شرح عمدة الأحكام لابن جبرين

ابن جبرين

شرح عمدة الأحكام [1]

شرح عمدة الأحكام [1] لا يقبل الله صلاة بغير وضوء، ولا يصح وضوء ما لم يقم المرء بواجباته، وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك للناس وعلمهم كيفيته.

شرح حديث: (إنما الأعمال بالنيات)

شرح حديث: (إنما الأعمال بالنيات) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات -وفي رواية: بالنية- وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) ] . الحديث الأول من كتاب الطهارة حديث عمر المشهور، والأحاديث في هذا الكتاب كلها من صحيحي البخاري ومسلم. فهذا الحديث هو أول ما بدأ به البخاري صحيحه، استفتح به للدلالة على حسن النية وجعله قائماً مقام الخطبة للكتاب. يقول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (إنما الأعمال بالنيات) ، وفي رواية: (إنما الأعمال بالنية) ، وفي رواية: (الأعمال بالنيات) ، وأراد المؤلف بذلك أن النية من شروط الطهارة كما أنها من شروط بقية الأعمال، فإن الطهارة للصلاة عمل، وكل عمل لا بد له من نية، وإذا صحت النية صح العمل، وإذا فسدت فسد العمل، كما روي عن بعض السلف أنه قال: كم من عمل صالح أفسدته النية، وكم من عمل فاسد أصلحته النية يعني: أن الإنسان إذا كانت نيته صادقة ولكن فاتته معرفة كيفية العمل، فعمل على حسب معرفته ووسعه أثابه الله بقدر نيته. وكذلك لو أنفق نفقة ولم ينو بها شيئاً، ثم نوى بها خيراً فإن الله يثيبه على نيته.

اشتراط النية في الطهارة

اشتراط النية في الطهارة ورد في النية كلام كثير معروف في كتب الحديث، ولكن لما كان الباب متعلقاً بالطهارة فإننا لا نتكلم إلا على نية الطهارة التي نحن في سياقها، فنقول: تشترط النية لكل الأحداث، ورفع الحدث يكون بالوضوء ويكون بالغسل ويكون بالتيمم، وهذه لا بد لها من نية، ولا تشترط النية لإزالة الأخباث، فالذي يغسل وجهه بنية التبرد أو إزالة النعاس لا يكفيه ذلك عن رفع الحدث، ولو أن إنساناً محدثاً غسل وجهه لإزالة النعاس وغسل يديه للنشاط ثم تذكر أن عليه حدثاً فأراد أن يكمّل، فلا يكفيه هذا الغسل، بل لا بد أن يغسل كل عضو بنية رفع الحدث؛ لأن الحدث أمر معنوي، والأمور المعنوية لا بد فيها من النية، فلابد أن يغسل الأعضاء بنية رفع الحدث لا بنية التبرد ولا بنية النشاط ولا بنية إزالة النعاس أو ما أشبه ذلك بل بنية الطهارة. وقد سمعنا أن بعض الناس يتشدد في أمر النية، وهذا التشدد يكون غالباً وسوسةً من الشيطان ليشككه، فيغسل مثلاً وجهه ويديه، ثم يأتيه الشيطان فيقول: إنك نسيت النية، فيعيد غسلهما مرة ثانية، فإذا غسل يديه قال له: إنك سهوت عن نية غسل اليدين، إنما نويت الوجه فبطل غسل اليدين، فأعد غسلهما، فيعيد وهكذا ربما يعيد خمس مرات أو أكثر، وربما يعيد بعدما ينتهي مراراً، ولا شك أن هذا من الوسوسة التي ينبغي اطراحها. يقول العلماء: إن النية ملازمة للإنسان، وأنه يستحيل أن يعمل عملاً بدون نية. فمثلاً: الاغتسال إما أن ينوي به التبرد أو التنظف أو النشاط أو رفع الحدث، فلا بد من نية، فلا يمكن أن يغتسل وهو غافل لا يدري لأي شيء يغتسل، فما دام أن النية ملازمة للعمل فيعتبر فيها بما قاله وما قصده قلبه، ومن الدليل على أن الإنسان ينوي في جميع أعماله: أنك لو سألته وهو ذاهب إلى الحمام: ماذا تريد؟ لقال: أتوضأ أو أرفع الحدث أو أغتسل أو أتطهر، فعرف بذلك أنه قد نوى ولو كان قلبه غافلاً ولو كان فكره شاذاً في حالة مشيه، فلا بد أن تكون هناك نية موجودة. فلينتبه أولئك الذين يأتيهم الشيطان ويوسوس لهم أنهم قد نسوا النية ويأمرهم بالإعادة، يأتيهم في الوضوء ويأتيهم في الغسل، لدرجة أن أحدهم يبقى في الاغتسال ساعة أو أكثر، وكلما غسل عضواً جاءه الشيطان وقال: أعد فإنك ما نويت، فيتكلف ويشدد على نفسه حتى تفوته صلاة الجماعة، أو تثقل عليه الصلاة. فالشيطان يثقل عليه العبادة، ويصعّب عليه هذا الشرط، فإذا رأى أن في الصلاة صعوبة أدى ذلك إلى تركها والعياذ بالله.

حكم التلفظ بالنية

حكم التلفظ بالنية النية معتبرة في ثلاث طهارات: معتبرة في الوضوء، ومعتبرة في الاغتسال من الحدث الأكبر، ومعتبرة في التيمم، فلابد فيها كلها من نية، والنية محلها القلب، ولا يجوز التلفظ بها لا في الصلاة ولا في الطهارة، وذهب بعض الشافعية إلى أنه يتكلم بها، وذكروا ذلك في مؤلفاتهم، وقالوا: إن التلفظ بها سنة، وأنه مذهب الشافعي. والصحيح أنه ليس مذهباً للشافعي، ولم ينقل ذلك عنه نقلاً صريحاً، ولم يذكر ذلك في مؤلفاته، ولا في رسائله. والله تعالى هو العالم بما في القلب، وليس للإنسان أن يخبر الله تعالى بما يدور في خلده وبما في قلبه، فالله عالم بما في قلبك، فلا حاجة إلى أن تخبر الله وتقول: نويت كذا وكذا، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران:154] . والعمل قد يكون ظاهره حسناً ولكن تفسده النية، وقد أخبرنا النبي عليه الصلاة والسلام عن ذلك بأمثلة، كالذي يقول الله له: (قرأت القرآن ليقال: قارئ) يعني: نيتك أن يقول الناس: قارئ، (تصدقت ليقال: جواد) ، (قاتلت ليقال: شجاع) ، وكذلك قال له رجل: الرجل يقاتل حمية، ويقاتل شجاعة، ويقاتل ليرى مكانه، ويقاتل للمغنم، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) وهذه نيات يعلمها الله، فالله يعلم أن هذا قاتل رياءً، وهذا قاتل سمعة، وهذا قاتل ليرى مكانه، وهذا قاتل للشجاعة، وهذا قاتل حمية، وهذا قاتل للغنيمة، الله عالم بذلك ولو لم يتلفظ العبد ويقول: إنني أقاتل لكذا، فلا حاجة إلى أن يقول: نويت بالقتال إعزاز دين الله، أو إعلاء كلمة الله، وكذلك لا يقول: نويت بهذه الطهارة أو بهذا الغسل أن أرفع الحدث، أو نويت أن أغتسل لأرفع الحدث، لا حاجة إلى ذلك؛ لأن الله عالم بما في قلبه.

ترتب الثواب والعقاب على النية

ترتب الثواب والعقاب على النية أما قوله: (وإنما لكل امرئ ما نوى) ، فمعناه: أن الثواب يترتب على النية، فإن كان العمل صالحاً ترتب عليه الثواب، وإلا ترتب عليه العقاب، وضرب لهم مثلاً بالهجرة، والهجرة من الأعمال الشريفة، كان أحدهم ينتقل من بلاده التي هي مسقط رأسه وفيها عشيرته وأهله وأمواله ومساكنه، ينتقل منها لأجل أن يتمكن من عبادة الله؛ لأنه في بلاده يلاقي الأذى. وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن هناك من يهاجر لأجل الله ورسوله، وهناك من يهاجر لمصالح دنيوية، فالذي تكون هجرته إلى الله ورسوله ابتغاء مرضاة الله، ولاتباع الرسول عليه الصلاة والسلام، والأخذ عنه، فهذا أجره على الله. (فهجرته إلى الله ورسوله) . والذي تكون هجرته لأجل مصالح دنيوية: تجارة، أو وظيفة، أو رئاسة، أو منصب، أو نحو ذلك، أو امرأة يتزوجها، ليس له قصد إلا هذا (فهجرته إلى ما هاجر إليه) يعني: ليس له أجر الهجرة وليس له ثوابها؛ وذلك لأن الله إنما يثيب من الأعمال ما أريد به وجه الله، فهذا مثل ضربه الرسول عليه الصلاة والسلام لصلاح النية ولعدم صلاحها، وكذلك بقية الأعمال.

أمور لا تحتاج إلى نية

أمور لا تحتاج إلى نية هناك أشياء لا تحتاج إلى نية، ومنها: إزالة النجاسات، فغسلها لا يحتاج إلى نية، فلو كان ثوبك نجساً وعلقته على وتد أو نحوه فنزل عليه مطر فغسله طهر ولو بدون نية، أو تنجس أسفله بشيء من أنواع النجاسات وخضت به في سيل أو نهر وذهب أثر النجاسة طهر، أو وقعت نجاسة على بقعة من الأرض، فنزل عليها مطر فغمرها وذهبت عين النجاسة طهرت، ولا حاجة إلى أن ينوي أحد إزالتها؛ لأن هذا إزالة، والنجاسة إذا زال أثرها طهر المكان، وأما الحدث فإنه أمر معنوي.

شرح حديث: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث)

شرح حديث: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث) يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الثاني: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) .

معنى الحدث وشموله لجميع موجبات الوضوء

معنى الحدث وشموله لجميع موجبات الوضوء يقول العلماء: إن الحدث أمر معنوي يقوم بالبدن يمنع من الصلاة ومن الطواف ومن مس المصحف، فالحدث الأصغر أمر معنوي وليس حسياً. فلو رأيت اثنين أحدهما على وضوء والآخر محدث، فلا تفرق بين هذا وهذا، فالحدث أمر معنوي يقوم بالبدن كله، والمحدث بدنه كله موصوف بأن عليه حدثاً، ومع ذلك أعضاؤه نظيفة ليس فيها شيء يُعرف أنه قذر أو وسخ، وليس في بدنه نجاسة، حتى ولو كان جنباً، فالجنب بدنه طاهر، فلو غمس يده في ماء فلا يقال: إن ذلك الماء تنجس، فتجوز مصافحته ومؤاكلته، فإن النبي عليه الصلاة والسلام لما لقيه أبو هريرة وكان جنباً انخنس وذهب ليغتسل، ولما سأله النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: كرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن المؤمن لا ينجس) يعني: ليس بدنك نجساً، إنما عليك حدث يمنعك فقط من الصلاة ونحوها، فأما بدنك فلا مانع من أن تأكل، ولا مانع من أن تصافح الناس، ولا مانع من أن تجالسهم. وتسمى موجبات الوضوء أو نواقض الوضوء أحداثاً؛ لأنها تتجدد، أحدث أي: انتقض وضوءه، فإذا أكل لحم إبل مثلاً قيل: أحدث، يعني انتقض وضوءه، وإن كان قد خص أكثرهم الحدث بما ينقض الوضوء من الريح أو الخارج من أحد السبيلين، وقد جاء أن أبا هريرة رضي الله عنه لما حدث بهذا الحديث سأله رجل من أهل حضرموت عن الحدث، ففسره بالريح التي تخرج من الدبر، ولكن لا يعتبر هذا هو الحدث فقط، فالبول حدث، وكذا الغائط، وكذا نواقض الوضوء الأخرى كالمباشرة ومس المرأة بشهوة، أو مس الفرج باليد، أو أكل لحم الإبل، أو تغسيل الميت، هذه كلها نسميها أحداثاً؛ لأنها توجب الوضوء، فإذا انتقض وضوء الإنسان بواحد منها فلا يقبل الله صلاته إلا بعد أن يتوضأ؛ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) .

معنى الوضوء

معنى الوضوء كلمة الوضوء لفظة شرعية، ولم تكن معروفة عند العرب قبل الإسلام، فهي من الكلمات التي جاءت في الشرع، والوضوء: هو غسل الأعضاء التي أمرنا الله بغسلها، وسمي وضوءاً لآثاره، فإنه ينور هذه الأعضاء تنويراً معنوياً، وينورها في الآخرة تنويراً حسياً، ففي الآخرة يعرف أهل الوضوء بأنهم غر محجلون من آثار الوضوء. والغرة: بياض الوجه. والتحجيل: بياض اليدين وبياض الرجلين من آثار الوضوء. فهذا ضوء حسي، وأما في الدنيا فإنه ضوء ونور معنوي. وسمي وضوءاً من الضوء الذي هو النور، فالوضوء منير للأعضاء، وهو من المسميات الشرعية، وهو: غسل أعضاء مخصوصة بنية رفع الحدث ولاستباحة الصلاة، وقد جعله النبي صلى الله عليه وسلم شرطاً للصلاة بقوله: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) .

أقسام الحدث

أقسام الحدث الحدث نوعان: حدث أكبر يوجب الغسل، وحدث أصغر يوجب الوضوء. ولم يذكر في هذا الحديث الحدث الأكبر، لم يذكر إلا الحدث الأصغر، ولكن الحدث الأكبر مراد أيضاً؛ وذلك لأنه أولى بأن يهتم به، والله تعالى قد نبه على الحدث الأكبر في قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة:6] ، وفي قوله: {وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء:43] . إذاً نقول: لا يقبل الله صلاة من عليه حدث أكبر حتى يغتسل، والاغتسال هو غسل البدن كله بنية رفع الحدث، وعلى هذا فالحدث يرتفع بالوضوء إن كان أصغر ويرتفع بالاغتسال إن كان أكبر.

هل يرتفع الحدث بالتيمم؟

هل يرتفع الحدث بالتيمم؟ التيمم: هو استعمال التراب عند فقد الماء، وهو مسح الوجه واليدين بالتراب، هذا تحل به الصلاة، إذا فقد الماء، فالله تعالى يقول: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء:43] يعني: اقصدوا صعيداً طيباً فامسحوا ولكن هل يرتفع الحدث به أم لا يرتفع؟ الصحيح أنه يرتفع ارتفاعاً مؤقتاً، بمعنى أنه تباح به العبادات التي لا تباح إلا بالوضوء حتى يجد الماء، فإذا وجد الماء لزم استعماله، وقد ثبت في الحديث عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصعيد الطيب طهور أحدكم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته) ، أي: أنك متى وجدت الماء وعليك حدث، فإن عليك أن تستعمله لرفع ذلك الحدث، فارتفاعه بالتيمم إنما هو لأجل التيسير، قال الله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} [المائدة:6] . يستفاد من هذين الحديثين: أن الطهارة شرط لكل صلاة، وأن الصلاة لا تقبل إلا بهذه الطهارة التي هي الوضوء أو الاغتسال إن كان الحدث أكبر، أو التيمم إن لم يوجد الماء، فإذا صلى بغيرها والماء موجود وهو محدث فهو متلاعب بصلاته، لا يقبل الله صلاته إلا بعد أن يفعل ما أمر الله تعالى به في قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة:6] الآية.

متى تجب الطهارة

متى تجب الطهارة الصحيح أن الطهارة إنما تجب بعد الحدث، وذهب بعض أهل العلم إلى أنها تجب لكل صلاة، واستدل بالآية: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة:6] ، والصحيح أن تفسير الآية: إذا قمتم وأنتم محدثون {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6] ويقدرها بعضهم: إذا قمتم من النوم فاغسلوا، ولكن الأصل أن الوضوء إنما يجب على من هو محدث لهذا الحديث: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) . ويستفاد أيضاً: أن النية من شروط الوضوء، وأن الوضوء من شروط الصلاة، وأن الصلاة من أعظم وأهم العبادات، وسيأتينا إن شاء الله أحاديث تؤكد أهميتها، وكذلك يأتينا بقية أحاديث الطهارة. فعلى المسلم أن يتنبه إلى أهمية الطهارة، وأهمية العبادة، ومن جملتها شروط الصلاة التي تتقدمها كالطهارة والنية وما أشبهها، فإذا علم ذلك فعليه أن يطبق ما علمه، ليكون منتفعاً بعلمه إن شاء الله.

شرح حديث: (ويل للأعقاب من النار)

شرح حديث: (ويل للأعقاب من النار) [وعن عبد الله بن عمرو بن العاص وأبي هريرة وعائشة رضي الله عنهم قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ويل للأعقاب من النار) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم لينتشر، ومن استجمر فليوتر، وإذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه قبل أن يدخلهما في الإناء ثلاثاً، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده) ، وفي لفظ لـ مسلم: (فليستنشق بمنخريه من الماء) ، وفي لفظ: (من توضأ فليستنشق) ] . هذه الأحاديث تتعلق بالوضوء. فالحديث الأول قوله صلى الله عليه وسلم: (ويل للأعقاب من النار) ، والأعقاب: هي مؤخر الأقدام.

سبب ورود الحديث

سبب ورود الحديث سبب الحديث: أنهم كانوا في سفر، فلما نزلوا في وقت متأخر توضئوا مسرعين، فجاء إليهم النبي صلى الله عليه وسلم وأعقابهم تلوح بيضاء لم يمسها الماء، فنادى بأعلى صوته: (ويل للأعقاب من النار) مرتين أو ثلاثاً؛ ليبين لهم أنه يجب عليهم إسباغ الوضوء، وبالأخص غسل القدمين؛ وذلك لأن القدم من جملة ما أمرنا بغسله، والقدم قد يحتاج إلى زيادة إسباغ وتعهد؛ لأنه قد يكون عليه تراب أو غبار أو نحو ذلك، فيحتاج إلى تعهد أكثر، وقد يكون العقب -الذي فوق العرقوب- لكونه منخفضاً يزل عنه الماء إذا توضأ الإنسان مسرعاً، وبالأخص إذا كان الماء بارداً، والرجل وسخة بعيدة العهد بالماء أو نحو ذلك.

الفرق بين العقب والعرقوب

الفرق بين العقب والعرقوب جاء في بعض الروايات: (ويل للعراقيب من النار) ، والعرقوب: هو مؤخر القدم، ولكن العقب: هو المكان المنخفض خلف الكعب، فخلف كل كعب من الكعبين مكان منخفض، وهو الذي يكون إلى جانبي العصبة التي تمتد من العرقوب إلى الساق، فما كان بجانبي هذه العصبة فهو الأعقاب، فعلى الإنسان أن يتعاهد غسل القدم، ويتعاهد العقب الذي هو مكان منخفض، ويتعاهد أيضاً الأخمص الذي هو بطن القدم؛ وهو المكان المنخفض في وسط القدم.

وجوب غسل الرجلين، والرد على الرافضة في ذلك

وجوب غسل الرجلين، والرد على الرافضة في ذلك هذا الحديث من أدلة أهل السنة على أن الرجلين تغسلان، وذهبت الرافضة إلى أن الرجل تمسح، واستدلوا بقراءة في القرآن: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ) بالخفض، وأجاب العلماء عنها بأنها مجرورة على الإتباع، أو أن المراد بمسح الرجل: الغسل الخفيف؛ لأن الرجلين مظنة الإسراف، والعرب قد تسمي الوضوء مسحاً كقولهم: تمسحت للصلاة، يعني: غسلت أعضائي غسلاً خفيفاً. وعلى كل حال فقد تكاثرت الأحاديث أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يغسل قدميه، ولم يأت حديث أنه كان يمسح القدمين، ولو كان يمسح القدمين لما كان هناك حرج في بياض يحصل في العقبين، بل توعد بقوله: (ويل للأعقاب من النار) فدل على وجوب غسل الرجلين وعدم الاكتفاء بالمسح كما يقول الرافضة، فهذا الحديث يدل دلالة واضحة على وجوب غسل القدمين في الوضوء كما يجب غسلهما في الاغتسال. وقد حدد الله الغسل بقوله: {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6] ، والتحديد دليل على وجوب الغسل وأنه لا يكتفى بالمسح، وقد فسرت ذلك السنة النبوية، كما تكاثرت بذلك الأحاديث، وكل الذين نقلوا صفة وضوء النبي عليه الصلاة والسلام ذكروا أنه كان يغسل قدميه ولم يقل أحد إنه مسح عليهما. ومن الأدلة أن الله تعالى أدخل الممسوح -وهو الرأس- بين المغسولين وهما اليدان والرجلان، وبلا شك أن غسلهما فيه تنظيف؛ لأن الرجل تكون مظنة لوسخ أو قذر أو نحو ذلك، والوضوء شرع لأجل تنشيط البدن ولأجل الإعانة على العبادة، وشرع أيضاً لأجل إزالة الوسخ والقذر ونحو ذلك. وشرعية غسل الوجه وغسل اليدين وغسل الرجلين في الوضوء لا بد له من حكمة، حيث اقتصر الله على هذه الأعضاء فقال: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة:6] ، فالوجه غسله يزيد نشاطاً ويذهب الكسل، وفيه أيضاً أغلب الحواس، ففيه حاسة البصر وحاسة الشم وحاسة الذوق وحاسة السمع، وهما الأذنان، فالأمر بغسله لأجل تطهيره حسياً، والوجه قد يتعرض للغبار ونحو ذلك فلا بد من غسله. واليدان هما الآلة التي يعمل الإنسان بهما، وغالباً يكون فيهما تراب أو وسخ أو نحو ذلك، فشرعية غسلهما زيادة في النشاط وإزالة الكسل، وفيه التنظيف. وكذلك الرجلان غسلهما لأجل التنظيف؛ لما يتعرضان له من غبار أو تراب أو نحو ذلك، وما دام كذلك فإن الفرض غسلهما لا مسحهما خلافاً للروافض، ولا أحد يكتفي بالمسح على الرجلين إلا الرافضة فقط، مع أنهم ينكرون المسح على الخفين، ولا يعتقدونه، مع ثبوته بالسنة، والاستدلال عليه بالأدلة الواضحة، فخالفوا في هذا، وخالفوا في هذا!

معنى (ويل)

معنى (ويل) قوله: (ويل للأعقاب من النار) الويل: هو العذاب الشديد، وقيل: إنه اسم واد في جهنم، وهي أيضاً كلمة وعيد يتوعد بها، كما ذكر الله في آيات كثيرة كقوله تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة:1] ، {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين:1] ، {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4-5] ، وفي الأحاديث أيضاً. ومعنى: (ويل للأعقاب من النار) أي: أن النار تنالها حيث إنها لم تغسل الغسل الكامل، وقيل معناه: ينالها العذاب وحدها، وقيل: إنها تكون سبباً لدخول صاحبها النار؛ وذلك إذا بطلت صلاته استحق العذاب، والذي لا يسبغ الوضوء ولا يكمله ترد صلاته، ومن ردت صلاته استحق العذاب، وإذا أدخل النار كان سبب دخوله هذه القدم أو هذه العقب، فتنال العذاب، ويزاد في تألمها، وكأنها تسلط على صاحبها النار، أو أن العذاب يتسلط على صاحبها بسببها.

شرح حديث: (إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء)

شرح حديث: (إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماءً) الحديث الثاني فيه ذكر ثلاثة أشياء تتعلق بالطهارة:

صفة الاستنشاق والاستنثار

صفة الاستنشاق والاستنثار أولها: الاستنشاق والاستنثار، يقول: (إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم لينتثر) ، هذا يسمى الاستنشاق، وصفته: أن يجعل الماء في يده ثم يجعله في منخريه ثم يجتذبه بنفسه إلى داخل خياشيمه، ثم بعد ذلك يخرجه بقوة نفسه، فاجتذابه يسمى: استنشاقاً، وإخراجه يسمى: استنثاراً، وهذا الحديث دليل على وجوب الاستنثار، فإن الأمر ظاهره الوجوب (فليجعل) (ثم لينتثر) فدل على وجوب الاستنشاق ووجوب الاستنثار الذي هو الإخراج بالنفس.

الأمر بالمبالغة في الاستنشاق

الأمر بالمبالغة في الاستنشاق وقد ورد الأمر بالمبالغة في الاستنشاق، قال صلى الله عليه وسلم في حديث لقيط بن صبرة: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) ، فأمر بالاستنشاق وأمر بالمبالغة فيه، يعني: اجتذابه إلى الخيشوم بقوة، والحكمة في الاستنشاق: تنظيف الخيشوم، الذي هو داخل الأنف، ويخرج منه أوساخ لا بد من تنظيفها؛ حتى يأتي الصلاة وقد نظف ما يمكن تنظيفه وأزال ما يمكن إزالته من القذر والأذى، وكذلك غسل داخل الأنف -داخل المنخرين- الذي يمكن غسله، ولا حاجة إلى أن يدخل إصبعيه في منخريه، بل يكتفي باجتذاب الماء إلى داخل الخيشوم، ويخرجه بعد ذلك، فيكون هذا كافياً في تنظيف المنخرين.

حكم المضمضة والاستنشاق

حكم المضمضة والاستنشاق أراد المؤلف بإيراد هذا الحديث إثبات أن الاستنشاق تابع للغسل في الوجه، والله تعالى أمر بغسل الوجه، والأنف له حكم الظاهر فيدخل في حكم الوجه، وكذلك الفم له حكم الظاهر فيدخل في حكم الوجه، والمضمضة: هي تحريك الماء في الفم، وهي مشتقة من مضمض بمعنى حرك، ومعناها: أن يجعل في فمه ماءً ثم يدلك أسنانه بالماء ويحركه بلسانه، ثم يمجه، هذه هي المضمضة. وقد ذهب أحمد إلى أن المضمضة والاستنشاق من الوجه، وأنه لا يصح الوضوء إلا بهما، وأن من أخلّ بهما فكأنه ترك بقعة في وجهه، والذي يترك بقعة في وجهه لم يغسل وجهه، والله أمر بالغسل، فلا بد أن يكون الغسل مستوفياً للعضو، كما لو ترك بقعة في يده أو في رجله، فإذا كان الذي يترك بقعة خفية في مؤخر رجله متوعداً بالنار: (ويل للأعقاب من النار) ، فهكذا من ترك بقعة في عينيه أو تحت وجنتيه أو ما أشبه ذلك، فلا بد أن يغسل وجهه كله، ويدخل في ذلك الفم والأنف. وذهبت الشافعية وغيرهم إلى أن الاستنشاق ليس بواجب، بل هو سنة، وكذلك المضمضة، وقالوا: إنهما من سنن الوضوء لا من واجباته، والإمام الشافعي رحمه الله عالم كبير مجتهد، ولكنه لم يكن متوغلاً في معرفة الحديث، فعلى كل هو اجتهد. ومن أدلتهم: أن الوجه ما تحصل به المواجهة، والله تعالى أمر بغسل الوجه، والأنف يغسل ظاهره، وأما داخل المنخرين فليس مما تحصل بهما المواجهة، وكذا داخل الفم، فيقولون: نقتصر على ما تحصل به المواجهة والمقابلة، هذا دليل الشافعية. ولكن لما كانت السنة مفسرة للآية ومبينة لها عرفنا بذلك أن هذا هو معنى الغسل، وأن الأنف والفم داخلان في غسل الوجه ولا بد منهما، والذين وصفوا وضوء النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكروا أنه تركهما، بل ذكروا أنه كان يتمضمض ويستنشق ثلاثاً، وسيأتينا حديث عثمان وفيه ذكرهما.

الاستجمار

الاستجمار الجملة الثانية في الحديث هي الوتر في الاستجمار: (ومن استجمر فليوتر) ، وسيأتينا إن شاء الله بعض ما يتعلق بالتبرز -الذي هو قضاء الحاجة- وما يلزم منه. والاستجمار هو مسح أثر الغائط بالحجارة أو ما يقوم مقامها، وكانوا يكتفون به عن الغسل، وسيأتي فيه أحاديث إن شاء الله. وهذا الحديث دليل على أنه إذا استجمر قطعه على وتر، فإن مسح مثلاً بحجرين زاد ثالثة، وإن لم ينق إلا بأربع أضاف إليها خامسة حتى تكون وتراً، وإن لم ينق إلا بست أحجار جعل معها سابعة، فإن لم يحصل الإنقاء إلا بثمان أضاف تاسعة، هذا معنى الوتر، يعني: يقطع على وتر ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً أو تسعاً وهكذا. وأما إذا غسل المحل بالماء -وهو ما يسمى بالاستنجاء- فإنه يغسله إلى أن ينظف المكان ويعود إلى خشونته من غير تحديد بعدد. والوتر في الاستجمار ليس بواجب؛ لأنه قد ورد في رواية: (من استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج) فدل على أنه لا حرج فيمن استجمر وشفع، إذا استجمر أربعاً أو ستاً أو نحو ذلك فلا حرج، ولكن الأفضل القطع على وتر.

غسل اليدين بعد النوم قبل إدخالهما في الإناء

غسل اليدين بعد النوم قبل إدخالهما في الإناء الجملة الثالثة: غسل اليدين إذا استيقظ من نوم الليل: (وإذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه قبل أن يدخلهما في الإناء ثلاثاً، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده) ، وهذا النوم مختص بنوم الليل؛ لأنه قال: (أين باتت) ، والبيتوتة هي نوم الليل، ولكن يستحب لمن نام في أول النهار أو في وسطه أن يغسلهما بعد الاستيقاظ أيضاً؛ لأن العلة موجودة، وبلا شك أن علينا أن نتبع النص وإن لم نعرف السبب، فعلى المسلم إذا استيقظ من نومه أن يغسل يديه، والمراد باليدين هنا: الكفان، يعني: إلى المفصل، ومفصل الكف من الذراع يسمى كوعاً، فتغسلهما إلى الكوع، والكوع: هو المفصل بين الكف والذراع، هكذا ورد غسلهما إلى الكوعين (ثلاثاً) حتى تنظف اليد، ويلزم ذلك بكل حال، حتى لو لبست قفازين، فبعد أن تستيقظ تغسلهما ولو أمنت عليهما؛ وذلك لأن نوم الليل يعتبر بنفسه حدثاً موجباً لغسل اليدين، فيغسل يديه أولاً قبل أن يغسل بهما بقية جسده. وذكر كثير من العلماء أنه إذا غمس يديه في ماء قبل غسلهما فإن ذلك الماء لا يكون طهوراً، ولكن الصحيح إن شاء الله أنه إذا بقي على طبيعته ولم يتغير طعماً ولا ريحاً ولا لوناً، فإنه يرفع الحدث، ولكن مع ذلك نتبع النص: (لا يغمس يده حتى يغسلها) ، وليس هذا خاصاً بالغمس بل حتى الاغتراف، فلو صب عليهما ماءً من الصنبور أو نحوه، فإن الماء الذي يقع عليهما قبل الغسل يعتبر غير طهور، فلا بد أن يصب الماء عليهما ويغسلهما، حتى إذا اغترف بهما أو صب فيهما ماءً للمضمضة كان ذلك الماء الذي وقع فيهما طهوراً يرفع الحدث. هذا حكم غسلهما.

حكم غسل غير المستيقظ من النوم يده قبل الوضوء

حكم غسل غير المستيقظ من النوم يده قبل الوضوء غير المستيقظ يسن له غسلهما من غير وجوب، فإذا أراد أن يتوضأ لصلاة الظهر أو لصلاة المغرب أو العشاء وهو لم ينم، استحب له أن يغسلهما من باب التنظيف؛ لأنهما الآلة التي يغترف بهما والتي يباشر بهما غسل الأعضاء، فيغسل وجهه بهما، ويغترف الماء بهما، فغسلهما هذا يعتبر للنظافة، وإذا توضأ الإنسان ثم غسل وجهه ثم غسل يديه فعليه أن يغسلهما من رءوس الأصابع إلى المرفقين، ولا يغسل مجرد الذراع ويقول: الكف مغسولة من قبل ولا حاجة إلى غسلها، فلابد من غسلها؛ لأن غسلها الأول يعتبر سنة، وغسلها بعد الوجه من الأظافر إلى المرفق هو الواجب، وقد سمعت أن بعض الناس بعد أن يغسل وجهه يقتصر على غسل الذراع من المفصل إلى المفصل ويترك الكف، وهذا خطأ، بل عليه أن يغسل اليدين من رءوس الأصابع إلى المرفق، اليد اليمنى واليد اليسرى، فبهذا يتم وضوءه وتتم طهارته إن شاء الله.

شرح حديث: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم)

شرح حديث: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم) قال المصنف رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه) ، ولـ مسلم: (لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً) ، ولـ مسلم: (أولاهن بالتراب) . وله في حديث عبد الله بن مغفل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبعاً، وعفروه الثامنة بالتراب) ] . قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه) ، وفي الرواية الثانية: (لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب) .

النهي عن البول في الماء الدائم وحكم تنجسه بذلك

النهي عن البول في الماء الدائم وحكم تنجسه بذلك في هذه الأحاديث الأمر بالمحافظة على النظافة والنزاهة والبعد عن الأقذار والنجاسات، وذلك أن المياه يُحتاج إليها للشرب وللسقي وللطبخ وللطهارة، ولا شك أن البول فيها والانغماس فيها يفسدها إما عاجلاً وإما آجلاً، فنهى عليه الصلاة والسلام عن البول في الماء الدائم، والماء الدائم: هو الراكد الذي لا يجري ولا يتحرك من موضعه، كمياه الثغبان والخزانات التي هي مستقرة وليست تستخلص وليست تجري ونحو ذلك. فهذا الماء الراكد الذي في هذا الخزان أو في هذه الجابية أو نحوه لا شك أنه راكد، والبول فيه لأول مرة قد لا يظهر أثره، ولكن قد يكثر البول فيفسده ويظهر أثره، وقد تكرهه النفوس، فإذا رأى الإنسان شخصاً -ولو صغيراً- يبول في هذا الماء ولو كان كثيراً اشمأزت نفسه منه وكرهته، وقد يكثر من يبول فيه فينجسه فيظهر بعد ذلك أثر هذه النجاسة ويصير الماء نجساً نجاسة عينية. ولا شك أن الإنسان مأمور بالابتعاد عن الأشياء التي تفسد عليه أو على غيره شيئاً محتاجاً إليه، ومعلوم أن الحاجة إلى الماء حاجة ضرورية، ولو لم يكن إلا للدواب، فالدواب قد تشم فيه روائح البول ونحوه فتستقذره. فالحاصل: أنه عليه الصلاة والسلام أدّب الأمة بالنهي عن التبول في المياه الراكدة، كالمستنقعات ونحوها، ولا شك أنه إذا كثر التبوّل فيها ظهر أثر ذلك ولو بعد حين، فحينئذ تكون نجسة، ولكن لو وقع مرة واحدة ولم يظهر تغير في ذلك الماء فإنه لا ينجس إن شاء الله؛ لأن النجاسة إنما تكون بالتغير، والتغير إما أن يكون بتغير طعم الماء، أو ريحه، أو لونه، ومع ذلك فإنه منهي عن استعماله في هذه الحال لقوله: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه) ، كأنه يقول: إنه إذا اغتسل منه أو توضأ منه هو أو غيره بقي في نفسه شك في أنه تطهر بماء غير طهور، فلا تطمئن نفسه في العبادة.

النهي عن انغماس الجنب في الماء الدائم

النهي عن انغماس الجنب في الماء الدائم كذلك الراوية الثانية التي فيها النهي عن الانغماس في الماء إذا كان الإنسان جنباً، يقول صلى الله عليه وسلم: (لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري وهو جنب) يعني: إذا كنت جنباً فلا تنغمس في هذا الماء الراكد وتقول: قد طهرت؛ إذ يمكن أن تطهر بانغماسك لكن مع كثرة الانغماس من هذا ومن ذاك قد يتغير الماء بعد حين فيسلب الطهورية. وقد قيل لـ أبي هريرة: كيف يصنع به؟ فقال: يتناوله تناولاً. فإذا لم يكن معه إناء فإنه يقف على حافته ويغترف منه ولا ينغمس فيه، حتى لا يفسده على نفسه أو على غيره. والصحيح: أن الماء لا ينجس إلا إذا تغير أحد أوصافه الثلاثة: لونه أو طعمه أو ريحه، ولكن بعض العلماء يقول: بموجب هذا الحديث فإن البول فيه ينجسه ولو لم يتغير. ولكن الصحيح أنه إذا لم يتغير فهو طهور؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (الماء طهور لا ينجسه شيء) ، وفي رواية: (إلا ما غلب على ريحه أو طعمه أو لونه بنجاسة تحدث فيه) .

شرح حديث: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم)

شرح حديث: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم) أما حديث غسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب فهو واجب لهذين الحديثين، فإنه عليه الصلاة والسلام أمر بغسل الإناء بعد ولوغ الكلب وتكرار الغسل بالإضافة إلى تعفيره بالتراب.

صفة غسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب

صفة غسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب في الحديث الأول: يكون الغسل بسبع أولاهن بالتراب، وفي الثاني: أنهن سبع بالماء والثامنة بالتراب، ويجمع بين الحديثين بأن يقال: إنه جعل الغسلة التي فيها تراب عن اثنتين؛ واحدة بماء وواحدة بتراب، وصفة ذلك أن يغسله المرة الأولى بماء وتراب ويدلكه، ثم بعد ذلك يغسله ست مرات بدون تراب حتى ينظفه، ولابد -على الصحيح- من التراب، وسبب اختيار التراب أنه يزيل آثار لعاب الكلب.

الحكمة من استعمال التراب في غسل ما ولغ فيه الكلب

الحكمة من استعمال التراب في غسل ما ولغ فيه الكلب ذكر العلماء أن لعاب الكلب قوي يستمسك بالإناء، فلا تزول لزوجته إلا بالتراب، وذكر بعضهم أن في لعابه جراثيم سامة، وأنها تلتصق بالإناء فلا تزول إلا بالتراب الذي يقتلها ويزيلها، وقد قام بعضهم بعمل تجربة بأن غسل الإناء بأشنان وصابون، ثم ألقاه في النار لإزالة النجاسة، لكنها لم تَزل، فلما غسله بتراب ماتت الجراثيم وزالت النجاسة ولم يبق لها أثر. وهذا يدل على أنه عليه الصلاة والسلام ما أخبر بذلك وما أمر به إلا لحكمة أطلعه الله عليها، ولما جاء العلم الحديث أثبتت المكبرات المجهرية وجود هذه الجراثيم في لعاب الكلب، وأثبتت التجارب أنها لا تزول إلا بهذا التراب.

نجاسة الكلب ولعابه

نجاسة الكلب ولعابه وعلى كل حال فإن هذا دليل على أن الكلب نجس وأن ريقه ولعابه نجس، وأنه لابد من تكرار الغسل حتى يطهر ذلك الإناء، سواء كان ذلك الإناء إناء شراب أو إناء أكل أو نحو ذلك، فلا يستعمل هذا الإناء في أكل ولا في شرب أو نحو ذلك إلا بعد أن يُطهَّر كما جاء في الحديث. وأما إذا شرب الكلب من البرك أو الخزانات أو السواقي أو الأواني الكبيرة أو نحو ذلك فلا يلزم غسلها، وعلى كل حال فالماء الذي يُتطهر به لابد أن يكون طهوراً حتى يرتفع به الحدث؛ لأن الحدث الذي نزل لابد أن يزال بما يزيله.

شرح حديث حمران مولى عثمان في صفة الوضوء

شرح حديث حمران مولى عثمان في صفة الوضوء قال المصنف: [عن حمران مولى عثمان بن عفان: (أنه رأى عثمان رضي الله عنه دعا بوضوء فأفرغ على يديه من إنائه فغسلهما ثلاث مرات، ثم أدخل يمينه في الوضوء ثم تمضمض واستنشق واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ويديه إلى المرفقين ثلاثاً، ثم مسح برأسه، ثم غسل كلتا رجليه ثلاثاً، ثم قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا وقال: من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر الله له ما تقدم من ذنبه) ] . هذا حديث يتعلق بصفة الوضوء، وهو من أصح وأكمل الأحاديث في صفة الوضوء. والوضوء مشتق من الضوء، قيل: إنه سمي بذلك لأنه يضيء الأعضاء وينيرها، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء) ، والوضوء: اسم شرعي لم يعرف إلا في الإسلام.

مشروعية الوضوء في الكتاب والسنة

مشروعية الوضوء في الكتاب والسنة شرع الله تطهير هذه الأعضاء وغسلها وتنظيفها عند القيام إلى الصلاة أو عند وجود حدث؛ حتى يصير المصلي نظيف البدن، وحتى يحصل له النشاط والقوة، وحتى يُقبل على الصلاة بصدق ومحبة ورغبة. وقد بين الله تعالى أصل الوضوء في القرآن فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6] فالآية بينت أعضاء الوضوء، وأنها أربعة: الوجه واليدان والرأس والرجلان، وهذا فيما يتعلق بالحدث الأصغر. ثم جاءت السنة ففصلت ذلك بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله؛ لأن الله أمره بالبيان بقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44] ، فبينه بقوله وبينه بفعله، وحفظ ذلك صحابته وبينوه بأفعالهم، فهذا عثمان ثالث الخلفاء الراشدين رضي الله عنه حفظ عنه هذه الصفة في الوضوء.

الفرق بين الوضوء والوضوء

الفرق بين الوَضوء والوُضوء جاء في هذا الحديث أنه -أولاً-: (دعا بوضوء) . والوَضوء بفتح الواو: هو الماء الذي يكون في الإناء ليتوضأ به. والوُضوء بضم الواو: هو استعمال الماء في الأعضاء الأربعة. هذا هو الفرق بين الوَضوء والوُضوء. وقوله: (دعا بوَضوء) يعني: بماء يستعمله في غسل أعضاء الوضوء الأربعة. ولم يذكر في هذا الحديث الاستنجاء الذي هو غسل أثر النجاسة من السبيلين؛ لأنه ليس من أعضاء الوضوء وإنما هو إزالة نجاسة، وكذلك الاستجمار بالأحجار ليس من أعضاء الوضوء وخلافاً لما يعتقده بعض العامة، فإن الاستنجاء والاستجمار إنما هو تطهير للمحل المتنجس وإزالة لأثر النجاسة منه.

حكم غسل الكفين في الوضوء

حكم غسل الكفين في الوضوء وأعضاء الوضوء هي التي ذكرت في هذا الحديث، وذكر في هذا الحديث أنه أولاً غسل يديه، والمراد بهما الكفان، أي: غسل كفيه ثلاثاً، وهذا الغسل سنة وليس بواجب، والحكمة فيه أن ينظف اليدين، حيث إنهما الآلة التي يغسل بهما أعضاءه، فباليد اليمنى يغترف، وباليدين جميعاً يباشر غسل الوجه ويباشر غسل اليدين والرجلين، ويمسح بهما الرأس، فغسلهما هنا لأجل التنظيف، وغسلهما يكون ثلاث مرات وهي كافية، وقد تقدم أن من استيقظ من نوم الليل لزمه غسلهما قبل أن يدخلهما في الإناء، وأما غسلهما لغير نوم فهو سنة وليس بواجب، إنما هو لأجل التنظيف، فإذا كانت يداه نظيفتين، فلا مانع من أن يستعملهما ولو لم يغسلهما، ولكن الأصل أنه يسن لكل متوضئ تنظيف يديه وغسلهما قبل استعمال الماء.

المضمضة والاستنشاق والاستنثار

المضمضة والاستنشاق والاستنثار ذكر أنه بعد أن غسل يديه أدخل يده في الإناء ليغترف بها، ثم تمضمض واستنشق واستنثر ثلاثاً. والمضمضة: تحريك الماء في الفم. والاستنشاق: اجتذاب الماء بالأنف بقوة النفس. والاستنثار: إخراج الماء من الأنف بعد إدخاله بدفع النفس. ولم يذكر في أكثر الروايات عدد المضمضة والاستنشاق والاستنثار، وفي بعضها ذكر أنه مضمض ثلاثاً واستنشق واستنثر ثلاثاً، وهذا هو الأرجح؛ أنه يتمضمض ثلاثاً ويستنشق ثلاثاً، والصحيح أنه يجعلهما بثلاث غرفات، كل غرفة بعضها في فمه وبعضها في أنفه فيتمضمض ويستنشق من غرفة واحدة، ثم يغترف غرفة ثانية لمضمضة واستنشاق ثم ثالثة كذلك، هذا هو الأرجح، ويجوز أن يغترف ست غرفات، لكل مضمضة غرفة، ولكل استنشاق غرفة، ويجوز أن يتمضمض ويستنشق من غرفتين، يعني: يتمضمض من غرفة ويستنشق من غرفة، كل غرفة تكفيه ثلاثاً إذا تمكن من ذلك. والراجح أن المضمضة والاستنشاق من تمام الوضوء ومن تمام غسل الوجه، وإن كان كثير من العلماء يقولون: إنها من السنن، ولكن الأدلة تدل على أنها واجبة، وأن من توضأ ولم يتمضمض ولم يستنشق عمداً فإنه يعيد؛ لأنه ترك جزءاً من أعضاء الوضوء. فإن الذين نقلوا وضوء النبي صلى الله عليه وسلم ذكروا أنه حافظ على المضمضة والاستنشاق، وكذلك أمر بهما في أحاديث كثيرة، كقوله: (إذا توضأت فمضمض) ، وقوله في حديث لقيط بن صبرة: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) ، فهذا أمر بالوضوء وأمر بالمضمضة والاستنشاق فيه. والذين قالوا: إنها سنة وليست بواجبة، عللوا ذلك بأنها لم تذكر في القرآن، وإنما ذكر غسل الوجه فقط، والوجه ما تحصل به المواجهة، بينما المنخران خفيان، وكذلك الفم خفي فلا تحصل بهما المواجهة. ويرد عليهم بأن يقال: الأمر ورد بغسل الوجه مجملاً، والرسول عليه الصلاة والسلام بينه فذكر أن من تمامه المضمضة والاستنشاق، ولا شك أن القصد الأساسي هو التنظيف، وأن الفم قد يكون محل تغير، فإن كثيراً من الناس تتغير رائحة أفواههم لطول السكوت، أو لأكل شيء يبقى بعضه في الفم، فتتغير رائحة الفم بسبب ذلك، فغسله وتحريك الماء فيه بالإصبع تنظيف له وإزالة لتلك الرائحة، وكذلك الأنف قد يتحلل منه أشياء مستقذرة، فتنظيفه إزالة لما قد يتحلل منه مما هو مستقذر أو مما هو أذى، فشرعية المضمضة والاستنشاق محافظة على تنظيف الظاهر الذي ما يمكن ظهوره، ولا شك أن الفم له حكم الظاهر -والظاهر غير الباطن- ودليل ذلك: أن الصائم لو وضع طعاماً في فمه ثم مجه لم يحكم بأنه أفطر، ولو وضع في فمه خمراً ثم مجها لم يجب عليه الحد، ولو أن طفلاً صُب اللبن من المرأة في فمه ولكنه لم يبتلعه ما عد بذلك راضعاً منها، فهذه أدلة على أن الفم لا يعد من الباطن. فالحاصل: أن القول الصحيح وجوب المضمضة ووجوب الاستنشاق على ما دلت عليه هذه الأحاديث التي بين فيها النبي عليه الصلاة والسلام ما أجمله الله في الآيات.

غسل الوجه وحده

غسل الوجه وحدُّه الوجه المأمور بغسله هو ما تحصل به المواجهة، وحد الوجه طولاً من منابت شعر الرأس المعتاد، وله نهاية موجودة في أغلب الناس، ولا عبرة بمن ينحسر شعره كالأصلع، إنما العبرة بأغلب الناس، فأعلى الجبهة هو نهاية منابت الشعر، فهي من جملة الوجه، أما النهاية من أسفله فهو الذقن، والذقن هو مجمع اللحيين، واللحيان: منبت الأسنان السفلى، فأسفل الوجه الذي تحت الشفة يسمى: ذقناً، ولو لم يكن فيه شعر، فليس الذقن اسم للشعر، بل الذقن اسم لأسفل الوجه، فيقال: ذقن المرأة، يعني: أسفل وجهها، وذقن الصبي، يعني: أسفل وجهه، ولو لم يكن فيه شعر، فيغسله إلى الذقن، ويغسل الشعر الذي على الخدين وعلى الذقن وهو الذي يسمى اللحية، فإن كانت اللحية كثيفة اكتفي بغسل ظاهرها، وسن أن يخللها بإدخال أصابعه أو بعركها حتى يدخل الماء بين الشعر، وإن كانت خفيفة غسل داخلها وخارجها؛ لأنها في هذه الحال لم تستر البشرة ستراً كاملاً، فالحاصل أنه يغسل ما فيه من الشعر. أما حد الوجه عرضاً فإلى أصول الأذنين، حيث يستوفي عرضه الخدين كليهما؛ لأنهما مما تحصل به المواجهة، هذا هو اسم الوجه. وقد وردت السنة بالتثليث في غسل الوجه، بمعنى أنه يغسل الوجه ثلاثاً كما يتمضمض ويستنشق ثلاثاً.

غسل اليدين وحدهما

غسل اليدين وحدُّهما وبعد غسل الوجه يغسل يديه، وفي هذا الحديث ذكر أن عثمان غسل يديه كل واحدة ثلاثاً، واليد المأمور بغسلها من رءوس الأصابع إلى المرافق وهو مفصل الذراع من العضد، وسمي مرفقاً لأنه يرتفق به، أي: يتكئ عليه ويعتمد عليه، والمرفق داخل في الغسل، كما في حديث طلحة أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يدير الماء على مرفقيه، فدل على أنهما مغسولان، فيغسل المرفق مع الذراع. وبعض الناس يقتصر على غسل الذراع ولا يغسل الكف، ويدعي أنه قد غسلها في أول الوضوء، وهذا لا يكفي؛ لأن غسلهما قبل الوجه سنة وغسلها بعد الوجه واجب، فلابد أن يغسل كفه من رءوس أصابعه ويخللها، ثم يغسل باطنها وظاهرها، ثم يغسل الذراع، وصفته: أن يغترف غرفة فيغسل الكف ثم الذراع، ثم يغترف ثانية وهكذا، ثم يغسل اليد الأخرى، فيغترف لها باليمنى فيغسل الكف ويخلل الأصابع، ثم يغسل الذراع، ثم يغترف غرفة أخرى ثم ثالثة حتى يغسل كل واحدة ثلاثاً، وهذا هو الأكمل.

مسح الرأس وصفته

مسح الرأس وصفته أما الرأس فذكر أنه: (مسح برأسه) ، ولم يذكر عدداً، وهذا دليل على أنه لا يكرر؛ لأنه لا يقصد منه إلا مجرد الامتثال، فيمسح برأسه من مقدمته إلى نهايته، وهذا هو الصحيح، والمسألة فيها خلاف بين العلماء، ولكن الجمهور على أنه لابد من تعميم مسح الرأس، والدليل في ذلك قوي.

