهو على عرشه فيحكم في كل واحد، وأما الناس الكفرة الذين ليس لهم حسنات تزون، فهؤلاء يؤمر بهم إلى النار بدون محاسبة، كما قال الله جل وعلا: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف:105] أي: لا يحاسبون. والناس هناك ينقسمون إلى أقسام: قسم هذا الذي سبق وذكرناه، وقسم آخر ليس لهم سيئات، وهؤلاء لا يحاسبون، وقسم لهم سيئات وحسنات، وعندهم مظالم، فهؤلاء لابد أن يحاسبوا، مع أن الكفار الذين ليس لهم حسنات لا يمكن أن يذهبوا إلى النار حتى يقتص ممن عنده ظلم لغيره، ولهذا أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن البهائم يقتص لبعضها من بعض في ذلك اليوم، قال صلى الله عليه وسلم: (والله ليقتصن من الشاة القرناء للشاة الجلحاء) الجلحاء: التي ليس لها قرون، إذا نطحتها التي لها قرون فإنها تؤذيها أكثر، فيقتص منها يوم القيامة، ثم بعد ذلك يقول الله جل وعلا لها: كوني تراباً، فتكون تراباً، وعند ذلك يقول الكافر: {يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:40] أي: مثل البهائم، ولكن هيهات! فإن الإنسان خلق للعذاب أو للنعيم. فالمقصود: أن حكم الله عام في الدنيا والآخرة، ولكن في الدنيا قد ينازع ابن آدم الربَّ جل وعلا، ينازعه ويزعم أن له شيئاً من الحكم؛ لأن ابن آدم خلق ظلوماً جهولاً، فإذا اجتمع الظلم والجهل فإنه يجتمع الشر كله، فلهذا لا يجوز أن يتكنى الإنسان باسم من أسماء الله كأبي الحكم؛ لأن هذا فيه امتهان لاسم الله جل وعلا، ولهذا غيَّره الرسول صلى الله عليه وسلم بعد قوله: (ما أحسن هذا!) يعني: ما أحسن العدل والإنصاف الذي يرضى به الفريقان.

الكنية وبيان أن الأفضل أن تكون بالابن الأكبر

الكنية وبيان أن الأفضل أن تكون بالابن الأكبر قوله: (فما لك من الولد؟ قلت: شريح ومسلم وعبد الله، قال: فمن أكبرهم؟ قلت: شريح، فقال: أنت أبو شريح)، وهذا تغيير للتكني، والعرب يكنون للتعظيم، والكنية: هي ما صدرت بأب أو أم، فيقال: أبو فلان أو أم فلان، بخلاف اللقب، فإن اللقب قد يكون -وهو الغالب- للتحقير والازدراء، وقد يكون لغير ذلك، فالكنية: ما بدأت بأب أو أم كأبي فلان أو أم فلان، وقد يكنى الإنسان بابنه، وقد يكنى بما يلازمه كأبي هريرة مثلاً، ومثل ذلك إذا كان عنده صنعة فيكنى بها لملازمته لها، وقد يكنى بشيء يكون موصوفاً به كأبي المعالي وأبي الفضائل وما أشبه ذلك، يوصف بذلك تعظيماً له، وغرض الناس من التكني بالكنية التعظيم، بخلاف اللقب، فإن اللقب قد يشعر مدحاً كزين العابدين مثلاً، وقد يشعر ذماً كأنف الناقة مثلاً، وهذا الغالب عليه، ولهذا يقول أحد الشعراء: أكنيه حين أناديه لأعظمه ولا ألقبه فالسوءة اللقب لأن اللقب قد يدل على التحقير. وهذا الذي كني بـ أبي الحكم هو من باب التعظيم، ولكن هذا التعظيم خطأ وامتهان لاسم الله جل وعلا؛ فلهذا غيره الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم بدله بشيء يليق به. وعندما سأله عن أبنائه أخبر أن له ثلاثة وعطفهم بالواو، فقال: شريح ومسلم وعبد الله. فقال: (فمن أكبرهم؟) وهذا يدلنا على أن الواو لا تدل على الترتيب، وإنما تدل على الجمع؛ لأنها لو كانت تدل على الترتيب لما قال: أيهم الأكبر؟ فعرف أن شريحاً هو أكبرهم، فقال: شريح، فقال: (أنت أبو شريح)، وهذا يدل على أن الكبير له ميزة على الصغير، فيجب أن يميز عن الصغير ويقدر له قدر وميزة لكبر سنه، والرجل يكنى بولده الكبير، فإن لم يكن له ولد فيكنى بابنته الكبيرة، وليس التكني بالبنت عيب كما يقوله بعض الجهال؛ لأنها بنته، وكذلك الأم تكنى بابنها الكبير، فإن لم يكن لها أبناء كنيت بابنتها الكبيرة.

تغيير الاسم أو الكنية إذا كان فيها امتهان لأسماء الله

تغيير الاسم أو الكنية إذا كان فيها امتهان لأسماء الله هذه الكنى والأسماء كل ما كان منها فيه شيء من امتهان أسماء الله جل وعلا وعدم احترامها فيجب أن تغير، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يغير الأسماء لأغراض متعددة هذا أحدها، وهذا هو أعظمها الذي يجب أن يعتنى به، فكثير من الأسماء لا يجوز أن تُقر؛ لأن فيها امتهاناً لأسماء الله، وقد يكون فيها كذب، مثل: خليل الرحمان وخليل الله؛ لأن الخلة خاصة بإبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم، فلا يجوز أن يسمى أحد بذلك، كذلك إذا سمي مثلاً: الرحمان أو ما أشبه ذلك من الأسماء الخاصة بالله فلا يجوز، بل يجب أن يغير ما وجد من هذه الأسماء، كما غير الرسول صلى الله عليه وسلم اسم أبي شريح احتراماً لأسماء الله جل وعلا. وكذلك تُغير الأسماء المبغضة المكروهة كحرب ومرة، وما أشبه ذلك، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يغيرها. وكذلك الأسماء التي تدل على تزكية النفس فإنها تغير؛ لأن الله جل وعلا يقول: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ} [النجم:32]، فتغير امتثالاً لأمر الله جل وعلا. فهذه الأغراض التي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يغير الأسماء من أجلها أعظمها هو احترام أسماء الله جل وعلا؛ لأن هذا من باب التوحيد، فالواجب أن يغير هذا الشيء احتراماً لأسماء الله؛ لأن ذلك من تحقيق التوحيد.

ترجمة أبي شريح الخزاعي

ترجمة أبي شريح الخزاعي قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: (عن أبي شريح) قال في خلاصة التذهيب: هو أبو شريح الخزاعي اسمه: خويلد بن عمرو، أسلم يوم الفتح، له عشرون حديثاً، اتفقا على حديثنين وانفرد البخاري بحديث]. أي: له عشرون حديثاً، وهي مروية في كتب الأحاديث في السنن والمسانيد، وأما الصحيحان فليس له فيهما إلا ثلاثة أحاديث. قال الشارح رحمه الله: [وروى عنه أبو سعيد المقبري، ونافع بن جبير، وطائفة، قال ابن سعد: مات بالمدينة سنة ثمانٍ وستين. وقال الشارح: اسمه هانئ بن يزيد الكندي، قاله الحافظ، وقيل: الحارث الضبابي، قاله: المزي. قوله: (يكنى) الكنية: ما صدر بأب أو أم ونحو ذلك، واللقب ما ليس كذلك، كزين العابدين ونحوه.

لله جل وعلا في كل قضية حكم واحد فقط

لله جل وعلا في كل قضية حكم واحد فقط [وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله هو الحَكَم وإليه الحُكْم)، فهو سبحانه الحكم في الدنيا والآخرة، يحكم بين خلقه في الدنيا بوحيه الذي أنزل على أنبيائه ورسله، وما من قضية إلا ولله فيها حكم]. أي: ما من قضية تقع بين الناس أو حادثة تحدث أو أمر يحدث إلا ولله فيه حكم، وهو موجود في كتاب الله؛ لأنه لم يفرط فيه بشيء، بل كل قضية تحدث صغيرة أو كبيرة فحكمها في كتاب الله، ولكن قد يفهما الناس وقد لا يفهمونها، وقد أدركت الأمة كل الأحكام وكل القضايا، فيجب أن يرجعوا إلى كتاب الله في جميع ما يحدث، وأن يكون هو الحاكم بينهم، ولا يجوز أن يعتاضوا عنه بالقوانين فإن هذا من الكفر. قال الشارح رحمه الله: [وما من قضية إلا ولله فيها حكم بما أنزل على نبيه من الكتاب والحكمة، وقد يسر الله معرفة ذلك لأكثر العلماء من هذه الأمة؛ فإنها لا تجتمع على ضلالة، فإن العلماء وإن اختلفوا في بعض الأحكام فلابد أن يكون المصيب فيهم واحداً]. يعني: ليس كل مجتهد يكون مصيباً، وإنما المصيب واحد فقط، والحق لا يتعدد، فلا يمكن أن يكون هذا أصاب الحق والذي قال خلاف قوله أصاب الحق، هذا لا يكون أبداً؛ لأن الحق واحد فقط، ولكن إذا كان المخالف مجتهداً وأهلاً للاجتهاد، فيكون مأجوراً على اجتهاده وخطؤه مغفور، أما إذا كان يتخبط بجهل فإنه وإن أصاب فهو آثم، ولهذا قسم الرسول صلى الله عليه وسلم القضاة إلى ثلاثة، فجعل اثنين منهم في النار وواحداً في الجنة، فأما الذي يحكم بين الناس بالجهل فهو في النار، وأما الذي يعرف الحق ويحكم بخلافه فهو في النار، وأما الذي يعرف الحق ويحكم به فهذا هو الذي يكون في الجنة. والمقصود: أن كل قضية حكم الله فيها واحد، وهو موجود في كتاب الله أو في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله ما فرط، والرسول صلى الله عليه وسلم جاء بشرع كامل شامل إلى يوم القيامة، صالح لكل زمان، فيجب على عموم الخلق أن يرجعوا إليه، فإن لم يفعلوا فإنهم متوعدون بصليهم في النار؛ لأن من لم يحكم بما أنزل الله جل وعلا فليس بمؤمن. قال الشارح رحمه الله تعالى: [فمن رزقه الله تعالى قوة الفهم، وأعطاه ملكة يقتدر بها على فهم الصواب من أقوال العلماء، يسر له ذلك بفضله ومنِّه عليه وإحسانه إليه، فما أجلها من عطية، فنسأل الله من فضله]. ليس معنى ذلك أن الحكم يكون بأقوال العلماء أو بآرائهم، وإنما العلماء يستنتجون الأحكام من كتاب الله، ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم بالفهم، والفهم يتفاوت بينهم، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن منهم طائفة تشبه الأرض الطيبة التي تمسك الماء وتنبت الكلأ الكثير الذي ينتفع به الناس، فهؤلاء أمثال الفقهاء الذين يفهمون النصوص ويستخرجون منها الأحكام الكثيرة، وطائفة أخرى مثلهم مثل القيعان التي تمسك الماء، ولا تنبت الكلأ، ولكنها تمسك الماء فيرد الناس عليها ويرتوون من هذا الماء، فهؤلاء أمثال الحفاظ الذي يحفظون ولكن ليس عندهم فقه مثل الفقهاء، وهؤلاء هم أهل الخير وأهل الفضل، وهم الذين ورثوا الكتاب وقبلوا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. أما الطائفة الثالثة فجعلهم مثل الأرض السبخة أو الأرض الرملية التي لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً، وإنما يأتيها الماء فتبلعه ولا يكون له أي أثر، فهؤلاء أمثال الذين لم ينتفعوا بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الهدى والعلم والإيمان. والمقصود: أن الأحكام ليست في آراء العلماء وأقوالهم، وإنما هي في استنتاجاتهم وما فهموه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والفهم يتفاوت تفاوتاً عظيماً، فقد يفهم أحد العلماء من نص واحد ألف حكم أو ما يقارب ذلك، كما يظهر ذلك لمن تتبع كتب العلماء واستنتاجاتهم وأقوالهم، ومنهم من يفهم من نص واحد حكماً أو حكمين أو ثلاثة أو نحو ذلك.

الله هو الحكم في الدنيا والآخرة

الله هو الحكم في الدنيا والآخرة قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: (وإليه الحكم في الدنيا والآخرة) كما قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:10]، وقال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء:59]. فالحكم إلى الله هو الحكم إلى كتابه]. يعني: الحكم إلى الله في الدنيا إلى كتابه. [والحكم إلى رسوله هو الحكم إليه في حياته وإلى سنته بعد وفاته. وقد قال صلى الله عليه وسلم لـ معاذ لما بعثه إلى اليمن: (بمَ تحكم؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي، فقال: الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله إلى ما يرضي رسول الله)]. هذا الحديث ضعيف؛ لأن في سنده: عن أصحاب معاذ عن معاذ، وأصحاب معاذ مجهولون، لم يسم منهم أحد، ومعلوم أن الجهالة من أسباب رد الحديث وضعفه، فلابد أن يعرف الراوي، ولكن بعض العلماء يقول: إن شهرته وقبول الفقهاء له وتلقيهم له يغني عن سنده، كما يقول ذلك ابن عبد البر وغيره، فالقول به وتصحيحه ليس من ناحية السند وإنما هو من جهة قبوله؛ لأن الأمة إذا أجمعت على شيء لابد أن يكون حقاً، وهذا قد اشتهر عند العلماء، فيقول: إن هذا يغني عن السند -وإن كان سنده ضعيفاً- فيكون صحيحاً. قال الشارح رحمه الله تعالى: [فـ معاذ من أجل علماء الصحابة بالأحكام ومعرفة الحلال من الحرام، ومعرفة أحكام الكتاب والسنة، ولهذا ساغ له الاجتهاد إذا لم يجد للقضية حكماً في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بخلاف ما يقع اليوم وقبله من أهل التفريط في الأحكام، ممن يجهل حكم الله في كتابه وسنة رسوله، فيظن أن الاجتهاد يسوغ له مع الجهل بأحكام الكتاب والسنة، وهيهات! وأما يوم القيامة فلا يحكم بين الخلق إلا الله عز وجل إذا نزل لفصل القضاء بين العباد، فيحكم بين خلقه بعلمه، وهو الذي لا يخفى عليه خافية من أعمال خلقه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:40]. والحكم يوم القيامة إنما هو بالحسنات والسيئات، فيؤخذ للمظلوم من الظالم من حسناته بقدر ظلامته إن كان له حسنات، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فطرح على سيئات الظالم، لا يزيد على هذا مثقال ذرة ولا ينقص هذا عن حقه بمثقال ذرة. قوله: (فإن قومي إذا اختلفوا في شئ أتوني فحكمت بينهم فرضي كلا الفريقين، فقال: (ما أحسن هذا!) فالمعنى -والله أعلم-: أن أبا شريح لما عرف منه قومه أنه صاحب إنصاف وتحر للعدل بينهم ومعرفة ما يرضيهم من الجانبين، صار عندهم مرضياً، وهذا هو الصلح؛ لأن مداره على الرضا لا على الإلزام، ولا على أحكام الكهان وأهل الكتاب من اليهود والنصارى، ولا على الاستناد إلى أوضاع أهل الجاهلية من أحكام كبرائهم وأسلافهم التي تخالف حكم الكتاب والسنة، كما قد يقع اليوم كثيراً، كحال الطواغيت الذين لا يلتفتون إلى حكم الله ولا إلى حكم رسوله، وإنما المعتمد عندهم ما حكموا به بأهوائهم وآرائهم. وقد يلتحق بهذا بعض المقلدة لمن لم يسغ تقليده، فيعتمد على قول من قلده، ويترك ما هو الصواب الموافق لأصول الكتاب والسنة. والله المستعان. وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فما لك من الولد؟ قال: شريح ومسلم وعبد الله، قال: فمن أكبرهم؟ قلت: شريح، قال: فأنت أبو شريح) فيه تقديم الأكبر في الكنية وغيرها غالباً، وجاء هذا المعنى في غير ما حديث. والله أعلم].

مسائل باب احترام أسماء الله تعالى

مسائل باب احترام أسماء الله تعالى

كل معنى يوهم امتهانا لأسماء الله يجب الابتعاد عنه

كل معنى يوهم امتهاناً لأسماء الله يجب الابتعاد عنه قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل: الأولى: احترام أسماء الله وصفاته ولو لم يقصد معناه]. يعني: أن الاسم إذا أوهم امتهاناً لاسم من أسماء الله يجب أن يغير ولو كان المسمي لا يعرف المعنى، وإن كان قصد مقصداً حسناً في نفسه فإن هذا لا يعطيه تبريراً بأنه جائز، ولو قصد المعنى لكان محاداً لله جل وعلا، ولكن الغالب أنه لا يقصد المعنى، ومع ذلك يجب أن يغير الاسم ويحترم أسماء الله جل وعلا، كما بين في الحديث، فإنه لما تكنى بـ أبي الحكم لم يقصد أن يمتهن اسم الله لا هو ولا الذي سماه، وإنما سمي من الفعل الذي كان يفعله. قال المصنف رحمه الله: [الثانية: تغيير الاسم لأجل ذلك. الثالثة: اختيار أكبر الأبناء للكنية]. وهذا كله تقدم الكلام عليه.

شرح فتح المجيد [113]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [113] اجتمع بعض ضعاف الإيمان وجعلوا يسخرون ويستهزئون بقراء الصحابة، وجعلوا يرمونهم بما هم منه براء، فأنزل الله تعالى آيات تبين أن الاستهزاء بالله أو بآياته أو برسوله كفر، وأنهم بذلك الاستهزاء قد كفروا بعد إيمانهم، وإن قالوا: إنما كنا نخوض ونلعب، وهكذا حكم من استهزأ بالله أو بآياته أو برسوله وما أكثر المستهزئين اليوم لا كثرهم الله.

باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول

باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول. وقول الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة:65]. عن ابن عمر ومحمد بن كعب وزيد بن أسلم وقتادة -دخل حديث بعضهم في بعض-: أنه قال رجل في غزوة تبوك: (ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء). يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه القراء، فقال له عوف بن مالك: كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره فوجد القرآن قد سبقه، فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله! إنما كنا نخوض ونتحدث بحديث الركب نقطع به عنا الطريق، قال ابن عمر: كأني أنظر إليه متعلق بنسعة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الحجارة تنكب رجليه وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب، فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ({أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66]) ما يلتفت إليه وما يزيده عليه].

حكم الاستهزاء بالله أو برسوله أو بكتابه

حكم الاستهزاء بالله أو برسوله أو بكتابه قوله: (باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول) يعني: أنه يكون مرتداً إذا كان مسلماً، إما إذا كان غير مسلم فالكافر كافر، ولكن إذا كان المسلمون لهم عليه ولاية فلا يجوز أن يتركوه يستهزئ بشيء من ذلك. والاستهزاء معناه: أن يسخر به، وليس لازماً أن يكون مجداً في سخريته، بل ولو كان على وجه المزاح المزح وما يضحك به القوم فإنه يكون بذلك كافراً كما دلت الآيات على ذلك. والاستهزاء بالله: أن يكون بشيء من صفاته أو من أسمائه أو من أفعاله. وأما الاستهزاء بالقرآن والسخرية به فكأن يسخر من آية منه، أو من معنىً من معانيه، أو من حكم من أحكامه. وأما الاستهزاء بالرسول صلى الله عليه وسلم فكأن يستهزي بشيء من صفاته الخلقية أو الخلقية، أو بشيء مما يأمر به ويفعله أو ينهى عنه، كل هذا يدخل في الاستهزاء.

سبب نزول قوله تعالى: (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب)

سبب نزول قوله تعالى: (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب) كذلك لو استهزأ بمن يمتثل الشرع ويعمل به من أجل ذلك، فإنه يكون مرتداً كافراً خارجاً من الدين الإسلامي، والدليل على هذا قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة:65 - 66]. وذكر المؤلف أن سبب نزول هذا الآية: أن قوماً قالوا هذه المقالة في غزوة تبوك، وقد كانت في السنة التاسعة، وعوف بن مالك يسمعهم، قالوا: ما رأينا كقرائنا هؤلاء، والقرآء: هم حفظة القرآن الذين يعرفون معانيه ويعملون به، هذا هو الذي يسمى قارئاً في لسان السلف، أما من يحفظه وهو لا يعرف معانيه فهذا ليس بقارئ، ولم يطلق عليه ذلك إلا لما جُهلت اللغة، وضاعت لغة العرب في لغة العجم واختلطت، وصار الناس لا يعرفون معاني القرآن لهذا السبب. قالوا: ما رأينا كقرائنا هؤلاء -يعنون: الصحابة مع الرسول صلى الله عليه وسلم- أكذب ألسناً وأرغب بطوناً وأجبن عند اللقاء، والواقع خلاف هذا كله، وإنما قاله من قاله ليضحك به القوم على سبيل المزاح، وهذا هو السخرية؛ لأن المزح واللعب لا يكون محله دين الله ولا شرعه ولا رسله ولا كتبه، وقوله في هذا: (من استهزأ بشيء فيه القرآن أو الرسول) لا يقصد به القرآن خاصةً ولا الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم فقط، بل جميع الرسل وجميع الكتب التي أنزلها الله جل وعلا والشرع الذي أنزله على عباده داخل في ذلك. أما ذكر الله فيدخل فيه ما ذكر من أسمائه وصفاته وآياته الكونية والشرعية، وكذلك حكمه الكوني القدري الذي يتضمن الخلق، كأن يستهزئ بكون الله جل وعلا خلق الذباب مثلاً، أو بأنه خلق الحيات، أو خلق العقارب المؤذيات، أو ما أشبه ذلك مما قد لا تظهر حكمته لكثير من الناس، أو استهزأ وسخر بأن بعض الناس عقولهم قاصرة ثم يتحصلون على أموال طائلة في الدنيا، وأن غيرهم قد يكونون أعلم منهم ولا يحصل لهم شيء من ذلك، كما يحدث لبعض الزنادقة من الشعراء وغيرهم، فإن هذا من السخرية التي تجعل الإنسان كافراً. نسأل الله العافية. وأما الآيات الشرعية فكأن يسخر من سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم، كالذي يسخر -مثلاً- من تربية اللحية وهو يعرف أنها سنة، أو يسخر من السواك وهو يعرف أنه سنة، أو يسخر من أي سنة من السنن التي ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم أو ثبتت في كتاب الله جل وعلا. وأما السخرية بمن يحمل الدين ويعمل به فإن قصد بسخريته السخرية به في ذاته وليس لتدينه، فهذا له حكم غيره من الاستهزاء بالناس، وهذا من الأمور المحرمة ولا يكون بذلك كافراً. وكذلك الآيات التي أنزلها ربنا جل وعلا على رسله، كأن يقول مثلاً: وهذه أحكام لا تناسب الوقت الحاضر، لا تناسب التمدن ولا تناسب تقدم الإنسان وحضارته، فإن هذا كفر بالله جل وعلا، وإن كان مسلماً فهو يرتد بذلك، وإن كان كافراً من الأصل فيجب أن يمنع إذا كان عند المسلمين مقدرة على منعه، أو أن يسخر بأن المرأة لا تأخذ من الإرث إلا نصف ما يأخذ الرجل، وهذه أمثلة وإلا فالأمر في هذا واسع. وأما اللعب فكأن يذكر الأمور على سبيل المزح الغير مقصود، وإنما يقول مزحاً أو يقول كلاماً لا يعرف معناه أو لا يقصد معناه؛ لأن آيات الله ورسول الله وكذلك أسماء الله وصفاته ليست محلاً للعب، بل يجب أن تعظم غاية التعظيم وتحترم وتقدر، ولهذا أمر الله جل وعلا بتقديره وبتعظيمه وكذلك تعظيم شرعه وتعظيم رسله، فهؤلاء الذين نزلت فيهم الآية جاء أن منهم من أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعتذر ويقسم بالله أنه ما أراد حقيقة الكلام ومدلوله، وإنما قال ذلك على سبيل الترويح عن النفس؛ لأن المسافر يتعب فإذا ذكر شيئاً فيه ترويح عن النفس يجد نشاطاً، فهو يقول: أردنا هذا فقط، ومع ذلك لم يلتفت الرسول صلى الله عليه وسلم إليه، ولم يقبل عذره، وصار لا يزيد على قول الله جل وعلا: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة:65 - 66]. وقول ابن عمر: (كأني أنظر إليه متعلقاً بنسعة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن قدميه لتنكب الحجارة)، يعني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ارتحل بعد هذه المقالة، وصار أحدهم ممسكاً بناقة رسول الله، والنسعة: هي الحبل الذي يمسك رحل الناقة من الخلف، وقد يدخل من تحت ذنب الناقة لئلا يسقط الرحل إذا نزلت في منخفض، فهو ممسك به للمبالغة في الاعتذار، والرسول صلى الله عليه وسلم مسرع في سيره، وأرجل هذا الرجل تضرب الحجارة، وهو لا يلتفت إليه ولا يزيد على أن يتلو عليه قول الله الذي أمره أن يقوله: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66] فهو لا يزيد على ما قال الله جل وعلا له، ولم يقبل عذره، ولم يقبل أنه ما كان قاصداً، فدل هذا على أن عدم قصد الحقيقة بالكلام والسخرية واللعب يكون كفراً، وقوله جل وعلا في هذا: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة:65] الذي ذكر أنهم قالوا: ما رأينا كقرائنا هؤلاء! فهم وصفوهم بالقراءة، وبحفظ القرآن، ومن أجل ذلك قالوا لهم هذا القول، وقولهم: (أرغب بطوناً) يعني: أن بطونهم كبيرة واسعة، ومعنى: (أرغب بطوناً) أي: أكبر بطوناً، يأكلون أكلاً كثيراً، وهذا كذب. (وأكذب ألسناً) الكذب يكون في المنافقين، والصحابة قد وصفهم الله جل وعلا بأنهم صادقون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم معهم. وقولهم: (أجبن عند اللقاء) الجبن: هو خلق يدعو من اتصف به إلى الهروب عن لقاء العدو؛ خوفاً من القتل، وهذا أيضاً من الكذب، وكونه قولاً على خلاف الواقع ضحك بعضهم منه، فهذا الذي قال الله جل وعلا: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة:65] لأن هؤلاء تحلوا بما أمرهم الله جل وعلا، واتصفوا به، فحفظوا القرآن وعملوا به، والقرآن يأمر بالصدق، ويأمر بترك الرغبة في الدنيا، والرغبة في الآخرة، ويأمر بقتال الكفار وأن يكونوا في قتالهم كالبنيان المرصوص لا يتزعزعون، وهم يمتثلون ذلك، فهذا القول صار سخرية؛ لأنه خلاف الواقع وكذب. وقد جاءت الآثار أنهم قالوا أكثر من هذا، وأن منهم من قال: يرجو هذا الرجل -يقصدون الرسول صلى الله عليه وسلم- أن يهزم الروم أو يقتل الروم، وهم يحسبون قتال الروم كقتال العرب! فكأننا بهم غداً مقرنين في الحبال؛ يقولون هذا جبناً، وكذلك يقولونه حتى يرهبوا المسلمين؛ لأن هذه المقالة لا تصدر إلا من منافق لا يريد الحق، ولا يحبه، ولا يريد انتصاره. وجاء أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم ضلت ناقته فقال قائل منهم: هذا يزعم أنه يخبر عما في السماء وهو لا يدري أين ناقته! وهذه كلها يجوز أن تكون وقعت في وقت واحد، ويجوز أن يكونوا قالوها في أوقات متفرقة ونزلت الآية بها.

تفسير قوله تعالى: (قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون)

تفسير قوله تعالى: (قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون) قوله جل وعلا: (قُلْ أَبِاللَّهِ) هنا الاستفهام للإنكار، أي: أن الله ليس محلاً للسخرية واللعب، (قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ) والآيات سواء كانت آيات كونية أو شرعية، فليست محلاً للعب والسخرية والاستهزاء، و (رسوله) كذلك، فإن من فعل ذلك وإن كان جاهلاً فإنه لا يعذر، ويكون بذلك مرتداً وإن كان جاهلاً؛ لأن هذا ليس محلاً للسخرية والاستهزاء واللعب، وربما يتكلم الإنسان كلمة يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب، وهو لا يلقي لها بالاً، ولا يدري ما معناها، كما ثبت ذلك عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الرجل لا يتكلم بالكلمة من سخط الله يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب) وجاء: (إن الرجل ليقول الكلمة ليضحك بها القوم؛ يكتب الله جل وعلا بها عليه سخطه إلى يوم يلقاه). وجاء ضد ذلك: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من الحق لا يلقي لها بالاً يكتب الله جل وعلا له بها رضاه)، فيجب على الإنسان أن يحفظ لسانه، وأن لا ينطق إلا بالشيء الذي يعرف أنه ينفع. وقوله جل وعلا: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:66] يدل على عدم قبول العذر في هذه الأمور، والمعتذر هو النادم الذي يظهر التوبة والأسف على ما فرط منه، فيبدي عذراً له أنه ما قصد الحقيقة، ومع هذا منع الله جل وعلا قبول عذره. وقوله: {قَد كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:66] يدل على بطلان قول من قال: إن هؤلاء الذين قالوا هذا القول منافقون؛ لأن المنافق لم يزل كافراً، وإنما يظهر الإيمان بلسانه، وقول الذين نصروا هذا القول بأن معنى قوله: (كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) أي: أظهرتم الكفر بعد إظهاركم الإيمان بألسنتكم، وهذا لا يصح؛ لأنهم قالوا هذه المقالة فيما بينهم، ولم يزالوا مظهرين ذلك لخواصهم، وبعضهم لبعض، وإنما يدل على أنهم كان عندهم إيمان، ولكن إيمانهم كان ضعيفاً ليس قوياً بحيث يمنعهم أن يقعوا في مثل ما وقعوا فيه؛ لأن المؤمن الإيمان القوي لا يدخل في مثل هذا؛ لأن هذا ليس محلاً للخوض واللعب، وإنما هذا محله التعظيم والتقدير والعمل والإيمان. وقوله جل وعلا: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة:66] الطائفة يصح أن تقع حتى على الرجل الواحد، فيصح أن يقال للواحد: طائفة. وقد جاء أن اثنين منهم جاءوا يعتذرون ويقولون: إننا لم نتكلم وإنما حضرنا، وقد أنكر من أنكر منهم وقال: ووددت أننا نقاضى على كل كلمة نتكلمها كل واحد منا يضرب مائة سوط وأن لا ينزل فينا القرآن. وجاء عن رجل يقال له: مخشي بن حمير أنه هو الذي كان يعتذر، ومع ذلك لم يقبل الرسول صلى الله عليه وسلم عذره، وكان يقول: إني أسمع آيةً تتلى في كتاب الله أنا المعني بها تقشعر منها الجلود، وكان يسأل ربه ويقول: اللهم اجعل موتي قتلاً في سبيلك حتى لا يقول قائل: أنا غسلت أنا كفنت أنا دفنت. وذكروا أنه لما كان يوم اليمامة تتبعوا القتلى الذين قتلوا من الصحابة فوجدوهم إلا هذا الرجل لم يعثر له على أثر وجثة، ولعل هذا هو الذي أراده جل وعلا بقوله: (نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ) أي: أن الله عفا عنه. وقوله: (نُعَذِّبْ طَائِفَةً) يعني: أن هؤلاء يصيبهم العذاب في الدنيا قبل الآخرة، أما عذاب الآخرة فهو بعد الحياة عند الموت. وقوله: (بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) الإجرام: هو ارتكاب الجرم والذنب العظيم، وهذا من أعظم الذنوب: الاستهزاء والسخرية واللعب بآيات الله، أو بشيء فيه ذكر الله، أو شيء فيه دين الله وشرعه، وهذا في الواقع قد يكون باللسان، وقد يكون بالفعل، وقد يكون بالقلب نفسه، وقد يشتمل على أمور تكون مكفرة ومخرجة من الدين الإسلامي؛ كعدم الاقتناع بالدين، وأنه دين باطل، وأن غيره أحسن منه؛ لأنه حكم بكذا وأمر بكذا ونهى عن كذا ولو لم ينطق بذلك، إذا كان هذا في قلبه فإنه يكفيه في الهلاك أنه داخل في ذلك، وإنما الواجب على العبد أن ينقاد لتعظيم شرع الله، ويمتثل له، ويكون مستسلماً خاضعاً لربه جل وعلا، معظماً لأمره، مجتنباً لنهيه، وأن يحذر أشد الحذر أن يقع في شيء مما يذهب بدينه، ويكون سبباً لهلاكه. وفي هذه القصة مع الآية دليل على أن الجاهل لا يعذر بجهله في كل شيء، وإنما العذر في بعض الأمور، بل يجب عليه أن يتعلم ويعمل، فإن قصر في ذلك فهو الملوم.

استهزاء بعض ضعاف الإيمان بالمؤمنين في غزوة تبوك

استهزاء بعض ضعاف الإيمان بالمؤمنين في غزوة تبوك قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: (باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول) أي: فقد كفر. قوله: وقول الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة:65]. قال العماد ابن كثير رحمه الله في تفسيره: قال أبو معشر المدني عن محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا: قال رجل من المنافقين: ما أرى مثل قرائنا هؤلاء إلا أرغبنا بطوناً، وأكذبنا ألسنة، وأجبننا عند اللقاء، فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله! إنما كنا نخوض ونلعب، فقال: ({أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة:65 - 66])، وإن رجليه ليسفعان الحجارة، وما يلتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متعلق بنسعة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال عبد الله بن وهب: أخبرني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (قال رجل في غزوة تبوك في مجلس يوماً: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء، فقال رجل في المجلس: كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: وأنا رأيته متعلقاً بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم تنكبه الحجارة، وهو يقول: يا رسول الله! إنما كنا نخوض ونلعب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66]) وقد رواه الليث عن هشام بن سعد بنحو من هذا. وقال ابن إسحاق: وقد كان جماعة من المنافقين منهم وديعة بن ثابت أخو بني أمية بن زيد بن عمرو بن عوف ورجل من أشجع حليف لبني سلمة يقال له: مخشي بن حمير، يشيرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منطلق إلى تبوك، فقال بعضهم لبعض: أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضاً؟! والله لكأنا بكم غداً مقرنين في الحبال؛ إرجافاً وترهيباً للمؤمنين، فقال مخشي بن حمير: والله لوددت أني أقاضى على أن يضرب كل رجل منا مائة جلدة، وأنا نتفلت أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -فيما بلغني- لـ عمار بن ياسر: (أدرك القوم فإنهم قد احترقوا، فسلهم عما قالوا، فإن أنكروا فقل: بلى، قلتم كذا وكذا، فانطلق إليهم عمار فقال ذلك لهم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذرون إليه، فقال وديعة بن ثابت ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف على راحلته فجعل يقول وهو آخذ بحقبها: يا رسول الله! إنما كنا نخوض ونلعب، فقال مخشي بن حمير: يا رسول الله! قعد بي اسمي واسم أبي)، فكأن الذي عناه -أي: بقوله تعالى: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً} [التوبة:66]- في هذه الآية: مخشي بن حمير، فسمي عبد الرحمن، وسأل الله أن يقتل شهيداً لا يعلم بمكانه، فقتل يوم اليمامة فلم يوجد له أثر. وقال عكرمة في تفسير هذه الآية: كان رجل ممن -إن شاء الله- عفا عنه يقول: اللهم إني أسمع آيةً أنا أعنى بها تقشعر منها الجلود، ويجب منها القلب، اللهم فاجعل وفاتي قتلاً في سبيلك، لا يقول أحد: أنا غسلت، أنا كفنت، أنا دفنت، قال: فأصيب يوم اليمامة، فما أحد من المسلمين إلا وقد وجد غيره].

التوفيق بين الروايات والأحاديث الواردة في المستهزئين

التوفيق بين الروايات والأحاديث الواردة في المستهزئين هذه الروايات فيها شيء من التخالف في الظاهر، ولكن في الواقع يمكن التوفيق بينها. رواية ابن عمر: أن عوف بن مالك سمع هذه المقالة فجاء وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم. ورواية أخرى: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل عمار بن ياسر إليهم وقال: أدرك القوم فقد احترقوا، فإن أنكروا فقل: بلى، قلتم كذا وكذا)، يجوز أن يكون هذا وهذا، أي: أن عوف بن مالك سمع هذه المقالة فأنكرها، وسعى بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا نصحية لله جل وعلا ولرسوله، وليس ذلك من باب النميمة، وهناك فرق بين النصحية والنميمية، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قبل إتيان عوف أرسل عمار بن ياسر؛ لأنه جاءه خبر السماء أسرع من مجيء عوف بن مالك، ويكون الجميع وقع. ثم المقالة التي اعتذروا منها كلهم يقولون: إننا ما قصدنا الحقيقة، وإنما قصدنا الترويح عن أنفسنا، وأن نقطع بهذا الكلام وعثاء الطريق؛ لأن الإنسان إذا تروحت نفسه تنشط وذهب الكلال والتعب، وهم يقولون: هذا الذي قصدناه، وما قصدنا الحقيقة، ولكنهم أخطئوا؛ لأن هذا محله التعظيم، وليس محله الهزل واللعب، ولذلك قيل لهم: {قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:66]، والآية صريحة واضحة في أنهم كانوا مؤمنين قبل هذه المقالة، وأن الكفر وقع لهم بسبب هذا القول. قد يقال: لماذا ما أقام عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم الحد؛ لأن أمرهم ظهر وهو كفر، ومن كفر بعد إيمانه يقتل، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه)، وقال: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والمبدل لدينه المفارق للجماعة)، فالذي يبدل دينه يكفر بعد إيمانه، ويجب أن يقتل إلا أن يتوب؟ وأجيب بأنهم -كما ذكرنا- اعتذروا وقالوا: ما قصدنا الحقيقة، وأظهروا التوبة والندم، فإذا كانوا كذلك فيقال لهم: هذا ليس محله، ولكن عذرهم غير مقبول، ويوكل أمرهم إلى أن يظهر من أفعالهم هل كانوا تائبين أم أنهم مصرون على الكفر؟ هذا أمر.

سبب عدم إقامة النبي صلى الله عليه وسلم الحد على المستهزئين

سبب عدم إقامة النبي صلى الله عليه وسلم الحد على المستهزئين الأمر الثاني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم امتنع من قتل من يجب عليه القتل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لئلا يتحدث الناس أن محمداً صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه)، فيكون هذا منفراً للذين لا يعرفون الحقيقة، فامتنع من تنفيذ الحكم من أجل ذلك. وهذا الذي أخذ منه العلماء: أن الشريعة الإسلامية جاءت بتنمية المصالح وتكثيرها، وتقليل المفاسد وحصرها مهما أمكن، وإذا صار الأمر دائراً بين مفسدة ومصلحة فينظر إن كانت المفسدة أغلب فإنه يترك، وهذا من هذا القبيل، ولا يكون فيه دليل على أن المستهزئ والساخر أو المكذب لدينه لا يقتل؛ لأن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم لا يتناقض، وكذلك كلام الله جل وعلا. [قوله: (لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) أي: بهذا المقال الذي استهزأتم به. (إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ) أي: مخشي بن حمير. (نُعَذِّبْ طَائِفَةً) أي: لا يعفى عن جميعكم، ولابد من عذاب بعضكم. (بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) أي: مجرمين بهذه المقالة الفاجرة الخاطئة. انتهى].

بيان أن المستهزئين كانوا مؤمنين ثم كفروا

بيان أن المستهزئين كانوا مؤمنين ثم كفروا قال الشارح رحمه الله: [قال شيخ الإسلام رحمه الله: وقد أمره الله تعالى أن يقول لهم: {قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:66]، وقول من يقول: إنهم كفروا بعد إيمانهم بلسانهم مع كفرهم أولاً بقلوبهم لا يصح؛ لأن الإيمان باللسان مع كفر القلب قد قارنه الكفر، فلا يقال: قد كفرتم بعد إيمانكم؛ لأنهم لم يزالوا كافرين في نفس الأمر، ونريد أنكم أظهرتم الكفر بعد إظهاركم الإيمان، فهم لم يظهروا للناس إلا لخواصهم، وهم مع خواصهم ما زالوا كذلك، ولا يدل اللفظ على أنهم ما زالوا منافقين]. أي: أن حديثهم هذا الذي وقع بعضهم مع بعض ليس مع غيرهم، فلا يقال: إنهم أظهروه للناس؛ لأن هذا شأنهم دائماً في جميع حالاتهم، وإن كان حضرهم من حضرهم كـ عوف بن مالك وأنكر عليهم، وإنما كانوا يتحدثون بعضهم مع بعض. قال الشارح رحمه الله: [وقال رحمه الله في موضع آخر: فقد أخبر أنهم كفروا بعد إيمانهم، مع قولهم: إنما تكلمنا بالكفر من غير اعتقاد له، بل إنما كنا نخوض ونلعب، وبين أن الاستهزاء بآيات الله كفر، ولا يكون هذا إلا ممن شرح صدراً بهذا الكلام، ولو كان الإيمان في قلبه لمنعه أن يتكلم بهذا الكلام، والقرآن يبين أن إيمان القلب يستلزم العمل الظاهر بحسبه، كقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:47 - 51]، فنفى الإيمان عمن تولى عن طاعة الرسول، وأخبر أن المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم سمعوا وأطاعوا، فبين أن هذا من لوازم الإيمان. انتهى]. قال الشارح رحمه الله: [وفيه بيان أن الإنسان قد يكفر بكلمة يتكلم بها، أو عمل يعمل به، وأشدها خطراً إرادات القلوب، فهي كالبحر الذي لا ساحل له، ويفيد الخوف من النفاق الأكبر، فإن الله تعالى أثبت لهؤلاء إيماناً قبل أن يقولوا ما قالوه، كما قال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه. نسأل الله السلامة والعفو والعافية في الدنيا والآخرة].

أنواع النفاق وبيان أخطرها

أنواع النفاق وبيان أخطرها النفاق الأكبر خلاف النفاق الأصغر؛ لأن النفاق منه ما هو أكبر ومنه ما هو أصغر، فالنفاق الأصغر يكون في المسلمين وهو كثير جداً، ومثاله: الكذب في الحديث، والخيانة في الأمانة، والفجور في الخصومة، والغدر في المعاهدة، إذا كان الإنسان عنده شيء من ذلك فعنده نفاق، ولكن جميع هذه الخصال الخمس لا تجتمع إلا في منافق، تجتمع كلها في منافق نفاقاً أكبر. أما النفاق الأكبر: فهو بغض الحق وكراهيته، كبغض الرسول صلى الله عليه وسلم، أو بغض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، أو بغض بعضه، أو كأن يود ويفرح ألا ينتصر دين الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يظهر، أو يود أن دين الكفار يظهر وينتصر على الإسلام، فمن كان عنده واحدة من هذه الأمور فهو من المنافقين الذين يخبر الله جل وعلا عنهم بأنهم في الدرك الأسفل من النار تحت الكفار، وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم وكان مع المسلمين. وهذا النفاق يكون في القلوب، فهو من أعمال القلوب لا يظهر، ولهذا كان الصالحون المتقون يخافون أن يكون عندهم شيء من ذلك، حتى إن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسأل حذيفة بن اليمان الذي قيل له: أنت صاحب السر، يقول: أسألك بالله هل سماني لك رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين؟ فيقول: لا، ولا أزكي بعدك أحداً، يعني: لو سألني أحد أن أخبره أنه سماه أو ما سماه لما أعلمته. وحذيفة رضي الله عنه أعلمه الرسول صلى الله عليه وسلم ببعض أسماء المنافقين، وذلك عند رجوعه من غزوة تبوك، حين مر بعقبة في جبل، ومسلكها كان صعباً وضيقاً، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إني سالك هذا الطريق، أي: لا يذهب معه أحد، فانتهز بعض المنافقين الفرصة وقالوا: الآن نتمكن من قتله، فذهبوا وكمنوا في أثناء الطريق في وسط الجبل، يريدون أن ينفروا ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم به، فيسقط في هذا الجبل، فأمر حذيفة أن يقود ناقته، وأمر عماراً أن يسوق به وهو راكب، وفي أثناء الطريق في العقبة خرجوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقيهم حذيفة وصار يضرب وجوه ركائبهم حتى نفروا وهربوا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل عرفت القوم؟ قال: لا، القوم متلثمون، ولكني عرفت راحلة فلان وفلان، فأخبره الرسول صلى الله عليه وسلم بأسمائهم قال: فلان منافق، وفلان منافق، وفلان منافق، فعدد أسماءهم وقال له: لا تخبر أحداً). والله جل وعلا أنزل في هذه الغزوة سورة التوبة، وفيها كثير من الآيات تبين أوصافهم، ولهذا يسميها الصحابة: الفاضحة؛ لأنها فضحتهم، يقولون: لم يزل الله جل وعلا يقول: ومنهم ومنهم حتى تبين بأوصافهم لهم كثيراً منهم، وعدم ذكرهم بأسمائهم سببه تأليف الناس؛ لأن هؤلاء كانوا من قبائل الأنصار، غير أنهم لم يدخل الإيمان في قلوبهم، وقد تقوى الإيمان وعظم واعتز، فلم يجدوا بداً من المصانعة، وقلوبهم منطوية على التكذيب. وبعض العلماء يقول: إنهم انتهوا في الأخير؛ لأن الله جل وعلا يقول: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:60]، فالله جل وعلا لم يغره بهم، فدل على أنهم انتهوا عن أفعالهم في آخر الأمر، وبقي قليل منهم، ولكن الأوصاف التي ذكرها الله جل وعلا فيهم كثيرة، وهي تبينهم في كل وقت، وقد ذكرها في سورة التوبة وكذلك في سورة المنافقون، وقد ذكر من أوصافهم أشياء عجيبة، بحيث أنه ذكر أنهم لهم أجسام، ولهم مناظر حسنة، ولهم فصاحة وبلاغة في كلامهم وخطابهم؛ لأنه جل وعلا يقول: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} [المنافقون:4] تعجبك أجسامهم: في مناظرهم وملابسهم، {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون:4] يعني: لفصاحتهم وبلاغتهم، ويقول: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة:79]، ويقول: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة:49]. والمقصود: أن تسمية حذيفة: صاحب السر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أسر إليه بعض أسماء المنافقين وليس كلهم، ولهذا كان عمر رضي الله عنه إذا مات الرجل ينظر إلى حذيفة هل يصلي عليه أو لا؟ فإن صلى عليه صلى عليه. وكون الصحابة رضوان الله عليهم يخافون من النفاق؛ لأن القلب قد يعمل أعمالاً يخشى أن يكون خالف فيها الحق، أو كره الحق فيها، فيخشى أن يكون منافقاً، ولهذا كان الحسن البصري رحمه الله يقول: والله ما خافه إلا مؤمن -يعني: ما خاف النفاق إلا مؤمن- ولا أمنه إلا منافق. يعني: الذي يأمن النفاق على نفسه يكون منافقاً، أما الذي يخاف أن يكون منافقاً فهو المؤمن. ومن ذلك قول ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف على نفسه أن يكون منافقاً. ومن النفاق أن تحب إنساناً على شيء من الباطل فهذا نفاق، أو تكره إنساناً على شيء من الحق فهذا نفاق. فالنفاق فيه كبير وفيه صغير، فيه مكفر وفيه مفسق، فيه ما يكون كفراً وخروجاً من الدين، وفيه ما يكون فسقاً وكبيرة من كبائر الذنوب.

مسائل باب: من هزل بشيء فيه ذكر الله

مسائل باب: من هزل بشيء فيه ذكر الله

هزل يخرج من الملة

هزل يخرج من الملة قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل: الأولى: وهي العظيمة: أن من هزل بهذا أنه كافر]. يعني: من هزل بشيء فيه ذكر الله أو هزل بالقرآن أو بشيء من القرآن. والمقصود بالذي فيه ذكر الله: إما بأسمائه أو صفاته، أو آياته الكونية الخلقية، أو دينه وشرعه الذي شرعه كأمره ونهيه. وإذا كان الهزل كفراً فكيف الذي يسب الله أو يسب الرسول صلى الله عليه وسلم أو يسب القرآن أو يسب الدين؟ هذا أعظم من السخرية، ولهذا إذا صدر ذلك من إنسان إن كان هذا بالنسبة للرسول فإنه يجب أن يقتل على كل حال، سواء تاب أو لم يتب، حتى وإن تاب وأظهر الندم فيجب أن يقتل، ولا تقبل توبته ظاهراً، وإذا قتل إن كان تائباً ومظهراً التوبة فيصلى عليه، ويدفن مع المسلمين. أما إن كان سباً للدين أو لله جل وعلا فإنه إذا تاب تقبل توبته، وليس معنى ذلك أن مسبة الرب جل وعلا أسهل من مسبة الرسول، بل هي أعظم، ولكن لأن الله جل وعلا أخبر أنه قبل توبة التائبين من الذين يسخرون ويكفرون، فإذا كان جل وعلا قبل التوبة فليس للخلق اعتراض على ذلك. وأما الرسول صلى الله عليه وسلم فقد كان يأمر بالذين يسخرون منه بأن يقتلوا.

أن هذا تفسير الآية فيمن فعل ذلك كائنا من كان

أن هذا تفسير الآية فيمن فعل ذلك كائناً من كان [المسألة الثانية: أن هذا تفسير الآية فيمن فعل ذلك كائناً من كان]. المقصود: أن الذي يقع منه استهزاء بدين الله أو بشيء من آياته، أو بالرسول صلى الله عليه وسلم، أو بمن يحمل الدين ويقول به ويعمل به، أن حكمه حكم أولئك، هذا معنى تفسيرها؛ لأن الآية لم تنزل في أناس معينين، فإن السبب وإن كان خاصاً، إلا أن اللفظ والحكم عام في الأمة إلى يوم القيامة.

الفرق بين النميمة وبين النصيحة لله ولرسوله

الفرق بين النميمة وبين النصيحة لله ولرسوله [المسألة الثالثة: الفرق بين النميمة وبين النصيحة لله ولرسوله]. المقصود: هو قول عوف بن مالك حين قال: لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب يخبره، نقول: هذه ليست من الغيبة والنميمة، وإنما هذه نصيحة، فالذي يقع في المعصية مرتكباً لها ويعرف أنه قاصد لذلك فيبلغ أمره إلى ولي الأمر؛ حتى يردعه ويمنعه، ويقيم عليه الحد الذي يستحقه، ولا يكون ذلك من باب النميمة وإنما هي نصيحة.

الفرق بين العفو الذي يحبه الله وبين الغلظة على أعداء الله

الفرق بين العفو الذي يحبه الله وبين الغلظة على أعداء الله [المسألة الرابعة: الفرق بين العفو الذي يحبه الله وبين الغلظة على أعداء الله]. وهذا يؤخذ من قوله: إنه رآه متعلقاً بنسعة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: يا رسول الله! والله إنما كنا نخوض ونلعب، نتحدث حديث الركب نقطع به وعثاء السفر، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يلتفت إليه ولا يزيد على قوله: (قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُون) * (لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) يعني: لا يزيد على ما قاله الله له، فلا يلتفت إليه أكثر من ذلك، ومثل هذا لا ينبغي أن يقبل عذره، بل يقابل بالغلظة، وبما يستحقه مما اقترفه من السخرية بآيات الله جل وعلا، أو برسوله صلى الله عليه وسلم، أو بالمؤمنين الذين يعملون بكتاب الله وسنة رسوله، إذا سخر بهم من أجل ذلك.

أن من الاعتذار ما لا ينبغي أن يقبل

أن من الاعتذار ما لا ينبغي أن يقبل [المسألة الخامسة: أن من الاعتذار ما لا ينبغي أن يقبل]. من الأعذار ما لا ينبغي أن يقبل، مثل اعتذار هؤلاء فيما اعتذروا به، وهذه الأعذار لم يقبلها الرسول صلى الله عليه وسلم، وفرق بين من وقع في خطأ غير قاصد، وكان ذلك فيما سبيله الاجتهاد وبين من وقع في خطأ ولو كان غير قاصد، مثل الخوض في آيات الله أو صفاته، أو في صفة الرسول صلى الله عليه وسلم، فرق بين هذا وهذا، فالذي يخطئ مثلاً في أمور اجتهادية هذا يقبل عذره، أما الذي يخطئ في الخوض في آيات الله والسخرية، والاستهزاء بها، وإن كان ما قصد الحقيقة وإنما ليضحك الناس، فمثل هذا لا يجوز أن يقبل عذره.

شرح فتح المجيد [114]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [114] من طبيعة الإنسان إنكار نعمة المنعم سبحانه وتعالى، وإضافة النعمة إلى نفسه، وأنه اكتسبها بجهده وعلمه وذكائه، ولا شك أن هذا كفر بالنعمة وبالمنعم، وهو منقص للتوحيد، والواجب على الإنسان تجاه نعم الله تعالى أن يشكر الله تعالى عليها، وأن يستعملها في طاعته، وأن يضيفها إلى الله تعالى لا إلى نفسه، ومما يبين هذا الأمر بوضوح حديث الثلاثة النفر من بني إسرائيل: الأبرص والأقرع والأعمى.

باب قول الله تعالى: (ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته)

باب قول الله تعالى: (ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته) قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب قول الله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [فصلت:50]. قال مجاهد: هذا بعملي وأنا محقوق به. وقال ابن عباس: يريد من عندي. وقوله: {قَاْلَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78] قال قتادة: على علم مني بوجود المكاسب. وقال آخرون: على علم من الله أني له أهل. وهذا معنى قول مجاهد: أوتيته على شرف].

مقصود الباب وجوب الشكر على النعم

مقصود الباب وجوب الشكر على النعم مقصود الباب: وجوب الشكر على النعم، وأن الذي لا يشكر نعمة الله جل وعلا يكون ناقص التوحيد، فهو لم يأت بالتوحيد الذي يجب عليه، وكذلك إذا وقع في كفران النعمة فإن هذا نوع من كفر الربوبية، وهو منقص للتوحيد وإن لم يكن ذاهباً به بالكلية، وهذا من تفسير شهادة أن لا إله إلا الله. وقوله: (وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ) الضمير هنا في (أذقناه) يرجع إلى جنس الإنسان، فكل إنسان هذه طبيعته، إذا وقع في النعمة والسراء نسي ما حدث له من الكرب والضراء، وربما نسب ما وقع له من النعم إلى نفسه، وقال: هذا أنا حصلته بعملي، أو بسببي، أو بحسن تصرفي، أو بكوني ذكياً أعرف كيف أتصرف، أو بكوني أعرف طرق المكاسب، أو ما أشبه ذلك مما يضيفه الإنسان إلى نفسه، فإن هذا كله من كفر النعم. والواجب على العبد إذا وقعت له نعمة من النعم، سواء كانت في بدنه أو في ماله أو في أولاده أو نعمة عامة، فيجب أن يضيفها إلى الله، وأن يشكره عليها، وأن يعلم أنه ليس له في نفسه قوة بأن يحصل هذه النعمة لولا أن الله جل وعلا تفضل بها عليه، وإن كان لها أسباب فإن الله هو الذي يخلق الأسباب ويهيئها، ولو شاء لعطل الأسباب، ولو شاء لم تأت النعم مع وجود الأسباب، ولهذا يذكر الله جل وعلا ذلك كثيراً، كما قال جل وعلا: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} [الواقعة:63 - 65] أي: يكون يابساً ليس فيه أي منفعة، ولكنها نعم الله جل وعلا. وكذلك لما ذكر الماء الذي نشرب أخبرنا أنه هو الذي أنزله من المزن -من السحاب- وأنه لو شاء لجعله أجاجاً، يعني: مالحاً لا نستطيع شربه، وكذلك ما يتغذى به الإنسان، الشيء الذي يدخله في فمه لو شاء الله جل وعلا لم يأكله، ولم ينتفع به، ولو شاء لوقف في مكانه ولم يتفرق، فكل نعمة تصيب الإنسان يجب أن يعلم أولاً من قلبه أنها من الله، ثم يعمل جوارحه على شكر الله جل وعلا عليها، وأن يضيفها إلى ربه جل وعلا، وأن لا يضيف ذلك إلى نفسه، فإن إضافة النعم إلى النفس من شأن الكفار الذين ذكرهم الله جل وعلا، كما في هذه الآية وغيرها، الذين يكفرون بالله وبنعمه، ويضيفون ما يحصل لهم من النعم إلى صنعتهم، وإلى قوتهم، وإلى حسن تصرفهم، وينسون ربهم جل وعلا. وقد جرت سنة الله جل وعلا في عباده أن الإنسان إذا اعترف بنعمة الله عليه وشكره عليها، وأثنى بها عليه، واستعملها في طاعته أن الله يزيده نعمةً على نعمة، أما إذا صرفها في المعصية، أو نسي المنعم بها، أو استعملها في المعاصي، وتقوى بها على معصية الله جل وعلا، وإن استمر على ذلك وقتاً فإن الوقت قليل وقصير، ولو كان عمر الإنسان كله فإن الله جل وعلا يعقبه سوءاً في حاله عاجلاً، وعذاباً في الآجل. ومقصود الباب بذكر الآية: وجوب إضافة النعم إلى مسديها، ووجوب شكره عليها بالعمل بها في الطاعة، ومن لم يفعل ذلك لا يخلو: إما أن يكون جاحداً بالكلية، ومستعملاً النعمة في المعصية والكفر، فيكون خارجاً من الدين الإسلامي، أو يكون أقل من ذلك؛ لأنه لم يؤد شكر النعمة، ولم يستعملها في طاعة الله على ما ينبغي، وإن استعملها في شيء منها أو أنه يضيف منها في ذلك شيئاً إلى نفسه، فإنه يكون ناقص التوحيد، ويكون واجباً عليه أن يتوب من ذلك، ويشكر ربه جل وعلا ويعبده ويخضع له.

معنى قول الله تعالى: (ولئن أذقناه رحمة منا)

معنى قول الله تعالى: (ولئن أذقناه رحمة منا) وقوله: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا} [فصلت:50] من المعلوم أن إذاقة الشيء يقصد بها الطعم الذي يذوقه، مثل الذي يأكل الطعام ويتذوقه، وذلك أن النعم مآلها إلى هذا، وقد يكون ذوقها ذوقاً معنوياً، ويكون أعظم لذةً من الحقيقي، وكل النعم مصدرها من الله جل وعلا، فعلى هذا وجوب شكر نعم الله جل وعلا، وقبل ذلك يجب على الإنسان أن يعلم أن كل ما وقع له من خير فهو من الله، أما إذا وقع له ضد ذلك فسببه معصيته، كما قال جل وعلا: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22]، وقوله: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]، وقال جل وعلا: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79] يعني: السيئة تقابل الحسنة، والحسنة المقصود بها النعم التي ينعم الله جل وعلا بها على الإنسان. وقوله: (من نفسك) يعني: نفسك هي سبب عملك، ثم كون الإنسان يدعي بأنه محظوظ ولهذا حصل له كذا وكذا، أو أنه كريم عند الله؛ ولهذا حصل له كذا وكذا، هذه دعوى على الله، وربما يكون الأمر بالعكس؛ لأن الله جل وعلا يبتلي بالنعم الذي يحبه والذي لا يحبه، الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولكنها ابتلاء واختبار؛ لينظر من يشكر ومن يكفر، فمن شكر زيد نعمة، ومن كفر فإنه لا يعجز الله، ويعاقبه الله جل وعلا، ويسلب نعمته؛ لأن الله جل وعلا يقول: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7]. والأقوال التي ذكرها السلف متقاربة، قوله: أنا حقيق به، أو أنا حصلته بكسبي وبعملي، أي: بحسن تصرفي، أو بكوني علمت كيفية طرق المكاسب، أو بقوله: هذا أعطاني الله جل وعلا لأنني محظوظ عنده، أو قوله: أنا مستحق لذلك، أو قوله: أنا شريف، أو قوله: أنا عند الله جل وعلا محبوب أو كريم فأعطاني ذلك كل هذه من أعمال وأقوال الكفار التي لا يجوز للمسلم أن يقول شيئاً منها، ويجب عليه أن يجعل النعم مستعملةً في طاعة الله، ويعترف بأنها من عند الله جل وعلا، حتى يكون عبداً لله. ومعلوم أن معنى الرب جل وعلا: رب العالمين، أي: الذي يربيهم بنعمه، ويقوم على مصالحهم، فهو ربهم الذي يربيهم بما يصلح حياتهم، وهذه التربية قد يعترف بها من يعترف من المؤمنين، ويشكر الله عليها، وقد لا يعترف بها أكثر الناس، فيكون ذلك وبالاً عليهم، ويكونون من أهل العذاب، نسأل الله العافية. قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: باب قول الله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ} [فصلت:50] الآية. ذكر المصنف رحمه الله تعالى عن ابن عباس وغيره من المفسرين في معنى هذه الآية وما بعدها ما يكفي في المعنى ويشفي. قوله: قال مجاهد: هذا بعملي وأنا محقوق به، وقال ابن عباس: يريد من عندي، وقوله: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78] قال قتادة: على علم مني بوجوه المكاسب]. قول مجاهد وقول ابن عباس: على علم مني بوجوه المكاسب، وعلى علم عندي يعني: أني أعلم ذلك، أعلم كيف أكتسب، أعلم كيف أتصرف، وهو في الواقع مسكين! إذ لو أن الله منعه نعمته لما استطاع أن يسقي نفسه شربة ماء. قال الشارح رحمه الله: [وقال آخرون: على علم من الله أني له أهل، وهذا معنى قول مجاهد: أوتيته على شرف. يعني: أن الله جل وعلا شرفني على كثير من الناس فأعطاني ذلك؛ لأني شريف أو كريم عنده. وليس فيما ذكروه اختلاف وإنما هي أفراد المعنى].

فتنة السراء والضراء وبيان أيهما أعظم

فتنة السراء والضراء وبيان أيهما أعظم قال الشارح رحمه الله: [قال ابن كثير رحمه الله في معنى قول الله تعالى: {ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} [الزمر:49]]. (خولناه) يعني: أعطيناه وخصصناه، فكل نعمة تقع للإنسان فهي من الله، وأكبر نعم الله وأعظمها على العبد أن جعله مسلماً، فهذه النعمة أعظم النعم على الإطلاق. أما كونه يكون صحيحاً معافىً واجد المال والمتاع والمسكن والزوجة وما أشبه ذلك، فهذه تزول بسرعة ولا تبقى، ولكن نعمة الإسلام هي التي تستمر معه إلى أن يحصل له بسببها الحياة السرمدية، والنعيم عند الله جل وعلا، ولهذا لا يستطيع الإنسان أن يقوم بشكر هذه النعمة، ولا غيرها من النعم، وإنما إذا اعترف لربه جل وعلا بالتقصير، وخضع له، ونسب له الفضل، واستعمل ذلك في طاعته، فإن الله كريم يقبل اليسير ويعفو عن الكثير. [يخبر أن الإنسان في حال الضر يضرع إلى الله تعالى، وينيب إليه ويدعوه، ثم إذا خوله نعمةً منه طغى وبغى وقال: (إنما أوتيته على علم)، أي: لما يعلم الله من استحقاقي له، ولولا أني عند الله حظيظ لما خولني هذا. قال الله عز وجل: (بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ) أي: ليس الأمر كما زعم، بل إنما أنعمنا عليه بهذه النعمة لنختبره فيما أنعمنا عليه]. المقصود بالفتنة هنا: الاختبار، أي: يعطى النعم ليظهر شكره من كفره، وإلا فالله علام الغيوب لا يخفى عليه شيء، يعلم أن هذا المخلوق سوف يكفر وهذا سوف يشكر، لا يخفى قبل وجود ذلك، ولكن من فضله وكرمه وتمام عدله أنه لا يؤاخذ بمجرد علمه، وإنما يؤاخذ بالعمل الظاهر الذي يبرز ويظهر، ويكتب في الصحف، وتشهد عليه الملائكة وتعمله الجوارح، هذه الفتنة فتنة النعم. وفتنة النعمة أعظم من فتنة الضراء؛ لأن الإنسان كما قال الله جل وعلا: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7]، إذا وجد الغنى تكبر وطغى، أي: ارتفع على غيره، فالطغيان المقصود به: الارتفاع والعلو على أبناء جنسه، فيتعالى عليهم بما أعطي من النعم، وهذه طبيعة الإنسان إلا من مَنّ الله جل وعلا عليه بالهداية. وأما الضراء فغالباً أنه يستكين، ويذل ويخضع، ويعرف قدره، فيكون هذا طريقاً لمعرفة الله جل وعلا، فلهذا صارت فتنة السراء أشد من فتنة الضراء، وفتنة الضراء قد يكفر بعض الناس بسببها ويتسخط أمر الله وقدره ويقول: أنا ما أستحق هذا، أنا مظلوم، يعني: أن الله ظلمه، نسأل الله العافية! فإذا وصل إلى هذا الحد فمعنى ذلك أنه كفر بالله جل وعلا، ورأى أن الله يظلم عبده، وهو يزكي نفسه على ربه، ويرى أنه مطيع وقائم بالواجب، وهذه نهاية الكفر نسأل الله العافية. فالمقصود: أن الابتلاء لابد منه، إما أن يكون بهذا أو بهذا، حتى يتبين عمل الإنسان ظاهراً، يتبين لكل من يرى، يتبين للملائكة، ويتبين له هو، ويتبين لمن يكون مشاهداً له، فهذا الذي يؤاخذ عليه، فكونه جل وعلا يبتليهم بهذا ليظهر ذلك الذي هو كامن في نفوسهم، وقد علمه الله جل وعلا قبل وجودهم، وكتبه، ولكنه لا يقع إلا بعملهم وبتصرفهم.

عاقبة التكبر على الله وعلى الخلق بالنعم

عاقبة التكبر على الله وعلى الخلق بالنعم [قال الله عز وجل: {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} [الزمر:49] أي: ليس الأمر كما زعم، بل إنما أنعمنا عليه بهذه النعمة لنختبره فيما أنعمنا عليه أيطيع أم يعصي؟ مع علمنا المتقدم بذلك، (بل هي فتنة) أي: اختبار، (ولكن أكثرهم لا يعلمون)، فلهذا يقولون ما يقولون، ويدعون ما يدعون. {قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الزمر:50] أي: هذه المقالة، وزعم هذا الزعم، وادعى هذه الدعوى كثير ممن سلف من الأمم. {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الزمر:50] أي: فما صح قولهم، ولا نفعهم جمعهم، وما كانوا يكسبون، كما قال تعالى مخبراً عن قارون: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص:76 - 78]. وقال تعالى: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ:35] انتهى]. القصص التي يذكرها الله جل وعلا لنا في القرآن مثل قصة قارون وعاد وفرعون وبني إسرائيل، وكذلك القصص التي يذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في الحديث الذي ذكره المصنف، المقصود بها: الاعتبار، فنحن المقصودون منها، وليس معنى ذلك أنه مجرد أخبار وقعت فمضت، فيأخذها الإنسان من باب التسلي أو التفكر، وكونه يذكر هذا تاريخاً مضى لأناس مضوا، بل المقصود نحن أن نعتبر نحن بذلك، وألا نقع في مثل ما وقعوا فيه، حتى لا يصيبنا ما أصابهم، هذا هو مغزى القصص وهو المقصود منها. وفي قصة قارون الذي جمع الأموال وكنزها، ثم نصحه من نصحه من المؤمنين وقالوا: لا تبغ الفساد بأموالك هذه، ولا تنس نصيبك من الدنيا، ولكن أحسن كما أحسن الله إليك، فنصحوه النصيحة التي لو أخذ بها لاجتمعت له نعمة الدنيا والآخرة، ولكنه تكبر وقال: إنما أوتيته على علم عندي، ومعنى (علم عندي) مثل ما قال قتادة: محظوظ عند الله، علم الله أني له أهل وأني أفضل منكم، فزعم أنه يستحق ذلك وجحد نعمة الله، فأخذه الله وخسف به وبداره الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، نسأل الله العافية. وأخبر جل وعلا أن من قبله من القرون من هو أكثر منه جمعاً وأقوى منه، وأخذوا بكفرهم وظلمهم، وعادة الإنسان الكافر أنه لا يعتبر بما مضى، ولا بما يجري حوله، إذا كثرت نعمه وكثر ما لديه فإن ذلك يدعوه إلى التكبر والبغي.

شرح حديث الأبرص والأقرع والأعمى

شرح حديث الأبرص والأقرع والأعمى قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن ثلاثة من بني إسرائيل: أبرص وأقرع وأعمى، فأراد الله أن يبتليهم، فبعث إليهم ملكا، ً فأتى الأبرص فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: لون حسن، وجلد حسن، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به، قال: فمسحه؛ فذهب عنه قذره، فأعطي لوناً، وجلداً حسناً، قال: أي المال أحب إليك؟ قال: الإبل أو البقر -شك إسحاق - فأعطي ناقة عشراء، فقال: بارك الله لك فيها. قال: فأتى الأقرع فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: شعر حسن، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به، فمسحه فذهب عنه، وأعطي شعراً حسناً، فقال: أي المال أحب إليك؟ قال: البقر أو الإبل، فأعطي بقرة حاملاً، فقال: بارك الله لك فيها، فأتى الأعمى فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: أن يرد الله علي بصري؛ فأبصر به الناس، فمسحه فرد الله إليه بصره، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الغنم، فأعطي شاة والداً، فأنتج هذان، وولد هذا، فكان لهذا وادٍ من الإبل، ولهذا وادٍ من البقر، ولهذا وادٍ من الغنم، قال: ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته فقال: رجل مسكين وابن سبيل، قد انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال بعيراً أتبلغ به في سفري، فقال: الحقوق كثيرة! فقال له: كأني أعرفك، ألم تكن أبرصاً يقذرك الناس، فقيراً فأعطاك الله عز وجل المال؟ فقال: إنما ورثت هذا المال كابراً عن كابر، فقال: إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت. قال: وأتى الأقرع في صورته وهيئته فقال له مثل ما قال لهذا، ورد عليه مثل ما رد عليه هذا، فقال: إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت، قال: وأتى الأعمى في صورته فقال: رجل مسكين، وابن سبيل، قد انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري، فقال: قد كنت أعمى، فرد الله إلي بصري، فخذ ما شئت، ودع ما شئت، فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله، فقال: أمسك مالك، فإنما ابتليتم، فقد رضي الله عنك، وسخط عن صاحبيك) أخرجاه]. هذا الحديث في الصحيحين، وقوله: (إن ثلاثة من بني إسرائيل) إسرائيل: هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل، وبنوه هم الذين ذهبوا إلى مصر لطلب الطعام، وترددوا بعدما عملوا ما عملوا بأخيهم يوسف عليه السلام، وحصل ما حصل، ومكنه الله جل وعلا، ثم في النهاية استجلبهم إلى مصر هم وأهليهم، فكثروا وصاروا أمة كبيرة، فسلط عليهم فرعون في تقتيل أبنائهم ذكورهم، وإبقاء نسائهم للخدمة، وسبب ذلك كما قيل: إنه قيل له: إن في العلم الذي ورث عن إبراهيم أن زوال ملكك على يد رجل من بني إسرائيل، فصار يذبح كل مولود ولد منهم، والقصة معروفة ذكرها الله جل وعلا في القرآن. والمقصود: أن إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق، فهو نبي كريم من أنبياء الله جل وعلا، واليهود هم من ذريته، ولكن اليهود الآن من أكفر عباد الله، ولا يجوز أن نسميهم بني إسرائيل، وإنما نقول: دولة اليهود مثلاً، ولا نقول: دولة إسرائيل؛ لأن إسرائيل نبي كريم من الأنبياء، يجب أن ينزه عن هذا، فيجب أن نقول لهم: اليهود دولة اليهود وهم يفرحون عندما تسمى دولتهم بإسرائيل، ثم كأنه كان فيهم العجائب، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يحدث عنهم كثيراً، والأحاديث المروية عن الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم كثيرة، وقد ذكر البخاري رحمه الله في صحيحه كتاباً مستقلاً سماه: (حديث بني إسرائيل)، فذكر جملاً منها، وكذلك غيره من العلماء، وأحاديث بني إسرائيل التي تذكر عنهم قسمها العلماء إلى أقسام ثلاثة: قسم منها ثبت، مثل الذي يذكره الله جل وعلا في كتابه، والذي يذكره الرسول صلى الله عليه وسلم ويصح عنه، ومثل هذا لا إشكال فيه فيصدق ويؤمن به، وهذا الذي اختلف أهل الأصول هل هو شرع لنا أم لا؟ أي: شرع من قبلنا شرع لنا أم أنه ليس شرعاً لنا؟ والصواب أنه إذا كان أقر من شرعنا فهو شرع لنا، أما إذا لم يقر فليس شرعاً لنا، ولكن الكلام في الشيء الذي سكت عنه. القسم الثاني: ما جاء في كتاب الله أو في أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم ما يكذبه ويبطله، فهذا يجب أن نكذبه، مثل دعوى اليهود بأن سليمان ملك ساحر، أو أن لوطاً عليه السلام ضاجع بنتاً من بناته فحملت منه، وغير ذلك من الأمور المنكرة التي ينسبونها إلى الأنبياء وهي كذب صريح، القرآن يبين كذب ذلك ويوضحه، وهذا كثير، وقد يذكره بعض المفسرين في تفاسيرهم، وهو من الخطأ الذي يجب أن ينزه تفسير كتاب الله عنه. القسم الثالث: ما لم يأت في كتاب الله ولا عن الرسول صلى الله عليه وسلم لا تصديقه ولا تكذيبه، أي: مسكوت عنه، فمثل هذا الحكم فيه أن يقول الإنسان: آمنا بما أنزل الله علينا وعلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وسائر الأنبياء، أي: أنه لا يكذب ولا يصدق، يؤمن بكل ما أنزله الله إجمالاً، أما هذا بعينه فيتوقف فيه، إذا كان مما أنزله الله فنحن نؤمن به، وإذا لم يكن فهو لا يضر الإنسان كونه تردد فيه. وهؤلاء الثلاثة النفر جاء في صحيح البخاري ثلاث روايات: أحدها: (أراد الله أن يبتليهم)، والأخرى: (بدا لله أن يبتليهم)، وقد اغتر بهذه الكلمة بعض الذين كتبوا من المعاصرين كلاماً سيئاً في هذا وقال: إن هذا خطأ، وإن صحيح البخاري فيه أخطاء في العقيدة، فينبغي للإنسان أن يكون متنبهاً، وهذا من قلة معرفة اللغة؛ لأن (بدا) تأتي بمعنى: أراد، ومعلوم أن الرواة قد يعبر بعضهم بالمعنى ولو لم يكن هذا تعبير رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه عرف مراد الرسول صلى الله عليه وسلم فعبر به، وهذا كثير جداً، فإذا جاء حديث بلفظين مثلاً أو ثلاثة ألفاظ فأحدها يفسر الآخر، إذا كان فيها شيء غريب يرجع إلى الشيء الواضح، فيكون هذا هو المعنى. ومن المعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفصح الناس، وهو صلوات الله وسلامه عليه أقدرهم على البيان والبلاغ، وهو كذلك أنصح الخلق للخلق، وهو كذلك أغير الخلق على الله جل وعلا، فلا يجوز أن يأتي من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء باطل؛ لأن هذا الذي قال هذا القول بأن (بدأ) من الابتداء، وأنه يقتضي قبل ذلك أنه لم يكن عالماً، فمعلوم أن هذا ينافي صفات الله جل وعلا، ولكن ليس هذا المراد في قوله: (بدأ)، وإنما المراد به مثل ما في الروايات الأخرى: (أراد الله أن يبتليهم)، والإرادة سبق الكلام عليها، والابتلاء هنا هو الاختبار، أي: أن يختبرهم بحالهم، وهؤلاء الثلاثة: أبرص، وأقرع، وأعمى، فهم أهل أمراض وعاهات معروفة في الناس. أما البرص: فهو من الأمراض التي تغير لون الجلد، وتجعله مكروه النظر إليه، وقد كان ولا يزال في الغالب مرضاً إلى الآن لم يستطع الأطباء أن يصلوا إلى دواء له، وقد يشفى الإنسان من هذا كما هو معروف، ولكن الغالب أنه يبقى، وإنما كثير من الأطباء لا يستطيع أن يتوصل إلا إلى إيقافه فقط، يوقف بحيث لا يزداد؛ لأن العادة أنه يزيد حتى يشمل الجلد كله، ويصبح جلد الإنسان كله بهذا اللون، ولكن يمكن أن يشفى الإنسان، وقد شفي خلق من هذا المرض، وقد جعل الله جل وعلا الشفاء منه آيةً لعيسى عليه السلام، إذا مسح بيده الأبرص شفي وزال برصه. أما القرع: فهو مرض وقروح تكون في الرأس يتساقط بسببها الشعر، ثم يحدث الصلع، وقد تكون له رائحة كريهة ويتقذر منه من قارب هذا المريض. أما العماء: فهو معروف، كونه فقد بصره، وأصبح لا يبصر شيئاً. فهؤلاء بعضهم قريب من بعض، فأرسل الله جل وعليه إليهم ملكاً، وهذا الملك جاءهم بصورة بشر من الناس يظنون أنه مثلهم، فبدأ بالأبرص فقال له: أي شيء تود وتحب وتريد؟ فقال: أحب أن يذهب عني هذا المرض، وأن أعطى جلداً حسناً، ولوناً حسناً؛ لأن جلده مريض، ولونه سيئ، فمسحه فزال المرض، وأعطي جلداً حسناً، ولوناً حسناً، وهذا مجرد مسح، ولو كان عنده مثلاً اعتبار لاعتبر أن هذا من الأمور العظيمة، ومن آيات الله ونعمه، ثم قال له: أي المال أحب إليك؟ فقال: الإبل أو قال: البقر، شك إسحاق أحد الرواة، فأعطي ناقة عشراء، والناقة العشراء: هي التي قاربت الولادة، أي: أتى عليها عشرة شهور وهي ستلد قريباً، وبعض أهل اللغة يقول: إذا أتى عليها ثمانية شهور تكون عشراء، والناس يختلف اصطلاحهم في هذا، فكثير من العرب إذا تبين لقاح الناقة سموها عشراء، ولو لم يأت عليها شهور، ولكن المقصود الاستعمال القديم، ثم قال له: بارك الله لك فيها، فدعا الله جل وعلا له بالبركة فيها، ودعوة الملك الغالب أنها مستجابة، وقد أراد الله جل وعلا ذلك. ثم ذهب إلى رفيقه الثاني فقال له: أي شيء تحب؟ فقال: أن يذهب عني هذا الذي قذره الناس، وأحب شعراً حسناً، فمسح رأسه؛ فذهب مرضه، ونبت شعره وصار حسناً، وقال له: أي المال أحب إليك؟ فقال: البقر، فأعطي بقرة حاملاً، ثم ذهب إلى الثالث الأعمى فقال له: أي شيء تود وتريد؟ فقال: أن يرد الله علي بصري، فأبصر به الناس، ومعنى قوله: أبصر به الناس أي: أبصر به الأشياء التي يبصرها الناس، ولكن قصر ذلك على الناس؛ لأن اختلاطه بهم، وحاجته إليهم أكثر من غيرهم، فمسح على عينيه، فرد الله عليه بصره، ثم قال له: أي المال أحب إليك؟ قال: الغنم، فأعطي شاةً حاملاً. (فأنتج هذان وولد هذا) المنتج: هو الذي يتولى ولادة الناقة أو البقرة، والمولد: كذلك الذي يتولى ولادة الشاة، مثل القابلة من النساء للمرأة. فطال الوقت، وصار للأول واد من الإبل، وللثاني واد من البقر، وللثالث واد من الغنم، أي: أن هذه الناقة بارك الله فيها، وصار منها شيء كثير من الإبل، وكثر المال ونما، وكذلك صاحب البقرة، وكذلك صاحب الشاة، فلما كثر المال وصار أودية مملوءة منها، جاء ذلك الملك، وبدأ بالأبرص وجاء بصورته، أي: أنه جاء بصورة رجل أبرص وفقير حتى يذكره بحاله السابقة، وهذا معنى (جاءه بصورته) أي: بصورة الأبرص نفسه، فقال له: (إني رجل مسكين، وابن سبيل)، وابن السبيل: هو الملازم للسفر. قال: (وقد انقطعت بي الحبال في سفري

شكر النعم

شكر النعم أركان الشكر ثلاثة: الأول: أن يعلم أن النعمة من المنعم، والمنعم هو الله جل وعلا، وأنها فضل منه بلا استحقاق. الثاني: أن يضيفها إلى المنعم، ويذكرها له، ويشكره بلسانه عليها. الثالث: أن يستعملها في طاعة الله جل وعلا، {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} [سبأ:13]، فالعمل من الشكر، وكذلك من العمل: الثناء، ومنه قبل ذلك: أن يعلم أنها من الله، فكل نعمة ينعم الله جل وعلا بها على عبده يجب أن يقوم بهذه الأمور الثلاثة حتى يؤدي شكر الله عليها، وحتى تستقر، وواضح في الحديث السابق أن شكر النعمة يقتضي استقرارها وزيادتها، وكفرها يقتضي نفورها وذهابها، ومع ذلك يعذب؛ لأنه كفر، والكفر أصله مأخوذ من التغطية؛ ولهذا يسمى الزارع حارث الأرض كافراًً؛ لأنه يغطي البذر في الأرض، وإذا غطاه قيل: كفره، إذاً: أصل الكفر التغطية، فإذا غطى نعمة الله فهو كافر لها، وأعظم النعم التي يجب أن تبرز وتظهر ويعمل بها: عبادة الله جل وعلا، ثم يتبع ذلك سائر النعم، وعبادة الله هي الأصل في هذا، فإذا آمن الإنسان بالله جل وعلا وعبده، فهذا يقتضي أن يشكره على كل نعمة من نعمه، وقد يكون كفر النعمة داعياً إلى الكفر الأكبر، فقد يكون سبباً إلى ذلك، كما حصل لهؤلاء الاثنين اللذين جحدا وكفرا نعمة الله، فعاقبهما الله جل وعلا في العاجل قبل الآخرة، وما أعده الله جل وعلا لهم في الآخرة أعظم وأشد.

ابتلاء الله تعالى لعباده

ابتلاء الله تعالى لعباده هذا الابتلاء ليس المقصود به ذواتهم، المقصود أن يعتبر به غيرهم، أما هم فواحد منهم نجا، والآخران هلكا، وهذا فيه دليل على أن الغالب على الإنسان الكفر؛ لأن الثلاثة شكر منهم واحد، واثنان كفرا، مع قرب العهد، والتذكير بالحالة التي سبقت لهما، وكونهما يعلمان ذلك، فقال لهم: العهد قريب، والمال جاءكم بنعمة الله، وكذلك ما منّ الله جل وعلا به من إزالة المرض وإنعامه بالعافية عليكم، ومع ذلك جحدا هذا، وهما يعلمانه حقيقةً، فهذا يدلنا على أن الغالب على الإنسان هو الكفر، وهذا ظاهر في الناس، فالغالب عليهم الكفر، فيجب على العبد أن يحذر أن يقع في شيء من ذلك، فقد يكون الإنسان مبتلىً بالمال، أو مبتلىً بالجاه، حتى الجاه قد يبتلى به العبد، يكون له جاه عند الناس فيكون له بلوى: هل يستعمل ذلك في طاعة الله أو يغتر بنفسه ويقول: أنا فلان بن فلان، وأنا الذي فيه كذا وكذا؟ فيهلك، فالناس كلهم سواء، ولكن يتميزون بطاعة الله جل وعلا، ومن كان لله أطوع فهو أحب إلى الله جل وعلا {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، والابتلاء والاختبار لابد أن يقع {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2]، {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة:214]، {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:142]، {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31]، وآيات كثيرة يخبر الله جل وعلا فيها أنه لابد من البلوى، والبلوى قد تكون كبيرة وقد تكون صغيرة، ولكن يكفي بها أن يتبين هل الإنسان شاكر أم كافر، والله جل وعلا كلما أعطى الإنسان نعمة فهي من باب الاختبار؛ ولهذا كان السلف يحذرون هذه الأمور كثيراً، فيقول أحدهم: إذا رأيت الإنسان مقيماً على معصية، ونعم الله عليه متوالية من صحة ومن مال وغير ذلك فإنه يمكر به؛ لأن العادة أن الإنسان إذا كان في النعمة ينسى، ويتمادى فيها، ويفرح بها، ثم يأتيه الأمر بغتة، وهناك لا ينفعه الندم. قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن ثلاثة) الحديث أخرجاه أي: البخاري ومسلم. و (الناقة العشراء) بضم العين وفتح الشين وبالمد: هي الحامل. قوله: (أنتج) وفي رواية: (فنتج) معناه: تولى إنتاجها، والناتج للناقة كالقابلة للمرأة. قوله: (ولّد هذا) بتشديد اللام، أي: تولى ولادتها، وهو بمعنى: أنتج في الناقة، فالمولد والناتج والقابلة بمعنى واحد، لكن هذا للحيوان وذلك لغيره. قوله: (انقطعت بي الحبال) بالحاء المهملة والباء الموحدة، أي: الأسباب. قوله: (لا أجهدك) معناه: لا أشق عليك في رد شيء تأخذه أو تطلبه من مالي، ذكره النووي. وهذا حديث عظيم، وفيه معتبر، فإن الأولين جحدا نعمة الله، فما أقرا لله بنعمة، ولا نسبا النعمة إلى المنعم بها، وما أديا حق الله، فحل عليهما السخط. وأما الأعمى فاعترف بنعمة الله ونسبها إلى من أنعم عليه بها، وأدى حق الله فيها، فاستحق الرضا من الله بقيامه بشكر النعمة لما أتى بأركان الشكر الثلاثة التي لا يقوم الشكر إلا بها وهي: الإقرار بالنعمة، ونسبتها إلى المنعم، وبذلها فيما يحب].

وجوب شكر النعم وقلة الشاكرين

وجوب شكر النعم وقلة الشاكرين أركان شكر النعمة ثلاثة: الأول: الاعتراف أن الله هو المنعم، والاعتراف مصدره القلب ثم يأتي على الجوارح، فلابد من شكر اللسان وغيره من الجوارح. الثاني: أن تنسب النعمة إليه ولا تنسب إلى الأسباب. الثالث: أن يستعمل النعمة في طاعته. فهذه إذا أتى بها العبد فقد شكر نعمة الله، والله جل وعلا يقول: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13]، فقليل من عباد الله هم الذين يشكرون الله جل وعلا، وأكثرهم وإن اعترفوا بأن النعمة من الله، فلا يخلو هذا الاعتراف من النظر إلى الأسباب والاعتماد عليها، والاعتماد على السبب نوع من أنواع الشرك، وكونه يعطل السبب ولا يلتفت إليه قدح في الشرع وفي العقل أيضاً، فلابد من السبب، ولكن السبب جعله الله سبباً، وإذا شاء عطله وأصبح مفعوله لا أثر له، وإذا شاء أتى بالموانع. فعلى العبد أن يستعمل النعمة في طاعة الله جل وعلا، ويتقوى بها على طاعته، وهذا من الشكر، أما إذا تخلف واحد منها فلم يأت الإنسان بالشكر الذي يجب عليه، فيجب على عباد الله أن يشكروه على نعمه، ونعم الله كثيرة جداً، لا يستطيع الإنسان أن يقوم بشكرها، ولكن من رحمة الله جل وعلا أنه يقبل القليل، ويعفو عن الكثير، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يصبح على كل سلامى من ابن آدم صدقة)، والسلامى: المفصل الذي في الجسد، يعني: العظم الذي إذا فصله فاصل انفصل، فهذا يسمى سلامى، وذكر أن في الجسد ثلاثمائة وستين مفصلاً، فيصبح عليه كل يوم ثلاثمائة وستون صدقة بقدر هذه النعم؛ لأن هذه كلها نعم من الله جل وعلا، ولما استكثر الصحابة هذا وقالوا: كيف يقوم الإنسان بهذه الصدقات الكثيرة؟ قال صلى الله عليه وسلم: (أمرك بالمعروف صدقة، ونهيك عن المنكر صدقة، وإماطة الأذى عن الطريق صدقة، والكلمة الطيبة صدقة) فأعمال الخير كثيرة جداً، وبعض الناس يبخل على نفسه في بذل الخير الذي يعود نفعه إليه. فهذا كله مما يدل على وجوب الشكر لله جل وعلا، فيشكر الإنسان نعمة الله، وقد سبق أن قلنا: إن أكبر هذه النعم وأعظمها أن جعل الله جل وعلا عبده من المسلمين، فهذه هي أعظم النعم التي يجب على الإنسان أن يشكر الله جل وعلا عليها، ويقوم بامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه، حتى تبقى نعمة الله عليه؛ لأنه بالشكر تستقر النعم، وبكفر النعمة تزول وتهرب، كما في قصة الثلاثة، فعندما شكر الأعمى أقرت النعمة عنده، وازدادت، وتحصل على الرضا، وأما صاحباه فكفرا النعمة وجحداها، فزالت نعمتهما، وعادا إلى ما كانا عليه، وهذا عذاب عاجل، والعذاب الآجل أشد وأبقى.

أصل الشكر

أصل الشكر قال الشارح رحمه الله: [قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: أصل الشكر هو الاعتراف بإنعام المنعم على وجه الخضوع له والذل والمحبة، فمن لم يعلم بالنعمة بل كان جاهلاً بها لم يشكرها، ومن عرفها ولم يعرف المنعم بها لم يشكرها أيضاً، ومن عرف النعمة والمنعم لكن جحدها كما يجحد المنكر النعمة المنعم عليه بها فقد كفرها، ومن عرف النعمة والمنعم بها وأقر بها ولم يجحدها ولكن لم يخضع له ولم يحبه ويرضى به وعنه؛ لم يشكره أيضاً، ومن عرفها وعرف المنعم وأقر بها وخضع للمنعم بها وأحبه ورضي به وعنه، واستعملها في محابه وطاعته؛ فهذا هو الشاكر لها. فلابد للشكر من علم القلب، وعمل يتبع العلم، وهو الميل إلى المنعم ومحبته والخضوع له. قوله: (قذرني الناس): بكراهة رؤيته وقربه منهم].

مسائل باب قوله تعالى: (ولئن أذقناه رحمة منا)

مسائل باب قوله تعالى: (ولئن أذقناه رحمة منا)

حال الإنسان مع نعم الله

حال الإنسان مع نعم الله قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل: الأولى: تفسير الآية]. ليست آية واحدة، بل عدد من الآيات في القرآن تبين جحود الإنسان، كما قال الله جل وعلا: {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج:20 - 21] فهذه حقيقة الإنسان، فأخبر الله جل وعلا أنه إذا أنعم على الإنسان فإنه يتكبر، ويتجافى عن طاعة الله، وينسى الاعتراف بها، وإذا مسه الضر فإنه يكون جزوعاً، وفي هذه الآية أنه ينسبها إلى نفسه: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} [فصلت:50]، والرحمة عامة تشمل صحة البدن، وتشمل كثرة المال، وغير ذلك من نعم الله جل وعلا، فربما يقول: هذه أنا أستحقها، أو ربما يقول: أنا حصلتها بكسبي وبعملي وبقوتي، فيكون بذلك كافراً بنعم الله، وهذا جاء في آيات كثيرة في القرآن، كقوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [الزمر:8]، وهذا يبين طبيعة الإنسان التي خلق عليها، وجنس الإنسان، وهكذا إلا من استثناهم الله جل وعلا من أهل الإيمان وأهل الطاعة، فهم قد خرجوا من هذا، أما من عداهم فإنه موصوف بذلك. [المسألة الثانية: ما معنى: (ليقولن هذا لي)؟]. سبق كلام السلف فيها، فمنهم من قال: (هذا لي) يعني: حصلته بكسبي وبقوتي، أو بمعرفتي بطرق الكسب، ومنهم من قال: أي: أنا مستحق له، ومنهم من قال: أي: أنا شريف وأنا حظيظ، فالله أعطاني لشرفي أو لحظي عنده، أو أنا محظوظ عند الله، وكل هذه الأقوال تعود إلى معنى واحد وهو أن ينسب النعمة إليه، ويجحد نسبتها إلى ربه جل وعلا. [المسألة الثالثة: ما معنى قوله: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78]؟]. (أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي) إما أن يكون المعنى: علم صدر مني بوجوه المكاسب ومعرفتها، فأنا أستطيع أن أتصرف وأستطيع أن أعمل كذا، أو يكون المعنى: أن الله علم أني أهل لذلك فأعطاني هذا، إما هذا أو هذا.

العبر العظيمة في قصة الثلاثة النفر

العبر العظيمة في قصة الثلاثة النفر [المسألة الرابعة: ما في هذه القصة العجيبة من العبر العظيمة]. يعني: قصة الثلاثة من بني إسرائيل: الأبرص والأقرع والأعمى، وملخصها كما سبق: أن الله ابتلاهم، والابتلاء المقصود: هو الاختبار، وعند الابتلاء والامتحان يكرم المرء أو يهان، إما أن يكرم في النهاية أو يهان نتيجة لذلك، فابتلاهم الله وأعطاهم الدنيا، وأعطاهم ما كانوا يتمنونه من صحة في أبدانهم من المرض الذي وقع فيهم، وأعطاهم من المال ما اشتهوه وأرادوه، ثم كثر ونما، وهذا ابتلاء ظاهر جداً؛ لأنه في النهاية أتى إليهم الملك بصورة الشخص الفقير في المرض الذي كان هو فيه، حتى يذكره بذلك، فأتى إلى الأبرص بصورة رجل أبرص فقير، وأيضاً زيادة على الفقر عابر سبيل، وليس معه شيء، فهو في حاجة شديدة جداً، ثم زيادةً على ذلك سأله، وما اكتفى بالحال؛ لأن مثل هذا إذا رآه بعض أهل الخير يكفيه منظره ولا يتركه إلى أن يسأل، ولكن مع ذلك سأله، وسأله بالله وقال: أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن، والجلد الحسن، وأعطاك المال بعد الفقر، أسألك بعيراً أتبلغ به في سفري هذا، فقد انقطعت بي الحبال أي: الأسباب، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، فهو سؤال بإلحاح، وبإظهار الحاجة الملحة، ومع ذلك أبى وقال: الحقوق كثيرة، ولو أعطيتك فيمكن أن أعطي الآخر والآخر ثم ينتهي المال، ولما قال له: كأني أعرفك ألم تكن أبرص يقذرك الناس؟ ألم تكن فقيراً؟ فقال: لا، هذا المال ورثته كابراً عن كابر، يعني: ورثه عن أجداده. وهكذا بالنسبة للأقرع، وعند كل واحد يقول الملك: إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت عليه، وفعلاً صير كليهما إلى ما كانا عليه؛ لأنهما كفرا بالله جل وعلا، ومن كفر نعمة الله عاقبه الله جل وعلا عاجلاً، وهذا هو العذاب العاجل. أما الثالث فإنه شكر الله، واعترف بالنعمة وقال: كنت أعمى فرد الله علي بصري، وكنت فقيراً فأغناني الله جل وعلا، انظر هذا المال، فخذ منه ما تشاء، والله! لا أجهدك في شيء أخذته اليوم لله، يعني: إذا أخذت شيئاً فأنا لا أطلب منك رده أو أن تترك بعضه، بل خذ ما تشاء، وعند ذلك قال له: أمسك عليك مالك، إنما ابتليتم، فقد رضي الله عنك، وسخط على صاحبيك. فهذه القصة من الأمور الظاهرة الجلية التي فيها الآيات الذي يعرفها كل من سمعها، والمقصود أن يعتبر بها الإنسان، وكل إنسان لا يخلو من نعم الله جل وعلا.

شرح فتح المجيد [115]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [115] نعم الله تعالى كثيرة، والواجب تجاه النعم هو الشكر، ومن نعم الله تعالى التي يجب شكرها: نعمة الولد، وشكرها هو القيام بأمر الله تجاهها، ومن ذلك تسمية الولد تسمية لا تعارض الشرع، فلا يجوز أن يعبّد لغير الله أبداً، لأن ذلك كفران لنعمة الله تعالى.

باب قول الله تعالى: (فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما)

باب قول الله تعالى: (فلما آتاهما صالحاً جعلا له شركاء فيما آتاهما) قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب قول الله تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الأعراف:190]]. هذا الباب قريب من معنى الباب الذي قبله؛ لأن المقصود به أن شكر الرب جل وعلا على النعم الظاهرة أمر واجب، وإذا صرف الإنسان النعمة في غير طاعة المنعم فإن هذا يكون إما قدحاً في التوحيد وتنقيصاً له، أو إذهاباً بكماله، إما أن يكون من الشرك الأكبر أو يكون من الشرك الأصغر الذي يقدح في توحيد الإنسان، وفي درجته عند الله، وفي عمله، ولا يخلو منه الناس اليوم وقبل اليوم ودائماً.

نعمة الولد

نعمة الولد وقوله: (فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا) الصالح إما أن يكون صالحاً في البدن وهو الظاهر، أي: ليس فيه عيوب، وليس مشوهاً، وإنما هو مخلوق من بني آدم سوي كامل الخلقة، وسيأتي أن المؤلف استنتج من هذا أن البنت إذا ولدت لإنسان فإنها من نعم الله، ويجب أن يشكر الله عليها؛ لأنها لم تكن مولوداً مشوهاً أو ذاهب العقل أو ذاهب بعض القوى، أو غير كاملة الخلقة، بل هي نعمة من النعم التي يجب أن يشكر الله عليها. والناس اليوم أقسام في هذا، فمنهم من يعمل أعمالاً منذ أن يعرف أن الزوجة حملت، فيتردد بها على المستشفيات، ويحدث في هذا أموراً غير مشروعة: من كشف العورات، ومباشرة الطبيب للمرأة من غير حاجة، ثم في النهاية إذا ولد المولود يقول: نحن قمنا بالأسباب حتى جاء المولود في الوقت المناسب وعلى الوضع المناسب، وهذا نوع من كفر النعمة، فالطبيب وغيره ليس لهم دخل في هذا، فإن هذا كله من الله. وقسم أعظم من هذا، ويوجد في بعض المجتمعات الإسلامية وللأسف، فإذا كانت المرأة عاقراً لا يولد لها تذهب إلى قبر من القبور التي يقال عنها: قبور أولياء، ثم تستنجد به وتقول: أريد ولداً، وربما تحمل بتقدير الله جل وعلا وإرادته، فينسبون ذلك إلى هذا الولي، وأنه بواسطة الولي الذي استغاثوا به وطلبوا منه، فهذا من الشرك الأكبر الذي ينافي التوحيد، نسأل الله العافية. وقسم آخر أقل من هذا، ولكن المقصود أنه إذا ولد للإنسان مولود سواء كان ذكراً أو أنثى، وكان تام الخلقة، صالحاً في بدنه، ليس فيه تغيير في خلقته، فإن هذه نعمة كبيرة يجب على الوالدين أن يشكراها. وقعت قضية في بعض المستشفيات حديثاً، وفيها عبرة للإنسان الذي يعتبر كان رجل من الناس رزقه الله عدداً من البنات، ثلاثاً أو أقل أو أكثر، وفي الحمل الأخير قال لزوجته: إن أتيت ببنت فأنت طالق! فالمرأة الضعيفة المسكينة ذهبت إلى المستشفى فوضعت، وإذا بالمولود بنت، فصارت تبكي، فسألوها: ما السبب؟ فأخبرتهم، وكان هناك طبيب عاقل، فقال للموظفين: إذا أتى الزوج فأرسلوه إلي قبل أن يرى زوجته أو يرى بنته، فجاء إليه، وكان يوجد في المستشفى مولود ذكر مشوه في خلقه، فأخذه وذهب به إليه وقال: أنت القائل كذا لزوجتك؟ فإن الله قد عاقبك، فتعال وانظر، فذهب به إلى المولود المشوه، فلما رآه صار يبكي كثيراً، فقال الطبيب: هذا عقابك على ما قلت، فقال: لن أعود لمثل هذا، ثم قال له: أما الآن فليس هذا ولدك، ولدك هي بنت صالحة، واحمد الله واستغفر مما وقعت فيه، فصارت موعظة له. فالمقصود: أن الولد إذا كان صالحاً في بدنه سواء كان ذكراً أو أنثى نعمة كبرى يجب على الأب أن يشكر ربه عليها، وقد كان يمكن أن يكون رأسه رأس كلب، أو يكون له رأسان، أو لا يكون له رأس أصلاً، أو لا يكون له رجل، والحوادث كثيرة في هذا، والإنسان يجب أن يعتبر؛ ولهذا كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إذا بشرت بمولود لأقربائها سألت عنه: هل هو صالح؟ هل هو كامل الخلقة ليس فيه عيوب؟ ولا تسأل: هل هو ذكر أم أنثى؟ فإذا قيل لها: نعم، قالت: الحمد لله، أي: الحمد لله على هذه النعمة الكبرى.

تفسير قوله تعالى: (فلما آتاهما صالحا)

تفسير قوله تعالى: (فلما آتاهما صالحاً) قوله جل وعلا: (فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا) آتاهما مثنى، وفي هذه الآية قولان للمفسرين: أحدهما: وهو مشهور جداً، وهو أكثر ما يذكره المفسرون، وبعض المفسرين لا يذكره إلا هو، وهو: أن الخطاب يعود إلى أبوي البشر آدم وحواء، وأن المقصود بذلك آدم وحواء، وذكروا حديثاً رواه الإمام أحمد في المسند والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن آدم عليه السلام وزوجه كان يولد لهما مواليد فيسميانهم بعبد الله وعبد الرحمن وعبد الأحد - يعني: يعبدونهم لله جل وعلا- وكانوا يموتون، فأتاهم الشيطان فقال: سمياه عبد الحارث وإلا سأجعل في رأسه قرني أيل -والأيل معروف وهو الوعل- فيشق بطنك أو لا يخرج، فأبيا أن يسمياه بذلك، فولد ميتاً، ثم الثاني كذلك، ثم بعد ذلك أدركهما حب الولد فسمياه عبد الحارث فخرج سوياً)، قالوا: فهذا الحديث يفسر هذه الآية: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا} أي: صالحاً في بدنه ليس فيه عيب، وليس له قرون أيل {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الأعراف:189 - 190]، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: وهذا القول غير صحيح. وقد صحت الأسانيد عن ابن عباس وقتادة وغيرهما أنه آدم وزوجه، ولكن يقول ابن كثير: الظاهر أن هذا مأخوذ عن أهل الكتاب، وأما الحديث فعلله ابن كثير بعلل ثلاث: العلة الأولى: أنه من رواية عمر بن إبراهيم، وعمر بن إبراهيم البصري قال أبو حاتم: لا يجوز الاحتجاج به، ولا يجوز الأخذ عنه، فهو ضعيف، ولكن هذا التعليل غير سليم؛ لأنه جاء من رواية غيره. العلة الثانية: أنه جاء موقوفاً، ويجوز أن يكون المرفوع وهماً من بعض الرواة. العلة الثالثة: أنه من رواية الحسن البصري، والحسن البصري صح عنه ما يخالف هذا، فقد قال: هذا ليس في آدم، هذا في بني آدم من المشركين، وهذا يدل على أن الحديث لم يصح عنده، إذ لو صح عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم لما خالفه، والحسن البصري رحمه الله معروف بالورع وبالعلم وبالتقى، فلا يجرؤ على مخالفة حديث ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال الحافظ ابن كثير: ونحن على مذهب الحسن البصري، وقد برئنا من عهدة الحديث المرفوع، يعني: أنه ضعيف فلا يؤخذ به. وأما الآثار المروية فيقول: الظاهر أنها مأخوذة عن أهل الكتاب مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه وغيرهما من علماء أهل الكتاب الذين كثر النقل عنهم، وملئت كتب التفسير من أقوالهم، وبعضها مخالف لما في كتاب الله جل وعلا. القول الثاني: أن المقصود جنس الزوج والزوجة، فهو خطاب لجنس الزوج والزوجة، وهذا هو الأقرب، وهو الصواب والله أعلم؛ لأن آدم عليه السلام لا يجوز أن يشرك بالله جل وعلا بعدما وقع فيما وقع فيه من إخراج الشيطان له ووسوسته له، فقد عرفه، فكيف يأتيه ويقول له: أنا أفعل كذا، وأجعل له قرن أيل في بطنك؟ وهل الشيطان يستطيع أن يفعل ذلك؟ وآدم عليه السلام أعلم بالله جل وعلا، وأتقى لله جل وعلا من أن يطيع الشيطان في هذا، فلا يجوز أن ينسب هذا إلى آدم، لاسيما على قول كثير من العلماء: إن الأنبياء معصومون، وقد روي أن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل: هل آدم نبي؟ فقال: (نعم نبي مكلم) أي: كلمه الله جل وعلا، فهو رسول إلى بنيه. إذاً: المقصود بالآية الزوج وزوجته، ولو لم يقع ذلك بالقول من الزوج؛ لأن الإنسان الذي يؤمن بالله، إذا أحس بأن زوجته قد حملت فإنه يسأل ربه جل وعلا أن يكون ولده صالحاً. وصلاح الأولاد يشمل أمرين: أحدهما: صلاح الخلقة والبدن والصورة، أي: يكون صالحاً في خلقته وصورته، سليماً من العاهات التي تشوه. الأمر الثاني: أن يكون صالحاً في دينه وفي فطرته وفي اتجاهه إلى الله جل وعلا.

حكم تعبيد الأسماء لغير الله

حكم تعبيد الأسماء لغير الله إذا ولد لكثير من الناس مولود قد يعبدونه لغير الله، والتعبيد إما أن يكون ظاهراً بالتسمية، كأن يسميه مثلاً: عبد النبي أو عبد الكعبة، أو عبد علي، أو عبد الحسين، أو ما أشبه ذلك كما هو معروف لمن قرأ في تاريخ العرب، فكثيراً ما نسمع التعبيد لغير الله، ومن الأسماء المشهورة: عبد الدار، عبد المطلب، عبد شمس، عبد اللات، عبد مناة، وهذا كثير جداً، فيعبدونهم إما بالأصنام التي يعبدونها أو بغيرها، فهذا شرك في الربوبية، ويتبعه الشرك في الإلهية، وهذا هو المقصود بالآية، فالله هو الذي تفرد بخلق هذا المولود من نطفة، ثم نقله في الأطوار التي تكون في بطن الزوجة طوراً بعد طور، نطفة ثم علقة -والعلقة هي قطعة دم- ثم مضغة -والمضغة قطعة لحم- ثم بعد ذلك يجعل له الأعضاء والجوف والقلب والعين والرأس وغير ذلك، فهل الزوج والزوجة لهما دخل في هذا أو أحد من الخلق كالطبيب أو غيره؟ هذا كله من الله جل وعلا، فهو الذي يصوركم في بطون أمهاتكم، وهو الذي تفضل بذلك، فإذا ولد المولود سليماً صالحاً فإما أن يعبد تعبيداً ظاهراً لله، أو يعبد للدنيا أو لأمور أخرى، وهذا يصرفه عن عبادة الله جل وعلا، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) كالبهيمة تولد سليمة لا تجد فيها جدعاء، فالعرب كانوا يقطعون آذانها؛ لأنها تولد كاملة الخلقة ليس فيها شيء، ثم يقطعون آذانها. فالمربي مثل الوالد والوالدة يصرف المولود عن عبادة الله جل وعلا بالتربية، وهذا من كفر النعمة، فمن فعل ذلك فقد قابل النعمة بالكفران، وهذا ذنب عظيم يجب ألا يقع فيه المسلم العاقل، قال جل وعلا: (فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا) يعني: سليماً ليس فيه عيب في خلقته (جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا) يعني: من المخلوق المولود، فيجعلا لله شركاء بالتسمية، كأن يسمياه مثلاً: عبد الحارث، أو عبد مناة، أو عبد اللات، أو عبد شمس، أو عبد علي، أو عبد الكعبة، أو عبد النبي، أو عبد الحسين، أو ما أشبه ذلك مما هو معروف بين الناس. فالمعنى: أن هذا مستمر في بني آدم، وليس المقصود به أبو البشر فقط، وهذا القول هو الراجح والله أعلم، وإن كان الشارح رحمه الله رجح القول الأول وقال: هو الذي يدل عليه سياق الآية، ولا ينبغي أن يحاد عنه، ولكن هذا اجتهاد منه رحمه الله، والاجتهاد قد يكون صواباً وقد يكون خطأً، والظاهر والله أعلم أن القول الثاني هو الصواب، وليس المقصود آدم، وإنما المقصود ذريته، أما التسمية فهي من جنس الزوج والزوجة، وهذا يقع فيه كثير من الناس، وليس المراد آدم وحواء؛ ولهذا قال جل وعلا: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} فجمع هنا؛ لأن المقصود بنو آدم من المشركين الذين يفعلون ذلك.

ضعف الحديث الوارد في أن المراد بالآية هو آدم وحواء

ضعف الحديث الوارد في أن المراد بالآية هو آدم وحواء قال الشارح رحمه الله تعالى: [قال الإمام أحمد رحمه الله في معنى هذه الآية: حدثنا عبد الصمد قال: حدثنا عمرو بن إبراهيم قال: حدثنا قتادة عن الحسن عن سمرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لما ولدت حواء طاف بها إبليس، وكان لا يعيش لها ولد، فقال: سميه عبد الحارث فإنه يعيش، فسمته عبد الحارث فعاش، وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره). وهكذا رواه ابن جرير عن محمد بن بشار عن بندار عن عبد الصمد بن عبد الوارث به، ورواه الترمذي في تفسير هذه الآية عن محمد بن المثنى عن عبد الصمد به وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عمرو بن إبراهيم. ورواه بعضهم عن عبد الصمد ولم يرفعه، ورواه الحاكم في مستدركه من حديث عبد الصمد مرفوعاً وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه]. هذا من تساهل الحاكم رحمه الله، فإن عمرو بن إبراهيم ليس على شرط الشيخين؛ ولهذا فإن الترمذي رحمه الله مع تساهله قال: حسن غريب، والغريب عنده ضعيف، والحسن ليس من غير هذا الوجه، وكون الحاكم صححه لا يعتمد على تصحيحه، فقد صحح بعض الأحاديث الموضوعة، وهو كما يقول بعض العلماء: لم يحرر كتابه؛ لأنه ذكر في بعض كتبه بعض الرجال وقال: لا تحل الرواية عنهم مثل عبد الرحمن بن عسكر قال: لا تحل الرواية عنه، ومع ذلك روى عنه في المستدرك حديثاً وقال: إنه صحيح! فالمقصود أنه لا يعتمد على تصحيحه رحمه الله، فلهذا ينظر في ذلك، والصواب ما قاله الحافظ ابن كثير رحمه الله: فقد خرجنا من عهدة الحديث، يعني: بالعلل التي ذكر كونه بها ضعيفاً، وهي علل قادحة في الحديث. قال الشارح رحمه الله: [ورواه الإمام أبو محمد ابن أبي حاتم في تفسيره عن أبي زرعة الرازي عن هلال بن فياض عن عمرو بن إبراهيم به مرفوعاً. وقال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا سهيل بن يوسف عن عمرو عن الحسن: {جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا} [الأعراف:190] قال: كان هذا في بعض أهل الملل، ولم يكن آدم]. وهذه هي العلة الثالثة، وهي كما قال الحافظ ابن كثير: قادحة، فلو صح الحديث عند الحسن لما خالفه.

الآثار الواردة في تفسير الآية

الآثار الواردة في تفسير الآية قال: [وحدثنا بشر بن معاذ قال: حدثني يزيد قال: حدثنا سعيد عن قتادة قال: كان الحسن يقول: هم اليهود والنصارى رزقهم الله أولاداً فهودوا ونصروا. وهذا إسناد صحيح عن الحسن رحمه الله. قال العماد بن كثير في تفسيره: وأما الآثار فقال محمد بن إسحاق: عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت حواء تلد لآدم عليه السلام أولاداً فتعبدهم لله، وتسميهم عبد الله وعبيد الله ونحو ذلك فيصيبهم الموت، فأتاهما إبليس فقال: أما إنكما لو تسميانه بغير الذي تسميانه به لعاش، فولدت له غلاماً فسماه: عبد الحارث، ففيه أنزل الله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [الأعراف:189] الآية]. كون الشيطان اسمه: الحارث، هذا يحتاج إلى إثبات ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس في هذا شيء يثبت، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خير الأسماء عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها: حارث وهمام)، ولو كان الشيطان اسمه الحارث لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا، ولا جعل التسمية به جائزة في قوله: (أصدقها حارث)، فيجوز أن يسمي الإنسان ولده حارثاً أو هماماً؛ لأن الحرث هو العمل، والهم هو عمل القلب. فالذي يظهر أن هذا منقول عن أهل الكتاب كما قال الحافظ ابن كثير، أي: كون الشيطان اسمه الحارث، وكونه كان من عباد الملائكة، فهذا يحتاج إلى إثبات، والله جل وعلا ذكر في القرآن أنه من جنس آخر وليس من جنس الملائكة، والرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن الملائكة خلقت من نور، والله جل وعلا أخبر في القرآن أن الشيطان خلق من شواظ من نار، فهو من النار وليس من النور، فأصله من غير أصل الملائكة، وكذلك عمل غير عمل الملائكة، فكونه يسمى الحارث يحتاج إلى ثبوت، وليس هناك شيء يثبت به، وهذا مما يقدح أيضاً في هذه القصة، وليس الحديث دليلاً على أنه الحارث؛ لأن الحديث كما قال الحافظ ابن كثير: ضعيف. [وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: فأتاهما الشيطان فقال: هل تدريان ما يولد لكما؟ أم هل تدريان ما يكون، أبهيمة أم لا؟ وزين لهما الباطل، إنه لغوي مبين، وقد كانت قبل ذلك ولدت ولدين فماتا، فقال لهما الشيطان: إنكما إن لم تسمياه بي لم يخرج سوياً ومات كما مات الأول، فسميا ولدهما عبد الحارث، فذلك قوله تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الأعراف:190]]. لو صح هذا لقال آدم: وأنت لا تدري أيضاً، ولا تستطيع أن تعمل شيئاً؛ لأن هذا من صنع الله جل وعلا ومن فعله، فكيف يصدقه آدم عليه السلام وهو الذي قد علمه ربه جل وعلا أسماء كل شيء، وفضله على كثير ممن خلق تفضيلاً؟! يقول ابن حزم رحمه الله: الحديث موضوع، والآثار هذه كلها خرافة، هكذا قال في كتاب الفصل في الملل والنحل لما ذكر هذه القصة، قال: هذه خرافة، والحديث موضوع، ولكن ابن حزم رحمه الله عنده جرأة في بعض ما يحكم به. [وذكر مثله عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما، ورواه ابن أبي حاتم، وقد تلقى هذا الأثر عن ابن عباس جماعة من أصحابه كـ مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير، ومن الطبقة الثانية قتادة والسدي وجماعة من الخلف، ومن المفسرين والمتأخرين جماعات لا يحصون كثرة]. وإن كان تلقاه أصحاب ابن عباس عنه، وتلقاه التابعون وأتباعهم عنهم، فلا يخرج هذا عن كونه مأخوذاً من أهل الكتاب، فآدم الذي خلقه الله بيده، وأسجد له ملائكته، وأسكنه جنته، وعلمه أسماء كل شيء، ثم لما وقع في الخطيئة تلقى من ربه كلمات وتاب عليه، واجتباه وهداه، ثم بعد ذلك يقع في الشرك؟ هذا بعيد جداً، وإن كان الشارح لما ذكر قول ابن كثير قال: هذا بعيد جداً، فالبعيد جداً هو ما صححه الشارح رحمه الله. [قال العماد بن كثير: وكأن أصله -والله أعلم- مأخوذ من أهل الكتاب، قلت: وهذا بعيد جداً. ].

تحريم كل اسم معبد لغير الله

تحريم كل اسم معبد لغير الله قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال ابن حزم: اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله كعبد عمرو وعبد الكعبة، وما أشبه ذلك، حاشا عبد المطلب]. هذا قاله ابن حزم في كتابه: مراتب الإجماع، والظاهر -كما قال الشارح- أنه يقصد بالاتفاق الإجماع، والإجماع إذا ذكر، فالمقصود به إجماع من ينضبط إجماعه من علماء الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين القريبين من عهدهم الذين يمكن أن يحصر قولهم، أما بعدما انتشر العلماء في أقطار الأرض فيصعب أن يقول الإنسان: أجمعوا على هذه المسألة؛ لأن الاطلاع على أقوالهم وما قالوه في ذلك صعب، وابن حزم له كتاب اسمه: مراتب الإجماع، ذكر فيه الأمور التي أجمع عليها العلماء، وقد ذكر هذا الكتاب أو جله في أول كتابه المحلى، وهو كتاب مستقل. وقوله: (اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله جل وعلا، كعبد عمرو وعبد الكعبة، وما أشبه ذلك، حاشا عبد المطلب) معنى قوله: أن التعبيد لغير الله محرم، وأنه مجمع على تحريم ذلك، وأنه لا يجوز أن يسمى أحد من بني آدم عبداً لمخلوق، سواء كان المخلوق عاقلاً أو غير عاقل، كأن يكون عبداً للحجر أو عبداً للشجر أو عبداً للكعبة أو عبداً لموضع أو لغير ذلك؛ وذلك لأن هذا من الشرك الظاهر؛ لأن العبودية يجب أن تكون لله جل وعلا، وإذا قيل: هذا عبد كذا، فهذا يعني أنه يعبد هذا الذي أضيف إليه، والعبادة يجب أن تكون لله جل وعلا، ولا يجوز أن تكون لغيره، هذا هو وجه الإجماع على تحريم التعبيد لغير الله جل وعلا.

حكم التسمي بعبد المطلب

حكم التسمي بعبد المطلب ومعنى قوله: (حاشا عبد المطلب) أن عبد المطلب فيه خلاف، فهو غير داخل في ذلك؛ والسبب في هذا كما قالوا: أن عبد المطلب ليس من عبودية الخضوع والذل، وإنما هو من عبودية الرق، وهو غير تسمية، فلم يسمه أهله بذلك، وإنما توهم ذلك توهماً؛ بسبب أن والده هاشم تزوج من بني النجار في المدينة، فولد له عبد المطلب واسمه: شيبة الحمد، هذا هو اسمه العلم، ويقال: إنه لما ولد وجد في رأسه شعرة بيضاء، فسمي شيبة، فتوفي والده وهو عند أخواله، يقول أهل النسب: إن أخواله قد اشترطوا على أبيه أن تكون الولادة عندهم، فبقي بعدما توفي والده عند أخواله حتى بلغ قريباً من سن الرشد، فأتى إليه عمه المطلب أخو أبيه؛ لينقله إلى أهله وإلى بلده مكة، فأردفه خلفه، وأصابته الشمس فتغير لونه، فلما دخل مكة به رأوه رديفاً له فقالوا: هذا عبد المطلب، ونُسي اسمه العلم، وصار يسمى بذلك، وهذا معنى كلام ابن حزم: فإن مثل هذا الاسم ما قصد للتعبيد. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (أنا ابن عبد المطلب)، وهو جد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووالده هو عبد الله؛ فلهذا أخرجوه عن الدخول في الإجماع، والنظر الواقع أنه لا معنى لإخراج هذا، بمعنى أنه لا يجوز أن يسمى: عبد المطلب؛ لأن المطلب شخص مخلوق، والذي يخرجه عن الإجماع لا يجعله مثل عبد علي أو عبد الحسين أو غير ذلك، وقد كان يوجد في قريش بنو عبد الدار وبنو عبد مناف وبنو عبد شمس، وأخبار قريش معروفة، ولكن هذه كانت في الجاهلية؛ ولهذا يذكر هذا في أنساب الصحابة رضوان الله عليهم. في الصحيحين أنه قيل لأحد الصحابة: فررتم يوم حنين، فقال: ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبت ولم يفر، وقد كان المشركون سبقوهم إلى المكان، وكانوا رماة، فأمطروا عليهم النبل، فهزموا، فركب الرسول صلى الله عليه وسلم بغلته، والبغلة لا تركب في الحرب، فجعل يقول: (أنا ابن عبد المطلب، أنا النبي لا كذب)، ويتقدم ويقول (اللهم أنزل نصرك)، وأمر العباس أن ينادي؛ لأنه كان صيتاً فقال: (يا أصحاب سورة البقرة! يا أهل بيعة الشجرة!) فمن سمع صوته حاول أن يرجع، فإن أبى بعيره الرجوع أخذ سلاحه، وألقى بنفسه من على ظهره ورجع، فرجعوا وقاتلوا أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك اليوم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الآن حمي الوطيس) ويقال: إن أول من قالها هو صلى الله عليه وسلم في تلك الوقعة، والمقصود أن قوله صلى الله عليه وسلم: (أنا ابن عبد المطلب) خبر عن شيء مضى ووقع، وكذلك غيره، ولا يدل هذا على جواز التسمية بعبد المطلب. وقد ذكر ابن عبد البر رحمه الله في الاستيعاب: أن أحد الصحابة اسمه: عبد المطلب، لكن هذا غير صحيح، كما ذكره الحافظ بن حجر في الإصابة وغيره من العلماء، والصواب أن اسمه: المطلب، وليس عبد المطلب، ولا يوجد في الصحابة من اسمه: عبد المطلب، وأن الذي سماه عبد المطلب من الرواة قد أخطأ في ذلك، فاسمه: المطلب. أما ما جاء في صحيح مسلم: أن ابن عبد ركانة طلق زوجته ألبتة، فهذا جاء بالتنوين (ابن عبدٍ)، ولم يأت بالعبودية، وهذا الذي صححه العلماء، فيكون ما استثناه ابن حزم رحمه الله لا معنى لإخراجه، فالصحابة اتفقوا على تحريم تعبيد الاسم لغير الله جل وعلا، فكل اسم لا يجوز أن يعبد لغير الله، فيجب أن تكون العبودية لله جل وعلا، وإن كانت هذه العبودية عبودية ظاهرة؛ لأنه لا يلزم إذا سمي عبد الله أن يكون عبداً لله، بل قد يكون عبداً للشيطان، ولكن هذه تسمية أهله، ويجب أن يسميه أهله معبداً لله جل وعلا، ويحرم أن يسموه عبد مخلوق من المخلوقات؛ وهذا لأن الله جل وعلا يقول في هذه الآية: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء} [الأعراف:190] فيكون داخلاً في القصة المذكورة التي وقعت لبعض بني آدم ممن ولد له ولد صالح فجعل لله فيه شركاء بأن عبده لغير الله.

نسب عبد المطلب وسبب تسميته بذلك

نسب عبد المطلب وسبب تسميته بذلك قال الشارح رحمه الله تعالى: [ابن حزم هو عالم الأندلس أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم القرطبي الظاهري، صاحب التصانيف، توفي سنة ست وخمسين وأربعمائة، وله اثنتان وسبعون سنة. وعبد المطلب هذا هو جد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ابن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، ولا ريب أنهم من ذرية إسماعيل بن إبراهيم]. ونسبه إلى عدنان متفق عليه بين أهل النسب ولا خلاف فيه، ولكن منه إلى إسماعيل لا يعلمه إلا الله، ويقيناً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ابن إسماعيل بن إبراهيم الخليل، وكذلك قريش، وأكثر العرب هم بنو إسماعيل؛ لأن العرب ينقسمون إلى قسمين: عرب أصلهم يعرب بن قحطان بن هود من ذرية هود عليه السلام، وهود عربي، وأنبياء الله أكثرهم عجم غير عرب، والعرب منهم أربعة فقط، وقد جاء هذا في حديث فيه ضعف، ولكن هذا الأمر مشهور. قال الشارح رحمه الله تعالى: [حكى رحمه الله اتفاق العلماء على تحريم كل ما عبد لغير الله تعالى؛ لأنه شرك في الربوبية والألوهية؛ لأن الخلق كلهم ملك لله، وعبيد له، استعبدهم لعبادته وحده وتوحيده في ربوبيته وإلهيته، فمنهم من عبد الله ووحده في ربوبيته وإلهيته، ومنهم من أشرك به في إلهيته، وأقر له بربوبيته وأسمائه وصفاته، وأحكامه القدرية جارية عليهم ولابد، كما قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:93] فهذه هي العبودية العامة. وأما العبودية الخاصة فإنها تختص بأهل الإخلاص والطاعة، كما قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر:36] ونحوها. قوله: (حاشا عبد المطلب) هذا استثناء من العموم المستفاد من (كل)، وذلك أن تسميته بهذا الاسم لا محذور فيها؛ لأن أصله من عبودية الرق، وذلك أن المطلب أخا هاشم قدم المدينة، وكان ابن أخيه شيبة هذا قد نشأ في أخواله بني النجار من الخزرج؛ لأن هاشماً تزوج فيهم امرأة فجاءت منه بهذا الابن، فلما شب في أخواله وبلغ سن التمييز سافر به عمه المطلب إلى مكة بلد أبيه وعشيرته، فقدم به مكة وهو رديفه، فرآه أهل مكة وقد تغير لونه بالسفر فحسبوه عبداً للمطلب، فقالوا: هذا عبد المطلب، فعلق به هذا الاسم وركبه، فصار لا يذكر ولا يدعى إلا به، فلم يبق للأصل معنى مقصود، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا ابن عبد المطلب)، وقد صار معظماً في قريش والعرب، فهو سيد قريش وأشرفهم في الجاهلية، وهو الذي حفر زمزم، وصارت له السقاية ولذريته من بعده. وعبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد بني عبد المطلب، وتوفي في حياة أبيه. قال الحافظ صلاح الدين العلائي في كتابه (الدرة السنية في مولد خير البرية): كان سن أبيه عبد الله حين حملت أمه آمنة برسول الله صلى الله عليه وسلم نحو ثمانية عشر عاماً، ثم ذهب إلى المدينة ليمتار منها تمراً لأهله، فمات بها عند أخواله بني عدي بن النجار، والنبي صلى الله عليه وسلم حمل على الصحيح. انتهى. قلت: وصار النبي صلى الله عليه وسلم لما وضعته أمه في كفالة جده عبد المطلب. قال الحافظ الذهبي: وتوفي أبوه عبد الله وللنبي صلى الله عليه وسلم ثمانية وعشرون شهراً، وقيل: أقل من ذلك، وقيل: وهو حمل، توفي بالمدينة، وكان قد قدمها ليمتار تمراً، وقيل: بل مر بها راجعاً من الشام، وعاش خمساً وعشرين سنة، قال الواقدي: وذلك أثبت الأقاويل في سنة وفاته. وتوفيت أمه آمنة بالأبواء وهي راجعة به صلى الله عليه وسلم إلى مكة من زيارة أخوال أبيه بني عدي بن النجار، وهو يومئذ ابن ست سنين ومائة يوم، وقيل: ابن أربع سنين، فلما ماتت أمه حملته أم أيمن مولاته إلى جده، فكان في كفالته إلى أن توفي جده وللنبي صلى الله عليه وسلم ثمان سنين، فأوصى به إلى عمه أبي طالب. انتهى].

العبودية قسمان

العبودية قسمان ذكر الشارح أن العبودية تنقسم إلى قسمين: عبودية عامة تشمل الخلق كلهم، كما في الآية: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:93]، وهذا يشمل المؤمنين والكافرين، ويشمل العاقل وغير العاقل، ومعنى هذا: أنهم معبدون، تجري عليهم أحكام الله وأقداره بدون اختيارهم، فهو خلقهم، وتعبدهم بقدره وخلقه وأمره الكوني القدري، فكل مخلوق هو عبد لله بمعنى أنه خاضع له، خاضع للقدر الذي قدره عليه وقضاه، وليس معنى ذلك أن يكون عابداً. المعنى الثاني: أن يكون عابداً، أي: تصدر العبودية منه، وهذا هو الذي ينفع، وهو الذي كلف به الجن والإنس، أن يكونوا عبيداً لله تصدر منهم العبادة من الخضوع والذل وفعل المأمور واجتناب المحذور، وهذ هي التي يترتب عليها الثواب وعلى تركها العقاب، أما الأولى فيدخل فيها كل مخلوق لله جل وعلا حتى الجمادات من السماوات والجبال والشجر والنجوم وغيرها، فكلها مذللة مسخرة لله جل وعلا، فهي عابدة لقهره وقدره وخلقه وتدبيره. أما كون الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه ابن عبد المطلب، فهذا من باب الخبر الذي وقع وتعارف عليه الناس وانتهى ولا يمكن تغييره، وليس في ذلك إقرار بهذه العبودية.

خلاف العلماء في حكم التسمي بعبد المطلب

خلاف العلماء في حكم التسمي بعبد المطلب قول ابن حزم رحمه الله: (حاشا عبد المطلب) بعد قوله: (اتفقوا على تحريم تعبيد كل اسم لغير الله جل وعلا) يعني: أنه لا يجوز أن يعبد مخلوق لغير الله، بأن يقال مثلاً: عبد الكعبة، أو عبد النبي، أو عبد علي، أو عبد الحسن، أو عبد الحسين، أو ما أشبه ذلك، بل يجب أن يعبد لله، وقوله: (اتفقوا) يعني: أجمعوا على ذلك، والإجماع معروف أنه أحد الأصول التي يرجع إليها في إثبات الأحكام، وهو لابد أن يستند إلى دليل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإخراج عبد المطلب من هذا الإجماع فيه نظر؛ لأنه لا يجوز لأحد أن يسمي ابنه عبد المطلب؛ لأن هذا من المحرمات، كما أنه لا يجوز أن يسميه عبد مناف أو عبد الدار أو عبد شمس، وهذه كانت أسماء لأناس من قريش من أقرباء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنها أسماء وقعت في الجاهلية، وهي محرمة، وأصبح النسب إليها شيء ثابت لا يغير، فليس عبد المطلب خارجاً مما ذكر ابن حزم. أما كونه ذكر أنه من باب عبودية الرق، وليس من باب العبادة، فهذا سبب تسميته بذلك، والآن يعرف بعبد المطلب، والمطلب رجل معروف، فلا يطلق عليه عبودية مطلقة، والعبودية لا يجوز أن تكون إلا لله جل وعلا.

كفالة عبد المطلب للنبي صلى الله عليه وسلم وحفره لزمزم

كفالة عبد المطلب للنبي صلى الله عليه وسلم وحفره لزمزم ما ذكر الشارح من حمل الرسول صلى الله عليه وسلم وولادته، وكذلك وفاة أبيه ووفاة أمه، هو مختلف فيه بين أهل التاريخ والسير، ولكن من المتفق عليه أنه توفي والده وهو صغير، سواء كان حملاً أو بعدما كان له سنتان وستة شهور أو نحو ذلك، وكذلك والدته اختلفوا في عمره وقت وفاتها، فقيل: إنه بعدما بلغ أكثر من ست سنوات، وقيل: بعدما بلغ أربع سنوات، ومن المعلوم أن الذي كفله بعد وفاة والده هو عبد المطلب، ثم بعد ذلك جعله إلى عمه أبي طالب، وأبو طالب هو عمه، وعبد المطلب هو جده. ثم ذكر أنه هو الذي حفر زمزم، فكانت زمزم قد دفنت، ولم يعلم أين هي، فحفرها بعدما رأى رؤيا، كما هو معروف، فاستخرجها وصارت تنسب إليه، وصار هو أحق بها، ولهذا صارت سقاية الحاج في ذريته، وإلا فزمزم قديمة جداً، ظهرت بجبريل عليه السلام لما وضع إبراهيم صلى الله عليه وسلم هاجر أم إسماعيل في ذلك المكان وليس فيه أحد، وولى منصرفاً إلى الشام، تركها مع ابنها وصارت تناديه: يا إبراهيم! لمن تتركنا هاهنا وتذهب؟ وهو لا يلتفت إليها ولا يكلمها، فلما رأت ذلك قالت له: آلله أمرك بهذا؟ فقال: نعم، فرجعت وقالت: إذن لا يضيعنا الله، وصارت ترضع ابنها حتى نفد ما معها من ماء وطعام، فعطش الابن ثم أدركه الموت، فكرهت أن تنظر إليه وهو يموت، فنظرت إلى أقرب مرتفع إليها وهو جبل الصفا الذي هو أسفل جبل أبي قبيس، فصعدت عليه لعلها ترى أحداً، فلم تر أحداً، فهبطت وقصدت المروة لتصعد عليه لعلها ترى أحداً؛ لأنها في كرب، فلم تر أحداً، فعلت ذلك سبع مرات، وكانت إذا وصلت الوادي تسعى سعي المجهود، وفي الأخير سمعت صوتاً، فالتفتت ونظرت فلم تر أحداً، ثم قالت: لقد أسمعت فأغث إن كان عندك غوث، فنظرت فإذا برجل عند الصبي، فذهبت إليه وإذا هو جبريل عليه السلام، فقال لها: لا تخافي فإن هذا الصبي سيبني مع والده بيتاً لله جل وعلا في هذا المكان، فبحث الأرض بطرف جناحه، فنبع الماء، وصار عيناً جارية، فصارت تحجره بالتراب فوقف، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (رحم الله أم إسماعيل، لو تركته لصار عيناً معيناً) يعني: لأصبح عيناً تجري، ولكنها حجرته فاحتجر، فهذا أول مبدأ زمزم، وهذا قديم من زمن إبراهيم عليه السلام. والمقصود: أن حفر عبد المطلب لزمزم كان بعد فترة طويلة جداً من وجودها؛ لأنها دفنت لما حصلت الحروب بين جرهم وبين قريش وغيرهم. ثم إن هذا التعبيد الذي لا يجوز أن يعبد لمخلوق لا يقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أثبت ذلك وقال: (أنا بن عبد المطلب)؛ لأن هذا من باب الخبر عن شيء واقع ماضٍ ولا يمكن تغييره، وهو من باب النسب، والنسب ذكر في النص على ما هم عليه في أنسابهم. وأما قوله كما في صحيح البخاري: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميلة، تعس عبد الخميصة) فهذا ليس إقراراً لعبودية الدينار والدرهم والخميلة والخميصة ولكنه إنكار لذلك، وإخبار بأنه ستناله التعاسة والشقاء، فلا يكون دليلاً على أن الإنسان يعبد لغير الله جل وعلا؛ لأن هذا خرج من باب الذم والتحذير، كما أنه وصف لمن يقوم به، فالذي يعبد الدينار والدرهم لا يسجد له ولا يركع له ولا يدعوه، ولكنه يعمل من أجله، فيكون عمله له، فلهذا سمي عبداً له. فالمقصود: أن هذا من باب الذم والتحذير من هذا الفعل، وهو يقع في كثير من الناس، وكثير من الناس يعبد الشيطان فضلاً عن عبادة الدرهم والدينار. ولا يجوز أن يُعبّد المخلوق لمخلوق، بل يجب أن تكون العبودية لله مطلقاً. قوله: (حاشا عبد المطلب): هذا استثناء من العموم، وذلك لأن تسميته بهذا الاسم لا محذور فيه؛ لأنه مأخوذ من عبودية الرق، والمعنى: أن (عبد المطلب) لم يتفقوا على أنه من التعبيد المحرم، وليس معنى ذلك أنه جائز، بل المعنى: أن فيه خلافاً؛ لما ذكر أن السبب في التسمية هو أنها من باب عبودية الرق، كما ذكر أنه قدم به من المدينة مردفاً له خلفه على راحلته وقد أصابته الشمس وتغير لونه، فظنوا أنه مملوك أو أنه اشتراه، فقالوا له ذلك، ثم نسي اسمه (العلم)، وهو (شيبة)؛ وقد سمي بذلك لأنه لما ولد وجد في رأسه شعرة بيضاء فسمي: شيبة. وقد ذكر بعض العلماء: أن في الصحابة من اسمه عبد المطلب ولكن هذا غير صحيح، والصواب: أن هذا خطأ ممن نقله، والصواب: أنه المطلب، ففيهم: المطلب بن حاطب بن حنظل، أما عبد المطلب فليس موجوداً، أي: ليس في الصحابة من اسمه: عبد المطلب. أما ما جاء في صحيح مسلم في قصة الرجل الذي طلق زوجته ألبتة فسمي: (عبد ركانة)، فهو ليس هكذا بالإضافة وإنما هو بالتنوين، فلا يكون من باب العبودية.

بيان أن قوله تعالى: (فلما آتاهما صالحا) ليس المراد به آدم وحواء

بيان أن قوله تعالى: (فلما آتاهما صالحاً) ليس المراد به آدم وحواء قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما في الآية قال: (لما تغشاها آدم حملت، فأتاهما إبليس، فقال: إني صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة، لتطيعونني أو لأجعلن له قرني أيل فيخرج من بطنك فيشقه، ولأفعلن ولأفعلن، يخوفهما، سمياه: عبد الحارث، فأبيا أن يطيعاه فخرج ميتاً، ثم حملت فأتاهما فقال مثل قوله، فأبيا أن يطيعاه فخرج ميتاً، ثم حملت فأتاهما فذكر لهما، فأدركهما حب الولد فسمياه عبد الحارث، فذلك قوله: ((جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا)) [الأعراف:190]) رواه ابن أبي حاتم. وله بسند صحيح عن قتادة قال: (شركاء في طاعته ولم يكن في عبادته). وله بسند صحيح عن مجاهد في قوله: {لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا} [الأعراف:189] قال: أشفقا ألا يكون إنساناً. وذكر معناه عن الحسن وسعيد وغيرهما]. هذه القصة كما ذكر أنها رويت عن السلف، ويكون على هذا تفسير الآية: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [الأعراف:189] يعني: آدم، ومعلوم أن الله جل وعلا خلق آدم من التراب كما ذكر لنا ربنا جل وعلا، وهذا جاء كثيراً في القرآن، وهو أمر مقطوع به، ومما يعجب له الإنسان وهو من أعجب العجب: كون الكثير من أبناء المسلمين يتركون ما ذكره الله جل وعلا مع ظهوره ووضوحه، ويأخذون بنظرية يهودي خبيث حانق على الإسلام وعلى أهله، ويريد أن يفسده، فيأتي بنظرية من أغرب ما يكون، فيقول: إن الإنسان أصله قرد، ثم إنه تطور؛ لأن الخلق يتطور شيئاً فشيئاً إلى آخره! فهذا كفر من الإنسان الذي يعرف هذه الأشياء ويعلمها ثم يقول ذلك، وهذا كفر بالله جل وعلا. فالمقصود أن قوله: (فَلَمَّا تَغَشَّاهَا) يعني: جامعها، والضمير يعود إلى آدم وحواء، (حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا) يعني: أنها حملت بالولد فأصبحت لا تحس به لخفته، (فَمَرَّتْ بِه) يعني: استمرت به ومشت به ومضت وقتاً، (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ) يعني: كبر ابنها في بطنها وصار له ثقل: (دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا) يعني: آدم وحواء، (لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا) يعني: رجلاً سوياً على صورتهما، (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) * (فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء) يعني: أنهما سمياه عبد الحارث، وهذا تفسير باطل، ولا يجوز أن يعتقد، ولا يجوز أن يكون هو معنى كلام الله جل وعلا، وإن روي بهذه الأسانيد وقيل: إنه صحيح. ولهذا يقول ابن حزم رحمه الله في كتابه (الفتن): هذه خرافة موضوعة وضعها بعض الزنادقة من أهل الكتاب عن المسلمين، وهذا أمره واضح، وذلك أن آدم عليه السلام نبي كريم، وقد وقع فيما وقع فيه من الخطأ والمعصية التي واقعها في الجنة قبل هذه الحادثة على تقدير ذلك لما وقعت من آدم، والله جل وعلا أخبر أنه نسي العهد الذي عهد إليه في الشجرة، وجاءه الشيطان وصار يقسم له بالله: إنه له ناصح، وما كان يعتقد أن أحداً يقسم بالله وهو كاذب، ولهذا لما تبين له الخطر رجع إلى ربه وتاب وأناب، وهو أمر قدره الله عليه جل وعلا ولابد من مضيه فتاب من فعله، ثم أهبط فكيف يأتيه الشيطان مرة أخرى وهو في الأرض؟! ثم مع ذلك يقول له: (أنا صاحبكما الذي أخرجتكما)، هل هذا يعقل؟! لو قال هذا لكان آدم رجمه، وهذا لا يدعو إلى أنهم يطيعونه، وليس الولد داع إلى أن يشرك بالله جل وعلا أبداً، وآدم رسول لا يمكن أن يطيع الشيطان ويعمل ذلك. فالمقصود: أن هذا باطل، ولا يجوز أن يكون معنى كلام الله جل وعلا، وإنما معناه الصحيح: أن هذا جنس الرجل والمرأة من بني آدم، ومعلوم أن المولود يولد من ذكر وأنثى، فهو من جنس الناس الذين يشركون، وأما هذا المخلوق الذي هو الرجل والمرأة مع العقل الذي أوتي إياه من الله جل وعلا، وأن الله عهد إليهم بأن يعبدوه، ومنّ عليهم بأن خلق لهم زوجاً وقد خلقهم من نفس واحدة، كلهم خلقوا من نفس واحدة، وهذا له نظائر في القرآن: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة:128] {اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء:1]، فهو يذكر ما منّ به على الزوج والزوجة، حيث إنه جعل من رحمته الرحمة بينهما والألفة بالزواج، ثم منّ عليهم بالأولاد، ثم هذه النعمة التي يعطيها الله جل وعلا إياهما يشركون بها، وهذا لا يجوز أن يقع من نبي وإنما يقع من بعض المشركين والجهلة، فالمقصود به جنس الزوج والزوجة، أي: الجنس غير المعين، الذي وقع منهم ما وقع فلما حصل لهم ذلك وتغشى الزوج زوجته فحملت فأثقلت، دعوا الله -الزوج والزوجة-: {لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء} [الأعراف:189 - 190]. شركاء في أي شيء؟ شركاء بأن عبّدوه لغير الله، وعلموه أن يعبد اللات والعزى، أو يعبد الحجر والشجر، أو يعبد غير ذلك، مع اعترافهم بأنه هبة من الله، وأنه لا دخل لهذه المعبودات التي يعبدونها في تكوينه وخلقه وإيجاده. هذا هو الصواب في معنى الآية الذي ينبغي أن يكون عليه. أما هذه الرواية التي رويت عن السلف فيظهر أنها مأخوذة من أهل الكتاب، وما جانا عن أهل الكتاب وهو مخالف لما عندنا مما جاء به رسولنا صلى الله عليه وسلم فلا يجوز أن نصدقه، ولا أن نقبله، فضلاً عن أن يكون هو معنى كلام ربنا جل وعلا. أما أن يقال: كيف يقوله قتادة ومجاهد بل وروي عن ابن عباس ويكون باطلاً؟ هل يعقل هذا؟! فنقول: ولهذا قال طائفة من العلماء: هذا هو الصواب؛ لأنه روي عن هؤلاء السلف وهم الذين قالوا به، ولكن نقول: إذا كان هذا ثابت عن أهل الكتاب فإن الراوي يخرج من العهدة إذا ذكر ذلك، وليس ذلك تعييناً؛ والخطأ يجوز على كل إنسان ما عدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأنبياء بعد النبوة معصومون من الوقوع في الشرك، وهذا شرك، وباتفاق العلماء: أن الأنبياء معصومون من الوقوع في الشرك، وآدم منهم، فلا يجوز أن يقع ذلك منه. وأيضاً: إن الشيطان طلب منهم أن يسموه عبد الحارث، وهذا يحتاج إلى دليل، وهل اسم الشيطان (الحارث)؟ وإذا كان معروفاً فهل يعقل أن آدم يعرف أنه الحارث ويأمره الشيطان بأن يسمي ابنه عبداً له فيطيعه؟! هذا لا يجوز أن يعتقده مسلم، فيجب أن يقدر آدم عليه السلام؛ لأنه نبي ينزه عن مثل هذا، وإنما هذا يقع لبعض المشركين الجهلة من بني آدم وهذا يحتاج إلى دليل لكون الشيطان هو الحارث وأن اسمه الحارث، وأنه كان من العبّاد وكان يسمى بذلك، والدليل على أنه لم يثبت: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أصدق الأسماء حارث وهمام)؛ لأن الحارث هو العامل، والهمام هو الذي يهم، وأفضل الأسماء ما عبّد أو حمّد، وأصدقها حارث وهمام. فهل يمكن أن يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: أصدقها حارث وهو اسم الشيطان؟ لا يمكن، بل كان الرسول صلى الله عليه وسلم يغير الأسماء التي فيها مخالفة شرعية ولو كانت لجماد وحيوانات.

الفرق بين الشرك في الطاعة والشرك في العبادة

الفرق بين الشرك في الطاعة والشرك في العبادة قوله: [وله بسند صحيح عن قتادة قال: شركاء في طاعته ولم يكن في عبادته]. هنا نحتاج إلى معرفة الفرق بين الطاعة والعبادة، والشرك في الطاعة والعبادة. الشرك في الطاعة قد يكون شركاً في العبادة التي تتضمن الذل والخضوع، وقد لا يكون شركاً في العبادة؛ وذلك لأن الإنسان قد يطيع ظالماً معتدياً في أمره، إما خوفاً من سطوته أو غير ذلك، أو لرغبة في أمر من أمور الدنيا وهو يعرف أنها معصية، فتكون طاعته معصية وهي نوع من العبادة، ولكن ليست كالعبادة التي تتضمن الذل والخضوع والتعظيم؛ لأن هذه أركان العبادة: (أن يطيع ذالاً خاضعاً معظماً خائفاً راجياً). ثم كذلك: نحن ندرك أن هذا يطيع هذا وقلبه كاره له مبغض له، ويطيعه في أمر لا يجوز أن يطيعه فيه، فيكون القلب غير عابد له بل قد يلعنه في قلبه، بخلاف الذي يطيع رب العالمين. أما طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، أو طاعة من يأمر بطاعة الله وينهى عن معصيته، فهذه لا تسمى طاعة عبادة، ولا تسمى عبادة لمن أمر، وإنما يطاع لأنه جاء بأمر الله. قال الشارح رحمه الله: [قال شيخنا رحمه الله: إن هذا الشرك في مجرد تسمية لم يقصد حقيقتها، وهو محمل حسن، يبين أن ما وقع من الأبوين من تسميتهما ابنهما عبد الحارث، إنما هو مجرد تسمية، لم يقصدا تعبيده لغير الله. وهذا معنى قول قتادة: شركاء في طاعته ولم يكن في عبادته]. هذا لا يكفي في تبرير هذه الحكاية، وكونه شركاً في الطاعة وليس شركاً في العبادة؛ لأن الشرك في الطاعة شرك، ولا يجوز أن يقع من نبي من الأنبياء، ولو كان مثل هذا وقع لذكر الله جل وعلا التوبة، وأنه تاب منها؛ لأنه لا يجوز أن يقر عليها.

مسائل الباب

مسائل الباب

تحريم كل اسم معبد لغير الله

تحريم كل اسم معبد لغير الله قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل:- المسألة الأولى: تحريم كل اسم معبد لغير الله]. وهذا كما يقول ابن حزم: اتفقوا على هذا. يعني: لا يجوز أن يعبد الإنسان لغير ربه جل وعلا، فكل اسم فيه عبودية لغير الله يجب أن يغير، والذي فعل ذلك ارتكب محرماً؛ لأن هذا من الشرك الظاهر. [المسألة الثانية: تفسير الآية]. وقد مر تفسير الآية. [المسألة الثالثة: أن هذا الشرك في مجرد تسمية لم تقصد حقيقتها]. يعني: أنه شرك طاعة وليس شرك عبادة، وقد عرفنا ما فيه.