غسل الرجلين وحدهما

غسل الرجلين وحدُّهما ثم بعد ذلك يغسل قدميه كل واحدة ثلاثاً، وقد أمر الله تعالى بغسل القدمين إلى الكعبين، والكعبان داخلان في الغسل فيغسلهما. والقدم: هو الذي يمشي الإنسان عليه. والكعبان ينتهيان بمستدق الساق، فأدق ما يكون من الساق هو نهاية الكعب، وإذا أراد أن يحتاط فإنه يغسل إلى أن ينتهي الكعب، وقد تقدم لنا أنه عليه السلام قال: (ويل للأعقاب من النار) ، وهذا تأكيد لوجوب غسل القدمين حتى لا يتساهل أحد في غسلهما، فإن كثيراً من الناس يتساهلون في غسل القدم، فيغسلونها غسلاً خفيفاً بحيث يبقى مؤخر القدم الأبيض لم يمسه الماء وهو العقب، فلذلك قال: (ويل للأعقاب من النار) وهذا هو الوضوء الكامل.

الوضوء المجزئ والوضوء الكامل

الوضوء المجزئ والوضوء الكامل الوضوء المجزي: هو غسل كل عضو مرة واحدة سابغة، فإذا فعل ذلك اكتفى به وحصل الإجزاء، والغسلتان أكمل من الواحدة، والثلاث الغسلات أكمل من الغسلتين وأفضل، ولا تجوز الزيادة على الثلاث؛ لأنه لم ينقل بل ورد النهي عن الإسراف، والإسراف هنا هو استعمال الماء في الوضوء زيادة على ما ورد.

إسباغ الوضوء وإتباعه بصلاة ركعتين سبب لمغفرة الذنوب

إسباغ الوضوء وإتباعه بصلاة ركعتين سبب لمغفرة الذنوب في هذا الحديث يقول: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا ثم قال: من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر الله له ما تقدم من ذنبه) ، وقد رتب هذا الثواب على هذا العمل للأسباب التالية: أولاً: أنه امتثل بهذا الوضوء الكامل الشرعي. ثانياً: أنه أتى به كاملاً وهو التثليث. ثالثاً: أنه بادر وصلى بعده تطوعاً واختياراً منه. رابعاً: أنه أخلص في صلاته وكملها. خامساً: أنه حفظها عما ينقصها، فلم يحدث فيها نفسه بشيء من أمور الدنيا التي تنافي ما هو فيه من العبادة. فإذا فعل ذلك فإنه دليل على قوة إيمانه وقوة يقينه، فيترتب على ذلك أن يغفر الله له ذنوبه، إذا كان ذلك عن عزم ونية صادقة. والحاصل: أن هذا من الأحاديث التي بين فيها النبي صلى الله عليه وسلم ما أجمله الله تعالى من الآيات، وأمر نبيه ببيانها البيان الفعلي، وقد وردت أحاديث تبين البيان القولي، ومعلوم أن هذا الحديث فيه دلالة على أهمية التعليم بالفعل؛ لأنه قد يكون أتم من التعليم بالقول، والإنسان إذا قلت له: إذا توضأت فقل كذا وافعل كذا وكذا، فقد لا يفهم، حتى تأتي بالماء وتقول: هكذا هو الوضوء، اغسل يديك مثلي هكذا، وامسح رأسك هكذا، فإذا شاهد بعينيه كان ذلك أبلغ لفهمه ومعرفته، هكذا فعل النبي عليه السلام، وهكذا فعل عثمان وغيره من الصحابة الذين علموا الناس بالأفعال زيادة على التعليم بالأقوال.

شرح حديث عبد الله بن زيد في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم

شرح حديث عبد الله بن زيد في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم [وعن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه قال: (شهدت عمرو بن أبي الحسن سأل عبد الله بن زيد عن وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا بتور من ماء، فتوضأ لهم وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكفأ على يده من التور فغسل يديه ثلاثاً، ثم أدخل يديه في التور فمضمض واستنشق واستنثر ثلاثاً بثلاث غرفات، ثم أدخل يده في التور فغسل وجهه ثلاثاً، ثم أدخل يديه فغسلهما مرتين إلى المرفقين، ثم أدخل يديه فمسح بهما رأسه فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة، ثم غسل رجليه) ، وفي رواية: (بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه) ، وفي رواية: (أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجنا له ماءً في تور من صفر) ، والتور: شبه الطست] . هذا حديث عبد الله بن زيد بن عاصم من الأنصار من بني مازن، ذكر فيه صفة الوضوء كما ذكر ذلك عثمان، وتوضأ بالفعل؛ وذلك لأن التعليم بالفعل والمشاهدة قد يكون أبلغ من القول، فهو لم يقل: كان وضوء النبي صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، بل قال: أنا أريكم كيف كان يتوضأ. ولا شك أن الحديثين -حديث عثمان وحديث عبد الله بن زيد - متقاربان في صفة الوضوء، ولكن أتى المؤلف بهذا الحديث لزيادة الإيضاح، ولأن فيه بعض التعليمات الزائدة على حديث عثمان فنذكر بعضها على وجه الإشارة: أولاً: ذكر أن هذا الوضوء من تور، والتور شبه الطست، يعني: إناء مفلطح واسع الرأس ولكنه صغير، ولذلك تمكن من أن يصغيه، ولم يغمس يده فيه لأول مرة، بل أصغاه فصب على يديه فغسل كفيه. ثانياً: أنه بدأ بغسل كفيه، وقد ذكرنا أن غسل الكفين بداية لا يغني عن غسلهما بعد الوجه؛ لأن غسلهما ابتداءً هو لتنظيفهما من الأوساخ، ولأنهما الآلة التي يغترف بهما وتدلك بهما الأعضاء. ثالثاً: ذكر أنه تمضمض واستنشق واستنثر ثلاثاً بثلاث غرفات، ولم يذكر في حديث عثمان عدد الغرفات وهنا ذكر أنها ثلاث، يعني: أن الغرفة الواحدة يجعل بعضها في فمه وبعضها في أنفه، وذكرنا أنه يجوز أن يتمضمض بثلاث غرفات ويستنشق بثلاث غرفات، ولكن الأفضل أن يجعلها ثلاثاً كل غرفة فيها مضمضة واستنشاق، وقلنا: إن هذا الحديث وكذلك الحديث قبله مما يدل على أن المضمضة والاستنشاق من تمام غسل الوجه وأنهما لا يسقطان، وهو القول الصحيح الذي تؤيده الأدلة، خلافاً لمن يقول: إنهما سنة. ومحافظة النبي عليه الصلاة والسلام على المضمضة والاستنشاق وتأكيده عليهما في الأحاديث التي ذكرت دليل على وجوبهما وأنهما تابعان للوجه. وفي هذا الحديث ذكر أنه غسل وجهه ثلاثاً، وقد عرفنا أن الوجه ما تحصل به المواجهة، وحده طولاً من منابت شعر الرأس المعتاد إلى ما انحدر من اللحيين والذقن، وعرضاً من أصل الأذن إلى أصل الأذن، هذا هو الوجه، وقد يكون فيه شعر، وذكرنا أن شعر اللحية الخفيف يغسل باطنه وظاهره، وأن الشعر الكثيف يكتفى بغسل ظاهره، ويستحب تخليله حتى يغسل داخله، وتغسل أيضاً جلدة الوجه التي تحت الشعر استحباباً، وإن اكتفى بغسل ما ظهر كفاه؛ ذلك لأنه الذي تحصل به المواجهة والمقابلة. وتثليث الوجه أيضاً من السنن فيمكن أن يكتفى بغسلة واحدة، والثنتان أفضل من الواحدة، والثلاث أفضل من الاثنتين، ولا يزاد على ثلاث. وذكر في هذا الحديث أنه أدخل يديه في الإناء أو في التور، وأنه غسل كل واحدة منها مرتين. وغسل اليدين يبدأ من رءوس الأصابع إلى المرفقين، والمرفق: هو المفصل الذي بين الذراع والعضد، وسمي بذلك لأنه يرتفق به، أي: يتكأ عليه، وفي هذا الحديث ذكر أنه غسلهما مرتين، يعني: أنه غسل وجهه ثلاثاً واليدين كل واحدة غسلها مرتين إلى المرفقين.

دلك أعضاء الوضوء لتحقيق معنى الغسل

دلك أعضاء الوضوء لتحقيق معنى الغسل من المعلوم أن مسمى الغسل لا يكون إلا مع الدلك، وقد ذهب بعض العلماء إلى أنه يكفي الابتلال، فلو ابتلت اليد والذراع بالماء ولو لم يمر يده عليها كان ذلك كافياً، ولكن الصحيح أن هذا لا يسمى غسلاً، فلابد في غسل كل يد أن يدلكها بيده الأخرى، فيدلك اليمنى بيده اليسرى ويدلك اليسرى بيده اليمنى، حتى يتحقق من ابتلالها بالماء وبذلك يسمى غاسلاً لها. وقد رأيت بعضهم عندما يتوضأ من هذه الصنابير يضع يده ويمدها ويترك الماء يصب عليها دون أن يفركها، وهذا في الحقيقة لا يسمى غسلاً، ما دام أن باستطاعته أن يدلكها ولم يفعل، فإن كان عاجزاً أو مقطوع اليد دلك بقدر المستطاع، ولو بركبته أو ما أشبه ذلك، حتى يتحقق أنه قد غسلها، فإن الذي يترك الصنبور يصب على يده قد يبقى في يده شيء لم يصله الماء، وقد يصله ولكنه لم يبتل به، والقصد من الغسل هو تنظيفه، وذلك إنما يحصل بتبليغ الماء له بدلكه وبفركه ولو مرة واحدة، هذا هو حقيقة الغسل. والذي يغمس الإناء في الماء ثم يرفعه لا يقال: إنه غسله، حتى يدلكه، والذي يغمس الثوب في الماء ثم يرفعه، يقال: غسله، حتى يدلكه ويفركه، فكذلك غسل الوجه لا يكون إلا بإمرار اليد عليه، وغسل اليد لا يكون إلا بإمرار اليد الأخرى عليها، وغسل الرجل كذلك.

حكم تخليل الأصابع في الوضوء

حكم تخليل الأصابع في الوضوء ومن تمام غسل اليدين أن يخلل أصابع يديه بإدخال بعضهما في بعض حتى يتحقق أن ما بينهما قد تبلل، هكذا قال بعض العلماء، وبعضهم يقول: يكتفي بتحريك أصابعه، فإن تحريكهما يبللهما ويكون ذلك غسلاً لهما. ولكن التخليل أولى.

وجوب تعميم جميع الرأس بالمسح

وجوب تعميم جميع الرأس بالمسح أما مسح الرأس فذكر أنه لابد من مسح الرأس كله، وفي هذا الحديث أنه أقبل بيديه وأدبر، والواو هاهنا لا تقتضي الترتيب، والصواب أنه أدبر وأقبل، أي: أنه بل يديه بالماء ثم بدأ بمقدم رأسه -وهو الناصية- ومر بيديه إلى قفاه، يعني إلى مؤخر الرأس، ثم رد يديه إلى المكان الذي بدأ منه، فمرت يداه على جميع رأسه. ويؤخذ من صفة مسح الرأس في هذا الحديث ما يلي: أولاً: أنه لم يقتصر على بعض الرأس بل مسحه كله. ثانياً: أنه لم يكمل المسح ثلاثاً بل مسحه مسحة واحدة واكتفى بها. ثالثاً: أنه أمرَّ يديه على جميع الرأس. فذلك دليل على تعميم الرأس، وقد ذهب بعض العلماء إلى أنه يكفي مسح جزء يسير من الرأس حتى ولو كان شعرة واحدة، ولكن هذا في الحقيقة لا يسمى مسحاً، وذهب بعضهم إلى أنه يكفي مسح المقدمة التي هي الناصية، وهذا أيضاً ليس بصحيح، بل لابد من تعميم مسح الرأس على ما في هذا الحديث، ولم يأت حديث يدل على الاقتصار على مسح بعض الرأس، إلا حديث المغيرة الذي فيه (أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح بناصيته وعلى العمامة والخفين) ، وهذا الحديث دل على أنه كان قد أخرج ناصيته، يعني مقدم رأسه، وكان على رأسه عمامة قد شدها، وأحكم شدها فمسح على الناصية وكمل المسح على العمامة ولم يقتصر على الناصية، فلا دلالة في هذا الحديث على الاقتصار على بعض الرأس. والذين قالوا: إنه يجوز الاقتصار على مسح بعض الرأس، قالوا: إن الباء في قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة:6] للتبعيض، فقالوا: المعنى: امسحوا بعض رءوسكم، وهذا ليس بصحيح، بل الباء فيها للإلصاق، أي: ألصقوا المسح برءوسكم، هذا هو الصحيح في معنى هذه الآية، فعرف بذلك أنه لا دليل يوجب الاقتصار على مسح بعض الرأس؛ بل الأصل مسح الرأس كله. وهذا المسح لا يكرر وذلك لأنه تعبد، ولا يحصل منه تنظيف ولا تنشيط، وقد يكون على الرأس شعر فلم يشرع غسله للمشقة فاكتفي بمسحه لامتثال الأمر، ولإجراء الحكم بأداء هذه العبادة.

مسح الأذنين وغسل الرجلين

مسح الأذنين وغسل الرجلين أما الرِجلان فذكر أنه غسل رجليه ولم يذكر عدداً، وتقدم في الحديث قبله أنه غسلهما ثلاثاً. لم يذكر في هذا الحديث الأذنين ولا في الحديث الذي قبله، وقد ذكرنا أن الأذنين يمسحان مع الرأس، وأنه ورد حديث بلفظ: (الأذنان من الرأس) ، وورد كيفية مسح الأذنين بأن يبل إصبعيه السبابة والإبهام، فيدخل السبابتين في الصماخين ويمسح بالإبهامين ظاهر الأذنين، ولا يلزمه أن يتتبع الغضاريف الداخلية للأذان بل يكتفي بمسح الظاهر. وأما الرجلان فلابد من غسلهما كما تقدم، وقد تقدم الوعيد الشديد على التهاون في غسل الرجلين، وذلك في قوله عليه الصلاة والسلام: (ويل للأعقاب من النار) ، ففيه التأكيد على غسلهما، وأن الغسل لابد فيه من الدلك والفرك، ولا يسمى غاسلاً إلا إذا دلك المغسول، فيصب الماء على الرجل المغسولة ويدلكها بيده أو بيديه حتى يتأكد من بلوغ الماء إلى جلدة الرجل. والرِجل هي مظنة الوسخ؛ لأنها تلاقي التراب والغبار ونحو ذلك، فلأجل ذلك يتأكد من تنظيفها ولكن بدون مبالغة وبدون كثرة صب للماء، بل يصب عليها بقدر ما يحصل به النظافة، ويثلثها أيضاً كما تقدم، ويتعاهد أصابع الرجلين، وغالباً أنها تكون متلاصقة فيتعاهد ما بينها، فيخلل ما بين أصابع رجليه بأصابع يديه، وبذلك يحصل تمام الغسل.

الدعاء بعد الفراغ من الوضوء

الدعاء بعد الفراغ من الوضوء وبعد الانتهاء من الغسل لم يذكر الدعاء، وقد وردت أحاديث في أن من انتهى من وضوئه فإنه يدعو بما ورد، ومن ذلك التشهد بأن يرفع نظره إلى السماء ويقول: (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله) ، ورد أن من قال ذلك بعد الوضوء طبع عليها بطابع فلا تفتح إلا يوم القيامة عند الحساب؛ لأنها شهادة بعد أداء هذا العمل، فكأنه يقول: إنني توضأت لله الذي هو الإله الحق، ولا يصلح أن يكون إلهاً غيره، فيستفيد بذلك إخلاص عمله، هذا هو الأصل، ويدعو إذا تيسر له الدعاء بأن يقول مثلاً: (اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين) ، أخذاً من قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222] في سورة البقرة، يعني: اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين حتى أكون من الذين تحبهم، وزاد بعضهم: (واجعلني من عبادك المؤمنين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) ، وذلك للآيات التي فيها مدح عباد الله بأنه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. فعلى كل حال هذا هو الوارد.

حكم التسمية قبل الوضوء

حكم التسمية قبل الوضوء لم يذكر في هذا الحديث التسمية قبل الوضوء، وقد وردت في ذلك أحاديث تدل على أنها واجبة، كقوله عليه الصلاة والسلام: (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) ومحلها عند ابتداء غسل اليدين أو عند ابتداء المضمضة، يقول: (باسم الله) ، ويرى بعض العلماء أنها واجبة ولكنها تسقط عن الناسي والجاهل، وأما المتذكر فإنه يأتي بها بقوله: (باسم الله) ، ويكتفي بذلك، وإن أتمها بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم، جاز ذلك. ويسأل كثير من الإخوة فيما إذا توضأ بداخل الحمامات، ففي تلك الأماكن المستقذرة لا يؤتى بذكر الله؛ بل يقتصر على ذكر الله تعالى بقلبه، وقبل أن يدخل يأتي بالبسملة، ولعل ذلك كافٍ، ويستحب أن يستنجي في داخل الحمام، وبعد ذلك يخرج ليؤدي الوضوء خارج الحمام؛ حتى يتمكن من التسمية حيث لا محذور.

حكم الإتيان بأذكار مخصوصة عند غسل أعضاء الوضوء

حكم الإتيان بأذكار مخصوصة عند غسل أعضاء الوضوء وأما الأذكار التي عند كل عضو، فقد ذكر بعضها النووي في كتابه الأذكار، وذكر أنه إذا غسل وجهه قال: (اللهم بيض وجهي يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) ، وإذا غسل يده قال: (اللهم أعطني كتابي بيميني ولا تعطني كتابي بشمالي) ، فإذا مسح رأسه قال: (اللهم أظلني تحت ظل عرشك) ، وإذا غسل رجليه قال: (اللهم ثبت قدمي على الصراط) ، ولكن هذه الأدعية لا دليل عليها، وإن كانت غير محظورة، وهي أدعية مفيدة لكن تخصيص هذا المكان بها لم يكن وارداً شرعاً.

شرح حديث: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن)

شرح حديث: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن) قال المصنف رحمه الله: [عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله) . وعن نعيم المجمر عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل) ، وفي لفظ لـ مسلم: (رأيت أبا هريرة يتوضأ فغسل وجهه ويديه حتى كاد يبلغ المنكبين، ثم غسل رجليه حتى رفع إلى الساقين، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته وتحجيله فليفعل) ، وفي لفظ لـ مسلم: سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم يقول: (تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء) ] .

مشروعية البدء باليمين في الوضوء

مشروعية البدء باليمين في الوضوء دلالة الحديث الأول، وهو قول عائشة رضي الله عنها: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله) ، فيه دلالة على أنه يبدأ بغسل الميامن قبل غسل المياسر، فتقدم اليد اليمنى في الوضوء على اليسرى، وتغسل الرجل اليمنى قبل اليسرى، هكذا كان عليه الصلاة والسلام يفعل؛ وذلك لأنه يحب التيمن، والتيمن مشتق من اليُمن، واليُمن: هو البركة وكثرة الخير، فاليمين مقدمة على اليسار، ولذلك فضل الله أصحاب اليمين وجعلهم أهل السعادة، بينما جعل أصحاب الشمال أهل الشقاوة.

مشروعية البدء باليمين في سائر الأمور الفاضلة

مشروعية البدء باليمين في سائر الأمور الفاضلة وفي هذا إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم كان يحب التيمن في الأمور الفاضلة، ففي الوضوء يغسل اليمنى قبل اليسرى من اليدين والرجلين، وفي الاغتسال يبدأ بغسل شقه الأيمن قبل الأيسر، وكذلك في تنعله، أي: في لبس النعل أو الخف كان يلبس اليمنى قبل اليسرى، وقد ثبت عنه أنه قال: (إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمين -يعني: إذا لبس- وإذا خلع فليبدأ بالشمال، ولتكن اليمنى أولهما تنعل وآخرهما تخلع) ، وإذا دخل المسجد قدم رجله اليمنى، وإذا خرج أخّر رجله اليمنى، لتكون اليمنى أول ما يدخل وآخر ما يخرج، وإذا دخل بيته قدم اليمنى وإذا خرج أخّر اليمنى، لتكون اليمنى أول ما يدخل في البيت فهو أشرف من السوق ونحوه، وإذا دخل بيت الخلاء ونحوه قدم اليسرى، وإذا خرج أخّر اليسرى لتكون اليمنى آخر ما يدخل وأول ما يخرج؛ وذلك لأنه مكان مستقذر فتكرم فيه اليمنى. كذلك أيضاً في ترجله -أي تسريح شعره- إذ كان له صلى الله عليه وسلم شعر يبلغ إلى شحمة الأذن أو إلى العاتق، كان إذا غسله بدأ بغسل شقه الأيمن قبل الأيسر، وإذا رجله بدأ بالأيمن قبل الأيسر. وهكذا أيضاً في لبس الثوب يدخل كم اليد اليمنى قبل اليسرى، وكذا في السراويل وأشباه ذلك، ولا شك أن القصد من ذلك كله تكريم اليد اليمنى، وهكذا أيضاً في الأكل، فقد شرع الأكل باليمنى؛ وذلك لأنها محل اليُمن والبركة والخير، وأمر بالمصافحة باليد اليمنى، وكذلك الأخذ والإعطاء فقال عليه السلام: (إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، وإذا شرب فليشرب بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله) . وكان يأخذ بيمينه ويعطي بيمينه، ويصافح بيمينه، كل ذلك لأجل تفضيل اليمين.

استخدام الشمال في الشئون المستقذرة

استخدام الشمال في الشئون المستقذرة وجعل اليد اليسرى للأشياء المستقذرة، ونهى أن يستنجى باليمين، كما سيأتي في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول ولا يتمسح من الخلاء بيمينه) ، فجعل ذلك لليد اليسرى؛ لأن هذا شيء مستقذر. فاليمين مشتقة من اليمن وهو البركة وكثرة الخير، فالشرع جاء بتقديم اليمين في الأشياء المحبوبة، وجعل الشمال للأشياء المستقذرة كالاستنجاء والاستجمار والامتخاط وإزالة الأقذار وما أشبه ذلك، وكل منهما يد ولكن اليمنى تقدم تفاؤلاً باليمن والبركة والخير.

الإنكار على من يستعمل الشمال في الطيبات ويترك اليمين

الإنكار على من يستعمل الشمال في الطيبات ويترك اليمين وقد أنكر النبي عليه السلام على رجل رآه يأكل بشماله فقال: (كل بيمينك، قال: لا أستطيع، فقال: لا استطعت، ما منعه إلا الكبر) ، فعوقب ذلك الرجل بأن أجيبت دعوته عليه السلام فيه فلم يستطع بعد ذلك أن يستعمل يمينه في الأكل ولا في غيره، عقوبة له لما امتنع وتكبر عن الأكل باليمين، وقد رأينا وسمعنا كثيراً من الذين خالفوا هذه السنة والشريعة فصار أحدهم يأكل ويشرب بشماله ولا يبالي بالإرشادات النبوية، وربما أن بعضهم يفضل العمل بها ويدعو إلى ذلك، ويذكر أن الذين يعملون بالشمال نجحوا في أعمالهم وأنهم وأنهم، ولا شك أن هذا مصادمة للشريعة، وطعن في تعاليم الإسلام. فعلى المسلم أن يتجنب أولئك وأن يعمل بالشريعة بقدر المستطاع.

حكم تقديم شمائل الأعضاء قبل ميامنها في الوضوء

حكم تقديم شمائل الأعضاء قبل ميامنها في الوضوء وتقديم اليمين على اليسار في الوضوء من السنن والمكملات، ولو أن شخصاً غسل يساره قبل يمينه ارتفع الحدث عنه ولم يؤمر بالإعادة، سواء في اليدين أو في الرجلين، ولكنه ترك الأفضل والسنة، فالسنة والأفضلية في تقديم اليمين كما تقدم في سائر الأشياء المحبوبة.

شرح حديث: (إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين)

شرح حديث: (إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين) أما الحديث الثاني في صفة الوضوء فقد جاء عن نعيم المجمر، وهو من التابعين، وكان يجمر المسجد، يعني: يطيبه بالدخنة، فيأتي بالجمر وبالدخنة التي يطيب بها المسجد فاشتهر باسم نعيم المجمر، وقد روى عن أبي هريرة صفة الوضوء، فنقل أن أبا هريرة لما توضأ غسل يديه إلى العضد حتى كاد أن يبلغ إلى المنكب، وغسل الرجلين فرفع حتى غسل نصف الساق أو نحو ذلك.

معنى الغرة والتحجيل ومفهوم الزيادة فيهما

معنى الغرّة والتحجيل ومفهوم الزيادة فيهما وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين) ، الغرة: بياض الوجه، والتحجيل: بياض اليدين والرجلين. وقد صح هذا الحديث عنه صلى الله عليه وسلم من عدة طرق، وأخبر بأن أمته تعرف بين الأمم ببياض الوجوه وببياض اليدين والرجلين، فالذين يحافظون على الوضوء، ويحافظون على الطهارة، ويحافظون على الصلاة، تكون لهم علامة وميزة يتميزون بها، وهو أنهم يأتون بيض الوجوه، وهو معنى الغرة، كما يأتون بيض الأيدي والأرجل، وهو معنى التحجيل. فأخذ أبو هريرة من هذا الحديث أنه يستحب أن تطول الغرة ويطول التحجيل، ولكن الغرة لا يمكن تطويلها؛ لأن الوجه يغسل كله فلا يمكن أن يزاد فيه، وكذلك يمسح الرأس ولا يزاد فيه الرقبة؛ لأنها لا تمسح ولا تغسل على الصحيح، فالذي يغسل هو الوجه كله، وهو الذي يكون بياضه غرة، فلا يمكن إطالة الغرة ولا الزيادة فيها، ولا يجوز النقص منها، ولا يجوز أن يقتصر على بعض الوجه ولا أن يغسل الرأس، فالرأس فرضه المسح كما هو معروف. وقد اجتهد أبو هريرة فغسل بعض العضد، وغسل بعض الساق، وقصد بذلك أن يكون البياض في اليدين أطول، فلا يقتصر التحجيل على بياض الذراع وبياض القدم، بل يكون العضد أبيض، وكذلك الساق. وقد استدل أبو هريرة بهذا الحديث، واستدل أيضاً بقوله عليه الصلاة والسلام: (تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء) ، والحلية: هي الزينة التي يحلى بها أهل الجنة، فقد ذكر الله أنهم: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [فاطر:33] ، فمعناه أن أهل الجنة يحلون -بمعنى: يلبسون- حلياً للزينة وللكرامة، وتلك الحلي تكون في اليد وفي العضد ونحو ذلك، فالحلية تكون إلى منتهى الوضوء، فاستحب بعض العلماء أنه إذا توضأ يغسل بعض العضد ويغسل بعض الساق حتى يكون البياض أكثر.

قوله: (فمن استطاع أن يطيل غرته) مدرج وليس من الحديث

قوله: (فمن استطاع أن يطيل غرته) مدرج وليس من الحديث وعلى الصحيح فإن آخر الحديث الوارد عن أبي هريرة وهو قوله: (فمن استطاع أن يطيل غرته وتحجيله فليفعل) ، مدرج من كلام أبي هريرة، والحديث المرفوع انتهى عند قوله عليه الصلاة والسلام: (إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين) ، فيعرفهم نبيهم صلى الله عليه وسلم بهذه العلامة إذا وردوا عليه الحوض، فإن علامتهم بارزة ظاهرة يعرفهم ويميزهم من بين من ليسوا من أمته، سواء كانوا ممن لم يدخل في الإسلام من هذه الأمة، ولم يطبق شريعة الإسلام ولم يأت بهذه الطهارة، أو من الأمم غيرهم، فيتميزون عن غيرهم بالغرة والتحجيل، فهو عليه السلام قائد الغر المحجلين. وبكل حال نقول: إن هذه الأمة تميزت بهذه الميزة الظاهرة، فمن استطاع أن يطيل غرته وتحجيله فليفعل.

حكم الزيادة في غسل الأعضاء

حكم الزيادة في غسل الأعضاء ذهب بعض من العلماء إلى أنه يستحب أن يزاد في غسل الأعضاء، فيغسل بعض العضد ويغسل بعض الساق حتى يكون البياض أكثر. وذهب آخرون إلى أنه لا حاجة إلى الزيادة، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يذكر هذه الزيادة ولا فعلها، وإنما أخبر بعلامة أمته في الآخرة، وأن الله يكرمهم بأن يجعل لهم ميزة يتميزون بها وهي الغرة والتحجيل، ويكرمهم أيضاً إذا دخلوا الجنة بأن يحليهم بالذهب في الموضع الذي يبلغه الوضوء، فتحلى أيديهم إلى منتهى الوضوء؛ سواء إلى العضد أو إلى منتهى الذراع، فهذه ميزة وكرامة ميز الله بها هذه الأمة. ومعنى ذلك أن من لم يكن من المحافظين على هذه الطهارة فلا حظ له في هذه العلامة، ومن لم يكن محافظاً على هذه الصلاة لم يكن من الذين يحضون بالعلامة الأخرى وهي موضع السجود، فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن من دخل النار من أهل الصلاة لم تأكل النار منه مواضع السجود فقال: (إن الله حرم على النار أن تأكل أثر السجود) ، فمن لم يكن من أهل السجود في الصلاة لم يحض بهذه العلامة، وهذا دليل على أهمية هذه الطهارة وهذه الصلاة، وأن الذين يحافظون على الطهارة يحضون بعلامة بارزة ظاهرة، وأن الذين يحافظون على الصلاة يعتق الله أعضاءهم من النار حتى ولو عذبوا، فيكونون إلى النجاة ولو دخلوا النار بسيئات وبأعمال اقترفوها. إذاً يستحب عند بعض العلماء أن يغسل إلى نصف الساق أو ربع الساق، وأن يغسل إلى نصف العضد أو نحو ذلك، وإذا لم يفعل واقتصر على ما أمر الله به في قوله: {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6] ومنتهى الكعب هو مستدق الساق، وإلى المرفقين، وبمعنى: يغسل المرفقين ويدير الماء عليهما، فإذا فعل ذلك فقد كفى إن شاء الله وحصل على المطلوب، وهو رفع الحدث. فالواجب على المسلم أن يفعل المأمور به ويحرص على المندوب، فعندنا مأمور به وهو مفروض واجب، وعندنا مسنون أي من سنن الوضوء، فالحرص عليه والعمل به يكون من تمام العبادة ومن أسباب قبولها إن شاء الله.

الأسئلة

الأسئلة

الجمع بين رواية: (أولاهن بالتراب) ورواية: (وعفروه الثامنة بالتراب)

الجمع بين رواية: (أولاهن بالتراب) ورواية: (وعفروه الثامنة بالتراب) Q كيف نوفق بين قوله: (سبعاً أولاهن بالتراب) وقوله: (وعفروه الثامنة بالتراب) ؟ A التوفيق أن الغسلة الأولى تعد عن اثنتين؛ لأن فيها ماءً وتراباً، فتكون غسلة من حيث أنها مرة واحدة، وغسلتين من حيث أنه اجتمع فيها الماء والتراب.

طهارة الإناء إذا ولغ فيه الخنزير

طهارة الإناء إذا ولغ فيه الخنزير Q هل حكم الخنزير مثل حكم الكلب إذا ولغ في الإناء؟ A من العلماء من جعله مثله أو أشد منه لأنه نجس العين، ولكن إذا نظرنا إلى الحكمة وإلى ما يتعلق بنجاسة الريق ولزوجته فإننا نجعله خاصاً بالكلب؛ لأن الكلب هو الذي في لعابه لزوجة، وهذه اللزوجة ليست موجودة في الخنزير ولا في غيره، حتى قالوا: إن بول الكلب كسائر النجاسات، فيغسل حتى يزول أثر النجاسة -وهو في ذلك كبول الآدمي وغيره- ولا يلزم التقييد فيه بغسله سبع مرات أو أقل أو أكثر، ولا بوجود التراب في أول الغسل أو آخره.

متى يستخدم التراب في أول الغسل أم في آخره؟

متى يستخدم التراب في أول الغسل أم في آخره؟ Q إذا ولغ الكلب في الإناء فهل يكون التراب في أول غسلة أم في آخر غسلة؛ لأنه قد جاء في بعض ألفاظ الحديث: (أولاهن) وفي بعضها: (أخراهن) ؟ A يدل هذا على الجواز، بمعنى أنه يجوز أن تكون أولاهن وأن تكون أخراهن، ولكن نختار الأولى حتى لا يحتاج إلى غسلة تاسعة؛ لأن التراب إذا كان في الثامنة احتيج إلى تاسعة ليزال بها أثر التراب.

شرح عمدة الأحكام [2]

شرح عمدة الأحكام [2] الإسلام خير الأديان نظافة وآداباً، ولم يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأتباعه أمراً إلا بينه لهم، حتى آداب قضاء الحاجة وما يتعلق بها من التباعد عن النجاسات ونحو ذلك.

شرح حديث: (اللهم إني أعوذ بك من الخبث)

شرح حديث: (اللهم إني أعوذ بك من الخبث) قال المصنف رحمه الله: [باب دخول الخلاء والاستطابة: عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء قال: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) ، وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا، قال أبو أيوب: فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة فننحرف عنها ونستغفر الله عز وجل) ] . هذا الباب من تمام الطهارة، يعقده العلماء في مؤلفاتهم لمسيس الحاجة إليه، ولو كان شيئاً طبيعياً عادياً، ولو كان شيئاً مما يستحيا من ذكره، ولكن لا حياء في الدين، والله عز وجل لا يستحي من الحق، وهذا الباب يتعلق به أحكام وأدعية لابد من معرفتها؛ فلأجل ذلك بينه الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه وعلمهم كيفية ذلك. وثبت في صحيح مسلم: أن اليهود قالوا لـ سلمان الفارسي: (علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة -يعني: حتى ما تفعلونه عند التخلي- فقال: نعم، والله لقد نهانا أن نستقبل القبلة ببول أو غائط، ونهانا أن نستنجي باليمين، وأن نستجمر بها، وأن نمس عوراتنا باليمين، وأن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار) ، فبين لهم صحة ما قالوا وأن في ذلك علماً وفائدة. فالأحكام التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب كلها ذات أهمية، وكذلك الأدعية التي يدعى بها. كذلك أيضاً نقول: إن الله علم نبيه صلى الله عليه وسلم ونبيه علم أمته، وهذه التعاليم تعاليم لها أهميتها. فمنها ما يتعلق بالأدعية التي فيها حفظ الإنسان من الشرور. ومنها ما يتعلق بالآداب التي فيها حفظ للإنسان من النجاسة. ومنها ما يتعلق بالأحكام التي فيها الامتثال وتعظيم حرمات الله عز وجل. فهذا الحديث الأول يتعلق بالأدعية. وقد ثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن هذه الحشوش محتضرة) ، (محتضرة) يعني: تحضرها الشياطين، فأمر بأن يتحصن الإنسان من الشياطين بذكر الله، ومعلوم أن الشياطين تألف الأماكن المستقذرة، وتألف الأماكن النجسة، فإذا لم يتحفظ الإنسان من الشياطين عبثت به، وورد أيضاً في بعض الأحاديث أن الشياطين تلعب بمقاعد بني آدم، فإذا لم يتحفظ منها ولم يتحصن منها عبثت به فأوقعته في نجاسة أو في خبث حسي أو معنوي، والحسي يتمثل بأن يتقذر بالنجاسة ولا يبالي، وأما معنوي فبأن يوسوس ويتوهم ويقع في وساوس شيطانية تدوم معه، فلأجل ذلك أمر بالاستعاذة وبذكر اسم الله تعالى.

ما يقال عند دخول الخلاء ومعنى الخبث والخبائث

ما يقال عند دخول الخلاء ومعنى الخبث والخبائث والثابت عند الدخول إلى الخلاء أن يذكر اسم الله للتحصن، وأن يدعو بهذا الدعاء فيقول: (بسم الله) ، يعني أتحصن وأتحفظ باسم ربي ليحصنني ويحفظني من كل سوء ومن كل شر. ثم يقول: (أعوذ بالله من الخُبْث -أو من الخُبُثْ- والخبائث) . والخُبُث: الذكور، والخبائث: الإناث. أو الخُبْث يعني: الشر، والخبائث: الأشرار. فيستعيذ من ذكران الشياطين وإناثهم، أو من الشر وأهل الشر. هذا هو المعنى في هذه الجملة، فكأنه يقول: أعوذ بك يا ربي! وأتحفظ بك وأتحصن بك وأستجير بك من الشرور ومن أهل الشرور، فإذا قال ذلك وهو صادق حماه الله وحفظه من شر هذه الشياطين. وقد ورد زيادة في بعض الروايات أنه يقول: (أعوذ بالله من الخبث والخبائث ومن الرجس النجس الشيطان الرجيم) فيخصص بعدما يعمم، فنقول: (من الرجس النجس) ، الرجس والنجس معناها واحد، ثم فسره بأنه الشيطان الرجيم، فخص الشيطان بعدما عم الشر وأهل الشر، أو الذكران والإناث من الشياطين، سواء من شياطين الجن أو مردتهم أو من شياطين الإنس، فيكون قد استعاذ من الشر وأهله.

الإتيان بدعاء دخول الخلاء قبل دخوله

الإتيان بدعاء دخول الخلاء قبل دخوله هنا مسألة: متى يقول هذا الذكر؟ يقوله عندما يريد أن يدخل بيت الخلاء؛ لأنه لا يستحب أن يقوله في نفس المكان المعد للتخلي؛ لأنه مكان مستقذر، فتنزه أسماء الله أن يؤتى بها في ذلك المكان، وإن كان يجوز أن يذكر الله بقلبه. فيكون الذكر المشروع عند دخول الخلاء: أولاً: التسمية. ثانياً: الاستعاذة من الخبث والخبائث ومن الرجس النجس الشيطان الرجيم.

ما يقال عند الخروج من الخلاء

ما يقال عند الخروج من الخلاء أما عند الخروج من الخلاء فإنه يقول: (غفرانك) ، كما ورد في بعض الأحاديث، ومناسبة طلب المغفرة أنه لما أحس بخفة من ثقل الأذى تذكر ثقل الذنوب فسأل الله المغفرة، فقال: أسألك تخفيفاً من الذنوب كما خففتني من الأذى. وقد ورد أيضاً أنه عليه الصلاة والسلام كان يقول بعد الخروج: (الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني) ، وفي بعض الروايات أو بعض الأحاديث أنه كان يقول: (الحمد لله الذي أذاقني لذته وأبقى فيَّ منفعته وأذهب عني أذاه) وكل ذلك اعتراف بفضل الله تعالى ونعمته. فيكون الدعاء عند الدخول بالاستعاذة من الشيطان، وعند الخروج بحمد الله تعالى وشكره على ما أنعم به على عبده، وهذا ما يتعلق بما يأتي به في هذا المكان من الأدعية.

شرح حديث: (إذا أتيتم الغائظ فلا تستقبلوا القبلة)

شرح حديث: (إذا أتيتم الغائظ فلا تستقبلوا القبلة) أما الحديث الثاني فجاء به لأجل تبيين كيفية الجلوس أثناء قضاء الحاجة، فأخبر بهذا الحديث لأن النبي صلى الله عليه وسلم يحترم الكعبة المشرفة التي هي قبلة الصلاة، فنهاهم أن يستقبلوها بغائط أو بول، وأمرهم بأن يستقبلوا المشرق أو المغرب، حتى تكون القبلة عن يمين أحدهم أو عن يساره؛ وذلك لأنه يخاطب أهل المدينة، وأهل المدينة يستقبلون الجنوب ويستدبرون الشمال في الصلاة، فيكون المصلي قد جعل المشرق عن يساره والمغرب عن يمينه، فأمرهم في التخلي أن يجعلوا القبلة عن يمين أحدهم أو عن يساره، إما أن يشرقوا فتكون القبلة عن اليمين، أو يغربوا فتكون القبلة عن اليسار، فلا يستقبلون القبلة فيجعلونها أمامهم وهم يقضون الحاجة، ولا يستدبرونها فيجعلونها خلف ظهورهم عند ذلك التخلي؛ احتراماً للقبلة التي هي قبلة المصلي، فتنزه هذه الجهة التي هي قبلة الصلاة عن أن يستقبلها الإنسان في حالة التخلي، هكذا أرشدهم عليه الصلاة والسلام.

عموم النهي عن استقبال القبلة عند قضاء الحاجة في الأبنية وغيرها

عموم النهي عن استقبال القبلة عند قضاء الحاجة في الأبنية وغيرها وهذا الحديث عام في جميع الحالات، وقد عمل به الصحابة، فهذا أبو أيوب راوي الحديث يقول: (فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة فننحرف عنها ونستغفر الله عز وجل) ، لما فتحت الشام في عهد عمر دخلها المسلمون واستوطنوها، وصارت أماكن التخلي في داخل البيوت بخلاف أهل المدينة، فإن أهل المدينة كانوا في قرية وكانوا يقضون حوائجهم في البقيع، فيذهب أحدهم إلى خارج البلد ويقضي حاجته في الصحراء، ولكن لما توسعت المدن احتاجوا إلى أن يجعلوا بيوت الخلاء في داخل الدور، لبعد الصحراء التي كانوا يتخلون فيها، كما في هذه البلاد وغيرها، حيث أصبحت أماكن التخلي في داخل البيوت، وهي التي تسمى بالحمامات، وقديماً كانت تسمى صهاريج أو نحو ذلك، وتسمى أيضاً مراحيض ودورات مياه أو بيوت خلاء أو كُنُف، وهي: جمع كنيف، وهي الأماكن المعدة لقضاء الحاجة. فنهوا أن يستقبلوا القبلة أو يستدبروها ببول أو بغائط، فيقول أبو أيوب: لما قدمنا الشام وجدنا المراحيض، أي المقاعد وجدناها مهيأة ومركبة باتجاه القبلة، فلم نتجرأ أن نجلس فيها، فصار أحدنا إذا جلس انحرف عن يمينه أو عن يساره واستغفر الله عما يقع فيه من الخطأ ونحو ذلك، وذلك دليل على أنهم عمموا الحكم واعتقدوا أن المنع عام في داخل البيوت كالحمامات، وفي خارجها كالصحاري ونحوها، فالحكم فيها على عمومه ليس له مخصص، هذا هو الذي فهمه هذا الصحابي رضي الله عنه. وقد أباح بعض العلماء استقبال القبلة أو استدبارها إذا كان في داخل المباني أو نحوها، واستدلوا بحديث ابن عمر الذي ذكر بعد هذا الحديث، ولكن الصحيح أن الحكم عام، وهو الذي رجحه الأئمة كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن حزم في (المحلى) والأئمة الثقات المعلومون المشهورون، وقد اعتذروا عن الأحاديث التي فيها شيء من الرخصة بأنها محمولة على وجود عذر، أو لأنها من الخصائص أو نحو ذلك، فعلى الإنسان أن ينتبه إذا دخل الخلاء، فمتى كان موجهاً للقبلة فإن عليه أن ينحرف ويميل عنها قليلاً حتى لا يستقبل القبلة ولا يستدبرها، وكذلك أيضاً يُنتبه عند تأسيس الدورات ألا تكون مستقبلة القبلة حتى لا يعتقد من يدخلها أن ذلك جائز؛ لأن الأحاديث عامة، كما فهم ذلك أبو أيوب من هذا الحديث، وكما هو ظاهر في عمومات النصوص التي فيها النهي عن استقبال القبلة ببول أو غائط، وكذلك حديث سلمان: (نهانا أن نستقبل القبلة ببول أو غائط وأن نستدبرها) . وهذا لأجل احترام جهة القبلة التي هي جهة المصلي؛ لأنها أشرف الجهات وأفضلها، هذا هو الاحتياط في هذا الباب، وإن كان قد رخص أكثر العلماء في استقبال القبلة واستدبارها إذا كانت المراحيض في داخل البناء، ولكن الأحوط والأرجح هو العمل بالعموم.

شرح حديث: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته مستقبل الشام)

شرح حديث: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته مستقبل الشام) قال المصنف رحمه الله: [وعن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: (رقيت يوماً على بيت حفصة فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته مستقبل الشام مستدبر الكعبة) . وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل الخلاء فأحمل أنا وغلام نحوي معي إداوة من ماء وعنزة فيستنجي بالماء) ، والعنزة: الحربة الصغيرة. والإداوة: إناء صغير من جلد. وعن أبي قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول، ولا يتمسح من الخلاء بيمينه، ولا يتنفس في الإناء) ] . هذه الأحاديث تتعلق بقضاء الحاجة، وقد عرفنا أن الشرع الشريف تطرق إلى كل شيء تمس إليه الحاجة، ولا شك أن مما تمس إليه الحاجة أمور الطهارة، ولا شك أن الأقذار من البول ونحوه نجسة العين، فالشرع جاء بتعليم الإنسان كيف يتوقاها، وكيف يتطهر منها، وعلمه أيضاً كيف يجلس وكيف يتنزه وما أشبه ذلك، مما يدل على كمال هذه الشريعة وتضمنها لكل ما تمس إليه الحاجة، وقد ذكرنا أن اليهود قالوا لـ سلمان: (علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة. قال: نعم، لقد نهانا أن نستقبل القبلة ببول أو غائط، وأن نستنجي باليمين، وأن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار) . وتقدم لنا في حديث أبي أيوب قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تستقبلوا القبلة ببول ولا غائط ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا، قال أبو أيوب: فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة فننحرف عنها ونستغفر الله عز وجل) ، وأخذنا من هذا الحديث أنه لا يجوز استقبال القبلة ولا استدبارها حالة التبول ونحوه، سواء في داخل البيوت أو خارجها، حيث إن أبا أيوب فهم الأمر على الإطلاق، فصار هو والصحابة إذا دخلوا تلك المراحيض وتلك المقاعد المبنية نحو الكعبة ينحرفون عنها ويخالفون ما بنيت عليه.

اختلاف العلماء في حكم استقبال القبلة واستدبارها داخل البناء

اختلاف العلماء في حكم استقبال القبلة واستدبارها داخل البناء وقد ذهب بعض العلماء إلى أنه يجوز الاستدبار في داخل البيوت أو الاستقبال، واستدلوا بحديث ابن عمر، حيث ذكر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم مستدبر القبلة مستقبل الشام، وكان ذلك في المدينة، وعليه فتكون القبلة في جهة الجنوب والشام في جهة الشمال، فهو يقضي حاجته مستقبل الشام مستدبر القبلة. فجاء عن بعض العلماء أنه قال: يجوز الاستدبار فقط أخذاً بهذا الحديث، وبعضهم قال: لا يجوز الاستقبال ولا الاستدبار، وحملوا هذا الحديث على أنه من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، وبعضهم قال: يحمل هذا على البنيان، ويحمل حديث أبي أيوب ونحوه على الصحراء، فإذا كنت في الصحراء فلا تستقبل القبلة ولا تستدبرها، وإذا كنت في داخل البيوت فلك ذلك، جمعاً بين الأدلة، ولكن الراجح من حيث الدليل عموم النهي في الأدلة الموجهة إلى الأمة، وأن هذا الحديث يعتبر من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم. ويمكن أن يكون هناك عذر، حيث إنه لو شرق أو غرب لكان مقابلاً للمارة أو الناس، ويمكن أن يكون استدباره للكعبة ليس استدباراً كلياً بل يكون مائلاً عنها يمنة أو يسرة. فالحاصل: أن أحاديث النهي عامة موجهة إلى الأمة، فالأحوط للإنسان ألا يستقبل ولا يستدبر حتى في داخل البيوت، وإذا بنيت المراحيض موجهة إلى الكعبة أو مستدبرة لها فإن عليك أن تنحرف يمنة أو يسرة ولو قليلاً، حتى لا يصدق عليك الاستقبال ولا الاستدبار، ولعل ذلك تشريف لجهة القبلة التي هي جهة الصلاة، والتي هي جهة بيت الله الحرام، فيشرف وينزه عن أن يستقبل في هذه الحالة المستقذرة، وهذا هو الراجح من حيث الدليل.

شرح حديث أنس في إثبات استنجاء النبي بالماء بعد قضاء الحاجة

شرح حديث أنس في إثبات استنجاء النبي بالماء بعد قضاء الحاجة ومن الأحاديث في هذا الباب حديث أنس في الاستنجاء، فقد ذكر أنه كان إذا دخل النبي صلى الله عليه وسلم للخلاء أو ذهب ليتخلى حمل إداوة من ماء وعنزة ليستنجي بها النبي صلى الله عليه وسلم، فقوله: (يدخل الخلاء) يعني: يذهب للتبول أو للغائط، وقوله: (أحمل أنا وغلام نحوي) أي: مثلي ومقارب لي في السن، وذكر أن هذا الغلام من الأنصار، فيحمل أحدهما الإداوة مرة والآخر يحمل العنزة، ومرة يكون العكس. والإداوة: قدح يتخذ للشرب يصنع من حجارة أو يصنع من خشب أو من صفر أو نحاس. والعنزة: هي العصا التي في رأسها حديدة، وهي الحربة الصغيرة، والفائدة من العنزة إما أنه يحفر بها الأرض حتى يلين التراب إذا وقع البول عليه حتى يأمن رشاشه، أو أنها تركز ويجعل عليها ستر يستتر به، أو نحو ذلك.

مشروعية الاستنجاء أو الاستجمار بعد قضاء الحاجة، وأفضلية الجمع بينهما

مشروعية الاستنجاء أو الاستجمار بعد قضاء الحاجة، وأفضلية الجمع بينهما ذكر في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كلما ذهب إلى الخلاء تبعه غلام بماء ليستنجي به ويتبع أحيانا ًبعنزة ليستتر بها، وقد فعل ذلك مع النبي صلى الله عليه وسلم كثير من الصحابة: فتبعه ابن عباس بماء مراراً، وكذلك المغيرة بن شعبة، وكذلك أبو هريرة وغيرهم، وأحياناً لا يذكرون الماء، وإنما يذكرون أنه يطلب منهم حجارة يستجمر بها، كما نقل ذلك ابن مسعود وأبو هريرة، وفي هذا دليل على الاكتفاء بالاستجمار ودليل على الاكتفاء بالاستنجاء أحياناً والأفضل الجمع بينهما إذا تيسر. والاستجمار: هو مسح أثر الغائط بالحجارة ونحوها ليزول جرم النجاسة، والاستنجاء: غسل أثرها بالماء حتى يطهر المكان، فإذا تيسر الجمع بينهما قدم الاستجمار ثم أتبعه الاستنجاء، وإن اقتصر على أحدهما فالاقتصار على الاستنجاء أفضل؛ لأن الماء ينقي أكثر مما ينقي التمسح. والاستجمار أكثر ما يستعمل فيه الحجارة، ولكن قد يكتفى بكل ما يزيل أثر النجاسة، ومما يستعمل لذلك في هذه الأزمنة المناديل الورقية ونحوها، فإنها تكفي في إزالة أثر النجاسة وتنقية المكان، فإذا نظف المكان بإزالة أثره وبمسحه بهذه المناديل أو نحوها طهر المكان ولم يحتج إلى غسل، وإن غسل فمن باب الزيادة في الطهارة ومن باب النظافة وإزالة أثر النجاسة إزالة كلية. وإن لم يحصل المسح بالأحجار ولا بالمناديل ونحوها وغسل بالماء اكتفي بذلك. والغسل: هو أن يصب الماء ويدلك باليد اليسرى إلى أن يعود المكان إلى خشونته ويزول أثر النجاسة ولزوجتها ورائحتها ونحو ذلك، والاستنجاء يكون بالماء والاستجمار بالأحجار. وقد ورد الجمع بينهما في قصة أهل قباء الذين أنزل الله فيهم قوله تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108] ، فسُئلوا: ما هذه الطهارة؟ فأخبروا بأنهم يتبعون الحجارة الماء، أي: يتمسحون بالحجارة لتزيل جرم النجاسة ثم يغسلون فروجهم بالماء ليزيل الماء أثرها، فمدحوا بذلك، وجعلت هذه هي الطهارة: {يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108] ، وحيث ثبت الاستنجاء في حديث أنس وفي غيره من الأحاديث وأنه يقتصر عليه، وأكثر الناس يقتصرون على الاستنجاء الذي هو الغسل، ولكن قد يبالغ كثير من الناس في الغسل بالماء، ويوسوس إليه الشيطان أنه لم ينظف المحل، فيمضي عليه زمن طويل وهو يغسله ويخيل إليه أنه لم ينظف. وقد ذكر بعض العلماء أن الغسل لا يكون بأكثر من سبع غسلات، ولكن الأولى أن يقال: إنه يغسل الدبر إلى أن يعود إلى خشونته وتزول عنه لزوجة الغائط ونحوه، هذا هو الأصل، ولا حاجة إلى عدد، فقد ينظف بأقل من سبع، وقد يحتاج بعض الناس إلى أكثر، ولكن لا يبالغ ولا يتمادى مع الوساوس والأوهام.

الحكمة من حمل العنزة عند قضاء الحاجة في حديث أنس

الحكمة من حمل العنزة عند قضاء الحاجة في حديث أنس وأما العنزة فذكروا أن حملها لأمرين: الأمر الأول: أنه كان يحفر بها الأرض، وذلك لأن الأرض قد تكون صلبة، فإذا وقع البول عليها تطاير رشاشة على الثوب أو على الجسد فيتنجس منه؛ فلأجل ذلك قالوا: يختار أن يبول في أرض لينة رخوة حتى لا يتطاير الرشاش على بدنه أو ثيابه فينجس وهو لا يشعر، فيحفر الأرض الصلبة، أو يختار أرضاً رطبة لينة رخوة، وإذا كان في أرض مبلطة كما هو الحال اليوم في أكثر المراحيض فإنه يحتاط حتى لا يتطاير الرشاش، وذكروا أنه أيضاً إذا ألصق ذكره بالأرض أمن رشاش البول، وعلى كل حال فعليه أن يحتاط لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (تنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه) ، والتنزه هو التحفظ من النجاسة وهو واجب حتى تقبل الصلاة، وحتى لا يصلي الإنسان وعليه شيء يبطل عبادته. وأما القول الثاني: فهو أنه كان يتخذها سترة، واستدلوا به على أن الإنسان إذا جلس على حاجته يستر نفسه عن أعين الناظرين، هذا إذا كان يبول أو يتغوط في صحراء. فكان من هدي النبي عليه الصلاة والسلام أولاً: أنه يذهب بعيداً حتى يختفي عن أعين الناس، وإذا كان قريباً اتخذ سترة من شجرة أو جبل أو حائط أو شيء شاخص، أو ينزل في مكان منخفض من الأرض ليخفي شخصه؛ لأنه على حالة مستقذرة فيستر نفسه، وأحياناً يكون معه عنزة وهي حربة صغيرة فيغرسها في الأرض وينشر عليها ثوباً حتى يستره عن أعين الناظرين، فكل هذا دليل على تأكد الاستتار والاختفاء عن الناس.

شرح حديث: (لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه)

شرح حديث: (لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه) وأما حديث أبي قتادة ففيه هذه المسائل:

النهي عن إمساك الذكر باليمين عند البول

النهي عن إمساك الذكر باليمين عند البول المسألة الأولى: قوله: (لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول) . وفي هذا تكريم لليد اليمنى، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يحب التيمن في الأشياء المستحبة، ويجعل شماله للأشياء المستقذرة، فيأكل بيمينه ويشرب بها، ويأخذ بها ويعطي بها، ويقدمها في الأشياء الفاضلة؛ فيقدمها في دخول المسجد، وفي لبس النعل، وثبت عنه أنه قال: (إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمين، وإذا خلع فليبدأ بالشمال، ولتكن اليمنى أولهما تنعل وآخرهما تخلع) ، وهذا مما يدل على تفضيل اليمين، فإذا كانت اليمين فاضلة فإن ذلك دليل على ميزتها، والله تعالى قد فضل أهل اليمين فقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:7-8] ، {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة:19] ، {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} [الواقعة:8] ، فجعل لأصحاب الميمنة ميزة ولأصحاب اليمين ميزة {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة:90-91] . فكثيراً ما يقدم الله تعالى ويمدح أهل اليمين، واليمين مشتقة من اليمن الذي هو البركة، فلذلك ميزت اليمين وفضلت، فلا يجوز للإنسان أن يمسك ذكره في حالة البول بيمينه تنزيهاً لها. ويفهم منه أنه يجوز إمساكه باليسرى؛ لأن الإنسان قد يحتاج إلى أن يمسك ذكره حتى يأمن رشاش البول، فإذاً يمسكه إذا كان ولابد باليد اليسرى وينزه اليد اليمنى.

النهي عن الاستنجاء باليد اليمنى

النهي عن الاستنجاء باليد اليمنى المسألة الثانية: (ولا يتمسح من الخلاء بيمينه) ، فلا يستنجي باليد اليمنى؛ لأن الاستنجاء: هو غسل أثر البول أو غسل أثر الغائط، وهو يحتاج إلى دلك، والدلك يكون باليد، فاليد اليمنى لا تباشر النجاسة ولا تباشر الفرج، فلا يمس المرء فرجه بيده اليمنى؛ بل يتولى ذلك باليد اليسرى، فيصب بيده اليمنى ويدلك فرجيه بيده اليسرى حتى ينظف أثر النجاسة، ثم بعد ذلك يغسل يده مما تلوثت به أو مما علق بها، وكل ذلك كما عرفنا لأجل تكريم اليد اليمنى، وقد ذكرت عائشة أن يد النبي صلى الله عليه وسلم اليسرى كانت للاستنجاء والاستجمار والتمخط ونحو ذلك من الأشياء المستقذرة.

هل يمسك السواك باليمين أم بالشمال؟

هل يمسك السواك باليمين أم بالشمال؟ وقد اختلف الفقهاء في إمساك السواك إذا أراد أن يستاك: هل يمسكه بيده اليمنى؛ لأن ذلك تنظيف وعمل مبرور؟ أم يمسكه باليد اليسرى لأن ذلك إزالة قذر وإزالة وسخ في الأسنان؟ اختار شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من المحققين أنه يمسكه باليسرى؛ وذلك لأنه إزالة وسخ وإزالة قذر من الأسنان ومن الفم، مما علق من بقايا الطعام ونحو ذلك، كذلك إذا خلل ما بين أسنانه فإنه يتخلل باليد اليسرى؛ لأن ذلك كله من باب تكريم اليمنى، حتى لا تباشر ولا تقوم بالأشياء التي فيها قذارة أو فيها رائحة مستنكرة ومستكرهة أو نحو ذلك.

النهي عن التنفس في الإناء والحكمة من ذلك

النهي عن التنفس في الإناء والحكمة من ذلك المسألة الثالثة: (ولا يتنفس في الإناء) أمره هنا بأن لا يتنفس في الإناء، والمراد به عند الشرب، فالإنسان إذا شرب فإنه يباشر الشرب بفمه، ومعلوم أن هذا الماء أو اللبن الذي يشرب منه قد يناوله أناساً آخرين ليشربوا منه، وإذا أخذ يتنفس فيه استقذره الآخرون، فقد يخرج من أنفه إذا تنفس شيء من الأذى أو نحوه، أو يعلق به شيء من آثار نفسه فيستقذر، فأمر الإنسان بأن يحترم هذا الشراب الذي هو أهم الضروريات للإنسان حتى لا يفسده على غيره. وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له: (يا رسول الله! إنا لا نروى بنفس واحد) ، أي أن الإنسان قد يشرب ويضيق نفسه فلا يروى، قال: (فأبعد القدح عن فمك) ، يعني: إذا أردت التنفس فأخّر القدح عن فمك ثم تنفس ثم ارجع واشرب بنفس ثان، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يشرب بثلاثة أنفاس، أي: أنه يشرب، ثم إذا احتاج إلى تنفس أبان القدح ثم تنفس، ثم يشرب مرة ثانية، إلى ثلاث مرات، وكان أيضاً يحث على الشرب بدون عب، فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا شرب أحدكم فليمص الماء مصاً ولا يعبه عباً؛ فإنه من الكباد) ، يعني: أنه إذا أخذ يعب عباً ويجرع جرعات كبيرة فإنها تنصب على كبده فتؤثر فيه، وذلك من الإرشادات النبوية التي أرشد إليها أمته حتى ينتفعوا بها في حياتهم، وإن كانت من الأمور العادية. فنهانا أن نتنفس في الإناء حتى لا يفسد هذا الشراب؛ سواء كان هناك من سيشرب منه أو لم يكن، حتى ولو كان سيهريق بقية الماء، ولو كان ذلك الماء قليلاً وسوف يشربه كله ولا يبقي منه شيئاً، فهو منهي بهذا الحديث عن أن يتنفس في حالة الشرب. وقد ذكروا أيضاً أن في هذا تشبهاً بالدواب، فالدواب كالبقر ونحوها إذا شربت تتنفس في حالة الشرب، فإذا تنفس الإنسان في الإناء أثناء الشرب فقد تشبه بحيوان بهيم، مستقذر طبعاً التشبه به، فأرشد عليه الصلاة والسلام أمته إلى هذه الإرشادات؛ سواء كانت متعلقة بالعبادات أو متعلقة بالعادات. والشرب أمر عادي معروف قبل الإسلام، ومعروف أنه أمر معتاد وضروري، فأرشد إليه، وبين كيفيته التي يحبها الشرع، والتي توافق الفطرة السليمة، والتي تبعد الإنسان عن أن يكون قذراً أو مستقذراً عند غيره، مما يدل على أهمية هذه الشريعة وتطرقها إلى كل ما تمس إليه حاجة البشر.

شرح حديث: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير)

شرح حديث: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير) قال المصنف رحمه الله: [وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة، فأخذ جريدة رطبة فشقها نصفين فغرز في كل قبر واحدة، فقالوا: يا رسول الله! لم فعلت هذا؟ قال: لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا) ] . هذا حديث يتعلق بالطهارة التي هي التنزه من النجاسة. وفي الحديث دلالة على وجوب البعد عن النجاسة، وعلى أن البول من جملة النجاسات، وفي هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبرين -كأنهما جديدان- فأوحى الله إليه أو أطلعه على أنهما يعذبان، أو أسمعه شيئاً من عذابهما، فأخبر الذين معه بأنهما يعذبان، وأن الذي يعذبان فيه ليس كبيراً، أي: أنه ليس شيئاً صعباً ولكنه سهل، أو أنه يسير في أعين الناس. أحدهما: كان لا يستنز أو لا يستبرئ من البول، أي: لا يبالي بما أصاب البول من ثوبه أو من بدنه. والثاني: كان يمشي بالنميمة. ثم أخذ النبي صلى الله عليه وسلم جريدة رطبة فشقها نصفين وغرزهما في كلا القبرين، من أجل التخفيف عنهما ما لم ييبسا، وهذا يدل على أمرين: أولاً: أن هذا مما أطلع الله عليه نبيه عليه الصلاة والسلام، ولم يكن لأحد غيره، والاطلاع لابد أن يكون بوحي. ثانياً: نعرف أنه لم يفعل ذلك إلا للتحذير من هذين الأمرين، وهما: التهاون بالبول، والسعي بالنميمة، وبيان أنهما ذنبان مما يستحق العذاب بهما، وأن العبد يعذب بتهاونه فيهما في قبره.

عدم التنزه من البول والنميمة من الكبائر

عدم التنزه من البول والنميمة من الكبائر وأما قوله: (وما يعذبان في كبير) ، فقد فهم منه بعض العلماء أنهما من صغائر الذنوب، وليس الأمر كذلك؛ بل هما من الكبائر، وحينئذ فما معنى قوله: (وما يعذبان في كبير) ؟ قال بعض العلماء: معناه أن تداركه والإقلاع عنه ليس شيئاً صعباً، أو ليس كبيراً في أعين الناس؛ بل إن الناس يتساهلون به، ويعتقدون أنه من أيسر الأمور ومن أهونها، وأنه من صغائر الذنوب، ولكنه وصل إلى أن يعذب عليه في القبر. فالشيء الذي يعذب عليه في القبر لا يكون من الصغائر، ولهذا ورد في رواية أنه قال: (وما يعذبان في كبير) ، ثم قال: (بلى إنه لكبير) ، فدل على أنه ليس بكبير عند الناس، ولكنه كبير عند الله، فلا يحتج بهذا على أنه ليس من الكبائر، بل هو من كبائر الذنوب.

عدم التنزه من البول من أسباب عذاب القبر

عدم التنزه من البول من أسباب عذاب القبر أولاً: عدم التنزه من البول، ورد في رواية: (لا يستنزه من البول) ، وفي رواية: (لا يستتر من البول) ، وفي رواية: (لا يستبرئ من البول) ، والمعنى واحد، أي أنه لا يبالي إذا وقع البول على ثيابه أو على جسده، فهو يقوم من غير استبراء، وربما يبول وهو يسير، وربما يقوم وهو يبول ونحو ذلك، فينجس بذلك بدنه وثيابه، والنجس لا تقبل له عبادة؛ لأن الله تعالى أمر بالطهارة في قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة:6] ، وأمر بتطهير الثياب: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4] ، ولا شك أن البول من جملة النجاسات، وجاء في هذا حديث أنه مما يعذب عليه، لماذا؟ لأنه إذا تنجست ثيابه وصلى لم تقبل صلاته وهو يحمل النجاسة، وإذا لم تقبل صلاته ردت عليه هذه الصلاة، وإذا بطلت صلاته فليس معه صلاة، والذي بطلت صلاته بطلت أعماله -والعياذ بالله-؛ فإن الصلاة عمود الدين. فعلم بذلك أن سبب العذاب في القبر هو عدم التنزه من البول وعدم الاستبراء منه، وقد ورد حديث آخر بلفظ: (استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه) ، كأنه يقول: إن أكثر ما يقع العذاب في القبر بسببه؛ لأنه مما يتساهل أو يتهاون كثير من الناس به، مع كونه يفسد العبادة، ويفسد الصلاة، ويفسد أيضاً الطواف الذي يفسد بسببه الحج، وما أشبه ذلك، ولذلك صار من كبائر الذنوب. هذا الحديث يحث على التنزه من البول.

التنزه من البول وكيفيته

التنزه من البول وكيفيته أما كيفية التنزه من البول: فيكون بأن يتحفظ الإنسان من أن يصيب البول ثوبه أو بدنه، فعند التبول يتحرى مكاناً رخواً أو ليناً؛ حتى يأمن من رشاش البول وتطاير قطراته على ثيابه أو على ساقه أو نحو ذلك، والذي قد يوقعه في إفساد عباداته، وكذلك بعد التبول لا يقوم إلا بعد أن يتأكد من انقطاع أثر البول؛ لأن العادة أن يتقاطر البول أثناء سيره أو نحو ذلك، ومن التنزه ألا يقوم إلا بعد الاستجمار، أو بعد أن يمسح محل البول، فيمسح الرجل مجرى البول وهو رأس الذكر، والمرأة تمسح مجرى البول ومخرجه، حتى يتحقق أنه نظف ولم يبق فيه شيء، وإذا تيسر الاستنجاء -وهو غسل محل البول بالماء أو غسل الفرج أو كلا الفرجين بالماء- فإن ذلك من أسباب انقطاع البول، ولكن بعض الناس قد يصل بهم الأمر إلى شيء من التوهم أو الوسوسة، فكثير منهم يشتكي بأنه يحس بتقاطر أو بخروج كلما قام أو كلما انتهى من الاستنجاء ومشى أو نحو ذلك. فالأصل أنه لا حاجة إلا إلى الاستنجاء، فإذا استنجى بغسل ذكره أمن بذلك إن شاء الله أن يبقى فيه بقية. وأما ما ورد في الحديث: (إذا بال أحدكم فلينتر ذكره) فهو ضعيف لا يثبت، والصحيح: أنه لا حاجة إلى النتر، ولا إلى أن يسلته مثلاً، ولا إلى إدخال قطنة في مجرى البول، ولا إلى القفز كما يفعله البعض، ولا إلى أن ينزل في منحدر، ولا إلى أن يتعلق ويحرك نفسه ليخرج ما تبقى من البول في المجرى؛ فإن كل ذلك إنما يفعله الموسوسون، وهو مما لا حاجة إليه. ويقول العلماء: إن البول في المثانة بمنزلة اللبن في الضرع، إن حُلب در وإن ترك قر، فإذا أراد الإنسان إخراجه فإنه يخرج، وإذا كان يريد إمساكه فإنه يبقى، وذلك من تيسير الله على الإنسان، فلو كان البول يجري كلما اجتمع لشق على الإنسان؛ لأنه دائماً يمشي ويتحرك، ولكن جعله الله متوقفاً حتى يريد الإنسان إخراجه. فهؤلاء الذين يبتلون بهذه الوسوسة والتوهمات يقال لهم: اقطعوا عنكم التوهمات، وثقوا بأن هذا ليس بشيء، ولكن إذا أحس الإنسان بشيء متحقق، كخروج قطرات من ذكره؛ فإن ذلك يعتبر ناقضاً، فعليه أن يستنجي ويعيد الوضوء، وأن يغسل ما أصاب من ثيابه أو من سراويله. وأما إذا لم يكن هناك إحساس وإنما هي توهمات، فإنه لا يحتاج إلى أن يفتش نفسه، وكثير منهم يقطع الصلاة عدة مرات، ويقول: إني أحس بخروج البول، ثم إذا فتش ثيابه لم يجد رطوبة ولا غيرها. أما إذا ابتلي -والعياذ بالله- بالسلس الذي هو جريان البول وعدم توقفه؛ فإنه يعتبر معذوراً، ولكن لا يتوضأ إلا بعد أن يدخل الوقت، وعليه أن يتحفظ بأن يجعل على فرجه شيئاً يمسك البول في وقت الصلاة؛ كالقطن أو الشاش أو نحو ذلك، إلى أن ينتهي وقت الصلاة حتى لا يلوث ثيابه، ثم بعد ذلك يغيره في الوقت الثاني أو ما أشبهه.

المشي بالنميمة مما يستوجب عذاب القبر

المشي بالنميمة مما يستوجب عذاب القبر الخصلة الثانية التي توجب العذاب: النميمة، وهي نقل الكلام من إنسان إلى آخر على وجه التحريش والإفساد، قال تعالى: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم:11] ، والنمام: هو الذي ينقل الكلام من هذا إلى هذا ليوقع الوحشة بين الناس، وليسبب التقاطع والتفرق بين هذا وهذا، ولا شك أنه مفسد، وذنبه كبير، والعادة أن النمام إذا حسد إنساناً على أمر فإنه ينم به حتى يبغضه إلى أصحابه، ويقول: إنه يقول فيكم كذا ويقول فيكم كذا، فتقع البغضاء، وتقع المقاطعة، وتقع الوحشة بين المسلمين بسبب هذا النمام، وقد ورد فيه وعيد شديد حيث قال صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة قتات) والقتات: هو النمام. وورد في بعض الآثار أن النمام يفسد في الساعة الواحدة ما لا يفسده الساحر في السنة، وما ذاك إلا أنه قد يسبب القتال ووقوع الفتن والتناحر بين المسلمين، زيادةً على التقاطع والتهاجر وما أشبه ذلك، ولذلك ورد في حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم ما العضة؟ هي النميمة القالة بين الناس) ، فشبهه بالعضة الذي هو السحر أو نوع من أنواع السحر، فجعله شبيهاً به لهذا السبب الذي هو النميمة. فالنميمة على هذا من كبائر الذنوب؛ وذلك لأنها سببت عذاب القبر، وتتفاوت النميمة بحسب المفسدة التي تترتب عليها، فالنمام الذي هذا ديدنه دائماً لا شك أن ذنبه كبير، وقد يكون ذنبه صغيراً إذا لم يحصل بسببه مفسدة، وعلى كل حال فهذان الأمران من كبائر الذنوب.

الحكمة من غرز الجريدة في القبرين واختصاص النبي بذلك

الحكمة من غرز الجريدة في القبرين واختصاص النبي بذلك أما كونه صلى الله عليه وسلم غرز الجريدة في قبريهما وقال: (لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا) ، فقال بعض العلماء: إن ذلك لكون هذه الجريدة رطبة، والرطوبة فيها شيء من الخضرة، والخضرة قد تخفف الألم، وقد يخضر بسببها القبر، ويكون ذلك سبباً لتخفيف العذاب، وقيل: لأن الجريدة حال خضرتها تسبح، فتسبيحها قد يصل تأثيره إلى ذلك المدفون فيخفف عنه، هكذا قال بعضهم، ولكن هل يجوز لنا أن نفعل هذا الفعل فنجعل في القبور جريداً؟ لا يجوز ذلك؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لم يفعله مع سائر المقبورين، مع أنه قد دفن بعض الناس، وقد استغفر لبعضهم، وقد صلى عليهم، ولو كان ذلك مشروعاً لفعله مع كل أحد، وكأنه خص هذين الاثنين بوحي من الله أنه إذا غرز هذه الجريدة خفف عنهما، ولهذا قال: (لعله يخفف عنهما) ، وهذا الفعل لم يفعله الصحابة، ولو كان مشروعاً لوضعوا في كل قبر جريدة خضراء، فلما لم يفعلوا ذلك عرف بذلك اختصاص النبي بهذا الفعل، وكذلك اختصاص هذين القبرين. والعبادات مبناها على التوقيف، فلما لم يقل النبي عليه السلام: افعلوا ذلك مع كل ميت؛ دل على أن هذا من خصوصياته أو من خصوصيات هذين القبرين. فعلى الإنسان أن يبتعد عن أسباب عذاب القبر؛ وذلك لأن القبر أول منازل الآخرة، وإذا خرجت روح الإنسان فقد قامت قيامته، فإما أن يلقى عذاباً وإما أن يلقى نعيماً.

من أسباب عذاب القبر

من أسباب عذاب القبر وأسباب عذاب القبر كثيرة، منها هذان الأمران المذكوران في هذا الحديث، ولا شك أن من أسبابه: الكفر والنفاق، والأعمال السيئة، وسائر المعاصي والذنوب. وأهل السنة يصدقون بأن الله تعالى يعذب هذا في قبره، أو ينعم هذا في قبره، كما وردت في ذلك أدلة مجملة ومفصلة، ولكن الكيفية محجوبة عنا، حتى ولو لم ندرك ذلك فقد أدركه الأنبياء، كما أدركه النبي عليه السلام في هذا الحديث، ولو كشفنا عن الميت ورأيناه كما وضع فإنا لا ننفي أنه يعذب أو ينعم، أو يضيق عليه قبره أو يوسع عليه؛ وذلك لأن هذا من علم الآخرة، وأهل الدنيا ليسوا مطلعين على أمور الآخرة.

شرح عمدة الأحكام [3]

شرح عمدة الأحكام [3] من رخص الشرع وتخفيفاته إباحة المسح على الخفين، ولكن لذلك شروط وصفات لابد من تحقيقها، وقد بينها الفقهاء في كتبهم حتى يعمل بها الناس.

أحكام المسح على الخفين والجوارب

أحكام المسح على الخفين والجوارب قال المصنف رحمه الله: [باب المسح على الخفين: عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: (كنت مع النبي صلى الله عليه في سفر، فأهويت لأنزع خفيه، فقال: دعهما، فإني أدخلتهما طاهرتين، فمسح عليهما) . وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فبال وتوضأ ومسح على خفيه) مختصراً] .

وقت ابتداء المسح على الخفين وانتهاؤه للمقيم والمسافر

وقت ابتداء المسح على الخفين وانتهاؤه للمقيم والمسافر من الأحكام المتعلقة بباب المسح على الخفين: أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت له وقتاً، فجعل للمقيم يوماً وليلة وللمسافر ثلاثة أيام بلياليها، إذا كان يتوضأ ويغسل قدميه رخص له أن يمسح ثلاثة أيام؛ لأن السفر مظنة المشقة، فزيد في الرخصة فجعل له ثلاثة أيام، واختلف متى تبدأ المدة. ولعل الأقرب أنها تبدأ من أول حدث بعد اللبس؛ وذلك لأن به يستحق أن يمسح، فإذا أحدث ابتدأ اليوم والليلة من أول حدث، فإذا توضأت مثلاً للفجر ولبست الخفين وصليت بطهارة، ثم نمت بعد الصلاة وانتقض وضوءك، فمن ذلك الوقت يبدأ اليوم والليلة، من حين نومك، فإذا كان من الغد تمت مدتها بعد الفجر، أي: وقت النوم، فلو قدر مثلاً أنك لم تنم في اليوم الثاني، وجلست في المسجد في حلقة أو نحوها، فإنك لا تصلي بذلك الوضوء؛ لكونه قد تمت مدته من حين الصلاة، أي: بعد الانتهاء من الصلاة، هذا هو القول الأقرب أنه يبدأ من أول حدث، وإذا رخص أحد وجعله يبدأ من أول مسح فله ذلك، فلو قدر أنك لبستها في صباح السبت ولكن لم تمسح إلا في وقت الظهر، فإن اليوم والليلة على هذا القول يبدأ من وقت الظهر الذي هو وقت مسحك، وعلى كل حال العمل على أنه يبدأ من أول حدث يوماً وليلة.

انتقاض الوضوء بمضي مدة المسح على الخفين

انتقاض الوضوء بمضي مدة المسح على الخفين ومن الأحكام: أنه متى مضت مدته انتقض، فلو أنك مثلاً صليت به الظهر، ثم انتقض وضوءك بعد الظهر يوم السبت، ثم صليت به العصر غداً يوم الأحد ولم ينتقض وضوءك بعد الظهر؛ فإنه لا يجوز أن تصلي به العصر؛ وذلك لأنه انتقض الوضوء من حين انتهاء المدة، كأنه قد انتقض الوضوء وإن لم ينتقض، هذا هو الأقرب: أنه بانتهاء المدة على الإنسان أن يجدد الوضوء ولو لم يكن محدثاً، فلو قلت مثلاً: أنا لا زلت على طهارة من الظهر، فنقول: إنك طاهر ولكن كأنك ما غسلت قدميك. والصحيح أنه ينتقض الوضوء بانقضاء المدة، وإن كان بعض العلماء يرى أنه يبقى على وضوئه حتى ينتقض، لكن الفتوى على أنه ينتقض؛ وذلك لأنه لم يغسل قدميه، المسح له مدة انتهت، فإذا تم اليوم والليلة فكأنه على وضوء ما عدا قدميه.

كون المسح خاصا بالحدث الأصغر فقط

كون المسح خاصاً بالحدث الأصغر فقط ومن الأحكام: أن المسح خاص بالحدث الأصغر، أما الحدث الأكبر الذي يوجب الغسل؛ فلا يمسح فيه بل لا بد من خلع الخفين وغسلهما بالحدث الأكبر، وقد جاء في حديث صفوان بن عسال قال: (أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم إذا كنا سفراً أن نمسح وأن لا ننزع خفافنا إلا من جنابة، لكن من بول وغائط ونوم) ، يعني: أما من الأحداث الصغرى فلا ننزع منها خفافنا ثلاثة أيام للمسافر.

حكم المسح قبل السفر أو أول ابتداء السفر

حكم المسح قبل السفر أو أول ابتداء السفر ثم من الأحكام: أنك إذا سافرت فإن كنت قد بدأت بالمسح قبل السفر فلا تزد عن يوم، وإن كنت لم تبدأ بالمسح فلك ثلاثة أيام، وإذا ابتدأت بالمسح في السفر ثم أقمت فلا تزد عن يوم، تغليباً لجانب الحضر، وذلك حرصاً على أن تأتي بالعبادة كاملة.

حكم المسح على الجوارب

حكم المسح على الجوارب ومما يلحق بالخف الجورب، والجورب: هو ما ينسج من الصوف أو من القطن المتين أو من الكتان ونحو ذلك، ويفصل على قدر القدم، ويعرف في هذه الأزمنة بالشراب، هذا فيه خلاف هل يمسح عليه أو لا يمسح؟ فذهب إلى جواز المسح عليه الإمام أحمد، وخالف في ذلك الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي فقالوا: لا يمسح عليه؛ وذلك لأنه يخرقه الماء، فلا يكون ساتراً للقدم، ولأنه يبين صورة القدم، أي: تعرف منه الأصابع والعقب والأخمص وظهر القدم، فكأنه لم يلبس عليه شيء يستره بخلاف القطن. قالوا: والحديث الذي فيه لم يثبت، وهو عن المغيرة: (أنه مسح على الجوربين والنعلين) قالوا: إنه خطأ من الراوي، وأن الصواب ما في رواية الباقين عن المغيرة أنه مسح على الخفين وليس فيه المسح على الجوربين، ولكن الإمام أحمد ترجح عنده أنه يمسح على الجوربين وإن لم يثبت عنده الحديث، ولكن قد روي فيه أحاديث وآثار عن جملة من الصحابة أنهم مسحوا على الجوارب، فأجاز ذلك اتباعاً لهم؛ فإنهم لا يفعلون إلا ما هو جائز أو مسنون، ولأن في ذلك رخصة؛ لأن الإنسان قد يحتاج إلى لبس هذه الجوارب لتدفئة القدمين، سيما في وقت اشتداد البرد، فإذا لبسهما رخص له بأن يمسح عليهما كما يمسح على الخفين.

شروط المسح على الجوارب

شروط المسح على الجوارب ولا بد من شرط في هذه الجوارب وهو أن تكون ساترة، فإذا كان فيها خرق أو خروق فلا يمسح عليها؛ وذلك لأن الخلاف في الخف ليس كالخلاف في الجورب، فالرخصة التي في المخرق خاصة بالخف، وأما الجورب فالراجح أنه لا يرخص في المخرق منه؛ لقوة الخلاف في الأصل، فإذا كان الأئمة الثلاثة لا يستبيحون المسح عليه أصلاً، فكيف به إذا كان مخرقاً؟! فإذا كان مخرقاً فإن عليك أن تلبس فوقه ما يستر تلك الخروق، وهي متيسرة، ولا بأس أن يلبس اثنين أو ثلاثة، فيحصل بهما تدفئة ويحصل بهما ستر للقدم ونحو ذلك، فيجتنب المسح على الجورب (الشراب) المخرق. كذلك أيضاً يشترط أن يكون الجورب صفيقاً، والصفيق معناه: الغليظ المتين الذي يستر البشرة ولا ترى من ورائه، فإذا كان خفيفاً فلا يمسح عليه، ويتساهل كثير من الناس فيمسحون مع أن جواربهم شفافة يرى منها البشرة ونحوها. وقد كانت خفاف الصحابة من جلود وقد يكون فيها خروق، أما جواربهم فإنها تنسج من الصوف ومن الشعر، ويجعلون في أسفلها جلدة يمشون عليها، وقد يلبسون تحتها نعلاً، ولكن كثيراً ما يمشون على الجورب وحده، حيث يجعلون تحته رقعة تقيهم كما يقيهم النعل، فكانت جواربهم غليظة جداً، بحيث إنه لا يخرقها الماء؛ لقوتها، وأنها يمكن المشي عليها حتى في الرمضاء وفي الأرض المليئة بالحجارة، يمكن لأحدهم أن يمشي فيها؛ لقوتها ولغلظها، ولأن تحتها تلك الجلدة، فعلى هذا إذا كان الدليل الذي أبيح لنا فيه المسح على الجوارب هو قصة الصحابة، فلنقف على جواربهم لنعرف أن جواربهم غليظة ليست شفافة، أما الذين يلبسون جوارب شفافة بحيث يخرقها البصر فضلاً عن الماء، فنقول: لا يجوز المسح على مثل هذه؛ لكونها خفيفة. فالعلماء اشترطوا الصفاقة والغلظ والمتانة في الجوارب، ومعلوم أنك ما لبستها إلا للتدفئة، وإذا كانت خفيفة فلا تحصل بها تدفئة ولا تحصل بها وقاية للقدم، مع أنه لا يمشى بها غالباً وحدها، فكل ذلك دليل على أنه لا بد من التثبت في هذا.

صفة المسح على الخفين

صفة المسح على الخفين أما صفة المسح على الخفين فيراد به مسحهما باليدين، وصفته: أنه بعدما ينتهي من مسح رأسه يبل يديه ويمسح كل قدم بيد، ويكون المسح على أعلى الخف أو أعلى الجورب، يبتدئ من رءوس الأصابع ويمر أصابعه على ظاهر قدمه إلى ساقه، فيمسح أعلاه ويمسح جانبيه بأصابعه، ولا يمسح أسفله ولا يمسح مؤخره، هكذا وردت صفة المسح. ولا يلزم أن يظهر البلل على الخف أو على الجورب؛ بل قد روي أنه عليه الصلاة والسلام لما مسح على الخفين يقول الراوي: (كأني أنظر إلى أثر أصابعه خطوطاً في الخف) يعني: أن أصابعه قد أثرت بللاً في الخف كمثل الخطوط، مما يدل على أنه لا يلزم أن تبتل. أما مسح أسفله فليس من السنة، ولهذا ورد في حديث عن علي رضي الله عنه أنه قال: (لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه) . ويلاحظ أن البعض من الناس يمسح على خفيه ثم يخلعهما ويصلي في الشراب، فيبطل بذلك مسحه، فنقول: إذا كان عليك شراب وجعلت الخف كالنعل يخلع ويلبس، فاجعل المسح على الأسفل الذي هو الشراب، بحيث إذا أردت الوضوء خلعت الخف أو النعل ومسحت على الشراب ثم لبسته، وإذا دخلت المسجد خلعتهما وصليت في الشراب وحدها كما هو المعتاد. أما أن تمسح على الخف ثم تخلعه وتترك الشراب وحدها، فإنه يبطل مسحه؛ لأنك مسحت على شيء وخلعته، فلم يبق الممسوح معك، بل قد خلعته. فهذا مما يغلط فيه كثير من الناس، ترى أحدهم عندما يتوضأ يمسح على ظهر الخفين أو النعلين، وإذا دخل المسجد خلعهما وترك الشراب، فانتبهوا لهذا ونبهوا إخوانكم.

شرح عمدة الأحكام [4]

شرح عمدة الأحكام [4] من مميزات الإسلام أن شرع لأتباعه التنظف والطهارة والبعد عن الأرجاس والأوساخ، بل إن صحة العبادة متوقفة على ذلك، ولذلك كان على المسلم أن يعرف أعيان النجاسات وكيفية تطهيرها.

أحكام المذي

أحكام المذي قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في المذي وغيره: عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (كنت رجلاً مذاءً، فاستحييت أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته مني، فأمرت المقداد بن الأسود فسأله، فقال: يغسل ذكره ويتوضأ) ، وللبخاري: (توضأ واغسل ذكرك) ، ولـ مسلم: (توضأ وانضح فرجك) . عن عباد بن تميم عن عبد الله بن زيد بن عاصم المازني رضي الله عنه قال: (شكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال: لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) ] . هذا الباب عقده المؤلف رحمه الله لنواقض الوضوء، وذلك أن الله تعالى لما أمر بالوضوء ذكر بعض النواقض، وبين النبي صلى الله عليه وسلم تفاصيلها، فالله ذكر منها في قوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء:43] فجعل هذين من جملة النواقض. والنبي صلى الله عليه وسلم بين أن من النواقض الخارج من السبيلين؛ سواء كان له جرم كالبول والغائط والمني، أو ليس له جرم كالريح، كل ذلك جعله من نواقض الوضوء، ومتى وجدت هذه النواقض فالمحدث يسمى محدثاً، عليه أن يتوضأ مرة أخرى بعد أن كان متوضئاًً، فلو كان حديث عهد بوضوء، لو توضأت مثلاً وبعد خمس دقائق أو دقيقتين حصلت منك واحدة من هذه النواقض؛ فإن عليك أن تجدد الوضوء، وما لم يكن أحدث شيئاً من النواقض فإنه يبقى على وضوئه ولو عشر ساعات أو أكثر، حتى يحصل ما ينتقض به الوضوء. فمن جملة النواقض المذي المذكور في الحديث الأول، والباب عقد للمذي والريح وإزالة النجاسة وخصال الفطرة، كما ستأتي كلها من ضمن الأحكام التي جمعت في هذا الباب. والمذي: هو ماء أبيض لزج، يخرج من الرجل عند شهوة أو مداعبة أو تقبيل أو لمس أو نحو ذلك، يخرج من الذكر ويحس الإنسان بخروجه، وخروجه ليس كخروج المني، المني معروف أنه أصفر، الذي هو المادة التي يخرج منها الولد، والمذي أبيض، المني غليظ، والمذي رقيق، المني يخرج دفقاً وتصحبه لذة، والمذي يخرج سيلاناً كما يسيل البول، إلا أن علامته أنه أبيض وأنه يحس بشهوة عند خروجه، وأنه لا بد أن يسبقه شيء من المداعبة ونحوها أو حضور شهوة. ويخرج كثيراً من الشباب، ولا شك أن خروجه بكثرة يؤدي إلى مشقة في الاغتسال، الشباب غالباً يخرج منهم، سيما في أول الزواج أو عند البلوغ أو نحو ذلك، يتدفق منهم بكثرة، فيشق عليهم أن يغتسلوا، وعلي رضي الله عنه كان في سن الشباب في ذلك الوقت، سيما وهو حديث عهد بزواجه لما تزوج ابنة النبي صلى الله عليه وسلم.

مشروعية الاستنجاء والوضوء من المذي وصفة الاستنجاء

مشروعية الاستنجاء والوضوء من المذي وصفة الاستنجاء يقول: (كنت رجلاً مذاءً) أي: كثير خروج المذي، يقول في بعض الروايات: (فكنت أغتسل منه حتى تشقق ظهري) أي: من كثرة ما أغتسل، فلما أنه شق ذلك عليه استحيا أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا شيء يحدث بين الزوجين، فكأنه يحدث بينه وبين ابنته عندما يحصل ملامسة أو مداعبة أو تقبيل يخرج هذا المذي، دون أن يكون هناك جماع، فعند ذلك لما أنه لم يتجرأ على السؤال أرسل المقداد بن الأسود ليسأل ويخبره، وليس ذلك استحياء منه في طلب العلم، وإنما هو حياء أن يذكر له شيئاً مما يقع بينه وبين ابنته، فعند ذلك أفتاه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه عادة؛ لقوله في بعض الروايات: (وكل فحل يمذي) ، هذا المذي يخرج غالباً من كل فحل، أي: من كل ذكر، ثم رخص له بترك الاغتسال وأمره بالاستنجاء وبالوضوء. ففي هذه الروايات: (يغسل ذكره) ، وفي رواية: (اغسل ذكرك) ، وفي رواية: (توضأ وانضح فرجك) ، فأخذ العلماء من ذلك أنه لا بد من غسل الذكر. وورد في بعض الروايات: (اغسل ذكرك وأنثييك) يعني: يغسل ذكره وخصيتيه؛ وذلك ليحصل تقلص الذكر وتوقف هذا الخارج؛ لأن الغالب أنه إذا حصل منه شيء من الانتشار أو من الشهوة، فإنه يسيل منه ويخرج، فإذا غسل ذكره كله وغسل أنثييه حصل بذلك توقف وحصل تقلص، والماء يحصل منه القطع حتى استعمال الماء بعد البول، فالاستنجاء يحصل منه فائدة توقف الخارج الذي هو البول، الماء يقطع خروج البول فكذلك يوقف خروج المذي. ومن العلماء من يقول: يغسل رأس الذكر فقط؛ لأنه الذي تلوث والذي خرجت منه النجاسة. ولكن الصحيح أنه يغسل ذكره كله، وأنه أيضاً يغسل أنثييه حتى تحصل المصلحة؛ وذلك لأن النص واضح لقوله: (يغسل ذكره) يعني: كل الذكر، وقوله: (اغسل ذكرك) ، وكذلك قوله: (توضأ وانضح فرجك) ، والنضح يطلق أيضاً على الغسل، نضحه بمعنى: غسله، أي: صب الماء عليه، والفرج اسم لما هو عورة، فيعم الذكر وقد يدخل فيه أيضاً الدبر. والحاصل: أن عليه أن يغسل الفرج كله، والحكمة في ذلك ظاهرة، وهي أن يوقف ذلك الخارج، ومتى خرج بعد ذلك فإنه يعيد الوضوء؛ لأنه يعتبر ناقضاً من النواقض، لكن يحدث أن كثيراً من الشباب عندهم شيء من الوساوس والأوهام التي ليس لها حقيقة، فترى أحدهم يحس بأشياء لا حقيقة لها، فيتخيل أنه خرج منه مذي أو خرج منه بول، فيقطع الصلاة مراراً ويقطع الوضوء، أو يعتقد انتقاض الوضوء كثيراً، ويكلف نفسه ويشق على نفسه كثيراً. فنقول: لا ينبغي التمادي مع تلك الوسوسة ما دام أنها توهمات ليس لها حقيقة، لكن متى أحس بخروج المذي خروجاً يقينياً ولم يكن مستمراً بحيث يلحق بسلس البول، فإنا نأمره بأن يجدد وضوءه، فيستنجي ثم يتوضأ.

حكم نجاسة المذي

حكم نجاسة المذي في هذا الحديث أن المذي نجس؛ وذلك لأنه أمره بأن يغسل ذكره. وكذلك أيضاً يغسل الثوب الذي أصابه، أو يغسل محله من الثوب أو من السراويل، فإذا أصاب سراويلك أو أصاب ثيابك فإنك تغسل ما أصابه منها؛ لأنه ألحق بالبول. والمني فيه خلاف في طهارته، ولكن الأقرب أنه طاهر، وأن غسله إنما هو غسل نظافة، وأما المذي فإنه ملحق بالبول في أنه يغسل كما يغسل البول، يغسل من الجسد إذا وقع على الفخذ مثلاً، أو على البطن، ويغسل من الثوب إذا وقع على الإزار أو على السراويل، يغسل كما تغسل النجاسة، وغسله أن يغسل حتى تذهب عين النجاسة، فإذا ذهبت اكتفى بذلك. أما المذي فلا خلاف أنه يوجب الوضوء؛ وذلك لأنه خارج من أحد السبيلين، وقد استدلوا بهذا الحديث على أن كل ما خرج من السبيلين فإنه ناقض للوضوء؛ لعموم الآية وهي قوله تعالى: {وجَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء:43] ، ولعموم هذا الحديث، والحديث الذي بعده.

مشروعية الاستعانة بالغير في سؤال أهل العلم

مشروعية الاستعانة بالغير في سؤال أهل العلم ويستدل بهذا الحديث على أن الإنسان إذا احتاج إلى معرفة حكم، ولم يستطع أن يسأل؛ فعليه أن يوكل غيره حتى يسأل، ولا يبقى على جهل، فربما يقع في عمل لا يكون جائزاً، وذلك أن الإنسان مثلاً قد يظن أن هذا ليس بحدث أو أنه لا يضر، فربما بقي على نجاسته، أو تكلف واعتقد أنه موجب للغسل فأخذ يغتسل، فيكون قد أوجب شيئاً على نفسه لم يجب عليه، فإذا تبصر في ذلك عمل على برهان. وفي هذا أيضاً دليل على أن هذه الأحداث قد تحدث بكثرة، وأن حكمها قد يخفى على بعض الناس الذين لم يسألوا، وعلى كل حال فإن المذي من جملة النواقض التي توجب الوضوء، والتي يجب مع الوضوء قبله الاستنجاء الكامل، والغسل الذي قال فيه: (اغسل ذكرك) أو: (يغسل ذكره) أو: (توضأ وانضح فرجك) هو غسل كامل، بأن يصب على فرجه بيده اليمنى ويدلكه بيده اليسرى، حتى يزيل أثر ما خرج منه، وحتى يحصل منه الحكمة التي هي الطهارة والتقلص وتوقف الخارج.

شرح حديث: (شكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم لرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة)

شرح حديث: (شكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم لرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة) أما الحديث الذي بعده فهو يعتبر قاعدة من قواعد الشرع، وذلك أن الإنسان كثيراً ما يجد في بطنه شيئاً من القرقرة ومن الصوت الذي يحدث في بطنه، ثم يخيل إليه أنه خرج من دبره شيء، مع أنه في الحقيقة لم يخرج منه شيء، وهذه الحوادث تسمى: القراقر. والقراقر: قراقر البطن، قرقرة البطن عندما يكون الإنسان قد أكل مثلاً أو جاع أو نحو ذلك، يسمع في بطنه قرقرة، فيظن بعد حدوث هذه القرقرة أنه خرج منه ريح أو خرج منه ناقض، فإذا ظن ذلك كلف نفسه وقام وأعاد الوضوء، ثم عاودته تلك القرقرة، ثم يعيد الوضوء مرة ثانية وثالثة ورابعة حتى يكلف نفسه ويشق عليها. ودين الله تعالى يسر، وليس فيه عسر ولا صعوبة، فلا ينبغي للإنسان أن يتمادى مع هذا الصوت أو مع هذه القرقرة التي في بطنه، ولذلك جعل النبي عليه الصلاة والسلام للحدث علامة ظاهرة، وذلك بقوله: (لا ينصرف) ، يعني: لا ينصرف إذا كان في الصلاة، ولا يقم إذا كان جالساً ليجدد الوضوء لا ينصرف (حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) ، مراده بالصوت: صوت الريح الخارجة، وكذلك وجودها كأن يشمها بأنفه، والمعنى: حتى يتحقق ويتيقن أنه أحدث بخروج الريح من دبره؛ وذلك لأن خروجها يحصل منه إحساس ظاهر جلي لا خفاء فيه، بخلاف القراقر فإنها توهمات.

علاج وساوس الشيطان في الوضوء

علاج وساوس الشيطان في الوضوء وورد أيضاً في أحاديث كثيرة ما يدل على أن هذه الوساوس تحدث من الشيطان، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: (يأتي الشيطان أحدكم فينفخ في دبره فيخيل إليه أنه أحدث، فإذا وجد ذلك فليقل: كذبت) ، كأن يقول له الشيطان: إنك أحدثت، فليقل في نفسه: كذبت، يعني: لا يلتفت إلى وسوسة الشيطان، هذه الوسوسة التي يبتلى بها كثير من الناس، فيحس بأنه خرج منه ريح، أو بأنه تحرك دبره أو نحو ذلك، فهذه أشياء ليس لها حقيقة إنما هي وساوس من الشيطان، ويقصد الشيطان بذلك أن يمل المسلم من العبادة، إذا رأى فيها هذه الكلفة والمشقة ملها وضجر منها، وأدى به ذلك إلى أن يتركها كلياً، وهذا هو مراد الشيطان، أو يريد بذلك أن يتهاون بهذه الأمور حتى لا يتوضأ من أي حدث. فنقول: الأمور تبقى على أصلها إلى أن يُتيقن زوال ذلك الأصل، فالأصل أنك متطهر وليس في طهارتك شك، فإذا اعتراك شك فالشك لا يرفع اليقين، يقينك الذي أنت عليه هو أنك على وضوء، وذلك العارض وَهْم أو شك أو وسوسة أو خيالات لا يلتفت إليها. وكثيراً ما يشكو إلينا بعض أهل الوسوسة وأهل التوهمات من شباب ومن شيب، كبار وصغار، رجال ونساء، يشتكون مما يلاقونه من أنه يخرج من أحدهم من ذكره كذا، يحس به، أو يخرج من دبره كذا يحس به، فيقول: إنني أتفقد نفسي ومع ذلك لا أجد خارجاً حسياً، وأسأل غيري ويقول: ما أحسست بشيء. فنقول: لا تلتفت إلى تلك التوهمات، فإنه لو كان يقيناً لأحس به من إلى جانبك، لوجدوا الريح مثلاً ولسمعوا الصوت، والرسول عليه الصلاة والسلام حدد ذلك، فإذا كنت لم تجد ريحاً ولم تسمع صوتاً ولم تحقق حدثاً، والذين عندك أيضاً لم يحسوا بشيء من ذلك؛ دل ذلك على أنها وسوسة فلا يلتفت إليها.

كيفية تطهير بول الغلام والجارية

كيفية تطهير بول الغلام والجارية [وعن أم قيس بنت محصن الأسدية: (أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجلسه في حجره، فبال على ثوبه، فدعا بماء، فنضحه على ثوبه، ولم يغسله) . وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بصبي، فبال على ثوبه، فدعا بماء فأتبعه إياه) ، ولـ مسلم: (فأتبعه بوله ولم يغسله) . وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (جاء أعرابي فبال في طائفة المسجد، فزجره الناس، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قضى بوله أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذنوب من ماء فأهريق عليه) ] . هذان الحديثان في إزالة النجاسة وفي تطهير البول، فالأول: في بول الطفل، والثاني: في بول الرجل. ذكر في الحديث الأول: أن هذه المرأة -وهي أخت عكاشة بن محصن الأسدي - جاءت بطفل لها صغير لم يكن قد أكل الطعام، فأجلسه النبي صلى الله عليه وسلم في حجره، فبال الطفل عليه كعادة الأطفال، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بماء فصبه على بوله ولم يغسله، وكذلك ذكرت عائشة. وورد في حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يغسل من بول الجارية وينضح من بول الغلام) ، والجارية: الأنثى، والغلام: الصبي الذكر.

نضح بول الغلام وغسل بول الجارية

نضح بول الغلام وغسل بول الجارية والغسل معناه: أن يدلك الشيء ويفرك، أي: يصب الماء على الثوب ويدلك مرات إلى أن يطهر. وأما النضح فمعناه: أن يصب الماء عليه وأن يتبعه إياه بدون فرك، يقال: نضح الثوب أي: صب الماء عليه دون فرك. وغسل الإناء: دلكه بيديه ونظفه، ونضح الثوب: بلَّه بالماء، وغسل الثوب: فركه ودلكه، ومعنى هذا: أن بول الطفل الذكر إذا لم يكن قد أكل الطعام فإن نجاسته مخففة، يكتفى فيها بأن يصب الماء على الثوب من غير أن يحتاج إلى دلك، بخلاف بول الجارية وبول الكبير، وقد ورد في بعض الروايات تقدير ذلك بما إذا لم يكن قد أكل الطعام، إذا كان ذلك الطفل لم يكن قد أكل، إنما غذاؤه اللبن، فأما إذا كان قد أكل الطعام فإنه يغسل كبول الكبير. والأصل في الغسل أنه: دلك المتنجس إلى أن تذهب عين النجاسة ويزول أثرها، فكل شيء تنجس ببول أو نحوه لا بد من تطهيره بالماء، فإن الله تعالى جعل هذا الماء طهوراً، قال تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال:11] قوله: (لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) أي: أنه سبحانه جعل التطهير بهذا الماء، فعرفنا بذلك أن هناك فرقاً بين بول الصغير وبول الكبير، وبين بول الصبي الذي لم يأكل الطعام وبول الجارية التي لم تأكل الطعام، فالجارية -وهي الأنثى- يغسل بولها كبول الكبير، والصبي الذي لم يأكل الطعام يقتصر في إزالة نجاسة بوله على مجرد الصب ومجرد النضح، بدون أن يحتاج إلى فرك أو دلك أو تكرار غسل، ولذلك قالوا: إن نجاسته مخففة.