البنت السوية نعمة من نعم الله

البنت السوية نعمة من نعم الله [الرابعة: أن هبة الله للرجل البنت السوية من النعم]. وهذا مأخوذ من القصة نفسها، أي: من أنه يخشى أن يخرج المولود في غير صورة الإنسان، بل يجوز أن يخرج رأسه رأس حيوان أو له قرون أو مشوهاً أو ناقصاً أو زائداً، وقد شاهد الناس أشياء كثيرة من هذا القبيل، فإذا ولد للإنسان بنت خلقتها تامة وسوية فهي من النعم التي يجب عليه أن يشكرها. لماذا يقول هذا؟ لأن كثيراً من الناس لا يرضى بالبنت، ويرى أنه إذا ولد له بنت فقد أصيب بمصيبة، وهذا ورثوه من الجاهلية الذين يقول الله جل وعلا فيهم: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} [النحل:58 - 59]، مع أنهم -قبحهم الله- يجعلون الملائكة بنات الله، تعالى الله وتقدس، فهم يأنفون من أن تكون لهم الإناث وينسبون الإناث لله تعالى الله وتقدس، وإذا بشر أحدهم بالأنثى تصير هذه حالته: {يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ} [النحل:59] يعني: أنه إذا بشر أنه رزق بنتاً ينحرف من الناس ويذهب حتى لا يعير بذلك؛ لأنه بشر بأمر سيئ، ثم يصبح يفكر في نفسه ماذا يصنع: هل يمسكها على هون، أي: على إهانة وازدراء واحتقار يحتقرها ويهينها، أم يأخذها ويدفنها في التراب حيةً كما كانوا يفعلون؟ وهذا من الإجرام نسأل الله العافية. فمثلاً: قد تولد له بنت وعنده شيء من هذا الإرث القبيح؛ لأن البنت نعمة من النعم، وقد تكون البنت خيراً من الذكر، وأفضل وأصلح وأحسن وأبر، وكذلك قد تكون أنفع للإنسان من الذكر، ثم إذا احتسب ورباها وأنفق عليها وعلمها وأدبها يعظم له الأجر مما لو قام على ابنه. إذاً: آدم عليه السلام جعل هبة البنت للإنسان من النعم التي يجب أن يشكر الله عليها، فيجوز أن يكون المولود مشوهاً أو يخرج بصورة حيوان، أو مجنوناً لا عقل معه، ولهذا كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إذا بشرت بمولود من أقاربها سألت عن خلقته: هل خلقته سوية؟ فإذا قالوا: نعم، قالت: الحمد لله على نعمته، ولا تسأل: هل هو ذكر أم أنثى؟ والإنسان يجب عليه أن يعتبر من حالة الجاهلية وحالة الكفار، ويحمد الله جل وعلا حيث عافاه من ذلك، فهي منة عليه منّ الله جل وعلا بها، أن جعله مسلماً سالماً من الشرك والكفر، ومن الظلم الذي يكون في المولود، الذي هو من أعظم الظلم، وقد قال الله جل وعلا: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8 - 9] يعني: أنها تسأل أولاً -لعظم الأمر- فيقال لها: بأي ذنب قتلت؟ يسألها الله جل وعلا، فتقول: لا ذنب لي، طفلة صغيرة، لا تأكل ولا تعرف شيئاً، وهذا من أعظم الجهل، وأكبر الظلم، وقد كان من العرب من يفعل هذا خوفاً من العار، وخشية أن تزني بنته أو تسبى ويأخذها أعداؤه، وطائفة منهم تفعل ذلك خوفاً من الفقر، فكله جهل وظلم، وما جاء في سنن الدارمي في ذكر الحديث المتقدم يقول: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أخبرني عن أمر لقد أهمني وأغمني، فقال: نعم. قال: إنه كان لي ابنة، فلما سمعت الإجابة - يعني: أنها كبرت قليلاً- دعوتها يوماً فكانت لدعوتي سعيدة - يعني: أجابته بسرعة - يقول: فأخذت بيدها وذهبت بها إلى بئر بعيدة عن البيوت. يقول: فألقيتها في البئر، فآخر ما سمعت من كلامها أنها قالت: يا أبتاه! فذرفت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له الحاضرون: ويلك أحزنت قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: دعه يسأل عما أهمه) فكيف تطيب نفسه يلقي بنته في هذا البئر؟ لولا الشيطان والأوضاع التي كانوا عليها ما فعل، ورحمة الله على الإنسان الذي عافاه الله من السوء؛ لأن السوء هو الذي يكون ظاهراً جلياً، وقد يزين لبعض النفوس فيصير حسناً. [المسألة الخامسة: ذك السلف الفرق بين الشرك في الطاعة والشرك في العبادة].

شرح فتح المجيد [116]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [116] إن من التوسل والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى أن يكون بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وذلك بعد إثباتها والإيمان بها، وعدم الإلحاد فيها، فإنه قد حذر الله سبحانه وتعالى من الإلحاد في أسمائه وصفاته -بأنواعه المختلفة التي ذكرها العلماء- وأمر بتوحيده.

باب قول الله تعالى: (ولله الأسماء الحسنى)

باب قول الله تعالى: (ولله الأسماء الحسنى) قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف:180]. ذكر ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما (يلحدون في أسمائه): يشركون، وعنه: سموا اللات من الإله والعزى من العزيز، وعن الأعمش: يدخلون فيها ما ليس منها]. هذا الباب في قول الله جل وعلا: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف:180]. ويقصد المؤلف بهذا أن يبين أن التوسل يجب أن يكون بأسماء الله جل وعلا وصفاته، ولا يجوز أن يكون التوسل بمخلوق من المخلوقات، وأن عبادة الله جل وعلا تكون بأسمائه التي أمر أن يدعى بها. وفيه أيضاً: التحذير من الإلحاد في الأسماء والصفات؛ لأنه نوع من الكفر الذي قد يكون منافياً للتوحيد إذا كان إلحاداً بأسماء الله جل وعلا، والإلحاد أنواع كما سيأتي، وقد يكون أقل من ذلك فيكون منافياً لكمال التوحيد، فالإنسان لا يخلو من أن يكون موحداً وسالماً من الإلحاد فيكون مرتكباً لهذا الأمر وداعياً لله جل وعلا، وعابداًَ له بأسمائه وصفاته، مكملاً لتوحيده، أو يكون عنده نقص، إما بجهل أسماء الله جل وعلا وصفاته التي يجب أن يعبد بها، أو عنده شيء من الإلحاد في أسمائه وصفاته، فيكون ذلك تركاً لما هو واجب من التوحيد، أو ترك ركن منه فيكون ناقص التوحيد. أراد المؤلف رحمه الله هنا أن يبين ما يجب على العبد في هذا، وبالإضافة إلى أن الله جل وعلا جعل توحيده بأسمائه وصفاته نوعاً من أنواع التوحيد، لكن الظاهر هنا أنه يقصد بذلك توحيد العبادة؛ لأنه قال: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف:180]، والدعاء يقصد به العبادة، والعبادة هي التوحيد، فلا تكون عبادة شرعية نافعة إلا إذا كانت توحيداً. أي: خالصة لله جل وعلا، ليس فيها شيء لغيره.

معنى قوله: (ولله الأسماء الحسنى)

معنى قوله: (ولله الأسماء الحسنى) وقوله: (ولله الأسماء الحسنى) الجار والمجرور قدم على ذكر الخبر؛ ليبين أن هذا خاص بالله جل وعلا. والحسنى: هي التي بلغت الغاية في الحسن، ومعنى حسنى: أنها كملت في معانيها ومدلولاتها، وأنها سلمت من النقص والعيب، فلا يلحقها نقص ولا عيب، وهذا بخلاف أسماء المخلوقين.

معنى قوله: (فادعوه بها)

معنى قوله: (فادعوه بها) وقوله: (فادعوه بها) أمر من الله جل وعلا أن ندعوه بأسمائه الحسنى. وكيف ندعوه؟ يعني: أن تكون دعوته بها، وهذا يكون في كل مطلب بما يناسبه، إذا كنت تطلب المغفرة فتدعوه باسمه الغفار والغفور، وإذا كنت تطلب الرحمة فادعه باسمه الرحيم والرحمن، وإذا كنت تطلب الرزق فادعه باسمه الرزاق والجواد والكريم، وهكذا في كل شيء تدعو بالاسم الذي يناسبه، وهذا معنى دعائه بها. فكذلك كل أمور الإنسان يجب أن تكون ملتمسة ومقترنة بهذه العبادة. يعني: أن يعبد الله بأسمائه. فمثلاً: إذا أراد عملاً من الأعمال يقول: باسم الله. يعني: أستعين بهذا الاسم الكريم، سواءً كان يأكل أو ينام أو يعمل عملاً من أمور الدنيا أو غيرها، وقد يكون هذا واجباً في بعض الأفعال، مثل الذبيحة، فإذا أردت أن تذبح ذبيحة فيجب أن تسمي وتذكر اسم الله، وهذا نوع من عبادة الله وذكره بأسمائه الحسنى. وكذلك عند الأكل وغيره فهو داخل في الأمر، فكل أفعال الإنسان التي يكون فعلها طاعة، يجب أن تكون مكتملة بدعاء الله جل وعلا باسمه، سواء قصد بالدعاء جلب نفع أو استعانة، أو تقرب إليه جل وعلا بالذبيحة، أو فعل شيء مباح كالأكل والدخول والمشي والجلوس وأعمال الدنيا، وغيرها، فحياة الإنسان لا تنفك عن هذا الأمر، ولكن يجب أن يكون متنبهاً له وقاصداً له؛ لقوله جل وعلا: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] ومعنى ذلك: أن هذه العبادة لا ينفك المؤمن عنها في حال من الأحوال، فدائماً تكون معه، ويجب أن يتنبه لهذا ويقصد ذلك ويريده حتى يثاب عليه، وبعضها يكون واجباً، وبعضها يكون مندوباً.

معنى قوله: (وذروا الذين يلحدون في أسمائه)

معنى قوله: (وذروا الذين يلحدون في أسمائه) وقوله جل وعلا: (وذروا الذين يلحدون في أسمائه): (ذر): اترك. أي: اتركهم، ولا يهمك أمرهم فإنهم صائرون إلى الله فمجازيهم بما يستحقونه، وليس معنى ذلك أنهم لا يكلمون ولا يدعون إلى الحق ويحذرون من الباطل، بل يؤخذ من هذا: أنهم لا يجادلون في إلحادهم، ولهذا كان السلف رضوان الله عليهم يقطعون مجادلة الملحدين الذين يلحدون في أسماء الله، بل وينهون عن ذلك أشد النهي؛ لأن هذا فيه نصر لإلحادهم، وفيه إقرار لهم على ذلك، وقد يكون في مجادلتهم ومسالمتهم فتنة لغيرهم ممن يسمع ولا يتخلص من الشبه التي يلقونها، فإذا تركوا كان ذلك مدعاة لأن يموت مذهبهم ويهجر. فقوله: (وذروا الذين يلحدون) يفهم منه: التهديد والوعيد. (يلحدون في أسمائه): الإلحاد: هو الميل والعدول عما قصد بها، وهو مأخوذ من اللحد، ومنه لحد القبر؛ لأنه يحفر مائلاً عن سمت الحفرة إلى جهة القبلة حتى يوضع به الميت، فيسمى لحداً من هذه الناحية.

أنواع الإلحاد في أسماء الله وصفاته

أنواع الإلحاد في أسماء الله وصفاته والإلحاد في أسمائه جل وعلا أنواع، منه:

تحريف معانيها

تحريف معانيها أولاً: تحريف معانيها؛ وهو ما يسمونه بالتأويل، مثل أن يقول: (يد الله): نعمته، (استواء الله): استيلاؤه، (علو الله): قهره، وهكذا، فهذا من الإلحاد في أسمائه جل وعلا، وهو داخل في التعطيل الذي هو أعم من هذا كله. إذاً الإلحاد يكون في تعطيلها عن معانيها وتحريفها عما قصد بها من المعاني التي دلت عليها.

اشتقاق بعض أسماء المخلوقات منها

اشتقاق بعض أسماء المخلوقات منها ثانياً: أن يشتق منها أسماء لبعض المخلوقات، كتسمية الحجر -مثلاً- أو الشجر، أو القبر أو غيره باسم (إله)، (فالإله) يجب أن يكون لله وحده، والتأله لله وحده فقط، فتسمية مخلوق (إله) من الإلحاد. وكذلك الكفار ألحدوا في أسمائه حيث سموا بعض معبوداتهم بأسماء أخذوها من أسماء الله، مثل: اللات أخذوها من (الإله) أو من (الله)، و (العزى) أخذوه من (العزيز) ولعلهم أنثوها باعتبار أنها آلهة، ومعروف أن التأنيث يدل على الضعف والرخاوة والليونة والميوعة؛ لأن اسم المؤنث هكذا يكون، ولا يدل إلا على النقص، وكذلك قولهم: (مناة) مأخوذة من (المنان)، فهذا نوع آخر من الإلحاد. يعني: أن يشتق أسماء لبعض المخلوقات من أسمائه جل وعلا، فهذا نوع من الإلحاد؛ لأن أسماء الخالق كلها لله جل وعلا، ومعانيها كاملة وهي حسنى.

تسميته ووصفه جل وعلا بما يتنزه عنه تقدس وتعالى

تسميته ووصفه جل وعلا بما يتنزه عنه تقدس وتعالى ثالثاً: أن يسمى جل وعلا بما يتعالى ويتقدس عنه، كتسمية النصارى له (أب) تعالى الله وتقدس، وكذلك الفلاسفة يسمونه (علة موجبة) أو (علة فاعلة) أو يسمونه (عقل فعال) أو ما أشبه ذلك من التسميات الباطلة، وهو نوع من الإلحاد في أسماء الله جل وعلا. رابعاً: أن يوصف بالنقص الذي يتنزه عنه جل وعلا، كما يقول اليهود لعنهم الله: (يد الله مغلولة) ويقولون: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181] ويقولون: إن الله لما خلق السماوات والأرض في ستة أيام وانتهى من الخلق تعب واستراح تعالى الله وتقدس، ولهذا يقول الله جل وعلا: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38] يعني: من إعياء وعجز نفياً لما قاله هؤلاء الخبثاء قاتلهم الله، فهذا من الإلحاد في أسمائه وصفاته جل وعلا.

الفرق بين الاسم والصفة

الفرق بين الاسم والصفة وقوله: (وذروا الذين يلحدون في أسمائه). أولاً: أسماء الله جل وعلا لم يذكر أنها محصورة في عدد معين، والحديث الذي سيأتي لا يدل على هذا، وإنما ذكر أن له الأسماء الحسنى، والتي ذكرها الله جل وعلا في كتابه، وذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه جل وعلا مخبراً بها عنه، فكل ما ثبت أنه اسم من أسماء الله أو صفة من صفات الله فإنه يسأل بها. والفرق بين الاسم والصفة: أن الاسم يدل على الذات، فمثلاً: الرب يدل على ذاته المقدسة التي تتصرف في كل شيء والله كذلك، والرحمان والرحيم. أما الصفة فهي المعنى الذي يقوم بالذات، مثل الرحمة، فالرحمة معنى قائم بالله جل وعلا دل عليها الاسم الذي هو الرحمن أو الرحيم. هذا الفرق الأول. الفرق الثاني: أن الأصل الصفات، والأسماء مشتقة من الصفات، فكل اسم مأخوذ من صفة، فالرحمن مأخوذ من الرحمة، والله مأخوذ من التأله، والرب مأخوذ من التربية والقيام على المخلوق بما يرضي الله، والعزيز من العزة وهكذا، فهذا هو الفرق. إذاً: الفرق الأول: أن الاسم يدل على المسمى وعلى الذات التي وضع لها هذا الاسم، وأما الصفة فهي المعنى القائم بالموصوف. الفرق الثاني: أن الأصل هي الصفات والأسماء مشتقة من الصفات، وليس العكس كما يتوهم بعض الناس فيجعل الأسماء هي الأصل والصفات مشتقة، فهذا خطأ، بل الأصل الصفة، وهذا معنى قول العلماء: إن أسماء الله مشتقة، أي: أنها مأخوذة من معان قامت في الرب جل وعلا.

حكم إنكار الصفات

حكم إنكار الصفات والصفات كثيرة جداً، وإنكارها ضلال وجهل. ومن الجهل الوقوف على ظاهر النصوص بدون تأمل للمعنى، كما وقع لـ ابن حزم رحمه الله فأنكر أن يكون لله جل وعلا صفات وقال: هذا كله من كلام المتكلمين الذي لا يدل إلا على الانحراف والشك والباطل. وقال: جاء في بعض النصوص كما ثبت في الصحيح من حديث الرجل الذي كان يؤم أصحابه فيقرأ سورة ثم يختم بـ (قل هو الله أحد) ويردد ذلك، فلما سألوه؟ قال: إنها صفة الله وأحبها، فلما سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ قال: (حبك إياها أدخلك الجنة)، قال: هذا يثبته وما عدا ذلك فلا؛ فيقال له: هل الرحمن يدل على معنى أو لا يدل على معنى؟ لابد من أنه يدل على معنى. فما هو المعنى الذي يدل عليه؟ الرحمة، وكذلك العليم يدل على العلم، والحليم يدل على الحلم، والكريم يدل على الكرم وهكذا، فيقال: هذه المعاني التي دلت عليها هذه الأسماء هي الصفات، وهي التي يسأل الله جل وعلا ويدعى بها كالأسماء تماماً لا فرق، ثم إن معنى كونها مشتقة: أنها أخذت من هذه المعاني وأنها دلت على معانٍ عظيمة، والعلماء قسموها إلى قسمين: متعدٍ ولازم، والأفعال في لغة العرب إما أن تكون متعدية أو تكون لازمة فمثلاً: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] فهذا يسمى لازماً؛ لأنه يدل على الاستواء على العرش فقط، ومثل هذا يجب أن يؤمن به وبالصفة التي دل عليها وهي الاستواء. وأما قوله جل وعلا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1]. فهنا (خلق) اسم فعل يدل على الفاعل، فالخلق فعله الذي هو صفة، وله أثر. يعني: له شيء يتعدى إليه وهو المخلوق. (السموات والأرض) أثر الخلق، فهو تعدى بهذا المعنى، فلابد من أمور ثلاثة فيها: إثبات الاسم، والصفة، والأثر. إذاً: يكون معنى التعدي واللزوم في هذا هو التعدي واللزوم اللغوي. يعني: إذا قلت -مثلاً- قام زيد، فهذا يسمى لازم، كذلك (جلس)، ولكن إذا قلت: ضرب وأكل وشرب فإن هذا يكون متعدياً، ولابد له من أثر، والأثر هو أثر الضرب، وأثر الأكل، وأثر الشرب، وهذا التقسيم من ناحية المعاني التي يدل عليها الكلام. وقوله جل وعلا: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف:180]. يعني: اتركوا، وهذا جاء من باب الوعيد والتهديد، ويدل على توعد الملحدين وتهديدهم، وأنه على المخاطب أن يعرض عنهم، ومعنى الإعراض عنهم: عدم مجادلتهم وعدم الاهتمام بأمرهم، أما دعوتهم والبيان لهم فإنه إذا أمكن فلابد من ذلك؛ لأن الله جل وعلا يقول: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى:9]، والدعوة إليه كما سبق لابد منها، ولكن إذا علم أن الإنسان لا يجدي ذلك معه فيعرض عنه، خصوصاً الملحد، فالغالب في الملحد أنه يكون عارفاً، ولكن لا يريده، بل يريد غيره ولهذا أمر بالإعراض عنه.

معاني الإلحاد في الأسماء والصفات

معاني الإلحاد في الأسماء والصفات (وذروا الذين يلحدون) والإلحاد ذكر له ثلاثة معان: الأول: الشرك وإدخال ما ليس منها. الثاني: جعلها أسماء لبعض المخلوقات. الثالث: اشتقاق أسماء المخلوقات والأوثان منها. فهم يأخذون أسماء أصنامهم وأوثانهم منها فهذه معانٍ ذكرها بعض السلف: (الشرك وإدخال ما ليس منها، وجعلها أسماء لبعض المخلوقات، أو جعل بعضها أسماء لبعض المخلوقات). وبقي من معاني الإلحاد معنيان: الأول: تعطيل معانيها التي دلت عليها وهذا من أعظم الإلحاد. والثاني: تشبيه معانيها بمعاني المخلوقات، بأن يجعل ما دلت عليه شبيهاً بما دلت عليه صفة المخلوق أو اسم المخلوق. إذاً تكون معاني الإلحاد خمسة: إلحاد هو عدول بها إلى غير ما وضعت له، وإلحاد بإدخال ما ليس منها فيها، وإلحاد بجعلها أو بعضها أسماء لبعض المخلوقات، وإلحاد يكون في تعطيل معانيها، وإلحاد يكون في تشبيه معانيها بمعاني المخلوقين.

الشرك في الأسماء والصفات

الشرك في الأسماء والصفات أما القسم الأول: فالشرك بها، وهو داخل في جميع ما ذكر؛ لأن المشرك معطل ولابد، وكل مشرك معطل وليس كل معطل مشرك، فالشرك في أسماء الله وصفاته: أن يجعل -مثلاً- صفات وأسماء الرب جل وعلا تدل على ما دل عليه اسم مخلوق، مثل أن يقول: إننا لا نفهم من يد الله جل وعلا إلا الجارحة المعروفة لنا، أو يقول مثلاً: لا نفهم من كون الإنسان الذي قال: الله جل وعلا يتكلم إلا أن يكون ذلك صادراً عن فم وعن لسان وعن شفتين وحنجرة وأحبال صوتية وهكذا. وهذا تشبيه. وكذلك الصوت فيجب أن يثبت لله في هذا على وجه التوحيد. يعني: خاصاً به، ولهذا جاء في الحديث: (إن الله ينادي بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب) وهذا لا يكون في الخلق، وإنما هو خاص بصوت الله، وكذلك جاء: (أن الملائكة إذا سمعوا صوت الله صعقوا وأصابهم الغشي وذهبت عقولهم وسقطوا) وهذا خاص بصفة الله جل وعلا، وليس معنى ذلك أنه يكون عظيماً؛ لأن الإنسان مثلاً لو سمع صوتاً عظيماً -يعني: فوق طاقته- يصعق، وقد ذكر الله جل وعلا عن قوم ثمود لما أخذتهم الصاعقة -الصاعقة هي الصيحة- التي ذكرت في بعض الآيات. ويقول المفسرون: إن جبريل عليه السلام صاح فيهم صيحة بصوته فتقطعت قلوبهم في أجوافهم فسقطوا؛ لأن الإنسان ضعيف. وصوت جبريل مزعج وعظيم لا يتحمله الإنسان، ولكن ليس هذا هو المقصود في حق صوت الله جل وعلا، فصوته تعالى هو صوت يخاطب به ملائكته ومع ذلك يصعقون، فالمقصود أن قوله جل وعلا: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا} [البقرة:22] يكون هذا في حقه ويكون في وصفه وأسمائه، ويكون أيضاً في أفعاله، فلا يجوز أن تكون أفعاله كأفعال المخلوقين، كما أن أسماءه وصفاته لا تجوز أن تكون كأسماء المخلوقين وكذلك حقه الذي أوجبه على خلقه، وكذلك ذاته المقدسة تعالى وتقدس، وهذا أمر متفق عليه أما بالنسبة للذات، فلا أحد ينازع فيها، ومعلوم أن الأسماء والأفعال والصفات تكون خاضعة للذات؛ ولكنهم يتناقضون.

إدخال ما ليس من أسماء الله وصفاته فيها

إدخال ما ليس من أسماء الله وصفاته فيها أما الثاني: وهو أن يدخل فيها ما ليس منها، كأن يسميه: (علة موجبة، أو عقلاً فعالاً) أو مثل ما يقول النصارى: (الابن والأب وروح القدس)، وهذا من الإلحاد، وكذلك يلحق بهذا أيضاً أن يوصف بمعنى ينزه تعالى وتقدس عنه، كوصف اليهود له بأنه فقير تعالى الله وتقدس، أو بأنه بخيل تعالى الله وتقدس؛ لأنهم قالوا: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} [المائدة:64] ولهذا لا تجد يهودياً كريماً أبداً، فكل اليهود من أبخل الناس وأعظم الناس عبادة للمال، لقول الله جل وعلا: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا} [المائدة:64] فهم يصفون الله جل وعلا بالبخل، والصفات التي يرمون الرب جل وعلا بها ينزهون أنفسهم منها: {قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181] {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا} [آل عمران:181]، والله جل وعلا لا يخفى عليه شيء، فكل شيء يحصيه على عباده، فإنه يستمع لهم منذ خلقهم إلى أن يوقفهم في قبورهم، ثم بعد ذلك يبعثهم ثم يعرض عليهم ما كانوا يعملونه ويقولونه، فيقصه جل وعلا عليهم، ولا يخفى عليه شيء، ومع ذلك فكل شيء مسجل حتى لا يكون للإنسان أي اعتذار. {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:13 - 14]. الصواب في هذا: أن هذا الكتاب الذي يخرج هو كتاب الحسنات والسيئات التي يسجلها الملائكة على الإنسان، حيث يخرج له ويجد فيه كل ما عمل، وهناك يقول الظالمون: {يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف:49]، لا يغادر شيئاً، وكل شيء يجده المرء أمامه مكتوباً محفوظاً لدى الله جل وعلا. وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود يقول: كنت جالساً عند الكعبة فجاء ثلاثة نفر من المشركين، كثيرة شحوم بطونهم قليل الفقه في قلوبهم، فقال واحد منهم: أترون الله يسمعنا إذا تكلمنا؟ فقال الآخر: إذا رفعنا أصواتنا سمعنا وإذا خفضنا لم يسمعنا، فقال الثالث: إن كان يسمعنا إذا رفعنا أصواتنا فهو يسمعنا إذا خفضنا أصواتنا، فذهب وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله جل وعلا: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف:80]. (بلى) يعني: بلى نسمعها، ومع ذلك فالرسل -الذين هم الملائكة- يكتبون، وقد أخبر الله جل وعلا في قوله في الآية الأخرى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} [طه:15] وقوله: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:7]. يقول العلماء: (السر) هو: الذي يدور في نفس الإنسان وذهنه ولم يظهر عليه أحداً ولم يتلفظ به، وأخفى منه الشيء الذي لم يحدث في ذهنه، كل هذا يعلم الله جل وعلا أنه سيحدث كذا وكذا في وقت كذا وكذا، فلا يخفى على الله شيء، بل يخبرنا ربنا جل وعلا بالشيء الذي يكون، وأنه لو كان أنه يكون على كذا وكذا، كما قال الله جل وعلا لما قال الكفار عندما ألقوا في جهنم: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا} [الأنعام:27] جاء A { وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام:28] أي: ولو ردوا إلى الدنيا لعادوا إلى الكفر والتكذيب الذي كانوا فيه، وهذا لا يحصل فهو ممتنع؛ لأن الله أخبر أنهم لا يردون، ولكن على سبيل التنزل، لو قدر أنهم يردون لعادوا إلى ما كانوا عليه من الكفر، فالله يعلم الأشياء التي لا تكون لو كانت أنها تكون على كذا وكذا، والله على كل شيء قدير وهو بكل شيء عليم، وهو الغني بذاته عن كل شيء، وكل شيء فقير إليه، ولا يخفى عليه من تصرفات خلقه شيء تعالى وتقدس. إذاً أسماء الله جل وعلا معانٍ عظيمة، والتفقه فيها من أعظم ما يجب على الإنسان، ومعرفة الله جل وعلا تتوقف على ذلك، فالله جل وعلا تعرف إلى عباده بأسمائه وصفاته، والمقصود في هذا الباب: أن الإنسان يتعرف على ربه جل وعلا من خلال الأسماء والصفات التي سمى ووصف الله جل وعلا بها نفسه، وعلى هذا فالإلحاد يكون أنواعاً وكله متوعد فيه، وأصله من الميل والعدول؛ لأن معنى ألحد: أي عدل عن السمت المراد الذي طلب منه أن يفعله ومال وجنح عنه، وكل ميل وجنوح عن السمت يسمى لحداً، ومنه لحد القبر؛ لأنه لا يكون على سمت الحفرة بل يجنح إلى جهة القبلة في جانب القبر، فيحفر حفرة في جانب القبر من جهة القبلة ويوضع بها الميت، وهذا يسمى لحداً، وهذا اللحد بخلاف الشق، فإن الشق يكون على قدر الميت مثل اللحد ولكنه في الوسط، وكلاهما جائز، ولكن اللحد أفضل كما جاء في الأحاديث. إذاً: الإلحاد في أسماء الله يكون بتحريفها بالتأويلات الباطلة، ويكون بتعطيل معانيها، ويكون بجعلها معانٍ للمخلوقات، ويكون بإضافة شيء إليها ليس منها، ويكون بأن تجعل معانيها معانٍ معينة من معاني المخلوقات. هذه الأقسام الخمسة، والإلحاد أيضاً يكون في آيات الله التي تدل على الأحكام، ولهذا جاء أن الملحد في الحرم لا يقبل منه صرف ولا عدل، والملحد فيه هو الذي خرج عن الطاعة بفعل الكبائر والمعاصي الظاهرة. يعني: ارتكب محرماً ظاهراً وترك ما هو ظاهر الوجوب، فهذا يسمى ملحداً أو ملحداً في دين الله.

شرح حديث: (إن لله تسعا وتسعين اسما)

شرح حديث: (إن لله تسعاً وتسعين اسماً) قال الشارح رحمه الله تعالى: [عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن لله تسعةً وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر) أخرجاه في الصحيحين من حديث سفيان بن عيينة. ورواه البخاري عن أبي اليمان عن أبي الزناد عن الأعرج عنه]. هذا الحديث متفق عليه، والكلام جملة واحدة. يعني: أن المقصود الإخبار عن هذه الأسماء التسعة والتسعين، وليس المعنى أن أسماء الله محصورة في هذا العدد، بل لا حصر لها، وإنما أريد الإخبار عن حكم معين، وهو أن من أحصى هذه الأسماء التسعة والتسعين يدخل الجنة. وهذا هو المقصود. إذاً: يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن من أحصى هذه الأسماء المعينة -التسعة والتسعين- يدخل الجنة، ولهذا يتعين أن نعرف ما معنى أحصاها؟ لأن هذا أمر مهم؛ ولأنه يترتب عليه دخول الجنة.

معنى الإحصاء في الحديث

معنى الإحصاء في الحديث ووجه ذكر الحديث هنا: أن يبين المؤلف رحمه الله أن معنى الدعاء بها الذي ذكر في الآية: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] هو معنى الإحصاء المذكور في الحديث فيكون الحديث مطابقاً للآية تماماً.

مراتب الإحصاء

مراتب الإحصاء ومراتب الإحصاء في الحديث ثلاث: المرتبة الأولى: حفظ هذه الأسماء التسعة والتسعين ومعرفتها مرتبة. المرتبة الثانية: أن يعرف معانيها ويفقهها. المرتبة الثالثة: أن يدعو الله بها ويعبده. هذا قول من أقوال العلماء. القول الثاني: أن معنى الإحصاء: العد والحسب، والبخاري رحمه الله كأنه يميل إلى هذا القول؛ لأنه لما ذكر الحديث قال: أحصاها: حفظها، ولكن من المعلوم أن الحفظ بلا معنى لا يفيد شيئاً. والقول الثالث: أن معنى الإحصاء: أن يقول بما يلزم من معانيها، وما دلت عليه، وأن يقوم بالعمل اللازم لها، واستدل أصحاب هذا القول بقوله جل وعلا: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} [المزمل:20] وقال: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} [المزمل:20] يعني: أن لن تطيقوه. أي: لا تطيقون قيام الليل كله، ولكن السدس أو الربع أو ما تيسر، لهذا يقول جل وعلا: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ} [المزمل:20] فهنا يقولون: (الإحصاء) معناه: أن يطيق الإنسان القيام بما تستوجبه هذه الأسماء والصفات لله جل وعلا، فهذا يكون صعباً على الإنسان. وأقرب الأقوال والله أعلم: القول الأول، أن الإحصاء له ثلاث مراتب: الحفظ، ومعرفة المعنى، ودعاء الله بها، ويكون هذا هو المقصود.

أسماء الله غير محصورة

أسماء الله غير محصورة أول اللفظ قوله صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة) (إن) تدخل على المبتدأ والخبر، وتجعل الأول اسماً لها منصوباً، وتجعل الثاني خبراً لها مرفوعاً. (إن لله تسعة وتسعين اسماً) ولفظ الجلالة هنا مجرور فتصير (تسعة وتسعين اسماً لله) فتكون جملة واحدة، وهذا لا يدل على أنها محصورة في هذه الأسماء، وإنما لله جل وعلا هذه الأسماء للتعبد بها، ثم إن هذه الأسماء لابد أن تكون موجودة في القرآن؛ لأن الرسول يخبر عن شيء موجود صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه قال: (من أحصاها دخل الجنة). وكذلك إذا فات شيء في القرآن فهو موجود في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فلابد أن تكون موجودة فيما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من كتاب الله وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم. يعني: قد يكون في القرآن أكثر من التسعة والتسعين اسماً، والدليل على أنه ما أريد بها الحصر ظاهر في هذا الأسلوب، فالإنسان قد يقول: عندي عشرون كتاباً أعددتها للمطالعة أو أعددتها للعارية، فلا يفهم من هذا أنه ليس عنده إلا هذه الكتب، وإنما يفهم أنه أراد بهذه العشرين شيئاً معيناً إما للمطالعة لمن يأتي ويطالع فيها، أو للعارية فمن يأتي يستعيرها، وعنده كتب أخرى غيرها. ومن الأدلة على أن أسماء الله غير محصورة بعدد: ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما أصاب عبد هم أو حزن فقال: اللهم أني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألك اللهم بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء همي وغمي، إلا أذهب الله غمه وأبدله فرحاً) أو كما قال.

أقسام أسماء الله

أقسام أسماء الله في الحديث النبوي قسمت الأسماء إلى أقسام ثلاثة: قسم جعله الله منزلاً في كتابه، والمقصود بالكتاب: جنس الكتاب. يعني: الكتب التي أنزلها على عباده، والقسم الثاني: علّمه من يشاء من خلقه ولم ينزله في كتابه، والقسم الثالث: استأثر به في علم الغيب عنده، فلم ينزله في كتابه، ولم يعلمه أحداً من خلقه، وهذا دليل واضح بأن أسماء الله غير محصورة. ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة لما ذكر أن الناس إذا طال بهم الوقوف، وأشتد بهم الكرب يلهمهم الله جل وعلا بأن يطلبوا الشفاعة من الرسل وهم واقفون معهم في الموقف، فيقول بعضهم لبعض: من أولى من أبيكم آدم، خلقه الله بيده، وأسكنه جنته، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء، فيذهبون إلى آدم ويطلبون منه ذلك فيعتذر، وفي الأخير تئول الشفاعة إلى محمد صلى الله عليه وسلم. يقول صلى الله عليه وسلم: (فأذهب إلى مكان تحت العرش فإذا رأيت ربي خررت ساجداً فيفتح علي من المحامد والثناء ما لا أحسنه الآن). المحامد والثناء تكون بأسمائه وصفاته جل وعلا. وقوله: (ما لا أحسنه الآن) يعني: أنه لم ينزل عليه صلى الله عليه وسلم. ومنه أيضاً: قوله صلى الله عليه وسلم: (لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك) والثناء عليه جل وعلا يكون بأسمائه وصفاته، وما يدل على ذلك: قوله جل وعلا: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان:27]. يعني: لو أن جميع ما في الأرض من شجر جعل أقلاماً، والبحر جعل مداداً للأقلام فكتب بهذه الأقلام من البحار كلها، ويكون مع هذه البحار الموجودة مثلها سبع مرات، فإن البحار تنفد وكلمات الله لا تنفد. وغير ذلك من الدلائل الكثيرة على هذا، وكله يدل على أن كلمات الله من أسمائه جل وعلا وصفاته، ويدل على أن أسماء الله غير محصورة. إذاً: المقصود بهذا الحكم الذي ذكر وهو أن من أحصاها دخل الجنة، وإحصاؤها يكون بحفظها، وبمعرفة معانيها، وبسؤال الله جل وعلا بها، فمن فعل ذلك دخل الجنة، ولا يكون ذلك إلا لمن وحد وعرف حق الله، وعرف ما يوجب له وما يمتنع عليه.

ذكر أسماء الله الواردة في القرآن

ذكر أسماء الله الواردة في القرآن قال الشارح رحمه الله تعالى: [وأخرجه الترمذي عن الجوزجاني عن صفوان بن صالح عن الوليد بن مسلم عن شعيب بسنده، مثله، وزاد بعد قوله (يحب الوتر: هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، الباري، المصور، الغفار، القهار، الوهاب، الرزاق، الفتاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعز، المذل، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العلي، الكبير، الحفيظ، المقيت، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحق، الوكيل، القوي، المتين، الولي، الحميد، المحصي، المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الحي، القيوم، الواجد، الماجد، الواحد، الأحد، الفرد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدم، المؤخر، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، الوالي، المتعالي، البر، التواب، المنتقم، العفو، الرءوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، الغني، المغني، المانع، الضار، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور). ثم قال الترمذي: هذا حديث غريب، وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة، ولا نعلم في كثير من الروايات ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث]. وهذا الحديث يدور على هذا السبب فقط، والصواب كما يقول كثير من الحفاظ: إن سرد الأسماء ليس مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو مدرج استخرجه بعض العلماء من كتاب الله جل وعلا ومن حديث رسوله، ولهذا يوجد في الروايات اختلاف من تقديم وتأخير، ومن زيادة ونقص، وهذا السرد ترك فيه اسم متفق عليه لم يذكر، وهو ظاهر جداً وهو الرب، مما يدل على أن هذا السرد ليس مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والعلماء اختلفوا اختلافاً كثيراً في هذا، فأخذ بعضهم ذلك مما ثبت في كتاب الله، وبعضهم أخذوا الأفعال وجعلوها أسماء، وبعضهم صار يزيد وينقص، ولكن لا يجوز أن يؤخذ من كل فعل له اسم، فالأفعال أوسع من الأسماء؛ لأنه تذكر أفعال لله ولكن لا يؤخذ له منها أسماء؛ فإنه جل وعلا يقول: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران:54]، {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق:15 - 16]، {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142] وما أشبه ذلك، فلا يجوز أن نأخذ من هذه الأفعال أسماء له تعالى وتقدس، كما أنه لا يجوز أن نأخذ من قوله: (صنع الله الذي أتقن كل شيء) فنسميه الصانع، وكذلك لا نسميه الماكر، ولا نسميه المخادع، ولا نسميه الكائد أخذاً من هذه الأفعال، وإنما يجب أن تكون أسماؤه موقوفة على ما سمى به نفسه كالعزيز الحكيم، البر الرحيم التواب، وما أشبه ذلك مما هو ظاهر من أنها أسماء لله جل وعلا، فإذا وجد ذلك دل ذلك على أنها أسماء، وأنها يقينية بلا شك، أما شيء يؤخذ من معانٍ، أو من أفعال، كاسم فعل أو فعل، فلا يجوز أن يعتمد على هذا. نعم.

سرد أسماء الله في الحديث مدرج وعدم انحصارها في تسعة وتسعين

سرد أسماء الله في الحديث مدرج وعدم انحصارها في تسعة وتسعين قال الشارح رحمه الله: [والذي عول عليه جماعة من الحفاظ: أن سرد الأسماء في هذا الحديث مدرج فيه، وإنما ذلك كما رواه الوليد بن مسلم وعبد الملك بن محمد الصنعاني عن زهير بن محمد]. الحديث يدور على الوليد بن مسلم، الذي ضعفه أهل الجرح والتعديل. قال الشارح رحمه الله: [عن زهير بن محمد أنه بلغه عن غير واحد من أهل العلم، أنهم قالوا ذلك، أي: أنهم جمعوها من القرآن كما روي عن جعفر بن محمد وسفيان وأبي زيد اللغوي والله أعلم. هذا ما ذكره العماد ابن كثير في تفسيره، ثم قال: ثم ليعلم أن الأسماء الحسنى ليست منحصرة في تسعة وتسعين، بدليل ما رواه أحمد عن يزيد بن هارون عن فضيل بن مرزوق عن أبي سلمة الجهني عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما أصاب أحد قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك اللهم بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك: أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي، إلا أذهب الله همه وحزنه، وأبدله مكانه فرحاً، فقيل: يا رسول الله! ألا نتعلمها؟ فقال: بلى ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها) وقد أخرجه أبو حاتم ابن حبان في صحيحه].

حقيقة الإلحاد في أسماء الله سبحانه وتعالى

حقيقة الإلحاد في أسماء الله سبحانه وتعالى قال الشارح رحمه الله: [وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف:180]، قال: (إلحاد الملحدين: أن دعوا اللات في أسماء الله). وقال ابن جريج عن مجاهد: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف:180]، قال: اشتقوا اللات من الله واشتقوا العزى من العزيز. وقال قتادة: يلحدون: يشركون. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: (الإلحاد: التكذيب). وأصل الإلحاد في كلام العرب: العدول عن القصد، والميل والجور والانحراف، ومنه اللحد في القبر؛ لانحرافه إلى جهة القبلة عن سمت الحفر. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وحقيقة الإلحاد فيها الميل بالـ إشراك والتعطيل والنكران وأسماء الرب تعالى كلها أسماء وأوصاف، تعرف بها تعالى إلى عباده، ودلت على كماله جل وعلا. وقال رحمه الله تعالى: فالإلحاد إما بجحدها وإنكارها، وإما بجحد معانيها وتعطيلها، وإما بتحريفها عن الصواب، وإخراجها عن الحق بالتأويلات. وإما أن يجعلها أسماء لهذه المخلوقات، كإلحاد أهل الاتحاد، فإنهم جعلوها أسماء هذا الكون، محمودها ومذمومها. حتى قال زعيمهم: هو المسمى بمعنى كل اسم ممدوح عقلاً وشرعاً وعرفاً. وبكل اسم مذموم عقلاًَ وشرعاً وعرفاً، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. انتهى].

عقيدة أهل السنة في صفات الله سبحانه

عقيدة أهل السنة في صفات الله سبحانه قال الشارح رحمه الله: [والذي عليه أهل السنة والجماعة قاطبة، متقدمهم ومتأخرهم: إثبات الصفات التي وصف الله بها نفسه، ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم، على ما يليق بجلال الله وعظمته، إثباتاً بلا تمثيل، وتنزيهاً بلا تعطيل، كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]. وأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، يحتذى حذوه ومثاله وكما أنه يجب العلم بأن لله ذاتاً حقيقة لا تشبه شيئاً من ذوات المخلوقين، فله صفات حقيقة لا تشبه شيئاً من صفات المخلوقين، فمن جحد شيئاً مما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله، أو تأوله على غير ما ظهر من معناه، فهو جهمي، قد اتبع غير سبيل المؤمنين، كما قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115]].

أقسام ما يجري صفة أو خبرا على الرب سبحانه وتعالى

أقسام ما يجري صفة أو خبراً على الرب سبحانه وتعالى قال الشارح رحمه الله: [وقال العلامة أيضاً: فائدة جليلة: ما يجري صفة أو خبراً على الرب تبارك وتعالى أقسام: أحدها: ما يرجع إلى نفس الذات كقولك: ذات وموجود. الثاني: ما يرجع إلى صفاته ونعوته: كالعليم، والقدير، والسميع، والبصير. الثالث: ما يرجع إلى أفعاله: كالخالق، والرازق. الرابع: التنزيه المحض، ولابد من تضمنه ثبوتاً، إذ لا كمال في العدم المحض: كالقدوس، والسلام. الخامس -ولم يذكره أكثر الناس-: وهو الاسم الدال على جملة أوصاف عديدة، لا تختص بصفة معينة، بل دال على معان نحو: المجيد، العظيم، الصمد؛ فإن المجيد من اتصف بصفات متعددة من صفات الكمال، ولفظه يدل على هذا، فإنه موضوع للسعة والزيادة والكثرة، فمنه استمجد المرخ والعفار، وأمجد الناقة: علفها، ومنه: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [البروج:15]، صفة للعرش لسعته وعظمته وشرفه. وتأمل كيف جاء هذا الاسم مقترناً بطلب الصلاة من الله على رسوله، كما علمناه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه في مقام طلب المزيد، والتعرض لسعة العطاء، وكثرته ودوامه، فأتى في هذا المطلوب باسم يقتضيه، كما تقول: اغفر لي وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم، فهو راجع إلى التوسل إليه بأسمائه وصفاته، وهو من أقرب الوسائل وأحبها إليه، ومنه الحديث الذي في الترمذي: (ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام)، ومنه: (اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت المنان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام!)، فهذا سؤال له وتوسل إليه بحمده، وأنه لا إله إلا هو المنان، فهو توسل إليه بأسمائه وصفاته، وما أحق ذلك بالإجابة، وأعظمه موقعاً عند المسئول، وهذا باب عظيم من أبواب التوحيد. السادس: صفة تحصل من اقتران أحد الاسمين والوصفين بالآخر، وذلك قدر زائد على مفرديهما، نحو: الغني الحميد، الغفور القدير، الحميد المجيد. وهكذا عامة الصفات المقترنة والأسماء المزدوجة في القرآن، فإن الغنى صفة كمال، والحمد كذلك، واجتماع الغنى مع الحمد كمال آخر، فله ثناء من غناه، وثناء من حمده، وثناء من اجتماعهما، وكذلك الغفور القدير، والحميد المجيد، والعزيز الحكيم، فتأمله فإنه أشرف المعارف]. أولاً: علمنا أن الله جل وعلا سمى نفسه بأسماء موجودة في كتابه جل وعلا، وسماه بها رسوله صلى الله عليه وسلم، قد يوجد في الأسماء التي جاءت عن الرسول صلى الله عليه وسلم ما ليس في الكتاب، وكذلك الصفات؛ لأن الأصل في الاسم هو الصفة، فالله أمرنا أن ندعوه بأسمائه وصفاته: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180]، فالدعوة في الواقع هي: العبادة، بل هي مخ العبادة، كما جاء في الحديث وعرفنا أن معنى الدعاء بالأسماء: أننا نتوسل إليه بأسمائه فنقول: يا غفور! يا رحيم! اغفر لنا وارحمنا، يا تواب! يا كريم! تب علينا، وهكذا. وكذلك في الأعمال التي نزاولها، نبدؤها بذكر اسم الله جل وعلا، ويكون ذلك طلباً للاستعانة به وطلباً للبركة، ويكون هذا من باب العبادة، ومن باب الدعاء بأسمائه جل وعلا. وكذلك قال الله جل وعلا: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف:180]، وهنا بين أن أسماءه حسنى، وعرفنا أن الحسنى: التي لا يلحقها نقص ولا عيب، وتكون كاملة في معانيها، وفيما دلت عليه. وحذر من الإلحاد في أسمائه وتوعد الملحدين بقوله: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف:180].

أنواع الإلحاد في أسماء الله

أنواع الإلحاد في أسماء الله فالإلحاد في أسمائه أنواع، ذكر منها عدة أنواع: أحدها: أن يسمى بها شيء من المخلوقات، بأن تسمى بعض المخلوقات الناقصة بما يشتق من أسمائه، كما كان يفعل الملحدون من المشركين، فإنهم يسمون بعض آلهتهم: آلهة، أخذاً من التأله، والتأله يجب أن يكون لله؛ لأنه من خصائصه جل وعلا، وكذلك سموا اللات أخذاً من اسم الله، وسموا العزى أخذاً من اسم العزيز، ومناة أخذاً من اسم المنان وهكذا، فهذا إلحاد. الثاني: من الإلحاد أن يوصف بما ليس من أوصافه ويسمى بشيء ليس من أسمائه، فإن أسماءه حسنى، فمن سماه بغير أسمائه الحسنى فقد ألحد في أسمائه، وألحد في معاملته، وقد مثلنا لهذا مثلما يقول خبثاء الخلق من اليهود وغيرهم: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ} [آل عمران:181]، وقولهم: إن الله تعب حينما خلق السماوات فاستراح، وقولهم: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة:64]، فهذا من الإلحاد في أسمائه وهو من أعظم الإلحاد. الثالث: من الإلحاد التأويلات التي تبطل معاني أسماء الله جل وعلا، كأن يجعل معنى اليد: القوة أو القدرة أو النعمة، ويجعل معنى الرحمة: الإحسان وما أشبه ذلك، فإن هذا إلحاد في أسمائه جل وعلا. الرابع: من الإلحاد في أسمائه أن يسمى أيضاً بما يتقدس عنه ويتنزه، كتسمية النصارى له: بالأب، والفلاسفة له: بأنه علة موجبة وما أشبه ذلك، فكل ما سمي به مما لم يسم به نفسه، أو سماه به رسوله فهو إلحاد. فإذاً يكون معنى الآية: أننا أمرنا بأن نتوسل إليه وندعوه ونعبده بأسمائه، ونقتصر على ما سمى به نفسه، ونفهم معاني الأسماء والصفات، على ما يليق بجلال الله وعظمته، ومن عدل عن ذلك فقد ألحد. فإذاً الإلحاد معناه: إما الإشراك، وإما التعطيل والجحود، وإما أن يكون ملحداً إلحاداً كاملاً، بحيث أنه يجحد الله جل وعلا ويجحد حقوقه، كما يوجد في كثير من الناس. وأما قوله جل وعلا: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ} [الأعراف:180]، فليس معنى ذلك أنهم يتركون، وأن هذا أمر مباح لهم، بل معناه: أنه توعد لهم، يعني: إنني سوف أتولى عذابهم، أي: أن الله جل وعلا هو الذي يتولى عذاب من ألحدوا في أسمائه، ويتولى جزاءهم بما يستحقون.

باب قوله تعالى: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه)

باب قوله تعالى: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه)

وجوب إثبات أسماء الله وصفاته

وجوب إثبات أسماء الله وصفاته قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل: المسألة الأولى: إثبات الأسماء]. إثبات الأسماء لابد منه؛ لأن الله جل وعلا تعرف إلى عباده بأسمائه وصفاته، وقل أن تجد آية في القرآن إلا وفيها شيء من أسمائه وصفاته جل وعلا، وجاء ذكرها أكثر من ذكر الأحكام، وأكثر من الأمر بالصلاة، وأكثر من النهي عن الشرك. فذكر أسمائه في كتابه كثير جداً؛ لأن الله جل وعلا علام الغيوب، يعلم حاجة الخلق إلى ذلك، فهم لا يتعرفون على ربهم جل وعلا إلا بأسمائه وصفاته؛ لأن الله غيب لا أحد يشاهده، وليس له مثيل فيقاس عليه، تعالى الله وتقدس. فإذاً تعالى إلا من ثلاث طرق: آياته التي يحدثها، ومخلوقاته التي تدل على الخالق الموجد؛ لأن كل مخلوق له خالق ولابد، وأسمائه وصفاته. والله يتعرف إلى عباده بذلك، فإذاً لابد من إثباتها، وإثباتها يجب أن يكون على ما يليق به، وكما قال الله جل وعلا: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر:67]، يعني: أنه يجب على الخلق أن يقدروا الله ويعظموه ويعرفوا قدر عظمته، وهذا من خلال ما يتعرفون عليه من أسمائه وصفاته. فإذاً يكون إثبات الأسماء الذي ينبني عليه معرفة الله جل وعلا هو أصل التوحيد.

إثبات أن أسماء الله وصفاته حسنى والأمر بدعائه بها

إثبات أن أسماء الله وصفاته حسنى والأمر بدعائه بها [المسألة الثانية: كونها حسنى]. الحسنى: هي التي لا يلحقها نقص ولا عيب فهي كاملة تامة. [المسألة الثالثة: الأمر بدعائه بها]. والأمر يقتضي الوجوب، يعني: أننا نعبده بها، وعرفنا كيفية دعائه بها، والتوسل إليه بها، وكذلك الاستعانة به في أعمالنا بذكر أسمائه، إذ بذكرها تحصل لنا البركة، فهذا من دعائه ومن عبادته.

الموقف ممن ألحد في أسماء الله وصفاته وإثبات الوعيد في حقه

الموقف ممن ألحد في أسماء الله وصفاته وإثبات الوعيد في حقه [الرابعة: ترك من عارض من الجاهلين الملحدين]. يعني: الذي يلحد في أسمائه يترك، ومعنى يترك: أن الله يتولى جزاءه ويتولى عقابه، أما إذا كان عنده نوع من الشبه ومن تشكيك الناس فلا يترك، بل يجب أن تبطل شبهته وتبين، ويبين لمن قد يغتر به أنه ملحد. [الخامسة: تفسير الإلحاد فيها السادسة: وعيد من ألحد] يعني: أن الله توعده؛ لأن الآية تقتضي ذلك.

شرح فتح المجيد [117]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [117] لقد جاء نهي الشارع عن قول: السلام على الله؛ وذلك لما يتضمنه من معان لا تليق بالله سبحانه وتعالى، في كونه محتاج إلى من يسلمه من الأذى، وهذا نقص، والله عز وجل كامل لا يلحقه نقص ولا أذى ولا عيب.

وجه النهي عن قول: السلام على الله

وجه النهي عن قول: السلام على الله قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: لا يقال السلام على الله. في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (كنا إذا كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة قلنا: السلام على الله من عباده، السلام على فلان وفلان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا السلام على الله، فإن الله هو السلام)]. قوله: (في الصحيح) يعني: الحديث صحيح، وليس المقصود أنه في صحيح البخاري أو صحيح مسلم؛ لأن هذا أعم. وقوله: (باب لا يقال السلام على الله) يعني: أن هذا يكون من باب التنقص، ومن قال ذلك فإنه يكون ما عرف حق الله، ولا جاء بما يستحقه من التعظيمات والتحميدات والتمجيدات، وذلك أن قولك: السلام على كذا، على فلان، إما أن يقصد به التحية وهو الظاهر في هذا، وهو الذي قصده الصحابة، وإما أن يقصد به الدعاء، يعني: أنك تذكر اسم الله وتطلب بهذا الاسم أن الله يسلم على من سلمت عليه، تقول: لك السلامة، فالسلام عليك يعني: أنا أطلب من الله أن يسلمك من المكاره، ومن العيوب والنقائص. وقد يكون المعنى: أن السلام اسم من أسماء الله فإذا قلت: السلام عليك يعني: عليك هذا الاسم، وفي ضمنه إعلامك بأني سلم لك، يعني: أني أخوك فلا يأتيك من قبلي مكروه فلتسلم من قبلي، فلهذا يلقي اسم السلام، وإذا لم يسلم عليه قد يلحقه نقص، وقد يلحقه خوف، وقد يلحقه أذى، فيسلم عليه دفعاً لذلك. فعلى هذا لا يليق بأن يقال: السلام على الله؛ لأن الله كامل لا يلحقه نقص ولا يلحقه أذى، فهو كامل في ذاته، غني بذاته عن كل ما سواه، فالسلام منه، ولا يكون السلام مطلوباً له، بل يطلب منه للمخلوق الناقص، أما الله جل وعلا فهو تام، وهو السلام ومنه السلام. فمعنى السلام أنه سالم من كل نقص وعيب تعالى الله وتقدس، وهو سالم من الحاجة ومن الافتقار. فبين المؤلف أنه لو قيل: السلام على الله، فإن هذا ليس من التوحيد، بل هذا نقص في التوحيد؛ لأنه يتضمن التنقص لله جل وعلا، فيكون قدحاً في التوحيد، فأراد أن يبين أن توحيد الله جل وعلا أن يتأدب الموحد مع ربه جل وعلا، فيأتي بالتحميد والتسبيح والتهليل والكلام الذي يناسب، والثناء على الله جل وعلا، وأن يجتنب ما فيه شيء من النقص. وقوله: (كنا إذا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم)، كنا أو كان: تدل على مزاولة الشيء وتكراره، يقال: كان يفعل كذا، أي: كان يكرر ذلك ويكثر منه. وقوله: (مع رسول الله) المعية تدل على أن هذا كان في الصلوات؛ لأن معيتهم في الغالب كانت في الفرائض؛ لأنها هي التي يجتمعون فيها ويصلونها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما النوافل فكانت تصلى فرادى، هذا هو الكثير الغالب، ومطلوب أن تكون النوافل في البيت، وأن يكون الإنسان فيها خالياً، ليس عنده أحد، حتى يكون ذلك أدعى للإخلاص، وأقرب إلى أن يكون العمل لله وحده، حيث لا يقصد به رياء ولا سمعة ولا مقاصد أخرى. أما الفرائض فالطريقة فيها التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم الاجتماع في المساجد.

جواز السلام على الملائكة وغيرهم من الخلق في الصلاة

جواز السلام على الملائكة وغيرهم من الخلق في الصلاة وقوله: (كنا نقول: السلام على الله السلام على فلان وفلان) جاء أنهم كانوا يقولون: (السلام على جبريل، السلام على ميكائيل)، فيسلمون على الملائكة، فنهاهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقولوا: السلام على الله، وترك قولهم: السلام على جبريل وميكائيل؛ لأن جبريل وميكائيل مخلوقان من مخلوقات الله جل وعلا، والمخلوق يطلب له أن يسلم، لأنه قد يلحقه خوف أو نقص؛ لأنه ليس له غنى بنفسه، وإنما الغني بنفسه هو الله جل وعلا، وهو الذي يطلب منه تكميل الناقص، أو إزالة الخوف عمن يتوقع الخوف له.

دلالة النهي في قول: السلام على الله

دلالة النهي في قول: السلام على الله وجاء في تمامه أنه قال: (نهاهم عن ذلك)، وهذا النهي يدل على التحريم، لما عرفنا أن معناه: إما أن يتضمن نقصاً، وإما أن يتضمن سوء أدب مع الله جل وعلا، فإذا كان كذلك فإنه حرام أن يقول الإنسان: السلام على الله؛ لما يتضمنه ويدل عليه. فالله جل علا كامل غني سالم من كل نقص وعيب، فلا يسلم عليه، ولا يطلب منه أن يسلم نفسه؛ لأنه لا معنى لهذا، حيث إنه هو الغني والكامل بنفسه عن كل ما سواه، ولا يلقى عليه السلام من عباده بهذه الصفة؛ لأن هذا لا يناسبه تعالى وتقدس، فيكون ذلك سوء أدب.

معنى التحيات لله والصلوات والطيبات

معنى التحيات لله والصلوات والطيبات فقال لهم: قولوا: (التحيات لله والصلوات والطيبات)، ثم بين لهم السلام أن يقولوا: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله). والتحيات تعني: التعظيمات من التحميد والتهليل والتكبير والقيام والركوع والسجود والدعاء، وجميع ما يعظم به جل وعلا ويكون خاصاً به أي: التحيات اللائقة به جل وعلا قوله: (لله) يعني: خالصة لله ليس لأحد فيها شيء. ثم عطف عليها الصلاة عطف الخاص على العام، قال: (والصلوات) يعني: جميع الصلوات التي يصليها يصليها لله. قوله: (والطيبات) أي: الطيبات من الأعمال الخالصة، ومن الكلمات الطيبة التي تتضمن الحمد والثناء والتمجيد؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا الطيب. فهذا الذي علمه الرسول صلى الله عليه وسلم لصحابته، وهو تعليم للأمة كلها، بدل أن كانوا يقولون: (السلام على الله من عباده)، فقال لهم: (إن الله هو السلام ومنه السلام، فلا تقولوا: السلام على الله من عباده، ولكن قولوا: التحيات لله والصلوات والطيبات). ثم قال: و (الطيبات) إشعاراً بأنه يجب أن تكون التحيات والصلوات خالصة طيبة لله جل وعلا، ليس فيها مقصود غيره، فإذا كانت كذلك فهي طيبة، فله الطيب من العمل والطيب من القول، الذي هو التسبيح والتهليل والتكبير وغيره.

جواز السلام على النبي في التحيات بكاف الخطاب

جواز السلام على النبي في التحيات بكاف الخطاب ثم قال: قولوا: (السلام عليك أيها النبي!) هكذا علمهم، والخطاب يبقى على ما هو عليه: (السلام عليك) فالذي يسلم يستشعر في ذهنه أنه يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان غائباً فيقول: (السلام عليك أيها النبي!)، وليس معنى ذلك أنه يستحضره في ذهنه، ولكن يستشعر خطابه تعظيماً لذلك، وهذا الأسلوب كان معروفاً عند العرب، فإنهم يستشعرون الحبيب أو المعظم فيخاطبونه وإن كان ميتاً أو غائباً، كما هو معروف في أشعارهم. وكان صلى الله عليه وسلم يقول في تشهده كما رواه الطحاوي في مشكل الآثار: (السلام عليك أيها النبي!). أما ما قاله بعض العلماء من الصحابة وغيرهم: أن هذا كان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما توفاه الله جل وعلا صاروا يقولون: (السلام على النبي ورحمة الله وبركاته)، فنقول: ما دام أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك بنفسه وعلمه الصحابة، فإنه يبقى كما كان يقول ذلك. وليس في هذا دعوة له ومخاطبة له، كما يقول الذين يحبون أو يميلون إلى عبادته ويقولون: إن هذا دليل على أنه يدعى ويخاطب ويقال له: (السلام عليك)؛ لأن هذه كاف الخطاب، والخطاب لا يكون إلا للحاضر ولا يكون للغائب، لكن يقال: إن هذا ليس كذلك، فالرسول صلى الله عليه وسلم جاء بتعليم الإخلاص لله جل وعلا، وفي هذا التشهد علمنا كيف نخلص لربنا جل وعلا الدعاء، فكيف يكون فيه تناقض؟ هذا لا يمكن، وإنما ذلك يبقى على صفة التعليم الذي علمه الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه، فيبقى كما هو.

معنى السلام على النبي في التحيات

معنى السلام على النبي في التحيات قوله: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته)، هو سلام عليه، وهو دعاء له بالسلامة من كل مكروه، وكذلك دعاء له برحمة الله وتبريكاته، بأن يبارك عليه في أعماله وفيما يعطيه جل وعلا من أمور الآخرة، فيزيده من فضله.

سلام الإنسان على نفسه وعلى عباد الله الصالحين في التحيات

سلام الإنسان على نفسه وعلى عباد الله الصالحين في التحيات ثم قال أيضاً: يسلم الإنسان على نفسه: (السلام علينا)، يعني: يسلم على نفسه وعلى الحاضرين الذين في الصف معه من إخوانه المؤمنين ومن الملائكة الذين معه، ثم يسلم تسليماً عاماً على جميع عباد الله الصالحين، الذين في الأرض، والذين في السماء، الأحياء والأموات، ويكون عاماً بعد خاص: (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين). ثم يتشهد التشهد الذي هو أصل التوحيد: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله). فهذه التحيات التي كان يعلمها الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه، وقد جاء في حديث ابن مسعود: (أنه كان يعلمهم إياها كما يعلمهم السورة من القرآن)، اهتماماً بها.

وجه إيراد المؤلف لحديث ابن مسعود في باب: لا يقال السلام على الله

وجه إيراد المؤلف لحديث ابن مسعود في باب: لا يقال السلام على الله فعلى هذا يتبين لنا وجه إيراد المؤلف لهذا الباب (باب لا يقال: السلام على الله)؛ وذلك لأن الله هو السلام والمسلم، فإن السلام، إما أن يلقى تحية، وإما أنه يطلب السلامة للمسلم عليه، أو أنه يخبره بأنه سلم له، أي: مسالم له، وأنه لا يناله منه مكروه، وكل هذا لا يليق بالله جل وعلا، ولا يليق إلا بالمخلوق، أما الله جل وعلا فهو غني بذاته جل وعلا، لا يلحقه نقص ولا عيب، فهو الذي يهب السلامة لمن يشاء، ويهب الحياة لمن يشاء، ويهب الملك لمن يشاء، وبيده تصريف كل شيء، فلا يليق أن يقال: (السلام على الله)، فصار من معاني كمال التوحيد أن المسلم يعرف الشيء الذي يليق بالله جل وعلا فيقوله لله جل وعلا معظماً له، ويعرف الشيء الذي لا يليق بالله جل وعلا فيجتنبه، فيكون بذلك قد كمل توحيده. قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: (في الصحيح عن ابن مسعود) [هذا الحديث: رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة من حديث شقيق بن سلمة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (كنا إذا جلسنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة قلنا: السلام على الله قبل عباده، السلام على فلان وفلان) الحديث، وفي آخره ذكر التشهد الأخير. ورواه الترمذي من حديث الأسود بن يزيد عن ابن مسعود رضي الله عنه، وذكر في الحديث سبب النهي عن ذلك بقوله: (فإن الله هو السلام ومنه السلام)]. هناك تشهد أول وأخير؛ التشهد الأول يقتصر فيه على هذا، والمقصود بالأول الذي يكون بعد الركعتين الطويلتين التي يقرأ فيهما بالفاتحة وسورة، ومعلوم أن قراءة السورة سنة ليست واجبة، وإنما الواجب قراءة الفاتحة، ثم يفصل بين الركعتين الطويلتين واللتين بعدهما بالجلوس، فيكون فيه التشهد الأول ويقتصر فيه إلى قوله: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله) صلى الله عليه وسلم. وكانت عادة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يخففه، حتى جاء في الحديث: (أنه إذا جلس كأنه يجلس على رمض)، يعني: على الحجارة المحماة من سرعته في ذلك، فما كان يطيله، وهذه هي السنة، عكس ما يفعله كثير من الأئمة، فإن فعلهم خلاف السنة، فالسنة أن يخفف التشهد الأول. أما التشهد الأخير فهو الذي يصلى فيه على النبي صلى الله عليه وسلم، ويستعاذ به من عذاب القبر وعذاب النار، وفتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال، إلى آخره. فهذا التشهد الأخير يطال، وقد جاء في حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: (يا رسول الله! علمني شيئاً أقوله في صلاتي، قال: قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً -وفي رواية: كبيراً- ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم). فكثير من العلماء يقول: هذا يقال بعد التشهد، لأنه قال: (قله دبر كل صلاة)، ودبر الشيء آخره، فهل يكون هذا بعد نهاية الصلاة، أو قبل السلام؟ فيه خلاف بين العلماء: منهم من قال: يكون قبل السلام ومعنى ذلك: أنه يقرنه بالتشهد الأخير، وقال بعضهم: إنه يقوله بعد فراغه من الصلاة؛ لأن كلمة دبر أيضاً قد يراد بها الخارج من الشيء المنفصل عنه، ولكن الغالب أنه يقصد الشيء المتصل به.

سلام الله على عباده في الجنة لا في موقف الحساب

سلام الله على عباده في الجنة لا في موقف الحساب قال الشارح: [وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من الصلاة المكتوبة يستغفر ثلاثاً ويقول: (اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام!)، وفي الحديث: (إن هذا هو تحية أهل الجنة لربهم تبارك وتعالى)، وفي التنزيل ما يدل على أن الرب تبارك وتعالى يسلم عليهم في الجنة، كما قال تعالى: {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58]]. هذا جاء مكرراً في القرآن في آيتين من كتاب الله جل وعلا: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} [الأحزاب:44]، ولقاء الله جل وعلا يكون في الموقف بين عباده، ولكن الموقف مكان محاسبة، وليس مكان إكرام. ولهذا لما سئل ابن عمر: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى؟ أي: مناجاة الله لعبده. وهذا شيء عظيم جداً، كونه يناجيه جل وعلا، وهذه لا تقاس بما يعرفه الإنسان؛ لأن نجواه تكون لعباده كلهم في آن واحد، كل واحد يتصور أنه لا يكلم إلا هو، وهو يكلم جميع المؤمنين في ذلك الموقف. يقول ابن عمر: (سمعته يقول: يدني عبده المؤمن فيضع عليه كنفه)، والكنف هو: الستر، يستره عن الذين يشاهدونه في الموقف، لأنه يقرره بذنوبه، ولا يوجد أحد يخلو من الذنوب أبداً. فإذا قال: (فعلت كذا يوم كذا وكذا)، وتركت كذا من الأمور الواجبة، عندها يخجل كثيراً فيتغير وجهه، فلأجل هذا ستره الله، حتى لا يراه المؤمنون ويقولون: إنه قد هلك. قال: (فإذا رأى أنه قد هلك؛ قال الله له: أنا سترتها عليك في الدنيا وأغفرها لك اليوم)، فيعطى كتابه بيمينه فيصبح فرحه فوق ما يتصور، حتى يصبح يمد كتابه أمام الناس ويقول: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة:19] يعني: يا هؤلاء! اقرءوا كتابي، كأنه لا يهمهم إلا قراءة كتابه، فالفرح استولى عليه، وكان أولاً يظن أنه قد هلك. فالمقصود أن الموقف وإن كان فيه الكلام، وإن كان فيه اللقاء، فكلام الله جل وعلا في الموقف هو محل مناقشة ومحل مسائلة، فقد يكون الإنسان عنده مواقف حرجة جداً، حتى يرى أنه قد هلك، فإذا أوتي كتابه بيمينه بدأت السعادة تظهر عليه، أما التحية واللقاء فلا تكون إلا في الجنة. ولهذا لما قيل للإمام أحمد: متى يأمن المؤمن؟ قال: يأمن إذا وضع أول قدم له في الجنة. أما قبل هذا فلا يأمن؛ لأن النار أمامه، فالنار بين الناس الواقفين وبين الجنة، فلا يوجد عبور على الجنة، ولهذا يقول الله جل وعلا: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71]، قوله: (وإن) تفيد القسم وأن كل واحد سيرد. وورود الشيء لا يلزم منه الدخول، فقد يرد عليه ولا يدخله وقد يدخله. فالسلام الذي يكون من رب العالمين لعباده يكون في الجنة.

معنى قوله: إن الله هو السلام وأقوال العلماء في ذلك

معنى قوله: إن الله هو السلام وأقوال العلماء في ذلك قال الشارح: [ومعنى قوله: (إن الله هو السلام) أي: إن الله تعالى سالم من كل نقص، ومن كل تمثيل، فهو الموصوف بكل كمال، المنزه عن كل عيب ونقص. قال العلامة ابن القيم رحمه الله في بدائع الفوائد: السلام: اسم مصدر، وهو من ألفاظ الدعاء، يتضمن الإنشاء والإخبار، فجهة الخبرية فيه لا تناقض الجهة الإنشائية، وهو معنى السلام المطلوب عند التحية، وفيه قولان مشهوران: الأول: أن الله عز وجل هو السلام، ومعنى الكلام: نزلت بركته عليكم، ونحو ذلك]. يعني: أن السلام اسم من أسماء الله، وقد جاء ذلك في الأسماء الحسنى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ} [الحشر:23]. قال: [فاختير في هذا المعنى من أسمائه عز وجل اسم السلام دون غيره من الأسماء. الثاني: أن السلام مصدر بمعنى السلامة، وهو المطلوب المدعو به عند التحية]. فهذا يكون مجرد تحية، فهو يحييك بهذه الكلمة، وليس في ظنه إلا أنه يقول لك: أنت سالم مما ينالك من الأذى، وهذا هو المقصود من المسلم لأخيه المسلم، أن يخبره أنه لا يناله منه أذى، وإذا لقيه قال: السلام عليكم، فهو يشعره بأنه أخ له، وأنه لا يلحقه منه أذى. وإذا قلنا: إنه اسم الله ففي ضمن ذلك الدعاء، وأن المسلم يدعو للمسلَّم عليه بالسلامة، أي: أنه يسلم من المكاره التي ستلحق كل مخلوق. قال: [ومن حجة أصحاب هذا القول: أنه يأتي منكراً، فيقول المسلم: سلام عليكم، ولو كان اسماً من أسماء الله لم يستعمل كذلك، ومن حجتهم: أنه ليس المقصود من السلام هذا المعنى، وإنما المقصود منه: الإيذان بالسلامة خبراً ودعاء. قال العلامة ابن القيم رحمه الله: وفصل الخطاب أن يقال: الحق في مجموع القولين، فكل منهما بعض الحق، والصواب في مجموعهما، وإنما يتبين ذلك بقاعدة وهي: أن حق من دعا الله بأسمائه الحسنى، أن يسأل في كل مطلوب، ويتوسل بالاسم المقتضي لذلك المطلوب المناسب لحصوله، حتى إن الداعي متشفع إلى الله تعالى، متوسل إليه به. فإذا قال: رب اغفر لي وتب علي، إنك أنت التواب الغفور، فقد سأله أمرين، وتوسل إليه باسمين من أسمائه، مقتضيين لحصول مطلوبه، وقال صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر رضي الله عنه وقد سأله ما يدعو به؟ قال: قل: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم). فالمقام لما كان مقام طلب السلامة التي هي أهم عند الرجل، أتى بلفظها بصيغة اسم من أسماء الله تعالى، وهو السلام الذي تطلب منه السلامة، فتضمن لفظ السلام معنيين: أحدهما: ذكر الله، والثاني: طلب السلامة، وهو مقصود المسلم]. يعني: أن المجموع في هذا أنه يذكر اسم الله طالباً بهذا الاسم السلامة للمسلَّم عليه، وفي ضمن هذا معنىً ثالث: وهو أنه يعلمه بأنه سالم من شره لا يناله منه شيء، فإذاً تكون المعاني ثلاثاً: ذكر، ودعاء، وإخبار. ذكر الله باسمه، ودعاء له، وتوسل له بهذا الاسم أن يسلم هذا المسلَّم عليه من الآفات، وإعلامه بأنه لا يناله منه أذى، وهذا هو مقصود السلام. وأما كونه جل وعلا تذكر أسماؤه عند كل طلب بما يناسب ذلك الطلب من الأسماء، فهذا هو الذي دل عليه القرآن وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا طلب الإنسان الرزق يقول: يا رزاق! يا كريم! وإذا طلب التوبة يقول: يا تواب! يا رحيم! تب علي، وإذا طلب المغفرة يقول: يا غفور! يا رحيم! اغفر لي، ولا يقول: يا شديد العقاب! اغفر لي؛ لأن هذا لا يناسب ذلك، فهذا معنى قوله: (إنه عند كل طلب يتوسل باسمه المناسب لذلك الطلب)، هذا من المعاني التي ينبغي أن يعتني بها المسلم.

حقيقة السلام ومعناه وما يتضمنه هذا الاسم وتصاريفه

حقيقة السلام ومعناه وما يتضمنه هذا الاسم وتصاريفه قال: [قد تضمن (سلام عليكم): اسماً من أسماء الله، وطلب السلامة منه، فتأمل هذه الفائدة! وحقيقته: البراءة والخلاص والنجاة من الشر والعيوب]. يعني: حقيقة السلام هو الرب جل وعلا، واسمه السلام يعني البراءة والخلاص والنجاة من كل عيب ونقص، فهو سالم من كل عيب ونقص، وفي ضمن هذا أن له الكمال؛ فإذاً هو نفي وإثبات، وهذا معنى قولهم: فيه سلب وإيجاب، فالسلب: هو نفي النقائص، والإيجاب: هو إثبات الكمال لله جل وعلا. قال: [وعلى هذا المعنى تدور تصاريفه، فمن ذلك قولك: سلمك الله، ومنه دعاء المؤمنين على الصراط: رب سلم سلم]. جاء في الحديث أنه لا يتكلم على الصراط إلا الأنبياء، لأنه لما سأل أحد الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم أن يشفع له؟ قال: (أنا فاعل إن شاء الله، قال: أين أجدك؟ قال: عند الحوض، فإن لم تجدني عند الحوض فعند الميزان، فإن لم تجدني عند الميزان فعند الصراط، لا أعدو الثلاثة الأماكن هذه). ثم ذكر أنه عند الصراط لا يتكلم أحد؛ وذلك من شدة الكرب والهول إلا الأنبياء، وكلامهم: (اللهم سلم سلم) فقط؛ لأن الأمر صعب جداً، يسيرون من فوق جهنم ويسقط فيها أكثر الناس، المسير من فوقها أمر شديد، فالإنسان لو سار من فوق سقف على خشبة منصوبة، أو ما يشابهها، أو أكثر من كونها خشبة، فقد لا يستطيع أن يسير، فكيف إذا سار وتحته جهنم وشدة حرها، وقعرها أكثر من سبعين سنة يهوي فيها. أمر شديد جداً جداً، ومع ذلك نفس الصراط الذي يسار عليه يكون ملتهباً بالنيران؛ لأن تحته النار، ولهذا جاء أنه أحر من الجمر، ويكون مضطرباً أيضاً، فمعنى ذلك أن السير عليه بالأعمال فقط، وليس بالأقدام، فإذا كان الإنسان في هذه الدنيا مستقيماً على صراط الله الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه سوف يستقيم على ذلك الصراط الحسي ويسير عليه. أما إذا كان مرة يكبو ومرة يستقيم في هذه الدنيا فيكون سيره كذلك وربما سقط. وعليه أيضاً كلاليب، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (كشوك السعدان)، ثم يقول لصحابته: (هل رأيتم شوك السعدان؟ هو نبت يكون في نجد تأكله الإبل)، وهو معروف، وهي شوكة عقيفاء مفلطحة، ولكن هذه التي على الصراط لا يعلم عظمها إلا الله جل وعلا، تأخذ من أمرت بأخذه، وتلقيه في النار، فمخدوش ناج ومكردس في النار، ومرة يحبو، ومرة تسقط رجله، ومرة يتعلق بيد، ومرة يسير. وأخبر أن مرور أولهم يكون كلمح البصر في سرعته، ومنهم من يكون كلمح البرق في السرعة، ومنهم من يكون كالريح، ومنهم من يكون كأجاود الخيل، ومنهم من يحبو مرة ويمشي مرة، ثم تعجز أعمال الناس عن حملهم ويتساقطون في النار، نسأل الله العافية، فهؤلاء كلهم من أهل التوحيد ولكنهم مخلطون، تركوا واجبات وفعلوا محرمات، ولم يكفهم ما مضى عليهم في القبر وفي الموقف في التطهير والتكفير، فلابد أن يطهروا بنار جهنم. ومنهم من يحترق نهائياً، إذا سقط احترق وصار حممة، وهذا جاء في الحديث أنهم فيما بعد يحملون حمماً قد احترقوا فيلقون في نهر الحياة من أنهار الجنة، فينبتون ثم يدخلون الجنة، ويزول العذاب كله، ويرون النعيم والحياة السعيدة، ومن نجا من النار ولو بعدما احترق فيها فهو سعيد. قال: [ومنه سلم الشيء لفلان أي: خلص له وحده]. لو تحقق الإنسان هذه الأمور بأنها ستمضي عليه يقيناً، لاستقامت حالته؛ ولكنه يستبعدها وكأن المراد غيره، وهي حقيقة لابد منها، فالعجيب في ابن آدم غفلته وأمله وتفكيراته، ولو قدر مثلاً وقيل للناس: إن واحداً منكم سوف ينجو من العذاب، فكل واحد من الكثيرين يؤمل أن يكون هو الناجي، وهذا أمل عجيب من هذا الإنسان، ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (والله لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً ولضحكتم قليلاً ولخرجتم في الصعدات تجأرون إلى الله، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش) يعني: الغفلة والأمل، فلو قدر الواحد أنه سيموت، وهو يعلم أن الموت فيه انقطاع عن العمل، فقال: وأنا لابد أن أعمل للآخرة، بالشيء الذي يرضي الله جل وعلا، لأنه كثيراً ما يأتي الإنسان الموت فجأة، وموت الفجأة تعوذ منه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (اللهم إني أعوذ بك من موت الفجأة)، وإن جاء في بعض الأحاديث أنه راحة للمؤمن، ولكن فيه أنه قد يأتي الإنسان ولم يتمكن من التفكير في نفسه، ولم يوص وغير ذلك، مع أنه يجب على الإنسان أن يوصي دائماً. قال: [وقد تضمن سلام عليكم: اسماً من أسماء الله، وطلب السلامة منه، فتأمل هذه الفائدة: وحقيقته البراءة والخلاص والنجاة من الشر والعيوب، وعلى هذا المعنى تدور تصاريفه، فمن ذلك قولك: سلمك الله، ومنه دعاء المؤمنين على الصراط: (رب سلم سلم)، ومنه: سلم الشيء لفلان أي: خلص له وحده، قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ} [الزمر:29] أي: خالصاً له وحده لا يملكه معه غيره، ومنه السلم ضد الحرب؛ لأن كل واحد من المتحاربين يخلص ويسلم من أذى الآخر، ولهذا بني فيه على المفاعلة، فقيل: المسالمة مثل المشاركة، ومنه: القلب السليم وهو النقي من الدغل والعيب. وحقيقته: الذي قد سلم لله وحده، فخلص من دغل الشرك وغله، ودغل الذنوب والمخالفات، فهو مستقيم على صدق حبه، وحسن معاملته. وهذا هو الذي ضمن له النجاة من عذابه، والفوز بكرامته، ومنه أخذ الإسلام، فإنه من هذه المادة؛ لأنه الاستسلام والانقياد لله والتخلص من شوائب الشرك، فسلم لربه وخلص له كالعبد الذي سلم لمولاه، ليس له فيه شركاء متشاكسون، ولهذا ضرب سبحانه هذين المثلين للمسلم الخالص لربه، وللمشرك به].

مسائل باب: لا يقال السلام على الله

مسائل باب: لا يقال السلام على الله قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل: الأولى: تفسير السلام. الثانية: أنه تحية. الثالثة: أنها لا تصلح لله]. أي: أن قولهم: السلام على الله يقصدون به تحية، ولا يقصدون به الدعاء لله؛ لأن هذا غير معقول ولا يمكن أن الصحابة يجهلون هذا، فإنما نسبوا أنهم يحيون الله بالسلام. فلهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تقولوا: السلام على الله، فإن الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله) إلى آخره. والأولى أنه يقول: معنى تفسير السلام، وسبق أن عرفنا أنه يتضمن الدعاء والإخبار، فهو إخبار بأنه سلم لمن يسلم عليه، وهو يدعو له بالسلامة، وكذلك يذكر اسم الله عليه طالباً من الله أن يسلمه من المكاره، ويخبره في ضمن ذلك أنه سلم له، أي: مسالم له، وأنه لا يناله منه أذى، شأن المسلم مع المسلم؛ لأنه كلما قرأ حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)، علم أن هذا هو المسلم حقيقة، فعندما يقول: السلام عليك، يعني: أنت سالم مني، لا ينالك مني أذى، لا من لساني ولا من يدي؛ لأني مسلم. وكذلك هو يدعو له في ذلك ذاكراً اسم الله، هذا هو حقيقته، وتقدم أن معنى هذا: أن الإنسان يجب عليه أن يعلم الشيء الذي يجب لله، والذي لا يجوز أن يضاف إلى الله فيجتنبه، ويكون ذلك من كمال التوحيد. [الرابعة: العلة في ذلك]. وهذا هو معنى قولهم: بأن الله هو السلام ومنه السلام؛ لأنه جل وعلا كامل لا يلحقه نقص، فهو الذي يستحق أن تقدم له العبادات ويتقرب إليه بها، مثل: القيام والقراءة والركوع والسجود والتسبيح والتهليل، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (قولوا: التحيات لله)، يعني: التعظيمات التي فيها عبادة الله جل وعلا. [الخامسة: تعليمهم التحية التي تصلح لله]

شرح فتح المجيد [118]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [118] الدعاء أفضل العبادة، وله آداب، منها: العزم في المسألة، ولإجابة الدعاء أسباب ينبغي معرفتها والإتيان بها، كما ينبغي معرفة موانع الدعاء وتجنبها، وقد جاء ذكر الأسباب والموانع في كثير من النصوص.

حكم قول: اللهم اغفر لي إن شئت وما شابهه

حكم قول: اللهم اغفر لي إن شئت وما شابهه قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب قول: (اللهم اغفر لي إن شئت): في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ليعزم المسألة؛ فإن الله لا مكره له)، ولـ مسلم: (وليعظم الرغبة؛ فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه)]. قوله: (باب قول: اللهم اغفر لي إن شئت) يعني: ما حكمه؟ هل هذا يجوز أم أنه من المحرمات التي تنقص التوحيد؟ هذا فيه نقص في توحيد الإنسان، ولا يجوز أن يقول: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، اللهم أعطني إن شئت، اللهم أدخلني الجنة إن شئت، يعني: لا يجوز أن يعلق سؤال الله جل وعلا بالمشيئة لما سيأتي، بخلاف سؤال المخلوق، فإن الإنسان إذا سأل مخلوقاً ينبغي له أن يعلق عطاءه بمشيئته يقول: أعطني كذا إن شئت؛ لأن المخلوق فقير محتاج، وقد تتعلق نفسه بالمسئول به ويستحي، وتصبح نفسه معلقة به، فيصبح السائل قد ارتكب محرماً من أجل ذلك؛ لأنه أخذ شيئاً ونفس صاحبه لم تطب به، وهي متعلقة به، وذلك أن المخلوق فقير محتاج دائماً لا ينفك عنه الفقر، أما رب العالمين فهو الغني بذاته عن كل ما سواه، وكل غنى فهو منه.

ما يترتب على عدم العزم في المسألة

ما يترتب على عدم العزم في المسألة قوله في الصحيح: (لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت؛ لأن الله لا يتعاظمه شيء)؛ لأن الله لا مخلف له، وفي رواية أخرى: (فليعزم المسألة وليعظم الرغبة فإن الله لا يتعاظمه شيء). تعليق سؤال الله أمور الدنيا أو أمور الآخرة بالمشيئة لا معنى له، بل هو من المحرمات، كما يدل عليه الحديث ويدل عليه المعنى، وذلك أن الذي يعلق السؤال بمشيئة الله لا يخلو: إما أن يعتقد أن إعطاء الله جل وعلا له ذلك قد يكون عن إكراه من الله، وهذا تنقص لله جل وعلا، فإن الله لا يحمله سؤال السائل على أن يعطي شيئاً لا يريده، فهو تعالى الله وتقدس لا يحمله إلحاح الملح على أن يعطي شيئاً وهو لا يريد إعطاءه؛ لأن كل شيء بمشيئته، فالملك كله له، والخلق كله له، يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، ولا أحد يحمله على أن يفعل شيئاً وهو لا يريد. ومثل ذلك ما يلهج به كثير ممن لم يعرف الله حق المعرفة، فيسأل الله بالمخلوقين، كأن يقول: أسألك بفلان، وأسألك بنبيك فلان، وبكذا وكذا، يتصور أنه إذا سأله بفلان فأنه يعطيه أكثر مما لو سأله بأسمائه وصفاته سبحانه؛ لأن فلاناً يحمله على العطاء، تعالى الله وتقدس، وهذا تنقص لله جل وعلا، فهذا معنى. المعنى الثاني: أن قوله: (اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت) يعطي مفهوماً خاطئاً وهو: أن هذا السائل كأنه يقول: إن حصل لي ذلك المطلوب وإلا ليس بلازم، وهذا يشعر بالاستغناء عن السؤال، وهذا أيضاً لا يجوز أن يقع من العبد، العبد يجب عليه أن يظهر الفقر والفاقة والرغبة الشديدة، وأنه لا غنى له عن ربه وعن سؤاله. وهناك معنىً ثالث: وهو ما أشار إليه في الحديث: (إن الله لا مكره له)؛ لأنه قد يقول: هذا الشيء عظيم، وهذا الذي أسأل الله أن ييسره لي أنا ما أستحق هذا الشيء، فيعلقه بالمشيئة، فهذا أيضاً لا يجوز؛ لأن الله جل وعلا مثلما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يتعاظمه شيء) يعني: ليس عنده شيء عظيم. وقد قال بعض الناس في مخلوق: وتكبر في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم ونحو ذلك، ورب العالمين جل وعلا هو أكرم الأكرمين، وعطاؤه بلا عد ولا حساب، يعطي من يشاء، يعطي الجنة والجنة لا ثمن لها، لا يمكن أن يحصل الإنسان على شيء يساوي قيمة الجنة، وإنما هي بفضل الله تعالى يتفضل بها على عبده، كما أنه تفضل عليه بالإيمان وهداية القلب والتوفيق، كذلك تفضل عليه بأن يدخله الجنة، فلا يجوز للإنسان أن يعتقد أنه إذا سأل الله مسألة أن يقول: هذا شيء كبير بالنسبة إلى الله، هذا لا يجوز، كل شيء بالنسبة لله جل وعلا صغير. إذاً: هذه الأمور، وهذه المعاني الثلاثة، تمنع من أن يعلق الإنسان سؤال الله بالمشيئة، وهذا في المسألة التي يسألها الإنسان ربه ويدعوه، بخلاف الخبر الذي يخبر به، فإن كونه يخبر عن شيء سيقع، هذا يعلق بالمشيئة؛ لأنه لا يقع شيء إلا بمشيئة الله. ولا يشكل على هذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم في سلامه على الموتى: (من أتى إلى المقبرة فليقل: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا -إن شاء الله- بكم لاحقون). فمعلوم أن الموت لابد منه، ولكن التعليق هنا بالمشيئة لما يكون عليه الإنسان؛ لأنه لا يدري ماذا يموت عليه؟ ولا يدري أين يموت؟ هل سيكون مع هؤلاء أو مع غيرهم؟ وهل يكون موته على الإيمان أو على غيره؟ فهو يعلق المشيئة على ذلك؛ لأنه لا يدري ماذا يقع له؟ لا يدري هل يكون مع هؤلاء المسلم عليهم، أو يكون مع غيرهم؟ وهل يكون على الإيمان الذي كانوا عليه، أو لا يكون على ذلك؟ فلهذا قال: (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون). وأما قول الله جل وعلا: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ} [الفتح:27]، فهذا خبر عن أمر سيقع، وكل شيء سيقع يعلق بمشيئة الله جل وعلا. وأما قوله جل وعلا في ذكر أهل الجنة وأهل النار: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:107]، وقوله في أهل الجنة: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:108]. فالمقصود أنه جاء بالاستثناء هذا (إلا ما شاء ربك) -والله أعلم- ليبين جل وعلا أن الخلود والأبدية بمشيئته، وأن أهل الجنة وأهل النار لم يكتسبوها بذواتهم وأعمالهم، وإنما الله جل وعلا هو الذي أعطاهم ذلك، ولو شاء لغير الواقع، فيكون مثل قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} [الرعد:31]، والناس أكثرهم غير مهتدٍ، وهذا يبين لنا أن كل شيء بيد الله؛ حتى لا يطمع طامع ويقول: إنه اكتسب صفة من صفات الله جل وعلا وهي البقاء السرمدي في الجنة، وإنما أعطي ذلك فضلاً من الله جل وعلا. هذا هو الذي يظهر في معنى الاستثناء بالنسبة لأهل الجنة، وكذلك لأهل النار، وأما الاستدلال بهذه الآية على أن النار تفنى فهو استدلال غير صحيح، فقد ذكر الله جل وعلا آيات صريحة في أنها باقية، والقول بفنائها استناد على مفهوم هذه الآية هو من أقوال أهل البدع.

حقيقة الدعاء والسؤال والمقصود منهما

حقيقة الدعاء والسؤال والمقصود منهما الدعاء والسؤال عبادة تعبد الله جل وعلا بها خلقه، وقد جاء في الحديث: (الدعاء مخ العبادة)، والله جل وعلا يقول: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] قوله: (ادعوني) هذا أمر بالدعاء، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله يغضب إذا لم يسأل). والإنسان فقير إلى ربه فقراً لا ينفك عنه، إذا لم تحصل له السعادة والمغفرة والعطاء من ربه جل وعلا فهو هالك ومعذب ولا شك، فيتعين عليه أن يرغب في الدعاء إلى الله، وأن يلح، وأن يعظم الرغبة والإقبال عليه بشدة، والاستثناء وتعليق الدعاء بالمشيئة يدل على خلاف الرغبة وخلاف الجزم، وخلاف كونه فقيراً إليه سبحانه. وأما من جانب الرب جل وعلا فهو غني، يعطي ما يشاء بلا عد ولا حساب، ولا يكون الشيء عظيماً عليه بأن يعطيه، فلا داعي للاستثناء؛ لأن الاستثناء فيه نقص من ناحية العبد وجهل، وفيه تنقص من العبد لربه جل وعلا في هذا، وبهذا يتبين لنا أن تعليقه محرم وليس مكروهاً فقط.

مناسبة ذكر باب قول: (اللهم اغفر لي إن شئت) لكتاب التوحيد

مناسبة ذكر باب قول: (اللهم اغفر لي إن شئت) لكتاب التوحيد قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: (باب قول: اللهم اغفر لي إن شئت) يعني: أن ذلك لا يجوز لورود النهي عنه في حديث الباب]. يبقى ما مناسبة ذكر هذا الباب في كتاب التوحيد؟ نقول: التوحيد أصله ولبه: الإخلاص، والإخلاص هو معرفة القلب لأمر الله جل وعلا وإنابته له، والرغبة والرهبة منه، فإذا كان عارفاً بمن يسأل، وراهباً منه مقبلاً عليه مخلصاً، فلابد أن يكون في سؤاله جازماً غير متردد، وغير معلق سؤاله بالمشيئة؛ لأنه يظهر الفقر، وهو الذل في العبادة لربه، وكذلك يعظم الرغبة في طلبه من ربه، فناسب أن يذكر ذلك، وإذا لم يكن الإنسان كذلك يكون توحيده ناقصاً، فصار في تعليق المطلوب بالمشيئة نقص في توحيد الطلب.

معنى قول الشارح: (وعطاؤه كلام)

معنى قول الشارح: (وعطاؤه كلام) قال الشارح رحمه الله: [بخلاف العبد فإنه قد يعطي السائل مسألته؛ لحاجته إليه، أو لخوفه منه أو رجائه، فيعطيه مسألته وهو كاره. فاللائق بالسائل للمخلوق أن يعلق حصول حاجته على مشيئة المسئول؛ مخافة أن يعطيه وهو كاره، بخلاف رب العالمين، فإنه تعالى لا يليق به ذلك؛ لكمال غناه عن جميع خلقه، وكمال جوده وكرمه، وكلهم فقير إليه، محتاج لا يستغني عن ربه طرفة عين، وعطاؤه كلام]. قوله: (وعطاؤه كلام) يعني: أنه يقول للشيء: كن فيكون: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40]، وفي الحديث القدسي الذي رواه مسلم، وفيه تعليم للعباد من الله جل وعلا، يروي الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً؛ فلا تظالموا). والظلم الذي حرمه الله على نفسه جل وعلا لم يلزمه أحد بذلك، هو الذي حرمه على نفسه تكرماً وجوداً، والظلم في اللغة هو وضع الشيء في غير موضعه وهو كذلك في الشرع. ويقول: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني)، الله هو الغني عن كل الخلق، ما أحد يضره، ولا أحد ينفعه، وأعمال أهل المعاصي والكفر والفجور، وأهل محاربة الله ومعاداة الله، ومعاداة أوليائه، هذه الأعمال كلها ما يضرون بها إلا أنفسهم، ولا يضرون الله شيئاً. والله جل وعلا قد جعل لهم موعداً يأتون إليه ذليلين صاغرين، كل واحد يأتي فرداً كيوم ولدته أمه، ليس عليه حتى شيء يستر عورته، يأتون إليه ما معهم خول ولا مال ولا استعداد ولا أي شيء. فهناك يجزيهم الجزاء الذي يستحقونه، أما هذه الدنيا فهي ذاهبة بسرعة، ولو جازى أناساً في الدنيا، فعذبهم في الدنيا، فما تكفي مجازاتهم وعذابهم في الدنيا؛ لأنه ينقطع العذاب وينتهي، يموت الإنسان ثم ينقطع عذابه، وليست الدنيا محلاً لتعذيب الناس، وإنما يعذبهم الله بعذابه الذي أخبر الله جل وعلا عنه بقوله: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56]، {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ} [المائدة:37]، {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ} [السجدة:20]، ولهذا يقول جل وعلا: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر:49 - 50]، ما فيه عذاب مثل عذاب الله أبداً، فهو عذاب مستمر، ومع ذلك ما يخلص الموت إلى المعذب فيستريح، ولا يخفف عنه من العذاب، كلما احترق الجلد أعيد مرة أخرى، وهكذا. يقول: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئاً)؛ لأن النفع يكون لهم فقط، فيجزون بأعمالهم، ثم يقول: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل واحد مسألته؛ ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر)، المخيط: الإبرة، فإذا أدخلت البحر ورفعت هل تنقص من البحر شيئاً؟ هذا مجرد تمثيل، وإلا فالله جل وعلا لا ينفد ما عنده. وقوله: (عطاؤه كلام) يعني: أنه إذا أراد الشيء قال له: كن فيكون تعالى الله وتقدس، ما يعجز الله شيئاً في الأرض ولا في السماء. فعلى هذا لا داعي إلى أن الإنسان يستعظم المسألة التي يسألها من الله، فالله يعطي الشيء الكثير العظيم ولا يبالي تعالى وتقدس، غير أنه جل وعلا يعطي من يستحق العطاء؛ لأنه عليم بالعباد: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124]، وهو جل وعلا كما يقول: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68]، له الاختيار، وله الخلق، وله العطاء، وله المنع، ولكن إذا منع أحداً فهو عدل، وإذا أعطى أحداً فهو فضل. قال الشارح رحمه الله: [وفي الحديث: (يمين الله ملأى، لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض؟ فإنه لم يغض ما في يمينه، وفي يده الأخرى القسط يخفضه ويرفعه)، يعطي تعالى لحكمة، ويمنع لحكمة، وهو الحكيم الخبير. فاللائق بمن سأل الله أن يعزم المسألة]. معنى العزم في المسألة: أن يقبل برغبة وإلحاح، هذا هو العزم في المسألة، ما يكون متردداً، بل يقبل على ربه جل وعلا راغباً.

نعم الله لا تعد ولا تحصى

نعم الله لا تعد ولا تحصى قال الشارح رحمه الله تعالى: [فإن الله لا يعطي عبده شيئاً عن كراهة ولا عن عظم مسألة، وقد قال بعض الشعراء فيمن يمدحه: ويعظم في عين الصغير صغارها ويصغر في عين العظيم العظائم]. يعني: المخلوق مهما أعطى فإن عطاءه محدود ومحصور، فلا يجوز أن يقاس رب العالمين جل وعلا في كرمه وجوده وعطائه بعطاء مخلوق ضعيف فقير مهما كان، حتى وإن كان ملكاً، فكلما في الدنيا محدود، فلا يجوز أن يقاس فعل الله بأمور الدنيا، وكل ما في الدنيا من العطاء فهو من الله، فهو الذي يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير. قال الشارح رحمه الله تعالى: [وأما هذا: بالنسبة إلى ما في نفوس أرباب الدنيا، وإلا فإن العبد يعطي تارة، ويمنع أكثر، ويعطي كرهاً، والبخل عليه أغلب، وبالنسبة إلى حاله هذه فليس عطاؤه بعظيم. وأما ما يعطيه الله تعالى عباده فهو دائم مستمر، يجود بالنوال قبل السؤال، من حيث وضعت النطفة في الرحم، فنعمه على الجنين في بطن أمه دارة، يربيه أحسن تربية، فإذا وضعته أمه عطف عليه والديه، ورباه بنعمه حتى يبلغ أشده، يتقلب في نعم الله مدة حياته. فإذا كانت حياته على الإيمان والتقوى ازدادت نعم الله تعالى عليه إذا توفاه أضعاف أضعاف ما كان عليه في الدنيا من النعم التي لا يقدر قدرها إلا الله، مما أعده الله تعالى لعباده المؤمنين المتقين، وكل ما يناله العبد في الدنيا من النعم -وإن كان بعضها على يد مخلوق- فهو بإذن الله وإرادته وإحسانه إلى عبده. فإن الله تعالى هو المحمود على النعم كلها، فهو الذي شاءها وقدرها وأجراها عن كرمه وجوده وفضله، فله النعمة وله الفضل، وله الثناء الحسن، قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل:53]. وقد يمنع تعالى عبده إذا سأله لحكمة وعلم بما يصلح عبده من العطاء والمنع، وقد يؤخر ما سأله عبده لوقته المقدر أو ليعطيه أكثر، فتبارك الله رب العالمين]. يعني: أن السائل لربه لن يخيب أبداً، إذا سأل ربه فلا بد له من إحدى ثلاث: إما أن تعجل له مسألته، وإما أن تدخر له في يوم هو أفقر منه إلى هذه المسألة، وإما أن يدفع عنه من الشر ما هو أعظم مما لو أعطيها، فهو لا يخلو من واحدة من هذه الأمور الثلاث.

آداب الدعاء وأسباب الإجابة

آداب الدعاء وأسباب الإجابة ينبغي للسائل أن يلح في السؤال، وأن يكثر من السؤال، فالله جل وعلا أمر بالسؤال ووعد بالعطاء، قال تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] والمفسرون منهم من يقول: أي: ادعوني أعطكم، ومنهم من يقول: ادعوني أثبكم، والمعنى قريب، فالذي يقول: ادعوني أعطكم، معناه أنها مسألة معينة، وأنه يعطي على ذلك. وأما الذي يقول: ادعوني أجبكم، معناه أنها عبادة، والعبادة يثاب عليها، والثواب قد يكون عاجلاً، وقد يكون عاجلاً وآجلاً، وقد يكون آجلاً في الآخرة. فالمعنى أن الإنسان لن يخيب إذا سأل ربه، وقد يكون عند الإنسان موانع ترد مسألته من قبل نفسه؛ لأن الدعاء له موانع، فمن أعظم الموانع أن الإنسان يأكل حراماً ويلبس حراماً، جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون:51]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، يرفع يديه إلى السماء يقول: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، وملبسه حرام، فأنى يستجاب له؟!). وهذه الأمور تدل على إجابة الدعاء، كونه يبتذل، والابتذال مذلة، والافتقار مذلة، وكونه منكسر القلب، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، وانكسار القلب سبب الإجابة، فإذا انكسر قلب الإنسان فمعناه أنه ذل لربه جل وعلا، وافتقر واستشعر الفقر والحاجة من ربه جل وعلا، وألح في ذلك، فالدعاء لا يرد إذا كان بهذه المثابة وبهذه الصفة إلا إن كان كما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم. ورفع اليدين في الدعاء من أسباب الإجابة، ولا يكره رفع اليدين في الدعاء إلا في العبادات التي جاءت مقيدة وليس فيها أصل الرفع كبعد صلاة الفريضة مباشرة إذا سلم، والعبادة يجب أن تكون على ما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر به ويفعله، ما يزاد فيها. ولكن في الدعاء العارض بعد الصلاة النافلة وما أشبه ذلك يرفع يديه، فرفع اليدين من أسباب الإجابة لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: (إن الله حيي كريم، يستحي من عبده المؤمن أن يرفع يديه ثم يردهما صفراً) فهو كريم جل وعلا. ومن أسباب إجابة الدعاء: لزوم الاسم المعظم: يا رب! يا رب! يا رب! يا رب! وتكراره، وقد جاء أن العبد إذا قال: يا رب! يا رب! فإن الله يقول: لبيك! ويعطيه ما يطلب، وقيل: إن هذا الاسم هو اسم الله الأعظم: يا رب! والرب هو الذي يقوم على مصالح وحاجات الخلق من الرزق، ودفع المؤذيات، وجلب المنافع. ولهذا إذا تأمل الإنسان أدعية الرسل في القرآن، وجدها كلها بهذا اللفظ إلا ما شاء الله: يا رب! ربنا، ربنا، ربنا؛ ولهذا لا ينبغي للإنسان أن يعدل عن هذا الدعاء إلى غيره، وإنما يلزم هذا الاسم، فهو من أسباب الإجابة.

موانع إجابة الدعاء

موانع إجابة الدعاء من كان يأكل الحرام ويتعامل بالحرام فإن هذا من أعظم موانع إجابة الدعاء؛ ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (أنى يستجاب له؟)، والسبب أن مطعمه حرام، ومشربه حرام، وغذي بالحرام، فالحرام أحد الموانع. الثاني من الموانع: أن الإنسان يستبعد أن يستجاب له، يدعو وهو يظن في نفسه أنه لا يستجاب له، لهذا جاء الأمر بالدعاء مع اليقين: (ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة). من الموانع: أن الإنسان يدعو فيستعجل الدعاء ثم يترك، يدعو ثم يدعو ثم يقول: لم أجب؛ فيترك الدعاء، فهذا أيضاً من الموانع. جاء أن الإنسان يستجاب له ما لم يستعجل، يقول: دعوت فدعوت فلم يستجب لي. وربما يكون في ذلك خير أراده الله جل وعلا له، فيفتح عليه باب مسألة ربه جل وعلا، فيلح ويكثر من السؤال، ويكون ذلك خيراً فتح عليه. الرابع من الموانع: أن يبالغ في الدعاء، مثل أن يسأل سؤالاً لا يليق به، كأن يسأل أن يعطى ما يعطى الأنبياء من الدرجات، والأنبياء لهم درجة خاصة، أو مثلاً يسأل شيئاً ليس له كأن يقول: أسألك القصر المعين الذي فيه كذا وفيه كذا وفيه كذا الذي في أعلى الجنة أو في الجنة أو عن يساره أو في المكان الفلاني أو غير ذلك، هذا اعتداء وعدوان، أو يسأل الله قطيعة رحم؛ ولهذا جاء أن الإنسان إذا سأل يستجاب له ما لم يعتد أو يسأل قطيعة رحم، وغير ذلك من موانع عدم الإجابة. أما إذا خلا الإنسان من هذه الموانع فإنه لا يخلو من الأمور الثلاثة التي ذكرناها: إما أن تعجل له دعوته ويراها، وإما أن يدفع عنه من الشر ما هو أعظم مما دعا، وإما أن تدخر له هذه المسألة يوم القيامة، فيجدها أحسن مما لو أعطيها في الدنيا، والله كريم عليم بما يسر عبده، ولطيف به، قد يمنعه شيئاً يسأله، فيكون المنع خيراً له. قال الشارح رحمه الله: [قوله: ولـ مسلم (وليعظم الرغبة) أي: في سؤاله لربه حاجته، فإنه يعطي العظائم كرماً وجوداً وإحساناً. فإن الله تعالى لا يتعاظمه شيء أعطاه أي: ليس شيء عنده يعظم، وإن عظم في نفس المخلوق؛ لأن سائل المخلوق لا يسأله إلا ما يهون عليه بذله، بخلاف رب العالمين، فإن عطاءه كلام: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، فسبحان من لا يقدر الخلق قدره، لا إله غيره ولا رب سواه].

مسائل باب قول: اللهم اغفر لي إن شئت

مسائل باب قول: اللهم اغفر لي إن شئت

النهي عن الاستثناء في الدعاء

النهي عن الاستثناء في الدعاء قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل: الأولى: النهي عن الاستثناء في الدعاء]. يعني: لا يقول: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، فالنهي هنا يدل على التحريم، وليس على الكراهة، فلو فعل ذلك الإنسان لكان قد ارتكب محرماً، وعليه أن يستغفر الله ويتوب.

بيان العلة في النهي عن الاستثناء في الدعاء

بيان العلة في النهي عن الاستثناء في الدعاء [الثانية: بيان العلة في ذلك]. العلة واضحة، وهي أنه لم يسأل فقيراً، فالله جل وعلا لايتعاظمه شيء، إذا شاء أن يعطي أعطى، وإذا شاء أن يمنع منع، فلا معنى للاستثناء، ولا معنى للتعليل، فما هناك شيء عظيم عند الله جل وعلا، كل شيء عند الله جل وعلا سهل وميسور.

قوله: (ليعزم المسألة)

قوله: (ليعزم المسألة) [الثالثة: قوله: ليعزم المسألة]. يعني: كونه يرغب إلى ربه جل وعلا ويعزم المسألة، بأن يكون راغباً مظهراً الفقر وشدة الحاجة، منكسر القلب من شدة حاجته لما عند ربه، هذا هو العزم في المسألة. وإذا عرف الإنسان أن ذلك بيد الله، وأنه قريب ليس ببعيد؛ يعزم المسألة.

التعليل لأمر الرغبة في الدعاء

التعليل لأمر الرغبة في الدعاء [الرابعة: إعظام الرغبة. الخامسة: التعليل لهذا الأمر]. وقد أثنى الله جل وعلا على الذين يدعونه رغباً ورهباً، وهذه صفة عباده الصالحين من الأنبياء: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء:90]، فيرهب الإنسان من ذنوبه، ويرغب في عطاء الله جل وعلا وإحسانه، فيكون معظماً ربه، خائفاً من ذنوبه، ولكن الرغبة في المسألة تكون أرجح؛ لأن الله كريم، والعبد لا ينفك عن المعصية، والرب جل وعلا مغفرته ورحمته عامة شاملة لجميع خلقه، حتى الكفار ينعم عليهم، ويغدق عليهم من النعم، وهم مع ذلك يتقوون بنعمه على معاصيه، فهذا يدل على كرمه جل وعلا.

شرح فتح المجيد [119]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [119] حمى النبي عليه الصلاة والسلام جناب التوحيد حماية عظيمة؛ لئلا يقع المسلمون في أي نوع من أنواع الشرك، ومن ذلك أنه نهى عن قول السيد لمملوكه: عبدي أو أمتي؛ لأن العبودية لا تكون إلا لله وحده.

شرح حديث: (لا يقولن أحدكم: أطعم ربك، وضئ ربك،)

شرح حديث: (لا يقولن أحدكم: أطعم ربك، وضئ ربك،) قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: لا يقول: عبدي وأمتي. في الصحيح: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقولن أحدكم: أطعم ربك، وضئ ربك، وليقل: سيدي ومولاي، ولا يقل أحدكم: عبدي وأمتي، وليقل: فتاي وفتاتي وغلامي)]. هذا من باب الأدب مع الله جل وعلا، ومن باب تعظيم حق الله جل وعلا، واجتناب الألفاظ التي فيها منازعة لله جل وعلا، وفيها نوع من المشاركة له؛ تعظيماً له وتحقيقاً للتوحيد؛ لأن العبودية هي صفة المخلوقين كلهم، والربوبية هي صفة الرب جل وعلا، هو الرب الذي ربى الخلق بإيجادهم، وبدفع المكروهات عنهم، وجلب المصالح لهم من كل وجه، فلا يكون العباد أرباباً لبعضهم بعضاً، وإن كان يوجد منهم المملوك الذي يملك، ولكنه في الواقع متعبد لله، وملكه لا يجوِّز أن يكون في ذلك ميزة لبعضهم على بعض في العبادة. ويجب أن تكون عبوديتهم كلهم ظاهرة لله، وليس لأحد على أحد عبودية، والرق الذي كان واقعاً سببه الكفر، وقد يقع لبعضهم، وإذا كان واقعاً فالإنسان يتأدب مع ربه جل وعلا في هذا، فلا يسميه عبداً فيقول: هذا عبدي إذا كان ذكراً، وإن كان أنثى يقول: أمتي؛ لأن النساء كلهن إماء الله، والذكور كلهم عبيد الله، أحرارهم وملوكهم. فهذا من باب حماية التوحيد، ومن باب التأدب مع الله جل وعلا، فيجب أن يحمى اسم الله جل وعلا، وألا يكون فيه مشاركة للمخلوقين، وأن يقال: هذا رب فلان وفلان وهذا بالنسبة للعقلاء المكلفين. أما غير العقلاء من بهائم وجمادات وغيرها فإنها ليست معبدة التعبيد التكليفي الشرعي، وإن كانت معبدة التعبيد القدري، لكن التعبيد الشرعي التكليفي الذي يثاب فاعله ويعاقب تاركه ليس هذا من شأنها، وليس موجهاً إليها، ولهذا يجوز أن يقال: هذا رب هذه الدابة! رب الناقة! رب الشجر؛ لأنها ليست عاقلة ولا مكلفة، وإنما هذا في المكلفين من الذكور والإناث، وقد يشكل على هذا ما جاء في بعض الآيات، مثل قول الله جل وعلا في قصة يوسف عليه السلام: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:23]، ومقصوده أنه ربه الذي ملكه، فلما قالت امرأة العزيز: {هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:23]. والجواب عن هذا: أن هذا كان في شرع من قبلنا، وشرعنا جاء بالنهي عن ذلك. وبعضهم أجاب قائلاً: يكون النهي في هذا الحديث من باب الأدب وباب الكراهة والآية تدل على الجواز، يعني: أن هذا جائز ولكن خلاف الأولى، وهذا جواب خلاف الأولى، بل هذا ليس في شرعنا، وإنما هو في شرع من قبلنا، بدليل أن يوسف عليه السلام سجد له أبواه وإخوته لما دخلوا عليه وهو على كرسيه، فهذا لا يجوز في شرعنا، وقد ذكره الله جل وعلا، ويكون هذا مثله. وأما الحديث الذي في الصحيح، وهو قوله صلى الله عليه وسلم في أشراط الساعة: (أن تلد الأمة ربتها)، هذا لا محذور فيه لأن (ربتها) مؤنث بحيث لا يمكن أن يوصف الله جل وعلا به، تعالى وتقدس، فهذا ليس فيه محذور. فعلى هذا لا يجوز للإنسان إذا كان له عبد أن يقول: عبدي، فهو بنفسه وغيره كذلك، لا يقول هو، ولا يقال له، فلا يقول أحد: أجب ربك، أجبه أو أطعمه أو اذهب إليه أو ما أشبه ذلك، يعني: لا المخاطب ولا المخاطب يقول ذلك، كلاهما منهي عن هذا، فلا يدعوه بلفظ العبد، ولا يدعو العبد سيده بلفظ الرب فيقول: يارب، ولهذا قال: (لا يقولن أحدكم: عبدي وأمتي، ولا يقل: أطعم ربك، وضئ ربك، وليقل: فتاي وفتاتي)، والفتى: هو الغلام النشيط، والفتاة كذلك. فأرشد إلى الشيء الجائز بدل الممنوع الذي فيه مشاركة لاسم الله جل وعلا، ومنازعة فيه، وأما ما يأتي فيما جاء في رواية مسلم أنه قال: (وليقل: سيدي ومولاي) فإنه جاء النهي كما سيأتي أيضاً عن إطلاق لفظ السيد، وهو سيد في الواقع، ويقال هذا على من كان له تقدم في السيادة، ولكن في الحديث الذي سيأتي أنه قال: (السيد الله)، فهذا لأنه ليس من الأسماء المشهورة التي تختص بالرب مثل اسم: الرب، فالرب جل وعلا لا يطلق إلا على الله، ولا يستعمل لأحد إلا إذا كان مضافاً، مثل أن يقول: رب الدار! رب الكتاب. أما أن يقول هكذا: رب، ربك، أو ربي، فالرب خاص بالله جل وعلا، فلا يكون مثل إطلاق لفظ السيد، وإن كان جاء في الحديث الذي سيأتي أنه قال: (السيد الله)، وأما المولى فإنه يطلق على القريب في النسب كالأخ وابن العم وما أشبه ذلك، ويطلق على الناصر، ويطلق على المقدم الذي له تقدم، وله فضل على غيره، ويطلق على غير ذلك. ومثل هذا منهي عنه، والمحذور فيه هو هذه الإطلاقات، ويجب أن يكون للمخلوق ما يليق به.

حماية النبي صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد

حماية النبي صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد قال الشارح رحمه الله تعالى: [هذه الألفاظ المنهي عنها وإن كانت تطلق لغة، فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها تحقيقاً للتوحيد، وسداً لذرائع الشرك؛ لما فيها من التشريك في اللفظ؛ لأن الله تعالى هو رب العباد جميعهم. فإذا أطلق على غيره شاركه في هذا الاسم، فينهى عنه لذلك، وإن لم يقصد بذلك التشريك في الربوبية التي هي وصف الله تعالى، وإنما المعنى أن هذا مالك له، فيطلق عليه هذا اللفظ بهذا الاعتبار، فالنهي عنه حسماً لمادة التشريك بين الخالق والمخلوق، وتحقيقاً للتوحيد، وبعداً عن الشرك حتى في اللفظ، وهذا أحسن مقاصد الشريعة؛ لما فيه من تعظيم الرب تعالى، وبعده عن مشابهة المخلوقين، فأرشدهم صلى الله عليه وسلم إلى ما يقوم مقام هذه الألفاظ، وهو قوله: سيدي ومولاي، وكذلك قوله: (ولا يقل أحدكم: عبدي وأمتي) لأن العبيد عبيد الله، والإماء إماء الله؛ قال الله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:93]. ففي إطلاق هاتين الكلمتين على غير الله تشريك في اللفظ، فنهاهم عن ذلك تعظيماً لله تعالى، وأدباً وبعداً عن الشرك، وتحقيقاً للتوحيد، وأرشدهم إلى أن يقولوا: فتاي وفتاتي وغلامي، وهذا من باب حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد، فقد بلغ صلى الله عليه وسلم أمته كل ما فيه نفع، ونهاهم عن كل ما فيه نقص في الدين. فلا خير إلا دلهم عليه، خصوصاً في تحقيق التوحيد، ولا شر إلا حذرهم منه، خصوصاً ما يقرب من الشرك لفظاً وإن لم يقصد به، وبالله التوفيق.

مسائل باب: لا يقول: عبدي وأمتي

مسائل باب: لا يقول: عبدي وأمتي قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل: الأولى: النهي عن قول: عبدي وأمتي. الثانية: لا يقول العبد: ربي، ولا يقال له: أطعم ربك]. المقصود بهذا حماية جناب التوحيد، وتعظيم الله جل وعلا، فلا يشاركه المخلوق ولو في الألفاظ، هذا المقصود، ألا يشارك المخلوق ربه جل وعلا حتى في الألفاظ التي يختص بها الله جل وعلا، فيجب أن تكون خاصة به مثل الرب، لا يجوز أن يكون مشاركاً المخلوق له، ولهذا عدل عن الشيء الذي يعطي المعنى، ولا يكون فيه مشاركة. [المسألة الثالثة: تعليم الأول قول: فتاي، وفتاتي، وغلامي. المسألة الرابعة: تعليم الثاني قول: سيدي، ومولاي. الخامسة: التنبيه للمراد، وهو تحقيق التوحيد حتى في الألفاظ]. تحقيق التوحيد حتى في الألفاظ، والمراد: تخليصه وتصفيته من الشوائب التي قد تشوبه من عمل أو قول؛ لأن هذا هو تحقيقه، وحتى في الألفاظ يجب أن يكون الرب جل وعلا واحداً فيها، ليس له فيها مشارك.

شرح فتح المجيد [120]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [120] لا يسأل بوجه الله إلا غاية المطالب، وهي: الجنة، التي يتنافس فيها المتنافسون، ويتسابق إليها المتسابقون.

لا يسأل بوجه الله إلا الجنة

لا يسأل بوجه الله إلا الجنة قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: لا يسأل بوجه الله إلا الجنة. عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يسأل بوجه الله إلا الجنة) رواه أبو داود]. الفرق بين هذا الباب وبين الذي قبله: في الذي قبله أن من سأل بالله وجب إعطاؤه، والسؤال بالله في الذي قبله عام، مثل أن يقول السائل: أسألك بالله، أو أسألك بالذي خلق السموات والأرض، أو بالذي أنعم عليك، أو أسألك برب العالمين أو ما أشبه ذلك، عام في أي صفة من صفات الله أو أي لفظ يدل على ذلك، كما سبق في حديث الثلاثة الأعمى والأقرع والأبرص، فإن الملك جاء إلى الأول وقال: أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن، والجلد الحسن، وأعطاك المال، وكذلك قال للثاني، وقال للثالث: بالذي رد عليك بصرك، وأعطاك المال. إذا قال الإنسان لآخر: أسألك بالذي أنعم عليك وأغناك، فيكون سائلاً بالله، أما هذا الباب فهو خاص بوجه الله، مثل أن يقول الإنسان: أسألك بوجه الله، هذا لا يجوز أن يسأل به شيئاً من أمور الدنيا، فلو سأل شيئاً من أمور الدنيا بوجه الله فهو ملعون لعظمة وجه الله جل وعلا، ولهذا قال: (لا يسأل بوجه الله إلا الجنة)؛ لأن الجنة هي الغاية التي يسعى لها المؤمنون، وهي التي تكون بها السعادة الأبدية، وسماها الرسول صلى الله عليه وسلم عظيمة، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تنسوا العظيمتين: الجنة والنار). ومثل ذلك أن يسأل شيئاً يقرب إليها ويوصل إليها، أو يسأل أن يمنع من شيء يمنع منها، مثل كونه يستعيذ بوجه الله من غضبه، يستعيذ بوجه الله من أن يقع في المعاصي التي تبعده عن ربه جل وعلا، كما جاءت أدعية الرسول صلى الله عليه وسلم، مثل قوله: (أعوذ بوجه الله العظيم، وبكلماته التامات، من شر ما خلق) وكذلك قوله في الحديث المشهور في قصة ذهابه إلى الطائف لما ردوا عليه الرد القبيح، وأغروا به سفاءهم؛ فصاروا يرمونه بالحجارة صلوات الله وسلامه عليه حتى أدموا رجليه، فانقلب على وجهه فلم يفق إلا وهو في قرن الثعالب، عند ذلك دعا بذلك الدعاء المشهور: (أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بي سخطك، أو يحل علي غضبك، لك العتبى حتى ترضى)، فهذا كله من الوسائل التي تقرب إلى الجنة. أما أن يسأل بوجه الله جل وعلا شيئاً من أمور الدنيا فهذا لا يجوز؛ لأن في ذلك إهانة بالعظيم، حيث سأل به الشيء الحقير، والدنيا كلها حقيرة ليست شيئاً، والسائل بهذا الشيء ما عرف الله حق المعرفة، ولا قدره حق قدره، بل تنقصه؛ ولهذا استحق أن يكون ملعوناً، وقد جاء في الحديث: (ملعون من سأل بوجه الله غير الجنة، وملعون من سئل بوجه الله فلم يعط)، فإذا أعطى فأجره عظيم.

أدلة إثبات صفة الوجه لله تعالى

أدلة إثبات صفة الوجه لله تعالى في هذا الحديث دليل على إثبات صفة الوجه حقيقة. إذاً: تبين لنا الفرق بين هذا الباب والذي قبله، الذي قبله يسأل بالله، وهنا يسأل بوجه الله، فدل هذا على أن الوجه غير الذات، لا كما يقول أهل الباطل، وقد تضافرت النصوص في ذكر وجه الله جل وعلا، وثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال في بعض أدعيته: (أسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم)، ومعنى ذلك أن أعظم لذة: النظر إليه. وقد جاء تفسير قول الله جل وعلا: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] في صحيح مسلم من حديث صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الله جل وعلا)، وفي الآية الأخرى، لما ذكر الله أن جهنم يلقى فيها الناس وهي تقول: {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:30]؛ أخبر أن الجنة تقرب للمتقين الذين يخشون الرحمن، ثم قال: (ولدينا مزيد)، والمزيد فسر بأنه النظر إلى وجه الله جل وعلا، وكثيراً ما يأتي في القرآن ذكر هذه الصفة كقوله جل وعلا: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]، ولو كان معنى الآية مثلما يقول البيهقي أنه الذات ما صح أن ينعت الوجه بهذه الصفات فيقال: ذو؛ لأن المضاف يكون مجروراً، ولهذا لما ذكر الذات في آخر السورة قال: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:78]، فدل على أن الوجه غير الذات. كذلك قوله جل وعلا: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الإنسان:9]، وكذلك قوله جل وعلا: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115] في آيات كثيرة، وكذلك الأحاديث. ومعلوم أنه لا يقال للإنسان: فلان وجه، ولا يقال ليده: وجه، ولا لرجله وجه، هذا ما يجوز أن يقال في اللغة، فهذا يبطل قول المتأولة وأهل الباطل. والواجب علينا إثبات ما أثبته الله جل وعلا لنفسه من الأسماء والصفات إثباتاً يليق بعظمته وجلاله، ومن ذلك الوجه. وقول الله جل وعلا: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن:26 - 27] ليس معنى ذلك: أن الرب جل وعلا يفنى، وأنه ما يبقى إلا وجهه تعالى وتقدس، ولكن يذكر أشرف شيء وبقية الصفات تبع له، وهذا مثل قوله جل وعلا في الآية الأخرى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]، تعالى الله وتقدس. وإن كان هذا فيه بعض الكلام لبعض العلماء، فإن البخاري رحمه الله يقول في صحيحه: (كل شيء هالك إلا وجهه) أي: ما أريد به وجهه، ولكن هذا من لازم المعنى، وليس هو المعنى الذي تنص عليه الآية، ومقصوده أن كل عمل يبطل إذا لم يرد به وجه الله، أما الذي أريد به وجه الله فهو الذي ينفع ويبقى لصاحبه، فهو ينبه بذلك على وجوب الإخلاص، ووجوب العمل لله جل وعلا. فالآية لا تدل على أن شيئاً من الرب جل وعلا يفنى -تعالى الله وتقدس- وأنه لا يبقى إلا وجهه؛ لأنه إذا عبر عن الشيء بأشرف ما فيه فالبقية تكون تبعاً له، وهذا هو المقصود.

حكم الاستعاذة بوجه الله من النار

حكم الاستعاذة بوجه الله من النار لما نزل قول الله جل وعلا: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} [الأنعام:65] قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بوجهك، أو من تحت رجلكم) قال: أعوذ بوجهك، {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام:65]. قال: هذا أهون! هذا أهون!) فاستعاذ بوجه الله جل وعلا من عذابه الذي يهلك، ومآل الهالك إلى النار، ومعنى ذلك أنه استعاذ بالله جل وعلا من العذاب الذي يبقى وهو النار. فإذا قال القائل: أعوذ بوجهك يا رب من النار، فإن هذا مثل قوله: (أسألك بوجهك الجنة) ولا يكون هذا ممنوعاً، بل هو من الأشياء التي ينبغي للإنسان أن يفعلها. وبهذا يتبين لنا الفرق بين هذا الباب والذي قبله، فالباب الذي قبله عام: السؤال بالله أو بصفة من صفاته أو بما يدل من فعله عليه، وهذا خاص بصفة الوجه، فلا يجوز أن يسأل بصفة الوجه إلا الجنة.

جواز السؤال بوجه الله كل ما يقرب إلى الجنة

جواز السؤال بوجه الله كل ما يقرب إلى الجنة قال الشارح رحمه الله تعالى [قوله: (باب: لا يسأل بوجه الله إلا الجنة). ذكر فيه حديث جابر -رواه أبو داود عن جابر رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يسأل بوجه الله إلا الجنة). وهنا Q وهو أنه قد ورد في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم عند منصرفه من الطائف حين كذبه أهل الطائف ومن في الطائف من أهل مكة، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء المأثور: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ أإلى بعيد يتجهمني أو إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، غير أن عافيتك هي أوسع لي)، وفي آخره: (أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن يحل علي غضبك أو ينزل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله). والحديث المروي في الأذكار: (اللهم أنت أحق من ذكر، وأحق من عبد -وفي آخره- أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له السموات والأرض)]. الحديث في منصرف الرسول صلى الله عليه وسلم من الطائف ليس صحيحاً، ولكن بعض العلماء حسنه، وهو من رواية محمد بن إسحاق، وقد ذكره في السيرة منقطعاً، وجاء في مسند الإمام أحمد أيضاً، ولكنه من رواية محمد بن إسحاق، ومحمد بن إسحاق إذا عنعن فيقولون: إنه ضعيف. قال الشارح رحمه الله: [وفي حديث آخر: (أعوذ بوجه الله الكريم، وباسم الله العظيم، وبكلماته التامة من شر السامة واللامة، ومن شر ما خلقت أي رب! ومن شر هذا اليوم، ومن شر ما بعده، ومن شر الدنيا والآخرة)، وأمثال ذلك في الأحاديث المرفوعة بالأسانيد الصحيحة أو الحسان. ف A أن ما ورد من ذلك فهو في سؤال ما يقرب إلى الجنة، أو ما يمنعه من الأعمال التي تمنعه من الجنة، فيكون قد سأل بوجه الله وبنور وجهه ما يقرب إلى الجنة كما في الحديث الصحيح: (اللهم إني أسألك الجنة وما يقرب إليها من قول وعمل، وأعوذ بك من النار، وما يقرب إليها من قول وعمل)، بخلاف ما يختص بالدنيا كسؤال المال والرزق، والسعة في المعيشة رغبة في الدنيا، مع قطع النظر عن كونه أراد بذلك ما يعينه على عمل الآخرة، فلا ريب أن الحديث يدل على المنع من أن يسأل حوائج دنياه بوجه الله، وعلى هذا فلا تعارض بين الأحاديث كما لا يخفى، والله أعلم. وحديث الباب: من جملة الأدلة المتواترة في الكتاب والسنة على إثبات الوجه لله تعالى، فإنه صفة كمال، وسلبه غاية النقص والتشبيه بالناقصات، كسلبهم جميع الصفات أو بعضها، فوقعوا في أعظم مما فروا منه، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. وطريقة أهل السنة والجماعة سلفاً وخلفاً: الإيمان بما وصف الله به نفسه في كتابه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، على ما يليق بجلال الله وعظمته، فيثبتون ما أثبته لنفسه في كتابه، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، وينفون عنه مشابهة المخلوق، فكما أن ذات الرب لا تشبه الذوات، فصفاته كذلك لا تشبه الصفات، فمن نفاها فقد سلبه الكمال].

مسائل باب: لا يسأل بوجه الله إلا الجنة

مسائل باب: لا يسأل بوجه الله إلا الجنة قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل: المسألة الأولى: النهي عن أن يسأل بوجه الله إلا غاية المطالب]. ومن المعلوم أن الله جل وعلا هو أعلم من كل شيء، وأقدر من كل شيء، وأنه جل وعلا هو الذي بيده كل شيء، وأن الدنيا ليست شيئاً بالنسبة للآخرة، فهي حقيرة، ولهذا جاء لعنها: (الدنيا ملعونة، معلون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه أو عالماً أو متعلماً)، وما كان ملعوناً فهو مبعد عن الله جل وعلا، وكون الإنسان تكون غايته الدنيا ومقصوده الدنيا بالأمل أو بالحياة؛ هذا من أسوأ ما يسلكه الإنسان، وهو دليل على بعده عن الله جل وعلا؛ ولهذا جاء في الدعاء: (اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا)، وإنما غاية الحياة أن يصير الإنسان إلى ما خلق له وهو الجنة، فإذا سأل الإنسان بوجه الله شيئاً من أمور الدنيا فهذا على أنه دليل لم يعرف حق الله، ولم يقدره، وكذلك لم يعرف الآخرة، ولم يعرف المهمة التي خلق من أجلها، وإنما رأى حياة حيوانية اهتم بها. ثم يجب على المسلم أن يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أعلم الخلق بالله، وهو أنصح الخلق بالخلق، وهو أقدر الناس على البيان والإفصاح عما يريد، وهو صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق تعظيماً لله وتقديراً له، فإذا أخبر عن الله جل وعلا بشيء كقوله في هذا الحديث: (لا يسأل بوجه الله إلا الجنة)؛ فيجب أن يؤخذ على ظاهره، وأن يكون ظاهره كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم. [المسألة الثانية: إثبات صفة الوجه].

شرح فتح المجيد [121]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [121] من تعظيم الله عز وجل أنه من سأل به يعطى، ومن استعاذ به يعاذ، ولا يعمل بهذا إلا من امتلأ قلبه بتعظيم الله وحبه، وقد ذكر العلماء أنه يشترط في ذلك ألا يضر نفسه في الإجابة؛ ففي الحديث: (لا ضرر ولا ضرار).

شرح حديث: (من استعاذ بالله فأعيذوه)

شرح حديث: (من استعاذ بالله فأعيذوه) قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: لا يرد من سأل بالله. عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من استعاذ بالله فأعيذوه، ومن سأل بالله فأعطوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه) رواه أبو داود والنسائي بسند صحيح]. (باب: لا يرد من سأل بالله) السؤال بالله يختلف، قد يكون السائل يسأل شيئاً فيه حق من مال مشترك، يكون له فيه شركة أو يسأل ذا سلطان مثلاً، فسؤال السلطان الحاكم ليس كسؤال الأفراد، فمثل هذا يجوز أن يسأل فيه، أما إذا كان له فيه حق فلا بأس أن يسأل، ولكن لا يسأل الشيء الذي يكون زائداً على حقه. هذا من حيث العموم، والمقصود بالسؤال هنا سؤال المال، وقد سبق أن ذكرنا في بعض المناسبات أن سؤال الناس محرم، لا يجوز أن يسأل المخلوق إلا في حالة الضرورة، وحالة الضرورة كما جاء في حديث قبيصة الذي في صحيح مسلم، وقد بينها الرسول صلى الله عليه وسلم بحالات ثلاث فقط، وما عدا ذلك أخبر صلى الله عليه وسلم أن المسألة سحت، ومعنى السحت الحرام المحرم، وهذه الحالات هي: الحالة الأولى: إذا أصيب الإنسان بفاقة، يفتقر حتى ما يجد شيئاً، فتحل له المسألة حتى يجد ما يسد فافته، فإذا وجد ذلك يجب أن يكف عن المسألة، هذه واحدة. الحالة الثانية: إذا أصيب الإنسان بجائحة في ماله، مثل أن يحترق ماله، أو ينتهب أو يغرق أو ما أشبه ذلك من الكوارث التي قد تصيب الإنسان في ماله، فمثل هذا يجوز له أن يسأل حتى يجد سداداً من العيش. الحالة الثالثة: أن يتحمل الإنسان الأموال في سبيل الإصلاح بين المتنازعين والمختلفين والمتقاتلين من المسلمين، يتحمل أموالاً يدفعها لهم من باب الإصلاح، فمثل هذا -وإن كان غنياً- يجوز له أن يسأل حتى يجد الشيء الذي يسدده في المسألة، وما عدا ذلك فلا يجوز السؤال بحال، والسبب في منع السؤال أن فيه افتقار القلب إلى غير الله جل وعلا، والواجب على المسلم أن يكون فقيراً لربه جل وعلا، وفيه عبودية للقلب، فالعطاء والبذل قد يأسر القلب ويستعبده، والعبودية يجب أن تكون لله وحده، ولا يجوز أن تكون لمخلوق، فجاء الشرع والحكمة البالغة في سد هذا الباب، وجعل المسلم حراً بالنسبة لنظرائه من الناس. أما بالنسبة لربه جل وعلا فهو عبد له، فتكون عبوديته كلها لله جل وعلا، ولا يكون شيء منها لغيره، هذا هو السبب في منع السؤال. السؤال بالله يكون مثل هذا الذي ذكره المؤلف هنا، والسؤال ينقسم إلى أقسام: قد يسأل الإنسان شيئاً يلزمه شرعاً، مثل أن يسأل عن مسائل علم تلزمه، فمثل هذا لا يدخل في باب النهي، ولا يجوز أن يتوقف الإنسان؛ لأن الله أمر بذلك، فهو طاعة لله، ويقول جل وعلا: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، فأوجب السؤال عن الذي لا يعلم، وهذا باب واسع، فكل ما يلزم الإنسان من أمور دينه فعليه أن يسأل، ولكن يتحرى من يسأله؛ لأنه من قبل كان العلماء يتحاشون عن الجواب كثيراً خوفاً من الله جل وعلا، والآن صار الكثير من الناس يجيب بلا مبالاة، قد يجيب بغلط، وقد يجيب بخطأ. ولهذا ينبغي للإنسان أن يتحرى في المسألة الشيء الذي يكون فيه تبرئة لدينه، ولا يكون مثلما يقول بعض العوام: إن ذمته تبرأ إذا سأل، إذا سأل شخصاً برئت ذمته ولو أجابه خطأ، هذا غير صحيح، ولكن هو مخطئ، والمفتي مخطئ، كلاهما مخطئ. من يسأل بالله إما أن يكون مضطراً مثلما سبق، فهذا يجب أن يعطى، ولكن ما يعطى الشيء الذي يضر بالمسئول أو يضر أهله، يعطيه الشيء الذي لا يضره، وواجب عليه أن يعطيه، والله جل وعلا قد أمر بالصدقة، وحث عليها، ومدح الباذلين الذين يؤثرون على أنفسهم غيرهم، فهذا من أفضل الأعمال وأعظمها، فكيف إذا وجه إليه السؤال؟ وإما أن يكون يسأل محرماً، كأن يسأل مثلاً مالاً، ويعرف أنه يريد أن يشتري به خمراً أو يشتري به دخاناً، فهذا لا ينفع؛ لأنه أعانه على الإثم. وأما إذا كان يسأله مالاً ليأكل، أو ليلبس، أو ليدفع عنه الدين الذي لزمه؛ فهذا يجب أن يعطى إذا سأل بالله، ولكن ما يعطيه المعطي الشيء الذي يضره، يعطيه ما فضل عن حاجته، وهذا إذا لم يلتزم محرماً أو قطيعة رحم.

معنى قوله: (من استعاذ بالله فأعيذوه)

معنى قوله: (من استعاذ بالله فأعيذوه) قوله: (من استعاذ بالله فأعيذوه)، كأن يقول: أعوذ بالله من شرك، أو أعوذ بالله من شر فلان؛ فيجب أن يعاذ. وهذا كله تعظيماً لله جل وعلا، لأن إعطاءه حينما سأل بالله، وإعاذته مما استعاذ بالله؛ هو من تعظيم الله جل وعلا، وتوقيره ومعرفة حقه. ولهذا جاء في الحديث: (ملعون من سئل بالله فلم يعط) هذا معناه أنه جعل هذا العمل من الكبائر، وكذلك الاستعاذة مثل ذلك؛ ولهذا لما تزوج الرسول صلى الله عليه وسلم امرأة، دخل عليها ومد يده إليها قالت: أعوذ بالله منك، فقال: (لقد عذت بعظيم إلحقي بأهلك)، فتركها. وهكذا إذا استعاذ إنسان بالله جل وعلا من شر الإنسان أو من شر غيره وهو يستطيع ذلك، فإنه يجب أن يعيذه، إلا أن يستعيذ بالله في أمر محرم كترك واجب، يعني: كأن يلزمه بترك الصلاة، فيستعيذ ويقول: أعوذ بالله منك، ومثل هذا لا يترك ولا يعاذ؛ لأن الله جل وعلا لا يعيذ عاصياً، وإنما يعيذ من كان مطيعاً لله جل وعلا.

معنى قوله: (ومن دعاكم فأجيبوه)

معنى قوله: (ومن دعاكم فأجيبوه) قوله: (من سأل بالله فأعطوه، ومن استعاذ بالله فأعيذوه، ومن دعاكم فأجيبوه) الدعوة هنا مطلقة سواء كانت في طعام -يعني: وليمة عرس- أو غيرها مما يريد إكرامه بها، وهذا من حق المسلم على المسلم، إذا دعاه يجيبه، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بإجابته، وكان صلى الله عليه وسلم يجيب الداعي حتى قال: (لو دعيت إلى كراع لأجبت)، يعني الشيء القليل الحقير، وهو القدوة لأمته صلوات الله وسلامه عليه. ولكن قد يكون في الدعوة منكر، فإن علم أن فيها منكر فإنه لا يلزمه الإجابة، إلا إذا علم أنه يستطيع إنكار المنكر وإزالته فإنه يجيب لذلك، أو أن يعلم أن الداعي ماله حرام، فإذا علم أن ماله حرام لا تلزمه الإجابة، أو عرف أنه من أهل البدع والمعاصي الذين يهجرون، فهذا أيضاً لا يجيبه، أما إذا كان ظاهره الإسلام، وليس عنده بدع، وإن كان هناك شبهات في ماله فالشبهة لا تمنع من إجابة دعوته، يجاب لأن الشيء الذي يكون عاماً غير معين لا يمنع من معاملته، ولا يمنع كذلك من إجابة دعوته، فالرسول صلى الله عليه وسلم أجاب يهودياً إلى طعامه، وكذلك أكل من الشاة التي صنعتها اليهودية، وكذلك كان يتعامل مع اليهود، فتوفي صلوات الله وسلامه عليه ودرعه مرهونة عند يهودي بستة آصع من شعير لأهله، واليهود معروفون بأنهم يتعاملون بالربا، وأنهم يأكلون السحت، فلا يمنع ذلك معاملتهم، هذا من ناحية المعاملة العامة.

معنى قوله: (ومن صنع لكم معروفا فكافئوه)

معنى قوله: (ومن صنع لكم معروفاً فكافئوه) قوله: (ومن صنع لكم معروفاً فكافئوه)، المعروف هنا مطلق، والمعروف ما عرف بأنه إحسان سواء بذل مال أو عمل بالبدن أو غيره، يعني: يتوسط له في أمر من الأمور، ويسعى معه، فكل ما فيه نفع فهو معروف، ومكافأة صانع المعروف من باب كون الإنسان لا يجعل قلبه متعلقاً بشخص، مأسوراً لشخص، هو من هذا الباب. (من صنع لكم معروفاً فكافئوه)، فإن لم يكن الإنسان مستطيعاً للمكافأة فيلجأ إلى ربه جل وعلا بأن يكافأ هذا الذي صنع له المعروف، فيدعو له ويجتهد في الدعاء: (حتى يرى أنه قد كافأه)، أو حتى تُروا بضم التاء ومعناه: تظنوا، أما إذا جاءت التاء مفتوحة (حتى تروا) فمعنى ذلك: حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه، فيدعو له حتى يعلم أنه كافأه بالدعاء الذي يدعو له، ومعنى ذلك أنه يجتهد في دعاء الله جل وعلا له، هذا إذا لم يجد المكافأة. والشاهد هنا: تعظيم الله جل وعلا في إجابة السائل به، فإنه من تحقيق التوحيد، فإذا سئل المسلم بالله يجيب ويعطي، ويشترط أن هذا الشيء يستطيعه ولا يضره؛ لأن الضرر في الشرع ممنوع (لا ضرر ولا ضرار).

فضل الصدقة والإنفاق في سبيل الله

فضل الصدقة والإنفاق في سبيل الله قال الشارح رحمه الله تعالى: [ظاهر الحديث النهي عن رد السائل إذا سأل بالله، لكن هذا العموم يحتاج إلى تفصيل، بحسب ما ورد في الكتاب والسنة، فيجب إذا سأل السائل ما له فيه حق كبيت المال أن يجاب، فيعطى منه على قدر حاجته وما يستحقه وجوباً، وكذلك إذا سأل المحتاج من في ماله فضل فيجب أن يعطيه ما يدفع حاجته على حسب حاله ومسألته، خصوصاً إذا سأله بالله من لا فضل عنده، فيستحب أن يعطيه على قدر حال المسئول بما لا يضر به ولا يضر عائلته، وإن كان مضطراً وجب أن يعطيه ما يدفع ضرورته. ومقام الإنفاق من أشرف مقامات الدين، وتفاوت الناس فيه بحسب ما جبلوا عليه من الكرم والجود، وضدهما من البخل والشح، فالأول: محمود في الكتاب والسنة، والثاني: مذموم فيهما. وقد حث الله تعالى عباده على الإنفاق لعظم نفعه وتعديه، وكثرة ثوابه، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:267 - 268]]. يقول العلماء: الفحشاء هنا المقصود بها: البخل، أي: أنه يأمر بالبخل وعدم النفقة.

الآيات الحاثة على الإنفاق

الآيات الحاثة على الإنفاق قال الشارح رحمه الله: [وقال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7]، وذلك الإنفاق من خصال البر المذكورة في قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ} [البقرة:177]. فذكره بعد ذكر أصول الإيمان، وقبل ذكر الصلاة، ذلك -والله أعلم- لتعدي نفعه، وذكره تعالى في الأعمال التي أمر بها عباده وتعبدهم بها، ووعدهم عليها الأجر العظيم، قال تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ} [الأحزاب:35]]. ذكر في هذه الآية والآية التي قبلها فضل التصدق وإنفاق المال، ومعنى إيتاء المال على حبه ذوي القربى: كون الإنسان يحب المال ويؤتيه، وهو يحبه ويطمع في البقاء، ويحتاج إليه، فهذا من البر، ويدخل فيه الواجب والمندوب، يعني: الصدقة التي هي فرض مثل الزكاة داخلة فيه من باب أولى، وكذلك الصدقات التي هي تطوع داخلة فيه، وخص هذا بأنه إيتاء المال لمستحقيه، وبدأ بذي القربى وهذا يدل على أن النفقة والصدقة على القريب مثل الأخ وابن الأخ وما أشبه ذلك أفضل من الصدقة على البعيد، لأن الصدقة على القريب كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (صدقة وصلة). وكذلك مدح في الآية الثانية المتصدقين والمتصدقات، وهذا يدل على أنه حتى النساء يتصدقن ولو كان ذلك من بيت الزوج بالمعروف الذي يتعارف عليه، ويأذن فيه ولا يضره، أو من الشيء الذي يخصها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمرهن بالصدقة وقال: (تصدقن ولو من حليكن)، وكلمة (ولو) تدل على أن هذا الشيء ليس واجباً وإنما هو تطوع يتطوعن به. قال الشارح رحمه الله: [وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحث أصحابه على الصدقة حتى النساء؛ نصحاً للأمة؛ وحثاً لهم على ما ينفعهم عاجلاً وآجلاً]. قوله: (حتى النساء) لأن المعروف في الشرع أن النساء لسن أهل مال واكتساب وعمل، وإنما هن مقصورات في البيوت، ومكفيات النفقة وما يلزمهن، هذا معنى قوله: حتى النساء.

ثناء الله على الأنصار بالإيثار

ثناء الله على الأنصار بالإيثار قال الشارح رحمه الله: [وقد أثنى الله سبحانه على الأنصار رضي الله عنهم بالإيثار، فقال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9]]. الإيثار معناه: أن يبذل الشيء وهو محتاج إليه، فهو يؤثر على نفسه، يعني: يعطي الشيء الذي هو بحاجة إليه، والأنصار رضوان الله عليهم كانت هذه صفتهم، فأثنى الله جل وعلا على من يؤثر غيره على نفسه؛ لأن الحاجة قائمة ولكنه يقدم فيها غيره من المسلمين. قال الشارح رحمه الله: [والإيثار من أفضل خصال المؤمن كما تفيده هذه الآية الكريمة، وقد قال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} [الإنسان:8 - 9]]. يعني: هذا معنى الإيثار، قوله: (ويطعمون الطعام على حبه) أعم من الإيثار؛ لأن الإنسان مجبول على حب المال، وهذا شيء ثابت في طبيعة الإنسان أنه يحب المال، وإذا أنفق من المال وهو يحبه فهذا دليل الإيمان والرغبة في الآخرة، وقد أثنى الله جل وعلا على من كانت هذه صفته.