الحكمة من نضح بول الغلام وغسل بول الجارية

الحكمة من نضح بول الغلام وغسل بول الجارية وقد علل العلماء في الفرق بين الذكر والأنثى بتعليلات: فمنهم من قال: إن الأنثى مخلوقة من لحم ودم نجس، وإن الذكر -الذي هو آدم- مخلوق من التراب والطين، والتراب طاهر. ولكن لو كان ذلك لم يكن هناك فرق بين الكبير والصغير، ومعلوم أن بول الكبير نجس فلا يكون له هذا الحكم. ومنهم من قال: إن بول الصبي ينتشر ويشق تتبعه؛ فلأجل ذلك اكتفي فيه بالنضح، وبول الجارية لا يشق تتبعه، فألزم بأن يغسل إلى أن ينظف، ولعل هذا مقارب. ومنهم من قال: إن الصبي تعلقه النفوس وتحبه، ويكثر حمله ونقله وإجلاسه، فيبتلى الناس بنجاسته كثيراً، فيكون من آثار هذا الابتلاء وهذه المشقة التيسير؛ فإن المشقة تجلب التيسير. ولعل هذا أيضاً مقارب في الفرق بينهما، وهو أن الصبي تعلقه النفوس وتحبه، ويكثر حمله والابتلاء بنجاسته. أما في هذه الأزمنة فإنه يمكن التحفظ من بولهما معاً بهذه الحفائظ التي تجعل على عورته في حال صغره، حتى لا تتعدى نجاسته لا بولاً ولا غائطاً، ومعلوم أن هذا الحكم خاص بالبول الذي هو الماء السائل، وأما الغائط فإنه كسائر النجاسات، يغسل كما تغسل النجاسات، ولا يتسامح فيه كما يتسامح في البول. فالغائط نجس من صغير وكبير وذكر وأنثى، والبول نجس من الكبير ونجس من النساء صغيرهن وكبيرهن، ونجس أيضاً من الطفل، إلا أن نجاسته مخففة ويكتفى في إزالته بالنضح الذي هو الصب، وأما سائر النجاسات فإنها تغسل إلى أن يذهب عين النجاسة. وقد ذهب بعض العلماء إلى أنه لا بد من سبع غسلات لإزالة بول الجارية، أو بول الكبير، أو الغائط، ولكن الصحيح أنه لا حاجة إلى عدد؛ بل يكتفى في ذلك بمجرد إزالة العين، فمتى زالت عين النجاسة وذهب أثرها اكتفي بذلك وطهر المكان، ولا فرق حينئذ بين الثياب وبين الجسد وبين الأواني التي وقعت عليها النجاسة، وبين غيرها من سائر ما يتنجس.

كيفية تطهير بول الكبير من الأرض والثياب وغيرهما

كيفية تطهير بول الكبير من الأرض والثياب وغيرهما وذكر بعده حديث أنس في قصة الأعرابي الذي بال في المسجد، وذكر: أن ذلك الأعرابي يقال له: ذو الخويصرة، وكان رجلاً جافياً، وكان على عادته وعلى جهله، فهو لم يكن على علم بحرمة المساجد وبما يجب أن تنزه عنه وتنظف، فهو لما انتهى من الصلاة والناس في المسجد قام إلى ناحية من المسجد وجلس يتبول فيها، فلما رآه الناس على هذه الهيئة زجروه زجراً بليغاً وقالوا: مه مه! وأرادوا أن يقوموا عليه ليقطعوا بوله، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهم عن ذلك، وذلك رفقاً به، وقال في آخر الحديث: (إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين) . وقد بين العلماء سبب نهيه لهم عن أن يقطعوا عليه بوله؛ وذلك أنه لا شك سيشق عليه قطع بوله، إذا كان قد بال بعض البول ثم قام قبل أن يكمله شق ذلك عليه، وأيضاً من الأسباب: أنه قد يتلوث المسجد وتنتشر النجاسة، فلو قام وهو يبول لوقع البول في أكثر من موضع، بخلاف ما إذا ترك حتى ينتهي، فإن البول يكون في موضع واحد ويمكن إزالته، أما لو قام فإنه سيتقاطر من هنا ومن هنا، وهكذا لو قام قبل أن يتكامل بوله لتنجس جسده ولتنجست ثيابه، ولكن من حكمة النبي صلى الله عليه وسلم ومما أعطاه الله تعالى من الرفق ومن التيسير أن تركه إلى أن انتهى من بوله، فعند ذلك أمرهم بأن يصبوا عليه ماءً، فصب على ذلك البول حتى زال أثره، وذلك بالمكاثرة. فأخذ العلماء من هذا أن نجاسة الأرض بالبول تطهر بالمكاثرة، بحيث تغمر بالماء إلى أن تذهب عين النجاسة، بدون أن يحتاج إلى تكرار صب أو تكرار دلك أو نقل التراب المتنجس أو نحو ذلك. ما نقلوا أنه أمر بحفر التراب المتنجس، بل ترك ذلك التراب الذي فيه البول على حاله وصب عليه دلواً من ماءٍ، ولا شك أن الدلو أكثر بكثير من ذلك البول، فلا شك أنه سيغمر البول وسيزيل أثره، وسوف يطهره ولا يبقى له عين ولا تبقى الأرض متنجسة، بعد ذلك يجوز أن يصلى في ذلك المكان؛ لأنه قد طهر، ولا حاجة إلى تكرار الصب بل يصب مرة واحدة. وقد ذهب بعضهم إلى أنه ينقل التراب المتنجس، ولكن لا دلالة في الحديث على نقله، ولم يأت ما يدل على ذلك، وذهب بعضهم إلى أنه يغسل ويكرر، فإذا شرب الماء صب عليه مرة ثانية، فإذا شربه صب عليه ثالثة وهذا أيضاً لا دليل عليه، ولا حاجة إلى التكرار، بل يكتفى بأن يصب عليه مرة واحدة ويطهر بهذا الصب دون أن يحتاج إلى تكرار الغسل. كذلك أيضاً يقاس عليه كل ما كان ملتصقاً بالأرض، هناك مثلاً الفرش التي تكون ملصقة بالأرض يشق أن ترفع، كهذه الفرش التي في المساجد والتي أحكم فرشها وألصقت بالبلاط ونحو ذلك، فإذا وقعت عليها النجاسة اكتفي بغمرها بالماء، يصب عليها ماء وتكاثر به، وتزول عين النجاسة بهذه المكاثرة. أما إذا كانت الأرض لا تتشرب النجاسة كالأرض المبلطة فإن هذه الأرض إذا وقعت عليها النجاسة يكتفي بأن يصب عليها الماء كما صبت عليها النجاسة؛ وذلك لأن مثل هذه الأرض تنتشر فيها النجاسة، فإن كانت النجاسة باقية مستنقعة فإنها تنشف بخرقة أو إسفنج أو نحوه، وبعد ذلك يصب عليها ماء وينشف إن بقي شيء من الماء المصبوب. أما إذا شرب البلاط تلك النجاسة فإنه لا يحتاج إلى تنشيف وإنما يصب عليه ماء إلى أن يغمره. وأما إذا كانت النجاسة على الجدران ونحوها، فإن العلماء أيضاً ألحقوها بالنجاسة التي على الأرض، واكتفوا بأن يصب عليه الماء، ومعلوم أن الماء لا يستقر على الحائط وإنما يرش عليه رشاً كما تطاير عليه رشاش النجاسة، أو يصب عليه ماء أو ينضح عليه نضحاً إلى أن يطهر. وأما إذا كانت النجاسة على ثوب أو على بدن فقد تقدم أنه يغسل نجاسة الكلب سبعاً، وبعض العلماء يقول: بول الآدمي وغائطه تغسل سبع مرات من باب الاحتياط، ولكن لا دلالة أيضاً على هذا التكرار، والأصل أنه يكتفي بغسلها مرة واحدة أو مرتين أو مرات، بحيث يزول عين النجاسة وأثرها، وإذا كانت النجاسة مثلاً في قدح وغسلت غسلة أو غسلتين ولم يبق للنجاسة أثر من لون ولا رائحة ولا تغييراً للماء، فلا حاجة إلى تكرار الغسل. ومعلوم أيضاً أن تطهير النجاسات لا يحتاج إلى النية، بل تطهر بمجرد الغسل وإن لم يكن هناك من يغسلها، فإذا وقع البول مثلاً على الأرض وجاء المطر فغسله طهرت، وهكذا لو كان على ثوبك نجاسة ثم إنك علقته فنزل مطر كثير قغمره أو خضت به وهو عليك في سيل أو في بحر وزال من أثر ذلك عين النجاسة، طهر الثوب وإن لم تنو غسله وإن لم تكن متذكراً؛ لأن إزالة النجاسة من باب التروك فلا حاجة إلى نية. وفي هذا الحديث يظهر رفق النبي صلى الله عليه وسلم بأمته وشفقته عليهم وحرصه على التأليف وعدم الإيذاء؛ وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين) .

خصال الفطرة ومعناها

خصال الفطرة ومعناها قال المؤلف رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الفطرة خمس: الختان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط) ] . هذا الحديث يتعلق بخصال الفطرة، وفسرت الفطرة بأنها السنة، وفسرت بأنها ما فطرت القلوب على استحسانه واستقباح ضده. يعني: أن هذه الأشياء تستحسنها الفطر السليمة، وفطرت القلوب على ملاءمتها وعلى حسنها وعلى موافقتها للعقل وللجبلة الحسنة، فهي مستحسنة وإن لم تأت بها الشريعة، وقد أخبر الله تعالى بأنه فطر الناس على الإسلام في قوله سبحانه: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30] ، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة) ، يعني: على الملة الحنيفية، أو على ما تستحسنه الفطر. الفطرة: الخلقة، يعني: خلقة الإنسان، يقال: أنت فطرت على كذا، يعني: خلقت عليه، فمعناه: أن الفطرة هي التي فطر الناس على استحسانها وعلى العمل بها واستقباح ضدها، فهي تتمثل في هذا، ولا شك أيضاً أنها إذا كانت تستحسنها الفطر فكذلك أيضاً تستحسنها الشرائع. فإن الشريعة جاءت باستحسانها والأمر بها، وليست شريعة الإسلام فحسب بل كل الشرائع، بل إن الذين لا شرائع لهم يستحسنونها ويشهدون بأنها ملائمة، ولو أن بعضهم تركها وعاند في مخالفة بعضها فإنه لا يعتبر به.

الخصلة الأولى: الختان حكمه ومشروعيته

الخصلة الأولى: الختان حكمه ومشروعيته قد يقال: إن الختان شرعي فكيف يكون فطرياً، مع أن هناك دولاً لا يختتنون، وهم أمم وخلق كثير لا يعرفون الاختتان، فيقال: هؤلاء ممن بقوا على سذاجة وعلى بعد عن الخير وبعد عن استحسان الحسن، فلو فكروا لرأوا أن الختان من محاسن الدين وأن الله ما شرعه إلا لما فيه من المصلحة. والختان معروف، وشرع لأجل الطهارة، فإن من لم يختتن لا يأمن التنجس، فإن هذه القلفة التي في رأس ذكر الرجل إنما أمر بإزالتها حتى تكمل الطهارة بغسل آثار البول، فلو بقيت لكانت حاملة للنجاسة ولشق تطهير داخلها وتنظيفه. فالحكمة من الأمر بإزالتها، حتى تبرز الكمرة، وحتى يمكن تطهير النجاسة الموجودة في تلك الغلفة، وحتى لا تنتشر النجاسة. ولا شك أن الختان مشروع، وقد ثبت أن أول من اختتن إبراهيم، أو أنه اختتن بعد أن كان أهل زمانه لا يختتنون، فاختتن بالقدوم وهو ابن ثمانين سنة، ثم شرع الاختتان في ذريته، حتى غير المسلمين منهم من يختتن، وأما من غير ذريته من سائر الأمم والدول فإنهم بقوا على سذاجة وعلى بعد عن الاستحسان، ولم يكونوا يختتنون. ومشروعيته تعد من محاسن الإسلام، ويشرع الختان في حال الصغر حتى لا يتأثر به حال الكبر، وحتى لا تكون فيه خطورة، فإنه إذا ختن وهو طفل رضيع كان ذلك أسهل له وآمن؛ لئلا يتسمم. ويجب الختان عند البلوغ، وقبل البلوغ يعتبر سنة أي: يعتبر جائزاً غير واجب، لأن البلوغ هو وقت التكليف، ولأنه لم يكن ملزماً بالطهارة قبل البلوغ وهذا هو الصحيح.

الخصلة الثانية: الاستحداد حكمه ومعناه

الخصلة الثانية: الاستحداد حكمه ومعناه الاستحداد: هو حلق العانة، والعانة هي الشعر النابت حول الفرج، وهذا الشعر أنبته الله تعالى علامة على البلوغ، وأنبته لأجل حكمة تخفيف الشهوة، أو لأجل إتمام الرجولة أو الأنوثة أو لغير ذلك، وقد شرعت إزالته. وإزالته على الصحيح تكون محددة بأربعين يوماً أو بشهرين، أو إذا أطلق حتى يطول طولاً كثيراً فيجب إزالته، وإزالته من خصال الفطرة، يعني: مما تستحسنها الفطر، وإطالة هذا الشعر وتركه حتى يطول كثيراً مما تستقبحه الفطر، فيسن إزالته بالموسى أو بما يزيله من الكريم وغيره إذا لم يكن مؤذياً، ويسن أن لا يتركه فوق أربعين يوماً كما ذكر ذلك بعض العلماء، بل إذا طال بادر إلى إزالته حتى لا يكون مشوهاً ولا مؤذياً.

الخصلة الثالثة: قص الشارب حكمه والحكمة من قصه

الخصلة الثالثة: قص الشارب حكمه والحكمة من قصه الشارب: هو الشعر الذي على الشفة العليا كما هو معروف، وقد وردت السنة بقصه وبحفه وكلاهما بمعنى، وجاء في الحديث: (قصوا الشوارب وأعفوا اللحى) ، أي: قصوه بالمقص الذي هو المقراض، فالسنة أن يستعمل المقراض في قصة. ويجوز أن يستعمل غير المقراض كالموسى أو ما يجز به، حيث ورد في بعض الروايات: (جزوا الشوارب وأعفوا اللحى) ، فهذا يدل على مشروعية إزالته ولا شك أنها موافقة للفطرة؛ وذلك لأن إطالة هذا الشعر يعتبر تشويهاً للخلقة، والله تعالى إنما أنبته للزينة، ولكن إطالته لا شك أنها تشويه وتقبيح للمنظر. ثم أيضاً قد يخرج من الأنف شيء من الفضلات وتعلق به ويتلوث، وكذلك إذا شرب الإنسان وشاربه طويل فقد ينغمس في الشراب فيلوث الشراب على من بعده ويفسد ذلك الشراب، وقد يفسده على نفسه، فمن حكمة الله أن أمر نبيه بهذا وشرع له إزالته وتخفيفه. ويجوز حلقه، ولكن الأفضل القص، يعني: أن يستعمل المقراض فيه بحيث لا يزيله كله، ولكن يبقى له أثر، فإنه يميز الرجل من المرأة، فإذا بقي أصول الشعر كفى ذلك. من هذا يتبين لنا أن إعفاء اللحى من خصال الفطرة كما ورد في الأحاديث، والمراد من ذلك تركها، وعدم التعرض لها بإزالة، ولا بقص، ولا بأخذ شيء من جوانبها ونحو ذلك، وليس في هذا الحديث الذي معنا ذكر لها ولكنها في أحاديث أخرى، ولا نطيل فيها؛ لأن المقام ليس لها، ولعله يأتينا ما يناسب الكلام فيها في موضع آخر.

الخصلة الرابعة: تقليم الأظفار حكمه وحكمته وفائدته

الخصلة الرابعة: تقليم الأظفار حكمه وحكمته وفائدته لا شك أن الله تعالى أنبت هذه الأظفار في رءوس الأصابع لحكمة وفائدة، ولكن إطالتها كثيراً فيه تشويه وفيه تقبيح للرؤية؛ وذلك لأنها قد يجتمع تحتها أوساخ وأقذار فيتلوث بها الأكل الذي يأكله، فلذلك شرع أن يقلّم ما نبت فوق الظفر الملتصق باللحم وذلك في كل أسبوعين، أو في كل يوم جمعة، أو في كل عشرة أيام، أو كلما طال، وذلك أن الناس يختلفون، فمنهم من تطول أظافره كثيراً وتنبت سريعاً، ومنهم من لا تنبت سريعاً.

الخصلة الخامسة: نتف الإبط حكمه وحقيقته

الخصلة الخامسة: نتف الإبط حكمه وحقيقته الإبط: هو الشعر الذي تحت العضد في أعلى الجنبين، وينبت فيها شعر رقيق فلا يشق نتفه، لذلك شرع أن يستعمل فيه النتف؛ لأن شعر الإبط رقيق لا يعسر نتفه، أما حلقه فقد يجعله يستغلظ. ويشرع أن ينتفه ويزيله حتى لا يتسخ؛ لأن هذا موضع يكون فيه شيء من العرق والوسخ والقذر فيتلوث بذلك الشعر، وقد يكون له روائح منتنة تؤذي، أو يعلق به شيء من الأذى، فلا جرم في مشروعية إزالته. هذه هي خصال الفطرة التي ذكرت في هذا الحديث، وهناك خصال أخرى منقولة في أحاديث أخرى يمكن الاطلاع عليها.

شرح عمدة الأحكام [5]

شرح عمدة الأحكام [5] شرع الله للمؤمن التطهر من الجنابة، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم صفة هذه الطهارة، وبين ما يترتب على نزول المني وعلى إيلاج الذكر من أحكام، بل بين مقدار ما يتطهر به من الماء.

الأحكام المتعلقة بالجنابة

الأحكام المتعلقة بالجنابة

المؤمن لا ينجس

المؤمن لا ينجس قال المصنف رحمه الله: [باب الغسل من الجنابة: عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه في بعض طرق المدينة وهو جنب قال: فانخنست منه فذهبت فاغتسلت ثم جئت، فقال: أين كنت يا أبا هريرة؟ فقلت: كنت جنباً فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة، فقال: سبحان الله! إن المسلم -وفي رواية: المؤمن- لا ينجس) ] . هذا الحديث يتعلق بباب الغسل فذكر فيه أبو هريرة أنه كان جنباً ودخل السوق وعليه جنابة، فصادف أنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم، فاستحيا وكره أن يجلس معه عليه الصلاة والسلام وهو جنب، فذهب مختفياً ورجع إلى بيته فاغتسل، وبعدما اغتسل جاء، فاستنكر النبي صلى الله عليه وسلم منه ذلك الذهاب بدون استئذان، ولما رجع سأله، فأخبره بعذره، فاستغرب ذلك وسبّح الله تعجباً، وأخبر بأن المؤمن طاهر البدن ولا ينجس، وإنما النجس هم الكفار، كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة:28] . فقوله: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه في بعض طرق المدينة) يعني: في بعض أزقتها وأسواقها، قوله: (لقيه) بمعنى: نظر إليه وتقابل هو وإياه، وقوله: (وهو جنب) أي: عليه جنابة، أما من جماع، وإما من احتلام، ولا تصح عبادته إلا بعد الغسل، وذلك أن الله تعالى أوجب الطهارة الصغرى للحدث نفسه، وهي الوضوء كما تقدم، وأوجب الطهارة الكبرى التي هي الغسل إذا كان هناك جنابة، فقال تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء:43] يعني: لا تفعلوا الصلاة وأنتم جنب حتى تغتسلوا، وقال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة:6] ، وسمي الجنب جنباً؛ لأنه يتجنب أشياء لا يتجنبها غيره، فالجنب يتجنب الصلاة، ويتجنب المساجد، ويتجنب قراءة القرآن، ويتجنب الطواف بالبيت، ويتجنب مس المصحف ولو لغير قراءة، وأمر بأن يبادر بالاغتسال حتى يزيل ذلك الأثر، أو تلك النجاسة التي هي نجاسة معنوية. ولكن يجوز أن يؤخر الجنب الاغتسال إلى الوقت الذي يحتاج فيه إلى عبادة، فهذا أبو هريرة أخر الاغتسال وأصبح جنباً إما من احتلام وإما من جماع ودخل السوق وذلك في وقت الضحى لقضاء حاجة أو نحوها دون أن يغتسل، فدل على أنه كان قد عرف أنه يجوز تأخير الغسل من الجنابة. وقد ثبت أن الصحابة رضي الله عنهم إذا أصاب أحدهم جنابة ولم يجد ماء ليغتسل به في الوقت القريب، ويخشى أن تفوته المجالس العلمية فإنه يتوضأ ويدخل المسجد لحضور مجالس النبي صلى الله عليه وسلم التعليمية، فيقتصر على الوضوء؛ لأن الوضوء يخفف الجنابة فـ أبو هريرة أخر الاغتسال لأجل حاجة، ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم كان من احترامه ومن تعظيمه له ألا يجالسه وهو على تلك الحال، فرأى أن يذهب إلى البيت حتى يغتسل ويتطهر، فيقول: (انخنست) ، يعني: ذهبت بخفية إلى البيت واغتسلت، والاغتسال معروف. وأما قوله: (أين كنت) يعني: لماذا ذهبت يا أبا هريرة واختفيت عنا وقد رأيناك؟ فقال: (إني كنت جنباً) كلمة (جنب) تصدق على الرجل والمرأة والجماعة وغيرهم فيقال: هؤلاء الجماعة جنب، وهذا الرجل جنب، وهذه المرأة جنب، يعني: كل منهم عليه جنابة، وقوله: (فاستحييت) وفي رواية: (فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة) ، كأنه رأى حرمة النبي صلى الله عليه وسلم وقداسته، ورأى أنه إذا جالسه لا بد أن يسمع منه قرآناً أو لا بد أن يسمع منه حديثاً، أو رأى أن النبي صلى الله عليه وسلم لا تجوز مجالسته إلا على طهارة كاملة، فذهب واغتسل، ولكن بين له النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك لا يهم وأن المؤمن طاهر وإن كان عليه جنابة. فقوله: (إن المسلم لا ينجس) وفي رواية: (إن المؤمن لا ينجس) معناه: أن المؤمن موصوف بأنه طاهر طهارة معنوية؛ لأن الإيمان طهر أهله، فالإسلام والإيمان طهر المسلمين من الشرك، أما المشركون فإنهم نجس كما ذكر الله تعالى، وإن كانت النجاسة ليست حسية، ففي هذا دليل على جواز مجالسة الجنب، ومصافحته، وأن الجنابة لا تتعدى، بل يجوز أن تجالسه وأن تصافحه وأن تخاطبه وأن تكلمه وأن تمسه، ولا ينالك شيء من نجاسته فهو طاهر طهره الإيمان، وإنما عليه هذا الحدث، وهذا الحدث لا يسمى نجاسة وإنما يسمى حدثاً يسبب الاغتسال.

صفة الاغتسال من الجنابة

صفة الاغتسال من الجنابة قال المؤلف: [عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة، غسل يديه ثم توضأ وضوءه للصلاة، ثم يغتسل، ثم يخلل بيديه شعره، حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض الماء عليه ثلاث مرات، ثم غسل سائر جسده) . وكانت تقول: (كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، نغترف منه جميعاً) . وعن ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: (وضعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وضوء الجنابة، فأكفأ بيمينه على يساره مرتين أو ثلاثاً، ثم غسل فرجه، ثم ضرب يده بالأرض أو الحائط مرتين أو ثلاثاً، ثم تمضمض واستنشق، وغسل وجهه وذراعيه، ثم أفاض على رأسه الماء، ثم غسل سائر جسده، ثم تنحى فغسل رجليه، قالت: فأتيته بخرقة فلم يردها، فجعل ينفض الماء بيديه) ] . هذه الأحاديث في صفة الغسل من الجنابة، وسيأتينا ما يدل على وجوبه في الأحاديث الآتية إن شاء الله، وقد ذكر الله وجوبه بالإجمال في قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة:6] أي: متى أصابت أحدكم جنابة فليطهر، وفي قوله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء:43] . والاغتسال: تعميم الجسد كله بالماء، فالآية فيها إجمال وفيها ذكر للاغتسال المجزئ.

بيان صفة الاغتسال المجزئ والاغتسال الكامل

بيان صفة الاغتسال المجزئ والاغتسال الكامل الاغتسال نوعان: مجزئ، وكامل. فالمجزئ: هو أن يعمم جسده كله بالماء أعلاه وأسفله، بحيث لا يترك من جسده شيئاً إلا أوصل الماء إليه، ويتعاهد الأماكن التي لا يصل إليها الماء إلا بصعوبة فيدلك رأسه؛ لأنه ورد أن تحت كل شعرة جنابة، ويدلك الأماكن المنخفضة كالسرة، والآباط، وبطون الركبتين، وبطون الفخذين، حتى يتأكد من وصول الماء إلى جسده. إذا عمم جسده كله بالماء يعتبر قد ارتفع عنه الحدث الأكبر، سواء بدأ برجليه أو بدأ برأسه أو بدأ بجنبه أو بغير ذلك. وأما إذا أراد الغسل الكامل؛ فإن عليه أن يعمل بهذه الأحاديث التي ذكرت فيها صفة غسل النبي صلى الله عليه وسلم. وقد ورد أيضاً أشياء لم تذكر فيها، ولكن ذكرت في غيرها، فمثلاً: النية لا بد منها، وذلك لأن الاغتسال عمل ولا بد فيه من النية، فينوي رفع الحدث وينوي إزالة الجنابة التي اتصف بها؛ لقوله في الحديث: (إنما الأعمال بالنيات) ، فمن اغتسل بدون نية لم يرتفع حدثه. وبعد أن ينوي يسمّي، فإن التسمية قد أوجبها بعض العلماء لورودها في بعض الأحاديث في الوضوء، والغسل يقوم مقام الوضوء. وبعد التسمية يبدأ بالفعل، ففي حديث عائشة وكذلك في حديث ميمونة أنه غسل يديه، تقول ميمونة: (إنه أكفأ على يديه فغسلهما ثلاثاً أو مرتين) يعني: لم يدخل يده في الإناء حتى صب على يديه فغسلهما، (وكان يغتسل من قدح أو من إناء، يقال له: الفرق يسع ثلاثة آصع) ، فيفيض من الإناء حتى يصب على يده فيغسل كفيه، أي: يبدأ بتنظيفهما وإزالة النجاسة عنهما؛ لأن يديه هما الآلة التي يغترف بهما، فإذا نظف يديه ابتدأ بالاغتراف. وذلك أنه يغسل فرجه أولاً، أي: يستنجي، وقد يكون الفرج علق به أو بقي فيه شيء من آثار المني، فإذا نظف أثره قد يبقى في اليد فيها شيء من اللزوجة من آثار المني ونحوه، فيضرب بها الأرض أو الحائط الذي هو الجدار المبني من الطين حتى يعلق بها تراب ثم يغسلها بذلك التراب ليزيل أثر تلك اللزوجة، أو يغسلها بما يزيل ذلك، ولعله يريد بذلك مسح ما علق بها، أو يريد بذلك غسلها بتراب أو نحوه، وإذا وجد ما يزيل ذلك الأثر غير التراب كالصابون استعمله، والحاصل أنه إذا علق بيده شيء من لزوجة المني فإن عليه أن يزيلها حتى ينظف يديه للاغتراف، والمراد هنا اليد اليسرى التي باشر بها غسل فرجه، أما اليد اليمنى فإنه معلوم أنه يغترف بها. بعد ذلك ذكرت عائشة: (أنه توضأ وضوءه للصلاة) وفصلت ذلك ميمونة فذكرت: (أنه تمضمض ثلاثاً واستنشق ثلاثاً وغسل وجهه وغسل يديه -يعني: ذراعية- ولم يغسل رجليه، بل أخر غسلهما إلى أن فرغ) ، ولكن إطلاق عائشة يقتضي أنه غسل رجليه أيضاً، ولعله هو الأولى، أعني أن الأولى أن يتوضأ وضوءاً كاملاً بما في ذلك غسل القدمين، فإذا فرغ من الوضوء الكامل ابتدأ في الغسل. فأول شيء يبدأ به غسل رأسه، ومعلوم أنه قد يكون على رأسه شعر فيقوم بتخليله، وهو إدخال الأصابع في خلال الشعر حتى يتحقق أنه قد وصل الماء إلى بشرة الرأس. ثم ذكرت: (أنه أفاض على رأسه ثلاثاً) ، يعني: صب عليه ودلكه ثلاث مرات زيادة على التأكد قبل ذلك بتخليله، وذلك كله محافظة على غسل الرأس حتى لا يبقى شيء لم يمسه؛ لأن جلدته تغطى بالشعر، وتحت كل شعرة جنابة، فلا بد من التأكد، ولأن في الوجه وفي الرأس مغابن تحتاج إلى تعاهد كالأذنين، وكذلك العينان، وكذلك العنق، فلا بد من التأكد حتى يرتفع الحدث عنه. بعد ذلك ذكرت أنه غسل سائر جسده أو أفاض الماء على سائر جسده، لكن ورد في بعض الأحاديث البدء بالشق الأيمن، وأخذ ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم عندما غسلت بنته: (ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها) ، فاستحب أن يبدأ بشقه الأيمن ثم بشقه الأيسر، أو بمنكبه الأيمن ثم الأيسر، وجنبه الأيمن ثم الأيسر، وفخذه الأيمن ثم الأيسر وهكذا. والحاصل أنه لا بد من تعميم الجسد بالماء. استحب بعض العلماء أن يغسل جسده ثلاثاً، وبعضهم يقول: لا يستحب؛ لأنه لم يرد، ولكن قد يحتاج إليه إذا كان عليه وسخ أو لم يتحقق وصول الماء أو نحو ذلك، وأوجب بعضهم أن يمر يديه على ما يستطيعه من جسده وبعضهم يقول: ليس بواجب، ولكن الاحتياط أنه يدلك ما يستطيعه، فيمر يديه على بطنه وعلى ما يستطيع من ظهره، وعلى أسفل بطنه وأسفل ظهره، وعلى فخذيه وساقيه وعلى عضديه ومنكبيه وعنقه، يتعهد ذلك كله ويدلكه، فإن هذا هو حقيقة الغسل. الغسل في الأصل هو إمرار اليد على المغسول، فإذا استطاع ذلك فليفعل وإن لم يستطع إيصال يديه إلى مؤخر ظهره اكتفى بصب الماء عليه. ذكرت ميمونة: (أنه بعد فراغه تنحى وغسل قدميه في موضع غير الموضع الذي اغتسل فيه) ؛ وذلك لأن رجليه كانتا في مستنقع الماء وقد ابتلتا بذلك الغسال فأراد تنقيتهما، فتنحى عن ذلك الماء وغسلهما من باب التنظيف أو من باب غسل جميع جسده. وذكرت عائشة: (أنها كانت تغتسل هي والنبي صلى الله عليه وسلم جميعاً يغترفان من إناء واحد، تقول: تختلف فيه أيدينا حتى أقول: دع لي ويقول: دعي لي) يعني: إذا كان في آخره، وذلك دليل على جواز اغتسال الرجل وامرأته جميعاً، وكان ذلك في بيت مظلم قد لا يرى أحدهما عورة الآخر، وإن كان مباحاً للرجل أن ينظر إلى جسد امرأته وكذلك المرأة بالنسبة إلى زوجها، وبكل حال فإن هذا فيه وصف هذا الاغتسال. معلوم أن الناس في هذه الأزمنة قد توسعوا، وبالأخص في المدن، فصاروا يغتسلون تحت ذلك الرشاش الذي يرش الماء، ويقف الإنسان تحته فيعم جسده، ولكن على كل حال فالعمل بالسنة ممكن، فممكن لك قبل أن تبدأ بالاغتسال أن تغسل يديك وأن تستنجي وأن تتوضأ وضوءاً كاملاً، وممكن لك إذا كنت تحت الرشاش أن تبدأ بغسل رأسك وأن تخلله حتى تتأكد من وصول الماء إلى البشرة، وأن تثلث بعد ذلك، بأن تتركه يصب على رأسك ثلاثاً، ويمكنك بعد ذلك أن تبدأ بالجانب الأيمن فتدلكه ثم الأيسر، ويمكنك أن تثلث، يعني: أن تمر الماء على جسدك ثلاث مرات، ويمكنك أن تحرص على إمرار يديك على جسدك ودلك ما تستطيع دلكه. وأما غسل الرجلين في الآخر، فإن كانت الرجلان في الماء المستنقع تحت قدميك، فإن عليك أن تخرج وأن تغسلهما في مكان نظيف، وإن لم يكن هناك مستنقع وتحققت أنك قد غسلتهما حصلت بذلك النظافة، وبكل حال فإن هذا فيه بيان غسل الجنابة الذي يعتبر كاملاً. وجعله بعضهم منحصراً في عشرة أشياء: أولاً: النية، ثانياً: التسمية، ثالثاً: الاستنجاء، رابعاً: تنظيف اليدين بعد الاستنجاء مما يعلق بهما، خامساً: الوضوء الكامل، سادساً: تثليث الرأس وتخليل الشعر، سابعاً: تعميم الجسد بالماء كله، ثامناً: التيمن، تاسعاً: إمرار اليد على المغسول بحسب الاستطاعة، عاشراً: التثليث يعني: سنية أن يكرر غسل كل عضو ثلاث مرات، وزاد بعضهم الحادي عشر: إذا كانت رجلاه في مستنقع أن يغسلهما في مكان آخر.

حكم نوم الجنب قبل الاغتسال

حكم نوم الجنب قبل الاغتسال قال المؤلف: [وعن عبد الله بن عمر، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (يا رسول الله! أيرقد أحدنا وهو جنب؟ قال: نعم، إذا توضأ أحدكم فليرقد وهو جنب) . وعن أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (جاءت أم سليم امرأة أبي طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن الله لا يستحيي من الحق، فهل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم إذا هي رأت الماء) ] . حديث ابن عمر يتعلق بالجنابة وجواز أن ينام الجنب قبل أن يغتسل، ولكن عليه أن يتوضأ قبل أن ينام، ورد في ذلك عدة أحاديث فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم وفيها فعله أمر من كان جنباً ولم يتيسر له أن يغتسل أن يخفف الجنابة بالوضوء ثم ينام؛ وذلك لأنه قد يشق عليه الاغتسال في أول الليل إما لبرد وإما لقلق وإما لعدم توافر ماء أو نحو ذلك من الأعذار، فإذا لم يتيسر وأراد أن ينام فعليه أن يخفف ذلك الحدث بأن يتوضأ، وبعض العلماء يقول: عليه أن يستنجي ويتوضأ. والاستنجاء: هو غسل الفرج وغسل آثار المني، والوضوء: هو غسل الأعضاء الظاهرة المذكورة في قوله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6] إلى آخره. هذا الوضوء ذهب بعضهم إلى أنه واجب، وأنه يحرم على الجنب أن ينام على جنابة قبل أن يتوضأ؛ لظاهر هذا الحديث ولأحاديث أُخر، ظاهرها الإلزام، ولكن الصحيح أنه للاستحباب؛ وذلك لأنه ثبت عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينام وهو جنب من غير أن يمس ماءً) وهو القدوة، يعني: أنه قد يشق عليه أحياناً الوضوء فينام بعد الجماع ولا يتوضأ ولا يستنجي ولا يغتسل، وذلك لبيان الجواز، وأن الأمر ليس للوجوب ولكنه للاستحباب.

استحباب وضوء الجنب قبل النوم والأكل والمعاودة

استحباب وضوء الجنب قبل النوم والأكل والمعاودة وهناك حالات ثلاث للجنب: الحالة الأولى: أن الأفضل أن لا ينام إذا جامع في أول الليل إلا بعد أن يغتسل، حتى ينام على طهارة، بل ورد الأمر بالنوم على طهارة لغير الجنب في حديث البراء المشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم قل: اللهم أسلمت نفسي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت، فإن مت على ذلك مت على الفطرة) . الشاهد منه: أنه أمره بأن يتوضأ قبل أن ينام، فيكون النوم على طهارة من القربات، ومن أفضل الأعمال، والجنب يتأكد في حقه أن ينام على طهارة كغيره، وذكر بعضهم الحكمة في ذلك، قالوا: إنه إذا نام صعدت روحه إلى السماء، فإذا كانت على طهارة أذن لها في السجود فإذا لم تكن على طهارة لم يؤذن لها، هكذا علل بعضهم، أو حكاه عن بعض السلف. والحالة الثانية: إذا لم يتيسر له الاغتسال فإنه يتوضأ والوضوء بلا شك يخفف من الحدث الأكبر، فقد ثبت أن الصحابة رضي الله عنهم يدخلون المسجد في الحلقات العلمية وعليهم جنابة بعدما يتوضئون، فيجلسون في المسجد لاستماع الفوائد. وقد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام منع الجنب من دخول المسجد؛ لقوله: (لا أحل المسجد لحائض ولا جنب) ، ولكن إذا احتاج الجنب إلى أن يدخل المسجد ويجلس فيه لحاجة، فإنه يخفف ذلك بالوضوء، فكذلك إذا أراد أن ينام يخفف الجنابة بالوضوء حتى يتمكن مما أمر الله به، ومن أجل أن يؤذن للروح بالسجود إذا صعدت. والحالة الثالثة: إذا لم يتيسر له ذلك فإنه ينام وهو جنب من غير أن يمس ماءً؛ كما ورد ذلك عن عائشة. فأكمل الحالات الغسل، ثم يليه الوضوء كما جاء في الحديث. وقد ورد أيضاً حديث آخر وفيه أمر الجنب أن يتوضأ عند الأكل، وذلك لغلظ الحدث فيخفف الحدث بالوضوء؛ لأن تناول الطعام من جملة النعم التي تحتاج أن يتناولها وهو على هيئة كاملة من الطهارة من الحدث أو تخفيف الحدث. وورد أيضاً الأمر بالوضوء عند معاودة الوطء وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا جامع أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ) ، فلأجل ذلك استحب الوضوء في هذه الأمور الثلاثة: عند النوم، وعند الأكل، وعند معاودة الوطء، والأمر فيه كما قلنا للاستحباب، ولكن آكدها الوضوء للنوم لكثرة الأدلة فيه وصراحتها.

حكم احتلام المرأة في المنام

حكم احتلام المرأة في المنام أما حديث أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها فذكرت عن أم سليم وهي أم أنس بن مالك رضي الله عنها: أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم، ولما كان هذا السؤال مما يستحيا منه، وهو أنه يتعلق بالعورات ويتعلق بالأمور الخفية، ولكن يترتب عليه حكم، وهو أنه يحصل به حدث وهذا الحدث يمنع من الصلاة، والصلاة عبادة ولا يجوز أن يتهاون بالأحداث ولا أن يترك الشيء الذي يتعلق بالطهارة لحياءٍ واحتشام، فمهدت هذا التمهيد وقدمت هذا النص وهو قولها: (إن الله لا يستحيي من الحق) أي: ليس في الدين حياء، ونحن أيضاً لا نستحيي أن نسأل عن الحق، ولو أن ذلك الذي نسأل عنه مما يستحيا منه عادة. كان سؤالها عن اغتسال المرأة إذا هي احتلمت، قد عرفوا أن الرجل إذا احتلم فإن عليه الاغتسال، فهل تقاس عليه المرأة إذا احتلمت على الرجل أم لا فالنبي عليه الصلاة والسلام أجابها بالإثبات والإيجاب، ولكن بشرط أن ترى الماء الذي يراه الرجل، يعني: أن يحصل منها الإنزال. وجه استحياء النساء من هذا السؤال، أن احتلام المرأة قليل، وأنه إذا وقع فإنه دليل على قوة شهوة تلك المرأة، سيما الاحتلام الذي يحصل منه الإنزال، ولكن لما لم يكن مستحيلاً أثبته عليه الصلاة والسلام، وأخبر بأن المرأة شقيقة الرجل. لما سألت أم سليم هذا السؤال قالت لها أم سلمة: (فضحت النساء تربت يمينك، فعند ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أنت تربت يمينك، ثم قال: إن النساء شقائق الرجال) ، وفي بعض الروايات: (أن أم سلمة غطت وجهها وقالت: يا رسول الله! أو تحتلم المرأة؟!) ، يعني: هل يتصور أن يوجد منها الاحتلام؟! فقال: (نعم، فبما يشبهها ولدها) ، يعني: أن الولد تارة يكون ذكراً فيشبه أباه، ويكون أنثى فيشبه أمه، فهذا يدل على أنه يكون مخلوقاً من ماءين: ماء الرجل، وماء المرأة، فالمرأة يكون منها إنزال الماء ويخلق منه الجنين، وكذلك من ماء الرجل أيضاً. على كل حال المرأة لها شهوة كشهوة الرجل، ويتصور منها أن يوجد منها الاحتلام في المنام كما يتصور من الرجل، ويمكن أيضاً أن يحصل مع الاحتلام إنزال، يعني: نزول سائل وإن لم يكن مثلما ينزل من الرجل في كثرته وفي غلظته، ولكنه مع ذلك يعطى نفس الحكم، فإذا احتلمت المرأة وأنزلت المني وإن كان خفيفاً، فإن عليها الاغتسال كما على الرجل تماماً.

حكم المني وصفة إزالته من الثوب وغيره، ومقدار الماء الرافع للجنابة

حكم المني وصفة إزالته من الثوب وغيره، ومقدار الماء الرافع للجنابة قال المؤلف: [عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أغسل الجنابة من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخرج إلى الصلاة وإن بقع الماء في ثوبه) ، وفي لفظ لـ مسلم: (لقد كنت أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فركاً، فيصلي فيه) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جلس بين شعبها الأربع، ثم جهدها، فقد وجب الغسل) ، وفي لفظ لـ مسلم: (وإن لم ينزل) . وعن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهما: (أنه كان هو وأبوه عند جابر بن عبد الله رضي الله عنهما وعنده قوم فسألوه عن الغسل فقال: يكفيك صاع، فقال رجل: ما يكفيني، فقال جابر: كان يكفي من هو أوفى منك شعراً وخير منك -يريد النبي صلى الله عليه وسلم- ثم أمنا في ثوب) ، وفي لفظ: (كان صلى الله عليه وسلم يفرغ الماء على رأسه ثلاثاً) . قال رضي الله عنه: الرجل الذي قال: ما يكفيني هو الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأبوه محمد بن الحنفية] . الحديث الأول: يتعلق بالمني وحكمه. قول عائشة: (كنت أغسل الجنابة من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخرج إلى الصلاة وإن بقع الماء في ثوبه) ، تريد أثر المني، أي: ما يخرج عند الجماع من المني فيصيب البدن ويصيب الثوب، وقد استدل بالغسل من يقول: إن المني نجس، وهذا قول جماعة من الفقهاء، وعللوا بأنه خارج من أحد السبيلين، وبأنه قد يخالط البول والبول نجس، وبأنه مستقذر عادة فلا بد أن يكون نجساً، واستدلوا بهذه الأحاديث التي فيها أن عائشة كانت تغسله، والغسل لا يكون إلا لنجاسة تقع على الثوب. ولكن وردت روايات كثيرة في صحيح مسلم وفي غيره تدل على عدم غسله والاقتصار على فركه، فقد ثبت أنها قالت: (كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، وفي بعض الروايات: (لقد كنت أحته من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم) والحت والحك والفرك لا يزيل أثره كلياً.

أقوال العلماء في طهارة المني ونجاسته

أقوال العلماء في طهارة المني ونجاسته المني: هو الماء الدافق الذي يخرج من الإنسان عند الاحتلام أو عند الجماع، وهو ماء لزج أصفر غليظ، وهو الذي يخلق منه الإنسان كما في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} [الواقعة:58-59] ، وفي قوله: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى} [القيامة:37-39] ، هذا المني يخرج عند اشتداد الشهوة، وقد يخرج عند المداعبة، ويخرج عند الوطء، ويخرج في الاحتلام، فيخرج من الإنسان بشهوة وتدفق. وهو يوجب الغسل إذا خرج بشهوة وتدفق، وأما إذا خرج يسيل سيلاناً كالبول فلا يوجب الغسل، فإن كثيراً من الناس قد يخرج منه بعد البول قطرات مني تسمى: ودياً هي مني، ولكنها تخرج تسيل فيسمى ودياً، فهذا حكمه حكم البول؛ لأنه يتقدمه. وإذا عرفنا هذا المني فنقول: الصحيح أنه طاهر ولكن يغسل من باب الاحتياط، ومن باب النظافة للثياب، ومن باب إزالة أثره حتى لا يرى في ثياب الإنسان بعد الاحتلام أو نحوه، وفركها له أيضاً دليل على إزالة أثره، والحرص على أن لا يرى في الثياب، فالفرك معلوم أنه لا يطهره؛ لأنه إنما يتساقط منه ما كان متجمداً على الثوب، وأما ما تشرب به الثوب فإنه يبقى بلا شك، واستدل على أنه طاهر بأحاديث الفرك. ومن العلماء من قال: إنه نجس نجاسة مخففة، تلك النجاسة تطهر بالغسل وبالفرك وبالحك وبالحت ونحو ذلك. ومنهم من فرق بين يابسه فيفرك، وبين رطبه فيغسل، يعني: ما دام رطباً فإنه نجس فيغسل، وعليه تحمل أحاديث الغسل، وإذا يبس وتجمد اكتفي بفركه فيطهر بالفرك، وإذا كان فيه هذا الاختلاف الكثير فإن على الإنسان أن يحتاط فيزيله مهما استطاع، فيغسله إن كان رطباً ويفركه أو يغسله إن كان يابساً؛ حتى يتخلص من شيء وقع فيه خلاف طويل بين العلماء. وإذا أصاب البدن فإنه أيضاً يغسل، وقد مر بنا في أحاديث الاغتسال أنه عليه الصلاة والسلام لما غسل فرجه ضرب بيده الأرض أو الحائط ليزيل عنها اللزوجة، وذكرنا: أن ذلك لكونه غسل أثر المني من يده فبقي فيها لزوجة من أثر المني، فأراد أن يزيل ذلك بالتراب، فدل على أنه يبدأ به، فإذا اغتسل الإنسان وعلى ثيابه شيء من المني حرص على إزالته، وإذا كان على بدنه شيء من المني حرص على تطهيره وإزالته، ثم يغتسل بعده.

ذكر بعض الأحكام المترتبة على الإيلاج

ذكر بعض الأحكام المترتبة على الإيلاج أما الحديث بعده فيتعلق بموجب الغسل، وهو الجماع، ولا شك أن الجماع يسبب الجنابة، قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة:6] ، والجنب هو الذي عليه حدث أكبر، وهذا الحدث يحصل بسبب الجماع أو الاحتلام أو ما أشبه ذلك، فإذا جامع وأنزل فإن عليه الاغتسال اتفاقاً، ولكن اختلف فيما إذا جامع ولم ينزل، كما إذا أعجل مثلاً أو أنه لم يحصل منه الإنزال، فهل عليه أن يغتسل أم لا؟ رويت أحاديث كثيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في ترك الاغتسال مع عدم الإنزال، وقال: (إنما الماء من الماء) ، يعني: ماء الاغتسال يجب بوجود الماء الذي هو نزول المني، ولما طرق على رجل من الأنصار وكان على امرأته فقام قبل أن ينزل فاغتسل، قال عليه السلام: (إذا أعجل أحدكم أو أقحط فعليه أن يغسل ما أصابه منها) ، ولم يأمره بالاغتسال، قالوا: فهذه الأحاديث التي فيها أن الماء من الماء كانت رخصة في أول الإسلام لقلة الثياب ولضعف الحال، فلما وسع الله عليهم، عند ذلك أمروا بأن يغتسلوا من الجماع، ولو لم يكن هناك إنزال. فثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل) ، يعني: إذا أولج الرجل إلى أن غيب رأس الذكر ووصل إلى محل الختان فقد وجب الغسل، كذلك هذا الحديث الذي عندنا: (إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها) ، وشعبها: يداها ورجلاها، عادة أنه يجلس عليها، ثم بعد ذلك يجهدها بقوته، فإذا فعل ذلك عادة أنه يولج بعض الإيلاج، فإذا حصل أن أولج إلى أن التقى الختانان فإن هذا من موجبات الاغتسال. بل تترتب عليه الأحكام كلها، فيترتب عليه الحد فلو أن الزاني لم ينزل ولكن حصل منه أن أولج رأس الذكر، فإنه يجب به الحد، فيرجم إن كان محصناً ويجلد إن كان غير محصن، فما دام أنه يجب به الحد فكذلك يجب به الاغتسال، وهكذا أيضاً إذا دخل بالمرأة وجامعها وإن لم ينزل، يعني: لو أولج رأس الذكر ثم جهدها ولم ينزل فإنه يستقر عليه الصداق، حتى لو كان الصداق مائة ألف أو أكثر فإنه يستقر بهذا، وكذلك يوجب العدة ونحو ذلك من الأحكام. فكذلك نقول: يوجب الاغتسال ولو لم يكن هناك إنزال، وقد صرح بذلك في الرواية الأخرى، في قوله: (وإن لم ينزل) . معلوم أن الإنزال هو الأصل وأن الإنسان يحصل له فتور بعد الإنزال وبعد خروج المني، ولا تبرد شهوته غالباً إلا بالإنزال، فبعض الناس ينزل وإن لم يجامع، وبعضهم يجامع ولا ينزل، ولكن تبرد شهوته بذلك ويسمى جماعاً، فالجميع من موجبات الاغتسال. هذا هو الصحيح الذي دل عليه هذا الحديث وغيره من الأحاديث، وهو الذي استقر عليه عمل الصحابة آخر الأمر، وانقطع الخلاف الذي كان قديماً بينهم.