من حقوق المسلمين

من حقوق المسلمين قال الشارح رحمه الله: [والآيات والأحاديث في فضل الصدقة كثيرة جداً، ومن كان سعيه للآخرة رغب في هذا ورغَّب، وبالله التوفيق. قوله: (ومن دعاكم فأجيبوه) هذا من حقوق المسلمين بعضهم على بعض، إجابة دعوة المسلم، وتلك من أسباب الألفة والمحبة بين المسلمين]. الظاهر أنه إذا دعا الإنسان أخاه يجب عليه أن يجيبه، وقد يكون هذا فيه سؤال وقسم، فيقسم عليه أنه يغديه أو يعشيه أو يقيم اليوم عنده كما يحصل لكثير من الناس الآن، ويتحرج بعض الناس من هذا، وهذا في الواقع إذا كان المقصود الإكرام فإنه لا يلزم إجابته، ولا يلزم الذي أقسم كفارة إذا لم يجبه؛ لأنه أراد إكرامه، وهذا لأن أبا بكر رضي الله عنه لما قص أحد الصحابة رؤيا رآها عند النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر: دعني أفسرها، وفسرها ثم قال: أقسمت عليك أن تخبرني هل أصبت أو لم أصب؟ فلم يخبره. وكذلك لما أمره أن يبقى في الصف، ومعروف أن أمر الرسول واجب، فلما أمره بذلك، قال: ما كان لـ ابن أبي قحافة أن يصلي بالناس والرسول صلى الله عليه وسلم خلفه. فإذا عرف الإنسان أنه يريد الإكرام بذلك فلا يلزم إجابته، ولا يلزم المقسم الكفارة في ذلك، أما إذا كان لا يقسم إلا على شيء يريد منه الأمر فيه والنهي عنه، فهذا يجب على المسلم أن يبر قسمه؛ لأن هذا من حق المسلم على المسلم، ولو لم يفعل ذلك لزمته الكفارة. قال الشارح رحمه الله: [قوله: (ومن صنع إليكم معروفاً فكافئوه)، ندبهم صلى الله عليه وسلم إلى المكافأة على المعروف، فإن المكافأة على المعروف من المروءة التي يحبها الله تعالى ورسوله كما دل عليه هذا الحديث، ولا يهمل المكافأة على المعروف إلا اللئيم من الناس، وبعض اللئام يكافئ على الإحسان بالإساءة كما يقع ذلك كثيراً من بعضهم، نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة. بخلاف حال أهل التقوى والإيمان فإنهم يدفعون السيئة بالحسنة؛ طاعة لله، ومحبة لما يحبه لهم ويرضاه، كما قال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ * وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون:96 - 98]، وقال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:34 - 35]، وهم الذين سبقت لهم من الله تعالى السعادة]. معنى (ادفع بالتي هي أحسن) يعني: ادفع الأذى والإساءة التي نالتك من غيرك بالحسنة، والمعنى: (ادفعها بالحسنة) بأن تحسن إلى من أساء إليك، وهذا لا تتحمله نفوس كثير من الناس، لا يستطيع ذلك، ويقول: كيف يسيء إلي ثم أحسن إليه؟! وإنما يستطيع ذلك من يرغب فيما عند الله، ويعلم أن الدنيا لا قيمة لها، فيكتسب بكل ما يستطيع رضا ربه جل وعلا، وكذلك رفعة الدرجة عنده، ولهذا قال: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35] يعني: ذو حظ عند الله جل وعلا، وهم الذين يرغبون فيما عنده، ويعملون على تحصيله بعدم الانتقام لأنفسهم، وعدم أخذ حقوقهم، بل يتركونها لله، ومع ذلك يحسنون إلى من ظلمهم وأساء إليهم، رجاء ما عند الله، وليس خوفاً منهم، وإنما يرغبون فيما عند الله فيحسنون إلى من أساء إليهم. وهذا ليس واجباً على الإنسان، وإنما يستجب، فإن الله جل وعلا يقول في آية أخرى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40] إذا جازيت المسيء بالسيئة فقد جازيته وصرت مثله، ولكن أنت لا تتميز عنه إلا بأن تعفو عنه، وإن صار عندك خير وفضل عفوت وأحسنت، وهذا لا يصل إليه إلا الأبرار. [قوله: (فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له) أرشدهم صلى الله عليه وسلم إلى أن الدعاء في حق من لم يجد المكافأة مكافأة للمعروف: فيدعو له بحسب معروفه. قوله: تُروا -بضم التاء أي: تظنوا- أنكم قد كافأتموه، ويحتمل أنها مفتوحة بمعنى: تعلموا، ويؤيده ما في (سنن أبي داود) في حديث ابن عمر: (حتى تعلموا) فتعين الثاني للتصريح به. وفيه: (ومن سألكم بالله فأجيبوه) أي: إلى ما سأل فيكون بمعنى: أعطوه، وعند أبي داود -في رواية أبي نهيك - عن ابن عباس: (من سألكم بوجه الله فأعطوه)، وفي رواية عبيد الله القواريري لهذا الحديث: (ومن سألكم بالله)، كما في حديث ابن عمر]. روى النسائي: (من صنع إليك معروفاً فقلت: جزاك الله خيراً فقد أبلغت في مكافأته)، وهنا يقول: (فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه)، وقلنا: إن المعنى أن تبادروا في الدعاء وتبالغوا فيه حتى يحصل العلم لكم بأنها قد حصلت المكافأة، هذا معناه، فلا ينافي هذا ما ذكره النسائي أنه إذا قال: جزاك الله خيراً فقد كافأه؛ لأن كون الإنسان يقول: جزاك الله خيراً، قد تقبل وقد لا تقبل، والخير يعم الدنيا والآخرة، ومن أعظم الخير أن يدخله الجنة، والدنيا كلها ما تساوي شيئاً بالنسبة للخير الذي يكون في الآخرة. فالمعنى واضح في قوله: (من قال: جزاك الله خيراً فقد حصلت مكافأته)، وواضح بأن خير الآخرة وإن كان قليلاً فهو أعظم من الدنيا كلها، كما في الحديث الصحيح: (لموضع سوط في الجنة خير مما طلعت عليه الشمس)، الدنيا كلها لا تساوي موضع سوط، فإذاً: لا منافاة بين ما رواه النسائي وبين هذا الحديث.

مسائل باب: لا يرد من سأل بالله

مسائل باب: لا يرد من سأل بالله قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل: الأولى: إعاذة من استعاذ بالله]. معنى (إعاذته) أنه إذا استعاذ بالله من شر المخاطب الذي يخاطبه أو من غيره وقال: أعوذ بالله من شرك؛ فإنه يجب أن يكف عنه الشر، هذه إعاذته، تكف عنه شرك أو تكف عنه شر من تستطيع كفه. [الثانية: إعطاء من سأل بالله. الثالثة: إجابة الدعوة. الرابعة: المكافأة على الصنيعة. الخامسة: أن الدعاء مكافأة لمن لم يقدر إلا عليه. السادسة: قوله: حتى تروا أنكم قد كافأتموه. ]

شرح فتح المجيد [122]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [122] لقد نهى الشارع الحكيم عن التسخط وعدم الرضا بالقدر، لما في ذلك من الاعتراض على الله سبحانه وتعالى وشرعه وحكمه؛ وهذا منافٍ للإيمان، ومن ذلك التسخط بكلمة (لو) على أقدار الله، والظن بأن الأسباب تغير المقادير.

باب ما جاء في اللو

باب ما جاء في اللو قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في اللو. وقول الله تعالى: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران:154]، وقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} [آل عمران:168]]. من المعلوم أن الطريق إلى الله جل وعلا ليس إلا بإتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن أن يصل الإنسان إلى السعادة الأخروية إلا إذا سلك الطريق الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن والحديث الذي كان يقوله ويبلغه الأمة من أن الله تعالى موصوف بالصفات العلى، موصوف بأنه سميع عليم بصير، وبأنه حي قادر مريد، وبأنه يتكلم جل وعلا ويفعل ما يشاء، وبأن له وجهاً كريماً جل وعلا، وبأنه أكبر من كل شيء وأعظم من كل شيء، وأنه جل وعلا هو الذي بيده ملكوت كل شيء، وأنه الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، والظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء. وما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم أو قاله الله جل وعلا يجب أن يعتقد على ظاهره، ولا يجوز أن يُؤَوَّل وتطلب له الوجوه البعيدة الغريبة التي تخرج الكلام عن ظاهره، كما يفعله أهل الكلام الذين ابتلوا بالفلسفات وبالكلام الذي لم يأت به الرسول صلى الله عليه وسلم. ولهذا كان الأئمة، مثل: سفيان بن عيينة وسفيان الثوري وإسحاق بن راهويه وغيرهم رحمهم الله يقولون: من اعتقد في مثل قول الله جل وعلا: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] غير ما في قلوب عوام المسلمين فإنه ضال. ومقصودهم بهذا أن القرآن على ظاهره، أن الله خاطبنا بخطاب واضح جلي لا نحتاج معه إلى أن نبحث عن فلسفات وأمور بعيدة على اللغة، وذلك أن الله جل وعلا يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67]، فهذا أمر من الله جل وعلا للرسول صلى الله عليه وسلم أن يبلغ المنزل إليه إلى الأمة، ولا شك أنه بلغ، ولم يبلغنا التأويل الذي يقوله هؤلاء المتكلمون، وهذا يدل على أنه باطل؛ إذ لو كان من الحق لبلغه الرسول صلى الله عليه وسلم. ومعلوم أن الله جل وعلا إذا قال لنا: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن:27] وما أشبه ذلك من الآيات أن ظاهر هذه الآيات أن له سبحانه وتعالى وجهاً يليق بجلاله، على حد قوله جل وعلا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، وقوله جل وعلا: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4]، وقوله جل وعلا: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا} [البقرة:22]، وقوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65]، وما أشبه ذلك من الآيات التي تدل على تفرده جل وعلا بالكمال وبما يتصف به، وأن المخلوق لا يشاركه جل وعلا في صفاته أو أفعاله. فإذا أخبرنا أن له يداً وأن له رجلاً جل وعلا، وأنه يضع رجله في جهنم حتى ينزوي بعضها إلى بعض وتتضايق على أهلها، إذا أخبرنا بذلك وجب قبول هذا والإيمان به على ما يليق بعظمة الله جل وعلا، وكذلك إذا أخبرنا أن له وجهاً. أما التأويل الباطل مثل قولهم: الوجه المقصود به الذات فهو باطل، ولا يقال في اللغة العربية: (اثنان وجه)، أو: (يد فلان وجه) أو (رجل فلان وجه)؛ فإن هذا لا يفهم ولا يأتي لغة ولا شرعاً. إذاً هو باطل، ولو أن أمامنا رجلين أحدهما أخذ بظاهر القرآن وبظاهر أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، والآخر لم يأخذ بذلك بل قال: هذا الظاهر يدل على التشبيه ولا يجوز أن نأخذ به، ويجب أن نؤوله حتى لا نقع في ظاهر التشبيه ومضيا على هذا السبيل، ثم وقفا أمام الله وحاسبهما، فقال الأول: يا رب! سمعتك تقول كذا وكذا فاعتقدت ذلك، وسمعت رسولك صلى الله عليه وسلم يقول كذا وكذا فاعتقدت ذلك. والآخر يقول: ظننت أن هذا هو الحق، واعتقدت أن ظاهر خطابك وخطاب رسولك أنه غير مراد فأيهما أولى بالنجاة؟ لا شك أن الأول هو أولى بالنجاة؛ لأنه اعتصم بقول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا يقال في جميع الصفات؛ لأن باب الصفات واحد، فهو باب إثبات ونفي المشابهة -مشابهة المخلوقين- وليس باب تأويل، ومن كان سالكاً هذا المسلك -التأويل- فإنه على خطر عظيم بغير شك، بل لا نشك أنه ضال في ذلك، وأمره إلى الله جل وعلا هو الذي يتولى حسابه؛ لأنه هو الذي يتولى حساب عباده جل وعلا. يقول: [باب ما جاء في اللو] (اللو) هنا أصلها (لو)، فأدخلت (أل) عليها، وإدخال (أل) عليها لا يفيد المعرفة؛ لأن (لو) حرف وضع لمعنى كما هو معلوم، و (أل) قد تدخل على المعرف ولا تزيده تعريفاً، كما يقول الشاعر: رأيت الوليد بن اليزيد مباركاً شديداً بأعباء الخلافة كاهله فأدخل (أل) على يزيد ولم تزده تعريفاً، ولكنها قد تدخل في اللغة على المعرف ويبقى على ما هو عليه. ومقصوده بهذا ما جاء من النهي والوعيد لمن قال: (لو) معترضاً بذلك على قدر الله جل وعلا. أي: إذا وقع في أمر من الأمور يعترض ويقول: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، ولو أني ما فعلت كذا ما كان كذا وكذا. و (لو) في مثل هذا المعنى فيها محاذير عدة، سواء قصد بها الاعتراض على المقدر أو قصد بها الاعتراض على الأمر والنهي، والأمر والنهي هما متلازمان، فأمر الله جل وعلا وشرعه يجب أن ويمتثل كما يجب أن يجتنب نهيه. والذي جاء فيها هو الاعتراض على المقدر، ولكن (لو) قد تأتي في أمور مستقبلة تدل على أن المتكلم بها يريد أن يفعل كذا وكذا فلا تكون داخلة في النهي، كقوله صلى الله عليه وسلم: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة). فهذا يدل على أنه في المستقبل الذي سيقع سيفعل كذا وكذا، ولا يدل ذلك على أنه يعترض على الواقع، وكذلك قوله: (لو كنت راجماً أحداً بلا بينة لرجمت هذه) يقصد امرأة معينة، وما أشبه ذلك كثير مما جاء في الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه تدل على أنه لو تبين له في المستقبل الأمر على هذا النهج أنه يفعل كذا وكذا، فهو يخبر عن عقيدته وعن فعله الذي سيفعله إذا صار ذلك، وهذا ليس فيه اعتراض على القدر.

سبب نزول قوله تعالى: (لو كان لنا من الأمر شيء)

سبب نزول قوله تعالى: (لو كان لنا من الأمر شيء) أما الآية التي ذكرها المؤلف، وهي قوله جل وعلا: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران:154]. فالآية نزلت في قصة أحد كما هو معلوم من سياق الآيات، والآيات كلها في قصة أحد، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج بألف مقاتل من أهل المدينة، وفي أثناء الطريق بين أحد والمدينة رجع عبد الله بن أبي سلول رأس المنافقين ورجع معه ثلاثمائة من الذين تأثروا به، وقال: يطيع أمر الصبيان -يعني الرسول صلى الله عليه وسلم- ويترك رأيي ورأيه! لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يرى أن يبقى المسلمون في المدينة ولا يخرجون، ولكن ألح عليه بعض الصحابة الذين تخلفوا عن وقعة بدر طلباً للشهادة، وكانوا يحبون لقاء العدو، فألحوا عليه وطلبوا أن يخرج بهم إلى العدو، وكان يشير عليهم أن يجلسوا في المدينة، فإن دخلوا عليهم قاتلوهم في الطرقات والنساء ترميهم من فوق السطوح، وكان هذا هو الرأي الذي يكون موفقاً في ذلك الوقت، ولكن أمر الله لابد من نفاذه. فلما أكثروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل بيته ولبس سلاحه، ثم لام بعضهم بعضاً وقالوا: أكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء ما ينبغي لنا ذلك. فلما خرج قالوا له: يا رسول الله! إن شئت أن نبقى بقينا فقال صلى الله عليه وسلم: (لا ينبغي لنبي لبس لامته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه). فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرجوا معه، وفي أثناء الطريق رجع عبد الله بن أبي بن سلول بثلث الجيش من أصحابه وبقي بعضهم، فهؤلاء هم الذين قالوا: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران:154]، فهم يعترضون على ما وقع، وذلك أنه -كما هو معلوم- لما وصل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المكان الذي فيه القتال وزع الجيش، ووضع سبعين من الرماة على الجبل -وهو يسمى الآن جبل الرماة- وقال: انضحوا عنا الخيل ولا تعدوا مكانكم حتى أرسل إليكم، وإياكم أن تتركوا المكان قبل أن أرسل إليكم ولو رأيتمونا تخطفنا الطير. يعني: لو رأيتمونا نقتل فلا تعدوا مكانكم وهذا تأكيد. فلما بدأ القتال ما هي إلا ساعة من نهار حتى انهزم الكفار أمام المسلمين، والمسلمون خلفهم يقتلون ويأخذون ما يأخذون، فلما شاهد الرماة ذلك قالوا: علام نجلس هنا وقد انهزم الكفار؟ ما لجلوسنا هذا فائدة فذكرهم أميرهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبوا أن يطيعوه، ولحقوا بالرسول صلى الله عليه وسلم مع المسلمين ليأخذوا من الغنائم، فجاءت خيل المشركين وكانت بقيادة خالد بن الوليد -قبل أن يسلم- من خلف المسلمين، فقُتِل من المسلمين سبعون رجلاً، وجرح من جرح، وجُرح رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. هذا الذي أخبر الله جل وعلا به فقال: {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} [آل عمران:152] يعني: حصل ذلك بسبب الفشل والتنازع ومعصية أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فحصل ما حصل من قتل، فلما قتل من قتل. قال هؤلاء: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران:154]. ومعلوم أن هذا شيء مقدر مكتوب قبل خلق السموات والأرض، وأن الشيء إذا وقع يجب أن ينقاد له المؤمن ويؤمن به ويسلم لله جل وعلا، وأن يقول (إنا لله وإنا إليه راجعون، قدر الله وما شاء فعل).

الاعتراض على الله

الاعتراض على الله قولهم: (لو كان لنا من الأمر شيء) يعني: لو كان التدبير لنا ما خرجنا إلى هذا المكان، ولا قتل من قتل من أصحابنا. والمقصود بقولهم: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران:154]، المقصود به أصحابهم الذين قتلوا من إخوانهم من نسب وأقرباؤهم وغيرهم من الذين قتلوا، فهم يقولون ذلك على سبيل الاعتراض على القدر، وأنهم كان يستطيعون أن يغيروا من الواقع بتدبيرهم. يقولون ذلك على سبيل التحسر والتأسف لما وقع، وكل هذا لا يجوز أن يكون؛ لأنه لا يمكن أن يقع دقيق ولا صغير ولا كبير إلا بتقدير الله جل وعلا وإرادته، وهذا لا ينافي الحديث الذي سيذكره المصنف، بل هو يتفق معه. فالإنسان عليه أن يعمل السبب الذي أمر به ويجتهد فيه، ثم إذا وقع شيء خلاف ما قصد فعليه أن يسلم لقضاء الله وقدره، والإيمان بالقضاء والقدر أصل من أصول الإيمان، فأركان الإيمان ستة، وأحد أركانه الإيمان بالقدر خيره وشره، أي: أن كل ما وقع من الأمور التي تسر أو تضر كلها مقدرة ومقضية قبل أن توجد الأنفس التي وقع عليها ذلك، كما أخبر الله جل وعلا بذلك فقال: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22] أي: مكتوب مسجل مقضي ومفروغ منه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب مقادير الأشياء قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء). أي: كل شيء كتب في ذلك اليوم، ثم يقع على وفق هذه الكتابة بلا زيادة ولا نقص في الوقت المحدد الذي حدده الله جل وعلا لذلك بغير تقدم ولا تأخر، ولا زيادة ولا نقص، وما تسقط من ورقة ولا يحصل كبير ولا صغير إلا وقد قدر وكتب وفرغ منه، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [التغابن:11] يعني: بأمر الله وتقديره وإرادته وخلقه {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11]. إذاً: قول القائل عندما يقع في أمر مكروه: لو أني فعلت كذا لما صار كذا، هذا من شأن المنافقين الذين يظنون بالله ظن الجاهلية، وظن الجاهلية سيأتي الكلام عليه في باب ظن السوء بالله جل وعلا، أنه كل ظن يتضمن باطلاً يخالف الشرع أو القدر فهو من ظن الجاهلية، وأن ظن السوء يجب أن ينزه العبد ربه سبحانه من هذا الظن؛ لأنه متوعد عليه إذا فعله. فمثلاً: إذا سافر الإنسان فوقع له حادث أو ذهب ببضاعة فخسر فيها فيقول: لو أني لم أسافر ما وقع لي كذا، ولو أني ما ذهبت بهذه الأموال إلى هذا البلد الفلاني أو هذا المكان الفلاني ما خسرت. فهذا لا يجوز؛ لأنه بذلك يظن أنه يمكن أن يواجه الواقع، ويمكن أن يتغير الواقع، وهذا غير ممكن، فالشيء الواقع لا يمكن تغييره، كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس: (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فأسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف). يعني: ليس هناك تغيير، وكل ما يقع فإنه أمر مقدر لا يجوز الاعتراض عليه بقول (لو)، واعلم أن (لو) تفتح عمل الشيطان مثلما قال الرسول صلى الله عليه وسلم. إذاً هذا هو معنى قوله تعالى في هذه الآية: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران:154] يعني: أنهم قالوا ذلك على سبيل الاعتراض على ما وقع من قتل الصحابة وهزيمة من انهزم، وما وقع من انتصار الكافرين، وهذا من باب الابتلاء، ولهذا قال جل وعلا في حكمة ذلك {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] يعني: بسبب أنفسكم، وأنتم الذين أفسدتم في هذا وعصيتم. وهذه يجب أن يعتبر بها الإنسان، فهؤلاء أفضل الخلق من هذه الأمة، وهم الصحابة رضوان الله عليهم، ومع أفضل الخلق من رسل الله محمد صلى الله عليه وسلم، ووقعت لهم هذه المخالفة فأصيبوا بهذه المصيبة بسبب ذلك، فكيف إذا خالف الإنسان فيما هو أعظم من ذلك وهو أيضاً لا يصل إلى عشر أولئك، فإنه لا يجوز أن يقول: لماذا أنا أصبت بكذا؟ وقد يخرج الإنسان من ظل الإسلام بالاعتراض على القدر، فكثيراً ما تسمع بعض ضعاف الإيمان إذا أصيب بمصيبة، إما مرض أو مصائب أصيب بها بسبب والد أو ولد أو ما أشبه ذلك، تجده يقول: أنا لا أدري من أين جاءتني هذه المصيبة؟ أنا أعمل كذا وكذا، وأنا أصلي! ما معنى هذا؟ معناه أنه ما رضي بما قدره الله، وكأنه يقول: إن الله ظلمني، فأنا لا أستحق هذا الشيء الذي وقع في! وهذا إذا قاله الإنسان بهذا المعنى يخشى إن يخرجه من دين الإسلام؛ لأنه اعترض على ربه ولم يرض بما قدره له جل وعلا، ولهذا فالذين يذعنون ويسلمون وينقادون يثيبهم الله جل وعلا مع أنهم لا يغيرون في الواقع شيئاً، قال تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:156 - 157]، ففرق بين من ينقاد لربه ويعلم أنه ملك لله، وأن الله يتصرف فيه كيف يشاء فهو مملوك له، وإذا أعطاه شيئاً فهو فضله عليه، وإن أخذه فهو ملكه، فيقول: (إنا لله وإنا إليه راجعون)، ويقول: (رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً) هذا هو الذي يصلي عليه ربه ويزيده على الصلاة رحمة، أما الذي يعترض فيقول: لا أدري من أين أصابتني هذه المصيبة؟ أنا لم أعمل شيئاً أستحق به ذلك يعترض على ربه جل وعلا، ولم يسلم بالقدر: فهو إما جاهل يجب أن يعلم ويحذر من ذلك، وإما أن يكون عارفاً بذلك ويكون شأنه شأن المنافقين الذين اعترضوا على ما وقع بتقدير الله جل وعلا. ومعلوم أن مناسبة ذلك لباب التوحيد ظاهرة، فالذي يعترض على أقدار الله إما أن يكون منافياً للتوحيد وإما أن يكون توحيده ناقصاً على أقل حال، ويجب أن يتلافى هذا النقص ويبتعد عنه بأن يعلم أنه عبد لله مملوك لله، وأن أقدار الله جل وعلا جارية، وأنه لا ينفع قوله (لو)، وإنما (لو) تزيد في الأسى، وتفتح باب التسخط والحزن، وتكون وبالاً عليه.

شرح قوله تعالى: (الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا)

شرح قوله تعالى: (الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا) [قال المصنف رحمه الله تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} [آل عمران:168]]. وهذا في نفس سياق قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} [آل عمران:156]: يعني لو أطاعونا في مشورتنا لهم بأن لا يخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حصل لهم القتل. وقد أخبر الله جل وعلا في الآية التي قبلها أنهم لو كانوا في بروج مشيدة وكانوا في بيوتهم وفي حصونهم لبرز الذي كتب عليهم إلى مضاجعهم، فلابد أن يأتي شيء يبرزهم إلى ذلك؛ لأن الله كتب قبل خلق السموات والأرض أنهم سيقتلون في هذا المكان، فلابد أن تتهيأ الأسباب إلى إخراجهم إلى المضاجع التي سقطوا فيها قتلى. فهذا نفس السياق السابق، فهذا شأن المنافقين التحسر على ما وقع، وظنهم أنهم يستطيعون أن يغيروا من الواقع بالتدابير التي يتخذونها، وهذا كذب واعتراض على أقدار الله. وقد جاء في تفسير ابن أبي حاتم بسنده، وكذلك في تفسير ابن إسحاق عن عبد الله بن الزبير عن أبيه أنه قال: (ألقى الله جل وعلا علينا النعاس بعدما وقعت الواقعة). والنعاس في مواطن القتال علامة النصر وعلامة الإيمان، ولهذا قال الله: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ} [آل عمران:154] ليسوا كلهم: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران:154]، هؤلاء هم المنافقون، وهم أخور الناس وأخوفهم، فلشدة الخوف والخور لا يأتيهم النعاس، بخلاف أهل الإيمان فإنه يلقى عليهم النعاس، وهذا علامة النصر وعلامة الظفر في مواطن القتال، والنعاس عند الصلاة علامة استحواذ الشيطان على الإنسان. يقول عبد الله بن الزبير عن أبيه: ألقي عليّ النعاس حتى صار سيفي يسقط من يدي فآخذه، بينما أنا كذلك إذ سمعت معتب بن قشير كأنه حلم يقول: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران:154]، وهذا وإن كان قاله فرد فمؤكد أنه قول طائفة المنافقين أجمع؛ لأنهم كلهم على هذا النحو. فهم الذين قالوا لإخوانهم: لو أطاعونا ما قتلوا. والمقصود بالإخوان هنا إما إخوان النسب وليس إخوان الدين؛ لأن المنافقين ليسوا إخواناً للمؤمنين إلا في الظاهر، أو يكون المقصود الظاهر؛ لأنهم يشاركونهم بالأعمال الظاهرة من الصلاة ومن الجهاد وغيرها من أمور الإسلام ولكنهم في الباطن ليسوا إخواناً لهم، فإما أن يقصد به الظاهر أو يقصد به إخوان النسب؛ لأنه معلوم أن الأنصار في القبيلة الواحدة بل البيت الواحد فيه مؤمنون خلص من أفضل المؤمنين، وفيه منافقون. والنفاق ما كان إلا في المدينة، ولم يكن النفاق إلا بعد وقعة بدر، وقبل ذلك لم يكن هناك نفاق؛ لأن الأمر فيه واضح إما كفر وإما إيمان، والنفاق لا يكون إلا إذا اشتد الإسلام وظهر وصار له قوة وسلطة، عندها يحدث النفاق فيوافقون في الظاهر وهم مخالفون في الباطن، فهؤلاء هم الذين قالوا هذه المقالة أيضاً، {قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا} [آل عمران:168] يعني: تخلفوا {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} [آل عمران:168] يعني: أطاعونا بعدم الخروج. وهذا اعتراض على القدر وتأسف على الواقع وحزن عليه، فهم يظنون لو أنهم امتثلوا مشورتهم ما حصل لهم ما حصل، وهذا خلاف الإيمان بالقدر؛ لأن القدر الذي وقع وكتب لابد من نفاذه، ويقال في هذه الآية ما قيل في الآية السابقة تماماً.

الاستعانة بالله وترك كلمة (لو)

الاستعانة بالله وترك كلمة (لو) [قال المصنف رحمه الله تعالى: وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجزن، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان)]. قوله: (وفي الصحيح) يعني: في الحديث الصحيح. والحديث في الصحيحين: البخاري ومسلم، ولكن اللفظ الذي ذكره هنا من رواية مسلم، ويجوز أن يكون في الصحيح؛ لأنه اختار لفظ مسلم، وهذا جائز، والحديث أوله قوله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجزن، فإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان). وهذا حديث عظيم، لهذا يقول ابن القيم رحمه الله: فهذا الحديث يجب على كل مسلم أن يعرفه ويتحلى به، ومعرفته إياه ضرورة أشد من ضرورة الطعام والشراب. لعظم هذا الحديث، وذلك أن فيه أصلاً عظيماً جداً، وهو الإيمان بالقدر.

شرح حديث: (المؤمن القوي خير وأحب)

شرح حديث: (المؤمن القوي خير وأحب) وقوله: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف) المقصود بالقوي هنا: القوي في إرادته ودينه وقوة الإيمان لا تستلزم قوة البدن، بل قد يكون الإنسان ضعيف البدن وإيمانه مثل الجبل وعزيمته أقوى من الحجر، وهذا الذي يحبه الله جل وعلا. فالله جل وعلا قوي يحب القوي من المؤمنين، وهو جميل يحب الجمال، وهو كريم يحب الكرماء، وهو رحيم يحب الرحماء، والمؤمن القوي في أمر الله وفي دينه وفي عزيمته يحبه الله جل وعلا، وهو خير من المؤمن الضعيف. وهنا كلمة (خير) تفضيل، والجانب الثاني يكون فيه خير، والمؤمن الضعيف فيه خير ولكن المؤمن القوي أفضل منه، ومحبة الله له أفضل من عمله الذي يعمله وأعظم؛ لأن أسباب المحبة هي قوة الإيمان لموافقة أمر الله جل وعلا والامتناع عن نهيه بقوة وعزيمة، هذه هي التي سببت له محبة ربه جل وعلا، فالله يحبه أكثر من المؤمن الضعيف؛ لأن الضعيف قد تغلبه شهوته فيواقع المعصية، وقد تكون إرادته في فعل الفرائض ضعيفة فيترك بعضها، أو يقصر فيها فيحصل له الضعف من نواحي الترك والفعل. ومعلوم أن الله جل وعلا علام الغيوب، ويعلم أن هذا العبد القوي والضعيف سيفعل كذا قبل وجوده، ولكن هذا فضل الله يضعه حيث يشاء، فهو أعلم حيث يضع الفضل، كما قال جل وعلا: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124]، فيضع فضله في المكان اللائق به، ويمنع فضله المكان الذي لا يليق أن يوضع الفضل فيه، والفضل يتفاوت كما في هذا الحديث، وبعض المؤمنين يكونون أحب إلى الله وهم يتفاوتون، وكلما كان إيمان العبد أكمل فمحبة الله له أكثر وأتم. (وفي كل خير) يعني أن المؤمنين على خير، إلا أنهم يتفاوتون هذا التفاوت العظيم في المحبة وكذلك في الجزاء. ولهذا عرف أن الجنة درجات بعضها فوق بعض، وما بين درجة والأخرى مثلما بين السماء والأرض، وكون الذي يكون في الأعلى يكون بقوة الإيمان وبكثرة العمل الذي يعمله، وفرق بين من يكون في أدنى درجات الجنة ومن يكون في أعلاها عظيم جداً، فالفرق في الجزاء مرتب على الفرق في القوة في الإيمان والعمل. ثم قال صلى الله عليه وسلم: (احرص على ما ينفعك) أمر من الرسول صلى الله عليه وسلم بالحرص يكون بأمرين: أحدهما: هو بذل الوسع والجهد والطاقة على الفعل. الثاني: أن يكون الحرص في الفعل النافع. فإذا وجدا هذان الأمران فمعنى ذلك أن هذا عنوان السعادة للإنسان، فيكون حريصاً ويكون حرصه على ما ينفع، ومعلوم أن النفع المقصود به نفع الآخرة والنفع في الدين، أما الدنيا فإن الله يعطيها من يحب ومن لا يحب؛ لأنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، أما الدين فلا يعطيه الله جل وعلا إلا من يحبه. فالمقصود أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالحرص، والحرص هو بذل الوسع والجهد في العمل، والإنسان يحرص أن يكون حرصه على النافع، ثم يضاف إلى هذين الأمرين الاستعانة بالله جل وعلا، فيفعل السبب ويكون جاداً في ذلك حريصاً عليه مستعيناً بالله. قوله: (واستعن بالله) وهذا يكون بتمام العبادة، وصاحبه متحلٍ بقوله جل وعلا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]. فحرصه على ما ينفع عبادة، والاستعانة بالله جل وعلا على حصول ذلك عبادة، ولهذا يقول ابن القيم رحمه الله: إن هذا الحديث من أنفع ما ينبغي أن يتحلى به الإنسان ويعرف معناه. وقوله: (ولا تعجزن) العجز ضد الحرص. يعني: أن يكسل ويترك العمل لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، فلا يكلف الإنسان شيئاً لا يطيقه، ولكن لا يترك الشيء الذي يطيقه ويستطيعه، فإن تركه فهو عاجز، فالذي ترك الشيء الذي يستطيع فعله من الطاعات عاجز. أي: أخلد إلى الأرض واتبع هواه، وترك ما ينبغي له أن يفعله، وهذا هو العجز. (ولا تعجزن) والنون هنا مؤكدة، فهي تأكيدٌ للفعل المضارع، فيؤكد ليهتم الإنسان بذلك ويبتعد عن العجز. ثم قال صلى الله عليه وسلم: (فإن أصابك شيء) يعني: إذا حرصت على النافع واستعنت بالله فلم يحصل لك مرادك فلا تقل: (لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قَدَّر الله وما شاء فعل). ويجوز أن تقول بالتخفيف (قدر الله) بالإضافة. يعني: هذا الذي وقع هو قدر الله الذي قدره. ويجوز أن تقول: (قدّر الله وما شاء فعل)، و (قدّر): يعني: هذا الذي وقع قدّره الله. والله يفعل ما يشاء تعالى وتقدس، فيسلم الإنسان وينقاد لربه، ويعلم أن عمله الذي عمله لا يؤثر في الواقع في شيء، ولكن الإنسان يؤمر بالحرص والعمل؛ لأنه لا يدري ماذا سيقع، وعند وقوع الشيء فإنه ينقاد لربه ويؤمن بقدره، ويؤمن بأن هذا لا يمكن أن يتغير أو يتبدل، فالأقدار مقدرة غير معلومة، والإنسان مأمور بالطاعة والحرص على ذلك. وأما الذين يحتجون بالقدر فهم في الواقع يغالطون أنفسهم ويخالفون قدر الله وشرعه، فمثلاً: إذا قلت لإنسان صلِّ يقول: لا. كتب الله علي ألا أصلي. فهذا كذب، وفعله كذب ومغالطة، فهل اطلعت على اللوح المحفوظ وعلمت أن الله كتب عليك أنك لا تصلي؟ أو أنك تريد أنك تبرر لفعلك، وتبرر ما أنت عليه فتحتج بالقدر وتجعل اللوم على القدر وتجعل نفسك ليست ملومة؟! هذا هو الواقع، وهذا القول أسوء من الفعل -نسأل الله العافية-؛ لأن العبد إذا وقع في معصية يجب أن يستغفر ويتوب ويقول: أستغفر الله وأتوب إليه، ولا يقل: إني مكتوب علي كذا. فإذا قاله فمعناه أنه يقول: أنا راضٍ بما أنا فيه ولن أغير مما أنا فيه. وهذا هو الواقع هو الحقيقة، فيجعل اللوم على القدر وهو بريء من ذلك، وكفى بهذا اعتراضاً على الله جل وعلا وعدم امتثال لأمره؛ فإن الله لم يأمر العباد إلا بالشيء الذي يستطيعونه، والشيء الذي يستطيعونه ليس بضيق وبكلفة، فإن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها وتعالى وتقدس. فالواجب على العبد أن يكون عبداً لله جل وعلا ممتثلاً لأمره؛ فإن وقع في شيء لا يرضاه من مصيبة أو ما أشبه ذلك فعليه أن يسلم لقضاء الله الذي قضى، ويؤمن بذلك، ويعلم أنه مكتوب عليه وأنه لا يمكن تغييره، ولهذا ثبت في الصحيحين أن موسى عليه السلام قال لربه: (يا رب! أرني آدم الذي أخرجنا ونفسه من الجنة فأراه الله جل وعلا آدم، فقال له موسى: أنت أدم أبو البشر الذي خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك جنته، لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟)، وفي رواية: (لماذا خيبتنا ونفسك أخرجتنا من الجنة؟) فقال له آدم عليه السلام: (أنت موسى الذي كلمك الله بلا واسطة، وكتب لك التوراة بيده، واصطفاك على الناس بكلامه، فقبل كم وجدت في التوراة مكتوباً قبل أن أخلق: (فعصى آدم ربه فغوى)، فقال موسى: وجدت أن هذا كتب قبل أن تخلق بأربعين سنة) يعني: هذا مكتوب في التوراة وليس هو في اللوح المحفوظ قبل أن تخلق بأربعين سنة، فقال: (أتلومني على شيء كتب علي قبل أن أخلق؟! فحج آدم موسى) قالها ثلاثاً، يعني: غلبه في الحجة ومعنى ذلك أن موسى عليه السلام لام آدم على المصيبة التي وقعت له وهو ليس بذنب؛ لأن الذنب قد علم موسى أنه تاب منه وتاب الله عليه، والتائب من الذنب لا يجوز أن يلام عليه، والإنسان إذا وقع في ذنب وتاب منه فلا يجوز أن تأتي إليه وتقول: أنت وقعت في كذا وكذا. فهذا حرام، وموسى أعلم بالله وأتقى من أن يلوم آدم على ذنب قد أخبر الله جل وعلا أنه تاب عليه؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب عليه، ولكن اللوم على المصيبة والأثر الذي هو الخروج من الجنة، ولهذا قال: (أخرجتنا ونفسك من الجنة)، والخروج مصيبة، ولو كنا في الجنة ما حصل ما يحصل الآن، أعني كون أكثر الناس كفاراً، وكون أشياء كثيرة تحدث، فأخبر أن هذا الشيء مكتوب لا يمكن تغييره ولابد منه، ولهذا غلبه في الحجة، فالشيء الذي يقع للإنسان أمر مقدر عليه يجب أن يسلم ويرضى؛ فإنه لا حيلة له فيه، فما أمامه إلا أن يقول: (قدر الله وما شاء فعل)، أما إذا كان له فيه حيلة مثل المعصية فيجب أن يتوب ويستغفر ويقلع عن الذنب، أما إذا وقع في ذنب يمكن استدراكه ويقول: (هذا قدر الله) ويستمر عليه فهذا لا يجوز، وعليه أن يستدرك ما يستطيع، أما أن يتعذر بالقدر فلا، ولهذا يقول العلماء: الاحتجاج بالقدر على المصائب لا على المعائب والمعائب هي الذنوب، ويجب على العبد أن يتوب ويستغفر، والمصيبة التي تقع يجوز أن يقول فيها: الحمد لله، هذا قدر الله، وأنا راضٍ بقدر الله فيتسلى بذلك، كما قال آدم عليه السلام: (أتلومني على شيء كتب علي قبل أن أخلق). فإن فإن وقع الشيء الذي لا تريده وحصل خلاف ما تريد فلا تقل: (لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا. ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان) يعني: قولك (لو) لا يأتي بخير، وإنما يفتح عمل الشيطان من الأسى والتأسف والحزن والاعتراض على القدر، وعمل الشيطان كله شر يقود الإنسان إلى ما هو شر، ولهذا يرسل الرسول صلى الله عليه وسلم للنافع وينهى عما فيه افتتاح عمل للشيطان، وهو أنه إذا وقع في مصيبة فإن كانت المصيبة يمكن استدراكها وتمكن الحيلة فيها والإقلاع عنها إذا كانت ذنباً بالاستغفار فهذا واجب العبد أن يستغفر ويتوب ويقلع عن الذنب، أما إذا كانت مصيبة في ماله أو في نفسه بمرض أو في ولده أو في قريبه أو ما أشبه ذلك فله أن يقول: هذا قدر الله، وأنا راضٍ بقدر الله، والحمد لله رب العالمين. وهذا هو شأن العبد المؤمن.

الوعيد والنهي عن قول (لو)

الوعيد والنهي عن قول (لو) [قوله: باب ما جاء في اللو أي: من الوعيد والنهي عنه عند الأمور المكروهة كالمصائب إذا جرى فيها القدر؛ لما فيه من الإشعار بعدم الصبر، والأسى على ما فات مما لا يمكن استدراكه. فالواجب التسليم للقدر والقيام بالعبودية الواجبة، وهو الصبر على ما أصاب العبد مما يكره، والإيمان بالقدر أصل من أصول الإيمان الستة]. الصبر أصل عظيم لا يمكن أن يستقيم إيمان الإنسان إلا به، والصبر في دين الله جل وعلا في أمور ثلاثة: صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على أقدار الله إذا وقعت، ويجب أن يكون المؤمن متحلياً بهذه الأقسام كلها، فيصبر على الطاعة ويصابر، ويصبر عن المعصية فلا يقع فيها، ويصبر على قدر الله جل وعلا إذا وقع فيه كالمصائب. [وأدخل المصنف رحمه الله أداة التعريف على (لو)، وهذه في هذا المقام لا تفيد تعريفاً كنظائرها؛ لأن مراد هذا اللفظ كما قال الشاعر: رأيت الوليد بن اليزيد مباركاً شديداً بأعباء الخلافة كاهله وقوله: وقول الله عز وجل: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران:154]، قاله بعض المنافقين يوم أحد لخوفهم وجزعهم وخورهم. قال ابن إسحاق: فحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عبد الله بن الزبير قال: قال الزبير: لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد الخوف علينا أرسل الله علينا النوم، فما منا رجل إلا ذقنه في صدره، قال: فو الله إني لأسمع قول معتب بن قشير ما أسمعه إلا كالحلم: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران:154]، فحفظتها منه، وفي ذلك أنزل الله عز وجل: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران:154] لقول معتب. رواه ابن أبي حاتم. قال الله تعالى: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران:154] أي: هذا قدر مقدر من الله عز وجل، وحكم حتم لازم لا محيد عنه ولا مناص منه. وقوله: وقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} [آل عمران:168] قال العماد ابن كثير رحمه الله تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} [آل عمران:168] أي: لو سمعوا مشورتنا عليهم بالقعود وعدم الخروج ما قتلوا مع من قتل. قال الله تعالى: {قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:168] أي: إذا كان القعود يسلم به الشخص من القتل والموت فينبغي لكم ألا تموتوا، والموت لا بد آت إليكم ولو كنتم في بروج مشيدة، فادفعوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين. قال مجاهد عن جابر بن عبد الله: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي وأصحابه، يعني أنه هو الذي قال ذلك]. ومما يستشهد به على ذلك لما حضرت الوفاة خالد بن الوليد رضي الله عنه وهو على فراشه قال: (قاتل الله الجبناء -أو قال: لا نامت أعين الجبناء- ليس في بدني موضع إلا وفيه ضربة بسيف أو طعنة رمح، وها أنا ذا أموت على فراشي) يعني: لأن القدر الذي قدره الله وكتبه لابد من وقوعه.

العمل بالأسباب لا ينافي القدر ولا يصادمه

العمل بالأسباب لا ينافي القدر ولا يصادمه [وأخرج البيهقي عن أنس أن أبا طلحة قال: غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد، فجعل يسقط سيفي وآخذه ويسقط وآخذه. قال: والطائفة الأخرى -المنافقون- ليس لها هم إلا أنفسهم، أجبن قوم وأرعبه وأخذله للحق: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران:154]، إنما هم أهل ريب وشك بالله عز وجل. قوله: {قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} [آل عمران:154] يعني: لا يغشاهم النعاس من القلق والجزع والخوف: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران:154]. قال شيخ الإسلام رحمه الله لما ذكر ما وقع من عبد الله بن أبي في غزوة أحد قال: فلما انخذل يوم أحد وقال: يدع رأيي ورأيه ويأخذ برأي الصبيان -أو كما قال- انخذل معه خلق كثير كان كثير منهم لم ينافق قبل ذلك، فأولئك كانوا مسلمين، وكان معهم إيمان هو الضوء الذي ضرب الله به المثل، فلو ماتوا قبل المحنة والنفاق لماتوا على الإسلام ولم يكونوا من المؤمنين حقاً الذين امتحنوا فثبتوا على المحنة، ولا من المنافقين حقاً الذين ارتدوا عن الإيمان بالمحنة، وهذا حال كثير من المسلمين في زماننا أو أكثرهم إذا ابتلوا بالمحنة التي يتضعضع فيها أهل الإيمان ينقص إيمانهم كثيراً وينافق كثير منهم، ومنهم من يظهر الردة إذا كان العدو غالباً، وقد رأينا من هذا ورأى غيرنا من هذا ما فيه عبرة، وإذا كانت العافية أو كان المسلمين ظاهرين على عدوهم كانوا مسلمين وهم مؤمنون بالرسل باطناً وظاهراً، لكنه إيمان لا يثبت على المحنة، ولهذا يكثر في هؤلاء ترك الفرائض وانتهاك المحارم، وهؤلاء من الذين قالوا: آمنا فقيل لهم: {لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14] أي: الإيمان المطلق الذي أهله هم مؤمنون حقاً؛ فإن هذا هو الإيمان إذا أطلق في كتاب الله تعالى كما دل عليه الكتاب والسنة، فلم يحصل لهم ريب عند المحن التي تقلقل الإيمان في القلوب. انتهى. قوله: وقد رأينا من هذا ورأى غيرنا ما فيه عبرة. قلت: ونحن كذلك رأينا من ذلك ما فيه عبرة عند غلبة العدو من إعانتهم العدو على المسلمين، والطعن في الدين، وإظهار العداوة والشماتة، وبذل الجهد في إطفاء نور الإسلام وذهاب أهله، وغير ذلك مما يطول ذكره والله المستعان. قوله: في الصحيح -أي صحيح مسلم - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (احرص) الحديث]. قوله: (باب ما جاء في اللو) المقصود الاعتراض على القدر أو الاعتراض على الشرع، أما الاعتراض على القدر فيكون بعد وقوع الشيء، ينظر إلى الأسباب وإلى الأمور التي يفكر أنه يمكن أن يفعلها، فينجو من ذلك فيقول: لو أني فعلت كذا ما صار كذا وكذا. وفي نفسه عند هذا القول من الضيق والحرج والأسى والسخط لما وقع فيه، فهو غير راضٍ بما وقع، ويرى أنه يمكن أن يغير، وهذا كله من الكفر بالله جل وعلا. أما الاعتراض على الشرع فمثله ما ثبت عن أبي عن عبد الله بن أبي رئيس المنافقين حينما قام يخاطب أصحابه في أحد ويقول: رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع رأيي ورأيه ويأخذ برأي الصبيان فلهذا حصل ما حصل! فهو يعتمد على ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم وما أمر به، ويرى أنه غير حكيم وغير رأي حازم كما هو شأن المنافقين في كل وقت، والآية فيها أن الله جل وعلا قسم الناس إلى قسمين: قسم أنزل عليهم النعاس في مصافهم أمام العدو، ونزول النعاس في موطن الخوف والحرب دليل النصر ودليل الإيمان، لهذا قال الله: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ} [آل عمران:154] يغشى طائفة وليس كلهم. هذا قسم، وهؤلاء هم أهل الإيمان الخُلَّص الذين تبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن علم ويقين وبصيرة، وعلموا أنه لا يقع إلا ما قدره الله جل وعلا، وهم راضون بما قدر الله، وإنما إذا وقع ما يرون أنه مصيبة يقولون: (إنا لله وإنا إليه راجعون) فيزدادون بذلك إيماناً. أما القسم الثاني فهو ما ذكر في قوله: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} [آل عمران:154] يعني: ليس لهم هم إلا حياتهم، يخافون الموت ويخافون أن يقتلوا، أما أمر الدين ونصره فهذا لا يهمهم، وإنما همهم كله خوفهم على أنفسهم، ولهذا وصفوا بالجبن لأنهم يخافون أن يقتلوا، ووصفوا بالخذلان لأنهم خذلوا المسلمين في المواطن، كما فعل عبد الله بن أبي بن سلول في أحد، فإنه رجع بثلث الجيش، وهؤلاء الذين رجعوا ليسوا كلهم منافقين ولكن عندهم ضعف إيمان، وأما المنافق الخالص فهو الذي يبطن الكفر ويظهر الإيمان، ولا يخاطب بمثل هذا {قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} [آل عمران:154]، وسيأتي الكلام على ظنهم هذا وهو ظن الجاهلية: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران:154] أي: لو جعل لنا التصرف وأخذ برأينا وامتثل قولنا ما حصل ما حصل. وهذا واضح في أنه اعتراض على ما قدره الله، أي: أنهم يقولون: يمكن أن يتغير ما وقع، ولو أخذ برأينا ما وقع القتل. مع أن هذا شيء قد كتبه الله جل وعلا قبل خلق السموات والأرض ولا يمكن تغييره، فكل ما يقع من دقيق أو جليل فهو بإذن الله بإرادته وبتقديره السابق، والأمور التي يرى أنها أسباب لا تؤثر في ذلك، وإنما يعتقد هذا من لا يؤمن بقدر الله جل وعلا ولا يؤمن بأسماء الله وصفاته؛ لأن من أسمائه وصفاته جل وعلا (العليم الخبير) الذي خلق كل شيء وقدره تقديراً، فلا يقع شيء إلا عن خلقه وتقديره، وقد كتب ذلك في كتاب تأكيداً لهذا، وإلا فالله جل وعلا لا ينسى ولا يخفى عليه شيء، فقول هؤلاء: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران:154] يعنون به: ما قتل من قتل من قومنا ومن إخواننا لأن المقتول لا يقول: ما قتلت. ولكن عبروا عن قتل إخوانهم بأنه كقتل أنفسهم، وقد علم أن هؤلاء يقولون ذلك غير راضين به، بل ساخطين بما صار وآسفين عليه، ومتضايقين منه أشد الضيق، وهم مع ذلك يعتقدون أنه يمكن أن يتغير، ولو أخذ برأيهم ما وقع ذلك. فهذا المقصود من المنع من قول (لو) أنها إذا كانت بالاعتراض على قدر الله جل وعلا وعدم الرضا بما وقع، فإن هذا لا يجوز أن يقع من المسلم، أو كان المقصود الاعتراض على تدبير الرسول صلى الله عليه وسلم وأمره ونهيه وشرعه الذي شرعه الله له، وأنه غير حكيم، وأن غيره يمكن أن يكون أحسن منه، فهذا اعتراض على الله وهو من الكفر بالله جل وعلا، كما أن الأول أيضاً عدم رضا بتقدير الله وكذلك عدم إيمان به وأنه لم يقدر ولم يقع عن كتابة وعلم سابق ويمكن أن يغير. أما إذا جاءت (لو) في ذكر شيء يعتقد الإنسان في المستقبل أنه سيفعله، كقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة)، وكقوله صلى الله عليه وسلم (لو كنت راجماً أحداً بلا بينة لرجمت هذه) لامرأة معينة حصلت الملاعنة بينها وبين زوجها، فلما جاءت بالولد فإذا هو على صفة الرجل الذي رمي بها على نعته شبيهاً به، فقال صلى الله عليه وسلم: (لو كنت راجماً أحداً بلا بينة لرجمت هذه) أي أن في ذلك يظهر صدق زوجها، ولكن اللعان يمنع من إقامة الحد كما هو معلوم، وكذلك ما جاء من أقواله صلى الله عليه وسلم في هذا الباب كما ذكره البخاري في صحيحه، فإنه ذكر جملة من قول (لو) التي تدل على جواز ذلك وليست من هذا الباب، ولهذا نقول: إن الممنوع أن يقولها الإنسان على سبيل التسخط للواقع وأنه يمكن تغييره بأسباب، فإذا قالها على هذا الوجه فهذا ممنوع، وهو قدح في التوحيد؛ بل قد يكون منافياً له، يقولها أيضاً على وجه الاعتراض على الحكمة التي أمر الله جل وعلا به من أجلها. وقد بين الحكمة جل وعلا في هذه القضية أو شيئاً من الحكمة؛ لأن الحكم كثيرة ولا يعلمها إلا الله جل وعلا، والله جل وعلا يبتلي عباده بأشياء قد لا تظهر لهم الحكمة منها، ويكون ذلك المقصود به تسليم عقولهم لله جل وعلا وانقيادهم بدون اعتراض، أما إذا حصل اعتراض فإنه يحصل الكفر، وهو اعتراض كامن في نفوس كثير من الناس على شرع الله وقدره، وكثير من الناس قد لا يجرؤ أن يقول ما هو في نفسه فيستتر به ويقول: آمنت بالله. ولكن في قرارة نفسه غير ذلك، وقد -مثلاً- يأمن من اللوم والعتاب أو يأمن من النكال والعقاب ولكنه لا يسلم بما في قلبه، وهذا كثير، حتى إنه يوجد في كلام الذين ينسبون إلى العلم، ولكن علمهم لم ينفعهم، كما يقول المعري معترضاً على الله جل وعلا في أبيات له: إذا كان لا يحظا برزقك عاقل وترزق مجنوناً وترزق أحمقاً فلا ضير -يا ربي- على امرئ رأى منك ما لا يشتهي فتزندقا ومثلها أشياء كثيرة يذكرها هو وغيره، فهذا اعتراض على الله جل وعلا، وكأنه يقول: إنك لست حكيماً، ولست بعادل، ولست بمنصف؛ لأن الذين ينبغي أن ترزقهم ما يحصل لهم الرزق، والذين ينبغي ألا ترزقهم يرزقون، مثل المجانين والحمقى، أما الأدباء والعقلاء فيتمنون الرزق. وهذا أول من قاله إبليس -لعنه الله- حينما قال لربه: {لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر:33]، وقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] يقول: ينبغي أن يسجد هو لي، وليس أنا الذي أسجد له فهذا اعتراض على الله جل وعلا، ومعلوم أن مثل هذا الذي يعترض على الله لا يرضى أن يكون شريكاً لله، بل يجعل نفسه فوق الله، يجعل نفسه مستدركاً على الله جل وعلا، وهل

المقصود بالقوة في حديث: المؤمن القوي

المقصود بالقوة في حديث: المؤمن القوي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الذي روي في الصحيح يقول: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله تعالى من المؤمن الضعيف)، والمقصود بالقوة هنا قوة الإرادة وفعل السبب، قوي في إرادته مبادر إلى ما أمر به بدون توانٍ ولا فتور. هذا هو القوي الذي يحبه الله؛ لأنه قوي في إرادته وفي عمله الذي أمر به، ويعلم أنه عبد مأمور يجب عليه أن يمتثل ويبادر. قوله: (أحب إلى الله من المؤمن الضعيف) أي: ضعيف الإرادة فقد يكون ضعيفاً في إرادته، وضعيفاً فيما يواجه ولكنه مؤمن ليس عنده اعتراض ولا عنده تسخط، غير أنه ضعيف الإرادة، فهذا يحبه الله، ولكن الأول أحب إلى الله منه، وفي هذا أن الله يحب المؤمنين، وقد جاءت النصوص كثيرة في أن الله يحب أنواعاً من المؤمنين، كما قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4]، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222]، ويحب الصادقين، ويحب الذين يسارعون في الخيرات. فالمحبة التي يوصف الله جل وعلا بها صفة تليق به لا يجوز أن نجعلها مثل محبة المخلوقين، ولا يجوز أن نعتقد أن محبة الله كالمحبة التي يفسرها الأشاعرة وغيرهم بأنها ميل في النفس إلى الملائم الذي يقتضي الموافقة أو نحو ذلك؛ فإن هذه محبة المخلوق. أما محبة الله جل وعلا فهي كبقية صفاته لا نعلم حقيقتها، ولكن نعرف ما معنى المحبة، كما أننا نعرف معنى السمع والبصر، أما حقيقة اتصاف الله جل وعلا بها فهذه لا نعلمها ولا نعرفها، فعلينا أن نثبت ما أثبته الله جل وعلا حقيقة ونؤمن به، ولا نجعله كالشيء الذي نعرفه من أنفسنا، كما أنه جل وعلا هو بنفسه لا يماثل شيئاً من خلقه، وكذلك هو في صفاته. فالمؤمن القوي محبوب إلى الله جل وعلا أكثر من المؤمن الضعيف، وهو الذي يكون عنده قوة في تنفيذ أمر الله والامتناع عن مناهيه بقوة، ذو إرادة قوية، فهو يفعل الأسباب أسباب الخير، ويجتنب أسباب الشر مستعيناً بربه ومتوكلاً عليه.

عدم العجز والحرص على ما ينفع

عدم العجز والحرص على ما ينفع ثم قال صلى الله عليه وسلم مؤكداً هذا المعنى: (احرص على ما ينفعك)، وهنا أمر بالحرص، والأمر إما أن يكون واجب الامتثال، أو يكون على الأقل مستحباً، ومثل هذا لا يقال: إنه مستحب فقط؛ لأن من الحرص على ما ينفع فعل الصلاة وأداء الزكاة وصوم رمضان والحج وغير ذلك من الأفعال الواجبة. قوله: (احرص على ما ينفعك ولا تعجزن) هنا تأكيد؛ لأن العجز هو عدم فعل السبب الممكن فعله، هذا هو العجز، التقاعس عن فعل السبب الذي يستطيع أن يفعله، يقال: عجز عنه، بمعنى ضعف عنه. أما الشيء الذي لا يستطيع فعله فلا يوصف بأنه عجز عنه، والله جل وعلا يقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، والوسع المقصود به هو الشيء الذي يفعله الإنسان بغير مشقة، هذا هو الصحيح في تفسير الوسع، أما إذا فعل الشيء بمشقة فإنه ليس بوسعه، فالله جل وعلا لم يشق على عباده فيما أمرهم به، بل يريد الله بهم اليسر ولا يريد بهم العسر إرادة شرعية. فقوله: (احرص على ما ينفعك) أي: على فعل الطاعات وترك المعاصي هذا هو حقيقته، احرص على فعل الطاعة وقم بها واجتنب المعصية، هذا هو النافع في الواقع، وأمور الدنيا أيضاً يجب أن تكون موافقةً لما أمر الله جل وعلا به، فإن كانت في اكتساب مال فيجب أن يحرص على أن يكتسبه من طريق شرعي، بأن يكون حلالاً، حيث لو أنفق منه أثيب، وإذا تصدق منه أثيب، وإذا تركه لمن خلفه أثيب. أما إذا كان من طريق غير شرعي فإنه إن أنفق منه لم يبارك له فيه، ولم يثب عليه، وإن أنفق منه أيضاً لم يقبل، وإن خلفه للورثه أيضاً لم يثب على ذلك بل يعاقب، فيكون حساباً ثم يكون عذاباً، وأمور الدنيا سبب لأمور الآخرة يجب أن يحرص عليها الإنسان. ثم إذا حرص الإنسان وفعل السبب فليست الأسباب مرتبة على مسبباتها؛ لأنها قد تتخلف، ولأن الأسباب لها موانع، ولا يقع إلا ما أراده الله جل وعلا، فإذا وقع للإنسان الشيء الذي لا يريده وما كان يتوقعه فهنا له حالة أرشد الرسول صلى الله عليه وسلم إليها، وهي أن يرضى ويسلم، ويقول: الحمد لله، ويقول: هذا تقدير الله، وأنا مؤمن به وراضٍ.

عدم الاعتراض على أقدار الله عز وجل

عدم الاعتراض على أقدار الله عز وجل قوله: فلا تقل: (لو أني فعلت كذا وكذا) يعني: لو أني ما قلت كذا أو ما فعلت كذا ما صرت إلى هذا الذي صرت إليه. لأن هذا اعتراض على القدر، فكأنه يقول: لو أني فعلت كذا ما وقع علي هذا الشيء. وهذا الذي وقع لا يمكن تغييره، ولو اجتمع الخلق كلهم على أن يمنعوا وقوعه لما استطاعوا؛ لأن الله كتبه وقدره، فقل: قدر الله وما شاء فعل. فإن لو تفتح عمل الشيطان، وعمل الشيطان هو الاعتراض على القدر، وهو التأسف والأسى والحزن لما وقع وعلى ما فات، هذا عمل الشيطان، ثم يوقعه ذلك في الاعتراض على ربه جل وعلا. وعمل الشيطان كله شر ويدعو إلى الشر ونهايته أن يجتمع الإنسان معه في النار، وهذا الذي يسعى إليه الشيطان، ومقصوده كله أن يلقيه في النار ثم يتخلى عنه ويتبرأ منه هناك، فماذا تكون الحالة؟ يكون من أسوأ ما يكون، فإن الشيطان إذا أوقع الإنسان في الشر تبرأ منه، كما أخبر الله جل وعلا في ذلك أنه إذا اجتمعوا في النار، يقوم خطيباً في أهل النار -قيل: إنه ينصب له منبر حتى يسمعه أهل النار كلهم- ويقول لهم: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [إبراهيم:22]، يعني: ليس لي عليكم حجة وبرهان يجعلكم تتبعوني، وإنما هي دعوة: {إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم:22]، مجرد دعوة فقط، ثم قال لهم: {فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم:22] يعني: ما أنا بمغن عنكم، وما أنا بمغيثكم، وأنتم كذلك لسم بمغنين عني ولا مغيثين لي، ثم يقول: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم:22]، هذه هي الحالة، ثم يلعن بعضهم بعضاً ويكون بعضهم عدواً لبعض، فهذا عمل الشيطان يؤول إلى هذا الشيء، والرسول صلى الله عليه وسلم حذر من ذلك، وأنك إذا وقعت في شيء تكرهه: (فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل)، يعني: هذا قدر الله لا يمكن تغييره، وأنا راضٍ به ومؤمن به؛ لأنه لا يتغير، ومسلم لذلك غير معترض ولا منزعج ولا متسخط وآسف على ما أنا فيه؛ فإن تقدير الله كله خير، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (عجباً للمؤمن! إن أمره كله له خير، إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن)، فهذا ما يكون إلا للمؤمن الذي يكون على هذه الصفة.

حال الإنسان عند النعم والمصائب وحقيقة كل منهما

حال الإنسان عند النعم والمصائب وحقيقة كل منهما [والقسم الثاني: ما يجري على العبد بغير فعله من النعم والمصائب، كما قال تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79] والآية قبلها، فالحسنة في هاتين الآيتين النعم، والسيئة المصائب، هذا هو الثاني من القسمين]. الآية التي قبلها هي قوله جل وعلا: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} [النساء:78]، قال جل وعلا: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء:78]، ثم جاءت الآية التي بعدها: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79]، والحسنة هنا المقصود بها الخير الذي يصاب به الإنسان، إما رزق، وإما عافية في بدنه، وإما ولد، وإما غير ذلك مما هو مفروح به ومسرور به، فكل ما نفع الإنسان فهو حسنة. أما السيئة هنا في هاتين الآيتين فالمقصود بها المصيبة، مثل مرض، ونصر عدو، وفقد ولد، وذهاب مال، وما أشبه ذلك، فالله جل وعلا أخبر أن كلاً من عنده، يعني: كله مقدر من عند الله، سواء أكان حسنة أم سيئة: (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) تقديراً وخلقاً وإيجاداً. ثم فصل جل وعلا فقال: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) يعني: من فضل فهو بفضله وكرمه وجوده وإحسانه، فعليك أن تشكر ربك وتعرف منته عليك. وقوله: (وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) يعني: بسبب نفسك. فما أصبت إلا بذنبك الذي أذنبت؛ لأن الناس لو أقاموا أمر الله لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، وَلَمَا أصابهم شيء، ولكن لم يقيموا أمر الله ولم يستطيعوا ذلك، فهم يعصون الله، وهذه حكمة الله، فلابد أن يذنبوا، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم)؛ لأن الله غفور رحيم. لو أن الخلق لم يذنبوا فأين معنى (غفور)؟ وأين معنى (رحيم)؟ وأين معنى (بر)، و (رحمن)؟ لابد أن تظهر معاني أسماء الله جل وعلا على خلقه، لابد أن تظهر، لابد أن يذنبوا فيرحمهم ويستر عليهم ويعفو عنهم، لابد، ولكن يجب أن لا يتعمدوا المعاصي، ويجب أن لا يعاندوا، ويجب أن لا يكابروا، ويجب أن ينقادوا لله، ثم إذا وقعوا في الذنب يجب أن يعترفوا بالتقصير ويستغفروا ربهم، فإنه إذا كان هذا شأنهم فإن الله يغفر لهم. [وأظن شيخ الإسلام رحمه الله ذكره في هذا الموضع، ولعل الناسخ أسقطه والله أعلم. ثم قال رحمه الله: فإن الإنسان ليس مأموراً أن ينظر إلى القدر عندما يؤمر به من الأفعال، ولكن عندما يجري عليه المصائب التي لا حيلة له في دفعها]. يعني أن الإنسان إذا أمر بأمر من الأمور ما يجوز له أن يقول: إن كان هذا مقدراً علي سأفعله. لا يجوز هذا، بل يجب أن يقول: سمعاً وطاعة كما يقع لبعض المعاندين أو الجاهلين إذا قيل له: لماذا ما تصلي؟ يقول: ما كتب لي أن أصلي. وهذا غير صحيح، فما يدريك؟ وهل وأطلعت على الغيب؟ وأطلعت في الكتاب؟ لا. ولكنك راضٍ عما أنت فيه، وتريد أن تبرر لنفسك فعلك وتجعل اللوم على القدر، فهذا هو الواقع؛ لأنه إذا وقع الإنسان في مصيبة، فهنا نعم ينظر إلى القدر، فيقول: الحمد لله، هذا قدر الله. ويتسلى بذلك. أما عند فعل الواجبات وترك المحرمات فإنه يجب أن يمتثل الأوامر ويجتنب النواهي، فإذا وقع في محرم لا يقل: هذا بقدر. بل يقول: أستغفر الله وأتوب إليه؛ لأن الاستغفار والاعتراف بالتقصير هو الواجب عليه، ولا يقل: هذا مقدر علي لأنه إذا قال ذلك فمعنى ذلك أنه راضٍ بما صار، وأنه يرى أنه على حق، وأن القدر هو الذي يلام، وهذا لا يجوز أن يقع من المسلم. أما المصائب التي ليست ذنوباً مصائب مثل فقد ولد، وفقد مال، واحتراق وما أشبه ذلك فهنا يقول: هذا تقدير الله أو مثلاً رفعت مصيبة تترتب على فعل ذنب، مثل أن يسرق سارق فتقطع يده، فمثل هذا إذا نظر إلى يده فإنه يقول: الحمد لله هذا تقدير الله. أما السرقة فلا؛ لأن السرقة هي فعل السارق يجب أن يتوب منها ويستغفر، أما المصيبة فهي ما ترتب على ذلك وهو قطع اليد، فهذه مصيبة. فالمصيبة يلتفت إلى القدر فيها؛ لأنه لا حيلة له في ذلك، أما السرقة فله حيلة وهي الاستغفار والتوبة، فيستغفر ويتوب ولا يحتج بالقدر على وقوع السرقة؛ لأنها فعله، وهذا هو معنى ما جاء في الحديث الذي في الصحيحين أن موسى عليه السلام قال: (يا رب! أرني آدم فأراه الله جل وعلا آدم، فقال له: أنت آدم أبو البشر؟ قال: نعم. قال: لماذا خيبتنا ونفسك أخرجتنا من الجنة؟ فقال: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه؟ قال: نعم. قال: قبل كم وجدت في التوراة مكتوباً قبل أن أخلق: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121]؟ قال: وجدته مكتوباً عليك قبل أن تخلق بأربعين سنة، فقال: أتلومني على شيء كتب علي قبل أن أخلق بأربعين سنة؟ فحج آدم موسى، فحج آدم موسى). هنا لا يجوز أن يقال: إن موسى عليه السلام لام آدم على الذنب؛ لأن آدم عليه السلام تاب من الذنب، والذنب إذا تيب منه لا يجوز أن يذكر؛ لأنه لم يصر عليه، فهو انتهى، فلا يُعَير إنسان بذنب أصابه، ولكن لامه على الخروج من الجنة، والخروج هو المصيبة التي ترتبت على الذنب، فهو لامه على المصيبة، ولهذا احتج آدم بالقدر على المصيبة، قال: (أتلومني على شيء قد كتب علي؟)، فهذا لا يمكن استدراكه ولا حيلة فيه. فهكذا -مثلما قلنا- في السارق تماماً: إن الذنب الذي وقع منه إن كان تاب من السرقة فلا يجوز أن نعيره بذلك أو نلومه عليه، ولكن إذا قيل له: لماذا قطعت يدك؟ يقول: هذا قدر الله، والحمد لله. أما قوله في حديث آدم: (قبل كم وجدت مكتوباً في التوراة قبل أن أخلق؟ فقال: بأربعين سنة)، فهذا لا ينافي الحديث الذي في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص الذي فيه: (إن الله كتب مقادير الأشياء قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وآدم آخر المخلوقات، وقال: بأربعين سنة). فهذا مكتوب في التوراة، والتوراة الله كتبها بيده جل وعلا، خطها بيده تعالى وتقدس، ثم أنزلها على كليمه، فالله جل وعلا باشر ثلاثة أشياء بيده: غرس جنة عدن بيده تعالى وتقدس، وخلق آدم بيده، وخط التوراة لموسى بيده. وهذا جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، أما بقية الأشياء فإنه يقول لها جل وعلا: (كوني) فتكون: {إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، تعالى وتقدس، ولا يعجزه شيء، وهذا خاص، ولهذا قال الله جل وعلا لإبليس: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]، كأنه جل وعلا يقول: أنا لم أتكبر عن مباشرة الخلق بيدي، وأنت تتكبر من أن تسجد له. فالمقصود أن الاحتجاج بالقدر على المصيبة التي تصيب الإنسان هو من باب التسلي، يتسلى بذلك ويقول: هذه المصيبة لا حيلة لي فيها قد كتبت علي ولهذا يقول العلماء: الاحتجاج بالقدر على المصائب والآلام لا على المعائب والآثام، والمعائب: هي الذنوب، فما يجوز أن يحتج على الذنب ويقول: هذا الذنب الذي فعلته مقدر علي. بل يجب عليه أن يتوب ويستغفر.

وجوب التسليم والرضا بقدر الله سبحانه

وجوب التسليم والرضا بقدر الله سبحانه [وأظن شيخ الإسلام رحمه الله ذكره في هذا الموضع، ولعل الناسخ أسقطه والله أعلم. ثم قال رحمه الله: فإن الإنسان ليس مأموراً أن ينظر إلى القدر عندما يؤمر به من الأفعال، ولكن عندما يجري عليه من المصائب التي لا حيلة له في دفعها، فما أصابك بفعل الآدميين أو بغير فعلهم فاصبر عليه وارض وسلم، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11]. ولهذا قال آدم لموسى: (أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن أخلق بأربعين سنة؟ فحج آدم موسى)؛ لأن موسى قال له: (لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟) فلامه على المصيبة التي حصلت بسبب فعله، لا لأجل كونها ذنباً، وأما كونه لأجل الذنب كما يظنه طوائف من الناس فليس مراداً بالحديث، فإن آدم عليه السلام كان قد تاب من الذنب والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، ولا يجوز لوم التائب باتفاق الناس. انتهى. قال العلامة ابن القيم رحمه الله: فتضمن هذا الحديث أصولاً عظيمة من أصول الإيمان: أحدها: أن الله سبحانه موصوف بالمحبة، وأنه يحب حقيقة. الثاني: أنه يحب مقتضى أسمائه وصفاته وما يوافقها، فهو القوي ويجب المؤمن القوي، وهو وتر يحب الوتر، وجميل يحب الجمال، وعليم يحب العلماء، ونظيف يحب النظافة، ومؤمن يحب المؤمنين، ومحسن يحب المحسنين، وصابر يحب الصابرين، وشاكر يحب الشاكرين. ومنها: أن محبته للمؤمنين تتفاضل فيحب بعضهم أكثر من بعض. ومنها: أن سعادة الإنسان في حرصه على ما ينفعه في معاشه ومعاده، والحرص: هو بذل الجهد واستفراغ الوسع فإذا صادف ما ينتفع به الحريص كان حرصه محموداً، وكماله كله في مجموع هذين الأمرين: أن يكون حريصاً، وأن يكون حرصه على ما ينتفع به، فإن حرص على ما لا ينفعه، أو فعل ما ينفعه من غير حرص فاته من الكمال بقدر ما فاته من ذلك، فالخير كله في الحرص على ما ينفع. ولما كان حرص الإنسان وفعله إنما هو بمعونة الله ومشيئته وتوفيقه، أمره أن يستعين بالله ليجتمع له مقام: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، فإن حرصه على ما ينفعه عبادة لله تعالى، ولا يتم إلا بمعونته، فأمره أن يعبده وأن يستعين به، فالحريص على ما ينفعه المستعين بالله، ضد العاجز، فهذا إرشاد له قبل وقوع المقدور إلى ما هو أعظم أسباب حصوله، وهو الحرص عليه مع الاستعانة بمن أزمة الأمور بيده، ومصدرها منه، ومردها إليه. فإن فاته ما لم يقدر له فله حالتان: عجز، وهو مفتاح عمل الشيطان فيلقيه العجز إلى (لو) ولا فائدة في (لو) هاهنا، بل هي مفتاح اللوم والعجز والسخط والأسف والحزن، وذلك كله من عمل الشيطان. فنهاه صلى الله عليه وآله وسلم عن افتتاح عمله بهذا الافتتاح، وأمره بالحالة الثانية، وهي: النظر إلى القدر وملاحظته، وأنه لو قدر له لم يفته ولم يغلبه عليه أحد، فلم يبق له هاهنا أنفع من شهود القدر، ومشيئة الرب النافذة التي توجب وجوب المقدور. وإن انتفت امتنع وجوده، ولهذا قال: (فإن غلبك أمر فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل)، فأرشده إلى ما ينفعه في الحالتين: حالة حصول المطلوب، وحالة فواته، فلهذا كان هذا الحديث مما لا يستغني عنه العبد أبداً، بل هو أشد إليه ضرورة، وهو يتضمن إثبات القدر والكسب والاختيار والقيام بالعبودية ظاهراً وباطناً في حالتي حصول المطلوب وعدمه، وبالله التوفيق. انتهى]. خلاصة الباب أن العبد يجب عليه إذا أصابه شيء أن يسلم ويرضى بالله جل وعلا، وأن يجتنب قولة: لو فعلت كذا لكان كذا لأن قولة: (لو) لا يخلو الأمر لمن قالها من أن يكون متسخطاً لما يقع وغير راضٍ به، أو أنه يعتقد أن الأسباب التي يذكرها -لو فعلت كذا لكان كذا- أنه يمكن أن تغير الواقع، وهذا كله خلاف الإيمان بالقدر؛ لأن الإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان الستة، فإنه لابد أن يعلم أن كل ما يقع فإنه معلوم لله أزلاً وقد كتبه، وأنه يقع على وفق كتابة الله له وعلمه ويكون في الوقت المحدد، ولا يمكن أن يتغير أو يزيد أو ينقص. ثم إن العبد مأمور بفعل السبب والحرص على ما ينفع، فيفعل الأسباب ويحرص عليها، ويقوم بها ويستعين بالله جل وعلا، وهذا هو معنى الكسب والاختيار، أي: أنه يعمل الأعمال التي توكل إليه باختياره، يفعلها بقدرته، وفعله ينسب إليه حقيقة. فالله جل وعلا خلقه وخلق له قوى، وخلق له الفكرة والإرادة التي يريد بها مع المقدرة، فالمقدرة والإرادة مخلوقتان لله جل وعلا، وهي للعبد، ويفعل بالقدرة وبالإرادة فيكون الفعل له وإن كان مقدراً، ففعل العبد لا ينافي التقدير، كونه ينسب إليه ويضاف إليه حقيقة أنه فعله، فالله هو الذي خلق العبد وخلق له الإرادة والقدرة، فصار فعله مكتسباً له يثاب عليه أو يعاقب عليه. فبهذا يجتمع القدر مع فعل العبد حقيقة، ولا يكون فيه مخالفة ومنافاة كما يعتقد أهل الضلال، فهذا هو الحق الذي دلت عليه النصوص، وهو الذي يقول به أهل السنة.

تفسير مسائل باب ما جاء في اللو

تفسير مسائل باب ما جاء في اللو [فيه مسائل: الأولى: تفسير الآيتين في آل عمران]. قوله جل وعلا: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران:154] عرفنا أن معنى قوله: (لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ) يعني: لو كان التدبير إلينا والاختيار لنا، ولكنه للرسول صلى الله عليه وسلم، فهو اعتراض على شرع الله، واعتراض على قدر الله جل وعلا، ولهذا ذموا في ذلك. [الثانية: النهي الصريح عن قول: (لو) إذا أصابك شيء]. فإن النهي هنا يقتضي التحريم، فإذا أصاب الإنسان شيء وقال: لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا فهذا يكون محرماً. [الثالثة: تعليل المسألة بأن ذلك يصبح عمل الشيطان]. هو عاب التعليل لكونه يفتح عمل الشيطان، فلا يكفي في كون الأمر محرماً، ولكن هذا من الحكمة؛ لأن الإنسان إذا ذكرت له العلة يقتنع ويقف غالباً، ولكن أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم يجب أن يمتثل ولو لم يعلم الإنسان حقيقة ذلك وحكمته. [الرابعة: الإرشاد إلى الكلام الحسن]. هذا الكلام الحسن هو قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (قل: قدر الله وما شاء فعل)، فالإنسان إذا وقع في شيء يكرهه يقول هذا القول الحسن، والمراد بالقول الحسن: قدر الله وما شاء فعل. يعني: أن تقديره فيه التسليم والانقياد، والإخبار أن الواقع لا يتغير عما أراده الله جل وعلا. [الخامسة: الأمر بالحرص على ما ينفع مع الاستعانة بالله]. الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالحرص، والحرص جعله فيما ينفع، والذي ينفع هو عمل طاعة الله جل وعلا، هذا هو النافع، سواءٌ أكان بامتثال الأمر أو باجتناب النهي. [السادسة: النهي عن ضد ذلك، وهو العزم].

شرح فتح المجيد [123]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [123] نهى الشرع العظيم عن سب الريح، وعن ظن الجاهلية في الأقدار، أما سب الريح: فمنهي عنه؛ لكونها مسخرة ومأمورة منه تعالى، ولأن في سبها سب للمسخر لها تعالى الله وتقدس. أما ظن الجاهلية: فمنهي عنه؛ لأنه سوء ظن بالله، واعتراض على قدره سبحانه، والواجب على المسلم إحسان الظن بربه، والرضى بقضاء الله وقدره.

وجه النهي عن سب الريح

وجه النهي عن سب الريح قال الشارح رحمه الله: [قال المصنف رحمه الله تعالى: باب: النهي عن سب الريح]. الريح مدبرة مأمورة مسخرة لله جل وعلا، فإذا سبت الريح وقع السب على من دبرها وأمرها؛ لأن السب هو اللعن والشتم، ويكون السبب ممن تضرر من ذلك غالباً إما بضرب، أو بحر أو بشدة الريح وكونها تلقي شيئاً أو تقلع شجراً أو تهدم بيتاً، أو ما أشبه ذلك. وسبها محرم لا يجوز ولا يقع ذلك إلا من الجاهل الذي لا يعلم بأفعال الله وأسماء الله وشرعه، وقد سبق ما في سب الدهر من النهي، وهذا مثله، ولكنه ذكر هذا الباب، والنهي جاء فيها خاصاً، وهو داخل فيما سبق من النهي عن سب الدهر؛ لأن كلما هو مدبر لله ومأمور مسخر لا يجوز سبه، والإنسان ما تصيبه مصيبة إلا بسبب ذنبه. والله جل وعلا قد يبتلي الإنسان بإنسان مثله فيناله منه ضرر، ويكون ذلك بسبب ذنبه، ولكن إذا كان الذي ناله الضرر على يده عاقلاً، فإن العاقل يعاقب؛ لأن فعله كسبه ويلام على ذلك، ومع ذلك لابد أن يكون تقديراً من الله جل وعلا، ويكون بسبب ذنوبه، حتى قال بعض السلف: (إني لأعصي الله جل وعلا فأرى أثر ذلك في خلق زوجتي وولدي ودابتي) يعني: أنه يرى ذلك عقاباً له بسبب ارتكاب المعصية، وهذا يكون لمن يحسون بالمعصية ويحسون بأثرها؛ لأن قلوبهم حية. أما إذا كثرت الذنوب فقد لا يحس الإنسان بذلك، فلا يدري، فتتراكم الذنوب بعضها على بعض، ويكون أثرها ضعيفاً جداً، كما قال الله جل وعلا: {بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14]، فالران هو تغطية القلب حتى لا يحس بشيء، لا يحس بالمصيبة، ولا يحس بالألم، والقلب يمرض مثل البدن، وقد يكون مرضه أشد، وقد يموت والعياذ بالله، وإذا مات فمعنى ذلك أن هذا هو الخسران التام. وإذا كان مريضاً فقد يشفى وقد لا يشفى، فقد يبقى وقد يموت مريضاً، وما يناله صاحب هذا القلب من المصائب في الدنيا قد يكون غير غير كافٍ في التكفير عنه، فيقع عليه العذاب في القبر، وقد لا يكفي فيقع عليه العذاب في الموقف، وقد لا يكفي فيقع عليه العذاب في النار، ولابد أن يكون؛ لأن الجنة لا يدخلها إلا الطاهرون الطيبون الذين هذبوا وخلصوا من كل قبح. المقصود أن سب الريح يقع من الجهال الذين لا يعرفون أسماء الله جل وعلا، ولا يعرفون أحكامه، وإذا وقع من إنسان فإنه يجب عليه أن يتوب منه، فيرجع إلى ربه ويستغفره؛ ولأن سب الفعل يعود على الفاعل، والريح من أفعال الله، وهي مأمورة منه سبحانه وتعالى. قال المصنف رحمه الله تعالى: [عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا تسبوا الريح، فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح، وخير ما فيها، وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها وشر ما أمرت به) صححه الترمذي]. فهذا الحديث يرشد فيه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الأدب، فيما إذا نال الإنسان شيء من الريح وأذى؛ لأن الريح قد تحمل أشياء وقد تلقيها، وقد تكون عذاباً، وقد تكون رحمة، ولهذا جاء أن الريح من روح الله، ومعنى (من روح الله)، من رحمته، والرحمة قد تكون رحمة عامة وقد تكون خاصة، وقد تكون عذاباً، كما قال الله جل وعلا في عاد لما رأوا السحاب مقبلاً إليهم: {قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف:24]، قيل لهم: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف:24 - 25]، أي: تدمر كل ما مرت عليه. ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا رأى السحاب ورأى الرياح يتغير لونه ويدخل ويخرج، حتى يرى ذلك عليه ظاهراً، فسئل عن ذلك فقال: (وما يؤمنني إن قوماً رأوا السحاب فقالوا: ((هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا)) [الأحقاف:24]، قيل: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف:24 - 25]). فيخشى أن الخلق إذا عصوا الله جل وعلا أن يأخذهم بأي شيء وبأي وسيلة. والمقصود أن الريح مأمورة، وهي حاملة للخير والرحمة من السحاب والمطر الذي يرحم الله جل وعلا به عباده، فتكون ملقحة له، وتكون سبباً للخير، ولهذا أخبر الله جل وعلا أنها بشرى، يعني: إذا جاءت الرياح تكون بشرى بين يدي رحمة الله جل وعلا، أي: بين يدي نزول المطر، ومع ذلك قد تكون عذاباً، كما هو واقع الآن من الكوارث التي تسببها الريح. والواجب على العباد أن ينظروا إلى أن ما يقع لهم من ذلك إنما هو تأديب لهم من الله، وكثيراً ما يقول الناس الآن: إن الكوارث طبيعية، فهم يجعلونها كوارث طبيعية ويرجعونها إلى الطبيعة، وما ندري ما هي الطبيعة؟ هل الطبيعة حرارة وبرودة، أو النفس، أو النار هي نفسها طبيعة؟ إن الطبيعة لا تعمل شيئاً، وإنما هو بتدبير الله جل وعلا حتى يتعظ العباد وينزجروا عن المعاصي، وكثيراً ما نسمع أن العواصف دمرت كذا وقتلت كذا وأصابت كذا، وهو كله بأمر الله جل وعلا وبعقابه، يعاقب العباد لعلهم يرعوون ويرجعون إليه، فإذا حدث من ذلك شيء فإن على الإنسان أن يعلم أنه هو السبب، وأن ما أصابه بذنبه، فيرجع إلى ربه ويستغفر ويتوب، ولا يسب الريح؛ فإنها مطيعة لله جل وعلا، أمرت فأطاعت، وإذا سبها عاد السب عليه؛ لأن من لعن شيئاً لا يستحقه فهو الملعون. وقد جاء في حديث ذكره الشافعي رحمه الله: أن سب الريح سبب للفقر -أي: من أسباب وجود الفقر-، فإنه جاء في حديث منقطع (أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يشكو حاجة شديدة فقال: لعلك تسب الريح؟ قال: نعم)، فيكون ذلك من الأسباب أعني: من عقاب الله جل وعلا. فإذا رأى الإنسان الريح يقول ما أرشد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم، فيسأل الله من خيرها وخير ما بعثت به، ويستعيذ بالله جل وعلا من شرها وشر ما بعثت به، وأن يلجأ إلى الله جل وعلا.

مناسبة باب النهي عن سب الريح لكتاب التوحيد

مناسبة باب النهي عن سب الريح لكتاب التوحيد [لأنها -أي: الريح- إنما تهب عن إيجاد الله تعالى وخلقه لها وأمره؛ لأنه هو الذي أوجدها وأمرها، فمسبتها مسبة للفاعل، وهو الله سبحانه، كما تقدم في النهي عن سب الدهر وهذا يشبهه، ولا يفعله إلا أهل الجهل بالله جل وعلا ودينه، وبما شرعه لعباده. فنهى صلى الله عليه وآله وسلم أهل الإيمان عما يقوله أهل الجهل والجفاء، وأرشدهم إلى ما يجب أن يقال عند هبوب الرياح، فقال: (إذا رأيتم ما تكرهون، فقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أمرت به)، يعني: إذا رأيتم ما تكرهون من الريح إذا هبت، فارجعوا إلى ربكم بالتوحيد، وقولوا: (اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح، وخير ما فيها، وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح، وشر ما فيها، وشر ما أمرت به). ففي هذا عبودية لله وطاعة له ولرسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، واستدفاع للشرور به، وتعرض لفضله ونعمته، وهذه حال أهل التوحيد والإيمان، خلافاً لحال أهل الفسوق والعصيان، الذين حرموا ذوق طعم التوحيد، الذي هو حقيقة الإيمان]. مناسبة الباب لكتاب التوحيد أن مسبة الريح ذنب قد يكون كبيراً ينافي التوحيد، وقد يكون أقل من ذلك فينافي كماله؛ لأن الذنوب كلها تنقص التوحيد، فإن كانت من الشرك بأن يكون يرى أن الريح هي التي تتصرف وتفعل بنفسها، فهذا من الشرك بالربوبية وهو مناف للتوحيد، وإذا سبها على أنها هي الفاعلة لذلك، وهي التي تستطيع أن تفعل وتمتنع فهو مناف للتوحيد بالكلية، أما إذا سبها على سبيل أنها سبب من الأسباب، فهذا من الذنوب التي تلطخ توحيد الإنسان. ثم يجب أن يكون الإنسان متعلقاً بالله دائماً، وأن يرجع إليه عند كل ما ألم به، عند الرغبة والرهبة، ولا يجوز أن يلتفت إلى مخلوق، سواءً أكان ريحاً أم كان ميتاً من الأولياء؛ فإنهم لا يملكون شيئاً، وإنما يرجع إلى ربه في كشف المكروه، كما يلجأ إليه في استجلاب المرغوب فيه والنافع، فعلى العبد أن يتعلق بربه دائماً، وهذا هو حقيقة التوحيد، أن يكون قلبه متعلقاً بربه جل وعلا، ويرى أنه كلما حدث من شيء فإنه بإحداث الله جل وعلا، وأنه لا يصيبه إلا ما قدره الله، وأن كل نعمة تحصل له فهي من فضل الله جل وعلا وجوده وكرمه وعفوه، حيث عفا عنه؛ لأنه لو يؤاخذ الناس بما كسبوا ما ترك على ظهر الأرض أحداً.

تفسير مسائل باب النهي عن سب الريح

تفسير مسائل باب النهي عن سب الريح قال المصنف رحمه الله: [فيه مسائل: الأولى: النهي عن سب الريح]. يعني أن النهي هنا يكون للتحريم، فيحرم على الإنسان سب الريح. [الثانية: الإرشاد إلى الكلام النافع إذا رأى الإنسان ما يكره]. يعني الدعاء الذي يدعو به الإنسان كما أرشد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول: (اللهم إني أسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أمرت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أمرت به). [الثالثة: الإرشاد إلى أنها مأمورة. الرابعة: أنها قد تؤمر بخير وقد تؤمر بشر]. يعني: قد تكون خيراً، فالله جل وعلا يسوق بها السحاب الذي فيه المطر، وقد تكون عذاباً ينتقم الله جل وعلا بها ممن يشاء من عباده.

شرح فتح المجيد [124]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [124] الواجب على العبد أن يعرف ربه، وأن يظن به الظن الحسن، فإحسان الظن من الإيمان، وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم، وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وأسماءه وصفاته، ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده اعتراضاً على القدر وملامة له، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا.

معنى ظن الجاهلية وظن السوء

معنى ظن الجاهلية وظن السوء قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: قول الله تعالى: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران:154]، وقوله:: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [الفتح:6].

المقصود من إيراد هاتين الآيتين في الباب

المقصود من إيراد هاتين الآيتين في الباب قال ابن القيم في الآية الأولى: فسر هذا الظن بأنه سبحانه لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل، وفسر بأن ما أصابه لم يكن بقدر الله وحكمته، وفسر بإنكار الحكمة وإنكار القدر، وإنكار أن يتم أمر رسوله وأن يظهره الله على الدين كله، وهذا هو ظن السوء الذي ظن المنافقون والمشركون في سورة الفتح. وإنما كان هذا ظن السوء لأنه ظن غير ما يليق به سبحانه وما يليق بحكمته وحمده ووعده الصادق، فمن ظن أنه يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها الحق، أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره، أو أنكر أن يكون قدره لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد، بل زعم أن ذلك لمشيئة مجردة فذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ، وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم، وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله سبحانه وتعالى وأسماءه وصفاته وموجب حكمته وحمده. فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا، وليتب إلى الله وليستغفره من ظنه بربه ظن السوء، ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعنتاً على القدر وملامة له، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقل ومستكثر، وفتش نفسك هل أنت سالم؟! فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة وإلا فإني لا إخالك ناجياً]. المقصود من ذكر هذا الباب أن المؤلف رحمه الله أراد تبيين وجوب حسن الظن بالله جل وعلا، وأن كل ما يقع من فعل الله وتدبيره أنه حسن جميل، وأنه وقع من حكيم عليم عدل يضع الأمور في مواضعها، ويكون الإنسان هو محل الاتهام فيتهم نفسه؛ لأنه لم يقم لله جل وعلا بما يجب عليه. وذكر الآية التي مر ذكر بعضها في الباب وهي في سياق قصة أحد، لما ذكر الله جل وعلا أنه صدق المؤمنين وعده؛ لأنه وعدهم أن ينصرهم ولكن بشرط الصبر وعدم الفشل والتنازع، فلما حصل التنازع وحصلت المخالفة تخلف الوعد الذي وعده، {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} [آل عمران:152] يعني: هذه كلها حصلت، ولكن لما حصل التنازع وحصلت المعصية تخلف النصر، فأديل العدو عليهم فحصل ما حصل. ثم بعد ذلك ذكر جل وعلا استنكارهم بقوله: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} [آل عمران:165] أي: من أين جاء هذا وكيف؟ فأجابهم سبحانه بقوله: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] يعني: أنتم السبب وهذا وهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم ذكر مِنَّته وعليهم بعد هذا بعد ما حصلت الهزيمة وحصل القتل، ذكر أنه أنزل عليهم نعاساً فقال: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران:154]، فالله جل وعلا يجب أن يظن به الحق دائماً؛ لأنه هو الحق وقوله الحق، ودينه الحق، وحكمه الحق، ووعده حق جل وعلا، وظن الجاهلية وصف بالجاهلية، والجاهلون هم الذين يجهلون أمر الله، ويجهلون صفات الله، ويجهلون مقتضى أسمائه ويجهلون حكمته، وذكر أن هذا الظن الذي ظنوه بالله أنه ينصر العدو على نبي الله جل وعلا نصراً مستقراً، حيث يقتل الرسول صلى الله عليه وسلم ويضمحل دينه ويمحى، بين أن هذا ظن السوء، وأن هذا ظن الجاهلية؛ لأن حكمة الله تأبى هذا. وقد أخبر أنه ينصر رسوله ويؤيده ويظهر دينه على الدين كله، وفسر هذا الظن بأنه إنكار للقدر، أي أن هذا الذي أصابهم ليس مقدراً لله جل وعلا. ومعلوم أن المقدر لابد من حصوله، بل حصول الشيء لابد أن يكون له سبب، فتأتي الأسباب والأسباب مقدرة، كما أن النتائج مقدرة، كل شيء مقدر، وإن كان الإنسان يؤخذ بعمله، ولكن الله هو الذي خلق الإنسان وأفعاله وما يصدر منه، فكله مقدر لله جل وعلا، وإن كان الإنسان هو السبب فسيكون اللوم عليه. وفسر الظن بإنكار الحكمة التي انتصر العدو فيها وأصيب من أصيب. وقد ذكر الله جل وعلا علتين في ذلك: الأولى: التمحيص والتمحيص معناه: التخليص والتصفية. بأن يخلص المؤمنين من ظنونهم، فيكون هذا تمحيصاً لذنوبهم. الثانية: الابتلاء وإظهار ما في النفوس وما في القلوب من الشيء المكنون. فالله يعلم ما في قلوب العباد، ولكن من كمال عدله أنه لا يؤاخذ إلا على الفعل الظاهر. فلما حصل ذلك وظهر ما في قلوب كثير من الناس وبرز صاروا يقولون: لا نسمع، يظنون بالله ظن السوء: (يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ) ما وقع هذا، ويقولون: لو كان لنا تدبير، ولو كان لنا نهي وأمر ما وقع ذلك. فهم يعتقدون أنهم يستطيعون أن يغيروا الواقع، ويقولون ذلك على سبيل التسخط والتحسر والأسى الذي أصابهم، فهم غير راضين بما قدره الله جل وعلا. فهذا من الحكم التي ذكرها الله جل وعلا في إدالة العدو، وإدالة العدو لا تكون إلا تمحيصاً، ولا تكون مستقرة، فلابد أن تكون النهاية والنصر في آخر الأمر للمؤمنين، للرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه.

عموم الظن السيئ بالله في كل ما يخالف أمره ومقتضى أسمائه وصفاته سبحانه

عموم الظن السيئ بالله في كل ما يخالف أمره ومقتضى أسمائه وصفاته سبحانه ذكر عن ابن القيم أن ظن الجاهلية عام في كلما يخالف أمر الله، أو ما يخالف مقتضى أسمائه وصفاته، فمن ظن أن الله جل وعلا يساوي بين المؤمنين والمجرمين فقد ظن بالله ظن السوء، ومن ظن أنه يحبط أعمال المؤمنين بذنب أو كبيرة يفعلها المؤمن وهو قد عاش حياته كلها في الطاعة فقد ظن بالله ظن السوء، مثل الخوارج الذين يقولون: إذا فعل الإنسان كبيرة من الذنوب فهو كافر ويخلد في النار. ومن ظن أن عمله يذهب عليه ولا يحفظ له، ولا يجزى بالحسنة عشر أمثالها وبالسيئة مثلها فقد ظن بالله ظن السوء، ومن ظن أن الله لا يعلم ما في قلبه ولا يطلع على أفعاله فيجازيه عليها إن كانت خيراً فخيراً، وإن كانت شراً فإنه يعاقبه بما يستحق فقد ظن بالله ظن السوء، فكلما ظن الإنسان خلاف شرع الله وخلاف مقتضى أسماء الله جل وعلا، فإنه يظن بالله ظن الجاهلية. والآية الأخرى التي في سورة الفتح: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} [الفتح:6]، وفي قراءة أخرى: (ظَنَّ السُّوْءِ)، والسوء خلاف الحسن وخلاف الجميل وخلاف العدل والحق.

استحقاق الله للحمد في المبدأ والمنتهى

استحقاق الله للحمد في المبدأ والمنتهى فالله جل وعلا كل ما يفعله فهو عدل وحق يحمد عليه، ولهذا بين جل وعلا أن أفعاله كلها خير، وأنه يستحق عليها الحمد في المبدأ وفي المنتهى، ولهذا ذكر حمده في مبدأ الخلق وذكر حمده في نهايته، فقال جل وعلا في المبدأ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1] هذا حمده في المبدأ، فهو المحمود على كل ما يفعله جل وعلا. وحمده في المنتهى كما قال جل وعلا: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر:75]، فالملائكة يقضى بينهم بعد القضاء بين العباد، وقد قال قبل هذا: {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ} [الزمر:69] لقد جيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق، وسائر الناس بعد ذلك، ثم انتهى بالملائكة. فالمقصود أن هذا يدل على أنه يحمد حتى على دخول أهل النار النار، يحمد على ذلك، وأهل النار أنفسهم يقرون بهذا ويعترفون أن هذا هو جزاؤهم، وأنهم في المحل اللائق بهم الذي اقتضته حكمة الله جل وعلا، ويجب أن يظن الإنسان بربه خيراً ويحسن الظن بربه، ولهذا جاء قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه)، وفي الحديث القدسي أن الله جل وعلا يقول: (أنا عند ظن عبدي بي، فمن ظن خيراً وجده، ومن ظن سوءاً أو شراً وجده)، ولكن الظن يكون تبعاً للفعل، ليس معناه أن الإنسان يفعل المعاصي ويترك الواجبات، ويقول: أنا أظن بربي الظن الطيب والظن الحسن، وأنه سينجيني وسيتفضل علي. فهذا تفريط وغرور من الشيطان، فالإنسان يجب عليه أن يمتثل أمر الله ويجتنب نهيه، ثم يظن بربه الظن الجميل الحسن أنه يجازيه ويعفو عنه، وأنه يجازيه على القليل كثيراً ويعفو عن سيئاته، ويجب أن يكون عند لقاء ربه أحسن ظناً منه في حالة صحته؛ لأنه أصبح أسيراً بين يدي الله جل وعلا، فعليه أن يحسن الظن بربه؛ لأن الله يعفو الذنب العظيم ويقبل اليسير بجوده وكرمه وسعة رحمته، وقد أرشدنا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، وجاء في الحديث: (لو يعلم الظالم والكافر ما عند الله من الرحمة والخير لطمع في ذلك)، مع أنه في المقابل المجتهد والمحسن لو يعلم ما عند الله من العقاب والنكال لأصابه من القلق ومن الخوف الشيء العظيم. ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً)؛ لأنه هو أعلم الخلق بالله صلى الله عليه وسلم، وذكر (أن الله جل وعلا لما خلق النار أمر جبريل عليه السلام أن يذهب وينظر إليها، فنظر إليها فقال: لقد ظننت أن لا يسمع بها أحد فيدخلها، وخلق الجنة وأمره أن يذهب وينظر إليها فقال: لقد ظننت أن لا يسمع بها أحداً إلا ودخلها)، ثم إن النار حفت بالشهوات وحفت الجنة بالمكاره، فقال له جل وعلا: (اذهب فانظر، فقال: لقد خشيت أن لا ينجو من النار أحد وأن لا يدخل الجنة أحد). فلابد للإنسان أن يبتلى بحب الدنيا والتمسك بها كثيراً، ولهذا تجده وإن كان مريضاً، -والمرض بريد الموت ورسول الموت- تجده يأمل ويخطط، وربما يخطط في نفسه أنه سيفعل ويفعل ويفعل، فهو متعلق بالدنيا مع أن الدنيا ليست شيئاً، وإذا مات فإنه لابد أن يبقى في قبره أكثر من بقائه على ظهر الأرض، وهذا بلا شك؛ لأن حياة الإنسان محدودة، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين)، هذه هي فترة الموت تبدأ من بعد الستين، وقليل من يجاوزها أو يجاوز السبعين، فأكثر الناس في هذا ما بين الستين إلى السبعين، فما هي الستون سنة أو السبعون سنة؟ ليست شيئاً، هي عمر شاة أو عنز، والإنسان أكثر عمره يذهب إما في نوم وإما في لعب وإما في أكل وشرب أو شهوة أو ما أشبه ذلك، إذاً ما الذي يمضيه في طاعة الله؟ أكثر عمره للدنيا، وقليل منه لآخرته، مع أنه مسافر إلى الله جل وعلا إلى الآخرة، كل الناس مسافرون إلى الآخرة، فمنهم من وصل وانتهت مراحله، ومنهم من هو في الطريق، والأيام والليالي كفيلة في تقريب المسافة وطوي المراحل. ثم إذا بقي في قبره يبقى طويلاً، وقد يكون في قبره إما منعماً وإما معذباً ولابد؛ لأن القبر دار بعد هذه الدار، برزخ بين الحياة الدنيا وبين الآخرة، ودار البرزخ حياة في الواقع، ولكن الله أعلم بها فلا نعلم حقيقتها، فبعض الناس تكون حياته في البرزخ أكمل من حياته في هذه الدنيا، كحياة الأنبياء، فالأنبياء حياتهم أكمل من حياتهم في هذه الدنيا بغير شك، بل الشهداء الله جل وعلا أخبر أنهم أحياء، وأنهم عند ربهم يرزقون، ونهانا أن نسميهم أمواتاً، حيث قال سبحانه: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} [البقرة:154] يعني: ما نشعر، وما نعرف حقيقة حياتهم، حقيقة حياتهم الله أعلم بها. وليست هذه الحياة حياة روح فقط؛ لأن حياة الروح للمؤمن والكافر، للبر والفاجر، فالروح لا تموت، كلنا مشتركون في حياة الروح، ولكن حياة الشهداء والأنبياء حياة روح وبدن، وإن كان البدن قد يتفكك، والعظام نراها بالية، وقد تكون تراباً، ولكنها حية في الواقع حياة ما نعرفها نحن. وقد يتنعم وهو في قبره على هذه؛ لأن هذا من أمور الغيب وأمور الآخرة، وأمور الآخرة كلها غيب، ثم بعد ذلك مدة طويلة، ويكون في قبره إذا بعث، ومنهم من يقول: {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا} [يس:52]. يعني: كأنه مضى وقت قصير جداً. ولهذا يتساءلون فيما بينهم إذا حشروا، يقولون: كم لبثتم؟ فبعضهم يقول: لبثنا يوماً، وبعضهم يقول: بعض يوم، وبعضهم يقول: لبثنا ساعة، كل الدنيا وما مر منها كأنه ساعة، فهل هذا كذب؟! هل يقولون وهم يكذبون؟! لا، وإنما هذا الذي أوصلهم إليه فكرهم ونظرهم وواقعهم الذي هم فيه. فالله جل وعلا يقول: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} [يونس:45] فقط يتعارفون، يعني: يعرف بعضهم بعضاً ثم ينتهون. فإذا كان الأمر هكذا فيجب على العبد أن يعمل ويحسن الظن بربه جل وعلا، ويعلم أنه هو محل الظن السيئ؛ لأن نفسه مركبة من الجهل ومن الظلم، فالإنسان جهول وظلوم، وإذا اجتمع جهل وظلم ماذا يكون؟ يكون الشر كله، وهذه هي طبيعة النفوس كلها، كل نفوس بني آدم ركبت من الجهل والظلم، ولكن الله يمن على من يشاء فتتهذب نفوسهم بالوحي، بأوامر الله، وبما يأتي به الرسل من الله جل وعلا، تتهذب وتتخلق بأخلاق الملائكة، وقد يكون التخلق قليلاً وقد يكون كثيراً بحسب التأثر. فيجب على العبد أن يكون ظنه بنفسه ظن السوء؛ لأن النفس أمارة بالسوء، وتحب الباطل وتحب خلاف الحق. والحق عند غالب النفوس ثقيل، ولهذا يصف العلماء الحق بأنه مر، فيجب أن يعمل الحق وإن كان مراً؛ لأن الله جل وعلا أمر به فيجب أن يمتثل، ولكن إذا وطن الإنسان نفسه على أمر الله، تصبح في الواقع حياته سعيدة، فكونه يعمل بطاعة الله يجد أنه أحلى من الشهوات التي ينالها من الدنيا، ولا مناسبة بينها، فهو بهذا يجد حلاوة الإيمان وحلاوة الطاعة، ويكون في طمأنينة وفي سعادة، ويزداد كل يوم خيراً، وهو يفرح بلقاء الله جل وعلا، ويكون مشتاقاً إلى ذلك، فإنه لما حضرت الوفاة بلال بن رباح رضي الله عنه صارت زوجته تقول: وا كرباه، وهو يقول: (وا قرباه، غداً ألقى الأحبة محمداً وحزبه) فالمؤمن في سعادة، وإن كان أهله والذين حوله يرون أنه في شقاء وفي كرب، والواقع أنه ليس في كرب، سعادة تغمره حتى تنسيه ألم المرض وكرب الموت، وهكذا قبل ذلك وإن ناله ما ناله من الدنيا؛ لأنه يعرف أنه مسافر إلى الله، مثلما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (مالي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قال تحت ظل دوحة ثم سار وتركها). يعني: إنما أنا كمن أدركته القيلولة فارتاح قليلاً تحت شجرة ثم سار، هذا مثله في الدنيا، فمثل هذا هل يركن إليها؟ وهل يطمئن بها؟ المسافر إذا كان مسافراً في بلد من البلاد تجده يعد العدة للرجوع إلى أهله وإلى وطنه، فهكذا العبد في هذه الدنيا، وكثيراً ما يضرب الرسول صلى الله عليه وسلم الأمثال لهذا، كما ضرب الله جل وعلا الأمثال فيها، ومن الأمثال البليغة المطابقة تماماً لحالتنا ما قاله صلى الله عليه وسلم: (إنما مثلي ومثلكم كمثل قوم سلكوا طريقاً، فلما صاروا في وسطه، لا يدرون ما مضى أكثر أو ما بقي أكثر، انتهى زادهم وماؤهم وانقطع ظهرهم)، يعني: لا مركوب ولا مأكول ولا مشروب، فما حالتهم؟ أيقنوا بالموت هنا (بينما هم كذلك ينتظرون الموت إذ طلع عليهم رجل يقطر رأسه ماء، فقالوا: إن هذا حديث عهد بماء، فقال: ما شأنكم؟ فقالوا: كما ترى ننتظر الموت، فقال: أرأيتم إن دللتكم على ماء روي ورياض خضراء أتطيعونني؟ قالوا: نعم ولا نعصي لك أمراً، فقال: عهودكم -يعني: أعطوني العهود والمواثيق على ذلك- فأعطوه ما شاء من عهود ومواثيق، فسار بهم إلى مياه كثيرة ورياض خضراء، فبقوا فيها يشربون ويأكلون، فبينما هم كذلك إذ صاح بهم: الرحيل، فقالوا: إلى أين؟ فقال: إلى رياض هي خير من هذه الرياض، ومياه أعذب من هذه المياه وأفضل، فقال أكثرهم: والله ما وصلنا إلى هذه الرياض وهذا الماء ونحن نصدق أننا ننجوا فأبوا أن يطيعوه، وأطاعه قليل منهم فنجا بهم ونجوا، وتخلف أكثرهم فصبحهم العدو، فأصبحوا ما بين قتيل وأسير). فهذا هو مثل الرسول صلى الله عليه وسلم ومثلنا، فالذي يطيع الله ورسوله ويفعل الواجبات ويجتنب المحرمات ينجو ويكون في عيشة هنيئة، والذي يعصيه وإن رأى أنه في عيشة طيبة فهو في الواقع في عيشة ضنك، وإذا كان يوم القيامة تتضاعف هـ

وجوب إحسان الظن بالله في حكمه وعدله وأموره كلها

وجوب إحسان الظن بالله في حكمه وعدله وأموره كلها [باب قول الله تعالى: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران:154] الآية، وهذه الآية ذكرها الله تعالى في سياق قوله تعالى في ذكر وقعة أحد: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ} [آل عمران:154] يعني: أهل الإيمان والثبات والتوكل الصادق، وهم الجازمون بأن الله تعالى ينصر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وينجز له مأموله، ولهذا قال: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} [آل عمران:154] يعني: لا يغشاهم النعاس من الجزع والقلق والخوف، {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران:154]، كما قال تعالى: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} [الفتح:12]. وهكذا هؤلاء اعتقدوا أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة ظنوا أنها الفيصلة، وأن الإسلام قد باد وأهله، وهذا شأن أهل الريب والشك، إذا حصل أمر من الأمور الفظيعة تحصل لهم هذه الأمور الشنيعة. عن ابن جريج قال: قيل لـ عبد الله بن أبي: قتل بنو الخزرج اليوم، قال: وهل لنا من الأمر من شيء؟ قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في الكلام على ما تضمنته وقعة أحد: وقد فسر هذا الظن الذي لا يليق بالله سبحانه بأنه لا ينصر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن أمره سيضمحل، وأنه يسلمه للقتل. وفسر بظنهم أن ما أصابهم لم يكن بقضاء الله وقدره ولا حكمة له فيه، ففسر بإنكار الحكمة، وإنكار القدر، وإنكار أن يتم أمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وأن يظهره على الدين كله. هذا هو ظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون في سورة الفتح، حيث يقول: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [الفتح:6]]. من ظن بأحكام الله جل وعلا وأوامره أنها غير عدل، وأنها غير حكيمة، فهو يظن بالله ظن السوء، فالذي يتضجر من حكم شرعي أقيم عليه، أو يرى أن غير حكم الشرع أحسن منه وأنه أكمل وأتم للإنسان الذي يكون هو أرقى المخلوقات، ويرى أنه لا يليق بالإنسان أن تقطع يده، أو أن يرجم إذا زنى وهو محصن، أو أن يكون الرجل أكثر إرثاً من المرأة، أو أن يكون الرجل عنده زوجتين أو ثلاثاً أو أربعاً، وأن هذا غير عدل، الذي يظن مثل هذا يكون ظن بالله ظن السوء. [قال ابن القيم رحمه الله في الآية الأولى: فسر هذا الظن بأنه سبحانه لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل، وفسر بأن ما أصابه لم يكن بقدر الله وحكمته، وفسر بإنكار الحكمة، وإنكار القدر، وإنكار أن يتم أمر رسوله، وأن يظهره الله على الدين كله، وهذا هو ظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون في سورة الفتح، وإنما كان هذا ظن السوء لأنه ظن غير ما يليق به سبحانه وما يليق بحكمته وحمده ووعده الصادق. فمن ظن أنه يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها الحق، أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره، أو أنكر أن يكون قدره لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد، بل زعم أن ذلك لمشيئة مجردة فذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ. وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم، وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وأسماءه وصفاته، وموجب حكمته وحمده. فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا، وليتب إلى الله وليستغفره من ظنه بربه ظن السوء، ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعنتاً على القدر وملامة له، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقل ومستكثر وفتش نفسك هل أنت سالم؟ فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة وإلا فإني لا إخالك ناجياً]. الواجب على العبد أن يعرف ربه جملة إذا أمكن ذلك، وأن يظن به الظن الحسن، وأن يحسن الظن بالله، فإحسان الظن من الإيمان، لهذا جاء الأمر به: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه)، وفي الحديث القدسي يقول الله جل وعلا: (أنا عند ظن عبدي بي، فمن ظن خيراً وجده، ومن ظن شراً وجده)، وليس معنى ذلك أن الإنسان يسيء ويعصي ويترك الواجبات، ثم يقول: أنا أظن بالله جل وعلا ظناً حسناً!! والله عز وجل يضع الأشياء في مواضعها؛ لأنه حكيم تعالى وتقدس، فكل ما صدر عن الله جل وعلا فهو خير، وأما هذا فإنه فسر بالشيء الخاص، كما ذكر: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران:154]، وكذلك: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} [الفتح:6]، والسوء جاء تفسيره في الآية الأخرى التي بعدها حيث قال: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} [الفتح:12]، فظنهم ظن السوء في هذه الآية فسر بأنهم ظنوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه يقتلون، وأن الكفار ينتصرون، وأن الحق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ينتهي أمره ويزول، هذا ظن السوء بالله جل وعلا.

صور من ظن الجاهلية وظن السوء

صور من ظن الجاهلية وظن السوء وشيء آخر من ظن الجاهلية وظن السوء هو إنكار أن الله قدر هذا الذي وقع على المؤمنين يوم أحد، وإنما ذلك بمقتضى الأسباب، وهي قوة الكفار وكون المسلمين صاروا قلة فوقع ذلك، وليس هناك تقدير سابق وعلم أزلي لله جل وعلا، وهذا تنقص لله جل وعلا؛ لأنه -كما سيأتي- لا يقع شيء من قليل أو كثير أو صغير أو كبير في الكون إلا بمشيئة الله وتقديره جل وعلا؛ لأنه هو الرب المتصرف في كل شيء، وكل ما سواه مخلوق يتصرف فيه جل وعلا كيف يشاء بمشيئته. وكذلك كونه يظن الإنسان أنه يفعل الشيء على مقتضى المشيئة فقط بغير حكمة، كما يظنه كثير من الجهال، وإن كانوا يزعمون أنهم علماء؛ لأن كل من جهل أمر الله فهو جاهل، يقولون مثلاً: تجد الإنسان عاقلاً، تجده أديباً، تجده لبيباً، ثم تجده فقيراً مدقعاً تضيق عليه وجوه الحياة في معيشته، وتجد إنساناً أحمق جاهلاً تجد عنده من الدنيا الشيء الذي لا يستطيع أن يصرفه، ثم يقولون: هذا ليس من الحكمة، فهذا اعتراض على الله جل وعلا وهو من أقبح الظن بالله جل وعلا وأسوئه، ومن لقي الله جل وعلا بمثل هذا فهو من الهالكين الذين يستحقون عذاب الله جل وعلا. فالله جل وعلا خلق الخلق بعلمه وتقديره ومشيئته وقدرته، ووزع عليهم أرزاقهم حسب مشيئته وإرادته وتقديره وحكمته، ولا يلزم أن يكون الإنسان عارفاً بالحكمة؛ لأن الإنسان قاصر، وقد ابتلى الله جل وعلا عقولهم هل تخضع وتنقاد لله جل وعلا ولأوامره، أو تعترض وتقف حتى في الأمور التي أمر الإنسان أن يزاولها كثيراً، مثل أمور العبادات وغيرها مثل الوضوء والغسل من الجنابة وما أشبه ذلك. فالعقل ليس له دخل في هذا، كون الوجه يغسل، وكون اليدين تغسلان إلى المرفقين والرجلين إلى الكعبين ويمسح على الرأس، فالصلاة لا تصح إلا بهذا، فهذا قد لا يدرك الحكمة منه كثير من الناس. ولهذا كثير من هذه الأمور إذا ذكرها العلماء قالوا: هذا تعبدي ومعنى (تعبدي): أنا نفعله عبادة لله وخضوعاً له سبحانه، ولو لم نعرف الحكمة، ومن ذلك كثير من أعمال الحج، مثل رمي الجمار، فقد يعترض بعض الناس على ذلك ويقول: ما الفائدة من رمي الجمار؟ وليس كما يعتقده الجهال أن الشيطان يرمى، لا، وإنما هذا منسك من المناسك نؤديه كما أمرنا، ونرمي بهذه الحصيات كما أمرنا، وليس الشيطان واقفاً هناك يرمى، الشيطان لا يقف للناس يرمونه، ولا يجوز أن يسمى شيطاناً، بل يقال: رمي الجمار منسك من المناسك، فقد يقول -مثلاً- بعض الناس: ما الحكمة في هذا؟ وكون الناس يتزاحمون على هذا المكان يرمون بهذه الحجارة لا نرى له نفعاً دنيوياً، ولا نرى شيئاً يمكن يقابل ما يقع من الزحام ومن الموت أحياناً! نقول له: هذا أمر تعبدي، أمر الله جل وعلا عباده بذلك، فما عليهم إلا أن يخضعوا ويذلوا. ومن ذلك المبيت بمنى، والمبيت بمزدلفة، والوقوف بعرفات، والطواف بالبيت، وسائر أعمال الحج على هذا المنوال، وقد فهم الصحابة هذا؛ لأنهم ذوو العقول، ولأنهم أعمق الناس عقولاً وأكملهم إيماناً وأتمهم إدراكاً، فأدركوا ذلك وصاروا يقولون في تلبيتهم: (لبيك حقاً حقاً تعبداً ورقاً) تعبداً كوننا نجيب ما أمرتنا به تعبداً لك بدون أن نطلع على حكمة ذلك. وكذلك في مخلوقات الله جل وعلا، يقول قائل مثلاً: نجد بعض الحشرات ما الفائدة من وجودها؟ ما فيها إلا مضرة، مثل الذباب، ومثل البعوض، ومثل الحيات والعقارب والخنافس وما أشبه ذلك! هناك ناس يقولون هذا. نقول: إن عقلك قاصر، ولا يجوز أن تعترض على الله جل وعلا في خلقه وإيجاده، ولا في أمره وشرعه، ولا في قضائه وقدره، يجب أن تكون عبداً منقاداً لأوامر الله وتسلم وتذعن لذلك، وإلا فلن تعجز الله، والأمر يسير لدى الله جل وعلا إذا عصى الإنسان ربه. فشرعه الذي بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم كثير منه على هذا النحو. ولهذا لا يجوز للإنسان أن يبحث عن الأسرار ويقول: ما السر في كذا؟ ما الحكمة في كذا؟ لأن هذا غالباً يدعو إلى الاعتراض وإلى التعنت والتكبر على الله جل وعلا، وهذا هو الطريق إلى الهلاك، وكذلك حينما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالدين وعد أنه سيظهره على الدين كله وأنه سينصره، فيجب أن يؤمن بوعده، وإذا حصلت انتكاسة على المسلمين وانتصار للكافرين فهذا معناه أنه تمحيص لذنوب المؤمنين بسبب المعاصي التي يقعون فيها. فالله قد ذكر الحكمة جل وعلا في ذلك، ثم قال جل وعلا: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} [آل عمران:165]، قال جل وعلا: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165]، يعني: بسبب ما فعلتموه أنتم. وجاء ذلك أيضاً في آيات آخر، مثل قوله جل وعلا: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]، يعني: لو يؤاخذكم بكل ما فعلتموه لما بقي على وجه الأرض أحد، ولكنه يعفو عن كثير جل وعلا، ثم الأمر مثلما قال صلى الله عليه وسلم: (إن أمر المؤمن كله خير، إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له) يعني: يؤجر على ذلك عندما يصبر ويحتسب، وتحصل بذلك على حسنات. (وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له) بخلاف الكافر والمنافق، فإنه لا يشكر ولا يصبر، وإنما شأنه الاعتراض، ثم الظن بالله جل وعلا أنه ما يفعل شيئاً إلا لحكمة، ولا يأمر العباد إلا بما فيه مصلحة لهم قد تكون ظاهرة لهم وقد لا تكون ظاهرة، ولا يقدر شيئاً إلا لحكمة عظيمة قد يعرف شيء منها وقد لا يعرف.

شرح فتح المجيد [125]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [125] سوء الظن بالله عز وجل من أكبر الكبائر، بل هو من سمات المنافقين والكفار، فإنهم يظنون بالله أنه لن ينصر دينه، ولن يعلي كلمته، وأن أهل الباطل ستكون لهم الدائرة على أهل الحق، ولكن الله يخيب ظنهم، ويجعل دائرة السوء عليهم في الدنيا قبل الآخرة.

معنى ظن الجاهلية

معنى ظن الجاهلية قال رحمه الله تعالى: [قال المصنف رحمه الله تعالى: قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في الكلام على ما تضمنته وقعة أحد: وقد فسر هذا الظن الذي لا يليق بالله سبحانه بأنه لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل، وأنه يسلمه للقتل، وفسر بظنهم أن ما أصابهم لم يكن بقضاء الله وقدره، ولا حكمة له فيه، ففسر بإنكار الحكمة، وإنكار القدر، وإنكار أن يتم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يظهره على الدين كله، وهذا هو ظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون في سورة الفتح، حيث يقول: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [الفتح:6]، وإنما كان هذا هو ظن السوء وظن الجاهلية -وهو المنسوب إلى أهل الجهل- وظن غير الحق؛ لأنه ظن غير ما يليق بأسمائه الحسنى وصفاته العليا وذاته المبرأة من كل عيب وسوء، وخلاف ما يليق بحكمته وحمده وتفرده بالربوبية والإلهية، وما يليق بوعده الصادق الذي لا يخلفه، وبكلمته التي سبقت لرسله أنه ينصرهم ولا يخذلهم، ولجنده بأنهم هم الغالبون. فمن ظن به سبحانه أنه لا ينصر رسله ولا يتم أمره ولا يؤيده ويؤيد حزبه ويعليهم ويظفرهم بأعدائهم ويظهرهم، وأنه لا ينصر دينه وكتابه، وأنه يديل الشرك على التوحيد، والباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها التوحيد والحق اضمحلالاً لا يقوم بعده أبداً فقد ظن بالله ظن السوء ونسبه إلى خلاف ما يليق بجلاله وكماله وصفاته ونعوته؛ فإن حمده وعزته وحكمته وإلهيته تأبى ذلك، وتأبى أن يذل حزبه وجنده، وأن تكون النصرة المستقرة والظفر الدائم لأعدائه المشركين به العادلين به، فمن ظن به ذلك فما عرفه ولا عرف أسماءه ولا عرف صفاته وكماله، وكذلك من أنكر أن يكون ذلك بقضائه وقدره فما عرفه ولا عرف ربوبيته وملكه وعظمته]. ظن السوء وظن الجاهلية هو الظن بأن الله لا ينصر رسوله ولا ينصر حزبه، والمقصود بالنصر هو إظهار ما جاء به، ولا يلزم من ذلك أنه لا يحصل فيهم قتل ولا يحصل فيهم مصائب، هذا ليس لازماً، بل أخبر جل وعلا أن من الفتن التي يديل الكفار بها على المؤمنين أنه ليتخذ من المؤمنين شهداء، أي: يوجد منهم شهداء يقتلون. والشهادة هي أعلى المراتب التي يمكن أن يصل إليها المؤمن، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (وددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا، ثم أقتل). وذكر أنه لا يوجد مؤمن يموت فيرى ما أعد الله له فيود أنه يرجع إلى الدنيا إلا الشهيد، فإنه يود أن يحيا مرة أخرى فيقتل؛ لما يرى من الكرامة التي أكرمه الله جل وعلا بها، فكون الكفار -مثلاً- قد يكون لهم نصر على المؤمنين وقد يقع قتل في المؤمنين فإن هذا من الحِكَم، وكذلك يكون تمحيصاً عاماً للمؤمنين، ولكن لا يمكن أن يُدال الكفار إدالة كاملة بحيث يقضون على المؤمنين نهائياً ويقضون على الإسلام. وظن السوء الذي ظنه المنافقون هو أما كونه يحصل في المؤمنين قتل، أو يحصل عليهم بسبب ذنوبهم ومخالفاتهم شيء من المصائب، أو شيء من تسلط العدو عليهم، وهذا ثابت في تاريخ الإسلام، بل في تاريخ الرسل كلهم، ولما أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم كتاباً إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام كان لا يقرأ العربية، والرسول صلى الله عليه وسلم أرسل إليه الكتاب باللغة العربية، فلما ترجم له الكتاب اهتم به كثيراً، ثم أمر أن يُبحث في الشام عن أحد من قومه، فوجد جماعة من المشركين منهم أبو سفيان قبل أن يسلم، فجيء بهم إليه فسألهم: من رئيسكم؟ فأخبروه أنه أبو سفيان، فقدمه أمامهم وأجلسهم خلفه وقال: إني سائله فإذا صدق فصدقوه يعني: قولوا: صدق. وإن كذب فقولوا: كذب. فصار يسأله عن مسائل، منها أنه قال: كيف الحرب بينكم وبينه؟ فقال: الحرب بيننا وبينه سجال، مرة يُدال علينا ومرة نُدال عليه يعني: مرة يكون النصر له ومرة يكون النصر لنا ثم بعد نهاية الأسئلة قال هرقل لـ أبي سفيان: كذلك الرسل يبتلون، ولكن العاقبة لهم. وهكذا يكون القتال بين الرسل وبين الكافرين، مرة ينصرون ومرة ينتصرون عليهم، ولكن العاقبة تكون للأنبياء، وهذه هي سنة الله جل وعلا. فمعنى الظن السيء بالله جل وعلا هو ما ظنه هؤلاء المشركون والمنافقون أن الإسلام ينتهي ويكون الكفر هو المسيطر فيُقتل الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه ويمحى دينهم، وهذا خلاف حكمة الله وخلاف أمره ووعده فهو من ظن السوء وظن الجاهلية. أما القول بأنه إنكار الحكمة فمعنى ذلك أن كل فعل يفعله الله جل وعلا أو أمر يأمر به فله فيه حكمة عظيمة، والحكمة: هي وقوع الشيء على وفق ما يكون عدلاً وحقاً تقر به العقول السليمة وتستحسنه وترى أن هذا هو أحسن ما يكون، وليس خلافه أحسن بل هو الأحسن، وكل شيء يفعله الله جل وعلا فهو بهذه المثابة، فله الحكم في أمره وفي تقديره وفي شرعه، وحكمه عدل وحق، ولا تخالف الحكمة العقل النظر، ولكن قد تدرك العقول ذلك وقد تقصر عنه، فإذا قصرت عنه فيجب أن تسلم لله جل وعلا أنه حكيم يضع الأشياء في مواضعها التي يحسن وضعها فيه. ومن ذلك إيمان المؤمن وكفر الكافر، فهو جل وعلا يعلم من يستحق الفضل والإحسان فيتفضل عليه ويهديه للإيمان، ويعلم من لا يستحق ذلك فيحجب عنه فضله. وكذلك مِنْ الظن السوء إنكار أنه قدر هذه الأشياء التي تقع، فهذه ثلاثة أقوال: الأول: إنكار نصر الله جل وعلا لرسوله وإظهار دينه. الثاني: إنكار الحكمة في الأوامر التي يأمر بها والمقادير التي يقدرها. الثالث: إنكار القدر، وأن ذلك لم يقع بقدر وإنما هو على وفق الأسباب التي تجب، ومن كان أقوى فهو ينتصر، فكل ظن من هذه الظنون فهو خلاف الحكمة، ويكون من ظن السوء بالله جل وعلا.

الاعتراض على الله في جعله الخلق متفاوتين من ظن السوء به سبحانه

الاعتراض على الله في جعله الخلق متفاوتين من ظن السوء به سبحانه وكذلك من أنكر شيئاً يتعلق بالإنسان نفسه، فقد يقع أيضاً في ظن السوء بالله جل وعلا، كأن يرى أنه لابد أن يكون غنياً ولكنه افتقر، واللائق به أن يكون صحيحاً وألا يناله مرض لأنه لا يستوجب ذلك، فإذا ناله شيء من الفقر أو من المصائب أو من الهموم أو من الأمراض فإنه يقول: هذه أمور وقعت خلاف ما ينبغي أن تقع وهذا أيضاً قد يؤول إلى الكفر بالله جل وعلا. وقد ذكر ابن الجوزي رحمه الله أشياء عن بعض الناس تدل على أن كثيراً من النفوس عندها الاعتراض على الله، وإنما يكون هذا الاعتراض كامن فيها، فيعترض على الله في خلقه، ويقولون مثلاً: لماذا وجود الخلاف؟ يكون بعض الناس مريضاً وأجرب وما أشبه ذلك فيقولون: ما الحكمة من هذا؟ وهذا لا يفعله حكيم! تعالى الله وتقدس عما يقولون. وينكرون أن يكون فلان فقيراً وفلان غنيا، ً حتى إن بعضهم قال: كان أحد الفقهاء الذين يعرفون بمعرفة الأحكام يتردد علي كثيراً. يقول: فمرض فعدته، فسمعته يقول: ما هذا التعذيب؟ إن كان يريد أن يميتني فليس لهذا التعذيب معنى! ثم يقول: والله لو أنزلني الفردوس ما كان ذلك مشكوراً بعد هذا الذي حصل. أعوذ بالله من سوء الخاتمة، فهذا كان فقيهاً ثم يصدر منه مثل هذا الكلام الجريء على الله، ويقول: لو أنزله الله الفردوس ما كان مشكوراً؛ لما حصل له من المرض. وهذا خلاف المؤمن الذي إذا أصابه المرض فرح، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا الحمى؛ فإنها حظ المؤمن من النار)، أي: لأنها تمحص الذنوب. وفي الصحيح عن ابن مسعود قال: (دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك وعكاً شديداً، فقلت: يا رسول الله! إنك لتوعك وعكاً شديداً. قال: نعم. كما يوعك رجلان منكم فقلت: ذلك لأن لك أجرين؟ قال: نعم)، فمن فضل الله على الإنسان أن يعترف بأن كل ما وقع عليه هو بقدر الله جل وعلا، فيجب أن يحسن الظن بربه، وإن أدرك الإنسان الحكمة من ذلك فليطمئن، وإلا فعليه أن يسلم لربه جل وعلا حتى يكون عبداً لله، ولا يجوز أن يجعل مشاركاً لله في ذلك، ولا أن ينزل نفسه منزلة فوق منزلة الله -تعالى الله وتقدس- حتى يصبح يعترض على الله، فالشيطان لما أمره الله جل وعلا بالسجود لآدم اعترض على ربه وقال: كيف أؤمر بالسجود وأنا خير منه؟ لأن أصلي النار وهو أصله الطين فينبغي للقضية أن تعكس، وأن يؤمر هو بأن يسجد لي. فقال -كما حكى الله عنه-: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص:76]، فهذا أصل الاعتراض على الله جل وعلا على أمره وتقديره، فالذي يسلك هذا المسلك فإنه يسير خلف الشيطان، نسأل الله العافية.

إنكار القدر من ظن السوء بالله جل وعلا

إنكار القدر من ظن السوء بالله جل وعلا [وكذلك من أنكر أن يكون قدر ما قدره من ذلك وغيره لحكمة بالغة وغاية محمودة يستحق الحمد عليها، وأن ذلك إنما صدر عن مشيئة مجردة عن حكمته وغاية مطلوبة هي أحب إليه من فواتها، وأن تلك الأسباب المكروهة له المفضية إليها لا يخرج تقديرها عن الحكمة لإفضائها إلى ما يجب وإن كانت مكروهة له]. يريد أنه يرد على بعض أهل الكلام، مثل الأشاعرة الذين يقولون: إن الله يفعل بمقتضى مشيئته فقط، وليس هناك حكمة. وينكرون الحكمة على ضوء مذهبهم الفاسد، ويقولون على مقتضى ذلك: يجوز أن يعذب الله المؤمن الذي أفنى حياته بطاعة الله ويجوز أن يجعله في النار، ويجوز أن يجعل الكافر الذي أفنى حياته في معاصي الله وفي محاربة الله أن يجعله في الجنة، مع أن الله جل وعلا ذكر ذلك في كتابه صريحاً فقال: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 36]، فالله جل وعلا ينكر هذا، ويبين أن هذا لا تقتضيه حكمته، بل حكمته على خلاف ذلك. ثم يفسرون الظلم الذي نفاه الله جل وعلا عن نفسه كما قال: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] بأنه هو التصرف في ملك الغير بغير إذنه وبغير حق، وكل شيء ملك لله، فإذا صرفه بمقتضى مشيئته فلا يكون ظلماً، وهذا التفسير خطأ، والتفسير الصحيح للظلم هو أنه وضع الشيء في غير موضعه فالله جل وعلا يضع الأشياء في موضعها، كما قال جل وعلا: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124]، وقال: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص:68]، فهو جل وعلا اختار على مقتضى حكمته أن يضع الأشياء في مواضعها تعالى الله وتقدس. فما قدرها سدى ولا شاءها عبثاً ولا خلقها باطلاً: {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص:27]، وأكثر الناس يظنون بالله غير الحق ظن السوء فيما يختص بهم وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وعرف أسمائه وصفاته وعرف موجب حكمته وحمده، فمن قنط من رحمته وأيس من روحه فقد ظن به ظن السوء، ومن جوز عليه أن يعذب أولياءه مع إحسانهم وإخلاصهم ويسوى بينهم وبين أعدائه فقد ظن به ظن السوء]. القنوط هو شدة اليأس، فإذا كان الإنسان -مثلاً- يعمل ذنوباً كثيرة وكبيرة ثم يقول: لا مخرج لي من ذلك ولا يغفر لي فهذا هو القنوط. ولماذا يكون مثل هذا ظن سوء بالله؟ A لأن الله جل وعلا غفور رحيم، وعفو كريم، وليس هناك ذنب لا يغفره الله إذا تاب الإنسان منه، كما قال جل وعلا: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53]، فلم يستثن شيئاً. أما الآية الأخرى التي فيها استثناء الشرك فهذا في الذي يموت ولم يتب، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء:48] يخبر الله جل وعلا أنه لا يغفر له إذا مات مشركاً، أما ما عدا الشرك فهو تحت مشيئة الله جل وعلا وإن مات عليه مصراً، فإن شاء الله أن يعفو عنه عفا، وإن شاء أن يعذبه عذبه. [ومن ظن أن يترك خلقه سدى معطلين عن الأمر والنهي لا يرسل إليهم رسله ولا ينزل عليهم كتبه بل يتركهم هملاً كالأنعام فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أنه لن يجمع عبيده بعد موتهم للثواب والعقاب في دار يجازى المحسن فيها بإحسانه، والمسيء بإساءته، ويبين لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه، ويظهر للعالمين كلهم صدقه وصدق رسله، وأن أعداءه كانوا هم الكاذبين فقد ظن به ظن السوء]. لأن هذا أيضاً على خلاف مقتضى حكمته وعدله، أما الحكمة فإن الله رتب الإنسان ترتيباً حسناً، ثم بعد ذلك يهدم هذا الترتيب وينتهي، وذلك ليعاد إعادة أكمل من هذه وأتم، هذا من ناحية الخلق، أما من ناحية العدل فإن الناس -كما هو واقع- يشاهدون الظالم يظلم ظلماً ظاهراً ثم لا يؤخذ الحق منه، ويموت هذا ويموت هذا، وهذا يقع كثيراً، ولا يمكن أن يترك هذا، بل بل لابد من موقف بين يدي الله يؤدى فيه الحق إلى صاحبه، ولابد من البعث حتى يقتص للمظلوم من الظالم، ولهذا جاءت الأحاديث تبين أن البهائم يقتص منها فكيف العقلاء؟! فالبهائم تتناطح بقرونها بعضها يكون له قرون وبعضها أجم ليس له قرن، فتبعث يوم القيامة ليُقتص لبعضها من بعض، ثم إذا أعطي صاحب الحق من البهائم حقه يقول الله جل وعلا لها: كوني تراباً. لأنها ليس لها ثواب ولا جزاء، ولكن العدل اقتضى أنه يقتص من الظالم للمظلوم وإن كان بهيمة. وأما العقلاء المكلفون الذين خلقوا لعبادة الله فلا بد من القصاص، ثم كذلك الأعمال، تجد هذا يعمل جاهداً في طاعة الله مجتهداً وهذا يعمل جاهداً في معاصي الله، ثم يموتان وما لقي هذا الجزاء ولا لقي هذا الجزاء وهو الجزاء الأوفى، وإلا فنعمة الطاعة والأنس بالله من أكبر النعم، فلابد من بعث، ولابد من دار يتم فيها الجزاء كما أخبر الله جل وعلا.

من ظن السوء بالله جل وعلا الظن بأن الله لا يجازي بالأعمال، ومنه كذلك تأويل الصفات

من ظن السوء بالله جل وعلا الظن بأن الله لا يجازي بالأعمال، ومنه كذلك تأويل الصفات [ومن ظن أنه يضيع عليه عمله الصالح الذي عمله خالصاً لوجهه على امتثال أمره ويبطله عليه بلا سبب من العبد، وأنه يعاقب بما لا صنع له فيه ولا اختيار له ولا قدرة ولا إرادة له في حصوله، بل يعاقبه على فعله هو سبحانه به، أو ظن به أنه يجوز عليه أن يؤيد أعداءه الكاذبين عليه بالمعجزات التي يؤيد بها أنبياءه ورسله ويجريها على أيديهم ليضلوا بها عباده، وأنه يحسن منه كل شيء حتى تعذيب من أفنى عمره في طاعته فيخلده في الجحيم في أسفل السافلين، وينعِّم من استنفذ عمره في عداوته وعداوة رسله ودينه فيرفعه إلى أعلى عليين، وكلا الأمرين في الحسن عنده سواء، ولا يعرف امتناع أحدهما ووقوع الآخر إلا بخبر صادق وإلا فالعقل لا يقضي بقبح أحدهما وحسن الآخر فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن أنه أخبر عن نفسه وصفاته وأفعاله بما ظاهره باطل وتشبيه وتمثيل، وترك الحق لم يخبر به وإنما رمز إليه رموزاً بعيدة وأشار إليه إشارة ملغزة، ولم يصرح به، وصرح دائماً بالتشبيه والتمثيل والباطل، وأراد من خلقه أن يُتعبوا أذهانهم وقواهم وأفكارهم في تحريف كلامه عن مواضعه وتأويله على غير تأويله، ويتطلبوا له وجوه الاحتمالات المستكرهة والتأويلات التي هي بالألغاز والأحاجي أشبه منها بالكشف والبيان، وأحالهم في معرفة أسمائه وصفاته على عقولهم وآرائهم لا على كتابه، بل أراد منهم ألا يحملوا كلامه على ما يعرفونه من خطابهم ولغتهم مع قدرته على أن يصرح لهم بالحق الذي ينبغي التصريح به، ويريحهم من الألفاظ التي توقعهم في اعتقاد الباطل فلم يفعل، بل سلك بهم خلاف طريق الهدى والبيان فقد ظن به ظن السوء]. يشير بهذا إلى ما يقوله الأشاعرة والمعتزلة من أن ظاهر صفات الله جل وعلا التشبيه، مثل اليد والرحمة والرضى والغضب، ولهذا يؤولونها ويقولون: لا يجوز أن تؤخذ على ظاهرها؛ لأن ظاهرها يدل على التشبيه. والإنسان أمامه في هذه شيئان -كما يزعمون-: إما وجوب التأويل، وإما السكوت والتسليم وعدم الاشتغال بذلك مع اعتقاد أن الظاهر غير مراد. أي: أن يعمي الإنسان قلبه ويمسكه عن التفكر في ذلك، فلا يفكر ولا ينظر، بل ويصبح كأن أمامه شيء مجهول تماماً، بل يعودون مرة ثانية ويقولون: لابد أن يعتقد أن ظاهرها غير مراد. وهذا معناه -على قولهم- أن ظاهر القرآن كفر، وظاهر الأحاديث شرك، وأن الناس لو تركوا بلا وحي لكان أحسن لهم؛ لأن ظاهر هذا ما أريد وإنما أريد عكسه. فالذي أريد باليد القدرة، والذي أريد بالرحمة الإحسان للمخلوق وليست رحمة تكون صفة لله، والمراد بالغضب العقاب، والمراد بالرضى الثواب، فمرة يفسرونه بمخلوق ومرة يفسرونه بصفة أخرى، ثم لا يثبتون هذه الصفة، بل يفسرونها مرة أخرى وهكذا. فالمقصود أن هذا خلاف ما أخبر الله جل وعلا به من البيان والهدى، فقد جعل القرآن هدى وشفاءً، وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم بين غاية البيان، ما ترك شيئاً حتى الطيور التي تطير إلا ذكر لنا منها علماً، ولم يأت مرة أنه قال: إن قوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] المراد به أن الله فوق ما قال هذا، بل تركهم يفهمون من هذا الخطاب ظاهره. فقوله: (إن الله ينزل إلى السماء الدنيا آخر الليل) يحمل على ظاهره، وإلا كيف يخبر بهذا ثم يقول له: لا تعتقده على ظاهره؟ هذا تناقض، وهذا التأويل في صفاته جل وعلا أو تعطيلها وردها من أعظم الظن السيء بالله جل وعلا.

من أسوأ الظن بالله جل وعلا القول بأن الله كان معطلا عن الفعل

من أسوأ الظن بالله جل وعلا القول بأن الله كان معطلاً عن الفعل [فإنه إن قال: إنه غير قادر على التعبير عن الحق باللفظ الصريح الذي عبر به هو وسلفه فقد ظن بقدرته العجز، وإن قال: إنه قادر ولم يبين وعدل عن البيان وعن التصريح بالحق إلى ما يوهم بل يوقع في الباطل المحال والاعتقاد الفاسد فقد ظن بحكمته ورحمته ظن السوء. ومن ظن أنه هو وسلفه عبروا عن الحق بصريحه دون الله ورسوله، وأن الهدى والحق في كلامهم وعباراتهم، وأما كلام الله فإنما يؤخذ من ظاهره التشبيه والتمثيل والضلال، وظاهر كلام المتهوكين والحيارى هو الهدى والحق فهذا من أسوأ الظن بالله. فكل هؤلاء من الظانين بالله ظن السوء، ومن الظانين بالله غير الحق ظن الجاهلية. ومن ظن به أن يكون في ملكه ما لا يشاء ولا يقدر على إيجاده وتكوينه فقد ظن بالله ظن السوء. ومن ظن أنه كان معطلاً من الأزل إلى الأبد عن أن يفعل، ولا يوصف حينئذ بالقدرة على الفعل، ثم صار قادراً عليه بعد أن لم يكن قادراً فقد ظن به ظن السوء].

مسألة تسلسل الحوادث والأقوال فيها

مسألة تسلسل الحوادث والأقوال فيها هذه المسألة التي أشار إليها مسألة كبيرة جداً، ووقع فيها ضلال كبير وكثير، وهي معروفة في كتب المتكلمين بمسألة تسلسل الحوادث، والتسلسل مأخوذ من السلسلة، والسلسلة تكون متداخلة كل حلقة داخلة في الأخرى حتى يتصل آخرها بأولها، فلا يكون فيها نقص، والتسلسل مأخوذ من أن كل حادث قبله حادث، وهكذا إلى مالا نهاية. والتسلسل يكون من الجانبين: من جانب المستقبل وجانب الماضي، فالماضي كل حادث قدر فقبله حادث، وكل مخلوق قدر فقبله مخلوق وهكذا، وأما المستقبل فكل شيء يوجد فسيوجد شيء آخر، وهكذا. والمتكلمون اختلفوا في هذا على مذاهب: فمنهم من منع التسلسل في الماضي والمستقبل، بل قالوا: إن أهل الجنة وأفعالهم تنتهي، إما أن تكون الحركة تنتهي وإما أن يكون أهل الجنة أنفسهم يفنون، وإن الجنة والنار تفنيان. وهذا قول بعض المعتزلة قالوه بناءً على هذه القاعدة. وأما في الماضي فمثل ما ذكر هنا، يقول: كان الله جل وعلا معطلاً في الأزل، فلم يكن يفعل شيئاً، ثم لما أراد أن يخلق السموات والأرض والجبال والمخلوقات صار قادراً على الفعل، أما قبل ذلك فلم يكن قادراً. والشيخ يقول: هذا من أسوء الظن بالله جل وعلا؛ لأن الله جل وعلا لم يزل كاملاً، ولا يلزم أن نعلم بعقولنا وإدراكاتنا أفعال الله الأزلية القديمة؛ لأن الله لا مبدأ له جل وعلا، وهو بصفاته كامل، وقد أخبر أنه فعال لما يريد، ولم يكن في وقت من الأوقات فعالاً لما يريد وفي بعض الأوقات لا يفعل -تعالى الله وتقدس-؛ لأن هذا نقص، فالله له الكمال المطلق، ولا يلزم أن يكون ذكر مبدأ هذا الكون أنه ليس قبله مخلوقات، فالله على كل شيء قدير، وهو جل وعلا له الكمال المطلق. وأما ما جاء في حديث عمران بن حصين حينما سأل أهل اليمن وقالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: ما مبدأ هذا الأمر؟ فقال: (كان الله ولم يكن شيئاً قبله، ثم كتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السماوات والأرض) إلى آخره فمعنى ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر على حسب السؤال؛ لأنهم قالوا: ما مبدأ هذا الأمر؟ وهذا لإشارة، والإشارة تكون إلى شيء موجود مثل الأرض والجبال والشجر ومن على الأرض، وكذلك السماء، فأخبر عن أول مبدئه أن الله خلقه في ستة أيام، ولا يلزم أن قبل ذلك لم يكن هناك شيء مخلوق، بل إخباره جل وعلا أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام دليل على أن هناك أشياء قبل وجودها يعرف تقدير الأيام بها؛ لأن الأيام التي تعرف الآن هي بوجود الشمس، فالشمس هي التي يعرف بها الليل والنهار، أما قبل ذلك فلا ندري ما هي الأيام؟ فلابد أن تكون الأيام تلك في تدبير أجرام أخرى الله أعلم بها. والمقصود: أنه يجب اعتقاد الكمال المطلق لله، وأنه لا يجوز أن يكون ناقصاً في وقت من الأوقات أو معطلاً عن كونه إذا أراد أن يفعل شيئاً فلا يفعله، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. وتمام الكلام على هذا أن منهم من نفى التسلسل في الماضي والمستقبل، ومنهم من أثبته في المستقبل فقط ونفاه في الماضي، وزعم أن هذا مذهب أهل السنة وليس كذلك، وهذا بناء على دوام الجنة والنار، فأخبر في المستقبل أن الحوادث ستستمر إلى ما لا نهاية، وأما في الماضي فهم يمنعونه، والمذهب الثالث الذي هو مذهب أهل السنة هو أن الحوادث في الماضي لا مبدأ لها، والمراد بذلك جنس الحوادث لا حادثاً معيناً، فإن الله لم يزل يفعل ما يشاء في الماضي وكذلك في المستقبل.

ظن السوء يدور على صاحبه

ظن السوء يدور على صاحبه [ومن ظن أنه سبحانه لا يسمع ولا يبصر، ولا يعلم الموجودات، ولا عدد السموات ولا النجوم، ولا بني آدم وحركاتهم وأفعالهم، ولا يعلم شيئاً من الموجودات في الأعيان، فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن به أنه لا سمع له ولا بصر ولا علم ولا إرادة ولا كلام يقوم به، وأنه لا يكلم أحداً من الخلق ولا يتكلم أبداً، ولا قال ولا يقول، ولا له أمر ولا نهي يقوم به فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن به أنه ليس فوق سماواته على عرشه بائناً من خلقه، وأن نسبة ذاته إلى عرشه كنسبتها إلى أسفل سافلين وإلى الأمكنة التي يرغب عن ذكرها، وأنه أسفل كما أنه أعلى، وأن من قال: (سبحان ربي الأسفل) كمن قال: (سبحان ربي الأعلى) فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه. ومن ظن أنه يحب الكفر والفسوق والعصيان ويحب الفساد كما يحب الإيمان والبر والطاعة والإصلاح فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن به أنه لا يحب ولا يرضى، ولا يغضب ولا يسخط، ولا يوالي ولا يعادي، ولا يقرب من أحد من خلقه ولا يقرب منه أحد، وأن ذوات الشياطين في القرب من ذاته كذوات الملائكة المقربين وأوليائه المفلحين فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن به أنه يسوي بين المتضادين، أو يفرق بين المتساويين من كل وجه، أو يحبط طاعات العمر المديد الخالصة الصواب بكبيرة واحدة تكون بعدها، فيخلد فاعل تلك الطاعات في الجحيم أبد الآبدين بتلك الكبيرة، ويحبط بها جميع طاعاته، ويخلده في العذاب كما يخلد من لم يؤمن به طرفة عين واستنفذ ساعات عمره في مساخطه ومعاداة رسله ودينه فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن به سبحانه أنه ينال ما عنده بمعصيته ومخالفته كما يناله بطاعته والتقرب إليه فقد ظن به سبحانه خلاف حكمته وخلاف موجب أسمائه وصفاته، وهو من ظن السوء. ومن ظن به أنه إذا ترك شيئاً من أجله لم يعوضه خيراً منه، أو من فعل شيئاً لأجله لم يعطه أفضل منه فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن به أنه يغضب على عبده ويعاقبه ويحرمه بغير جرم ولا سبب من العبد إلا بمجرد المشيئة ومحض الإرادة فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن به أنه إذا صدقه في الرغبة والرهبة وتضرع إليه وسأله واستعان به وتوكل عليه أنه يخيبه ولا يعطيه ما سأله فقد ظن به ظن السوء، وظن به سبحانه خلاف ما هو أهله. ومن ظن أنه يثيبه إذا عصاه كما يثيبه إذا أطاعه، وسأله ذلك في دعائه فقد ظن به خلاف ما تقتضيه حكمته وحمده، وخلاف ما هو أهله وما لا يفعله. ومن ظن به أنه إذا أغضبه وأسخطه وأوضع في معاصيه ثم اتخذ من دونه أولياء، ودعا من دونه ملكاً أو بشراً حياً أو ميتاً يرجو بذلك أن ينفعه عند ربه ويخلصه من عذابه فقد ظن به ظن السوء. فأكثر الخلق -بل كلهم إلا من شاء الله- يظنون بالله غير الحق وظن السوء؛ فإن غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوس الحق ناقص الحظ، وأنه يستحق فوق ما شاءه الله وأعطاه، ولسان حاله يقول: ظلمني ربي ومنعني ما أستحقه. ونفسه تشهد عليه بذلك، وهو بلسانه ينكره ولا يتجاسر على التصريح به، ومن فتش نفسه وتغلغل في معرفة طواياها رأى ذلك فيها كامناً كمون النار في الزناد، فاقدح زناد من شئت ينبئك شَراره عما في زناده، ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعنتاً وتعتباً على القدر وملامة له واقتراحاً عليه خلاف ما جرى به، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقل ومستكثر، وفتش نفسك هل أنت سالم من ذلك؟! فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة وإلا فإني لا إخالك ناجياً فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا الموضع، وليتب إلى الله ويستغفره في كل وقت من ظنه بربه ظن السوء، وليظن السوء بنفسه التي هي مادة كل سوء ومنبع كل شر، المركبة على الجهل والظلم، فهي أولى بظن السوء من أحكم الحاكمين وأعدل العادلين وأرحم الراحمين، الغني الحميد الذي له الغني التام، والحمد التام، والحكمة التامة، المنزه عن كل سوء في ذاته وصفاته وأفعاله وأسمائه، فذاته لها الكمال المطلق من كل وجه، وصفاته كذلك، وأفعاله كلها حكمة ومصلحة ورحمة وعدل، وأسماؤه سبحانه كلها حسنى: فلا تظنن بربك ظن سوء فإن الله أولى بالجميل ولا تظنن بنفسك قط خيراً فكيف بظالم جانٍ جهول وقل يا نفس مأوى كل سوء أترجو الخير من ميْت بخيلِ وظنّ بنفسك السوءى تجدها كذاك وخيرها كالمستحيل وما بك من تقى فيها وخير فتلك مواهب الرب الجليل وليس لها ولا منها ولكن من الرحمان فاشكر للدليل قوله سبحانه: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} [الفتح:6]، قال ابن جرير في تفسيره: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} [الفتح:6] الظانين بالله أنه لن ينصرك وأهل الإيمان بك على أعدائك، ولن يظهر كلمته فيجعلها العليا على كلمة الكافرين به، وذلك كان السوء من ظنونهم التي ذكرها الله في هذا الموضع. يقول تعالى ذكره: على المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الذين ظنوا هذا الظن دائرة السوء. يعني: دائرة العذاب تدور عليهم به. واختلف القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء الكوفة: (دائرة السَوء) بفتح السين، وقرأ بعض قراء البصرة: (دائرة السُوء) بالضم، وكان الفراء يقول: الفتح أفشى في السين، وقلما تقول العرب: (دائرة السُوء) بضم السين. وقوله: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [الفتح:6] يعني: ونالهم الله بغضب منه (ولعنهم). يقول: وأبعدهم فأقصاهم من رحمته. {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ} [الفتح:6] يقول: وأعد لهم جهنم يصلونها يوم القيامة {وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [الفتح:6] يقول: وساءت جهنم منزلاً يصير إليه هؤلاء المنافقون والمنافقات والمشركون والمشركات. وقال العماد ابن كثير رحمه الله تعالى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} [الفتح:6] أي: يتهمون الله في حكمه، ويظنون بالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن يُقتلوا ويذهبوا بالكلية، ولهذا قال تعالى: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} [الفتح:6]. وذكر في معنى الآية الأخرى نحواً مما ذكره ابن جرير رحمهما الله تعالى]. قول الله جل وعلا: ((ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات)) يعني: أنزل الكتاب على رسوله صلى الله عليه وسلم مخبراً بالحق الذي يثيب به المؤمنين، ويعذب به الذين يصدون وينحرفون عما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ويعتقدون خلاف ذلك ويتوقعونه. فالظن الذي يظنونه هو شيء يتوقعونه في أنظارهم وأفكارهم، وهذا الذي ينظرون إليه هو من صنع الكفار، فهم يقولون: المسلمون ضعفاء وقلة والكفار أقوياء وكثيرون، فسوف يقضون عليهم فلا تبقي لهم باقية بعد ذلك. وذلك لأنهم لا يصدقون وعد الله ولا يؤمنون بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن الله وعد رسوله النصر والظفر، ووعده أن يظهر دينه على الدين كله. فالمؤمنون يثقون بوعد الله ويؤمنون به، يثقون به يقيناً، ويظنون بالله خيراً، وأنه سينصر من يؤمن به ويتبع رسوله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء المشركون والمنافقون يظنون خلاف ذلك، والظن هو ما يقوده نظرهم إليه من حمل الأمور التي يقيسونها على ما يشاهدونه، وهم لا يؤمنون بوعد الله وبخبره الذي أخبر، فصار من جراء ذلك أن ظنوا بالله ظن السوء. وقوله: ((عليهم دائرة السوء)) معنى الدائرة أن السوء سيدور عليهم ويتعاقب عليهم حتى يوردهم جهنم. وقوله: ((وغضب الله عليهم ولعنهم)) غضب الله جل وعلا صفة من صفاته، فهو يغضب على من يشاء كما أنه يرضى عمن يشاء من عباده، فمن غضب عليه فهو هالك وله العذاب؛ لأن من لازم الغضب العذاب، وليس العذاب هو الغضب، فالغضب صفة من صفاته جل وعلا، فإذا غضب الله جل وعلا عذب، وكذلك يلعن من يشاء من خلقه، كما أنه يصلي على من يشاء من عباده، فقد أخبر الله جل وعلا أنه يصلي على المؤمنين هو وملائكته. ومعنى اللعن: الطرد والإبعاد عن الرحمة. وقوله: ((وأعد لهم جهنم)) يعني أنها مهيأة ومرصدة تنتظرهم في هذا الوقت، أي: الوقت الذي كان يخاطب الله جل وعلا به رسوله. فهي موجودة متهيئة معدة تنتظرهم، وسوف يصلونها قريباً، وليس بينهم وبين ذلك إلا الموت، فإذا ماتوا وصلهم من جهنم وهم في قبورهم ما يصل إليهم من العذاب الذي يكون في البرزخ، وقد جاء ذلك صريحاً في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد ذكر أن الرجل إذا كان من أهل السوء ووضع في قبره فتح له باب إلى النار، فيأتيه من ريحها وحرها وسمومها ونتنها ما يعذبه الله به إلى يوم القيامة. وإذا كان الإنسان صالحاً تقياً فُتح له في قبره باب إلى الجنة يأتيه من روحها وريحانها ما يتنعم به في قبره إلى يوم القيامة.

مسائل مستفادة في الباب

مسائل مستفادة في الباب [قال المصنف رحمه الله تعالى: فيه مسائل: الأولى: تفسير آية آل عمران]. آية آل عمران قد تقدم تفسيرها. [الثانية: تفسير آية الفتح. الثالثة: الإخبار بأن ذلك أنواع لا تحصر]. يعني أن ظن السوء بالله أنواع كثيرة جداً، كما قال ابن القيم رحمه الله: أكثر الناس يظنون بالله ظن السوء، وهذا يكون كامناً في النفس كمون النار في الزناد، فإذا جاءت مناسبة ظهر ذلك على اللسان، وظهر من الفعل ما يكون شاهداً لمن له سمع وبصر يسمع ويرى. فإنما يخاف ربه جل وعلا من علم مقتضى حكمته ومقتضى أسمائه، فإذا سلم الإنسان من أن يظن بربه جل وعلا خلاف حكمته وخلاف مقتضى أسمائه وخلاف الحق فإنه يكون سالماً ناجياً بإذن الله تعالى، وإن لم يسلم فهو هالك، وقد أخبر الله جل وعلا أن من كان كذلك فعليه دائرة السوء. [الرابعة: أنه لا يسلم من ذلك إلا من عرف الأسماء والصفات وعرف نفسه]. معنى (عرف الأسماء والصفات) أن يعرف معانيها وهذه الأسماء قال عنها الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله تسعة وتسعين اسماً، من أحصاها دخل الجنة) قال العلماء: (أحصاها): أطاق العمل بها بعد معرفة معانيها، كما قال الله جل وعلا: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} [المزمل:20] يعني: لن تطيقوا الأوامر كلها، ولكن عليكم من العمل ما تستطيعون فلابد من المعرفة والإيمان بذلك ثم العمل. والحقيقة أن معرفة أسماء الله جل وعلا هو الفقه الأكبر الأعظم الذي يجعل الإنسان عالماً بالله جل وعلا. والعلماء ثلاثة أقسام: عالم بالله عالم بأحكامه، وهذا هو الصنف الكامل، وهو الذي يكون منه من يخشى الله جل وعلا، كما قال جل وعلا: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]. والثاني: عالم بالله غير عالم بالأحكام، وهذا منطبق على أهل التقى وأهل التعبد الذين قصروا أنفسهم على ذلك ولم يتعرفوا على الأحكام التي على المكلفين وتنزيلها من كتاب الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما يهتمون بأنفسهم فقط. الثالث: عالم بالأحكام غير عالم بالله، وهذا يكون من الهالكين، ولهذا أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن القضاة ثلاثة، اثنان في النار، وواحد في الجنة، فاللذان في النار أحدهما لم يعرف الأحكام فقضى بين الناس بالجهل فهو مخطئ وإن أصاب ما دام أنه غير عالم؛ لأنه سيتخبط، وتخبطه يدعوه إلى النار، والثاني عرف حكم الله ولكنه قضى بخلافه فهو في النار، والثالث عرف الحق وقضى به فهو في الجنة، فالعلماء أقسام مثل هذا التقسيم، ومثل ذلك الفتوى والتعليم، وكل ما يتصل بالناس ويتعلق بأحكام الله جل وعلا فهو على هذا المنوال، فالذي يكون عالماً بالله هو الذي يعلم معاني أسمائه جل وعلا وصفاته. وذلك أن الله جل وعلا يخبر عن نفسه بأخبار يريد من العباد أن يفهموها ويفقهوها، ويخبر عن نفسه بالصفات وبالأسماء وبالأفعال التي يفعلها حتى يتعرفوا على ربهم جل وعلا، فالمؤمنون عرفوا الله جل وعلا بأسمائه وصفاته وأفعاله كما أنه في فطرهم إيمان يدعوهم إلى أن يعبدوا الله جل وعلا، فهؤلاء هم العلماء الذين يكونون علماء بالله جل وعلا. فالله ليس كمثله شيء، فلا يقاس عليه تعالى وتقدس أحد، فليس هناك طريق إلى معرفة الله جل وعلا إلا عن خبره الذي أخبر به عن نفسه وجاء به رسوله صلى الله عليه وسلم. ومن هنا يتبين خطأ الذين يقولون: إن النظر في أسماء الله وصفاته والتعمق في ذلك لا داعي له؛ لأنه ليس عملياً. وهذا يدل على الجهل العظيم؛ لأن هذا هو أصل العلم الذي تكون به السعادة، والواجب على العبد أن يتعرف على ربه جل وعلا بأسمائه التي عرف بها عباده، كما قال جل وعلا: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180]، ففي هذه الآية وغيرها يخبر جل وعلا أن له الأسماء الحسنى، ويأمر بدعائه بها، أي: أن يُعبد بها، ومن عبادته تعلمها واعتقاد معناها ثم العمل على ما اعتقده.

شرح فتح المجيد [126]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [126] إنكار علم الله الأزلي ناقض من نواقض الإسلام، ولا يستقيم إيمان المرء حتى يؤمن بمراتب القدر الأربع، وأهمها الإيمان بعلم الله الأزلي للكليات والجزئيات، فلا يقع في ملكه إلا شيء قد علمه، وكتبه، وشاءه، وخلقه.

حكم إنكار القدر

حكم إنكار القدر قال رحمه الله تعالى: [قال المصنف رحمه الله تعالى: باب ما جاء في منكري القدر]. قوله: (باب: ما جاء في منكر القدر) يعني: ما جاء من ذكر بعض الوعيد الذي جاء فيمن ينكر القدر، والقدر المقصود به. علم الله جل وعلا الأزلي؛ فإنه علم كل شيء بعلمه الذي هو صفته ولا ينفك عنه بحال من الأحوال، فعلمه أزلي ليس له بداية، فكما أن الله جل وعلا لا بداية له فكذلك صفاته، فهو جل وعلا بصفاته أزلي، فعلمه لا يتغير ولا يزداد علماً بإيجاد الأشياء؛ لأن علمه كامل لا يفوته شيء. وقد علم كل حادث سيحدث قبل وجوده، وكل ذلك كتبه في اللوح المحفوظ، فلا يقع شيء إلا وهو مكتوب، ثم كذلك لا يقع شيء إلا بمشيئته وخلقه.

مراتب القدر

مراتب القدر والقدر عبارة عن هذه الأمور: الأول: العلم، أي: علم الله، فإنه عليم بكل شيء. والثاني: الكتابة. كتب ما علم. والثالث: المشيئة. فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وما يقع شيء وإن دق إلا قد شاءه جل وعلا، حتى نبض عروق الإنسان وتحريك يده وإصبعه، فكل شيء من حركة وسكون لا يمكن حصوله إلا بمشيئة الله. والرابع: الخلق، فهو الخالق وحده ليس معه من يخلق، وهذه الأمور الأربعة تسمى أركان الإيمان بالقدر، ولابد من الإيمان بها. وقد حدث في المسلمين إنكار القدر، وإنكار أن يكون الله جل وعلا علم الأشياء أزلاً، ثم كتبها، وهذا حدث في آخر وقت الصحابة رضوان الله عليهم، فكفروا من قال بهذا القول وتبرأوا منه، وأخبروا أنه لو عمل أي عمل فلن يقبل منه؛ لأنه ترك الإيمان بالله، والإيمان بالله جل وعلا في ضمنه الإيمان بالقدر.

أول من قال بنفي القدر

أول من قال بنفي القدر قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال ابن عمر: (والذي نفس ابن عمر بيده لو كان لأحدهم مثل أحد ذهباً ثم أنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر) ثم استدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره) رواه مسلم. المصنف رحمه الله اختصر الحديث اختصاراً كثيراً، والحديث كما في صحيح مسلم أن رجلين من التابعين أتيا من البصرة وإنكار القدر أول ما حدث حدث في العراق، ويقال: إن أول من تكلم به وأنكره معبد الجهني وقد قتله عبد الملك بن مروان على إنكار القدر، ويقال: إن أول من تكلم به أيضاً رجل من المجوس يقال له سوسن وبعض المؤرخين يقول: إن أول من تكلم به بعض النصارى، فيكون معبد الجهني أخذه عن هؤلاء. ويقول بعض العلماء: إن هذا ليس رجلاً واحداً، وإنما هي مؤسسات أُسست لمحاربة الإسلام، فقد يكون من يعتنق أفكار هذه المؤسسة عنده جرأة، فيكون واجهة فيتكلم بالشيء الذي يعرف، وهؤلاء الذين أسسوا ذلك يعلمون أنه لو تكلم به أحد سيقتله المسلمون، فجعلوا لهم واجهات تقوم بهذا الشيء. فكان هذا الحدث مبدؤه في العراق في البصرة والكوفة، وقد جاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دعا قال: (اللهم بارك لنا في يمننا، فقال الصحابة: وفي نجدنا! فقال: اللهم بارك لنا في يمننا، اللهم بارك لنا في شامنا، وهم يقولون: وفي نجدنا، فقال: ذاك يطلع منه قرن الشيطان) أي: يطلع منه الفتن. قالوا: النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا وهو في المدينة، فيكون المقصود بذلك العراق، هكذا قال بعض الشراح، والواقع يشهد بهذا، ولهذا أول الفتن جاءت من هناك، وهذا الحدث من أولها. يقول يحيى بن يعمر: خرج عندنا في البصرة من ينكر القدر، فقدمت أنا وصاحب لي حاجين أو معتمرين، فلما أقبلنا على المدينة قلنا: لو لقينا أحداً من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فنسأله، فوجدنا عبد الله بن عمر داخلاً المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي وظننت أن صاحبي يكل الكلام إلي فقلت: يا أبا عبد الرحمن إن عندنا أقواماً يتقفرون العلم -وذكر من عبادتهم- إلا أنهم يقولون: الأمر أنف -أي: أنه ليس معلوماً لله سابقاً ولا مكتوباً وإنما يعلمه إذا وجد- فقال عبد الله بن عمر: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني منهم بريء وأنهم مني برآء، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً ثم أنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، ثم قال: حدثني عمر أنه كان جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فطلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد، فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه -يعني: على فخذي نفسه- فقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام، فقال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، فقال: صدقت، فعجبنا له يسأله ويصدقه، ثم قال: أخبرني عن الإيمان، قال: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره -هذا محل الشاهد-، ثم قال: أخبرني عن الإحسان، قال: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، فقال: أخبرني عن الساعة، قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، قال: أخبرني عن أماراتها، قال: أن تلد المرأة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رِعاءَ الشاة يتطاولون في البنيان، ثم انطلق فلبثت ملياً، ثم قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عمر! أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: ذاك جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم)، ورواه البخاري من حديث أبي هريرة، وفي آخره: أن الرجل قام وذهب مولياً، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (ردوا علي الرجل)، فقاموا ليردوه فلم يروا أحداً، فأخبرهم أنه جبريل جاءهم يعلمهم أمر دينهم. فالمقصود أن عبد الله بن عمر حلف بالله أنه لو كان لأحدهم مثل أحد ذهباً -ومثل هذا لا يكون ولكن تقديراً- ثم أنفقه في سبيل الله فأنه لا يقبل منه شيء حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، ومعنى ذلك أن الذي يرد القدر يكون كافراً غير مؤمن؛ لأن الذي لا يقبل منه العمل وإن كان كثيراً هو الكافر، وقد اتفق العلماء على أن الذي ينفي علم الله في الأزل أنه كافر بالله جل وعلا. ولهذا كان الشافعي يقول: ناظروهم بالعلم، فإن أقروا به خصموا، وإن أنكروه كفروا، أي: كفر إنكار، ولكن هذه الطائفة انقرضت وأصبحت لا وجود لها، وذهبت إلى غير رجعة إن شاء الله، فهذا كفر ظاهر مخالف للنصوص الواضحة الجلية، ولكونه واضحاً جلياً، فقد أصبح منبوذاً من قبل المسلمين فلا يلتفت إليه، فانقرض القائلون به واندثروا، ولكن فكرتهم ومحنتهم لا تزال موجودة؛ لأنها أقل من هذا القدر، فأصبح إنكار القدر يدور على شيئين: الأول: إنكار عموم مشيئة الله، أي: أنه ليس كل شيء يقع قد شاءه الله. الثاني: عموم خلق الله، أي: أنه يوجد مع الله خالق يخلق الشيء، وهل هذا دون الأول؟ إذا اعتقد الإنسان أن هناك مخلوقاً يخلق مع الله، هل هذا دون إنكار العلم؟ في الواقع هم لا يقولون ذلك صراحة لا يقولون: إنهم مشاركون لله جل وعلا في الخلق والإيجاد، ولكن هذا هو لازم قولهم، فهم أقل من أولئك، ووجه ذلك أنهم قالوا: إن الله لم يشأ الكفر ولا المعاصي، وإنما الذي شاء الكفر والمعاصي هم الكفار والعصاة؛ لأن الله لا يأمر بالفساد ولا يحبه، فالذي دعاهم إلى ذلك حسن ظنهم بالله جل وعلا، ولكنهم أخطأوا ووقعوا في الضلال البين الواضح. أما أصحاب القول الثاني فإنهم يقولون: إن العاصي أو الكافر هو الذي يوجد المعصية أو الكفر بنفسه، وليس الله هو الذي أوجد ذلك، فيكون العبد خالقاً لفعله. فيقال لهم: يلزم على هذا أن الله أراد من الكافر أن يؤمن ومن العاصي أن يطيع، ولكن العاصي أراد المعصية والكافر أراد الكفر فأيهما غلب؟ فعلى هذا يكون الكافر قد غلبت إرادته، وكذلك العاصي غلبت إرادته إرادة الله جل وعلا، تعالى الله وتقدس. وهذا ضلال بين ظاهر واضح، وهو لا يزال موجوداً حتى الآن عند من يزعمون أنهم علماء، وهذا إنكار لعموم مشيئة الله وخلقه جل وعلا.

مدار الإيمان بالقدر

مدار الإيمان بالقدر ولهذا قلنا: إن مدار الإيمان بالقدر على أمور أربعة: الأول: الإقرار بعلم الله جل وعلا الأزلي، وأنه لا يفوته شيء، وعلم كل شيء، فكل شيء يقع على وفق علمه في الوقت المحدد له. الثاني: الكتابة: كتابته جل وعلا. الثالث: عموم مشيئته. الرابع: عموم خلقه. [أخرج أبو داود عن عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (القدرية مجوس هذه الأمة، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم)]. قد حكموا بأن كل الأحاديث التي جاءت بذكر القدرية وذكر المجوس، والأحاديث التي جاءت بذكر الرافضة والشيعة غير صحيحة، ووجه تشبيه القدرية بالمجوس واضح جلي، وذلك أن المجوس يزعمون أن الخالق اثنان: أحدهما خيري، والآخر: شري، فخالق الخير عندهم هو النور، ولهذا يعبدون النار؛ لأنها مصدر النور، وأما خالق الشر فهو الظلمة، والظلمة هي مصدره، وهو شرير. والقدرية قالوا: إن الله يخلق الخير والعبد يخلق الشر. فجعلوا مع الله خالقاً، فشابهوا المجوس في ذلك، فسموا مجوس هذه الأمة. وقوله: (إذا مرضوا فلا تعودوهم وإذا ماتوا فلا تشهدوهم) أي: أنهم يهجرون على هذا القول؛ لأن قولهم ضلال خرجوا به عما اعتقده المسلمون؛ فوجب هجرهم والابتعاد عنهم، وهجرهم لأجل إنكار منكرهم.

القدرية مجوس هذه الأمة

القدرية مجوس هذه الأمة [وعن عمر مولى غفرة عن رجل من الأنصار عن حذيفة -وهو ابن اليمان - رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لكل أمة مجوس، ومجوس هذه الأمة الذين يقولون: لا قدر، من مات منهم فلا تشهدوا جنازته، ومن مرض منهم فلا تعودوه، وهم شيعة الدجال، وحق على الله أن يلحقهم بالدجال)]. وهذا حديث ضعيف. قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: قال ابن عمر: (والذي نفس ابن عمر بيده) إلى آخره. حديث ابن عمر هذا أخرجه مسلم. [حديث ابن عمر هذا أخرجه: مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة عن يحيى بن يعمر قال: كان أول من تكلم في القدر بالبصرة معبد الجهني، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر؟ فوفق الله تعالى لنا عبد الله بن عمر داخلاً المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي، فقلت: أبا عبد الرحمن! إنه قد ظهر قبلنا أناس يقرأون القرآن ويتقفَّرون العلم -يتقفرون العلم أي: يبحثون عنه ويطلبونه- يزعمون أن لا قدر والأمر أنف، فقال: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً، فأنفقه في سبيل الله، ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر. ثم قال: حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد)]. استغرب الصحابة كيف أن ثياب الرجل ناصعة نظيفة، وشعره كذلك أسود ليس فيه شيء من الغبار!! ولهذا قال: (لا يرى عليه أثر السفر)، ولا أحد من أهل المدينة يعرفه، فأمره غريب، وهنا وجه الغرابة، وذلك أن جبريل عليه السلام أحياناً يأتي متمثلاً برجل، وإذا تمثل يتمثل برجل حسن الهيئة، وقد يتمثل برجل حسن الصورة، كما كان يتمثل بـ دحية الكلبي -وكان رجلاً جميلاً حسن الصورة- فرئي مراراً فيحسب أنه دحية، فرأته عائشة مرة يحدث الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما سألها من هذا؟ قالت: هذا دحية الكلبي قال: لا. هذا جبريل عليه السلام. وهذا نوع من أنواع الوحي، وهو أن يأتي بصورة رجل فيكلم الرسول صلى الله عليه وسلم كلاماً يسمعه ويأخذه عنه، وأحياناً يأتي لا يرى، بل كصلصة الجرس فيلابس الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أشده عليه، حيث يتفصد جبينه عرقاً وإن كان في أشد البرد. ومرة نزل قول الله جل وعلا: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء:95] إلى آخر الآية، فأمر زيد بن ثابت أن يكتب الآية، وكان ابن أم مكتوم موجوداً، فقال: يا رسول الله! ونحن -يعني أنه ضرير-؟ يقول: وكانت فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجلي، فتغشاه ما يتغشاه في الوحي، فكادت رجلي أن ترض من ثقل الوحي الذي نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل عليه: {غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ} [النساء:95] فهذا الاستثناء نزل في ابن أم مكتوم وأمثاله. وأحياناً إذا نزل عليه الوحي وهو على الناقة تكاد تبرك لثقل ذلك، وأحياناً يأتيه على غير هذه الصفة، كأن يأتيه في المنام فهو أنواع متعددة، ولكن كلها بواسطة جبريل صاحب الوحي. [(حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام!)]. بهذه الطريقة جاء ليعلم الصحابة الأدب، وأنه ينبغي أن يُجلس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم كالجلوس في الصلاة للتشهد. ومعنى: (أسند ركبتيه إلى ركبتيه) أي أن جبريل جعل ركبتيه مقابلتين لركبتي النبي صلى الله عليه وسلم، ثم وضع يديه على فخذيه -أي: على فخذي نفسه- متأدباً على هذه الهيئة؛ ليقول: ينبغي أن يكون الجلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا للتعلم منه، وطلب العلم، وكذلك طلب الإيمان الذي يزداد بالعلم الذي يلقيه الرسول صلى الله عليه وسلم على صحابته، فهو يعلمهم الأدب ويعلمهم الدين. [(قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام: أن تشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً، قال: صدقت، فعجبنا له يسأله ويصدقه)]. وجه العجب هنا أن مقتضى حال السائل أن يسأل عن شيء لا يعلمه، فلما قال: صدقت؛ تبين أنه يعلم الشيء الذي سأل عنه؛ لأنه لو كان جاهلاً ما قال: صدقت. [(قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقت)]. قوله: (وتؤمن بالقدر خيره وشره) يعني: تؤمن بأن كل ما يقع من خير أو من شر أنه مقدر من الله جل وعلا، ومفروغ منه في الأزل، ولابد من وقوعه، ولا يمكن تغييره ولا تبديله ولو اجتمع الخلق كلهم؛ لأن هذا حكم الله الذي حكم به أزلاً، والشر لا يجوز أن يكون مضافاً إلى الله -ولكن سببه الإنسان؛ لأنه يقع شراً بالنسبة إليه جزاء له، وإلا فهو من الله عدل وحق يجازي به من يستحقه، فيكون الشر هنا نسبياً، ومعنى ذلك أنه بالنسبة لمن وقع عليه فقط، أما بالنسبة لمن قضاه وقدره وأوقعه فهو خير. وتقريب المسألة في ذلك كأن يرتكب إنسان حداً من الحدود، فأقيم عليه الحد -كسرقة أو زنا أو ما أشبه ذلك-، فإقامة الحد بالنسبة للمجتمع خير؛ لأنها تمنع من الفساد وانتشاره واغتصاب الأموال وانتهاك الأعراض، فهو خير، وكذلك هو من الذي حكم به خير وعدل، أما بالنسبة للذي وقع عليه الحد فقد يكون فيه شر من الألم والفضيحة والخزي فيكون من هذه الناحية شراً فقط، وبعض العلماء يقول: الشر ليس إلا في المخلوقات فقط، أما في فعل الله جل وعلا فليس شر ما يفعله الله، بل خير كله، والمقصود بقوله: (خيره وشره) أن كل شيء يقع سواء أكان محبوباً مرغوباً فيه أم مكروهاً مؤلماً فهو بقدر الله جل وعلا وقضائه وقدره.

من علامات الساعة

من علامات الساعة [(قال: فأخبرني عن الإحسان قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: فأخبرني عن الساعة قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل)]. معنى قوله: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل) أن علم الساعة استوى الخلق فيه، حتى الملائكة والرسل لا يعلمون ذلك، وإنما هو مستأثر عند الله جل وعلا، لا يعلم وقتها إلا الله جل وعلا، كما أخبر جل وعلا أنه أخفى علم الساعة عن جميع الخلق: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} [طه:15] فهي واقعة، ولكن وقت وقوعها غير معلوم. يقول علماء التفسير في معنى قوله: (أكاد أخفيها) قالوا: قد أخفاها الله عن الخلق، لكن المعنى: لو أمكن أن أخفيها عن نفسي لأخفيتها؛ وهذا إخبار عن شدة إخفائها، فلا أحد يعلمها، ولله الحكمة في ذلك. ولهذا عدل عن ذلك إلى السؤال عن أماراتها -أي: العلامات- التي تكون قبلها، وعلاماتها كثيرة، ومن أول تلك العلامات: بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو نبي الساعة وعلى أمته تقوم الساعة، والله جل وعلا يقول: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1] يعني أنها قريبة، وما ذكر الله جل وعلا أنه قريب فهو قريب بلا شك، وقد مضى على بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ألف وأربعمائة عاماً، وكان بعض العلماء يتوقع من هذه الأمة ألا تبلغ الألف عام، وبعضهم يتوقع أنها تبلغ الألف، ولكن هذا كله لا دليل عليه ولا أمارات عليه، فأمر ذلك إلى الله جل وعلا لا يعرفه إلا الله، ومن علامات الساعة ما ذكرت في هذا الحديث وهي ما سيأتي. [(قال: فأخبرني عن أماراتها، قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان)]. العلامتان ذكر أنهما من علامات الساعة، إحداهما: أن تلد الأمة ربتها -وفي رواية: ربها- والمعنى أن تلد سيدها أو سيدتها، فكيف يكون ذلك؟ يقول العلماء: معنى ذلك: أن تسبى امرأة من الكفار فتكون أمة مملوكة لرجل من المسلمين، فيطؤها فتلد له بنتاً، فتكون بنتها هي التي تعتقها، فهي سيدتها؛ لأنها إذا ولدت الأمة فلا يجوز بيعها، بل تصبح أم ولد معتقة، فيعتقها ابنها أو بنتها، وهذا قد حدث في زمن الصحابة. أما العلامة الثانية فهي كون البدو رعاء الشاء -رعاة الغنم والإبل- أهل تمدن يتطاولون في البنيان، أي: يتنافسون في البناء وحسنه وارتفاعه. وهناك علامات لم تذكر هنا، قد ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم وهي كثيرة، ولهذا قسم العلماء العلامات إلى ثلاثة أقسام: قسم متقدم، وقسم متوسط، وقسم متأخر قبل الساعة تماماً، والمتأخر سموه (العلامات الكبرى) والذي قبله يسمونه: (الوسطى)، والتي قبلها -مثل هذه وغيرها- يسمونها: (العلامات الصغرى).

شرح فتح المجيد [127]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [127] الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان الستة، ومن لم يؤمن بالقدر فليس بمسلم، فضلاً عن أن يكون مؤمناً، وهو يقوم على أربعة أركان، وهي: الإيمان بصفة العلم لله، والإيمان بأن الله كتب كل ما سيقع، والإيمان بأن مشيئة الله نافذة، والإيمان بأن الله هو الخالق وحده وأن ما سواه مخلوق، ومن ذلك أفعال العباد.

جريان القلم بكل ما هو كائن إلى يوم القيامة

جريان القلم بكل ما هو كائن إلى يوم القيامة [وعن عبادة بن الصامت أنه قال لابنه: (يا بني! إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، فقال: رب وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة، يا بني! سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من مات على غير هذا فليس مني)، وفي رواية لـ أحمد: (إن أول ما خلق الله تعالى القلم، فقال له: اكتب فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة)، وفي رواية لـ ابن وهب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه الله بالنار)]. سبق أن الإسلام أعم من الإيمان من ناحية مرتبته وأهله الذين يدخلون فيه، والإيمان أخص من ناحية الذين يدخلون فيه، وأما من ناحية كون الإيمان يدخل فيه الإسلام والإسلام لا يكون داخلاً فيه الإيمان فيكون العكس فهذا في حالة ما إذا اجتمع ذكرهما جميعاً، أما إذا جاء ذكر كل واحد منهما منفرداً فكل منهما يدخل في الآخر، كما قال الله جل وعلا: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، فجعل الدين كله الإسلام، وكذلك قول الله جل وعلا: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2] إلى آخر الآيات، وقوله: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} [البقرة:285]، وقوله: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ} [البقرة:177] إلى آخر الآية. فإذا جاء أحدهما منفرداً دخل فيه الآخر، ولهذا نظائر في لغة العرب، كإطلاق وصف الفقير والمسكين، فإنهما إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا، فإذا ذكر الفقير دخل فيه المسكين، وإذا ذكر المسكين دخل فيه الفقير. أما إذا ذكرا معاً فيفسر كل واحد منهما بمعنى مستقل، كالآية التي ذكر الله جل وعلا فيها مصارف الزكاة: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:60] هنا ذكرا مجتمعين، فصار لكل واحد معناه، ولهذا فُسر الفقير بأنه الذي لا يجد شيئاً، وفُسر المسكين بأنه الذي يجد بعض الشيء أو بعض الكفاية؛ لأن الله جل وعلا قال في آية أخرى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف:79]، فسماهم مساكين مع أن لهم سفينة، فدل على أن المسكين أقل حاجة من الفقير، فالمقصود هنا التفريق بين الإسلام والإيمان. فعلى هذا يكون كل مؤمن مسلماً ولا عكس، فليس كل مسلم يكون مؤمناً، وكذلك يكون كل محسن مؤمناً مسلماً ولا عكس؛ فليس كل مؤمن يكون محسناً؛ لأن دائرة الإسلام أوسع، ويليها دائرة الإيمان، ويليها دائرة الإحسان فهي أخص، وهذه المراتب هي مراتب الدين، وآخرها وأعلاها مرتبة الإحسان؛ لأن الإحسان هو الإتيان بغاية ما يمكن من تحسين العمل المأمور به، ولا يترك شيئاً مما أمر به، ولهذا قسم الله جل وعلا أهل السعادة إلى أقسام ثلاثة، كما قال جل وعلا: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:32]، فالسابق بالخيرات هو المحسن والمقتصد هو المؤمن، والذي ظلم نفسه هو المسلم؛ لأنه قد يقصر في بعض الواجبات، ويرتكب المكروهات أو بعض المحرمات، فكان ظالماً لنفسه بذلك، ولكنه من أهل الاصطفاء وإن ناله ما يناله من العذاب، فهو ممن اصطفاه الله جل وعلا وجعله من أهل الجنة. وأما المقتصد فهو الذي اقتصر على فعل ما أوجب الله عليه ونهى نفسه عما حرم الله عليه، وأما السابق بالخيرات فهو الذي يأتي بالمستحبات ويجتنب المكروهات بعد فعله الواجبات واجتنابه المحرمات. وهذا لا ينافي كونه جل وعلا قسم الناس جميعهم إلى ثلاثة أقسام: قسمان من أهل الاصطفاء، وقسم هالك في العذاب، كما في أول سورة الواقعة وآخرها، فذكر أقسامهم في أولها عند النفخ في الصور. {إِذَا وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ} [الواقعة:1] يعني: قامت القيامة ونفخ في الصور، {ليس لوقعتها كاذبة * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} [الواقعة:2 - 3] يعني: تخفض قوماً وترفع آخرين على خلاف ما كان في الدنيا، فيُرفع من كان متقياً لله جل وعلا مؤمناً به، ويُخفض من كان كافراً وإن كان في الدنيا مرتفعاً. {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ * إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا * وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً} [الواقعة:3 - 7] يعني: أصنافاً ثلاثة، {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} [الواقعة:8] يعني: أصحاب اليمين من كل أمة من الأمم، ومن كل جنس من أجناس الناس. {وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} [الواقعة:9] أي: الكفرة والمنافقون والفجار، {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة:10] فهؤلاء هم الذين يسبقون إلى أعلى المراتب وأعلى الجنات، ولهذا قال: {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:13 - 14]، والثلة: الجماعة. ثم في آخر السورة ذكر أقسامهم عند الاحتضار -عند الموت-، فأولها عند القيامة الصغرى وآخرها عند القيامة الكبرى، {فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة:86 - 91] فسلم عليهم فقط ولم يذكر ما لهم؛ لأنهم سالمون من العذاب، ولم يذكر جزاءهم، بخلاف الأولين فإنه ذكر أن لهم من الحال ما يقَبلُون به فهم في أعلى المنازل. {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} [الواقعة:92 - 94]، وهذا عند الموت، فإذا مات فإنه يلاقى بحنوط من النار وكفن من النار، ثم في قبره كذلك. والمقصود أن اختلاف الناس على حسب اختلافهم في طاعة الله جل وعلا وامتثال أمره واجتناب ما نهى، فلا يستوي من أحسن ومن لم يحسن، ومجرد الإسلام -وهو الاستسلام والانقياد- لا يكون كالإيمان الذي تحلى القلب به وثبت في القلب وصار لا يتزعزع، ثم إن المقصود من ذكر الحديث كلامه صلى الله عليه وسلم في أركان الإيمان، فإنه جعل الإسلام غير الإيمان، فذكر الإسلام بأركانه الخمسة، وذكر الإيمان بأن قال: (الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره). فبين أن الإيمان خصال متعددة، ذكر منها أركانه الستة، وقد سميت أركاناً لأنه يبنى عليها مثل البيت الذي يبنى على ستة أعمدة إذا انهدم عمود منها لم يُنتفع بالباقي، بل ربما يؤول إلى السقوط، وكذلك الإيمان إذا ترك منه ركن، أو الإسلام، فلا يكون إيمانه أو إسلامه صحيح. فالذي لا يؤمن بالقدر لا يكون مؤمناً، ولهذا استدل عبد الله بن عمر على أنه خارج من الدين الإسلامي لقوله: (إذا لقيتهم فأخبرهم أني منهم بريء وأنهم مني برآء)، فالمسلم لا يمكن أن يتبرأ من المسلم -إذا كان باقياً على إسلامه- وإنما يبغضه على حسب ما عنده من المعاصي ويحبه على حسب ما معه من الإيمان والطاعة، ولا يتبرأ منه إلا إذا خرج من الدين، فإن المسلم يجب أن يتبرأ من الكافر براءة كاملة؛ لأنه لا يمكن أن يجتمع إيمان مع موالاة كافر، فهذا من شروط الإيمان، ولهذا قال: (أخبرهم أني منهم بريء وأنهم مني برآء)، ثم قال: (والذي يحلف به عبد الله بن عمر - الذي يحلف به هو الله جل وعلا، أو بصفة من صفاته، وهذا شيء معلوم- لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً ثم أنفقه في سبيل الله لم يقبله الله منه حتى يؤمن بالقدر خيره وشره)، وهذا تمثيل مجرد، وإلا لو قدر أن له ملء السماوات وملء الأرض ذهباً ثم أنفقه ما قبله الله جل وعلا منه؛ لأن الله لا يقبل من الكافر شيئاً، كما قال الله جل وعلا: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]، كقوله: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم:18]، فإذا طار الرماد في اليوم العاصف فلا يقدر على إمساك شيء منه، وكذلك أعمال الكفار عند الله، وفي المثال الآخر لما ذكر أنهم قسمان أصحاب ظلمات وأصحاب رد وكفر وعناد وكبر ذكر أعمال هؤلاء وأعمال هؤلاء، فجعل أعمال هؤلاء الذين كذبوا وكفروا: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} [النور:39]. هكذا يعملون ويحسبون أنهم على شيء، فإذا قدموا على الله بدا لهم ما لم يكونوا يحتسبون وظهر لهم العذاب، وهذا من أعظم الحسرات، ولهذا سمي ذلك اليوم يوم الحسرة، {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [مريم:39].

أركان الإيمان بالقدر

أركان الإيمان بالقدر فعلى هذا يتبين لنا أن الإيمان بالقدر لابد منه، ومن لم يؤمن بالقدر فليس بمؤمن، بل ليس بمسلم، فقد يكون كافراً وذكرنا أن أركان الإيمان بالقدر أربعة: الركن الأول: أن يؤمن الإنسان بصفة العلم لله لأنه عليم بكل شيء، وعلمه صفة ملازمة له جل وعلا، لا يجوز أن يكون في وقت من الأوقات سابقاً ولا لاحقاً حالياً من شيء من العلم تعالى الله وتقدس، وعلمه جل وعلا لا يزداد بوجود المعلومات شيئاً لم يكن له، وهو عليم بكل شيء، يعلم الأشياء التي لم توجد أنها ستوجد على صفة كذا في وقت كذا، فتوجد على وفق علمه بلا زيادة ولا نقصان، ولا تقدم ولا تأخر، فمن أنكر علم الله جل وعلا فهو كافر بالله جل وعلا، ولا ينفعه العمل مهما عمل. الركن الثاني: الكتابة أن الله كتب كل ما سيقع -كما سيأتي من حديث عبادة - إلى قيام الساعة، سواء أكان من عمل الإنسان، أم من حركات الشجر وعدد أوراقها وما سقط منها، وغير ذلك، فما تسقط من حبة في البر ولا في البحر، ولا تسقط ورقة من شجرة إلا في كتاب مبين كتبه الله جل وعلا، حتى تحركات وتخلجات عروق الإنسان، فكل حركة وكل سكون بعد الحركة وكل وجود وكل عدم كله مكتوب بلا زيادة ولا نقص. فالكتابة هي كتابة العلم الذي علمه الله في الخلق، وسيأتي ما المقصود بها في حديث عبادة؛ لأنه نص عليها. الركن الثالث: مشيئة الله لأنه هو رب الخلق كلهم، فلا يقع في ملكه -في الكون كله- شيء إلا بمشيئته، فما شاء كان على حسب مشيئته، وما لم يشأ لم يكن، والذي لا وجود له هو الشيء الذي لم يشأ وجوده جل وعلا. الركن الرابع: أن الله هو الخالق وحده، وما سواه مخلوق، فكل موجود من الحيوانات ومن بني آدم والملائكة وغيرهم كله مخلوق لله جل وعلا، وكذلك أفعال بني آدم مخلوقة لله جل وعلا؛ لأنه خلق الذات وخلق صفتها، ولكن جعل للعاقل قدرة وإرادة، ووكل إليه ما أمره به فيفعله، وما نهاه عنه فيتركه، وجعل ذلك إليه، والله يعلم أنه سيفعل أو لا يفعل؛ لأنه لا يخفى عليه شيء، ولهذا كتب فعله -سواء طاعة أو معصية- لعلم الله الأزلي المحيط بكل شيء. فإذا فهم الإنسان هذه الأمور الأربعة انحلت عنه إشكالات كثيرة ضل بها كثير من الناس كالقدرية، وأهل القدر قسمان: قسم نفوا القدر، وقسم أثبتوه وغلوا في إثباته حتى سلبوا الإنسان من قدرته واختياره، فجعلوا الإنسان بمنزلة الريشة التي تكون في مهب الريح تصرفها الريح كيف تشاء، فجعلوه كالآلة لا اختيار له ولا قدرة، وهؤلاء أشر من الأولين، وكلاهما شر وضلال وانحراف عن الحق، وكلاهما لم يفهم هذه الأمور الأربعة، وقالوا على حسب ما أدركته أنظارهم وعقولهم؛ إذ أعرضوا عن فهم كتاب الله وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فضلوا. فالمسألة عظيمة كبيرة؛ إذ لا يزال كثير من المسلمين تشكل عليه أمور فيها، مع أنها واضحة وجليه -والحمد لله- وليس فيها إشكال، والكفار اليوم كاليهود والنصارى يريدون أن يشككوا المسلمين ويخبروهم بأنهم عجزة متأخرون، ويقولون: السبب في ذلك أنهم يؤمنون بالقدر، فكلما وقع لهم شيء قالوا: هذا قدر فركنوا إلى الدعة والخمول وعدم العمل، فجعلوا إيمانهم بالقدر هو السبب في تأخرهم. فهذا كذب، فالمؤمن يؤمن بالقدر، وهو مع ذلك يعمل، بل إيمانه بالقدر يزيد في عمله، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له)، فلهذا صاروا يجتهدون في العمل، حتى قال بعضهم: لو كشف لي عن الأمور المغيبة -يعني لو رأيت الجنة والنار- ما استطعت أن أزداد عملاً؛ لأنه جاء بكل ما يستطيع، وهؤلاء هم الذين وصلوا إلى عين اليقين -فأيقنوا يقيناً صادقاً، وهذا هو إيمان الصحابة رضوان الله عليهم. ثم ذكر حديث عبادة -وقد اختصره المؤلف- وله روايات متعددة، وفي بعضها أنه دخل عليه ابنه وهو في مرض الموت وقد ظهرت عليه علامات الموت، فلما رآه ابنه قال: يا أبت! أوصني. عند ذلك قال: أجلسوني -لأنه سيجتهد في وصية ابنه- ثم قال له: يا بني! وذكر ما ذكره المؤلف. وقوله في هذا: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول ما خلق الله القلم قال: اكتب. قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة). القلم لا ندري ما هو، إلا أنه قلم مثل الأقلام التي يكتب بها، أما كونه من نوع معين وكقول ابن عباس: إنه من نور، أو من غير ذلك، فالله أعلم، ثم إنه كتب بقدرة الله، مثل قوله للشيء: (كن) فيكون، فهي كتابة بقدرة الله جل وعلا الذي يعلم الأشياء كلها، وإلا فالقلم لا يعلم الأشياء، ولا يعلم المستقبلات، ولا يعلم الماضيات، ولا يعلم شيئاً، وإنما الكتابة وقعت بقدرة الله جل وعلا بهذا القلم، فقوله جل وعلا للقلم: (اكتب)، كقوله جل وعلا للسماء: (أمطري)، أو لمن كان ميتاً وأراد إحياءه: (كن)، فقوله: (كن)، فيكون كما أراد جل وعلا. أيتصور أن القلم كتب بنفسه، وأنه علم الأشياء فكتبها؟ القلم لا علم عنده، وإنما هذا كتابة بقدرة الله جل وعلا، ولكن هذه القدرة جعلها الله في القلم، ثم الذي يكتب فيه هو اللوح المحفوظ، واللوح المحفوظ ليس محل الكتابة، وسمي لوحاً لأنه تلوح فيه الكتابة وتظهر وينظر إليها، وهو في مكان محفوظ لا يطلع عليه إلا رب العالمين جل وعلا، لا أحد يطلع عليه من الخلق، كما أخبر جل وعلا عن ذلك. فالله جل وعلا يقول: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [البروج:12 - 15] إلى أن قال: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ * بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:17 - 22] محفوظ عن ابتداع الخلق وعن الزيادة والنقص فيه، لا زيادة ولا نقص، فالله جل وعلا حفظه في المكان الذي يعلمه، فلهذا إذا أمر الملك بنفخ الروح في الجنين الذي في رحم المرأة وقال له: اكتب كذا وكذا فهذه الكتابة تكون بيد الملك، ولكنها منقولة مما في اللوح المحفوظ.

أنواع الكتابات

أنواع الكتابات والكتابات التي جاء ذكرها في النصوص متعددة: أولها: ما ذكر سابقاً، وهي الكتابة العامة الشاملة، فهي شاملة لجميع ما يقع بجميع ما يكون. وبعدها كتابة أخرى بعد وجود آدم، فإن الله جل وعلا استخرج ذريته وميز بعضهم من بعض، وجعلهم فريقين: فريق في السعير، وفريق في الجنة، كما جاءت النصوص في ذلك، فهذه الكتابة أخص، وهي متفقة مع الكتابة الأولى، وإنما هي مؤكدة لذلك، وليس فيها زيادة ولا نقص عنها. ثم كتابة ثالثة وهي الكتابة العُمْرية التي تكون خاصة لكل إنسان، أو التي تكون بيد الملك يكتبها في صحيفة ابن آدم، تكتب وهو في رحم أمه بعدما ينفخ فيه الروح، فيكتب رزقه وأجله وشقي أو سعيد، فهذا الملك يطلع على هذا الشيء بعد نفخ الروح فيه. وكتابة سنوية، يكتب في السنة كل ما سيقع فيها: من حوادث ومن موت ومن حياة ومن إعزاز ومن إذلال ومن ملك ومن نزع الملك ومن إيمان أو كفر أو عمل أو غير ذلك، كما قال جل وعلا: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [الدخان:1 - 5] يعني: في هذه الليلة يفرق كل أمر حكيم، يعني: كل أمر يقع في هذه السنة يكتب ويعلن وتعلمه الملائكة، ويقول جل وعلا في الآية الأخرى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر:2 - 6]. {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:1 - 3] وهي التي يفرق فيها كل أمر حكيم، هذه الليلة ليلة القدر، وهي في رمضان في كل سنة. وهناك كتابة يومية، وهي المذكورة في قوله جل وعلا: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29] تعالى وتقدس، جاء في الآثار: (كل يوم في شأن) يحيي ويميت، ويعز ويذل، ويرفع قوماً ويخفض آخرين، ويدبر شئون خلقه في كل يوم. هذه الكتابات التي جاءت في النصوص، وكلها راجعة إلى الكتابة الأولى التي هي في اللوح المحفوظ. فقوله: (فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة) هذا يدلنا على أن المكتوب هو ما سيقع لهذا الخلق في هذا العالم إلى قيام الساعة، أما بعد قيام الساعة فشيء لم يكتب، ولكن الله أخبرنا أن الجنة دائمة دوام السماوات والأرض، ومن فيها مخلدون منعمون، وأن النار كذلك دائمة دوام السموات والأرض، وأن من فيها {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} [فاطر:36]، فهم باقون معذبون، هذا في العموم، أما تفاصيل أمورها وما سيكون فالله أعلم بذلك.

ما هو أول المخلوقات

ما هو أول المخلوقات ثم قوله: (إن أول ما خلق الله القلم) يدل على أن أول المخلوقات على ظاهر الحديث، القلم، وقد اختلف العلماء هل القلم خلق قبل العرش أو العرش قبل القلم؟ والصواب أن العرش قبل القلم، والعرش كان على الماء، والدليل على هذا ما ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله كتب مقادير الأشياء قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء)، فدل هذا الحديث على أن العرش والماء كانا موجودين قبل خلق القلم. ثم قوله: (فجرى في تلك الساعة بما هو كائن) لا يقتضي هذا أن الإنسان مرغم على العمل الذي يقع منه، ليس كذلك، لكن الله علاَّم الغيوب قد علم أن هذا الإنسان سيوجد، وأنه سيعمل كذا وكذا باختياره وقدرته مختاراً مقدماً غير مُرْغَم، بل راغب، حتى لو أتيت إليه وحاولت منعه لقاتلك، فإن كان عاصياً وأردت أن تصده على المعصية يقول: مالك ولي فإذا قلت له: إنك متوعد بالنار قال: أعلم ذلك، دعني والنار فهل يكون اللوم على القدر، أو يكون عليه وهو الذي فعل باختياره؟ فالواقع أن الإنسان يعمل أعمالاً لا يدري ماذا كتبت عليه، وإنما تتبين الكتابة بعد وقوع العمل، فإذا كان الأمر هكذا فمعنى ذلك أن الله جعل الإنسان يفعل ما كتب عليه باختياره وغير مجبر ولا مقهور، ولهذا جاء تفسير اسمه الكريم جل وعلا الجبار في قوله: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} [الحشر:23]: فإن الجبار الذي جبر الخلق على أن يعملوا ما علم منهم، وليسوا مجبورين على ذلك بغير اختيارهم، بل فعلوه باختيارهم، ولهذا كان العلماء إذا قالت الجبرية: إن عبدة الأوثان مجبورون يقولون: تعالى الله وتقدس أن يجبر أحداً على غير مراده؛ فإنه القادر على كل شيء، فهو خلق الإنسان مريداً لما خلق له باختياره وقدرته، وإنما يجبر الضعيف. مثلما يقول الفقهاء: للأب أن يجبر بنته البكر على الزواج؛ لأنها قد لا تعرف مصلحتها. والإجبار يكون على غير اختيار، أما الله جل وعلا فيتعالى ويتقدس أن يجبر أحداً، بل جعل الأمر إلى الإنسان؛ لأنه خلقه عاقلاً مفكراً، وجعل له قدرة بها يفعل ما أراد بإرادته، فإذا وجدت القدرة والإرادة وجد المراد ولابد. والمقصود أنه إذا وقع منه الفعل فقد وقع بقدرته وإرادته، وعلى هذا استحق العقاب إذا كان الفعل معصية، واستحق الثواب إذا كان طاعة، هذا هو الذي ما احتملته عقول القدرية، فما استطاعوا أن يستوعبوا أن الإنسان يفعل باختياره -مع أن الله كتب عليه هذا الفعل- فعقولهم قاصرة؛ لأنهم لم يستنيروا بنور العلم الصحيح، ولم يهتدوا بهدي القرآن وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم فضلوا، وكل من لم يهتد بكتاب الله وسنة رسوله فلابد أن يضل؛ لأن الهدى محصور في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذه المشكلة لا تزال إلى الآن عند كثير من الناس، والآن أكثر المسلمين على مذهب القدر، فهم على مذهب الأشاعرة، والأشاعرة جبرية يقولون: الإنسان مجبور. ولكن لا يصرحون بهذا، بل يقولون: الإنسان كاسب لا عامل. ويفسرون الكسب بأنه مقارنة قدرة المخلوق التي لا تأثير لها بالفعل مقارنتها للفعل، أما التأثير بالفعل فالمؤثر فيه هو الله تعالى، حتى حداهم هذا إلى نفي الأسباب، حيث يقولون: إذا أتيت بحطب مثلاً وأججت فيه ناراً فماذا يقال لهذا؟ هل يقال: النار أحرقت الحطب؟ -هذا هو الظاهر الذي يتبادر لذهن كل إنسان، إذا سلم من الانحراف، أما الأشاعرة فلا يقولون بهذا أبداً، ولكن يقولون: إن الله خلق الاحتراق عند وجود ملامسة النار للحطب فخلق الاحتراق، فينكرونه في الأمور الظاهرة، فيقولون -مثلاً-: إذا ضربت زجاجة بحجر فكسرت هذه الزجاجة بالحجر هل يقال: إن الحجر كسر الزجاجة؟ يقولون: لا، ما كسر الحجر الزجاجة؛ لأن الحجر لا يكسر شيئاً، وإنما خلق الله الكسر عند ملامسة الحجر للزجاجة وهذا إنكار لأمور ظاهرة. وكذلك فعل الإنسان إذا أكل أو شرب، وإذا قام أو جلس، وإذا كفر أو آمن، فإن الله يخلق هذه الأشياء عند مقارنة قدرته غير المؤثرة في هذه الأشياء، ومعلوم أن هذا مذهب باطل، خلاف ما أخبر الله جل وعلا به؛ فإن الله يصف المؤمنين بالإيمان ويقول: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43]، ويصف الكافرين بالكفر، فيقع الكفر منهم حقيقة، ويقع الإيمان من المؤمنين حقيقة، ويقع الأكل من الآكل حقيقة، والنوم كذلك، وهكذا القيام والمشي وغير ذلك. وكل إنسان منا يجد في نفسه الآن أنه جاء إلى هذا المكان بإرادته وقدرته، ما أحد أرغمه على ذلك، فهكذا نقول في جميع الأعمال، وبهذا يتبين بطلان هذا المذهب الذي نقول: إنه الآن في جميع بلاد المسلمين ولا نقصد بذلك عوام المسلمين؛ لأن عوام المسلمين لا يعرفون هذه الأمور، ولا يقال فيهم: إنهم على هذا المذهب وإنما المقصود العلماء الذين يتبعهم الناس هذا مذهبهم، أكثر العلماء في العالم الإسلامي على هذا المذهب، ونحن نعرف أن هذا المذهب مذهب باطل، وإلا فالحق أن يؤمن الإنسان بما ذكر ويسلم من هذه الإشكالات وهذه الفلسفة الزائفة التي تؤدي إلى باطل، والأمر أوضح من هذا، والإنسان إذا قرأ النصوص الواردة عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم تجلى له الأمر وأصبح واضحاً إذا سلم من الانحراف. صحيح أن هناك معاني قد تشكل على كثير من الناس، ولكنها في الحقيقة ليست مشكلة، فالأمر فيها واضح، والفطرة التي فطر الله جل وعلا عليها عباده تتفق مع ما جاء في كتابه جل وعلا وما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم. هذا هو خلاصة مذهب أهل السنة والرد على هؤلاء المبتدعة. بقي أنه جاء في الأحاديث أن القدرية شيعة الدجال، وأنهم سيبقون على ذلك إلى قيام الساعة، وهذا موجود، ولكن القدر الذي صار إليه القدرية الذين كانوا في آخر عهد الصحابة الذين تبرأ منهم عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وحكموا بكفرهم، هؤلاء انقرضوا وزالوا ولا وجود لهم اليوم، هؤلاء هم الذين ينكرون علم الله جل وعلا، وإنكار العلم كفر صريح، ولا يشك في ذلك من يعرف صورة المسألة.

أصل مشكلة القدرية في أفعال الإنسان

أصل مشكلة القدرية في أفعال الإنسان أما المتأخرون منهم فإشكالهم في أفعال الإنسان، وأصل المشكلة عندهم جاءت من تفسير الظلم، وذلك أن الله جل وعلا نفى عن نفسه الظلم، كما قال جل وعلا: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]، وفي الحديث الصحيح: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)، {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه:112] الظلم هنا في الآية: أن يوضع عليه سيئة لم يعملها، أن يوضع عليه جزاء سيئة لم يعملها، وأما الهضم: أن يؤخذ شيء من حسناته، وهذا كثير في القرآن، قالوا: الظلم: هو التصرف في ملك الغير بغير إذنه أو بغير حق، هذا تفسير الظلم عندهم، وقالوا: مستحيل وقوع الظلم على هذا من الله جل وعلا؛ لأن كل شيء ملك لله جل وعلا، ويؤيدوا هذا القول بأحاديث جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها أن الله لو عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، قالوا: هذا دليل على ما نقول، ولكن ليس هذا معنى الحديث كما يقولون، معنى الحديث: أن أهل السموات وأهل الأرض لن يقوموا بما يجب لله جل وعلا على الوجه الأتم المطلوب فحق الله عظيم جداً، ولكن الله عفو كريم، يقبل القليل ويعفو عن الكثير، {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] جل وعلا. ثم قالوا: لو قلنا: إن الله جل وعلا كتب على الإنسان أعماله وقدرها وشاءها، ثم عذبه عليها؛ للزم أن يكون ظالماً له، هذا هو أصل المشكلة عندهم. فيقال لهؤلاء: إن الله جل وعلا خلق الإنسان في طوله وعرضه وفي لحمه ودمه وكذلك صفاته، ومن ذلك أنه خلق له القدرة والإرادة، وجعل القدرة والإرادة هما اللتان يفعل بهما ما يريد، فيكون فعله بقدرته وإرادته هو الذي يجازى عليه ثواباً أو عقاباً.

حقيقة الخير والشر في القدر

حقيقة الخير والشر في القدر [قوله: (وعن عبادة) قد تقدم ذكره في باب فضل التوحيد، وحديثه هذا رواه أبو داود، ورواه الإمام أحمد بكماله قال: حدثنا الحسن بن سوار، حدثنا ليث عن معاوية عن أيوب بن زياد، حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة، حدثني أبي قال: (دخلت على عبادة وهو مريض أتخايل فيه الموت، فقلت: يا أبتاه! أوصني واجتهد لي. فقال: أجلسوني. قال: يا بني! إنك لن تجد طعم الإيمان، ولن تبلغ حقيقة العلم بالله حتى تؤمن بالقدر خيره وشره قلت: يا أبتاه! فكيف لي أن أعلم ما خير القدر وشره؟ قال: تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك. يا بني! سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب. فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة) يا بني! إن مت ولست على ذلك دخلت النار)، ورواه الترمذي بسنده المتصل إلى عطاء بن أبي رباح عن الوليد بن عبادة عن أبيه، وقال: حسن صحيح وغريب]. السبب في هذه الوصية أن إنكار القدر ظهر في وقت عبادة بن الصامت، ولهذا أوصى ابنه بذلك، وهذا يدل على أن الذي لا يؤمن بالقدر ليس بمؤمن، وأنه إذا مات لم يقبله الله. وقوله: (تؤمن بالقدر خيره وشره) جعل في القدر خيراً وشراً، والقدر -كما سبق- قدرة الله ومشيئته وعلمه وكتابه، والشر لا يكون إلى الله جل وعلا، بل كل ما يفعله الله خير وحسن وجميل وحكمة، ولكن الشر بالنسبة للمخلوق؛ لأن الشر سببه الذنب، ولو لم يكن هناك ذنب ما كان هناك شر أصلاً، فيكون الشر بالنسبة للمخلوق، وأما إيقاعه من الله جل وعلا فهو عدل، ليس شراً بل هو خير وعدل يحمد عليه ويشكر عليه جل وعلا. [وفي هذا الحديث ونحوه بيان شمول علم الله تعالى وإحاطته بما كان ويكون في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق:12]. وقد قال الإمام أحمد رحمه الله لما سئل عن القدر قال: القدر قدرة الرحمن. فاستحسن ابن عقيل هذا من أحمد رحمه الله، والمعنى أنه لا يمنع عن قدرة الله شيء ونفاة القدر قد جحدوا كمال قدرة الله تعالى فضلوا عن سواء السبيل، وقد قال بعض السلف: ناظروهم بالعلم فإن أقروا به خصموا، وإن جحدوه كفروا]. هذا القول قاله الشافعي رحمه الله، ومقصوده ما دام أنهم أنكروا القدر فيسألون: هل الله عليم؟ هل علم الله شامل لكل شيء؟ فإن أقروا بهذا؛ قيل لهم: القدر علم الله وخصموا بذلك؛ لأن القدر عبارة عن علم الله السابق الأزلي لكل شيء، فإنه علم أن الخلق سيوجدون وسيعملون كذا، وستكون عاقبتهم كذا، فكتب ذلك جل وعلا، فإذا أقروا به ألزموا بترك مذهبهم، أما إن أنكروا العلم فقد كفروا وخرجوا من الدين الإسلامي، والكافر لا فائدة في مجادلته ولا في مناظرته، والكفر كله ملة واحدة، كون الكافر يترك ركناً من أركان الإسلام، أو ينفي عن الله صفة من صفاته، أو يترك الصلاة، أو يكفر بالرسول صلى الله عليه وسلم، أو يكفر بالكل، أو يكون نصرانياً أو يهودياً كله سواء، فالكفر شيء واحد. وإذا انتقل الكافر من دين إلى دين فهو كافر في الأول وفي الآخر، بخلاف الدين الحق، فإنه لا يجوز أن يتركه، وإن قدر أنه أراد تركه لا يترك، فإما أن يراجع، وإما أن يقتل.

حق الله عظيم لا يدركه أحد

حق الله عظيم لا يدركه أحد [قوله: وفي المسند وسنن أبي داود عن ابن الديلمي -وهو أبو بسر -بالسين المهملة وبالباء المضمومة-، ويقال: أبو بشر -بالشين المعجمة وكسر الباء-، وبعضهم صحح الأول، واسمه عبد الله بن فيروز -، ولفظ أبي داود قال: (لو أن الله عذب أهل سمواته وأهل أرضه عذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم، ولو أنفقت مثل أحد ذهباً ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لكنت من أهل النار. قال: فأتيت عبد الله بن مسعود فقال مثل ذلك، ثم أتيت حذيفة بن اليمان فقال مثل ذلك، قال: ثم أتيت زيد بن ثابت قال: فحدثني عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك)، وأخرجه ابن ماجة. وقال العماد ابن كثير رحمه الله: عن سفيان عن منصور عن ربعي بن خراش عن رجل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع: يشهد ألا إله إلا الله، وأني رسول الله بعثني بالحق، ويؤمن بالبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر خيره وشره)، وكذا رواه الترمذي عن النضر بن شميل عن شعبة عن منصور به، ورواه من حديث أبي داود الطياليسي عن شعبة عن ربعي عن علي فذكره. قوله: (لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه عذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم) معنى ذلك أن أهل السموات وأهل الأرض ما يستطيعون أن يقوموا بحقوق الله جل وعلا الواجبة له، فلو عذبهم لعذبهم على ترك الحق، لهذا جاء أن الملائكة منهم من يكون منذ خلق إلى قيام الساعة راكعاً، ومنهم من يكون منذ خلق إلى قيام الساعة ساجداً، ومنهم من يكون قائماً بالعبادة لا يفتر لحظة من اللحظات، فإذا كان يوم القيامة قالوا: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك؛ لأن حق عبادة الله جل وعلا لا يطيقها المخلوق، فرحمة الله جل وعلا خير من عمل الإنسان مهما عمل. روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن رجلاً عبد الله جل وعلا في جزيرة من البحر خمسمائة سنة، أخرج الله جل وعلا له من البحر عيناً عذبة يشرب منها، وأنبت له شجرة رمان، وكل يوم تخرج له حبة فيأكلها، وسأل ربه أن يقبضه ساجداً، فقبض وهو ساجد، فإذا كان يوم القيامة أحضر بين يدي الله جل وعلا، فيقول الله جل وعلا لملائكته: ادخلوا عبدي الجنة برحمتي. فيقول العبد: يا رب! بل بعملي. فيقول الله جل وعلا: حاسبوه، فيحاسب، فيوجد أن عبادة خمسمائة سنة جاء عليها نعمة البصر -أو قال: نعمة السمع-، ثم بعد ذلك يقول الله جل وعلا له: من الذي خلقك ولم تك شيئاً؟ من الذي قواك على العبادة؟ من الذي جعل في قلبك حب الإيمان وكراهية الكفر؟ من الذي جعل لك السمع والبصر والفؤاد واليدين والرجلين؟ من الذي استخرج لك من البحر المالح عيناً عذبة؟ من الذي استخرج لك من شجرة الرمان كل يوم حبة وهي لا تخرج في السنة إلا مرة؟ ثم يقول جل وعلا بعد ذلك: اذهبوا به إلى النار، فإذا ذهب به إلى النار. يصيح: يا رب! أدخلني الجنة برحمتك فيدخله الله الجنة برحمته ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم: لن يدخل أحد الجنة إلا برحمة الله). وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لن يدخل أحدكم الجنة عمله قالوا: ولا أنت -يا رسول الله-؟! قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته)، وإنما يدخل المؤمنون الجنة برحمة الله، ويتقاسمون المنازل بأعمالهم، أما دخول الجنة فهو برحمته جل وعلا؛ لأن الجنة ليست عوضاً عن العمل، وبهذا يتبين معنى قوله: (لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم).

الرد على نفاة القدر

الرد على نفاة القدر [وقد ثبت في صحيح مسلم من رواية عبد الله بن وهب وغيره عن أبي هانئ الخولاني عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة -زاد ابن وهب: وكان عرشه على الماء) رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب]. هذا الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص يدل على أن العرش كان مخلوقاً قبل القلم، وأنه فوق الماء، وسبق ذكر ذلك. [وكل هذه الأحاديث وما في معناها فيها الوعيد الشديد على عدم الإيمان بالقدر، وهي الحجة على نفاة القدر من المعتزلة وغيرهم، ومن مذهبهم تخليد أهل المعاصي في النار، وهذا الذي اعتقدوه من أكبر الكبائر وأعظم المعاصي]. مذهب المعتزلة شاركهم فيه الخوارج، وللمعتزلة أصول خمسة بدل أصول الإسلام الخمسة التي قالها الرسول صلى الله عليه وسلم -كما في حديث عبد الله بن عمر المتفق عليه-: (بني الإسلام على خمس: شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً) هذه خمسة أصول، وهؤلاء المبتدعة الضلال جاءوا بأصول خمسة أخرى، وسموها (أصول الإسلام) من عندهم بدل الأصول التي قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلها ضلال، وهذه الأصول هي: الأول: التوحيد. وما هو التوحيد؟ هل التوحيد عندهم: شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ كلا. التوحيد عندهم نفي الصفات، فعندهم أن الله لا يتصف بصفة، وأن الله ليس فوق، وأن الله لا ينزل إلى السماء الدنيا، وأن الله ليس له سمع ولا بصر ولا شيء من سائر الصفات، هذا يسمونه توحيداً؛ لأن التوحيد عندهم أن يكون واحداً لا صفات له، وهذا من أعظم الضلال، كيف يكون هذا من أصول الإسلام؟ الأصل الثاني: العدل. ومعناه عندهم أنهم يوجبون على الله أشياء من عند أنفسهم، يجب أن يفعل كذا، ويجب ألا يفعل كذا، تحكماً وضلالاً، نصبوا أنفسهم موجبين ومحرمين على الله جل وعلا وعلى شرعه. الثالث: المنزلة بين منزلتين. ومعناها عندهم أن الإنسان إذا عمل كبيرة خرج من الدين الإسلامي ولم يدخل في الكفر، فصار بين الإسلام والكفر، لا مسلماً ولا كافراً، فهذا القول من أين أتى؟ وما دليل ذلك؟ وقالوا: إذا مات صار في النار. وهذا عجيب، في الدنيا يكون بين الإسلام وبين الكفر، وفي الآخرة يكون مع الكفار في النار. الرابع: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وعندهم أن الأمر بالمعروف هو الخروج على الأئمة، أي: يجب أن يخرجوا على الأئمة إذا لم يكونوا على مرادهم، ولا داعي إلى ذكر سائر ضلالاتهم؛ لأن إماتة الضلال وعدم ذكره أولى من ذكره؛ لأنه كله ضلال في الواقع، وليس فيه شيء من الحق، فالحق فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن المشكل أن هذا المذهب الخبيث بعث الآن من جديد، وصار له أناس يناصرونه، وصارت كتبهم تطبع وتنشر بين الناس، وصار هناك من يعتنق هذا المذهب، وهذا بسبب المستشرقين الكفار الذين صاروا يبحثون في كتب المسلمين، ويطلبون الشيء الذي يقدحون به في عقيدة المسلمين فيعملون على نشره، فصار لهم تلامذة من المسلمين يتبنون آراءهم وأفكارهم، وبسبب ذلك بعث هذا المذهب الذي مات منذ زمن طويل، إلا أنه يوجد هذا المذهب في طوائف مثل الإباضية والرافضة، فهذا المذهب موجود فيهم وإن لم يكن كله فيهم، وإنما أجزاؤه، مثل نفي الصفات، ونفي العلو، ونفي رؤية الله جل وعلا يوم القيامة، والقول بخلق القرآن، وأن الله لا يتكلم، وما أشبه ذلك.

مسائل وفوائد في الباب

مسائل وفوائد في الباب

كيفية الإيمان بالقدر ووجوب الإيمان به

كيفية الإيمان بالقدر ووجوب الإيمان به [وفي الحقيقة إذا اعتبرنا إقامة الحجة عليهم بما تواترت به نصوص الكتاب والسنة من إثبات القدر فقد حكموا على أنفسهم بالخلود في النار إن لم يتوبوا، وهذا لازم لهم على مذهبهم هذا، وقد خالفوا ما تواترت به أدلة الكتاب والسنة من إثبات القدر، وعدم تخليد أهل الكبائر من الموحدين في النار]. [قال المصنف رحمه الله تعالى: وفيه مسائل: الأولى: بيان كيفية الإيمان بالقدر]. كيفية الإيمان بالقدر بأن يعلم الإنسان أن الذي يقع في الكون كله لا يمكن تغييره، ولا يمكن تأخيره، ولا يمكن تبديله، وأن الذي لا يقع لا يمكن إيقاعه، فكل شيء يقع من دقيق وجليل فقد قدره الله جل وعلا بعلمه الأزلي وكتبه وشاء وجوده وخلقه. [الثانية: بيان فرض الإيمان بالقدر]. الإيمان بالقدر فريضة على كل عبد، فيجب أن يؤمن به، وإذا لم يؤمن به فهو متوعد بالوعيد الذي ذكر، وهو أنه يكون من أهل النار. [الثالثة: إحباط عمل من لم يؤمن به].

فضل الإيمان بالقدر

فضل الإيمان بالقدر [الرابعة: الإخبار أن أحداً لا يجد طعم الإيمان حتى يؤمن به]. هذا يدل على أن الإيمان له طعم يجده بعض الناس، وبعضهم لا يجده، فالذي يؤمن بالقدر إيماناً على الوجه الشرعي يجد طعم الإيمان، وكذلك في غير هذه المسألة، ولكن المسائل التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم مرتبط بعضها ببعض، ولا يمكن أن ينفك بعضها عن بعض، فإذا قيل -مثلاً-: إذا آمن بالقدر وجد طعم الإيمان فليس معنى ذلك أنه إذا ترك الصلاة وآمن بالقدر يجد طعم الإيمان، أو يترك الصوم ويؤمن بالقدر ويجد طعم الإيمان، أو يعمل الفواحش ويؤمن بالقدر ويجد طعم الإيمان، لابد من الالتزام بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. [الخامسة: ذكر أول ما خلق الله. السادسة: أنه جرى بالمقادير في تلك الساعة إلى قيام الساعة]. بعد قيام الساعة مسكوت عنه، لم يكتب عندما أمر القلم أن يكتبه، فهذا أمر راجع إلى الله جل وعلا. [السابعة: براءته صلى الله عليه وسلم ممن لم يؤمن به]. لأنه برئ ممن لم يؤمن بالقدر، والبراءة تحمل على ظاهرها، أي أنه ليس من أتباعه، وليس على دينه، هذا معنى البراءة، ولهذا قالوا: إن البراءة تدل على أنه كافر. فهذا نوع من الكفر؛ لأن المسلم يتبرأ من الكفار والمشركين، ولا يجوز للمسلم أن يتبرأ من مسلم.

إزالة الشبهة بسؤال العلماء

إزالة الشبهة بسؤال العلماء [الثامنة: عادة السلف في إزالة الشبهة بسؤال العلماء]. الشبهة لا تزول إلا بالعلم، والعلم يجب أن يقتنع به السائل، فيكون قلبه قد زالت عنه شبهته، وهذا لا يكون إلا بالنصوص اليقينية التي تستند إلى الوحي، أما الآراء والأفكار فيقابلها أراء وأفكار، وقد تتعارض فيكون واحد رأيه وفكره أعمق وأكثر من الثاني فيفسد عليه ما يرى، هذا شأن أصحاب الآراء، ولهذا فهم ينتقلون، كل وقت قد يكون لأحدهم رأي ومذهب، ولا يثبت على مذهب، كما جاء رجل إلى الإمام مالك وقال: أريد أن أجادلك. قال: لا. اذهب إلى من كان في شك من دينه، أما أنا فلست في شك، أنا اتبع سنة محمد صلى الله عليه وسلم فلست في شك، اذهب إلى الذين ينتقلون كل يوم من دين إلى آخر فجادلهم. [التاسعة: أن العلماء أجابوه بما يزيل شبهته، وذلك أنهم نسبوا الكلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط]. يعني أن نسبة الكلام إلى الله أو إلى رسوله هو الذي يزيل الشبهات، أما نسبته لفلان وفلان فلا يزيل الشبهة؛ فإنه يوجد فلان آخر مثله، وفلان آخر مثله، ويجوز على كل واحد منهم الخطأ والصواب، فإذا جاز الخطأ عليهم فلا يوثق بكلامهم، وإنما الذي يوثق بكلامه من لا ينطق عن الهوى، وهو وحي الله جل وعلا.

شرح فتح المجيد [128]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [128] الله عز وجل هو المصور، والمصورون الذين يضاهون خلق الله هم أشد الناس عذاباً يوم القيامة؛ لما في عملهم ذلك من مفاسد كثيرة، منها: أنها تفضي إلى تعظيم الشيء المصور، بل وإلى عبادته من دون الله، ولذلك يؤتى بالمصور يوم القيامة فيخلق الله له بكل صورة صورها نفساً، ويؤمر بنفخ الروح فيها، فلا يستطيع، فتكون سبباً في عذابه.

ما جاء في المصورين من الوعيد

ما جاء في المصورين من الوعيد قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في المصورين. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي؟ فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة أخرجاه)]. المعنى: ما جاء في المصورين من العذاب الشديد، ووجه إدخال هذا الباب في كتاب التوحيد: أن المصور وعد بوعيد شديد يدل على أنه من أهل النار، وأنه يبقى معذباً، ويكلف أن يخلق الصورة التي صورها ويجعل فيها الروح، حتى تكون حية مثل الصورة التي تضاهيها وتشابهها، وهذا ممتنع، وتكليفه لا ينقطع، فيستمر بهذه الحال إلى أن ينفخ فيها الروح، وهذا غير ممكن، ولهذا يقول العلماء: إن هؤلاء وعدوا بعذاب لم يعذب به أحد من الناس، وجاءت نصوص كثيرة في ذلك جداً يتعجب الإنسان من كثرتها، ولكن هذا دليل على أن من قالها يقولها عن وحي، وعن علم غيب مما أعلمه الله جل وعلا بأنه سيكون، ولم تكن الصور قديماً منتشرة ولا كثيرة مثل اليوم، فقد ابتلي بها الناس، فأصبحت لا تجد بيتاً إلا وهو مملوء بالصور، سواءً في الملابس، أو في الأواني، أو في الصحف، أو في الكتب، أو في غير ذلك. وقد صحت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن البيت الذي فيه صورة لا تدخله الملائكة، والمقصود بهم ملائكة الرحمة، أما الملائكة الذين يسجلون على الإنسان أعماله فهؤلاء يضطرون إلى شيء يكرهونه، ويصبح الإنسان الذي عمل هذا العمل أو رضي به وأقره آثماً، لكونه أكره عباد الله المكرمين على شيء لا يريدونه، ولا ينظرون إليه، ولا يدخلون المنزل الذي هو فيه. ثم في هذا الحديث بين علة التحريم وعلة العذاب، قال: (ومن أظلم) يعني: لا أحد أظلم، (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي) ومعنى يخلق كخلقي: أنه يصور الشيء الذي فيه الروح، (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي) ثم جاء الأمر بالتعجيز فقال: (فليخلقوا ذرة) وهي من أصغر المخلوقات، يعني: فليوجدوا ذرة حقيقة تكون حية فيها روح وحياة، فإن لم يستطيعوا ذلك فليوجدوا من العدم ما هو أقل من هذا وهو حبة شعير، أو حبة بر، فلا يستطيعون، ولو اجتمع كل من في الأرض على أن يوجدوها ما استطاعوا، وهذا تعجيز لهم، ومعنى يضاهئون الله: يشابهونه بأن يوجدوا الصورة التي خلقها الله. فهذا أمر تعجيزي لهم؛ ولهذا استحقوا شدة العذاب، أما إذا كان التصوير لشيء لا روح فيه، فلا بأس به؛ لأنه قال: (ليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة)، فدل على أن الشيء الذي لا روح فيه لا بأس بتصويره مثل: الجبال والشجر وما أشبه ذلك؛ ولهذا لما جاء رجل إلى ابن عباس يستفتيه، وأخبره أنه يعمل الصور، فصار يقول له: ادنو، حتى جلس أمام ركبتيه فقال له: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون)، ثم قال له: إن كنت فاعلاً ولابد فالجبال والشجر، يعني: تصور الجبال والشجر.

أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون

أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون قال المصنف رحمه الله: [ولهما عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله)]. يضاهئون أي: يشابهون الله في خلقه، يعني: أنهم يصورون الصور التي خلقها الله جل وعلا، وليس لله مثيل في الخلق، وليس له نظير يخلق كخلقه، ومعنى ذلك أنهم أساءوا الأدب مع الله، وجعلوا أنفسهم بمنزلة المشارك لله جل وعلا في الخلق، تعالى الله وتقدس. هذا في تصوير الصور، فكيف إذا اتجه الإنسان إلى مخلوق يعبده، ويدعوه وينزل به حاجته ويسأله؟ هذا أعظم من التصوير بكثير، بل هذا أعظم الذنوب، ولهذا حرم الله عليه الجنة.

كل مصور في النار

كل مصور في النار قال المصنف رحمه الله: [ولهما عن ابن عباس رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم)]. هذا وعيد شديد نسأل الله العافية، (كل مصور في النار) وكل: للعموم، فيدخل في ذلك التصوير باليد، والتصوير بالكاميرا، كلها داخلة في هذا، كل صورة عملها الإنسان سواءً بيده أو بواسطة الآلة فهي داخلة في هذا الحديث: (كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم) نسأل الله العافية، وهذا وعيد صريح وشديد وواضح، ولا يجوز تأويله، ولا يجوز صرفه عن ظاهره؛ لأنه قول من لا ينطق عن الهوى، وهو كلام واضح جلي، فطلب تأويله وتفسيره يكون تداركاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز ذلك، بل يجب أن يبقى على ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، ومعناه واضح مفهوم. قال المصنف رحمه الله: [ولهما عنه مرفوعاً: (من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ)]. يعني في يوم القيامة يقول له جل وعلا: انفخ الروح في هذه الصورة -وهذا في كل صورة صورها- وهذا تكليف ما لا يطاق، وهذا من العذاب الشديد، وبما أنه لن يفعل ذلك فهو يعذب دائماً.

وجوب طمس الصور

وجوب طمس الصور قال المصنف رحمه الله: [ولـ مسلم عن أبي الهياج قال: (قال لي علي: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته)]. هذا الحديث رواه مسلم في صحيحه، وقد تقدم في باب التحذير من عبادة الله جل وعلا عند قبر الرجل الصالح، فكيف إذا عبده؟ ففيه ما اختصره المؤلف هنا. عن علي رضي الله عنه أنه قال لـ أبي الهياج الأسدي: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته). وفي هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يبعث الصحابة لطمس الصور وتسوية القبور، ومعنى تسويتها: أنها تسوى بالأرض ولا تكون مرفوعةً، خشية أن يفتتن بها الناس الذين قد يتعلقون بالميت، وهذا موجود بكثرة، ولكن كثير من الناس عاكس أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فصاروا لا يكتفون برفع القبور فحسب، بل صاروا يبنون عليها المساجد، ويجعلون عليها القباب ويزينونها بالزينة، وقد يطيبونها بسائر الأطياب، وقد يرتبون لها سدنة يدعون الناس إلى عبادتها، ويسمونهم أدلاء يدلونهم على الضلال وعلى الشرك بالله جل وعلا! وقد يضعون لها شمعاً ونذوراً وصناديق، ويسمونها: صناديق النذور. فلا يجوز التوجه إلى قبر لدعائه، وهذا من الشرك الأكبر الذي من مات عليه يكون خالداً في النار، والمقصود أن من دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم طمس الصور وتسوية القبور، وهذان الأمران: الصور والقبور هما أصل الشرك، وأصل البلاء في الناس.

سبب وقوع الشرك تصوير الصور والغلو فيها

سبب وقوع الشرك تصوير الصور والغلو فيها سبب وقوع الشرك في بني آدم تصوير الصور والغلو فيها، وقد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس أنه قال: كان بين آدم ونوح عشرة قرون على التوحيد، ثم إنه مات قوم صالحون أسماؤهم: ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وقد ماتوا في زمن متقارب، فأسف عليهم قومهم أسفاً شديداً؛ لأنهم كانوا يقتدون بهم في العبادة، وكانوا إذا رأوهم ازدادوا عبادةً واجتهاداً؛ لأنهم يقتدون بهم، فجاء إليهم الشيطان في صورة رجل ينصحهم فقال لهم: صوروا صورهم، وانصبوها في مجالسهم، فإنكم إذا رأيتم صورهم تذكرتم أفعالهم فاجتهدتم كاجتهادهم، فاستحسنوا هذه الفكرة وهذا الأمر فصنعوه، وصاروا كلما رأوا صورهم اجتهدوا في العبادة وجدوا فيها، واستمروا على هذا حتى ماتوا، ثم جاء أبناؤهم ثم أبناء أبنائهم، ونسي السبب الذي من أجله صوروا، فجاء إليهم الشيطان فقال: إن آباءكم وأجدادكم ما صوروا هذه الصور إلا لرجاء نفعها، ولطلب الوسيلة بها، والتقرب إلى الله بها ودعائها، فدعوهم فصاروا آلهة، فمن هنا بدأ الشرك، وعند ذلك أرسل الله جل وعلا إليهم نوحاً يحذرهم من هذا الشرك، ولكن الشرك قد أشربت به قلوبهم وأحبوه، وصار نوح يدعوهم ليلاً ونهاراً وسراً وجهاراً إلى الله جل وعلا وعبادته، فحاربوه بكل ما يستطيعون، ورموه بالجنون والسفه، وقالوا: إما أن تكف عن سب آلهتنا -كما قال إخوانهم من قريش- وعن عيب ديننا وإلا رجمناك، فقال نوح عليه السلام كما حكى الله عنه: {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا * وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا} [نوح:21 - 22] يعني: حاولوا قتل نوح ورجمه وإخراجه، وهذه معاداة لله جل وعلا ومحاربة له. {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} [نوح:23] يوصي بعضهم بعضاً ويقولون: إياكم أن تتأثروا بدعوة نوح وتتركوا عبادة أصنامكم، فيحذر بعضهم بعضاً، ويوصي بعضهم بعضاً بالشرك والتمسك به {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح:23] يعني: أوصوا أولاً بالتمسك بالآلهة عموماً، ثم نصوا على هذه المذكورة لعظمها عندهم، وفي النهاية: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح:26 - 27]، فأمره الله جل وعلا بصنع السفينة، وصاروا يضحكون عليه، ويسخرون منه، ويقولون: انظروا إلى هذا المجنون، يصنع سفينة في البر، أي جنون مثل هذا الجنون؟! فقال: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [هود:38 - 39]، فعلموا عن قرب، فصارت الأرض تنبع بالماء، والسماء ترسل المياه، {فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر:12]، وأصبح الماء فوق أعلى جبل سبعين ذراعاً، فلم يبق على وجه الأرض حي إلا من كان في السفينة، وهذا الشرك وقع بسبب الصور. أما عبادة القبور فأمرها واضح وجلي، فإنها فتنة لكل مفتون بها، وإذا نظر الإنسان في بلاد المسلمين اليوم كالهند، وباكستان، ومصر، والعراق، وغيرها، فإنه يرى القبور تقصد، وتعظم، وتدعى، ويستغاث بأصحابها! مع أن المقبور صار تراباً ورفاتاً، ما يستطيع أن يكتسب حسنة صغيرة يضعها في صحيفة حسناته، فكيف يغني شيئاً عن الذين يدعونه ويتوجهون إليه؟! وهذا من أعظم الضلال، حين يترك المشرك دعوة رب العالمين الذي بيده ملكوت كل شيء، والذي يقول للشيء كن فيكون، ويدعو عظاماً ورفاتاً قد أكلها الدود، وتفتت في التراب، وربما يكون هذا المدعو مهاناً معذباً، وربما يكون مشغولاً بنعيم أنعم الله به عليه، لا يدري عمن يدعوه شيئاً، حتى يبعث يوم القيامة فيؤنب على ذلك، ويقال له: أهؤلاء كانوا يدعونك؟ هل أمرتهم بهذا؟ فيتبرأ منهم، قال الله جل وعلا: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:5 - 6]، فيعادونهم، ويكفرون بعبادتهم، ويتبرءون من فعلهم إلى الله جل وعلا.

العلة في تحريم التصوير ورفع القبور

العلة في تحريم التصوير ورفع القبور قال الشارح رحمه الله: [قوله: باب ما جاء في المصورين، أي: من عظيم عقوبة الله لهم وعذابه، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم العلة: وهي المضاهاة بخلق الله؛ لأن الله تعالى له الخلق والأمر، فهو رب كل شيء ومليكه، وهو خالق كل شيء، وهو الذي صور جميع المخلوقات، وجعل فيها الأرواح التي تحصل بها الحياة، كما قال تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [السجدة:7 - 9]. فالمصور لما صور الصورة على شكل ما خلقه الله تعالى من إنسان وبهيمة صار مضاهئاً لخلق الله، فصار ما صوره عذاباً له يوم القيامة، وكلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ، فكان أشد الناس عذاباً؛ لأن ذنبه من أكبر الذنوب. فإن كان هذا فيمن صور صورةً على مثال ما خلق الله تعالى من الحيوان، فكيف بحال من سوى المخلوق برب العالمين، وشبهه بخلقه، وصرف له شيئاً من العبادة التي ما خلق الله الخلق إلا ليعبدوه وحده بما لا يستحقه غيره من كل عمل يحبه الله من العبد ويرضاه؟ فتسوية المخلوق بالخالق بصرف حقه لمن لا يستحقه من خلقه، وجعله شريكاً له فيما اختص به تعالى وتقدس؛ هو أعظم ذنب عصي الله تعالى به، ولهذا أرسل رسله وأنزل كتبه لبيان هذا الشرك والنهي عنه، وإخلاص العبادة بجميع أنواعها لله تعالى، فنجى الله تعالى رسله ومن أطاعهم، وأهلك من جحد التوحيد واستمر على الشرك والتنديد، فما أعظمه من ذنب! {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31]. قال الشارح رحمه الله: [قوله: (ولـ مسلم عن أبي الهياج) الأسدي حيان بن حصين (قال: قال لي علي) هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه. قوله: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته). فيه التصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث علياً لذلك. أما الصور فلمضاهاتها لخلق الله. وأما تسوية القبور فلما في تعليتها من الفتنة بأربابها وتعظيمها، وهو من ذرائع الشرك ووسائله، فصرف الهمم إلى هذا وأمثاله من مصالح الدين ومقاصده وواجباته، ولما وقع التساهل في هذه الأمور وقع المحظور، وعظمت الفتنة بأرباب القبور، وصارت محطاً لرحال العابدين المعظمين لها، فصرفوا لها جل العبادة من الدعاء والاستعانة والاستغاثة والتضرع لها، والذبح لها والنذور، وغير ذلك من كل شرك محظور. قال العلامة ابن القيم رحمه الله: ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور وما أمر به ونهى عنه، وما كان عليه أصحابه، وبين ما عليه أكثر الناس اليوم رأى أحدهما مضاداً للآخر مناقضاً له بحيث لا يجتمعان أبداً، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة إلى القبور، وهؤلاء يصلون عندها وإليها، ونهى عن اتخاذها مساجد، وهؤلاء يبنون عليها المساجد، ويسمونها مشاهد مضاهاة لبيوت الله، ونهى عن إيقاد السرج عليها، وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها، ونهى عن أن تتخذ عيداً، وهؤلاء يتخذونها أعياداً ومناسك، ويجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر، وأمر بتسويتها كما روى مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي فذكر حديث الباب وحديث ثمامة بن شفي وهو عند مسلم أيضاً قال: كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم فتوفي صاحب لنا، فأمر فضالة بقبره فسوي، ثم قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها). وهؤلاء يبالغون في مخالفة هذين الحديثين، ويرفعونها عن الأرض كالبيت، ويعقدون عليها القباب. ونهى عن تجصيص القبر والبناء عليه كما روى مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه). ونهى عن الكتابة عليها كما روى أبو داود في سننه عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نهى عن تجصيص القبور وأن يكتب عليها)، قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وهؤلاء يتخذون عليها الألواح، ويكتبون عليها القرآن وغيره. ونهى أن يزاد عليها غير ترابها كما روى أبو داود عن جابر أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (نهى أن يجصص القبر، أو يكتب عليه، أو يزاد عليه) وهؤلاء يزيدون عليه الآجر والجص والأحجار، قال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون الآجر على قبورهم. والمقصود: أن هؤلاء المعظمين للقبور المتخذينها أعياداً، الموقدين عليها السرج، الذين يبنون عليها المساجد والقباب؛ مناقضين لما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم محادين لما جاء به، وأعظم من ذلك اتخاذها مساجد، وإيقاد السرج عليها، وهي من الكبائر، وقد صرح الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم بتحريمه. قال أبو محمد المقدسي: ولو أبيح اتخاذ السرج عليها لم يلعن من فعله؛ ولأن فيها تضييعاً للمال في غير فائدة، وإفراطاً في تعظيم القبور أشبه تعظيم الأصنام. قال: ولا يجوز اتخاذ المساجد على القبور؛ لهذا الخبر، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا) متفق عليه؛ ولأن تخصيص القبور بالصلاة عندها يشبه تعظيم الأصنام بالسجود لها والتقرب إليها، وقد روينا أن ابتداء عبادة الأصنام تعظيم الأموات باتخاذ صورهم والتمسح بها والصلاة عندها. انتهى. وقد آل الأمر بهؤلاء الضلال المشركين إلى أن شرعوا للقبور حجا، ً ووضعوا لها مناسك، حتى صنف بعض غلاتهم في ذلك كتاباً وسماه: مناسك حج المشاهد، مضاهاة منه بالقبور للبيت الحرام، ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام، ودخول في دين عباد الأصنام].

الرد على المتعلقين بالقبور

الرد على المتعلقين بالقبور قال الشارح رحمه الله: [ومنها: إيذاء أصحابها بما يفعله المشركون بقبورهم، فإنهم يؤذيهم ما يفعل عند قبورهم ويكرهونه غاية الكراهية، كما أن المسيح عليه السلام يكره ما يفعله النصارى عند قبره، وكذلك غيره من الأنبياء والأولياء والمشايخ يؤذيهم ما يفعله أشباه النصارى عند قبورهم، ويوم القيامة يتبرءون منهم، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا} [الفرقان:17 - 18]، قال الله تعالى للمشركين: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ} [الفرقان:19]، وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [المائدة:116]، وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ:40 - 41]]. من المعلوم أن الله جل وعلا خلق الخلق ليعبدوه وحده، والإنسان خلق عابداً، فلابد له من العبادة، ولا ينفك عن العبادة بحال من الأحوال، فإن لم يعبد الله عبد الشيطان ولابد، فإما أن يعبد الإنسان ربه، ويفعل ما أمر به، ويلقى الجزاء من الله والثواب، وتكون حياته سعيدة، وعاقبته حميدة، أو ينصرف عن أمر الله وما خلق له ويكون عابداً للشيطان، أو عابداً لشهواته أو للمظاهر الأخرى من مظاهر الدنيا، حتى الذين يزعمون أنهم متحررون، وأنهم ملحدون، ولا يؤمنون بدين ولا بإله ولا بجزاء ولا ببعث؛ لا ينفكون عن العبادة، فهم يعبدون رؤساءهم وكبراءهم وطغاتهم، ويعبدون شهواتهم، ثم إن كثيراً من الناس الذين أرسل الله جل وعلا إليهم الرسل كانوا منصرفين عن عبادة الله والإخلاص له في الدعاء والرغبة والرهبة والخوف والرجاء، وإنما يعبدون الله بالأمور الظاهرة الجلية، مثل كون الرب جل وعلا هو الذي خلقهم، وهو الذي يرزقهم، وهو الذي يتصرف في المخلوقات وفي الكون وحده؛ لأنهم لا يستطيعون أن ينكروا هذا، ولا يستطيعون أن يجعلوا أحداً من الخلق مشاركاً لله جل وعلا في ذلك، فانصرفوا إلى أمر آخر، وهو أنهم صاروا يتعلقون بالأولياء، ويقولون: إنهم يشفعون لنا، ويتوسطون لنا عند الله جل وعلا، ونحن نطلب منهم التوسط والشفاعة وهم يقربونا إلى الله زلفى، فهذا هو أصل شرك المشركين، وإلا لا يوجد عاقل يعبد مخلوقاً مثله؛ لأنه يملك له كل ما طلب منه، ويصرف عنه كل ما خافه ورهبه، لا يوجد مثل هذا، وإنما الموجود جعل بعض المخلوقين وسائط يجعلهم بينه وبين ربه، ويزعم بأن الطلب عن طريقهم أقرب إلى الإجابة؛ تسويلاً من الشيطان، وتحسيناً من العقل، وقياساً على ما هو موجود بين الخلق؛ لأن الخلق تعارفوا على أنه إذا كان هناك عظيم من الناس -رئيس أو ملك أو أمير- فالإنسان العادي لا يذهب إليه رأساً ويطلب منه، بل لابد أن يأتي إلى من هو قريب منه، كوزير، أو قريب، أو صديق فيتقدم إليه ويطلب منه أن يتوسط له عنده ويشفع له، فقاسوا رب العالمين على هذا في الأصل، فصاروا يتعلقون بالأولياء، ويطلبون منهم الشفاعة، ويطلبون منهم الوساطة، وهذا هو الشرك الذي أرسل الله جل وعلا الرسل للإنذار منه، ودعوة الناس إلى الإقلاع عنه، وجعل الدعاء والطلب لله وحده، ولا يكون بين العبد وبين ربه وساطة، فالله جل وعلا يعلم ما في النفوس، وهو مطلع على عباده، ويسمع كلامهم، ويرى تقلباتهم، ولا يخفى عليه شيء من أحوالهم، فيجب أن ينزلوا فقرهم به، وأن يسألوه بلا واسطة، وأن يتعلقوا به، ويعلقوا به حاجاتهم وكل ما يهمهم، وهذه هي العبادة التي يجب أن تكون لله جل وعلا. ومن هذا الباب أصبح كثير من المسلمين يذهب أحدهم إلى القبور زاعماً أن أصحابها أولياء أو أنبياء، فيطلب منهم الوساطة، ويطلب التشفع، ويطلب أن يقربوه إلى الله، وهو يقول بزعمه: هذا أقرب إلى الإجابة!

وجوب التعلق بالله وحده

وجوب التعلق بالله وحده لما بعث صلوات الله وسلامه عليه صار يقول للناس: (قولوا: لا إله إلا الله)، فكان هذا هو أول ما أمرهم به، ومعنى لا إله إلا الله أن يكون التأله -الذي هو حب القلب وخوفه ورجاؤه- لله وحده، ما يكون القلب متعلقاً بغير الله جل وعلا، وكل شيء تتعلق به القلوب من غير الله يجب أن يبطل وأن ينصرف عنه، فليس لأحد من الخلق من الألوهية شيء، وإنما هو مجرد أوضاع تواضع عليها الآباء واتبعهم عليها الأبناء، كما قال الله جل وعلا: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم:23]، يعني: مجرد أسماء سموها الآلهة، وليس لها من معنى الإلهية شيء، فالإلهية يجب أن تكون لله، والتأله هو حب القلب وخوفه ورجاؤه، ثم كانوا مختلفين، منهم من يعبد شجراً، ومنهم من يعبد حجارة، ومنهم من يعبد الجن، ومنهم من يعبد الملائكة، ومنهم من يعبد عباداً صالحين دفنوا كاللات على قراءة التشديد، فقد جاء عن ابن عباس وغيره من السلف: أنه كان رجلاً يلت السويق بالسمن، ثم يقدمه لمن يأتي إليه من الحجاج وغيرهم، فلما مات دفن تحت صخرة في الطائف فعبد، وصاروا يعكفون عنده للتبرك، ويطوفون بقبره، ويأتونه سائلين أن يشفع لهم عند الله، فكانت هذه هي عبادتهم، وما كان أحد منهم يأتي إليه ويقول: أنزل المطر أنبت النبات ادفع عني العدو أعطني الصحة، وأزل المرض مني، ما كان أحد يقول هذا ولا يعتقده، وإنما كانوا يجعلونهم وسطاء، ويقولون: اسأل لنا الله أن يفعل لنا كذا وكذا؛ لأنهم يزعمون أنه أقرب إلى الله منهم، ولم يفرق الرسول صلى الله عليه وسلم بين هؤلاء، ومعلوم في التواريخ وكتب السيرة أن الشيطان كان يأتي أحياناً في هذا البناء الذي يبنونه أو تحت الشجرة التي يعظمونها -مثل: العزى- فيكلمهم ليضلهم؛ لأنهم حين يسمعون الكلام يعتقدون أنه يستجيب لهم.

تكسير النبي صلى الله عليه وسلم للأصنام

تكسير النبي صلى الله عليه وسلم للأصنام لما فتح الرسول صلى الله عليه وسلم مكة أرسل خالد بن الوليد لهدم العزى، وعلي بن أبي طالب لهدم مناة، ومناة كانت عبارة عن صخرات قرب كديد بين مكة والمدينة، كان الأنصار قبل الإسلام إذا ذهبوا للحج أو العمرة، لابد أن يمروا بها ويذبحوا عندها الذبائح، ويعكفوا عندها، وهذه هي العبادة، ولما أرسل خالد بن الوليد إلى العزى وجد عندها السدنة، فهدم بيتها، وقطع الشجر، وكانت عبارة عن ثلاث شجرات مجتمعة، وكانوا يجعلونها أكبر معبود لهم، ولما رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ماذا صنعت؟ قال: هدمت البيت، وقطعت الشجرات، قال: هل رأيت شيئاً؟ قال: لم أر شيئاً، قال: لم تصنع شيئاً، اذهب فاهدم العزى) فرجع فلما وصل إليها رأى امرأة عجوزاً ناشرة شعرها، تحثو التراب على رأسها، وتدعو بالويل، فطعنها بالسيف وقتلها، والسدنة يشتدون في الجبل ويقولون: يا عزى! انتصري، يا عزى! عليك بـ خالد، فقتلها ورجع، ولما رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هل رأيت شيئاً؟ قال: نعم، رأيت عجوزاً صفتها كذا وكذا فقتلتها، فقال: تلك العزى، لا عزى بعد اليوم، هذا شيطان العزى الذي كان فيها). ولما دخل مكة صلوات الله وسلامه عليه وجد حول الكعبة ثلاثمائة وستين صنماً منصوباً حول الكعبة، أصنام من أحجار وخشب وطين، يصورونها ويعبدونها، فجعل يضربها بعصا معه ويقول: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]، وهي تتساقط من حين يشير إليها صلوات الله وسلامه عليه، فالمقصود أنهم ما كانت عبادتهم أنهم يعتقدون أنها تتصرف مع الله، وأنها تخلق وتحيي وتميت، وكذلك الذي يذهب إلى قبر الولي ويقول: أنا لا أذهب إليه لأدعوه، وإنما أذهب أتوسل به، وأتشفع به، وأجعله وسيلة لي أو شافعاً لي أطلب منه ذلك، فنقول: هذه هي عبادة المشركين نفسها، فالمشركون ما كانوا يعتقدون أن هذه الأصنام وهذه المعبودات تتصرف مع الله، وأنها تخلق، وترزق، وتحيي، وتميت، وتجلب المطر، وتنبت النبات، وتفعل ما طلبوا منها، لا، ولكن مثلما قال الله عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، والعبادة هي الدعاء، فإن مجرد كونهم يدعونهم: افعلوا بنا كذا، اصرفوا عنا كذا، هذه هي العبادة، وليست العبادة السجود والركوع لهم كما يتصوره بعض الناس الذين ينافحون ويجادلون عن الوثنية وعبادة القبور، ويقولون: العبادة هي أن تعتقد أن هذا الذي تدعوه يحيي ويميت، وإلا ما تكون عبادة بل تكون توسلاً، يقولون هذا لأنهم جهلوا معنى العبادة، وجهلوا حقيقة دعوة الرسل التي أرسلهم الله جل وعلا بها؛ ولهذا السبب صار تعلق الناس بالقبور وزيارتها والطواف بها والتمسح بها والتبرك، وأخذ شيء من ترابها والإقامة عندها موجوداً بكثرة، وكذلك البناء عليها تعظيماً لها، وكذلك جعلها في المساجد، فإن هذا كله من فعل المشركين، وهو صارف عن عبادة الله جل وعلا، وربما يكون فاعله مشركاً شركاً أكبر، إذا مات على هذا يكون ميئوساً منه، نسأل الله العافية، فيكون من أهل النار؛ لأن الله جل وعلا يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فإذا كان أمر الشرك بهذه الشدة وهذه العظمة، فيجب على العبد أن يتعرف على الشرك؛ خوفاً من أن يقع فيه وهو لا يدري أنه شرك، ويظن أنه عبادة وأنه عمل صالح، وهو مما يبعد عن الله جل وعلا.

مشروعية زيارة القبور للاتعاظ لا لدعاء أصحابها

مشروعية زيارة القبور للاتعاظ لا لدعاء أصحابها يشرع للإنسان أن يزور القبور على سبيل الاتعاظ والتذكر بما أمامه، والإحسان إلى المقبور نفسه كما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا أمر مطلوب؛ لأنه جاء في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكر الآخرة)، وفي رواية: (ولا تقولوا: هجراً) والهجر هو: المنكر الذي يخالف الشرع، فزيارة القبور شرعت لشيئين: أحدهما: أن يتذكر الإنسان مآله؛ لأنه سيصير مثلما صار هذا المقبور، ويكون مرجعه إلى القبر، ولابد أن يكون مقبوراً مثل هذا، فيتوب ويجتهد في العمل، ويتذكر الآخرة، ويتذكر ما أمامه. الأمر الثاني: أن يحسن إلى الميت بالدعاء له، فإنه في أمس الحاجة إلى دعوة تلحقه من أخ له صادق، أما أن تنعكس القضية، ويصبح الإنسان يزور القبر ليسأل صاحبه، فهذا عكس ما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم تماماً. أما ما ذكر من أن الأولياء والأنبياء لا يرضون بهذا الفعل، بل هذا يؤذيهم؛ فهذا أمر ظاهر، وقد ذكر الآيات التي تبين هذا، فإن أولياء الله لا يرضون بمعصية الله، ولا يرضون بأن يدعوا من دون الله، بل يصبح هذا الذي يدعوهم ويزعم أنه يتوسل بهم عدواً لهم، يعادونه ويكفرون به، كما قال الله جل وعلا: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف:5]، لأنهم أموات، {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً} [الأحقاف:6]، يعني: الذين يُدعون يصيرون أعداءً لهذا الداعي، {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:6] يكفرون بعبادهم، ويتبرءون منها، ويقولون: الله ولينا من دونكم، نبرأ إلى الله من ذلك؛ لأن الذي يرضى بأن يعبد من دون الله لا يعد طاغوتاً فقط، بل هو من رؤساء الطواغيت.

معتقد النصارى في قتل عيسى عليه السلام

معتقد النصارى في قتل عيسى عليه السلام الطواغيت كثيرون جداً، والطاغوت هو كل ما تجاوز به العبد حده من معبود، أو متبوع، أو مطاع، ورؤساء الطواغيت خمسة: إبليس لعنه الله، ومن ادعى شيئاً من علم الغيب، ومن حكم بغير ما أنزل الله، ومن عُبِد وهو راضٍ، ومن دعا الناس إلى عبادة نفسه، هؤلاء هم رؤساء الطواغيت، فالذي يُعبَد وهو راضٍ من رؤساء الطواغيت، أما ما ذكر من أن النصارى يشركون عند قبر المسيح عيسى صلى الله عليه وسلم؛ فهذا زعم يزعمونه هم، وهو كذب لا حقيقة له؛ لأنهم يزعمون أن عيسى عليه السلام صلب -والصليب خشبات شبه الزائد- وسمرت يداه ورأسه على الصليب، ثم أخذ وقتل على زعم اليهود، ثم بعد ذلك أنزل وقبر، هذا زعمهم وعقيدتهم، وهو كذب قد أبطله الله جل وعلا، وأخبرنا أن اليهود لم يقتلوه وإنما شبه لهم، يعني: وضع شبهه على رجل من اليهود، فقتلوا ذلك اليهودي وصلبوه، فالمقتول رجل يهودي، أما عيسى عليه السلام فقد رفعه الله إليه كما قال الله جل وعلا: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [آل عمران:55]، ومعنى قوله جل وعلا: (إني متوفيك) يعني: منيمك، فعيسى عليه السلام نام ثم رفع كما قال الله جل وعلا في الآية الأخرى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر:42]، فالنوم وفاة: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:55]، وقال الله في الآية الأخرى: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ)) [النساء:157 - 158] فهذا الذي يجب أن يعتقد، وجاءت الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه ينزل في آخر الزمان إذا خرج المسيح الدجال فيقتله، ويكون نزوله عليه الصلاة والسلام على جناح ملكين من الملائكة، وقال صلى الله عليه وسلم: (اعرفوه فإنه رجل مربوع متوسط، كأن رأسه يقطر ماءً)، كأنه خرج من حمام، وإذا رآه الدجال ذاب كما يذوب الملح في الماء، ويضع الجزية، ويقتل الخنزير، ولا يقبل من الناس إلا الإسلام، ويبقى أربعين سنة، ثم يتوفاه الله جل وعلا. فالمقصود أن قوله: قبر المسيح، هذا على حسب عقيدة النصارى، أما الواقع فالمسيح عيسى عليه السلام ليس له قبر، بل هو مرفوع حي، ولا يزال حياً في السماء ثم ينزل إذا أراد الله جل وعلا ويحكم بهذه الشريعة، فهو من أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ينزل ويحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم.

ضلال عباد القبور في تفضيلها على المساجد

ضلال عباد القبور في تفضيلها على المساجد قال الشارح رحمه الله: [ومنها: إماتة السنن وإحياء البدع، ومنها: تفضيلها على خير البقاع وأحبها إلى الله، فإن عباد القبور يقصدونها مع التعظيم والاحترام والخشوع ورقة القلب، والعكوف بالهمة على الموتى بما لا يفعلونه في المساجد، ولا يحصل لهم فيها نظيره ولا قريباً منه]. يعني: أن الذين يتعلقون بالقبور، يحصل لهم عند القبر من الخشوع والتذلل والبكاء ودعوة المقبور بحضور القلب ما لا يحصل لهم في أثناء الصلوات في المساجد، ولا قريباً منه، وهذا يدل على أنهم يعبدون غير الله جل وعلا، فالله جل وعلا يقول: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية:2 - 4] مثل هؤلاء وأشباههم، فهم يعبدون ويخشعون وينصبون ويتعبون وينفقون الأموال ويتعبون أبدانهم، ومع ذلك يكونون من أهل النار؛ لأنهم يتعلقون بغير الله جل وعلا، والله أغنى الشركاء عن الشرك كما قال جل وعلا في الحديث الذي يرويه رسوله صلوات الله وسلامه عليه عنه: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)، ويقال له يوم القيامة: اذهب إلى الذي كنت ترائي فانظر هل تجد جزاءك عنده؟ فكيف بالذي يتجه بكليته إلى الميت الذي لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً؟ لا يستطيع أن يدفع عن نفسه الدود الذي يأكل بدنه، فكيف بالذي يتعلق به؟ وهذا لا شك أنه ضلال، والرسل بعثت لإنقاذ الناس من عبادة غير الله جل وعلا ودعوته، ويجب أن تكون العبادة كلها خالصة لله ليس فيها شيء لا لحي ولا لميت، ولا لدنيا ولا لغيرها، وإنما تكون لله، والعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والنيات والأعمال، كل ما أمر الله جل وعلا به وأحبه فهو عبادة، والعبادة يجب أن تكون عن طريق الرسول صلى الله عليه وسلم، فكل عبادة يتعبد بها الإنسان يجب أن يعرف أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بها وإلا فهي باطلة، والأصل في العبادة أنها محرمة حتى تعرف الدليل عليها، ولا يجوز أن تتعبد بعبادة إلا إذا عرفت أنها مشروعة، هذا هو الأصل فيها، بخلاف المعاملات والأمور الأخرى، فالأصل فيها الإباحة حتى يأتي الدليل بأنها ممنوعة، وكذلك المطعومات والمشروبات الأصل فيها الإباحة حتى يأتي الدليل بأنها محرمة، أما العبادة فبالعكس، الأصل أنها محرمة حتى يأتي الدليل بأنها مشروعة؛ ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) يعني: أي عمل يعمله الإنسان تعبداً ليس عن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فهو باطل مردود عليه لا يقبل؛ لأنه غير شرعي، فهذا مما يجب أن يكون الإنسان عارفاً به؛ لأنه أصل عظيم يجب التنبه له.

دعاء أصحاب القبور شرك أكبر

دعاء أصحاب القبور شرك أكبر قال الشارح رحمه الله: [ومنها: أن الذي شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم عند زيارة القبور إنما هو تذكر الآخرة، والإحسان إلى المزور بالدعاء له، والترحم عليه، والاستغفار له، وسؤال العافية له، فيكون الزائر محسناً إلى نفسه وإلى الميت، فقلب هؤلاء المشركون الأمر، وعكسوا الدين، وجعلوا المقصود بالزيارة الشرك بالميت ودعاءه والدعاء به، وسؤاله حوائجهم، واستنزال البركة منه، ونصره لهم على الأعداء ونحو ذلك، فصاروا مسيئين إلى أنفسهم وإلى الميت. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى الرجال عن زيارة القبور سداً للذريعة، فلما تمكن التوحيد في قلوبهم أذن لهم في زيارتها على الوجه الذي شرعه، ونهاهم أن يقولوا هجراً، ومن أعظم الهجر الشرك عندها قولاً وفعلاً]. أما دعاؤهم سواءً دعاهم للشفاعة، أو دعاهم بأن يتوسطوا له عند الله في شيء حاضر، أو دعاهم استقلالاً؛ فهذا هو الشرك الأكبر، أما دعوة الله بهم كأن يقول: يا رب! أسألك بوليك الفلاني، أو أسألك بنبيك، أو أسألك بجبريل، أو أسألك بفلان وفلان؛ فهذا وإن لم يكن شركاً إلا أنه من البدع التي تكون طريقاً إلى الشرك، لأننا قلنا: إن الأصل في العبادة أن تكون مشروعة وإلا فهي باطلة، وهذا لم يشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يفعله، ولم يأمر به، ولم يقره، بل نهى عنه، فإذاً هو ليس مشروعاً، بل هو من البدع، فسؤال الله بالغير بدعة لا تجوز، أما أن يسأل الغير أن يتوسط له عند الله فهذا شرك، ولا أحد يعتقد أن أحداً من الخلق مشارك لله في الملك والتصرف، هذا لا يوجد؛ لأن الأمر في هذا ظاهر جلي، فالله هو المتصرف وحده، فالذي يسأل الميت أو الغائب، أو يسأل الحي الموجود ما لا يقدر عليه إلا رب العالمين، فهذا أشرك بالله جل وعلا شركاً أكبر، ولكن كونه يسأل الله به فيقول: أسألك بفلان أو بجاه فلان فهذا بدعة، وهو سؤال بشيء أجنبي عنك، لا صلة لك به، كقول كثير من الناس: نسألك -يا ربنا- بجاه نبينا صلى الله عليه وسلم، وإذا قيل له: هذا ما يصلح، قال: أليس للنبي صلى الله عليه وسلم جاه عند الله عظيم؟ نقول: بلى، له جاه عظيم عند الله جل وعلا، ولكن الله جل وعلا ما أمرنا أن نسأله بجاهه، وجاهه كعمله، فهل يسوغ لك أن تسأل الله بعمل فلان، أو بحج فلان، أو بصلاة فلان، أو بصوم فلان؟ ما يصلح؛ لأن صومه له، وحجه له، وعمله له، وكذلك جاهه له، والجاه نتيجة العمل، فمن كان أتقى لله وأعبد كان جاهه أعظم عند الله. فالمقصود أن من الناس من يتعلق بالخلق دائماً، إما أن يسألهم، وإما أن يسأل بهم، أما سؤالهم بأن يتوسطوا له عند الله، أو يعطوه مطلوبه، أو يزيلوا عنه مرهوبه، فهذا شرك أكبر، وأما سؤال الله بهم فهذا بدعة قد تجر إلى الشرك، وتكون وسيلة إلى الشرك.

فضل زيارة المقابر وآداب زيارتها

فضل زيارة المقابر وآداب زيارتها قال الشارح رحمه الله: [وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (زوروا القبور فإنها تذكر الموت). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المدينة فأقبل عليهم بوجهه فقال: السلام عليكم يا أهل القبور! يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن بالأثر) رواه أحمد والترمذي وحسنه]. ينبغي لزائر القبور أن يقول هذا الدعاء ونحوه، كأن يقول: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)، وهذا الاستثناء (إن شاء الله) إما للتبرك أو للمكان أي: أنه يكون في هذا المكان، أما اللحوق فهو أمر متحقق لابد منه، فلابد أن يموت ويلحقه، (نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم)، هكذا ينبغي أن يقول، أما أن يذهب ويقول: أسألك يا فلان! أن تعمل كذا، وتعطينا كذا، أو تتوسط لنا، أو تشفع لنا، فهذا عكس المشروع الذي شرعه النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك كون الإنسان يذهب إلى القبر ويتحرى العبادة عنده، يعني: يعبد الله عند هذا القبر، ويظن أن العبادة عنده أفضل، وأنها أرجى للعبادة، ويقول: أنا ما أعبد صاحب القبر، ولكن أعبد الله عند هذا الولي تبركاً، والعبادة عنده أولى من غيرها، فهذا ضلال، وهذا بدعة من أعظم البدع، وهي من وسائل الشرك ودواعيه التي تدعو إليه، فإنه أولاً يقول: أذهب أعبد الله عند القبر، ثم يتدرج به الأمر حتى يعبد صاحب القبر ويدعوه، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول كما في حديث عبد الله بن عمر والذي في الصحيح: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، وصلوا فيها)، ويقول: (فإن الشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة) يعني: أن القبور ليست محلاً للعبادة، والمعنى: لا تجعلوا البيوت مشبهة بالقبور مهجورة من العبادة؛ من الصلاة ومن القراءة، لا تجعلوها بهذه المثابة، وليس المعنى: لا تقبروا موتاكم في البيوت، فهو ما أراد هذا صلوات الله وسلامه عليه، بل معناه: لا تعطلوا بيوتكم من العبادة فتهجروها فتكون شبيهةً بالقبور، فالقبور متقرر عندهم أنها مهجورة من العبادة، لا يتعبد عندها، فالعبادة محلها غير القبر؛ ولهذا يتفق العلماء على أن الصلاة لا تصح في المقبرة، بل هي من المواضع التي لا تصح الصلاة فيها. وكذلك كونه يوضع قبر في المسجد، فهذا يجعل الصلاة فاسدة باطلة، ولا تصلح الصلاة فيه، فإذا وضع القبر في المسجد وجب أن ينبش ويخرج منه، أما إذا بني المسجد على القبر وجب أن يهدم هذا المسجد؛ لأن القبور لا يجوز البناء عليها، ولا تجوز الكتابة عليها، ولا رفعها بحيث تتميز عن غيرها، ولا وضع شيء يدعو إلى الانتباه ولفت الأنظار إليها، وكل هذا جاء النهي عنه خوفاً من التعلق بها؛ لأنها محل للفتنة. [فهذه الزيارة التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته وعلمهم إياها، هل تجد فيها شيئاً مما يعتمده أهل الشرك والبدع، أم تجدها مضادة لما هم عليه من كل وجه؟ وما أحسن ما قال مالك بن أنس رحمه الله: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم، ونقص إيمانهم، عوضوا عن ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك]. معنى كلام الإمام مالك رحمه الله ورضي عنه أن أول هذه الأمة صلح بالدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك آخرها لا يصلح إلا بهذا الدين، لن تصلح الأمة إلا به، والذي جاء به هو عبادة الله وحده، وتوحيده وإخلاص الدعاء والقصد والتعلق به وحده، هذا هو أعظم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولما أخذ به الصحابة أحياهم الله جل وعلا، وصاروا بعدما كانوا مشركين دعاة خير وهدى، ونور الله قلوبهم بالعلم والتقى، فصاروا يدعون إلى عبادة الله، ويخرجون الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، وهكذا إذا أخذ آخر هذه الأمة بما أخذ به أولئك؛ يحصل لهم ما حصل لهم؛ لأن الله جل وعلا يقول: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، لا صلة بين العبد وبين ربه إلا بالتقى والطاعة فقط، والأنساب والوظائف والرئاسات والأموال والأبهات ما تفيد شيئاً عند الله، (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)، فمن كان قلبه تقياً، وعمله مرضياً على وفق شرع الله؛ فهذا الذي يرضاه الله جل وعلا، وبهذا يحصل الصلاح لنفسه ولمن يدعوه ويستجيب له إلى هذا الطريق.

تجريد السلف للتوحيد

تجريد السلف للتوحيد قال الشارح رحمه الله: [ولقد جرد السلف الصالح التوحيد، وحموا جانبه، حتى كان أحدهم إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم أراد الدعاء استقبل القبلة، وجعل ظهره إلى جدار القبر ثم دعا، ونص على ذلك الأئمة الأربعة: أنه يستقبل القبلة وقت الدعاء حين يدعو عند القبر فإن الدعاء عبادة، وفي الترمذي وغيره: (الدعاء هو العبادة)، فجرد السلف العبادة لله، ولم يفعلوا عند القبور منها إلا ما أذن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدعاء لأصحابها، والاستغفار لهم والترحم عليهم]. وهذا الذي ينبغي أن يفعله الزائر للنبي صلى الله عليه وسلم، إذا زاره وسلم عليه وأراد أن يدعو لنفسه، ينبغي أن يستقبل القبلة؛ لأن القبلة هي قبلة الدعاء، ولا يستقبل القبر خوفاً من أن يتشبه بالمشركين الذين يدعون القبور، وربما يراه الجاهل فيظن أنه يدعو الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا شرك، وفيه تشبه بالمشركين في الصورة، وهذا ممنوع لا يجوز، بل ينبغي له أن يبتعد عن إضلال الغير، ولو بالشيء الموهوم، حتى لا يكون قدوة في أمر لا يجوز. ولم يكن السلف يتحرون الدعاء عند القبر، ولا يقصدونه، بل كانوا ممتثلين لأمره صلى الله عليه وسلم حيث قال لهم: (لا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا علي أينما كنتم)، والعيد اسم لما يتردد عليه، ويعتاد المجيء إليه، سواء كان مكاناً أو زماناً، فما تردد واعتاد الناس مجيئه من الزمن صار عيداً، وما ترددوا عليه من مكان صار عيداً، فالعيد يكون للمكان وللزمان، فنهى صلوات الله وسلامه عليه عن ذلك وقال: (صلوا علي أينما كنتم)، فالصحابة فهموا هذا، وكانوا يتمكنون من الدخول على القبر بكل سهولة، ومع هذا لم يذهبوا إلى قبره صلوات الله وسلامه عليه، بل كان أحدهم إذا دخل المسجد صلى عليه، ولم يتجه إليه، ولم يرفع يديه ويقول: أنا أسلم عليه؛ لأنهم يعرفون أن هذا لم يشرعه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمر به، بل لم يكونوا يترددون عليه للسلام. فالمقصود أن السلف فهموا مراد الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانوا ممتثلين لأمره، مبتعدين عن نهيه، ولاشك أن الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر بما يأمر الله جل وعلا به، ورسالته ودعوته أن تكون العبادة لله وحده، وسيأتي الكلام على هذا المعنى في الباب الثاني مما يلي هذا الباب إن شاء الله.

تصوير حال عباد القبور وما هم فيه من خسران وبوار

تصوير حال عباد القبور وما هم فيه من خسران وبوار قال الشارح رحمه الله: [وأخرج أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم)، وإسناده جيد، ورواته ثقات مشاهير. وقوله: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً) أي: لا تعطلوها عن الصلاة فيها والدعاء والقراءة فتكون بمنزلة القبور، فأمر بتحري النافلة في البيت ونهى عن تحري النافلة عند القبور، وهذا ضد ما عليه المشركون من النصارى وأشباههم. ثم إن في تعظيم القبور واتخاذها أعياداً من المفاسد العظيمة التي لا يعلمها إلا الله، ما يغضب لأجله كل من في قلبه وقار لله، وغيرة على التوحيد، وتهجين وتقبيح للشرك، ولكن (ما لجرح بميت إيلام). فمن المفاسد: اتخاذها أعياداً، والصلاة إليها، والطواف بها، وتقبيلها، واستلامها، وتعفير الخدود على ترابها، وعبادة أصحابها، والاستغاثة بهم، وسؤالهم النصر والرزق والعافية وقضاء الدين وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات، وغير ذلك من أنواع الطلبات التي كان عباد الأوثان يسألونها أوثانهم، فلو رأيت غلاة المتخذين لها عيداً، وقد نزلوا عن الأكوار والدواب إذا رأوها من مكان بعيد، فوضعوا لها الجباه، وقبلوا الأرض، وكشفوا الرءوس، وارتفعت أصواتهم بالضجيج، وتباكوا حتى تسمع لهم النشيج، ورأوا أنهم قد أربوا في الربح على الحجيج، فاستغاثوا بمن لا يبدئ ولا يعيد، ونادوا ولكن من مكان بعيد، حتى إذا دنوا منها صلوا عند القبر ركعتين، ورأوا أنهم قد أحرزوا من الأجر ولا أجر من صلى إلى القبلتين، فتراهم حول القبر ركعاً سجداً، يبتغون فضلاً من الميت ورضواناً، وقد ملئوا أكفهم خيبة وخسراناً فلغير الله -بل للشيطان- ما يراق هناك من العبرات، ويرتفع من الأصوات، ويطلب من الميت من الحاجات، ويسأل من تفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، وإغناء ذوي الفاقات، ومعافاة ذوي العاهات والبليات، ثم انثنوا بعد ذلك حول القبر طائفين، تشبيهاً له بالبيت الحرام الذي جعله الله مباركاً وهدى للعالمين، ثم أخذوا في التقبيل والاستلام أرأيت الحجر الأسود وما يفعل به وفد البيت الحرام؟! ثم عفروا لديه تلك الجباه والخدود التي يعلم الله أنها لم تعفر كذلك بين يديه في السجود، ثم كملوا مناسك حج القبر بالتقصير هناك والحلاق، واستمتعوا بخلاقهم من ذلك الوثن، إذ لم يكن لهم عند الله من خلاق، وقد قربوا لذلك الوثن القرابين، وكانت صلاتهم ونسكهم وقربانهم لغير الله رب العالمين، فلو رأيتهم يهنئ بعضهم بعضاً ويقول: أجزل الله لنا ولكم أجراً وافراً وحظاً، فإذا رجعوا سألهم غلاة المتخلفين أن يبيع أحدهم ثواب حجة القبر بحجة المتخلف إلى البيت الحرام فيقول: لا ولا بحجك كل عام! هذا ولم نتجاوز فيما حكيناه عنهم، ولا استقصينا جميع بدعهم وضلالهم، إذ هي فوق ما يخطر بالبال ويدور في الخيال، وهذا مبدأ الأصنام في قوم نوح كما تقدم، وكل من شم أدنى رائحة من العلم والفقه، يعلم أن من أهم الأمور سد الذريعة إلى هذا المحظور، وأن صاحب الشرع أعلم بعاقبة ما نهى عنه وما يئول إليه، وأحكم في نهيه عنه وتوعده عليه، وأن الخير والهدى في اتباعه وطاعته، والشر والضلال في معصيته ومخالفته. انتهى كلامه رحمه الله تعالى.

مسائل باب ما جاء في المصورين

مسائل باب ما جاء في المصورين

حرمة التصوير والتغليظ فيه

حرمة التصوير والتغليظ فيه قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل: المسألة الأولى: التغليظ الشديد في المصورين]. كونه يجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في النار، وكون الله جل وعلا يقول: (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي؟! فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا شعيرة). وسبق أن هذا الوعيد لم يأت مثله في كثير من الكبائر، والأحاديث فيه كثيرة مستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا وعيد شديد للمصور، والمصور في هذه الأحاديث هو كل من صور صورة ذات روح، لأن الأمور التي يختص بها رب العالمين جل وعلا لا يجوز أن يفعلها المخلوق؛ لأن الخلق من خصائص الرب جل وعلا، فهو الخالق البارئ المصور. ومع هذا التهديد يجعل الله له بكل صورة صورها نفساً يعذب بها في النار، وهذا أمر عظيم جداً. والمقصود بالصورة هي التي تكون ذات روح، أما صورة الجبل وصورة الشجرة وما أشبه ذلك فهذا لا بأس به.

المصور ترك الأدب مع الله

المصور ترك الأدب مع الله [المسألة الثانية: التنبيه على العلة، وهو ترك الأدب مع الله لقوله: (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي؟)]. المضاهاة هي المشابهة، كونه يشابه الرب جل وعلا بالفعل، وهذا لا يمكن للمخلوق، وإنما هو جرأة من ابن آدم؛ لأن ابن آدم كما وصفه الله جل وعلا ظلوم جهول، وإذا اجتمع الجهل والظلم تمادى الإنسان في الغي، نسأل الله العافية!

تحدي الله للمصورين فيه بيان لقدرته جل وعلا وعجزهم

تحدي الله للمصورين فيه بيان لقدرته جل وعلا وعجزهم [المسألة الثالثة: التنبيه على قدرته وعجزهم، لقوله: (فليخلقوا ذرة أو حبة أو شعيرة)]. قوله: (ليخلقوا ذرة أو حبة أو شعيرة) هذا أمر يقصد به التعجيز، وهذا يستمر دائماً إلى قيام الساعة، مهما أوتوا من العلوم ومن الوسائل لن يستطيعوا أن يخلقوا حبة ولا شعيرة، فلا يستطيعون أن يخلقوا حبة من لا شيء، ويوجدوها من العدم كما أوجدها الله، وحتى الذرة وهي أصغر مخلوق لا يستطيعون خلقها، ولو اجتمع حذاق العلماء بما لديهم من الوسائل ما استطاعوا أن يخلقوا ذرة، لأن هذا من خصائص الله جل وعلا وحده.

المصورين أشد عذابا من الكفار يوم القيامة

المصورين أشد عذاباً من الكفار يوم القيامة [المسألة الرابعة: التصريح بأنهم أشد الناس عذاباً]. (أشد الناس عذاباً المصورون)، هكذا جاء من الحديث، وهم الذين يصورون الصور، فالناس هنا مطلق، ويفهم من هذا أنهم أشد عذاباً من الكفار، نسأل الله العافية، ومع هذا لا يجوز أن نقول: إن المصور إذا كان مسلماً وصور الصور فإنه يكون كافراً بذلك، ولكن هو معرض لهذا الوعيد، ويوشك أن يقع فيه.

عذاب المصور في الآخرة على قدر ما صور في الدنيا

عذاب المصور في الآخرة على قدر ما صور في الدنيا [المسألة الخامسة: أن الله يخلق بعدد كل صورة نفساً يعذب بها المصور في جهنم]. وهذا أمر صعب جداً على المصور، لأن الله يخلق له بكل صورة صورها نفساً يعذب بها في جهنم، نسأل الله العافية، فإذا كان الإنسان يؤمن بهذا الوعيد فإنه يحدث له خوف، أما إذا لم يكن مؤمناً ولا يبالي به فهذا أمر آخر، وسيلقى ذلك وسيشاهده ولكن حين لا ينفعه الندم، ولا ينفعه الاستعتاب، ولا تكون هناك توبة، فالتوبة لمن تاب من فعل الذنب في الدنيا، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له.

تكليف المصور بنفخ الروح فيما صوره في الدنيا

تكليف المصور بنفخ الروح فيما صوره في الدنيا [المسألة السادسة: أنه يكلف أن ينفخ فيها الروح]. وهذا غير ممكن، وهو مثل ما سبق: (ليخلقوا ذرة)، (ليخلقوا شعيرة)، (ليخلقوا حبة) ويقال له: أحي ما خلقت، يعني: انفخ فيه الروح، وهل يمكن أن ينفخ فيه الروح؟ لا يمكن، وهذا من أشد العذاب أن يكلف ما لا يستطيعه، ولا قدرة له فيه. ولا فرق في التصوير بين كونه يصور بيده أو يصور بآلة، فإذا فعل ذلك فهو مصور.

وجوب طمس الصور

وجوب طمس الصور [المسألة السابعة: الأمر بطمسها إذا وجدت]. إذا وجدت الصورة الواجب أنها تطمس، يعني: تمسح بشيء يزيلها أو يحكها أو ما أشبه ذلك، وجاء أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما دخل الكعبة وجد فيها صوراً، ووجد فيها صورة إبراهيم وإسماعيل وهما يستقسمان بالأزلام فقال: (قاتلهم الله! لقد علموا أنهما لم يستقسما بها).

شرح فتح المجيد [129]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [129] إن من صفات المسلم البارزة أن يعظم خالقه جل وعلا، فإذا عمل عملاً ذكر ربه جل وعلا، وإذا حلف فإنه يحلف بالله، مراعياً عدم الإكثار من الأيمان، خاصة إذا كان الأمر متعلقاً بشيء من أمور الدنيا؛ لأن ذلك ينافي الأدب مع الله سبحانه وتعالى، وممن لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم: رجل جعل الله بضاعته: لا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه.

ما جاء في كثرة الحلف

ما جاء في كثرة الحلف قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في كثرة الحلف]. قال الشارح رحمه الله: [أي: من النهي عنه، والوعيد]. قوله: (باب ما جاء في كثرة الحلف) يعني: أن الذي يكثر الحلف لابد أن يأثم، لأنه يحنث أي: يفعل الشيء الذي حلف ألا يفعله، وهذا إثم، وكثرة الحلف غالباً تدل على أن الذي يحلف ويكثر من ذلك لم يقدر الله حق قدره، ولم يعظمه حق تعظيمه، والواجب أن يعرف الإنسان ربه حق المعرفة، ويعظمه حق التعظيم، ولا يعمل الشيء الذي قد يترتب عليه سخط الله وعذابه، فإن الإنسان ضعيف، وإذا تعرض لمساخط الله يوشك أن يغضب الله عليه ويمقته، ثم يهلك بذلك. ثم إن الحلف هو في الأصل ذكرك من تعظمه عند الخبر تأكيداً لما تخبر به، وأنك إذا كنت غير صادق فإنه يعذبك، هذا الأصل في الحلف، فلهذا وجب أن يكون الحلف بالله أو بصفة من صفاته، ولا يجوز أن يكون الحلف بغير الله جل وعلا، بل جاء في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك).

لا يجوز الحلف بغير الله

لا يجوز الحلف بغير الله نحن ممنوعون أن نحلف بغير الله أو بصفة من صفاته كأن نقول: برحمة الله، بقدرة الله، وما أشبه ذلك من الصفات التي يجوز أن يحلف بها، ومن ذلك الحلف بكلام الله أو بالقرآن؛ لأن القرآن صفة من صفات الله، أو تقول: بالله أو بالرحمن أو بالحق، أو ما أشبه ذلك، أو تأتي بالواو؛ لأن أحرف القسم ثلاثة: الواو والباء والتاء، وفي لغة العرب أن التاء تختص بالله جل وعلا، تقول: تالله، وقد جاء هذا في القرآن: حيث يقول المشركون وهم في النار، يخاطبون الذين أشركوهم مع الله: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:97 - 98] يعني: عندما سويناكم معه في المحبة؛ لأنهم لم يسووهم معه في الخلق والإيجاد والتصرف، هذا لا يعتقده أحد. إذاً: الحلف يجب أن يكون بالله أو بصفة من صفاته، وأي حلف يكون بغير الله جل وعلا فإنه يدخل في قوله صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)، ولا يخرج من ذلك شيء من المخلوقات حتى المعظمة والمقربة لدى الله كالكعبة أو النبي أو جبريل أو الملائكة، فهذه كلها لا يجوز الحلف بها، وإنما يحلف بالله جل وعلا، وكثير من الناس يكثر من الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهذه مخالفة صريحة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، ومن حلف فليحلف بالله أو ليصمت) وقوله: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك). وهذا الباب قصد به المؤلف وجوب تعظيم الله وتقديره حق قدره كالأبواب السابقة؛ لأن الذي يحلف بالله كاذباً أو يحلف بغيره لم يعظم الله ولم يقدره حق قدره، ونحن ممنوعون أن نحلف بغير الله، فلا يقول قائل: إن الله جل وعلا يقسم بالمخلوقات، فالله جل وعلا لا حظر عليه، يقسم بما يشاء، ويفعل ما يشاء، ولكن نحن عبيد لله، يجب أن نمتثل أمره، وقد أكثر الله جل وعلا من القسم في القرآن بالمخلوقات كقوله جل وعلا: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا} [العاديات:1 - 2]، وقوله: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى:1 - 2]، وقوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل:1]، وقوله: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:1]، وقوله: {وَالْفَجْرِ} [الفجر:1]، وقوله: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج:1]، وما أشبه ذلك. ولكن الله جل وعلا يقسم بما يدل على قدرته، وأنه المتفرد بالخلق والإيجاد والتصرف، وله أن يقسم بما يشاء، أما نحن عبيده فعلينا أن نمتثل الأمر، وأن نكون عبيداً تحت أمره، مجتنبين نهيه، والذي يكثر من الحلف لا يسلم من الحنث، والحنث هو المخالفة لما حلف أنه لا يقع أو يقع لا يفعله أو يفعله، ومن أكثر من ذلك وقع في الإثم؛ ولهذا ذكر المؤلف هذا الباب ليحذر منه. ثم إن هذا لا يدخل فيه لغو اليمين المذكور في قول الله جل وعلا: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} [المائدة:89] عقدتم يعني: الشيء الذي أكدتموه وعقدتم القلب عليه هو الذي يؤاخذ به الإنسان، أما لغو اليمين فهو الذي يقع في كلام الناس عند مخاطباتهم كأن يقول: لا والله ليس كذا، أو بلى والله إنه كذا، ولم يقصد به الحلف، ولم يقصد به تأكيد الحلف، وإنما يقع في المخاطبات الجارية بين الناس، فهذا يسمى لغواً، والله جل وعلا لا يؤاخذ به، وإنما يؤاخذ بالشيء الذي يقصد أن يحلف عليه ويقسم، فتخبر بشيء أنه كذا أو تخبر أنك لا تفعل كذا، ثم تذهب وتفعله، فهذا هو الذي يؤاخذ بالمخالفة فيه، والمقصود في الحديث الآتي وجوب حفظ اليمين، وكذلك قول الله جل وعلا: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة:89]. واليمين بعضه أشد من بعض؛ ولهذا جاء أن من الكبائر اليمين الغموس، واليمين الغموس هي: التي تغمس صاحبها في الإثم أو في النار، وهو أن يحلف على الشيء وهو يعلم أنه كاذب، ومع هذا فالحلف بغير الله أعظم من اليمين الغموس كما قال ابن مسعود: لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقاً. لأن الحلف بغير الله شرك، والشرك أكبر من الكبائر، وكون الإنسان يحلف على أمر وهو يعلم أنه كاذب لا شك أن هذا يدل على ضعف إيمانه، وقلة مراقبته لله جل وعلا، فيكون توحيده إما ضعيفاً وإما معدوماً.

قوله تعالى: (واحفظوا أيمانكم)

قوله تعالى: (واحفظوا أيمانكم) قال المصنف رحمه الله: [وقول الله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة:89]] قوله جل وعلا: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة:89] اختلف المفسرون فيها على قولين، وكلاهما حق، وأحدهما ملازم للآخر، القول الأول: أن معنى قوله: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة:89] أي: لا تحلفوا، وهذا يروى عن ابن عباس؛ لأنه بعدم الحلف يحفظ اليمين، ولا يقع الإنسان في الإثم والمخالفة، والقول الثاني: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة:89] أي: لا تتركوها بلا تكفير، يعني: إذا حلفتم وخالفتم فكفروا، فإن الله جل وعلا شرع الكفارة في ذلك، ولاسيما في الأمور التي يتبين للإنسان أن فعلها أو تركها أفضل، فإذا حلف الإنسان على شيء ألا يفعله فتبين له أن فعله أفضل، فإن الأولى والأحسن له أن يكفر عن يمينه ويفعله.

كفارة اليمين

كفارة اليمين قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إني والله إن شاء الله لا أحلف على شيء فأرى غيره خيراً منه إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير)، وهكذا ينبغي للإنسان إذا حلف أن يفعل شيئاً فتبين له أن فعله ليس حسناً، بل تركه أحسن؛ فينبغي أن يكفر عن يمينه ولا يفعله. فكل ما فيه خير وحلف على الامتناع منه فعليه أن يكفر ويفعله، وإن حلف على أن يفعل شيئاً فرأى أن تركه خير، فعليه أن يكفر عن يمينه ولا يفعله، وكفارة اليمين جاءت منصوصاً عليها في كتاب الله جل وعلا أنها إطعام عشرة مساكين {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة:89]، ومعنى (من أوسط ما تطعمون) أي: من خير ما تطعمون أهليكم؛ لأن الوسط في اللغة العربية الخيار كقوله: {جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143] يعني: خياراً، فالمراد من الشيء الحسن الذي تأكلون منه وترضونه وتطعمون منه أهليكم، وإطعام عشرة مساكين بأن يعطى كل مسكين نصف صاع، ولو صنع طعاماً ودعا إليه عشرة مساكين كفى ذلك، وصار كفارة، هذا الأمر الأول. الأمر الثاني: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة:89] والكسوة كما يقول العلماء: إنها الشيء الذي تصح به الصلاة، فلا يلزم أن يكسوه الكسوة الكاملة كلها، فله أن يكسوه قميصاً وسراويل أو قميصاً وعمامة، وما أشبه ذلك، وإن لم يفعل هذا انتقل للأمر الذي هو خير منه وأفضل وهو إعتاق رقبة، فهذه الأمور الثلاثة رتبها الله جل وعلا، بدأ بالأسهل ثم ما هو أحسن وأعلى، ثم ما هو أعلى، فالأسهل الإطعام، والكسوة أفضل وأعلى، ولكنها أغلى، وإعتاق الرقبة أغلى من الجميع، وهذه الأمور الثلاثة يخير فيها الإنسان، فيختار أي واحدة شاء من هذه الثلاثة، فإن لم يجد انتقل إلى الصيام، ولا يجزيه الصيام وهو يجد الكفارة؛ ولهذا قال: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة:89]، فشرط الصيام عدم الوجود، وكثير من الناس يبدأ بالصيام رأساً وإن كان واجداً للكفارة، وهذا لا يجزي، بل لابد أن يبدأ بما بدأ الله جل وعلا به، فإن لم يجد شيئاً من الثلاثة انتقل إلى الصيام.

اليمين الغموس لا تكفر

اليمين الغموس لا تكفر الكفارة مشروعة، ولكن الشيء الممنوع أن يعلم أن هذا الشيء الذي يخبر به لم يقع، كالذين يحلفون عند الحاكم على شيء معين إذا توجهت إليهم اليمين، فإذا ادعى شيئاً على إنسان ما، ولم يكن له بينة، فإن اليمين تتجه إلى المدعى عليه، فإن كان يعلم أن الذي ادعى عليه صادقاً فيجب عليه أن يعترف بالحق، وإذا حلف كاذباً وهو يعرف فهذه اليمين التي ليس لها كفارة، وهي اليمين الغموس، وهي أعظم من أن تكفر، وكذلك الذي يحلف على الكذب كما سيأتي في الحديث، مثلاً إنسان يريد أن يبيع شيئاً ما، فيحلف أنه لا يبيعه إلا بكذا، ثم يبيعه بأقل من ذلك، أو يحلف أنه أعطي فيه كذا وكذا وهو كاذب، أو يحلف أنه اشتراه بكذا وكذا وهو يكذب، والصحيح أنه اشتراه بأقل من ذلك، فهذه ليس فيها كفارة؛ لأنه تعمد الكذب، وهي اليمين الغموس التي لا كفارة فيها، وهذا الذي سيأتي فيه الوعيد، أما ما ذكر من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إني إن شاء الله لا أحلف على شيء ثم أرى غيره خيراً منه إلا كفرت عن يميني، وأتيت الذي هو خير) فمثاله أن يحلف ألا يدخل بيت فلان، فيتبين له أن دخوله أفضل من عدم الدخول، أو يحلف ألا يكلم فلاناً، أو أن يطلق زوجته فهذا يكفر عن يمينه ولا يفعل ذلك، ومثل هذا الذي تشرع فيه الكفارة.

معنى حفظ اليمين

معنى حفظ اليمين قال الشارح رحمه الله تعالى: [قال ابن جرير: لا تتركوها بغير تكفير. وذكر غيره من المفسرين عن ابن عباس: يريد لا تحلفوا، وقال آخرون: احفظوا أيمانكم عن الحنث]. وهذا القول الثالث الذي هو: احفظوا أيمانكم عن الحنث هو قول ابن جرير، يعني: لا تتركوها بلا تكفير، وهنا يقول: احفظوها عن الحنث، والحنث هو المخالفة لكونه حلف وخالف، فإذا حلف وخالف فهو معنى كونه لا يتركها بلا تكفير، يعني: يلزمه أن يكفر. إذاً: يكون القول الأول والثاني: لا تتركوها بلا تكفير أو أنكم لا تحلفوا، وقد عرفنا ما هي الأيمان التي تكفر والتي لا تكفر، فالأيمان التي يحلف عليها الإنسان وهو يعلم أنه كاذب لا كفارة فيها؛ لأنها أعظم من أن تكفر، وقد سميت يميناً غموساً، أما التي تكفر فهي التي يحلف عليها لأجل الامتناع، أن يمنع نفسه أو يمنع غيره، أو لأجل الحض على فعل هذا الأمر، فيتبين له أن امتناعه من هذا الفعل خير من فعله أو أن فعله خير من الامتناع، فهذه التي تكفر، أما الحلف على شيء وهو يعلم أنه كاذب فهذا كفارته لا تجدي شيئاً، ولا ترفع الإثم الذي فعله.

كثرة الحلف سبب لزوال تعظيم الله من قلب المرء

كثرة الحلف سبب لزوال تعظيم الله من قلب المرء قال الشارح رحمه الله: والمصنف أراد من الآية: المعنى الذي ذكره ابن عباس، فإن القولين متلازمان، فيلزم من كثرة الحلف كثرة الحنث مع ما يدل عليه من الاستخفاف وعدم التعظيم لله، وغير ذلك مما ينافي كمال التوحيد الواجب أو عدمه]. الذي يكثر الحلف لابد أن يقع في الاستخفاف بالله جل وعلا، وعدم الاكتراث بالإيمان التي يقسمها، كما هو الواقع في كثير من الناس الذين يعتادون هذا، وهذا يدل على عدم تعظيمهم الله جل وعلا وتقديره حق قدره، وبذلك يكون الإنسان آثماً -نسأل الله العافية-، ويكون على خطر عظيم، فالواجب على العبد أن يتنبه لهذه المسألة؛ لأنها كثيراً ما تقع عند الناس، ولاسيما الذين يتعاطون البيع والشراء، فيجب عليهم أن يجتنبوا الحلف، وسيأتينا أن الحلف في البيع والشراء منفقة للسلعة ممحقة للبركة.