الاغتسال بصاع والوضوء بمد

الاغتسال بصاع والوضوء بمد بعد أن عرفنا موجب الغسل فقد تقدمت لنا أحاديث في صفة الغسل، ولكن عندنا الآن حديث في مقدار ماء الغسل، في هذا الحديث أن جابراً رضي الله عنه لما سئل عن مقدار الغسل قال: (يكفيك صاع) ، أي: صاع من الماء، والصاع مكيال معروف، ولما اعترض رجل وهو الحسن بن محمد ابن الحنفية وقال: (لا يكفيني وذكر أن شعر رأسه كثير فلا يكفيه الصاع، فأخبره جابر أنه كان يكفي من هو أكثر منه شعراً وخيراً منه، يعني: النبي صلى الله عليه وسلم. قد ذكرت عائشة، (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد) يعني: أن المد وهو ربع الصاع كان يكفيه للوضوء عليه الصلاة والسلام، وأما للاغتسال فإنه كان يغتسل بصاع، يعني: بأربعة أمداد أو خمسة أمداد. وبذلك يعرف أنه عليه الصلاة والسلام كان حريصاً على الاقتصاد وعدم الإسراف حتى في الماء، كما روي أنه مر على سعد وهو يتوضأ فقال: (لا تسرف، فقال: وهل في الماء إسراف؟ قال: نعم وإن كنت على نهر جار) ، يعني: أنك مأمور بأن تقتصد، فاقتصاره عليه الصلاة والسلام على مد في الوضوء وعلى صاع في الاغتسال دليل على الاكتفاء بهذا القدر، حتى ولو كانت المياه متوافرة وكثيرة. وفي الحديث: (أنه عليه الصلاة والسلام أفاض على رأسه ثلاثاً) يعني: أنه يبدأ برأسه فيغرف عليه ثلاث غرفات، كل غرفة ترويه ويدلكه بها ثم يغسل بقية جسده إلى أن يبلغ جسده كله بالماء، وهذا هو الغسل الكامل كما تقدمت بعض صفاته، والذين يكررون الدلك ويبالغون فيه قد يكون بعضهم معذوراً بالحرص على الإسباغ والتبليغ، وبعضهم ليس بمعذور؛ لما يقع فيه من الإسراف وكثرة صب الماء، ومع ذلك فلا بأس أن يدلك الإنسان جسده لغرض النظافة وإزالة الأوساخ والأقذار إذا كان بعيد العهد بالاغتسال، وخاف أن يكون في بدنه شيء من الوسخ. وأما غسل الجنابة فإن القدر الكافي منه هو ما ذكرنا، وهو مقدار اغتسال النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا كان يغتسل تحت الرشاش الذي يصب فوقه، حرص أيضاً على أن لا يضيع الماء وأن يكون بقدر ما يبلغ جسده، ثم يتحفظ عن الزيادة التي لا حاجة إليها، إلا إذا احتاج إلى دلك لإزالة وسخ أو قذر أو نحو ذلك. فهذه الأحاديث كلها تتعلق ببقية الغسل، يعني: الحديث الذي يتعلق بآثار الجنابة وهو المني، والذي يتعلق بموجبها والذي يتعلق بكيفية إزالتها.

شرح عمدة الأحكام [6]

شرح عمدة الأحكام [6] مما اختص الله به هذه الأمة دون غيرها مشروعية التيمم، وذلك من التوسعة عليها ومن وضع الآصار والأغلال عنها، ولكن قد يسيء بعض الناس استخدام هذه الرخصة والتوسعة، ولذلك يجب على المسلم أن يتعلم أحكامها وشروطها كما بين ذلك العلماء.

مشروعية التيمم وصفته وأحكامه

مشروعية التيمم وصفته وأحكامه قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب التيمم: عن عمران بن حصين رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً معتزلاً لم يصل في القوم، فقال: يا فلان! ما منعك أن تصلي في القوم؟ فقال: يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء. فقال: عليك بالصعيد فإنه يكفيك) . وعن عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال: (بعثني النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة، فأجنبت فلم أجد الماء، فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال: إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا. ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه) ] . هذا باب التيمم، والمراد به التطهر بالتراب عند فقد الماء كما هو معروف، وسمي تيمماً للأمر به كما في قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا} [المائدة:6] ، فلما سماه الله تيمماً أخذوا اسمه من هذه الكلمة. وسبب نزول الآيات في مشروعية التيمم، أنهم كانوا مسافرين في غزوة من الغزوات، ولما كانوا ذات ليلة في مكان سقط عقد لـ عائشة في الليل، فأمرهم النبي عليه الصلاة والسلام أن ينيخوا رواحلهم، فباتوا وليس معهم ماء يتوضئون به، فأنزل الله في تلك الليلة آية التيمم، وفيها يقول أسيد بن حضير لـ عائشة: (ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، ما نزل بكم أمر أو شدة إلا جعل الله لكم منه مخرجاً، وجعل الله للمسلمين فيه خيراً) . وقد ورد في الأحاديث أنه من خصائص هذه الأمة، يعني: أن من خصائص هذه الأمة التيمم بالتراب، قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة:6] . قوله: (يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) ، التطهير بهذا التراب تطهير معنوي، وذلك أن المسلم يستحضر أن ربه سبحانه أمره باستعمال التراب فيمسح به وجهه وكفيه، فهو يقصد ذلك امتثالاً لأمر الله.

التيمم يرفع الحدثين

التيمم يرفع الحدثين ويرتفع بالتيمم الحدث الذي على البدن، سواء كان حدثاً أكبر أو أصغر؛ وذلك لأن الله تعالى ذكر الحدث الأصغر بقوله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [المائدة:6] فالحدث الأصغر هو الذي يرتفع بالوضوء، وذكر الحدث الأكبر بقوله: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [المائدة:6] ، وهو الذي يوجب الغسل، لكن عند عدم وجود الماء أو تعذر استعماله فكلا الحدثين يرتفع بالتيمم. قوله: (فَتَيَمَّمُوا) يعني: فاقصدوا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه. فجعل الله هذا التيمم رافعاً للحدث، وجعله طهوراً معنوياً يحصل به نفع ويحصل به استباحة الصلاة، وإن لم يكن فيه تنظيف للبدن ولا إزالة للوسخ ولا غير ذلك من أنواع النظافة، ولكنه تطهير معنوي جعله الله تعالى توسعة؛ لأنه لما فرض الوضوء والغسل فهو يعلم أن الماء قد ينعدم في بعض الأحيان أو يتعذر استعماله، فجعل له بدلاً وهو التراب، وإلا فالأصل أن الطهارة تكون بالماء، وقد ذكر الله في نفس الآية إعواز الماء في قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [المائدة:6] ولهذا ذكر العلماء من شروط العدول إلى التيمم: أن يكون قد بحث عن الماء في رحله وفيما كان قريباً منه ولم يجده، أو وجده وكان قليلاً وهو بحاجة إليه للشرب أو للطبخ أو نحو ذلك، فحينئذٍ يعدل إلى التيمم، ففيه رخصة وفيه توسعة. والتيمم يحصل من الحدثين الأصغر والأكبر، فالآية نزلت في الأصغر عندما كانوا مسافرين وانعدم الماء واحتاجوا إلى الوضوء، فأمرهم بأن يتيمموا، فجعل التيمم بدلاً عن الوضوء الذي هو غسل الأعضاء الظاهرة، وذكر في الآية نفسها موجب الغسل في قوله: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [المائدة:6] فإن الملامسة هي الجماع، والجماع موجب للغسل لا الوضوء، فتكون الآية اشتملت على رفع التيمم للحدث الأصغر الذي يوجب الوضوء، ورفعه للحدث الأكبر الذي يوجب الغسل. والأحاديث التي عندنا تتعلق بالغسل، فإن حديث عمران في الغسل، وذلك أن بعض الصحابة تعاظموا أن التيمم يرفع الحدث الأكبر، فقالوا: كيف يرتفع غسل البدن كله بمسح الوجه وبمسح الكفين؟! فلأجل ذلك اعتزل ذلك الرجل الصلاة، فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم وقد صلى بأصحابه وإذا بالرجل معتزلاً جالساً، فاستنكر جلوسه وتركه للصلاة، فسأله لماذا تركت الصلاة؟ فاعتذر ذلك الرجل بأن عليه حدثاً أكبر، وأنه أصابته جنابة من آثار احتلام أو نحوه، وليس معه ماء يكفيه للاغتسال، فعند ذلك أمره بأن يتيمم فقال: (عليك بالصعيد فإنه يكفيك) ، والصعيد هو المذكور في قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة:6] .

تفسير الصعيد الطيب المجزئ للتيمم

تفسير الصعيد الطيب المجزئ للتيمم وقد اختلف العلماء في تفسير الصعيد، والصحيح أنه وجه الأرض المستوية الذي عليه تراب يمكن أن يمسح منه، وسمي بذلك لصعوده على وجه الأرض، أو لأنه يتصاعد منه تراب يعلق باليد، أو أنه إذا أتته الريح تصاعد منه التراب والغبار ونحوه، وقد يطلق الصعيد على وجه الأرض المستوية، كما في قوله تعالى: {فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} [الكهف:40] ، يعني: مستوية ليس فيها أشجار ولا ثمار، فأصبح الصعيد هو المستوي من الأرض، فإذاً التيمم يكون من التراب المستوي من الأرض. اشترط بعض العلماء أن يكون له غبار، وأخذ هذا الشرط من قوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة:6] قالوا: إن كلمة: (منه) تدل على التبعيض، وأنه يعلق منه غبار في اليد يمسح منه الوجه ويمسح منه الكف، فإذا كان لا غبار فيه لم يكن هناك تمسح منه. والصحيح أنه لا يشترط ذلك وإنما يكفي ضرب الأرض إذا كانت مستوية وفيها تراب ونحوه. ويكثر السؤال عن الأماكن التي قد يعوز فيها التراب، يعني: المساجد المبلطة أو المفروشة مثلاً، والشوارع المسفلتة التي لا يوجد فيها تراب، والصحيح أنه يجوز ضرب وجه مثل هذه الأرض؛ لأن ذلك يصدق عليه أنه صعيد، ولكن لا بد أن يكون طاهراً حيث اشترط الله الطيب بقوله: (صَعِيدًا طَيِّبًا) ، فإذا كانت نجسة لم تجز التيمم منها، فلو ضرب الأرض باليدين وتلك الأرض نجسة أو فيها قذر أو نحو ذلك، فإنه لا يصح التيمم به. وإذا كان المكان فيه فراش أو نحوه وفيه شيء من الغبار كفى أن يضرب وجه الأرض حتى يتطاير منه الغبار، وإذا لم يكن فيه غبار ولم يجد مكاناً يتيمم منه فإنه يأتي بتراب ليتيمم منه. وإذا لم يستطع إحضار التراب صلى ولو بدون تيمم، وذلك كالمرضى الذين يكونون في المستشفيات لا يجدون التراب ولا يستطيعون الوصول إلى الماء فهم معذورون، وقد ذكر الله تعالى المرض من جملة الأعذار كما في قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [المائدة:6] ، خص المرضى وإن كانوا يجدون الماء، وذكر المسافر لأنه غالباً يفقد الماء. فالمريض قد يصعب عليه استعمال الماء، وقد لا يستطيع الوصول إلى أماكن المياه، وقد لا يستطيع أيضاً غسل أعضائه من شدة المرض؛ فله أن يتيمم، فإذا كان على سرير والسرير عليه فراش نظيف ليس فيه غبار، فيمكن إحضار تراب له في طست أو في إناء ليضرب عليه، فإذا لم يتيسر كبعض المستشفيات التي يمنع فيها إحضار التراب ونحوه، فإنه إن استطاع أن يضرب الفراش ولو بدون غبار فعل، وإلا صلى على حسب حاله ولو بدون تيمم أو بدون تراب. والحاصل أن التيمم لا يكون إلا من الصعيد؛ وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (عليك بالصعيد، فإنه يكفيك) ، وكما في الآية: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ} [المائدة:6] ، فإذا لم يتيسر صلى على حسب حاله.

بيان إجزاء التيمم عن الغسل في حديث عمار

بيان إجزاء التيمم عن الغسل في حديث عمار وفي الحديث الثاني أيضاً الدلالة على أنه يكون من الحدث الأكبر، فإن عمار بن ياسر لما احتلم وكان في سفر وليس عنده ماء، وقد عرف أن الوضوء يقوم بدله مسح الوجه واليدين بالتراب، فاعتقد أن الغسل لا يقوم بدله إلا مسح البدن كله بالتراب، فتمرغ في الصعيد وتقلب فيه كما تفعل الدابة التي تتمرغ في التراب. وهذا ظن منه أنه لا يقوم مقام الغسل إلا التمرغ الكامل في التراب، وهذا من باب القياس، ولكن بيَّن له النبي صلى الله عليه وسلم أن الآية ليس فيها إلا مسح الوجه واليدين، مع ذكر الحدث الأكبر في قوله: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ منه} [المائدة:6] ، فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أن صفة التيمم أن يضرب الأرض بيديه وأن يمسح بهما وجهه ويمسح كفيه.

عدد ضربات التيمم

عدد ضربات التيمم وقد اختلف في عدد الضربات، وحديث عمار ليس فيه إلا ضربة واحدة، وهو أصح من غيره. لكن ورد أحاديث فيها مقال منها قوله: (التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين) ، فإن اقتصر على ضربة واحدة مسح وجهه براحته، ومسح كفيه بأصابعه، وخلل أصابعه وأدخل بعضها في بعض حتى يكون قد عمم. فالغبار الذي على الراحتين يمسح به وجهه، والغبار الذي على الأصابع يمسح به ظاهر الكفين وباطنهما وداخل الأصابع، وإن ضرب ضربتين فلا بأس، ضربة يمسح بها وجهه، وضربة ليديه.

حد اليدين في المسح عليهما عند التيمم

حد اليدين في المسح عليهما عند التيمم وأما حد اليدين، فالآية فيها إطلاق: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [المائدة:6] ، ولم يقل: إلى الكوع، ولم يقل: إلى المرفق، ولم يقل: إلى المنكب. فجاء في بعض الروايات: (التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين) ، فذهبت الشافعية وغيرهم إلى أنه يمسح يديه إلى المرافق، والمرفق: هو المفصل الذي بين الذراع والعضد، وهو الذي يغسل إليه في الوضوء، ولكن في حديث عمار أنه اقتصر على مسح الكفين، والكف: هو الراحة والأصابع وما اتصل بها إلى المفصل، وفي بعض الروايات تحديده إلى الكوع، والكوع: هو المفصل الذي بين الكف والذراع، وقد يقال: إن الكوع هو طرف المفصل مما يلي الإبهام، والكرسوع: طرف المفصل مما يلي الخنصر، وهذا هو الراجح. في حديث عمار أنه مسح كفيه واقتصر عليهما، وهذا هو الذي اختاره الإمام أحمد.

اشتراط النية وضرب الصعيد في صحة التيمم

اشتراط النية وضرب الصعيد في صحة التيمم وبكل حال لا بد من النية كما تقدم، ولا بد أن يكون هناك مسح. ولهذا يقول العلماء: لو أن إنساناً صمد بوجهه أمام الريح فألقت في وجهه تراباً لم يكفه ذلك ولو مسح به؛ لأنه ما أخذه من وجه الأرض، والله يقول: (فَتَيَمَّمُوا) أي: فاقصدوا، ويقول: (فَامْسَحُوا) . فلا بد أن يقصد ضرب الأرض ويستعمل التمسح الذي أمر الله تعالى به، ويكون المسح مرة واحدة، فلا يطلب فيه التكرار كما ورد في الوضوء، بل يقتصر على مرة واحدة؛ وذلك لأن القصد منه التعبد، والطهارة به طهارة معنوية وليست طهارة حسية كالطهارة بالماء، إنما هي طهارة معنوية، ولذلك كان لا بد من النية حتى يتم الامتثال.

شرح حديث (أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي)

شرح حديث (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي) قال المؤلف رحمه الله: [عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة) ] . هذا الحديث أورده المؤلف في باب التيمم، حيث ذكر فيه التيمم بتراب الأرض، ويعتبر هذا الحديث دالاً على ميزة وفضل وشرف لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وفيه ذكر الخصائص التي اختصه الله بها وهي خمس في هذا الحديث، ولكن لا يدل ذلك على الحصر، بل له خصائص أخرى سواء اختص بها عن الأنبياء قبله، أو اختص بها عن أفراد الأمة. ذكر العلماء من خصائصه الشيء الكثير، وسرد ذلك البيهقي في أول كتاب النكاح، حيث أنه اختص بأشياء في النكاح منها ما في قوله تعالى: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50] ، ومنها جمعه بين تسع نسوة، وهذه الخصال دالة على ما فضله الله به على الأنبياء قبله.

الخصلة الأولى: نصرته عليه الصلاة والسلام بالرعب مسيرة شهر

الخصلة الأولى: نصرته عليه الصلاة والسلام بالرعب مسيرة شهر فالخصلة الأولى قوله: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر) . الرعب: هو الخوف الذي يكون في قلوب الأعداء بسبب غزو الرسول صلى الله عليه وسلم لهم، فالله يجعل في قلوبهم رعباً منه وخوفاً وفرقاً، بحيث إنهم لا يقدمون على قتاله ولا يصبرون على مواجهته، بل يتفرقون وينخذلون وينهزمون ويتبعثر جمعهم، وذلك نصر من الله تعالى وتأييد له حتى يتم أمر الله ويعلو دينه،؛ لأن الله تعالى قد وعده بإظهار هذا الدين كما في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33] . فلما وعده بإظهار هذا الدين عرف بأن للدين أعداء وله مقاومين وحسدة يحسدونه على ظهوره وعلوه؛ وذلك لأنهم يفارقون مألوفاتهم إذا اعتنقوه، ويتركون دين أسلافهم وآبائهم وعقائد أجدادهم، فيفرق بينهم وبين ما هم عليه، فلما كان كذلك كان ولا بد أن يوجد من يعادي هذا الإسلام ويحول دون انتشاره، فإذا هم النبي عليه الصلاة والسلام بغزو أولئك الأعداء قذف الله في قلوبهم الرعب، وألقى عليهم الخوف والفرق، فتفرقوا وذهبوا، وإن قاتلوا لم يصمدوا للقائه ولا لمقاتلته. قد أخبر الله عز وجل بشيء من ذلك كما في قصة بني النضير، في قول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الحشر:2] أي: الخوف والفزع، فلم يطمئنوا حتى هربوا وفارقوا ديارهم؛ وذلك بسبب هذا الرعب. وهكذا لما تحزبت الأحزاب وأحدقوا بالمدينة في سنة خمس بقيادة أبي سفيان ومن معه من قريش ومن غطفان ومن سائر المشركين، فلما اشتد حصارهم قذف الله تعالى في قلوبهم الرعب، وكذلك في قلوب من عاونهم فقال تعالى: {إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب:9] ، إلى قوله: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا} [الأحزاب:26] ، كل ذلك من آثار هذا الرعب. والصحيح عند العلماء أن هذا الرعب باق في قلوب أعداء الإسلام، سواء كان الذي يقاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم أو صحابته أو من هو على دينه، فمتى صمد المسلمون لقتال عدوهم، ومتى حققوا إسلامهم وصححوا عقيدتهم، وسلموا من الدخل والدخن ومن الاضطراب في المعتقد؛ فإن الله تعالى سيلقي في قلوب أعدائهم الرعب والخوف؛ تحقيقاً لوعد الله تعالى بنصر نبيه: (نصرت بالرعب) . قوله: (مسيرة شهر) يعني: إذا هم بغزو قوم وبينه وبينهم مسيرة شهر على الأقدام وعلى الرواحل؛ فإن أولئك الأعداء يخافونه وبينهم وبينه هذه المسافة، ولا يصبرون على مقابلته، وكذلك يكون حالهم مع أتباعه.

الخصلة الثانية: جعل الله الأرض مسجدا وطهورا لنبيه وأمته

الخصلة الثانية: جعل الله الأرض مسجداً وطهوراً لنبيه وأمته الخصلة الثانية هي الشاهد من باب التيمم، وهي قوله: (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) . قوله: (وجعلت لي الأرض) يعني: وجه الأرض. قوله: (مسجداً) المسجد هو الموضع الصالح للسجود عليه والصلاة فيه. قوله: (طهوراً) : والطهور معناه ما يتطهر به. يعني: أن الله تعالى فضل هذه الأمة ونبيها بأن أباح لهم أن يصلوا إذا أدركتهم الصلاة في أي بقعة، قد كان الأمم قبلنا لا يصلون إلا في كنائسهم وصوامعهم وبيعهم ومعابدهم وأديارهم، فلا يصلي أحدهم إلا في ديره الخاص به أو نحو ذلك، ولكن الله تعالى وسع على هذه الأمة، فالمسافر إذا أدركته الصلاة فلا يؤخرها، بل يصليها في أي بقعه من الأرض الطاهرة التي ليس فيها شيء مما نهي عن الصلاة فيه، إذ الأصل أن كل بقعة من الأرض تصلح أن تكون مصلى للمسلم إذا أدركته الصلاة. سمعت أن بعض الناس يحتج على جواز الصلاة في البيوت وفي الأسواق، ولكن ليس في هذا حجة، إنما الحديث حجة في أن المصلي إذا أدركته الصلاة وليس هناك موضع مخصص له، فإنه يصلي في تلك البقعة، أما إذا كان هناك مواضع للصلاة كالمساجد المبنية المهيأة لها، فإن المساجد إنما بنيت لأجل عمارتها بطاعة الله تعالى، والكلام على هذا ليس هذا موضعه. وأما كون الأرض طهوراً فمعناه أن من فقد الماء فإنه يتطهر بالتراب كما في آية التطهر به، وهي قول الله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة:6] ، إلى قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة:6] . سمى النبي صلى الله عليه وسلم الأرض طهوراً؛ لأن التيمم بها يرفع الحدث، والحدث هو ما يقوم بالبدن عند وجود ناقض من النواقض، فإذا انتقض وضوء الإنسان ولم يجد ماءً جاز له أن يتيمم بالتراب، ويقوم ذلك مقام الماء، توسعة من الله تعالى، ولم يكن ذلك في الأمم قبلنا، فإنهم لا يرتفع حدثهم إلا الماء ولا يباح لهم أن يتيمموا بالتراب، فعلم الله المشقة التي تنال الأمة لأجل فقد الماء فأباح لهم أن يتيمموا وأن يحبسوا ما معهم من الماء لطعامهم وشرابهم وغيرها. ولكن لا ينبغي التساهل في هذا غاية التساهل، فإن كثيراً من الناس يتيممون والماء قريب منهم أو معهم، فالماء إنما جعل ليطهر البدن طهارة ظاهرة، والماء لا شك أنه يرفع الأحداث ويزيل الأخباث ويطهر النجاسات، والتراب إنما هو مبيح للصلاة ورافع للحدث رفعاً مؤقتاً، وبشرط أن لا يوجد ماء؛ لقوله تعالى في الآية الكريمة: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [المائدة:6] ، فإذاً لا يباح التيمم مع وجود الماء أو مع القرب منه أو مع توافره وتيسره. ذكر لي كثير من الإخوان أنهم خرجوا مع أناس والماء معهم كثير، حيث كان معهم سيارات محملة بالماء أو خزانات أو نحوها ملأى بالماء ومع ذلك يتيممون، هؤلاء لا يجوز لهم التيمم والحال هذه؛ لأن التيمم إنما شرع عند فقد الماء وهؤلاء معهم المياه التي في السيارات وفي الأواني الكبيرة، ولو كانوا سيجلسون مثلاً أربعة أيام أو خمسة أيام، ولكن ما دام معهم هذا الماء بهذه الكثرة فلا يحل لهم التيمم. وذكر أنهم يغسلون الأواني غسلاً بليغاً، فإذا أكلوا أو شربوا في إناء فإنهم يصبون عليه ماءً كثيراً، وإذا أكل أحدهم وغسل يديه غسلهما بماء كثير يتجاوز ما يتوضأ به الإنسان أو يغتسل به، ومع ذلك يتيممون إذا حضر وقت الصلاة، فلا شك أن هذا خطأ وأنه توسع في شيء ليس فيه هذا التوسع. كما ذكر أيضاً أن معهم عدداً من السيارات، وأن المياه قد تكون قريبة منهم، أو البلاد التي هم حولها قد تبعد عنهم نصف ساعة أو ساعة بالسيارة أو ما أشبه ذلك، وأنهم متى بدا لأحدهم غرض أو شراء شيء كنعل مثلاً أو ملح أو كبريت أو ما أشبهه حركوا لأجله سيارة، فإذا كان كذلك فباستطاعتهم إذا قل عليهم الماء أن يرسلوا سيارة ويأتوا بماء في براميلهم ولا يكون عليهم حينئذ نقص، ولو غابت السيارة يوماً من أجل الإتيان بالماء، فإذاً لا يجوز لهم التيمم. قد عرفنا بعضاً من المسافرين يحملون معهم الماء ويتوضئون به إذا كان في إمكانهم أن يصلوا إلى الماء بعد ثلاث ساعات، مع أنهم يسيرون على الأقدام وعلى الرواحل، وأدركنا أيضاً بعض أهل البوادي يرسلون إلى الماء لأجل الوضوء يوماً ذهاباً ويوماً إياباً، فيرسلون الراوي ليرتوي لهم فيغيب عنهم يومين، والماء في ذلك الوقت في غاية الصعوبة، وإنما يؤتى به في القرب، ومع ذلك لا يتيممون. فإذاً: لا ينبغي التوسع في مثل هذا، بل إذا خرج جماعة للنزهة وكان معهم هذا الماء فليستعملوه في الوضوء ولا يتيمموا والماء معهم بهذه الكثرة، أما إذا كانت المسافة طويلة أو كان هناك صعوبة في تحصيله أو يوجد ولكن بثمن رفيع، فحينئذ لا بأس بأن يعدلوا إلى التيمم؛ لأنهم معذورون في ذلك.

الخصلة الثالثة: إباحة الغنائم للرسول صلى الله عليه وسلم ولأمته

الخصلة الثالثة: إباحة الغنائم للرسول صلى الله عليه وسلم ولأمته قوله: (وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي) : الغنائم: غنائم المقاتلين، فإذا قاتل المسلمون أعداءهم وانتصروا عليهم فهربوا وتركوا أموالهم من دواب ومن أمتعة ومن مدخرات ونحو ذلك، وأخذها المسلمون واستولوا عليها وتقاسموها بينهم، فقد أباحها الله تعالى لهم كما في قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّبًا} [الأنفال:69] ، وقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ من شيء} [الأنفال:41] ، يعني: اعلموا أن ما استوليتم عليه من الغنائم: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال:41] ، فعرف بذلك أن الغنيمة كانت محرمة على الأمم قبلنا، وكانوا إذا غنموا جمعوا الغنيمة، فتنزل عليها نار فتحرقها، أما هذه الأمة فإن الله علم ضعفها فأباح لها التمتع بها والتملك لها.

الخصلة الرابعة: اختصاصه عليه الصلاة والسلام بالشفاعة العظمى يوم القيامة

الخصلة الرابعة: اختصاصه عليه الصلاة والسلام بالشفاعة العظمى يوم القيامة قوله: (وأعطيت الشفاعة) : الشفاعة: المراد بها هنا نوع من أنواع الشفاعة وهي الشفاعة العظمى، وسيأتينا أقسام الشفاعة في توحيد العقيدة وأن النبي صلى الله عليه وسلم له عدة شفاعات، ولكن أكبرها هي الشفاعة التي يتخلى عنها أولو العزم من الرسل حتى تصل إليه صلى الله عليه وسلم، وهي الشفاعة العظمى، وتكون عندما يطول بالناس الموقف فيستشفعون بالأنبياء فيقولون: ائتوا آدم، فيقولون: يا آدم اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه، ثم يأتون نوحاً عندما يعتذر آدم، فيقولون له كذلك، ثم يأتون إبراهيم ثم موسى ثم عيسى -هؤلاء هم أولو العزم- ثم يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: (أنا لها) . هذه هي الشفاعة العظمى، وفسرت بالمقام المحمود كما في قوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79] ، ولا شك أنها ميزة وفضيلة وخصيصة عظيمة له يوم القيامة يحمده بها الأولون والآخرون، هذه خصلة من الخصال التي ميزه الله تعالى بها وفضله على غيره من الأنبياء قبله.

الخصلة الخامسة: إرساله وبعثه صلى الله عليه وسلم إلى الناس عامة

الخصلة الخامسة: إرساله وبعثه صلى الله عليه وسلم إلى الناس عامة قوله صلى الله عليه وسلم: (وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة) : يعني: أن كل نبي بعث إلى قومه خاصة، قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} [نوح:1] ، وقال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} [الأعراف:65] ، يعني: أخاهم في النسب، {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} [الأعراف:73] يعني: في النسب أيضاً، {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} [الأعراف:85] يعني في النسب أيضاً. وبذلك كان كل نبي منهم يدعو قومه فيقول: {يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [نوح:2] كما في قول نوح، وهود كما في قول الله تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:65] فدعا قومه، فدل على أن رسالته خاصة بقومه، أما نبينا عليه الصلاة والسلام فقد فضل بفضائل كثيرة، منها عموم رسالته وبقاؤها واستمرارها إلى قيام الساعة. أما عمومها فلأنه بعث إلى الأسود والأحمر، وبعث إلى القاصي والداني، قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158] ، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ:28] يعني: أرسلناك للناس كافة أي: لكل الناس، وقال تعالى: {لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19] أي: من بلغه القرآن فمحمد صلى الله عليه وسلم مرسل إليه. وأخبر عليه الصلاة والسلام عن عموم رسالته بقوله: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي، أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني ثم لا يؤمن بي، إلا أدخله الله النار) ، فهذه خصوصية. وأما بقاء شريعته واستمرارها إلى يوم القيامة فلأنه خاتم الرسل والأنبياء.

ذكر ما لا يجوز التيمم به

ذكر ما لا يجوز التيمم به والشاهد من حديث جابر ما بينه في الخصلة الثانية من كونه جعلت له الأرض مسجداً وطهوراً، يعني يتطهر بالتراب كما يتطهر بالماء. وقد بين العلماء أن هذا العموم قد يستثنى منه بعض الأشياء، وذلك لأنه جاء في بعض روايات الحديث: (وجعلت تربتها طهوراً) ، فخص التربة، فقالوا: إذاً لا يتيمم إلا بالتراب، ولكن الصحيح أيضاً أنه يتيمم بالرمل، ولو لم يكن له غبار، ومعلوم أن الرمل لا غبار له ولكنه يعلق باليد، فكل شيء يعلق باليد إما غبار وإما رمل فإنه يتيمم به. وأما وجه الأرض على ما قاله بعضهم فلا، يعني كونه يتيمم بكل ما تصعد على وجه الأرض وأخذوا ذلك من قوله: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا} [المائدة:6] . لكن نقول: لو كان مثلاً على صخرة، وكان في إمكانه أن ينزل ويجد تراباً فإنه لا يتيمم منها إلا إذا لم يجد غيرها. واشترط بعضهم التراب؛ لأن الله قال: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة:6] قالوا: كلمة: (منه) تدل على التبعيض، أي: أنه لا بد أن يعلق باليد شيء منه حتى يمسح به. واستثنوا ما كان نجساً فلا يجوز أن يتيمم بالأرض النجسة؛ لأن الله اشترط طيبها، في قوله: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة:6] ، فإذا كانت نجسة فليست صعيداً طيباً. وكذلك إذا كانت محترقة كالرماد مثلاً فلا يتيمم به؛ لأنه لا يوصف بأنه طيب، وهكذا كل شيء محرق كالنورة وما أشبهها، وهكذا أيضاً ما ليس بتراب، كدقيق الحنطة ولو كان على وجه الأرض؛ لأنه لم يكن تراباً، ولم يكن من وجه الأرض ولا من الصعيد. فإذاً التيمم خاص بما كان على وجه الأرض مما هو من أجزائها ومما هو ملتصق بها. وفي هذا القدر كفاية لمعرفة ما أباح الله تعالى التيمم به، ومعرفة الحكمة والعلة التي لأجلها أبيح التيمم.

شرح عمدة الأحكام [7]

شرح عمدة الأحكام [7] الحيض أمر جبلي كتبه الله على النساء لحكمة ومنفعة، ويتعلق به كثير من الأحكام، حيث تمنع الحائض من بعض العبادات، وتؤمر بترك بعض العبادات، وقد بينها الفقهاء في كتبهم، كما بينوا أحكام الاستحاضة التي قد تستمر في المرأة ولا تنقطع.

ذكر أحاديث الحيض

ذكر أحاديث الحيض قال المؤلف رحمه الله: [باب الحيض: عن عائشة رضي الله عنها: أن فاطمة بنت أبي حبيش سألت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: (إني أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ قال: لا، إن ذلك عرق، ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلي وصلي) ، وفي رواية: (وليس بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة فيها، فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي) . وعن عائشة رضي الله عنها: (أن أم حبيبة استحيضت سبع سنين، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأمرها أن تغتسل فقال: هذا عرق، فكانت تغتسل لكل صلاة) ] .

تعريف الحيض والحكمة من إيجاد الله له

تعريف الحيض والحكمة من إيجاد الله له هذا باب الحيض، وعرفه العلماء: بأنه دم طبيعة وجبلة يرخيه الرحم في أوقات معلومة، خلقه الله تعالى في إناث البشر لحكمة تغذية الجنين في الرحم، فإذا حملت المرأة توقف خروجه وانصرف إلى تغذية جنينها في بطنها، فإذا لم تكن حاملاً فإنه يخرج في أيام معلومة لحكمة. يتكلم العلماء عليه وذلك لأن له أحكاماً، ولأنه يتعلق به عبادات وأمور في حق الرجال وفي حق النساء، فلذلك يتعلمه الرجال وتتعلمه النساء ليكونوا على بصيرة، ولا حياء في ذكره، ولو كان خاصاً بالنساء، ولو كان يخرج من مخرج البول، ولو كان دماً نجساً ومستقذراً، فلا يستحيا من ذكره ولا من الكلام فيه؛ وأيضاً فهو الأصل في غذاء الإنسان في الرحم فإذا علقت المرأة بالجنين صار ذلك الدم غذاءً لجنينها حيث يتغذى به من سرته، وينمو به جسده، وينبت عليه النبات الذي قدره الله تعالى، فإذا وضعت حملها وخرج الدم المحتبس فإنه يخرج في أيام النفاس، ثم يتوقف دم الحيض غالباً عن أكثر النساء، أين يذهب؟ يقلبه الله لبناً يخرج من الثديين، ولهذا إذا كانت المرضعة ترضع ولدها من ثدييها فإنها لا تحيض غالباً، نعم بعض من النساء تحيض ولكن الأكثر إذا كانت ترضع ولدها أنه يتوقف عنها دم الحيض، ويقلبه الله تعالى لبناً، فإذا فطم ولدها عاد إليها هذا الدم، ثم إذا علقت بحمل ثان توقف الحيض وهكذا.

ذكر مجمل ما يتعلق بالحيض من الأحكام

ذكر مجمل ما يتعلق بالحيض من الأحكام ذكر العلماء أنه يتعلق بالحيض كثير من الأحكام: الأول: تحريم وطء الحائض، قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة:222] ، فأمر باعتزالهن، وعلل ذلك بأنه أذى، فلذلك يحرم وطء المرأة وهي حائض لهذه الآية ولغيرها من الأدلة، ويأتي الكلام حول هذا. الثاني: تحريم العبادة على الحائض كالصلاة والصوم، يعني: أنها لا تصلي ولا تصوم، ويأتينا أنها تقضي الصيام ولا تقضي الصلاة، وذلك لحكم نتعرض لها إن شاء الله في شرح بعض الأحاديث. الثالث: أنه يتعلق به العدة؛ وذلك لقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] ، فدل على أن له حكماً في اعتداد المطلقة. الرابع: تحريم الطلاق في حال الحيض، وعللوا ذلك بتعليلات مذكورة في كتب الأحكام، ومنها هذا الكتاب. ومن الأحكام التي تتعلق بأمر الحيض ما يختص بالنساء: الأول: المنع من دخول المسجد، فالمرأة إذا كانت حائضاً فلا تدخل المسجد إلا لضرورة. الثاني: الحائض لا تقرأ القرآن. الثالث: الحائض لا تمس المصحف وإن رخص لها أحياناً، وغير ذلك من الأحكام. فلما تعلقت به أحكام كثيرة احتاج العلماء أن يتوسعوا فيه، وقد كتب فيه العلماء مؤلفات حتى إن بعضهم كتب فيما يتعلق بالحيض كتاباً يتكون من مجلدين كبيرين وذكر الخلاف الذي وقع فيه، وذلك دليل على أنه أمر مهم ولو أنه من خواص النساء.

أحكام الاستحاضة

أحكام الاستحاضة ثم مما يقع للنساء في الحيض ما تضمنته هذه الأحاديث، وهو أن بعضاً من النساء قد يطبق عليها الدم ويستمر ولا ينقطع، ويسمى ذلك استحاضة وفي هذا الحديث حديث فاطمة بنت أبي حبيش ذكرت أنها امرأة تستحاض ولا تطهر، يعني: يستمر معها الدم ولا ينقطع، فهل تترك الصلاة دائماً ما دام أنها نجسة بهذا الدم المستمر؟ فأرشدها النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن هذا عرق، أي: دم عرق وليس هو دم حيض الذي ذكر الله أنه أذى، وأنه خلق لأجل تغذية الجنين ونحو ذلك. ذكر العلماء في بعض الروايات أن هذا العرق يسمى: العاذل، وهو عرق ينفجر من رحم المرأة، فهو يجري في غير أوانه ويستمر خروجه ولا يتوقف؛ وقد يكون ذلك بسبب مرض في بعض النساء؛ وقد يكون ذلك بسبب قوة بدنها أو كثرة غذائها أو نحو ذلك من الأسباب، فيختلط عليها دم الحيض بدم الاستحاضة.

حكم المستحاضة التي لها عادة مستقرة

حكم المستحاضة التي لها عادة مستقرة أرشد النبي صلى الله عليه وسلم المستحاضة في هذا الحديث إلى أن تترك الصلاة قدر أيام عادتها ثم تتطهر وتصلي؛ وذلك لأن الغالب أن المرأة إذا ابتدأت حيضها، فإنها تستمر فيه مدة معينة، فتكون حيضتها قدر الأيام التي يأتيها فيه الحيض ثم ينقطع، فهذه عادتها، وهي قد تطول تارة وتقصر تارة، ولكن الغالب أنها تستمر على حالة محددة معينة، فمنهن من تكون أيام حيضها ستة أيام ثم ينقطع، ومنهن من تستمر إلى سبعة أيام، ومنهن من قد تصل إلى عشرة، وأكثر ما وصل إليه الحيض اليقيني خمسة عشر يوماً، أي أنه وجد من تحيض خمسة عشر يوماً، وأقل الحيض من يكون حيضها يوماً وليلة، ومنهن من تحيض يومين، وإن كان نادراً، وصول المرأة في حيضها إلى خمسة عشر يوماً، وكذلك طهرها بعد يوم أو يومين، والغالب خمسة أيام أو ستة أو سبعة أو ثمانية، هذا أغلب النساء وأكثرهن. فالمرأة إذا مكثت مثلاً عشر سنين وهي على عادة مستمرة، بأن يأتيها الحيض سبعة أيام ثم ينقطع وتطهر، ثم يرجع إليها بعد حين ويبقى معها سبعة أيام ثم ينقطع وتطهر وتغتسل، فإذا مكثت على هذا عشر سنين أو أكثر أو أقل تكون عرفت بذلك عادتها، فإذا اختلف عليها الأمر فيما بعد وأطبق عليها الدم فماذا تفعل؟ ترجع إلى عادتها فتجلس قدر أيامها المعتادة ثم تغسل عنها الدم، ثم تغتسل ثم تصلي، ولكن تتطهر من الدم الذي قد يصيب بدنها أو ثيابها وتصلي ولو كان جارياً لم ينقطع، هكذا ورد في هذا الحديث في قوله: (إنما ذلك عرق وليس بالحيضة) ، يعني: أن ذلك الدم ليس هو دم حيضة إنما هو دم عرق انفجر. قوله: (فإذا أقبلت الحيضة) يعني: إذا جاء وقتها الذي تعرفينه (فدعي الصلاة، فإذا ذهب قدرها) أي: قدر الحيضة المعتادة سواء كان خمسة أيام، أو ستة، أو سبعة، (فاغسلي عنك الدم وصلي) ، هكذا أمرها.

حكم المستحاضة المميزة

حكم المستحاضة المميزة ورد أيضاً في رواية ثانية أنه بين لها الفرق بين الدمين وأنه قال لها: (إن دم الحيض أسود يعرف وإن دم الاستحاضة أحمر، فإذا أقبل دم الحيض فدعي الصلاة، وإذا أدبر فاغتسلي وصلي) . والنساء يعرفن الدم الذي هو دم الحيض المعتاد، فمنهن من يكون دمها أسود غليظاً فيختلط بأحمر رقيق، فيكون الأسود هو الحيض، والأحمر هو الاستحاضة، ومنهن من يكون دم حيضها أحمر تعرف أنه دم الحيض المعتاد الأحمر، ولكنه متوسط الغلظة ليس بغليظ ولا برقيق، ويكون الدم الذي يخالطه دماً شديد الحمرة أو دماً خفيفاً ليس بغليظ، فتعرف دم الحيض من دم الاستحاضة، وهذه أيضاً تجلس مدة الحيض وتترك الصلاة، ثم تتطهر وتصلي، وتسمى هذه: المميزة، أي: التي تميز دم الحيض عن الاستحاضة. لذلك يقولون: إن المستحاضة لها ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن تكون معتادة وهو معرفتها لعادتها عند كل شهر، فإذا جاءت أيام عادتها تركت الصلاة ثم اغتسلت وصلت بقية الشهر، وسواء كان شهرها هلالياً أو أكثر، يعني: منهن من يكون شهرها عشرين يوماً تحيض منه خمسة أيام وتطهر خمسة عشر يوماً، ثم تحيض خمسة أيام وتطهر خمسة عشر يوماً، ثم تحيض خمسة أيام وتطهر خمسة عشر يوماً، فهذه شهرها عشرون يوماً. ومنهن من يكون شهرها خمسة وثلاثين يوماً، تحيض سبعة أيام وتطهر ثمانية وعشرين يوماً، ثم تحيض سبعة أيام وتطهر ثمانية وعشرين وهكذا، فيكون شهرها خمسة وثلاثين يوماً، فشهرها هو الذي يأتيها فيه طهر وحيض كاملان. فإذا كانت قد اعتادت وعرفت أن أيام طهرها خمسة وعشرون يوماً وأيام حيضها سبعة أيام فكان شهرها اثنين وثلاثين يوماً، ففي كل اثنين وثلاثين يوماً طهر وحيض، فتجلس بضعة أيام وتصلي خمسة وعشرين يوماً وهكذا، وهذه تسمى: المعتادة التي عرفت عادتها.

حكم المستحاضة المتحيرة

حكم المستحاضة المتحيرة أما المرأة التي قد تنسى عادتها، أو لا تكون عادتها مستمرة بل أحياناً تكون خمسة أيام وأحياناً ستة وأحياناً أربعة وأحياناً ثمانية، ثم بعد ذلك يختلط عليها الأمر ويطبق عليها الدم، فمثل هذه إذا كانت تعرف دم الحيض بأنه أسود وغليظ ودم الاستحاضة بأنه أحمر رقيق، فإنها تسمى مميزة، وهي الحالة الثانية، وهذه المميزة تعمل بالتمييز الصحيح. ولكن قد يوجد في النساء من لا تميز، بل يختلط عليها الدم فلا تعرف هذا من هذا، ولا تميز رقيقاً من غليظ ولا أحمر من أسود، وليست عادتها مطردة بل تتقدم وتتأخر، تارة في أول الشهر وتارة في وسطه وتارة في آخره، أو أنها تارة تستمر خمسة وتارة ستة وتارة سبعة، فليس لها عادة بينة مستقرة، فمثل هذه تسمى المتحيرة، وهي التي لم تعرف ماذا تفعله. فمثل هذه تجلس عادة نسائها، كأمها وجدتها وأختها وخالتها ونحوهن، فإذا كانت عادتهن سبعة أيام جلستها من كل شهر هلالي، فكلما دخل الشهر الهلالي جلست ستة أيام أو سبعة أيام قدر عادة نسائها واغتسلت بقية الشهر الهلالي وصلت فيه، ويحكم بأن شهرها هو من أول الشهر الهلالي إلى آخره.

اختلاف العادة بسبب اللولب أو حبوب منع الحمل

اختلاف العادة بسبب اللولب أو حبوب منع الحمل وجد في هذه الأزمنة موانع الحيض، وذلك باستعمال الحبوب التي توقف خروج دم الحيض، وهذه الحبوب قد تؤثر على عادتها بحيث إنها تقدمها أو تؤخرها أو تزيدها أو تغيرها، فيحصل بذلك التباس على كثير من النساء، هذا سبب من أسباب التغير. وهناك سبب آخر موجود في هذه الأزمنة، وهو أن الكثير من النساء تركب ما يسمى باللولب الذي تقصد به منع الحمل، ثم هذا اللولب يكدر عليها أيضاً عادتها، بحيث إن الدم يخرج قليلاً ولكنه يزيد في المدة، فبدل ما كانت تحيض سبعة أيام يكون حيضها عشرة أيام أو نحو ذلك؛ بسبب تقليل خروجه من استعمال اللولب ونحوه، فيكون هذا أيضاً من الأسباب التي تغير على النساء عادتهن. ففي حالة استعمالها للحبوب وفي حالة استعمالها للولب نقول: ما دام الدم دم حيض فدعي الصلاة ولو زاد، فإذا كان يأتيها الحيض قبل تركيب اللولب سبعة أيام وبعد تركيبه عشرة أيام فإنها تجلس العشرة كلها؛ لأن أول الدم وآخره سواء، ومن المشايخ من يقول: بل لا تزيد عن عادتها التي هي السبعة الأولى؛ وذلك لأن هذه الزيادة ما حصلت إلا بسبب هي التي فعلته؛ فلا تترك الصلاة لأجله، أي أنهم يقولون ذلك من باب الاحتياط، مع أن أول الدم وآخره سواء لا فرق بين اليوم الأول والآخر في كون هذا دماً وهذا دماً، وهذا جارياً وهذا جارياً، ولا زيادة لهذا ولا نقص. وأما تأخر الحيض بسبب تعاطي حبوب المنع، فلا شك أنها إذا تأخرت فإنها تصلي، وتستعمل النساء هذا المانع لتأخير الحيض أو لمنع الحمل أو نحو ذلك، فإذا توقف ولم يجر معها شيء قلنا: لا تترك الصلاة ما دام أنها لم يخرج منها دم، ولكن إذا تركت موانع الحيض ورجع إليها الدم، نقول: ما دام أنه رجع وهو بصفته فإنها تترك الصلاة لوجود المانع الذي هو الحيض.

حكم اغتسال المستحاضة لكل صلاة

حكم اغتسال المستحاضة لكل صلاة المستحاضة التي يجري معها الدم، قلنا: إنها لا تترك الصلاة في بقية الأيام، فماذا تفعل؟ في الحديث أن أم حبيبة استحيضت سبع سنين فسألت النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرها أن تغتسل فكانت تغتسل لكل صلاة. فالنبي أمرها أن تغتسل؛ ولكن متى؟ أمرها أن تغتسل بعد أيام حيضها وبقية الأيام تتوضأ، كما أمر فاطمة بنت أبي حبيش أن تتوضأ لكل صلاة، والصحيح أنه لا يلزمها أن تغتسل لكل صلاة لما فيه من المشقة، ولكن فعلت ذلك أم حبيبة من باب الاحتياط، حيث عرفت أنها ستصبر على المشقة ولو كان في ذلك ما فيه، فكانت تغتسل لكل صلاة. وفي بعض الروايات (أنه عليه الصلاة والسلام أرشدها إلى أن تجمع بين الصلاتين -جمعاً صورياً- وتغتسل لهما) ، وذلك بأن تؤخر الظهر وتعجل العصر وتغتسل لهما غسلاً واحداً فتؤدي الظهر في آخر وقتها والعصر في أول وقتها، وتؤخر المغرب وتعجل العشاء وتغتسل غسلاً واحداً تصلي به المغرب في آخر وقتها والعشاء في أول وقتها، وتغتسل للفجر، فتغتسل كل يوم ثلاث مرات وذلك أخف من خمس، فإن شق ذلك عليها اقتصرت على أن تتوضأ ولكن عندما تريد الصلاة. ومع جريان الدم عليها أن تتحفظ فتغسل فرجها وتعصبه، وفي هذه الأزمنة توجد الحفائظ التي تلبسها النساء، بحيث إنها تمنع الخارج من أن يلوث ثيابها أو بدنها، فإذا تحفظت بهذه الحفائظ صلت ما شاءت ما دام الوقت باقياً، فتصلي فروضاً ونوافل، فإذا دخل الوقت الثاني جددت الوضوء بمنزلة صاحب السلس الذي حدثه دائم، فإنه يتوضأ لكل صلاة. كذلك المستحاضة تتوضأ لكل صلاة عملاً بحديث فاطمة بنت أبي حبيش الذي في البخاري: (أنه أمرها بأن تتوضأ لكل صلاة) ؛ وذلك لأن هذا حدث مستمر عفي عنه في الوقت للمشقة، يعني: أنه قد يخرج وهي في نفس الصلاة، فلو أمرناها أن تقطع الصلاة لشق عليها، فكان ذلك سبباً في التخفيف عليها في الصلاة.

ما تمنع منه الحائض وما يباح لها

ما تمنع منه الحائض وما يباح لها قال المؤلف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، كلانا جنب، وكان يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض، وكان يخرج رأسه إلي وهو معتكف فأغسله وأنا حائض) . وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكأ في حجري وأنا حائض، فيقرأ القرآن) . وعن معاذة بنت عبد الله قالت: سألت عائشة رضي الله عنها فقلت: (ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: أحرورية أنت؟! فقلت: لست بحرورية، ولكني أسأل، فقالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة) ] . هذه الأحاديث رويت عن عائشة رضي الله عنها، في هذا دليل على أنها رضي الله عنها اهتمت بما يختص بالنساء كالحيض ونحو ذلك، فنقلت للأمة هذه الأحكام وهذه الفوائد؛ لتكون نبراساً ونوراً يسيرون على نهجه.

حكم اغتسال المرأة والرجل من إناء واحد

حكم اغتسال المرأة والرجل من إناء واحد ففي الحديث الأول خصلتان متعلقتان بالحيض وخصلة عامة. فذكرت: (أنها كانت تغتسل هي والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد كلاهما جنب) فاستدل العلماء بذلك على جواز غسل الرجل وامرأته من إناء واحد، وقد ذكرت: أنهما تختلف فيه أيديهما، وأن ذلك الإناء يقال له: الفَرَق يسع ثلاثة آصع، حتى إذا كان في آخره يقول: (دعي لي وتقول: دع لي، أي: اترك لي بقية. فيجوز للزوجان أن يغتسلا معاً، وكانت البيوت في ذلك الوقت ليس فيها أنوار ولا مصابيح، فيكونون في زاوية من الحجرة ويتجردان وكلاهما على جانب من الإناء، فكلاهما يغترف ويصب على رأسه وجسده ويدلكه إلى أن يعمم جسده بالماء؛ لتطهيره من الجنابة، فلا بأس بذلك، مع أنه يجوز للزوجين أن ينظر كل منهما إلى عورة الآخر، فالزوج له أن ينظر إلى جسد امرأته وكذلك المرأة لها أن تنظر إلى جسد زوجها كله، ولذلك قالت عائشة: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت، ما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه) ؛ لأنه يحل لهن أن يكشفن على جسده. ومع ذلك ما دام أن كلاهما جالس وكلاهما يغترف وكلاهما مقابل للآخر، والمكان ليس فيه ضياء ولا نور، فلا يلزم أن تبدو العورة. وقد أمر المغتسل بأن يتستر عن أعين الناس حتى ولو كان في الصحراء (سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الاغتسال عرياناً؟ فقال: الله أحق أن يستحيا منه) يعني: إذا كان الإنسان في الصحراء فإن عليه إذا تجرد أن يستر عورته بإزار أو بنحو ذلك؛ لأنه قد يفاجأ بمن ينظره، أو يستحيي من الله أن ينظره على تلك الحال، وإن كان الله لا يخفى عليه منه خافية.