حديث: (الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للكسب)

حديث: (الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للكسب) قال المصنف رحمه الله تعالى: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للكسب) أخرجاه]. هذا الحديث على وجازته تضمن معاني جليلة كسائر كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه صلوات الله وسلامه عليه أعطي جوامع الكلم، وجوامع الكلم هي الكلمات القليلة التي تجمع فيها المعاني الكثيرة. فهنا يقول: (الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للكسب)، وفي رواية: (ممحقة للبركة) يعني أن الإنسان إذا حلف على سلعته سواء كان بائعاً أو مشترياً فإن هذا قد يكون سبباً لأن يعطى أكثر مما يستحق أو يباع عليه بأقل مما تستحق السلعة، ولكن النتيجة أن يكون هذا ماحقاً للبركة، والمحق هو المحو والإزالة والإبادة والإذهاب، ومحق الكسب معناه ذهاب بركته وإن كانت عينه كثيرة، وإذا زالت البركة فلا خير فيه لا في عينه ولا في الانتفاع به؛ لأن البركة أصبحت ممحوقة، فإنفاق السلعة بالحلف معناه: أنه إذا حلف ألا يبيع إلا بكذا أو أنه قد اشتراها بكذا فإن هذا يكون حاملاً للمشتري على أن يقدم على شرائها فتنفق، والنفاق هو أن يرغب فيها المشتري، فهذا من المرغبات ومن المنفقات للبيع، ولكن النتيجة تأتي عكسية، والحلف في الحقيقة مطلق في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا ينبغي للإنسان أن يحلف على الشيء الذي يبيعه أو يشتريه وإن كان صادقاً؛ لأن حلفه وإن كان صادقاً يدخل في هذا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر الحلف كاذباً فقط بل قال: (الحلف)، فمجرد الحلف في البيع منفقة ممحقة، والمفروض على المسلم ألا يحلف كاذباً. إذاً: الحديث حتى في الذي يحلف وهو صادق، فيكون حلفه وهو صادق بهذه المثابة (منفقةٌ للسلعة) يعني: يكون سبباً لأن تنفق عند الناس، فيرغبون فيها ويشترونها، ولكن يكون ذلك محقاً للكسب، فكسبه الذي يتحصل عليه ممحوق البركة، وإذا محق الكسب فلا خير فيه، إن أكل منه لم يبارك له ولم ينتفع به، وإن أنفق منه لم يبارك له ولم ينتفع به، فتزول المنفعة والعين نفسها أيضاً، فعلى هذا تعين على العبد أن يجتنب الحلف، فلا يحلف على الشيء وإن كان صادقاً فيه إذا أراد أن يبيع أو يشتري، بل الأمر فيه سعة، (ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه).

سبب محق الحلف للبركة

سبب محق الحلف للبركة إذا اعتاد الإنسان الحلف رأى أنه لا يستغني عنه، وتصبح أموره كلها ممحوقة، نسأل الله العافية، ولا خير في مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن تصور الإنسان أنه في المخالفة يتحصل على كسب؛ فإن هذا الكسب ممحوق البركة، لا ينتفع به لا في استعماله ولا في تحصيله واقتنائه. أما كون الإنسان يحلف وهو كاذب فقد سبق أن هذا ليس هو المقصود من الحديث، فهذا أمر آخر، وهي اليمين الغموس التي هي من الكبائر، ولكن المقصود كثرة الحلف على الشيء وهو صادق، والسبب في هذا أن الدنيا كلها ينبغي ألا يهتم بها المسلم اهتماماً بحيث أنه يذكر اسم الله جل وعلا عليها؛ جالباً بذلك المنفعة والمصلحة منها، وإنما يذكر اسم الله جل وعلا على العبادات وعلى الأمور التي يراد بها الآخرة، فالدنيا لا ينبغي ذكر اسم الله عليها بالحلف؛ لأن هذا يدل على الرغبة فيها والتعلق بها. وعلى المسلم أن تكون رغبته وتعلقه بالآخرة أكثر، أما في الدنيا فينبغي أن يلاحظ أموراً: الأمر الأول: أن يعرف المهمة من وجوده في هذه الحياة، فإنه وجد لعبادة الله جل وعلا، فلا يخالف أوامر الله، ولا يرتكب نواهيه. الأمر الثاني: أن يعلم أنه يجب عليه أن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه، فإذا كان يعرف أن هذا الشيء فيه عيب لا يعلمه المشتري فيبينه، ولا يحلف له ويغره، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)؛ ولهذا لما جلب بعض السلف سلعة قال له من أراد أن يشتريها: أترضاها لي؟ فقال: أنا ما رضيتها لنفسي حتى أرضاها لك! انظر مع أنه لم ير فيها عيباً، ولكنه رغب عنها. فينبغي أن يكون دين الإنسان أهم عنده من أمور الدنيا، فإذا أقدم على الحلف فهذا يدل على رغبته في الدنيا، وعلى استخفافه بالحلف بالله جل وعلا وعدم توقيره لله جل وعلا، وهذا هو المقصود من قوله هذا: (الحلف منفقة للسلعة) وهو مجرد الحلف، فمعنى هذا: أن يكون الحلف منهياً عنه أصلاً في البيع والشراء، فينبغي للإنسان أن يجتنب الحلف.

جواز الحلف بالله عند الحاجة

جواز الحلف بالله عند الحاجة الأمور التي يطلب فيها تأكيد الخبر، ولا تجلب منفعة للحالف لا بأس أن يحلف عليها، مثلاً: إذا توجهت إليه اليمين في قضية ما، وطلب منه الحلف، فلا يمتنع من الحلف وهو يعلم أنه صادق؛ لأن الله جل وعلا أمر نبيه أن يقسم فقال: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن:7]، فأمره الله جل وعلا أن يقسم بالله جل وعلا على الشيء الذي يعلمه حقاً، وقال: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي} [يونس:53]، وهذا حلف، فأمره الله جل وعلا أن يحلف على ذلك. فإذا علم الإنسان الحق وهو صادق في ذلك فلا بأس بالحلف، ولا يتورع من ذلك ويمتنع ويقول: لا أحلف، لأني أخشى أن أقع في الإثم، لا، فإن الممنوع في مثل هذه الأمور أن يحلف ليجلب مصلحة دنيوية له؛ كجلب ربح أو كسب في أمور الدنيا، فهذا لا يصح. قال الشارح رحمه الله: [قوله: (أخرجاه) أي: البخاري ومسلم، وأخرجه أبو داود والنسائي. والمعنى: أنه إذا حلف على سلعته أنه أعطي فيها كذا وكذا، أو أنه اشتراها بكذا وكذا، وقد يظنه المشتري صادقاً فيما يحكي مما حلف عليه، فيأخذها بزيادة على قيمتها، والبائع كذب وحلف طمعاً في الزيادة، فيكون قد عصى الله تعالى، فيعاقب بمحق البركة، فإذا ذهبت بركة كسبه دخل عليه من النقص أعظم من تلك الزيادة التي دخلت عليه بسبب حلفه، وربما ذهب ثمن تلك السلعة رأساً، وما عند الله لا ينال إلا بطاعته، وإن تزخرفت الدنيا للعاصي فعاقبتها اضمحلال وذهاب وعقاب]. الحقيقة أن الحديث أعم من ذلك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: (الحلف منفقة للسلعة)، ولم يقل: الحلف الكاذب منفقة للسلعة، بل الحلف مطلقاً، فدل ذلك على أنه ينبغي الامتناع عن الحلف في البيع والشراء مطلقاً. والمفترض أن الإنسان إذا حلف أن يكون صادقاً، أما إذا كان كاذباً فهي اليمين الغموس التي ليس فيها كفارة، وهي أعظم من أن تكفر، ولكن المقصود الحلف مطلقاً، وهذا هو ظاهر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حديث: (ثلاثة لا يكلمهم الله ورجل جعل الله بضاعته، لا يشتري إلا بيمينه ولا يبيع إلا بيمينه)

حديث: (ثلاثة لا يكلمهم الله ورجل جعل الله بضاعته، لا يشتري إلا بيمينه ولا يبيع إلا بيمينه) قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن سلمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: أشيمط زان، وعائل مستكبر، ورجل جعل الله بضاعته، لا يشتري إلا بيمينه ولا يبيع إلا بيمينه) رواه الطبراني بسند صحيح]. هذا من الوعيد الشديد، وهذا له منطوق ومفهوم كما هو واضح، (ثلاثة لا يكلمهم الله) المعنى: ثلاثة أنواع وأجناس من الناس، والأشيمط: هو الذي اختلط بياض شعره بسواده، يقال: شمط الشعر إذا اختلط وصار بعضه أبيض وبعضه أسود، وهذا معناه أنه طعن في السن وكبر، وصار داعي الزنا عنده ضعيفاً، والشهوة عنده ليست كالشهوة عند الشاب القوي، فإن هذا يدل على ضعف الدين، وضعف المانع له من فعل الفاحشة، وضعف مراقبة الله، وضعف تعظيم حرمات الله، فأقدم على ذلك وهو محب له، ليس عنده وازع ديني أو خوف من الله أو خوف من عقابه، بخلاف من كان شاباً فإن الشهوة قد تغلبه وتسيطر عليه، ثم إذا وقع في الفاحشة عاد على نفسه باللوم، وأسف وندم، وتاب وأقلع؛ لأنه غلب بأمر قهره، بخلاف الأشيمط فهذا هو السبب في كونه خص بأنه لا يكلم ولا يزكى.

المراد من نفي كلام الله لأهل المعاصي والكبائر

المراد من نفي كلام الله لأهل المعاصي والكبائر المراد بنفي الكلام: كلام الإكرام؛ لأن الله جل وعلا إذا كلم عبده فهو من النعيم العظيم، وليس المقصود نفي كلام التوبيخ أو كلام التعذيب والتهديد كقوله جل وعلا: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108]، فالله يخاطب أهل النار، فيكلم من شاء: لماذا فعلت كذا؟ ولماذا لم تفعل كذا؟ من باب التوبيخ والمحاسبة، وهذا من العذاب، وإنما المراد: نفي الكلام الذي فيه إكرام، وهذا يدلنا على أن الله يكلم عباده المؤمنين إكراماً لهم، وهؤلاء خصوا بأنهم لا يكلمون. وقد جاء في الحديث الصحيح عن عدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان)، فهذا عند المحاسبة. وجاء عن عبد الله بن عمر في الصحيحين أنه سئل: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى؟ يعني: عندما يناجي الله عبده قال: سمعته يقول: (يدني الله عبده المؤمن فيضع عليه كنفه) يعني: يستره عن الناس، فيقرره بذنوبه ويقول: فعلت كذا يوم كذا في مكان كذا، فيتغير لونه، فإذا رأى أنه قد هلك يقول له الله جل وعلا: (سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم)، فيعطى كتابه بيمينه، فيبيض وجهه. فكونه يستره بأن يضع عليه كنفه لئلا يبصره الناس عندما يسأل فيتغير لونه، وهذا الأشيمط الزاني ليس من هؤلاء؛ لأنه لا يكلم، بل يعذب رأساً. ومثله العائل المستكبر، والعائل هو الفقير؛ لأن الفقر ليس داعياً للكبر والغطرسة والتجبر والاستعلاء على الناس، وإنما يدعو إلى ذلك الغنى والمناصب الرفيعة والرئاسات، فهذه هي التي تدعو إلى الكبر، فالله جل وعلا يقول: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7]. فالغنى داع للكبر، فإذا وجدت خصلة الكبر في الإنسان بدون داعٍ دل ذلك على أنه شيء متأصل فيه، وأن هذا خلق يتخلق به، وعمل من أعماله، فاستحق المقت واستحق العذاب. أما الثالث الذي جعل الله بضاعته، يعني: أنه اتخذ الحلف بالله مكسباً، إذا أراد أن يبيع حلف أنه لا يبيع إلا بكذا وكذا ويحلف أنه اشتراه بكذا وكذا، فهذا كذلك؛ لأنه رغب في الدنيا عن الآخرة، وصارت الدنيا أرغب عنده مما عند الله، فاستحق أن الله لا يكلمه. وقوله: (ولا يزكيهم) التزكية هي التطهير من الأدناس، أي: لم يطهرهم الله جل وعلا من آثار الذنوب والدنس، ومعنى ذلك الهلاك؛ لأن كل إنسان لا يخلو من ذلك، وكل إنسان لابد أنه يقع في مخالفات، ويقع في دنس يدنس به دينه من معاصٍ لا ينفك عنها، وهذا أمر جبل عليه الناس لا ينفكون عنه، (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون) وهم الذين يرجعون إلى الله ويتوبون، فمن لم يزكه الله فمعناه أنه لم يتب عليه، وما طهره وما نقاه من عيوبه وآثامه، فيكون هالكاً، فهذا وعيد شديد لمن كانت هذه صفته.

صفات الثلاثة الذين لا يكلمهم الله ولا يزكيهم

صفات الثلاثة الذين لا يكلمهم الله ولا يزكيهم هؤلاء الثلاثة اتصفوا بصفات ذميمة: الأول: فيه صفة الرغبة في الفجور -أي: الزنا- مع ضعف الداعي. والثاني: فيه صفة التكبر مع ضعف الداعي إليه، وربما يكون معدوماً؛ لأن الفقير لا يجد شيئاً يدعوه إلى الكبر، والداعي للكبر هو أن يفضل على الناس، إما بالغنى وإما بالمعنى كالرئاسة وما أشبه ذلك، فإذا لم يوجد ذلك فمعنى هذا أنه ليس هناك داع لذلك، ولكنه أحب هذا الخلق الذميم فاستحق العذاب. الثالث: الذي جعل الله بضاعته، فقد رغب في الدنيا أكثر من رغبته في الآخرة، والدنيا والآخرة ضرتان، إذا مال الإنسان إلى إحداهما ضر بالأخرى، ولكن هذا ليست عنده مجرد ضرة، بل عنده رغبة متأصلة؛ ولهذا يستخف بالحلف، ويقدم الكسب الذي يحصل له على تعظيم الله جل وعلا وحفظ اليمين الذي أمره الله جل وعلا بحفظه، فاستحق المقت على ذلك من عدم التكليم وعدم التزكية من الله جل وعلا، وهذا معناه أن يكون العذاب ملازماً له، نسأل الله العافية.

فضل سلمان الفارسي رضي الله عنه

فضل سلمان الفارسي رضي الله عنه قال الشارح رحمه الله: [قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سلمان منا أهل البيت، إن الله يحب من أصحابي أربعة: علياً وأبا ذر وسلمان والمقداد)]. الشيخ: هذان حديثان وليس حديثاً واحداً. الأول: قوله: (سلمان منا أهل البيت). والثاني: قوله: (إن الله يحب من أصحابي أربعة). والحديث الأول ضعيف، والحديث الثاني ضعيف جداً، ولكن في الفضائل يتساهلون أكثر من هذا بخلاف الأمور التي يلزم الإنسان أن يفعلها أو يمتنع منها. وسلمان رضي الله عنه من أفاضل الصحابة، وأصل سلمان الفارسي من فارس من عبدة النار، بل والده كان هو القيم الذي يقوم على النار ويوقدها، وكان سلمان وحيد والده، ليس له ولد غيره، وكان يحبه حباً شديداً، ولا يصبر عنه إذا غاب. يقول: أرسلني مرة إلى ضيعة له، والضيعة: إما غراس أو شجر أو أغنام أو غيرها، يقول سلمان: فمررت في طريقي على نصارى يتعبدون، فوقفت عندهم ونسيت حاجة أبي، حتى بعث خلفي من يطلبني ويبحث عني، فقلت لهم: دينكم خير من ديننا فأين أصل دينكم هذا؟ فقالوا: في الشام، يقول: فلما رجعت إلى أبي قلت: يا أبت! وجدت ديناً خيراً من ديننا -وهذه فطرة الله جل وعلا التي خلق الناس عليها، وكون الإنسان يعبد النار، ويتجه إليها، فإنه قد جبل على خلاف ذلك، فإن الله فطر الإنسان على عبادته، والنصارى كانوا يعبدون الله- فلما قال ذلك لوالده، قال له والده: لا بل دينك ودين آبائك خير، فقلت: بل دينهم خير من ديننا، يقول سلمان: فخاف أبي فقيدني بالحديد، فأرسلت إلى أولئك: أن إذا جاء وافدكم من الشام فأخبروني، فلما جاء أخبروه، فاحتال وكسر الحديد الذي عليه وذهب معهم إلى الشام، قال: فقلت لهم: دلوني على خيركم، فدلوني على عالم منهم، وكان من خير الناس وأفضلهم، فأحببته حباً شديداً فلما حضرته الوفاة قلت له: إلى من توصي بي؟ فقال: لا أعلم أحداً على ما نحن عليه إلا رجلاً في مكان كذا في بلد كذا، فذهبت إليه فكان على طريقة صاحبه إلا أنه كان رجل سوء، كان يأمرهم بالصدقة ويأخذها لنفسه فجمع أموالاً كثيرة، فلما حضرته الوفاة، قلت: إلى من توصي بي؟ فقال: لا أعلم أحداً على ما نحن عليه إلا رجلاً في بلدة كذا، يقول: فذهبت إليه، فوجدته على طريقة الأول، من خير الناس وأفضلهم، يقول: فبقيت عنده وقتاً، واجتمع عندي شيء من المال من البقر والغنم، ولما حضرته الوفاة، قلت: إلى من توصي بي؟ فقال: ما أعلم على وجه الأرض أحداً على ما نحن عليه، ولكن قد أظلك زمن نبي يبعث، من صفته أن بين كتفيه خاتم النبوة، وأنه يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، وأنه يهاجر إلى بلد ذات نخل بين حرتين، أعطاه هذه الصفات، ومعروف أن النخل لا يكون إلا في المدينة وما حولها أو في نجد، أو في العراق، وليست تلك صفة العراق ولا صفة نجد، يقول: فعلمت أنها في بلاد العرب، فجاء قوم من العرب فقلت: أعطيكم هذا المال من البقر والغنم وتذهبون بي إلى بلادكم؟ قالوا: نعم، فأخذوا ماله، وأخذوه وباعوه على رجل يهودي في وادي القرى، وهذا اليهودي باعه على رجل من يهود المدينة، فبقي رقيقاً مظلوماً، أخذ ماله واسترق، فبقي يعمل في الرق، وكان عند هذا اليهودي نخل، وكان سلمان يؤبر النخل ويشتغل فيه، يقول سلمان: بينما أنا في رأس نخلة إذ جاء أخ لسيدي فقال له: يا فلان! قاتل الله بني قيلة -وبنو قيلة هم الأنصار- يزعمون أنه جاءهم نبي، يقول سلمان: لما سمعت هذه الكلمة كدت أن أسقط من النخلة من شدة الفرح، فنزلت مسرعاً وقلت لسيدي: ماذا يقول؟ فأقبل علي ولطمني وقال: أقبل على شغلك، ما لك ولهذا؟ يقول: فأعرضت عنه، وجعلت أجمع شيئاً من التمر، وعلمت أنه في قباء، أي: الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد قدم مهاجراً هو وأبو بكر، يقول سلمان: فلما أمسى الليل وانتهيت من عملي أخذت شيئاً من التمر وذهبت به إليه، فقلت: هذه صدقة، فدفعه إلى أصحابه وقال: (كلوا) فقلت في نفسي: هذه واحدة، فلما كانت الليلة الثانية، جئت بشيء من التمر وقلت: هذه هدية، فقدم يده وقال: (باسم الله، كلوا)، فقلت في نفسي: هذه الثانية، ثم قمت أتطلع من خلفه لأنظر إلى خاتم النبوة ففطن لي، فحسر الرداء عن كتفيه، فرأيت خاتم النبوة بين كتفيه صلى الله عليه وسلم، فأكببت عليه أقبله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لك؟ فقصصت عليه قصتي، فكان يحب أن يسمعها أصحابه صلوات الله وسلامه عليه؛ لأن فيها عبرة، فقال لي: (كاتب) يعني: اشتر نفسك من سيدك بالمكاتبة، وأمر المسلمين أن يعينوه، فكاتب على مال باهظ، على ثلاثين أوقية من الذهب، وعلى أن يغرس ثلاثمائة ودية، وأن يسقيها حتى تطلع، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعان وقال: (آذنوني عندما تريدون غرسها)، فصار يغرسها بيده صلوات الله وسلامه عليه، فخرجت كلها بإذن الله جل وعلا. فالمقصود أن هذه قصة فيها عبرة؛ ولهذا يقال: سلمان الفارسي ولا يعرف والده. قال الشارح رحمه الله في الحديث: [أخرجه الترمذي وابن ماجة. قال الحسن: كان سلمان أميراً على ثلاثين ألفاً يخطب بهم في عباءة يفترش نصفها ويلبس نصفها، توفي في خلافة عثمان رضي الله عنه]. يعني: كان أميراً على الصحابة عندما كانوا يقاتلون في فتوح العراق، وكان هو أحد الأمراء، وكانت له عباءة يلبسها، بعضها يفترشه، وبعضها يتغطى به في الليل إذا احتاج إلى ذلك، فكانت فراشه ولحافه وهو أمير على ثلاثين ألفاً من الصحابة؛ لأن رغبتهم كانت في الآخرة لا في الدنيا، فبقوا على ما هم عليه رضوان الله عليهم حتى بعدما فتحوا الفتوحات ووجدوا الأموال والجواهر، فكانوا يأتون بها إلى الأمير؛ ولهذا لما جمعت الأموال إلى عمر رضي الله عنه قال لما رأها: والله إن قوماً أتوا بهذا لأمناء؛ لأنها أشياء يطمع الإنسان فيها، ولكن طمعهم فيما عند الله، ولا يطمعون في شيء من الدنيا. ولهذا أيديهم الله جل وعلا ونصرهم، وأنزل الرعب في قلوب أعدائهم، فأصبحوا كما يصفهم أعداؤهم: رهباناً بالليل، فرساناً بالنهار، إذا ركبوا خيلهم لا أحد يقوم أمامهم، وإذا جنهم الليل تجدهم ركعاً سجداً، هذه صفتهم.

إثبات صفة الكلام لله عز وجل

إثبات صفة الكلام لله عز وجل قال الشارح رحمه الله: [قال أبو عبيد: توفي سنة ست وثلاثين عن ثلاثمائة وخمسين سنة، ويحتمل أنه سلمان بن عامر بن أوس الضبي. قوله: (ثلاثة لا يكلمهم الله) نفي كلام الرب تعالى وتقدس عن هؤلاء العصاة دليل على أنه يكلم من أطاعه، وأن الكلام صفة كمال له، والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة أظهر شيء وأبينه، وهذا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة من المحققين، قيام الأفعال بالله سبحانه، وأن الفعل يقع بمشيئته تعالى وقدرته شيئاً فشيئاً، ولم يزل متصفاً به، هو حادث الآحاد قديم النوع كما يقول ذلك أئمة أصحاب الحديث وغيرهم من أصحاب الشافعي وأحمد وسائر الطوائف، كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، فأتى بالحروف الدالة على الاستقبال، والأفعال الدالة على الحال والاستقبال أيضاً، وذلك في القرآن كثير]. في قوله: (ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم) في نفي كلام الله مع هؤلاء إثبات لكلامه مع غيرهم، فالله جل وعلا وصف نفسه بأنه يتكلم، ولا شك أن الوحي والأمر والنهي كلام، فالله يوحي إلى ملائكته بأمره الذي يأمرهم به، ويوحي إلى رسله من البشر بواسطة جبريل عليه السلام، والذي يأتي به هو كلام الله إليهم، وكتبه التي أنزلها هي من كلامه، وكذلك سائر شرعه الذي يشرعه لعباده؛ لأنها كلها أمر ونهي، والأمر والنهي يكون بالكلام، والكلام صفة كمال، والله جل وعلا له الكمال المطلق، وكل كمال في المخلوق فالله هو الذي وهبه، وواهب الكمال أحق به جل وتقدس، وإنما جاءت الشبه ممن دخل في الإسلام مريداً إفساده، أما المسلمون فلم ينكر ذلك أحد منهم إلا من ضل عقله وفكره، فإن من ضل ينكر ما هو كثير الورود في كتاب الله، وما هو موروث عن رسل الله من كون الرب جل وعلا يتكلم. ومن أنكر كلام الله جل وعلا فهو في الواقع ينكر الرسالة، وينكر الشرع ينكر كونه سبحانه أرسل الرسل، وشرع الشرائع؛ لأن الرسل ترسل بالأمر والنهي، وإذا لم يكن الأمر والنهي من الله فمن أين يكون؟ إذاً: عطلوا الله جل وعلا عن كونه يأمر وينهى ويتكلم، فقد وصفوه بالنقص، وقد قال الله جل وعلا: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6]، ومعلوم أن المبلغ لا يسمع كلام الله من الله وإنما يسمعه ممن يبلغه، والمقصود بكلام الله هنا القرآن، فإذا طلب كافر من المسلمين أن يطلع على شرعهم وجب عليهم أن يؤمنوه حتى يسمعوه كلام الله جل وعلا الذي تكلم به. والأدلة على هذا متكاثرة جداً، فالذي ينكر كلام الله يلزمه إنكار الرسالة، وإنكار الشرع، بل إنكار الكمال لله جل وعلا. والله جل وعلا توعد هؤلاء الثلاثة وغيرهم بأنه لا يكلمهم، فترك كلامهم من العذاب الذي توعدهم به جل وعلا، فيلزم من هذا أنه جل وعلا يكلم أولياءه من المؤمنين ويخاطبهم، وهم الذين اتبعوا شرعه وآمنوا بكلامه، والأدلة على هذا من كتاب الله ومن أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تحصر.

إنكار الجهمية لصفة الكلام لله عز وجل

إنكار الجهمية لصفة الكلام لله عز وجل لم يكن أحد من المسلمين ينكر شيئاً من صفات الله، حتى جاءت فرقة يقال لها: الجهمية، وأول من عرف بإنكار ذلك رجل مشبوه دخيل في الإسلام، يظن أنه من اليهود، وإن لم يكن من اليهود فهو تلميذ لهم تربى في أحضانهم، فأول من عرف عنه إنكار هذا رجل يقال له: الجعد بن درهم، وأخذ عن أبان بن سمعان، وأبان بن سمعان هذا أخذ عن يهودي ابن ساحر من سحرة اليهود، ولشناعة قوله وقبحه، لما أظهره نفرت النفوس والفطر عنه، وأنكره كل الناس، بل استعظموا ذلك، ورفعوا أمره إلى أحد قواد بني أمية في آخر دولتهم، وهو خالد بن عبد الله القسري، فأخذه وقيده، وكان في عيد الأضحى، فجاء به مقيداً إلى المصلى، وقد جرت العادة أن القائد الذي يتولى قيادة الجيش لابد أن يستطيع أن يفصل الأمور ويقضي ويخطب ويصلي بالناس وإلا لا يصلح للقيادة، فلما حضرت صلاة العيد قام يخطب الناس، وفي آخر خطبته قال: أيها المسلمون! ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضحٍ بـ الجعد بن درهم؛ لأنه يزعم أن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، تعالى الله عن قوله علواً كبيراً، ثم نزل من على المنبر وقتله، فضحى به، فشكره الناس على ذلك، وأثنوا على صنيعه؛ لأن هذا ملحد خارج من دين الله وشرعه، مخالف للفطر والعقول. ثم بعد ذلك نبغ تلميذ له يقال له: الجهم بن صفوان، ونشر فساده ثم أدرك وقتل، فهذه العقيدة الفاسدة جاءت من هؤلاء، ثم نمت الفتن وازدادت لمن يربيها وينميها قاصداً بها إفساد العقيدة، وقد علم من التاريخ أن الكفار لم يعجبهم الإسلام ولا عقائده، وما استطاعوا أن يواجهوا الإسلام بالقوة أو بالجيوش فأصبحوا مقهورين مهزومين مدحورين، من أجل ذلك ذهبوا إلى تأسيس المؤسسات التخريبية لإفساد العقيدة ومحاربتها من داخل المسلمين، فيدخل في المسلمين من ليس منهم؛ لأجل بث الفساد، وإفساد عقائدهم التي صاروا أقوياء بها، فدخل الكثير في دينهم تستراً وخفية وقصدهم الإفساد، وإلى الآن وهذه المؤسسات التخريبية تبث سمومها في أوساط المسلمين، ولكن أساليبهم وطرقهم تختلف حسب مقتضيات الحال. والواقع أن من المسلمين المغرر بهم من ينكر كلام الله جل وعلا، ومع ذلك فالأمر واضح وجلي، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم كما في الحديث المتفق عليه: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان)، والله جل وعلا أخبرنا أنه يحاسب عباده، وأنه سريع الحساب، فهو الذي يتولى حسابهم جل وعلا. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم كما في حديث الشفاعة المتفق عليه: (إن الله يأتي لفصل القضاء، وهم وقوف في الموقف، فيخاطبهم جل وعلا فيقول: أليس عدلاً مني أن أولي كل واحد منكم ما كان يتولاه في الدنيا؟ فكلهم يقولون: بلى يا رب!)، وما أظن أنه يخلو حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا مقطع من آيات الله جل وعلا وكتابه من إثبات أن الله يتكلم ويكلم ويخاطب ويفعل ما يريد جل وعلا، وهو فعال لما يريد، فكيف ينكر مثل هذا؟ وإذا أنكرت مثل هذا فمعنى ذلك أن تنكر عبادته وأنه هو المعبود الحق الواحد، وقد عاب الله جل وعلا على الذين عبدوا العجل والأصنام بأن هذه المعبودات لا تملك رد الخطاب إذا خاطبوها، فهذا دليل على أن المعبود الذي يجب أن تكون العبادة له يسمع من دعاه، ويخاطبه إذا شاء.

بطلان شبهة من نفوا صفة الكلام لله عز وجل

بطلان شبهة من نفوا صفة الكلام لله عز وجل قال الشارح رحمه الله: [قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فإذا قالوا لنا -يعني النفاة: فهذا يلزمه أن تكون الحوادث قائمة به قلنا: ومن أنكر هذا قبلكم من السلف والأئمة؟ ونصوص القرآن والسنة تتضمن ذلك مع صريح العقل. ولفظ الحوادث مجمل، فقد يراد به الأعراض والنقائص والله تعالى منزه عن ذلك، ولكن يقوم به ما يشاء من كلامه وأفعاله ونحو ذلك مما دل عليه الكتاب والسنة. والقول الصحيح هو قول أهل العلم والحديث الذين يقولون: لم يزل الله متكلماً إذا شاء، كما قال ابن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما من أئمة السنة]. ثم قال الشارح رحمه الله: [ومعنى قيام الحوادث به تعالى: قدرته عليها وإيجاده لها بمشيئته وأمره، والله أعلم]. الأصل عند أهل السنة أن الله جل وعلا لا يوصف ولا يسمى إلا بما وصف به نفسه، أو سمى به نفسه، أو سماه أو وصفه به رسوله، ولا يجوز أن نقيسه بالمخلوقات؛ لأن الله جل وعلا غيب، لا أحد يشاهده أو ينظر إليه، وليس مثله شيء فيقاس به تعالى وتقدس. فعلى هذا يجب أن نقف مع النص الذي يأتينا عن ربنا جل وعلا، فإذا وصف ربنا نفسه بشيء وصفناه به، وإذا سمى نفسه بشيء سميناه به، وما عدا ذلك يجب أن يرد على صاحبه مهما كان، وكلمة الحوادث لم تأت في كتاب الله ولا في حديث رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا يوصف بها الرب جل وعلا؛ ولهذا يقول: هو لفظ مجمل، ولكنهم يصطلحون ويقولون: الكلام والاستواء والنزول والمجيء، وما أشبه ذلك حوادث، ونحن نقول: إنها صفات وأفعال يفعلها الله جل وعلا إذا شاء، ولا يجوز أن نسميها حوادث, وإن سميتموها حوادث وقصدتم المعنى الصحيح، فالمعنى الصحيح يجب إثباته، واللفظ الباطل يجب رده، ويجب أن يعبر عن المعاني الثابتة لله جل وعلا بالعبارات التي جاءت عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم. ولكن هؤلاء يسمون هذه الأفعال والصفات بأسماء يقصدون بها تنفير الناس عن قبولها والإيمان بها، وليس قصدهم إلا ذلك، ولهذا سموا صفات الله جل وعلا أعراضاً، وقد يسمونها أبعاضاً، فيقولون: يتعالى ربنا ويتقدس عن الأعراض والأبعاض، ومقصودهم بالأعراض: أنه لا يتصف بالسمع، ولا بالبصر، ولا بالعلم، ولا يتصف بالإرادة، ولا بالمحبة، ولا بالرضا، ولا بالبغض، ولا بالغضب، ولا بغير ذلك مما وصف نفسه به. ومرادهم بالأبعاض: أنه ليس له يد، وليس له عين، وليس له وجه، وما أشبه ذلك من الأوصاف التي وصف بها نفسه، والذي يعرف مذهبهم يعرف ذلك، أما الجاهل الذي لا يعرف مذهبهم ومرادهم فيغتر بكلامهم ويتصور أنهم يريدون التنزيه، وهم يريدون الكفر والتنقص. ثم إن هناك شبهاً يثيرونها في أوجه ضعاف المسلمين، أو ضعاف طلبة العلم، فيقولون مثلاً: قد اتفق العقلاء على أن الحوادث لا تحل إلا بحادث، ومن اتصلت به الحوادث يكون حادثاً، والله جل وعلا هو الأول بلا بداية، كما أنه الآخر بلا نهاية، وما سوى الرب جل وعلا هو المحدث المبتدع بعد أن لم يكن، فمثلاً يقولون عن صفة الكلام التي أنكروها: أنكرنا هذه الصفة لأنها تدل على الحدوث، وإذا قلنا لهم: ما هو الحدوث الذي تدل عليه هذه الصفة؟ قالوا: في قولك: بسم الله الرحمن الرحيم، الباء تكون قبل السين، والسين قبل الميم، وهكذا الحروف كلها متعاقبة بمعنى: أنه يأتي واحد بعد الآخر، فالباء تسبق السين بالزمن والنطق، والسين تسبق الميم بالزمن والنطق، فهذه حوادث. إذاً نقول لهم: ما هو الكلام المعقول الذي يثبت لله عندكم؟ قالوا: أن تختلط حروفه وتجتمع أولها وآخرها، ثم تأتي دفعة واحدة، هذا هو الكلام؟! هذا لا يمكن أن يكون كلاماً، ولا يسمع ولا يعقل، ولا يعرفه ولا يفهمه المخاطب. ثم يقولون: التعاقب يقتضي النقص، أي نقص يقتضيه التعاقب؟ بل كونه يأتي على الوجه الذي يريده، والوجه الذي يفهمه ويعقله المخاطب فإنه يقتضي الكمال، قالوا: نحن لا نعقل كلاماً إلا ما كان بلسان وشفتين ولهوات وحنجرة وحبال الصوت، لا نعقل الكلام إلا بهذا، يقال لهم: هذا كلامكم الذي تعقلونه أنتم. فهذا دليل على أنكم تشبهون الله جل وعلا بأنفسكم، فأردتم أن يكون كلامه ككلامكم الذي تتعارفون عليه، والله أكبر وأعظم من ذلك، فيجب أن يمحى هذا التشبيه من النفس، ومعلوم أن الله لا يشبهه أحد في ذاته سبحانه، فإذا كان كذلك -وهم لا يخالفون في هذا؛ ولا يمكنهم المخالفة- فيقال لهم إذاً: الصفة تتبع الموصوف، فإذا كانت ذاته جل وعلا لا تشبه الذوات، نقول: كذلك كلامه لا يشبه كلام الخلق، وسائر صفاته لا تشبه صفات الخلق. ثم يقال لهم: قد عقل المؤمنون الذي آمنوا بالله وبرسله أن الكلام لا يحتاج إلى ما ذكرتموه، فلا يحتاج إلى لسان ولا إلى لهوات ولا إلى شفتين، ولا إلى حنجرة، ولا إلى حبال صوتية، فقد أخبرنا الثقات الذين نقلوا عن رسولنا صلى الله عليه وسلم النقل المتواتر: أن الحصى كان يسبح بين يديه، ويسمعون تسبيحه، وأن الطعام كان يسبح وهو يأكله مع أصحابه، فهل الطعام له فم أو لهوات أو حناجر أو شفاه؟ هل يستطيعون أن يثبتوا هذا؟! لا. أبداً. وقد جاء بالنقل المتواتر: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يخطب على جذع نخلة يابس يتكئ عليه -وكان مسجده صلوات الله وسلامه عليه أعمدته من جذوع النخل، وكان سقفه جريد النخل، وإذا هطل المطر يخر من سقفه الماء، وربما سجد في الماء والطين وهو يصلي صلوات الله وسلامه عليه -ثم بعد ذلك أمر غلاماً نجاراً من الأنصار أن يصنع له منبراً، فصنع له منبراً من أعواد الطرفاء- طرفاء الغابة -فجيء به ونصب في المسجد، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم يخطب على هذا المنبر صار ذلك الجذع الهامد يحن مثل حنين الناقة إذا فقدت ولدها، حتى سمع أهل المسجد كلهم حنينه، وبقي يحن حتى نزل إليه الرسول صلى الله عليه وسلم واحتضنه، فهدأ كما يهدأ الطفل الذي يبكي إذا أخذته أمه، فهل هذا الجذع له لسان وفم وشفاه؟! وكذلك يخبرنا ربنا جل وعلا عن الأشقياء بقوله: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا} أي: جاءوا إلى جهنم، {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ} [فصلت:20 - 22] يعني: ما كنتم تفعلون التقوى التي تمنعكم من هذا، وكذلك يقول جل وعلا: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65] الأيدي تتكلم، والأرجل تتكلم، ويقول الله جل وعلا: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة:1 - 4] صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تحديثها بأخبارها أنها تشهد بما صنع عليها) أي: أن المكان نفسه يشهد على هذا الإنسان فيقول فعل عليّ كذا يوم كذا في وقت كذا وكذا، هذه أخبارها التي تحدثها، وذلك بأن ربك أوحى لها. ويقول جل وعلا في قصة داود أنه سخر الطير والجبال تسبح معه، ويقول جل وعلا: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] ويخبر جل وعلا أن الشجر يسجد، وأن النجوم تسجد، وأن الشمس والقمر يسجدان، وجاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى الشمس وقال لـ أبي ذر: (أتدري أين تذهب؟ فقال: الله ورسوله أعلم، قال: إنها تذهب حتى تكون عند العرش، فتسجد وتستأذن في المضي، فيوشك أن لا يؤذن لها، ثم يقال لها: ارجعي من حيث جئت فترجع وتطلع من المغرب، عند ذلك إذا شاهدها الناس آمنوا كلهم) ولكن لا ينفعهم إيمان. وهناك أشياء كثيرة لا حصر لها تتكلم وتنطق، وتسبح وتخضع وليس لها ألسن ولا أرجل، ولكن نحن لا نعقل كلامها. إذا ثبت هذا في المخلوق فكيف يتصور أن كلام الرب جل وعلا ككلام المخلوق؟! فيجب أن ينزه الله عن ذلك، ويجب أن يكون له الكمال المطلق، والأدلة على هذا أكثر من تحصر، ولكن تكفي الإشارة.

الكلام على حديث: (ثلاثة لا يكلمهم الله)

الكلام على حديث: (ثلاثة لا يكلمهم الله) قال الشارح رحمه الله: [قوله: (ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم) لما عظم ذنبهم عظمت عقوبتهم، فعوقبوا بهذه الثلاث التي هي أعظم العقوبات] وقد تقدم ذكر هؤلاء الثلاثة وهم: رجل جعل الله بضاعته، لا يشتري ولا يبيع إلا بالحلف، والله لا أبيعه إلا بكذا، والله لا أشتري إلا بكذا والله إني اشتريته بكذا ولا أبيعه إلا بكذا وما أشبه ذلك، فجعل الله بضاعته. الثاني: أشيمط زان، والأشيمط هو: من اختلط بياض شعره بسواده، يعني: أنه كبر وليس عنده قوة الشباب التي قد تدعوه إلى فعل الفاحشة والباطل، وقد تعمي بصيرته، فيعمى حتى يقع في المنكر، فإذا وقع في المنكر أفاق، أما هذا الأشيمط الزاني فإن فعله يدل على أن حب الزنا متأصل في نفسه فاستحق هذا العقاب. الثالث: عائل مستكبر، والعائل: هو الفقير؛ ومن المعروف أن الذي يدعو إلى الكبر هو الغنى وتبوء المناصب العالية، كما قال الله جل وعلا: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7] أما الفقير فلا يوجد عنده شيء يدعوه إلى الكبر، فإذا تكبر دل هذا على أن الكبر أصيل في نفسه، فاستحق هذا العقاب. هؤلاء هم الثلاثة: رجل كبير اختلط شيبه بسواده، فأقدم على جريمة الزنا، وآخر صارت الدنيا هي المقدمة عنده، فأصبح لا يبالي بالحلف بالله، وليس لله عنده وقار، فلا يعظمه ولا يوقره، فيحلف على أمر تافه من أمور الدنيا، حتى يتحصل له عشرة ريالات أو خمسة أو أكثر أو أقل، ولا يبالي، والثالث: فقير متكبر.

المنفق سلعته بالأيمان الكاذبة

المنفق سلعته بالأيمان الكاذبة قال الشارح رحمه الله: [قوله: (أشيمط زان) صغره تحقيراً له؛ وذلك لأن داعي المعصية ضعيف في حقه، فدل على أن الحامل له على الزنا هو محبة المعصية والفجور، وعدم خوفه من الله، وضعف الداعي إلى المعصية مع فعلها يوجب تغليظ العقوبة عليه، بخلاف الشاب، فإن قوة داعي الشهوة منه قد يغلبه مع خوفه من الله، وقد يرجع على نفسه بالندم ولومها على المعصية، فينتهي ويراجع. وكذا العائل المستكبر ليس له ما يدعوه إلى الكبر؛ لأن الداعي إلى الكبر في الغالب كثرة المال والنعم والرياسة، والعائل الفقير لا داعي له إلى أن يستكبر، فاستكباره مع عدم الداعي إليه يدل على أن الكبر طبيعة له، كامن في قلبه، فعظمت عقوبته، لعدم الداعي إلى هذا الخلق الذميم الذي هو من أكبر المعاصي. قوله: (ورجل جعل الله بضاعته) بنصب الاسم الشريف، أي: الحلف به، جعله بضاعته، لملازمته له وغلبته عليه، وهذه أعمال تدل على أن صاحبها إن كان موحداً فتوحيده ضعيف، وأعماله ضعيفة، بحسب ما قام بقلبه، وظهر على لسانه وعمله من تلك المعاصي العظيمة على قلة الداعي إليها، نسأل الله السلامة والعافية، ونعوذ بالله من كل عمل لا يحبه ربنا ولا يرضاه]. وهذا محل الشاهد من الحديث في هذا الباب، وهو الذي جعل الله بضاعته، لا يشتري ولا يبيع إلا بالحلف رغبة في تحصيل الربح الدنيوي، وعدم تعظيم الله جل وعلا وتقديره، وقد أمرنا الله جل وعلا بحفظ أيماننا فقال: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة:89] وتقدم أن معنى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} إما أن يكون: لا تحلفوا، أو يكون المعنى: لا تتركوها بلا تكفير إذا حلفتم بالله، ولكن المؤلف أراد المعنى الأول: لا تحلفوا؛ لأن كثير الحلف لابد أن يقع في المخالفة. ومعلوم أن الحلف المقصود به أن يؤكد الخبر بذكر المعظم الذي إذا ذكر عند الخبر يقدر على عقاب هذا الحالف إذا كان كاذباً، هذا هو القصد من الحلف، فإذا حلف الإنسان فالمعنى أنه يقول: أنا أحلف بالله وهو القادر على عقابي إن كنت كاذباً. ولهذا السبب منع شرعاً الحلف بغير الله جل وعلا، وصار الحلف بغير الله شركاً؛ لأنه لا يوجد أحد من الخلق يقدر على معرفة ما في ضمير هذا الإنسان، ومعرفة مخالفته، ويقدر على عقابه أو إثابته، فإذا كان صادقاً يثاب، وإذا كان مخالفاً يعاقب، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك). ومعلوم أن الكفر أعم من الشرك، وأن الشرك أخص من الكفر؛ ولهذا قال: (فقد كفر أو أشرك) فلهذا يتعين على العبد الذي يهتم بنفسه أن يجتنب كثرة الحلف، وإذا حلف على أمر من الأمور يريد المنع من فعل هذا الشيء أو يريد الحض على فعله، هذا في غير البيع والشراء، أما البيع والشراء فقد جاء هذا الحديث خاصاً بهما، فلا ينبغي أن يكون الحلف في البيع والشراء. والبائع يجب أن يكون صادقاً فيما يقول، ويجب أن يكون مبيناً لسلعته إن كان فيها عيب، وإذا سئل صدق، ويبتعد عن الحلف، ورزقه الذي أراده الله له سوف يأتيه حلف أو لم يحلف، ولكن بعض الناس لسوء فعله وسلوكه يكون رزقه عن طريق محرم، وعن طريق سيئ؛ لأنه لم يتبع ما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم. وغالباً أن الذي يحلف عند البيع والشراء يكون كاذباً، ولا يلزم أن يكون الحالف كاذباً على الإطلاق، فإنه يوجد من يحلف وهو صادق ولكنه مخطئ في حلفه؛ لأن هذا ليس موضع الحلف، فالحلف له مواضع، وهذا الذي يحلف على البيع والشراء يدل على شدة رغبته في الكسب، وفي تحصيل الرزق، والمسلم يجب عليه أن يرغب في الآخرة أكثر من رغبته في الدنيا، أما الدنيا فهي تبع، إن جاءت بالطريق الشرعي وإلا فلا يطلبها عن طريق محرم، وهذا مسلك المسلم الذي يجب أن يسلكه. المقصود: أن الذي يحلف على البيع والشراء غالباً ما يقع في الكذب، ويكون في الجملة واقعاً في الإثم؛ لأنه لا يجوز الحلف في البيع والشراء، وعليه أن يقول: أنا لا أحلف، إن شئت صدقتني وإلا ذهبت إلى غيري، وهذا لا يختص بإنسان واحد، لماذا يحلف بالله عز وجل على أمور تافهة؟ والله جل وعلا يقول: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة:89] ومن حفظها أن لا تبتذل في الأمور التافهة مثل هذه المسألة.

شرح فتح المجيد [130]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [130] الكلام صفة ذاتية لله سبحانه، لا يشبهه فيها أحد من خلقه، دل على ذلك كتابه الحكيم وسنة نبيه الكريم عليه الصلاة والسلام، وأجمع على ذلك الصحابة الكرام العدول الأمناء، ثم من بعدهم من القرون الفاضلة من سلف هذه الأمة. والله جل وعلا يكلم عباده الصالحين يوم القيامة كلام رحمة، ويكلم العصاة كلام عذاب وخزي، ويعرض عن أقوام فلا يكلمهم ولا ينظر إليهم، ومن هذا الصنف: من يكثر من الحلف والأيمان دون توقير لجناب الله سبحانه وتعالى.

حديث: (خير القرون قرني)

حديث: (خير القرون قرني)

القرون الثلاثة الأولى مفضلة تفضيلا مطلقا

القرون الثلاثة الأولى مفضلة تفضيلاً مطلقاً قال المصنف رحمه الله تعالى: [وفي الصحيح عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم -قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثاً؟ - ثم إن بعدكم قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن)]. هذا حديث من الأحاديث التي بلغت حد التواتر وقوله صلى الله عليه وسلم: (خير القرون قرني) وهذا ليس في الأمة فقط، بل هو تفضيل مطلق. قوله: (ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) يقول عمران بن حصين راوي الحديث: فما أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثاً، أي أنه قال: ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم مرتين أو قال ثلاث مرات: ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، وقد جاء في حديث ابن مسعود أنه ذكر بعد قرنه ثلاث مرات، وفي أكثر الروايات أنه لم يذكر (ثم الذين يلونهم) بعد قرنه إلا مرتين فقط، وهذا الذي يشهد له الواقع. وهذا صريح وظاهر في أن خير هذه الأمة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الذي يعتقده المسلمون الذين سلموا من الانحراف والضلال، فالذين شاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم، وتلقوا الإيمان منه، وقاتلوا معه وصلوا معه وامتثلوا لأوامر الله لا يمكن أن يكون من يأتي بعدهم مثلهم، هذه عقيدة المسلمين التي يعتقدونها. وقد أثنى الله عليهم في كتابه في آيات كثيرة وأخبر أنه راض عنهم والله جل وعلا لا يثني على من يعلم أنه سيكون مرتداً؛ لأنه علام الغيوب. وكذلك لا يمكن أن يكون أحد مثل الرسول في الدعوة والتأثير، والتعليم والبلاغ، فلو قلنا مثلاً: إن الصحابة ليسوا أفضل ممن أتى بعدهم، أو أنهم تركوا دينهم وارتدوا، للزم أن نقول: إن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فاشلة وليست ناجحة، وهذا معناه: أن قرنه شر القرون، فينعكس قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني). وقد اختلف العلماء في تحديد القرن، والمشهور أن القرن يقدر بمائة سنة، ولكن الذي رجحه كثير من العلماء أن القرن لا يلزم أن يكون مائة سنة، فقد يكون أكثر وقد يكون أقل، والذين قالوا: مائة سنة، قالوا: إن الصحابة منهم من بقي مائة سنة ثم مات، وهذا هو الذي سار عليه الناس، ولهذا يجعلون كل مائة سنة قرناً، ويقولون: نحن الآن في القرن الخامس عشر؛ لأنه مضى على هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ألف وأربعمائة سنة وزيادة، هذا الذي توارثه الناس، ويكاد يكون إجماعاً منهم. فإذاً: يكون المقصود بالذين يلونهم الذين بعدهم في المائة الثانية، والذين يلونهم في المائة الثالثة، ثم بعد ذلك يحدث ما ذكر، وهو أن يأتي قوم يخونون ولا يؤتمنون، ويشهدون ولا يستشهدون، ويكثر فيهم السمن، ومعنى يخونون: تكثر فيهم الخيانة، وتقل أمانتهم، ويقدمون على الشهادة ولو لم تطلب منهم، وهذا هو معنى قوله: (يشهدون ولا يستشهدون) ومعنى هذا أن الديانة والأمانة والتقوى خفت عندهم بسبب قلة مخافتهم لله، وكثرت لديهم الرغبة في الدنيا وكثرت المخالفات والمعاصي وسهلت لديهم.

فضل الصحابة في القرآن والسنة

فضل الصحابة في القرآن والسنة وقوله: (يكثر فيهم السمن) يعني: يصبحون سماناً، وهذا يدل على رغبتهم في الشهوات، وطلبهم إياها، وأنهم يطلبونها بما يستطيعون، وليس عندهم الخوف من النار الذي يمنعهم من السمن، كما منع الذين من قبلهم من الصحابة وغيرهم، الذين كان يقول أحدهم: منعني الخوف من النار النوم، ولم يكونوا يتعجلون طيباتهم في الدنيا، بل يرجون الآخرة، ويرغبون فيها أكثر من رغبتهم في الدنيا، وقوله: (خير القرون قرني) هذا نص صريح في تفضيل القرن الذي بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم في الجملة، ولا يلزم أن يكون كل من في هذا القرن أفضل ممن يأتي بعدهم، فقد يكون في هذا القرن من لا يستحق الفضل؛ ولكن الصحابة خصوا بالفضل، وقد صح أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما حدث شجار بين بعض من تأخر إسلامه من الصحابة ومن تقدم إسلامه قال لهم: (لا تسبوا أصحابي فوالله لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) الخطاب هذا يوجه لبعض الصحابة الذين تأخر إسلامهم، فأسلموا بعد الفتح فقال لهم: (لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) فكيف بمن يأتي بعد الصحابة؟ فلا يقاس بهم أبداً ولا يكون قريباً منهم. وقد حذرنا الرسول صلى الله عليه وسلم من بغضهم، وقال: (الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضاً، فمن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن أحبهم فبحبي أحبهم) والله جل وعلا يقول: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29] يعني: يغيظ بأفعالهم الكفار، ولهذا يقول الإمام مالك رحمه الله: من أغاظه فعل الصحابة فليس بمؤمن، وليس له من الغنيمة نصيب، لقوله جل وعلا: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} وكذلك أثنى جل وعلا على المهاجرين لما ذكر الفيء وذكر الغنائم قال: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} فوصفهم بأنهم فقراء وأنهم مهاجرون: {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8] ثم بعد ذلك جاء دور الأنصار فأثنى عليهم: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9] ثم أثنى على الذين يأتون من بعدهم ويدعون لهم: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10] هؤلاء هم الذين يثني الله جل وعلا عليهم، ويحبون من سبقهم بالإيمان، ويدعون لهم بالمغفرة، ويدعون ألا يكون في قلوبهم غلاً وبغضاً لهم. وأخبر الله جل وعلا في آيات كثيرة جداً عن هذه المعاني، فلهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم) ثم يليهم في الخيرية الذين بعدهم مباشرة، ثم يليهم في الخيرية الذين بعدهم، ثم بعد ذلك لا يتوقف الخير، بل هو كثير ولكن يغلب الشر في هذه الأمة، بخلاف القرون المفضلة الثلاثة فإن الخير أغلب، والجهاد ظاهر وقائم، والعدو مقهور ومدحور، ومن رفع رأسه من الأشرار قمع، هذا معنى الخير في القرون السابقة. وأما ما بعدهم من القرون فقد صار الشر له قوة وسلطان وأنصار وأعوان، يظهرون ويتسلمون زمام الأمور، وقد يكون لهم حكم، وقد يزيد حكمهم ويغلب وقد ينقص، هذا هو المقصود، ولا يقال: إنه بعد القرون الثلاثة انعدم الخير وانتهى، بل قد قال صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك) يعني: حتى تقوم الساعة وهم على هذا والطائفة تصدق على ثلاثة، وتصدق على رجل واحد، كما أن لفظ (الأمة) يصدق على رجل واحد، كما قال الله جل وعلا: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ} [النحل:120] ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: (إن معاذ بن جبل أمة قانتاً لله) فلما قال له: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ} [النحل:120] قال: كنا نشبه معاذ بن جبل بإبراهيم، والمقصود أن الأمة تطلق على الرجل الواحد. فإذاً: قوله: (طائفة من أمتي) يصدق على جماعة سواءً كانوا ثلاثة أو عشرة أو مائة أو ألفاً. يقول العلماء: هذه الطائفة قد تكثر وتقوى، ويكون لها سلطان وقوة وشوكة تحارب العدو، وقد تضعف وتكون متفرقة في بلاد شتى، بين داع إلى الله، وبين عالم يظهر بالحجج، ويبطل الباطل، وبين منفق في سبيل الله، وبين مجاهد في سبيل الله، وما أشبه ذلك، ولا يلزم أن يكونوا على طريقة واحدة، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين، ولا يلزم أن يكونوا في بلد معين، بل قد يكونون في وقت من الأوقات في هذا البلد، وفي وقت آخر في بلد آخر، وهكذا. المقصود: أنه لابد أن تبقى هذه الطائفة في هذه الأمة على الحق، ولهذا يقول العلماء: إن الإجماع حجة قاطعة لهذا الحديث وما أشبهه؛ لأن الطائفة المنصورة على الحق تكون بهذا الإجماع.

حقيقة الخيرية المذكورة للقرون الثلاثة

حقيقة الخيرية المذكورة للقرون الثلاثة قال الشارح رحمه الله: [قوله: (وفي الصحيح) أي: صحيح مسلم، وأخرجه أبو داود والترمذي، ورواه البخاري بلفظ: (خيركم) قوله: (خير أمتي قرني) لفضيلة أهل ذلك القرن في العلم والإيمان، والأعمال الصالحة التي يتنافس فيها المتنافسون، ويتفاضل فيها العاملون، فغلب الخير فيه وكثر أهله، وقل الشر فيه وأهله، واعتز فيه الإسلام والإيمان، وكثر فيه العلم والعلماء. (ثم الذين يلونهم) فضلوا على من بعدهم: لظهور الإسلام فيهم، وكثرة الداعي إليه، والراغب فيه والقائم به، وما ظهر فيه من البدع أنكر واستعظم وأزيل؛ كبدعة الخوارج والقدرية والرافضة. فهذه البدع وإن كانت قد ظهرت فأهلها في غاية الذل والمقت والهوان والقتل فيمن عاند منهم ولم يتب. قوله: (فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثاً؟) هذا شك من راوي الحديث عمران بن حصين رضي الله عنه. والمشهور في الروايات: أن القرون المفضلة ثلاثة، الثالث دون الأولين في الفضل، لكثرة ظهور البدع فيه، لكن العلماء متوافرون، والإسلام فيه ظاهر، والجهاد فيه قائم، ثم ذكر ما وقع بعد القرون الثلاثة من الجفاء في الدين، وكثرة الأهواء. فقال: (ثم إن بعدكم قوماً يشهدون ولا يستشهدون) لاستخفافهم بأمر الشهادة، وعدم تحريهم للصدق، وذلك لقلة دينهم، وضعف إسلامهم. قوله: (ويخونون ولا يؤتمنون) يدل على أن الخيانة قد غلبت على كثير منهم، أو أكثرهم. قوله: (وينذرون ولا يوفون) أي: لا يؤدون ما وجب عليهم، فظهور هذه الأعمال الذميمة يدل على ضعف إسلامهم، وعدم إيمانهم. قوله: (ويظهر فيهم السمن) لرغبتهم في الدنيا، ونيل شهواتهم والتنعم بها، وغفلتهم عن الدار الآخرة، والعمل لها. وفي حديث أنس: (لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم) قال أنس: سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم، فما زال الشر يزيد في الأمة حتى ظهر الشرك والبدع في كثير منهم، حتى فيمن ينتسب إلى العلم، ويتصدر للتعليم والتصنيف. قلت: بل قد دعوا إلى الشرك والضلال والبدع، وصنفوا في ذلك نظماً ونثراً فنعوذ بالله من موجبات غضبه]. الشاهد للباب من هذا الحديث قوله: (ويشهدون ولا يستشهدون، وينذرون ولا يوفون). قال المصنف رحمه الله: [وفيه عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته)]. قوله: (فيه) يعني: في الصحيح عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يأتي قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته) وهذا فيه الإطلاق بأن الصحابة خير الناس، يعني: إذا كانوا خير الناس فلابد أن يخرج من ذلك الأنبياء والرسل، فهم أفضل الناس، لكن هل الناس المقصود بهم مطلقاً، أو الناس الذين بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم؟ جاءت النصوص تدل على أن المقصود أنهم خير الناس مطلقاً، وأما الرسل فهم يخرجون من هذا بالنصوص الأخرى، وقد جاءت أحاديث في فضل القرن الأول منها: قوله: (أنكم توفون سبعين أمة، أنتم خيرها وأفضلها)، ولا شك أن الخيرية لصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم أولى، وبهم أجدى، إذ هم الذين تلقوا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وشاهدوا نزول الوحي، وجاهدوا معه، وكذلك بلغوا دعوته بعده. والخيرية تنحصر في قبول الدين واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا شك أنه صلوات الله وسلامه عليه وجد من يقبل دينه ومن يناصره عليه، وهم الصحابة رضوان الله عليهم، وقد لقوا العنت والمشاق، والأمور الصعبة التي تحملوها في سبيل ذلك، وصارت عندهم سهلة ميسورة في سبيل طاعة الله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فتفانوا في ذلك وأنفقوا أموالهم وبذلوا نفوسهم طاعة لله مغتبطين بذلك، وبذلك صاروا هم خير الناس، ثم الخيرية فيمن بعدهم تتفاوت لتفاوت القبول لهذا الدين، والتأثر به، والقيام به على حسب أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلما بعد بالناس العهد بالنبوة قل التأثر، وقل التقى واتباع الحق، إلى أن يكون شرار الناس هم من تقوم عليهم الساعة، كما جاء في صحيح مسلم: (شرار الخلق الذين يتخذون القبور مساجد، ومن تقوم عليهم الساعة) وفي الصحيح عن أنس (ما يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه) ثم يقول: سمعت ذلك من نبيكم صلى الله عليه وسلم. ومعلوم أن الخيرية ليست في الذوات والأجساب، والتفاخر في الدنيا، والتكاثر فيها بالأموال والأولاد، وإنما الخيرية في طاعة الله وحبه ومعرفته، وهذا أمر لا يجادل فيه من يعرف الحق، ولا شك أن الصحابة أولى الناس بذلك، إذ هم الذين فهموا الوحي وقبلوه على الوجه الذي ينبغي، ثم إنهم قاموا ببذل أموالهم وأنفسهم في الذب عن دين الله، وبذل الطاعة للنبي صلى الله عليه وسلم، مغتبطين بهذا راغبين فيه، فاستحقوا بذلك أن يكونوا خير الناس. والصحابي يطلق على كل من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مؤمن به. ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم في آخر عهده رآه خلق كثير جداً وهم مؤمنون به، وذلك في حجة الوداع، وإن كانت مرة واحدة فهو يصدق عليهم اسم الصحابي.

ذكر ما حصل للناس بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم

ذكر ما حصل للناس بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ثم لما توفي صلوات الله وسلامه عليه حصل الارتداد لكثير من الناس، ولم يثبت على الدين الإسلامي إلا عدد قليل في مكة والطائف والمدينة وكذلك البحرين، أما بقية المدن فكلهم ارتدوا، وعلى هذا يحمل الحديث الذي جاء في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم وهو على حوضه يوم القيامة: (ليردن عليَّ الحوض رجال من أمتي أعرفهم بسيماهم) -لأنه أخبر أنه يذود عن حوضه من ليس من أمته- قالوا: كيف تعرفهم؟ قال: (يردون عليَّ غراً محجلين من آثار الوضوء)، وهذا من خصائص هذه الأمة، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (فيحال بيني وبينهم فأقول أصحابي فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم لم يزالوا مرتدين، فأقول: سحقاً سحقاً) وفي رواية: (فأقول كما قال العبد الصالح: وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم، فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم) فهؤلاء هم الذين ضعف إيمانهم، وقد شاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حياته مرة، ولكن إيمانهم لم يثبت. أما الذين صحبوه وشاهدوا نزول الوحي، وجاهدوا معه، فهؤلاء قد برأهم الله جل وعلا من ذلك، وطهرهم وأثنى عليهم الثناء الحسن الجميل، وأخبر أنه رضي عنهم ورضوا عنه في آيات كثيرة، ولا يثنى الله جل وعلا على من يعلم أنه سيرتد لأنه علام الغيوب.

حال الصحابة مع أهل الردة

حال الصحابة مع أهل الردة ثم بعد ذلك قام خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر رضي الله عنه فجاهد الذين ارتدوا حتى رجعوا للإسلام. وقد كانت أسباب ردتهم مختلفة، فمنهم من منع الزكاة معللاً ذلك بأنه كالجزية التي تؤخذ من الكفار. ومنهم من قال: أخرجها أنا لمن أريد ولا أدفعها إلى خليفة النبي صلى الله عليه وسلم. ومنهم من أنكر نبوة النبي صلى الله عليه وسلم معللاً ذلك بأنه لو كان نبياً ما مات، وهؤلاء الذين لم يتمكن الإسلام من قلوبهم. ولم يفرق الصحابة بين هؤلاء، بل قاتلوهم جميعاً، بل لما تردد بعضهم في قتالهم وقالوا: كيف نقاتلهم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم وحسابهم على الله) فقال لهم أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه. والعقال حبل تعقل به الإبل، فلو منعوه وكانوا يؤدونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه، ثم كشف لهم عن وجه الحق والصواب فقال: ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: (إلا بحقها)؟ يعني: بحق لا إله إلا الله وأن الزكاة من حقها، فأجمعوا على قتالهم، فقاتلوهم حتى استتب الأمر وعادت الجزيرة كلها إلى حظيرة الإسلام، ولم يقبض أبو بكر إلا وجزيرة العرب كلها مذعنة منقادة للإسلام وكانت خلافته قرابة سنتين وأشهر. ثم بعد ذلك امتثلوا أمر ربهم الذي جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم، من الله جل وعلا بقوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة:123] فبدءوا بقتال الكفار الذين يلونهم، وهم الفرس والروم، فبدأت الفتوحات في آخر عهد أبي بكر، ثم توفاه الله جل وعلا وقام بالأمر بعده إخوانه بقيادة خيرهم وأفضلهم عمر رضي الله عنه. فهؤلاء هم الواسطة الذين بلغونا دين ربنا، الدين الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وهم الذين نقلوا إلينا القرآن، ومعاني القرآن، وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأفعاله وأقواله بالتواتر. والدين لم ينقله رجل واحد أو رجلان أو عشرة، فلو نقله رجل واحد لكان غير مأمون وغير موثوق به، وإنما نقله جميع الصحابة إلى من بعدهم، ثم الذين بعدهم نقلوه إلى من بعدهم، وهكذا إلى اليوم. ولهذا لا يمكن أن يقول أحد: إن الصلوات المفروضة ست صلوات أو يقول: صلاة المغرب أربع ركعات وليست بثلاث، أو يقول: إنها ركعتان، أو ما أشبه ذلك؛ لأن هذا أمر نقل إلينا بالتواتر، ولم ينقله شخص واحد فيقال: ربما أنه أخطأ أو نسي أو وهم، بل نقلته أمة بأكملها، فهم الذين نقلوا إلينا ديننا، فالذي يطعن فيهم فهو إنما يطعن في الدين الإسلامي، والله جل وعلا أخبر أنه رضي عنهم، والرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأنهم خير الناس. فإذا كانوا خير الناس فمن المحال أن يكون أكثرهم أو جلهم ارتد عن الدين الإسلامي، أو أنه منافق كان يظهر خلاف ما يبطن، هذا من المحال. ثم إن أفعالهم وقيامهم بالأمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم تدل غاية الدلالة على أنهم خير الناس. ولهذا نقول: يجب على المسلم أن يطلع على سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه؛ لأن هذا مما يثبت الدين ويقويه، ويزيل الشبه التي قد يلقيها بعض الأعداء. قوله: (خير الناس قرني الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم) كلمة (ثم) تدل على أن الذين أتوا بعدهم أقل منهم خيرية. وكذلك القرن الذي يلي قرن الصحابة أقل من الذين قبلهم خيرية، وهكذا، ثم تنتهي الشهادة للقرون بالخيرية. وفي هذا الحديث أن القرون أربعة، قرن الصحابة الذين فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، وثلاثة بعده، ولكن أكثر الروايات الصحيحة الثابتة أنها ثلاثة قرون، والقرن الرابع لم يثبت لا في صحيح مسلم ولا في صحيح البخاري، ولهذا فالراجح أن الثلاثة قرون هي التي ثبتت، وهي قرن الصحابة، وقرنان بعده، ويشهد لهذا الواقع، فإن ظهور البدع وكثرة الخلافات والانحراف الجماعي لكثير من الناس، وغلبة الشر على الخير، حدثت بعد القرون المفضلة. فالخير في القرون المفضلة أكثر من غيرها، وقرن الصحابة هو خير القرون المفضلة، والخيرية فيه لجميع الناس، ولا يزال الخير موجوداً فيمن بعدهم ولكنه قليل.

حال القوم الذي يأتون بعد القرون الثلاثة

حال القوم الذي يأتون بعد القرون الثلاثة ثم وضح هذا وبينه بقوله: (ثم يأتي قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته) وهذا سببه ضعف تقوى الله عندهم، وضعف الوازع الديني، فيصبح أحدهم لا يبالي بالشهادة ولا باليمين، فيشهد وإن كانت الشهادة غير متيقنة، وغير معلومة، وكذلك يحلف وإن كان آثماً حانثاً، فمعنى: (تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته) أنهم يبذلون الشهادة عند أدنى طلب، وكذلك اليمين فليس عندهم من الدين ما يمنعهم من بذله، بل الدين خف عندهم وضعف، بخلاف من يحفظ يمينه، ويوقر ربه، ويقدره حق قدره، ويخاف عقابه، ويرجو ثوابه، فإنه لا يكون بهذه المثابة. وكذلك في الرواية الأخرى أنهم يخونون ولا يؤتمنون، وهي بمعنى كونهم تكثر فيهم الشهادة وإن كانت زوراً، واليمين وإن كان كذباً، فهذا من الخيانة، وعدم الائتمان، فإذا لم يؤتمن الإنسان على دينه فهو لغيره أخون، فيكون معنى هذه الرواية والتي قبلها واحد. قال المصنف رحمه الله: [وفيه عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته)]. قال الشارح رحمه الله: [وهذه حال من صرف رغبته إلى الدنيا ونسي المعاد، فخف أمر الشهادة واليمين عنده تحملاً وأداء لقلة خوفه من الله، وعدم مبالاته بذلك، وهذا هو الغالب على الأكثر. والله المستعان]. قوله: (تحملاً وأداءً) يعني: المسلم يجب عليه إذا شهد على الشيء أن يحمل الشهادة، وإذا طلبت منه أن يؤديها على الوجه الشرعي، وأن يقول الحق وإن كان على نفسه، وإن كان المقول عليه قريباً منه. أما التحمل فهو واجب، إذا حمل الشهادة وجب أن يحملها، يعني: إذا قيل له: اشهد، فإنه يشهد بالشيء الذي شاهد ورأى، وأداء الشهادة واجب إذا طلبت منه، وإن كتمها فهو آثم قلبه كما قال الله جل وعلا، ومعنى ذلك: أنهم مرتكبون جرماً عظيماً؛ لأنه حق جحد، وباطل ظهر، واستولي على الحق بسبب كتمان الشهادة، فيكون الذي كتم الشهادة قد ارتكب إثماً عظيماً بالنسبة للذي أكل الباطل، وبالنسبة للذي أخذ حقه، فتكون أوزارهم عليه. فالمقصود أن تحمل الشهادة وأداءها من الفروض على كل من شاهد شيئاً، فيجب عليه أن يؤديه إذا طلب منه كما شاهده وكما سمعه، ويجب عليه أن يقول الحق، وإن كان المقول عليه ذا قربى، وإن كان على نفسه. أما إذا صار يؤثر قرابته وأصدقاءه فمعنى ذلك أنه جعل دينه عرضة لأمر الدنيا، وهذا الصنف لم يكن موجوداً في القرون المفضلة، ولكنه جاء بعدهم، وأصبح يزداد حتى أصبح الناس يشهدون بالأجرة، فإذا بذل له شيء من المال شهد كذباً وزوراً، وهذه الشهادة قد جاء أنها تعدل الشرك بالله جل وعلا، وقد حذرنا الله جل وعلا منها، وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن فاعل ذلك قد استحق غضب الله جل وعلا. قال الشارح رحمه الله: [فإذا كان هذا قد وقع في صدر الإسلام الأول فما بعده أكثر بأضعاف، فكن من الناس على حذر]. والمقصود بصدر الإسلام: القرن الرابع والخامس، هذا الذي يقصده، وأنه قد وقع فيهم أن شهادة أحدهم تسبق يمينه، ويمينه شهادته، فكيف فيمن بعدهم من القرون المتأخرة التي يكون الناس فيها أقل ديانة، وأقل وازعاً يزعهم ويمنعهم من ارتكاب المحرمات؟! لأنه كلما ابتعد عهد الناس عن عهد النبوة يخف إيمانهم بلا شك؛ لأن الذي يؤثر في الإيمان هو رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم.

تربية السلف لأبنائهم على تعظيم شعائر الدين

تربية السلف لأبنائهم على تعظيم شعائر الدين قال المصنف رحمه الله: [وقال إبراهيم: كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد، ونحن صغار]. إبراهيم هو إبراهيم النخعي وهو من التابعين، يعني: في القرن الثاني الذي يلي قرن الصحابة، فكانوا في هذا القرن يضربون الصبيان إذا شهد أحدهم بالشهادة التي ليست على الوجه المطلوب، ومعلوم أن الصبي غير مكلف، ولكن يؤدبونهم ويدربونهم على الحق من الصغر، حتى يخرجوا وقد رسخ في قلوبهم بغض الباطل وكراهيته، وحب الحق وإيثاره، هذا المقصود وهو مأخوذ من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (مروا أبناءكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع) وأجمع العلماء على أن ابن عشر لا تجب عليه الصلاة، ومع ذلك أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يضرب عليها إذا تركها، فالأدب هو الذي يجعله يلتزم، أما الأمر والتدريب فيبدأ بابن سبع، تأمره وتدربه على الصلاة حتى تغرس حبها في قلبه، فيصير آلفاً لها، بخلاف ما إذا ترك يسرح ويمرح كيف يشاء، فإنه إذا بلغ وهو متروك عن التأديب بالصلاة وتعليمه عليها يصعب عليه الالتزام بعد ذلك. وكذلك هنا: يؤدبونهم من الصغر على حب الخير، وكراهية المكروه، والابتعاد عنه، وهذا واجب ولي الأمر لمن تحت يده، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالرجل راع في بيته ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيتها ومسئولة عن رعيتها، والإمام راع ومسئول عن رعيته) كل إنسان له مسئولية يسأل عنها يوم القيامة، فيجب أن يقوم بها حسب الأمر الشرعي، فالقرون المفضلة كانوا يهتمون بهذا الأمر كثيراً، فكانوا يضربون الصبيان على العهد أو الشهادة التي لا يكون لها أثر، إذ إن شهادة الصبي وحلفه ليس له أثر وغير مؤاخذ بها، ومع ذلك يؤدبونهم على هذا الشيء، حتى يشبوا وهم يألفون الحق ويبتعدون عن الباطل.

وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال الشارح رحمه الله: [وذلك لكثرة علم التابعين، وقوة إيمانهم، ومعرفتهم بربهم، وقيامهم بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنه من أفضل الجهاد، ولا يقوم الدين إلا به، وفي هذا رغبة في تمرين الصغار على طاعة ربهم، ونهيهم عما يضرهم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم]. يعني: أن الأمر بالمعروف يكون من أفضل الجهاد، والجهاد المقصود به بذل الجهد في طاعة الله وفي أن يطيع الناس ربهم، ويتابعوا دينهم، هذا هو الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من هذا الباب، فيأمر الإنسان بالخير وبالإسلام وبالحق وبالهدى ويبذله للناس ويرشدهم إليه، وينهى عن ضد ذلك، ويبين لهم بالطرق المناسبة والأساليب اللائقة التي يمكن أن تقبل وأن تؤثر، فهذا من أفضل الجهاد، وقد عده بعض العلماء من أركان الإسلام، فجعلوا أركان الإسلام ستة: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطيع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) وفي رواية (ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل) فبين أن هذا أمر واجب متعين على كل واحد، وهذا مأخوذ من قوله: (من رأى منكم منكراً) و (من) هذه للعموم والشمول، وكذلك الأحاديث الأخرى التي بينت هذا. فلا شك في وجوب الأمر بالمعروف على الأمة الأسلامية ولكن هذا من فروض الكفايات، إذا قام به البعض سقط عن البقية، وإلا أثم الجميع، وهذا في الأمور الظاهرة التي ترى وتشاهد، أما الأمور الخفية فيلزم إنكارها على من علمها، والأمور التي تكون في البيوت المسئول عنها قيم البيت، وهو الذي يسأل يوم القيامة، ولهذا جاء في الحديث: (أن الإنسان يتعلق بالآخر يوم القيامة، ويقول: يا رب! خذ بحقي من هذا، فيقول المتعلق به: يا رب! والله ما ظلمته، لا في مال، ولا في عرض، فيقول المتعلق: صدق ولكنه رآني على منكر فلم ينهني، فخذ لي بحقي منه) فالواجب على المسلم أن يسقط الواجب عنه اليوم قبل أن يسأله الله جل وعلا يوم القيامة، فيؤخذ من حسناته أو يؤخذ من سيئات غيره فتوضع عليه، ثم بعد ذلك يلقى في النار؛ لأن الأمة الإسلامية مثلها كمثل الرجل الواحد إذا مرض جزء منه أو عضو منه مرض الرجل كله، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى). فيجب على الأمة الإسلامية أن تكون قائمة على الحق، متعاونة على البر والتقوى، متناصحة فيما بينها، حتى لا تكون مسئولة أمام الله جل وعلا، وهذا أمر أوجبه الله علينا ولم يوجبه أحد من الخلق، ولهذا قال سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران:110] الخيرية هنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإلا فليسوا خير أمة.

مسائل باب ما جاء في كثرة الحلف

مسائل باب ما جاء في كثرة الحلف

الوصية بحفظ الأيمان

الوصية بحفظ الأيمان قال المصنف رحمه الله: [فيه مسائل: المسألة الأولى: الوصية بحفظ الأيمان]. الوصية بحفظ الأيمان؛ لأن الله جل وعلا يقول: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة:89] وعرفنا معنى حفظ الأيمان، إما أن الإنسان لا يحلف خوفاً من المخالفة، وهذا الذي أراده المؤلف بحفظ الأيمان، وهذا يكون لمن خاف الله، فإنه يجتنب الحلف مطلقاً، إلا في ما ألزم به ودعت الحاجة إليه، فهذا قد يتعين عليه، مثل الذي تتوجه عليه اليمين عند القاضي إذا ادعى عليه مدعٍ بشيء غير صحيح، فإذا لم يقم المدعي البينة توجهت اليمين على المنكر، فإذا طلب منه اليمين يحلف إذا كان صادقاً، ولا ضير عليه. وكذلك إذا كان المقصود باليمين بيان الحق وتأييده، فإنها تكون مستحبة؛ لأن الله جل وعلا يقول: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن:7] فأمر الله جل وعلا نبيه أن يحلف بالله على البعث، وكذلك قوله جل وعلا: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس:53] فأمره جل وعلا أن يحلف بالله، فإذا كان الحلف مقصوداً به بيان الحق وإيضاحه وتقريره وثبوته يحلف، وهو بهذا مأجور. أما إذا كان الحلف يراد به أمر من أمور الدنيا، فيجب عليه أن يحفظ اليمين عنه مطلقاً. أما إذا حلف الإنسان على شيء يريد الامتناع منه، أو يريد حض غيره على فعله كأن يحلف على غيره أنه لا يدخل بيته بسبب مشاكل بينهم، ثم بعد ذلك يتبين له أن عدم الحلف أولى، فهذا ينبغي أن يكفر عن يمينه، وأن يفعل الشيء الذي حلف على الامتناع منه؛ لأن الله جل وعلا يقول: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا} [البقرة:224] معنى الآية: أنكم إذا حلفتم على شيء ثم رأيتم أن هذا الذي حلفتم عليه خير من تركه فلا يمنعكم الحلف، كفروا عن أيمانكم وافعلوا هذا الذي حلفتم على عدم فعله، هذا معنى قوله: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} [البقرة:224]. وكذلك جاءت الأحاديث بمعنى هذه الآية يقول الرسول صلى الله عليه وسلم لـ عبد الرحمن بن سمرة: (يا عبد الرحمن! لا تطلب الإمارة، فإنك إن طلبتها وكلت إليها، وإن أتتك بدون طلب أعنت عليها) ثم يقول (وإذا حلفت على شيء ورأيت غيره خيراً منه فكفر عن يمينك، وائت الذي هو خير). وكذلك ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والله إني إن شاء الله لا أحلف على الشيء فأرى غيره خيراً منه إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير). أما الذي يحلف على أمور الدنيا مثل البيع والشراء والأخذ والعطاء، وما أشبه ذلك، فهذا الذي لا يجوز، وفاعل ذلك قد ضعف إيمانه، وضف تقدير الله عنده، فلهذا يكثر من الحلف، ومثل هذا لابد أن يقع في الإثم.

الإخبار بأن الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة

الإخبار بأن الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة [المسألة الثانية: الإخبار بأن الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة]. عرفنا معنى: (منفقة للسلعة) أنه إذا حلف ألا يبيع هذا الشيء إلا بكذا وكذا فيقدم عليها المشتري ويشتريها؛ لأن المفروض أنه صادق، وإذا حلف أنه اشتراها بكذا وكذا يقبل المشتري ويبذل زيادة ويأخذ السلعة. فإذاً: هذا وإن كان صادقاً لا يجوز له الحلف؛ لأنه جعل الحلف طريقاً لكسب المال، ومن جعل يمينه طريقاً لكسب المال فهو في الحقيقة يقدم حب الدنيا على قول الله، وعلى تعظيمه وتقديره؛ لأن الله يقول: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة:89] أما إذا كان كاذباً فالإثم عليه عظيم، ولكن هذا الحديث في الذي يحلف وهو صادق، وقوله صلى الله عليه وسلم: (الحلف منفقة للسلعة ممحقة للكسب) لم يرد الحلف الكاذب، ولكنه أراد الحلف مطلقاً وإن كان صادقاً؛ لأنه طريق لإنفاق السلع والناس إذا سمعوه يحلف يقتنعون بذلك، فيقدمون على الشراء، فيصير بهذا المعنى منفقة لسلعته. ولكن النتيجة أنه يمحق البركة، والمحق هو إبطال الشيء وإزالته، وإذا محقت البركة فلا خير فيه.

الوعيد الشديد فيمن لا يبيع ولا يشتري إلا بيمينه

الوعيد الشديد فيمن لا يبيع ولا يشتري إلا بيمينه [المسألة الثالثة: الوعيد الشديد فيمن لا يبيع ولا يشتري إلا بيمينه]. يعني: مطلقاً سواء كان صادقاً أو غير صادق.

التنبيه على أن الذنب يعظم مع قلة الداعي

التنبيه على أن الذنب يعظم مع قلة الداعي [المسألة الرابعة: التنبيه على أن الذنب يعظم مع قلة الداعي]. هذا أخذ من قوله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يكلمهم الله) وذكر منهم الأشيمط الزاني، والعائل المستكبر، فالأشيمط الزاني ضعفت قوة الشهوة عنده، فإقدامه على الزنا يدل على أنه يحب الفاحشة ويريدها، وليس هناك شيء يدفعه بالقوة ويغطي عقله عليه حتى يقدم على هذا الشيء، أما الشاب فإنه قد لا يستطيع كبح الشهوة، فيقدم على الفعل الشنيع، ثم إذا وقع فيه انكشف له الأمر، فندم وعاد على نفسه بالتوبيخ واللوم والتوبة، بخلاف الأشيمط الزاني فإنه ربما يفعل ذلك حباً لهذه الجريمة، فيكون عذابه مضاعفاً، فهذا يدل على أن من كانت دواعي الأفعال عنده قليلة، ثم فعل أن عقابه يتضاعف. ومثله العائل المستكبر يعني: الفقير المستكبر؛ لأن الفقر ليس دافعاً إلى التكبر، إنما يدل هذا على أن هذا خلق عنده، بخلاف الغني، فإن الغنى يدعو إلى البطر والتكبر كما قال الله جل وعلا: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7] إذا رأى الغنى طغى.

ذم من يحلف من غير أن يستحلف

ذم من يحلف من غير أن يستحلف [الخامسة: ذم الذين يحلفون ولا يستحلفون]. هذا في الذين جاءوا بعد القرون المفضلة فإنهم يحلفون بدون استحلاف، بل الواحد منهم يبذل الحلف لأدنى الأمور. [السادسة: ثناؤه صلى الله عليه وسلم على القرون الثلاثة أو الأربعة، وذكر ما يحدث]. يقصد: أن هذا من علامات نبوته صلى الله عليه وسلم؛ فقد ظهر ذلك جلياً لكل من له نظر، ومن قرأ السير والتأريخ يظهر له هذا جلياً بارزاً جداً، فإنه قد ظهر ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم.

ذم من يشهد دون أن يستشهد

ذم من يشهد دون أن يستشهد [السابعة: ذم الذين يشهدون ولا يستشهدون]. يعني: أنهم يؤدون الشهادة ولم تطلب منهم، يعني: أنها تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته، وهذا دليل على الاستخفاف بشأن الشهادة، وشأن اليمين. [الثامنة: كون السلف يضربون الصغار على الشهادة والعهد]. يعني: تدريباً لهم كما عرفنا.

شرح فتح المجيد [131]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [131] جهاد الكفار قائم إلى قيام الساعة، وقد جعل له الشرع ضوابط وأحكاماً، يجب على المجاهد معرفتها، ومن هذه الأحكام أن الكفار يخيرون قبل أن يقاتلوا بين ثلاث: إما الدخول في الإسلام، وإما أن يدفعوا الجزية، وإما أن يقاتلوا، والجزية من الأحكام التي عُطلت اليوم؛ وذلك لنكول المسلمين عن الجهاد، وخضوعهم لسيطرة أعدائهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وجوب الوفاء بالعهد

وجوب الوفاء بالعهد قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: (ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه)]. قلنا فيما سبق في الباب الذي قال فيه: (باب: قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180]) إن هذا بدء بفن جديد من نوع جديد من أنواع التوحيد، ولا يزال مستمراً فيه إلى آخر الكتاب، فهنا يقول: (ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه صلى الله عليه وسلم) والمقصود بالذمة: العهد الذي يعطيه الإنسان، مثل أن يقول: عليّ عهد الله أني ما أفعل كذا وكذا، أو أني أفعل كذا وكذا، وهذه العهود تكون بين الأمم غالباً، وتكون بين القبائل والجماعات التي تعقد العهود بالمواثيق، وقد تكتب العهود كتابة، فإذا أعطي عهد الله في مثل هذا فالأمر فيه صعب جداً، ومن خان ذلك فقد خان الله، ومن يخن الله فقد باء بالسخط والغضب، والله لا يترك من أخفر ذمته. المقصود من هذا: تعظيم الله وتوقيره وتقديره حق قدره، والابتعاد عن مساخطه، وهذا من معاني ربوبيته جل وعلا؛ لأن معنى الرب: المالك المتصرف الذي ينفذ أمره في الخلق، ويجب أن يكون أمره هو المطاع، وأن يوقف عند الذي منع منه ولا يُتجاوز، فإن الإنسان إذا لم يفعل ذلك فقد تجرأ جرأة عظيمة، ويوشك الله أن يأخذه عاجلاً في الدنيا قبل الآخرة. ثم إنه أراد بهذا: أن الإنسان يعلم هذا الشيء ويجتنبه، فإذا قدر أنه وقع بينه وبين غيره عهود وذمم فعليه أن يبذل ذمته هو، فيقول: أعطيك ذمتي ولا أعطيك ذمة الله وذمة رسوله، بل تكون ذمتي بيني وبينك. فإذا وقع الخلاف -وإن كان عظيماً- فإنه يكون في ذمته، وهذا أسهل من أن يكون وقع خلاف في ذمة الله وذمة رسوله، وهذا في العهود الجماعية التي تكون -مثلاً- في الحروب بين قوم وآخرين، والحرب يكون لها قائد، والقائد هو الذي ينفذ هذه الأشياء، فإذا أعطى لمن يحاربهم ذمة الله وذمة رسوله فقد يخالف أحد الأفراد من المقاتلين، فيكون بذلك قد أخفر ذمة الله وذمة رسوله؛ لأن فعل واحد منهم كأنه فعل الجميع، فهذا الذي أراد التنبيه عليه، فإذا حصل مثل هذا الشيء فينبغي على الذي عقد العقد أن يعطي ذمته لا ذمة الله وذمة رسوله، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أرشد إلى هذا كما سيأتي في الحديث. ثم إن الله جل وعلا أمرنا بالوفاء بالعهد، فقال: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ} [الإسراء:34] وقال: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] وقال: {وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} [النحل:91] والأيمان هنا هي الأيمان الجماعية التي تكون بين الجماعات وبين الأمم، فيجب أن يوفى لهم بما عُقد لهم وبما عوهدوا عليه، فإذا حصل النقض منهم صار قتلهم مباحاً؛ لأن الخيانة جاءت منهم، كما حدث من قريش لما عاهدهم النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية فإنه كتب عهداً بينه وبينهم: أن الحرب تُوضع عشر سنوات لا يكون بينهم قتال فيها، ومن أراد من القبائل أن يدخل في حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده دخل، ومن أراد أن يدخل في حلف قريش وعهدها دخل، فدخلت خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحلفه، وأسلم منهم من أسلم، فاعتدت عليهم قبيلة بنو بكر وكانت محالفة لقريش، وأعانتهم قريش على ذلك، ولما حصل هذا صار ذلك خيانة ونقضاً للعهد، فغزاهم النبي صلى الله عليه وسلم وفتح مكة. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة) وصفة الحلف الذي كان في الجاهلية: أنه كانت تجتمع قبيلتان -مثلاً- ويعقدوا بينهم حلفاً وعهداً على التناصر والتعاون على العدو، والإسلام ليس فيه هذا؛ لأن الإسلام أغنى عن ذلك كله، فقد جعل الناس كلهم على دين واحد وعلى ملة واحدة وعلى طريق واحد متعاونين متآخين، متناصرين على الحق مدافعين للباطل، هذا شأنهم، وهذا الذي يجب عليهم، ولهذا قال: (لا حلف في الإسلام) ولكن إذا وجد الحلف فإن الإسلام لا يزيده إلا شدة، هذا هو المقصود هنا، فلا يقال: هذا نظير ما سبق، بل هذا أمر آخر أخص منه.

نقض العهد ذنب عظيم

نقض العهد ذنب عظيم قال المصنف رحمه الله: [وقوله: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} [النحل:91]]. معنى الآية: أن الله جل وعلا أمرنا إذا أعطينا غيرنا عهد الله أننا لا نفعل كذا أو أننا نفعل كذا فإنه يجب الوفاء بهذا العهد، وإن كان الذي أعطيناه العهد كافراً فيجب أن يوفى له بذلك. ثم نهى عن نقض هذا العهد، فقال: {وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} وقد أكدت بذكر الله؛ لأنه يقول: لك عهد الله عليّ، أو لك يمين الله عليّ أنه ما يحصل كذا أو يحصل كذا، {وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} يعني: جعلتم الله عليكم رقيباً وشاهداً فيما فعلتم، وقلتم: إن الله جل وعلا هو الكفيل، يعني: الذي يأخذ لكم الحق إذا خانوكم، ومن قال ذلك وجب عليه أن يحذر المخالفة؛ فإنه إن خالف فهو على خطر عظيم. قال الشارح رحمه الله: [قال العماد ابن كثير: وهذا مما يأمر الله تعالى به وهو الوفاء بالعهود والمواثيق، والمحافظة على الأيمان المؤكدة. ولهذا قال: ((وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا)) ولا تعارض بين هذا وقوله: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} [البقرة:224] وبين قوله: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة:89] أي: لا تتركوها بلا تكفير، وبين قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: (إني والله! إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير منها وتحللتها -وفي رواية- وكفرت عن يميني) لا تعارض بين هذا كله وبين الآية المذكورة هنا وهي قوله: {وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا}؛ لأن هذه الأيمان المراد بها الداخلة في العهود والمواثيق، لا الأيمان الواردة على حث أو منع، ولهذا قال مجاهد في هذه الآية: يعني: الحِلف أي: حِلف الجاهلية. ويؤيده ما رواه الإمام أحمد عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة) وكذا رواه مسلم، ومعناه: أن الإسلام لا يُحتاج معه إلى الحلف الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه، فإن في التمسك بالإسلام كفاية عما كانوا فيه. وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [النحل:91] تهديد ووعيد لمن نقض الأيمان بعد توكيدها] يعني: أن هذه الآية لا تعارض قوله: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ}.

شرح حديث بريدة: (كان رسول الله إذا أمر أميرا)

شرح حديث بريدة: (كان رسول الله إذا أمر أميراً) قال المصنف رحمه الله: [وعن بريدة قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً، فقال: اغزوا باسم الله، في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله تعالى، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فاسألهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبو فاستعن بالله وقاتلهم، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا؟) رواه مسلم] الذمة المقصود بها: العهد، وعهد الله هو: الميثاق الذي يتعاقد به بين فريقين، وهذا خلاف ما سبق في الباب الذي قبله؛ لأن الذي قبله المقصود به: الحلف الذي يحلفه الإنسان على أمر إما يريد منه الحث على فعله، أو يريد الامتناع من فعله، وأما هنا فالمقصود به: العهد الذي يكون بين الدول أو بين المتحاربين أو بين قبائل أو بين الجماعات، يتعاهدون على شيء معين ويجعلون بينهم عهوداً ومواثيق، ومن نقض هذا العهد والميثاق فهو معرض لعقاب الله جل وعلا، فإذا أراد أن يتعاهد مع أحد فيتعين أن يكون العهد على عهودهم ومواثيقهم هم، فلا يقولون: بيننا وبينكم عهد الله، أو ميثاق الله، أو ذمة الله؛ لأن هذا أمره خطير جداً، وإذا نقضه أحد الأفراد انتقض، ولا يلزم أن يكون الجماعات هم الذين ينقضونه، بل يكفي في نقضه فرد من الجماعة، ولهذا الرسول صلى الله عليه وسلم لما حصل بينه وبين كفار قريش ميثاق نحو هذا، فبعض كفار قريش أعان الذين قاتلوا حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالمال وبالسلاح فصار هذا نقضاً للميثاق، فغزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم نقضوا الميثاق، فإذا قدر أن يكون هناك عهود فيجب على المسلمين أن يعطوا المعاهد عهد المسلمين؛ لأنهم إذا نقضوا فإن الذي ينقض هو عهد المسلمين، وهذا أهون وأسهل من أن يُنقض عهد الله وذمة الله وميثاقه، وفي هذا أنه يعمل أقل الأمرين ضرراً، ويتجنب أعظمهما ضرراً، وكذلك مثله ما إذا حاصر المسلمون أهل حصن أو أهل بلد ثم أراد أهل البلد الاستسلام، وقالوا: نريد أن تجعلوا لنا عهد الله على أنه ما ينالنا كذا وكذا، أو قالوا: نريد أن ننزل على أن تحكموا فينا بحكم الله، فلا يعطون ذلك؛ لأن حكم الله يجب أن يعمل به ويمتثل، وحكم الله فيهم يخفى على كثير من الناس، ولكن يقال لهم: تنزلون على حكمنا، ونحكم فيكم على ضوء ما نرى أنه الحق مما جاءنا عن الله وعن رسولنا، وهذا يدلنا على أن حكم الله واحد لا يتغير في الأشياء كلها، وأن المجتهد قد يصيب حكم الله وقد يخطئه، وأن كون الإنسان يحكم باجتهاده لا يمكن إلا إذا كان أهلاً للاجتهاد، أما الجاهل فهو لا يحكم، بل الجاهل لا يجوز أن يحكم أصلاً، وكونه يُنصِّب نفسه للحكم هو في الحقيقة يسلك طريقه إلى النار؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (القضاة ثلاثة: اثنان في النار، وواحد في الجنة، أما اللذان في النار فرجل عرف الحق فقضى بخلافه، فهو في النار، والآخر لا يعرف الحق، فهو يقضي بجهل، فهو في النار) وإن أصاب الحق فهو في النار؛ لأنه ما عرف الحق، وإنما أصابته للحق قد تكون مصادفة، ليس عن علم وقصد، أما الذي في الجنة فهو الذي يعرف الحق ويقضي به، وكذلك القاضي يكون قاضياً بين متخاصمين ولو في قضية واحدة، فإذا جاءك اثنان يحكمانك في أمر من الأمور فأنت قاضٍ، ويشملك هذا الحكم، فإذا رضي شخصان بحكمك وقالا: اقض بيننا ولو في قضية معينة فهذا قضاء، ومثله المفتي الذي يُستفتى فيفتي؛ لأنه يستفتى عن حكم الله في دينه وشرعه، فإن هذا أيضاً على خطر عظيم؛ لأنه يخبر الناس بحكم الله ويقول: الحكم في هذه القضية كذا وكذا، بل المفتي أشد خطراً من القاضي وأعظم؛ لأن المفتي يفتي عموم الناس، والقاضي يقضي في قضية معينة بين اثنين أو جماعتين، أما هذا فهو يفتي لكل الناس، فيعمل بفتواه خلق عظيم، فيصبح الخطر أشد من القضاء بكثير. ولهذا كان الصحابة رضوان الله عليهم إذا جاء من يسأل، كل واحد يود أن يُسأل غيره، وكل واحد لا يريد أن يجيب هو، ويقول: لعله يذهب إلى فلان؛ لأنهم يعرفون القضايا كما جاءت، أما في وقتنا فإذا جاء المستفتي رأيت الناس يتسارعون إلى الإجابة، وهذا بسبب قلة الدين عندهم في الحقيقة، وخفة المسئولية، وكونهم لا يبالون؛ لأنهم جهلوا فأقدموا؛ ولهذا جاء في الأثر: (أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار) يعني: هذا هو الذي يذهب إلى النار بجرأة. نسأل الله العافية. المقصود من هذا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا أرسل جيشاً أو سرية أوصاهم. والفرق بين الجيش والسرية كما قال الحربي رحمه الله: السرية هي: ما تتكون من أربعمائة مقاتل فأقل، والآن قد تسمى كتيبة، وما كان أكثر من ذلك يقول: يسمى جيشاً، وقد جاء في الأثر: (لن يغلب ألف من قلة) وهذا يدل على أن الألف جيش، وإن كانت الأنظمة الآن قد اختلفت حسب اتباع الأنظمة الغربية؛ لأن المسلمين الآن لم يعد لهم استقلال في أي شيء، بل كل شيء يتبعون فيه أعداءهم، وللأسف! فكان صلى الله عليه وسلم إذا أرسل من يقاتل في سبيل الله سواء كانوا كثرة أو قلة يؤمر عليهم أميراً قائداً يقودهم، ويوصيهم بطاعته وعدم المخالفة، ويوصيه بالرفق بهم وتقوى الله فيهم، ولا يحملهم ما لا يطيقون ولا يلجئهم إلى ما يهلكهم. وكذلك يوصيهم بتقوى الله، وتقوى الله هي: أن يجعل الإنسان بينه وبين عقاب الله وقاية، أي: واقياً يقيه وساتراً يستره من عذاب الله، وهذا لا يكون إلا بطاعة الله واتباع أمره واجتناب نهيه، فتقوى الله كما يقول طلق بن حبيب هي: (أن تفعل ما أمرت به على نور من الله رجاء ثوابه وخوفاً من عقابه، وأن تجتنب ما نهيت عنه على نور من الله ترجو ثوابه وتخشى عقابه) هذه هي تقوى الله. ثم يقول: (اغزوا باسم الله) يعني: اشرعوا في الغزو مستعينين بالله جل وعلا، ذاكرين اسمه للاستعانة به في ذلك، فإن لم يعنكم الله فلا عون لكم، وأنتم المخذولون؛ فالأمور كلها بيد الله. ثم يقول: (قاتلوا من كفر بالله) وهذا عام يعم قتال جميع الكفرة، سواء نصبوا الحرب للمسلمين أو لم ينصبوها كما قال الله جل وعلا: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة:123] وهذا خلاف ما يقوله كثير من علماء المسلمين الذي يجارون المستشرقين والكفار الذين أصبحوا يطعنون في الإسلام بأي شيء رأوه مخالفاً لأذواقهم وعقولهم وأوضاعهم وقوانينهم، فأصبح كثير من المسلمين يجارونهم، ويُخشى أن يكون هذا طعناً في الإسلام؛ لأنهم يقولون: القتال في الإسلام ما شرع إلا للدفاع عن النفس فقط، فإذا جاء الكفار لقتال المسلمين شرع لهم القتال، أما أن المسلمين يذهبون لقتال الكفار فهذا لا يشرع، ولماذا؟! لأن هؤلاء الكفرة يعيبون على الإسلام بأنه يرغم الناس على الدخول فيه بالقوة، ويقولون: الإنسان حر يجب أن تترك له الحرية، وهذا على قوانينهم الوضعية الشيطانية التي ما أنزل الله جل وعلا بها من سلطان، فمن شاء أن يكفر -على قوانينهم- يكفر، ومن شاء أن يفجر أمام الناس يفجر، فهو يفعل ما يريد بحجة الحرية، وهذا لا يدعو إليه إلا كل منافق مندسٍ في المسلمين، وهو في الحقيقة يدعو إلى الكفر، وإلى أن يكون الإنسان مطلق العنان يفعل ما يشاء من الكفر والفسوق والفجور في كل مجال. وكذلك يقولون: إن الإنسان له أن يعبر عما يشاء، وإن له حرية الرأي، ولكن في دين الله وأمره ليس له حرية، وهذا أمر عجيب!! فالمقصود: أن النصوص جاءت كثيرة جداً تأمر بقتال الكفار كما في هذا النص، يقول صلى الله عليه وسلم: (قاتلوا من كفر بالله) فهذا يشمل كل كافر يكفر بالله جل وعلا. والكفر أنواع متعددة: منه ما هو كفر عناد، ومنه ما هو كفر جحود، ومنه ما هو كفر نفاق، ومنه ما هو كفر شرك، أي: شرك بالله، ومنه ما هو كفر إعراض بالكلية، وعدم اهتمام بالدين، وهذا عند من لا يرفع به رأساً، ولا يهتم به، بل تكون همته دنياه فقط، فهذا يكون معرضاً. ثم قال: (لا تقتلوا وليداً) يعني: صبياً ليس له في القتال شأن، سواء كان ذكراً أو أنثى، ومثل ذلك الشيخ الفاني الذي لا دخل له في القتال، ومثل ذلك أهل الصوامع والبيع المعتزلون للتعبد، فهؤلاء لا يُقتلون ولا يُقاتلون، ومثل ذلك النساء، فإنه لا يجوز قتلهن، إلا إذا كنَّ يقاتلن كما هو في شرع الكفار وقوانينهم -فإنهن يقتلن، وكذلك كبار السن إذا أعانوا الكفار على القتال سواء بالرأي أو بالتدبير أو بالفعل فإنهم يقتلون، أما الذي لا شأن له في القتال فلا يجوز قتله، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم في إحدى غزواته امرأة مقتولة فأنكر ذلك، وقال: (على ما تقتل؟)؛ فلا يجوز قتل النساء، وإنما يُقتل المقاتل الذي يقاتل المسلمين، أما غير المقاتلين فلا يجوز قتلهم. ثم يقول: (ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا) أما الغلول فهو: الأخذ من الغنيمة قبل قسمتها، والغنيمة تكون للمقاتلين الذين يقاتلون، فإذا غنموا من أموال الكفار شيئاً تقسم الغنيمة بينهم بالسوية، ولكن على قدر مكانتهم في القتال، فالقسمة كانت أ

حكم التمثيل بالقتلى

حكم التمثيل بالقتلى قال الشارح رحمه الله: [قوله: (عن بريدة هو ابن الحصيب الأسلمي، وهذا الحديث من رواية ابنه سليمان عنه. قاله في المفهم. قوله: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله تعالى) فيه من الفقه تأمير الأمراء ووصيتهم. قال الحربي: السرية: الخيل تبلغ أربعمائة ونحوها، والجيش ما كان أكثر من ذلك. وتقوى الله: التحرز بطاعته من عقوبته. قلت: وذلك بالعمل بما أمر الله به والانتهاء عما نهى عنه. قوله: (ومن معه من المسلمين خيراً) أي: ووصاه بمن معه أن يفعل معهم خيراً: من الرفق بهم، والإحسان إليهم، وخفض الجناح لهم، وترك التعاظم عليهم. وقوله: (اغزوا باسم الله) أي: اشرعوا في فعل الغزو مستعينين بالله مخلصين له. قلت: فتكون الباء في (باسم الله) هنا للاستعانة والتوكل على الله. وقوله: (قاتلوا من كفر بالله) هذا العموم يشمل جميع أهل الكفر، المحاربين وغيرهم، وقد خصص منهم من له عهد والرهبان والنسوان، ومن لم يبلغ الحلم، وقد قال متصلاً به: (ولا تقتلوا وليداً) وإنما نهى عن قتل الرهبان والنسوان؛ لأنه لا يكون منهم قتال غالباً، وإن كان منهم قتال أو تدبير قُتلوا. قلت: وكذلك الذراري والأولاد. قوله: (لا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا) الغلول: الأخذ من الغنيمة من غير قسمتها. والغدر: نقض العهد، والتمثيل هنا: التشويه بالقتيل، كقطع أنفه وأذنه والعبث به، ولا خلاف في تحريم الغلول والغدر، وفي كراهية المثلة. وقوله: (وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خلال أو خصال) الرواية بالشك، وهو من بعض الرواة، ومعنى الخلال والخصال واحد]. الصواب: أن المثلة محرمة؛ لأن النصوص صريحة في ذلك، ولا يصرف معنى التحريم إلى الكراهة شيء، إلا أن بعض العلماء رخص في المثلة بقتلاهم إذا مثلوا بقتلانا، ولكن هذا غير صحيح؛ لأن الحديث يقول: (ولا تخن من خانك) ومن عصى الله فيك فلا تعص الله فيه، والمسلم يجب أن يلتزم بحكم الله، ولا يتعداه لكون الكفار تعدوا حكم الله. فالصواب: أن التمثيل محرم للنصوص الناهية عنه، وفي هذا النص لم يفرق بين التمثيل والغلول والغدر، بل جعله معها.

أوجه الإعراب في (أيتهن)

أوجه الإعراب في (أيتهن) قال الشارح رحمه الله: [قوله: (فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم) قيدناه عمن يوثق بعلمه وتقييده بنصب (أيتهن) على أن يعمل فيها أجابوك لا على إسقاط حرف الجر، و (ما) زائدة، ويكون تقدير الكلام: فإلى أيتهن أجابوك فاقبل منهم، كما تقول: جئتك إلى كذا وفي كذا، فيعدى إلى الثاني بحرف جر. قلت: فيكون في ناصب (أيتهن) وجهان -ذكرهما الشارح-: الأول: منصوب على الاشتغال. والثاني: على نزع الخافض]. المقصود بالشارح: شارح صحيح مسلم، والوجهان الأول: أنه يكون منصوباً بالفعل، والفاعل في أيتهن أجابوا، والثاني: أن يكون على تقدير حرف الجر، أي: فإلى أيتهن ما أجابوك فاقبل، فإذا حذف حرف الجر نصب المجرور ويقال فيه: إنه نصب على نزع الخافض.

حكم الهجرة من بلد الكفر إلى بلد الإسلام

حكم الهجرة من بلد الكفر إلى بلد الإسلام قال الشارح رحمه الله: [قوله: (ثم ادعهم إلى الإسلام) كذا وقعت الرواية في جميع نسخ كتاب مسلم (ثم ادعهم) بزيادة (ثم) والصواب: إسقاطها كما روي في غير كتاب مسلم كمصنف أبي داود، وكتاب الأموال لـ أبي عبيد؛ لأن ذلك هو ابتداء تفسير الثلاث الخصال. وقوله: (ثم ادعهم إلى التحول إلى دار المهاجرين) يعني: المدينة، وكان في أول الأمر وجوب الهجرة إلى المدينة على كل من دخل في الإسلام، وهذا يدل على أن الهجرة واجبة على كل من آمن من أهل مكة وغيرها]. الهجرة هي: الانتقال من بلد الشرك والكفر إلى بلد الإسلام، وهي باقية حتى تطلع الشمس من مغربها، أي: إلى قيام الساعة، وأما قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية) فالمقصود بالفتح: فتح مكة، أي: أنه لا هجرة من مكة بعد الفتح؛ لأن مكة أصبحت دار إسلام، وإلا فالهجرة من بلاد الكفار باقية. والهجرة قد تجب على الإنسان وجوباً عينياً لقول الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:97] وهؤلاء إذا كانوا لا يستطيعون أن يمارسوا شعائر دينهم، ولا يستطيعون أن يظهروا دينهم، كأن يكونوا في بلد لا يستطيعون أن يصلوا ويصوموا جهاراً، ولا يستطيعون أن يظهروا عبادة الله جهاراً، فإنه يجب عليهم في هذه الحالة أن يهاجروا إلى البلد الذي يستطيعون إظهار دينهم فيه، ولا يلزم أن تكون الهجرة إلى بلد معين، لا المدينة ولا غيرها، بل أي بلد يستطيعون إظهار دينهم فيه فيجب عليهم الهجرة إليه. أما إذا كانوا مستطيعين إظهار الدين ولا أحد يمنعهم من ممارسة شعائر دينهم، ولا أحد يمنعهم من أن يظهروا توحيد الله وعبادته فإنه لا يجب عليهم أن يهاجروا في هذه الحالة، بل يبقون في البلد الذي يستطيعون فيه أداء شعائر دينهم ظاهراً.

سبب انقطاع الهجرة في هذا الزمن

سبب انقطاع الهجرة في هذا الزمن قال الشارح رحمه الله: [قوله: (فإن أبوا أن يتحولوا) يعني: أن من أسلم ولم يهاجر ولم يجاهد لا يُعطى من الخمس ولا من الفيء شيئاً، وقد أخذ الشافعي رحمه الله بالحديث في الأعراب، فلم يرَ لهم من الفيء شيئاً، وإنما لهم الصدقة المأخوذة من أغنيائهم فترد على فقرائهم]. هذا من الأحكام التي تركت، ولم يعد يُعمل بها؛ لأن المسلمين تركوا الجهاد في سبيل الله، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أنه يوشك أن تتداعى علينا الأمم من أقطار الأرض فقالوا: يا رسول الله! أمن قلة نحن؟ قال: (لا، بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل) وغثاء السيل لا خير فيه، فالسيل إذا جاء يأخذ معه الشيء الذي لا خير فيه ويرميه على الجانب، هذا هو الذي يسمى غثاء السيل (ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ينزع الله من قلوب أعدائكم المهابة) يعني: لم يعودوا يهابونكم ولا يرهبونكم، (ويقذف في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت)، ويقول في حديث آخر: (إذا اتبعتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد في سبيل الله سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه من قلوبكم حتى تراجعوا دينكم) هذا هو الذل الذي يُقذف في القلب بسبب حب الدنيا وكراهة الموت، فإذا كان الإنسان يحب الدنيا ويكره الموت فلا يمكن أن يجاهد؛ لأنه يخشى أن يقتل فيترك الدنيا التي يحبها، فالموت مكروه عنده، ويصبح نظير الذين رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، فهؤلاء أخبر الله جل وعلا عن حالهم السيئة إذا تركوا الجهاد، بل أصبح الناس الآن إخواناً لا فرق بين ملحد ومؤمن وكافر وتقي إلا عند من شاء الله، ولهذا السبب صار هناك من الناس من دعاه هذا الأمر إلى التطرف وإلى رد الفعل فجاء بمنكر آخر لا يسوغه الإسلام، وهو أنه أصبح يكفر الناس بالعموم، ويقول: كل من مالأ الذين يحكمون بالقوانين ويتركون الشرع أو رضي بهذا الوضع فهو كافر، وهذا منكر من القول وزور، والذي يدعو إليه هو الجهل. نسأل الله العافية. المقصود: أنه لابد أن يقوم لدين الله من يقوم بإذن الله جل وعلا، ولكن هناك فترات -كما هو معروف- يحصل من الناس فيها جفاء للدين وفترات يحصل منهم إقبال على الدين، وإن من الجفاء أن يجفو الناس بأسرهم، ومن الإقبال أن يتفقهوا في دين الله ويرغبوا فيه بأسره، لكن أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن القتال سيبقى في هذه الأمة إلى قيام الساعة، وأنه سيكون في هذه الأمة من يقاتل الدجال، والدجال من المفسدين الذين يظهرون في آخر الزمان، وأول ما يظهر يدعو إلى الإصلاح ويزعم أنه مصلح وأنه جاء بالعدل، فيتبعه أكثر الناس، ولكن بعد ذلك يزعم أنه نبي، ثم بعد ذلك يزعم أنه الله رب العباد، فيُبتلى الناس به، فتكون فتن عظيمة، حتى إنه يأتيه الرجل فيقول له الدجال: إذا أحييت أباك وأمك وجئت بهما أمامك تؤمن بأني ربك، فيتمثل شيطانان أحدهما بصورة أمه والآخر بصورة أبيه، فيقولان: يا بني! أطعه فإنه ربك، ويقول للسماء: أمطري فتمطر، ويقول للأرض: أنبتي فتنبت، ويأتي القوم فيدعوهم إلى طاعته فإذا أطاعوه أُغدقت عليهم الدنيا، وكثرت أموالهم، ودرت عليهم الخيرات، ويأتي الآخرين ويردون دعوته. فيفتقرون، والناس عند الافتتان بهذه الأمور قليل من يصبر، وقليل من يثبت، هذا في آخر الزمان؛ ونحن الآن لا شك أننا في آخر الزمان، ولكن لم تأت الآيات الكبيرة التي تكون الساعة قريبة منها؛ فإن من علامات الساعة ما هو كبير ومنها ما هو متوسط ومنها ما هو صغير، كبعثة النبي صلى الله عليه وسلم وموته، وقد قال الله جل وعلا: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1] والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (بعثت أنا والساعة كهاتين، وأشار بأصبعيه: السبابة والوسطى) والفرق بينهما يسير. ومن أسمائه صلى الله عليه وسلم نبي الساعة؛ لأنه ليس بعده نبي، وعلى أمته تقوم الساعة، والجهاد يبقى إلى أن يقاتل آخر هذه الأمة آخر اليهود، حتى إن الحجارة تتكلم والشجر يتكلم.

بيان الأصناف الباقية من مستحقي الزكاة

بيان الأصناف الباقية من مستحقي الزكاة قال الشارح رحمه الله: [كما أن أهل الجهاد وأجناد المسلمين لا حق لهم في الصدقة عنده، ومصرف كل مال في أهله، وسوى مالك رحمه الله وأبو حنيفة رحمه الله بين المالين، وجوَّزا صرفهما للضعيف]. وهذه أحكام قد تركت، وأصبح لا يلتفت إليها، يعني: الصدقات أصبحت موكلة للإنسان نفسه غالباً، فإن كان مؤمناً وتقياً يخاف الله أخرجها وإلا فوزرها عليه، وبعضهم يكتب في الأوراق الرسمية أن ماله كذا، ويكتب جزءاً بسيطاً من ماله، والباقي يخفيه خوفاً من أن تؤخذ منه زكاة، وهذا من التحايل الذي لا يجوز. والمقصود: أنه إذا لم يكن عنده إيمان فقد لا يخرجها، ثم الصدقة الآن غالباً ما تُدفع إلى نوع واحد من الأنواع الثمانية فقط وهم الفقراء، أما البقية كعتق الرقاب فأصبح لا وجود له، وكذلك الجهاد في سبيل الله كثير من الناس يرغب عنه، وإن كان الجهاد أمره واسع، فالدعوة إلى الله من الجهاد في سبيل الله، وكون الإنسان يخرج الزكاة فيها فقد أخرجها في مصرف حق. وكذلك الغزاة؛ لأن الغزاة لا يوجد منهم الآن إلا من يغزو متبرعاً، إلا من شاء الله في بعض الجهات، وهذا نادر، وإن حصل فهو من أشخاص وأفراد وليس من أمم ودول. وكذلك ابن السبيل لا يُعطى نصبيه، وابن السبيل هو: المسافر الذي انقطع. وكذلك المؤلفة قلوبهم لا وجود لهم الآن، فلا يُعطون شيئاً؛ لأن الكفر هو الذي أصبح يرفع عنقه الآن، وهو الذي يريد أن يسيطر على الدنيا كلها، وكذلك بقية الأقسام التي ذكرها الله جل وعلا، فالغنيمة لا وجود لها، حتى يقال: إنها لا تعطى إلا الغارمين، فالجهاد ليس بموجود، ومن ناحية المفهوم هل الغنيمة غير الصدقة؟ لا شك أنها غيرها؛ لأن الله جل وعلا جعل لأهل الجهاد نصيباً في الصدقة، والصدقة المقصود بها الزكاة، فإذا كان لهم نصيب في الزكاة فللفقراء نصيب من خمس الغنيمة؛ لأن الله أخبر أن الخمس لله ولرسوله، وللفقراء والمساكين وابن السبيل وهؤلاء الفقراء والمساكين وابن السبيل هم من أهل الزكاة. فإذاً: لا فرق بين هذا وهذا. وعلى كل حال إذا جاءت الحاجة لمثل هذا فالأحكام واضحة بإذن الله تعالى، ولكن ما دام أن الأحكام أصبحت لا تطبق فلا فائدة فيها.

من تؤخذ منهم الجزية من غير المسلمين

من تؤخذ منهم الجزية من غير المسلمين قال الشارح رحمه الله [قوله: (فإن هم أبوا فاسألهم الجزية) فيه حجة لـ مالك وأصحابه والأوزاعي في أخذ الجزية من كل كافر، عربياً كان أو غيره، كتابياً كان أو غيره، وذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أنها تؤخذ من الجميع إلا من مشركي العرب ومجوسهم، وقال الشافعي لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب عرباً كانوا أو عجماً، وهو قول الإمام أحمد في ظاهر مذهبه، وتؤخذ من المجوس]. وهذا الحكم من أحكام الشرع التي لا يُعمل بها الآن، ولن يُعمل به حتى يكون للإسلام السيطرة والقوة، أما ما دام أهل الإسلام تاركين الجهاد في سبيل الله فكيف الطريق إلى الجزية؟! بل ربما أخذت الجزية الآن -أو شبه الجزية- من المسلمين، فقد أصبح أعداؤهم يسلبونهم ما بأيديهم كما هو موجود في كثير من الأقطار، ويفرضون عليهم أشياء يسمونها ضريبة، وهذه الضرائب أشبه بالجزية، فإذا صار المسلمون أقوياء وصاروا مسيطرين على الكفار فإن كفار أهل الكتاب أو غيرهم يخيرون بين أمور ثلاثة: فيقال لهم: إما أن تدخلوا في الإسلام، ويكون لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم، ولا فرق بينكم وبين المسلمين؛ لأن الأرض كلها لله يورثها أهل الإسلام. فإن لم يقبلوا هذا قيل لهم: إذن تدفعوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون، ذليلون حقيرون، ولهذا ينبغي أن يُذلوا ويهانوا عند أخذها، حتى يدعوهم ذلك إلى الدخول في الإسلام، فإن امتثلوا هذا أخذت منهم الجزية وتركوا، وصار على المسلمين حمايتهم من الظلم وممن أرادهم بقتل أو غيره، وهذا بدل الجزية التي يدفعونها، وهذه الحماية تكون لهم إذا كانوا في بلاد المسلمين، وهؤلاء هم أهل الذمة الذين يعطون العهد بأن يتركوا على دينهم بشرط ألا يظهروا دينهم، ولا يدعوا إليه؛ لأنهم إذا أظهروه بين المسلمين فقد يغتر بهم من يغتر من جهال المسلمين، وإنما يمارسونه في صوامعهم وفي أماكن عباداتهم كما هو معروف. فإن أبوا قبول هذا قيل لهم: بقيت خصلة ثالثة وهي القتال، ولابد من قتالكم، ويد الله مع من يشاء، ومن أراد الله نصره يُنصر. فكل من يقاتل في سبيل الله إذا أتى الكفار يخيرهم بين هذه الأمور الثلاثة: يدعوهم أولاً إلى الإسلام فإن أجابوا فهذا المطلوب، وإذا جابوه وجب أن يتركهم في بلادهم وأموالهم، ولا يتعرض لهم بشيء، فإن لم يجيبوه طلب منهم الجزية. وحد الجزية اختلفوا فيه: فالمشهور في مذهب الإمام مالك أنها أربعة دنانير على أهل الذهب، وأربعون درهماً على أهل الفضة، والمشهور من مذهب الشافعي أنه لا فرق بين الفقير والغني فيؤخذ من كل واحد دينار، في السنة، وهذا أمر سهل وبسيط، والمشهور في مذهب أبي حنيفة والإمام أحمد أن على الأغنياء أربعين ديناراً وعلى الفقراء عشرة، وعلى المتوسطين عشرين، وهناك رواية أخرى في تحديدها، وعلى كل حال فهذه تقديرات اجتهادية. والمقصود: أن يفرض عليهم شيء يؤخذ منهم، كما فرضه الرسول صلى الله عليه وسلم على مجوس أهل البحرين، فإنه كان يأخذ منهم الجزية سنوياً. وهذا من الأحكام المتروكة المنسية التي لا يعمل بها، وإذا احتيج إليها فهي سهلة. قال الشارح رحمه الله: [قلت: لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها منهم، وقال: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب)]. وقد اختلفوا فيمن تؤخذ منهم الجزية، وهل تؤخذ من كل كافر؟ والصواب: أنها تؤخذ من الكفار عموماً، وهو مذهب الإمام مالك رحمه الله، أما عند الإمام أبي حنيفة فيخرج بذلك الكفار العرب وقال: لا تؤخذ منهم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما أخذها منهم، يعني: أنهم إما أن يقتلوا أو يسلموا، وليس هناك مجال آخر، ويقول الإمام أبو حنيفة: إذا كانوا من أهل الكتاب فتؤخذ منهم الجزية، يعني: اليهود العرب أو المجوس العرب، ويلحقون بأهل الكتاب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية منهم، والصحابة كذلك سنوا بهم هذه السنة.

مقدار الجزية

مقدار الجزية قال الشارح رحمه الله: [وقد اختلفوا في القدر المفروض من الجزية: فقال مالك: أربعة دنانير على أهل الذهب، وأربعون درهماً على أهل الورق، وهل ينقص منها الضعيف أو لا؟ قولان: قال الشافعي: فيه دينار على الغني والفقير، وقال أبو حنيفة رحمه الله والكوفيون: على الغني ثمانية وأربعون درهماً والوسط أربعة وعشرون درهماً، والفقير اثنا عشر درهماً، وهو قول أحمد بن حنبل رحمه الله. قال يحيى بن يوسف الصرصري الحنبلي رحمه الله: وقاتل يهوداً والنصارى وعصبة الـ مجوس فإن هم سلموا الجزية أصدد على الأدون اثني عشر درهماً افرضن وأربعة من بعد عشرين زيد لأوسطهم حالاً ومن كان موسراً ثمانية مع أربعين لتنقد وتسقط عن صبيانهم ونسائهم وشيخ لهم فانٍ وأعمى ومقعد وذي الفقر والمجنون أو عبد مسلم ومن وجبت منهم عليه فيهتدي]. يعني: أن الجزية لا تؤخذ من الفقراء ولا من الشيوخ الكبار الفانين، ولا من النساء ولا من الصبيان، ولا من الأعمى ولا من الأعرج، ولا ممن أسلم.

لا يجزم الحاكم في المسائل الاجتهادية بأنه حكم فيها بحكم الله

لا يجزم الحاكم في المسائل الاجتهادية بأنه حكم فيها بحكم الله قال الشارح رحمه الله: [قوله: (وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه) الذمة: العهد، وتخفر: تنقض يقال: أخفرت الرجل إذا نقضت عهده، وخفرته: أجرته، ومعناه: أنه خاف من نقض من لم يعرف حق الوفاء بالعهد كجملة الأعراب، فكأنه يقول: إن وقع نقض من متعدٍ معتدٍ كان نقض عهد الخلق أهون من نقض عهد الله تعالى. والله أعلم. قوله: وقول نافع وقد سئل عن الدعوة قبل القتال، ذكر فيه أن مذهب مالك يجمع بين الأحاديث في الدعوة قبل القتال، قال: وهو أن مالكاً قال: لا يقاتل الكفار قبل أن يدعوا، ولا تلتمس غرتهم. إلا أن لم يكونوا قد بلغتهم الدعوة فيجوز أن تلتمس غرتهم، وهذا الذي صار إليه مالك هو الصحيح؛ لأن فائدة الدعوة أن يعرف العدو أن المسلمين لا يقاتلون للدنيا ولا للعصبية، وإنما يقاتلون للدين فإذا علموا بذلك أمكن أن يكون ذلك سبباً مميلاً لهم إلى الانقياد إلى الحق، بخلاف ما إذا جهلوا مقصود المسلمين، فقد يظنون أنهم يقاتلون للملك وللدنيا فيزدادون عتواً وبغضاً. والله أعلم]. قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا حاصرت أهل حصن فأرادوا أن تنزلهم على حكم الله أو حكم رسوله، فلا تنزلهم على حكم الله وحكم رسوله، ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري ما حكم الله فيهم) هذا فيه دليل على أن الله له في كل قضية حكم، ولكن هذا الحكم المعين قد لا يصيبه المجتهد، وإذا أخطأ وهو أهل للاجتهاد فخطؤه مغفور، وهو مأجور على اجتهاده، ولكن لا يقل: إن هذا حكم الله، بل يقول: هذا اجتهادي، فإن أصبت فهو بمنة الله وفضله، وإن أخطأت فالخطأ عليّ أنا، ولا ينسبه إلى الإسلام، فالإسلام منه بريء إذا كان خطأً. وفيه دليل على جواز الاجتهاد، وأنه يجوز حتى في زمن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة أن يجتهدوا في إنزالهم القوم على حكمهم، فإن أصابوا فهو بفضل من الله، وإن أخطئوا فالخطأ يكون مغفوراً لهم، وهذا لمن كان أهلاً للاجتهاد، وأما الجاهل فهو ليس أهلاً للاجتهاد، فلا يجوز له أن يفعل ذلك، فالجهلة الذين ليسوا أهلاً للاجتهاد حكمهم باطل على كل حال، سواء أصابوا الحق أو أخطئوه، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وواحد في الجنة، أما اللذان في النار: فأحدهما عرف الحق وقضى بخلافه، فهو في النار، والثاني لم يعرف الحق فقضى بجهل، فهو في النار) وهذا معناه: وإن أصاب الحق فإنه يكون من أهل النار؛ لأنه ليس أهلاً للقضاء، ولأنه نصب نفسه لشيء لا يحسنه، وليس هو من أهله. وكذلك الاجتهاد في المسائل. والقضاء أمر عام، حتى وإن كان بين اثنين في قضية خاصة، فيعتبر من يقضي فيها قاضياً ما دام أنهما رضيا به أن يكون قاضياً، فيجب أن يقضي بالحق إذا كان يعرفه، وإن كان لا يعرفه فيجب ألا يقدم على ذلك. ثم إن في هذا أنه ليس كل مجتهد يصيب، بل كثير من المجتهدين يخطئون، فإذا اجتهد في المسألة عدد من الناس، فقال فيها أحدهم بقول، وقال الآخر بخلاف قوله كما يحصل كثيراً من طلبة العلم، فإن المصيب يكون واحداً، أما الذي يخالفه فهو مخطئ، وهذا في كل قضية تحدث، وذلك أن كتاب الله وأقوال رسوله صلى الله عليه وسلم جاءت بقضايا عامة كلية جامعة، وأما أفعال المكلفين فهي لا حصر لها. فمثلاً: إذا صلى إنسان صلاة معينة فإنه لا يمكن أن يستدل على قبول صلاته من الكتاب والسنة؛ لأن هذا الفعل يتوارد إليه أسباب ويتوارد عليه موانع من القبول، فلا ندري ما حكمها عند الله، وإنما على الإنسان أن يجتهد في الظاهر، وكذلك إذا فعل فعلاً من أمور الدنيا وطلب الحكم فيه، فيجتهد في إصابة الحق فيه، فإن أصاب الإنسان ذلك فهذا المطلوب، وإن لم يصبه فحكم الله غيره، وقد ذكر الله جل وعلا عن نبيين كريمين أن أحدهما حكم في قضية معينة فأخطأ، وحكم الآخر فيها فأصاب، فأثنى الله جل وعلا عليهما جميعاً، ولكن أثنى على الذي أصاب أكثر، وهي القضية التي حدثت لداود وسليمان في الحرث الذي نفشت فيه غنم القوم، فحكم فيها داود عليه السلام بأن يأخذ أصحاب الحرث الغنم، بدل حرثهم الذي أكلته، أما سليمان فلم يرض بهذا، وقال: أرى أن أصحاب الحرث يأخذون الغنم يستغلونها حتى يقوم الذين أكلت غنمهم هذا الحرث عليه بالسقي والتعاهد فيعود مثلما كان، فإذا عاد مثلما كان أخذوا غنمهم واستلم هؤلاء حرثهم، فأثنى الله عليه بهذا الحكم؛ لأن هذا هو الحق وقد أصابه؛ ومع ذلك قال: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:79] أي: لداود وسليمان. فدل على أن الاجتهاد لا يكفي في الإصابة، وكون المجتهد يجتهد لا يكفي في كونه يصيب، وإنما الإصابة يجب أن تكون موافقة لما حكم الله جل وعلا به في هذه القضية بعينها، ولله في كل قضية حكم معين، وهذا الذي يفتي أو يذكر حكم المسألة لا يجوز له أن يجزم جزماً معيناً وهو غير متيقن من الدليل، وإنما يقول: الذي أرى أن حكمها كذا وكذا، والعلم عند الله تعالى.

مسائل في باب ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه

مسائل في باب ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه

إخفار ذمة المسلمين أهون من إخفار ذمة الله ورسوله

إخفار ذمة المسلمين أهون من إخفار ذمة الله ورسوله قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل: الأولى: الفرق بين ذمة الله وذمة نبيه وذمة المسلمين]. يعني: أن ذمة الله وذمة نبيه سواء، ونقضهما عظيم جداً، بخلاف ذمة المسلمين فإن نقضها وإن كان محرم ولكنه أسهل من نقض ذمة الله وذمة رسوله.

على المسلم أن يفعل أخف الضررين في أي أمر

على المسلم أن يفعل أخف الضررين في أي أمر [الثانية: الإرشاد إلى أقل الأمرين خطراً]. هذا عام في كل أمر من الأمور، وفي كل مسألة من المسائل، فإذا عرض لك أمران أخذت بأخفهما، فإن كان من الممنوعات فعليك أن تختار أخفها ضرراً، وإن كان من المأمورات تختار أيسرهما وأسهلما، وهذا يتطلب نظراً وبصيرة من الإنسان للأمور، والله جل وعلا يحب البصير عند توارد الشبه، كما أنه يحب الصابرين عند توارد الشهوات.

الاستعانة بالله واجبة في كل الأمور

الاستعانة بالله واجبة في كل الأمور [الثالثة: قوله: (اغزوا باسم الله في سبيل الله)]. معنى الاستعانة بالله جل وعلا: أن المسلم لا يستعين إلا بربه جل وعلا، فيتعلق بربه ويعتمد عليه، ويذكره بأسمائه وصفاته.

قتال الكفار واجب

قتال الكفار واجب [الرابعة: قوله: (قاتلوا من كفر بالله)]. يعني: أن هذا عموم يشمل جميع الكفار، سواء كانوا يهوداً أو نصارى أو مشركين أو ملاحدة أو غيرهم، ويشمل الذين يقاتلون المسلمين ويريدون صدهم عن دينهم والاستيلاء على بلادهم أو الذين لا يقاتلون؛ لأنه قال: (قاتلوا من كفر بالله) وهذا هو الواجب على المسلمين؛ لأن الله جل وعلا يقول: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة:123] وكثير من المفسرين وغيرهم يقولون: إن هذه الآية: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} هي آية السيف التي أمرت المسلمين بسله وشهره على جميع الكفار، فهي ناسخة لكل آية فيها الأمر بالتحمل والصبر والدفع بالتي هي أحسن، ولكن هذا -في الحقيقة- ليس صحيحاً؛ إذ إن المسلمين على حالة واحدة دائماً، وأحياناً قد يضعفون ولا تكون عندهم قوة ولا استطاعة للدفاع فيصبح التحمل والدفع بالتي أحسن والصبر واجباً عليهم حتى يتمكنوا كما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم لما كان في مكة، فإن الله أمره بالتحمل والصبر ودفع الأذى بالتي هي أحسن، وليس بالحسنى فقط، إنما بما هو أحسن، أمره أن يصبر ويتحمل هو وأصحابه، حتى صار له قوة وجنود، وصار له دولة عند ذلك أمره الله جل وعلا بقتال الكفار عموماً. وهكذا تكون حالة المسلمين إذا ضعفوا، فيجب عليهم أن يتحملوا ويصبروا حتى يكون لهم قوة تمنعهم وتمنع بلادهم وأولادهم وذراريهم ومن تحت أيديهم من المسلمين، ولو: أقدموا على القتال وليس عندهم قوة لصار هذا فساده أعظم من المنافع التي ترجى منه؛ لأنه قد يتسلط عليهم العدو ويقتلهم، ويقضي عليهم نهائياً. فالواجب النظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم واتباع ما أمره الله جل وعلا به.

الاعتماد على الله واجب في كل أمر

الاعتماد على الله واجب في كل أمر [الخامسة: قوله: (استعن بالله وقاتلهم)] هذا أيضاً فيه أن المسلم يجب أن يعتمد على الله جل وعلا في جميع شئونه، وأن القتال يكون بالاعتماد على الله وبعونه، لا بالاعتماد على الكفار الذين يقال: إنهم أصدقاء أو غيرهم، بل الاعتماد يكون على الله جل وعلا، ولكن هذا لابد له أيضاً من الاستعداد؛ لأن الله جل وعلا يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] فإذا ترك المسلم الاستعداد فمعنى ذلك أنه عاص، وأنه مفرط لم يتمثل الأمر، والله جل وعلا جعل لكل شيء سبباً، فلابد من فعل الأسباب، ثم بعد فعل الأسباب يعتمد على ربه جل وعلا ويستعين به في حصول مراده، هذا هو شأن المؤمنين، وهذا هو الذي أمر الله جل وعلا به.

حكم الله واحد في كل قضية

حكم الله واحد في كل قضية [السادسة: الفرق بين حكم الله وحكم العلماء]. لأن الله له حكم في كل قضية معينة، وسوف يحكم الله بين خلقه يوم القيامة في كل دقيقة وجليلة، وكل قضية حصلت سوف تعاد يوم القيامة ويحكم الله جل وعلا فيها بالحق، وهو خير الحاكمين جل وتقدس. أما حكم العلماء وحكم المجتهدين فيجوز عليه الخطأ، بل كثيراً ما يكون خطأً، ويجب أن يضاف إليهم ذلك لا إلى الله جل وعلا.

الاجتهاد جائز لمن كان أهلا له

الاجتهاد جائز لمن كان أهلاً له [السابعة: في كون الصحابي يحكم عند الحاجة بحكم لا يدري أيوافق حكم الله أم لا]. يعني: أن الاجتهاد جائز، حتى لو قدر أن الإنسان يمكنه الرجوع إلى من يعلم القضية يقيناً فإنه يجتهد إذا وكل في هذا؛ لأن مسائل المسلمين لا يجوز أن تعطل حتى يطلب الحكم يقيناً، ويبحث عنه بأي مكان كان، بل يجب ألا تتعطل أعمال المسلمين، فيحكم فيها الحاكم ويجتهد غاية ما يمكنه، ثم الأمر إلى الله، وإذا كان نيته ومراده الحق وقد بذل وسعه فإنه مأجور وخطؤه مغفور.

شرح فتح المجيد [132]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [132] الجنة والنار ملك لله جل وعلا يدخل فيهما من يشاء، فلا يجوز للعبد التألي على الله جل وعلا، والحكم بأن هذا من أهل النار، أو أن هذا من أهل الجنة، إلا من ورد فيه نص من كتاب الله أو من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلينتبه الإنسان من لسانه، فرب كلمة توبق دنياه وآخرته.

حكم الإقسام على الله

حكم الإقسام على الله قال رحمه الله تعالى: [قال المصنف رحمه الله: باب ما جاء في الإقسام على الله]. هذا أيضاً من جنس ما سبق، وهو مما يتعلق بالربوبية وبجناب الرب جل وعلا، وذلك أن الرب جل وعلا هو المالك لكل شيء، وليس لأحد معه تصرف ولا سلطة، فلا يجوز لمخلوق أن يقسم على الله ويقول: والله يا رب! إنك ستفعل كذا. أو يقول لآخر: والله إن الله سيفعل بك كذا وكذا. أو: إن الله سيعاقبك بكذا وكذا. أو: إن الله لا يغفر لك. أو: إن الله سيدخلك الجنة. أو: سيدخلك النار أو ما أشبه ذلك، فهذا كله لا يجوز؛ لأن هذا في الحقيقة تدخل في شئون الرب جل وعلا، ولا يجوز للعبد أن يتدخل في شئون ربه، بل يجب أن يعرف قدره، وأن يعرف أنه عبد يتصرف الله جل وعلا فيه كيف يشاء، فعليه أن يعرف ذلك ويقف عند حده. أما إن ذهب يتألى على الله ويحلف عليه ويقسم عليه فإنه في الحقيقة قد تعدى طوره وركب رأسه، فيوشك أن يأخذه الله جل وعلا ويعاقبه، هذا هو المقصود في هذا الباب. ثم لا يرد على هذا أنه جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره)، وذكر منهم: البراء بن مالك، ولما وقع من الربيّع ما وقع عند أن كانت جارية صغيرة تلعب في الشارع وقع منها اعتداء فكسرت ثنية جارية أخرى، فجاء أهل الجارية المجني عليها إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشتكون فقال: (إن لم تعفوا فتكسر ثنية الربيع فقال أخوها: أتكسر ثنية الربيع؟ قال: نعم. كتاب الله القصاص. فقال: والله لا تكسر ثنية الربيع)، فرضي القوم بالصلح وقالوا: لا نريد القصاص. عند ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره) فـ أنس بن النضر لم يقل: والله إني أقسم عليك أن لا تكسر ثنية أختي. فإن مثل هذا قد يقوله الإنسان المخاصم أو الذي يجادل أخاه، فقد يقول: والله لا يصير هذا. وهو يريد أن يفعل الأمور والأسباب التي يتخلص بها من هذا الشيء، ولا يريد التألي على الله. وكذلك ورد أن الصحابة إذا كانوا في قتال يقولون للبراء بن مالك رضي الله عنه: أقسم على ربك أن ينصرنا، فكان يقول: (يا رب! أقسم عليك أن تمنحنا أكتافهم) فينصرون، وفي آخر مرة طلبوا منه ذلك وألحوا عليه فقال: (يا رب! أقسم عليك أن تمنحنا أكتافهم وتجعلني أول قتيل من المسلمين) فنصروا وانهزم العدو، وصار هو أول قتيل قتل، فهذا ليس معناه أنه يتعدى على الله ويدل عليه، وإنما كان يثق بربه ويسأله سؤالاً جازماً، وصورته صورة الإقسام فقط، أما أن يقسم قسماً يريد من الله أن يفعل هذا الشيء للتأكيد فهذا لا يجوز بحال من الأحوال؛ لأن الله جل وعلا هو الذي يتصرف بخلقه, وكل خلقه ملك له. ومن المسلّم به عند كل مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أفضل الخلق، وأعلم الناس بالله وأتقاهم وأخشاهم، وهو كذلك أقربهم وأحبهم إلى الله جل وعلا، ومع ذلك لما صارت وقعت بدر كان يجتهد بالدعاء والابتهال، وكان الصحابة كلهم قد ناموا في الليل إلا هو صلوات الله وسلامه عليه فإنه بات قائماً يتهجد ويصلي ويدعو، حتى كان في آخر الليل فصار يلح إلحاحاً بليغاً ويرفع يديه ويقول: (يا رب! وعدك الذي وعدتني يا رب! إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعد اليوم في الأرض) حتى رحمه أبو بكر رضي الله عنه، وقد سقط رداؤه من على كتفيه لشدة إلحاحه ورفعه يديه، فأخذ أبو بكر رداءه ووضعه على كتفيه والتزمه وقال: (يكيفك مناشدتك ربك)، فالرسول صلى الله عليه وسلم جاز عنده أن الله جل وعلا يسلط الكفار على المسلمين؛ لأنهم كلهم ملكه وعبيده، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تعبد بعد اليوم) أي أن الإسلام سيمحى كله، فلا يجوز لإنسان أن يدل على الله إدلال الواثق الذي يقسم بأنه يصير كذا وكذا، بل يجب أن يكون خاضعاً لله ذالاً له؛ لأن كل شيء ملك لله، ولهذا السبب لما ذكر الله جل وعلا الجنة وأهلها قال: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:108]، ولماذا جاء هذا الاستثناء ((إلا ما شاء ربك))؟ لئلا يطمعوا أن يكونوا مشاركين لله في البقاء والخلود دائماً أبداً، بل الأمر كله بمشيئة الله، لو شاء لأزال ذلك، فالأمر بيد الله جل وعلا. وكذلك إذا كان الإنسان يقرر مسألة من مسائل الشرع ثم رأى غيره مخالفاً له فصار يتهدده ويتوعده ويقول: لك النار، وسوف يأتيك كذا وكذا. أو يحلف له بأنه يحصل له كذا وكذا فإن هذا لا يجوز؛ لأن هذا تألٍ على الله، فكلاهما من عباد الله، والله هو الذي يحكم بينهما، وإنما على الإنسان أن يسلك أمر الله الذي أمره ولا يتعداه. أما الحكم في العباد ومآلهم وعذابهم أو إثابتهم فهو إلى الله جل وعلا.

شرح حديث: (قال رجل: والله! لا يغفر الله لفلان)

شرح حديث: (قال رجل: والله! لا يغفر الله لفلان) [قال المصنف رحمه الله: عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان. فقال الله عز وجل: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان؟ إني قد غفرت له وأحبطت عملك) رواه مسلم]. قوله: (يتألى) أي: يحلف. والأليّة -بالتشديد- الحلف. وصح من حديث أبي هريرة. قال البغوي في شرح السنة -وساق بالسند إلى عكرمة بن عمار - قال: دخلت مسجد المدينة، فناداني شيخ فقال: يا يمامي! تعال وما أعرفه، قال: لا تقولن لرجل: والله لا يغفر الله لك أبداً ولا يدخلك الجنة. قلت: ومن أنت يرحمك الله؟ قال: أبو هريرة فقلت: إن هذه كلمة يقولها أحدنا لبعض أهله إذا غضب أو لزوجته أو لخادمه. قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن رجلين كانا في بني إسرائيل متحابين، أحدهما مجتهد في العبادة والآخر -كأنه يقول- مذنب، فجعل يقول: أقصر عما أنت فيه. قال: فيقول: خلني وربي. قال: فوجده يوماً على ذنب استعظمه فقال: أقصر. فقال: خلني وربي، أبعثت علي رقيباً؟ فقال: والله لا يغفر الله لك، ولا يدخلك الجنة أبداً. قال: فبعث الله إليهما ملكاً فقبض أرواحهما فاجتمعا عنده، فقال للمذنب: ادخل الجنة برحمتي. وقال للآخر: أتستطيع أن تحظر على عبدي رحمتي؟ قال: لا يا رب. قال: اذهبوا به إلى النار) قال أبو هريرة: (والذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته)، ورواه أبو داود في سننه، وهذا لفظه: عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول: (كان رجلان في بني إسرائيل متآخيين، فكان أحدهما يذنب، والآخر مجتهد في العبادة، فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب فيقول: أقصر. فوجده يوماً على ذنب فقال له: أقصر. فقال: خلني وربي، أبعثت علي رقيباً؟ قال: والله لا يغفر الله لك ولا يدخلك الجنة، فقبضت أرواحهما، فاجتمعا عند رب العالمين، فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالماً، أو كنت على ما في يدي قادراً؟ فقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة، وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار)].

الكلمة قد توبق على الإنسان دنياه وآخرته

الكلمة قد توبق على الإنسان دنياه وآخرته [قال المصنف رحمه الله: وفي حديث أبي هريرة أن القائل رجل عابد، قال أبو هريرة: (تكلم كلمة أوبقت ديناه وآخرته)]. يشير إلى قوله في هذا الحديث: (أحدهما مجتهد في العبادة)، وفي هذه الأحاديث بيان خطر اللسان، وذلك يفيد التحرز من الكلام، كما في حديث معاذ (قلت: يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك -يا معاذ -! وهل يكب الناس في النار على وجوهم -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم؟!) والله أعلم]. في هذا الحديث عبرة، وكونهما متآخيين يعني أنهما ليسا أخوين من النسب، وإنما هما متآخيان على شيء معين، وأحدهما مجتهد في الطاعة والآخر عنده تقصير، وكلاهما مؤمن بالله متبع لشرعه، ولكن كان أحدهما مقصراً يفعل المعاصي ويترك بعض الواجبات، فكان المجتهد يحض أخاه شفقة عليه وغيرة على دين الله، ويغضب لله لا لنفسه، وكان يشفق على أخيه أن يصاب بالعذاب، فكان يلومه كثيراً كلما رآه على ذنب، إما أمر يقصر فيه أو لا يقوم بالأمور الواجبة كما ينبغي، أو ذنب يرتكبه، فكان ينهاه ويزجره ويقول له: (اقصر) يعني: اترك هذه الأعمال وأقلع عنها وخف ربك وهذا المقصر يقول: دعني وربي، ربي هو الذي يحاسبني، وأنت لا تحاسبي ولست عليّ رقيباً، ولكن لشدة اجتهاده وخوفه من أن يناله العذاب كان يلومه، وفي هذه المرة لما رآه على ذنب استعظمه قال هذه المقولة، وهي مقوله ما قالها إلا لأنه غضب، وغضبه لأن محارم الله انتهكت فقط، ولكنه أساء -في الحقيقة- وتعدى طوره، فقال له: (والله لا يغفر الله لك أبداً ولا يدخلك الجنة)، وهذا تألٍ على الله، والتألي: هو التعدي في الحلف. فقبضهما الله جل وعلا وأحضرهما بين يديه، فسأل هذا الحالف المتألي: أكنت قادراً على ما في يدي؟ أكنت تمنع ما أريد وترد مشيئتي وأمري؟ قال: لا يا رب فقال للملائكة: اذهبوا به إلى النار. فهذا مجتهد وغضب من المعاصي ومع ذلك ذهب دينه بكلمة قالها، كما قال أبو هريرة: (تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته) يعني: أهلكته، وهذا دليل على الخطر الشديد، فالإنسان يجب أن يكون مراقباً دائماً لربه، مراقباً لنفسه أيضاً، ناهجاً الطريق الذي أُمر بسلوكه، ودائماً يستحضر أنه عبد لله يتصرف فيه كيف يشاء، ويستحضر دائماً فقره وفاقته، ويعلم أنه فقير إلى الله لا ينفك عن الفقر لحظة واحدة، وإن وكله الله جل وعلا إلى نفسه هلك، فيتعلق برحمة الله ويرجوه دائماً وأبداً، ولابد من سلوك الشرع في هذا، وإلا هلك، أما هذا المقصر المذنب فغُفر له بسبب هو من أكره الأسباب إليه، وهو كون أخاه قابله بكلام مكروه إليه جداً، فلو جاءك إنسان وقال: أنت من أهل النار ماذا يكون موقفك من هذا القائل؟! سيكون موقفاً صعباً، لكن قد يكره الإنسان شيئاً ويكون خيراً له، وقد يكون شيء مكروه لديه جداً فيكون خيراً له مثل ما وقع لهذا. ثم إن في هذا دليلاً على أن الإنسان قد يترك دينه لمجرد كلمة، مثل ما ذكر في حديث معاذ، وحديثه عظيم جداً في هذا الباب، وهو أن معاذاً رضي الله عنه لفقهه وعلمه كان يقول: كان يدور في نفسي مسألة أحب أن أسأل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكنه كان يتحين الفرص التي يجد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً عليه، وكانوا قد نهوا عن كثرة السؤال، فأصبحوا لا يقدمون على السؤال إلا لأمر ضروري، وكان يسير معه في مسير غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد الرسول خالياً، فكان يسايره في الليل ويكلمه فقال: (يا رسول الله! أخبرني عن كلمة أمرضتني وأسقمتني قال: نعم سل. قال: أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: لقد سألت عن عظيم -وهذا دليل على فقهه- وإنه ليسير على من يسره الله عليه، تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت. ثم قال صلى الله عليه وسلم: يا معاذ ألا أدلك على أبواب الخير؟ فقلت: بلى يا رسول الله. قال: الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل، -يعني أن صلاة الرجل في جوف الليل أيضاً تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار-، ثم تلا قول الله جل وعلا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:16 - 17]، ثم قال له صلى الله عليه وسلم: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ فقلت: بلى، يا رسول الله. فقال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله. ثم قال صلى الله عليه وسلم: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ فقلت: بلى، يا رسول الله. قال: كف عليك لسانك فقلت: يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم؟! فقال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟) يعني: جراء ما يتكلمون به مما يكون فيه العقاب. وفي صحيح البخاري وغيره أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يلقي لها بالاً يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب)، وفي رواية: (يتكلم بالكلمة ليضحك بها القوم يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب). والله جل وعلا أخبر أن الإنسان مسئول عن لسانه، كما قال جل وعلا: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36] أي: تسأل يوم القيامة عن هذه، فتسأل عن سمعك هل استمعت به إلى الملاهي والمزامير والأغاني، أو إلى كلام الرحمان؟ لأن السمع خلق لك لتستعمله في عبادة الله وتستعمله في ما ينفعك، لا لتستعمله في طاعة الشيطان، فهذه نعمة أنعم الله جل وعلا بها عليك فلا تعص الله بها، ولا تستعن بنعم الله على معاصي الله. وكذلك تسأل عن البصر الذي أنعم الله جل وعلا به عليك هل استعملته في طاعة الله؟ وهل قادك ودعاك إلى معرفة الله والاستدلال بآياته عليه، أو أنك استعملته بما يضر وما يعود عليك باللوم والعقاب؟ وكذلك تسأل عن الفؤاد -والفؤاد هو القلب- فتسأل عن نياتك ومقاصدك وإرادتك، وهذه النيات هي قبل النطق، وهي التي تدعو اللسان إلى التكلم، واللسان يتكلم بما وراءه، فيجب أن يكون اللسان مقيداً بالشرع، وكذلك السمع والبصر والأيدي والأرجل وجميع ما أعطاك الله جل وعلا يجب أن يكون مقيداً بالشرع، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن العين تزني وزناها النظر، والأذن تزني وزناها الاستماع، واللسان يزني وزناه النطق، والقلب يتمنى، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه) أي: فيواقع الزنا الأكبر. فالنظر إلى المحرم زناً، والاستماع إلى المحرم والنطق به كذلك، وهذا إذا كان القلب مريضاً مرض الشهوة تكون أعماله كلها هكذا، نسأل الله العافية. والمقصود أن الإنسان خلق لعبادة الله، فيجب أن يكون مقيداً بالعبودية، ولا يكون -كما يقول الملاحدة اليوم- الإنسان حراً، وإذا نهيت إنساناً أو أمرته فقال لك: أنا حر فقل له: حر في ماذا؟ حر في اتباع الشيطان؟! لو كنت حراً لفسدت الدنيا كلها، ولا يمكن أن يستقيم عليها مجتمع أبداً؛ لأنه لابد أن يتقيد الناس بالقيود، وإن لم يتقيدوا فسوف تفسد أوضاعهم، فالإنسان لا يمكن أن يترك هكذا، فقول من يقول: إن الإنسان حر كذب، ما هو بحر، إنما قد يكون حراً في شيء أراده لنفسه، والله جل وعلا جعله عبداً ولم يجعله حراً، فهو عبد معبد لله جل وعلا، فيجب أن يكون طائعاً لله جل وعلا، فهذا الحديث فيه عبرة.

وجوب الإيمان بعذاب القبر، وبيان ضلال من أنكر ذلك

وجوب الإيمان بعذاب القبر، وبيان ضلال من أنكر ذلك ثم في هذا الحديث دليل على أن الناس إذا ماتوا تكون أرواحهم في البرزخ في الجنة أو في النار، أو تكون محبوسة معذبة في مكان ما لأنها لا تستحق عذاب النار، وإنما تعذب بما هو أقل من ذلك، ولهذا هذان الرجلان أُحضرا إلى الله بعد موتهما مباشرة إلى الله، فقال لأحدهما: ادخل الجنة. وقال للآخر: ادخل النار. وهذه المسألة من الأصول التي خالف فيها أهل البدع، فهم يقولون: الإنسان بعد الموت لا يعذب ولا ينعم؛ لأنه يصبح تراباً. وروحه أين تذهب؟! قالوا: ما ندري. وهذا مخالف لكتاب الله ولأحاديث رسوله ولإجماع السلف، فإن الله جل وعلا ذكر عذاب المقبور في آيات كثيرة، كما قال جل وعلا في آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46]، فأخبر أنهم يعرضون على النار بالغدو والعشي لتعذيبهم فيها، ثم يوم القيامة يدخلون أشد العذاب. ويقول الله جل وعلا: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر:1 - 3] أي: تعلمون ماذا يكون بعد الموت من العذاب {ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر:4] أي: بعد النفخ في الصور. وقال جل وعلا: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ} [السجدة:21]، فالعذاب الأدنى هو: الذي يكون بعد الموت، والأكبر الذي يكون بعد نفخ الصور. أما الأحاديث فهي كثيرة جداً، منها قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنه أوحي إليّ أنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريباً من فتنة الدجال)، ومر صلوات الله وسلامه عليه بقبرين قد دفنا حديثاً فقال: (هل تسمعون ما أسمع؟ قالوا: لا. فقال: إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير ثم قال: بلى -يعني: يعذبان في كبير- أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستبرئ من بوله)، فأخبر أن المعاصي تكون سبباً لعذاب القبر، وذكر النميمة، والنميمة هي نقل الحديث للغير على وجه الإفساد. وأما الآخر فكان لا يستبرئ من بوله، يعني: لم يكن يتنزه من بوله ويتنظف ويتطهر منه، بل كان يصيبه شيء منه ويتركه ولا يبالي به. فصار من أسباب عذاب القبر، ولهذا يقول العلماء: إن من أسباب عذاب القبر عدم التطهر الطهارة الكاملة، وكذلك من أسباب عذاب القبر أن يكون الإنسان جاهلاً بربه وبدينه، وكذلك من أسبابه بعض المعاصي المعينة كالتهاون في الصلاة والنميمة والإفساد بين الناس، والظلم عموماً، هذه بعض أسباب عذاب القبر. والمقصود أن العذاب يكون في القبر بعد الموت مباشرة، والقبر اسم لما بعد الموت، وليس بلازم أن يُدفن الإنسان في الأرض، بل لو ألقي في البحر لجاءه عذابه أو نعيمه، ولو أحرقته النار لجاءه نعيمه أو عذابه، ولو أكلته الطيور والسباع لابد أن يأتيه النعيم أو العذاب، والعذاب عند أهل الحق يكون على البدن وعلى الروح معاً، وليس على الروح فقط، والروح تبقى حية لا تموت، وإنما تخرج من البدن ويحصل الموت للبدن، ثم هذا البدن قد يصير تراباً، وقد تأكله النار فيصير رماداً وما أشبه ذلك، وقد يلقى في البحر فتأكله الحيتان ودواب البحر، وقد يخرج من بطونها دقيقاً قد طحنته أجوافها وأسنانها ومع ذلك هذه الأجزاء تعذب أو تنعم، هذه الأجزاء الصغيرة التي صارت تراباً تحس بالألم وتحس بالنعيم. فالله جل وعلا لا يعجزه شيء، بل قد يدفن جماعة في حفرة واحدة جميعاً ويصبح واحد منهم يعذب وواحد منهم ينعم، وهذا الذي يعذب لا يصل إلى من بجواره من عذابه شيء، والذي ينعم لا يصيب الذي بجواره من نعيمه شيء، وكل هذا من أمور الآخرة التي لا تقاس بأمور الدنيا، وإنما تتوقف على النصوص التي جاءت عن الله وعن رسوله، ففي هذا الحديث بيان أن الله عجل هذا إلى الجنة والآخر إلى النار بعد أن حكم الله جل وعلا بينهما. وفيه أيضاً أنه يجوز أن يحبط عمل الإنسان بفعل يفعله، فهذا الرجل تكلم بهذه الكلمة فأحبط عمله -نسأل الله العافية-، ولكن مذهب أهل السنة أن الإنسان لا يكفر بالذنوب، ولكنه معرض لعذاب الله، والأمر بيد الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه وعاقبه، وإن شاء أحبط عمله مثل هذا. وفيه أنه لا يجوز لإنسان مهما بلغ من العلم والمعرفة أن يحكم لمعين من الناس بأن هذا في الجنة أو في النار إلا ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم.

شرح فتح المجيد [133]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [133] لا يجوز الاستشفاع بالله على أحد من خلقه؛ لأن ذلك ينافي تقدير الله وتعظيمه، أما الاستشفاع بالمخلوق إن كان حياً فجائز، بل قد يكون مستحباً، إذا كان هذا الحي صالحاً يرجى إجابة دعوته، وهذا الذي كان يطلبه الصحابة من الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته، أما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فلم يطلب أحد من الصحابة الشفاعة؛ لعلمهم أن هذا يدخل في الشرك.

حكم الاستشفاع بالله على خلقه

حكم الاستشفاع بالله على خلقه قال المصنف رحمه الله: [باب: لا يستشفع بالله على خلقه]. قوله رحمه الله تعالى: [باب: لا يستشفع بالله على أحد من خلقه] الاستشفاع: هو طلب الشفاعة، والله جل وعلا الملك الحق له الملك كله، وله الخلق كله ولا لأحد معه في سلطانه شركة، فلا يجوز أن يُجعل الله جل وعلا شفيعاً عند أحد من الخلق؛ فإن هذا ينافي تقدير الله وتعظيمه، وينافي تمام ملكه جل وعلا، ولهذا أنكر النبي صلى الله عليه وسلم ما وقع من الأعرابي، كما سيأتي. أما الاستشفاع بالخلق فمعناه: طلب شفاعته إذا كان حياً حاضراً، فيجوز أن يطلب منه الدعاء والاستشفاع في أمر من الأمور، بل قد يكون مستحباً إذا كان الإنسان ترجى إجابة دعوته، وهذا الذي كان الصحابة رضوان الله عليهم يطلبونه من الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته، فإنهم كانوا يطلبون منه أن يشفع لهم بالدعاء، فكان يدعو لهم أن الله جل وعلا يعطيهم من الخير الدنيوي والأخروي. أما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فلم يطلب منه أحد من الصحابة، ولهذا لما وقع المسلمون في الجدب الشديد في خلافة عمر رضي الله عنه وأراد أن يستسقي طلب من العباس أن يدعو، وهذا هو معنى الاستشفاع به، فخرج به لما صلوا الصلاة فقال: (يا عباس! قم فادع) فجعل العباس يدعو وهم يؤمنون على دعائه، وهذا معنى الاستسقاء به الذي ذكره العلماء، أي: بدعائه وطلبه ولو كان الاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته مشروعاً أو جائزاً لم يعدلوا عن ذلك إلى العباس رضي الله عنه، وإنما عدلوا إلى العباس؛ لأن هذا ممتنع بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، والعباس رضي الله عنه هو أقرب الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فطلبوا دعاءه من أجل ذلك. فالمقصود: أن الاستشفاع من المخلوق جائز بشرط أن يكون حياً حاضراً قادراً على إجابة الطلب، أما طلب الشفاعة من الميت أو من الغائب فهذا يدخل في الشرك، نسأل الله السلامة، ولهذا جاء النهي عنه كما سيأتي. وأما الاستشفاع بالله على أحد من الخلق فهذا لا يجوز؛ لأنه ينافي عظمة الله، وينافي تقدير الله حق قدره؛ إذ إن العباد كلهم خلق الله وملكه يتصرف فيهم كيف يشاء، وسلطانه نافذ فيهم، ولا أحد له سلطان مع الله حتى يكون الرب جل وعلا هو الشافع عند ذلك المخلوق، تعالى الله وتقدس.

شرح حديث: (أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال: يا رسول الله! جهدت)

شرح حديث: (أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال: يا رسول الله! جهدت) قال الشارح رحمه الله: [وذكر الحديث، وسياق أبي داود في سننه أتم مما ذكره المصنف رحمه الله، ولفظه: عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال: (أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابيٌّ فقال: يا رسول الله! جهدت الأنفس، وضاعت العيال، ونهكت الأموال، وهلكت الأنعام، فاستسق الله لنا؛ فإنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويحك! أتدري ما تقول؟ وسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما زال يسبح حتى عُرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال: ويحك! إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك، ويحك! أتدري ما الله؟ إن عرشه على سماواته لهكذا -وقال بأصابعه مثل القبة عليه-، وإنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب) قال ابن بشار في حديثه: (إن الله فوق عرشه، وعرشه فوق سماواته). قال الحافظ الذهبي: رواه أبو داود بإسناد حسن عنده في (الرد على الجهمية) من حديث محمد بن إسحاق بن يسار]. في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال هذا الذي سأل منه الشفاعة ما قال سبح وكرر التسبيح: سبحان الله، سبحان الله وهذا معناه: أنزه لله جل وعلا عما قلت؛ لأن الله جل وعلا ينزه أن يكون شافعاً عند أحد من الخلق؛ لأن هذا ينافي سلطانه وينافي تمام ملكه وقهره، فإن العباد كلهم تحت تصرفه جل وعلا، سواء الأنبياء والملائكة أو غيرهم؛ فلا أحد له مع الله سلطان، بل الملك كله لله عز وجل. هذا هو سبب تسبيحه صلى الله عليه وسلم بقوله: سبحان الله، سبحان الله، والتسبيح: هو التنزيه والتقديس لله جل وعلا عما لا يليق به. وهذا القول مما لا يليق به. وأما معنى الحديث فقوله: (جهدت الأنفس وضاعت العيال ونهكت الأموال) يعني أنه أصابهم الجدب، وتأخر المطر فأمحلت الأرض وقلَّ الحليب أو انعدم وكانوا يعتمدون على مواشيهم في الأكل والشرب والحمل، فإذا قل ما في الأرض جاع من جراء ذلك العيال وغيرهم، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب منه أن يستسقي ربه جل وعلا حتى يأتي بالمطر فقال: (إنا نستشفع بك على الله)، وهذا اللفظ لم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم، فالاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى الله شيء كان يفعله الصحابة رضوان الله عليهم، وقد تقدم أن معناه: أن يطلبوا منه أن يدعو لهم فيما يهمهم في أمر دينهم أو دنياهم، أو آخرتهم، فهذا لا ينكر، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يفعل ما طلب منه إذا لم يكن مخالفاً لأمر الله جل وعلا، وإنما أنكر على الأعرابي قوله: (ونستشفع بالله عليك) يعني: نجعل الله شافعاً لنا عندك حتى تقبل قولنا وتدعو لنا، هذا هو الذي أنكره، وسبح الله جل وعلا من أجله تنزيهاً وتعظيماً لله؛ لأنه ينافي حق الله جل وعلا وملكه. ومثل هذا كل ما فيه تنقص لله جل وعلا في أسمائه وأوصافه أو في حقوقه أو في سلطانه وملكه، فيجب أن ينزه الرب جل وعلا عن ذلك؛ لأنه لا حق لأحد عند الله، فضلاً عن أن يكون أحد شريكاً لله جل وعلا في التصرف في الملك حتى يكون الرب جل وعلا يشفع عند هذا المخلوق، تعالى الله وتقدس. وفي هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أنكر عليه، فقال: (ويحك! أتدري ما تقول؟)، فدل هذا على أن هذا الرجل جاهل، يجهل حق الله جل وعلا، ويجهل ما يجب لله جل وعلا، فعمله الرسول صلى الله عليه وسلم، ونزه الله جل وعلا عن قوله منكراً له.

وجوب إثبات علو الله جل وعلا

وجوب إثبات علو الله جل وعلا ثم أخبر بشيء من عظمة الله جل وعلا مما يدعو الإنسان إلى تعظيم الله جل وعلا، فقال: (إن الله فوق عرشه) والعرش هو سقف المخلوقات وأعلاها، وهو أعظمها وأكبرها وأوسعها، وهو الذي اختصه الله جل وعلا بأن يستوى عليه، والاستواء على الشيء: هو الارتفاع عليه والعلو عليه، وهذا جاء في كتاب الله في مواطن متعددة، وكذلك جاء في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي هذا دليل على علو الله جل وعلا وارتفاعه وأنه فوق خلقه تعالى وتقدس، ولهذا قال: (والله فوقه) يعني: فوق العرش. يقول الله جل وعلا: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} [الملك:16 - 17] يعني أنه جل وعلا فوق، والسماء هنا المقصود بها العلو، وليس المقصود السماء المبنية حتى تكون (في) ظرفية، بل المقصود: من فوقكم في العلو. وكذلك يقول الله جل وعلا: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18]، ويقول الله جل وعلا: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] في آيات متعددة يذكر ربنا جل وعلا أنه بعدما خلق السماوات والأرض استوى على عرشه، وعرشه جل وعلا هو أعظم المخلوقات، كما جاء أن السماوات -على سعتها وعظمها- تكون بالنسبة للعرش كسبعة دراهم ملقاة في أرض من الفلاة، فالعرش هو أعظم المخلوقات وهو أرفعها وأعلاها، وليس فوق العرش إلا رب العالمين جل وعلا، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس؛ فإنه أعلى الجنة ووسطها، ومنه تفجر أنهار الجنة، وسقفه عرش الرحمن)، فعرش الرحمن هو أعلى المخلوقات على الإطلاق. ثم إنه لا ينكر هذا إلا أهل البدع الذين ضلوا عن هداية نصوص كتاب الله جل وعلا وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم بأفكارهم وعقولهم القاصرة، فإنهم اعتمدوا على عقولهم، والذي جعلهم يعتمدون على عقولهم ويضلون هو أنهم قاسوا رب العالمين على الخلق -تعالى الله وتقدس- ولو لم يصرحوا بهذا، ولكنهم يتكلمون بما يعقلون وبما تدركه عقولهم فقط، والله جل وعلا أعلى وأجل من أن تدركه العقول ومن أن تقيسه المخلوقات، كما قال الله جل وعلا: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم:42] يعني: إذا وصل الفكر إلى الله فيجب أن ينتهي؛ لأنه لن يعود بطائل، فالله أعظم من كل شيء، وفوق أن يتصوره متصور، كما قال عن نفسه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] تعالى وتقدس، وكما قال جل وعلا: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4]، والند هو: المثل والنظير في أي شيء كان، ويقول جل وعلا: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65] يعني: هل تعلم له مثيلاً ونظيراً يساميه تعالى وتقدس. والواجب اتباع ما جاء عن الله جل وعلا وما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، والعقل لا ينافي هذا، وكذلك الفطر التي فطر الله جل وعلا خلقه عليها؛ فإن الله فطر عباده على كونه جل وعلا فوقهم، ولهذا تجد كل داع إذا دعا ربه يرفع يديه إلى السماء، ويقول: يا رب! ولا يتجه يميناً ولا شمالاً ولا تحت، بل فطرة الله التي فطر الناس عليها هي على هذا الشيء، وأن الله فوقهم، وإنما تتغير الفطر بالتعليم وبالتربية، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، والمقصود بالأبوين من يتولى تربيته، سواء الأبوان أو المدرس أو المعلم أو المربي أو غيرهم، فإذا رباه على خلاف الحق فقد رباه ضد الفطرة التي خلق عليها، وأما العقل فإن الله جل وعلا لا يجوز أن يكون حالاً في خلقه أو يكون شيء من الخلق فوقه -تعالى الله وتقدس عن ذلك-؛ لأنه أعلى من كل شيء، كما قال جل وعلا: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67] فالسماوات كلها على سعتها يطويها جل وعلا بيده، وتكون صغيرة بالنسبة إليه تعالى وتقدس. فلا يجوز أن يظن ظان أن شيئاً من المخلوقات يمكن أن يحيط بالله جل وعلا وتعالى وتقدس.

وجوب إثبات صفة الإتيان لله جل وعلا

وجوب إثبات صفة الإتيان لله جل وعلا وأما كونه جل وعلا يأتي يوم القيامة إلى الأرض ليفصل بين عباده ويقضي بينهم فهو يأتي وهو على عرشه وهو عالٍ على كل شيء، ولا يمكن أن يكون شيء فوقه لا في الوقت الحاضر ولا يوم القيامة ولا غيره؛ لأنه سبحانه أكبر وأعظم من كل شيء. فيجب أن يعظم الله جل وعلا، ويجب أن تُعتقد معاني النصوص التي جاءت عن الله جل وعلا في كتابه اعتقاداً صحيحاً، وهكذا ما جاء عن رسوله صلى الله عليه وسلم فيما أوحاه الله جل وعلا إليه، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم بين هذا ووضحه إيضاحاً لا يكون بعده محلاً للكلام؛ لأنه صلوات الله وسلامه عليه علمنا كل ما يلزم أن نعتقده، ووضح ذلك وبينه بياناً شافياً. أما الذي يعتاض عن ذلك بقول متكلم أو متفلسف فإنه في الحقيقة يعتاض عن الهدى بالباطل؛ لأن الهدى لا يتعدى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكل ما خالف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهو باطل يجب أن يرد على قائله. وفي هذا تعظيم الله وتنزيهه عما لا يليق به، وأنه يجب أن ينزه عما يخالف عظمته أو ينافيها أو ينافي معاني أسمائه وأوصافه جل وعلا. وفيه أنه إذا جاء كلام يشتمل على حق وباطل يبين ويفصل، فيرد الباطل ويقبل الحق، ولهذا رد الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا الأعرابي قوله: (نستشفع بالله عليك)، وأقر قوله: (نستشفع بك على الله).

الشفاعة الجائزة

الشفاعة الجائزة وفيه أن الشفاعة التي تطلب من الله تكون بالدعاء، والله جل وعلا أخبر أن الشفاعة لا تقع إلا بعد إذنه؛ لتمام ملكه، كما قال جل وعلا: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، وقال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28]، وقال عز وجل: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26]، فالشفاعة لا تقع إلا بإذن الله، ولا أحد يستطيع أن يتقدم يطلب الشفاعة من الله إلا يوم القيامة إذا أذن له. وقد جاء بيان ذلك وتفصيله عن الرسول صلى الله عليه وسلم بياناً واضحاً، فإنه إذا وقف الخلق يوم القيامة لرب العالمين وقوفا طويلاً مدة خمسين ألف سنة، حتى يوجد من الشدة ما يتمنى بعضهم أو كثير منهم أن يقضى بينهم ولو إلى النار؛ لأنهم يتصورون أن ما بعده أهون منه، والأمر بالعكس، فليست النار بأهون منه، وهم مجتمعون كلهم في صعيد واحد، غير أن هذا الوقوف شدته وهوله وسهولته تتفاوت على حسب أعمال الناس، فإذا وقفوا هذا الموقف الهائل يلهمهم الله جل وعلا أن يقولوا: لماذا لا نطلب من الأنبياء أن يشفعوا لنا عند الله حتى يأتي ليفصل بيننا ويريحنا من عناء هذا الموقف الشديد؟ فيقول بعضهم لبعض: من أولى بذلك من أبيكم آدم الذي خلقه الله بيده، وأسجد له ملائكته، وأسكنته جنته؟! فيذهبون إليه -وآدم موجود معهم في الموقف، وكذلك الرسل موجودون معهم في الموقف- فيعرفونه، ويقولون له: أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، وأسكنك جنته، وأسجد لك ملائكته، ألا ترى ما نحن فيه، اشفع لنا إلى الله حتى يأتي ليفصل بيننا ويريحنا من عناء هذا الموقف فيعتذر ويقول: إن ربي جل وعلا قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإن ربي نهاني عن أكل الشجرة فعصيته، نفسي نفسي. اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح فإنه أول رسول أرسله الله جل وعلا إلى أهل الأرض، وقد سماه الله جل وعلا عبداً شكوراً، فيأتون إلى نوح فيعرفونه مع الرسل، ويطلبون منه ذلك فيعتذر مثل ما اعتذر آدم، ويرسلهم إلى إبراهيم ويقول: إنه خليل الرحمن، فيأتون إليه، فيعرفونه ويطلبون منه أن يشفع لهم، فيعتذر ويقول مثل ما قال نوح، ثم يرسلهم إلى موسى ويقول: إن الله فضله بكلامه بلا واسطة، اذهبوا إليه، فيذهبون إليه فيعتذر ويقول: إني قتلت نفساً بغير حق، كما أن إبراهيم عليه السلام يقول: إني كذبت ثلاث كذبات، ويقول نوح عليه السلام: إني دعوت ربي ما ليس لي به علم، اذهبوا إلى غيري، وكلها أمور مغفورة لهم، ولكن الموقف هائل فموسى يرسلهم إلى عيسى عليه السلام فيعتذر، ثم يرسلهم عيسى إلى خاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول صلى الله عليه وسلم: (فإذا جاءوا إليّ ذهبت إلى مكان تحت العرش، فإذا رأيت ربي سجدت له فيدعني ما شاء الله أن يدعني ويفتح عليّ من المحامد والثناء ما لا أحسنه الآن، ثم يقول جل وعلا لنبيه محمد: ارفع رأسك، واشفع تشفع)، وقبل أن يقول له: (اشفع) لا يشفع، وهكذا كل شافع عند الله لا يشفع حتى يقول له جل وعلا: اشفع؛ لأن الله جل وعلا يقول: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، فلتمام ملكه وعظمة سلطانه ما أحد يتجاسر على طلب الشفاعة قبل أن يأذن له.

الشفاعة المحرمة التي كان المشركون يتعلقون بها

الشفاعة المحرمة التي كان المشركون يتعلقون بها والشفاعة التي يتعلق بها المشركون قديماً وحديثاً هي من باب قياس الخالق على المخلوقين تعالى الله وتقدس، فهم يرون العظماء لا يأتي إليهم طالب الحاجة منهم إلا بواسطة شفاعة المقربين لديهم، فجعلوا رب العالمين بهذه المثابة، تعالى الله وتقدس، والله جل وعلا لم يجعل بينه وبين خلقه واسطة، بل إذا أردت ربك، فاسأله في أي مكان كنت، وعلى أي حالة كنت، ولا حاجة إلى أن تذهب تبحث عن الوسائط، فالله لم يجعل لك وسائط تتوسط بها عند الله، بل جعل هذا شركاً يمنع من قبول دعوتك إذا دعوته، ويوجب لمن فعل ذلك أن يكون خالداً في النار إذا مات عليه، نسأل الله العافية. وإنما الوساطة في الحق هي وساطة الرسل في تبليغ الدعوة وفي تبليغ الوحي فقط، فهم الوساطة بيننا وبين ربنا جل وعلا، ورسولنا صلى الله عليه وسلم هو الوساطة بيننا وبين ربنا في تبليغ أمره وشرعه ونهيه، أما العبادة فليس بينك وبين الله وساطة، بل يجب أن تعبد ربك رأساً، وتطلب منه ما أردت بدون أن تجعل بينك وبينه وسائل ووسائط. فالمقصود: أن الشفاعة التي يتعلق بها المشركون تكون سبباً لحرمانهم من الشفاعة، ولهذا ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (يا رسول الله! من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه)، الإخلاص هو أن يكون الدعاء خالصاً لله ليس لغيره منه شيء، فأهل الإخلاص هم الذين يشفع فيهم الرسل. أما أهل الشرك فشركهم يمنعهم من إجابة الشفاعة لهم، والمقصود أن الشفاعة التي جاء ذكرها في القرآن جاءت على قسمين: قسم مثبت، وقسم منفي، فالمثبت هو ما يقع بعد إذن الله ولمن يرضاه ربه جل وعلا، أما المنفي فهو الذي لم يأذن الرب جل وعلا له، كما يزعمه المشركون؛ فإنهم يجعلون أوثانهم وأصنامهم ومعبوداتهم وسائط بينهم وبين الله لتشفع لهم، كما أن في الوقت الحاضر كثير من الناس يجعلون الأولياء وسائط لهم ليشفعوا لهم عند الله، ولهذا يطلبون من الأولياء أن يشفعوا، ويقولون لهم: اشفعوا لنا، وهم أموات لا يستطيعون أن يزدادوا حسنة ولا أن ينقص من سيئاتهم سيئة، ومع ذلك يطلبون منهم الشفاعة، زاعمين أن هذا ينفع، وهذا خلاف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر عظيم جداً ينبغي للإنسان أن يعرفه؛ لأن كثيراً من الناس ضل بسببه، وكثير من الناس يسمي هذا توسلاً ويزعم أنه يقرب إلى الله، وأن الولي محبوب لدى الله، وأن هذا العمل مشروع، وفي الحقيقة هو ينافي التوحيد الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن التوحيد هو أن يوحد الله في الطلب وفي الدعاء وفي القصد والإرادة، فيوحد الله في ذاته، ولا يطلب من أحد غيره. أما الادعاءات والتعلقات بالباطل وعلى قول فلان وفلان فهذا لا قيمة له، بل يضمحل إذا حصص الحق، وإذا تبين يوم القيامة للإنسان ما قدم عض على يده نادماً، فالواجب على الإنسان أن يعرف الحق، وما دام أنه بالإمكان أن يعمل ويتوب ويتعرف على الحق وعلى الباطل فليعمل ذلك، وليتمسك بالحق ويجتنب الباطل.

وجوب تعظيم الله عز وجل وإثبات صفاته كما جاءت

وجوب تعظيم الله عز وجل وإثبات صفاته كما جاءت قال الشارح رحمه الله: [قوله: (ويحك! إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه) فإنه تعالى رب كل شيء ومليكه، والخير كله بيده، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، ولا راد لما قضى، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر:44] {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، والخلق وما في أيديهم ملكه يتصرف فيهم كيف يشاء، وهو الذي يشفع الشافع إليه، ولهذا أنكر على الأعرابي. قوله: (وسبح لله كثيراً وعظَّمه) لأن هذا القول لا يليق بالخالق سبحانه وبحمده، إن شأن الله أعظم من ذلك. وفي هذا الحديث إثبات علو الله على خلقه، وأن عرشه فوق سماواته، وفيه تفسير الاستواء بالعلو كما فسره الصحابة والتابعون والأئمة خلافاً للمعطلة والجهمية والمعتزلة ومن أخذ عنهم، كالأشاعرة ونحوهم ممن ألحد في أسماء الله وصفاته وصرفها عن المعنى الذي وضعت له ودلت عليه من إثبات صفات الله تعالى التي دلت على كماله جل وعلا، كما عليه السلف الصالح والأئمة ومن تبعهم ممن تمسك بالسنة، فإنهم أثبتوا ما أثبته الله لنفسه وأثبته له رسوله من صفات كماله على ما يليق بجلاله وعظمته إثباتاً بلا تمثيل، وتنزيهاً بلا تعطيل]. تفسير الاستواء بالعلو ثبت عن السلف، وقد فسروا الاستواء بألفاظ أربعة، كما جاء في صحيح البخاري عن أبي العالية قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] يعني: علا، ففسروه بالعلو، كما فسروه بالارتفاع فقالوا: معنى استوى: ارتفع، وفسروه أيضاً بالصعود فقالوا: استوى: صعد، وفسروه أيضاً بالاستقرار فقالوا: استوى: استقر، فهذه ألفاظ أربعة جاءت مروية عن السلف الصحابة والتابعين وغيرهم في تفسير الاستواء. وأما تفسير أهل البدع فهو تفسير باطل؛ لأنهم فسروه بالاستيلاء فقالوا: معنى استوى: استولى، والاستيلاء يكون مخالفاً لمعنى الاستواء، ويستدلون ببيت ينسب للأخطل النصراني: قد استوى بشر على العراق من غير سيف أو دم مهراق مع أنه لا يوجد حتى في شعره، وهذا عجيب! كيف يترك كتاب الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم وكلام الصحابة التابعين الذين فهموا عن الله وعن رسوله ويؤخذ ببيت مجهول لمجهول، أو لضال ضل في ذلك؟! ولكن هكذا أهل الباطل، وهذا إلحاد في أسماء الله جل وعلا، والاستيلاء معناه: المغالبة، أي أنه كان مغلوباً عليه ثم غالب هذا الغالب فغلبه، مثل بشر، فقد كان العراق لواحد آخر فقاتله حتى غلبه فاستقر له، والله يتعالى ويتقدس عن هذا المعنى، فكل شيء ملك له تعالى، فالاستواء معناه ظاهر وواضح وجلي لا يجوز تفسيره إلا بما جاء عن السلف الصالح الذين فهموا عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، وكل أسماء الله وأوصافه يجب أن يوقف على النص فيها، ولا يتجاوز كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إلى قول أحد من الخلق خالف ما في الكتاب والسنة، ولهذا يقول العلماء: أسماء الله توقيفية أي: أنه يوقف فيها على النص فقط، فإذا جاء النص في ذلك قيل به، وقيل بمقتضاه، وإذا لم يأت نص لا يجوز أن نقول فيها برأينا أو باجتهادنا؛ لأنها في الحقيقة مبنية على شيئين: أحدهما: أن الله ليس كمثله شيء، فلا يجوز أن يقاس بغيره. الثاني: أن الله غيب لم يره ولم يطلع عليه أحد، فلا يجوز أن يتكلم متكلم فيما هو غائب عنه، وإن تكلم في ذلك فهو يظن ظنوناً، والظن لا يغني من الحق شيئاً، فلهذا لا يجوز أن نصف الله جل وعلا إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم. ويكفي هذا؛ لأن الله جل وعلا خاطبنا بما نفهم، والرسول صلى الله عليه وسلم بين لنا ما أمره الله جل وعلا ببيانه، ووضحه، فلم يترك الأمر ملتبساً مشتبهاً، بل جلاه غاية الجلاء ووضحه وبينه غاية الوضوح والبيان، وقد علّمنا أشياء أقل من هذا أهمية بكثير، مثل أدب الأكل، وآداب الجلوس، وآداب النوم، وآداب دخول المنزل، وكذلك آدب قضاء الحاجة، علمنا هذه الأمور مع أن هذه لو تركها الإنسان ما كان آثماً، فكيف يترك باب معرفة الرب جل وعلا ملتبساً مشتبهاً، فلا يمكن أن يتركه حتى يشتبه حقه بالباطل، ومن أقر للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه بلغ عن الله فيجب عليه أن يعتقد أن الرسول صلى الله عليه وسلم بين باب معرفة الله جل وعلا بياناً واضحاً، وقد قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} [المائدة:67]، فأمره الله جل وعلا أن يبلغ ما أنزله الله إليه، ولو ترك شيئاً لم يوضحه والناس بحاجة إليه ما كان بلغ البلاغ الكامل الذي طلب منه، ولهذا كان السلف يستدلون بهذه الآية على رد البدع كلها، ويقولون: هذه البدع لو كانت حقاً لبينها الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله قال له: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67] يعني: إن لم تبلغ فالله يعذبك ويعاقبك على ذلك، وقد بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم، وأشهد على الناس في أعظم موقف يوم عرفات أو يوم النحر لما خطب الناس خطبته البليغة فقال: (أيها الناس! إنكم مسئولون عني فماذا أنتم قائلون؟) أي: إن الله سيسألكم عني، فيقول لكم: هل بلغكم؟ (فماذا أنتم قائلون؟ فقالوا: نشهد أنك بلغت الرسالة وأديت الأمانة ونصحت الأمة، فجعل صلى الله عليه وسلم يرفع أصبعه إلى السماء ثم ينكسها عليهم ويقول: اللهم اشهد، اللهم اشهد) أي: اشهد عليهم أنهم شهدوا لي بالبلاغ، فالرسول صلى الله عليه وسلم بلغ، ومن الفروض العينية التي يجب على كل إنسان بعينه أن يعتقدها ويؤمن بها أن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغ ما أنزل إليه من ربه. فالذي يظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبلغ أوصاف الله ولم يبينها ويوضحها لنا فهو في الحقيقة ما شهد للرسول صلى الله عليه وسلم بالبلاغ، وبهذا يختل إيمانه بالله عز وجل وبالرسول صلى الله عليه وسلم. والمقصود أننا لسنا بحاجة إلى قول متكلم أو فلسلفة متفلسف أو متحذلق، قد أغنانا الله جل وعلا عنهم بما بلغه الرسول صلى الله عليه وسلم، فيجب على المسلم أن يستغني بذلك.

سفر القلب إلى الله تعالى

سفر القلب إلى الله تعالى قال الشارح رحمه الله: [قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في (مفتاح دار السعادة) -بعد كلام سبق فيما يُعرِّف العبد بنفسه وبربه من عجائب مخلوقاته- قال بعد ذلك: والثاني: أن يتجاوز هذا إلى النظر بالبصيرة الباطنة فتفتح له أبواب السماء، فيجول في أقطارها وملكوتها وبين ملائكتها، ثم يفتح له باب بعد باب حتى ينتهي به سير القلب إلى عرش الرحمن، فينظر سعته وعظمته وجلاله ومجده ورفعته، ويرى السماوات السبع والأراضين السبع بالنسبة إليه كحلقة ملقاة بأرض فلاة، ويرى الملائكة حافين من حول العرش لهم زجل بالتسبيح والتحميد والتقديس والتكبير، والأمر ينزل من فوقه بتدبير الممالك والجنود التي لا يعلمها إلا ربها ومليكها، فينزل الأمر بإحياء قوم وإماتة آخرين، وإعزاز قوم وإذلال آخرين، وإنشاء ملك وسلب ملك، وتحويل نعمة من محل إلى محل، وقضاء الحاجات على اختلافها وتبيانها وكثرتها: من جبر كسير، واغناء فقير، وشفاء مريض، وتفريج كرب، ومغفرة ذنب، وكشف ضر، ونصر مظلوم، وهداية حيران، وتعليم جاهل، ورد آبق، وأمان خائف، وإجارة مستجير، ومدد لضعيف، وإغاثة لملهوف، وإعانة لعاجز، وانتقام من ظالم، وكف لعدوان، فهي مراسيم دائرة بين العدل والفضل، والحكمة والرحمة، تنفذ في أقطار العوالم، لا يشغله سمع شيء منها عن سمع غيره، ولا تغلطه كثرة المسائل والحوائج على اختلاف لغاتها وتبيانها واتحاد وقتها، ولا يتبرم بإلحاح الملحين، ولا تنقص ذرة من خزائنه، لا إله إلا هو العزيز الحكيم، فحينئذ يقوم القلب بين يدي الرحمن مطرقاً لهيئته خاشعاً لعظمته عانياً لعزته، فيسجد بين يدي الملك الحق المبين، سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم المزيد، فهذا سفر القلب، وهو في وطنه وداره ومحل ملكه، وهذا من أعظم آيات الله وعجائب صنعه، فيا له من سفر وما أبركه وأروحه، وأعظم ثمرته وربحه، وأجل منفعته وأحسن عاقبته، سفر هو حياة الأرواح، ومفتاح السعادة، وغنيمة العقول والألباب، لا كالسفر الذي هو قطعة من العذاب. انتهى كلامه رحمه الله]. سفر القلب: هو معرفته ووصوله إلى حقيقة العلم، والمعرفة تكون بالوحي الذي أوحاه الله جل وعلا، ويجب على العبد أن يهاجر إلى الله وإلى رسوله ويترك ما قد يعترضه من العوائق والمؤثرات التي تؤثر في سيره إلى الله جل وعلا، فإذا حصل عائق أو مؤثر فإنه قاطع يقطعه عن الله جل وعلا، والقواطع والعوائق كثيرة، والسفر لا يكون إلا بواسطة الوحي الذي أوحاه الله جل وعلا إلى رسوله. والله جل وعلا غيب لا يُدرَك ولا يُعلَم، ولا أحد يطلع عليه ويشاهده، ولا له مثيل فيقاس عليه تعالى الله وتقدس، فتتوقف معرفته على وصفه نفسه، وقد تعرف جل وعلا إلى خلقه بأوصافه التي وصف نفسه بها في كتابه، وكذلك وصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم كما في هذا الحديث ونحوه. فسفر القلب يكون بهذه الواسطة، أي: أنه يعلم أن الله مستوٍ على عرشه، وأن الله عظيم وكبير لا مثيل ولا نظير له، ويعرف أن الله أنزل الوحي وهو على عرشه، والأوامر تنفذ إلى من يشاء من خلقه ورسله، وهو جل وعلا كل يوم في شأن: يعز من يشاء، ويذل من يشاء، يجيب دعوة، ويجبر كسيراً، ويرحم ضعيفاً، ويقصم جباراً، فليس معه جل وعلا متصرف في الخلق كله. وأما ما في أيدي الخلق فهو أمر وهبه الله لهم، إذا شاء جل وعلا سلبه منهم، وسوف يسلب حياة الإنسان عن قرب؛ لأنها قصيرة ومحدودة، فيذهب ويترك كل ما خوله من هذه الدنيا ليس معه إلا خرقة ملفوف بها جسده، وقد يكون جسده ليس ملفوفاً بخرقة، ثم عن قرب يكون مرتعاً للدود تحت طباق الأرض، لا يستطيع جلب منفعة لنفسه ولا دفع مضرة عن نفسه، وإنما الأمور كلها بيد الله جل وعلا، وكل الخلق يرجعون إليه يوم القيامة، قد جعل لهم داراً للاختبار وللابتلاء، فهذه الدار جعلها الله جل وعلا ليختبرنا ويمتحننا، فهي دار امتحان، وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان. فالله جل وعلا جعل ذلك غيباً حتى يتبين من يصدق ومن يعمل بالوحي الذي يأتي به الرسول صلى الله عليه وسلم ويوقن بذلك ممن لا يؤمن إلا بمحسوس، ويتبين من يعبد الله ممن يعبد غيره، ولهذا جعل للخلق دارين باقيتين أبد الآباد: الجنة والنار، الجنة لمن أطاع وامتثل الأمر وآمن بالله جل وعلا وصدق بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم واتبعه، والنار لمن كذب وأبى اتباع الوحي، فيجب أن يكون هذا أهم المهمات لدى قلب الإنسان، يتعرف عليه وينظر فيه دائماً، ويتفكر فيه، ولا يجوز أن ينساه. ثم إن السفر الذي يجب على العبد أن يسافره هو السفر إلى الله بقلبه وبعمله وبعبادته، وأما إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فإلى سنته وإلى الوحي الذي جاء به ليجعله دليلاً له في عمله، وهذا أنفع ما يكون للإنسان، بل وإذا تركه الإنسان فهو الخاسر وهو الضال، وهو الذي يكون يوم القيامة من النادمين، نسأل الله العافية.

دعاء الميت والاستشفاع به

دعاء الميت والاستشفاع به قال الشارح رحمه الله: [وأما الاستشفاع بالرسول صلى الله عليه وسلم في حياته فالمراد به استجلاب دعائه، وليس خاصاً به صلى الله عليه وسلم، بل كل حي صالح يرجى أن يستجاب له فلا بأس أن يطلب منه أن يدعو للسائل بالمطالب الخاصة والعامة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمر لما أراد أن يعتمر من المدينة: (لا تنسنا يا أخي من صالح دعائك). وأما الميت فإنما يشرع في حقه الدعاء له على جنازته وعلى قبره وفي غير ذلك، وهذا هو الذي يشرع في حق الميت، أما دعاؤه فلم يشرع، بل قد دل الكتاب والسنة على النهي عنه والوعيد عليه، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} [فاطر:13 - 14]، فبين الله تعالى أن دعاء من لا يسمع ولا يستجيب شرك يكفر به المدعو يوم القيامة، أي: ينكره ويعادي من فعله كما في آية الأحقاف: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:6] فكل ميت أو غائب لا يسمع ولا يستجيب ولا ينفع ولا يضر]. قبل هذه الآية قوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:5 - 6]. يقول الله جل وعلا: قد ضل الفاعل هذا الفعل الضلال البليغ المتناهي: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأحقاف:5] يعني: أن الأموات من الحجارة وغيرها ما تستجيب دعوة الداعي إلا إذا حشر الناس وجمعوا فهناك تجيب وتكفر به وتقول: كفرت بك، ولهذا قال: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:6]. وبين أن هذا الدعاء عبادة، فالذي يدعو الميت ويذهب إلى قبره ويقول: يا فلان! اشفع لي أو أعطني كذا أو أنا في حاجتك أو ظلمني فلان فانتقم لي منه أو أريد ولداً أو أريد مالاً أو أريد نصراً على العدو أو ما أشبه ذلك فهذا ضال متناهٍ في الضلال، وما يفعله شرك بالله جل وعلا؛ لأنه دعا ميتاً لا يجيب ولا يستطيع أن يستجيب، فإذا كان يوم القيامة جُمع هذا الداعي ومن دُعي ويقول الله جل وعلا له: اذهب إلى من كنت تدعوه فليستجب دعاءك، وقد جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الناس إذا اجتمعوا يوم القيامة وجاء ربنا جل وعلا ليفصل بينهم يخاطبهم بخطاب يسمعونه ويقول لهم: أليس عدلاً مني أن أولي كل واحد منكم ما كان يتولاه في الدنيا، فكلهم يقولون: بلى يا رب! فيمثل لكل داعٍ ما كان يدعوه) فيمثل للذين كانوا يدعون الشمس الشمس، وللذين كانوا يدعون القمر القمر، وللذين كانوا يدعون الأصنام الأصنام، وأما الذين كانوا يدعون الأنبياء أو الأولياء فيؤتى بشياطينهم؛ لأن الشياطين هي التي أمرتهم بذلك، (فيقال لهم: اتبعوهم -أي: هؤلاء الذين تدعونهم اتبعوهم-. فيذهبون بهم إلى جهنم، فيلقون في النار ويقتحمون في النار خلفهم) هذا حكم الله فيمن يدعو غيره، وكل الخلق يقر بأن هذا عدل من الله أن يولي الداعي ما كان يدعو، (أما المؤمنون فإنهم يبقون في ذلك الموقف -يبقون بعد ما ذهب من يدعو غير الله- فيأتيهم الله جل وعلا فيقول: ما الذي أبقاكم وقد ذهب الناس؟ فيقولون: إن لنا رباً ننتظره، وقد فارقنا الناس أحوج ما كنا إليهم) يعني: لما كنا نحتاجهم أما اليوم فلسنا بحاجة إليهم؛ لأنه لا أحد يغني عن أحد في ذلك اليوم، (فيأتيهم الله جل وعلا فيعرفونه فيتبعونه) لأنهم يعبدونه. فالإنسان يتبع يوم القيامة معبوده: فإن كان يعبد شجراً يتبعه إلى جهنم، وإن كان يعبد ولياً أو نبياً فإنه يمثل له شيطان ذلك النبي أو الولي. وقد أخبر الله جل وعلا عن ذلك في القرآن بقوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98] ولما نزلت هذه الآية احتج بعض المشركين وقالوا: إذاً: نحن نعبد الملائكة، وهناك من يعبد عيسى ويعبد أمه! فأنزل الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} [الأنبياء:101 - 102] فالرسول صلى الله عليه وسلم فسر هذه الآية وبينها، فقال: (إن من كان يعبد عيسى ومن كان يعبد عزيراً يأتيه شيطان عيسى وشيطان عزير) وكذلك الأولياء تأتي شياطينهم؛ لأن الشياطين هي التي أمرت بعبادتهم، وهي التي أمرت بدعائهم، فيتبع من كان يعبدهم شياطينهم. فهذا معنى قوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:5 - 6] يعني: إذا جمعوا معهم صار المدعو عدواً للداعي مبغضاً له، كافراً بدعوته، يتبرأ إلى الله منه، سواء أكان هذا المدعو ولياً أم نبياً أم غير ذلك، فإن كل معبود يكفر بعابده.

الصحابة رضي الله عنهم لم يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته ولم يستشفعوا أو يستسقوا به

الصحابة رضي الله عنهم لم يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته ولم يستشفعوا أو يستسقوا به قال الشارح رحمه الله: [والصحابة رضي الله عنهم لا سيما أهل السوابق منهم كالخلفاء الر، اشدين ولم ينقل عن أحد منهم ولا عن غيرهم أنهم أنزلوا حاجتهم بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، حتى في أوقات الجدب، كما وقع لـ عمر رضي الله عنه لما خرج ليستسقي بالناس خرج بـ العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم فأمره أن يستسقي؛ لأنه حي حاضر يدعو ربه، فلو جاز أن يستسقى بأحد بعد وفاته لاستسقى عمر رضي الله عنه والسابقون الأولون بالنبي صلى الله عليه وسلم، وبهذا يظهر الفرق بين الحي والميت؛ لأن المقصود من الحي دعاؤه إذا كان حاضراً، فإنهم في الحقيقة إنما توجهوا إلى الله بطلب دعاء من يدعوه ويتضرع إليه، وهم يدعون ربهم، فمن تعدى المشروع إلى ما لا يشرع ضل وأضل، ولو كان دعاء الميت خيراً لكان الصحابة إليه أسبق وعليه أحرص، وبهم أليق، وبحقه أعلم وأقوم، فمن تمسك بكتاب الله نجا، ومن تركه واعتمد على عقله هلك. وبالله التوفيق]. الاستشفاع والتوسل من الأمور المجملة التي تحتمل حقاً وتحتمل باطلاً عند كثير من الناس، فالاستشفاع أو التوسل يحتمل حقاً ويحتمل باطلاً، وفي وقتنا تستعمل هذه الألفاظ غالباً في الباطل لعدم الفهم، ولعدم التفريق بين الحق والباطل لأجل الجهل، فكثير من الناس يجهل معنى التوسل، ويجهل معنى الاستشفاع، والتوسل المستحب هو التوسل بأهل الصلاح والخير في وقت الجدب عند الاستسقاء في الصلاة، وهذا هو الذي يقول العلماء معناه: التوسل بدعاء الصالحين إذا كانوا أحياءً حاضرين فقط، أما إذا كانوا غائبين أو كانوا ميتين فلا أحد من العلماء يقول بذلك، ودعوة الرسول صلى الله عليه وسلم جاءت بإبطال هذا. وكذلك يكون حكم الاستشفاع إذا كان المقصود به الدعاء؛ لأن كلمة (شفع) مأخوذة من الشفع الذي هو ضم الشيء إلى غيره، فهو يضم دعاءه إلى دعائه، ولكن كثيراً من الناس جهل هذا المعنى وقال: الاستشفاع هو أن أطلب به الشفاعة من الله، أو أطلبه أن يشفع لي ولو كان ميتاً، ولو كان غائباً، وأقول: يا فلان! اشفع لي، أو أنا أدعوك أن تشفع لي، وهذا -في الحقيقة- هو دين المشركين، فلم يكن المشركون يعتقدون أن مع الله خالقين ومدبرين ومتصرفين في الكون لا في الدنيا ولا في الآخرة، وإنما كانوا يعبدون أصناماً أو أحجاراً أو أشجاراً أو رجالاً صالحين من الجن والإنس أو الملائكة أو الأنبياء، يعبدونهم ويقولون: نحن نطلب الشفاعة منهم وأن يتوسطوا لنا عند الله، هذه عبادتهم، وهذا هو الذي جاءت الرسل بإبطاله وبالتصريح بأنه شرك بالله جل وعلا، فيجب على المسلم أن يفرق بين دين محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه ودين أبي جهل ولكلٍ وارث، فالأنبياء لهم ورثة، والمشركون لهم ورثة، فيجب على العبد أن يفرق بين الحق والباطل. والصحابة رضوان الله عليهم سلكوا الطريق الحق الذي جاءهم به كتاب الله ودعوة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلما حصل الجدب في خلافة عمر رضي الله عنه -والسنة التي أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن المسلمين إذا أجدبوا فإنهم يصلون لله، ويدعونه، ويخشعون ويتضرعون، ويظهرون فقرهم لله جل وعلا لعله يرحمهم -خرج المسلمون في زمن عمر رضي الله عنه يستسقون ويطلبون المطر من الله جل وعلا، وتوسلوا بـ العباس، ومعنى (توسلوا بـ العباس): أنهم أخذوه معهم فدعا؛ لأنه أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الحي الذي يقدر أن يدعو، فقال عمر: (يا عباس! قم فادع) فجعل العباس يدعو وهم يؤمنون على دعائه. فتبين بهذا أن التوسل الذي قصده هو التوسل بدعائه، وإلا فلو كان التوسل بذاته لتوسلوا بالرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا فرق -إذا كان التوسل بالذات- بين الحياة والموت، بل كله سواء، فلما عدلوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم إلى العباس وقال عمر رضي الله عنه: (اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا) تبين بهذا أن المقصود بالتوسل التوسل بدعاء الحي الحاضر، وهذا هو الذي تقرر في دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يجوز أن يدعى أحد مع الله، ولا يجوز أن يُسأل الله بالمخلوق، كأن يقول الإنسان: يا رب! أسألك بفلان، فكون الإنسان يسأل ربه بمخلوق كأن يقول: اللهم إني أسألك بجاه نبيك، أو أسألك بعمل فلان، أو أسألك بفلان هذا من البدع التي حدثت ولم يأت بها الشرع، وإنما إذا كان الإنسان ترجى إجابته فيستحب أن يطلب منه الدعاء، فيقال له: ادع الله لنا، فيدعو هذا الذي ترجى إجابة دعوته والحاضرون يؤمنون على دعائه كما فعل الصحابة، هذا هو الذي يجوز. أما أن يذهب الإنسان إلى ميت فيقول لهذا الميت: اشفع لي، أو أعطني كذا، أو امنعني من كذا، أو أنا أستجير بك من كذا، أو فلان ظلمني فانتصر لي منه، أو ما أشبه ذلك، فهذا دين المشركين، وليس من دين الإسلام في شيء، بل هو الشرك بعينه، ومن اعتقده ومات عليه فإنه يكون مشركاً، وهو داخل في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] وليس دين المشركين إلا هذا، فالمشركون ما كانوا يعتقدون أن الحجر يدبر، ولا كانوا يعتقدون أن الصنم ينزل المطر أبداً، بل كانوا إذا وقعوا في الشدائد أخلصوا الدعاء لله، كما قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت:65]، وقد جاء أنهم كانوا إذا ركبوا في السفينة فهبت ريح شديدة يلقون أصنامهم في البحر ويقولون: هذه لا تنفع ولا تضر، ويتجهون بدعائهم إلى الله خالصاً، ثم إذا أنجاهم الله جل وعلا إلى البر وجاء الرخاء عادوا إلى شركهم، هكذا كان صنيعهم. فهم في الحقيقة أصح عقولاً ونظراً ممن ينزل فقره بالمقبور الذي قد دفن وأصبح طعاماً للدود، لا يستطيع أن يخلص بدنه من الدود الذي يأكله، فكيف يذهب إنسان يدعوه ويترك رب العالمين الذي بيده كل شيء؟! والله جل وعلا لم يجعل بينه وبين عبده وساطة تدعى، بل أمر بأن يدعى وحده ولا يدعى معه غيره، ففي أي مكان كنت فاتجه إلى ربك جل وعلا، فإنه سميع قريب عليم يعلم ما في النفوس، بخلاف الخلق فإنهم عاجزون، وهم أيضاً فقراء إلى الله كلهم ملائكتهم وبشرهم، إنسهم وجنهم، ولا يملكون مع الله شيئاً، ولهذا يقول الله جل وعلا: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ:22]، فكل من يدعى من دون الله لا يملك مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض، فلا فائدة من دعوتهم، وهذا أمر عام: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} هؤلاء الذين زعمتم أنهم يُدعون من دون الله سواء أكانوا عقلاء، أم غير عقلاء، كانوا أنبياء أم غير أنبياء، ملائكة أم جناً أم غيرهم، كلهم داخلون في هذه الآية: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} فإذا كانوا لا يملكون مثقال ذرة فكيف يدعوهم العاقل؟! وماذا تجدي دعوتهم؟! ثم قال: {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} يعني: ما لهؤلاء المدعوين من دون الله من شركة في السماء ولا في الأرض، بل هم ملك لله يتصرف فيهم كيف يشاء، وإذا أراد أن يهلكهم أهلكهم. ثم قال جل وعلا: ((وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ)) يعني: من معاون ومساعد تعالى الله وتقدس. إذاً: فإذا كان ما لهم شيء يملكونه استقلالاً، ولا يشاركون المالك في شيء منه، ولا المالك أيضاً يتخذهم معاونين ومساعدين، فماذا بقي؟ بقيت الشفاعة، فنفاها جل وعلا بقوله: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:23]، فبين أن الشفاعة ما تنفع إلا إذا أذن رب العالمين. قد يقول قائل -مثلاً-: إذا كانت تنفع فأنا أطلبها من الولي أو من النبي والله يأذن له! فيقال: ليس هذا الطلب طريقاً للإذن بالشفاعة، وإنما طريق الإذن للشفاعة هو إخلاص الدعوة لله، وإخلاص الدعاء له، وإخلاص العبادة، كما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال للرسول صلى الله عليه وسلم: (من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟! قال: من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه) يعني أن الشفاعة تكون لأهل الإخلاص، أما الذين يدعون مع الله غيره فالله لا يأذن بالشفاعة فيهم. وقال جل وعلا في الآية الأخرى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ} [الزمر:43] يعني: كيف تتخذونهم ليكونوا شفعاء وهم لا يملكون شيئاً؟! فهو جل وعلا ينكر عليهم. ثم قال جل وعلا: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر:44]، وسائر سور القرآن مملوءة من معنى هذا الذي ذكرنا. فلا يجوز للمسلم أن يجهل مثل هذا؛ لأن هذا من أصول الدين، وكل من مات سيسأل عن هذا، فإذا وضع في قبره أول ما يوضع يأتيه ملكان عظيمان ينتهرانه بقوة وشدة ويقولان له: من ربك؟ ومن كنت تعبد؟ وبأي شيء تعبد؟ ومن الذي جاءك بما تعبد؟ يسألانه عن هذه المسائل الثلاث، فإذا كان الإنسان ليس عابداً على الحقيقة وليس عالماً بذلك يتلعثم ولا يستطيع أن يجيب، ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا سئل وكان غير موقن فإنه يتلعثم ويقول: هاه هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته؛ لأنه بنى دينه على تقليد، وكان يرى الناس يفعلون شيئاً فيفعل كما يفعلون، فهكذا يقول في القبر، يقول: رأيت الناس يفعلون

حكم الاستشفاع بالله على خلقه

حكم الاستشفاع بالله على خلقه قال المصنف رحمه الله: [فيه مسائل: الأولى: إنكاره على من قال: نستشفع بالله عليك]. سبق أن معنى (نستشفع بالله عليك): أنه تنقص لله جل وعلا، فالله جل وعلا لا يجوز أن يكون شافعاً عند أحد من الخلق، وإنما يشفع عند الله؛ لأن الله جل وعلا له الملك كله، وله الخلق كله، وبيده الخير كله، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فلا أحد يجبر الله أو يرغمه على شيء، أو يجعل الله يفعل شيئاً من الأشياء، بل الله أعظم وأكبر من أن يُجعل شفيعاً عند مخلوق من الخلق، تعالى الله وتقدس عن ذلك علواً كبيراً، ولهذا كبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي رواية أنه فسبح، قال: (سبحان الله، سبحان الله، سبحان الله)، فصار يكرر التسبيح؛ لأن الأعرابي قال قولاً تنقص فيه رب العالمين، وبتسبيحه هذا إنكار، ثم لم يكف عن هذا الأعرابي، بل عاد عليه وقال: (ويحك!) و (ويح) كلمة توجع، يعني: إنك وقعت في أمر مهلك، (أتدري ما تقول؟ أتدري ما الله؟)، فأخبر أن الله جل وعلا قاهر فوق الخلق كلهم، وكلهم تحت تصرفه، وفي قبضته، لا يمكن أن يملكوا معه شيئاً، فيجب أن ينزه الله جل وعلا من هذا المعنى، ولا يجوز أن يتكلم بالكلام الذي فيه تنقص بالله جل وعلا، فضلاً عن أن يعتقد، أما اعتقاد ذلك فهو كفر بالله جل وعلا، نسأل الله العافية، فلهذا بادر بالإنكار عليه، ونزه الله جل وعلا من أن يكون شافعاً لأحد من الناس عند النبي صلى الله عليه وسلم، تعالى الله وتقدس، ولم ينكر عليه قوله: (ونستشفع بك على الله) بل أقره على ذلك، وهذا هو الذي كان يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يشفع عند الله لمن سأل، كما طلب عكاشة بن محصن، فإنه لما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب وقال: (هم الذين لا يتطيرون ولا يسترقون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون، قام عكاشة بن محصن الأسدي وقال: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم؟ فقال: اللهم اجعله منهم) فهذا طلب شفاعة فشفع له بذلك. وهكذا كان الصحابة رضوان الله عليهم يطلبون منه هذا، ولكن بعد وفاته صلوات الله وسلامه عليه لم يطلب أحد منهم شيئاً منه.

وجوب الغضب إذا انتهكت محارم الله جل وعلا

وجوب الغضب إذا انتهكت محارم الله جل وعلا قال المصنف رحمه الله: [الثانية: تغيره تغيراً عُرف في وجوه أصحابه من هذه الكلمة]. يعني أن هذا الأعرابي لما قال: (ونستشفع بالله عليك) تغير وجه الرسول صلى الله عليه وسلم حتى تغيرت وجوه أصحابه من أجل ذلك من شدة تغير وجهه، غيرة وغضباً لله جل وعلا لكونه تنقص الله جل وعلا بهذه الكلمة، والرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا انتهكت محارم الله لا يمكن أن يسكت، ولا أحد يقوم لغضبه صلوات الله وسلامه عليه، فلهذا عرف ذلك في وجوه أصحابه، فإنها تغيرت لتغير وجه النبي صلوات الله وسلامه عليه، وهذا التغير وقع غيرة لله جل وعلا لكون هذا الرجل الجاهل استنقص حق الله جل وعلا وملكه، فمن أجل ذلك وقع ما وقع للرسول صلى الله عليه وسلم عملاً وقولاً.

معنى: (سبحان الله)

معنى: (سبحان الله) قال المصنف رحمه الله: [الثالثة: أنه لم ينكر عليه قوله: (نستشفع بك على الله). الرابعة: التنبيه على تفسير (سبحان الله)]. يعني أن معنى (سبحان الله): تنزيه لله، و (سبحان) مأخوذ من (السبح) وهو الإبعاد في الجري، يقال: فرس سبوح: إذا كانت تبعد في سيرها وجريها، فهو يقول: إن الله بعيد كل البعد عما قلت، ويتنزه ويتقدس عما قلت، هذا معنى قوله: (سبحان الله).

طلب الدعاء من المخلوق الحي جائز

طلب الدعاء من المخلوق الحي جائز قال المصنف رحمه الله: [الخامسة: أن المسلمين يسألونه صلى الله عليه وسلم الاستسقاء]. المسلمون كانوا يسألونه الاستسقاء ويسألونه الدعاء، سواء أكان خاصاً أم عاماً. وهكذا ينبغي للإنسان إذا كان عنده من يظن به الصلاح ومن يظن أنه ترجى دعوته أن يسأله ويقول له: ادع الله لنا، وقد جاءت سنة ذلك في القرآن، فالله جل وعلا أخبرنا عن الملائكة الذين يحفون بالعرش ويؤمنون بالله أنهم يستغفرون للمؤمنين، قال تعالى حاكياً عنهم: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر:7]، فإذا طلب المسلم من أخيه المسلم أن يدعو له فإن هذا جائز، بل قد يكون مستحباً؛ لأنه جاء في الحديث: (إذا دعا المسلم لأخيه في ظهر الغيب قال الملك: آمين ولك بمثله) وقول الملك: (آمين) يرجى أن الله يستجيبه، ويقول: (ولك بمثله) يعني: لك من الدعوة مثل ما دعوت لأخيك، فإذا دعا الإنسان بدعوة لأخيه فإنه في الحقيقة يسعى في طلب الخير لنفسه، ثم المسلم يجب أن يحب لأخيه المسلم مثل ما يحب لنفسه، ولهذا شرع لنا أننا نقول في الصلاة: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وعباد الله الصالحون هم كل عبد صالح، فنحن نسأل الله جل وعلا لنا وله السلامة، أن يسلمه الله من العذاب، سواء أكان من الأحياء أم الأموات، والذي لا يهمه أمر المسلمين ليس منهم، والرسول صلى الله عليه وسلم كثيراً ما كان يدعو للأمة عموماً، أي: الأمة التي آمنت، أمة الاستجابة التي استجابت لدعوته، وليس أمة الدعوة؛ فإن الخلق كلهم أمة له، ولكن الذين لم يستجيبوا هم من أهل النار لا يدعى لهم ولا يستغفر لهم، وإنما يدعى للمؤمنين. والمقصود أن هذا مشروع، فكون الإنسان يسأل الله جل وعلا لأخيه السلامة في الدنيا والآخرة، ويحب له ما يحب لنفسه أمر مطلوب.

شرح فتح المجيد [134]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [134] من قواعد الشرع منع ما كان وسيلة وذريعة إلى محرم، خاصة ما كان وسيلة إلى الشرك، وذلك حماية لجناب التوحيد، ومن ذلك أنه منع المدح الذي قد يفضي إلى الغلو.

وجوب سد الطرق التي تؤدي إلى الشرك

وجوب سد الطرق التي تؤدي إلى الشرك قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: ما جاء في حماية النبي صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد، وسده طرق الشرك]. قوله: (باب: ما جاء في حماية النبي صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد وسده طرق الشرك) يريد بهذا أن يبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعدما وضح عبادة الله إيضاحاً تاماً جاء بما يحمي هذه العبادة عن أن يدخلها شيء من النقص الذي ينقصها أو يكون وسيلة إلى شيء مما يذهب كمالها، هذا هو مقصوده. و (الحمى) هي: جوانب الشيء، والطرق التي يدخل منها إليه، فسد الرسول صلى الله عليه وسلم الطرق الباطلة، ومعنى هذا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم وضح عبادة الله إيضاحاً كاملاً، كما أنه وضح وسائل الشرك وبينها ونهى عنها وحذر منها، وهذا كثير جداً في سنته صلوات الله وسلامه عليه، وقد مر معنا أشياء من ذلك، فلما قال له الرجل: ما شاء الله وشئت، قال له صلى الله عليه وسلم: (أجعلتني لله نداً، بل ما شاء الله وحده) ومعلوم أن له صلى الله عليه وسلم مشيئة، وأنه يتصرف بمشيئته، ومع هذا نفى ذلك، ونحو ذلك الحديث السابق الذي فيه أن رجلاً من الصحابة آذاه منافق فقال: قوموا بنا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم نستغيث به من هذا المنافق، فقال صلى الله عليه وسلم: (إنه لا يستغاث بي، إنما يستغاث بالله) ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يستطيع أن يأمر بقتله، ولو قال لأحد الصحابة: اقتله؛ لأسرع مبادراً إلى قتله، بل لتسابقوا إلى ذلك، ولكن أراد صلوات الله وسلامه عليه أن يمنع الوسائل التي يمكن أن يدخل معها إلى ما لا يجوز، ونحو ذلك أشياء كثيرة جداً بينت في الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

حكم المدح

حكم المدح قال الشارح رحمه الله: [حمايته صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد عما يشوبه من الأقوال والأعمال التي يضمحل معها التوحيد أو ينقص، وهذا كثير في السنة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم كقوله: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله) وتقدم]. هذا منها، يعني: التمادح في الوجه وكون الإنسان يمدح آخر مقابلاً له نهى عنه صلوات الله وسلامه عليه. والإطراء معناه: تجاوز الحد الذي حده الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهو: المبالغة في المدح، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله) وفي رواية: (لا أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله إياها، إنما أنا عبد الله ورسوله، فقولوا: عبد الله ورسوله) فحذر صلوات الله وسلامه عليه عن المدح الذي يدعو المادح إلى أن يتجاوز الحق. والمدح نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان في وجه الممدوح، وثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (احثوا في وجوه المداحين التراب) يعني: إذا جاءك من يمدحك في وجهك فينبغي أن تحثو في وجهه تراباً، وتقول: هذا جزاؤك؛ لأن المدح فتنة، والنفس تحب أن تمدح، حتى إن كثيراً من النفوس إذا مدحت تستأنس بالمدح، وإن كان ما قيل ليس صدقاً، فتجده يقول: لعله صدق، وهو يعرف من نفسه أنه ليس كذلك! فيستأنس بهذا ويميل إليه، ثم فيما بعد يصبح يحب هذا، والذي لا يمدحه لا يعطيه حقه، كما لو كان الممدوح مسئولاً على أمر عام على المسلمين، فإذا مدح عمل الواجب عليه، وإذا لم يمدح ظلم هذا الذي لم يمدحه، ولم يعمل العمل الذي يجب عليه. والمفاسد التي تحدث بسبب المدح كثيرة جداً كالظلم، وترك الحق، وارتكاب الباطل، وكذلك حب النفس، بل عبادة النفس، والرسول صلوات الله وسلامه عليه طبيب القلوب، يعلم ماذا يكون أثر المدح، ولما مدح إنسان آخر في مجلسه، قال: (ويلك! قطعت عنق صاحبك، إن كنت مادحاً ولا محالة فقل: أحسبه كذا وكذا والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحداً) هكذا ينبغي أن يقول. أما أن يمدحه في وجهه فهذا -في الحقيقة- شأن المنافقين؛ فهم الذي يأتون يقولون في وجه الإنسان قولاً ثم إذا غابوا عنه قالوا خلافه، وقد عرف الناس أن الذي يمدحك حاضراً يذمك غائباً، ولو أن الناس امتثلوا ما أرشدهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم لسلموا من هذه الورطة، ومن هذه الفتنة والبلية. والمدح في الحقيقة مرض اجتماعي يجب أن يعالج بالوسائل التي تزيله أو تقلله، وعلاجه اتباع قول الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن ينهى عن المدح، فإذا رأيت أخاك يمدحك فلا تقره على هذا، بل انصحه، وقل له: إن هذا ما ينبغي؛ لأن هذا فتنة لي ولك، فلا تمدحني، ولا تقل هذا القول. وإن كان المدح كذباً، فسوف يحاسب الله جل وعلا عليه يوم القيامة، وإذا أقررت ذلك فستحاسب كذلك، فيجب على المسلمين أن يتناصحوا فيما بينهم، وأن يتعاونوا على الحق، وألا يكونوا أعواناً للشيطان على الباطل. فالمقصود: أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن كل وسائل الباطل، فسدها ومنعها ومنها، الإطراء في المدح، فإذا تكلم الإنسان فيجب أن يتكلم بحق، وأن يتكلم بالشيء الواقع، وإذا كان الكلام في الحاضر قد يجر إلى فتنة فلا يجوز أن يتكلم به، بل يدرأ الفتنة؛ لأن النفوس ضعيفة في الحقيقة، وتميل إلى طلب المدح، وإلى طلب الرفعة، وقد سمي هذا بالشهوة الخفية، وقد جاء التحذير منها، والشهوة الخفية هي: حب الرئاسة والترفع على الناس، وهذه الشهوة الخفية كامنة في النفوس، فكل نفس فيها حب العلو وحب الرفعة، ولكنه كامن فيها، فإذا ترك سكن وقر، وإذا أثير ثار، فلا يجوز إثارته، بل يجب أن تهذب النفوس بالحق الذي جاء به الكتاب والسنة، ولن تتهذب النفوس إلا بهذا.

زجر المادحين

زجر المادحين قال الشارح رحمه الله: [وقوله: (إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله عز وجل) ونحو ذلك، ونهى عن التمادح وشدد القول فيه، كقوله لمن مدح إنساناً: (ويلك! قطعت عنق صاحبك) الحديث أخرجه أبو داود عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه: أن رجلاً أثنى على رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (قطعت عنق صاحبك، ثلاثاً). وقال: (إذا لقيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب) أخرجه مسلم والترمذي وابن ماجة عن المقداد بن الأسود]. وقد امتثل المقداد بن الأسود رضي الله عنه هذا القول، فثبت أنه كان جالساً يوماً عند أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، فسمع رجلاً يمدح أمير المؤمنين، فجثا المقداد على ركبتيه، وجعل يحثو التراب في وجهه، فقال له أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه: مالك؟ قال: هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نفعل بالمداحين. فالصحابة رضوان الله عليهم كانوا يمتثلون ما أمرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا يدلنا على أن المقصود به ظاهره، وليس كما قال بعض الشراح: إن معنى قوله: (احثوا وجوههم التراب) يعني: خيبوا طلبهم، فإذا جاءوا يمدحون ويطلبون شيئاً فلا تعطوهم شيئاً، ليس هذا هو المقصود، إنما المقصود هو ما فعله الصحابي رضوان الله عليه، والرسول صلى الله عليه وسلم أفصح الناس قولاً، وأعلمهم علماً، وأنصحهم للأمة، فإذا قال قولاً فيجب أن يفهم كما قاله صلوات الله وسلامه عليه، ولا تطلب له غرائب المعاني، ولا يؤول، إلا أن يكون هناك نص آخر يعارضه؛ لأن أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم لا تتعارض.

شرح حديث عبد الله بن الشخير: (انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله)

شرح حديث عبد الله بن الشخير: (انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله) قال المصنف رحمه الله: [عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال: (انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: أنت سيدنا فقال: السيد الله تبارك وتعالى، قلنا: وأفضلنا فضلاً، وأعظمنا طولاً فقال: قولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان) رواه أبو داود بسند جيد]. يقول عبد الله بن الشخير رضي الله عنه: كنت في وفد بني عامر، وهو وفد من الوفود التي وفدت على النبي صلى الله عليه وسلم في سنة تسع من الهجرة، يعني: أن هذا وقع في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: (فلما أتينا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قلنا: أنت سيدنا. فقال صلى الله عليه وسلم: السيد الله، فقلنا: أنت أفضلنا فضلاً، وأعظمنا طولاً -وفي رواية-: أنت سيدنا وابن سيدنا، فقال: السيد الله، قالوا: أنت خيرنا وابن خيرنا، وأفضلنا وابن أفضلنا، فقال: أيها الناس! قولوا بقولكم أو بعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان، أنا رسول الله فقولوا: رسول الله) فهذا من الأحاديث التي أراد بها صلى الله عليه وسلم أن يسد الطرق التي يأتي منها الشيطان، وينقص بها عبادة المسلمين، وهذا منه. ولا شك أنه صلوات الله وسلامه عليه سيد ولد آدم كما جاء ذلك عنه صلوات الله وسلامه عليه، كما في حديث أبي هريرة الذي في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر، أتدرون ما ذلك؟ قلنا: لا، إلا أن تخبرنا فقال: إذا كان يوم القيامة، وجمع الله جل وعلا الناس في صعيد واحد، ألهم الله جل وعلا الناس أن يطلبوا الشفاعة من الله جل وعلا حتى يفصل بينهم، فيذهبون إلى آدم ويطلبون منه ذلك، فيتأخر ويأبى، ثم يذهبون إلى نوح، فيتأخر ويأبى، ثم يذهبون إلى إبراهيم فيتأخر ويأبى، ثم يذهبون إلى موسى فيأبى، ثم يذهبون إلى عيسى فيأبى، ثم يأتون إليّ فأقول: نعم -يعني: أشفع لكم- فأذهب فإذا رأيت ربي خررت له ساجداً، فأبقى قدر أسبوع ساجداً ثم يقول لي جل وعلا: ارفع رأسك، واسأل تعط، واشفع تشفع) فيشفع في أن يأتي الله جل وعلا ليفصل بين عباده، وهذا جاء تفسيره بأنه هو المقام المحمود الذي وعد الله جل وعلا أن يبعثه إياه قوله: (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79] أي: يحمده عليه الأولون والآخرون، حتى قوم نوح، فهو بذلك سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه، والسيد في اللغة هو: الرئيس المقدم بالقوم، ولكن كره صلوات الله وسلامه عليه أن يكون هذا طريقاً للشيطان بأن يأتي إليهم ويقول: هو سيدكم، ثم يأتي إليهم ويقول: اسألوه الشفاعة، ثم يتدرج بهم ويقول: اسألوا الرسول وإن كان ميتاً، اسألوه أن يعطيكم كذا، ويشفع لكم بكذا، فيدخل بهم من هذا الباب إلى الشرك، ولهذا منع ذلك صلوات الله وسلامه عليه. وقوله صلى الله عليه وسلم: (قولوا بقولكم أو بعض قولكم) يعني: قولوا لي كما تقولون لبعضكم بعضاً، وقد نهانا ربنا جل وعلا أن ندعوه باسمه، فلا تقول: محمد بن عبد الله، بل أمرنا أن نقول: رسول الله، نبي الله، كما قال جل وعلا: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور:63] يعني: نحن ندعو بعضنا بعضاً بالأسماء، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فأمر الله جل وعلا أصحابه أن يدعوه بالنبوة وبالرسالة؛ لأن هذا هو أشرف ما أكرمه الله جل وعلا به، أن جعله نبياً رسولاً، والله جل وعلا أثنى عليه في مقامات الثناء التي أثنى عليه بها في كتابه بلفظ العبد؛ لأن أشرف وصف للإنسان أن يحقق عبودية ربه، والعبادة هي نهاية الذل ونهاية الخضوع للمعبود مع التعظيم والمحبة له، يقول جل وعلا في مقام التحدي: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة:23] فجعله عبداً له، وقال في مقام الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء:1]، وقال في مقام الدعوة: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن:19]، وقال في مقام التنزيل: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1] فهذه المقامات الأربع هي أشرف مقامات الرسول صلى الله عليه وسلم، والله وصفه فيها بلفظ العبودية، لهذا قال: (أنا عبد الله)، وعيسى عليه السلام لما جاءت به أمه تحمله بعد الولادة، وهو من الذين تكلموا في المهد، فأول كلمة تكلمها وواجه الناس بها أنه قال: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} [مريم:30]، ولما جاءت أمه به تحمله اتهموها كما قال الله عنهم: {قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} [مريم:27] يعني: أمراً عظيماً جداً؛ كيف تأتين بالولد وليس لك زوج؟! ولهذا قالوا: {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} [مريم:28 - 29] يعني قالت: كلموه، فتعجبوا {قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} [مريم:29] فالتفت إليهم وقال: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} [مريم:30] فأول كلمة قالها: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} فالخلق لا يخرجون عن عبودية الله جل وعلا، بل أشرف حال للإنسان أن يحقق مقام عبودية الله جل وعلا، فقوله صلى الله عليه وسلم هنا: (السيد الله) يدلنا على أنه يطلق على الله أنه سيد، وقد اختلف الناس في هذا الإطلاق: فمنهم من منع، وقال: السيد لا يكون إلا من الجنس الذي يضاف إليه، يعني: يقال: سيد ربيعة، سيد تميم، فإذا كان رجل من ربيعة فلا يقال له: إنه سيد تميم، وإذا كان من تميم فلا يقال له: إنه سيد ربيعة، فيقولون: لا ينبغي أن نطلق هذا على الله جل وعلا، والصواب أنه إذا تكلم به الرسول صلى الله عليه وسلم وجب علينا أن نقوله؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا الحق، وقد صح عن ابن عباس في قوله تعالى: {اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:2] قال: الصمد هو: السيد الذي كمل في سؤدده، وكذلك قال غيره من السلف، وكذلك قال في قوله: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا} [الأنعام:164] أي: إلهاً وسيداً، هكذا كان يقول ابن عباس، ويكفينا قول الرسول صلى الله عليه وسلم هذا، ففيه أنه يجوز إطلاق سيد على الله جل وعلا، ومعنى السيد الذي كمل في جميع صفاته، ولا يجوز أن يطلق على المنافق أنه سيد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقولوا للمنافق: سيد، فإنه إن كان سيداً فقد أغضبتم ربكم تعالى).

حكم إطلاق (السيد) على البشر

حكم إطلاق (السيد) على البشر قال الشارح رحمه الله: [قال العلامة ابن القيم في بدائع الفوائد: اختلف الناس في جواز إطلاق السيد على البشر، فمنعه قوم، ونقل عن مالك، واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له: (يا سيدنا! قال: السيد الله تبارك وتعالى). وجوزه قوم، واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: (قوموا إلى سيدكم) وهذا أصح من الحديث الأول. قال هؤلاء: السيد أحد ما يضاف إليه، فلا يقال للتميمي: سيد كندة، ولا يقال للملك: سيد البشر، قال: وعلى هذا فلا يجوز أن يطلق على الله هذا الاسم، وفي هذا نظر، فإن السيد إذا أطلق عليه تعالى فهو في منزلة المالك، والمولى، والرب، لا بمعنى الذي يطلق على المخلوق، انتهى. قلت: فقد صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في معنى قول الله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا} [الأنعام:164] أي: إلهاً وسيداً، وقال في قول الله تعالى: {اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:2]: إنه السيد الذي كمل في جميع أنواع السؤدد، وقال أبو وائل: هو السيد الذي انتهى سؤدده. وأما استدلالهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: (قوموا إلى سيدكم) فالظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يواجه سعداً به، فيكون في هذا المقام تفصيل. والله أعلم]. قوله: (اختلف الناس في إطلاق لفظ السيد على البشر) وقد فصل في هذا، والصواب: أنه يجوز؛ لأن السيد بمعنى المقدم في القوم، وكذلك بمعنى الرئيس، وبمعنى المولى، وما أشبه ذلك، ولكن إذا أطلق على الله جل وعلا فهو بمعنى الرب المالك المتصرف، فهو غير ما يطلق على البشر، إلا أنه لا ينبغي إطلاقه على البشر في المواضع التي منها ألفاظ مشروعة، مثل التشهد في الصلاة، فكثير من الناس يقول: أشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وهذا لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فالعبادات توقيفية يجب أن يوقف معها على النص الذي جاء، وأما إطلاقه في غير العبادة فهو جائز، ولا سيما وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر، أتدرون ما ذلك؟) ثم ذكر حديث الشفاعة. فهذا صحيح ثابت عنه صلى الله عليه وسلم، وأما إطلاقه على الله جل وعلا فله معنى غير هذا، وقد بين الشارح أن معناه: المولى والمالك والمتصرف والرب الذي يربي خلقه بالنعم، وبما يصلح لهم، وما يصلحهم.

مسائل باب ما جاء في حماية النبي حمى التوحيد

مسائل باب ما جاء في حماية النبي حمى التوحيد

التحذير من الغلو

التحذير من الغلو قال المصنف رحمه الله: [فيه مسائل: الأولى: تحذير الناس من الغلو]. الغلو هو: تجاوز الحد المشروع، أي: الزيادة على ما شرعه الله جل وعلا سواء كان في الأقوال أو في الأعمال. ومعلوم أن النقص الذي يدخل على الناس في دينهم يأتي إما من الزيادة في المشروع أو من النقص منه، وعدم القيام به، فيجب على العبد أن يترسم الشرع، ويتبع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر لابد منه في كل عبادة، فإذا لم تكن العبادة مشروعة فهي فاسدة مردودة على صاحبها، ولهذا يقول العلماء: أصل الإسلام ألا يعبد إلا الله، وألا يعبد الله جل وعلا إلا بما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن هذا هو أصل الدين، وهذا هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، يعني: لا نتأله بقلوبنا حباً وخضوعاً وذلاً وتعظيماً إلا لله وحده، وتألهنا وعبادتنا لا تكون إلا بأمر الله الذي أمرنا به، فإذا جئنا بشيء غير مأمور فمعنى ذلك أننا ابتدعنا، ويكون عملنا مردوداً كما قال صلوات الله وسلامه عليه: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) يعني: مردود على صاحبه غير مقبول، وغير معتد به، والله جل وعلا يقول في كتابه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} [الغاشية:2 - 5] أخبر أنها تخشع وتنصب وتتعب وتكدح بالعمل، والنتيجة أنها تصلى ناراً حامية! والسبب: أنهم كانوا يتعبدون بالبدع، ويتعبدون بغير ما شرع الله جل وعلا؛ فكان جزاؤهم أنهم في النار، وكل من أراد أن يصل إلى الجنة من غير طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الباب يؤصد دونه، ويصد إلى النار، فلابد أن تكون العبادة بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا نزيد فتكون غلواً، ولا نجفو وننقص فتكون معصية. والعبد يجب عليه أن يلتزم أمر الله جل وعلا، ويتبعه فإن هذا هو الذي جاءت به رسل الله من أولهم إلى آخرهم، ألا يعبد إلا الله، وأن يعبد بالشرع الذي جاءت به الرسل.

على الإنسان ألا يرضى بالمدح

على الإنسان ألا يرضى بالمدح [الثانية: ما ينبغي أن يقول من قيل له: أنت سيدنا]. أي: لا ينبغي للإنسان أن يعظم نفسه، ولا أن يسترسل مع هوى نفسه ومع المادح الذي يمدحه، وإنما ينبغي له أن يتواضع لله، وأن يخاف أن يزيغ قلبه، وألا يسكت إذا أثني عليه ولا يسترسل مع ذلك؛ لأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، وإذا تعدى الإنسان طور العبودية فإنه يخشى عليه أن يضل ويزيغ، فينبغي أن يكون الإنسان حذراً، وعادة أهل التقى أنهم يعودون على أنفسهم باللوم والازدراء من غير أن يقصروا، وإنما يرون أنفسهم أنهم ما قاموا بالواجب عليهم لله جل وعلا، فيزدرون أعمالهم ويتواضعون لله جل وعلا، أما إذا كان تصور الإنسان أنه فوق الناس، وأنه عظيم؛ فإن الشيطان يتخذه ولياً له -نسأل الله العافية- ويغره، والعجب بالعمل أو بالنفس طريق لإبطال العمل وإفساده والخروج عن العبودية لله جل وعلا، فإذا قوبل الإنسان بالمدح والثناء فينبغي أن ينهى المادح عن ذلك، ويقول: أنا أعلم بنفسي منك، ولا يسترسل مع من يمدحه، وغالباً أن الذي يمدحك في وجهك يذمك إذا غبت عن وجهه، ينبغي للإنسان أن يكون عوناً لأخيه على التقى وعلى البر، وألا يكون عوناً للشيطان عليه، والنفوس ضعيفة، وكل نفس تحب الترفع، وتحب أن يكون لها المقام الرفيع في نفوس الخلق، فلهذا لا ينبغي للإنسان أن يسترسل مع نفسه في مثل هذا.

النهي عن الجائز إذا كان يؤدي إلى محرم

النهي عن الجائز إذا كان يؤدي إلى محرم [الثالثة: قوله: (لا يستجرينكم الشيطان) مع أنهم لم يقولوا إلا الحق]. معنى: (لا يستجرينكم الشيطان) أي: يتخذكم جرياً له يعني: مطاياً، يركبكم ويؤزكم إلى ما يريده ويأمر به، مع أنهم قالوا: (أنت سيدنا وابن سيدنا) وهو حق، فهو سيدنا صلوات الله وسلامه عليه، ولكن نهاهم عن ذلك خوفاً من أن يدخل عليهم الشيطان ويزيد في هذا الباب فيتعدوا إلى الغلو الذي فيه الهلكة، كما وقع لكثير من الناس كما سبق التنبيه على هذا.

تواضع النبي صلى الله عليه وسلم

تواضع النبي صلى الله عليه وسلم [الرابعة: قوله: (ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي)]. لا شك أن منزلته صلوات الله وسلامه عليه رفيعة، ولكن قصده صلوات الله وسلامه عليه بهذا أن يقولوا: نبي الله، رسول الله، فهذا أفضل ما يدعى به صلوات الله وسلامه عليه؛ لأن النبوة والرسالة هما أعلى مقام يصل إليه الإنسان، فهو رسول لله جل وعلا كلفه ربه جل وعلا، بإبلاغ وحيه وشرعه، ودعوة خلقه إليه، وهذا هو الذي أراده صلوات الله وسلامه عليه.

شرح فتح المجيد [135]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [135] يجب توحيد الله وتعظيمه، ومن ذلك الإيمان بأسمائه وصفاته، فإنها تدل على كمال الله وجماله وعظمته، ولا يلزم من إثباتها أي نقصٍ بوجه من الوجوه، وقد زعم أهل البدع ذلك، وأفسدوا عقائد المسلمين بشبهٍ بثوها فيهم، فقيّض الله لهم أئمة السنة يردون باطلهم، ويكشفون شبههم.

وجوب توحيد الله وتعظيمه

وجوب توحيد الله وتعظيمه قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: ما جاء في قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]]. هذا الباب هو آخر الكتاب، أراد المؤلف أن يختم كتابه بذكر توحيد الأسماء والصفات صراحة، وقد سبق أن كل الأبواب التي ذكرها بعد قوله: (باب: ما جاء في احترام أسماء الله) تتعلق بتوحيد الربوبية، وهنا أراد أن يختم بتوحيد الأسماء والصفات.

أقسام التوحيد

أقسام التوحيد التوحيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام: 1 - توحيد العبادة. 2 - توحيد الربوبية. 3 - توحيد الأسماء والصفات. أما توحيد العبادة فهو إفراد الله بأفعال العبد التي يفعلها على وفق الشرع، فيجب أن يجعله واحداً، ويقصده ولا يقصد بعمله غير الله، فتوحيد العبادة يكون صادراً من العباد؛ لأنهم هم الذين يوحدون الله بأفعالهم التي يفعلونها، ويتقربون بها إلى الله جل وعلا، ولا يجعلون مع الله غيره، يعني: لا يقصدون بها غير الله. وهذا جاء الأمر به في القرآن في مواضع كثيرة جداً، وهو الذي وقع فيه النزاع بين الأمم ورسلهم، وهو الذي أبى أكثر الناس أن ينقاد إليه، تمسكاً بما عليه آباؤهم، وما وجدوا الناس عليه، كما قال الله جل وعلا عنهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23] يعني: وجدنا آباءنا على دين يدينون به، وملة يتبعونها، فنحن نتمسك بها، ولما نهى هود عليه السلام قومه عن اتخاذ الآلهة رموه بالجنون وقالوا: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود:54] يعني: أصابت عقلك بخبل، كيف تأمرنا أن نترك ما يعبد آباؤنا وما وجدنا عليه الناس؟! فعدوا دعوته لهم جنوناً، فقال لهم: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} [هود:54 - 55] تحداهم وقال: أنتم وآلهتكم إذا كان عندكم كيد وضر لي فأسرعوا به فلن تستطيعوا، فلو كانت آلهة لفعلت ذلك بهذا الذي يراغمها، وقد أخبر الله جل وعلا عنها بما هو أضعف من ذلك فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ} [الحج:73] فلو أن الذباب أخذ شيئاً من هذه الآلهة التي تعبد فلن تستطيع هذه الآلهة أن تأخذه من هذا الذباب. والمقصود: أن توحيد العبادة هو الذي جاءت به الرسل صراحة، فكل رسول كان يقول لأمته: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون:32] كل رسول قال هذا كما قص الله جل وعلا علينا ذلك في كتابه. القسم الثاني: توحيد الربوبية، ومعناه: أن يعتقد الإنسان أن الله هو الخالق وحده، المتصرف المدبر لكل شيء، المالك لكل شيء، وهذا لم ينكره أحد، بل سائر الناس يقرون به، وإنما أنكره أفراد معينون على وجه التعنت والجحود والتكبر والعناد فقط، مثل النمرود، ومثل فرعون الذي قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، وقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، ولكن لما أدركه الغرق {قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ} [يونس:90] ولكن لم يفده ذلك؛ لأنه قاله بعد أن عاين الموت، وأيقن بالهلاك. والله جل وعلا أخبر أن فرعون وهامان وقارون -هؤلاء المتكبرون- استيقنوا أن ما جاء به موسى حق، وأنه جاء به من عند الله، ولكنهم تكبروا وعاندوا. وكذلك النمرود الذي أنكر على إبراهيم عليه السلام، ولما قال له إبراهيم: إن الله يحيي ويميت، قال: أنا أحيي وأميت، فقال له إبراهيم عليه السلام: {إِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة:258] إن كنت صادقاً فبهت، وما استطاع أن يتكلم أو يجيب؛ لأنه لا يستطيع أن يفعل شيئاً مما يفعله الله جل وعلا. فالمقصود: أن توحيد الربوبية يقر به الناس عامة، والمشركون الذين يعبدون غير الله يقرون بتوحيد الربوبية ويقولون: إن الله هو الذي خلقهم، وهو الذي خلق من قبلهم، وهو الذي خلق السماوات والأرض، وهو الذي ينزل المطر وينبت النبات، وهو الذي يتصرف في الكون كما قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:21 - 22] يعني: يعلمون أن الله هو الذي يفعل ما ذكر من كونه خلقهم، وخلق من قبلهم، وكونه جعل الأرض لهم فراشاً يتمكنون من المشي عليها والانتفاع بها، وجعل السماء بناءً، يرونها فوقهم بلا عمد، وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات ما يأكلونه وتأكله أنعامهم، ويعلمون أن الله هو المتفرد بذلك، فإذا كانوا يعلمون أن الله هو المتفرد بهذا وجب عليهم أن يعبدوا الله وحده؛ ولهذا قال: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا} يعني: في العبادة {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي: أنه ليس معه من يتصرف بهذا الذي ذُكر أو غيره. وهذا في القرآن كثير جداً، يحتج الله جل وعلا على المشركين بما يقرون به من توحيد الربوبية على إبطال شركهم. وأما توحيد الأسماء والصفات فالله جل وعلا تعرَّف إلى عباده بما وصف به نفسه، وبما سمى به نفسه، فيجب أن يؤمن بما ذكره الله جل وعلا على حد قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، وقد ذكر الله جل وعلا صفات كثيرة، مثل أن له العلم الكامل الشامل، وله القدرة على كل شيء، وله السمع والبصر، وله الإرادة، وله الحياة، وله يدان كما قال الله جل وعلا: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64]. وأخبر جل وعلا أنه يقبض السماوات والأرض يوم القيامة بيده، وتكون صغيرة حقيرة كما في هذه الآية التي ترجم بها المؤلف، وأخبر جل وعلا أنه حكم عدل لا يظلم أحداً، وأخبر جل وعلا أنه يعلم ما توسوس به النفوس، وأنه كتب كل شيء، وما أشبه ذلك من أوصافه الكثيرة التي ذكرها في كتابه. وكذلك رسوله صلى الله عليه وسلم ذكر أشياء كثيرة جداً يصف بها ربه، وقد آمن بها صحابته بدون شك في ذلك أو تردد فيه، أخبرهم أن الله في السماء، وأخبرهم أنه مستوٍ على عرشه، وأخبرهم أن الله ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة إذا بقي ثلث الليل الأخير، فيبسط يده للمسيء والتائب والمستغفر فيقول: هل من مستغفر فيغفر له؟ هل من تائب فيتاب عليه؟ هل من سائل فيعطى؟ إلى أن يطلع الفجر، وأخبر بأشياء كثيرة، وكلها يجب أن نؤمن بها على ما جاءت بدون تأويل أو تعطيل، بل يكون الأمر مثل ما قال الإمام مالك رضي الله عنه لما سأله سائل عن {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] كيف استوى؟ فأطرق، وصار العرق يتصبب منه، ثم رفع رأسه وقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا رجل سوء، فأمر به فأخرج من مجلسه؛ لأن هذا لا ينكره المؤمنون، ولا يسألون عن الكيفية: كيف يد الله؟ كيف سمع الله؟ كيف بصر الله؟ الكيفية ما تعقل إلا لمن يشاهدها ويراها، والله جل وعلا غيب لا أحد يراه، وليس كمثله شيء فيقاس عليه تعالى وتقدس، وإنما علينا أن نؤمن بما قاله الله رسوله صلى الله عليه وسلم، بلا تحريف ولا تعطيل ولا تأويل ولا تمثيل بخلقه تعالى وتقدس.

قوله تعالى: (وما قدروا الله حق قدره)

قوله تعالى: (وما قدروا الله حق قدره) قوله تعالى في هذه الآية: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر:67] يعني: ما عظموه حق تعظيمه، إذ عبدوا معه غيره، إذ توجهوا بالعبادة إلى الأصنام، وإلى الرجال من الجن والإنس، وإلى الملائكة، وإلى بعض المخلوقات، صاروا يتوجهون إليها، ويجعلونها وسائط بينهم وبين الله، يزعمون أنها تقربهم إلى الله زلفى، فمن فعل هذا لم يقدر الله حق قدره. ثم ذكر شيئاً مما يجب أن يعلم عنه جل وعلا ويعظم به فقال: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67] يعني: أن مخلوقاته -الأرض بما فيها والسماء بما فيها- كلها يقبضها بيده، فتكون صغيرة حقيرة بالنسبة إلى يده الكريمة جل وعلا، كما قال ابن عباس: السماوات ومن فيها والأرض ومن فيها إذا قبضها الله جل وعلا تكون بيده كالخردلة بيد أحدكم، ولله المثل الأعلى، فالله أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، ولا يجوز أن يتصور متصور أنه إذا قال ربنا جل وعلا: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] أن معنى ذلك: أنه في جوف السماء، أو أن السماء تحويه، أو أنها تقله، أو تظله تعالى وتقدس، بل هو أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا إذا بقي ثلث الليل)، ينزل إلى السماء الدنيا وهو فوق عرشه، ولا يكون فوقه شيء لا سماء ولا غيرها، وكذلك إذا جاء يوم القيامة إلى الأرض ليفصل بين عباده كما قال بعد هذه الآية: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الزمر:68 - 69] {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} يعني: إذا جاء إلى الأرض ليقضي بينهم ويحاسبهم؛ فإنه يأتي إلى الأرض وهو فوق عرشه، وفوق السماوات كلها، وفوق كل شيء، ولا يمكن أن يكون فوقه شيء تعالى وتقدس، ولهذا يقول العلماء: إن علو الله وفوقيته عقلي شرعي، دل عليه العقل والشرع، وهو ثابت بالفطرة وبالعقل وبالشرع. أما الفطرة: فما تجد إنساناً من الناس إذا دعا ربه وقال: يا رب، إلا رفع يديه نحو السماء ثم يسأل ربه وهو يشير إلى فوق، ما يسأل ربه من تحت أو من يمين أو من شمال تعالى وتقدس، فهو فطر خلقه على معرفته بأنه فوق خلقه كلهم، كما قال جل وعلا: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18]، وكل من في السماء والأرض عباد له جل وعلا. المقصود أنه يجب أن يعظم الله ويعرف قدره، وأنه أكبر وأعظم من كل شيء، فقول المؤلف في هذه الآية: باب ما جاء في قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} يقصد به: ما جاء من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن الآثار عن الصحابة، وذكر قليلاً مما جاء بمعناه؛ ليحتذى حذوها، وتكون دليلاً يستدل به المسلم على معرفة ربه جل وعلا؛ لأن الله تعالى تعرف إلى عباده بأوصافه التي وصف بها نفسه، فعباده المؤمنون يعرفونه بما تعرف به إليهم في كتابه وعلى ألسنة رسله، لا ما يقوله الملحدون أهل الشك والريب، الذين يقيسون الرب جل وعلا على نفوسهم، وإن كانوا يزعمون أنهم ينزهون الله، لكن الواقع أنهم يشبهون الله بخلقه. ولهذا تجدهم ينفون الصفات ويقولون: إنها تدل على التشبيه، فهم ينفون يد الله ويقولون: إن الله ليس له يد، وليس له رجل، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله يضع رجله جل وعلا في النار يوم القيامة عندما يقال لجهنم: {هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:30] فينتهي الخلق الذين أعدوا لها من الجن والإنس وهي لا تزال تطلب المزيد وتقول: (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ)؛ عند ذلك يضع الله جل وعلا فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتتضايق وتقول: قط قط، يعني: كفاني، فالله لا يظلم أحداً، فهو الجبار المتكبر الذي هو أكبر من كل شيء.

وجوب أخذ كل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من أسماء الله وصفاته

وجوب أخذ كل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من أسماء الله وصفاته يجب أن نؤمن بما قاله الله وما قاله رسوله صلى الله عليه وسلم، وعندنا قاعدة يجب على المسلم أن يعرفها، وهي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أعلم الخلق بالله جل وعلا، وهو أغير الناس على الله، وأشدهم تعظيماً له، وهو -صلوات الله وسلامه عليه- أفصح الناس، وأقدرهم على البيان، وهو كذلك -صلوات الله وسلامه عليه- أنصح الخلق للأمة، فإذا عرف الناس هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيجب عليهم أن يأخذوا ما قاله بكل اطمئنان وقبول، وأنه حق، فلو كان باطلاً لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولنفاه عن الله جل وعلا، ولن يترك الأمة في دينها يلتبس عليها الأمر ويشتبه، هذا ممتنع عقلاً وشرعاً وعادة من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا أردت أن تعرف هذا يقيناً، فانظر ماذا كان يعلم أصحابه صلوات الله وسلامه عليه؟ علمنا الآداب التي لو تركناها ما أثمنا، مثل أدب الأكل؛ كأن نأكل مما يلينا، ونسمي الله جل وعلا، ولا نأكل متكئين، ويعلمنا أدب الدخول إلى المنزل، فإذا أردت أن تدخل المنزل فاذكر اسم الله، وسلم على نفسك أو على من في البيت، ثم قدم رجلك اليمنى، فإنك إذا ذكرت الله فإن الشيطان يقول لأولاده ولأصحابه: منعتم من المبيت، يعني: من الدخول إلى البيت، ومعلوم أن هذا ليس بواجب، فلو تركه الإنسان لا يأثم، ولكن هذا أدب وفضل، ويعلمنا أيضاً أن الإنسان إذا أراد أن ينام أن يضطجع على شقه الأيمن ويسمي الله، وهذا أيضاً ليس بواجب بل أدب فقط، إذا فعله الإنسان فهو خير له، وإن لم يفعله فليس عليه إثم. وكذلك يعلمنا أدب الدخول إلى المسجد، وأدب قضاء الحاجة، وأدب السلام، وغير ذلك من الآداب التي هي فضل وليست واجبة علينا، بحيث إننا لو تركناها لم نأثم، فكيف يعلمنا هذه الأشياء المستحبة، ويترك باب معرفة الرب جل وعلا ملتبساً مشتبهاً؟ هل يجوز أن يعتقد هذا مسلم؟ لا يجوز أن يعتقده مسلم شهد للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه بلغ ما أرسل به، بل لا بد أن يعتقد جازماً أن كل ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق، وفيه النور والهدى والشفاء للشبهات، وأن مخالفته ضلال وخروج عن الهدى، وعن طريق الله جل وعلا، وعن سبيل المؤمنين.

دين الإسلام دين كامل

دين الإسلام دين كامل قال الله جل وعلا في آخر ما أنزل عليه صلوات الله وسلامه عليه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] فقد كمل الدين قبل أن يتوفى الله جل وعلا نبيه، ولا شك أن أصل الدين معرفة الله جل وعلا بأسمائه وأوصافه، وإلا كيف يعبد الله من لا يعرفه؟ وهذا الأمر أجمع عليه المسلمون في أول الأمر من الصحابة ومن بعدهم من التابعين، لم يحدث فيهم أي خلاف حول هذا، وأول خلاف حدث في هذا يعتقد أنه جاء من اليهود والنصارى والمجوس، ومن الأمم التي قامت في وجه الإسلام لتصده وتمنع تقدمه في البلاد، فلما لم تستطع وقف زحف الإسلام بالقوة، واندحرت جيوشها وقواها، وأصبحت غنيمة للمسلمين، أصبحوا يعملون بالحيلة بالدسائس والمؤامرات، فأصبحوا يغتالون رجال الإسلام مثل: عمر رضي الله عنه وعثمان وعلي، وكلهم قتلوا شهداء. ومرة يخططون لإفساد عقائد المسلمين؛ لأنهم علموا يقيناً أن قوة المسلمين بعقيدتهم، فأصبحوا يخططون لإفساد هذه العقيدة.

أول من أفسد العقيدة وبث الشبه

أول من أفسد العقيدة وبث الشبه أول من عرف أنه تكلم في العقيدة لإفسادها رجل مجوسي يقال له: سوسن حيث قال: إن الله لم يعلم الأشياء قبل وجودها، وإنما يعلمها بعد وجودها، ونفى القدر، فتبعه من تبعه على هذا، فصار أئمة المسلمين يقتلون من قال هذا القول؛ لأنه كفر بالله. ثم ظهر بعد ذلك رجل يقال له: الجعد بن درهم، وهو متهم بأنه يهودي؛ لأنه -كما قال العلماء-: تلميذ لـ أبان بن سمعان وأبان بن سمعان تلميذ لـ طالوت، وطالوت هذا تلميذ ل لبيد بن الأعصم اليهودي الذي سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطالوت هو ابن أخت لبيد، فأظهر الجعد قوله: إن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً؛ لأن الكلام يتطلب لهاة وشفتين، وحنجرة -لأنه يريد أن يقيس رب العالمين على خلقه- تعالى وتقدس، فأصبح يلقي على الناس مثل هذه الشبه، ويقول: الرب جل وعلا لم يتخذ إبراهيم خليلاً؛ لأن الخلة تدل على الفقر والحاجة، وهذا لا يجوز، والصحيح أن خلة المخلوق هي التي تدل على الحاجة والفقر، أما خلة الرب جل وعلا فهي تدل على الكمال، وكذلك الكلام يدل على الكمال، ومعلوم أن الكلام والخلة وغيرهما أمور صرح الله جل وعلا بها في كتابه، فأخبر أنه كلم موسى تكليماً، وأنه اتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يشك المسلمون في ذلك. ولما قال هذا الرجل هذا القول، وبلغ قوله أحد قواد بني أمية وهو خالد بن عبد الله القسري؛ طلب هذا الرجل فأخذ وجيء به مقيداً، وكان ذلك اليوم يوم عيد الأضحى، وكانت العادة أن القائد هو الذي يصلي بالناس وهو الذي يخطب، فقد كان من صفات القائد أن يكون عالماً شجاعاً بصيراً، فجاء بهذا الرجل مقيداً إلى مصلى العيد، فخطب المسلمين، وفي آخر خطبته قال: أيها المسلمون! ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضحٍ بـ الجعد بن درهم؛ لأنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، فنزل من على المنبر وقتله بيده أضحية؛ فشكره العلماء على صنيعه هذا؛ لأنه قتل من حرض على الكفر بالله جل وعلا. وكان قد تتلمذ على الجعد بن درهم رجل يقال له: جهم بن صفوان، وأخذ عنه الباطل والكفر؛ فتتبعه أحد القواد -وهو: سلم بن أحوز - حتى أمسكه وقتله؛ انتقاماً لله جل وعلا، ولكن كان هذا المذهب الفاسد قد انتشر، فنسبت إليه الفرقة الضالة التي يقال لها: الجهمية، وهذه الفرقة من أعظم علاماتها أنها لا تصف الله جل وعلا بصفة، ولا تسميه باسم -تعالى وتقدس- إلا بالاسم العام المجمل الذي لا يدل على مدح ولا ثناء؛ كالوجود مثلا، ً وكونه شيء -تعالى وتقدس-، وهذه معالم كثير من الكفرة من اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم. ثم كثر الخلاف، وكثر الملاحدة المفسدون، فظهرت المعتزلة، وتقربوا إلى ولاة الأمور، وصار منهم القضاة، ومنهم رؤساء القضاء، ومنهم مستشارون لبعض ولاة المسلمين، فغروهم أن يجبروا الناس على القول بأن القرآن مخلوق، وأن الذي لا يقول بهذا القول يجب قتله. ثم زينوا لولي الأمر أن يكتب على ستار الكعبة: (ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم)، غيروا كتاب الله؛ لأنهم يأبون أن يصفوا الله بالسمع والبصر -تعالى الله وتقدس-، ومع ذلك بقي الحق ظاهراً، وبقي من ثبت على الحق حتى عند الابتلاء والضرب والقتل؛ فثبت الإمام أحمد على القول بأن القرآن كلام الله، وهو صفته، منه بدأ، وإليه يعود، وأن القول بأنه مخلوق كفر؛ لأن معنى ذلك أن شيئاً من الله مخلوق تعالى الله وتقدس. فأثبت الله جل وعلا الحق بطائفة نصرها وثبتها على الحق، ودحر الباطل وأهله، والباطل قد يكون له صولة في وقت من الأوقات، ولكن صولته لا تدوم، إذ لا بد أن يظهر الحق بإذن الله.

تقييض الله للحق طائفة تنصره إلى أن يأتي أمره

تقييض الله للحق طائفة تنصره إلى أن يأتي أمره الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك) يعني: على الحق: قائلين به، قائمين به، عاملين به، بعض العلماء يقول: إن هذه الطائفة يجوز أن تكون أمة كبيرة، لها جيوشها ولها نظامها ولها إمامها، ويجوز أن تكون فرقة من المؤمنين، مختلفة ما بين عالم وعابد، وما بين منفق ومجاهد، ويجوز أن يكونوا مجتمعين في مكان، ويجوز أن يكونوا متفرقين، ويجوز أن يكونوا في بلد دون آخر، ويجوز أن يكونوا متنقلين من بلد إلى آخر. المقصود أنه لا بد من وجود من يقوم بحجة الله على خلقه، حتى يأتي أمر الله، وهو ما ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً مقسطاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ولا يقبل إلا الإسلام)، فينزل بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، فيكون من أمة محمد عليه الصلاة والسلام، وهو الذي يقتل الدجال الأعور، الكذاب الأكبر، الذي هو إمام اليهود وكبيرهم الذي ينتظرونه، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر صفاته كأنك تشاهده، وأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستعيذ من فتنته في كل صلاة لعظمها، وأخبر صلوات الله وسلامه عليه أنه ما ترك بعده على أمته أشد من فتنة الدجال؛ لأنه يأتي بفتن وبلايا عظيمة؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سمعتم به فانأوا عنه، فإنه يأتيه الرجل وهو واثق بإيمانه، فيتبعه لشدة لما معه من الفتن). المقصود أن عيسى عليه السلام هو الذي يقتله في الشام، ينزل من السماء بين جناحي ملكين فيقتله، ثم يقيم شرع محمد صلى الله عليه وسلم، ثم بعد حدوث أمور ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبضه الله إليه، ثم بعد ذلك -كما في صحيح مسلم - تأتي ريح من قبل اليمن؛ فتقبض روح كل مؤمن ومؤمنة، فلا يبقى في الأرض إلا شرار الناس، لا يعرفون معروفاً، ولا ينكرون منكراً، يتهارجون تهارج الحمر، فعليهم تقوم الساعة، هذا هو أمر الله الذي ذكر في هذا الحديث. ومن هذا ما جاء في الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (شرار الناس الذين يتخذون المساجد على القبور، والذين تدركهم الساعة وهم أحياء) هؤلاء هم شرار الخلق. فالمقصود أن الحق ثبت رغم ما أراد الأعداء من إفساده، والواجب على العبد أن يعتصم بكتاب الله وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في العقيدة والعمل؛ في العقيدة التي هي باب العلم بالله ومعرفته، وباب العمل الذي يعمله الإنسان. إذاً: معنى قوله جل وعلا: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر:67] يعني: معناه: ما عظموه التعظيم الذي يستحقه، حيث وصفوه بما يتعالى ويتقدس عنه من كونه له شريك في الإلهية، أو له نظير في أسمائه وأوصافه.

قوله تعالى: (والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه)

قوله تعالى: (والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه) ذكر الله شيئاً مما يجب أن يعظم به فقال: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67] يعني: أنه يقبض الأرض بيده إذا كان يوم القيامة؛ وكذلك السماوات كلها يقبضها بيده، ومفهوم الآية أن لله جل وعلا يدين؛ واحدة يقبض بها الأرض، والأخرى يطوي بها السماوات، والتي ذكر أنه يطوي بها السماوات هي يمينه، وقد جاء في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله يقبض السماوات بيمينه، والأرضين بشماله)، وهذا أيضاً ثبت عن ابن عباس في تفسيره لهذه الآية، فروى ابن جرير وغيره بأسانيد ثابتة عن ابن عباس قال: إن الله يقبض السماوات والأرض كلها بيمينه وشماله خلو، وسيذكر لنا المؤلف ما ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود (أن حبراً من أحبار اليهود جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد! إنا نجد أن الله يضع السماوات على ذه -فأشار إلى أصبعه الخنصر- والأرضين على ذه، والشجر على ذه، والجبال والثرى على ذه، وسائر خلقه على ذه، يشير في كل مرة إلى أصبع، ثم يهزهن ويقول: أنا الملك، أنا الملك، أين ملوك الدنيا؟ عند ذلك ضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لما قال، وتلا قول الله جل وعلا: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}). وجاءت أحاديث كثيرة بهذا المعنى، عن ابن عمر، وعن ابن عباس، وعن عبد الله بن مسعود، وعن أبي هريرة، وغيرهم، وهي أحاديث صحيحة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيها ذكر أن لله جل وعلا يدين، وأنه يقبض بهما، وأن لليدين أصابع يضع عليهما مخلوقاته إذا شاء، ويهزهن ويقول: أنا الملك! أين ملوك الدنيا؟ ويجب أن يعلم الإنسان أن الله ليس كمثله شيء: لا في يديه، ولا في أصابعه، ولا في ذاته جل وعلا، ولا في سمعه وبصره، والله جل وعلا ذكر أنه خلق المخلوقات، وأنه هو الإله الحق، وأنه هو الولي الذي يجب أن يتخذ ولياً، وذكر جل وعلا أنه جعل من المخلوقات زوجين، وأنه جعل نسل بني آدم والبهائم وغيرها من زوجين من ذكر وأنثى. قال الله: {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] أي: أنكم تتعاقبون من هذا النسل، يذهب قوم ويأتي آخرون، إلى أن يأذن الله جل وعلا بنهاية هذه المخلوقات. ثم قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ختم الله جل وعلا هذه الآية بذكر السمع والبصر، والحكمة في هذا: أن الناس وكثيراً من المخلوقات يتصفون بالسمع والبصر، فكأنه جل وعلا لما قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} يقول لعباده: لا يدعوكم هذا التنزيه بقوله: (ليس كمثله شيء) إلى أن تنفوا السمع والبصر عن الله؛ فإنه سميع وبصير، ولكن له سمع يليق به، وبصر يليق به، ليس كسمعكم وبصركم، وهذا هو مذهب أهل السنة، أن يوصف الله جل وعلا بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله، ولا يتعدون ما وصف الله جل وعلا به نفسه ووصفه به رسوله، فلا يجعلون العقل حاكماً على آيات الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يحرفون ويؤولون، ويقولون كما يقول أهل البدع: إن صفات الله من المتشابه الذي لا ينبغي أن نتكلم فيه، بل صفات الله من المحكم البين الواضح الذي بينه الله وبينه رسوله صلى الله عليه وسلم، ويؤمن بها على ما يليق بعظمة الله وجلاله.

شرح فتح المجيد [136]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [136] لله الأسماء الحسنى والصفات العلى، والأصل أن يوصف الله بما وصف به نفسه، أو وصفه به ورسوله صلى الله عليه وسلم، دون تحريف أو تأويل أو تعطيل أو تمثيل، ولكن كثير من المبتدعة -ممن خالفوا منهج الحق- تجاوزوا هذا الأصل، ووقعوا في المحظور. فانطبق عليهم قوله: (وما قدروا الله حق قدره).

المذهب الحق في نصوص الصفات إمرارها كما جاءت دون تأويل أو تعطيل

المذهب الحق في نصوص الصفات إمرارها كما جاءت دون تأويل أو تعطيل قال الشارح رحمه الله: [قوله: باب ما جاء في قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ} [الزمر:67] الآية، أي: من الأحاديث والآثار في معنى هذه الآية الكريمة. قال العماد ابن كثير رحمه الله تعالى: يقول تعالى: ما قدر المشركون الله حق قدره حتى عبدوا معه غيره، وهو العظيم الذي لا أعظم منه، القادر على كل شيء، المالك لكل شيء، وكل شيء تحت قهره وقدرته، قال مجاهد: نزلت في قريش، وقال السدي: ما عظموه حق عظمته، وقال محمد بن كعب: لو قدروه حق قدره ما كذبوه، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: هم الكفار الذين لم يؤمنوا بقدرة الله عليهم، فمن آمن أن الله على كل شيء قدير، فقد قدر الله حق قدره، ومن لم يؤمن بذلك فلم يقدر الله حق قدره]. هذه الأقوال كلها حق، ولكن المفسرون عادتهم أن كل واحد يذكر الشيء الذي يناسب السامع الذي يسمع، فيذكر بعض المعنى. وقد وردت أحاديث كثيرة متعلقة بهذه الآية، ومذهب السلف فيها وفي أمثالها: إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تحريف. قال المصنف رحمه الله تعالى: [عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! إنا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء على إصبع، والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، فيقول: أنا الملك! فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر، ثم قرأ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الآية) متفق عليه. وفي رواية لـ مسلم: (والجبال والشجر على إصبع، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك، أنا الله). وفي رواية للبخاري: (يجعل السماوات على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع) أخرجاه]. هذا حديث متفق عليه رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما -وغيرهما من أئمة الحديث- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء حبر من أحبار اليهود) والحبر هو العالم، وهو يهودي لم يسلم فقال: يا محمد! وهكذا عادة اليهود يخاطبون الرسول صلى الله عليه وسلم باسمه، وما يخاطبونه بما أمر الله أن يخاطب به؛ لأن الله جل وعلا يقول: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور:63] يعني: لا تقولوا: محمد بن عبد الله، ولكن قولوا: رسول الله، نبي الله. فقال: (يا محمد إنا نجد -يعني: في التوراة التي نزلت على موسى وتوارثوها- أن الله يجعل السموات على أصبع، والأرضين على أصبع، والشجر على أصبع، والماء على أصبع، والثرى على أصبع، وسائر الخلق على أصبع، ثم يهزهن ويقول: أنا الملك أنا الملك، أين ملوك الدنيا؟ أين الجبارون المتكبرون؟) هذا حين يقبضهم بيده جل وعلا، فيصبحوا كلهم في قبضته، وقد قال الله جل وعلا في هذه الآية: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} يعني: ما عظموه التعظيم الذي يجب له، {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}. فلما قال اليهودي هذا الكلام؛ ضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، تصديقاً لما قال هذا الحبر، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} إلى آخرها.

فوائد حديث الحبر الذي قال: (يا محمد! إنا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع)

فوائد حديث الحبر الذي قال: (يا محمد! إنا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع) هذا الحديث يدلنا على أمور: أولاً: يدلنا على عظمة الله وكبريائه، وأنه أكبر وأعظم من كل شيء، وأن السموات على سعتها وعظمها تصبح بالنسبة إلى الله حقيرة صغيرة جداً، كما قال عبد الله بن عباس: إن الله يقبض السماوات كلها، فتكون في كفه جل وعلا كالخردلة، لا يجوز للإنسان أن يتصور أن هناك شيئاً أكبر أو أعظم من الله، وإذا كان بهذه العظمة فكيف يسوغ للإنسان أن يقول: إنه مع خلقه بذاته حال معهم؟ وكيف يسوغ لإنسان أن يقول: إن السموات تكون فوقه إذا نزل، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة: (إذا بقي ثلث الليل الآخر ينزل الله إلى السماء الدنيا، فيبسط يده فيقول: هل من تائب فيتاب عليه؟ هل من مستغفر فيغفر له؟ هل من سائل فيعطى؟ إلى أن يطلع الفجر) ما يجوز أن يتصور متصور أن هذا النزول الإلهي في آخر الليل إلى السماء الدنيا تكون فيه السماء الثانية والثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والعرش والكرسي والبحر فوقه تعالى الله وتقدس، بل ينزل وهو فوق كل شيء، وهو عال على كل شيء. ثانياً: قوله جل وعلا: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22] هذا يوم القيامة، وقوله جل وعلا: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ} [البقرة:210] هذا أيضاً يوم القيامة حين يحشر الناس على وجه هذه الأرض بعدما يمدها، ويزيد فيها، ويذهب جبالها ووهادها؛ فتصير قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً؛ حتى تتسع للخلق من الجن والإنس، منذ خلقوا إلى آخر مولود منهم، فيجمعهم عليها راغمين ذليلين حقيرين، ترى الذي عصوا الله كالذر تطؤهم الأقدام، فإذا طال بهم الوقوف استشفعوا بالأنبياء أن يأتي ربهم جل وعلا ليقضي بينهم؛ فيأتي جل وعلا وهو على عرشه فوق سماواته بل فوق كل شيء؛ لأنه أكبر من كل شيء وأعظم من كل شيء. ثالثاً: فيه أن لله يدين يقبض بهما إذا شاء أن يقبض، فيقبض السماوات والأرض، وإحداهما يمين، كما قال جل وعلا: {وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}، وفي صحيح مسلم: (يطوي السموات بيمينه، والأرض بشماله) وهذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم. وصح تفسير هذه الآية عن عبد الله بن عباس في قوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} يقول في تفسيرها: يطوي السموات بيمينه، والأرضين بيمينه، وشماله خلو ما فيها شيء، أي: أن جميع مخلوقاته يطويها بيمينه فقط، هكذا قال حبر الأمة، ومثل هذا لا يقوله عن رأيه، إنما يقوله عن علم تلقاه من مشكاة النبوة. رابعاً: في هذا النص التصريح بأن ليديه أصابع جل وعلا، يمسك بها ما يشاء، ويضع عليها ما يشاء، وفيها أيضاً إثبات هزه الأشياء هزاً قوياً وقوله: أنا الملك، يعني: الملك الحق الذي ليس لأحد معه ملك تعالى وتقدس، وجاء هذا موضحاً في تفسير قوله جل وعلا: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ * يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:18 - 19] وقبلها قوله تعالى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16]، يقول العلماء فيها: إن الله جل وعلا إذا كان يوم القيامة قبض على سمواته وأرضيه، ويطويها بيده، ثم يهزهن ويقول: لمن الملك اليوم؟ فلا يجيبه أحد، فيجيب نفسه فيقول: لله الواحد القهار، جاء هذا في آثار مروية عن السلف، وفيه ما هو مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من الأمور التي يجب الإيمان بها، ويجب أن يعلم الإنسان عظمة الله جل وعلا، وأن نصفه بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله على حد قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} تعالى وتقدس، فكل ما وصف الله جل وعلا به نفسه، وجاء عن رسوله صلى الله عليه وسلم، يجب أن نؤمن به على ظاهره، خلافاً لما يقوله الأشاعرة وأهل الكلام الذين يقولون: هذه ظواهر لا يجوز اعتقادها؛ لأنا لو اعتقدنا ظاهرها لدلت على التشبيه لله تعالى وتقدس، ونحن نقول: هذا باطل، وظن سوء بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم. أما كونه ظن سوء بالله؛ لأن الذي دعاهم إلى هذا القول هو تصورهم أن هذه الصفات مثل صفاتهم التي يعقلونها من أنفسهم، تعالى الله وتقدس، ولهذا إذا سمعوا مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينزل إلى السماء الدنيا) قالوا: كيف ينزل إلى السماء الدنيا آخر الليل، وآخر الليل يختلف باختلاف المناطق والأقاليم؟ فلو قلنا بهذا لكان النزول دائماً متواصلاً طوال أربع وعشرين ساعة! ونحن نقول: هذا القول الذي تقولونه، والتقدير الذي تقدرونه؛ لو كان النزول مثل النزول المعهود لكم، نزول جسم إلى جسم، ولكن هذا نزول الله، والله جل وعلا يستمع لخلقه كلهم في آن واحد وهم يناجونه ويعبدونه، كل واحد منهم يقول: يا رب يا رب، وهو يسمع كل واحد، لا يشغله سماع هذا عن سماع الآخر. وكذلك يرزقهم كلهم في آن واحد، ويعلم ما في نفوسهم في آن واحد، وكذلك إذا صار يوم القيامة يحاسبهم كلهم في ساعة واحدة، وكل واحد يكلمه رب خالياً به، يرى أنه ما يكلم غيره، وهو يكلم الخلق كلهم، فالرب جل وعلا لا يجوز أن نقيسه بالمخلوقين في أفعاله وأوصافه، فالذي يقول مثل هذا القول؛ ما قدر الله حق قدره تعالى الله وتقدس. فالمقصود: أنه يجب علينا أن نعتقد ما قاله الله في نفسه، وما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه، على ما يليق بالله وعظمته وكبريائه، ولهذا يقول الله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] فأثبت لنفسه السمع والبصر الذي هو موجود في المخلوقات، ولكن سمعه وبصره ليس كسمع المخلوق وبصره، وكذلك سائر أوصافه جل وعلا، فهذا ظن السوء بالله. أما ظنهم السوء بالرسول صلى الله عليه وسلم فواضح، فعلى قولهم فإن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغ أمته ما ظاهره الكفر، وتركهم بدون أن يوضح لهم، تعالى الله وتقدس أن يقر نبيه على هذا، فالرسول صلى الله عليه وسلم وضح للأمة غاية الإيضاح، ولم يأت عنه صلى الله عليه وسلم أنه لما ذكر لنا مثل هذه الأحاديث قال: لا تعتقدوا ظاهرها أبداً، بل جاء ما يدل على أنه يريد منا أن نعتقد ظاهرها على ما يليق بالله، ففي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله ينظر إليكم أزلين قنطين فيظل يضحك؛ يعلم أن فرجكم قريب) يعني: إذا تأخر المطر، وإذا أجدبت الأرض، فمن الناس من يقنط ويستبعد الخير، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الحالة: (ينظر إليكم أزلين قنطين فيظل يضحك؛ يعلم أن فرجكم قريب، فقال أبو رزين العقيلي: يا رسول الله! أو يضحك ربنا؟ قال: نعم، فقال: إذاً لا نعدم خيراً من رب يضحك -وفي رواية إذاً: لا يعدمنا ربنا خيراً إذا ضحك-) فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك. وفي حديث عائشة أنه قال: (أو يضحك ربنا يا رسول الله؟! قال: إي والله) أقسم صلى الله عليه وسلم، فيجب أن نقبل ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن نعظم ربنا جل وعلا، فلا يكون ضحكه كضحك المخلوق -تعالى وتقدس-، ولا تكون يده كيد المخلوق، وهكذا بقية أوصافه. فهذه طريقة أهل السنة: يقبلون ما جاء عن الله وما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم مخبراً به عن ربه جل وعلا من غير تحريف يسمونه تأويلاً، وهو في الواقع تحريف، فأهل البدع قالوا: يد الله قوته، أو نعمته، أو سلطانه، أو قهره، هكذا قالوا، وهذا في اليد الواحدة فكيف باليدين، كما قال جل وعلا: {قَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] فهل يجوز أن نقول: نعمتان مبسوطتان؟ النعمة لا حصر لها، ولو كان مثل ما يقولون لبين ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا سيما وهم يقولون: اعتقاد ظاهر هذه النصوص كفر، ولازمه أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقر الأمة على الكفر، فنقول: من اعتقد هذا فهو لم يشهد أن محمداً رسول الله في الحقيقة؛ لأن معنى شهادة أن محمداً رسول الله أنه رسول بلغ ما أنزل إليه من ربه البلاغ المبين، ولم يترك الأمر مشتبهاً ملتبساً على الخلق، بل وضح وبين في آخر مشهد عظيم شهده مع أمته، لما خطب في منى وفي عرفات وفي حجة الوداع قبيل وفاته صلوات الله وسلامه عليه فقال: (إنكم مسئولون عني أيها الناس، فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، -هكذا قالوا له- فصار يشهد ربه عليهم، يرفع أصبعه إلى السماء ثم ينكسها إليهم ويقول: اللهم اشهد، اللهم اشهد) أي: اشهد عليهم أنهم شهدوا لي بالبلاغ، فالذي يقول هذا القول فإنه لم يشهد للنبي صلى الله عليه وسلم بالبلاغ. ثم يجب على العبد المسلم أن يعتقد عقيدة جازمة بأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو أعلم الخلق بالله، وأنه صلى الله عليه وسلم أتقاهم لله وأخشاهم له، وأعظمهم غيرة على الله أن يوصف بغير ما وصف به نفسه، فلا يمكن أن يقر اليهودي على مثل ذلك، قال أحد شراح الأشاعرة في شرحه لهذا الحديث -وللأسف فإنه شرح كلام الرسول صلى الله عليه وسلم-: إن النبي صلى الله عليه وسلم ضحك تعجباً من جرأة اليهودي على التشبيه، وهذا ظن سوء بالنبي صلى الله عليه وسلم، حيث يضحك على الباطل، فالرسول صلى الله عليه وسلم إذا سمع الباطل غضب ولا يقوم أحد لغضبه، فلا يقال: إنه يضحك من الباطل والكفر! فيجب أن ينزه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا القول، بل آحاد الأمة يتنزه عن مثل هذا. فالمقصود أن ا

بعض المسائل المستفادة من الحديث

بعض المسائل المستفادة من الحديث في هذا الحديث مسائل: أولاً: قد يقول قائل: سورة الزمر مكية، فكيف يقول: فنزلت الآية، وقد نزلت في مكة؟ والله جل وعلا يقول قبل هذه الآية: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ * وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر:65 - 67] إلى آخره؟ A الواقع أنه جاء في بعض الروايات: (فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية)، وقد يتكرر نزول الآية أكثر من مرة كما جاء في أن الفاتحة نزلت مرتين، وكذلك بعض الآيات، ومثل هذا جاء في قوله جل وعلا: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85] كما في الصحيحين: أن هذه نزلت بسبب سؤال اليهود في حديث عبد الله بن مسعود حيث قال: (كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض حوائط المدينة، ومعه عسيب يتوكأ عليه، فمررنا على ملأ من اليهود فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح، فقال بعضهم: لا تسألوه لئلا يسمعكم ما تكرهون، فقال واحد: والله لنسألنه، فقال: يا رسول الله! أخبرنا عن الروح، يقول عبد الله بن مسعود فسكت وبقي متكئاً وكأنه يوحى إليه ثم بعد ذلك قال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85]، فقال بعضهم لبعض: ألم نقل لكم: لا تسألوه لئلا يسمعكم ما تكرهون؟) أي: أنهم ما أوتوا من العلم إلا قليلاً، وهم يزعمون أنهم أوتوا علماً كثيراً. المقصود: أن سورة الإسراء مكية نزلت في مكة، والجواب أن يقال: إما أن تكون الآية نزلت مرتين، وإما أن يكون كما في الرواية الأخرى: (فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم). الأمر الثاني مما يؤخذ من هذا الحديث: أن الحق يجب أن يقبل وإن كان من عدو لك، فالرسول صلى الله عليه وسلم لما قال له هذا اليهودي ذلك قبل، وجاء بما يصدق قوله مما أنزل عليه. الأمر الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحك تعجباً وفرحاً بذلك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يفرح أن يكون هناك شهود له ممن سبقه، ونزل عليه علم يشهدوا له بالحق الذي جاء به، فهذا هو سبب ضحكه وتعجبه صلى الله عليه وسلم. ثم الأمور الأخرى التي أشرنا إلى بعضها سابقاً تؤخذ من هذا أيضاً.

حكم الإشارة عند ذكر صفات الله تعالى

حكم الإشارة عند ذكر صفات الله تعالى قال الشارح رحمه الله: [وقال الإمام أحمد: حدثنا الحسين بن حسن الأشقر قال: حدثنا أبو كدينة عن عطاء بن أبي الضحى عن ابن عباس قال: (مر يهودي برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس، فقال: كيف تقول يا أبا القاسم يوم يجعل الله السماوات على ذه -وأشار بالسبابة- والأرض على ذه، والجبال على ذه، وسائر الخلق على ذه؟ كل ذلك يشير بأصابعه، فأنزل الله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}) وكذا رواه الترمذي في التفسير بسنده عن أبي الضحى مسلم بن صبيح به]. وهذا يؤخذ منه: أن الإشارة عند ذكر صفات الله توضيحاً وتبييناً لا بأس به، وأما ما جاء عن البعض أنه قال: لو أن إنساناً قرأ قوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] أو ما أشبه ذلك، أو قال: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] وأشار بيده، فإنه يجب أن تقطع يده؛ لأن هذا تشبيه، نقول: هذا من قول الجهمية الذين لا يريدون أن يسمعوا أوصاف الله جل وعلا وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وإقراره لهذه الإشارة أولى بالقبول، وقد جاء في الصحيح من حديث عبد الله بن عمر قالت: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر قبض الله جل وعلا للسماوات والأرض يوم القيامة، فجعل يقول بيده هكذا يمجد الرب نفسه، حتى رأيت المنبر يتحرك من تحته، فقلت: أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم؟). وكذلك جاء في صحيح مسلم عن معاوية بن الحكم السلمي قال: (كانت لي جارية ترعى غنماً لي قبل أحد، فاطلعت عليها يوماً فوجدت الذئب قد أخذ شاة منها، وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون، فأسفت -يعني: غضبت- فضربتها في وجهها، ثم ندمت -فالإنسان في حالة الغضب يقع في أشياء لا يريدها- ثم ذهبت إلى رسول الله فأخبرته بذلك، فعظم ذلك عليه -يعني: كوني ضربتها- فقلت: يا رسول الله! أفلا أعتقها؟ فقال: ائتني بها، فأتيته بها، فقال صلى الله عليه وسلم لها: أين الله؟ فأشارت بيدها وقالت: في السماء، فقال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، فقال: اعتقها فإنها مؤمنة) وهؤلاء يقولون: لو أشارت اليد إلى الله لوجب قطعها؛ لأنهم معطلة، عطلوا الله جل وعلا عن أوصافه تعالى الله وتقدس عما يقولون ويعتقدون.

أدلة إثبات اليدين لله تعالى

أدلة إثبات اليدين لله تعالى قال الشارح رحمه الله: [قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه، ثم قال البخاري: حدثنا سعيد بن عفير قال: حدثنا الليث قال: حدثني عبد الرحمن بن خالد بن مسافر عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه، فيقول: أنا الملك أين ملوك الأرض؟) تفرد به من هذا الوجه، ورواه مسلم من وجه آخر. وقال البخاري في موضع آخر: حدثنا مقدم بن محمد قال: حدثنا عمي القاسم بن يحيى بن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى يقبض يوم القيامة الأرضين، وتكون السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك) تفرد به أيضاً من هذا الوجه، ورواه مسلم من وجه آخر. وقد رواه الإمام أحمد من طريق آخر بلفظ أبسط من هذا السياق وأطول فقال: حدثنا عفان قال: حدثنا حماد بن سلمة قال: أنبأنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن عبيد الله بن مقسم عن ابن عمر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية يوماً على المنبر: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هكذا بيده يحركها، يقبل بها ويدبر، يمجد الرب تعالى نفسه: أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا الملك، أنا العزيز، أنا الكريم، فرجف برسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر حتى قلنا: ليخرن به)]. قال المصنف رحمه الله: [ولـ مسلم عن ابن عمر مرفوعاً: (يطوي الله السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين السبع، ثم يأخذهن بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟)]. في هذا الحديث إثبات الشمال، والمقصود أن لله جل وعلا يدين، وأما ما جاء في الصحيحين في قصة آدم أن الله جل وعلا (قبض بيديه فقال له: اختر؟ فقال: اخترت يمين ربي، وكلتا يديه يمين) فمقصود هذا أن كلتاهما كاملة تامة لا يلحقها نقص، ليس كالمخلوق الذي يمينه أكمل من شماله، هذا هو المقصود بقوله: (وكلتا يديه يمين). وإذا جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم النص وجب قبوله والقول به؛ لأنه معصوم فيما يبلغ عن الله جل وعلا. قال الشارح رحمه الله: [كذا في رواية مسلم، وقال الحميدي: وهي أتم، وهي عند مسلم من حديث سالم عن أبيه، وأخرجه البخاري من حديث عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (إن الله يقبض يوم القيامة الأرضين، وتكون السماء بيمينه)]. يعني ليس في البخاري لفظ (شماله). قال الشارح رحمه الله: [وأخرجه مسلم من حديث عبيد الله بن مقسم. ]. قال المصنف رحمه الله: [وروي عن ابن عباس قال: ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم]. في هذا إثبات الكف لله جل وعلا، فليده كف، وقد ثبت هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري وغيره، وهو من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك القبض.

عظم الكرسي بالنسبة للسماوات

عظم الكرسي بالنسبة للسماوات قال المصنف رحمه الله: [قال: وقال: ابن جرير: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: حدثني أبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما السموات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس)]. هذا هو الصواب الصحيح من أقوال العلماء أن الكرسي غير العرش، فقد قال الله جل وعلا: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة:255] فالكرسي تحت العرش، وجاء عن السلف أنهم قالوا: الكرسي يكون المرقاة للعرش، يعني: الشيء الذي يجعل تحت الكرسي توضع عليه القدم، ولهذا قال ابن عباس: الكرسي موضع قدمي الرحمن جل وعلا، وإذا كانت السموات بالنسبة للكرسي على سعتها كسبعة دراهم ألقيت في ترس، فإن العرش أعظم من الكرسي، فالكرسي بالنسبة للعرش كدرهم ألقي في فلاة، فالعرش هو أكبر المخلوقات وأعظمها وأعلاها، والله جل وعلا فوق العرش تعالى وتقدس.

عظم العرش بالنسبة للكرسي

عظم العرش بالنسبة للكرسي قال المصنف رحمه الله: [وقال أبو ذر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض)]. يعني: أن الكرسي مع كونه: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255] أوسع من السموات والأرض وأكبر، فهو بالنسبة للعرش كحلقة ألقيت في أرض فلاة، والعرش كما جاء في الآثار له قوائم، ويحمل كما قال الله جل وعلا: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17]، فأخبر جل وعلا أن له حملة، وأن له ملائكة يحفونه، ويسبحون بحمد ربهم، ويقدسونه، وهؤلاء هم أقرب الملائكة إليه، وأعظمهم طاعة له جل وعلا، وأعظمهم خلقاً، وأخبر أن هؤلاء يستغفرون للذين آمنوا.

سمك ما بين كل سماء والتي تليها

سمك ما بين كل سماء والتي تليها قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن مسعود قال: بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كل سماء وسماء خمسمائة عام، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش لا يخفى عليه شيء من أعمالكم، أخرجه ابن مهدي عن حماد بن سلمة عن عاصم عن زر عن عبد الله]. وهذا اعتقاد أهل السنة، حيث يعتقدون أن الله فوق عرشه تعالى وتقدس كما قال الله جل وعلا: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54]، وأن علم الله في كل مكان، وأن قول الله جل وعلا: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4] معناه: بعلمه واطلاعه وسمعه وبصره وقبضته وإحاطته، وهو فوق عرشه تعالى وتقدس، فهو أعظم من كل شيء، وأكبر من كل شيء.

شرح فتح المجيد [137]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [137] الأدلة متوافرة على أن أسماء الله وصفاته الأصل فيها التوقف، فلا يثبت منها إلا ما ثبت في القرآن والسنة الصحيحة، وإثبات صفات الله تبارك وتعالى يكون على ظاهرها دون تشبيه أو تأويل.

دلالة مخلوقات الله على عظمته

دلالة مخلوقات الله على عظمته قال الشارح رحمه الله: [وهذه الأحاديث وما في معناها تدل على عظمة الله، وعظيم قدرته، وعظم مخلوقاته، وقد تعرف سبحانه وتعالى إلى عباده بصفاته وعجائب مخلوقاته، وكلها تعرف وتدل على كماله، وأنه هو المعبود وحده لا شريك له في ربوبيته وإلهيته، وتدل على إثبات الصفات له على ما يليق بجلال الله وعظمته إثباتاً بلا تمثيل، وتنزيهاً بلا تعطيل، وهذا هو الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وعليه سلف الأمة وأئمتها ومن تبعهم بإحسان، واقتفى أثرهم على الإسلام والإيمان]. قوله: (في هذه الأحاديث) المقصود التي سبق ذكرها، مثل حديث: أن الرب جل وعلا يضع السماوات على أصبع، والأرضين على أصبع، والجبال على أصبع، والثرى والشجر على أصبع، وسائر الخلق على أصبع، ثم يهزهن، ويقول: أنا الملك أنا الملك، ومثل حديث ابن عمر الذي سبق (أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر أن الله يقبض السماوات بيده، والأرضين باليد الأخرى، ثم يقول هكذا يمجد الرب نفسه، فجعل الرسول صلى الله عليه وسلم يشير بيده، يقول ابن عمر: فرأيت المنبر يتحرك من تحته، فقلت: أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم؟) وتحرك المنبر هو بسبب الذكر الذي يذكر عليه من عظمة الله، وإلا فالمنبر ثابت، وهذا مثل قصة الجذع الذي كان يخطب عليه، ثم اتخذ له منبراً منجوراً من خشب الطرفاء، فلما صعد على هذا المنبر أول مرة، صار ذلك الجذع يحن على ما فقد من الذكر الذي يتلى عليه، حتى سمع أهل المسجد كلهم حنينه، فنزل الرسول صلى الله عليه وسلم من المنبر، وذهب إليه والتزمه، فهدأه مثل ما يهدأ الصبي الذي يبكي، وقال: (لو تركته لبقي يحن إلى يوم القيامة)، فالرسول صلوات الله وسلامه عليه كان يعلم أصحابه معرفة الله جل وعلا، ويعلمهم الإيمان به، ومن الإيمان المعرفة بما تعرف الله به إلى عباده على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بأسمائه وأوصافه، فقد سمى نفسه بأسماء ووصف نفسه بأوصاف؛ فيجب أن نتقبل ذلك كما جاء به المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، بدون تحريف ولا تعطيل، وبدون تمثيل ولا تشبيه للرب جل وعلا بالمخلوقات.

معنى التحريف والتأويل

معنى التحريف والتأويل التحريف معناه: أن يعدل بمعاني هذه النصوص عما أراد المتكلم بها إلى معان أخرى، فهذا تحريف في الواقع، وإن سماه أصحابه تأويلاً، والتأويل جاء على لسان السلف يقصد به شيئان: أحدهما: التفسير، كما يقول ابن جرير رحمه الله في تفسيره: القول في تأويل قوله تعالى كذا وكذا، أي: في تفسيره، فهذا معنى صحيحاً من معاني التأويل. المعنى الثاني: أن التأويل هو ما يئول إليه الشيء المخبر عنه، كما قال الله جل وعلا: {يَومَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف:53] يعني: يأتي حقيقة ما أخبر الله جل وعلا عنه يوم القيامة إذا عاينوه، فهذا تأويله. ومن ذلك قوله تعالى في قصة يوسف: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} [يوسف:100] يعني: هذا حقيقة الرؤيا التي رأيتها، جاءت واقعة مشاهدة. أما المعنى الثالث الذي يقوله المتأخرون فهو مبتدع مخترع، ما جاء لا في اللغة ولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في كتاب الله، وهو ما اصطلحوا عليه من صرف اللفظ عن ظاهره إلى غير ظاهره؛ لدليل يدل على ذلك، وهذا الدليل: إما أن يكون عقلياً، وهذا لا حصر له، ولا ضابط له، فكل يدعي أن العقل معه، وإما أمر آخر يزعم أنه دليل وهو ليس بدليل، وهذا الذي أنكره العلماء، وعده الإمام ابن القيم في كتابه: (الصواعق المرسلة) طاغوتاً من الطواغيت التي أُفسد بها دين الله، حيث جعله أحد الطواغيت الأربعة التي ذكرها، وقال: إن هذه الطواغيت هي التي أُفسد بها دين الله جل وعلا. والواجب على الإنسان أن يأخذ دينه من كتاب الله ومن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط، ولا ننكر كون الإنسان يستعين بأقوال العلماء على فهم كتاب الله وفهم كلام رسوله، بل ينبغي هذا، ولكن إذا جاءت أقوال تصادم كتاب الله وتصادم قول الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يجوز أن نأخذ بها، ولا يجوز أن نعتبرها من المقبول، بل يجب أن نردها؛ لأنها تخالف قول الله وقول رسوله، فكل قول من أقوال الناس خالف قول الله أو قول رسوله يجب أن يرد ولا يقبل على أي حال، ومهما كان صاحبه. ومعلوم: أن كل أحد من الخلق -من العلماء أو من غيرهم وإن بلغ في العلم درجة رفيعة- يجوز أن يخطئ وأن يقع في الخطأ؛ لأن المعصوم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط، أما ما عداه من الخلق فيجوز عليهم الخطأ؛ فإن بني آدم كلهم خطاء. إذاً: أمامنا كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إذا ثبتت، فيجب الاعتصام بهما كما قال جل وعلا: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] ففسر حبل الله بأنه كتابه، وأنه دينه، وفسر بأنه الرسول صلى الله عليه وسلم، وكلها تفسيرات صحيحة.

موقف المتكلمين من النصوص وحيرتهم واضطرابهم

موقف المتكلمين من النصوص وحيرتهم واضطرابهم قد تكاثرت النصوص من كتاب الله ومن أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم في وصف الله جل وعلا بأوصاف متعددة، وأبى المتكلمون كثيراً منها، وحرفوها، بل ردوها صراحة، فقالوا: إن الله لا يوصف بأن له يداً، وقالوا: لا يوصف بأن يده لها أصابع، وقالوا: لا يوصف بأن له رجلاً، ولا يوصف بالغضب والرضا والمحبة، وهذا كله ثابت في كتاب الله، فكيف نعتاض عن كتاب الله بقول هؤلاء الذين عمدتهم واستنادهم على عقولهم؟!! فالأمر كما ثبت عن الإمام مالك رضي الله عنه حين جاءه رجل فقال له: أريد أن أناظرك؟ فقال: لا، أنا ما عندي شك في ديني، فاذهب إلى إنسان آخر عنده شك في دينه فناظره. فالمناظرات هي بالعقول، والعقول تتفاوت، وكل من كان مفرطاً في الذكاء من هؤلاء المتكلمين كانت نهايته الحيرة، فيصبح لا يدري ماذا يقول! كما ذكر عن أحد تلامذة الفخر الرازي الأذكياء أنه كان له صديق من أهل السنة الذين يتبعون السلف في الاعتقاد، وفي يوم من الأيام دخل عليه فسلم فلم يرد عليه السلام، ثم سلم فلم يرد السلام، ثم سلم الثالثة فلم يرد السلام، فعجب الرجل فما دهاه! فوقف حائراً ما يدري يجلس أو يرجع، وفي أثناء ذلك رفع رأسه إليه فقال: ماذا تعتقد يا فلان؟ فضحك وقال: ماذا أعتقد؟ أعتقد ما يعتقده المسلمون، فأطرق رأسه وجعل يبكي ويقول: ولكني والله ما أدري ماذا أعتقد!. والفخر الرازي نفسه خرج يوماً من الأيام إلى سوق نيسابور ومعه تلامذته وهم أكثر من ثلاثمائة تلميذ، وعجوز واقفة على باب بيتها، فسألت واحداً من تلامذته: من هذا الملك؟ فقال لها: ليس هذا بملك، ولكنه فخر الدين الرازي يعرف على وجود الله ألف دليل، فضحكت العجوز، وقالت: والله لو كان عنده ألف شك ما احتاج إلى أن يبحث عن ألف دليل، أوفي معرفة الله شك حتى يبحث عنه؟! فهم يشكون في الأمور الظاهرة الجلية. وكان الجويني يسمى إمام الحرمين؛ لأنه جاور في مكة زمناً، وجاور في المدينة زمناً، وصار يدرس في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وفي يوم من الأيام كان يتكلم على كرسي في هذا المسجد الطاهر، ويقول: كان الله ولا مكان، وهو الآن على ما كان عليه قبل خلق المكان؛ ليس فوق ولا تحت، ليس يمين ولا شمال، فقام رجل فقال: ما قولك فيمن إذا دعا رفع يديه نحو السماء قائلاً: يا رب؟! فوضع يده على رأسه، ونزل من على الكرسي، وصار يبكي ويقول: حيرني الرجل، حيرني الرجل، لماذا؟! لأن استناده واعتماده كان على عقله فقط، ما هو على كتاب الله وعلى أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم. ولما أدركه الموت صار يقول لأصحابه: لا تشتغلوا بالكلام، والله لو كنت أظن أنه يصل بي إلى ما وصل بي الآن ما اشتغلت به. ثم يقول: ها أنا أموت على عقيدة عجائز نيسابور لم أعرف شيئاً، ولا عجب، فبعد طول جهد وطول مسير يموت على عقيدة العجائز!! بل تمنى ذلك؛ لأن كثرة الشكوك التي تلقى عليه لا تدعه يعتقد ذلك، فهؤلاء كثير منهم يتمنى أن يكون على عقائد عوام الناس؛ والسبب أنهم أعرضوا عن طريق الهدى والشفاء الذي يشفي من الشكوك، أعرضوا عن كتاب الله، وزعموا أن آيات كتاب الله ظواهر لا تفيد اليقين، وإنما اليقين ما تدلهم عليه عقولهم، هذا هو السبب الذي جعلهم يحارون. يجب أن تثبت صفات الله بلا تمثيل ولا تعطيل، والتعطيل هو تعطيل أوصاف الله وأسمائه من المعاني التي أريد بها، كما قال الله جل وعلا: {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ} [الحج:45] معطلة يعني: ما تستعمل بل تركت، ويقال في اللغة العربية: جيد عاطل: وهو رقبة المرأة إذا لم يكن عليها حلي، فمعنى التعطيل التخلية أي: أن يخلوها عن معانيها التي أرادها الرب جل وعلا، مثل ما يصنعه هؤلاء.