حكم مباشرة الحائض

حكم مباشرة الحائض أما ما يتعلق بمباشرة الحائض القراءة في حجر الحائض، فإنه يباح للرجل أن يباشر امرأته وهي حائض فيما فوق الإزار، كأن يأمرها بأن تجعل إزاراً يستر ما بين السرة والركبة ثم يباشرها، يعني: يضطجع فوقها، أو يلاصقها ببشرته من فوق الإزار، حتى لا يقرب من المكان الذي منع منه وهو الفرج، والله تعالى يقول: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:222] المراد: اعتزلوا محل المحيض الذي ذكر الله أنه أذى، أي: نجس وقذر، وهو مخرج الحيض. وقد ذكر أن اليهود كانوا إذا حاضت فيهم المرأة اجتنبوها فلم يؤاكلوها ولم يجالسوها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (افعلوا كل شيء إلا النكاح) يعني: افعلوا المباشرة والمؤاكلة والمجالسة والمؤانسة والمحادثة ونحو ذلك. وقد ثبت: (أنه عليه الصلاة والسلام أمر عائشة أن تناوله الخمرة -يعني: السجادة- من المسجد، فقالت: إني حائض، فقال: إن حيضتك ليست في يدك) يعني: أن بدنك طاهر فلا نجاسة في سائر البدن، فأباح لها أن تدخل المسجد وتأتي بتلك الخمرة ليصلي عليها. فإذا كان بدنها طاهراً فلا بأس أن يضطجع الرجل إلى جانب زوجته وهي حائض، وأن تمس بشرته بشرتها، وله إذا باشرها أن يضمها ولو أنزل، إلا أنه لا يقرب من الفرج الذي هو محل الأذى، فإن المنع منه في الحديث: (افعلوا كل شيء إلا النكاح) . فثبتت هذه الأحاديث في أنه عليه الصلاة والسلام كان يباشر نساءه وهن حيض، ولا يمنعه الحيض من مباشرتهن بما فوق الإزار، وأباح ذلك لأمته، ولا ينافي ذلك قول الله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ} [البقرة:222] فإن المراد: لا تقربوا المكان المستقذر الذي هو محل خروج الأذى.

حكم ترجيل الحائض لرأس زوجها وغسله

حكم ترجيل الحائض لرأس زوجها وغسله ثم ذكرت أنه صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف كان يدني رأسه إليها وهي في حجرتها، فترجِّل رأسه وتغسله وهي حائض) ؛ وذلك لأن بدن الحائض طاهر، وفي هذا دليل على أنه يجوز للمعتكف أن يخرج بعض بدنه من المسجد لحاجة، فإنه عليه الصلاة والسلام كان له شعر ولم يكن يحلق رأسه، أي: لم يكن الحلق متوافراً عندهم، فكان يوفر شعره ويحتاج إلى تسريحه وإلى غسله وإلى ترجيله، فإذا اعتكف احتاج إلى ذلك، فيدنو برأسه إلى النافذة ويدخل رأسه وترجله، أي: تغسله وتمشطه وهي مع ذلك حائض، ولا يمنعه ذلك من أن تمسه أو يمسها. وفيه دليل على أن المعتكف إنما منع من المباشرة التي هي الوطء كما في قوله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187] ، فأما مجرد لمسها لبشرته لحاجة من غير شهوة، فلا ينافي ذلك الاعتكاف.

حكم قراءة القرآن ومس المصحف للحائض

حكم قراءة القرآن ومس المصحف للحائض وأما الحديث الثاني فقد أخبرت بأنه كان يستند إلى صدرها وهي حائض ولا يرده ذلك عن قراءة القرآن، وقد ورد نهي الحائض أن تقرأ القرآن، ورد قوله: (لا أحل المسجد لحائض ولا جنب) ، ونهي الجنب أن يقرأ القرآن ولو حرفاً، يعني على وجه التلاوة، وكذلك نهيت الحائض أن تقرأ القرآن. ولكن العلماء أباحوا لها ذلك للحاجة كما إذا خشيت أن تنسى ما حفظته فلها أن تتذكره، ولها أن تمره على قلبها دون قراءة، ولها أن تنظر إلى المصحف وتتبعه نظرها دون أن تمسه ودون أن تنطق به نطقاً ظاهراً. وأما مسها للمصحف فلا يجوز؛ وذلك لأن عليها هذا الحدث. وكذلك لها أن تقرأ الآيات التي فيها أدعية على أنها دعاء لا على أنها تلاوة، كقراءة آية الكرسي على أنها دعاء أو ورد أو حرز، وقراءة أواخر سورة البقرة وما فيه دعاء كقوله سبحانه: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} [البقرة:201] ، أو: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} [آل عمران:8] ، وما أشبه ذلك من الآيات التي فيها دعاء، فلا يدخل ذلك في النهي. ولها إذا طالت المدة كمدة النفاس أن تقرأ ما تخشى أن تنساه لتتذكره. وأبيح في هذه الأزمنة أن تحضر وقت الاختبارات إذا كانت طالبة في إحدى المدارس، وأن تجيب وأن تكتب أو تقرأ إذا كان الاختبار في قراءة أو نحو ذلك للحاجة؛ وذلك لأن الضرورات تبيح المحظورات. وأما قراءة زوجها وهو معتمد عليها ومستند إلى صدرها كما في حديث عائشة هذا الحديث فلا شك في إباحته، ولا ينافي ذلك كونها حائضاً.

قضاء الحائض للصوم دون الصلاة

قضاء الحائض للصوم دون الصلاة وأما الحديث الثالث الذي فيه قضاء الصوم دون قضاء الصلاة، فـ معاذة هذه أشكل عليها أن كلا الأمرين واجب، فالصلاة فرض والصوم فرض، ومع ذلك فإن الحائض تفطر في رمضان وتقضي أيامها التي أفطرتها وتترك جملة من الصلوات في الحيض وفي النفاس، وتبقى على هذه الحالة لا تصلي مدة طويلة، ومع ذلك لا تقضي شيئاً من هذه الصلوات. وإنما أشكل عليها ذلك لأن الصلاة أهم الأركان بعد التوحيد، بل هي عمود الدين، فقالت: لماذا لا تقضي الصلاة كما تقضي الصوم؟ ولما سألت عن ذلك، قالت لها عائشة: (أحرورية أنت؟ فقالت: لست بحرورية ولكني أسأل) . الحروريون من الخوارج، وقد كانوا يلزمون الحائض بأن تقضي الصلاة بعد طهرها، وذلك من تشددهم، والخوارج هم الذين خرجوا في عهد علي رضي الله عنه في سنة ست وثلاثين، اجتمع منهم جموع كثيرة بلغت نحو اثني عشر ألفاً ونزلوا في قرية من العراق اسمها حروراء، فينسب إليها كل خارجي وإن لم يكن من أهل حروراء. لم تذكر عائشة العلة من قضاء الصوم دون الصلاة، لكنها اقتصرت على الدليل وقالت: (كان يصيبنا ذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم -يعني: الحيض والنفاس- فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة) ، والذي إليه الأمر هو النبي عليه الصلاة والسلام، فإنه الذي أخبر بأن المرأة عليها تكاليف، وأن بعض تلك التكاليف تتركها وقت حيضها، وأن منها ما يقضى ومنها ما لا يقضى.

الحكمة من قضاء للحائض والنفساء للصوم دون الصلاة

الحكمة من قضاء للحائض والنفساء للصوم دون الصلاة الحكمة في أن الحائض تترك الصلاة وقت حيضها أنها نجسة وحدثها مستمر، ويشق عليها أن تتوضأ كل حين، فلذلك عفي عنها؛ لاستمرار هذا الحدث معها ولنجاسة بدنها، فلم يجز لها أن تفعل الصلاة، وكذلك الصوم، بل تفطر في رمضان ولو لم يكن عليها مشقة؛ وذلك لأن هذا الخارج متنجس، فينافي العبادة، والصيام عبادة. وهذا الخارج وإن لم يكن مما يتغذى به، لكنه مما يضعف البدن وينهكه، لذلك أمرت بأن تفطر في رمضان، ولكن عليها أن تحصي أيامها التي أفطرتها ثم تقضيها بعد رمضان. وأما الصلوات التي تركتها فلا قضاء عليها؛ وسبب ذلك أن إفطارها يعتبر كإفطار المريض وإفطار المسافر وأصحاب الأعذار، ومعلوم أن أصحاب الأعذار يفطرون ويحصون أيامهم ويقضون؛ لقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] ، فكذلك الحائض تقضي عدة أيامها التي أفطرتها من أيام أخر، وليس في قضاء الصوم صعوبة ولا مشقة؛ لأنها أيام قليلة وليس هناك صيام بعد ذلك، فالصيام إنما هو شهر واحد، وليس في شهر شوال صيام إلا التطوع، وكذلك الأشهر بعده، فلا مشقة في قضاء أيام الصوم. أما الصلاة فإنها تتكرر وفي قضائها شيء من الصعوبة؛ لأنها قد تكثر، فالحائض قد تترك الصلاة عشرة أيام، حيث إن الحيض قد يبلغ بإحداهن عشرة أيام وربما اثني عشر يوماً أو خمسة عشر يوماً متوالية، فيكون نصف دهرها حيضاً، فإذا ألزمناها بأن تقضي صلاة خمسة عشر يوماً شق ذلك عليها، وكذلك صلاة أربعين يوماً في النفاس فمتى تقضيها؟! مع ما قد يعتريها من الأشغال والأمراض ونحو ذلك، فمن رحمة الله أن أسقط عنها قضاء الصلوات أيام حيضها ونفاسها، واكتفى بصلاة الأيام الأخرى، فإنها إذا طهرت صلت كما يصلي غيرها. فالصلاة متكررة، يعني: كونها تركت صلاة تسعة أيام أو سبعة أو خمسة ثم طهرت، فاليوم الذي يلي الحيض تصلي فيه خمس صلوات، وهكذا كل يوم تصلي فيه خمس صلوات، مع ما يتيسر لها من النوافل، فإذاً لا مشقة في قضاء الصوم بخلاف قضاء الصلاة فإن فيه مشقة، والمشقة تستدعي التيسير والتسهيل، وبهذا علل العلماء، لكن عائشة رضي الله عنها لم تعلل وإنما اقتصرت على الدليل حيث قالت: هكذا كان يصيبنا في العهد النبوي ولا نؤمر إلا بقضاء الصوم دون الصلاة. والعلماء رحمهم الله ذكروا إلى جانب هذا الدليل التعليل؛ لأن التعليل في شيء من القناعة، ولأن الإنسان إذا سمع التعليل للحكم وللمسألة عرف الحكمة من مشروعية ذلك، وأن الشريعة ما أمرت بشيء إلا وفيه مصلحة ومنفعة محققة، هكذا بين العلماء. من ذلك نعرف أن أحكام الحيض والاستحاضة قد فصلت وذكرت في الكتاب والسنة، منها ما هو مجمل ومنها ما هو مفصل، ولكن العلماء رحمهم الله استنبطوا من ذلك جميع المسائل التي يمكن أن تقع للنساء وذكروا أحكامها في أبواب الفقه، وبينوا للناس ما تحتاج إليه المرأة في أيام حيضها بحيث لا يقع إشكال إلا ويوجد جوابه في تلك الكتب، رحمهم الله وعفا عنهم!

شرح عمدة الأحكام [8]

شرح عمدة الأحكام [8] جعل الله الصلاة على المؤمنين كتاباً موقوتاً، ولكل صلاة وقت محدد شرعاً بعلامات كونية تسهل معرفتها، والصلاة في وقتها من أحب الأعمال إلى الله عز وجل، وهناك أوقات وحالات تكره الصلاة فيها، وقد بينها أهل العلم بأدلتها.

شرح حديث: (أي الأعمال أحب إلى الله عز وجل؟ قال: الصلاة على وقتها)

شرح حديث: (أي الأعمال أحب إلى الله عز وجل؟ قال: الصلاة على وقتها) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كتاب الصلاة، باب المواقيت. عن أبي عمرو الشيباني واسمه سعد بن إياس قال: حدثني صاحب هذه الدار، وأشار بيده إلى دار عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: (أي الأعمال أحب إلى الله عزوجل؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قال: حدثني بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو استزدته لزادني) . وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الفجر فيشهد معه نساء من المؤمنات متلفعات بمرطهن، ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد من الغلس) ] . هذا مبدأ كتاب الصلاة وهو المقصد الأصلي، فإن ما تقدم من الطهارة، والوضوء، وإزالة النجاسة، والاغتسال، والتيمم، والطهارة من الحيض، وما أشبه ذلك، كل ذلك وسيلة إلى فعل الصلاة، فإنها هي العبادة المطلوبة، وإن كان العبد قد يثاب على الطهارة إذا احتسب؛ لقوله عليه الصلاة والسلام فيما يمحو الله به الخطايا: (إسباغ الوضوء على المكاره) ، فهو مما يكفر الله به الخطايا ويرفع به الدرجات، ولكن الطهارة وسيلة إلى الصلاة وشرط من شروطها.

فضل الصلاة

فضل الصلاة الصلاة تطلق على الدعاء، قال الله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103] يعني: دعاءك، هكذا أصلها في اللغة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم فيمن دعي إلى طعام: (إن كان مفطراً فليأكل، ومن كان صائماً فليصلِ) يعني: فليدعُ. وسميت هذه الصلاة عبادة لاشتمالها على الدعاء؛ لأن المصلي يدعو في صلاته إما دعاء عبادة وإما دعاء مسألة: دعاء المسألة أن يسأل ربه أن يغفر له وأن يدخله الجنة وأن ينجيه من عذابه ومن النار، ودعاء العبادة كونه يرغب في هذه العبادة؛ لأجل آثارها، فيركع لأجل الثواب، ويرفع لأجل الثواب، ويحضر ويقوم ويقعد وغير ذلك من الأفعال لأجل أن يثاب عليها، فلسان حاله داعٍ، فكأنه يقول: أتيت إلى مساجدك وإلى بيوتك -يارب- لترحمني، أنا أقوم لك وأقعد، وأركع لك وأسجد، وأخضع وأتواضع بين يديك؛ لأجل أن أحصل على ثوابك وأسلم من أليم عقابك، فهو في الحقيقة داعٍ حتى ولو لم يكن في صلاته سؤال، بل فيها ذكر وقراءة ونحو ذلك، فالصلاة كلها دعاء. شرعت هذه الصلاة لأجل إقامة ذكر الله، وذلك أن العبد كلما غفل قسا قلبه، فإذا ذكر ربه لان قلبه، ولا شك أن الصلاة تذكر بالله سبحانه فتلين بها القلوب القاسية، وكلما طالت الغفلة صعبت الطاعة، فإذا تخلل تلك الغفلة عبادة وذكر سهلت الطاعة. معلوم أن العبد الذي دائماً في غفلة مشتغل بدنياه مقبل على لهوه وسهوه مكب على شهوات بطنه وفرجه، لا يهمه إلا ما تهواه نفسه، ويقطع بذلك أكثر زمانه، فإذا دعي إلى طاعة رأى لها صعوبة، وإذا دعي إلى عبادة استثقلها، بخلاف العبد الذي قد عوّد نفسه الطاعة فإنه يجدها خفيفة يجدها سهلة، بل يتلذذ بها كما يتلذذ أهل الشهوات بشهواتهم، فهناك من يتلذذون بالتهجد الذي هو صلاة الليل كما يتلذذ الذين يسهرون ليلهم على خمورهم وعلى شهواتهم البهيمية المحرمة أو المباحة، ولا شك أن هذه لذة دينية. هذا من الحكمة في شرعية هذه الصلاة، وقد ذُكر لها مؤكدات كثيرة، وأسباب تدل على شرعيتها، حتى عدها بعضهم عشرة يطول بنا المقام لو فصلناها، وذُكرت لها حكم ومصالح تفوق العد، ولو ألفت فيها المؤلفات ما اتسعت لها. ونحن نتكلم على هذه الأحاديث التي ذكرت، ومن طلب التوسع فيها وجده.

الحكمة في توقيت الصلوات

الحكمة في توقيت الصلوات من حكمة الله سبحانه أن فرق هذه الصلوات على اليوم والليلة، ولم يجعلها في ساعة واحدة، ولا متوالية في وقت من الأوقات، بل جعلها متفرقة: فبعضها أول الليل كالمغرب والعشاء، وبعضها أول النهار كالفجر، وبعضها وسط النهار كالظهر والعصر. والحكمة في ذلك: أن يكون العبد دائماً على صلة بالعبادة؛ فلا يبعد عهده بالعبادة، كلما اشتغل بشهواته وبدنياه في وقت من الأوقات، وأحس بشيء من القسوة دخل عليه وقت من هذه الأوقات فقام إلى عبادة من العبادات تصقل قلبه وتجلو همه وغمه، وتلين طبعه، وتذكره بربه، وتذكره بالوقوف بين يديه، فيحضر فيها قلبه ويخشع ويخضع ويتواضع، ويدعو ربه سراً وجهراً، ويذكره بعد تلك الغفلة، ويتلو كلامه ويخضع إليه، فينصرف منها وقد ازداد عبادة وقد تذكر الله وعظم قدر ربه في قلبه، هذه من الحكم. وأيضاً: فإن ذلك لأجل تخفيفها، فلو أمروا بأن يصلوا سبع عشرة ركعة متوالية في وقت لكان في ذلك شيء من الثقل، وحبس لهم عن قضاء حوائجهم، ولكن أمروا بأن يصلوا كل جزءٍِ منها في وقت، فأربع في وقت، وثلاث في وقت، وركعتان في وقت وهكذا. كما أمروا أن يتقربوا بجنس هذه الصلاة حسب استطاعتهم، كما يتقربون بجنس بقية العبادات.

أدلة المواقيت من القرآن

أدلة المواقيت من القرآن ومواقيت الصلوات الخمس قد ذكرت في السنة موضحة، ووردت أيضاً إشارة إليها في القرآن، استنبطت من مثل قوله تعالى: {وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنْ اللَّيْلِ} [هود:114] فقالوا: الطرف الأول الفجر، والطرف الثاني: الظهر والعصر، أي: طرفي النهار، (وزلفاً من الليل) يعني: المغرب والعشاء، فإنهما في أول الليل. وأخذت من قوله تعالى: {أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء:78] (دلوك الشمس) : ميلها، ويدخل فيه الظهر والعصر، و (غسق الليل) : ظلمة الليل، ويدخل فيه المغرب والعشاء، (قرآن الفجر) صلاة الفجر. وأخذت من قوله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم:17-18] فقيل: (حين تمسون) صلاة المغرب والعشاء، (وتصبحون) صلاة الفجر، (وعشياً) صلاة العصر، (وحين تظهرون) صلاة الظهر، فالأوقات وجدت أدلتها في القرآن. ولا شك أن إيقاعها في وقتها هو الأكمل والأفضل، وأن تأخيرها عن وقتها يعتبر ذنباً قد يسبب نقص أجرها، وقد يسبب العقوبة عليها، وقد فسر قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4-5] بأنهم الذين يؤخرونها عن وقتها، يقول بعض السلف: أما إنهم لم يتركوها، ولو تركوها لكانوا كفاراً، ولكن أخروها عن وقتها؛ فتوعدهم الله تعالى بالويل، فدل على أن من شروطها إيقاعها في وقتها. فلا يجوز تقديمها قبل الوقت، ومن قدمها لم تجزئه، فمن صلى المغرب قبل غروب الشمس، أو صلى الفجر قبل طلوع الفجر، أو صلى الظهر قبل زوال الشمس لم تقبل منه، حيث إنه لم يجعلها في وقتها، ومن أخرها حتى خرج وقتها اعتبر مفرطاً، كالذي يصلي الفجر بعدما تطلع الشمس، أو يصلي الظهر في الليل أو ما أشبه ذلك، لا شك أن هذا قد فرط وفوت الوقت الذي شرعت فيه الصلاة.

الصلاة على وقتها أفضل الأعمال

الصلاة على وقتها أفضل الأعمال في هذا الحديث: أن ابن مسعود سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ فأخبره بأن أفضلها الصلاة على وقتها، أي: إذا صليت في وقتها، وكملت شروطها وصفاتها فهي أفضل الأعمال، يعني: بالنسبة إلى من طولب بالأعمال الصالحة، فإن أداء هذه الصلاة خير الأعمال وأفضلها، سيما إذا كملت صفاتها وهيآتها، قال: أي الأعمال أفضل؟ قال: (الصلاة على وقتها) . وورد في بعض الروايات: (الصلاة في أول وقتها) ومعناها تفضيل أول الوقت، ولكن أكثر الروايات على أن المراد الصلاة في وقتها، ومعلوم أن تقديمها في أول الوقت دليل على المحبة لها، ودليل على الهيبة، ودليل على الإقبال عليها؛ بحيث إنه لم يتوانَ ولم يتأخر، بل حينما أحس بدخول وقتها بادر وأتى بهذه الصلاة. واستثني من ذلك صلاة العشاء كما سيأتي، فالأفضل تأخيرها، وصلاة الظهر في شدة الحر، يعني: إذا كان هناك حر مزعج شديد، فيشرع تأخيرها إلى وقت الإبراد، أي: إلى أن تذهب تلك الشدة، ويخف الحر، وهذا أفضل حتى تحصل الطمأنينة، أما بقية الصلوات فتقديمها أفضل من تأخيرها.

فضل بر الوالدين والجهاد في سبيل الله

فضل بر الوالدين والجهاد في سبيل الله ابن مسعود سأل عن أفضل الأعمال، فدل على أنها الصلاة على وقتها أو في وقتها، ثم سأله عما يلي ذلك من الفضل فأخبره ببر الوالدين؛ وذلك لعظم حق الوالدين فهو قرين حق الله تعالى كما في قوله تعالى: {أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان:14] ؛ ولأن الوالدين لهما حق على ولديهما بإيجاده وبتربيته وبرعايته وحضانته ونحو ذلك، فعليه أن يبرهما ويؤدي حقهما. ثم سأل بعد ذلك عن العبادة الثالثة التي تلي بر الوالدين فدله على الجهاد في سبيل الله، يعني: قتال الكفار؛ وذلك لأنه ذروة سنام الإسلام؛ ولأنه سبب في إعلاء كلمة الله تعالى وإظهار دينه، وإعزاز المسلمين وإذلال المشركين، وفيه غير ذلك من المصالح.

شرح حديث: (كان رسول الله يصلي العشاء بغلس)

شرح حديث: (كان رسول الله يصلي العشاء بغلس) الحديث الثاني يتعلق بصلاة الفجر، وهو أنه صلى الله عليه وسلم كان يبكر لصلاة الفجر، بحيث إنه يشهد الصلاة معه نساء متلفعات بمرطهن، وينصرفن ما يعرفهن أحد من الغلس، والغلس: الظلمة، أي: اختلاط الظلمة بضياء ذلك الوقت الذي هو غلس، أي: بقية ظلمة، فهؤلاء نساء يحضرن إلى المسجد، ويصلين في طرف المسجد وهن متلففات. والمروط: جمع مرط، والمرط: الكساء والرداء التي ترتديه المرأة، وتغطي به جسدها كله، ولا يعرفها أحد حتى من تصلي إلى جنبها، يعني: تصلي اثنتان بعضهما إلى جنب بعض ولا تعرف إحداهما الأخرى؛ وذلك من الظلمة، لا يعرفها أحد لا رجل ولا امرأة وذلك لوجود الظلمة. وفي هذا الحديث دليل على جواز صلاة النساء في المسجد مع الجماعة، بشرط أن يكن متلففات ومستترات ومحتشمات لا يرى من أبدانهن شيء، ودليل على أن نساء الصحابة كن على غاية من الاحتشام، فكانت المرأة إذا خرجت في الظلمة أو في الليل خرجت في غاية من التحفظ، وكذلك في سائر الأوقات، لا يرى بدنها ولا يرى شيء من جسمها، بل تلتف بالمرط أو بالرداء أو بالكساء أو بالعباءة أو نحو ذلك من الأكسية التي تستر جميع بدنها، فلا يرى منها يد ولا قدم ولا وجه ولا رأس ولا غير ذلك؛ لأجل الاحتشام والحياء والتستر من الرجال الأجانب. وفيه دليل على التبكير لصلاة الفجر وهو الشاهد من الحديث، بحيث إنها أخبرت بأنه لا يعرفهن أحد من شدة الغلس، يعني: من شدة الظلمة التي هي بقية الليل، والتبكير لصلاة الفجر والتغليس بها هو الأفضل.

مواقيت الصلاة

مواقيت الصلاة قال المصنف: [عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة، والعصر والشمس نقية، والمغرب إذا وجبت، والعشاء أحياناً وأحياناً، إذا رآهم اجتمعوا عجل، وإذا رآهم أبطئوا أخر، والصبح كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها بغلس، والهاجرة هي: شدة الحر بعد الزوال) . وعن أبي المنهال سيار بن سلامة قال: (دخلت أنا وأبي على أبي برزة الأسلمي، فقال له أبي: حدثنا كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي المكتوبة، فقال: كان يصلي الهجير -وهي التي تدعونها الأولى- حين تدحض الشمس، ويصلي العصر ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية- ونسيت ما قال في المغرب- وكان يستحب أن يؤخر من العشاء التي تدعونها العتمة، وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها، وكان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه، وكان يقرأ فيها بالستين والمائة) ] . ورد عن رسول الله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه كثير من الأحاديث في تحديد أوقات الصلوات الخمس، وقد ذكرنا أنه قد أشير إليها في القرآن كقوله تعالى: {أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء:78] ، ومن جملة ما ورد في هذا حديثان: حديث جابر وحديث أبي برزة الأسلمي.

وقت الظهر

وقت الظهر قال جابر: كان صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة، وفي حديث أبي برزة أنه كان يصليها حين تدحض الشمس، والهاجرة فسرت بأنها شدة الحر، ولكن ذلك مشروط بما إذا زالت الشمس، أي: بعد الزوال، فالهاجرة هي وسط النهار بعد الزوال، وسميت بذلك لأن الناس حينئذ يكتنون من شدة الحر في البيوت، فكأن بعضهم يهجر بعضاً، ويكتن كل منهم في بيته عند اشتداد الحر. كان يصلي بالهاجرة: أي إذا زالت الشمس، وكانوا إذا ابتدأ اشتداد الحر يقيلون، يعني: ينامون وسط النهار وقت القيلولة، فيستيقظون قرب الزوال إذا زالت الشمس، ويتوجهون لأداء هذه الصلاة. في حديث أبي برزة أنه كان يصليها حين تدحض الشمس، والدحض هو الدلوك: {أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء:78] ، فدحضها هو ميلها إلى جهة الغروب، ومعلوم أن الشمس إذا طلعت انتصب لكل شاخص ظلال، ولا يزال ذلك الظلال ينقص ويتقلص إلى أن يتناهى قصره، فإذا تناهى قصره فذلك وقت قيام الشمس ووقوفها، فإذا ابتدأ الظل بالزيادة فذلك وقت دحوضها ووقت الزوال إذا دحضت يعني: زالت، وذلك وقت الظهر. وقد استثني من ذلك ما إذا كان هناك حر شديد، فقد كان عليه الصلاة والسلام يبرد بالظهر، ويقول: (أبردوا بالظهر) ، وفي الحديث الآخر: (إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم) فكان يأمرهم أن يبردوا؛ وذلك لأن شدة الحر قد تقلق الراحة وقد تشوش على المصلي، وقد لا يقبل على صلاته ولا يحفظ ما يقول فيها، فإذا أبرد وذهبت شدة وقوة الحر صلوها عند ذلك حتى يطمئنوا فيها. وفي هذه الأزمنة لا يوجد ذلك الحر والحمد لله؛ وذلك لوجود المكيفات والمراوح الكهربائية التي تخفف من شدة الحر، فلا يحس الناس بذلك الحر الشديد المزعج الذي يتصبب منه العرق، والذي تبتل منه الثياب فلا يطمئن المصلي في صلاته؛ فلأجل ذلك لم يروا داعياً إلى الإبراد في شدة الحر، لكن لو كان هناك بلاد ليس فيها هذه المكيفات ونحوها، فإن الإبراد مستحب في حقهم، وما ذاك إلا أن الحكم يدور مع علته، فمتى وجدت العلة وجد الحكم، أما في سائر السنة التي ليس فيها حر فإن وقت الصلاة إذا زالت الشمس، فإذا ابتدأت زيادة الظل في جهة الشرق فذلك وقت الظهر. يمتد وقت الظهر إلى دخول وقت العصر، ويقدر بأن يزيد حتى يصير ظل كل شيء مثله، ثم يدخل وقت العصر.

وقت العصر

وقت العصر في حديث جابر أنه كان يصلي العصر والشمس نقية، يعني: لم تبدأ في الاصفرار، فالشمس إذا كانت نقية لا يمكن للناظر أن ينظر إليها لقوة شعاعها، أما إذا بردت فإنه يستطيع أن ينظر إليها، ولا يكون فيها شعاع قوي، فيقول: إنه كان يصلي والشمس نقية، لم يبدأ تغيرها واصفرارها، وهذا يدل على التبكير بها، وقد وردت أدلة في التبكير بالعصر حتى قال في الحديث: (بكروا بالعصر، فإن من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله) (وتر) يعني: سلب أهله وماله، وسيأتينا بعض الأدلة في أهميتها. وذكر في حديث أبي برزة كان يصلي العصر فيذهب أحدهم إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية، أي: لم تغب، وأقصى المدينة يبعد مسيرة ساعتين على الأقدام بالسير المعتاد، يعني: أنه يقطع تلك المسافة التي هي مسيرة ساعتين بعد العصر، ويصل إلى أهله والشمس حية لم تغب مما يدل على أنه يبكر بها، أي: بين فراغه من صلاة العصر وغروب الشمس أكثر من ساعتين، هذا في النهار المعتدل وقد ينقص أحياناً إذا نقص النهار، وقد يزيد إلى ساعتين ونصف، أي: بين الفراغ من العصر وبين غروب الشمس، وذلك يختلف باختلاف طول النهار وقصره، ولكن الغالب وهو الوسط أنه يكون ساعتين ونحوها. أقصى المدينة يقال له: العوالي، وكانت تبعد هذه المسافة، وهي لا تزال موجودة وراء قباء بنحو اثنين أو ثلاثة كيلو؛ فيدل على أن المسافة طويلة. فالحاصل: أنه كان يصلي العصر مبكراً، والشمس نقية لم يدخلها شيء من التغير، ويقطعون تلك المسافة في وقت النهار يعني: في بقية النهار.

وقت المغرب

وقت المغرب أما صلاة المغرب فذكر في حديث جابر أنه كان يصليها إذا وجبت، ولم يذكر شيئاً في حديث أبي برزة، وقال: نسيت ما قال في المغرب، ولكن المشهور أنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي المغرب إذا غربت الشمس وتوارت بالحجاب، فإذا غربت عن الأعين دخل وقت المغرب. قد ذكرنا أنه يستدل على وقتها بقوله تعالى: {وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنْ اللَّيْلِ} [هود:114] وبقوله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم:17] فيدخل في (حين تمسون) صلاة المغرب، فإنها تبدأ حين دخول المساء، وفي هذا الحديث أنه كان يصليها إذا وجبت أي: غربت، يقال: وجبت الشمس أي: سقطت في المغيب، ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج:36] ، ويعبر عنه أيضاً بالتواري كقوله تعالى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص:32] يعني: احتجبت عن الأعين. كان يصليها مبكراً، فإذا تحقق من الغروب صلاها، وكان ينصرف منها والرجل يرى مواضع نبله، والنبل هي السهام التي يرمون بها، فكانوا ينصرفون من صلاة المغرب وإذا رمى أحدهم بالسهم الذي يبلغ مائتي ذراع أو نحوه يرى السهم إذا وقع في الأرض، هذا معنى (يرى مواقع نبله) ، يعني: لا يزال هناك ضياء ولم تستحكم الظلمة، مما يدل على أنه كان يبكر بها. والتبكير في صلاة المغرب يكون في أول وقتها بحيث يبقى ضوء من النهار، ولم تستحكم الظلمة، هذا هو السنة. وقال بعضهم: إنه ليس لها امتداد، ولكن الصحيح أن وقتها يمتد إلى دخول وقت العشاء، وهو وقت غروب الشفق، وهي الحمرة التي في الأفق، فهذه الحمرة إذا غربت دخل وقت العشاء، وما دامت باقية فوقت المغرب باق، ولكن السنة المبادرة والإتيان بها في أول الوقت.

وقت العشاء

وقت العشاء أما صلاة العشاء فذكر في حديث جابر أنه أحياناً يبكر بها وأحياناً يؤخرها، فإذا رأى الصحابة اجتمعوا بالمسجد عجل وصلى بهم لينصرفوا، وإذا رآهم تأخروا في بعض الأشغال أو نحوها أخرها حتى يجتمعوا ويصلي بهم، وسيأتينا أنه كان يستحب أن يؤخرها إلى نصف الليل أو إلى ثلث الليل، يعني: أن الوقت المختار التأخير لها، وأن التبكير إنما هو لأجل إزالة مشقة السهر. وذكر في حديث أبي برزة أنه كان يستحب أن يؤخرها، ويستحب تأخيرها حتى يتحقق دخول الوقت وحتى يقرب من الوقت المختار الذي هو ثلث الليل أو نصفه، فيستحب ذلك لولا أن ذلك يشق على الصبيان والنساء ونحوهم. ذكر في حديث أبي برزة أنه كان يكره النوم قبلها والحديث بعدها، فالنوم قبلها مدعاة إلى الكسل؛ لأنه إذا نام قبلها فقد يستغرق في النوم فتفوته الصلاة، وقد لا يصلي إلا بعد خروج الوقت أو خروج الوقت المختار، وإذا أوقظ في الوقت فقد يصلي ومعه الكسل والنعاس والسنة والغفلة وعدم الإقبال على الصلاة، وأهم شيء أنه غالباً قد تفوته الصلاة إذا نام قبل أذان العشاء. أما الحديث بعدها فكان عليه الصلاة والسلام ينام مبكراً أي: ساعة ما يفرغ من صلاة العشاء، وهكذا صحابته كانوا ينامون بعد صلاة العشاء مباشرة، ولا يسهرون أول الليل، واتخذوا ذلك عادة لأنهم يتحرون قيام الليل، فكانوا يقومون إذا بقي ثلث الليل الآخر أو نصف الليل الآخر للتهجد، فيعرفون أن السهر أول الليل يحول بينهم وبين قيام آخر الليل، أو على الأقل قد يؤخرهم إلى قبيل طلوع الفجر، وقد يسبب سهر الليل فوات صلاة الفجر؛ لأجل هذا كان عليه الصلاة والسلام يكره أن يتحدث أو يسهر بعد صلاة العشاء حتى لا يحبسه هذا السهر عن قيام آخر الليل. هذا سبب كراهته للتحدث بعدها، ومعناه التحدث في أمور الدنيا، وقد أباح العلماء الحديث إذا كانت المصلحة تقتضي ذلك، مثاله: إذا كان التحدث مع ضيف نزل به، أو إذا كان الحديث في بحث علمي، وفي فوائد علمية يستفيد منها الإنسان، ولا يحصل عليها إلا بذلك، فأبيح له ولو كان سبباً في حرمان قيام آخر الليل؛ لأنه حصل على خير أول الليل. وقد ذكر عن عمر رضي الله عنه أنه تمنى أن تكون صلاة التراويح في رمضان آخر الليل، فلما مر على الصحابة وهم يصلون التراويح أول الليل، قال: (التي ينامون عنها خير من التي يقومون لها) يعني: التي ينامون عنها هي صلاة آخر الليل، لكن قيام أول الليل يسهل على العامة، فليس كل واحد يتيسر له قيام آخر الليل، وبكل حال من طمع أن يقوم آخر الليل فلينم مبكراً؛ حتى يتيسر له ويقوم بسهولة؛ فينام مبكراً بعد العشاء مباشرة أو بعدها بقليل؛ ليكون ذلك عوناً له في أن يقوم في آخر الليل ويصلي ما كتب له، ويتأسى بنبيه صلى الله عليه وسلم وبسلف الأمة، وبأهل الخير.

وقت الفجر

وقت الفجر أما صلاة الفجر ففي حديث جابر أنه كان يصليها بغلس، وتقدم أن الغلس هو بقية الظلمة؛ لقول عائشة رضي الله عنها في الحديث المتقدم: (كان يشهد معه نساء متلفعات بمرطهن، فينصرفن لا يعرفهن أحد من الغلس) فالغلس بقية ظلمة الليل، وفي حديث جابر أنه كان يصليها بغلس، يعني: في ظلمة، وهذا دليل على أنه كان يبكر بها. وقال أبو برزة في حديثه: (كان ينصرف حين يعرف الرجل جليسه) كانوا يصلون في مكان مظلم، ليس عندهم سرج ولا ضياء، بحيث إذا انصرف كان قد طلع شيء من ضياء الصبح فيعرف أحدهم به من إلى جنبه ولا يعرف البعيد عنه، فكان ينصرف حين يعرف الرجل من عن يمينه أو عن يساره، هذا أقل ما فيه.

إطالة القراءة في الفجر

إطالة القراءة في الفجر هذا الحديث دليل على أنه كان يبكر بها، وفي حديث أبي برزة أنه كان يطيل القراءة فيها، فيقرأ ما بين الستين إلى المائة، أي: ستين آية إلى مائة آية، وذلك لا شك أنه إطالة بالنسبة إلى ما يفعل في هذه الأزمنة، وسيأتينا أنه عليه الصلاة والسلام كان يطيل في قراءة هذه الصلاة. والمراد ستين آية أو مائة آية من الآيات المتوسطة، مثل آيات سورة البقرة لاسيما الجزء الأول، آيات متوسطة ليست طويلة، ومثل آيات سورة الأحزاب مثلاً، لا قصيرة كآيات سورة الشعراء، بل آيات متوسطة، وأغلب آيات القرآن متوسطة، ونقول: سورة: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1] تعتبر أقل من المائة، فهي من جنس ما يقرأ في صلاة الفجر، وكذلك سورة الفرقان أقل من المائة، وكذلك أكثر سور القرآن ما عدا سورة الكهف مائة وإحدى عشرة، وكذلك سورة الإسراء أكثر من المائة بقليل لكن ما بعدهما من السورة أقل من المائة وإن زادت فتلك الزيادة لأجل قصر الآيات كسورة طه. فالحاصل: أنه يقرأ مثل سورة ((اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} [الأنبياء:1] الأنبياء، وسورة النور، وسورة المؤمنون، والفرقان، والنمل، والعنكبوت، وهكذا سور (آل حم) كلها. ويحتمل أنه يقرأ في الركعة الواحدة ستين أو مائة، ويحتمل أنه يقرأ في الركعتين معاً هذا المقدار ولعله الأقرب؛ يعني: أنه يقرأ في الركعتين مائة آية أو ستين آية على الأقل، ولا شك أن قراءته صلى الله عليه وسلم كانت متوسطة لا يطيل فيها ولا يسرع، بل يقرأ قراءة مجودة تفهم من غير أن يكون فيها إطالة شديدة، وبذلك نعرف أنه عليه الصلاة والسلام كان يبتدئ بصلاة الفجر مبكراً، ويطيل فيها القراءة، وتبعه أيضاً صحابته رضي الله عنهم، فقد ثبت أن أبا بكر رضي الله عنه صلى بهم مرة الفجر وقرأ سورة البقرة حتى أتمها، فلما انصرف قال له بعض الصحابة: كادت الشمس أن تطلع. فقال: لو طلعت لم تجدنا غافلين، يعني: أننا مشتغلون بعبادة. وثبت أيضاً أن عمر كان إذا كبر في صلاة الفجر ابتدأ بالسور الكبار كسورة يوسف أو سورة النحل يقرؤها كلها في الصلاة، وهكذا أشباهها من السور، وذلك دليل على أنهم اعتادوا على أن صلاة الفجر لها أهمية في إطالة القراءة، وسبب ذلك أنها قلت ركعاتها فزيد مقدارها، وقد سميت قرآناً في قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء:78] يعني: صلاة الفجر، فسميت باسم قرآن لأنها تطول فيها القراءة، ولأنها أيضاً لا تقصر في السفر، فهذه الأسباب جعلته يطيلها، وفيه أن الأفضل أن يبكر بها في أول وقتها. وأما الحديث المشهور عن رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر) ، فقد استدل به من يؤخرها كالحنفية، ولكن لا دلالة فيه على التأخير الشديد الذي يفعل في كثير من البلاد، إنما فيه دلالة على أنه لا يصلي إلا بعدما يتحقق من طلوع الفجر، وأنه يطيلها حتى ينصرف وقد أسفر الفجر، يعني: قد أضاء الصبح، فبذلك يكون أعظم للأجر، فمعنى: (أسفروا بالفجر) : أطيلوا القراءة حتى تنصرفوا وقد أسفر الصبح، والإسفار معناه ظهور الضياء، قال تعالى: {وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} [المدثر:34] يعني: ظهر الضياء، فهذا بيان ما جاء في الحديثين في مواقيت الصلاة.

شرح حديث: (إذا أقيمت الصلاة وحضر العشاء فابدءوا بالعشاء)

شرح حديث: (إذا أقيمت الصلاة وحضر العشاء فابدءوا بالعشاء) قال المصنف: [وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أقيمت الصلاة وحضر العشاء فابدءوا بالعشاء) ، وعن ابن عمر نحوه. ولـ مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان) . عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (شهد عندي رجال مرضيون وأرضاهم عندي عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب) . عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب) ] . حديث تقديم الطعام على الصلاة إذا حضر، المراد به -والله أعلم-إذا كانت النفس متعلقة بالطعام ومشتاقة إليه، وكان ذلك في وقت شدة جوع وجهد وفي الطعام قلة، والناس في حاجة إليه، فإن النفس تبقى مشغولة بذلك الطعام، وإذا ذهب إلى الصلاة ونفسه متعلقة بذلك الأكل لم يقبل على صلاته، ولم يطمئن فيها، وخاف ألا يبقى له طعام يكسر شوكة الجوع وحدته وشدته، فلا يقبل على صلاته؛ وذلك لأن المطلوب في الصلاة الإقبال عليها بقلب متفرغ حتى يحصل فيها الخشوع، وتحصل فيها الطمأنينة، ويحصل فيها التعقل والتأمل لما يقرؤه ويفعله، وتخشع فيها جوارحه، ويحضر قلبه ولبه في صلاته، ويتأمل الحكم التي تمر عليه، وبذلك يستفيد من صلاته، أما إذا صلى وقلبه منشغل بغيرها فإنه لا يدري ما يقول، ولا يدري ما يفعل، فينصرف من الصلاة وهو لم يدر ماذا قال، ولا بماذا قرأ ولا ماذا حصل له، فلا يستفيد من الصلاة الفائدة المطلوبة، والمطلوب في الصلاة -كما قلنا- الإقبال عليها بالقلب والقالب، فكل شيء يشغل اللب ويوجب حديث النفس ويسبب الصدود عن الإقبال عليها فإنه لا يفعله ولا يأتيه. ولأجل ذلك ينهى عن الصلاة في شدة برد مزعج لا يطمئن معه في صلاته أو في شدة حر، ويؤمر إذا اشتد الحر أن يبردوا بالصلاة حتى تنكسر شوكة الحر، وكذلك: إذا كان هناك شغل شاغل يشوش على المصلي في صلاته فإنه يباح له أن يؤخر الصلاة إلى أن يقبل على صلاته ويزيل عنه ذلك الشغل الذي يشوش عليه فكره، ويشتت عليه أمره. فالمطلوب في الصلاة أن يأتي إليها المسلم بقلب فارغ، والمطلوب من المصلي إذا أتى إلى المسجد أن يخلف الدنيا خلف ظهره، وأن يأتي إليها وقد أقبل على عبادة ربه، وجعلها شغله الشاغل وحديث نفسه حتى لا يفكر في شيء من أموره الخاصة ولا العامة، وبهذا يستفيد من صلاته الفائدة المرجوة منها.

ضوابط تقديم الطعام على الصلاة

ضوابط تقديم الطعام على الصلاة موضوع تقديم الطعام على الصلاة ذكر العلماء أن الأولين كانوا في وقت قلة من الطعام، وإذا حضر الإفطار والنفس مشتاقة إلى الأكل، وكان في الأكل والأزواد قلة فيما بينهم؛ فإذا أفطروا قدموا عشاءهم، فإذا قدموه وأقيمت الصلاة قام بعضهم ونفسه متعلقة بذلك الطعام حتى لا تفوته الصلاة، فإذا قام لأجل المحافظة على الصلاة رجع وقد أكل الطعام، ولم يبق له ما يسد جوعته، فيبقى مشوش الفكر، أولاً: لأنه صلى وقلبه متعلق بالطعام. ثانياً: لأنه لما رجع لم يجد ما يسد جوعه، فبقي كأنه متكره لتلك الصلاة التي حالت بينه وبين أن يساهم في الأكل؛ فلأجل ذلك أصبح عذراً في تأخير الصلاة. ولا شك أن هذا يعتبر عذراً مع شدة الحاجة إلى الطعام، ومع القلة في الأزواد، ومع خوف فناء الأكل، وبقاء الصائم جائعاً بلا أكل، ولذلك روي عن ابن عمر أنه كان يتعشى وهو يسمع الإقامة إذا كان صائماً؛ وذلك لأجل أن يقبل على صلاته بقلب متفرغ ولا يكون قلبه مشتغلاً بالطعام. ثم معلوم أن طعامهم وعشاءهم لم يكن مثل أطعمة الناس في هذه الأزمنة، إنما يأكلون العلقة من الطعام كما قالت عائشة: (إنما كن النساء يأكلن العلقة من الطعام) ، ويمتثلون قوله عليه الصلاة والسلام: (بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه) ، هذا أكلهم، إنما يأكلون ما يسد الرمق ويسد الجوعة، أما أنهم يستغرقون في أنواع الأطعمة فإن في هذا شيئاً من الإسراف، ثم فيه أيضاً كثير من الانشغال، فإذا كانت النفس متعلقة بالطعام فلا يقوم إلى الصلاة إلا بعدما يعطي نفسه ما يسد جوعته، وما يخفف حاجته إلى ذلك الأكل، دون إفراط وإسراف في الأكل، ودون تأخير زائد للصلاة. وكذلك أيضاً لا ينبغي أن يجعل الناس مواقيت الأكل هي مواقيت الصلاة، بحيث يعتذر أحدهم بأنه جاءه وقت الصلاة وهو يأكل وقد حضر الأكل؛ لأن للأكل مواقيت معروفة، كان الأكل فيما مضى أول النهار بعد الصبح غداء وأول الليل عشاء، بعد المغرب، هذا هو الوقت المعتاد، أما أنهم يتحرون وقت الفجر أو وقت المغرب أو وقت العصر للأكل ويعتذرون بأنهم أخروا الصلاة اشتغالاً بالأكل، ويجعلون ذلك عادة متبعة؛ فإن هذا لا يسوغ ولا يجوز، أعني: تعمد جعل وقت الطعام هو وقت الصلاة مع إمكان تقديمه أو تأخيره. وكذلك نعرف أن القصد أن ذلك في حالة قلة الأزواد والحاجة الشديدة إلى الطعام وتعلق النفس به.

النهي عن الصلاة وهو يدافعه الأخبثان

النهي عن الصلاة وهو يدافعه الأخبثان وأما قوله: (لا صلاة بحضرة طعام، ولا هو يدافعه الأخبثان) الأخبثان: البول والغائط، والمراد: أن الصلاة في حالة كونه حاقناً يعني: حاصر البول، أو محتاجاً إلى التبرز (للغائط) فإنه في تلك الحالة لا يقبل على صلاته، ولا يطمئن فيها؛ لكون ذلك الأمر مما يشوش عليه فكره، ومما يكدر عليه حالته، فلا يقبل على العبادة، فأمر والحالة هذه بأن يتخلى حتى ولو فاتته الجماعة، حتى يقبل على الصلاة فارغ القلب، حتى رفع إلى بعض العلماء Q إذا كان الإنسان في حاجة إلى التخلي-يعني: إما حاقناً وإما حاقباً- وليس عنده ماء يتوضأ به إذا تخلى، فهل يصلي حاقناً وهو على طهر أو يتبرز ويصلي متيمماً؟ فرجح أن عليه أن يتخلى ولو لم يجد ماء، ويصلي بالتيمم بعد فراغه، ومع سعة باله، ومع بعده عما يشوش عليه فكره. لا شك أن الذي يحس باحتقان البول وحرقه والحاجة إلى التخلي يبقى متشوشاً، وأن ذلك يذهب طمأنينته وإقباله على الصلاة، وقد عرفنا أن روح الصلاة ولبها هو الخشوع، وأنه لا يتصور الخشوع مع هذه الحال التي هي كونه حاقناً أو حاقباً، يعني: محتاجاً إلى إخراج البراز ونحوه، وكذلك كونه متعلقاً بأكل وبحاجة إليه أو بشراب كمن كان شديد الظمأ أو شديد الجوع أو ما أشبه ذلك. والأصل من هذه الأحاديث: أن المصلي مأمور بأن يأتي إليها وهو فارغ القلب؛ حتى يستفيد من صلاته، وينصرف وقد تأثر بالعبادة.