معنى التحريف

معنى التحريف التحريف: هو التأويل الباطل، والعدول بها وبمعانيها عما أراده الله جل وعلا، كقولهم: يد الله أي: نعمته، وكقولهم: غضب الله أي: نقمته، وكقولهم: رحمة الله أي: إحسانه، وهكذا. وهذا كثير جداً في تفاسير هؤلاء وفي شروحهم للحديث، فيجتهدون غاية الاجتهاد في صرف معاني أوصاف الله وأسمائه إلى ما يعقلونه هم، وما يتعارفون عليه، ويحرفونه من أجل ذلك؛ لأنهم ما عرفوا من اليد إلا أيديهم التي يتعارفون عليها، ولهذا كثير منهم يقول: يد الله ليست جارحة، فالله لا يوصف بالجوارح، فمن قال لك: إنها جارحة، فقل: إن الله له يد، ويجب أن نثبتها كما جاءت، أما كلمة جارحة فهي من عندك، فلا يجوز أن نثبتها، ولا يجوز أن ننفيها؛ لأنه شيء ما جاء إثباته ولا نفيه فيتوقف فيه. ثم إن الله جل وعلا قد أخبرنا أنه ليس كمثله شيء، وأنه لا سمي له، وأنه لم يكن له كفواً أحد، وأنه لا ند له، والناس جميعاً متفقون على أن الله في ذاته جل وعلا ليس له مثيل، ولا يشبهه شيء، فإذا كان الأمر كذلك فالصفات تبع للذات، يحتذى فيها حذو الذات، فإذا كان جل وعلا ليس له مثيل في ذاته، فهو كذلك ليس له مثيل في أوصافه وأسمائه؛ لأن الصفة والاسم تبع للذات. فالواجب أن نفهم كلام الله، وأن نوقعه الموقع الذي أراد منا جل وعلا، وألا نؤول ولا نحرف، فإن التأويل والتحريف كله صد عن معرفة الله جل وعلا، وقد قال جل وعلا: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف:180] فهذا وعيد من الله للملحدين أنهم أنه سوف يلقون جزاءهم حين يلقوه {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} فندعوه بأسمائه ونعبده بها، فنقول: يا منان من علينا، يا غفار اغفر لنا، وهكذا نسأله بأسمائه، ونعبده بها جل وعلا، وكل اسم له صفة أخذ منها، فالأصل الصفات، والأسماء فرع عن الصفات، فالرحمن أخذ من الرحمة، والعزيز من العزة، والحكيم من الحكمة، والغفور من المغفرة، وهكذا.

سبب رد أهل الكلام لأدلة الصفات

سبب رد أهل الكلام لأدلة الصفات العقلانيون هم عباد العقل -الذين يسمون سابقاً بالمعتزلة، وقد قدموا العقل على كتاب الله وسنة رسوله، ويقولون: تثبت الأسماء وترد الصفات، لماذا قالوا ذلك؟ لأن ذكر أسماء الله جل وعلا في كتابه أكثر من ذكر الحلال والحرام، وأكثر من ذكر الأوامر التي يؤمرون بها، فردها معناه: رد لكتاب الله جملة وتفصيلاً، ومعنى قولهم: ترد الصفات: أن أسماء الله مجرد أعلام لا تدل على معاني، ومثال ذلك -ولله المثل الأعلى-: إذا سميت شخصاً زيداً، والآخر عمراً، فأنت تميز هذا عن هذا بهذا الاسم فقط، وإلا فليس له من معنى الاسم شيء، تعالى الله عن ذلك، فهذا يدلنا على إلحادهم، وعلى بعدهم عن معرفة الله؛ ولهذا ترى قلوبهم أقسى القلوب، وصاروا أجرأ الناس على الله جل وعلا، يتجرءون عليه ويصفونه بما لا يستطيع الإنسان أن يتكلم به، قال الإمام عبد الله بن المبارك: إننا لنحكي قول اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي قول هؤلاء في الله؛ لأن قولهم جرأة عظيمة على الله. فالمسلم يجب أن يكون قدوته كتاب الله، وأن يحذر من أقوال هؤلاء، والمصيبة أن أتباع هؤلاء ملئوا الدنيا بالكتب، وصارت المطابع تلفظ ما لا حصر له من كتب هؤلاء، وهم يزعمون أنهم أهل السنة والجماعة، وهم محرفون حيث يقولون: غضب الله هو نقمته، ويد الله: نعمته، ورحمة الله: إحسانه، وهكذا، فهؤلاء يزعمون أنهم أهل السنة، ومن أثبت لله غضباً على ظاهر اللفظ، وأثبت له رحمة ومحبة ويداً ورجلاً على ما جاءت به النصوص؛ سموه مشبهاً، ويحذرون من بعض الكتب مثل كتاب خلق أفعال العباد للبخاري، وكتاب الدارمي , وكتاب الإمام أحمد، وكتاب ابن خزيمة، وغيرها من كتب أعلام السنة، ويقولون: هذه ما ينبغي أن يقرأها الإنسان؛ لأن فيها خطورة، ولانحرافها عن التنزيه، فيسمون تعطيل صفات الله: تنزيهاً، وقد قال أحد هؤلاء في كتاب التوحيد للإمام محمد بن خزيمة: هذا كتاب الشرك، وقال الآخر في كتاب الإمام عبد الله بن أحمد -كتاب السنة- هذا كتاب البدعة. وليس هناك عداوة أكثر من معاداة الإنسان في العقيدة، فإذا خالفك أحد في العقيدة فلا يتفق معك في شيء، ولهذا صار بعضهم يلعن بعضاً، حتى قال بعضهم لأحد هؤلاء -وهو يرد على إمام معروف من أئمة السنة- وهو يريد أن يهدئه، وأن يطفئ شيئاً من غضبه: يا فلان! إني لأرجو أن تلتقي مع هذا الذي ترد عليه في الجنة، وتصطحبان هناك، فماذا قال هذا الرجل نسأل الله العافية؟ قال: الجنة التي يكون فيها فلان لا أريدها، إلى هذا الحد! نسأل الله العافية، كل هذا لأنه خالفه في وصف الله جل وعلا بما وصف به نفسه. فالواجب على العبد الحذر، فالأمر ليس سهلاً، ونضرب مثلاً لمصير الطائفتين: لو كان هناك اثنان: أحدهما يقول: إن الله لا يوصف بيد، أو رجل، ولا يوصف بأنه يغضب، أو يحب أو يفرح، ولا يوصف بأنه يضحك؛ لأننا إذا وصفناه بهذه الأوصاف شبهناه بالمخلوقين، لأن هذه صفات المخلوقين. وآخر يقول: أنا أثبتها على ظاهرها، وأعتقد أن الله له هذه الصفات المذكورة على ما يليق به، ثم مات هذا وهذا، والتقيا بين يدي الله، وسألهما الله جل وعلا، فقال للأول: ما مستندك؟ فسيقول: عقلي، وقول فلان وفلان من الأئمة، ولو قال للثاني: ما مستندك؟ فسيقول: كتابك، وقول رسولك، فأيهما أولى بالنجاة؟ وأيهما أولى بالعذر؟ لا شك أنه الثاني؛ لأنه اعتمد على كتاب الله وسنة رسوله. ثم هناك شيء ينبغي أن ننبه عليه، وهو أنه ما دام هؤلاء يقولون: إن هذه الأشياء ظاهرها مشابهة الخلق، فمعنى ذلك أن كتاب الله ظاهره التشبيه، وكذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل يجوز أن يقال هذا؟ هكذا صرح الصاوي في حاشيته على الجلالين في تفسير سورة الكهف فإنه قال: الأخذ بظواهر كتاب الله كفر، وصل إلى هذا الحد؛ لأنه يقول: لا يجوز أن نقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] على ظاهر القرآن، لكن نقول كما قال الجعد بن درهم الذي أتانا بعقائد الصابئة والزنادقة، ويريد أن يفرق بين المسلمين ويشتت أذهانهم ويفسد عقائدهم، هذا هو غرضه ومراده، ولهذا ضحى به خالد بن عبد الله القسري رحمه الله لما قيل له: إن هذا الرجل ينكر أن يكون الرب جل وعلا يتكلم، وينكر أن يكون الرب جل وعلا يحب، فإنه يقول: إن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، لماذا يقول هذا؟ لأن الكلام عنده يتطلب لساناً، وشفتين، ولهاة، وحنجرة، ومقاطع أصوات، وكذلك المحبة والخلة تقتضي الميل إلى المحبوب، والحاجة إليه، ويقال لهذا المبطل: الذي يحتاج إلى لسان ولهاةٍ وحنجرة وشفتين كلامك أنت وأمثالك، أما الله جل وعلا فلا نظير له ولا شبيه. فلما قال هذا القول، ونمي إلى أحد قواد بني أمية خبره؛ طلبه، فأمسكه وقيده بالحديد، وكان الوقت وقت عيد الأضحى، وكانت العادة أن القائد هو الذي يخطب الناس ويصلي بهم، وإذا لم يكن القائد عالماً ما يصلح أن يكون قائداً في ذلك الوقت، فجاء بهذا الرجل مقيداً إلى المصلى، وقد خرج الناس إليه، فصلى بهم صلاة العيد ثم قام يخطب، وفي آخر الخطبة قال: أيها الناس! ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بـ الجعد بن درهم؛ لأنه يزعم أن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، تعالى الله عن قول الجعد بن درهم علواً كبيراً، ثم نزل من على المنبر وذبحه أضحية؛ فشكره العلماء على هذا، شكروا صنيعه ودعوا له؛ لأن هذا طاغوت زنديق يريد أن يفسد الدين.

الرد على من أنكر صفة الكلام

الرد على من أنكر صفة الكلام الذين يقولون: إن الكلام يتطلب لسان وشفه وغيرهما أن نقول: هذه المتطلبات هي لكلام المخلوقين، وقد أخبرنا الله جل وعلا أن هناك مخلوقات تتكلم وليس لها لسان، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن حجراً من الحجارة كان يسلم عليه ويقول: السلام عليك يا رسول الله، وأخبر الله أن الجبال تسبح مع داود، وأخبر جل وعلا أن الجلود والأسماع والأبصار تنطق وتتكلم، والأيدي تشهد على أصحابها يوم القيامة، فهل لهذه ألسنة؟ قال تعالى: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت:20 - 21] فإذا كان هذا موجوداً في مخلوقات حقيرة بالنسبة لله جل وعلا، فكيف يقال: إنه يتطلب ذلك بالنسبة لله! فالواجب أن نثبت ما أثبته الله من غير تشبيه بالمخلوقات، وأن نعتقد أن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في أوصافه إذا تكلم فهو يتكلم حقيقة، والذي ينكر صفة الكلام يلزمه أن ينكر الشرع كله؛ لأن شرع الله كله أوامر وأقوال يقولها جل وعلا يخاطب بها عباده، ولقد تكاثرت النصوص عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا، ففي كتاب الله {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] فمن أين يسمع كلام الله؟ أيسمعه من الله؟! بل يسمعه من المبلغ، من الرسول أو ممن يبلغه، فكتاب الله هو كلامه الذي تكلم به وأنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو كلامه حقيقة، ولهذا لما قال رجل عند ابن عباس: الله رب القرآن؛ زجره وقال: مه! القرآن ليس مخلوقاً، القرآن صفة الله، فيقال: الذي تكلم بالقرآن، أو الذي أنزل القرآن؛ لأن كل مربوب مخلوق، أما قول الله جل وعلا: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون َ} [الصافات:180] فمعنى رب العزة هنا: صاحب العزة التي هي صفته، ورب يأتي بمعنى صاحب، كما يقال: رب الدار ورب الدابة ورب الكتاب، أي: صاحبه.

النبي عليه الصلاة والسلام كان يعلم أصحابه صفات الله تعالى

النبي عليه الصلاة والسلام كان يعلم أصحابه صفات الله تعالى الواجب على العبد أن يتعرف على الله بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (آخر من يخرج من النار -يعني: من أهل التوحيد- رجل يخرج منها، ويجعل وجهه إليها، فلا يستطيع أن يلتفت بوجهه عنها، فيبقى يدعو: يا رب اصرف وجهي عن النار، فقد آذاني قشبها، ونتن ريحها، لا أسألك غير هذا، فإذا طال سؤاله يقول الله جل وعلا له: لعلك إذا أعطيتك ما سألت تسأل غيره؟! فيقول: لا وعزتك، لا أسألك غيره، فيستجيب الله جل وعلا له، ويصرف وجهه عن النار، ثم ترفع له شجرة خضرة يراها، فيصبر ما شاء الله أن يصبر، ثم بعد ذلك يقول: يا رب أوصلني إلى تلك الشجرة؛ لأستظل بظلها، وأشرب من مائها، فيبقى يدعو وقتاً، فيقول الله جل وعلا له: يا بن آدم! أين ما أعطيت من العهود؟ ما أغدرك! فيقول: يا رب لا تجعلي أشقى خلقك، والله يعذره، لأنه يرى شيئاً لا يصبر عليه، فيقول الله جل وعلا له: لعلك إن أعطيتك ما سألت تسأل غيره؟ فيقسم بالله أنه لا يسأل غير هذه الشجرة، ويعطي العهود والمواثيق، فيوصله الله جل وعلا إلى الشجرة، فإذا وصل إليها ترفع له شجرة أحسن منها وأجمل، فينظر إليها، فيصبر ما شاء الله أن يصبر، هم يقول: يا رب أوصلني إلى تلك الشجرة، لا أسألك غيرها، فيقول الله جل وعلا له: يا بن آدم! ويلك ما أغدرك! ألم تعط العهود والمواثيق أنك لا تسأل غيرها؟ فيقول: يا رب لا تجعلني أشقى خلقك، فيقول: لعلك إن أعطيتكها تسأل غيرها، فيقول: لا والله لا أسألك غيرها وعزتك وجلالك، وربه يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فإذا وصل إليها رأى الجنة ثم ينفتح له باب الجنة، فيرى داخلها ما لا يتصوره، فينفذ صبره ويسأل ربه فيقول: يا رب أدخلني الجنة، يا رب أدخلني الجنة، فيقول الله جل وعلا: أين العهود؟ يقول: يا رب لا تجعلني أشقى خلقك، ثم يقول له جل وعلا: أرأيت لو أعطيتك الدنيا ومثلها أيكفيك؟ فيقول هذا الرجل: يا رب أتسخر بي وأنت رب العالمين؟ عند ذلك ضحك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ألا تسألوني مما أضحك؟ قالوا: مم تضحك؟ قال: أضحك من ضحك رب العالمين إذ قال له: أتسخر بي وأنت رب العالمين؟ فضحك الله، فيقول: لا ولكني على ما أشاء قدير، ثم يقول: تمنَّ! فيتمنى فتنقطع به أمنيته، فيقول له جل وعلا: تمن كذا وكذا وكذا، يذكره، فإذا انتهت أمنيته قال: لك هذا وعشرة أمثاله، هذا أدنى أهل الجنة منزلة). فتأمل هذه المحاورة وهذه الخطابات الكريمة التي يُخَاطب بها هذا الرجل، فما موقف أهل البدع من هذا؟ لا يؤمنون به -نسأل الله العافية-. وفي صحيح البخاري أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه وهو جالس معهم: (إن رجلاً من أهل الجنة يستأذن ربه بالزرع، يقول: يا رب! أريد أن أزرع، فيقول الله جل وعلا له: ألم أكن أغنيتك مما تطلب؟ فيقول: بلى يا رب، ولكن أريد أن أزرع، فيقول الله جل وعلا: نعم فازرع، فيزرع فينبت الزرع ويستوي حتى تكون الحبوب أمثال الجبال، ثم يقول الله جل وعلا له: دونك يا بن آدم، فإنه لا يملأ بطنك شيء، عند ذلك قال أعرابي جالس عند النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! هذا الرجل إما من المهاجرين أو من الأنصار، أما نحن فلسنا أصحاب زرع، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم). والمقصود من هذا: أن آحاد أهل الجنة يخاطب ربه إذا شاء، ويخاطبه الله ويكلمه بلا واسطة، وفي الصحيحين من حديث عدي بن حاتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه بلا ترجمان) كل واحد يكلمه ربه جل وعلا عند المحاسبة فيقول: يا فلان ألم تعمل كذا وكذا؟ ألم تعمل كذا وكذا؟ أشياء كثيرة جداً، كيف نترك ما جاء به رسولنا صلى الله عليه وسلم، ونأخذ قول الذين تربوا في أحضان اليهود، أو تلقوا علومهم من اليونان، أو من حكماء الهنود، أو من الصابئة والزنادقة، والله ما يفعل هذا إلا من ضل سعيه في هذه الحياة الدنيا -نسأل الله العافية-، ولو ذكرنا بعض الأشياء التي تدل على أوصاف الله جل وعلا لطال الكلام جداً، ولكن المقصود التنبيه فقط، وأن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يتقبلون هذه الخطابات بدون استفسار أيضاً؛ لأنهم مقتنعون بها تماماً، ولم يأت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا تعتقدوا ظواهر هذه النصوص أبداً، ومن المعلوم قطعاً عند كل مسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقر الأمة على ما ظاهره الباطل أو الكفر. وقد جاء في السنن والمسانيد والأحاديث الصحيحة الشيء الكثير من تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لأمته آداب الأكل وآداب قضاء الحاجة، وآداب دخول الحمام، وآداب النوم، وآداب دخول البيت، وآداب المشي، وآداب الجلوس، جاءت في أحاديث صحيحة كثيرة، يعلمنا إياها صلوات الله وسلامه عليه، ولهذا قال يهودي مخاطباً أحد الصحابة: إن نبيكم يعلمكم كل شيء حتى الخراءة، يعني: قضاء الحاجة، حيث يقول: (إذا ذهب أحدكم لقضاء الحاجة فليستجمر بثلاثة أحجار، ولا يستجمر بعظم ولا بروث)، فذهب هذا الصحابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له هذا القول، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أجل إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم كل ما ينفعكم) هل يتصور أحد أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلمنا هذه الآداب التي لو تركها المسلم ما كان عليه ذنب ولا عقاب، مثل: أدب الأكل أو الجلوس أو المشي، وأدب دخول المنزل، والنوم، ودخول الحمام، فهل يعلمنا هذا ويترك معرفة الرب جل وعلا لا يعملنا إياه، وهو أصل الإيمان وأساس الدين؟ هذا لا يجوز أن يعتقد أصلاً، ومن اعتقد هذا فلم يشهد للنبي صلى الله عليه وسلم بالبلاغ.

لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم تقسيم النصوص إلى ظاهر وباطن

لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم تقسيم النصوص إلى ظاهر وباطن قال الشارح رحمه الله: [وتأمل ما في هذه الأحاديث الصحيحة من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ربه، بذكر صفات كماله على ما يليق بعظمته وجلاله، وتصديقه اليهود فيما أخبروا به عن الله من الصفات التي تدل على عظمته، وتأمل ما فيها من إثبات علو الله تعالى على عرشه، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم في شيء منها: إن ظاهرها غير مراد، وإنها تدل على تشبيه صفات الله بصفات خلقه، فلو كان هذا حقاً بلغه أمينه أمته، فإن الله أكمل به الدين، وأتم به النعمة، فبلغ البلاغ المبين صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم إلى يوم الدين]. وكذلك مسألة علو الله على خلقه، فهذه من المسائل الكبار التي خالف فيها هؤلاء المتكلمون، وسموا بالمتكلمين؛ لأن دينهم في الحقيقة الكلام، والجدل، ويسمون كلامهم توحيداً، وهو في الحقيقة شكوك وظنون وشبه، أما التوحيد فهو في كتاب الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، فأنكروا أن يكون الله عالياً على خلقه، مع أن أحد العلماء استخرج من كتاب الله ما يقرب من ألف دليل على علو الله، وعلو الله مفطور عليه الإنسان، فإنه لا يمكن لإنسان أن يدعو ربه ويقول: يا رب إلا ويجد في نفسه دافعاً يدفعه إلى أن يطلب ربه من فوق، وهذا شيء خلقه الله جل وعلا في الأنفس، وهو مستقر فيها، لا ينكره إلا مكابر، أما أدلة الكتاب والسنة على ذلك فأكثر من أن تحصى، وسبق أن ذكرنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم سأل أصحابه في آخر حياته صلوات الله وسلامه عليه فقال: (إنكم مسئولون عني، فماذا أنتم قائلون؟ فقالوا: نشهد أنك بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، فصار يرفع أصبعه إلى السماء ثم ينكسها عليهم، ويقول: اللهم اشهد، اللهم اشهد) إشارة إلى أن ربهم في السماء جل وعلا، وفي صحيح مسلم: (أن معاوية بن الحكم السلمي قال: كانت لي جارية -يعني: مملوكة- ترعى لي غنماً عند أحد، فاطلعت عليها يوماً فوجدت الذئب قد أخذ شاة منها، فغضبت فصككتها في وجهها، ثم ندمت، وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون، فذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! إنه حدث مني كذا وكذا؛ فعظم الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك، فقلت: يا رسول الله! أفلا أعتقها؟ قال: ائتني بها، يقول: فذهبت فجئت بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها: أين الله؟ فأشارت بيدها وقالت: في السماء، فقال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، فقال: اعتقها فإنها مؤمنة)، حكم الرسول صلى الله عليه وسلم على أنها مؤمنة بقولها: الله في السماء، مع قولها: أنت رسول الله، وهذا يوافق قول الله جل وعلا: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} [الملك:16] من الذي يخسف بنا الأرض؟ {أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} [الملك:17] و (في) هنا المقصود به: العلو، أي: أأمنتم من في العلو من فوقكم، وليس (في) هنا ظرفية، إلا أنه يجوز أن تكون (في) هنا بمعنى (على)، أي: أأمنتم من على السماء؛ لأن (في) تأتي بمعنى (على) كما قال الله جل وعلا في قصة فرعون: {َلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:71]، وليس المقصود أن يدخلهم في جذوع النخل، بل يصلبهم فوقها، ويقول الله جل وعلا: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ} [الأنعام:11] هل المقصود يدخلون في باطن الأرض؟ أبداً، بل يسيرون عليها. فالمقصود أن (في) تأتي بمعنى (على)، فإما أن يقال هنا: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} (في) بمعنى (على)، أو يقال: إن السماء المقصود بها العلو، وهذا حق، ويقول الله جل وعلا في قصة عيسى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:55]. ويقول الله جل وعلا في كتابه: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج:4]، ويقول: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10]، ويقول: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ} [الزمر:1] ينزل الوحي من السماء، والأدلة كثيرة جداً لا حصر لها، {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54]، وسبق لنا أن العرش هو أعظم المخلوقات وأكبرها، وليس فوق العرش شيء من المخلوقات أصلاً، ما فوقه إلا الله جل وعلا، فما أكثر أدلة علو الله جل وعلا، تقول زينب رضي الله عنها -وهي تفتخر على أزواج النبي- (زوجكن أهاليكن، وأنا زوجني الله من فوق سبع سماوات)، وعلو الله ثابت حتى في كلام أهل الجاهلية.

الصحابة تلقوا صفات الله بالقبول

الصحابة تلقوا صفات الله بالقبول قال الشارح رحمه الله: [وتلقى الصحابة رضي الله عنهم عن نبيهم صلى الله عليه وسلم ما وصف به ربه من صفات كماله ونعوت جلاله، فآمنوا به وآمنوا بكتاب الله، وما تضمنه من صفات ربهم جل وعلا كما قال تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:7]، وكذلك التابعون لهم بإحسان وتابعوهم، والأئمة من المحدثين والفقهاء، كلهم وصف الله بما وصف به نفسه، ووصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يجحدوا شيئاً من الصفات، ولا قال أحد منهم: إن ظاهرها غير مراد، ولا أنه يلزم من إثباتها التشبيه، بل أنكروا على من قال ذلك غاية الإنكار، فصنفوا في رد هذه الشبهات المصنفات الكبار المعروفة الموجودة بأيدي أهل السنة والجماعة].

علو الله تعالى وأدلته

علو الله تعالى وأدلته قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن مسعود قال: (بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كل سماء خمسمائة عام، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش لا يخفى عليه شيء من أعمالكم) أخرجه ابن مهدي عن حماد بن سلمة عن عاصم عن زر عن عبد الله].

أدلة علو الله في القرآن

أدلة علو الله في القرآن المقصود بهذا الأثر الاستدلال به على علو الله على خلقه، والنصوص في علو الله جل وعلا كثيرة جداً، حتى لو تتبعتها في كتاب الله ما حصرتها بأفرادها، وإنما بأنواعها، ولهذا يذكرها العلماء أنواعاً في كتاب الله. فمن أنواعها: كون الله جل وعلا أخبر في آيات كثيرة أنه أنزل الكتاب على عبده، وأنزل الكتب على رسله، فالإنزال لا يمكن أن يكون إلا من فوق إلى أسفل، وكلها جاءت بهذا اللفظ، وهذا نوع من الأنواع، وأفراده كثيرة، فلو تتبع الإنسان ما في القرآن من لفظ التنزيل الذي يخبر الله جل وعلا أنه فعله تنزيلاً من عنده لوجده كثيراً. ومن أنواعها: الإخبار بأنه جل وعلا في السماء، كما قال جل وعلا: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك:16 - 17] وهذا أيضاً جاء كثيراً، والسماء المراد بها: العلو الذي فوق، فكل ما علاك يسمى سماء كما قال الله جل وعلا: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ} [الحج:15] والمقصود بهذا: من كان يتوقع أن الله لا ينصر رسوله، ويترقب هذا ويترصد؛ فليضع حبلاً في السقف، ثم ليضعه في حلقه، ثم ليقتل نفسه، فإن الله لا بد أن ينصر عبده ورسوله. فالمقصود من السماء العلو، وليس المراد بفي الظرفية مثل ما يقال: الماء في الكوز، والماء في الإناء. ومن أنواع الأدلة على علو الله: الإخبار بأنه القاهر فوق عباده، وأنه فوق خلقه، وقد جاء هذا في آيات متعددة، كالتصريح بالفوقية. ومن أنواع الأدلة في كتاب الله على العلو أيضاً: أنه يذكر بعد خلق السماوات والأرض استواءه على عرشه، مرتباً الاستواء على الخلق بكلمة (ثم) التي تقتضي الترتيب مع التراخي، كما قال جل وعلا: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54]، وجاء هذا في سبعة مواضع من كتاب الله بهذا الأسلوب، بكلمة (ثم) مرتبة على خلق السماوات والأرض. ومن أنواع الأدلة: أنه يذكر جل وعلا أن من عباده من هو عنده: {فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ} [فصلت:38]، والعندية تقتضي التميز والعلو والارتفاع عن خلقه جل وعلا، وأنواع أخرى كثيرة جداً.

أحاديث رسول الله تثبت العلو

أحاديث رسول الله تثبت العلو توجد أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرة تدل على علو الله، فمنها: الإشارة الحسية إلى أن الله فوق، سؤالاً وفعلاً وقولاً من الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد صح في صحيح مسلم وغيره أنه سأل الجارية: (أين الله؟ فقالت: في السماء) فحكم عليها بعد ذلك بأنها مؤمنة، وكذلك كونه صلى الله عليه وسلم سأل الناس فقال: (أنتم مسئولون عني، فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد بإنك قد بلغت، فصار يرفع أصبعه إلى السماء ثم ينكسها عليهم ويقول: اللهم اشهد، اللهم اشهد) أي: اشهد عليهم أنهم شهدوا لي. ومنها: التصريح بقوله صلى الله عليه وسلم كما في الرقية: (ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض كما أن رحمتك في السماء، أنزل رحمة من رحمتك، وشفاء من شفاءك على هذا الوجع) هكذا كان يرقي صلوات الله وسلامه عليه بعض أهله. وكذلك كونه صلى الله عليه وسلم يصرح بأن الله ينزل إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الآخر، وكذلك يوم عرفة، وغير ذلك من أنواع شتى كثيرة جداً. وقد قال العلماء: إن اتصاف الله بالعلو دل عليه العقل ودلت عليه الفطرة، مع الكتب المنزلة، وما جاء به الرسول، وكلها متضافرة عليه، فإنكارها إنكار لما عرف بالضرورة، فمن أنكر علو الله على خلقه يكون منكراً لشرع الله، ولفطرة الله التي فطر عليها الخلق، ولدينه الذي أرسل به الرسل.

العقل يدل على علو الله

العقل يدل على علو الله العقل يدل على علو الله العلماء: إن الله هو الخالق للسماوات والأرض، والإنس والجن، وكل شيء، وهذا أمر لا يُشك فيه، وكل مخلوق له خالق مدبر هو الله، فقالوا: عندما خلق الله المخلوقات لا يخلو الأمر من تقديرات: أحدها: أن يقدر أنه خلق المخلوقات في ذاته تعالى وتقدس، ومن اعتقد هذا فهو كافر، وهذا التقدير باطل قطعاً، أما التقدير الثاني: فهو أنه خلق المخلوقات خارج ذاته، فإذا كان ذلك فلا يخلو الأمر؛ إما أن يكون تحت المخلوقات، أو مخالطاً لها، أو فوقها، وكونه تحتها أو مخالطاً لها باطل قطعاً؛ لأنه بهذا يساوي الخلق ويماثلهم في الوجود في المكان، فإذا: لا بد أن يكون فوق خلقه، وهذا نوع من الأدلة العقلية، وهناك أنواع أخرى عقلية ذكروها.

الفطرة تدل على علو الله

الفطرة تدل على علو الله مما يدل على علو الله الفطرة، فالإنسان مفطور على دعوة ربه في العلو، فإذا دعا الإنسان ربه رفع يديه إلى السماء وقال: يا رب يا رب، ولا يلتفت لا يمين ولا شمال ولا تحت، فإذاً: هذه فطرة فطر الله جل وعلا عليها خلقه. وبقي سؤال وهو: ما حكم الذي ينكر علو الله؟ وما شبهته؟ وهل لهم دليل؟ هم في الواقع اعتاضوا عن كتاب الله وعن أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم بعقولهم، ولن تستقل العقول بمعرفة الله، مع أن الأصل الذي اتفق عليه علماء الأمة، من الذين لهم مقام صدق، ولهم لسان صدق عند الناس، أنه لا يثبت لله جل وعلا من الأوصاف والأفعال إلا ما أثبته لنفسه، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم. أما ما يقوله الناس، فإنه يجب أن يعرض على كتاب الله وعلى أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، فما وافق كتاب الله وسنة رسوله قبل، وما خالفهما رد على صاحبه مهما كان مقام وعلم هذا القائل.

إثبات رؤية الله يوم القيامة

إثبات رؤية الله يوم القيامة الله جل وعلا غيب لم يره أحد، ولم يطلع عليه أحد فيصفه، ولو أمكن لأحد أن يراه لرآه أفضل الخلق وخاتم الرسل محمد صلوات الله وسلامه عليه، فإن الله عرج به -وهذا أيضاً من أنواع الأدلة على العلو- إلى السماء السابعة، بل إلى سدرة المنتهى -وسدرة المنتهى في السماء السابعة- ثم أوحى إليه ما أوحى جل وعلا، والذي جاءنا صريحاً أنه أوحاه إليه الصلاة، ففرض عليه الصلوات الخمس هناك، ولم ير صلى الله عليه وسلم ربه في ذلك المقام، فقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: هل رأيت ربك؟ -يعني: في المعراج- فقال: (رأيت نوراً) -وفي رواية- (رأيت ناراً) -وفي رواية- (نور أنى أراه؟)) يعني: لا أستطيع رؤيته. وكذلك أخبرنا ربنا جل وعلا عن كليمه -الذي كلمه بلا واسطة، وسمع كلامه- موسى عليه السلام، حيث كلمه الله جل وعلا وهو على عرشه عالياً على خلقه، وموسى بالأرض، فكلمه فسمع كلامه، وخاطبه، ثم طمع في أن يرى ربه، فقال: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ}؛ فقال له جل وعلا: {لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143] يقول علماء التفسير: تجلى الله جل وعلا للجبل شيئاً قليلاً جداً، فما استطاع الجبل الثبات لرؤية الله. وفي الصحيح عن أبي موسى الأشعري قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات فقال: إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) وسبحات الوجه: بهاؤه ونوره وجماله جل وعلا، فلو كشف للخلق هذا النور لاحترقوا عن آخرهم. فالمخلوقات في هذه الحياة الدنيا لا تقوى على مشاهدة الله جل وعلا، ولكن المؤمنين يوم القيامة يرون ربهم؛ لأن تركيبهم يتغير، فيصبح تركيباً كاملاً لا يقبل الموت، ولا يقبل النقص، فيثبتون لرؤية الله، بل تكون الرؤية هي أعلى نعيمهم في الجنة. ورؤيته تعالى تكون في الجنة، ويرونه أيضاً في الموقف كما جاء صريحاً في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة وحديث أبي سعيد الخدري الطويل الذي فيه ذكر الشفاعة، وأن الله جل وعلا بعد الشفاعة يأتي للفصل بين خلقه، فيخاطب خلقه كلهم، فيقول جل وعلا: (أليس عدلاً مني أن أولي كل واحد منكم ما كان يتولاه في الدنيا؟ فيقولون: بلى يا رب) ومعنى (يتولاه في الدنيا) يعني: يتخذه ولياً يدعوه ويرجوه ويسأله ويتضرع إليه، فالذي يتولى الله يكون الله وليه، والذي يتولى صاحب القبر يكون صاحب القبر هو وليه، والذي يتولى الصنم يكون وليه. وذكر صلى الله عليه وسلم أن الله جل وعلا يمثل لهم ما كانوا يعبدونه في الدنيا، فالذين كانوا يعبدون الأصنام تأتي أصنامهم بأعيانها، والذين كانوا يعبدون عيسى وعزيراً ومريم والأولياء تأتي شياطين بصورهم، والذين كانوا يعبدون الشمس والقمر تأتي الشمس والقمر، فإذا اجتمعت لديهم يقول الله جل وعلا: اتبعوهم فهؤلاء أولياءكم، فيتبعوهم، فيذهب بهم إلى النار فيلقون فيها، يلقى أتباعهم خلفهم، قال الله جل وعلا: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأنبياء:98 - 99] لما نزلت هذه الآية قال مشرك من المشركين: الآن سأفحم محمداً -يعني: أغلبه في الحجة- فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: نحن نعبد الملائكة، والنصارى يعبدون عيسى وأمه، فالملائكة وعيسى وأمه يكونون في النار، فجاء الوحي من الله جل وعلا وأنزل عليه: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ} [الأنبياء:101 - 102] إلى آخر الآيات، وقد أخبر الله جل وعلا عن هذا في القرآن، وأنه إذا حشر الناس إلى يوم القيامة، خاطب الملائكة قائلاً: {أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} [سبأ:40] فيقولون: {سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ:41] فهم الذين زينوا لهؤلاء تلك العبادة. المقصود: أنه لا يجوز أن نصف الله جل وعلا إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، أما كوننا نستدل على علو الله بالعقل وبالفطرة؛ لأنهما اتفقا مع الشرع، وإلا فإنه لا يجوز أن يكون العقل مستقلاً -وكذلك الفطرة- في دليل لا يشارك الشرع فيه، فنحن كلفنا بالوحي الذي أنزله الله جل وعلا على رسوله؛ ولذلك فكل إنسان أول ما يوضع في قبره يأتيه ملكان عظيمان، مع كل واحد منهما مطرقة من حديد لو ضرب بها جبل لانهد، فيجلسانه، وترد عليه روحه، ويكون كهيئته في الدنيا، فيسألناه فيقولان له: ما كنت تعبد؟ وبأي دين كنت تتعبد؟ ومن الذي جاءك بهذا الدين؟ هذه الأسئلة الثلاثة لا بد منها لكل واحد كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه الأصول الثلاثة التي يجب على كل مسلم ومسلمة أن يتعلمها، فيتعلم أمور العبادة، ويتعرف على ربه سبحانه وتعالى، ورسوله الذي يأخذ الدين من طريقه؛ لأن كل عبادة لم يأت بها الرسول فهي باطلة مردودة؛ لأنها بدعة، والبدع ضلال، قال الله جل وعلا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية:2 - 4] يقول العلماء: هم أهل البدع الذين يتعبدون الله بالبدع، فيتعبون وينصبون، ويبكون ويخشعون، والنتيجة أنهم يصلون النار، لأنهم تعبدوا بغير دين الله الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء هم: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:104]. فالمقصود: أن الدين -سواء كان عقيدة أو عملاً- لا يؤخذ إلا من الكتاب والسنة، وأما صفات الله فلا دخل للعقل فيها. لهذا يقول علماء أهل السنة في عقائدهم: اتفق العلماء على أن أوصاف الله توقيفية، أي: تتوقف معرفتها على ما في النصوص فقط.

وجوب الإيمان بالصفات الثابتة في الكتاب والسنة

وجوب الإيمان بالصفات الثابتة في الكتاب والسنة يجب على الإنسان أن يثبت كل ما أثبته الله جل وعلا لنفسه في كتابه، وفي أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم من الصفات، فلو ترك المسلمون على فطرهم لما شكوا فيها، فإذا سمعوا قول الله جل وعلا: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67] إذا سمعوا هذا اعتقدوا أن الله يقبض مخلوقاته إذا شاء، وأنه يطوي السماوات والأرضين وجميع الخلق بيده، وكذلك إذا سمعوا قول الله جل وعلا: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] اعتقدوا أن لله يدين يبسطهما بالعطاء وبالنعم وبالفضل على من يشاء من خلقه. وكذلك إذا سمعوا قوله جل وعلا في مخاطبته لإبليس: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] اعتقدوا أن لله يدين، وكذلك إذا سمعوا أن الله سميع بصير اعتقدوا أن له السمع والبصر، كقوله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة:1] هذه الآية نزلت بسبب امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فدخلت عليه وهو في بيت عائشة -أي: في غرفتها، لأن بيت عائشة عبارة عن غرفة واحدة، وكل بيوت زوجات النبي صلى الله عليه وسلم عبارة عن غرفة واحدة-، قالت عائشة: لقد جاءت المجادلة وإني في طائفة البيت، والله إنه يخفى عليّ بعض كلامها، فأنزل الله جل وعلا: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} يعني: كونها تحاور الرسول صلى الله عليه وسلم حول مظاهرة زوجها لها، والظهار كان معروفاً في الجاهلية، فحرمه الله جل وعلا في الإسلام، وأثبت فيه أحكاماً، وهو أن يشبه زوجته بظهر أمه أو بيد أمه أو ببطن أمه أو بظهر أخته، أو بظهر بنته، فيشبهها ببعض محارمه التي تحرم عليه على الأبد، فمن شبهها بذلك فقد ارتكب محرماً، ولا يجوز له أن يقربها حتى يكفر، والظهار كان طلاقاً في الجاهلية، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إنه رجل كبير وفقير، ولي أولاد منه، فكيف أصنع بهم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (لا أراك إلا قد حرمت عليه)، فصارت تقول: اللهم إليك أشكو صبية إن ضممتهم إليّ جاعوا، وإن تركتهم عنده ضاعوا، فأنزل الله جل وعلا الحكم في ذلك بالكفارة فقال: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة:2] إلى أن قال: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة:3] إلى آخر الآية، فلا بد أن يحرر رقبة، فإن لم يجد {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة:4] فهذه الكفارة التي نزلت في الظهار هي قبل أن يمسها أو يقربها فلا بد أن يكفر. فالمقصود: أن الله جل وعلا سمع قول هذه المرأة وهو فوق عرشه، فأنزل قوله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ} [المجادلة:1] فالمسلمون يعتقدون أن الله سميع بصير، وأنه لا يخفى عليه شيء، فسمعه يسع كل صوت وإن دق، يسمع دبيب النملة على الصخرة الصماء في ظلمة الليل. وكذلك يعتقدون أنه عليم بكل شيء، وأنه خبير بكل شيء، ويعتقدون أنه لا يخفى عليه شيء -تعالى وتقدس- فلماذا يراد منهم ما لا يعتقدونه؟

نفي أهل البدع لصفات الله الثابتة بشبه مضلة

نفي أهل البدع لصفات الله الثابتة بشبه مضلة جاء أهل الضلال فقالوا: لا يجوز أن نعتقد أن الله مستوٍ على العرش؛ لأن الذي يكون فوق العرش جسم في جهة، كما قالوا: لا يجوز أن نعتقد أن الله يتكلم؛ لأننا ننزه الله عن التشبيه؛ لأن الكلام لا يكون إلا لمن له لسان ولهاة وحنجرة وشفتان، والكلام له مقاطع، وله مبدأ وله آخر، وإذا قلنا: إن الله يتكلم، فيلزمنا أن الحوادث تحل به -تعالى وتقدس-. فالجواب أن نقول لهؤلاء الضلال -الذين أرادوا أن يلبسوا على المسلمين، وأن يشككوهم في ربهم- كلمة جسم من أين أتيتم بها؟ هذه كلمة مبتدعة لا وجود لها في كتاب الله ولا في أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، لا نفياً عن الله ولا وصفاً له بها، فنردها عليكم، ونثبت ما أثبته الله لنفسه، وأثبته له رسوله، ولا نقول كما تقولون، ولسنا بحاجة إلى ذلك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبلغنا ذلك. وأما إذا أردنا التفصيل والجدال فنقول: ماذا تريدون بالجسم؟ فأنتم تختلفون في تعريفه، فهل تريدون بالجسم: البدن المكون من اللحم والدم والعظام؟ إذا كنتم تريدون هذا فالله يتعالى عن ذلك ويتقدس، وهذا تكلف ما جاءنا به كتاب ولا سنة، ولكن جاءنا قوله جل وعلا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، فهذا الذي تعرفونه أنتم من أنفسكم نعتقد أنه تشبيه، حيث شبهتم الله في أذهانكم أولاً، ثم نطقتم بنفيه، أما أهل الحق فلا يعتقدون هذا، وإن اعتقدتم أن الجسم يشغل مكاناً؛ فنحن نعتقد أن الله فوق، وأنه مستو على عرشه، وأنه أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء؛ لأن نصوص الشرع جاءت بهذا، والرسول صلى الله عليه وسلم قد أشار إليه، والله أخبرنا أنه ينزل متى يشاء، وأخبر أنه يجيء يوم القيامة لفصل القضاء بين خلقه، فلا يجوز أن يترك كتاب الله وشرعه ورسالة رسوله صلى الله عليه وسلم لقول هؤلاء المبطلة المعطلة الضلال، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا. أما مسألة الكلام فنقول: هل المخلوق الذي يتصف بالكلام أكمل ممن لا يستطيع أن يتكلم أو أنقص؟ أليست صفة الكلام صفة كمال؟ فالله جل وعلا قد عاب على قوم موسى عليه السلام حينما عبدوا العجل وهو لا يملك لهم ضراً ولا نفعاً، ولا يملك لهم قولاً، فلا يخاطبهم إذا خاطبوه، ولا يجيبهم إذا سألوه. فدل هذا على أن صفة الكلام صفة كمال وليست صفة نقص، هذا في كلام المخلوق، والله جل وعلا قد أعلمنا أنه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، وأن كلامه لا يشبه كلام الخلق، كما أن ذاته جل وعلا لا تشبه ذوات المخلوقات، وأخبرنا أنه يتكلم، وأنه أرسل الرسل بالشرع الذي يوحيه إليهم، ويخاطبهم به، وأنه يخاطب خلقه، وأنه يحاسبهم، فنفي هذا كفر بالله جل وعلا، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (أعرف حجراً في مكة كان يسلم عليّ) يقول: السلام عليك يا رسول الله. حجرٌ أصم يخاطبه خطاب فصيح عربي ويقول: (السلام عليك يا رسول الله) كلما مر عليه، فكلما مر على هذا الحجر سلم عليه. وثبت أنه صلوات الله وسلامه كان يخطب في مسجده على جذع نخلة يابس اتخذه منبراً له، كما أنه اتخذ سواري المسجد من جذوع النخل، هكذا كان مسجده، بنى سواريه بجذوع النخل اليابس، فجذع النخل يجعله سارية، وسقف المسجد من جريد، وإذا جاء المطر نزل عليهم، ويسجد صلوات الله وسلامه عليه أحياناً في الماء والطين، فيظهر أثر الماء والطين في جبهته صلوات الله وسلامه عليه، كما ثبت في الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري يقول: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبرنا بليلة القدر، فتلاحا رجلان -يعني: تجادل رجلان- فرفعت، فقال صلى الله عليه وسلم: خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحا فلان وفلان، فرفعت، وعسى أن يكون خيراً، وقد رأيتني صبيحتها أسجد في ماء وطين)، يقول أبو سعيد الخدري: وكان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مسقوفاً بجريد النخل، فجاء المطر ليلة إحدى وعشرين من رمضان فوكف سقف المسجد، فرأيت أثر الماء والطين في جبهة رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحة تلك الليلة؛ ولهذا كان أبو سعيد يقول: إن ليلة القدر هي ليلة إحدى وعشرين استناداً إلى هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. فالمقصود أنه كان صلوات الله وسلامه عليه يخطب على جذع نخلة يابس، ثم فيما بعد أمر نجاراً أن يصنع له منبراً، فصنع له منبراً من طرفاء الغابة، فترك ذلك الجذع وصار يخطب على هذا المنبر، فأول ما صعد على هذا المنبر للخطبة وترك الجذع سمع الحاضرون الذين في المسجد حنين الجذع، فصار يحن مثل حنين الناقة إذا فقدت ولدها، حتى نزل صلوات الله وسلامه عليه من على منبره والتزمه فهدأ، وقال: (لو تركته لبقي يحن إلى يوم القيامة)، يحن على الوحي الذي فقده، وكان يُتلى عليه، فعلى ذكر الله وآياته يحن. فهذا جذع جماد يابس له صوت، فكيف يقول هؤلاء: إذا أثبتنا الكلام لله أثبتنا التشبيه؟ تعالى الله وتقدس، فالله ليس كمثله شيء، فكلامه لا يشبه كلام الخلق، وكلامه لا يتطلب ما تقولون، فالكلام الذي يتطلب ما تقولون هو كلامكم، كلام الآدميين وكلام المخلوقين، فهذا دليل على أنهم مشبهة، وأنه ارتسم عندهم التشبيه أولاً، ثم صاروا ينفونه بالتعطيل. وعلى كل حال فالإنسان مسئول عما أنزله الله إليه في كتابه، وما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم، ليس عن فلان وفلان، وهذه عقيدة الأمة التي سلكت طريق الصحابة وأتباعهم، يصفون الله جل وعلا بما وصف به نفسه وما وصف به رسوله، فكل ما أثبته الله جل وعلا لنفسه أو أثبته له الرسول يُثبتونه، لا يحرفون، ولا يعطلون، ولا يكيفون، ولا يشبهون ولايمثلون، تعالى الله وتقدس؛ فإن الله ليس كمثله شيء، ولكن يثبتون ما أثبته لنفسه، فكل ما جاء موصوفاً به الرب جل وعلا يجب أن يثبت له، ولا يُلتفت لقول هؤلاء. ونزيد هذا ونقول: إن الله جل وعلا أخبرنا أنه يخاطب الجلود، وأنها تتكلم يوم القيامة، ويخاطب الأسماع والأبصار، وأن السمع والبصر يتكلم، وكذلك الأيدي، فقد أخبر جل وعلا أنه يختم على أفواه قوم، وأنها تتكلم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، فالأيدي والأرجل تتكلم، فيقال لهم: أخبرونا كيف تتكلم الأيدي والأرجل فأنتم تؤمنون بهذا؟ وحينئذ لابد لهم من التسليم للوحي. أقول: إذا ثبت هذا في المخلوقات بدون أن يكون لها فم ولسان وشفتان، فكيف يشترط في كلام الله وجود هذه الأشياء؟!! وكل ما قالوه من هذا النوع باطل، وبعضه بطلانه ظاهر جداً؛ ولهذا صاروا يردون الكتاب والسنة رداً صريح، ويقولون: ما نقبل هذا، وما نقبل إلا عقولنا، فهل الله يسألكم عن عقولكم، أو يسألكم عما أرسل به رسوله صلوات الله وسلامه عليه؟ فسوف ترون عاقبة أمركم يوم تقفون بين يدي الله جل وعلا.

شرح فتح المجيد [138]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [138] إن مما يجب على العبد المسلم أن يؤمن بصفات الله وأسمائه، فيثبت ما أثبته الله تعالى لنفسه، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك صفة علو الله تعالى على خلقه، وهذا أمر قد تضافرت النصوص على إثباته، بالإضافة إلى دلالة العقل والفطرة التي فطر الله تعالى عليها خلقه، فلا يخالف في ذلك إلا ضال، حرمه الله من إدراك الحق اليقيني.

فوقية الله عز وجل واستواؤه على العرش

فوقية الله عز وجل واستواؤه على العرش قال الشارح رحمه الله تعالى: [قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى: وهذا كتاب الله من أوله إلى آخره وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلام الصحابة والتابعين وكلام سائر الأئمة مملوءة كلها بما هو نص أو ظاهر أن الله تعالى فوق كل شيء، وأنه فوق العرش فوق السموات مستوٍ على عرشه، مثل قوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10]، وقوله تعالى: {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:55]، وقوله تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:158]، وقوله تعالى: {ذِي الْمَعَارِجِ * تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج:3 - 4]، وقوله تعالى: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة:5]، وقوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:50]، وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ} [البقرة:29]، وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54]، وقوله: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} [يونس:3]، فذكر التوحيدين في هذه الآية]. المقصود بالتوحيدين توحيد الأسماء والصفات، وتوحيد العبادة -توحيد التأله-، وهذا هو أعظم ما جاءت به الرسل، وأوجب ما يجب على الإنسان أن يفعله، والله جل وعلا لا يقبل من العبد حتى يوحد، وسمي توحيد الأسماء والصفات لأن الله يختص به وحده لا يشاركه فيه أحد غيره -تعالى وتقدس- فهذه الصفات خاصة به جل وعلا، وكل صفة يتصف بها لا يشاركه فيها خلقه، وإن شاركوه في اللفظ أو في مجرد التسمية أو المعنى العام من بعيد، ولكن إذا أُضيف الشيء لله فهو خاص به، ولا يجوز أن يكون خلقه مشاركين له، فعلوّه خاص به جل وعلا، ولا يمكن أن يكون شيء من الخلق فوقه.

أقسام صفات الله تعالى

أقسام صفات الله تعالى قال العلماء: إن صفات الله تنقسم إلى قسمين: صفة تسمى ذاتيه، أعني: صفة ذات تتعلق بذاته، ولا تنفك عنه في حال من الأحوال، مثل الحياة، ومثل العلم، ومثل السمع، ومثل البصر. وصفة فعلية مثل الخلق، والرزق، والإحياء، والإماتة، أي: الشيء الذي يتعلق بمشيئته، فإذا شاء أن يفعله فعله، وإذا شاء ألا يفعله لا يفعله، فهذا سموه صفة فعل. قالوا: وعلو الله من النوع الأول، أي: من صفات الذات، فذاته لا يجوز أن تكون تحت شيء من خلقه أصلاً؛ لهذا إذا جاء إلى الأرض يوم القيامة للفصل بين خلقه يأتي وهو فوق كل شيء، وقد علمنا كما ذكر لنا ربنا جل وعلا في هذه الآية أنه يقبض السموات كلهن بمن فيهن بيده، فتكون صغيرة حقيرة بالنسبة إليه تعالى وتقدس، كما قال جل وعلا: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67]. وسبق أن ذكرنا أن ابن عباس يقول في هذه الآية: السماوات والأرض كلها بيمينه. فهو يرى أن هذه الآية خبر وحي، في قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67]، يعني: أنه يقبض الأرض ويقبض السماء بيمينه، ولهذا قال: (يقبض المخلوقات كلها بيده اليمنى وتكون شماله فارغة) هكذا قال، والسند إليه صحيح ثابت. وثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يتفق مع هذا القول، وفي غيره من أحاديث رسول صلى الله عليه وسلم، كحديث عبد الله بن عمر المتفق عليه وغيره. فإذاً لا يجوز أن يتصور متصور أن شيئاً من المخلوقات يمكن أن يساوي الرب جل وعلا، فكل المخلوقات بسمائها وأرضها بالنسبة إلى الله حقيرة صغيرة، فيجب على العبد إذا قال: (الله أكبر) أن يستشعر أنه أكبر من كل شيء تعالى وتقدس. والحديث الذي جاء في ذكر المسافات أن ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة سنة، جاء في بعض الروايات أن ما بين السماء والسماء مسيرة اثنتين أو ثلاث وسبعين سنة، وجاء قول الله جل وعلا: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة:5]. فهذه المسيرة ألف سنة بين الأرض وبين السماء، وقد يقول قائل: اختلفت النصوص هنا، فكيف يكون الجمع بين القولين في هذا؟ نقول: إن الاختلاف هنا هو اختلاف السير، فالسير قد يكون سريعاً وقد يكون بطيئاً، والله جل وعلا أصعد رسوله إلى السماء في ليلة واحدة، والصواب الذي دل عليه الحق أنه عُرج بجسده وروحه لا بروحه فقط كما يقوله البعض، قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء:1]، ثم عُرج به من هناك، والأحاديث في هذا متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. كذلك ثبت أنه إذا قبض العبد وخرجت فإن روحه يُصعد بها إلى السماء، وإنها كلما مرت على ملأ من الملائكة بين السماء والأرض إذا كانت صالحة سلموا عليها ودعوا لها، وإن كانت خبيثة لعنوها قبل أن تصل إلى السماء الدنيا، فإن كانت صالحة استفتح لها ففُتح لها باب في السماء الدنيا، ثم يُصعد بها إلى الثانية فيُستفتح لها فيُقال: من؟ فيُقال: فلان جيء به -يعني: روحه- فيفتحون له إلى السماء السابعة، فإذا وصل إلى السماء السابعة خاطبهم الله جل وعلا وقال: (اكتبوا كتابه في عليين، وأعيدوه إلى الأرض)، فيعيدونها إلى الأرض، وهذا كله يقع قبل أن يُدفن، أي: ما بين موته وتجهيزه والصلاة عليه ووضعه في قبره، فإذا وُضع في قبره أعيدت روحه إليه، وبعدها يوقف في القبر ويسأل، وهذا ثبتت فيه الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمسافات تختلف. أما ما يقوله الملاحدة اليوم من أنهم يغزون الفضاء، وأنهم أطلقوا صاروخاً إلى الفضاء، وأنهم كذا وكذا، وأنهم ذهبوا إلى كوكب كذا وكوكب كذا، فيسمون الفوق فضاءً، أي: ليس فيه شيء، ويزعمون أنه ليس فيه إلا هذه الكواكب التي يقولون: إنها تسبح. ويقولون: إذا صعدوا مسافة عالية أصبحوا لا يرون شيئاً، فلا يرون سماءً ولا أرضاً ولا شيئاً، وبهذا يستدلون على أنه ليس هناك سماء. ونقول: هذا كله باطل، فالسماء لا تُرى إلا إذا كان هناك شيء يعكسها فتُرى، أما إذا انعدم العاكس انعدمت الرؤية لشدة بعدها، فإذا أصبحت الأرض لا أثر لها، ولا تأثير لها في انعكاس الرؤيا فلا تُرى، فهم إذا أبعدوا في الصعود انعدم تأثير الأرض فانعدمت الرؤية، فأصبحوا لا يرون. ومعنى قولهم هذا: أنه ليس هناك سماء، والله جل وعلا يقول: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} [ق:6]، فهل يأمرنا جل وعلا أن ننظر إلى شيء عدم؟ كلا أبداً، فالسماء مبنية حقيقة، ولها أبواب لا تُفتح إلا لمن يشاء الله جل وعلا، وقد أخبر أن الكفار لا تُفتح أبواب السماء لأرواحهم ولا يدخلونها. فالمسافة التي ُذكرت إنما يكون اختلافها باختلاف السير، فإذا كان السير سريعاً كان التحديد أقل في الوقت، وإذا كان بطيئاً كان التحديد أكثر في الوقت فهذا هو الجواب عن اختلاف هذه النصوص.

النصوص الدالة على الاستواء وما ورد عن السلف في ذلك

النصوص الدالة على الاستواء وما ورد عن السلف في ذلك قال رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الرعد:2]]. (ترونها) هنا تكميل لما سبق، يقول جل وعلا: {بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الرعد:2]، واختلف المفسرون في رجوع الرؤية هل إلى السماء أو إلى العمد؟ والصواب أنها إلى السماء، فبعضهم يقولون: على عمد ما ترى، وهذا ليس بصحيح، وهي غير مقصود، بل الصحيح: أنها أمسكت السماء بدون أعمدة، فأنتم ترون أن السماء ثابتة أمسكت بقدرة الله جل وعلا، وتعرفون أنكم إذا أردتم أن تبنوا بناء لابد أن يعتمد على أعمدة، فالمقصود هنا: الإخبار عن قدرة الله جل وعلا، وهنا يقول: (ترونها) يعني: نرى السماء بدون أعمدة. قال رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {تَنزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:4 - 5]، وقوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا * الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان:58 - 59]، وقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ * يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة:4 - 5]، وقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد:4]، فذكر عموم علمه وعموم قدرته وعموم إحاطته وعموم رؤيته. وقوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك:16 - 17]، وقوله تعالى: {تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42]، وقوله: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر:1]، وقوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر:36 - 37]]. هذه الآية وجه الاستدلال بها هو أن موسى عليه السلام أخبر فرعون أن الله في السماء، وجاء بهذا في الشرع الذي جاء به إلى الناس، وكلفهم قبوله والإيمان به ولهذا قال فرعون -يلبس على الناس- لوزيره هامان: ابن لي صرحاً سأصعد فيه فأنظر هل موسى صادق أو كاذب. ولهذا قال: ((إني لأظنه كاذباً)) يعني: في الخبر تلبيس. وهكذا المجرمون يفعلون ويُقابلون الرسل بالتكذيب وأنهم جاءوا بما يخالف الواقع. قال الشارح رحمه الله: [وقد ذكر الأئمة رحمهم الله تعالى فيما صنفوه في الرد على نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة ونحوهم أقوال الصحابة والتابعين. فمن ذلك ما رواه الحافظ الذهبي في كتاب العلو وغيره بالأسانيد الصحيحة عن أم سلمة زوج النبي صلى الله وعليه وسلم أنها قالت في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] قالت: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإقرار به إيمان والجحود به كفر. رواه ابن المنذر واللالكائي وغيرهما بأسانيد صحاح]. معنى قولها: (الاستواء غير مجهول) أي: معلوم في اللغة، فمعلوم لغة أن الاستواء هو العلو على الشيء، والارتفاع على الشيء، ولا أحد يجهله. وأما قولها: (الكيف غير معقول) فالكيف المقصود به: كيفية الاستواء، وتعني به الهيئة التي كان عليها لما استوى. وهذا ما هو معقول، بل هذا يتطلب المشاهدة والرؤية، والرؤية غير واقعة، فالكيفية غير معلومة للخلق، ولا أحد يطلع عليها. وقولها: (والإقرار به إيمان) تعني: أن هذا جاء في الشرع، وتكاثر في الشرع، فإذا أقر به الإنسان فهو مؤمن بما جاء به من عند الله، وإنكاره كفر، وهكذا جاء عن الإمام مالك رضي الله عنه وعن شيخه ربيعة، كلهم قالوا هذا القول، وكذلك يُقال في جميع صفات الله جل وعلا. فلو قيل لك: كيف يده؟ نقول: اليد معلومة، وردت في الشرع فيجب الإيمان بها، أما الكيف فالكيف ما نعلمه؛ لأن الكيفية تتطلب المشاهدة والرؤيا، وهكذا السمع والبصر والرجل وغير ذلك، كلها نقول فيها هذا القول. قال رحمه الله تعالى: [وثبت عن سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى أنه قال: لما سئُل ربيعة بن أبي عبد الرحمن: كيف الاستواء؟ قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التصديق]. وهذا معناه أن الاستواء معلوم غير مجهول، والكيف غير معلوم، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التصديق والقبول، أي: نقول: إن هذا شيء ورد في الشرع فيجب علينا أن نقبله، والرسول بلغه عن الله جل وعلا، فلا يجوز أن نعترض عليه بشيء لا تدركه عقولنا، فعلينا أن نؤمن بظاهر النصوص على ما نتعارف عليه، أما الكيفية فنكلها إلى الله جل وعلا. قال الشارح رحمه الله تعالى: [وقال ابن وهب: كنا عند مالك فدخل رجل فقال: يا أبا عبد الله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] كيف استوى؟ فأطرق مالك رحمه الله وأخذته الرحضاء، وقال: (الرحمن على العرش استوى كما وصف نفسه، ولا يُقال: كيف؟ وكيف عنه مرفوع، وأنت صاحب بدعة، أخرجوه) رواه البيهقي بإسناد صحيح عن ابن وهب، ورواه عن يحيى بن يحيى أيضاً ولفظه قال: (الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة)]. معنى قوله: (وأخذته الرحضاء) الرحضاء: العرق، يعني: صار يتصبب عرقاً؛ لأن هذا أمر ليس بسهل، يسأله عن قوله تعالى: ((الرحمن على العرش استوى)) كيف استوى؟ والكيفية ما هي معروفة للناس حتى يسأل عنها، ولهذا أنكر عليه الإمام مالك رضي الله عنه وقال: أخرجوه. لأنه صاحب بدعة، فأخرجوه من مجلسه بعدما أجاب الجواب الصحيح السديد الذي يجب أن يكون أصلاً نتبعه ونسير عليه في كل شيء، قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول. يعني: ما هو معلوم للخلق، ولا يُعقل أنهم يعلمونه؛ لأنه أمر غيبي، ثم أخبر أن الإيمان بالاستواء واجب، وأن السؤال عن الكيفية بدعة، فما يسأل عنها إلا مبتدع، وهكذا يُقال في جميع صفات الله جل وعلا. قال الشارح رحمه الله تعالى: [قال الذهبي: فانظر إليهم كيف أثبتوا الاستواء لله، وأخبروا أنه معلوم لا يحتاج لفظه إلى تفكيك، ونفوا عنه الكيفية، قال البخاري في صحيحه: قال مجاهد: (استوى: علا على العرش)]. هذا تفسير (استوى) بأنه علا، وكذلك جاء تفسيره أيضاً بأنه صعد، وجاء تفسيره بأنه ارتفع، وجاء تفسيره بأنه استقر، أربعة ألفاظ فقط هي التي جاءت عن السلف في تفسيرهم للاستواء: العلو، والارتفاع، والصعود، والاستقرار. وكلها رويت بالأسانيد عن السلف، وهي بمعنى الاستواء، ولكن قد يكون إنسان عنده لفظ العلو أوضح من لفظ الاستواء، وآخر قد يكون عنده لفظ الصعود أوضح من لفظ الاستواء، فيفسرون بحسب حال السامع حتى يفهمونه. قال الشارح رحمه الله تعالى: [وقال إسحاق بن راهويه: سمعت غير واحد من المفسرين يقول (الرحمن على العرش استوى) أي: ارتفع. وقال محمد بن جرير الطبري في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] أي: علا وارتفع. وشواهده بأقوال الصحابة والتابعين وأتباعهم، فمن ذلك قول عبد الله بن رواحة رضي الله عنه: شهدت بأن وعد الله حق وأن النار مثوى الكافرينا وأن العرش فوق الماء طاف وفوق العرش رب العالمينا وتحمله ملائكة شداد ملائكة الإله مسومينا]. يقصد بالملائكة الشداد حملة العرش الذين أخبر الله جل وعلا أنهم يحملونه، وأخبر أنه من الملائكة من يحف بالعرش ويطوف به ويسبح لله جل وعلا، ويعبده، كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر:7]. قال الشارح رحمه الله تعالى: [وروى الدارمي والحاكم والبيهقي بأصح إسناد إلى علي بن الحسين بن شقيق قال: سمعت عبد الله بن المبارك يقول: نعرف ربنا بأنه فوق سبع سماواته على العرش استوى، بائن من خلقه، ولا نقول كما قالت الجهمية]. والجهمية سموا بذلك نسبة لرجل اسمه الجهم بن صفوان أنكر صفات الله جل وعلا، وصار إماماً فيها بالكفر والإلحاد -نسأل الله السلامة-، وهو الذي يقول عن فرقته الإمام عبد الله بن المبارك: إننا لنحكي قول اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نح

منكرو الاستواء وعمن أخذوا مقالتهم

منكرو الاستواء وعمن أخذوا مقالتهم قال الشارح رحمه الله تعالى: [وهذا كثير في كلام الصحابة والتابعين والأئمة، أثبتوا ما أثبته الله في كتابه على لسان رسوله على الحقيقة على ما يليق بجلال الله وعظمته، ونفوا عنه مشابهة المخلوقين، ولم يمثلوا ولم يكيفوا كما ذكرنا ذلك عنهم في هذا الباب. وقال الحافظ الذهبي: وأول وقت سمعت مقالة من أنكر أن الله فوق عرشه هو الجعد بن درهم، وكذلك أنكر جميع الصفات، وقتله خالد بن عبد الله القسري، وقصته مشهورة، فأخذ هذه المقالة عنه الجهم بن صفوان إمام الجهمية]. الجعد بن درهم كان في آخر دولة بني أمية، وهو معروف أنه ليس من المسلمين، ومتهم بأنه يهودي؛ لأنه تتلمذ على اليهود فصار يريد هدم عقيدة المسلمين، ومعلوم أن أعداء الإسلام من اليهود والنصارى وغيرهم ما استطاعوا أن يقوموا في وجه الإسلام بالقوة، فلما أعجزهم هذا صاروا يدبرون الحيل، ويدبرون الأفكار في تمزيق المسلمين وإضعاف قوتهم، وقد علموا أن قوتهم في عقيدتهم، فقالوا: لابد أن نبدأ في إضعاف العقيدة وإفسادها، فصاروا يؤسسون المؤسسات، ويتخيرون الأشخاص الذين فيهم جرأة وفيهم قوة، وعندهم حجج يدسونها بين المسلمين، وهذا الرجل كان من هذا النوع، وهم كثر، ومن قرأ التاريخ وأمعن نظراً في ذلك عرف يقيناً أن هذا هو الواقع. فصار أول الأمر ينكر أشياء عند بعض الناس، فيقول: أيجوز أن نعتقد أن الله يحب؟ يقول: المحبة تقتضي الميل والموافقة، فالله ليس كمثله شيء. وهكذا إلى أن تجرأ فقال: إنه لا يجوز أن يتكلم الله، ولا يجوز أن يتخذ خليلاً، فلما قالوا له: هذا خلاف القرآن قال: وإن كان فنحن نقول بالعقل، فالقرآن يمكن أنه ما جاء بالصواب. فرفع أمره إلى أحد أمراء بني أمية، وهو خالد بن عبد الله القسري، فأخذه مقيداً، وكان الوقت يوم عيد أضحى، فكان هو الذي يتولى الصلاة، فصلى بالناس ثم خطب خطبة العيد، ثم قال في آخر الخطبة: أيها المسلمون! ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضحٍ بـ الجعد بن درهم؛ إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، فتعالى الله عن قول الجعد بن درهم علواً كبيراً ثم ذبحه أضحية.

دليل آخر على علو الله تعالى على خلقه

دليل آخر على علو الله تعالى على خلقه قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل تدرون كم بين السماء والأرض، قلنا: الله ورسوله أعلم قال بينهما مسيرة خمسمائة سنة، ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة، وكثف كل سماء مسيرة خمسمائة سنة، وبين السماء السابعة والعرش بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، والله تعالى فوق ذلك، وليس يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم) أخرجه أبو داود وغيره]. هذا الحديث من أدلة علو الله جل وعلا على خلقه، وهذا أمرٌ قد تضافرت عليه أدلة الكتاب والسنة، وكذلك دلالة العقل مع دلالة الفطر التي فطر الله جل وعلا عليها خلقه، ولا يخالف هذا إلا ضال مخالف للحق اليقيني، وقد خالف كثيرٌ من الخلق ذلك فتأولوا النصوص الصريحة الواضحة التي جاءت في كتاب الله، وفي أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، واتفقت عليها الأمة التي اتبعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن مخالفة النصوص الصريحة جرأة على الله جل وعلا، وجرأة على دينه، وكذلك تعطيل لصفاته التي تعرف بها إلى عباده، وهذا الحديث سرد من مجاميع كثيرة تدل على علو الله، ولكن المصنف اختاره لما فيه من الصراحة في ذكر المسافات بين الأرض والسماء، وبين كل سماء مع التي تليها، وكذلك ذكر صراحة المسافة التي تكون في كل سماء، أعني: سمكها وارتفاعها، ثم إنه ذكر أن الله فوق ذلك كله صراحة، أمر لا يحتمل تأويلاً، ولا يحتمل تحريفاً، فاختاره لأجل ذلك، وإلا فكتاب الله مملوءٌ من ذكر علو الله على خلقه، كما قال الله جل وعلا: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] في آيات متعددة، في سبع آيات من كتاب الله كلها فيها ذكر استوائه على العرش، مرتباً على خلق السماوات والأرض بـ (ثم) التي تقتضي الترتيب مع التراخي، وفي كتاب الله كثير من الآيات تدل على أن الله فوق خلقه، كما في قوله جل وعلا: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر:1] في آيات متعددة، والنزول لا يكون إلا من العلو إلى الأسفل، وكقوله جل وعلا: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:50]، وكقوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18]. ولو أن الإنسان أراد أن يحصي النصوص التي جاءت في فوقية الله وعلوه ما تهيأ له ذلك إلا بكلفة وبوقت، فكيف يجوز للمسلم أن يخالف هذه النصوص؟ وما السبب الذي يدعو إلى هذا؟ الواقع أنه ليس هناك إلا سبب واحد فقط، وهذا إذا كان المخالف مسلماً، أما إذا كان غير مسلم فالأمر غير هذا، فسبب قول المخالف المسلم هو ما يتوهم من التشريك، وهي أمور وهمية لا حقيقة لها، فهم يقولون: لو قلنا: إن الله فوق؛ لاقتضى ذلك أن يكون في جهة، والجهة تكون محصورة، وكل ما حوته الجهات فهو جسم. فهذا هو السبب، وهذه هي الشبهة التي دعتهم إلى إنكار ما هو ثابت في كتاب الله، وفي أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذه الشبهة باطلة داحضة؛ وذلك أن الله جل وعلا ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في أوصافه التي يتصف بها، وقد بين لنا ربنا ذلك. ثم إنه يجب على العبد أن يقبل من الله جل وعلا ما قاله وما علمه خلقه وعباده المؤمنين، وكذلك يقبل ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن الأدلة الواضحة على وجوب ذلك قول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67]، فلو كان ما يقولونه حقاً، للزم منه أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبلغ ما أنزل إليه، ومن اعتقد هذا فليس بمسلم فضلاً عن أن يكون على الحق الصواب الذي اختلف فيه؛ لأنه لم يشهد للنبي صلى الله عليه وسلم بالبلاغ الذي أخبرنا ربنا جل وعلا أنه بلغه، وقام بما يلزم، فلو كان ما يقولونه هذا حقاً للزم هذا الكفر -نسأل الله العافية-، وذلك أن الأمة التي امتثلت أمر الله، واتبعت الرسول صلى الله عليه وسلم شهدت لرسول الله صلى الله عليه سلم بالبلاغ المبين، وبالنصح التام، وبأنه لم يترك شيئاً يقرب الأمة للخير إلا ودلهم عليه، وبينه لهم، ولم يترك شيئاً يبعدهم عن الخير إلا حذرهم منه. فقد كان في آخر حياته صلوات الله وسلامه عليه يسألهم: (أنتم مسئولون عني فماذا أنتم قائلون؟ فيقولون: نشهد أنك بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، فيقول: اللهم اشهد، اللهم اشهد)، وهذا أمر متواتر. والمقصود أن هذا من الأدلة الواضحة على وجوب قبول ذلك واتباعه، والأدلة على هذا كثيرة. ثم إن كل من احتاج إلى ربه لمسألة يسأله لابد أن يرفع يديه إلى السماء، يقول: يا رب! يا رب! ويجد لهذا دافعاً يدفعه في قرارة نفسه، فهو خلق على ذلك، ووضع في قلبه وفي عقله، فما يستطيع أن يكف نفسه عن هذا، وهذه الفطرة التي فطر الله جل وعلا عليها خلقه. نحن نقول في صلاتنا: (سبحان ربي الأعلى)، وعلى مقتضى قول هؤلاء المبطلين الضالين يجوز أن نقول: سبحان ربي الأسفل! تعالى الله؛ لأنهم يقولون: إن الله في كل مكان.

المعية والعلو

المعيّة والعلو أما ما يتشبثون به مثل قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4]، وكون هذا يدل على أن الله في كل مكان فهذا لا ينافي علو الله وارتفاعه؛ لأن ربنا جل وعلا أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، وقد دل هذا الحديث على أن أعظم المخلوقات وأكبرها العرش. وقد سبق في حديث أبي ذر وحديث ابن عباس أن السماوات السبع على سعتهن لا يساوين شيئاً أمام العرش، فالسماء الدنيا محيطة بالأرض من جميع الجهات، فأي جهة ذهبت إليها من الأرض فالسماء فوقك، والسماء الثانية محيطة بالسماء الدنيا من جميع الجهات، فإذا كان كل من على السماء الدنيا، تكون السماء الثانية فوقه في أي جهة كان من السماء، مثل الذي يكون في الأرض، والسماء الثالثة محيطة بالسماء الثانية من جميع الجهات، والسماء الرابعة هكذا، والخامسة والسادسة والسابعة، وأعظم السماوات وأوسعها وأكبرها السماء السابعة، وهي التي فيها الجنة التي أخبر جل وعلا أن عرضها عرض السماوات والأرض؛ لأنها فوق السماء السابعة أكبر من السماوات كلها وأوسع، فهذه السعة الهائلة والبون الشاسع جاء في حديث ابن عباس وحديث أبي ذر: (السماوات السبع بالنسبة للكرسي كسبعة دراهم ألقيت في الفلاة)، يعني: أن الكرسي أكبر من جميع السماوات كلها، فنسبة السماوات إليه كنسبة الدراهم السبعة التي تلقى في الفلاة، ثم نسبة الكرسي إلى العرش كدرهم ألقي في فلاة، فالعرش هو أعظم المخلوقات وأكبرها وأوسعها وأعلاها. وفوق العرش رب العالمين جل وعلا، فإذاً جميع المخلوقات السماوات والأرضون ومن فيهما بالنسبة لله صغيرة جداً، وتقدم قول الله جل وعلا: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]، فعلى سعة السماوات وعظمها يطويها بيده جل وعلا، فتكون صغيرة بالنسبة إليه فكيف مع هذا يجوز أن يتصور أن سماءً من السماوات أو أرضاً تظل الله جل وعلا أو تقله تعالى الله وتقدس، فلا شك أن الذي يعتقد هذا ضال في دينه وفي عقله، وأنه في الحقيقة لم يعرف ربه، ولم يقدره حق قدره.

أقسام التوحيد وواجب العبد نحوها

أقسام التوحيد وواجب العبد نحوها المؤلف عندما ذكر هذه الآثار أراد أن يختم كتابه بالقسم الثاني من أقسام التوحيد؛ لأن التوحيد ينقسم إلى قسمين: توحيد في القصد والإرادة، والقصد والنية والإرادة تصدر من العبد بنيته وقصده وإرادته، فيجب أن يكون هذا خالصاً لله، وهذا الذي ذكر فيه ما ذكر من أول الكتاب إلى آخره إلى هذا الباب، فذكر ما يخلص القصد والنية والإرادة أو يشوبه تحذيراً من ذلك وتنفيراً منه. وختم الكتاب فجاء بالقسم الثاني الذي هو توحيد العلم والمعرفة الذي يتعلق بالله جل وعلا بأوصافه وما يجب أن يعرف به، وهذا لا يمكن أن يعرفه الإنسان بعقله أو بقياسه ونظره، وإنما يعرفه عن طريق تعريف الله جل وعلا عباده، فهو يتعرف إلى عباده بما ذكر من أوصافه وأفعاله تعالى وتقدس، وهذا أمر واجب لا يجوز التفريق فيه، ولا يكفي أحد القسمين عن الآخر، فلا يكفي قسم من قسمي التوحيد عن القسم الثاني، بل يجب على العبد أن يجمع بينهما، ولكن لما كان ظهور أدلة هذا القسم وقلة الاختلاف فيه اقتصر على شيء يسير منه، بخلاف القسم الأول؛ فإن أكثر الناس ضلوا فيه بسبب التعلق بالأولياء وطلب شفاعاتهم؛ لأن العبد في الأصل خلق عابد ذليل خاضع، فهو يتلمس الشيء الذي يتلبس به ويتعلق به، فأكثر الناس لم يهتد إلى الطريق السواء طريق الحق، فصار يتعلق ويجعل له وسائط بينه وبين ربه يزعم أنها تقربه وتشفع له، فلهذا السبب أكثر من بيانه وما يجب من أجل إكماله، وما يجب اجتنابه لئلا ينقص أو ينتفي تماماً. ثم إن القسم الثاني قد أولاه العلماء من العناية ما يكفي وردوا على المخالفين، وبينوا الحق في ذلك، والحق فيه واضح وجلي، بخلاف الأول فإن العناية به أقل من العلماء السابقين، والسبب أن المخالفة فيه سابقاً قليلة، وليست منتشرة كالمخالفة الثانية، والمخالفة التي حصلت في القسم الثاني الذي هو توحيد العلم والمعرفة سببها في الأضل الكيد للإسلام والمسلمين من قبل قوم مشبوهين، سواء كانوا يهوداً أو نصارى أو مجوساً دخلوا الإسلام تستراً لأجل إفساده، لا رغبة فيه، بل لأجل أن يفسدوه، فصار -في الحقيقة- إفسادهم بالغاً جداً، حيث شككوا المسلمين في ربهم، وصاروا يشبهون عليهم بذكر الشبه، ولا شك أن هناك شبهاً يتعلق بها المشبه الذي يشبه على الناس، فالذي ليس عنده علم وليس عنده معرفة قد تنطلي عليه هذه الشبهة؛ لهذا تولى العلماء تبيين هذه الشبه وبيان بطلانها، ووضحوا ذلك في كتبهم المعروفة المنتشرة بأيدي المسلمين والحمد لله.

النصوص الواردة في مقدار ما بين السماء والأرض وكيفية الجمع بينها

النصوص الواردة في مقدار ما بين السماء والأرض وكيفية الجمع بينها قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: (عن العباس بن عبد المطلب) ساقه المصنف رحمه الله مختصراً، والذي في سنن أبي داود: عن العباس بن عبد المطلب قال: كنت في البطحاء في عصابة فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمرت بهم سحابة فنظر إليها فقال: (ما تسمون هذه؟ قالوا: السحاب قال: والمزن؟ قالوا: والمزن قال: والعنان؟ قالوا: والعنان -قال أبو داود: لم أتقن العنان جيداً- قال: هل تدرون ما بعد ما بين السماوات والأرض؟ قالوا: لا ندري قال: إن بعد ما بينهما إما واحدة أو اثنتان أو ثلاث وسبعون سنة، ثم السماء التي فوقها كذلك -حتى عد سبع سماوات- ثم فوق السابعة بحر بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال بين أظلافهم وركبهم مثل ما بين سماء إلى سماء ثم على ظهورهم العرش بين أسفله وأعلاه كما بين سماء إلى سماء، ثم الله تعالى فوق ذلك)، وأخرجه الترمذي وابن ماجة، وقال الترمذي: حسن غريب. وقال الحافظ الذهبي: رواه أبو داود بإسناد حسن، وروى الترمذي نحوه من حديث أبي هريرة وفيه: (ما بين سماء إلى سماء خمسمائة عام)]. هذا الاختلاف في كون ما بين الأرض والسماء اثنتين أو ثلاث أو أربع وسبعين سنة، وفي الرواية الأخرى: (خمسمائة سنة) لا يضر؛ لأن هذا الاختلاف بالنظر إلى سرعة المسير من بطئه، ومعلوم أن سير البرج، ليس كالسير العادي، وإلا فهناك أيضاً مسير أسرع من هذا بكثير، فالنبي صلى الله عليه وسلم عرج به من الأرض إلى السماء السابعة في ليلة واحدة، فذهب ورجع بصحبة جبريل، ولكنه سير لا نعرفه، فلا صواريخ ولا غيرها مثله، بل أسرع بكثير جداً، والآن هؤلاء الذين لا يؤمنون إلا بالمحسوسات، ولا يؤمنون بأن فوقنا سماء، يقولون: إنما هي كواكب تسبح في الفضاء؛ لأنهم لا يؤمنون إلا بالشيء الذي يشاهد، والآن يريدون أن يصلوا إلى المريخ، ويقدرون الوصول إليه بالصاروخ الذي لا يمكن أن يقاس بسير القوافل أو الأقدام، فيقدرون شهوراً وسنين للوصول إليه، مع أن الكوكب ليس هو السماء، بل دون السماء. فإذاً الاختلاف بالمسير حسب السرعة من بطئها. وقد جاءت النصوص في أن الروح إذا قبضتها الملائكة تصعد بها إلى السماء الدنيا، فتستفتح لها السماء الدنيا، فإما أن يفتح لها، وإما أن لا يفتح فتعاد، فإذا كانت صالحة فتحت لها السماء الدنيا وصعدت، ثم استفتحت لها السماء الثانية والثالثة والرابعة إلى السابعة، فإذا وصلت إلى السابعة واستفتح لها وفتح لها وصارت فيها ينادي الله جل وعلا الملائكة: أن اكتبوا كتابه في عليين، وأعيدوه إلى الأرض فيعاد. هذا الصعود والنزول والإعادة يكون في وقت تجهيز الميت بين موته وتغسيله وتكفينه والصلاة عليه، فإذا وضع في قبره تكون الروح حاضرة، بل إذا حمل على نعشه وسير به إلى مستقره -إلى قبره- تكون الروح موجودة، فتصير تتكلم بكلام يسمعها كل من يليها، ما عدا الجن والإنس فلا يسمعون، فالبهائم والشجر والحجر وغيرها تسمع كلامها، فإما أن تقول: قدموني قدموني، أسرعوا بي. أو تقول: يا ويلها! أين تذهبون بها؟ وهذا كله يدلنا على اختلاف المسير في الصعود والذهاب، ويسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن شيء فينزل جبريل في الحال من السماء بالجواب من عند الله جل وعلا، وجبريل أقرب الملائكة إلى الله جل وعلا، وهو الذي يخاطبه الله جل وعلا مباشرة، ويأمره بأن يذهب حيث شاء الله جل وعلا ليبلغ رسالاته، فهو أمينه على وحيه من الملائكة، كما أن أمينه على وحيه من البشر محمد صلوات الله وسلامه عليه والرسل الذين ائتمنهم على وحيه. فالمقصود أن هذا كله يدلنا على اختلاف في المسير، وأن هذا التقدير الذي ذكر في هذا الحديث أمر نسبي، ليس ثابتاً لكل شيء، بل هو نسبي يختلف باختلاف السير، فلا يكون هذا مشكلاً؛ فإن بعض العلماء ضعف الحديث من أجل ذلك، وهذا لا وجه له في الواقع. ثم إن الحديث صحيح، والذين ضعفوه إنما ضعفوه بسبب محمد بن إسحاق، الذي لم يكن ذنبه إلا أنه خالف الجهمية وروى ما يرغم أنوفهم، فلهذا حملوا عليه، وقلد هؤلاء بعض من لم يتنبه لهذا الأمر، وكل المطاعن التي طعن بها عليه لا أصل لها وليست ثابتة، بل الذي روى الطعن مطعون فيه ولا يجوز أن يثبت طعنه؛ لأنه هو في نفسه ضعيف مشكوك في صدقه وفي أمانته، فكيف يطعن في إمام من الأئمة ممن هذه حاله؟ ثم هناك حكاية مشهورة تحكى وتجعل سبباً لتضعيفه، وهي زائفة في الواقع، وقد تولى الإمام ابن القيم رحمه تبيين ذلك في كتابه (تهذيب السنن)، فينبغي مراجعة ذلك. ثم إن ذكر هذه المسافات إنما هو لتقريب الأمر للأذهان فقط، وليست بالتحديد، فالرسول صلى الله عليه وسلم يخاطبنا بما نفهمه وبما نعقله، فهو يقرب لنا الشيء الذي لا نعقله بما هو معقول ومفهوم. فعليه لا يجوز أن يعترض على هذا الحديث لذلك، ثم إن التصريح بأن الله جل وعلا فوق العرش ليس مختصاً بهذا الحديث، وكذلك التصريح بأن الله عال على خلقه ليس مختصاً بهذا الحديث، فهذا الحديث ليس -في الحقيقة- أصلاً في هذا يعتمد عليه وحده، بل جاء متفقاً مع النصوص الكثيرة، فليس فيه شيء غريب أبداً، وإنما فيه ذكر مسافات فقط، أما ذكر الأوعال التي ذكر أنها ثمانية أوعال فوق البحر الذي بينه وبين السماء السابعة مسيرة خمسمائة عام، وبين أسفل هذا البحر وأعلاه مسيرة خمسمائة عام، وفوق هذا البحر ثمانية أوعال فهؤلاء هم حملة العرش الذين ذكر الله جل وعلا أنهم يحملون العرش، وذكر أنهم أربعة، وإذا كانوا يوم القيامة صاروا ثمانية كما قال تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17]، وذكر من عظم خلقهم أن ما بين أقدامهم إلى عواتقهم مسيرة خمسمائة عام، وكل هذا لحكمة أرادها الله جل وعلا، وإلا فالله يحمل كل شيء بقدرته، ويحمل العرش وحملة العرش، والسماوات والأرض كلها قائمة بقدرته جل وعلا، ولكن لحكمة أرادها جل وعلا جعل العرش على هؤلاء الملائكة، والملائكة على البحر، وهذا البحر هو الذي أخبر جل وعلا عنه أن عرشه على الماء لما ذكر مبدأ الخلق كما قال تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود:7] يعني: على هذا البحر الذي فوق السماوات السبع. وكله ثابت في نصوص كثيرة من كتاب الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} [غافر:7]، فذكر ربنا جل وعلا من وظائفهم أنهم يحملونه، وأن معهم أيضاً من يحف بالعرش من الملائكة يسبحون الله ويحمدونه ويستغفرون للمؤمنين، ويطلبون من الله جل وعلا أن يتوب على التائبين، وكل هذا من رحمة الله جل وعلا، ولكن هذا مما يجب اعتقاده، والإيمان به. قال رحمه الله تعالى: [ولا منافاة بينهما؛ لأن تقدير ذلك بخمسمائة عام هو على سير القافلة مثلا، ونيف وسبعون سنة على سير البريد؛ لأنه يصح أن يقال: بيننا وبين مصر عشرون يوماً باعتبار سير العادة، وثلاثة أيام باعتبار سير البريد]. من كان في الشام يقول: فلسطين من الشام وبيروت من الشام، وبينهما ثلاثة أيام للبريد، أما نحن في الحجاز فبيننا وبين مصر أكثر من ذلك بكثير.

دلالة الحديث على عظمة الله جل جلاله

دلالة الحديث على عظمة الله جل جلاله قال رحمه الله تعالى: [وروى شريك بعض هذا الحديث عن سماك فوقفه. هذا آخر كلامه. قال الشارح رحمه الله: [فيه التصريح بأن الله فوق عرشه، كما تقدم في الآيات المحكمات والأحاديث الصحيحة وفي كلام السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم. وهذا الحديث له شواهد في الصحيحين وغيرهما، ولا عبرة بقول من ضعفه لكثرة شواهده التي يستحيل دفعها وصرفها عن ظواهرها، وهذا الحديث كأمثاله يدل على عظمة الله وكماله وعظم مخلوقاته، وأنه المتصف بصفات الكمال التي وصف بها نفسه في كتابه ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى كمال قدرته، وأنه هو المعبود وحده لا شريك له دون كل ما سواه، وبالله التوفيق]. هذا لا يعرفه الذين يعبدون غير الله، أو يعبدون معه غيره، فلا يعرفون هذا القدر ولا التعظيم، حيث يتعلقون بالمخلوقين ويدعونهم، ويتشفعون بهم، ويجعلونهم مسالك بينهم وبين الله جل وعلا، فما قدر الله حق قدره من هذا فعله، ولا عرف عظمته، وسوف يتبين له إذا وقف بين يدي الله جل وعلا يوم القيامة، بل قبل هذا سيتبين له حينما تحضر الملائكة لقبض روحه، وملائكة الله رسله الموكلون بأمره، والرسول صلى الله عليه وسلم وضح الأمر جلياً، وما ترك عذراً لمعتذر أبداً، وليس الذي يفعل هذا معذوراً بجهله، فالله جل وعلا قد أرسل الرسل وأنزل الكتب، فالذي يعرض عن ذلك هو الملوم، فماذا يقول الإنسان لربه يوم القيامة إذا سأله؟ أيقول: ما رأيت. أو: ما تأملت الكتاب. أو: ما تلقيت ما جاء به الرسول. أو يقول: ما بلغنا الرسول؟! فما هناك عذر. فالإنسان الذي لا يبلغه أن لله رسولاً وديناً وكتاباً أنزله، هذا لابد من إبلاغه، وإذا مات والحالة هذه فأمره إلى الله، فإما أن يعذبه وإما أن يعفو عنه. فإذا مات ولم يسمع بدين لله وبرسول لله وبكتاب لله فأمره إلى الله، وهذا في الوقت الحاضر الظاهر أنه غير موجود؛ لأن وسائل التبليغ ووسائل العلم أصبحت متوافرة، والأمة والخلق كلهم يعرفون أن الله جل وعلا أرسل رسولاً، ولكن اليهود والنصارى وغيرهم لا يهتمون بهذا، أو يقولون: هو رسول العرب فقط. وهم الآن كما هو مشاهد يجهدون أنفسهم ويبذلون أموالهم في إطفاء نور الله وإطفاء دينه بكل ما يستطيعون، وهذا أمر معلوم، فهل يسوغ أن يقال: إنهم معذورون في هذا. فما بالك بمن هو في بلاد المسلمين ويعبد غير الله، فيطوف بالقبور، ويستنجد بها ويسألها، فهل يكون هذا معذوراً؟ كلا. ما يكون معذوراً، مع أن عبادة الله ومعرفة رسوله صلى الله عليه وسلم أمر لا يجوز جهله لأحد، وقد ثبت أن كل ميت يسأل عن مسائل ثلاث، فيقال له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فإن كان الإنسان مقلداً يسير خلف الناس، فإذا فعلوا فعلاً فعله، وإذا تركوا شيئاً تركه بدون بصيرة ولا برهان ولا علم فإنه سيتلعثم في الجواب، فيقول: رأيت الناس يفعلون شيئاً ففعلته أو: سمعتهم يقولون شيئاً فقلته، وهذا هو الواقع؛ لأن المسلمين ينقسمون إلى قسمين: مسلم يسمى مسلم اختيار، أسلم باختياره وبعلمه، فهذا الذي يجيب بلا تلعثم وبلا تردد، والله يثبت من يشاء عند المسألة، كما قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]. وقد فسر القول الثابت في الحياة الدنيا بأنه التلفظ بالشهادة عند الموت، وأنه في الآخرة جواب الملكين اللذين يختبرانه، وقد جاء أن منظرهما وصوتهما مهول مفزع مخيف، وأن كل واحد معه مطراق من نار من حديد لو ضرب به الجبل لانهد، والإنسان ضعيف، وصوت الملك مثل الرعد القاصف، ويسأل بانتهار، لا بسهولة ويسر، بل ينتهر الإنسان انتهاراً. ولما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك لـ عمر قال: كيف بك إذا سألك وأنت بهذه الصفة؟ قال: له أأكون بعقلي؟ قال: نعم. قال: إذاً أكفيكهما. وهذا يكون للمؤمن، فلا يتلعثم ولا يتردد، أما الذي عنده شك، أو يكون إسلامه إسلام دار لا إسلام اختيار، فأصبح يرى الناس يصنعون شيئاً فيصنع مثلهم فقط، ولكن لو جاءه من يشككه في دينه لشك، ولو دعاه داع إلى الضلال لاتبعه، فإن ستر الله جل وعلا عليه، وبقي تابعاً للمسلمين فيجوز أن الله ينجيه؛ لأنه يصلي ويصوم، ولكن ليس عنده يقين وإيمان يمنعه من قبول الشكوك والريب، وهذا يخاف عليه أنه إذا سئل في قبره يتلعثم ويقول: هاه هاه، لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، ورأيتهم يصنعون شيئاً فصنعته فيقال له: لا دريت ولا تليت أي: ما علمت العلم اليقيني الذي يمنعك من الشك والريب، ولا تلوت كتاب الله وآمنت به واتبعته، أي أنك تركت ما يجب عليك مما أنزله الله جل وعلا على رسوله وأمره بإبلاغه، فهذا معنى قولهم: (لا دريت ولا تليت). فالمقصود أن كل ميت يسأل عن هذه الأسئلة: من ربك؟ وما دينك؟ ومن هذا الرجل الذي بعثك فيكم؟ أي: من الذي تعبده؟ وبأي شيء تعبد؟ ومن أي طريق أخذت عبادتك؟ فهذا معنى السؤال، فهل تعبده بالآراء، وتعبده بالقياس وبالبدع؟ ثم يؤكد هذا بالسؤال عمن جاء به، فيقال له: من نبيك؟. ولهذا يعد العلماء هذه الأصول بأنها الأصول الثلاثة التي يسأل عنها كل مسلم ومسلمة، فيجب على المسلمين أن يتعلموا هذه الأصول ويؤمنوا بها؛ لأنهم يسألون عنها في القبر، ولا يجوز الشك فيها، وهي عبادة الله، ومعرفة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومعرفة الذي يتعبد ربه به، فكيف يصلي ومن أين أخذ الصلاة؟ وكيف يزكي؟ وكيف يصوم؟ وكيف يحج؟ وهذه الأمور الخمسة هي التي رتب عليها دخول الجنة، فما يدخل الجنة إلا من أتى بها، وهي أن يعبد الله ولا يشرك به، وأن يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويصوم رمضان، ويحج البيت إذا استطاع إليه سبيلاً، وهذا من رحمة الله جل وعلا، أعني كونه يعلق الحج بالاستطاعة، ومن تقصير كثير من المسلمين في هذا أن أحدهم إذا مرض وجدته يتساهل بالصلاة، وربما يقول: أنا لا أستطيع أن أصلي، فما أستطيع أن أقوم، وما أستطيع أن أتوضأ، فإذا شفيت أصلي وقد يموت ولا يشفى.

شرح فتح المجيد [139]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [139] صفات الله تعالى وأسماؤه قد دلت عليها نصوص الكتاب والسنة، وليس على العبد إلا التسليم بما دلت عليه النصوص، والحذر من اتباع من يعملون فكرهم ويقدمون آراءهم في مثل هذه المسائل، مجافين في ذلك ما دلت عليه النصوص، فلا يلبثون أن يضمحل باطلهم، وينهار أساس معتقدهم، فيبقون في حيرة وشك.

مسائل في باب ما جاء في قول الله: (وما قدروا الله حق قدره)

مسائل في باب ما جاء في قول الله: (وما قدروا الله حق قدره)

تفسير قوله تعالى: (والأرض جميعا قبضته يوم القيامة)

تفسير قوله تعالى: (والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة) قال المصنف رحمه الله: [المسألة الأولى: تفسير قوله تعالى: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر:67]]. تفسير هذه الآية سبق، وهو قوله جل وعلا: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]، وهذا بعدما ذكر عظم الشرك، فلما خاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:65 - 66]، ثم قال: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ} [الزمر:67]. وهذا خطاب لسيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم، وهو قوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ} أي: من الأنبياء {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65]، وهو يدل على أنه ليس بين الإنسان وبين ربه صلة إلا بطاعة الله جل وعلا، فلو قدر أن نبياً من الأنبياء أشرك بالله لحبط عمله، ولأصبح من الخاسرين، وقد حمى الله جل وعلا أنبياءه من ذلك وعصمهم، وإنما ذكر هذا ليعلم المشرك شيئاً من عظمة الله. قال: ((وما قدروا الله)) يعني: ما عرفوا قدر الله وعظمته، ولهذا يقول المفسرون: وما عظموه حق تعظيمه. قال تعالى: ((والأرض جميعاً قبضته)) القبضة تكون باليد، وتكون داخل اليد، والأرض جميعاً قبضته، يقول ابن عباس رضي الله عنه: تكون الأرض في كف الرحمن كخردلة في كف أحدكم. ولله المثل الأعلى تعالى وتقدس، فتكون كخردلة صغيرة حقيرة بالنسبة لله جل وعلا. قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر:67]، والله يوم القيامة يقبض الأرض، ويطوي السماء أيضاً بيده الأخرى، فجميع المخلوقات تكون بيديه جل وعلا على سعتها وعظمتها.

صفات الله تعالى وما عند اليهود منها

صفات الله تعالى وما عند اليهود منها [المسألة الثانية: أن هذه العلوم وأمثالها باقية عند اليهود الذين في زمنه صلى الله عليه وسلم لم ينكروها ولم يتأولوها]. يعني: الذي جاء في حديث ابن مسعود: (كان الرسول صلى الله وسلم جالساً مع أصحابه، فجاء حبر من أحبار اليهود -والحبر: هو العالم- فقال: يا محمد! إنا نجد -يعني: في الكتاب الذي نزل على موسى عليه السلام- أن الله يضع السماوات على إصبع، والأراضين على إصبع، والشجر والثرى على إصبع، والجبال على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، ثم يهزهن ويقول: أنا الملك أين ملوك الدنيا؟ يقول: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تصديقاً لما قال، ونزل قول الله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]). وهذا من العلم المتوارث عن الأنبياء، وهو باق عند اليهود، وقد جاء كتابنا مصدقاً ومقرراً وموافقاً له، وهذا هو سبب ضحك النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه صلوات الله وسلامه عليه يفرح أن تكثر الشواهد التي تشهد على صدقه، وعلى صحة ما قاله وجاء به، فيفرح بذلك، وهذا سبب ضحكه صلوات الله وسلامه عليه. ولقد ضل من قال: إن ضحكه من جرأة اليهود على التشبيه. فهل يجوز أن يضحك الرسول صلى الله عليه وسلم من الكفر؟! كلا والله، لا يضحك، وإنما يغضب ويكفهر وجهه وينكر الباطل، فكيف يقال هذا؟! لا يقول هذا عاقل. [المسألة الثالثة: أن الحبر لما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم صدقه، ونزل القرآن بتقرير ذلك]. اعترض معترض على هذا فقال: من المعلوم المتقرر أن هذه السورة مكية -أعني: سورة الزمر- وهذه الحادثة وقعت في المدينة، فكيف تنزل الآية؟ فيقال: هذا الأمر سهل، فإما أن تكون الآية هذه نزلت مكررة، أو أنها نزلت في المدينة ولم تنزل في مكة، وهذا كثير في كتاب الله، فسور مكية تنزل فيها آيات مدنية في المدينة، فتوضع في المكان الذي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن توضع فيه، فليس هذا إشكالاً. [المسألة الرابعة: وقوع الضحك من رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكر الحبر هذا العلم العظيم]. قلنا: إن الضحك في كونه وافق ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وكان مصدقاً له.

ذكر يدي الله جل جلاله وإثبات شماله عز وجل

ذكر يدي الله جل جلاله وإثبات شماله عز وجل [المسألة الخامسة: التصريح بذكر اليدين، وأن السموات في اليد اليمنى والأرضين في الأخرى]. وقد جاء تسمية الأخرى شمالاً في صحيح مسلم وفي غيره أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يطوي السماوات بيمينه ويقذف الأرض بشماله)، وإذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم شيئاً وجب قبوله والإيمان به؛ لأنه معصوم أن يقع في الخطأ، ولأنه صلوات الله وسلامه عليه ما يقول إلا ما يوحيه الله إليه، {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3]، وأما ما جاء في الأحاديث الصحيحة أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر أو قال: (المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين) وفي أحاديث أخرى كذلك أنه قال: (وكلتا يديه يمين) فالمقصود بذلك: كلتا يديه كاملة تامة لا يلحقها نقص. إذ المخلوق شماله ليست كيمينه، فشماله تكون ناقصة، والرب جل وعلا بخلاف ذلك، فكلتا يديه كاملة تامة لا يلحقها نقص، فهذا معنى قوله: (وكلتا يديه يمين). [المسألة السادسة: التصريح بتسميتها الشمال]. قلنا: إن هذا ثابت في صحيح مسلم وفي غيره أيضاً، وأما قول من يقول: إن هذا شاذ، فهذا في الواقع خطأ، فالشذوذ لا يكون في مثل هذا الشيء المستقر، وإنما الشذوذ يكون في مخالفة ما هو ثابت عن الثقات، أما شيء يأتي تأسيساً في مثل أسماء الله جل وعلا فلا يقال: إن هذا شاذ.

منازعو الله جل جلاله في صفاته ومصيرهم

منازعو الله جل جلاله في صفاته ومصيرهم [المسألة السابعة: ذكر الجبارين والمتكبرين عند ذلك]. يعني: عند ذكر عظمة الله جل وعلا يذكر الجبارون والمتكبرون الذين يتكبرون في الدنيا، ولهذا يكونون أحقر الخلق، فقد جاء أنهم يكونون أمثال الذر يطؤهم الناس بأقدامهم، فالجبارون والمتكبرون يحشرون مع الناس أمثال الذر، فيصبحون تحت أقدام الناس؛ لأنهم نازعو الله جل وعلا في شيء من صفاته، فاستحقوا هذا الجزاء بذلك. [المسألة الثامنة: قوله كخردلة في كف أحدكم]. هذا التمثيل -ولله المثل الأعلى- تقريب للأذهان فقط، وليس هذا تشبيهاً لصفات الله، وإنما هو تفهيم للمخاطبين للتقريب، كقوله صلى الله عليه وسلم: (إنكم ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر) فهذا هو المثل.

عظم الكرسي والعرش وماهية العرش

عظم الكرسي والعرش وماهية العرش [المسألة التاسعة: عظم الكرسي بالنسبة إلى السماء]. يعني: أنه أوسع من السماوات وأكبر. [المسألة العاشرة: عظم العرش بالنسبة إلى الكرسي]. يعني: أن العرش هو أعظم المخلوقات على الإطلاق، فأكبر المخلوقات على الإطلاق هو عرش الرحمن جل وعلا. [المسألة الحادية عشرة: أن العرش غير الكرسي والماء]. فهذا رد على من قال: إن الكرسي هو العرش، وقد جاء في القرآن ذكر الكرسي وذكر العرش، وأعظم آية في كتاب الله هي آية الكرسي، وفيها قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255]، وقد فسر بعض الناس الكرسي بالعلم، وهذا خطأ في التأويل، ولهذا رده الأئمة، وقرر ذلك ابن كثير رحمه الله في تفسيره، وقال: لو كان كذلك لكانت الآية فيها تكرار، والله جل وعلا ينزه أن يكون في كلامه تكرار.

المسافة العظيمة بين السماوات وبين السماء السابعة والكرسي وبين الكرسي والماء

المسافة العظيمة بين السماوات وبين السماء السابعة والكرسي وبين الكرسي والماء [المسألة الثانية عشرة: كم بين كل سماء إلى سماء. ]. المقصود بهذا ذكر المسافة التي بين السماء والأرض، وبين السماء والسماء إلى آخر ما ذكر، وأن هذه المسافة وإن جاء الاختلاف في تحديدها بأنها مسيرة اثنين وسبعين عاماً أو خمسمائة عام فإن هذا يختلف باختلاف السير كما سبق. [المسألة الثالثة عشرة: كم بين السماء السابعة والكرسي]. المقصود أن البعد بين الكرسي والسماء السابعة مثل ما بين سماء وسماء، وهذا ارتفاع هائل جداً، ثم إن الكرسي تحت العرش، والعرش فوقه، والعرش على ماء، والماء ارتفاعه أيضاً وسمكه مثل ما ذكر في السماء، والمقصود ذكر علو الله جل وعلا، وأنه عالٍ على جميع المخلوقات بذكر هذه المسافات، وهذا أمر صرح به تصريحاً مع التحديد الذي لا يحتمل تأويلاً، ولا يحتمل غير العلو لله جل وعلا، لا علو القدر الذي فسروه به، ولا عظمة الخلق فقط، وإنما علو الله جل وعلا وارتفاعه على جميع مخلوقاته. [المسألة الرابعة عشرة: كم بين الكرسي والماء]. المقصود بالماء البحر الذي عليه العرش، وهو فوق الكرسي.

فوقية الله تعالى على عرشه وكون العرش على الماء

فوقية الله تعالى على عرشه وكون العرش على الماء [المسألة الخامسة عشرة: أن العرش فوق الماء. المسألة السادسة عشرة: أن الله فوق العرش]. نعم، وهذا تصريح من رسول الله صلى الله عليه وسلم يتضح منه أن الله فوق العرش، ولا يجوز أن يقال: (فوق) بمعنى أعظم كما يقوله الملاحدة الذين ألحدوا في أسماء الله، حيث قالوا: معنى (فوق العرش) أنه أكبر من العرش وأعظم. والمعنى واضح في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، فالفوق هنا معناه العلو، أي أنه عال عليه مستوٍ عليه، ولهذا فسره السلف بالارتفاع والعلو، وبأنه مستقر على العرش ومستو عليه، ومرتفع وعال وصاعد عليه، هكذا جاءت تفاسيرهم بألفاظ أربعة، ففسروه بالعلو كما في صحيح البخاري عن أبي العالية، وكذلك أنه ارتفع، وكذلك أنه استقر على العرش، وكذلك أنه صعد على العرش، فهذه التفاسير الأربعة جاء مفسراً بها قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، ومع ذلك فالأصل واضح لا يحتمل تأويلاً.

المسافة بين الأرض والسماء وصفة العرش

المسافة بين الأرض والسماء وصفة العرش [المسألة السابعة عشرة: كم بين السماء والأرض]. يعني: أن السماء الدنيا بينها وبين الأرض مثل ما ذكر في المسافة بين سماء وسماء، وبين السماء السابعة والكرسي، وبين الكرسي والبحر الذي عليه العرش، وفوق الماء عرش الرحمن، وهو أعظم المخلوقات وأوسعها، وقد أخبرنا ربنا جل وعلا أن كرسيه وسع السماوات والأرض. وسبق أن نسبة الكرسي إلى العرش كحلقة من حديد ألقيت في أرض من الفلاة، فهو صغير بالنسبة إلى العرش، فالعرش أعظم مخلوقات الله على الإطلاق وأوسعها وأكبرها، ولهذا يسأل الله بذلك، فيقال: (ورب العرش العظيم)، كما جاء في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقو ل في دعائه: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض) إلخ. فيأتي التوسل في ذكر ربوبيته للعرش وعظمة العرش بقوله: (رب العرش العظيم). وقد جاء هذا في مواضع متعددة من القرآن، فمرة يوصف بالكرم {رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:116]، والكريم معناه: الواسع العظيم، ومرة يوصف بالعظمة {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة:129]، والشيء الذي يعظمه الله جل وعلا عظيم، فهو أعظم المخلوقات على الإطلاق. والعرش ليس مكوراً كالسماوات؛ لأنه له قوائم، وله حملة، أما السماوات فإنها مستديرة كل سماء محيطة بالتي تحتها، والسماء الدنيا محيطة بالأرض من جميع الجهات، والسماء التي فوقها محيطة بالتي تحتها، وهكذا. أما العرش فهو له قوائم، وله حملة، فليس مستديراً، بل هو أوسع من كل المخلوقات على الإطلاق وأعظمها وأكبرها. وقد جاء في الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح- أنه قال: (إذا سألتم الله الجنة فسألوه الفردوس؛ فإنه أعلى الجنة وأوسطها، ومنه تفجر أنهار الجنة، وسقفه عرش الرحمن)، فسقف الفردوس عرش الرحمن، فعرش الرحمن أعلى المخلوقات، والفردوس هي أعلى الجنان، ولا يكون الشيء وسطه أعلاه إلا إذا كان مكوراً على شبه الكرة، فهو الذي يكون وسطه أعلاه، لهذا قال وسط الجنة وأعلى الجنة. أما إذا كان مسطحاً فلا يكون كذلك، أي: لا يكون وسطه أعلاه، فما يلزم أن يكون وسطه أعلاه، ولهذا ذكر أنه منه تفجر أنهار الجنة، وأنهار الجنة تفجر من أعلى شيء في الجنة، فالفردوس هو أعلى الجنان، وهو أرفعها، وهو مستقر عباد الله الذين وصفهم بأنهم لا يعبدون غيره، ولا يعصونه وهم يستطيعون، ولا يتركون أمره، وهم أولياؤه.

كثف كل سماء وعمارها

كثف كل سماء وعمارها [المسألة الثامنة عشرة: كثف كل سماء خمسمائة سنة]. هذا بالإضافة إلى مسيرة المسافة التي بين سماء وسماء، والكثافة: هي سمك السماء؛ لأن كل سماء فيها سكان، وفيها عمّار يعمرونها بالطاعة، وعددهم لا يعلمه إلا الله، فالملائكة الذين فيها يعمرونها بالطاعة، وقد جاء قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أطت السماء وحق لها أن تئط، ليس فيها موضع قدم إلا وملك ساجد أو راكع)، وهذا ليس المقصود به السماء الواحدة، بل السماوات كلها. وأخبر صلوات الله وسلامه عليه أنه لما عرج به رأى البيت المعمور، والبيت المعمور في السماء السابعة حيال الكعبة على الأرض، يقول: (فرأيته يدخله سبعون ألفاً من الملائكة لا يعودون إليه إلى يوم القيامة)؛ لأنهم لا يستطيعون أن يعودوا لكثرة الملائكة، إنما يدخله الملك مرة واحدة ثم يترك الأمر لغيره، والملائكة هم جند الله الأعظم، وقد قال جل وعلا: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] لما ذكر أن النار عليها تسعة عشر من الملائكة الذين يقومون على إيقادها وتعذيب أهلها، فتقال الكفار هذا العدد، فصاروا يهزءون بالقرآن وبالرسول صلى الله عليه وسلم، يقول قائل منهم: أنا أكفيكم كذا عدداً، أكفيكم سبعة عشر. أو قال: أكفيكم عشرة. فالإنسان ظلوم جهول، والله جل وعلا وصفهم بأنهم غلاظ شداد، وأنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. وأخبرنا جل وعلا أن ملكاً من الملائكة يطلع على الأمة القاهرة في البلاد المترامية الأطراف فيصيح صيحة فيهم فيموتون عن آخرهم بصيحة فقط، وعنده شيء أكثر من ذلك، وجبريل عليه السلام لما أتى إلى لوط ومعه عدد من الملائكة في صورة شباب حسان الوجوه فأضافهم إبراهيم وقدم لهم العجل الحنيذ المشوي فرأى أنهم لا يأكلون، فعند ذلك خاف منهم؛ لأن الذي يأتيك في صورة ضيف ثم تكرمه وتقدم له الطعام فيأبى أن يأكل لابد أنه مضمر شيئاً ويريد أمراً. فعند ذلك خاف منهم وأوجس في نفسه خيفة منهم، فلما رأوا ذلك قالوا له: لا تخف؛ لسنا من بني أدم الذين يأكلون ويشربون، إنا أرسلنا إلى قوم لوط -يعنون أنهم ملائكة- ثم أتوا إلى لوط عليه السلام، ولوط هو ابن عم إبراهيم، وقد آمن بإبراهيم فجعله الله رسولاً، وأرسله إلى قومه، وكانوا قد ابتدعوا بدعة لم يسبقوا إليها، فكانوا يأتون الذكران من العالمين ويتركون أزواجهم، فنهاهم نبيهم فلم ينتهوا، وتمادوا في ذلك حتى أصبحوا إذا أتى إليهم آت تسارعوا إليه ليفعلوا به الفاحشة. فلما جاءت الملائكة في صورة أضياف كان من تمام الفتنة والابتلاء أن جاءوا بصورة شباب حسان الوجوه، فجاءوا يهرعون مسرعين إليهم ليفعلوا بهم الفاحشة، فحاول معهم لوط عليه السلام بكل ممكن، حتى قال: لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (يرحم الله لوطاً، لقد كان يأوي إلى ركن شديد)؛ لأنه يأوي إلى الله، وأي ركن أشد من ركن الله جل وعلا؟! ولكن المقصود أنه ضاقت عليه الأرض، وضاق بما فعل قومه، فلقد حاولوا فعل الفاحشة بأضيافة، وقال لهم: لا تخزوني في ضيفي، أليس منكم رجل رشيد؟! وما فيهم رجل رشيد في الواقع. فعند ذلك لما رأى جبريل عليه السلام الأمر قد وصل إلى نهايته عند لوط قال له: لا تخف؛ لن يصلوا إلينا ولن يصلوا إليك، نحن رسل الله أتينا لتعذيبهم وإهلاكهم، فأومأ بطرف جناحه فطمس أعينهم فعموا، عند ذلك قال لوط عليه السلام: خذوهم الآن وأهلكوهم. قالوا: موعدهم الصبح، أليس الصبح بقريب؟! وأمروه بأن يخرج من هذا البلد هو وأهله، وألا يلتفت إليهم بجسده لئلا يصيبه ما أصابهم؛ لأن الالتفات يدل على الحنو وعلى التعلق بهم، فالذي يتعلق بهم يخشى أن يصيبه ما أصابهم. فلما جاء الوقت المحدد اقتلع جبريل عليه السلام المدن -وكانت سبع مدن- من الأرض، وحملها على طرف جناحه - وله أكثر من ستمائة جناح- فطار بها وعلا بها حتى كانت الملائكة الذين في العنان يسمعون نباح الكلاب وصياح الديكة، عند ذلك قلبها فجعل عاليها سافلها، ثم أمطروا بحجارة من سجيل على كل حجر اسم صاحبه الذي يرميه ويهلكه. ثم قال الله جل وعلا بعد ذلك: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83] يعني: هذه العقوبة ليست من ظالمي هذه الأمة الذين يفعلون هذه الفعلة ببعيد، بل قريب. ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه في آخر الزمان يكون في هذه الأمة خسف وقذف بالحجارة، فيقذفون مثلما قذف قوم لوط إذا فعلوا فعلهم، نسأل الله العافية. فالمقصود أن الملائكة عظام شداد، فلو أذن لأحدهم أن يقتلع الأرض لاقتلعها كلها، ومع كثرتهم وقوتهم لا يعصون الله ما أمرهم من شدة خوفهم، فجبريل عليه السلام مع هذه العظمة وهذا الكبر الهائل والقوة الهائلة يقول عنه الرسول صلى الله عليه وسلم لما عرج به ووصل جبريل إلى سدرة المنتهى يقول: (رأيته خاضعاً لله ساجداً له كالحلس البالي) خضوعاً وذلاً لله جل وعلا؛ لأن من عرف الله كان له أخوف، وله أطوع. فالمقصود أن عظمة السماء وسعتها وكبرها بهذه المثابة التي ذكرت، وذلك لما فيها من كثرة الخلق ومن كثرة العباد الذين خلقهم الله جل وعلا لطاعته، والملائكة قسم كبير جداً منهم خلقوا للعبادة فقط، ومنهم من خلق لوظائف معينة منها القيام على مصالح بني آدم، ومنها حفظهم، كما قال الله جل وعلا: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11]؛ لأن الملائكة تتعاقب عليه لتحفظه، فلو نام إنسان في البر بقي فمه مفتوحاً وأذنه مفتوحة، فتأتيه الهوام فيصدها الملائكة الذين يحفظونه فلا يدخل في فمه، ولا في منخره، ولا في أذنه شيء، فيحفظه الله بالملائكة، فإذا جاء القدر تخلوا عنه وتركوه، وسلموه لما قدره الله جل وعلا. ومنهم الذين يحفظون أعماله، ويسجلون عليه كل ما نطق وتكلم به، ومنهم الذين يتولون قبض روحه، ومنهم الذين يتولون إنزال المطر، إلى غير ذلك مما ذكر الله جل وعلا من وظائفهم التي تكون في مصالح بني آدم. ومنهم الذين لا نعرفهم، ولا نعرف إلا أنهم في الجملة عباد مكرمون، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، أكرمهم الله جل وعلا بطاعته، فهم الذين يسكنون السماء، وهم كذلك يتولون المصالح التي تكون للمؤمنين حتى في الجنة، كما جاء في قول الله جل وعلا: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:23 - 24] فيسلمون عليهم ويحيونهم ويهنئونهم لدخلوهم الجنة وكرامة الله جل وعلا لهم.

الجمع بين علو الله عز وجل ومعيته لخلقه

الجمع بين علو الله عز وجل ومعيته لخلقه [المسألة التاسعة عشرة: أن البحر الذي فوق السماوات أسفله وأعلاه خمسمائة سنة، والله أعلم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين]. المقصود بهذا الحديث ذكر علو الله جل وعلا، وعلو الله جل وعلا ثابت بالكتاب والسنة والعقل والفطرة التي فطر الله جل وعلا عليها عباده، فكل إنسان يريد أن يسأل ربه يجد دافعاً من نفسه يدفعه أن يسأل ربه من فوقه ويمد يده إليه، فيمد يديه إلى السماء ويقول: يا رب! يا رب! وهذا أمر لا يتخلص منه أحد، حتى الكفار إذا وقعوا في الضرورة يجدون هذا في نفوسهم، فهو أمر مقطوع به، ولهذا يقول العلماء: إن صفة الله بالعلو صفة ذاتية، أي: أنها ملازمة لله دائماً وأبداً، وما جاء في ذكر معية الله جل وعلا لخلقه، أو للمؤمنين، أو لأوليائه، كقوله جل وعلا لموسى وأخيه هارون: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]، وكقوله جل وعلا في قصة سيد الرسل محمد صلى الله عليه وسلم مع صديقه ورفيقه في الغار: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] يعني: معنا دون الكفار الذين يحيطون بالغار. وكذلك قوله جل وعلا {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128]، مثل المعية مع المؤمنين الأتقياء والأولياء والأنبياء فهذه تسمى معيّة خاصة، وهي تقتضي النصر والتأييد والحفظ، أي: النصر على الأعداء، وتأييدهم، وحفظهم، وحمايتهم مما يريد العدو بهم، فهذا مقتضاها، ومعناها أن الله محيط بهم يراهم ويسمعهم ويحفظهم، فهم في تقلباتهم في قبضته. وأما المعنى الثاني الذي جاءت المعية به فهي معية عامة، كقوله جل وعلا: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4] في آيات متعددة، فهذه المعية لا تنافي علو الله، وذلك أن الله أعظم من كل شيء، وأكبر من كل شيء، فهو فوق عرشه يسمع كلام عباده، ويرى تصرفاتهم، وهم في قبضته. والمعية في اللغة العربية تأتي بمعنى المصاحبة، والمصاحبة تكون بحسب ما أضيفت إليه، فإذا قال القائل: سرت مع القمر صح الكلام، وقد جاء هذا عن العرب، يقولون: سرنا مع القمر. فالقمر في السماء وهم في الأرض، وهذا الكلام يكون صحيحاً، فيجوز للإنسان أن يقول: مالي معي. وإن كان ماله في بلد وهو في بلد، ويجوز أن يقول: زوجي معي وإن كانت في بلد وهو في بلد. وكذلك قول الله جل وعلا: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح:29] يعني: المصاحبين له. وليست المعية هنا المخالطة والممازجة كما يتوهمه من ضل في دينه وعقله. فتراه يقول: إن المعية معناها المخالطة. ويقول: إن هذه الآية التي فيها ذكر المعية تنافي العلو. وهي في الواقع لا تنافي علو الله، بل المعية معناها المصاحبة، وهي إما أن تقتضي التخويف والاطلاع والعلم، أو تقتضي الحفظ والكلاءة والنصر والتأييد، فإذا كانت خاصة اقتضت الحفظ والنصر والتأييد، وإذا كانت عامة اقتضت التخويف والاطلاع والعلم. ولهذا السلف يفسرون المعية بالعلم، فقوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد:4] يعني: بعلمه. وهذا جزء من معناه، وليس كل معناه. ثم كذلك ما ذكر في النصوص الصحيحة المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن الله جل وعلا ينزل إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الآخر، وذلك في كل ليلة، فإذا بقي ثلث الليل الآخر نزل إلى سماء الدنيا فقال -ينادي عباده-: (هل من داع فأجيبه؟ هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ حتى يطلع الفجر)، وهذا كل ليلة. فهذا لا يقتضي أن نزول الله جل وعلا إلى السماء الدنيا تكون معه السماء الثانية والثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والعرش والكرسي والبحر فوقه، كلا! بل هو ينزل وهو على عرشه فوق جميع مخلوقات؛ لأن المخلوقات كلها بالنسبة إليه صغيرة حقيرة، ولا يجوز أن يتوهم متوهم أن السماء تقل الله أو تظله تعالى وتقدس، فهو أكبر وأعظم من ذلك. وكذلك أخبر الله جل وعلا عنه في كتابه بقوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22]، وهذا يوم القيامة إذا جاء للفصل بين عباده، وكذلك قوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} [البقرة:210]، فيوم القيامة يأتي إلى الأرض ليفصل بين خلقه، فيأتي وهو على عرشه أعلى من كل شيء وفوق كل شيء، فعلوه ثابت له ثبوتاً ذاتياً لا ينفك عنه جل وعلا، وهذا معنى قول السلف: إن علو الله صفة ذاتية؛ لأن صفة الذات معناها الصفات التي تكون ملازمة لا يمكن أن يخلو الرب جل وعلا منها في وقت من الأوقات، بخلاف صفة الأفعال، فإن صفات الأفعال يفعلها في وقت دون آخر، وكذلك قوله جل وعلا. فهو الحامل لخلقه وللعرش ولحملة العرش وللسماء التي تراها مرفوعة بلا عمد، كل ذلك بقدرته، ولكن لحكمته جعل هذه الأشياء حتى يبتلي عباده ليؤمن من يؤمن، ويأبى الإيمان بذلك من يأباه، فالمؤمن يستحق الإثابة والكرامة، ومن يأبون ذلك الله يحكم فيهم بما يستحقون، وكل الخلق عباد الله وفي ملكه يتصرف بهم كيف يشاء، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] تعالى وتقدس. ثم إن العلو الثابت لله أقسام ثلاثة: علو الذات، وعلو القهر، وعلو القدر. كلها ثابتة لله جل وعلا، ولا يجوز أن نثبت واحداً دون البقية، والمخالفون يجعلون العلو علو قدر، وعلو القدر معناه: تقديره وتعظيمه في قلوب عباده. فهذا علو القدر، ويجعلونه كذلك علو قهر، أي أنه هو الذي يحكم ويتصرف في خلقه، أما علو الذات فينكرونه ويأبون قبوله. وشبهتهم -ما سبق أن ذكرناه- أنهم يقولون: هذا إذا أثبتناه دل على التشبيه؛ لأنه يعني أن الله في مكان، والله جل وعلا -كما يقولون- لا تحويه الأمكنة، ولا تحصره، ولا يكون في جهة، ومعلوم أن الذي لا يكون كذلك يكون عدم، ولهذا يصفون الله جل وعلا في كتبهم فيقولون: إن الله ليس في فوق ولا تحت، ولا يمين ولا شمال، ولا هو في داخل العالم ولا في خارج العالم. إذاً أين يكون؟ فلن يكون هذا إلا العدم. وإذا قيل لهم: إنكم تذكرون عدما. ً قالوا: الله في كل مكان، أي: حتى في بطونكم تعالى الله وتقدس، فكونه في كل مكان هذا كفر بالله جل وعلا وإلحاد؛ لأنه لا يجوز أن يكون في الأمكنة النجسة والأمكنة السفلى الخبيثة -تعالى الله وتقدس-، وإذا كان الأمر هكذا يقال لهم: أخبرونا! لما خلق الله جل وعلا السماء والأرض أين كان ربنا؟ فهل كان فيهما وخلق السماء والأرض في ذاته جل وعلا؟ فمن قال هذا فقد كفر، فلابد أن يقال: إنه خلقها خارج ذاته، فإذا كان خلقها خارج ذاته فلابد أن يكون فوقها وعالياً عليها، وهذا عند المجادلة بالعقل فقط، ولكن لا نحتاج إلى هذا؛ لأن كتاب الله وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم أغنيانا عن ذلك، فيجب أن نتبع ذلك ونؤمن به، ونتعرف على ربنا بما عرفنا به نفسه تعالى وتقدس، فيجب أن نعرف الله في ذاته، والله جل وعلا يهدي من يشاء إلى الحق ويضل من يشاء، وله الحكم، وهو الذي يفصل بين خلقه تعالى وتقدس.

نتيجة الاستعاضة عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم

نتيجة الاستعاضة عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن القصص والحكايات التي وقعت في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم في القرن السادس أن أحد كبار العلماء الذين توغلوا في الكلام، وصار لهم أثر كبير، وهو مشهور جداً، بل هو قطب من أكبر أقطاب المتكلمين، وهو معروف بإمام الحرمين الجويني، وسمي بإمام الحرمين لأنه جاور بمكة والمدينة أوقاتاً، وكان يعلم ويدرس في المسجد النبوي، وكان مذهبه مذهب أهل الكلام في نفي علو الله جل وعلا ولا يقر بذلك، فكان على كرسي في المسجد، وكان يقول: كان الله ولا مكان، وهو الآن على ما كان عليه قبل خلق المكان، لا فوق، ولا تحت، ولا يمين، ولا شمال، ولا مداخلاً للعالم، ولا خارجاً منه، فقام رجل ممن كان حاضراً فوقف أمامه حتى تنبه له ورآه، وعند ذلك قال: عندي Q قال: نعم، قال: دعني من هذا الكلام الذي تقوله، كان ولا مكان إلى آخره، وأخبرني عن شيء أجده أنا في نفسي وتجده أنت وغيرك، والناس كلهم يجدونه، أخبرني عن الضرورة التي أجدها في نفسي ويجدها غيري، فعندما أدعو ربي أجد دافعاً يدفعني من داخل نفسي أني أطلب ربي من فوق، فمن أين جاءت هذه الضرورة؟ فوضع رأسه وجعل يفكر ثم صار يبكي، ونزل من على الكرسي، وقال: حيرني الرجل حيرني. فلم يدر بم يجيب، وقد التبس عليه علمه الذي كان يقرره، وذهب بهذه الكلمة فحار. وهكذا الذي يترك كتاب الله ويعتاض عنه بأقوال الرجال وأفكارهم ويجعلها هي مستنده في النتيجة فيحار. ثم إن هذه الحيرة أصبحت ملازمة له حتى إنه لما حضرته الوفاة صار يوصي أصحابه ويقول: لا تشتغلوا بالكلام، والله لو كنت أظن أنه يصل بي إلى ما وصل ما اشتغلت به. ويقول لهم عند وفاته: إنني لم أعلم حقيقة من الحقائق، وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي. ويقول: لقد تركت أهل الإسلام وعلومه، وخضت البحر الخضم، والآن إن لم يتداركني ربي فالويل لي. ثم يقول: ها أنا ذا أموت على عقيدة عجائز نيسابور. لأنه نيسابوري، ومات هناك، ولكن هل يمكن هذا؟ إنه لا يستطيع أن يموت على عقائد عجائز نيسابور؛ لأن العجائز على فطرة سلمت من الانحراف وسلمت من الشكوك، وما يستطيع الذي عنده شكوك وانحرافات أن يموت عليها. ومن القصص الغريبة في هذا الموضوع أن هناك رجلاً آخر عظيماً أيضاً قد ملأت كتبه الدنيا، وهو معروف بـ الفخر الرازي، وله في التفسير وفي الفقه وفي الأصول وفي الكلام وفي غيرها من سائر العلوم، وكان أيضاً في نيسابور، فخرج يوماً من الأيام إلى السوق ومعه أكثر من ثلاثمائة تلميذ خلفه، فوقفت عجوز في بابها تتفكر، فقالت لأحد المارة: من هذا الملك -وكان تلميذاً من تلامذته-؟ فقال لها: ليس هذا ملكاً، هذا فخر الدين الرازي يقيم على وجود الله ألف دليل. عند ذلك ضحكت العجوز وقالت: واعجباً! والله لو لم يكن عنده ألف شك ما احتاج إلى أن يتعرف إلى ألف دليل، وهل وجود الله يحتاج إلى أدلة. إنه تعالى يعرف. فالمقصود أن الذي يعتاض عن كتاب الله بالآراء والأفكار لابد أن يضل، وهو أيضاً قال في آخر كتاب ألفه -أعني: فخر الدين -: لقد جربت المناهج الكلامية والطرق الفلسفية، فلم أرها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق إلى الحق طريقة القرآن. ثم جعل يمثل: اقرأ قول الله كذا، اقرأ قول الله كذا. وهذا يدل على أنه رجع في آخر حياته عما كان عليه، وكذلك كان للفخر الرازي تلميذ من أبرز تلامذته وأذكاهم، وكان لهذا التلميذ صاحب ممن لم يسلك مسلك المتكلمين، بل ترسم طريق الكتاب والسنة، وكان يزوره، وفي مرة من المرات دخل عليه في بيته والرجل يتفكر، فسلم فلم يرد عليه السلام، ثم أعاد السلام فلم يرد السلام، ثم أعاده ثالثة فلم يرد عليه، عند ذلك قال: ما الذي دهاه؟ إن الرجل ليس في عقله. فهم أن ينصرف لكونه يسلم على الرجل ولا يرد السلام، فعند ذلك تنبه ورفع رأسه إلى صاحبه الواقف الذي حار مما علاه، وبادره عندما رفع رأسه فقال: يا فلان! ماذا تعتقد؟ فضحك عليه صاحبه الواقف ساخراً منه، وقال: ماذا أعتقد؟ أعتقد ما يعتقده المسلمون. فأطرق وجعل يبكي ويقول: ولكني والله ما أدري ماذا اعتقد في ربي. فهذه نتائج الاشتغال في علم الكلام وكتب أهل الآراء الذين يعتاضون بآرائهم عن كتاب الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم. ولهذا يقول العلماء: أكثر الناس شكاً عند الموت الذين يشتغلون بالكلام. فأكثر الناس شكاً عند الموت هؤلاء؛ لأنه عند حضور الموت تذهب البهارج ويذهب الباطل، ويبقى الحق، فالباطل الذي معهم يذهب فيحارون ويشكون، ويبقون في حيرة وشك. وعلى كل فعلينا الاعتصام بكتاب الله، والله جل وعلا أمرنا بالاعتصام به في العقيدة وفي العمل، ففي العمل نعتصم به عن البدع، وفي العقيدة نعتصم به عن الانحراف الذي وقع لمثل هؤلاء وهو كثير.

شرح فتح المجيد [140]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [140]

أصل اللات والعزى

أصل اللات والعزى Q سمعت عن اللات والعزى أنهما اسمان لرجلين صالحين في قوم نوح، فما مدى صحة ذلك؟ A اللات والعزى غير ذلك، فاللات اسم لرجل في الطائف كان يلت السويق، فمات فدفن تحت صخرة فعبد، أما العزى فهي ثلاث شجرات (سمرات) في وادي نخلة قرب عرفات، كانت قريش تعبدها، والعزى أحدث من اللات، واللات أحدث من مناة.

الدليل على منع تكرار زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم

الدليل على منع تكرار زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم Q ما هو الدليل على منع تكرار الزيارة والإكثار منها؟ A الدليل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (اللهم لا تجعل قبري عيداً)، فيخشى إذا اعتيد ذلك أن يكون عيداً، وإنما الزيارة أحياناً فقط، وتكون للاتعاظ.

الحكمة من شرعية زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم

الحكمة من شرعية زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم Q هل زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم لتذكر الموت فقط؟ أزيلوا عنا هذا اللبس. A الزيارة ينبغي أن يكون مقصدها هذا مطلقاً، ولكن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم للسلام عليه، وليس للدعاء له؛ لأنه ليس في حاجة لتدعو له صلوات الله وسلامه عليه، بل أي عمل تعمله من الصالحات فله مثله من الأجر؛ لأنه صلوات الله وسلامه عليه سبب هداية الناس. فكل إنسان من أمته يعمل خيراً منذ بعثه الله إلى أن تقوم الساعة فله من الأجر مثل أجر هذا الإنسان، فكذلك الله جل وعلا أخبرنا أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأنه أعطاه الوسيلة، ولكن شرع لنا الصلاة عليه لزيادة أجورنا، وإلا فقد صلى الله -جل وعلا- عليه وسلم. ولهذا أخبرنا أنه إذا سمع أحدنا المؤذن فقال مثلما يقول، ثم سأل له الوسيلة -وهي منزلة في الجنة لا ينبغي أن تكون إلا لعبد من عباد الله، قال: (وأرجو أن أكون أنا) - حلت له شفاعته صلى الله عليه وسلم، هذا جزاؤه، وقد قال الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، فنحن نفعل ذلك امتثالاً لأمر ربنا جل وعلا، ويحصل لنا بذلك ما قاله كما في الصحيح: (من صلى عليّ واحدة صلى الله عليه بها عشراً) أي: عشر صلوات. والذي يصلي عليه ربه جل وعلا سعيد، فالصلاة خلاف اللعن، فهذا هو المشروع.

معنى السلام على النبي صلى الله عليه وسلم

معنى السلام على النبي صلى الله عليه وسلم Q أليس السلام دعاءً بالسلامة؟ A الدعاء في السلام عليه صلوات الله وسلامه عليه ليس كله دعاء، فليس كل سلام يكون دعاءً، وإنما هو إخبار له بأني مسالم وأنا مسلم، وأنا ممن يتبعك ويستسلم وينقاد لشرعك الذي جئت به، وإذا كان دعاءً فهو لأجل نفعك أنت، فيحصل لك بكل دعوة عشر حسنات، لأنه ما كان معروفاً عند الصحابة أنهم يسألون هذا، كان أحدهم إذا دخل المسجد صلى على النبي صلى الله عليه، وسلم، ولا يدخل القبر، فما كانوا يدخلونه مع تمكنهم من الوصول إليه في وقته، وما أحد يحول بينهم وبينه، مع ذلك ما كانوا يأتون إليه، ولم يرو إلا عن عبد الله بن عمر فقط أنه كان يذهب إليه إذا أراد أن يسافر أو إذا قدم من السفر.

حكم وضع علامة على قبر الميت

حكم وضع علامة على قبر الميت Q هل يجوز وضع علامة على قبر الميت للدعاء له ولزيارة أهله له والدعاء أم أن الدعاء للأموات جميعاً أفضل؟ A ما يجوز إلا إذ كان يريد أن يعرف قبر أمه أو قبر أبيه؛ فيضع علامة يتميز بها، ولا تلفت النظر، بل تكون علامة له يعرفها حتى لا يختلط بالقبور الأخرى.

حكم التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم

حكم التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم Q هل التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم فيه خلاف بين السلف؟ وهل لا ينكر على من توسل بالرسول صلى الله عليه وسلم؟ A التوسل في الواقع لفظ مجمل قد يقصد به باطل وقد يقصد به حق، فإذا أريد بالتوسل بالرسول التوسل بذاته، فيقول الإنسان: اللهم إني أتوسل إليك برسولك، اللهم إني أتوسل إليك بنبيك نبي الرحمة، وأسألك بجاهه أو ما أشبه ذلك؛ فهذا بدعة من البدع، ما أحد فعله من الصحابة ولا من التابعين. أما إذا أريد بالتوسل التوسل باتباعه، والإيمان به، ومحبته صلوات الله وسلامه عليه، ومحبة شرعه، ومناصرته؛ فهذا مشروع، وأما التوسل الذي كان يفعله الصحابة فهو غير ممكن، وهو التوسل بدعائه، فيسألون منه أن يدعو لهم، فهذا انقطع بموته صلوات الله وسلامه عليه. ولهذا ما أحد من الصحابة ذهب إلى القبر يطلب منه أن يدعو له، أو ذهب يتوسل إليه، ولما حصل القحط في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وخرجوا يستسقون قال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنينا فتسقينا، وإننا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، ثم قال: قم -يا عباس - فادع. فقام العباس ورفع يديه وصار يدعو والمسلمون يؤمنون على دعائه. فهذا معناه توسل بالدعاء، ولو كان توسلاً بالذات فلا يمكن أن يعدلوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم إلى العباس؛ لأن التوسل بالذوات ممكن في الحياة وبعد الموت، فعدولهم إلى العباس دليل على أن المقصود بالتوسل هو التوسل بالدعاء.

حكم الصلاة على الميت بعد دفنه

حكم الصلاة على الميت بعد دفنه Q هل تجوز الصلاة على الميت بعد دفنه؟ A الميت إذا صلي عليه لا يصلى عليه في القبر؛ لأن الصلاة في القبور ممنوعة لنهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في القبور، ولا حجة لمن يقول: إنه صلى الله عليه وسلم صلى على المرأة. لأن الصلاة عليها تحتمل خصوصية، وتحتمل أن يقصد بها الدعاء، والرسول صلى الله عليه وسلم كثيراً ما كان يصلي على أهل البقيع، أي: يدعو لهم، وصلاته دعاء، كما قال الله جل وعلا: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103] يعني: ادع لهم، فيحمل على هذا.

حكم الصلاة في المساجد التي فيها قبور

حكم الصلاة في المساجد التي فيها قبور Q يوجد في بلد إسلامي مساجد فيها قبور للصالحين والشهداء، ويطوف الناس بهذه القبور ويستغيثون بأصحابها، فما حكم الصلاة في هذه المساجد خاصة إذا كان بين القبر والمسجد حائط به أبواب على المسجد؟ A المسجد الذي فيه قبر لا تجوز الصلاة فيه ولا تصح، سواء أكان القبر في مؤخره، أم في يمينه، أم في شماله، أم في مقدمته، أم في وسطه، فلا فرق. أما إذا كان المسجد مسوراً قائماً، والقبور خلفه -أعني: بينه وبينه الحوائط- فهذا تصح الصلاة فيه، ولكن لا يجوز أن تدفن القبور قرب المسجد، بل ينبغي أن تكون القبور بعيده عن المساجد. فالمسجد لا تصح الصلاة فيه إن كان فيه قبر، ويجب أن يهدم إذا بني على القبور، وإذا كانت القبور أدخلت فيه فيجب أن تنبش وتخرج منه، ويطهر المسجد منها، فنهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك صريح، وليس هو مسألة اجتهاد، ومسألة خلاف بين العلماء، بل هذه نصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم.

حكم تكرار زيارة المقابر وحكم اتباع الجنائز

حكم تكرار زيارة المقابر وحكم اتباع الجنائز Q هل يجوز تكرار الزيارة للمقابر بغرض أخذ العظة والعبرة؟ وما حكم اتباع جنازة والوقوف عندها حتى الدفن للحديث الوارد؟ A أما اتباع الجنازة فقد جاء الحث على ذلك بأن من صلى على جنازة فله قيراط، ومن صلى عليها وتبعها فله قيراطان، فاتباع الجنازة غير الزيارة، فكونه يتبع الجنازة حتى تصل إلى مكانها وتوضع فيه ولا ينصرف إلا وهي مدفونه؛ هذا اتباع، وليس لأجل الزيارة، أما الزيارة فلا تكرر حتى لا يعتاد الإنسان التردد على القبور، وإنما تفعل لما ذكر في الحديث، أي: ليتعظ الإنسان إذا وجد من قلبه قسوة، فيزور لعله يرق قلبه، وينظر في القبور، ويتذكر أنه سوف يكون فيها، ويدعو لأصحابها لعل الله يقبل منه شيئاً ينفعهم به، وهذا لا يكون دائماً، وإنما يكون لهذا الغرض فقط.

حكم من أجاز علماؤهم البناء على القبور

حكم من أجاز علماؤهم البناء على القبور Q ما حكم الذين أجاز علماؤهم زيارة القبور للنساء، وتعلية القبور، وبناء الأضرحة عليها، والدعاء لها؟ A لا شك أن هذا من أعظم المحرمات، أعني: البناء على القبور، وجعل الأضرحة عليها، ثم الدعوة إلى زيارتها، هذا ضد دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم تماماً، فيكون هذا الفاعل مضاداً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه هي المحادة التي ذكر الله جل وعلا أن من يحاد الله ورسوله فإنه مكبوت، وهو جل وعلا سوف يعاقبه، وهذا إذا سلم من كونه يدعو صاحب القبر، أو يعتقد أنه ينفع وأنه يدفع، وكانت دعوته للزيارة وليست لأجل تعظيم القبر، أما إذا كانوا يدعون صاحب القبر فهذا شرك، والدعاة للشرك هم الذين يتقدمون من استجاب لهم يوم القيامة، كما قال الله جل وعلا في فرعون وغيره {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} [هود:98]. فهكذا دعاة عبادة القبور، وليس للإنسان عذر في كونه سمع فلاناً يدعو أو اغتر بفلان؛ لأن فلاناً ليس رسولاً، وليس معصوماً، وأنت ما كلفت باتباع فلان، وإنما كلفت باتباع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز للإنسان أن يقدم على عمل من الأعمال وهو لا يدري حكم الله فيه، فيجب عليه أن يعرف حكم الله، فهل الله أمر بهذا أم لم يأمر؟ أما أن يقدم على ذلك لأن فلاناً أمر به أو قاله فهذا لا يجوز.

جزاء الصالحين عند نزول البلاء العام

جزاء الصالحين عند نزول البلاء العام Q إذا ابتلى الله قوماً بسبب ذنوبهم فما جزاء صالحيهم وهم يعانون نفس الابتلاء؟ فهل لهم أجر أم لا؟ A في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (يغزو هذا البيت جيش من الشام، فإذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بأولهم وآخرهم، ولا يبقى منهم إلا من يخبر عنهم، فقلت: يا رسول الله! كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟! - تعني: الذين ليس لهم تصرف، وإنما جيء بهم بالقوة- فقال: يخسف بهم ثم يبعثون على نياتهم)، فيبعثون يوم القيامة على نياتهم، فمن كانت نيته صالحة كان جزاؤه الثواب، ولكن العذاب يعم الجميع، ولهذا قال الله جل وعلا: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25] فإنها إذا جاءت أصابت الكل وعمت. وكذلك إذا جاء جزاؤها وهو العقاب فقد يعم، ولكن إذا بعثهم الله جل وعلا يكونون على نياتهم.

معنى رؤية الله تعالى في المنام

معنى رؤية الله تعالى في المنام Q إن كانت رؤية الله تعالى في المنام ممكنه فكيف يكون ذلك، مع اتفاق العلماء سلفاً وخلفاً أنه لا يمكن لأحد من الخلق أن يرى الله سبحانه وتعالى في هذه الحياة الدنيا؟ A الرؤية المنامية ليست هي رؤية لله جل وعلا، لا يفهم هذا، فرؤية المنام لا يرى فيها الله حقيقة، ولكن الرائي في منامه يرى شيئاً من المرائي التي يعهدها، كأن يتصور ذلك الشيء المعهود، وذلك الشيء ما هو عنده، هو نائم مغلق عليه بيته، ولم يأته هذا الشيء الذي يراه، ومع ذلك يرى إما شخصاً، وإما مدينة، وإما غير ذلك، فالرؤيا في المنام ليست حقيقة، والإنسان إذا رأى ربه في المنام إذا كان إيمانه صحيحاً وحسناً رأى شيئاً يناسب هذا الإيمان، وإن كان دون ذلك رأى دونه، ولهذا لما كان الرسول صلى الله عليه وسلم أحسن الناس إيماناً وأكملهم، قال في الحديث الذي رواه أحمد: (رأيت ربي في أحسن صورة) يعني: في المنام. فالرؤية في المنام ليست هي الرؤية البصرية التي تكون في اليقظة، لا يفهم هذا، فلا يقال: معلوم اتفاق السلف أنه لا يرى في الدنيا، فهذا نصت عليه الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يدخل في هذا أنه لا يرى في المنام، وقد يرى الإنسان في المنام شيئاً على خلاف المطلوب شرعاً، وقد يرى الشيطان، وقد يراه أيضاً في اليقظة، فالشيطان يتمثل ويقول له: أنا ربك، كما جاء عن عبد القادر الجيلاني قال: رأيت الشيطان قد وضع كرسياً بين السماء والأرض فقال: يا عبد القادر! أنا ربك. فقلت: اخسأ فإن الله جل وعلا لا يرى، ولا يأتي إلى الناس. فالمقصود أن الشيطان قد يضر الإنسان، وقد يتراءى له في المنام في شيء، ففرق بين الرؤية الصالحة والرؤية التي تقع من الشيطان أو تكون أضغاث الأحلام.

حكم الموالد

حكم الموالد Q يوجد عندنا في مصر كثير من الأضرحة أو المساجد المسماة بقبر الإمام الحسين، والسيدة زينب، والسيد البدوي، وإبراهيم الدسوقي، ويعملون لها موالد كل عام، فما حكم الإسلام في ذلك؟ A يجب على الإنسان أن يجتنب هذه الأشياء، أعني: الموالد والذهاب إليها؛ لأن هذه من البدع التي هلك فيها كثير من الخلق.

هل كانت الكعبة قبل إبراهيم عليه السلام؟

هل كانت الكعبة قبل إبراهيم عليه السلام؟ Q قال الله تعالى على لسان إبراهيم: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم:37] ألا يفهم من هذه الآية أن البيت كان مبنياً؟ A البيت ما كان، ولكن مكان البيت، كما قال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج:26]، هكذا جاءت الآية، ولقد جاء أن البيت قديم، وأن آدم عليه السلام طاف به، وأن الملائكة بنته قبل آدم، ولكن لما جاء الطوفان دمره فبقي مكانه ربوة، حتى جاء إبراهيم فبناه، هكذا ذكروا في التاريخ، والمقصود أن إبراهيم هو الذي وضع القواعد.

العذر بالجهل

العذر بالجهل Q نرجو منكم أن تبينوا لنا بياناً يشفي الصدر مسألة العذر بالجهل؟ A الجهل لا يعذر به مطلقاً، وإنما يعذر به في المفاهيم والأمور الذي ترجع إلى مفهوم النصوص، فالإنسان يعذر بها إذا جهل ذلك، أما عبادة الله مثل الصلاة مثل الصوم ومثل الحج والصدقة والأمور الواضحة والجلية فالإنسان لا يعذر بجهلها، بل يعاقب بهذا، فيجب أن يكون عارفاً بهذا الأمور، فلا عذر لمن تركها، ولهذا كل مقبور يسأل إذا قبر: من تعبد؟ ومن الذي جاءك بالعبادة؟ وهل تعرفه؟ وبأي شيء تعبد؟ فيسأل عن هذه المسائل: من ربك؟ وما دينك؟ وما نبيك؟ وهو مقبور، فإن أجاب قيل له: وما يدريك؟ فإنه إذا قال: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد، قيل له: وما يدريك -أي: ما الدليل؟ - فإن أجاب قال: قرأت كتاب الله وآمنت بما فيه واتبعته. فيقال له: قد علمنا، ولكن هذا اختبار لك. أما إذا قال: هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً أو رأيت الناس يعملون شيئاً فعملت، قيل له: ما دريت ولا اهتديت. ثم يعذب فيضرب بمطراق من نار فيلتهب عليه قبره ناراً وهذا لكل واحد، فهل عذر هذا بالجهل؟ إذا قال: أنا أعبد أحمد البدوي، أو أعبد الدسوقي، أو أعبد الحسين لأني ما أدري، فهل هذا عذر بالجهل؟ المقصود أن العذر بالجهل لا يعذر به مطلقاً، ولا كل جاهل يقال له: إنه غير معذور، والناس يختلفون، فقد يكون الإنسان في مكان بعيد ما يبلغه شيء عن الإسلام، فمثل هذا ليس كمثل من يكون في بلاد المسلمين.

التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم وحكمه

التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم وحكمه Q ما معنى التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم؟ وما حكمه؟ وما هي الأشياء التي يجوز أن يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بها؟ A التوسل بالجاه بدعة لم يشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يفعله أحد من السلف، كونه يقول: يا ربي! أسألك بجاه محمد صلى الله عليه وسلم أو أسألك بجاه نبينا صلى الله عليه وسلم فإن جاهه عند الله عظيم فيسأل به، هذا بدعة ما شرعت لنا، ولم يفعله أحد ممن يهتدى به من أهل الهدى، وإنما فعله الخلوف الذين ضلوا طريق الهداية، وأصبحوا يتخبطون في أمور لا يدرون أمشروعة هي أم لا، ويأخذ بعضهم عن بعض. ذلك أن السؤال بالجاه كما إذا سألت الله بصلاته وبصومه وبإيمانه فأي صلة بينك وبين هذا؟! بخلاف ما إذا قلت: اللهم إني أسألك بأني أتبع محمداً صلى الله عليه وسلم، وأسألك بأني أؤمن به. فهذا مشروع؛ لأن هذا إيمانك، وهذا عملك، والتوسل بعمل الإنسان مشروع إذا كان خالصاً لله جل وعلا، كما جاءت الأحاديث في ذلك. وأما الأمور التي يجوز التوسل بها فهي بدعائه إذا كان حياً حاضراً يسمع ذلك، فتسأله أن يدعو لك، فهذا من التوسل الجائز.

الحجة على الطائفين بالقبور

الحجة على الطائفين بالقبور Q نرجو توضيح صفة إقامة الحجة على الطائفين بالقبور، وهل يكفرون بعد إقامة الحجة إذا استمروا على ذلك؟ A ما يحتاج إلى إقامة حجة، فإقامة الحجة أن العبادة لله جل وعلا، والرسول محمد صلى الله عليه وسلم جاء بها واضحة، ولا يجوز لمسلم يدعي الإسلام أن يكون جاهلاً بعبادة الله جل وعلا، فليس في الدنيا كلها شيء يطاف به في الشرع إلا الكعبة فقط، والطواف عبادة، والعبادة لا تجوز أن تكون لغير الله جل وعلا، فهم يجب أن يعرفوا معنى (لا إله إلا الله)، وإذا كان الإنسان ما عرف معنى (لا إله إلا الله)، فكلامه بها ما يفيد، ونطقه بها ما يفيد، فالإنسان لا يدخل الإسلام إلا بهذه الكلمة إذا قال: (لا إله إلا الله)، ومعنى (لا إله إلا الله) أن يكفر بجميع الآلهة التي تؤله من دون الله جل وعلا، ويجعل العبادة لله وحده.

حكم تكرار تحية المسجد لتكرر الخروج والدخول

حكم تكرار تحية المسجد لتكرر الخروج والدخول Q إذا خرج أحد من باب من المسجد ودخل من آخر هل تجب عليه تحية المسجد؟ A إذا خرج الإنسان من المسجد ثم عاد، فذهب لغرض ما من الأغراض إما لوضوء أو لغير الوضوء ثم عاد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين، إلا إذا وجد الصلاة قد أقيمت؛ لأن الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين). وعلى كل حال إذا صلى الإنسان ثم خرج من المسجد ودخل يدخل في عموم هذا الحديث؛ لأنه خرج ودخل. أما إذا كان خروجه لغرض يتردد فيه، كمن هو موظف في المسجد مثلاً ويتردد من هنا إلى هنا فهذا لا يلزم أن يصلي كلما جاء؛ لأن هذا عمله، فهو مضطر لهذا الشيء.

رحمة النبي صلى الله عليه وسلم العامة والخاصة

رحمة النبي صلى الله عليه وسلم العامة والخاصة Q كيف الجمع بين الآيتين {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] وقوله جل وعلا: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]؟ A الآيتان تتفقان، وما فيهما خلاف حتى نجمع بينهما، فقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] أي: رحمة ظاهرة. وقد يقول القائل: هي للعالمين، فيدخل فيها الكافرون والمنافقون! فأجاب العلماء على هذا بأن رحمته شملت الكافرين، ولكن إذا أصروا على كفرهم وتمادوا فإن عذابهم يكون أشد. ولكن الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم قد يقاتل الكافرين ويقتل من يقتل، وقتل صلى الله عليه وسلم في غزواته خلقاً كثيراً من الكافرين، فأين الرحمة هنا؟ وقتله إياهم لماذا؟ ف A إن الكافر يزداد بحياته إثماً، والتعجيل بموته أحسن من بقائه؛ لأنه لا يزداد بحياته إلا إثماً، كما قال الله جل وعلا: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} [آل عمران:178] يعني: طول حياتهم شر لهم لا خير، فالخير ألا تطول حياة الكافر لئلا يزداد عذابه.

حكم طاعة الأب في الأمر بطلاق الزوجة

حكم طاعة الأب في الأمر بطلاق الزوجة Q لقد طلق إسماعيل زوجته عن أمر أبيه دون السؤال عن السبب؟ A هذا في السلف كثير، يأمر الإنسان أبوه أن يطلق زوجته، والقصص في هذا معروفة، وقد وقع في الصحابة، ولكن إذا كان بلا سبب وبلا جرم للزوجة فهذا لا يلزم، ومع ذلك لو أطاعه لا يلام؛ لأن طاعة الوالد متعينة.

نقل الناس إلى المزارات وحكم ذلك

نقل الناس إلى المزارات وحكم ذلك Q أنا أعمل على سيارتي في المدينة، وآخذ بعض الزوار والمعتمرين المارين إلى المدينة إلى مزاراتها مثل مسجد قباء وشهداء أحد ومسجد القبلتين والسبعة المساجد، فهل علي شيء من ذلك؟ A أما كونه يذهب إلى قباء أو إلى القبلتين والشهداء فليس عليه شيء، أما أن يذهب إلى المساجد السبعة، أو موضع الناقة، أو إلى شيء من هذا؛ فهذا لا يجوز؛ لأن هذا من البدع، ولا تجوز زيارتها، ولا بذل الأموال فيها.

صلاة عائشة في حجرتها والنبي صلى الله عليه وسلم مدفون فيها

صلاة عائشة في حجرتها والنبي صلى الله عليه وسلم مدفون فيها Q عائشة كانت تصلي في الحجرة والنبي مقبور فيها، فيستدل بذلك على جواز الصلاة في المواطن التي فيها مقابر، فما الرد على هذه الشبهة؟ A إذا صلت في الغرفة فهذا ظن منه أنها تصلي عند القبر، ولكن إذا وجد هذا فهذا يكون خاصاً بها؛ لأن هذا منزلها ضرورة، فما تستطيع أن تذهب إلى غيره، فيكون هذا خاصاً يستثنى لهذه الضرورة فقط، ولا يكون هذا قاضياً على الأحاديث، لاسيما أن هذا ليس في حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا جاءنا فعل من أحد الناس لا يجوز أن نجعله كحديث الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.

حكم الإكثار من زيارة قبر النبي عليه الصلاة والسلام

حكم الإكثار من زيارة قبر النبي عليه الصلاة والسلام Q يحتج بعض المسلمين على زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم كل يوم أو كل أسبوع بأن الرسول قال: (قد كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة)، وهذه قبور يشرع زيارتها والسلام عليها، لأنها ثلاثة قبور مجموعة مع بعضها، فما الجواب على هذا؟ A هذا كلام الجهلاء، وكلام الجهلاء لا يجاب عليه، فزيارة القبور كانت ممنوعة أصلاً، فهذا معنى: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور) يعني: لا تزوروها أصلاً، ثم بعد ذلك أذن فيها، وقيدت بالقيود الذي جاءت في الأحاديث، ولا يجوز ضرب النصوص بعضها ببعض أو تكذيب بعضها وقبول بعضها.

حكم الذبح باسم الله تعالى عند القبر

حكم الذبح باسم الله تعالى عند القبر Q أنكرت على أحد القبوريين ذبحه عند القبر فقال: إنما أذبح باسم الله، والشرك إنما هو الذبح باسم الميت. فما جوابكم عليه؟ A هذا تلبيس منه وتبرير لفعله، وإلا فمعلوم أن قصد القلب هو الركن الأعظم، ولو قال: باسم الله، وهو يقصد بهذا الذبح التقرب إلى الميت فهو من الشرك الأعظم، ولا يجوز أكل هذه الذبائح لأمرين -كما قال النووي رحمه الله-: الأمر الأول: لأنها مما أهل به لغير الله. والأمر الثاني: لأنها ذبيحة مرتد عن الإسلام، وذبيحة المرتد حرام لا تؤكل. وكونه يدعي ويقول: إني سميت الله فلماذا يتقرب بها للميت إذا كان قصده أنها ذبيحة لله؟! فالمقصود أن الأعمال الظاهرة التي تدل على المقاصد لا تخفى على الناس، والقبر ليس محلاً للعبادة لا لذبح ولا لصلاة ولا لغير ذلك، فصورة فعله هذا تكذب قوله، فلا يلتفت إلى قوله.

حكم الصلاة في مسجد فيه قبر ولا يوجد غيره

حكم الصلاة في مسجد فيه قبر ولا يوجد غيره Q شخص يسكن في منطقة بها مسجد مقام على قبر، ولا يوجد غير هذا المسجد، فهل يجوز له ترك الصلاة مع الجماعة أو يصلي مع الجماعة في هذا المسجد؟ A الصلاة في هذا المسجد باطلة ولا تصح، ولكن يصلي جماعة في غيره ولو في بيته أو في مكان آخر، أما أن يصلي في المسجد الذي فيه قبر فصلاته غير صحيحة، وهذا المسجد يجب أن يهدم إذا كان القبر سابقاً له، أما إذا كان القبر أدخل فيه فيجب أن يخرج منه، ويوضع في القبور حتى تصح الصلاة فيه.

حكم قول: اعتمادي عليك بعد الله

حكم قول: اعتمادي عليك بعد الله Q قول: اعتمادي عليك بعد الاعتماد على الله في قضاء حاجتي الفلانية هل هو من الشرك؟ A ليس من الشرك بشرط أن يكون هذا الشيء يستطيع فعله الذي يقول له: أعتمد عليك، فإن كان مستطيعاً لفعله فليس بشرك.

طلب الدعاء من الغير وحكمه

طلب الدعاء من الغير وحكمه Q حديث: (لا تنسنا من دعائك يا أخي)، هل هو من التوسل غير المشروع؟ A ليس من التوسل غير المشروع، بل هذا مشروع؛ لأنه فيه نفع للسائل والمسئول، والمسلمون بعضهم يدعو لبعض، وقد شرع ذلك، والأمر المشروع لا يقال: إنه فيه نظر، فالرسول محمد صلى الله عليه وسلم هو المشرع، وقد أخبرنا ربنا جل وعلا عن ملائكته أنها تدعو للمؤمنين وتستغفر لهم، وكذلك المؤمنون {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا} [الحشر:10]، فهذا شأن المؤمنين، أن يدعو بعضهم لبعض، وإذا أوصى أحدهم أخاه فقال: لا تنسنا، فهو يقصد بذلك النفع العام، نفعه ونفع الثاني، هذا هو المقصود.

حكم تغسيل الابن لوالدته

حكم تغسيل الابن لوالدته Q هل يجوز للأبناء الذكور تغسيل والدتهم عند الموت؟ A لا يجوز للابن أن يغسل والدته، ولا الوالدة أن تغسل ابنها البالغ، وإنما مثل هذا يجوز في الزوجة فقط، فالزوجة تغسل زوجها، والزوج يغسل زوجته، وفي غير ذلك المرأة لا يغسلها إلا امرأة، والرجل لا يغسله إلا رجل، ولو قدر أن الميت مات بين نساء وليس فيهن زوجة له؛ فإنه ييمم ولا يغسل، ويكفي، وبالعكس كذلك إذا امرأة ماتت بين رجال وليس فيهم زوجها؛ فإنهم ييممونها ويكفي، ولا يغسلونها.

الحائض ومناسك الحج

الحائض ومناسك الحج Q امرأة أتت للحج وحاضت وقت المناسك قبل أن تقف بعرفات، فماذا تفعل؟ A تبقى على إحرامها حتى تطهر، ووقوفها في عرفات صحيح، وأداؤها جميع المناسك صحيح، إلا الطواف في البيت، فلا تطوف حتى تطهر، أما بقية المناسك فإنها تؤديها كغيرها.

حكم من اعتمر ولم يأخذ من شعر رأسه

حكم من اعتمر ولم يأخذ من شعر رأسه Q رجل اعتمر ولم يحلق ولم يقصر شعر رأسه، فماذا عليه؟ A عليه أن يقصر في الحال إذا كان لم يقصر إلى الآن، وبعض العلماء يرى أنه يلبس إحرامه ثم يقصر، ثم بعد ذلك ليس عليه شيء.

حكم من نسي إخراج صدقة الفطر عن بعض الأولاد

حكم من نسي إخراج صدقة الفطر عن بعض الأولاد Q سها والدي عن زكاة الفطر، حيث زكى عن بعض أولاده، ولكنه سها ونسي العدد، وتذكر ذلك بعد صلاة العيد، فماذا يجب عليه؟ A يجب عليه أن يخرج الزكاة حين تذكر، فيخرجها قضاءً، فهي صدقة من الصدقات؛ لأنه ذهب وقتها، ومع ذلك يجب أن يخرجها.

الراجح فيمن سكت الله عنهم في قصة أصحاب السبت

الراجح فيمن سكت الله عنهم في قصة أصحاب السبت Q ما هو الراجح من أقوال المفسرين في الصنف الثالث الذين سكت الله تعالى عنهم في سورة الأعراف، وهل هناك حديث صحيح يدل على أنهم يعاقبون؟ A كان ابن عباس رضي الله عنه يظن أنهم هلكوا، ويقول: إن الله جل وعلا ذكر صنفين فأخبر عن الهالكين أنه مسخهم قردة، وأخبر عن الذين نهوا عن السوء أنه نجاهم، وأولئك لما سكت عنهم كانوا مع الهالكين. فقال له مولاه عكرمة: ليس كذلك، فالله جل وعلا عاقب الفاعلين، والذين نهوا أثابهم بأن نجاهم، والذين سكتوا سكت عنهم، وليسوا هالكين، فأعجبه هذا، وكساه بردته، مما يدل على أنه رضي بذلك. وهذا هو الظاهر، والله أعلم، وإن كان بعض السلف يقول: إنهم مع الهالكين، ويستدل بذلك على وجوب الإنكار، وأن من لم ينكر يهلك، ولكن الله تعالى حكى لنا قولهم: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ} [الأعراف:164]، فهذا يدل على كراهتهم هذا الفعل، وأنهم كارهون له، ولا يوافقونهم عليه، ومن كان كذلك فهو ناجٍ.

شرح فتح المجيد [141]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [141]

هل التداوي ينافي التوكل؟

هل التداوي ينافي التوكل؟ Q هل أخذ الدواء والعلاج يختلف عن الرقية الواردة في حديث سبعين ألف يدخلون الجنة بغير حساب؟ وهل من أخذ الدواء لا يشمله هذا الحديث؟ A هذا ليس صحيحاً، وليس المقصود في الحديث الرقية التي لا تطلب من الغير، بل المقصود: الاسترقاء وهو طلب الرقية، فالمقصود الطلب؛ لأن الطلب والسؤال من الغير فيه التفات القلب إلى غير الله جل وعلا، أما الرقية فهي مستحبة، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يرقي نفسه ويرقي غيره، وهو أفضل الخلق صلوات الله وسلامه عليه، وكون الإنسان يرقي غيره هذا إحسان، فلا يكون الإحسان سبباً في منعه من السبق مع السابقين، بل يكون من أسباب السبق، والمعنى المتعين في الحديث: أنه من طلب غير الله وسأل غير الله؛ فافتقر قلبه لغير الله جل وعلا، وصار عنده نوع من الالتفات إلى غير الله، أو نوع من الشرك الأصغر.

حكم رفع الصوت بالذكر بعد الصلاة

حكم رفع الصوت بالذكر بعد الصلاة Q هل يجوز رفع الصوت بالذكر بعد صلاة المغرب إذا كان في ذلك تشويش على المصلين مع أنه سنة؟ A يجوز ذلك، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة يفعلونه، حتى أخبر ابن عباس أن المسجد يرتج. والسنة لا تترك لأجل أمر آخر، وهذه السنة لا تترك لأنه يشوش على غيره.

الدعاء عند زيارة البيت الحرام

الدعاء عند زيارة البيت الحرام Q ما هي الأدعية المأثورة عند زيارة البيت الحرام؟ A ليس لزيارة البيت الحرام أدعية معينة تحفظ، وقد جاء في رؤية البيت دعاء في حديث سنده ضعيف، وعلى الإنسان أن يجتهد في الدعاء الذي يناسبه ويحتاجه لنفسه فيدعو الله به.

حكم تقبيل المريض

حكم تقبيل المريض Q هل من السنة تقبيل المريض عند الزيارة أم المصافحة باليد؟ A التقبيل لا يجوز للمريض ولا لغيره، وليس سنة، وقد نهي عنه، ولاسيما في الوجه أو في الخد أو الفم، فإن هذا مكروه، ولا يكون هذا إلا للزوجة، حتى الوالدة والوالد لا يفعل بها ذلك، وإنما يقبل رأسه أو جبهته، وكذلك الإنسان مع الآخر لا يقبله، وهذا ليس من السنة، ومن توهم أنه من السنة فقد أخطأ، وإنما السنة المصافحة أو المعانقة، وهو كونه يجعل عنقه على يمينه أو على شماله، أما تقبيل اليد فهو مكروه.

الشرك المخرج من الملة

الشرك المخرج من الملة Q هل من عمل الشرك يكون كافراً مثل: أن يذبح لغير الله أو ينذر لغير الله وما شابه ذلك؟ وهل تجري عليه أحكام الكفر؟ A الشرك نوعان: أكبر وأصغر، والذبح لغير الله من الشرك الأكبر، وإذا ذبح لغير الله فإنه يكون بهذه الذبيحة مرتد، وتجري عليه أحكام المرتدين إلا أن يتوب ويرجع ويستغفر، فإنه إذا تاب تقبل توبته إذا شاء الله جل وعلا كسائر الذنوب الأخرى؛ لأن الله جل وعلا يقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53]،هذا عام شامل لجميع الذنوب وإن كانت شركاً. وإن كان الإنسان جاهلاً فلا يعذر بالجهل في فعل لشرك، لأن الله جل وعلا وضح الأمور وبينها، والرسول صلى الله عليه وسلم بين ذلك غاية البيان، والإنسان مقصر في كونه لا يطلب معرفة عبادة الله، وكيف يعبد الله، وكيف يوحده، فالتقصير من قبله واللوم عليه.

تأثير الاسم على المسمى

تأثير الاسم على المسمى Q هل للأسماء تأثير في المسميات؟ وهل اعتقاد هذا يكون من الطيرة؟ A أسماء المخلوقين أعلام فقط ليس لها معنى غير ذلك، يعني: أنها وضعت علامة تميز هذا عن هذا، وليس لها تأثير، وإنما التأثير بالأعمال، فمن عمل مثقال ذرة من خير جزي به، ومن عمل مثقال ذرة من شر يجزى به، فالتأثير للأعمال وليست للأسماء، ولكن أمر الإنسان أن يحسن اختيار الاسم، وروي في حديث: (إن خير الأسماء ما عبد أو حمد)، وهناك من الأسماء ما هو قبيح مثل: مرة، وحرب، وما أشبه ذلك، ولكن الاسم لا يؤثر على المسمى وإنما يؤثر عليه عمله.

الجن ذرية إبليس

الجن ذرية إبليس Q هل لإبليس ذريه؟ وكيف يكون ذلك؟ A نعم، وذريته هم الجن، الجن هم ذرية إبليس.

حكم الامتناع من السفر لرؤيا

حكم الامتناع من السفر لرؤيا Q هل من التطير إذا رأى الإنسان شيئاً يكرهه في منامه أن يمتنع منه، مثل: أن يرى أنه يصاب بمكروه إذا سافر فامتنع من السفر؟ فهل هذه من الطيرة؟ A الرؤيا قد تكون حقاً، وقد تكون من الشيطان، وقد تكون وساوس مما يزاوله الإنسان في حياته، فيرى في المنام ذلك لكثرة تلبس النفس بذلك واستغراقها فيه، فإذا نام يرى أنه يفعل ذلك الذي كان يزاوله، فهذه ليست رؤيا، ويعرض عنها الإنسان، وأما الرؤيا الصحيحة فهي أمثال يضربها الملك الموكل بالرؤية، وإذا رأى رؤيا على شيء قبيح فامتنع عن فعل شيء من الأشياء لا يكون هذا من الطيرة.

التوكل لا ينافي الأخذ بالأسباب

التوكل لا ينافي الأخذ بالأسباب Q كيف نجمع بين صفة التوكل والأخذ بالأسباب بحيث لا يطغى هذا على هذا؟ A هذا سؤال عجيب، التوكل هو فعل الأسباب، ومن أعظم فعل الأسباب: التوكل، وليس معنى التوكل أن يجلس عن العمل ويقول: توكلت، فهذا يسمى عجزاً ولا يسمى توكلاً، ولكن التوكل أن يفعل السبب ويعتمد على ربه في حصول المقصود والمراد. أما بدون فعل السبب فهو عجز وتواكل، ولا يسمى توكلاً، وهذا واضح كما في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، واحرص على ما ينفعك، ولا تعجزن، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل). فأمر بالحرص على فعل الخير وعدم العجز، لأن ترك الأسباب عجز، وليس معنى ذلك أن يعتمد على السبب، ولكن الله جل وعلا جعل للأمور أسباباً، وقد يتخلص المسبب عن وجود السبب مع تمامه إذا أراد الله. إذاً: التوكل ليس فيه منافاة لفعل السبب، بل فيه ارتباط كامل.

الشؤم في الأعمال لا الذوات

الشؤم في الأعمال لا الذوات Q هل في السيارات شؤم، وهل يجوز أن يقول الإنسان: أتشاءم من مدينة كذا؟ A ليس في ذلك شؤم، لا في السيارات ولا في غيرها، ولكن هذا شيء يقع في النفس، وإذا وقع في نفس الإنسان شيء من هذا فينبغي أن يخلص نفسه منه، وإلا سبق أن قلنا: إن الشؤم في الأعمال وليس في الذوات، فالذوات ليس فيها شؤم، ولكن العمل قد يجذب الإنسان إليه، ويجعله محبوباً مطلوباً، وإذا كان العمل شريراً صار بعكس ذلك، فالأمور بالأعمال وليست بالذوات.

حقيقة كفر فرعون

حقيقة كفر فرعون Q هل فرعون -عليه لعنة الله- كان يعتقد أنه هو رب السماوات والأرض والمدبر أم هو السلطان والحاكم والسيد؟ A فرعون كان متكبراً متجبراً، جاحداً للحق الظاهر الجلي، وإلا فإنه في قرارة نفسه قد استيقن أن موسى رسول الله، وأنه جاء بالحق كما قال الله جل وعلا عنه وقومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14]، ولما رأى الموت والغرق قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90] عند ذلك قال له الملك: (آلآن) يعني: لا يفيدك هذا، لما ذهب سلطانك ورأيت أنه أحيط بك أقررت ورجعت! هذا لا يفيد، تقر وترجع الآن هذا ما يفيد، وفرعون يعلم أن الله هو رب السماوات، وأنه هو الحق الذي يجب أن يعبد، ولكن سلطانه وكبره منعه من ذلك.

رؤية الجن

رؤية الجن Q فضيلة الشيخ: يقال: إن بعض الناس أعينهم كاشفة، أي: أنهم يرون الجن والشياطين، فهل هذا صحيح؟ A ليس هذا صحيحاً، فهم لا يرونهم، ولكن الجن والشياطين قد يتراءون ويظهرون لبعض الناس، كما أن الملائكة قد تظهر لبعض الناس، والملائكة تظهر لكل واحد عند الموت، وكل منا إذا حضره الموت سوف يرى الملائكة؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يعاين) يعني: يعاين ملائكة الموت، والله جل وعلا يقول: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30] هذا عند الموت. يعني: ينزلون يبشرونه ويخاطبونه ويراهم، وكذلك ورد في آيات أخرى.

حكم قراءة القرآن للجنب

حكم قراءة القرآن للجنب Q هل يجوز لمن عليه جنابة أن يقرأ آية الكرسي قبل أن ينام؟ A لا يقرأ القرآن، ولكن يغتسل ثم يقرأ.

تفسير الرؤى والأحلام

تفسير الرؤى والأحلام Q هل قراءة كتب تفسير الأحلام وتصديقها، وتصديق الأشخاص الذين يؤولون الأحلام من التطير إذا رأى شراً؟ A ليس كذلك، فالأحلام كما قلنا: أمثال يضربها الملك إذا كانت صحيحة، والأحلام أقسام ثلاثة كما سبقت الإشارة إليها، فإذا كانت الرؤيا صحيحة فهي تقع، وإذا فسرت على الوجه الصحيح وقعت، وهي المبشرات التي أخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد تكون مبشرة، وقد تكون منذرة.

إضافة الخير أو الشر إلى النجوم شرك أكبر

إضافة الخير أو الشر إلى النجوم شرك أكبر Q فضيلة الشيخ: هل قولهم: (إذا ولد مع النجم الفلاني يكون له كذا وكذا) من الشرك الأصغر؟ A إذا أضاف الخير أو الشر إلى النجم واعتقد أن له تأثيراً في ذلك، وأنه مؤثر فليس هذا من الشرك الأصغر، بل هو من الشرك الأكبر؛ لأنه جعل التصرف للنجم في الإسعاد والشقاء أو الخير والضر.

استراق الجن للسمع

استراق الجن للسمع Q هل في قول الله جل وعلا في الجن: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا} [الجن:8] هل هذا كان في زمن البعثة فقط أم هو مستمر إلى الآن؟ A قولهم: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ} [الجن:8]. ليس معنا (لمسنا السماء) أننا مسكناها بالفعل، بل ذهبنا إلى الفوق إلى السحاب ونحوه فوجدناها مملوءة حرساً وشهباً، يعني: ما استطعنا، ولم يعد الأمر كالعادة التي سبقت، فهم ما استطاعوا أن يصلوا إلى هذا الاستراق في زمن الوحي؛ لأن الله جل وعلا حرس السماء حراسة شديدة، فأصبح الشيطان لا يستطيع أن يذهب إلى جهة السماء إلا ويأتيه شهاب يقتله صيانة أن يحدث شيئاً من استراق السمع مما يوحيه الله جل وعلا إلى محمد صلى الله عليه وسلم؛ فيكون في ذلك فتنة للناس أو تكذيب للرسول صلى الله عليه وسلم.

كروية الأرض ودورانها

كروية الأرض ودورانها Q هل الأرض تدور وهل هي كروية؟ A أما كونها كروية فلا شك فيه؛ لأن الشمس في السماء دائماً، والسماء فوق الأرض دائماً، وهي تغيب في الأرض فقط. أما كونها تدور فالعلم عند الله، وإن كانت تدور فهذا من قدرة الله جل وعلا وإتقانه، وإن كانت لا تدور فليس طلب ذلك والبحث عنه من الأمور الذي تهمنا في ديننا.

كذب المنجمون ولو صدقوا

كذب المنجمون ولو صدقوا Q فضيلة الشيخ: هل هذا حديث: (كذب المنجمون ولو صدقوا)؟ A لا، ليس بحديث، فالمنجمون كذبة، ولا يمكن أن يصدقوا؛ لأنهم لا يصدقون، إلا أنه قد يوافق قولهم قدراً فلا يكون ذلك دليلاً على صدقهم، ولكنه وقع كما تقع أخبار غيرهم التي تكون في المستقبل، والتي يسميها الناس اليوم التنبؤ، فإن هذا أيضاً لا يجوز، وكلمة (تنبؤ) مأخوذة من الإملاء فيما يستقبل ويأتي، وهذا لا يكون إلا لنبي، وكون الإنسان يدعي أنه نبي أو أن عنده شيئاً من خصائص النبوة من أعظم الفرية على الله جل وعلا، وعلى كل حال فهذا ليس صحيحاً.

التحذير من إتيان الكهنة والعرافين والمنجمين ونحوهم

التحذير من إتيان الكهنة والعرافين والمنجمين ونحوهم Q كيف نحذر الأمة من المنجمين والكهنة والعرافين والناس مقبلون عليهم؟ A هؤلاء الناس الذين يقدمون عليهم لا يعرفون حكم ذلك أو أنهم لا يبالون، فيجب أن ينبهوا، والحمد لله فالناس الذين يعرفونهم ويعرفون أن هذا من المحرمات لا يقدمون عليهم، ومع ذلك يجب على الذي يعرف شيئاً من ذلك أن يحذر إخوانه من الذهاب إلى المنجمين والكهنة والعرافين والسحرة.

حكم إضافة الحر والبرد للنجوم

حكم إضافة الحر والبرد للنجوم Q قولهم: هذا النجم يأتي بالحر، وهذا يأتي بالبرد ما صحة ذلك؟ وما حكمه؟ A هذا غير صحيح ولا يجوز، فالنجم لا يأتي بشيء، لا يأتي بالحر ولا بالبرد.

القرآن كلام الله

القرآن كلام الله Q القرآن الكريم كلام الله محفوظ في صدور المؤمنين، فهل يفهم من ذلك: أن بعض صفات الله تدخل في المخلوق؟ A ليس كذلك، فالقرآن محفوظ، والكلام معنى غير الصفة القائمة، والصفة لا تكون إلا بالموصوف، وإذا تكلم الإنسان بالكلام فهذا معروف، حتى كلام الناس يتناقلونه وليس هو صفة فيهم، بل هو صفة لمن صدر منه، فمن قاله فهو صفته، فالإنسان مثلاً لو حفظ شعر امرؤ القيس فهل يكون صفة له أو تكون صفة امرؤ القيس دخلت فيه؟ لا هذا ولا هذا أبداً، وإنما حفظ كلاماً قاله امرؤ القيس أو غيره، والكلام له وضع، وغيره من الصفات لها وضع.

الفرق بين الدخول والحلول

الفرق بين الدخول والحلول Q هل هناك فرق بين الدخول والحلول؟ A الدخول هو الحلول، لكن إذا حل الشيء فمعناه أنه لازمه.

النية في ترك الواجب

النية في ترك الواجب Q ما حكم من بيت النية من الليل على ألا يصلي الفجر مع الجماعة، ويريد أن يصلي عند الاستيقاظ من النوم والذهاب إلى العمل؟ A هذا من أعظم المحرمات؛ لأن الصلاة في جماعة واجبة، وعلى الإنسان أن ينوي الخير ويعزم عليه ويفعله، ولا يعزم على المعصية، ونية المعصية ذنب يعاقب عليه الإنسان.

التردد أو الاطمئنان في السفر ليس من التطير

التردد أو الاطمئنان في السفر ليس من التطير Q بعض الناس يقول: حينما أريد سفراً أجد في نفسي شيئاً يردني عن هذا السفر أو أرتاح فهل هذا من التطير؟ A لا، مثل هذا يستخير ويصلي ركعتين، ويسأل ربه الخيرة، ويفتح الله جل وعلا عليه إذا شاء.

مس العورة من وراء حائل

مس العورة من وراء حائل Q من مس عورته فوق اللباس هل ينتقض وضوؤه؟ A لا ينتقض إلا إذا باشرها مباشرة.

التصديق بالسحر غير التصديق بوجوده

التصديق بالسحر غير التصديق بوجوده Q قوله: (مصدقاً بالسحرة) خلاف التصديق بأن السحر حقيقة، كيف يمكن الجمع بينهما؟ A المقصود: يصدق بالسحر الذي يعمل به، ويذهب إلى الساحر ويأخذ عنه، ويطلب منه أن يعمل له العمل وما أشبه ذلك، أما كونه يصدق بوجوده فهذه أمور ظاهرة، والتصديق بالشيء هو فعله وعمله.

معنى قول العلماء: (إن الله لا يخلف وعده ويجوز أن يخلف وعيده)

معنى قول العلماء: (إن الله لا يخلف وعده ويجوز أن يخلف وعيده) Q ما معنى قول بعض العلماء: إن الله لا يخلف الوعد ويخلف الوعيد؟ A يقولون: إن الله لا يخلف وعده، ويجوز أن يخلف وعيده؛ هذا قول لبعضهم. وأما الوعد فبالاتفاق: أن الله لا يخلف الميعاد، وقد جاء خبر الله به كثيراً، إذا وعد جل وعلا بشيء فلابد من وقوعه، ولكن الوعيد الذي هو التعذيب والتهديد يجوز ألا يقع؛ لأن الله جل وعلا خاطبنا بلغة العرب، والعرب يتمدحون ويفتخرون بإخلاف الوعيد، كما قال الشاعر: وإني وإن أوعدته أو وعدته لمخلف ميعادي ومنجز موعدي يفتخر بأنه يخلف تهديده وإيعاده؛ لأنه إذا كان قادراً على الوفاء بوعيده ثم عفا فهذا فخر، وهذا ولا شك أفضل من كونه يعذبه مع القدرة، فالعفو مع القدرة هو من تمام التصرف والحلم والكرم. ومن العلماء من يقول: لا يجوز أن يقال: إنه يخلف وعيده، ولا يخلف وعده؛ لأن هذا فيه نظر، فإذا أخبر الله جل وعلا بشيء فهو أصدق القائلين تعالى وتقدس، وسيقع لا محالة.

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة مدمن خمر)

معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة مدمن خمر) Q فضيلة الشيخ: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة مدمن الخمر)، لو قلنا: إنه لا يدخل الجنة أولاً، فهل هذا من التأويل؟ A نعم هذا من التأويل.

الاستسقاء بالأنواء

الاستسقاء بالأنواء Q متى يكون الاستسقاء بالأنواء شركاً أكبر؟ ومتى يكون أصغر مع مزيد من التوضيح؟ A إذا زعم أن الكوكب سبب في نزول المطر أو أنه هو الذي أوجد المطر، فهذا شرك أكبر. أما إذا كان مجرد نسبة قال: مطرنا بنوء كذا. ونسب نزول المطر لخروج الكوكب مجرد نسبة لفظية، فهذا من الشرك الأصغر، من شرك الألفاظ.

الحدس ليس من ادعاء علم الغيب

الحدس ليس من ادعاء علم الغيب Q الذي يرى سحاباً وغيوماً في الليل ويقول: غداً يكون مطر؟ A هذا حدس، ولكن يقول: يمكن أن ينزل المطر في الغد؛ لأن من أسباب المطر وجود السحاب والغمام، أما أنه يجزم فهذا غير صحيح، وأما ما يسمع في نشرة الأخبار من أحوال الطقس؛ فهذا أمر تقريبي مبني على أمور حسية، ولا جزم في ذلك؛ ولهذا يتخلف كثيراً عن قولهم، فهي استدلالات لمقدمات يرونها بالرصد من الجو والسحاب وغيرها.

كتاب: مسائل الجاهلية

كتاب: مسائل الجاهلية Q ما هو الكتاب الذي صنفه الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله فيما خالف فيه الرسول صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية؟ A الكتاب هو: مسائل الجاهلية، وقد شرحه محمود الآلوسي، وزاد عليه مسائل أخرى وهو موجود مطبوع.

النهي عن النياحة

النهي عن النياحة Q هل يأثم من لم ينح ولكنه استمع إلى النائحة؟ A إذا استمع ولم ينكر عليها، أو رضي بفعلها فهو آثم.

سبب اختلاف ألفاظ الأحاديث القدسية

سبب اختلاف ألفاظ الأحاديث القدسية Q قلتم: إن الحديث القدسي لفظه من الله، فكيف هذا ونحن نجد في الحديث روايتين أو ثلاث؟ A هذا من اختلاف الرواة، فكل واحد يعبر بلفظ آخر، أو يقول الرسول صلى الله عليه وسلم عدة مرات، فيتكلم به في كل مرة بلفظ آخر يكون مرادفاً للأول، وهذا لا مانع منه.

حكم نسبة الظواهر الطبيعية إلى غير الله

حكم نسبة الظواهر الطبيعية إلى غير الله Q هل على طالب العلم الذي يدرس الظواهر الكونية أن ينسب الظاهرة إلى سبب من الأسباب الحسية دون نسبته لله مع اعتقاده أنها من الله؟ A لا ينسب إلا إلى لله جل وعلا، فجميع الحوادث تنسب إلى الله، فهو الذي أحدثها وأوجدها وسخرها.

قول أهل السنة في القرآن: (منه بدأ وإليه يعود)

قول أهل السنة في القرآن: (منه بدأ وإليه يعود) Q هل قولهم: (منه بدأ وإليه يعود) حديث؟ A ليس بحديث، بل هذا قول أهل السنة والجماعة في كلام الله، منه بدأ وإليه يعود، وذكرنا أن المقصود معنيين: إما أنهم يقصدون: إليه يعود، فهو منه بدأ، ويقصدون رفعه آخر الزمن كما جاء في الحديث، أو يقصدون أنه صفة، وكلاهما صحيح.

قول: الله ورسوله أعلم

قول: الله ورسوله أعلم Q ذكرتم أنه يجوز قول: (الله ورسوله أعلم) إن كان الأمر من أمور الدين، فهل هناك ضابط في معرفة هل هذا من أمر الدين أومن غيره؟ A الأحكام الشرعية لها حكم، وأفعال المكلفين كلها لها حكم، وكل فعل يفعله المكلف له حكم، من بيع وشراء، وقول ومعاملة وعمل وغير ذلك.

من شرك الألفاظ قول: (لولا فلان)

من شرك الألفاظ قول: (لولا فلان) Q فضيلة الشيخ: قول المسلم: لولا فلان أنقذني لغرقت. هل يعتبر شرك أصغر؟ A هذا من شرك الألفاظ التي لا ينبغي أن تقال، والأولى أن يقال: لولا الله ثم فلان.

حديث: (لولا أنا لكان في ضحضاح من النار)

حديث: (لولا أنا لكان في ضحضاح من النار) Q كيف يمكن الجمع بين حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لولا أنا لكان في ضحضاح من النار) والنهي عن قول: (لو)؟ A سبق أن قلنا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يذكر الأحكام التي يأمر بها، وأن (لو) تأتي على صفتين: الأولى: أما أن يعترض بها على الشيء الواقع ويقال: لولا كذا لكان كذا، فهذا من باب الاعتراض؛ ولأنه يجعل السبب الذي تخلف هو الذي يمكن أن يحول بين هذا الواقع ووجوده، وهذا منهي عنه لا يجوز. أو يكون ذلك لبيان حكم من الأحكام، كقوله صلى الله عليه وسلم: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة، ولو كنت راجماً أحداً بلا بينة لرجمت هذه) وما أشبه ذلك. فهذا في بيان أحكام وليس فيها اعتراض، وإنما المنهي عنه الاعتراض.

قتل من سب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم

قتل من سب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم Q ما الدليل على أن من سب الله وسب رسوله صلى الله عليه وسلم أنه يقتل؟ A الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالذين يسبون أن يقتلوا، ولم يقل: إن أسلموا يتركوا، بل قال: (اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة).

ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم

ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم Q كيف تكون المصيبة من الله؟ وكيف تكون من النفس؟ A كل الحوادث من الله، ولكنها تكون جزاء لأفعال العباد، فالله يجزيهم على أفعالهم: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]؛ لهذا يقول: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء:78].

حكم قراءة الحائض للقرآن

حكم قراءة الحائض للقرآن Q إذا كانت المرآة حائضاً وهي حافظة للقرآن، وتخشى أن تنسى القرآن، فهل يجوز لها أن تقرأ القرآن؟ A الحيض غالباً يكون من ثلاثة إلى سبعة أيام، وهذا وقت يسير لا تنسى فيه.

هل قولهم: (إن نزول القرآن جملة واحدة إلى بيت العزة) من الإسرائيليات؟

هل قولهم: (إن نزول القرآن جملة واحدة إلى بيت العزة) من الإسرائيليات؟ Q قولهم: إن نزول القرآن جملة واحدة إلى بيت العزة من الإسرائيليات، ما صحة هذا القول؟ A صح عن ابن عباس أنه قال ذلك، ومثل هذا لا يقال من قبل الرأي، فإذا جاء مثل هذا فله حكم المرفوع.

كتاب مدارج السالكين شرح منازل السائرين

كتاب مدارج السالكين شرح منازل السائرين Q من هو صاحب شرح المنازل؟ A شارح المنازل هو ابن القيم، والمقصود بشرح المنازل: مدارج السالكين؛ لأن الكتاب اسمه: مدارج السالكين شرح منازل السائرين.

علامة المحبة الصحيحة لله سبحانه

علامة المحبة الصحيحة لله سبحانه Q ما هي علامات المحبة الصحيحة لله تعالى؟ A علامتها اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم.

حكم مس المصحف بغير وضوء

حكم مس المصحف بغير وضوء Q ما حكم مس المصحف والقراءة منه على غير وضوء؟ A لا يجوز، ويجب أن يكون الإنسان متطهراً إذا أراد أن يقرأ من المصحف، ولا يجوز حمله لمن لا يكون متوضئاً إلا من وراء حائل.

الأمور التي يجب على المسلم معرفتها في الإسلام

الأمور التي يجب على المسلم معرفتها في الإسلام Q هل المسلم مطالب بمعرفة الله ورسوله ودينه بلا أدلة أم لابد من معرفة الأدلة؟ A إذا كان يريد الأدلة التفصيلية فهذا من شأن العلماء، أما في الجملة، وكونه يعرف أن الله هو الخالق المدبر لكل شيء، ويستدل على ذلك بالمخلوقات وبنفسه وبما حوله من آيات الله فهذا لابد منه، وكذلك يعرف أن رسوله صلى الله عليه وسلم حق، ويعرف دينه وأنه حق، وأنه جاء به من عند الله. يعني: هذا في الجملة لابد منها، وهذه المسائل التي يسأل عنها الإنسان في قبره: يسأل عن ربه، وعن دينه ونبيه صلى الله عليه وسلم. أما أن يعرف الأدلة بالتفصيل والدقة فهذا لا يكلف به، ولا يكلف الإنسان مالا يطيقه، وهذا شأن العلماء، فهم الذين يعرفون هذه الأشياء، أما عوام المسلمين إذا بقوا مؤمنين في الجملة، واتبعوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم واجتنبوا نهيه في الجملة، وإن لم يكن عندهم الإيمان اليقيني، وستر الله عليهم، وماتوا على ذلك؛ فإنهم يكونون من أهل الجنة، وإن كان أحدهم إن جاءه من يشككه قد يشك؛ لأنه ليس عنده اليقين والأدلة التي يدفع بها الشكوك، ولكن كون الإنسان يكلف بالشيء الذي لا يعرفه إلا العلماء فهذا ليس من دين الإسلام.

الفرق بين محبة الله ومحبة الرسول

الفرق بين محبة الله ومحبة الرسول Q لم يتضح لي الفرق بين محبة الله ومحبة رسوله، وما حد محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهل هناك مانع من أن يحب لذاته؟ A هذا سؤال جيد، محبة الله جل وعلا محبة عبادة، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يحب محبة العبادة. يعني: محبة خضوع وذل وتعظيم، فهذه محبة عبودية، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فيحب؛ لأنه حبيب لله جل وعلا، ومحبته تابعة لمحبة الله، وليست معها، ولا يشارك الله جل وعلا في الحب لا مع الرسول ولا مع غير الرسول. ولهذا قلنا: إن الذي يحب لذاته فقط هو الله، وليس في الوجود من يحب لذاته إلا الله، أما غيره فيحب لوصفه، فالرسول يحب لأنه رسول؛ ولأنه يحب الله؛ ولأن الله يحبه؛ ولأن الله أمر بحبه. إذاً: محبته لا تكون محبة ذل وخضوع وتعظيم وعبودية؛ لأن هذه المحبة لا تكون إلا لله جل وعلا، ويجب أن تكون خالصة له. وهكذا إذا أحببت عبداً من عباد الله فتحبه لأجل طاعته فقط، وعلامة هذه المحبة إذا أحببته لله أنها لا تنقص بالجفاء، فلو جفاك مثلاً وصار لا يزورك، ولا يتصل بك، لا تنقص ما دام أنه مطيع، ولا تزيد بالصلة لو وصلك، أما إذا كانت تنقص بذلك وتزيد فهذه محبة لغير الله.

علامات يعرف بها تقديم حب النبي صلى الله عليه وسلم على حب النفس

علامات يعرف بها تقديم حب النبي صلى الله عليه وسلم على حب النفس Q كيف يعرف الإنسان أن النبي صلى الله عليه وسلم أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين؟ A هذا يعرف بشعور الإنسان، لا بد أن يكون عنده من الشعور ما يميز به ذلك، فإذا قدم طاعة أحد من الخلق على طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فهذا علامة على أنه لا يحب الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو قدم حبه لأطاعه بامتثال أمره، وقدمها على كل أحد، وعلى كل منفعة من منافع الدنيا. والله يقول: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]، والعلماء جعلوا هذه العلامة علامة محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، واتباعه صلوات الله وسلامه عليه، والعلامة ظاهرة.

الحدس في نزول المطر ليس من الاستسقاء بالنجوم

الحدس في نزول المطر ليس من الاستسقاء بالنجوم Q هل من الاستسقاء بالأنواء قول الرجل: لقد اعتزم نزول المطر في شهر كذا مع اعتقاده أن المنزل هو الله؟ A لا، هذا ليس منه، إذا قال: نزل المطر في الشهر الفلاني أوفي اليوم الفلاني أو مطرنا في الشهر الفلاني أو مطرنا في اليوم الفلاني أوفي الأسبوع الفلاني كذا، فهذا ليس من الاستسقاء بالأنواء؛ لأنه يخبر أن نزول المطر كان في هذا الظرف في هذا الشهر أوفي هذا اليوم. وسبق أن قلنا: إن الاستسقاء بالأنواء هو قول العرب: (مطرنا بنوء كذا) والباء هنا لا تصلح أن تكون سببية ولا مصاحبة، ولا تكون لمعنى من المعاني إلا أنها إضافة سبب إلى هذا القول، فلهذا فهو شرك، أما إذا جاءت الفاء فقيل: في الشهر الفلاني أو في اليوم الفلاني أو في طلوع النجم الفلاني؛ فإن هذا لا يدخل في هذا.

سبب إنكار المتكلمين صفة المحبة

سبب إنكار المتكلمين صفة المحبة Q ما هو سبب إنكار المتكلمين صفة المحبة لله تعالى؟ A السبب في هذا أنهم تركوا كتاب الله وسنة رسوله، وأخذوا بعقولهم وأهوائهم؛ فأصبحوا يقيسون الله جل وعلا على خلقه، فقالوا: نجد المحبة فينا كالميل إلى الملائم. يعني: إذا أحب الإنسان شيئاً فهو يحبه لميله إليه، وهذا فيه حاجة، فإذا أثبتنا المحبة لله لزم من ذلك أن نثبت له حاجة، والله يتعالى ويتقدس أن يكون كذلك، فزعموا أن هذا هو أصل إنكارهم؛ لئلا يشبهوا الله جل وعلا. المسألة في الواقع أنهم فروا من شيء زعموه، ووقعوا فيما هو شر منه، ومعلوم أن صفات الله جل وعلا لا تشبه صفة المخلوقين، فإذا أحب عباده فليس لأنه يحتاج إليهم، وليس لأنه جل وعلا بحاجة إلى خلقه، فهذا من إحسانه وكرمه، وصفته سبحانه لا تشبه صفة المخلوقين، كما أن ذاته جل وعلا لا تشبه ذوات المخلوقين.

ترك الواجبات وفعل المحرمات من الكبائر

ترك الواجبات وفعل المحرمات من الكبائر Q هل كل من ارتكب معصية تخالف أمره صلى الله عليه وسلم يعد من أصحاب الكبائر؟ A كل من خالف الأمر الواجب أو ارتكب ما نهي عنه نهياً محرماً، فإنه يكون من أصحاب الكبائر، ولكن الإنسان قد يتوب، وقد يأتي بأعمال تكفر عنه هذا الشيء، فإن الحسنات يذهبن السيئات كما أخبر الله جل وعلا، فلا يلزم من وقوعه في شيء من ذلك أنه يتبعه أثره.

حكم الاحتفال بالمولد النبوي

حكم الاحتفال بالمولد النبوي Q بعض الناس يدعي محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم يحتفلون بمولده فهل لهذا أصل؟ A أما الدعوى فلا تفيد، وسبق أن ذكرنا أن الدليل على المحبة: اتباع السنة، أما إذا جاءت مخالفة للسنة وإن كانت عادة، وزعم أنه يحبه أكثر من غيره، أو أنه يحبه؛ فهذه دعوى، والناس لا يعطون بدعاويهم، بل يجب أن تكون الدعوى عليها برهان، والبرهان هنا هو هذا الاتباع: {قل إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31] فاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم هو الدليل على طاعته، والمولد لم يأمر به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يفعله ولا أصحابه، فهو من البدع.

مدى صحة حديث: (أول ما خلق الله نور نبيك)

مدى صحة حديث: (أول ما خلق الله نور نبيك) Q حديث: (أول ما خلق الله نور نبيك) رواه عبد الرزاق في كتابه، فهل هو صحيح؟ A هذا حديث موضوع.

حقيقة الإسلام

حقيقة الإسلام Q ذكرت أن الإسلام هو الانقياد والطاعة وعدم معارضته، وأن الإنسان إذا لم ينقاد وعارض فليس بمسلم، فهل الذي يعمل المعاصي يكون غير مسلم وذلك لأنه لم ينقد لأمر الله؟ A الذي لم يفعل الواجبات التي أوجبها الله، ولم يصل ولم يزك، ولا يصوم ولا يحج، فهذا ليس بمسلم كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت) فإذا لم يعمل هذه الأعمال فهو ليس بمسلم، فمعنى الإسلام هو: الطاعة لله جل وعلا في هذه الأمور، والانقياد له، وعدم الاعتراض عليه في هذه الأوامر. فإذا وجد الامتناع وعدم الانقياد فإنه لا يكون مسلماً، أما إذا فعل أشياء وترك شيئاً فهذا يصبح من أصحاب الكبائر كما مر.

الخلاف بين أهل السنة ومرجئة الفقهاء

الخلاف بين أهل السنة ومرجئة الفقهاء Q ما صحة قول من قال: إن الخلاف بين أهل السنة ومرجئة الفقهاء خلاف لفظي؟ A ذكرنا السبب الذي بينهم جعلهم يقولون: إن الخلاف لفظي، وهو أنهم نظروا إلى النتائج والحقائق، فما دام أنهم يقولون: الأعمال واجبة، وهي من مقتضى الإيمان، ومن تركها فهو معرض للعقاب، فالنتيجة واحدة.

سبب تقديم الظالم لنفسه على السابق بالخيرات في الآية

سبب تقديم الظالم لنفسه على السابق بالخيرات في الآية Q لم قدم الله تعالى الظالم لنفسه في الآيات على السابق بالخيرات؟ A قدم -والله أعلم- لأجل الكثرة، والعلم عند الله جل وعلا.

مناط الإيمان والكفر هو القلب

مناط الإيمان والكفر هو القلب Q يقول بعض الناس: إن مناط الإيمان والكفر هو القلب، فهل هذا صحيح؟ A الأصل هو القلب، ولكن القلب لابد وأن يبعث الجوارح؛ لأن القلب هو ملك الجوارح؛ فإذا تحلى بالشيء لابد أن تمتثل جنوده -الجوارح- لأوامره، أما أن يكون القلب في شيء والجوارح مخالفة لذلك فهذا ممتنع لا وجود له.

ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا

ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا Q يقول الله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر:32] هل هؤلاء يدخلون الجنة؟ A نعم، بلا شك، وهذا نص الآية.

الفرق بين محبة الله ومحبة الولد

الفرق بين محبة الله ومحبة الولد Q كيف نوفق بين قول الله تعالى: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف:84] وبين قوله صلى الله عليه وسلم: (وأن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (حتى يكون الله ورسوله أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)، رغم أن بياض العينين من الحزن يلزم منه شدة الحزن التي هي أقوى من مجرد الحزن فقط؟ A أقول هذا ليس فيه معارضة حتى نحتاج إلى التوفيق، كون الإنسان يحب ولده هذا شيء لا يمكن أن يتخلى عنه أبداً، وقد يتضاعف حبه لما يكون متصفاً به، وليس معنى ذلك أنه يحبه كمحبة الله أو قريب من ذلك، لا أبداً، وأصلاً لا معارضة حتى نحتاج إلى الجمع، فمحبة الله محبة عبودية كما سبق، وهذه محبة شفقة وحنان، وسبق أن قسمنا المحبة إلى قسمين: - محبة مشتركة وهي أنواع. - ومحبة خاصة يجب أن تكون لله، وهي محبة العبودية والذل والخضوع والتعظيم، وهذا لا يجوز أن يكون لغير الله أصلاً، ولا تكون محبة الولد بهذه المثابة، ولا قريب من ذلك.

من علامات الإيمان: حصول اللذة والمتعة في العبادة

من علامات الإيمان: حصول اللذة والمتعة في العبادة Q هل يفهم من كلام ابن القيم رحمه الله أن في الدنيا جنتان، وأن الذي لا يجد حلاوة الإيمان لا يدخل الجنة؟ A نعم، هو يقول: (في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة) ومقصوده جنة الإيمان والطاعة ولذتها، فالإنسان الذي يصلي ولا يعرف معنى الصلاة، ولا يعرف معنى الإيمان، هذا يصلي لأجل غرض ما. أما إذا كان يدعوه إيمانه إلى فعل الطاعة فإنه يجد الحلاوة واللذة، ولكن الحلاوة تتفاوت تفاوتاً عظيماً جداً، وإذا فاته شيء من الطاعة، يجد أن قلبه يؤنبه، ونفسه تؤنبه، ويجد نفسه خسر فيحزن لذلك، فهذا من علامة الإيمان، ولكن الناس يتفاوتون في هذا تفاوتاً كبيراً كما هو معروف.

أولو العزم من الرسل

أولو العزم من الرسل Q ذكر الله سبحانه أولو العزم، ومنهم نوح عليهم السلام، فمن هم أولو العزم، وما معنى أولو العزم؟ A أولو العزم من الرسل من نصت عليهم الآية، والقرآن أشار إلى أنهم خمسة: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم، واستدلوا بهذا بجمع في آيتين من القرآن، آية الأحزاب، وآية الشورى، فجمعوا هؤلاء، والله قال لنبيه: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35] وقالوا: إن آدم عليه السلام ليس من أولي العزم لقول الله تعالى: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه:115]، فأخرجوه من ذلك لهذا السبب. أما أن نقول: إن هناك نصاً بأن أولي العزم فلان وفلان فلم يأتِ.

معنى حديث: (بئس الخطيب أنت)

معنى حديث: (بئس الخطيب أنت) Q قوله عليه الصلاة والسلام: (بئس الخطيب أنت) يستدل به البعض على جواز التشنيع والذم للمصلح إذا ظهر خطؤه وبان؟ A هذا قاله له في وجهه للتأديب، واستدلوا به على التأديب، أن يؤدب الإنسان ويعلم بخطئه حتى يتأدب، أما التشنيع فلا.

الفرق بين المودة والموالاة

الفرق بين المودة والموالاة Q هل هناك فرق بين المودة والموالاة بالنسبة للكافرين؟ A نعم، الموالاة كفر بالله جل وعلا: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]، أما المودة فقد تزيد وقد تنقص، وقد تؤدي إلى العمل وقد لا تؤدي، والمودة في القلب، وتظهر آثارها على الأفعال.

نصيحة تارك الصلاة والمتهاون بها

نصيحة تارك الصلاة والمتهاون بها Q هل يسلم على من لا يصلي أم يقاطع؟ A الذي لا يصلي يجب أن يدعى إلى الله، ويذكر بالله ويخوف، وأما المقاطعة النهائية فلا تصلح إلا إذا تبين أنه لا فائدة من كلامه ودعوته، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يدعو رؤساء الكفرة الصناديد فيقول لأحدهم: يا أبا فلان! ويكنيه بكنيته، يا أبا فلان! ألا تسمع مني؟ فإن قال: بلى تلا عليه شيئاً من القرآن، فإن قال: لا حاجة لي في ذلك تركه. وهذا كان في مكة لما كانت السيطرة للكفار، فإذا كان للإنسان قريب أو صديق أو من يعرفه وهو لا يصلي فينبغي أن يحاول بكل ما يستطيع أن يوجد في قلبه باعثاً على الصلاة بالتخويف والنصيحة، وبالوسيلة التي يرى أنها مناسبة، والوسائل المناسبة تختلف باختلاف الناس، واختلاف المقامات، فلا يقابله بالمعاداة وإظهار البغضاء إلا إذا رأى أنه لا فائدة فيه، ولا يلزم كونه ينصحه ويكون كلامه بالرق أن يكون هذا فيه مودة له، فالمودة في القلب وهذه دعوة، الله عز وجل أمر كليمه وأخاه هارون أن يقولا لأشر الناس: {قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44]، فامتثل موسى وقال له: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} [النازعات:18] (هل لك): يعرض عليه عرضاً رقيقاً، ويقول: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات:18 - 19] يقول: أصير دليلاً لك حتى ترى الطريق الذي فيه خشية الله وسعادته، ولكن إذا جاء العناد والتكبر ورد الحق والمكابرة فيكون مقاماً آخر؛ ولهذا لما قال له في مقام آخر: {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا} [الإسراء:101] قال له: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء:102] يعني: رد عليه الرد المناسب في المقام المناسب، وهكذا ينبغي للإنسان أن يكون على هذه الصفة. فإذا كانت الدعوة بالكلام اللين يجدي وينفع فهو أولى وأحسن، ثم ينبغي أن يكون أمام الإنسان شيء دائماً وهو أن تكون أعماله لله جل وعلا، يقصد بها وجه الله، ثم يكون عنده رحمة للخلق، فهذا المسكين الذي سوّل له الشيطان وغره يرحمه أن يقع في النار، ويحاول أن ينقذه، والمحاولة هذه طاعة لله جل وعلا، ودعوة إليه تعالى.

حكم مقابلة الكافر بالبشاشة

حكم مقابلة الكافر بالبشاشة Q لدي جار غير مسلم، وأقابله بالبشاشة وحسن الخلق، فهل هذا من الموالاة لغير الله؟ A لا يصلح أن تقابله بالبشاشة، أما حسن الخلق فشيء آخر، وحسن الخلق معناه: عدم الإساءة، وكف الأذى، فلا تؤذه، ولكن تبغضه وتكرهه، وتخبره أنك تبغضه لكفره، وتقول: أود أن تكون مسلماً حتى أودك أما بهذه الصفة فلا.

الوعيد الشديد لمن قدم حب الدنيا على حب الله

الوعيد الشديد لمن قدم حب الدنيا على حب الله Q هل من كانت هذه الأمور الثمانية المذكورة في قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ} [التوبة:24] الآية، أحب إليه من الله أو مساوية له مخرجة من الملة أم لا؟ A إن كانت أحب إليه من الله ورسوله والجهاد في سبيله، فهذا وعيد شديد مثلما قال الله: {فَتَرَبَّصُوا} [التوبة:24] وأخبر أنه يكون من الفاسقين، والفاسق قد يكون كافراً، وقد يكون مرتكباً للكبائر، والفاسق هو الخارج عن الطاعة في اللغة، والناس يختلفون، ولكن لا يجوز أن تكون أحب إليه من الله، فإن كانت أحب إليه من الله فإما أن إيمانه ضعيف جداً لا فائدة في كونه يبعث على العمل، أو أنه معدوم لا يخلو من هذا أو هذا.

لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه

لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه Q قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم) كما في الحديث. قال الشارح: (المنفي هو الكمال الواجب)، فما هو الإيمان المستحب في حق الله وحق رسوله؟ A الإيمان الواجب هو الذي يمنع من العذاب، وإذا ترك الواجب فإنه يكون من أهل الكبائر, وهذا معناه: أن من لم يكن كذلك فهو من أهل الكبائر، والسبب في هذا أنه ترك الإيمان الواجب، ولا يلزم أن يكون ترك أصل الإيمان، بل يكون عنده أصل الإيمان الذي لا يخرجه من الدين الإسلامي، ولكنه ترك الإيمان الكامل الذي يمنع من العذاب، هذا الكمال الواجب. أما الكمال المستحب فشيء آخر، وهناك كمال واجب وكمال مستحب من الإيمان، والكمال المستحب هو فعل النوافل التي يحبها الله ورسوله.

حكم هجر المبتدع

حكم هجر المبتدع Q هل يجوز للمسلم أن يهجر المسلم فوق ثلاث لأنه مبتدع؟ الواجب: يجب أن يعلم أن الهجر علاج، إن كان العلاج به يجدي صير إليه وإلا فلا يصار إليه، والرسول صلى الله عليه وسلم هجر هجراً أفاد، وهكذا غيره ممن يقتدى به، أما إذا كان الهجر يزيد من الشقة والخلاف والفرقة والابتعاد فإنه يكون غير مشروع، ولا يجوز أن يعمل ما يدعو إلى الشقاق. ثم هذا يختلف باختلاف الناس، فقد يكون الإنسان يقول: هذه بدعة، وهي ليست بدعة، وقد يختلفون في وجهة النظر، وليس كل ما قال فلان: هذا مبتدع أو هذه بدعة، تكون بدعة، بل البدعة مخالفة ما هو معروف مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الشرع، إما إذا خالفه إنسان في فهمه أوفي غير ذلك فيزعم أنه مبتدع فهذا لا يُسلم له.

لا تجد قوما يؤمنون بالله يوادون من حاد الله ورسوله

لا تجد قوماً يؤمنون بالله يوادون من حاد الله ورسوله Q يقول الله: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [المجادلة:22]، فهل هنا (لا يؤمنون) نفي للإيمان الكامل؟ A هنا نفي الإيمان الواجب، أما إذا كان كمال الاستحباب فلا، يعني: يعاقب عليه، وهو ترك الشيء المستحب فقط؛ لأن من ترك المستحب لا يعاقب عليه.

حكم مجالسة أهل المعاصي لدعوتهم إلى الله

حكم مجالسة أهل المعاصي لدعوتهم إلى الله Q هل من حرج على من يجالس أهل المعاصي بقصد الدعوة؟ A لا حرج في ذلك إذا كانت مجالستهم لا تؤثر في المُجالس، وإنما يدعوهم، وهذا يختلف باختلاف الأحوال، وأما كون الإنسان يجلس مع من يشرب الخمر فهذا لا يجوز، ومن يتعاطى هذه الأمور والمحرمات في المجالس لا يجوز الجلوس معه، فإما أن ينكر أو يترك.

أنواع الخوف

أنواع الخوف Q فضيلة الشيخ: من أي أقسام الخوف هذه الآية: {إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} [النمل:10]؟ A هذه من النوع الثاني الذي نزلت فيه الآية الكريمة كما قال: {نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه:45] يعني: فرعون معروف بجبروته وطغيانه، وكونه استبعد عباد الله فيقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم، وادعى أنه هو ربهم. فالخوف من هذا القبيل، فأخبر جل وعلا أنه يحميه، وأن فرعون لا يفرط عليه ولا يطغى، ولهذا صار يكلمه حسب أمر الله له، أمره أن يقول له قولاً ليناً فقال له قولاً ليناً، قال: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} [النازعات:18]، وهل هنا يقصد بها العرض، فصار يعرض عليه حسب أمر الله: {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات:18 - 19] يعني: أكون دليلاً لك إلى الخشية. هذا أول الأمر، فلما تمادى في الجبروت والغطرسة وقال: {لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا} [الإسراء:101] قال له بشيء يناسب ذلك: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء:102] ما خافه ولم يبال به؛ امتثالاً لأمر الله جل وعلا، وهو يقوم بالدعوة حسب أمر الله جل وعلا له. والمقصود أن هذا من هذه القضية، مثلما قال الناس لمحمد صلى الله عليه وسلم {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173] وموسى عليه السلام كذلك.

الخوف على المستقبل

الخوف على المستقبل Q المخاوف الغيبية كالخوف على مستقبل الأولاد من ناحية الرزق هل هذا يعد شركاً؟ A هذه ليست مخاوف، هذه كما أن الإنسان يخاف المقادير، والخوف يجعله يعود إلى الله جل وعلا، والإنسان له أن يفعل الأسباب التي أمره الله جل وعلا بها، ولكن لا يجوز له أن يرتكب في ذلك محرماً، فلا بأس ببذل السبب المأمور به من الأسباب، أما كونه إذا فرط ترك الأمور فهو ملوم بلا شك، وإذا وقع في أمر مخوف فهو السبب.

الأعمال التي توجب كمال الإيمان

الأعمال التي توجب كمال الإيمان Q ما هي الأعمال التي تختص بكمال الإيمان المستحب؟ A الأعمال كثيرة، وكل ما أوجبه الله فهو من الإيمان، وكذلك كل أمر حرمه الله جل وعلا فتركه من الإيمان، وأعمال الإيمان الواجبة لا تنحصر فهي كثيرة جداً.

عمارة المساجد عمارة حسية ومعنوية

عمارة المساجد عمارة حسية ومعنوية Q ذكرتم بأن المقصود من عمارة المسجد في الآية تشمل عمارة البناء أو الطاعة، وعلى هذا التفسير؛ فإن المشرك قد يكون عامراً لمسجد باعتبار البناء، فهل هذا يصلح؟ A نعم؛ ولكن عمله فاسد؛ لأنه ما بناه على الإخلاص وعلى طاعة الله، فهو مثلما قال: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النور:39] وإن كان ظاهره وصورته أنه عمل صالح، ولكنه في الحقيقة فاسد لهذا السبب.

ترك العمل بسبب الخوف

ترك العمل بسبب الخوف Q هل الخوف الذي يجعل الإنسان يترك واجباً أو يفعل محرماً يعتبر شركاً؟ A نعم، يعتبر شركاً، ولكن هذا الشرك قد يكون من الشرك الأكبر، وقد يكون من الأصغر.

الفرق بين الخوف والخشية

الفرق بين الخوف والخشية Q هل يوجد فرق بين الخوف والخشية؟ A الخشية من الخوف، هذا يفسر هذا، والخشية نوع من الخوف، والخشية أبلغ لأسباب ذكرها العلماء ولكنها من الخوف.

الأجر على المصيبة والصبر عليها

الأجر على المصيبة والصبر عليها Q هل الأجر يكون على المصيبة أم على الصبر عليها؟ A يكون عليها وعلى الصبر، فهي تكفير للذنوب كما قال جل وعلا: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30] يعني: كفارة، والصبر عليها والاحتساب أمر آخر أيضاً.

المكافأة على صنع المعروف

المكافأة على صنع المعروف Q كيف نكافئ الناس على صنع المعروف؟ A يكافئون بالمعروف؛ لأن المسلم لا يجوز أن يكون لأحد عليه منه، ويتعلق قلبه به، حتى لا يكون قلبه إلا لله وحده، فإذا صنع أحد إليه شيئاً فإنه يكافئه عليه، بل ينبغي أن يزيد على ذلك، سواءً بالعطاء والمال، وإن لم يستطع ذلك فبالدعاء حتى يرى أنه جازاه عن معروفه بالدعاء، يدعو له حتى يرى أنه كافأه، كما في الحديث الذي مر معنا: (من صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه عليه فادعوا له حتى تروا -يعني: تظنوا- أنكم قد كافأتموه). فإذاً: يكون بالمال إذا كان قدم لك شيئاً من المال، فأنت تعطيه مثل الذي أعطاك وأفضل، فيكون الفضل لك، فإن لم تستطع ذلك فتدعو، والدعاء أحسن من المال وأفضل.

الابتلاء بالمرض النفسي

الابتلاء بالمرض النفسي Q هل المؤمن يبتلى بالمرض النفسي؟ A نعم، يؤتى على حسب ما عنده من الذنوب، والأمراض النفسية من العقاب، وغالباً قد تكون من الشيطان يسلط على الإنسان، ومن باب الابتلاء والامتحان، وعليه أن يصبر ويجاهد، لا أن يضعف ويستسلم ويصبح لا يستحق الكرامة والرفعة، وهذا من الابتلاء والامتحان، فالشيطان هو الذي يوسوس في النفوس، والأمراض تأتي من قبله، وأمراض الشك وأمراض الشبهات كلها من قبل الشيطان، وقد يحب الشهوات لمرض في قلبه، ولهذا ذكر الله جل وعلا أن مرض القلب أنواع: -منه مرض شبهة. -ومنه مرض شهوة. قال جل وعلا: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [الحج:52 - 53]، هذا مرض الشبهة. أما مرض الشهوة فهو الذي ذكره الله جل وعلا حيث يقول: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32]، هذا مرض الشهوة. فالوسوسة من الشيطان، وقد يكون منها آلام في النفس، وأمور يضطرب الإنسان من أجلها، فإذا كان توكله على الله ضعيفاً يزداد، أما إذا لجأ إلى ربه واعتصم به، واستعاذ به من الشر والشكوك، ضعفت الشبهة، وطردها باليقين وبطلب العلم، وكذلك مرض الشهوة يلجأ العبد إلى ربه أن يعافيه منها، فتزول عنه بإذن الله ويعافى، ويكون بعد ذلك أحسن مما كان، فإنه ربما صحت الأبدان بالعلل، وكذلك القلوب.

التحذير من إرضاء المخلوق بسخط الخالق

التحذير من إرضاء المخلوق بسخط الخالق Q من أرضى مخلوقاً بسخط الله سبحانه وتعالى: هل هذا من الشرك الأكبر؟ A لا يلزم أن يكون من الشرك الأكبر، وقول الله جل وعلا في الآية التي فيها: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران:64]، وقوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} [التوبة:31] إلى آخر الآية، وذكر الرسول صلى الله عليه وسلم أنها ليست عبادتهم بالسجود والإيمان بهم، وإنما هي طاعتهم في المعصية، إذا حللوا شيئاً من الحرام اتبعوهم أو حرموا شيئاً من الحلال اتبعوهم، فتكون هذه عبادتهم، فالذي يكون بهذه المثابة يطيع المخلوق في تحليل الحرام أو تحريم الحلال فقد عبده عبادة، ويكون شركاً أكبر، أما إذا كانت أقل من ذلك فيكون من الشرك الأصغر، والإنسان قد لا يسلم من هذا، والله المستعان.

حكم رد القرض النقدي بزيادة تكرما

حكم رد القرض النقدي بزيادة تكرماً Q إذا أقرضني رجل مالاً ثم رددته إليه، ووضعت له زيادة على ما أعطاني بدون طلب منه، هل في ذلك شيء؟ A هذه المسألة اختلف العلماء فيها، والصواب أنه لا يجوز أن يزيده في النقود، بخلاف ما إذا كان غير نقود، إذا أقرضه شيئاً آخر من الأثاث أومن غيره فزاده فلا بأس، وقد جاء (أن الرسول صلى الله عليه وسلم استسلف بكرة، فجاء صاحبه يطلب الوفاء، فقال: أعطوه بكرة فقالوا: لم نجد إلا جذعاً. يعني: كبيراً فقال: أعطوه، فإن خيركم أحسنكم قضاءً). أما الزيادة في النقود فإنها من الربا لقوله صلى الله عليه وسلم: (كل قرض جر نفعاً فهو ربا) فلا يجوز أن يكون ذلك بالنقود.

المصيبة في الدين

المصيبة في الدين Q المصيبة في الدين -نسأل الله العافية- مثل ماذا؟ A كثيرة، فقد تكون كبيرة، وقد تكون صغيرة، وقد تجد إنساناً إذا أصيب بمصيبة ظاهرة كمرض أو فقد مال أو ما أشبه ذلك تسخط وقال: أنا لا أستحق هذا، وهذا في الواقع مصيبة في الدين، بخلاف ما إذا حمد الله ورضي وقال: هذا قدر الله، والحمد لله، كل ما قدر الله خير، فإنه يزداد خيراً، وربما يعوضه الله أكثر مما فقد، وهذا مثال فقط، وإلا فهي أمور كثيرة.

ما نزلت مصيبة إلا بذنب وما رفعت إلا بتوبة

ما نزلت مصيبة إلا بذنب وما رفعت إلا بتوبة Q كيف يعرف العبد أن ما أصابه من المصائب ابتلاء من عند الله أو بسبب ذنوبه؟ A يجب أن يعتقد أن كل ما أصابه من مصيبة فإنها بسبب ذنوبه؛ لقول الله جل وعلا: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]، وقال جل وعلا في الآية الأخرى: {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79] المصيبة تكون من الأنفس بسبب الذنوب، وقد يصاب الأولياء مثل الأنبياء والرسل بمصائب فتكون رفعة لهم في درجاتهم، فيحصلون على درجات بسببها لا يتحصلون عليها بالعمل، ولكن الناس قد يكونوا مقصرين في أمر الله، فالإنسان لا يكون على أمر الله على الوجه المطلوب، ولابد أن يحصل التقصير، فيكون من نعمة الله جل وعلا عليه أن يصاب بمصائب، وهذه نعمة إذا حمد الله على ذلك، ورأى أنه أهل لهذه المصيبة، وأن الله فضله واسع، وحمد الله أنها ما كانت أكبر من هذا، فإنه يزداد بذلك أجراً وخيراً وإيماناً، فتكون المصيبة في حقه نعمة.

الفرق بين الحديث المرفوع والحديث الموقوف

الفرق بين الحديث المرفوع والحديث الموقوف Q ما الفرق بين الحديث المرفوع والحديث الموقوف؟ A الحديث الموقوف ما وقف على الصحابي من قوله، أما المرفوع فالذي رفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من قول الرسول صلى الله عليه وسلم.

الفرق بين التوكل والتواكل

الفرق بين التوكل والتواكل Q هل هناك فرق بين التوكل والتواكل؟ A التوكل أن يكون القلب اعتماده على الله جل وعلا، وهو من أفضل الإيمان كما سمعنا، أما التواكل فهو اصطلاح لعمل الناس، وكل واحد يتصور أن الآخر سيعمله، مثلاً: إذا كانوا مسافرين، فواحد يأخذ استعداده، وواحد لا يأخذ شيئاً، وقد يكون هذا الذي لا يأخذ شيئاً يعتمد على الثاني، ثم لا يأخذ الثاني شيئاً، فهذا تواكل، وهو خطأ.

التوكل من أعمال القلب

التوكل من أعمال القلب Q من يتوكل على غير الله فهل يجوز الصلاة خلفه؟ A ما يدرينا أنه يتوكل على غير الله؟ التوكل هو اعتماد القلب، وعمل القلب، وإذا تبين أنه يتوكل على غير الله في حصول أمور لا تحصل إلا من الله فهو مشرك، والمشرك لا يصلى خلفه.

حكم قول القائل: (أنا معتمد عليك في كذا)

حكم قول القائل: (أنا معتمد عليك في كذا) Q هل يجوز هذه اللفظة: أنا معتمد عليك في الأمر الفلاني؟ A يجوز إذا كان في أمر عادي، ويعني: في السبب، أما فعل القلب فلا يجوز، يقول: أن أعتمد على الله، وأنت تجتهد في هذا الشيء، وتتوكل على الله في أنه يحصل، ويجوز أنه يعتمد عليه. إذاً: يجوز في الفعل العادي، كونه يبيع ويشتري، وكونه يأتي إليه بشيء من مكان ما، فهذه أمور عادية، ومع ذلك لا يقول: اعتمد عليك، بل أعتمد على الله في هذا؛ لأن هذا سبب، والأسباب لا يعتمد عليها، وإنما يعتمد على مسبب الأسباب جل وعلا.

التوكل يزيد وينقص

التوكل يزيد وينقص Q إذا كان التوكل بمنزلة الجسد للإيمان، وإذا فقد فقد الإيمان، فهل يكون من لم يتوكل على الله خارجاً من الملة؟ A الذي لا يتوكل على الله ليس بمؤمن، ولكن التوكل ينقص ويزيد مثل الإيمان، فقد يكون التوكل عند إنسان ضعيفاً وقد يكون عند آخر كاملاً، وقد يكون عند ثالث متوسطاً، فالناس يختلفون فيه اختلافاً عظيماً، أما أن نوجد إيماناً بلا توكل فلا يوجد إيمان بلا توكل.

حكم قول: رب الأرباب

حكم قول: رب الأرباب Q قول المؤلف: (رب الأرباب) هل هذه اللفظة جائزة؟ A نعم، الأرباب هم: الخلق، جعل الله جل وعلا بعضهم أرباباً لبعض، فملكهم أشياء مثل الحيوانات، وملكهم حتى بعض العقلاء، فكل مالك يسمى رباً، يقال: رب الدار، رب الكتاب، رب البيت، رب السلعة، وهكذا، فالرب إذا ذكر لغير الله فلابد أن يضاف، ولا تطلق (رب) مجردة إلا على الله جل وعلا، فمن هنا قيل: رب الأرباب. يعني: رب كل شيء.

حكم الترحم على الأنبياء

حكم الترحم على الأنبياء Q قول النبي صلى الله عليه وسلم: (رحم الله موسى) أيجوز الترحم على الأنبياء؟ A كيف لا يجوز؟! ولكن الأنبياء صار لهم خاصة أنهم يصلى عليهم، والصلاة من الآدميين الترحم، إنما إذا ذكر الأنبياء قيل: صلى الله عليهم وسلم، وهذا طلب من الله، والرحمة داخلة فيه، فصار خاصاً بهم مع أنه يجوز أن تقول لإنسان عادي: صلى الله عليه وسلم، يجوز ذلك، ولكن ما يجوز أن يكون عادة، لما جاء عبد الله بن أبي أوفى إلى النبي صلى الله عليه وسلم بزكاته قال: (اللهم صل على آل أبي أوفى) المقصود أنه صارت الصلاة علم على الأنبياء، كما صار الترضي علم على الصحابة، والترحم على سائر الأمة من العلماء وغيرهم.

حكم الاعتماد على الوساطة

حكم الاعتماد على الوساطة Q من اعتمد على شخص يتوسط له في وظيفة أو دراسة أو غيرها فهل هذا من المنهي عنه؟ A هذا ليس باعتماد، فلا تقل: أعتمد عليك، بل تقول: إنه يشفع، ويسعى في ذلك، والشافع يسعى ويعمل، وأنت تعمل، أما الاعتماد فيكون على ربك جل وعلا.

قوله تعالى: (ويمكر الله والله خير الماكرين)

قوله تعالى: (ويمكر الله والله خير الماكرين) Q فضيلة الشيخ: هل تثبت صفة المكر لله عز وجل؟ A المكر ليست صفة، ولا يقال: صفة المكر، وإنما هذا فعل يفعله الله جل وعلا إذا شاء، فيثبت على ما أثبته الله جل وعلا فقط، يعني: على الصيغة التي جاءت {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] فنقول: خير الماكرين. تقول: إنه يخادع الكافرين والمنافقين، وتقول: إنه يستهزئ بالذين يستهزئون به، على الصيغة التي جاءت فقط، ولا يجوز أن يؤخذ منها صفة، ولا يؤخذ منها اسم، بل تثبت كما جاءت، وهذا في كل فعل يأتي وهو في الأصل قد يدل على كمال، وقد يدل على نقص، وقد يدل على خير، وقد يدل على شر؛ لأن هذا لا يدخل في الأسماء الحسنى، بل يكون في موضعٍ كمال وفي موضعٍ نقص، فيثبت لله في الموضع الذي هو كمال، وينفى عنه في الموضع الذي هو نقص، والطريق في هذا: اتباع ما جاء في النصوص فقط.

معنى الران

معنى الران Q قال الله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] ما معنى هذه الآية؟ وهل هي للكفار أم لعصاة المؤمنين؟ A الران يختلف باختلاف قدره وسببه، والران معناه: تغطية القلب، أن يغطى ويعمى فيصبح لا يرى الحق حقاً ولا يحبه ولا يريده، يعني: تتراكم عليه أسباب الذنوب حتى يعمى، فهذا قد يكون للعصاة ويكون للكفار، على حسب الران، وقد يكون قليلاً وقد يكون كثيراً، ولكل ذنب نصيبه من ذلك. والمعروف أن من أسبابه كثرة الذنوب، فالذنب يجر الذنب، فكل ذنب يجر ذنباً آخر، والعمل الصالح يجر عملاً صالحاً؛ ولهذا يقول الله جل وعلا: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5] يعني: كان الزيغ سبباً عندهم أولاً، ثم جاءت إزاغة القلوب بعد ذلك بسبب كونهم ردوا الحق من أول الأمر، ويقول جل وعلا في الآية الأخرى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:110] هذا هو الران. فهو يختلف اختلافاً كبيراً جداً في الناس، ولكل نصيب، فالعصاة لهم نصيب منه، والكفرة لهم النصيب الأوفر منه.

معنى قوله تعالى: (فأمه هاوية)

معنى قوله تعالى: (فأمه هاوية) Q ما معنى قول الله تعالى في سورة القارعة: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة:9]؟ وهل الأم لها ذنب في ذلك إذا كانت أمه التي ولدته؟ A ( أمه) يعني: مصيره ونهايته، وليست أمه التي ولدته. والهاوية: النار. يعني: يهوي فيها على رأسه إلى مستقرها، فالأم هي النار، وليست الأم التي ولدته.

خوف المؤمن

خوف المؤمن Q هل المؤمن يكون آمناً منذ خروجه من قبره حتى يدخل الجنة؟ A سئل الإمام أحمد متى يأمن المؤمن؟ فقال: إذا وضع أول قدم له في الجنة. فهناك يأمن الأمن التام، فهو يخاف من ذنوبه دائماً، والمؤمن يكون خائفاً، ليس بآمن، بمعنى أنه لا يصبح آمناً أمناً تاماً يحدوه إلى ترك العمل، هذا لا ينبغي.

التوبة سبب في النجاة من عذاب القبر

التوبة سبب في النجاة من عذاب القبر Q هل نستفيد من قصة الذي قتل تسعة وتسعين نفساً أن الإنسان لو تاب ثم مات بعد فعل المعاصي الكثيرة لا يطهر في القبر أو النار؟ A نعم، إذا كانت توبته صادقة صالحة ختم له بالحسن في هذه التوبة، فهو من أهل الجنة ولا يعذب.

أسباب عدم قبول الدعاء

أسباب عدم قبول الدعاء Q ما سبب عدم قبول الدعاء؟ A الأسباب كثيرة، منها: أكل الحرام، ومنها: الغفلة في القلب، ومنها: كون الإنسان مصراً على ذنب، فالإصرار على الذنب يمنع من إجابة الدعاء. والحمد لله رب العالمين.

شرح فتح المجيد [142]

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [142]

معنى الحياة الطيبة

معنى الحياة الطيبة Q ما المقصود بالحياة الطيبة في قول الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97]؟ A الحياة الطيبة هي الإيمان والعمل الصالح الذي يجعله متصلاً بربه يأنس به، وكلما عمل عملاً طلب ما هو أفضل منه إلى أن يلقى ربه، فهذه هي الحياة الطيبة، وهذه هي التي يعبر عنها بجنة الدنيا، فيقول بعض العلماء: (إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة) فهي نعيم يجده كلما وقع في شيء؛ لأنه إما عمل يكتسب به أجراً، أو مصيبة يكتسب بها أجراً: (عجباً للمؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)، وهكذا الذي يكون في حياة طيبة، فهو يعرف طريقه، ويعرف أين يسير، فهو آمن في عمله مطمئن، إلا أنه يخاف من ذنوبه، فقد تكون في أعماله غوائل ودواخل يخاف عليه منها، وإن كان من أشد الناس إيماناً. فهذا عمر رضي الله عنه لما حضرته الوفاة، وصار الناس يذكرون له أعماله الجميلة الطيبة، قال: (وددت أني أخرج منها كفافاً) وهو أحد المبشرين بالجنة، هكذا الصالحون، وهذا معاذ رضي الله عنه الذي يقول عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنه يحشر أمام العلماء برتوة) لما حضرته الوفاة صار يقول: (اللهم إني أعوذ بك من ليلة صبيحتها إلى النار)، وهكذا يقول وهو واثق بربه جل وعلا تمام الثقة.

هل الذنوب مقدرة؟

هل الذنوب مقدرة؟ Q كيف نوفق بين القضاء والقدر بسبب الذنوب، وبين القضاء والقدر الذي يكون من عند الله سبحانه وتعالى؟ A قد يكون السائل يقصد هل الذنوب مقدرة أو غير مقدرة؟ أو هل سبب الذنوب من الإنسان؟ أفعال الإنسان مقدرة بلا شك، ولكن الإنسان له اختيار وقدرة وإرادة، فإذا فعل شيئاً بإرادته واختياره فهو مسئول عنه، وإن كان ذلك مقدر، ولا ينافي أن الله جل وعلا قدر على الإنسان الذنب، وأنه فعله بقدرته واختياره، فلا منافاة، فإذا كان السائل يسأل عن هذا فالأمر واضح فأقول: إن الله جل وعلا خلق الإنسان عاقلاً، وبين له طريق الهدى من طريق الردى، وبين له الخير والشر، وأمره بأوامر محددة يستطيع أن يفعلها، ونهاه عن مناه معينة يستطيع أن يتركها، ثم وكل الأمر إليه وقال: هذا طريق الخير إذا سلكته فلك الجزاء الأوفى، وإن تركته فعليك العقاب، وأنت معرض لعذاب الله، فقد وكل الأمر إليه، فإذا فعل ذلك يكون قد استحق الجزاء بفعله؛ لأنه بإرادته واختياره، وإن لم يفعله فقد عصى واستحق العقاب، والأمور كلها مقدرة. ولكن: ما معنى التقدير؟ هل معنى التقدير أن الله أجبره على هذا الشيء وقصره عليه وألزمه به؟ لا. ولا يجوز أن نفهم هذا. التقدير معناه: أن الله علم أن هذا المخلوق سيوجد، وأنه سيفعل كذا وكذا بقدرته وإرادته واختياره، وهو الذي خلق المخلوق، وخلق إرادته وقدرته ومقدرته، وجعل ذلك إليه، فإذا فعل شيئاً فهو يقع عن قدرة الله وعن مشيئته التي جعلها للإنسان، فقد جعل الله للإنسان قدرة واختياراً وإرادة، فالإنسان ليس هو الذي يجعل في نفسه القوة، ولا الذي يجعل في نفسه الإرادة، ولكن الله هو الذي جعلها فيه. إذاً: هو الذي خلق فعله ولكن جعله إليه باختياره. وعلى هذا نقول: إذا آمن العبد فهو المؤمن حقيقة، وإذا صام فهو الصائم حقيقة، وإذا صلى فهو المصلي حقيقة، وليس الله تعالى وتقدس، وإن كان هذا مقدراً، وكذلك إذا كفر وإذا عصى فبذلك يستحق العقاب أو يستحق الثواب، فليس بين اختيار الإنسان وإرادته وفعله وبين تقدير الله معارضة، هذا هو الجواب إذا كان السائل يقصد هذا.

العسر مع اليسر

العسر مع اليسر Q كيف يكون مع العسر يسرى في قول الله تعالى: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:6]؟ A إن كان السائل يقول: إن العسر يكون معه يسر. يعني: يكون اليسر مختلط معه فنقول: لا، ليس هذا هو المقصود، والمعنى: إذا وقع العسر فلا بد أن يتبعه اليسر؛ لأن الله أخبر: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:6] يعني: إذا حصل العسر يأتي بعده يسر، فالخير أكثر من الشر، وإن كان الشر سببه الإنسان، ولكن خير الله أكثر. فالله كرر وقال: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:5] ثم كرر {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:6] فالعسر واحد؛ والأخير هو الأول، فإذا قلت مثلاً: رأيت رجلاً، ثم بعد ذلك قلت: رأيت الرجل. فالرجل المذكور هو الرجل الأول، فأما إذا رأيت رجلاً ثم قلت: رأيت رجلاً، فالرجل الثاني غير الأول، هذا رجل، وهذا رجل غيره، وهنا لما جاء العسر محلاً بأل (إن مع العسر يسراً) ثم جاء بعد ذلك محلاً بأل (إن مع العسر يسراً)، صار الثاني هو الأول، أما اليسر في الثاني فهو غير الأول؛ لأنه قال: (يسراً) ما قال: اليسر، فلما قال: (يسراً) دل على أن اليسر الثاني غير الأول، والمعية هنا لا يقصد بها الاختلاط، بل يقصد أنها تعقبه أو أنها تصاحبه.

أصحاب الكبائر تحت المشيئة

أصحاب الكبائر تحت المشيئة Q من المعلوم أن صاحب الكبيرة تحت مشيئة الله، فكيف نوفق بين ذلك وبين قول الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء:10]، وبهذا حق عليه العذاب؟ A لا يلزم من هذا إحقاق العذاب عليه، وإذا أحقه الله عليه فهو حق، وهذا من الوعيد الذي نقول: إنه تحت مشيئة الله، فهو فعل فعلاً يكون سبباً لدخوله النار: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء:10] يعني: أن هذا سبب في دخول النار، ولكن هل هذا يتحقق؟ لا يلزم أن يتحقق، فقد يتوب إلى الله جل وعلا، فيعفو عنه، وإن لم يتب ومات مصراً على أكله مال اليتيم، لا يلزم أن الله ينفذ ما أخبر به، فقد يتوعد ويعفو، فالأمر إليه، بخلاف الشرك الذي أخبرنا أنه لا يعفو عنه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48] فهذه الآية داخلة في قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] فأكل مال اليتيم دون الشرك، وهو داخل في ما هو (دون ذلك) فلا منافاة بين كلام الله جل وعلا.

التسخط من المصائب إثم

التسخط من المصائب إثم Q هل الذي يتسخط من المصيبة في نفسه دون أن يظهر ذلك لأحد بلسانه وإنما كتم ذلك في نفسه آثم؟ A بلا شك أنه آثم، والله يعلم ما في قلبه، وسوف يجزيه على ذلك، ولا بد من تسليم الرضا، والأعمال والأقوال وأعمال الجوارح تبعاً لما في القلب، فإذا كان القلب ساخطاً فهو الملك الذي تتبعه جنوده، والجوارح واللسان منها، فتكون تابعة له ساخطةً مثله، ولكن قد يظهر وقد لا يظهر.

عدم منافاة الأخذ بالأسباب للتوكل على الله

عدم منافاة الأخذ بالأسباب للتوكل على الله Q كيف التوفيق بين الصبر على المرض والذهاب إلى الأطباء، ومثله شراء الملابس للتدفئة عند وجود البرد؟ A هذا سؤال عجيب! الإنسان أمر بفعل الأسباب، وفعل الأسباب امتثالاً لأمر الله جل وعلا طاعة، فإذا أصيب الإنسان بمرض فلا يجلس في البيت حتى يموت، ولكن كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (تداووا عباد الله! فإن الله ما أنزل داء إلا وأنزل له دواء، علمه من علمه، وجهله من جهله) إلا داء واحد وهو الموت، فإنه لا دواء له، فالتداوي من الأسباب التي أمر الله بها، وكذلك سائر الأسباب الإنسان مأمور بها، وفعل السبب غير مناف للصبر، ولا مناف للتوكل، بل هو منه. فالشيء الذي أمرت به فافعله؛ فإن تركته فأنت ملوم، ولا يتركه إلا ضعيف العقل أو لا يعلم الشرع.

المبالغة في الزجر

المبالغة في الزجر Q أليس تأويل قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا) بأنه ليس على هدينا وطريقتنا الكاملة ينافي المبالغة في الزجر؟ A لا ينافي المبالغة؛ لأن أكثر المسلمين ليسوا على الطريقة الكاملة، ومع ذلك لا يقال: إنهم مرتكبون لجرائم وعظائم، من الذي يستطيع أن يكون على طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم وهديه الكامل؟ لا أحد، بل من الذي يستطيع أن يكون على طريقة الصحابة؟ ومعلوم أن الجنة رتب دخولها على أمور سهله، مثل: إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والحج، هذه مع شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. ولكن المكملات هذه فيها اكتساب الدرجات في الجنة، وهي تتفاوت تفاوتاً عظيماً جداً، أما هذا لا ينافي ذلك.

العطاء مع الشكر أحب من الابتلاء مع الصبر

العطاء مع الشكر أحب من الابتلاء مع الصبر Q هل قول أحد السلف: (إذا أعطيت وشكرت أحب إلى من أن أصاب فأصبر) صحيح؟ A الناس يختلفون في هذا، فمنهم من تكون المصيبة أفضل له من العطاء؛ فإنه يجد فيها من انكسار القلب والرقة والرجوع إلى الله بالتوبة ما لا يجده فيما إذا أعطي نعمة.

قول: (لا ندري هذه الدنيا ما تفعل بنا)

قول: (لا ندري هذه الدنيا ما تفعل بنا) Q قول الرجل: (لا ندري هذه الدنيا ماذا تفعل بنا) هل هذه اللفظة صحيحة؟ A الدنيا لا تفعل أي شيء، لكن يقول: لا ندري ما يحدث لنا، والدنيا في يد الله جل وعلا، وهي عبارة عن الليل والنهار وجريان الأمور فيها.

حكم الندب في الرثاء

حكم الندب في الرثاء Q هل الرثاء بالشعر يعتبر نياحة على الميت؛ لأن فيه ذكر محاسن الميت؟ A الرثاء إذا كان فيه ذكر الندب كفعل بعض الجاهلية فهو من هذا الباب، أما إذا كان مجرد ذكر أعماله والثناء عليه بها، وليس من الندب؛ فلا.

حقيقة الندب والنياحة

حقيقة الندب والنياحة Q إذا كان الميت سيئاً فهل يذكر بمحاسنه لقوله صلى الله عليه وسلم: (اذكروا محاسن موتاكم) وهل هذا من النياحة؟ A النياحة ليست بأن تذكر المحاسن، فالنياحة أن يذكر حظوظه منه، ويندبه بحظوظه التي كان يتحصل عليها منه، ويرفع صوته بها أو يفعل فعلاً محرماً.

البكاء على الميت

البكاء على الميت Q هل البكاء على الميت حزناً على الفراق من غير أصوات وشق للجيوب منهي؟ A قال بعض العلماء: إنه مستحب إذا كان ليس فيه شيء منهي عنه.

البكاء على الميت لا ينافي الصبر

البكاء على الميت لا ينافي الصبر Q عندما يموت الميت، ويتذكر الحي هذا المتوفي، فتخرج دموعه ويبكى حزناً عليه، هل هذا ينافي الصبر؟ A لا ينافي الصبر، فدمع العين وحزن القلب لا ينافي الصبر، بل هذا أفضل من الذي لا يكون قلبه حزيناً، ولا تكون عينه دامعة، جاء عن بعض السلف أنه مات ابنه فضحك، وقال: أنا أرضى بما رضي ربي به، فهذا ليس أكمل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لما مات ابنه ذرفت عيناه وقال: (يحزن القلب، وتدمع العين، ولا نقول إلا ما يرضي الرب جل وعلا) فليس الذي لا يبكي أو قد يضحك أكمل من الذي تدمع عينه، ويحزن قلبه، فدمع العين وحزن القلب رحمة، والله يرحم بها، وهذا دليل على أنه يثاب عليه.

حكم من مات حسرة وندما على ميت له

حكم من مات حسرة وندماً على ميت له Q ما حكم من مات حسرة وندامة على ميت له؟ A نسأل الله العافية! هذا معناه أن حياته صارت متعلقة بالميت، وهذا لا يجوز أن يحدث، ويجب على الإنسان أن يصبر، ومن فعل ذلك فقد ارتكب جرماً وترك ما أمر به؛ لأنه مأمور بالصبر.

ليس الإيمان بالتمني

ليس الإيمان بالتمني Q كيف نجمع بين حديث: (الإيمان بضع وسبعون شعبة) وحديث: (ليس الإيمان بالتمني) إلى قوله: (ولكن ما وقر في القلب)؟ A التمني يعني: الكلام، ليس الإيمان بالكلام المجرد، ولكن الإيمان بالفعل الذي يكون في القلب أو يكون بالأعمال.

الصوت الفاجر في حال النعمة

الصوت الفاجر في حال النعمة Q ما المقصود بالصوت الفاجر في حال النعمة؟ A الصوت الفاجر: مثل الغناء عند النعمة، والطرب والرقص أو ما يشبه ذلك، فهذا الصوت الفاجر.

الفرق بين المصيبة والابتلاء

الفرق بين المصيبة والابتلاء Q ما الفرق بين المصيبة والابتلاء؟ A المصيبة هي التي يفقد الإنسان بها نعمة أنعم الله جل وعلا بها عليه من ولد، أو أب، أو أخ، أو مال، أو مرض يصيبه، أو ما يشبه ذلك، فهذه مصيبة. أما الابتلاء فهو أعم من هذا، فالابتلاء قد يكون بالنعم، وهذا قد يكون أصعب من الابتلاء بالمصائب؛ لأنه ينسى بذلك آخرته وينسى ربه، فكثير من الناس يصلح قلبه بالفقر والمرض والابتلاء، ويفسد قلبه بالنعم؛ لأنه كما قال الله جل وعلا: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7].

حكم الاجتماع في المآتم

حكم الاجتماع في المآتم Q ما يفعله بعض الناس اليوم من التجمع في المآتم هل هو من النياحة على الميت؟ A المآتم من أمور الجاهلية، لا يجوز أن يجتمعوا لمأتم يذكرون فيه محاسن الميت أو أن يتجمعوا لأجل حزن أو ما يشبه ذلك؛ فإن هذا من أمور الجاهلية التي كانوا يفعلونها.

ترك الذنوب خشية المصائب

ترك الذنوب خشية المصائب Q إذا ترك الإنسان الذنوب خشية المصائب فهل يثاب على هذا الترك؟ A هذا لا ينبغي؛ لأنه يصير مقصوده بذلك الدنيا، أما إذا كان خشية المصائب من خشية عذاب الله؛ فيثاب عليه؛ لأنها خوف من الله، ولا يجوز أن يكون لأجل الدنيا فقط.

الفرق بين الرضا والصبر

الفرق بين الرضا والصبر Q ما الفرق بين الرضا والصبر؟ A الرضا أن يرضى بحالته التي هو فيها، ويصبح راضياً بها، يعني: لا يتمنى غيرها، ولا يتمنى أن يخرج عنها، فهذا هو حال الرضا، أما الصبر فيصبر على المصيبة التي أصابته، ويحمل نفسه على هذا الشيء، ولا يتضجر، ولا يتوجع، ولا يغضب من ذلك، بل يصبر ويسلم لله جل وعلا، فالصبر أسهل من الرضا؛ لأن الرضا فيه الصبر وزيادة على الصبر، والصبر لا يتضمن الرضا.

الضيق والألم بعد الذنب

الضيق والألم بعد الذنب Q هل ما يجده الإنسان من ضيق وألم في نفسه من أثر الذنب يعتبر من العقوبة العاجلة؟ A نعم، وقد يكون هذا من التوبة، حيث يجد ضيقاً في نفسه، وتأسفاً على أنه وقع في ذلك، أما إذا كان الضيق ليس أسفاً على الذنب، ولا حزناً على فعله، فهذا يكون عقوبة، وقد تكون مكفرة وقد لا تكون مكفرة؛ لأنه من جزاء الذنب فعل الذنب الآخر بعده. ثم الله جل وعلا يقول: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار:13 - 14] يقول العلماء: هذا عام في الدور الثلاث: في الدنيا، وفي البرزخ، ويوم القيامة، فالأبرار في نعيم في دورهم الثلاث، والفجار في جحيم في دورهم الثلاث، وإن كان يظهر من حاله للمشاهد أنه متنعم، وليس كذلك، فتجد عنده الهموم والخوف والشيء الذي هو نار في قلبه وجحيم، نسأل الله العافية!

الفرق بين الغضب والسخط

الفرق بين الغضب والسخط Q ما الفرق بين الغضب والسخط؟ وهل هما بمعنى واحد؟ A إذا أراد السائل صفات الله، فليسا بمعنى واحد، وإن كانت بعض معاني السخط قد تكون قريبة من معنى الغضب، ولكن هذه صفة، وهذه صفة، أما للناس فهذا شيء معروف؛ لأن الغضب من أثر السخط.

هل الإنسان مأجور على المصائب؟

هل الإنسان مأجور على المصائب؟ Q هل المصائب مكفرات للذنوب فقط أم مكفرة وزيادة الجزاء والثواب؟ A الظاهر أنها مثل ما مضى، والراجح أنها مكفرات للذنوب، والناس يختلفون في هذا، فبعضهم تكون له مكفرات وزيادة أجر، واكتساب حسنات؛ لأنه ورد في الحديث: (أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على قدر دينه)، وهذا واضح؛ لأن هذا يكون للجزاء، وليس للتكفير فقط.

خطر التسخط على أقدار الله

خطر التسخط على أقدار الله Q إذا حصل في القلب أي نوع من التسخط في بعض الأحيان بسبب المصائب فهل صاحبها على خطر؟ A بلا شك، وتكون هذه مصيبة أعظم؛ لكونه اتهم ربه، ومعنى ذلك أنه صارت له مصيبة أخرى، فأحدثت له مصيبة أكبر منها، وتصبح المصيبة لا أثر لها في تكفيرها السيئات، ويحتاج إلى مصيبة أخرى أكبر، نسأل الله العافية!

الإثابة على المصائب

الإثابة على المصائب Q هل المصائب العظيمة والكبيرة يؤجر ويثاب عليها الإنسان أم يثاب بمجرد وقوع أي مصيبة ما؟ A يثاب في كل المصائب إذا صبر واحتسب.

ضرورة إقران اسم الضار بالنافع في أسماء الله

ضرورة إقران اسم الضار بالنافع في أسماء الله Q هل يجوز إطلاق اسم الضار على الله جل وعلا؟ A لا يجوز إطلاقه منفرداً، ولكن مقترناً بالنافع فيقال: الضار النافع، لابد أن يقرن الاثنين معاً.

حكم ترك الدواء بحجة التوكل على الله

حكم ترك الدواء بحجة التوكل على الله Q هل صدر من بعض السلف ترك الدواء عند المرض ثقة بالله وإيماناً به؟ وهل يجوز للإنسان تركه؟ A هذا فيه خلاف بين العلماء، فمنهم من يرجح أن عدم استعمال الدواء من التوكل على الله، وأنه أرجح، ومنهم من يعكس القضية، والصواب: أن الإنسان يتداوى؛ لأن الدواء سبب ولا ينافي التوكل.

حكم طلب الاستغفار من الرسول صلى الله عليه وسلم بعد موته

حكم طلب الاستغفار من الرسول صلى الله عليه وسلم بعد موته Q بعضهم يقول: يجوز أن أقول: (يا رسول الله! (استغفر لي) ويحتج بأن الأنبياء أحياء في قبورهم؟ A قلنا: لابد أن يكون الإنسان متقيداً بالشرع الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا كان هذا يجوز فعليه الدليل، والدليل على خلافه، وقد ثبت أن رجلاً قال: (ما شاء الله وشئت، فقال: أجعلتني لله نداً؟!)، فلا يجوز أن يقول: استغفر لي؛ لأن الرسول لما توفي انتقل من هذه الحياة إلى حياة أخرى، وهو عندما يخاطبه أو يطلب منه شيئاً، فقد طلب من ميت، ومثله أن يطلب من الملك أو الجني الغائب، وهذا من الشرك بالله جل وعلا، فالصحابة رضوان الله عليهم لم يطمع فيهم الشيطان، وقد وقعوا في مشاكل وأمور صعبة ولم يطمع فيهم الشيطان، فلم يأتوا إليه يستفسرون منه أو يطلبون منه، وهم يعرفون دينه، ويعرفون ما جاء به، وكونه يأتي إنسان ويقول: هذا يجوز؛ نقول: عليك الدليل؛ لأن هذا شرع وعبادة، وكل عبادة يجب أن تكون مقيدة بالشرع، وإلا فهي مردودة على صاحبها، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يبلغ ذلك، والله جل وعلا يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67] فلو كان من الدين لبلغه، فإذا لم يبلغه فهو ضلال.

ترك العمل خوفا من الرياء شرك

ترك العمل خوفاً من الرياء شرك Q بعض الناس يترك إمامة الناس بالصلاة، ويترك الموعظة لهم؛ خشية الرياء؟ A ترك العمل الصالح خوفاً من أن يقول الناس: مراءٍ لا يجوز، والعمل من أجل الناس لا يجوز، وكله يدخل في الشرك، لكن يجب على الإنسان أن يجاهد نفسه دائماً، ولا يطيع الشيطان، فكونه مثلاً لو أمر بمعروف وقال له الشيطان: لا تأمر بهذا، حتى لا يقال لك: إنك مراءٍ، أو أنك كذا وكذا، فلا يطعه، والشيطان يحب هذا، ولكن الواجب على الإنسان أنه يعمل ويجتهد، وكل عمل يحتاج إلى جهاد، والأعمال بالنيات كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) والنية يجب أن تخلص لله جل وعلا، وإذا أخلص الإنسان نيته فلا عليه من قول الناس ولا يضره سواء قالوا أو لم يقولوا.

الرياء بعد العمل

الرياء بعد العمل Q إذا عمل العبد عملاً قاصداً به وجه الله تعالى، ثم بعد انقضاء العمل أخبر بهذا العمل، أو حدث عنه. وهل يدخل في باب الرياء؟ A إذا كان يخبر عنه ليذكر به، ويثنى به عليه؛ فهذا من السمعة التي هي رياء، ولكن إذا عمل الإنسان عملاً لله خالصاً، ثم ظهر للناس بدون فعله، فأثنوا عليه فهذا لا يضره؛ وجاء في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عنه فقال: (تلك عاجل بشرى المؤمن) ولكن لا يجوز أن يتأثر الإنسان بهذا، ويجب أن يكون أعرف بنفسه من غيره.

تخليص الأعمال أشق على العاملين من طول الاجتهاد

تخليص الأعمال أشق على العاملين من طول الاجتهاد Q ما معنى قول شيخ الإسلام رحمه الله: إن تخليص الأعمال أشق على العاملين من طول الاجتهاد؟ A معناه: إن النية صعبة، ومعالجة النية هو الأساس في العمل، ولكن الإخلاص يحتاج إلى مجاهدة؛ لأن حظوظ النفس تريد الشيء الذي تطلبه، وكون الإنسان يخالف نفسه ويقهرها يصعب على الإنسان.

الفرق بين الشرك الأكبر والأصغر

الفرق بين الشرك الأكبر والأصغر Q ما الفرق بين الشرك الأكبر والأصغر؟ A الشرك الأكبر هو ما كان مخرجاً من الدين الإسلامي، وإذا مات عليه الإنسان كان خالداً في النار. والشرك الأصغر من عظائم الذنوب، لكنه لا يخرج من الدين الإسلامي، وإذا مات عليه الإنسان فلا يكون خالداً في النار، ويجوز أن يعذبه الله به. إن الله جل وعلا يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] فأخبر أن الشرك غير مغفور لصاحبه، فلابد من المؤاخذة عليه. هذا هو الفرق. أما الفرق في الضوابط بين هذه الأعمال نفسها، والتفريق بين العمل الذي يكون شركاً أكبر والعمل الذي يكون شركاً أصغر فهذا صعب؛ لأن العمل قد يكون ظاهره أنه صغير، وهو في نفس الأمر كبير، ويرجع إلى نية الإنسان ومقصده؛ ولهذا فالعلماء يعرفون الشرك الأصغر بالأمثلة، يقولون: مثل: الرياء، والحلف بغير الله، أو قول: (لولا الله وأنت)، (لولا الله وفلان)، و (أنا بالله وبك)، (توكلت على الله وعليك)، وما أشبه ذلك، وقد يكون هذا من الشرك الأكبر، وقد يكون من الشرك الأصغر، فليس الشرك الأصغر كل عمل يكون وسيلة إلى الشرك الأكبر، فهذا ضابط غير صحيح؛ لأن هناك أعمالاً تكون وسائل للشرك الأكبر، وليست من الشرك الأصغر.

معرفة الرياء في النفس

معرفة الرياء في النفس Q كيف يعرف المسلم أنه مرائي؟ A بأن يعرف إذا كان مخلصاً لله أم لا، لابد أنه يعرف هذا، ولكن كيف يعرف الآخر؟ هذا يظهر من أعماله وأقواله.

علاج الرياء

علاج الرياء Q ما هو العلاج لمن أصيب بالرياء؟ A العلاج: أن يعلم أنه عبد لله جل وعلا، وأن الذي يجزيه على عمله هو الله وليس الناس، وأن سائر الناس ذمهم لا ينفعه بشيء، والناس مثله، منهم من هو مساوٍ له أو أقل منه أو فوقه بالعمل الصالح: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].

الرياء يحبط العمل

الرياء يحبط العمل Q إذا صدرت الأعمال من العبد مشوبة بالرياء، ثم تاب إلى الله من ذلك، ثم سأل الله تعالى أن يردها عليه، فهل يردها الله عليه بعد التوبة؟ A لا، العمل الذي خالطه الرياء حابط، والله غني عنه، ولا يرده عليه.

طروء الرياء أثناء العمل

طروء الرياء أثناء العمل Q إذا بدأ العبد بالعمل مخلصاً لله تعالى، ثم طرأ عليه الرياء، فركن إليه واسترسل معه، ثم قبل انتهائه من العبادة تذكر فتاب مما حصل منه من ركونه للرياء، هل يستأنف العمل من جديد؛ لأنه حابط أو يستمر في عمله؟ A إذا كانت العبادة مثل الصلاة وغيرها فلا يعيدها؛ لأنها فرض سقطت في ظاهر الأمر، وإن كان معاقباً وآثماً بسبب الرياء، وإن كان يريد أن يثاب عليها فليعدها؛ لأن الإخلاص شرط في صحة العمل كما في الآية: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110] فذكر شرطين في صحة العمل: الشرط الأول: أن يكون صالحاً، والصالح ما كان صواباً على السنة. الشرط الثاني: أن يكون خالصاً لله جل وعلا. فمعنى ذلك أنه إذا تخلف شرط من هذين الشرطين فالعمل غير معتد به شرعاً، ولا يثاب عليه، ولا يقبل منه، ويكون صاحبه معاقباً عليه.

الأعمال المتعدية النفع

الأعمال المتعدية النفع Q قال ابن رجب رحمه الله: (وقد يصدر في الصدقة أو الحج الواجب أو غيره من الأعمال الظاهرة التي يتعدى نفعها) ما هي الأعمال التي يتعدى نفعها؟ A مثل الصدقة الأمر بالمعروف القيام بنفع إنسان ومساعدته ببدنه أو بماله أو ما أشبه ذلك. يعني: شيء يرى ويتعدى نفعه للناس، فهذا الإخلاص فيه عزيز يعني: لا يكون خالصاً إلا عند من أيقن إيقاناً بأن الذي يتولى الجزاء هو الله، وأنه لا ينفعه قول الناس ومدحهم وثناؤهم.

الفرق بين النية والإخلاص

الفرق بين النية والإخلاص Q ما الفرق بين النية والإخلاص؟ A الإخلاص: أساسه النية، ويكون العمل خالصاً بنيته، ولا يكون فيه شيء لغير الله جل وعلا، فالإخلاص يدخل في النية وفي العمل، ومعلوم أنه لا يوجد عمل إلا بنية، فهي الأساس، ولهذا صار قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) هو الأساس في هذا. وقالوا: إن هذا الحديث يدور عليه أمور الدين كلها، فإذا ضم إليه حديث عائشة وحديث النعمان بن بشير، فهي ثلاثة أحاديث فقط تكفي في جميع دين الإسلام؛ لأن حديث النعمان بن بشير فيه أن الحلال والحرام من الله، ولا يكون حلال أحله فلان وحرام حرمه فلان. وحديث عائشة فيه أنه يكون على السنة، فهو ميزان للأعمال الظاهرة، وهو قوله: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، وحديث عمر ميزان للأعمال في الباطن: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) وهذا هو الإخلاص.

مواجهة المرائي بريائه

مواجهة المرائي بريائه Q هل من اتضح لي أنه مراءٍ أقول له: أنت مراءٍ؟ A ما الفائدة من ذلك؟ ولكن الواجب أن الإنسان ينصح لأخيه ويحذره، أما أن تقول: هذا مراءٍ، فلا فائدة منه.

الستر عند ارتكاب المعاصي

الستر عند ارتكاب المعاصي Q من يختفي عند المعصية من الناس حياء منهم وخوفاً، هل يعتبر مرائياً؟ A هو أحسن من المجاهر؛ لأنه يستحي من الناس، والحياء من الناس مطلوب، ولكن يجب أن يكون الخوف من الله وليس من الناس، ومع ذلك فالذي يخفي المعصية أحسن حالاً ممن يظهرها؛ لأنه جاء في الحديث: (كل أمتي معافى إلا المجاهرون) والمجاهرون: هم الذين يظهرون المعاصي ويجاهرون بها، وهؤلاء قد نزع الله منهم الحياء، ونزع منهم المخافة.

تجديد النية والإخلاص في العمل

تجديد النية والإخلاص في العمل Q كيف يجدد المسلم نيته وإخلاصه في العمل لله سبحانه وتعالى؟ A النية دائماً تحتاج إلى تثبيت وتجديد؛ لأنه يعرض لها عوارض، وكل عارض يعرض لها يجب أن يصد بالتجديد والإخلاص.

ويل للمطففين

ويل للمطففين Q الويل يأتي في مواضع الشرك الأكبر فكيف في قول الله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين:1]؟ A وكذا قوله: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:4 - 7] فالويل يقوله جل وعلا لمن يستحقه؛ لأن العبد يجب أن يكون عبداً لله خالصاً فالمطفف همه الدنيا، ومقصوده الدنيا، ومقصوده قول الناس وأنظارهم؛ فاستحق أن يقال له (ويل).

الخوف الموصل إلى الشرك الأكبر

الخوف الموصل إلى الشرك الأكبر Q كيف يكون الخوف من الشرك الأكبر؟ A الخوف من مقامات العبادة، فيجب أن يكون خالصاً لله، فالخوف من الغيب ليس من الخوف الطبيعي، أو الخوف الذي يكون مع ذل وخضوع، فهذا يجب أن يكون لله جل وعلا وحده، ولكن الإنسان قد يخاف من الظالم، ولكن قلبه يلعنه ويشتمه، فمثل هذا ليس من العبادة.

تفسير قول الله: (لئن أشركت ليحبطن عملك)

تفسير قول الله: (لئن أشركت ليحبطن عملك) Q ما تفسير قول الله سبحانه وتعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65]؟ A تفسيره ظاهر، فالشرك يحبط العمل، وهذا خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم حتى يتبين أنه ليس من الخلق مخلوق يصلح معه الشرك أصلاً، فالشرك محبط للأعمال مطلقاً: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65] وهذا نظير قوله جل وعلا في آية أخرى: {فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس:106] يعني: الشرك، والشرك محبط للأعمال مطلقاً، وإن كان الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، وهو معصوم صلوات الله وسلامة عليه أن يقع منه ذلك؛ ولكن ليبين جل وعلا أن الشرك أعظم الذنوب، وأنه لو وقع من أعبد الناس وأكثرهم اجتهاداً فإن عمله يحبط ويصير إلى النار؛ لأن الأنبياء هم خلاصة الخلق، فلو أشركوا لحبط ما كانوا يعملون. إذاً: الشرك محبط للأعمال مطلقاً.

قول: (توكلت على الله ثم عليك)

قول: (توكلت على الله ثم عليك) Q هل يصح قول: توكلت على الله ثم عليك؟ A يجوز في الشيء الذي يجوز، أما في الشيء الذي لا يجوز فلا، يعني: يجوز في الوكالة الجائزة، كأن يشتري له شيئاً يستطيعه أو يعمل له عملاً يستطيعه، فهذا يجوز أن يقول له: (توكلت على الله ثم عليك) أي: في هذا الشيء الذي يستطيعه ويقدر عليه، أما في الأمور التي لا يستطيعها فلا يجوز، حتى ولو قال: (ثم)، ولا يفيده ذلك.

الشرك الأصغر لا يحبط العمل

الشرك الأصغر لا يحبط العمل Q هل الشرك الأصغر يحبط العمل؟ A الشرك الأصغر غير محبط للعمل، ولكنة يحبط ما قارنه من العمل إذا كان من الرياء وما أشبهه، فإذا قارن الشرك الأصغر عملاً أحبط ذلك العمل المقارن، أما العمل الذي قبله وبعده فلا، وهو بخلاف الشرك الأكبر؛ فإنه يحبط العمل مطلقاً، فإذا أشرك الإنسان شركاً أكبر حبط عمله كله -نسأل الله العافية-؛ ولهذا إذا مات على الشرك فهو في النار خالداً فيها، وإن كان له أعمال سابقة صالحة فإنها تحبط.

ترك العمل خوفا من الناس

ترك العمل خوفاً من الناس Q إن العمل لأجل الناس شرك، ولكن ترك العمل خوفاً من الرياء أو أن يقال له: مراءٍ كيف يدخل في الشرك، فإن الشرك إنما هو صرف ما هو خاص لله إلى غير الله؟ A لأنه جعل الخوف من الناس كالخوف من الله، فترك العمل لله خوفاً من الناس ومن أقوالهم؛ فدخل في الشرك من هذه الناحية.

الجمع بين إرادة الدنيا والآخرة

الجمع بين إرادة الدنيا والآخرة Q هل يمكن الجمع بين إرادة الدنيا والآخرة؟ A الدنيا والآخرة ضرتان، إذا أهملت واحدة أضررت بالأخرى ولابد، فينبغي الإتيان بالأعمال التي أوجبها الله جل وعلا، وطلب مرضاته، ولا يجوز أن يقصد بها شيئاً من الدنيا، ويجب أن تكون خالصة لله جل وعلا، والدنيا ستأتي بعد ذلك فلا تكون همه، بل تأتي تبع ذلك، ولكن إذا كانت الدنيا مشتملة على العمل الصالح، مثل الجهاد، ففيه مغانم الكفار؛ فهذا لا بأس به، ولا يقال: إنه يريد المغنم، وقد أخبر الله جل وعلا عن ذلك في كتابه فقال: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عمران:152] يعني: من المجاهدين من كانت إرادته شيئاً من الدنيا، ومنهم من لا يريد من الدنيا شيئاً، إنما يريد الآخرة خالصة، ولم يعاقب هؤلاء أو يقال: إنهم وقعوا في الشرك، لا، لكونهم فعلوا شيئاً جائزاً.

طاعة الله خوفا من المصائب

طاعة الله خوفاً من المصائب Q إذا كان عمل العبد خوفاً من الله أن يصيبه بمصائب، وهو يعمل لوجه الله، هل يدخل هذا تحت النهي؟ A لا. إذا كان يخاف من ربه فهذا يثاب على خوفه، والله جل وعلا إذا ترك أمره فإما أن يعفو وإما أن يعاقب، وعقابه إما أن يكون عاجلاً أو يكون آجلاً، وإذا كان عاجلاً فهو أسهل، وكونه يخاف من هذا يثاب على خوفه، لأنه خاف من ربه جل وعلا.

حكم أخذ الجوائز على حفظ القرآن والمسابقات

حكم أخذ الجوائز على حفظ القرآن والمسابقات Q ما حكم أخذ الجوائز على حفظ القرآن والمتون والاشتراك في هذه المسابقات؟ A حفظ القرآن والمتون الشرعية يجب أن يكون مقصوداً به وجه الله، لكن إذا كان هناك شيء تبع للتشجيع أو الإعانة، وجاءه بدون قصد؛ فلا بأس بأخذه.

عموم حديث: (أول من تسعر بهم النار)

عموم حديث: (أول من تسعر بهم النار) Q حديث: (أول من تسعر بهم النار) ما رأيكم فيمن يقول: إن هؤلاء هم أول من تسعر من هذه الأمة، وليس أول من تسعر بهم النار من جميع الناس؟ A هذا يحتاج إلى دليل؛ لأن الحديث ظاهره العموم.

داووا مرضاكم بالصدقة

داووا مرضاكم بالصدقة Q كيف نجمع بين قصد الصدقة لشفاء المريض، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (داووا مرضاكم بالصدقة)؟ A هذا لا إشكال فيه، فالصدقة تدفع البلاء كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن لا يجوز أن يتصدق لأجل أن يشفى مريضه فقط، لا يجوز هذا، بل يتصدق طلباً لمرضاة الله جل وعلا، ويكون الشفاء أو ما يريد من الدنيا تابع لذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم أمر الإنسان إذا دعا بدعوة ألا يكون خائباً، فيحصل له واحدة من ثلاث: - إما أن يعطى دعوته عاجلة. - وإما أن يصرف عنه من البلاء ما هو أعظم من ذلك. - وإما أن تدخر له في الآخرة، وهذا أفضل. كذلك المتصدق لا يجوز أن يتصدق لأجل أن يكثر ماله، أو يصح بدنه، أو يشفى مريضه فقط، بقطع النظر عن ابتغاء فضل الله، وطلب مرضاته، وليس معنى ذلك أنه لابد أن يصرف نظره عن النفع الدنيوي. المقصود ألا تكون الدنيا هي مراده فقط، ولكن أهم وأغلب وأعظم مراده يكون في الآخرة، ورضاء الله، وكونه يطلب عاجلاً في الدنيا لا يضره، والله جل وعلا يعلمنا فيقول: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201]. ويجب أن يكون طلب كل شيء من الله ولو كان شيئاً يسيراً؛ كما قال بعض السلف: (اطلب من ربك حتى ملح العشاء) وفي الأثر: (حتى شسع النعل إذا انقطع تطلب من ربك أن ييسر إصلاحه)، والمقصود أن الإنسان لا يكون منصرفاً كل الانصراف للآخرة أو للدنيا، بل كما قال الله: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201].

ولا تنس نصيبك من الدنيا

ولا تنس نصيبك من الدنيا Q كيف يمكن للإنسان ألا يجعل له إرادة غير إرادة الآخرة مع وجود المغريات والملهيات؟ A الإنسان الذي يعمل أعمالاً صالحة لا يريد بها إلا الدنيا، هذا هو المذموم، فلا يريد الآخرة أصلاً، بل يريد بها الدنيا فقط، هذا هو الذي يدخل في الشرك، أما إذا أراد بالأعمال الآخرة والدنيا وهو يطلبها من الله، فهذا شيء مطلوب، ويرغب الله فيه، ولا لوم على الإنسان في هذا، سواء كان ذكراً أو دعاء أو غير ذلك.

الإنسان عبد حسب ما قام بقلبه من العبودية

الإنسان عبد حسب ما قام بقلبه من العبودية Q هل الذي يشتهي جميع ما يراه من الملابس والمراكب، وكل شيء حسن، ويفكر فيه كثيراً حتى في بعض صلواته؛ يكون عبداً لهذه الأشياء؟ A إذا استولت عليه في الصلاة، فهو يفكر فيها دائماً، وشغلته عن صلاته وعبادته، فهو عبد على حسب ما قام بقلبه من العبودية، فإن العبودية تتفاوت، وقد تكون كاملة، وقد تكون جزئية.

المقصود بالولدان في قوله تعالى: (يطوف عليهم ولدان مخلدون)

المقصود بالولدان في قوله تعالى: (يطوف عليهم ولدان مخلدون) Q قال سبحانه وتعالى: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنثُورًا} [الإنسان:19] ما المراد بالولدان في هذه الآية؟ A الولدان في الجنة ليسوا أولاداً لهم، بل خدم لهم.

لإبراهيم مرضع في الجنة

لإبراهيم مرضع في الجنة Q ورد في صحيح البخاري أنه لما توفي إبراهيم ولد النبي صلى الله عليه وسلم قال الرسول صلى الله عليه وسلم (إن له ظئراً ترضعه في الجنة) فما معناه؟ A كون له مرضع في الجنة لا يدل على أن ولدان الجنة أولاد لهم.

القتال في سبيل الوطنية

القتال في سبيل الوطنية Q من قاتل وطنية فهل هو في سبيل الله؟ A القتال في سبيل الوطن من أمور الجاهلية، فهو ليس في سبيل الله، بل في سبيل الوطنية، فإذا قاتل وطنية فهو في سبيل الوطن، والرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يقاتل حمية -الحمية هي الوطنية- ويقاتل شجاعة ليرى مكانه، ويقاتل لأجل قومه -يعني: يدافع عنهم- من منهم في سبيل الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) إذا كان يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، أما ما عدا ذلك فهو في سبيل الشيء الذي يقاتل من أجله، إذا كان يقاتل لأجل الدنيا أو يقاتل لأجل الدفاع أو الانتصار أو ما يشبه ذلك، فهو في سبيل الذي يقاتل من أجله.

العشق تعلق بغير الله

العشق تعلق بغير الله Q هل يدخل العشق في تعلق القلب بغير الله؟ A نعم، بلا شك أن عشق الصورة أو المرأة أو غيرها وتعلق قلبه به حتى صار عاشقاً لها تعلق بغير الله، والعشق هو حب يصل إلى حالة يخشى عليه من الموت مع الشهوة، فهذا معناه أن قلبه غالباً يكون فارغاً من معرفة الله جل وعلا أو من عبادته.

معنى النقود المضروبة

معنى النقود المضروبة Q ما معنى النقود المضروبة؟ A المضروبة التي قدرت بشيء معين، وفيها أسماء مكتوبة عليها ضرب، والضرب أن تكتب الأسماء عليها، والقدر المعين. يعني: أجزاء معينة كما هو معروف.

السكن في الجنة

السكن في الجنة Q هل في الجنة اختلاط بين الرجال والنساء؟ A الإنسان الذي يقرأ القرآن يعرف ما معنى الجنة والسكن فيها، فالإنسان إذا كان له مسكن في الجنة يسير فيه طويلاً، ولا يحتاج إلى اختلاط، يذهبون إلى السوق ويأخذون حاجاتهم، والله جل وعلا يقول عن الجنة: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن:72]، فليست كأسواق الدنيا وحال الدنيا التي يتهارج الناس فيها تهارج البهائم، فينبغي الإنسان أن يعرف قدر الجنة حتى يرغب فيها.

إرادة الجاه في الدنيا

إرادة الجاه في الدنيا Q هل بين العمل لله مع عدم إرادة الدنيا وبين محبة أن يحصل المرء على جاه تناقض؟ A معلوم أن الجاه هو حظ للنفس، وحظوظ النفس تزاحم مراد الله جل وعلا من العبد، كلما كان له حظ فمعنى ذلك أن له نصيباً من عبادة نفسه: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:43] قد يتخذ هواه إلهاً، وقد تكون الإرادة أقل من ذلك، ولكنها تزاحم مرادات الرب جل وعلا حتى ينقص عمل الإنسان شيئاً ما، وعلى اختلاف ما يكون في قلب الإنسان تختلف أحوال الناس، فالناس لهم أحوال كثيرة جداً؛ ولهذا اختلفت مساكنهم في الجنة منهم من يكون في الفردوس، ومنهم من يكون في أدنى الجنة، ومنهم من يكون في الغرف؛ لأن قلوبهم في عبادة الله جل وعلا وحبه اختلفت اختلافاً عظيماً جداً، وقد قال السلف: إن أبا بكر رضي الله عليه ما سبق الصحابة بكثرة صوم وصلاة، وإنما سبقهم بشيء وقر في قلبه.

الشهيد لا يجد ألم الموت

الشهيد لا يجد ألم الموت Q ذكر أن الشهيد لا يجد ألم الموت إلا كقرصة القراد، فكيف نفرق بين هذا وبين قول الرسول صلى الله عليه وسلم حين قبض: (لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات)؟ A المقصود بالشهيد شهيد المعركة، وليس كل شهيد، ولكن المقصود به شهيد المعركة الذي يقتل فيها، هذا الذي لا يجد ألم الموت إلا كقرصة القراد.

التمتع والإفراد في الحج والعمرة

التمتع والإفراد في الحج والعمرة Q هل أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ما سمعا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن التمتع في الحج أفضل؟ A سمعا، ولكنها فهما أن المقصود بالأمر بالمتعة الرفق بالناس، وليس أن الأفضل في الحج التمتع، وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: بإجماع العلماء أنه إذا كان الإنسان في السنة الواحدة يستطيع أن يأتي بالعمرة بسفرة مستقلة، ويستطيع أن يأتي بالحج بسفرة، فالإفراد أفضل له. فمراد أبي بكر وعمر: أن يأتي الإنسان بالعمرة مفردة وبالحج مفرداً فذلك أفضل، أما إذا كان لا يأتي في العمر إلا مرة أو يأتي من بلاد بعيدة، أو يشق عليه أن يسافر في السنة مرتين؛ فالأفضل في حقه أن يأتي بالحج والعمرة معاً، فليس هناك معارضة أبداً في قول أبي بكر وعمر لقول الرسول صلى الله عليه وسلم.

طاعة ولي الأمر في المباح والمستحب

طاعة ولي الأمر في المباح والمستحب Q إذا كان الأمر مباحاً أو مستحباً فهل يلزم طاعة ولي الأمر أو الأب؟ A إذا كان مباحاً فهذا شيء، وإذا كان مأموراً به فهذا شيء ثان، فالمباح والمستحب لك أن تفعل ذلك أو تتركه.

شهيد المعركة

شهيد المعركة Q هل يستوي في الفضائل شهيد المعركة مع شهداء الأمة الآخرين كالمبطون والهدم والغرق؟ A لا يستوون، والشهداء كثيرون، ولكن هذه الفضائل ذكرت لشهيد المعركة فقط، الذي يقتل في صفوف القتال مجاهداً ويراق دمه.

الجهاد وطلب العلم

الجهاد وطلب العلم Q أيهما أفضل: الجهاد في سبيل الله أم طلب العلم؟ A هذا يختلف باختلاف الناس، فإذا كان الإنسان يجهل أشياء كثيرة من أمر دينه؛ فهذا حتماً عليه أن يتعلم قبل أن يجاهد، أما إذا كان قد طلب العلم، فهو يعرف ما أوجب الله عليه، وما حرم عليه، ويعلم الأحكام التي يحتاجها فالجهاد في حقه أفضل.

من ملك فرسا بنية إعداده في سبيل الله

من ملك فرساً بنية إعداده في سبيل الله Q من ملك فرساً بنية إعداده في سبيل الله فهل يؤجر على ذلك؟ A نعم يؤجر، كما جاء في الحديث: (إن الخيل لثلاثة: رجل ربطها للفخر والخيلاء، فهي عليه وزر، ورجل ربطها في سبيل الله -يعني: يحمل عليها في سبيل الله- فله بذلك أجر، ورجل اتخذها ليقاتل عليها في سبيل الله فهذا الذي كلما عملت عملاً من مشي أو أكل أو غيره فله أجر ذلك).

الصوم في سفر الجهاد

الصوم في سفر الجهاد Q ورد في الحديث: (من صام يوماً في سبيل الله باعد الله بينه وبين النار سبعين خريفاً) هل الصيام هنا في معركة القتال أم أنه عام؟ A الصيام هنا ليس في معركة القتال، بل الصيام في سفر الجهاد في سبيل الله، أما المعركة فينبغي أن يفطر الإنسان ليتقوى بذلك على القتال، وهذا أفضل.

الإخلاص في العمل

الإخلاص في العمل Q إذا أراد الإنسان بعملة الصالح الأمرين معاً: الصحة والسرور في الدنيا وأجر الآخرة؟ A إذا كان يريد ذلك فهو قد شرك بين الخير والشر، وهو لما غلب عليه؛ لأن الواجب أن يخلص في العمل، وكونه مثلاً: يطلب المغنم وقد خرج في سبيل الله لتكون كلمة الله العليا ويتحصل على المال والمغانم، ولكن هذا يكون تبعاً؛ ففضل الله واسع، فهو يرجو من فضل الله أن يحصل على المغنم، ولكن لا يعدل بطلب المثوبة من الله شيئاً، لا يعدل به لا مغنم ولا غيره، أما إذا كان الأمر متعادلاً عنده فهذا قد شرك بين ما هو مطلوب وما هو من أمور الدنيا.

الجهاد بغير إذن الوالدين

الجهاد بغير إذن الوالدين Q هل يجوز الجهاد بغير إذن الوالدين؟ A هذا يحتاج إلى تفصيل؛ لأن الجهاد أحياناً يكون فرض عين، فمثل هذه الحالة لا يستأذن والديه، فمثلاً: إذا داهم العدو البلد الذي هو فيه من بلاد المسلمين، فهنا لا حاجة إلى أن يستأذن والديه ولا غيرهم، بل يتعين عليه أن يجاهد، ومثل ذلك: إذا أمره الإمام بعينه فإنه يتعين عليه، وإذا حضر القتال بين المسلمين والكفار فيتعين عليه أن يقاتل، ولا يحتاج إلى استئذان والديه. أما إذا كان جهاد الغزو في سبيل الله، بأن يذهب ليقاتل في بلاد الكفار أو على حدود بلاد المسلمين أو ما يشبه ذلك؛ فهنا لابد من استئذان الوالدين، فإن أذنا وإلا فلا يذهب.

الشهيد ينعم في قبره

الشهيد ينعم في قبره Q إذا كان الشهيد يتنعم في قبره وروحه في الجنة، فكيف نجمع بين هذا وبين قول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30]؟ A من يقول: إنه لم يمت وهو قد مات الموتة التي كتبت عليه؟ لكن التنعم يكون بعد الموت، ولا معارضة في ذلك.

إهداء ثواب الصدقة إلى الغير

إهداء ثواب الصدقة إلى الغير Q أتصدق في كل يوم بمقدار ريال واحد أو ريالين وأقول: اللهم اجعل أجره وثوابه لوالدي ولوالد والدي ولمن له حق عليّ، فهل هذه العبارة صحيحة؟ A نعم، العبارة صحيحة، والفعل صحيح.

لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق

لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق Q هل يلزم اتباع العلماء والأمراء في حكم معين، وأن يعتقد المتبع حل الحكم أو تحريمه؟ A لا يلزم تحليله وتحريمه، فالمسألة مقيدة بما قلنا، ولهذا قلنا: الطاعة الخاصة. يعني: لا يطاع المخلوق في تحليل الحرام وتحريم الحلال، أما إذا كان ليس في ذلك شيء من هذا فالأمر واسع.

حكم المبدل لشرع الله وإن لم يستحل

حكم المبدل لشرع الله وإن لم يستحل Q هل يشترط في كفر المبدل لشرع الله أن يكون مستحلاً لهذا الفعل أم لا يشترط الاستحلال في كفره؟ A لا يشترط الاستحلال، فالأمر واضح، فهو يبدل شرع الله، ولا يعقل أن الإنسان يفعل فعلاً وهو يعتقد خلافه.

الأخذ بفهم السلف للنصوص

الأخذ بفهم السلف للنصوص Q ما رأيك فيمن يأخذ فهم السلف للكتاب والسنة ويقول: هم أحسن مني في فهم النصوص فلا أحيد عن رأيهم؟ A لا مانع من ذلك إذا كان يستعين على فهم النصوص بكلام العلماء، ولا سيما العلماء من السلف، وهذا مطلوب؛ لأن كون الإنسان يعمد برأيه هذا ليس هو المقصود، وهذا في الأمور التي ليس فيها نصوص واضحة.

معنى الهدي

معنى الهدي Q إذا كان بلد الشخص بعيداً، ولا يستطيع أن يسوق الهدي، فهل يتركه في بلده وينحره في يوم النحر؟ A عجيب! ينحر الهدي في بلده ولا يجيء به إلى مكة؟! الهدي هو ما نحر في منى أو فجاج مكة، هذا هو الهدي، أما الذي يترك في البلد فليس هو هدي، الهدي ما يهدى إلى البيت.

حكم التمتع بالعمرة في غير أشهر الحج

حكم التمتع بالعمرة في غير أشهر الحج Q هل يجوز أن ينوي المعتمر في رمضان أن تكون هذه العمرة عمرة تمتع بالحج وفي وقت الحج يحرم مفرداً؟ A لا يجوز؛ لأن التمتع يجب أن يكون في أشهر الحج، ورمضان ليس من أشهر الحج.

العجب بالعلم

العجب بالعلم Q فضيلة الشيخ: بعض الطلاب المتأخرين من الذين ينتسبون للدعوة وطلب العلم يرون أنهم مجتهدون ويقولون: هم رجال ونحن رجال، ولا يرجعون إلى أقوال أهل العلم في الآية أو الحديث، وبضاعتهم في العلم قليلة، وينصبون أنفسهم قضاة يحكمون على العلماء وطلاب علم بأحكام عجيبة بحجة الاجتهاد وعدم التقليد؟ A مثل هذا واضح، وهذا مصداق قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن يرفع العلم بقبض العلماء، ثم يأتي أقوام جهال يفتون بغير علم فيضلوا ويُضلوا) فخطر جداً أن الإنسان يعجب بعلمه؛ لأن العلم هو خشية الله جل وعلا كما يقول الله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28].

حكم الخروج عن المذاهب الأربعة

حكم الخروج عن المذاهب الأربعة Q هل يصح القول بأنه لا يجوز الخروج عن المذاهب الأربعة المعروفة؛ لأن علم السلف تجمع في هذه المذاهب، ومن خرج عنها فقد اتبع غير سبيل المؤمنين؟ A هذا غير صحيح، ولا يصح هذا القول ولا يجوز، والعلم ليس محصوراً في المذاهب الأربعة؛ لأن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرة، وقد يؤتى الإنسان فهماً في كتاب الله جل وعلا ليس منصوصاً عليه في المذاهب الأربعة المعروفة، وكذلك الحوادث التي تحدث لا حصر لها في مسائل كثيرة ليست معروفة عن هذه المذاهب الأربعة، فكيف نستخرجها من المذاهب وهي غير موجودة فيها، والأصل أن نرجع إلى الكتاب والسنة، والواجب أن نستخرج الأحكام من الكتاب والسنة وليس من المذاهب الأربعة.

التقليد من غير معرفة الأدلة

التقليد من غير معرفة الأدلة Q من قلد إماماً ولم يتضح له الدليل ويقول: لابد أن الإمام بنى قوله على حديث ولم أجده في كتب العلم، فهل هذا يعذر أم لا؟ A هذا غير معذور؛ لأنه لا يجوز للإنسان أن يتبنى قولاً إلا بدليل، إلا إذا كان ليس من أهل العلم، والذي ليس من أهل العلم فعليه السؤال، ولكن عليه أن يجتهد، ويسأل الإنسان الذي يعتقد أنه أعلم، وأنه أتقى، هذه وظيفته.

الاحتجاج بالقدر على ترك العمل

الاحتجاج بالقدر على ترك العمل Q كيف نوفق بين قول الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [الأنعام:107] وبين قوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:148]؟ A ليس فيها معارضة؛ لأن قول الكفار: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُنا} يردون به دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لما قال لهم: لا تشركوا بالله جل وعلا، قالوا: أليس شركنا هذا وقع بمشيئة الله؟! فقال: نعم، لأنه ما من شيء يقع إلا بمشيئة الله. قالوا: إذاً وقوع الشرك بمشيئته دليل أنه راض بالشرك. وهذا كذب ورد للدعوة. يعني: عارضوا الأمر بالقدر، فلهذا رد عليهم الله، والواجب أن الإنسان إذا أمر بأمر أن يأتمر ولا يقول: لا أفعل؛ لأنه ما كتب علي، كما يقوله بعض الجهلة إذا قيل له: صل، قال: لا، أنا ما كتب عليّ أن أصلي! فنقول له: ما يدريك أنه لم يكتب عليك أن تصلي؟ ولكن أنت معاند، فأنت تستطيع أن تصلي، وأنت أمرت بالشيء الذي تستطيعه، أما الشيء المكتوب عليك فأنت لم تطلع على علم الغيب، ولم تعلم ما في اللوح المحفوظ، والواجب عليك أن تجتهد، فإذا أمرت بشيء ونهيت عن شيء فعليك أن تطيع، أما ما احتج به هؤلاء بقولهم: (لو شاء الله ما أشركنا) فهم يتبعون أهواءهم ولا يريدون أن يتبعوا الأمر، فخاصموا الرسول صلى الله عليه وسلم، وردوا أمره بقولهم: إن هذا قدر، والله شاء ذلك، وهذا شأن الذين يحتجون بالقدر؛ لأن هؤلاء لهم أتباع، وهذه حجة الشيطان حينما قال: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف:16] وهو الذي أبى السجود مختاراً أن يسجد فغوى، فهو الذي أغوى نفسه.

التأسي بإبراهيم عليه السلام في البراءة من الكفر وأهله

التأسي بإبراهيم عليه السلام في البراءة من الكفر وأهله Q في قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه، والأمر بالتأسي به في الكفر بما كان يعبده قومه، وحصول العداوة بينه وبينهم، فهل العداوة والبغضاء تكون في عبادتهم فقط أو أنها تشمل ذلك وغيره؟ A العداوة والبغضاء لهم ولما يعبدونه عموماً؛ لأنه قال في الآية: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الممتحنة:4] بدأ بهم ثم تبرأ من المعبودات ثانياً، فهي عداوة عامة. يعني: العابد والمعبود كلهم يعادون، ومعرف أن المعبود أصنام لا تعقل ولا تنفع؛ ولهذا قال لهم في مجادلته إياهم {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} [الشعراء:72 - 73] يعني: هل لهم نفع أو ضر؟ قالوا: لا، وفي النهاية قالوا: هكذا وجدنا آباءنا، وهذه حجة معروفة بين الناس. والمقصود أن العداوة عامة: أن يتبرأ الإنسان من العابد والمعبود حتى يكون متأسياً بإبراهيم عليه السلام، ويستثنى من التأسي به عليه السلام الدعاء لأبيه، والاستغفار له، فقد قال الله: {إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة:4] فهذا لا يتأسى به فيه يعني: في كونه استغفر لأبيه، وإنما نتأسى به في معاداته وبراءته من الكفر وأهله.

حقيقة اللات والعزى

حقيقة اللات والعزى Q هل العزى ومناة واللات أصنام من حجر أو قوم صالحون؟ A العزى واللات ومناة من أكثر الأصنام المعروفة في وقت دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، لما جاء إلى قريش، وقد ثبت ذكرها وبيانها وبيان مواضعها، فالعزى كانت في قريش، وهي عبارة عن ثلاث شجرات -شجر سمر- قريبة من عرفات، في وادي نخلة، وكانوا قد بنوا عليها بيتاً، وكانوا يطوفون حولها، ويجلسون تحتها، ويذبحون لها، ويزعمون أنها تشفع لهم، وأحياناً يسمعون صوتاً من داخل الشجرة، وهو الشيطان يصوت لهم. أما اللات: فهي عبارة عن صخرة منقوشة في الطائف لثقيف، ويقول بعض المفسرين: الأصل فيها أنه رجل كان يلت السويق. يعني: يخلط السويق بالسمن، ويقدمه لمن يأتي إليه إكراماً له، فلما مات دفن تحت هذه الصخرة، ونقشت، فصاروا يطوفون عليها، ويجلسون عندها، ويتبركون بها؛ فصارت من أكبر الأصنام. وأما مناة فكانت لهذيل ولمن معها من القبائل، وكان الأنصار أيضاً إذا أرادوا الحج يمرون عليها، فكانت معظمة، وسميت مناة، وهي عبارة عن صخرات في مكان يطوفون عليها ويذبحون عندها، وهكذا بقية الأصنام مثل (هبل) و (نائلة) وغيرها كثير. لما دخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وجد فيها أكثر من ثلاثمائة وستين صنماً منصوباً، وصار يطعنها بعصاً معه ويقول: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81] وكلما أهوى إليها بالعصا سقطت، فحطمها صلوات الله وسلامه عليه كلها.

نقص الإيمان والعمل

نقص الإيمان والعمل Q هل نقص الإيمان يكون في العمل أو العمل واليقين معاً؟ A يكون في الكل، يكون في اليقين والإيمان الذي هو تصديق القلب ويكون في العمل، هل تصديق آحاد الناس كتصديق أبي بكر أو تصديق عمر أو تصديق علي أو عثمان أو أشباههم؟ لا يمكن، بل الناس في آن واحد يتفاوتون في التصديق، حتى إن بعض المؤمنين لو شكك في أمور الآخرة شك، أو شكك في شيء مما يجب الإيمان به يشك؛ لأنه ليس عنده يقين يمنعه من ذلك الأمر، وهذا أمر واضح لا يحتاج إلى أن يتوقف فيه، والذين خالفوا في هذا هم أصحاب بدع وأهواء لا يترسمون الدليل، ولا يتبعونه، وإنما يتبعون أقوال أئمتهم ومن يعظمونهم، وهذا سبق بيان حكمه، وهو مما يدخل في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:60] فلهم نصيب من هذا، ولا يلزم أن يكونوا كفاراً، ولكن لهم نصيب من ذلك.

الفساد في البر والبحر

الفساد في البر والبحر Q كيف يكون الفساد في البحر كما جاء في الآية الكريمة؟ A الله خلق البحر مسخراً لبني آدم، وإذا عصى الإنسان فإن الله جل وعلا أخبر أن عصيانه فساد، فمعلوم إن الإنسان يكون في البر والبحر، فالبر والبحر لا يخلو من الناس؛ والمعنى: أن الفساد والعصيان يقع في البر وفي البحر، وأصبح الفساد والعصيان اليوم يقع في البر والبحر والجو، وفي كل مكان، والله عليم قدير، ولكن كونه نص على البر والبحر فليس معناه أنه غافل عن ذلك تعالى الله وتقدس، ولكن لو قيل للمخاطبين يومئذ وفي الجو؛ فإنه يستبعد ويستغرب أن يكون ابن آدم يطير في الجو.

الفرق بين مطلق الإيمان والإيمان المطلق

الفرق بين مطلق الإيمان والإيمان المطلق Q ما هو الفرق بين مطلق الإيمان والإيمان المطلق؟ A الإيمان المطلق هو الإيمان الكامل، ومطلق الإيمان هو الإيمان الناقص.

قبض أرواح المؤمنين قبل قيام الساعة

قبض أرواح المؤمنين قبل قيام الساعة Q كيف نفرق بين حديث: (لا تقوم الساعة حتى لا يكون أحد يقول: الله الله) وبين حديث: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين)؟ A ليس فيهما معارضة، وقد ثبت الجمع بينهما، وأن معنى قوله: (حتى تقوم الساعة) أو: (حتى يأتي أمر الله) أي: ساعتهم، وهي الريح التي تأتي من قبل اليمن، وتقبضهم بأمر الله، ثم بعد ذلك يبقى الناس يتهارجون تهارج الحمر ليس فيهم مؤمن.

من لم ينطق بالشهادتين فهو كافر بالإجماع

من لم ينطق بالشهادتين فهو كافر بالإجماع Q فهمت منكم أن العلماء اتفقوا على أن من نطق بالشهادتين ولم يعمل بمقتضاها فإنه كافر، مع أن العلماء اختلفوا في حكم تارك الصلاة تهاوناً، وهي أهم أركان الإسلام بعد الشهادتين؟ A ما الذي يترتب على هذا؟ الذي لا ينطق بالشهادتين كافر باتفاق، فكيف يذهب إلى الصلاة؟ هل يصلي وهو كافر؟

فرق بين تبديل الشرع وبين الحكم بغير ما أنزل الله في قضية معينة

فرق بين تبديل الشرع وبين الحكم بغير ما أنزل الله في قضية معينة Q هل هناك فرق بين الحكم بغير ما أنزل الله في قضية ما وبين تبديل الشرع بالكلية؟ وما حكم ذلك؟ وهل يلزم من ذلك أن يكون مستحلاً للتبديل؟ A لا شك أن هناك فرقاً واضحاً، ولا أحد يقول بعدم الفرق.

لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن

لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن Q كيف نجمع بين حديث: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) وبين حديث: (أيسرق المؤمن؟ قال: نعم. أيزني المؤمن؟ قال: نعم)؟ A هذا يدل على أن نفي الإيمان المقصود به: نفي الكمال، وليس المراد نفي الإيمان كلياً، بل نفي كمال الإيمان عن السارق والزاني، ولا ينبغي أن يكون في هذا إشكال، بل يكون هذا دليل موافقة، ومعلوم أن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم لا يتضاد ولا يتناقض.

§1/1