شرح حديث: (نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس)

شرح حديث: (نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس) الحديثان الآتيان يتعلقان بأوقات النهي الأول: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وبعد الفجر حتى تطلع) ، وفي الحديث الآخر: (لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس) وذكر أنه روي عن جملة من الصحابة، وعد منهم كما سمعنا أربعة عشر صحابياً، ومنهم أحد التابعين وهو الصنابحي، ومنهم الاثنان اللذان رويا الحديث فيكونون ستة عشر. هذه الأحاديث وإن لم تكن في الصحيح ولكنها مروية، وكثير منها ثابت ومروي بأسنايد، وقد ذكر بعضهم أنها جاءت عن أربعة وعشرين صحابياً، كلهم رووا هذه الأحاديث التي فيها النهي عن الصلاة في هذين الوقتين، وابن عباس كما سمعنا نقله عن رجال لا عن رجل قال: (حدثني رجال مرضيون وأرضاهم عندي عمر) ، وعمر رضي الله عنه هو أحد الخلفاء الراشدين، فهو أوثقهم وأشهرهم فلا جرم، فذكر أنه من جملة من روى حديث النهي عن الصلاة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس وبعد العصر حتى تغرب الشمس. والمراد بالصلاة هنا: الصلاة المطلقة التي هي تطوع، ولعل الحكمة في ذلك أن هذا وقت يصلي فيه المشركون، أو أن المصلي عندما يصلي قد يستقبل الشمس عند طلوعها، أو يستقبلها عند غروبها، فيتشبه بمن يصلي لها، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على المنافقين تأخير صلاة العصر في قوله في صفة المنافق: (تلك صلاة المنافق، يرقب الشمس حتى إذا صارت بين قرني شيطان قام فنقر أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً) وذكر أن الشمس تغرب بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها المشركون، فإذا كانت تشرق وتغرب بين قرني شيطان فإن الصلاة قد تكون مشابهة لمن يسجد لها من المشركين أو لمن يعبد الشياطين ويعظم الشياطين، والصلاة يجب أن تكون لله تعالى، والمصلي يسجد لربه لا لغير الله. وهذه الأوقات ذكروا أن فيها ما هو موسع، وفيها ما هو مضيق، فالوقت الموسع هو بعد العصر إلى أن يبقى على غروب الشمس نحو ثلث ساعة أو نصف ساعة، وما بعد ذلك فهو المضيق. وكذلك بعد الفجر موسع إلى أن تبدأ الشمس في الطلوع فيكون ذلك مضيقاً حتى ترتفع بعد إشراقها بربع ساعة أو نحو ذلك، فذلك المضيق، وهناك وقت ثالث من المضيقات وهو إذا استقلت الشمس ووقفت، وهو حين يقوم قائم الظهيرة، وقد ثبت في حديث عقبة أنه قال: (ثلاث ساعات كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن وأن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس حتى ترتفع قيد رمح، وحين تتضيف للغروب، وحين يقوم قائم الظهيرة) ، فهذه ثلاثة أوقات أكد فيها النهي، ودل على أن الوقتين الآخرين وقتان موسعان. وقد ذكر العلماء أنه يجوز في الأوقات الموسعة بعض الصلوات، فيجوز فيها قضاء الفوائت، فإذا ذكر صلاة نسيها فإنه يصليها في هذه الأوقات؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك) ، فإذا نام عن صلاة الفجر واستيقظ عند الطلوع أو قرب الطلوع صلى ساعة ما يستيقظ، وإذا نام عن صلاة العصر واستيقظ قرب الغروب صلاها ساعة ما يستيقظ؛ وذلك لأنه لم يصل، وكذلك لو تذكر مثلاً صلاة فائتة، كأن تذكر بعد العصر أن عليه صلاة ظهر أو صلاة عشاء، فليصليها ساعة ما يتذكرها ولو بعد العصر ولو بعد الفجر. أما صلاة الجنائز فتصلى في الوقتين الموسعين بعد العصر حتى يقرب الغروب وبعد الفجر حتى يقرب الشروق. أما سجود التلاوة فاختلف هل هو صلاة أم لا؟ وإذا قلنا إنه صلاة فإنه يجوز فعله في أوقات النهي لأنه من ذوات الأسباب، إذاً: يجوز فيها كلها.

الخلاف في صلاة ذوات الأسباب في أوقات الكراهة

الخلاف في صلاة ذوات الأسباب في أوقات الكراهة اختلف في بعض الصلوات التي لها سبب، فمنها: ركعتا الطواف، وهما الركعتان اللتان يصليهما إذا طاف بالبيت، فذهب أكثر العلماء إلى أنه يصليها في أوقات النهي، وروي أن عمر رضي الله عنه طاف مرة بعد الفجر، وفرغ من الطواف والشمس لم تطلع، فلم يصل الركعتين وركب بعيره وذهب حتى وضع رحله بذي طوى، وهي مسافة طويلة، وكانت الطريق من الحجون، فسار حتى وصل إلى ذي طوى، ولما وصل والشمس قد طلعت صلاهما في مكانه، وهذا دليل على أنه فهم أن صلاة ركعتي الطواف لا تصح في أوقات النهي. وروي عن بعض الصحابة أنهم كانوا يكرهون الطواف في أوقات النهي، ولكن الجمهور على أنها تصلى فيها، وأنها من ذوات الأسباب، والاحتياط في الأوقات الضيقة أنه يؤخرها، فإذا فرغ من الطواف قرب الطلوع أخرها إلى أن ترتفع الشمس قيد رمح ربع ساعة أو نحوها، وإذا فرغ من الطواف قرب الغروب أخرها حتى يتم غروب الشمس، وهكذا في الأوقات الضيقة. وكذلك اختلفوا في سنة الوضوء التي وردت في حديث بلال أنه كان إذا توضأ صلى ركعتين، فذهب بعض العلماء إلى أن من توضأ فإنه يسن له أن يصلي، ولكن الصحيح أن سنة الوضوء ليست من ذوات الأسباب؛ لأنها لم تروَ من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر عن بلال أنه كان يتوضأ في أوقات النهي، ولم يذكر أنه كان يصلي هاتين الركعتين في أوقات النهي، ولم يذكر أنه كان يصليهما ساعة ما يتوضأ، إنما ذكر أنه إذا توضأ صلى بذلك الوضوء فريضة أو نافلة. واختلف أيضاً في تحية المسجد، وهي أكثر ما ورد فيه الاختلاف، فإذا دخل الإنسان المسجد بعد الفجر أو بعد العصر، هل يجلس أو يصلي؟ قولان للعلماء، والاختيار والأقرب أنه يجوز له أن يصلي وأن يجلس ولا إنكار على من فعل أحدهما، ولكن الأفضل إذا دخل قرب الغروب أن يجلس ولا يصلي، وكذلك قرب الشروق لا يصلي حتى يخرج وقت النهي. أما بقية النوافل التي لا أسباب لها فلا خلاف أنه يمنع منها لكثرة الأحاديث، فقوله: (لا صلاة) نفي يدل على المنع، يعني: لا تجوز ولا تفعل أية صلاة في مثل هذه الأوقات حتى تزول، وقد عرفنا أن السبب في ذلك النهي عن مشابهة المشركين، وكل شيء فيه مشابهة لهم ينهى عنه المسلم، بل يبتعد عن الأشياء التي يشترك فيها مع المشركين؛ ليتميز المسلمون من الكفار، ولما كان المشركون يسجدون في هذه الأوقات أو يصلون في هذه الأوقات أو نحو ذلك نهي المسلم عن أن يفعل أفعالهم، وكذلك بقية خصائصهم، وبقية عباداتهم.

شرح حديث: صلاة النبي عليه الصلاة والسلام العصر يوم الخندق بعد الغروب

شرح حديث: صلاة النبي عليه الصلاة والسلام العصر يوم الخندق بعد الغروب قال المؤلف رحمه الله: [عن جابر رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاء يوم الخندق بعدما غربت الشمس، فجعل يسب كفار قريش وقال: (يا رسول الله! ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والله ما صليتها، قال: فقمنا إلى بطحان فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها، فصلى العصر بعدما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب) ] . هذه الحديث يتعلق بقضاء الفوائت، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة العصر بعدما دخل وقت المغرب، أي: بعدما غربت الشمس، ويعتبر هذا قضاء حيث قد خرج وقتها، وقد تقدم الحديث الذي فيه قوله صلى الله عليه وسلم: (ملأ الله قبورهم أو بيوتهم ناراً، كما شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر حتى غربت الشمس) ، وكان ذلك في غزوة الخندق عندما جاء المشركون وحاصروا النبي صلى الله عليه وسلم وأهل المدينة، وكانوا قد حفروا حولهم خندقاً، وهو متسع لا يستطيع المشركون أن يتجاوزوه بخيولهم ولا برجالهم، وإنما يتناولونهم بالسلاح من بعيد برمي أو نحوه، وكان الذي أشار عليهم بهذا الخندق هو سلمان الفارسي، وسميت الوقعة أو الغزوة غزوة الخندق أو يوم الخندق. وفي هذا أنهم أخروا الصلاة لاشتغالهم بالقتال، وكان ذلك قبل أن يؤذن لهم في صلاة الخوف، ويمكن أن يكونوا لم يتفرغوا للصلاة واعتقدوا أن القتال سيتوقف قبل خروج الوقت، واستمروا في القتال، وإلا فقد رخص الله لهم في أن يصلوا صلاة الخوف في قوله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء:102] إلى آخر الآية، وسيأتي بعض صفاتها. ورخص لهم الصلاة رجالاً وركباناً كما قال تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} [البقرة:239] يعني: صلوا على أرجلكم أو صلوا على مراكبكم تومئون إيماء بالركوع وبالسجود، ولكن قد لا يتمكنون فينشغلون انشغالاً كلياً ويؤملون أن القتال ينفصل. وفي هذه القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه أخروا صلاة العصر حتى غربت الشمس، أما عمر رضي الله عنه فإنه صلاها قبيل الغروب؛ فلهذا جعل يسب المشركين ويقول في سبب سبهم: إنا انشغلنا بهم فلم أصل العصر إلا بعدما كادت الشمس أن تغرب، أي: قرب الغروب، فالنبي صلى الله عليه وسلم أقسم أنه ما صلاها، قال: (والله ما صليتها) يعني: إلى الآن، فتوضأ الصحابة في موضع يقال له بطحان من المدينة، وتوضأ معهم، وصلى العصر بعد الغروب أربع ركعات صلاة عادية، وصلى المغرب بعدها، وفي هذا دليل على تقديم الفائتة على الحاضرة إذا كان الوقت متسعاً. يقول العلماء: يجب الترتيب إلا إذا خشي فوت الوقت الحاضر، إما إذا كان الوقت واسعاً فإنها تقدم الفائتة، فمثلاً: لو فاتتك صلاة العشاء وصلاة الفجر، وقمت قبل طلوع الشمس، وبقي على طلوع الشمس قدر صلاة ركعتين، فهل تقدم صلاة العشاء أو صلاة الفجر؟ تقدم الفجر؛ لأنك إذا اشتغلت بصلاة العشاء طلعت الشمس، فقدم صلاة الفجر؛ لأن الوقت هو وقتها، ثم صل العشاء التي قد خرج وقتها بعد الطلوع؛ لأنها تعتبر قضاء، وسواء صليتها قبل طلوع الشمس أو بعدها فهي مقضية، أما إذا كان في الإمكان أن تصلي الثنتين قبل الطلوع فصلّ العشاء؛ لأنها أقدم. ومثل ذلك: لو فاتتك الفجر والظهر والعصر، وانتبهت لها قبيل غروب الشمس، فإذا صليت الثلاث غربت الشمس قبل أن تكملها، فقدم صلاتي الجمع: الظهر والعصر وصلهما، والفجر قد فات وقته، فتصليه قضاء. أما في هذه الحالة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قدم العصر؛ لأن الوقت متسع، ثم صلى بعدها المغرب؛ لأنها لا تفوت، فرتب وجعل ذلك من باب التعليم لأمته في كيفية قضاء الصلاة إذا فاتت، وكان الوقت يتسع للمقضية وللحاضرة.

شرح عمدة الأحكام [9]

شرح عمدة الأحكام [9] صلاة الجماعة فيها فضائل كثيرة، وقد حث عليها النبي عليه الصلاة والسلام في أحاديث متكاثرة، وقد بين العلماء حكمها وأسباب المحافظة عليها. وإن من أفضل القربات أداء الرواتب من الصلوات، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فضلها ورغب فيها.

شرح حديث: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ)

شرح حديث: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ) قال المصنف رحمه الله: [باب فضل صلاة الجماعة ووجوبها: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة) ] . هذا الحديث يتعلق بفضل صلاة الجماعة، وصلاة الجماعة هي الاجتماع في المساجد لأداء الصلاة المكتوبة التي هي الصلوات الخمس، وقد دل على ذلك أدلة من القرآن كقوله تعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43] ، فإن هذا دليل على أن المعية تحصل بجماعة يصلون هذه الصلاة ويركعون فيها ويسجدون، ومن الأدلة النداء لها في قوله تعالى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة:58] فإنه دليل على النداء للناس أن هلموا إلى الصلاة؛ ولهذا المؤذن يقول بصوته: حي على الصلاة، يعني: تعالوا إلى فعل الصلاة في هذا المكان. كذلك توعد الله تعالى الذين يُدعَون إليها ولا يأتون في قوله تعالى: {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم:43] (قد كانوا يدعون) أي: في الدنيا، (إلى السجود وهم سالمون) فعوقبوا بأنهم إذا أرادوا السجود يوم القيامة فلن يستطيعوا، وحيل بينهم وبينه، فهذا دليل على شرعية أداء هذه الصلوات في هذه المساجد. وقد ذكر لها العلماء حكماً ومصالح، ولو لم يكن في اجتماع المصلين على الصلوات إلا التعارف وتفقد الأحوال لكفى، فأهل الحي يجتمعون في كل يوم خمس مرات يرى بعضهم بعضاً، ويسلم بعضهم على بعض، ويسأل بعضهم عن حال الآخر، ويتفقدون أحوال من افتقدوه، ويعرفون من هو تقي محافظ على العبادة ومن ليس كذلك، فيعرفون أهل الخير، ويشهدون لهم بالصلاح، ويقولون: فلان صاحب عبادة لا يفتقد من المساجد، يرى دائماً مواظباً على هذه الصلاة، فيشهد له بالصلاح وبالخير. هذا الاجتماع الذي يجتمعونه في كل يوم خمس مرات لأداء هذه الصلاة فيه هذا التعارف، وفيه فائدة ثانية وهي: النشاط في العبادة؛ وذلك بأن يؤديها بنشاط وبقوة لا بكسل وخمول، والعادة أن الذي يصلي وحده يقوم إلى الصلاة كسلاً يتثاءب ويتثاقل ولا يقوم إليها إلا وكأنه يدفع إليها دفعاً، وكأنما أكره عليها، بخلاف ما إذا جاء إلى المسجد فإنه يجد انشراحاً وقوة وانبساطاً، ونشاطاً في البدن ونشاطاً في القلب. وفيها مصلحة ثالثة وهي: تعلم الجاهل، فإن الإنسان قد يكون جاهلاً بأحكام الصلاة فيتعلمها بالفعل وهو أبلغ من التعلم بالقول، والتعلم بالقول هو أن تقول في صفة الصلاة: إذا قمت فكبر، واجعل ركوعك أخفض من سجودك، واسجد على سبعة أعضاء، وهذا قد يعلمه الإنسان ولكن يبقى عليه التصور، فإذا تعلم بالفعل بأن كبر مع الإمام وركع معه وسجد وجلس وتشهد؛ أخذ التعلم فعلاً فكان أبلغ. وفيه أيضاً فائدة رابعة وهي: سماعه لكلام الله، وسماعه لما يؤتى به في هذه الصلاة، فإنه يسمع القرآن يتلى عليه في الصلاة الجهرية، ويسمع التكبير، ويسمع التسميع، ويسمع التحميد، ويسمع التسليم، فيستفيد من هذا، ويعرف الحكمة في شرعية هذه الأشياء، فيزداد بذلك معلومات وثقافات. أما الفوائد الأخرى الأخروية فهي كثيرة، منها: كتابة خطواته، ثبت في الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وبكل خطوة إلى الصلاة صدقة) ، وقوله: (لم يخط خطوة إلا كتب الله له بها حسنة أو حط بها عنه خطيئة، أو رفعه بها درجة) ، وهذا خير كثير يحرمه الذي يصلي في بيته. وفائدة أخرى وهي: اكتساب الأعمال؛ وذلك لأنه إذا جاء إلى المسجد أدى راتبة أو تحية مسجد، وهذا عمل خير، وكذلك قرأ من القرآن إذا لم تكن الصلاة قد أقيمت، وهذا عمل خير، واستفاد وسمع الفائدة وهذا خير، فيؤجر على ذلك. وفيه أيضاً فائدة وهي: أنه يحظى باستغفار الملائكة له، ثبت قول النبي صلى الله عليه سلم: (الملائكة تستغفر لأحدكم ما دام في مصلاه ما كانت الصلاة تحبسه ما يمنعه أن ينصرف إلا الصلاة، تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، اللهم صل عليه) ، وهذا الأجر كله يفوت على الذي يصلي وحده في بيته، ولا يحظى بشيء من هذا الأجر. أما المضاعفة فسمعنا هذا الحديث الذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة) ، ومعناه: أن الذي يصلي فرداً يحصل له درجة واحدة، والذي يصلي مع الجماعة له سبع وعشرون أو ثمان وعشرون، وهذه الدرجات التي يحصل عليها بزيادة سبع وعشرين خير كثير يحرمه الذي يصلي وحده. لو أن إنساناً اشترى سلعة بثمانية وعشرين ثم باعها بدرهم واحد، فإنه خسر فيها سبعة وعشرين، ماذا تكون حالته؟ يأكل يديه لهفاً؛ لأنه خسر هذه الخسارة الفادحة من ثمانية وعشرين لم يحصل على درهم أو ريال واحد، فكيف يفوت عليه هذا الخير الكثير والأجر العظيم الذي رتبه النبي صلى الله عليه وسلم على صلاته مع الجماعة؟!. وقد استدل بهذا من صحح صلاته وحده، ولكن معلوم أنه حتى ولو قلنا: إن صلاته في بيته مجزئة أو مسقطة للفرض، لكن أين هذه الأرباح؟ وأين هذه الفوائد؟ وأين هذه الخيرات التي يحصل عليها؟ تفوته المصالح الدنيوية والمصالح الأخروية والأجر والدرجات التي يحرمها.

شرح حديث: (صلاة الرجل في الجماعة تضاعف على صلاته في بيته وفي سوقه)

شرح حديث: (صلاة الرجل في الجماعة تضاعف على صلاته في بيته وفي سوقه) قال المصنف رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الرجل في الجماعة تضاعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمسة وعشرين ضعفاً؛ وذلك أنه إذا توضأ وأحسن الوضوء وخرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة، لم يخطُ خطوة إلا رفع له بها درجة وحط عنه خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه: اللهم صل عليه، اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة) متفق عليه واللفظ للبخاري. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلاً أن يصلي بالناس، ثم أنطلق ومعي رجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار) ] . قد ذكرنا شيئاً من المصالح التي شرعت لأجلها صلاة الجماعة، وذلك أن هذه العبادة التي هي الصلاة أجل العبادات البدنية؛ لأنها صلة بين العبد وبين ربه، ومن حكمة الله أن أمر بها علناً، فشرع الأذان برفع الصوت الذي يطبق البلاد، ويدوي في أطراف القرى؛ ذكراً لله، وتشهداً، ونداء إلى الصلاة وإلى الفلاح، وتهليلاً وتكبيراً، وشرع لها الاجتماع، وشرع لها الجماعة التي تؤدى بحركات متوافقة، بحيث إن حركات الإمام تتبعها حركات المأمومين، ويجتمع أهل الحي في مسجد واحد موجهة قبلته إلى البيت الحرام، فيه العلامات التي يعرف بها كالمحاريب والمنائر ونحوها مما يكون علماً على الإسلام، وأن البلاد بلاد إسلامية، وأن هذه شعائر الإسلام. زيادة على أن في الاجتماع قوة ونشاطاً، وفي التخلف تكاسلاً وتثبطاً. قوله عليه الصلاة والسلام: (صلاة الجماعة تفضل على صلاة الرجل في بيته وفي سوقه خمسة وعشرين ضعفاً) ، وتقدم في الحديث الأول أنها تفضل بسبع وعشرين درجة، فقد تكون الدرجة هي المنزلة التي هي رتب يصعد بها والمعنى: أن الذي يصلي في بيته لا يصعد إلا درجة، والذي يصلي في المسجد جماعة يصعد سبعاً وعشرين أو ثماني وعشرين درجة، وذلك فضل كبير، وأما المضاعفة فإنه أخبر بأنها تزيد عليها خمسة وعشرين ضعفاً، أي: صلاة الرجل مع الجماعة تزيد على صلاته في بيته وفي سوقه خمسة وعشرين ضعفاً، يعني: كأنه صلى ستاً وعشرين صلاة، والذي صلى وحده صلى صلاة واحدة، ومع ذلك لو أنه أعادها لم يبلغ درجة الصلاة مع الجماعة التي ذكر فضلها. قرأت في بعض الكتب أن رجلاً من الصالحين كان محافظاً على الصلاة، لم تفته صلاة الجماعة في وقت من الأوقات، إلا أنه مرة من المرات نعس بعد المغرب ففاتته صلاة العشاء فانتبه وقد صلوا، فجاء إلى المسجد خاشعاً باكياً خائفاً فصلى العشاء أربعاً ثم صلاها أربعاً ثم أربعاً ثم أربعاً حتى صلاها خمسةً وعشرين مرة، يريد بذلك أن يحصل له الأجر، وأخبر بعض العلماء فقال: فاتتك الدرجات، وفاتك استغفار الملائكة، وما أشبه ذلك، يعني أنك لو صليتها وكررتها لم تبلغ الدرجات التي حصل عليها من صلاها مع الجماعة، وهذا دليل على حرص السلف عليها، حيث إنه صلاها خمساً وعشرين مرة في ليلة واحدة، ومن الذي يستطيع أن يصلي العشاء التي هي أربع ركعات هذا العدد؟ لعله لم يفرغ إلا قبل صلاة الصبح.

أسباب فضل صلاة الجماعة على صلاة المنفرد

أسباب فضل صلاة الجماعة على صلاة المنفرد الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ذكر أسباب فضل صلاة الجماعة على صلاة المنفرد: السبب الأول: الخروج من المنزل بنية صالحة، وهو قوله: (لا يخرجه - وفي رواية: لا ينهزه- إلا الصلاة) يعني: إنما حركه إلى المسجد أداء هذه الصلاة، فهذا حسن النية، ما نهزه ولا دفعه ولا أخرجه إلى المسجد إلا الصلاة، ترك أشياء كان يشتغل بها، وقد يكون البيت دافئاً والطريق بارداً أو حاراً مثلاً، قد يكون مع أهله فيترك الأنس بأهله، قد يكون على فراش وطيء فيترك الفراش الوطيء ويذهب إلى المسجد محبة للصلاة، وقد يكون المسجد بعيداً فيصبر على البعد والمشقة، وهذا لا شك أنه من الأسباب التي تضاعف بها الجماعة. السبب الثاني: الخطوات، فالخطوات مكتوبة مع حسن النية، وفي الحديث: (لم يخطُ خطوة إلا رفع له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة) ، ومن أجل هذا استحب بعض العلماء أنك إذا ذهبت إلى المسجد تقارب الخطى؛ حتى تكثر، فلا تسرع ولا تمد الخطوات بل تمشي بتؤدة وتأن، وقال في الحديث: (إذا سمعتم النداء للصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وائتوها وأنتم تمشون، وعليكم السكينة والوقار) فأمر المتوجه إلى المسجد بالمشي وألا يركب، ولا يسرع في مسيره، ولا يركض برجله، بل يمشي بتؤدة وبسكينة وبوقار. ولا شك أن هذا مما يدل على احترامه لهذه الصلاة وعظمتها في قلبه، وما ذاك إلا أنه يأتي إلى عبادة يجد فيها اللذة، ويجد فيها الانبساط والسرور والبهجة، يأتي إلى عبادة يجد فيها أنه يريح قلبه ويريح بدنه كما في الحديث: (أرحنا بالصلاة) وقوله: (وجعلت قرة عيني في الصلاة) فإذا كان كذلك أتى إليها بطمأنينة وبسكينة وبهيئة تدل على الاحترام، وتدل على المحبة والهيبة لهذه العبادة. وقد وردت أدلة كثيرة في الخطوات، منها قوله تعالى: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس:12] يعني: ونكتب آثارهم ذهاباً وإياباً، وورد أيضاً في حديث جابر قال: (كان رجل منزله بعيد لا أعلم أحداً أبعد منه، وكانت لا تخطئه صلاة، فقيل له: لو اشتريت حماراً تركبه في الرمضاء وفي الشتاء، فقال: ما أحب أن بيتي إلى جانب المسجد، إني أريد أن يكتب لي مجيئي إلى المسجد ورجوعي إلى أهلي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد كتب لك ذلك كله) فهذا يأتي راجلاً من مكان بعيد ويعود راجلاً، وامتنع أن يركب حماراً، واحتسب خطواته، فبشره النبي صلى الله عليه وسلم بأنك تكتب لك خطواتك إذا أتيت إلى المسجد، وتكتب لك خطواتك إذا رجعت إلى منزلك؛ لأنك أتيت إلى عبادة ورجعت فارغاً من عبادة. ولما احتقر بعض الصحابة أعمالهم بالنسبة إلى أعمال الأغنياء؛ أرشدهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى أعمال تقوم مقام العتق وتقوم مقام الصدقة والتبرعات ونحوها، فقال لهم: (إن لكم بكل تسبيحة صدقة، وبكل تكبيرة صدقة، وبكل تحميدة صدقة، وبكل خطوة إلى المسجد صدقة) ، فجعل كل خطوة صدقة، فهذه أدلة تدل على أن خطواتك إلى المسجد تكتب حسنات، وهذا مما تضاعف به صلاتك جماعة على صلاتك وحدك. السبب الثالث: أنك إذا صليت وبقيت في مصلاك بعدما تفرغ مشتغلاً بالذكر حظيت بشيء آخر وهو دعاء الملائكة، فالملائكة تصلي عليك وتقول: اللهم صل عليه، اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، وصلاة الله ثناؤه على عبده في الملأ الأعلى، ودعاء الملائكة واستغفارهم خاص بأهل الإيمان، قال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:7] إذاً: إذا استغفرت لك الملائكة بقولهم: اللهم صل عليه، اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، فأنت من المؤمنين بنص هذه الآية: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:7] ، فهذا سبب. السبب الرابع: أن المصلي في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه، فلو تقدم قبل الأذان بساعة أو نحوها وجلس ينتظر الصلاة فهو في حكم المصلي، وكذلك إذا أتى بعد الأذان واشتغل بعبادة فإنه يكتب بأنه يصلي حتى في طريقه، وورد في حديث أنه عليه الصلاة والسلام قال: (إذا أتى أحدكم إلى المسجد فلا يشبكن بين أصابعه فإنه في صلاة) ، فجعله في حكم المصلي مادام أنه ما جاء به ولا دفع به إلا الصلاة، فهذا دليل واضح على أن هذه الأعمال تكون سبباً في مضاعفة العمل من واحد إلى خمس وعشرين ضعفاً. هذه هي أسباب مضاعفة صلاة الجماعة.

شرح حديث: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر)

شرح حديث: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر) أما الحديث بعده فيتعلق أيضاً بصلاة الجماعة، قال صلى الله عليه وسلم: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً) . المنافق هو الذي يخالط المسلمين وليس بمسلم، أو مسلم وليس بمؤمن، قلبه يضمر الكفر ويظهر الإيمان، أو هو مؤمن في الظاهر وليس بمؤمن في الباطن. المنافقون إذا لقوا المؤمنين ادعوا أنهم معهم، ولكنهم أعداء لهم في الباطن، وهم الذين ذكرهم الله تعالى بقوله: {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118] ، وفي آيات كثيرة يذكر الله تعالى فيها مساوئهم وأعمالهم السيئة، فهؤلاء المنافقون تثقل عليهم الصلوات، يصلون مع الناس ولكن رياء وسمعة، وليس الدافع لهم الإيمان، ليس الدافع لهم طلب الثواب ولا طلب الأجر في الآخرة، ليسوا مصدقين في الحقيقة بالجزاء الأوفى، إنما يظهرون الإيمان ليحقنوا بذلك دماءهم، ويحفظوا بذلك أموالهم؛ لأنهم لو أظهروا الكفر لقتلوا، فلذلك تكون عليهم الصلوات ثقيلة، تثقل على نفوسهم، لا سيما صلاة الليل كصلاة العشاء وصلاة الفجر، فكلاهما تقع في ليل وتقع في ظلمة وتقع في وقت راحة، فهي ثقيلة عليهم فلا يأتونها إلا كسالى وربما لا يأتونها، قال تعالى: {وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى} [التوبة:54] فصلاة العشاء ثقيلة عليهم لأنها تقع في ظلمة، وكذلك صلاة الفجر تقع في وقت نوم وفي وقت راحة فهي ثقيلة عليهم، ولكنها ليست ثقيلة على المؤمنين بل كلها محبوبة وخفيفة عليهم. ويقول في هذا الحديث: (لو يعلمون ما فيهما من الأجر لأتوهما ولو حبواً) أي: ولو حبواً على الركب والأيدي كما يحبو الطفل، ولا شك أن فضلهما والأجر المرتب عليهما أجر عظيم، وكذلك بقية الصلوات، فلا شك أن الصلوات كلها فيها أجر وفي المحافظة عليها فضائل، ولكن في هاتين الصلاتين العشاء والفجر زيادة فضل وزيادة أجر، حيث إن فعلهما فيه مشقة، والعمل كلما كان شاقاً كلما كان الأجر عليه أعظم.

الحث على شهود صلاة الفجر جماعة والأسباب المعينة على ذلك

الحث على شهود صلاة الفجر جماعة والأسباب المعينة على ذلك في هذه الأزمنة ابتلي الناس بالتأخر عن بعض الصلوات، وبالأخص صلاة الصبح، فكثير من الناس يحافظون على الصلوات الخمس ولكن صلاة الفجر يتأخرون عنها، بحيث إن المسجد الذي يصلي فيه أربعة صفوف لا يحضر في الفجر إلا صف أو صفان، ولا شك أن هذا من عدم احتساب هذه الصلاة، وقلة معرفة بقدرها وبأجرها وبما فيها من الثواب، أو تقديم لشهوات النفس على العبادات التي هي حق الله تعالى، ويتعللون بالنوم وبعدم الانتباه أو نحو ذلك. ونحن نقول: عليك أولاً ألا تسهر أكثر ليلك، بل تنام مبكراً بعدما تصلي العشاء بساعة ونحوها، لأن السنة أن تنام مبكراً وتستيقظ مبكراً حتى تصلي وترك آخر الليل أو على الأقل حتى تؤدي صلاة الفجر مع الجماعة. وعليك ثانياً أن تكون منتبهاً للصلاة، ومهتماً بها، ومشتغلاً بها في قلبك، والإنسان كلما اهتم بشيء فإنه يستعد له أشد استعداد، فإذا أعطى موعداً محدداً لم يستطع التأخر عنه، سواء زيارة أو نحو ذلك. ونشاهد مثلاً في هذه الأيام أن الناس صاروا ينتبهون مبكرين لأجل الدراسة، ولأجل تدريس أولادهم ونحو ذلك، ونشاهد أنهم يبكرون عند بائعي الخبز، وكثير من الذين لم يحضروا الصلاة مع الجماعة تراهم مبكرين عند بائعي الخبز أو في البقالات ونحوها، ولا شك أن الذي يدفعهم إلى الانتباه هو الدراسة ومقدماتها وما أشبه ذلك. إذاً: فالإنسان إذا اهتم بالصلاة استطاع أن يستيقظ في الوقت المحدد لها، أما إذا لم يكن مهتماً ولم يكن منتبهاً ولم يكن في قلبه دافع؛ فإن النوم يغلبه ولو نام عشر ساعات أو ثمان ساعات. وهناك سبب ثالث وقد يكون معيناً لك وهو: أن توكل من ينبهك إما أهلك وإما جيرانك ونحوهم، يطرق عليك باباً أو يضرب عليك جرساً، أو يتصل بك هاتفياً، أو نحو ذلك، أو تجعل عندك ساعة منبهة ذات جرس أو نحو ذلك، ولا شك أن هذه مساعدات، ولو أن الناس استعملوها وعملوا بها لما فاتتهم هذه الصلاة، ولما حصل عندهم هذا التأخر وهذا التكاسل.

هم النبي عليه الصلاة والسلام تحريق بيوت من يصلون في بيوتهم

هم النبي عليه الصلاة والسلام تحريق بيوت من يصلون في بيوتهم في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم توعد المتخلفين عن صلاة الصبح أو غيرها بأن يحرقهم بالنار؛ لقوله في هذا الحديث: (لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم أنطلق برجال معهم حزم من حطب إلى أناس لا يشهدون الصلاة -وفي رواية أبي داود: يصلون في بيوتهم- فأحرق عليهم بيوتهم بالنار) أليس الإحراق تعذيباً؟ أليس الإحراق قتلاً؟ لا شك أنه سيقتلهم بذلك. ما السبب أن يذهب إليهم بهذه الحزم من الحطب ويحرق عليهم بيوتهم؟ ليس لهم ذنب إلا أنهم يصلون في بيوتهم، فلأنهم لا يصلون الجماعة؛ فهم مستحقون لهذا، وفي بعض الروايات أنه ذكر المانع فقال: (لولا ما في البيوت من النساء والذرية لأحرقتها عليهم) ، فاعتذر عن الفعل أن في البيوت من لا تجب عليهم الجماعة، ففي البيوت أطفال لم يكلفوا، وفي البيوت نساء ليس عليهن صلاة جماعة، فإحراقهم قد يكون إحراقاً لمن لا يستحق الإحراق، أو إحراقاً للمتاع والمال الذي لا ذنب له، فمنعه ذلك. ولم يقتلهم ولم يقاتلهم لأجل أنهم لم يعملوا عملاً ظاهراً أو لكون عملهم قد يكون خفياً، فهم أن يحرق عليهم بيوتهم وقت الصلاة، وهو الوقت الذي يشتغل فيه المصلون، فإذا قالوا: ما هو السبب؟ قال: لأنكم لم تصلوا، فالجماعة يصلون في المساجد وأنتم جالسون في بيوتكم؛ فتستحقون أن تحرق عليكم، وما منعه إلا أن في البيوت من لا يستحق الإحراق. لا شك أن هذا الفعل دليل على أهمية هذه الصلاة، ودليل على وجوب أداء الصلاة مع الجماعة ولو كان فعلها في البيوت كافياً لما هم بالإحراق، ولا يهم عليه الصلاة والسلام بأمر إلا وهو حق، ولا يهم بباطل؛ لأجل هذا الحديث ذهب العلماء الموثقون إلى أن صلاة الجماعة فرض على الرجال المكلفين، ويستثنى من ذلك النساء والصبيان فلا تجب عليهم صلاة الجماعة، ويعرف من ذلك أن من تركها أو تخلف عنها فإنه مذنب ولو أنه أسقط الواجب، ولكن لا يمنع أن يكون الفعل واجباً، وأن يثاب على فعله حيناً ويعاقب على فعله، فتكون صلاته في بيته يحصل به على درجة أو على ضعف واحد وتفوته المضاعفات الكثيرة، ويستحق العقاب على تركه لصلاة الجماعة، فيثاب من جهة ويعاقب من جهة. وبكل حال فإن صلاة الجماعة عند المحققين من العلماء فرض على الأعيان، لكل من ليس له عذر، ودليل ذلك الحديث الصحيح الذي يقول فيه: (من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر) وفسر العذر بأنه خوف أو مطر أو مرض، يعني: الأعذار المانعة العائقة عن الإتيان إلى المساجد، فإذا لم يكن للإنسان عذر وصلى في بيته فإنه -وإن أسقط عنه فرض الصلاة- يستحق العقاب على التخلف، حيث ترك ما هو مأمور به، وترك المحافظة على هذه الصلاة، زيادة على ما يفوته من الحسنات ومن المضاعفات، وزيادة على ما يفوته من الحكم والمصالح التي شرعت لأجلها الجماعة. ونحث كل مسلم على أن يكون مهتماً بأداء الصلاة في المساجد حيث ينادى بها كما حث على ذلك ابن مسعود رضي الله عنه في قوله: (إن الله شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى-يعني: هذه الصلوات- حيث ينادى لها، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق أو مريض، وإنه كان ليؤتى بالرجل يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف) . هذه حالة الصحابة في وقت النبي صلى الله عليه وسلم، لا يتخلف عنها إلا المنافق الذي عرفوا أنه منافق، وكان المريض يتكلف ويؤتى به يعضد له بين رجلين؛ كل ذلك محبة لأداء الصلاة مع الجماعة، فعلى كل مسلم أن يكون مهتماً بأداء الصلوات في الجماعة، وأن يحرض أولاده وإخوته وجيرانه على أداء صلاة الجماعة؛ ليحصل على الفضل ويسلم من الإثم.

شرح حديث: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)

شرح حديث: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) قال المؤلف رحمه الله: [عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها، قال: فقال بلال بن عبد الله: والله لنمنعهنَّ، قال: فأقبل عليه عبد الله فسبه سباً ما سمعته سبه مثله قط، فقال: أُخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: والله لنمنعهنَّ!) ، وفي لفظ لـ مسلم: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) . وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: (صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين قبل الظهر وركعتين بعد الجمعة وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء) ، وفي لفظ: (فأما المغرب والعشاء والفجر والجمعة ففي بيته) ، وفي لفظ للبخاري: أن ابن عمر قال: حدثتني حفصة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي سجدتين خفيفتين بعدما يطلع الفجر، وكانت ساعة لا أدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فيها) . وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد تعاهداً منه على ركعتي الفجر) ، وفي لفظ لـ مسلم: (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها) ] .

صلاة النساء في المساجد

صلاة النساء في المساجد الحديث الأول يتعلق بصلاة النساء في المساجد، وكان نساء يصلين مع النبي صلى الله عليه وسلم حرصاً على الاقتداء به، وحرصاً على مضاعفة الصلاة، وحرصاً على الصلاة في المسجد، ولكن كُنَّ محتشمات في غاية التستر، كما قالت عائشة: (كان نساء يشهدن الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم متلففات بمروطهنَّ، ينصرفن ولا يعرفهنَّ أحد من الغلس) وكونها متلففة، أي: مرتدية بردائها بحيث إنها تخرج متسترة في غاية التستر. فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر بالإذن لها في هذا الحديث: (إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها) ، وفي الرواية الثانية: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) (إماء الله) جمع أمة، الأمة هي المملوكة، أي: أنهن ملك لله كما أنكم ملكه، فأنتم عبيد الله وهن إماء الله، وكما أنكم تعبدون الله وأنتم مماليك له، فكذلك نساؤكم يعبدن الله وهن مماليك له، وكما أنكم ترغبون في الخير وتحبون مضاعفة الأجر فهنَّ كذلك يرغبن في مضاعفته. وقد كان نساء يصلين مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تحضر المرأة ومعها طفلها، فثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إني لأكبر في الصلاة أريد أن أطيلها فأسمع بكاء الصبي فأوجز في صلاتي كراهة أن أشق على أمه) ، وهذا يدل على أن أمه قد كبرت للصلاة، وأنها لا تتفرغ له حتى تنصرف من صلاتها، ولو بكى ولو صرخ، فهو عليه الصلاة والسلام يراعي شفقتها، ويخفف الصلاة التي كان يريد إطالتها. ولكن ثبت أيضاً أنه حث النساء على البعد عن الرجال، وحث الرجال على البعد من النساء، فقال عليه الصلاة والسلام: (خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها) ، يعني: أن آخرها أقرب إلى النساء فهو شرها، (وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها) ، لما كان أولها قد يتصل بصفوف الرجال أو قد يراه المتأخرون من الرجال كان شرها، وكان خيرها آخرها لكونه بعيداً عن الرجال، وهذا فيما إذا كان النساء متصلة صفوفهن بصفوف الرجال، وليس بينهم شيء من الحواجز، فمثل هذا يكون آخر صفوف النساء خيرها، أما إذا كان بينهم حاجز منيع -كما في هذه الأزمنة حيث يستمعن الصلاة بواسطة المكبر ولو كن بعيداً- فنرى أن صفوفهن كصفوف الرجال، يعني: أن أولها خيرها لعدم الاختلاط. في هذا الحديث أن ابن عبد الله بن عمر كأنه حملته الغيرة على نسائه فهمّ أن يمنع امرأته أو يمنع نساءه من المسجد، وكأنه رأى أن خروج النساء فتنة، فقال: (والله لنمنعهنَّ) ، ولما تكلم كلاماً بدون تأدب ويظهر منه الاعتراض على الحديث؛ غضب والده وسبه على هذا الاعتراض، إذ كيف يعترض على قول النبي صلى الله عليه وسلم اعتراضاً بدون مقدمات؟! ومعلوم أنه رحمه الله إنما حملته الغيرة، وقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء بعده لمنعهنَّ المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل) ، وذكرت عائشة أن النساء في زمنها أحدثن أشياء تستحق المرأة أن تُمنع لأجلها، وكأنها رأت شيئاً من التجمل ومن اللباس ومن التعطر الذي قد يخشى منه الفتنة، وذلك لأن خروج النساء فتنة كما ورد في قوله صلى الله عليه وسلم: (إنكنَّ تفتنَّ الحي وتؤذين الميت) . فخروجها إذا كان في زمن قد استتب فيه الأمن، وقد عرف الناس فيه الحق وعملوا به، ولم يكن هناك شيء من الخوف، وكان الناس على جانب متين من الديانة، وكان الرجال معهم الورع، ومعهم الخوف من الله تعالى، والنساء معهنَّ الاحتشام والتستر والبعد عن الاحتكاك بالرجال والبعد عن الفتنة وأسباب الفتنة من التعطر والتجمل والتكشف والتطيب وما أشبه ذلك، إذا كان ذلك كذلك فإنها تخرج، فأما إذا تغيرت الحال -كما ذكرت عائشة - فإن الأولى أن تجلس في بيتها كما نص على ذلك العلماء وكما ورد في بعض الأحاديث، ففي حديث أنه عليه الصلاة والسلام قال: (صلاتها في مسجد حيها أفضل من صلاتها في المسجد الكبير -الجامع-، وصلاتها في سوقها أفضل من صلاتها في مسجد حيها، وصلاتها في رحبة دارها أفضل من صلاتها في مسجد الحي، وصلاتها في أقصى حجرتها أفضل من صلاتها في رحبة بيتها) فكانت المرأة تتحرى أظلم مكان في بيتها فتصلي فيه ولو أنها متسترة.

خروج النساء إلى المسجد وهن تفلات

خروج النساء إلى المسجد وهن تفلات أذن النبي عليه الصلاة والسلام للنساء في الخروج إلى المسجد، واشترط التبذل فقال: (وليخرجن تفلات) ، والتفلة هي: الغير المتبرجة، يعني: تخرج بثياب بذلة لا بثياب زينة، ولا بثياب جمال، ولا بشيء يلفت الأنظار، ولا تتعطر، ولا تتخضب، ولا تتطيب، ولا يكون معها شيء مما يكون لافتاً لأنظار الناس إليها، وألا تكون شابةً بحيث يفتتن بها الرجال، وألا تقترب من صفوفهم، وأن تحذر من مزاحمة الرجال، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا انصرف من الصلاة مكث قليلاً قبل الانصراف بوجهه حتى لا ينصرف الرجال مع النساء، بل يمهل حتى يخرج النساء ويتمادين في المسير، ولا يكون بذلك احتكاك ولا ازدحام عند الأبواب. عرفنا أن ابن عمر رضي الله عنه روى الحديث على ظاهره، وأن ولده بلالا لم يعترض إلا لما رأى من المخاوف، ولما خافه من المفسدة، وإلا فهو أجل من أن يعترض على كلام الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد روي أن عمر رضي الله عنه كان له امرأة محتشمة، وكانت تُحب أن تصلي في المسجد، فطلبت منه أن يأذن لها، ولكنه نصح وقال: (صلاتك في بيتك أفضل) فقالت: أحب الصلاة في المسجد مع الجماعة فلم يستطع أن يمنعها، وقد سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) ، ثم إنه احتال حيلة تسبب توقفها، فلما علم أنها ستخرج في وقت العشاء وقف لها في الطريق في مكان مظلم مختفياً في زاوية من الزوايا، فلما مرت به وعرفها جاءها من خلفها وضربها بيده على عجيزتها، وهرب كأنه يريد السوء، فلما فعل ذلك وهي لم تعرفه رجعت إلى بيتها وبقيت، وسألها بعد ذلك وقال: (لماذا لا تخرجين إلى المسجد؟ فقالت: كنا نخرج والناس ناس، فأما الآن فإن الناس ذئاب) أو كما قالت، فهذه حيلة منه رضي الله عنه، وهو دليل على شدة غيرته، وأنه يخشى أن تتعرض- وإن كانت عفيفة- لبعض الفتن، إما أن تفتتن وإما أن يُفتتن بها، وإن كان ذلك مأموناً في ذلك الزمان. وبكل حال فخروج النساء إلى المساجد إذا كن في غاية من التستر والتبذل والاحتشام لا بأس به، ولكن بيوتهنَّ خير لهنَّ سيما في الأزمنة المتأخرة، سيما والنساء قد أحدثن أكثر مما ذكرت عائشة في قولها: (لو رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما أحدثه النساء لمنعهنَّ المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل) .

شرح حديث: (صليت مع رسول الله ركعتين قبل الظهر)

شرح حديث: (صليت مع رسول الله ركعتين قبل الظهر) هذا الحديث يتعلق بالسنن الرواتب وتسمى أيضاً صلاة التطوع، وفي هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يحافظ على عشر ركعات تسمى الرواتب، وهي قبلية وبعدية: كان يصلي ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر، هذه الرواتب كان يحافظ عليها طوال وقته إلا إذا سافر فإنه كان يترخص بتركها إلا سنة الفجر. ولا شك أن هذه السنن نوافل وعبادات من جنس الصلاة، والصلاة من أفضل ما يتقرب به العبد إلى الله سبحانه وتعالى، فلما كانت من أفضل القربات شرع أن يتنفل، وشرع أن يأتي بزيادة على الفرائض، وأهم ذلك وأفضله ما كان قبل الفريضة أو بعدها في وقتها أو في موضعها، فإن ذلك مما يسهل ومما يهون، حيث إنك تتوضأ للظهر وتصلي سنتها القبلية، وتصلي سنتها البعدية بذلك الوضوء، ولا يكون عليك مشقة. وهكذا تصلي سنة المغرب بعده، وسنة العشاء بعده، ولا يكون عليك بذلك مشقة، وهكذا أيضاً سنة الفجر تصليها بوضوء واحد ولا يكون عليك مشقة، وقد روي أن الحكمة فيها أنها جبر للنقص الذي يحصل في الفرائض، وفي بعض الأحاديث أنه ينظر في صلاة العبد، فإذا لم يكملها قال الله: (انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فتكمل بها الفريضة) فإذا كانت الفريضة فيها شيء من النقص والخلل؛ فإن الله يُكملها بهذه السنن التي يتطوع بها، وإذا كانت الفريضة كاملة فإن هذه السنن تكون قربات يرفع الله بها العبد درجات، ويثيبه عليها حسنات، وما أعظم ذلك من أجر! فعلى المسلم ألا يحرم نفسه من هذا الأجر، وأن يكثر من النوافل.

أهمية سنة الفجر

أهمية سنة الفجر أهم هذه الصلوات التي تُسمى الرواتب سنة الفجر، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحافظ عليها ويتعهدها في سفره وفي حضره، كما في حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن على شيء من النوافل أشد تعاهداً منه على سنة الفجر أو على ركعتي الفجر، يعني: أنه يُحافظ عليها أشد المحافظة. وقد روي عنه عليه السلام أنه قال: (صلوهما ولو طردتكم الخيل) يعني: ولو كنتم في حال المسايفة فلا تفوتوا هاتين الركعتين اللتين هما سنة الفجر، ولعل سبب المحافظة عليها أن صلاة الفجر إنما هي ركعتان، فلما كان عددها قليلاً تأكد أن يضاف إليها ركعتان قبلها كسنة، ويكون ذلك جبراً لنقصها، هكذا قالوا. وقيل: لأنها بعيدة عن الصلوات، فقبلها نحو تسع ساعات لا صلاة فيها، وبعدها ثمان أو سبع ساعات لا صلاة فيها، يعني: ما بينها وبين الظهر، وما بينها وبين العشاء، فكان من المؤكد أن يصلى معها نافلة، ليكون عمل في هذا الوقت صلاة تطوع وصلاة فرض. ومن فضلها هذا الحديث الذي يقول فيه: (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها) ، أي: ثوابها خير من أن تحصل لك الدنيا بحذافيرها، ومعلوم أن الدنيا وما فيها متاع قليل، يذهب عن الإنسان ويبقى عليه حسابه، وأما عمل الآخرة فإنه يثاب عليه، فذرة من ذرات الآخرة من حسناته خير من متاع الدنيا بأكمله. وبكل حال فإنه عليه الصلاة والسلام حافظ عليها في سفره ولم يتركها، فضلاً عن الحضر، فدل ذلك على تأكدها. وهاتان الركعتان لهما أحكام كثيرة، وقد أفردها بعض المؤلفين في كتاب مستقل، مما يدل على كثرة الأحكام التي تتعلق بها؛ في كيفيتها، وفي تخفيفها، والحكمة في ذلك، وفي قضائها متى تقضى إذا فاتت، وما أشبه ذلك مما هو معروف مشهور.

المحافظة على الرواتب

المحافظة على الرواتب بقية النوافل -التي هي الرواتب- يسن أيضاً المحافظة عليها، وورد أيضاً أنه كان صلى الله عليه وسلم يصلي أربعاً قبل الظهر، فعلى هذا تكون اثنتي عشرة ركعة: أربعاً قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر، فتكون اثنتي عشرة، يضاف إليهن أنه عليه السلام كان يوتر بإحدى عشرة ركعة فتكون ثلاثاً وعشرين، ويضاف إليهن سبع عشرة التي هي الفرائض فتكون أربعين، وورد في بعض الآثار أن من ضرب الباب أربعين مرةً يوشك أن يفتح له، فإذا كنت تحافظ كل يوم على أربعين ركعة فإن ذلك حري أن تقبل منك صلاتك، وكل يوم يصعد لك أربعون ركعة. وإذا صعب عليك قيام التهجد فزد من الركعات ما يتمه، مثلاً صل قبل الظهر أربعاً وبعدها أربعاً، وقبل العصر أربع ركعات، وقبل المغرب ركعتين، وقبل العشاء ركعتين، فيتم بذلك قريب من الأربعين مع الوتر ثلاث، فتكون بذلك قد أضفت زيادات، وذلك خير كثير، وكان كثير من العلماء ومن العباد يضيفون إلى ذلك عشرين ركعة زيادة على اثنتي عشرة، وكل ذلك من العمل المبرور، فالإنسان عليه ألا يمل من الخير، فإن العبادة محبوبة عند الله، وأفضل العبادة الصلاة، وقد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام أوصى بعض أصحابه لما قال له: أسألك مرافقتك في الجنة فقال: (أو غير ذلك؟ قال: هو ذاك، قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود) يعني: بكثرة الصلوات التي هي من التطوعات.

شرح عمدة الأحكام [10]

شرح عمدة الأحكام [10] الأذان شعيرة من شعائر الإسلام، ودعوة إلى ركن من أركانه، وقد وردت صفاته عن النبي صلى الله عليه وسلم، وورد عنه آدابه والأذكار التي تقال أثناءه وبعده، وقد بين العلماء ذلك في شرح الأحاديث الواردة فيه.

شرح حديث: (أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة)

شرح حديث: (أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة) قال المصنف رحمه الله: [باب الأذان: عن أنس رضي الله عنه قال: أُمر بلال أن يشفع الآذان ويوتر الإقامة. وعن أبي جحيفة وهب بن عبد الله السوائي قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في قبة له حمراء من أدم قال: فخرج بلال بوضوء فمن ناضح ونائل، قال: فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وعليه حلة حمراء كأني أنظر إلى بياض ساقيه قال: فتوضأ وأذن بلال قال: فجعلت أتتبع فاه هاهنا وهاهنا يميناً وشمالاً، يقول: حي على الصلاة، حي على الفلاح، ثم رُكزت له عنزة فتقدم وصلى الظهر ركعتين، ثم لم يزل يُصلي ركعتين ركعتين حتى رجع إلى المدينة] .

أهمية الأذان وفضله

أهمية الأذان وفضله هذا باب الأذان، وهو من شعائر الإسلام الظاهرة، فرفع الصوت بهذه الكلمات في أوقات الصلاة من شعائر الدين، ومن أعلام الإسلام، ومما يُعرف به أن أهل هذه البلد مسلمون مُعلنون لكلمات الله مظهرون لدين الله، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا وقرب من أهل قرية أو أهل بادية انتظر وقت الصلاة، فإن سمع أذاناً منهم تركهم، وإن لم يسمع أذاناً أغار عليهم، فجعل الأذان علامة على أنهم مسلمون؛ وذلك لأنه أصبح شعاراً للمسلمين. شُرع هذا الأذان للإعلان بدخول الوقت، وأوقات الصلوات محددة، لكل صلاة وقت له أول وآخر، والناس قد لا يعرفون الوقت بالزمان؛ فلذلك جعلت علامة يعرفون بها أوقات صلواتهم، فإذا سمعوا الأذان توجهوا لأداء هذه الصلوات في بيوت الله سبحانه، وإذا سمعوا الأذان عرفوا أن الوقت قد دخل فصلى المعذور في محله. وهذا الأذان مشتمل على كلمات كلها ذكر، فلا جرم كان فيه من الأذكار ما هو تذكير مناسب؛ وذلك لأنه يرفع به الصوت، فناسب أن يكون مبدوءاً بالتكبير الذي يذكر بكبرياء الله وبعظمته وبحقارة ما سواه، وكذلك فيه تكرار الشهادتين وما ذاك إلا ليعلم أن هذا التكبير وهذه الشهادة شعار الإسلام، فإن الشهادتين من شعائر المسلمين، وفيه دعاء إلى الصلاة، وإلى نتيجتها، يدعو الناس بقوله: حيَّ، يعني: هلموا وتعالوا إلى هذه الصلاة التي يحصل بها الفلاح، وفي ذلك ما يدفعهم إلى أن يأتوا مسرعين حريصين على الفلاح الذي هو الفوز، وختم بالتكبير مرة ثانية، وبالتهليل الذي هو تذكير بالشهادة. فهذا الأذان من شعائر الإسلام؛ ولذلك كانت وظيفته من أشرف الوظائف، ثبت أنه عليه الصلاة والسلام قال: (يغفر للمؤذن مدى صوته) ، وأوصى أبو سعيد رجلاً من أصحابه فقال: إني أراك تحب البادية، فإذا كنت في باديتك أو في غنمك وأذنت للصلاة فارفع صوتك بالأذان، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن شجر ولا حجر إلا شهد له يوم القيامة، وقرأ: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة:4] . وقال بعضهم في قول الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} [فصلت:33] : نزلت في المؤذنين؛ لأنهم أحسن الناس قولاً؛ لأنهم يأتون بكلمات حسنة، ويأتون بهذه الدعوة إلى عبادة الله، فلا أحسن منهم قولاً، وكذلك أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بأنهم يُعرفون يوم القيامة بطول أعناقهم سيمة وعلامة لهم، وذلك دليل على فضيلة الأذان، وأنه شعيرة من شعائر الإسلام. قال أنس: (أُمر بلال أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة) ، وهذا الأمر من النبي صلى الله عليه وسلم، وفي رواية النسائي: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة، والمعنى أن يجعل كلمات الأذان شفعاً، يعني: مكررة، وكلمات الإقامة مفردة وتراً غير مكررة، فيكبر في الأذان أربعاً في الأول، وفي الإقامة تكبيرتين فهي على النصف، يتشهد أن لا إله إلا الله في الإقامة مرة، وفي الأذان مرتين، كل واحدة من الشهادتين يكررها في الأذان مرتين، والحيعلتان يأتي بهما مرتين في الأذان، ومرةً في الإقامة، فمعنى كونه شفعاً يعني: مرتين، والإقامة وتر يعني: مرة، إلا أن الإقامة تزيد بكلمة (قد قامت الصلاة) حيث إنما لإعلام الناس بالقيام، ويؤتى بها مرتين لإعلام الحاضرين بأن يقوموا إلى الصلاة.

كيفية الأذان والإقامة

كيفية الأذان والإقامة أذان بلال خمس عشرة جملة، أربع تكبيرات، وأربع تشهدات، وأربع حيعلات، هذه اثنتا عشرة كلمة، ومعها تكبيرتان تصير أربع عشرة، وتهليلة، فهذه خمس عشرة، هذا هو أذان بلال الذي استمر عليه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم. لكن روي عن أبي محذورة أنه كان يُكرر الشهادتين، ويسمي ذلك ترجيعاً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم علمه الأذان بالترجيع، فكان أذان أبي محذورة تسع عشرة جملة، حيث إنه يأتي بالشهادتين مرتين مرتين، ثم يعيدها مرتين مرتين، فتكون الشهادتان ثمان مرات، فيصل العدد إلى تسع عشرة جملة، هذا أذان أبي محذورة، وكان يؤذن في الحرم المكي في أيام الموسم، وعنه أخذ أكثر الوافدين من المدن البعيدة فنقلوه إلى تلك البلادة البعيدة كالهند والسند وما وراء النهر وبلاد تركيا وما أشبهها، فكانوا يؤذنون بأذان أبي محذورة تسع عشرة جملة، ولكنه كان يخفض الشهادتين للمرة الأولى، ويرفعهما للمرة الثانية. ونحن نقول: لا بأس بذلك، ولكن أذان بلال الذي ليس فيه ترجيع أصح، فإنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمره بالترجيع، وبه حصل الأمر في هذا الحديث، أُمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة، والإقامة عند أبي محذورة كان يكررها ولا يوترها، ولا يعمل بهذا الحديث الذي هو حديث أنس، فيكبر في الإقامة أربعاً، ويتشهد أربعاً، ويحيعل أربعاً، فهذه اثنتا عشرة كلمة، ويأتي بقد قامت الصلاة مرتين، فهذه أربع عشرة، ثم بتكبيرتين هذه ست عشرة، وبتهليلة فهذه سبع عشرة كلمة، وإلى هذا ذهبت الحنفية، فكان أذانهم تسع عشرة كلمة، فإقامتهم سبع عشرة كلمة، إقامتهم مثل أذاننا إلا أنهم يضيفون إليها (قد قامت الصلاة) مرتين، فيصير العدد سبع عشرة كلمة في الإقامة، وتسع عشرة في الأذان. ونحن نقول: ما دام أنهم معتمدون على دليل فلهم دليلهم، ولكن دليلنا أرجح؛ وذلك لأنه الذي كان بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم في سفره وفي حضره، فهو أقوى دليلاً.

شرح حديث أبي جحيفة في صفة أذان بلال

شرح حديث أبي جحيفة في صفة أذان بلال من صفات المؤذن أن يلتفت في الحيعلتين؛ ليبلغ من هنا ومن هنا، ودل على ذلك حديث أبي جحيفة الذي سمعنا، وفيه أن أبا جحيفة وهب بن عبد الله السوائي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في منى في حجة الوداع، ولما جاء إليه وجده في قبة حمراء قد نصبت له في منى، والقبة هي: خيمة صغيرة من أدم، يعني: من جلود، وقد دبغت بالحمرة فأصبح لونها أحمر، جعلها النبي صلى الله عليه وسلم يستظل بها، ولم يكن هناك خيام رفيعة ولا بنايات، إنما هي قبة صغيرة مبنية له من أدم لأجل الظل. ولما حضرت الصلاة خرج صلى الله عليه وسلم ليتوضأ وأخرجوا له وضوءاً، فذكر أبو جحيفة أنه رآه وعليه حُلة حمراء، والحلة: ما يتكون من إزار ورداء، أو إزار وقباء، أو إزار وقميص، أو إزار ومعطف مما يلبس على الظهر، أي: ثوبان يسميان حلة، والواحد لا يسمى حلة، وهذه الحلة كانت حمراء، وكأنها غير خالصة الحمرة، وإلا فهو عليه الصلاة والسلام قد نهى الرجال أن يلبسوا اللباس الأحمر، يعني: الأحمر الخالص، وجعل ذلك للنساء، بل نهى عن المعصفر المطلي بعصفر أو بورس أو بزعفران، وجعل ذلك أيضاً للنساء، فدل على أن هذه الحلة ولو وصفت بالحمرة فحمرتها ليست خالصة، وإنما فيها لون أو بها خطوط حمر. وذكر أنه لما أخرج وضوءه- يعني: الماء الذي توضأ به صلى الله عليه وسلم -كان الناس حوله يتلقون ما تقاطر من أعضائه، فالقطرات التي تتقاطر من وجهه أو من يديه يتلقاها هذا وهذا، وكل من وقعت قطرة في يده مسح بها وجهه أو مسح بها صدره تبركاً بما مسه النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا معنى قوله: فمن ناضح ونائل، يعني: واحد منهم يحصل على ماء ينضح به جسمه وثيابه، والآخر لا يجد إلا بلل يد صاحبه أو كفه أو وجهه أو نحو ذلك. وهذا التبرك خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولم يتبركوا بغيره ممن بعده من الأولياء والصالحين ونحوهم؛ وذلك لما جعل الله فيما مسه من البركة والخير. وقد ذكر أنه لما حضر وقت الصلاة أذن بلال، وهو الذي كان يؤذِن للنبي صلى الله عليه وسلم في سفره وفي حضره، ولما أذن جعل يلتفت، يقول أبو جحيفة: فجعلت أتتبع فاه هاهنا وهاهنا، يعني: يميناً وشمالاً، يقول: حي على الصلاة، حي على الفلاح، أي: يلتفت إذا قال: حي على الصلاة عن اليمين حتى يسمعه الذين عن اليمين، ويلتفت إلى اليسار يلتفت في قوله: حي الفلاح، هكذا فعل وأقره على ذلك النبي صلى الله عليه وسلم؛ لذلك استحب العلماء للمؤذن أن يلتفت في الحيعلتين رجاء أن يذهب صوته من هنا ومن هنا. ولكن هذا خاص بما إذا كان يؤذن بغير المكبر، أما إذا كان يؤذن مع وجود هذا المكبر فلا حاجة إلى الالتفات؛ لأن الالتفات قد يُضعف صوته، فإذا التفت مال عن المكبر الذي أمامه فضعف بذلك صوته، والمطلوب أن يأتي بما يستطيعه من رفع الصوت حتى يسمعه القاصي والداني، ومعلوم أن المكبر يلتقط الصوت ويدفعه إلى تلك السماعات التي قد جُعلت في أعلى المساجد، وتلك السماعات موجهة إلى الجهات، فهي تُرسل الصوت إلى تلك الجهات التي وجهت إليها، سواء قابلها الصوت أو لم يقابلها، إنما تأخذه هذه اللاقطة، فنقول: لا حاجة إلى الالتفات في مثل هذا، إنما يحتاج إليه إذا أذن بغير المكبر؛ لأنه مشروع أن يُبلغ صوته لمن في سائر الجهات. ثم ذكر أنه لما حضرت الصلاة رُكزت عنزة، أي: حربة قصيرة، وهي عصاً في رأسها حديدة محددة، يجعلها سترة له يستقبلها حتى تكون له سترة؛ ولهذا استحب أن يُصلي الإمام إلى سترة إذا كان في الصحراء، فتركز له عصا أو حربة أو عنزة أو نحو ذلك؛ ليقتصر بصره عليها، ولا يمتد إلى ما وراءها؛ ولئلا يمر بينه وبينها أحد، فيردُ من مر بينه وبينها. وذكر أبو جحيفة أنه صلى الله عليه وسلم صلى بهم الظهر ركعتين، والعصر ركعتين؛ وذلك لأنه مسافر، فمن حين خرج من المدينة وهو مسافر، ومعه عدة السفر، ورواحله معه، وليس هو بمقيم سواء كان في منى أو في عرفة أو في الأبطح أو في الطريق، كان يعتبر نفسه مسافراً، فكان يقصر الصلاة الرباعية ركعتين ركعتين حتى رجع إلى المدينة، هكذا ثبت عنه صلى الله عليه وسلم. والحديث فيه أحكام كثيرة، وإنما نأخذ المهم منها، وهو ما ذكره من أذان بلال، وكيفية التفافه في الحيعلتين، وهذا هو الشاهد من الحديث.

شرح حديث: (إن بلالا يؤذن بليل)

شرح حديث: (إن بلالاً يؤذن بليل) قال المؤلف: [عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم) . وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول) ] .

حكم الأذان الأول للفجر

حكم الأذان الأول للفجر الحديث الأول يتعلق بأذان آخر الليل، يقول عليه الصلاة والسلام: (إن بلالا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم) أو (حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم) ، ظاهر هذا الحديث أن كلاً منهما يؤذن في وقت حدد له، فأمروا بأن يأكلوا ويشربوا ولا يردهم ذلك عن سحورهم حتى يسمعوا أذان ابن أم مكتوم الذي يؤذن عند الصباح. استدل بهذا الحديث كثير من العلماء وقالوا: إنه دليل على جواز الأذان للصبح في آخر الليل؛ لأن أذان بلال لصلاة الصبح، لكن يظهر أن الأذان ليس لصلاة الصبح وإنما هو لتنبيه من يريد السحور حتى ينتبه للوقت الذي يتسحر فيه، ويتناول فيه طعامه، ويدل على ذلك أن في حديث آخر قوله عليه الصلاة والسلام: (إن بلالاً يؤذن بليل ليوقظ نائمكم، ويرجع قائمكم) ، وفي حديث آخر: (لا يغركم أذان بلال من سحوركم، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم) ، وبتأمل هذه الروايات يظهر أن الأذانين في رمضان، إذ كان في رمضان أذن ابن أم مكتوم وقت الصبح وقبله أذان بلال لوقت السحور، هذا هو المتبادر، مع أن أكثر الشراح لم يتعرضوا لذلك، ولا أذكر أن أحداً ممن شرح الحديث نبّه على أن هذا في رمضان، ولكن سياق الروايات والأحاديث دليل على أنه في رمضان، فلم يذكر أنه في غير رمضان كان يؤذن مؤذنان للفجر، ففي قوله: (كلوا واشربوا) دليل على أنهم كلهم يصومون، وأما في غير رمضان فلا يصوم إلا أفراد منهم، وهنا أمرهم بقوله: (فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم) ، وفي الرواية الأخرى قال: (لا يغرنكم أذان بلال من سحوركم أي: لا يردكم أذان بلال من سحوركم، فهو يخاطبهم كلهم، ومعلوم أنهم لا يتسحرون كلهم للصوم إلا في رمضان، أما في غيره فإنما يتسحر أفراد منهم لا كلهم، وهذا يُرجح أنهم كانوا يخصون رمضان بمؤذنين في آخر الليل، وقد بينت ذلك الرواية الأخرى وهي قوله: (إن بلالاً يؤذن بليل) لماذا؟ (ليوقظ نائمكم، ويرجع قائمكم) أي: يستيقظ نائمكم للتسحر حينما يعلم أن وقت التسحر قد دخل، وينتبه قائمكم الذي يصلي ينتبه إذا سمع أذان بلال وعلم أن وقت السحور قد قرب، فيصلي الوتر وينهي صلاته ويشتغل بسحوره. (لا يغرنكم أذان بلال من سحوركم) أي: إذا قررتم السحور وسمعتم الأذان فلا تتوقفوا عن الأكل (كلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم) . وقوله: (إنه يؤذن بليل) دليل على أنه يؤذن وقد بقي من الليل جزء إما ساعة وإما ساعتان وإما ساعة ونصف قبل طلوع الصبح. وفي بعض الروايات ليس بينهما إلا أن ينزل هذا ويصعد هذا، وهذه الرواية أشكلت، إذ كيف لم يكن بين أذانهما إلا نزول هذا وصعود هذا؟ لو كان كذلك لما كان بينهما إلا دقائق، لكن لعل الجواب أنه إذا نزل بلال صعد ابن أم مكتوم ووقف على المئذنة وبقي إلى أن يطلع الصبح، وربما يبقى أكثر من ساعة، وكان رجلاً أعمى لا يبصر الصبح وإنما ينتظر أن يقول له الناس: أصبحت أصبحت، وفي بعض الروايات أنهم كانوا يقولون له: لا تصعد لا تصعد، يعني: حتى نفرغ من سحورنا، فهذا دليل على أنه لا يؤذن إلا بعدما يتبين الصبح، وبعدما ينظره من ليس صاعداً على سطح أو مئذنة، فينظره الذين على وجه الأرض فيقولون له: أصبحت أصبحت فيؤذن. فاستدل بهذا على استحباب أو تأكد الأذانين في رمضان، فيكون هناك مؤذنان: مؤذن آخر الليل للتسحر، ومؤذن وقت الصبح لصلاة الفجر، وإذا أذن واحد غاير بينهما، فجعل أذانه الأول مثلاً سريعاً، ومد في الأذان الذي يكون عند طلوع الفجر؛ حتى يُعرف أن هذا أذان الفجر وهذا أذان السحور، فيُعرف بذلك أن الوقت وقت تسحر أو وقت صلاة؛ وذلك لأنه ليس كل أحد يسمع الأذانين، ويفرق بينهما، ويميز بينهما، ومن ذلك أن يقول في أذان الصبح: (الصلاة خير من النوم) وهذا هو الصحيح.

التثويب في أذان الفجر الثاني لا الأول

التثويب في أذان الفجر الثاني لا الأول يوجد في بعض الروايات أنه كان يقول: (الصلاة خير من النوم) في الأذان الأول للفجر، وأشكلت هذه الرواية على كثير من الشراح، حيث اعتقدوا أنه يقولها في الأذان الأول الذي هو آخر الليل، ولكن هذا خطأ، إنما المراد بالأذان الأول أذان الصبح، والأذان الثاني هو الإقامة، فالإقامة تسمى أذاناً كقوله: (بين كل أذانين صلاة) أي: بين الأذان والإقامة، وقد عرفنا أنه في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام ما كان هناك أذانان إلا في رمضان، أما في بقية السنة فليس هناك أذانان للفجر، أذان آخر الليل وأذان عند الفجر، وإنما يؤذنون لصلاة الصبح فقط، لكن في رمضان جعلوا مؤذنين: مؤذناً للسحور ومؤذناً للصلاة، هذا هو ظاهر هذه الأحاديث. فكون بعض المؤذنين في آخر الليل يقولون: الصلاة خير من النوم، ويجعلون الأذان طوال السنة؛ هذا لا دليل عليه، وأخذوا ذلك من تلك الرواية التي فيها أنه يقول: الصلاة خير من النوم، في الأذان الأول، وهذا يسمى التثويب، ولكنهم لم يفهموا أن المراد بالأذان الأول هو الأذان الذي فيه الشفع، والأذان الثاني: هو الإقامة، فلا يغتر بمن جعل التثويب -وهو (الصلاة خير من النوم) - في الأذان الأول الذي في آخر الليل، وقد اعتمدوا على هذه الرواية: (كان يؤذن بليل) فقالوا: يؤذن بليل، يعني: للصبح. ولكن فاتهم أنه ليس للصبح وإنما هو للسحور. وقد روي أن بلالا بكر مرة بالأذان قبل أن يطلع الصبح، فلما أذن أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع وينادي: ألا إن العبد نام؛ لينبه الناس على أنه أخطأ، فرجع ورفع صوته ممتثلاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم مع ما ركبه من الخجل والفشل حتى كان يقول: ليت بلالاً لم تلده أمه، يعني: لكونه ألزم بتلك المقالة، فرجع ونادى وقال: ألا إن العبد نام؛ لأن الناس اغتروا بهذا الأذان الذي هو قبل الصبح، فدل على أن من أذن قبل الصبح فإنه يعيد؛ وذلك لأن الأذان إنما يكون عند دخول الوقت؛ ليُعلم بذلك أن وقت الصلاة قد دخل، فيصلي المعذورون في بيوتهم، ويأتي المصلون إلى المساجد لأداء سنة الصبح ولأداء صلاتها جماعة. هكذا شرع هذا الأذان، فلا يجوز أن يكون آخر الليل، والذي يكون آخر الليل إنما هو أذان السحور كما عرفنا. وأما التثويب بقوله: (الصلاة خير من النوم) فلا يكون إلا في أذان الصبح؛ وذلك لأنه نداء لهذه الصلاة، وكأنه يقول: احضروا صلاة الفريضة فهي خير من النوم، فمن كان نائماً فلينتبه، فإن الصلاة التي هي الفرض أفضل لكم أن تأتوا إليها من أن تبقوا في مضاجعكم نائمين، فمناسبتها ظاهرة؛ ولأجل ذلك يقول المؤذن للفجر في السنة كلها: الصلاة خير من النوم.

شرح حديث: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول)

شرح حديث: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول) الحديث الثاني يتعلق بإجابة المؤذن، فالمؤذن يأتي بهذه الكلمات التي هي ذكر، فإذا أتى بها فنحن السامعون ننتبه إلى ما يقوله من الذكر، فنتكلم بمثل ما تكلم به، ونقول مثلما يقول؛ حتى يحصل لنا ثواب الذكر، روي أن رجلاً قال: (يا رسول الله! إن المؤذنين يفضلوننا -يعني: يكونون أفضل منا- فقال: قولوا مثلما يقول) يعني: إذا كان المؤذن قد فضلكم بهذا الذكر فتابعوه حتى تشاركوه في هذا الذكر، إذا ذكر الله فاذكروا الله، ولا شك أن أذكار الأذان من جملة القربات، فالسامع يُجيب المؤذن، أي: يتابعه ويقول مثلما يقول حتى يحصل له أجر الذكر، وأجر هذه المتابعة. فالتكبيرات الأربع الأول يتابعه بها تكبيرة تكبيرة، والتكبير تعظيم لله سبحانه، فإذا قال: الله أكبر، فمعناه: أعتقد وأجزم بأن الله أكبر من كل شيء، وإذا اعتقد أن الله هو الكبير المتعال صغرت عنده الدنيا، وصغُر عنده الخلق كلهم، وصغرت عنده نفسه، واستحضر عظمة ربه في قلبه، فيكون هذا ذكراً وأي ذكر! وكيفية المتابعة أن يتبع كل كلمة بمثلها إلا في الحيعلتين فيجعل بدلها الحوقلة، ودليل ذلك حديث عمر بن الخطاب الذي رواه مسلم، يقول فيه صلى الله عليه وسلم: (إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر، فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، فقال أحدكم: أشهد أن لا إله إلا الله، فقال: أشهد أن محمداً رسول الله، فقال أحدكم: أشهد أن محمداً رسول الله، فقال: حي على الصلاة، فقال أحدكم: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال: حي على الفلاح، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال: الله أكبر الله أكبر، فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: لا إله إلا الله، فقال: لا إله إلا الله من قلبه دخل الجنة) يعني: إذا قال ذلك من قلبه معتقداً للشهادتين معتقداً لمعنى الحوقلة معتقداً للتكبير الأول والأخير مستحضراً لمدلول ذلك متقرباً إلى ربه بما تضمنته هذه الكلمات؛ دخل الجنة. ولا شك أنه سيحصل له تأثير في قلبه فإن الشهادة تجديد للعقيدة، فإذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فمعناه: أعتقد وأقر وأعترف بأن الإلهية الحقة إنما هي لله وحده، وسيحمله ذلك على أن يعبد ربه، وأن تعرض جوارحه عن الخضوع لغير ربه تعالى. وكذلك إذا قال: أشهد أن محمداً رسول الله، اعترف برسالته، وحمله ذلك على اتباعه وطاعته، وإذا قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، فكأنه يستحضر بأنه ليس له استطاعة على الحضور إلا إذا قواه ربه وأعانه، فكأنه يقول: لا أستطيع أن أتقرب ولا أستطيع أن أذهب إلا إذا أعطيتني قوة -يا ربي- وإعانة على الحضور أو على الذهاب، فأنت الذي تمنح القوة وتمنح القدرة، أنا العبد الضعيف المستغفر الذي ليس لي حول ولا قوة، أي: لا تحول لي من حال إلى حال، ولا قدرة لي ولا استطاعة إلا إذا أعنتني بذلك، هذا معنى الحوقلة (لا حول ولا قوة إلا بالله) ، وهي تقال بدل الحيعلة.

إجابة المؤذن في التثويب والإقامة

إجابة المؤذن في التثويب والإقامة التثويب في أذان صلاة الصبح هو قوله: (الصلاة خير النوم) ، فإذا سمعته فإنك تقول: صدقت وبررت، ولا شك أنك إذا قلت ذلك فأنت تصدقه بما يقول، فتكون بذلك قد أتيت بكلمة تحفزك على الاندفاع إلى هذه العبادة وهي الصلاة، وترك الكسل والنعاس والنوم، فتقول: صدقت وبررت. وإن قلت مثلاً: (صدق الله ورسوله، الصلاة خير من النوم) ، وجمعت بينهما فذلك أيضاً ذكر وعبادة، أما الاقتصار على قول: الصلاة خير من النوم. فلا ذكر فيها ولا فائدة، وبعضهم يقول: إذا سمعت المؤذن يقول: الصلاة خير من النوم، فقل: الصلاة خير النوم، فهذه ليست بذكر، ولا فائدة فيها، بخلاف ما إذا قلت: (صدقت وبررت) ونحو ذلك. وفي الإقامة تتابعه في كلماتها؛ وذلك لأنها كلها ذكر إلا كلمة (حي على الصلاة، حي الفلاح) فتقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وكلمة: (قد قامت الصلاة) ، ورد في حديث أنه عليه السلام لما أقيمت الصلاة قال: (أقامها الله وأدامها) والحديث في إسناده ضعف كما في سنن أبي داود، ولكن سكت عنه أبو داود واعتبره صالحاً للاستدلال، ولو كان في سنده مجهول أو ضعيف، فسكوته عليه يدل على اعتماده، فإذاً: لا مانع من أن تقول: أقامها الله وأدامها؛ وذلك لأن هذا دعاء، والدعاء يثاب عليه الإنسان، وأنت تدعو الله أن يقيم هذه الصلاة فيجعلها قائمة، بمعنى: ظاهرة معلنة، ودائمة، بمعنى: مستمرة دوام هذه الحياة، أي: ما دامت الدنيا باقية. فهذه دعوة يرجى إجابتها، فهو أفضل من أن تردد الكلمة وتقول: قد قامت الصلاة؛ لأنه لا فائدة في ذلك، فالمؤذن يخبر الحاضرين ويقول: قد قامت الصلاة فقوموا، فمعلوم أنه يخبرهم، وأنت لست تخبرهم، فلا فائدة في أن تقول: قد قامت الصلاة فقوموا. فالصحيح -إن شاء الله- أنه يدعو بقوله: أقامها الله وأدامها، وهذا أفضل من ترديدها، وعرفنا بذلك أنه يأتي بالكلمات التي فيها ذكر إلا الكلمات التي لا ذكر فيها، كقوله: (حي على الصلاة، حي على الفلاح) فهذه يأتي بدلها بالحوقلة، وكذلك (الصلاة خير من النوم) يأتي فيها بالتصديق، (وقد قامت الصلاة) يأتي فيها بالدعاء لإقامة الصلاة وإدامتها.

الأذكار التي تقال بعد الأذان

الأذكار التي تقال بعد الأذان وبعد ذلك يأتي بما تيسر من الأذكار، وقد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام أمرنا بعد الفراغ من الأذان أن نأتي بما تيسر من الأذكار في قوله: (ثم ليتخير من الدعاء ما شاء) ، وقال: (الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة) ، ومن ذلك الدعاء له صلى الله عليه وسلم بالوسيلة التي ذكرها في قوله: (إن الوسيلة درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد) ، فأمرنا بأن نقول: (اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة -وفي رواية: والفضيلة-، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، وفي رواية: إنك لا تخلف الميعاد) ، وإذا قال بعد ذلك مثلاً: (آمنت بالله وحده، وكفرت بالجبت والطاغوت، واستمسكت بالعروة الوثقى لا انفصام لها، والله سميع عليم) ؛ فهذا تجديد للعقيدة، وإذا قال مثلاً: (حسبي الله وكفى، سمع الله لمن دعا، ليس وراء الله منتهى) ؛ كان ذلك أيضاً من الأذكار، وإذا قال مثلاً: (رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً نبياً) ؛ كان ذلك أيضاً تجديداً للعقيدة، وإذا دعا بعد ذلك بما تيسر من الأدعية التي فيها سؤال الله الرحمة أو المغفرة فيرجى قبول دعائه.

شرح عمدة الأحكام [11]

شرح عمدة الأحكام [11] من شروط صحة الصلاة استقبال القبلة، ومن إقامة الصلاة تسوية الصفوف، ولهذين الأمرين أحكام شرعية كثيرة بينها أهل العلم رحمهم الله تعالى. وقد خفف الله عن المسافر شرط استقبال القبلة في النافلة، فله أن يصليها على راحلته حيثما توجهت به، ويومئ بالركوع والسجود.

شرح حديث: (كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه)

شرح حديث: (كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه) قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب استقبال القبلة: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه يومئ برأسه) وكان ابن عمر رضي الله عنه يفعله، وفي رواية: (كان يوتر على بعيره) ، ولـ مسلم: (غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة) ، وللبخاري: (إلا الفرائض) . وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أُنزل عليه الليلة قرآن، وقد أُمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة) . وعن أنس بن سيرين قال: استقبلنا أنساً حين قدم من الشام فلقيناه بعين التمر، فرأيته يصلي على حمار ووجهه من ذا الجانب -يعني: عن يسار القبلة- قلت: رأيتك تصلي لغير القبلة، فقال: لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله ما فعلته] .

استقبال القبلة من شروط الصلاة

استقبال القبلة من شروط الصلاة استقبال القبلة شرط من شروط الصلاة دل عليه القرآن، قال تعالى: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144] يعني: إذا أردت الصلاة، {وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة:144] . أمر الله باستقبال البيت الحرام في سورة البقرة في ثلاث آيات، وكرر ذلك بالتأكيد، وقد كان صلى الله عليه وسلم لما فُرضت عليه الصلاة وهو بمكة يستقبل الكعبة ويستقبل بيت المقدس، فكان يجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس؛ وذلك لأن بيت المقدس قبلة الأنبياء من بني إسرائيل، والكعبة هي قبلة أبينا إبراهيم، ولما هاجر أُذن له أن يستقبل بيت المقدس؛ تأليفاً وبياناً أنه على ملة الأنبياء قبله، ولكن بعد أن مضى عليه ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، ولم يُفد ذلك في تأليف بني إسرائيل ولم يزدهم إلا عصياناً وتمرداً، أعاده الله ورجّعه إلى قبلة أبيه إبراهيم، فقال تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة:142] ، واستقبل الكعبة وترك القبلة الأولى فاستنكر ذلك السفهاء والمنافقون واليهود ونحوهم؛ لذا أمر الله نبيه أن يخبرهم بأن له المشرق والمغرب: {لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:142] فأمره بأن يستقبل الكعبة التي هي بيت الله، ولا شك أن استقبالها فيه تعظيم لها، ولتلك المناسك، وبيان لأهميتها، وحثٌ للناس على أن يأتوا إليها ويتعبدوا بالعبادات التي لا تصح إلا بها من الحج والعمرة والطواف والاعتكاف ونحو ذلك. والمسلمون يستقبلون الكعبة في أي مكان وفي أي قطر من أقطار الأرض، يتوجهون في صلواتهم كل يوم خمس مرات في الفرائض وما شاء الله من نوافل، ويستقبلون هذه الكعبة، ولا شك أن هذا الاستقبال يحفز هممهم ويشوقهم ويبعث اشتياقهم إلى تلك الرحاب، حيث إنهم إذا كانت هي قبلتهم انبعثت الهمم إلى أن ينظروا إليها، وأن يأتوا إليها رجالاً وركباناً ليقرءوا، وليتعبدوا، وليقيموا العبادات التي يتعبد بها هناك. والحاصل: أن استقبال الكعبة ركن واجب وشرط من شروط الصلاة، فالفرائض لابد فيها من استقبال الكعبة، فمن كان قريباً فلابد حينئذٍ أن يصيب عينها، وإن كان بعيداً اكتفى بأن يستقبل جهتها، وأما النافلة فإن أمرها أخف، فله والحال هذه أن يصلي وهو راكب، ويتنفل ولو كان وجهه لغير القبلة؛ حرصاً من الشارع على أن يكثر الناس من النوافل، وألا يعوقهم عنها عائق؛ وذلك لأن الإنسان قد يكثر سفره، وقد تطول مدة سفره، فينقطع عن النوافل مدة؛ وذلك لعدم تمكنه منها لكثرة مسيره، وكثرة تطوافه فهو دائماً راكب أو ماش على الراحلة أو نحو ذلك، فلو منع من التنفل إلا مستقبلاً القبلة لانقطع عن كثير من النوافل، فلا جرم أبيح له أن يصلي على الراحلة ولو لم يأت بالأركان كلها. ولو لم يأت بالشروط كلها، وقد جعل العلماء استقبال القبلة من شروط الصلاة التي لا تصح إلا بها، فإن كانت فريضة فلابد أن يستقبلها بكل جسده، إما أن يستقبل عينها إذا تمكن، وإما أن يستقبل جهتها؛ لأنه قد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما بين المشرق والمغرب قبلة) يخاطب أهل المدينة، وكانت قبلته في جهة الجنوب، فقوله: (ما بين الشرق والمغرب قبلة) أي: هذا الجانب الجنوبي، ولو ملتم يميناً أو يساراً وأنتم قد استقبلتم جهة الكعبة، فأنتم على خير، ونقول: في هذه البلاد (الرياض) ما بين الشمال والجنوب قبلة، ولو قُدّر أنه مال يميناً أو يساراً، وإن كان الأفضل أن يستقبل الشطر للآية: {شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144] .

التخفيف في ترك استقبال القبلة في النافلة حال الركوب في السفر

التخفيف في ترك استقبال القبلة في النافلة حال الركوب في السفر النافلة التي يُخفف فيها، ويسقط فيها الاستقبال، يدخل فيها الرواتب التي تصلى قبل الفرائض وبعدها، ويدخل فيها صلاة التهجد لمن يريد أن يتهجد بالليل وهو مسافر، ويدخل فيها صلاة الوتر، وصلاة الضحى، ونحوها من النوافل، فكلها يصح أن يصليها على راحلته ولو كان وجهه لغير القبلة؛ وذلك لأنه قد يسير إلى جهة مخالفة للقبلة، حتى تكون القبلة خلف ظهره إذا توجه مثلاً إلى جهة الشرق من هذه البلاد إلى الأحساء أو إلى البحرين أو إلى الهند أو السند أو نحو ذلك، فتكون الكعبة وراءه فيصلي على جهته، وإذا توجه إلى الجنوب إلى نجران أو إلى اليمن صارت القبلة عن يمينه، فيصلي إلى الجهة التي هو سائر إليها، وهكذا إذا توجه إلى الشمال، كما لو توجه إلى العراق أو ما وراءه صارت القبلة عن يساره فيصلي إلى جهته. وذكر بعض العلماء أنه يُستحب أن يستقبل القبلة في الاستفتاح، ولكن لم يرد دليل، بل الظاهر أنه يجوز أن يستقبل جهته من أول صلاته، فيستفتح ويكبر ويركع ويسجد وهو إلى تلك الجهة، وكل ذلك لأجل أن يُكثر من النوافل حتى يغتنم نوافل الصلوات ولا تفوته؛ لأنه لو اشترط أن يستقبلها لما تمكن؛ وذلك لأنه مجد يستغرق أكثر وقته؛ ولأنه قد يتعب إذا نزل وقد سار على البعير عشر ساعات متوالية أو أكثر أو أقل، فإذا نزل وقد أجهده السير وقد تعب تعباً كثيراً، فإنه يتمنى أن يضطجع على الأرض ولا يتمكن من التهجد، ولا من الإتيان بالنوافل ونحو ذلك، فلا جرم أن أبيح له أن يكثر من النوافل وهو راكب على دابته. وفي هذه الأزمنة قد يقال: إن الأمر فيه شيء من التحسن، وفيه شيء من التغير؛ وذلك لقُرب المسافات وقلة المدة، فإن المسافر وهو سائر مجد قد يواصل سيره خمس ساعات أو أقل أو أكثر، ومع ذلك لا يلقى المشقة التي يلاقيها من هو راكب للدابة كالحمار والبعير، وكذلك أيضاً قد يريح نفسه، فإذا سار ساعتين أو ثلاث ساعات متواصلة يقف ويريح نفسه، ويتمكن في وقوفه من أن يتنفل أو نحو ذلك، ومع ذلك إذا أراد أن يتنفل إذا كان مستعجلاً فيجوز له ذلك، فإذا كنت سائراً إلى مكة أو إلى الأحساء، فتصلي الفريضة على الأرض مطمئناً، ثم تركب سيارتك أنت ورفقتك وتأتون بالنوافل وأنتم راكبون، ولو كانت وجوهكم لغير القبلة، ولو كانت القبلة خلفكم أو عن يمين أو عن يسار، فيكبر الراكب ثم يقرأ ويركع ويومئ بالركوع حيث إنه قد لا يستطيع أن يركع قائماً، ويومئ بالسجود ويجعل سجوده أخفض من ركوعه. هكذا كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على الراحلة، لا يتمكن من القيام ولا من الركوع ولا من السجود، وإنما يتمكن من التحريم والتسليم، ويقرأ، ويسبح، ويحرك يديه، ويضعها على صدره في حالة القيام، وعلى ركبتيه في حالة الركوع، وعلى رحله في حالة السجود، وعلى فخذيه في حالة الجلسة بين السجدتين أو التشهد تشبهاً بالصلاة، وهكذا أيضاً إذا كان راكب سيارة أو نحوها.

كيفية صلاة راكب القطار والسفينة والطائرة

كيفية صلاة راكب القطار والسفينة والطائرة إذا كان راكباً في قطار، فالقطار قد يكون أمره أسهل، وكذا إذا كان راكباً في باخرةٍ أو في سفينةٍ، فإن فيها شيئاً من التوسعة؛ وذلك لأنه يتمكن غالباً من الوقوف، فقد يتمكن من استقبال القبلة راكب الباخرة ونحوها، ويتمكن من الاستدارة نحو القبلة إن استدارت الباخرة أو انحرفت يميناً أو يساراً، فنقول: متى قدرت على استقبال القبلة فلتأت منه ما تستطيع، وإذا شق ذلك عليك وخشيت من القيام دوراناً أو سقوطاً إذا جاءت للسفينة أمواج أو مر القطار في انحرافات أو نحو ذلك مما يكون فيه شيء من الحركة؛ فلك أن تصلي جالساً ولو لغير القبلة، وإن استطعت استقبال القبلة فاستقبلها مهما تستطيع. أما راكب الطائرة ونحوها من المراكب الجوية فمعلوم أنه قد يحتاج إلى أن يتنفل، فقد تطول المدة في بعض الأحيان، وفي داخل المملكة قد لا تطول أكثر من ساعة ونصف أو نحوها، ولكن إلى خارج المملكة قد يتمادى بهم السير سبع ساعات أو عشر ساعات متواصلة كما في بعض الرحلات الطويلة، ففي هذه الحال قد يحتاج إلى التنفل، فيتنفل وهو على كرسيه ولو لغير القبلة. أما الفرائض فقد سمعنا أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يصليها إلا على الأرض، ولا يصليها على الراحلة، وذلك لأهميتها؛ ولأنه لابد من استقبال القبلة فيها، فينزل ويصليها بأصحابه جماعة ويصفهم خلفه صفوفاً. ويشتكي كثير من الذين يرحلون في الطائرة، ويستمر سيرهم ساعات، أنه قد يدخل عليهم الوقت ويخرج وهم في رحلة واحدة، فيفتيهم المشايخ ويقولون: إذا كان الوقت متسعاً فأخر الأولى إلى أن تنزل، كما لو كانت رحلة في الضحى ودخل عليك وقت الظهر ولم تستطع أن تصلي، وخشيت أن يفوت فأخره إلى العصر، فإذا نزلت في آخر النهار، وما بقي إلى الليل إلا ساعة أو نصف ساعة أمكنك أن تصلي قبل الغروب، فتجمع الفرضين في وقت واحد. فإذا كنت تعرف أنك تنزل قبل غروب الشمس فأخر الظهر وصلها مع العصر قبل أن تغرب الشمس، وإذا دخل عليك وقت الظهر قبل الانطلاق، وأنت تعرف أنك ستستمر خمس ساعات أو نحوها، جاز لك أن تصلي الظهر وتقدم معه العصر قبل الرحلة، ثم بعد ذلك تواصل السير. وإذا دخل عليك وقت المغرب وأنت سائر فلك أن تؤخره وتجعله مع العشاء ولو لم تنزل إلا قُبيل الفجر، فإن وقت المغرب والعشاء لا يخرج ولا ينتهي إلا بطلوع الفجر الثاني، أي: بطلوع ضياء الصبح، فإذا وصلت وما بقي على الفجر إلا ساعة أو نصف ساعة نزلت وصليت العشاء، وأجزأك ذلك إن شاء الله؛ وذلك لأنك أدركت آخر الوقت فهو أولى من أن تصلي على السرير. أما إذا خشيت خروج الوقت في الصبح، لأن وقتها ضيق -من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس- ففي هذه الحال لك أن تصليها إن وجدت متسعاً في الطائرة، فتصل وأنت على تؤدة تقوم وتركع وتسجد، وإن لم تجد فصلي وإن كنت على كرسيك جالساً، وأومئ واستقبل ما أنت مستقبل له؛ وذلك اغتناماً للوقت حتى لا يخرج وأنت لم تصل؛ لأن الوقت شرط والشرط مقدم على الأركان التي منها الركوع والسجود وما أشبه ذلك، وكل ذلك حرصاً على إيقاع الصلاة في وقتها، والإتيان بها على هيئتها دون أن يختل شيء منها؛ وذلك لعظم شأن هذه الصلاة، وأهمية المحافظة عليها.

شرح حديث: (بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت)

شرح حديث: (بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت) حديث ابن عمر هو في قصة أهل قباء، فقد ذكر أن النبي عليه الصلاة والسلام لما قدم المدينة استقبل الشام قبلة أنبياء بني إسرائيل، وبقي كذلك ستة عشر أو سبعة عشر شهراً، حتى اشتاق إلى أن يستقبل الكعبة، فلما اشتاق إلى ذلك أخذ يقلب بصره، فقال الله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة:144] يعني: انتظار الوحي الذي يتضمن صرفك إلى القبلة؛ قال: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة:144] فنزلت عليه هذه الآية في الليل، فأخبر صحابته بأن هذا أمر من الله، وأنه أمرنا بأن نستقبل الكعبة بدل ما كنا نستقبل بيت المقدس. وكان مكان أهل قباء نائياً، فجاءهم الخبر بعدما كبروا، ولعلهم قد صلوا بعض الصلاة أو لم يصلوا بعضها، وفي أثناء الصلاة كلمهم ذلك المتكلم فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أُمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى جهة الشمال، فاستداروا كما هم يمشون، وإمامهم يمشي معهم، واستداروا إلى أن أصبحت وجوههم إلى جهة الجنوب، وهذا عمل كثير، وبالأخص الإمام، فإنه سار وهو قدامهم وهم ينحرفون إلى أن صارت وجوههم إلى جهة الجنوب، فالذي كان في طرف الصف من جهة الشرق أصبح في طرف الصف من جهة الغرب، والإمام بدل ما كان أمامهم وهم إلى الشمال أصبح أمامهم وهم إلى الجنوب إلى جهة اليمن، وهذه الحركة لم تعتبر مبطلة للصلاة؛ وذلك اغتنام منهم لإيقاع الصلاة كلها كما أمر الله، فانحرفوا وقد كانوا على قبلة متحققين لها، وعملوا بذلك الخبر. فالحاصل أن هذا دليل على أن آيات القبلة نزلت، وأن المسلمين عملوا بها، وأنهم بادروا إليها، وأن استقبال القبلة واجب على المصلين في فرائضهم ونوافلهم إلا أنه يُخفف في النوافل إذا كان الإنسان راكباً، وذلك اغتناماً لكثرة العبادة والتنفل حال السفر.

شرح عمدة الأحكام [12]

شرح عمدة الأحكام [12] تسوية الصفوف في الصلاة معدودة من تمام الصلاة، وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فضلها، وبين فضيلة ميامن الصفوف والتراص فيها، وقد شرح العلماء ذلك وبينوه، فعلى المسلم أن يتعرف على ذلك كي تتم له صلاته.

شرح حديث: (سووا صفوفكم)

شرح حديث: (سووا صفوفكم) قال المؤلف رحمه الله: [باب الصفوف: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سووا صفوفكم فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة) . وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لتسوّن صفوفكم، أو ليخالفن الله بين وجوهكم) . ولـ مسلم (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسوي صفوفنا حتى كأنما يُسوي بها القداح، حتى إذا رأى أن قد عقلنا، ثم خرج يوماً فقام حتى كاد أن يكبر، فرأى رجلاً بادياً صدره، فقال: عباد الله! لتسوّن صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم) ] . يؤمر المصلون بأن يقوموا خلف الإمام، وأن يصفوا الصفوف، وفي هذه الأحاديث الأمر بتسوية الصفوف، يقول: (سووا صفوفكم، فإن تسوية الصف من تمام الصلاة) ، وتسوية الصف معناه: محاذاة بعضهم لبعض، وعدم تقدم أحدٍ على أحد، بل يكون أحدهم مصافاً للآخر دون أن يكون متقدماً أو متأخراً عنه، هكذا تكون تسوية الصفوف. وأخبر في هذا الحديث أن تسوية الصفوف من تمام الصلاة، وورد في الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم: (صفوا كما تصف الملائكة عند ربها، قالوا: وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ فقال: يتمون الصفوف الأول، ويتراصون في الصف) ، فيؤمر في الصفوف بأمور: أولها: التسوية، بحيث يكون كل واحد محاذياً للآخر، ولا يكون هناك اختلاف بتقدم ولا تأخر، فإن ذلك مما توعد عليه، ففي الحديث الأول يخبر بأن تسوية الصف من تمام الصلاة. الأمر الثاني: سد الخلل، وهو أن يتراصوا في الصف، فلا يكون بينهم خلل ولا فُرج، بل يحرصون على سدها. الأمر الثالث: أن يتموا الصفوف الأول، وأن يكون النقص في الصف الأخير، فيتمون الصف الأول ثم الثاني ثم الثالث، ولا يصفون في صف حتى يمتلئ الذي قبله، هكذا أُمروا أن يصفوا. هذه حالة الصفوف في الصلاة، ولا شك أن الصفوف في الصلاة تبين أهميتها، فإن المسلمين إذا قاموا صفوفاً خلف إمامهم، وكل صف مستقيماً ليس فيه اعوجاج، وليس فيه تقدم ولا تأخر؛ كان ذلك أقرب إلى احترامهم لهذه العبادة، وأقوى على اهتمامهم بها، ومعرفتهم بقدرها، وكان ذلك أدعى ليكونوا مستقيمين في حالتهم، مستقيمين في عبادتهم.

شرح حديث: (لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم)

شرح حديث: (لتسوّن صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم) في الحديث الثاني يقول: (لتسوّن صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم) وفي رواية: (أو ليخالفن الله بين قلوبكم) والمعنى واحد، وكأن هذا من باب العقوبة، وكأنه يقول: إذا لم تتحاذوا فتقدم هذا وتأخر هذا كان ذلك سبباً في وقوع الاختلاف فيما بينكم عقوبة لكم، فإذا اختلفتم في الصف فلن تنظموا صفوفكم ولن تنسقوها. ويخبر في هذا الحديث أنه عليه الصلاة والسلام كان يُبالغ في تسويته للصفوف؛ حتى كأنما يُسوي بها القداح، يعني: يساوي بينهم كما يسوى القداح بعضها ببعض، والقداح جمع قدح، وهي السهام التي يبريها الإنسان؛ لأجل أن يرمي بها، والعادة أنه يجعلها مستوية، ولا يكون واحد منها أطول ولا أقصر ولا مائلة يمنة ولا يسرة، وقد ضرب بها النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً في حديث آخر، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (لتتبعنَّ سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة) ، والقذة هي: السهام، وهي القداح (حذو القذة بالقذة) يعني: ريشة السهم تحاذي ريشة السهم الثاني دون اختلال ودون تقدم أو تأخر، فهكذا أيضاً تسوية الصفوف. كان يسوي صفوفهم كأنما يساوي القداح التي هي السهام، ليس فيها واحد متقدماً على واحد، بل كلها متحاذية، فالتحاذي هو التساوي. وقد ورد أن التساوي يكون بالمناكب وبالكعاب، أي: يكون المنكب محاذياً للمنكب إذا لم يكن أحدهما أحدب، أما إذا كان هناك من في ظهره حدب فهذا معذور إذا تقدم لأجل ضرره، وكذلك يكون التساوي بالكعاب، فكعب القدم يكون محاذياً لكعب القدم دون أن يكون فيه شيء من التقدم أو التأخر، ولا يلزم المحاذاة برءوس الأقدام، فرءوس الأقدام قد تختلف، قد يكون هذا أطول قدماً من هذا، وليس الصبي الذي قدر قدمه مثلاً عشرة سنتيمترات كالكبير الذي قد قدمه ثلاثون سنتيمتراً. إذاً: المحاذاة تكون بالكعاب، وبعض الأئمة يقول: تحاذوا بالأقدام، فبعضهم يقدم قدمه حتى تكون رءوس أصابعه محاذية لرءوس أصابع الآخر، فيكون قد تقدم صدره وقد تقدم جسده حتى اختل الصف، وصار متقدماً بجزء من بدنه، وهذا فيه اختلال، بل المراد بالمحاذاة هو نفس المحاذاة بالأكعب. وفي حديث عن النعمان أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يتحاذوا ويتصافوا، يقول: فرأيت الرجل منا يُلصق كعبه بكعب صاحبه، ومنكبه بمنكبه، والمراد بهذا المبالغة في القرب، يعني: تقاربهم بحيث إن أحدهم يحرص على أن يكون قريباً من أخيه محاذياً له، لا يترك بينه وبينه فرجةً، ولا يختل بذلك الصف. وقد ورد النهي عن الفرج في الصفوف في الحديث الذي ذكرنا، قال: ويتراصون في الصف، يعني: يقرب بعضهم من بعض حتى لا يكون بينهم فرج؛ وذلك لأن هذه الفرج لا شك أنها خلل في الصف وعيب فيه، وأنها سبب لدخول الشياطين، وقد ذكرنا أنه عليه السلام قال: (والله إني لأراه يدخل بينكم مثل الحذف) يعني: تدخل الشياطين فيما بينكم من تلك الفرج مثل أولاد الغنم الصغيرة، تدخل بين الاثنين إذا كان بينهما فرجة وخلل، لذلك يؤمرون أن يتحاذوا ويتراصوا في الصفوف حتى لا تدخل هذه الشياطين.

كيفية ترتيب الصفوف

كيفية ترتيب الصفوف ويؤمر المصلون في ترتيب الصفوف أن يتقدم في الصف الأول الرجال البالغون وأهل الفضل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليلني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم) ؛ ولذلك ذكر العلماء من يلي الإمام فقالوا: يليه من المصلين الرجال البالغون، ثم بعدهم الأطفال، ثم يليهم النساء، فجعلوا الأطفال الذين هم الصبيان في المؤخر؛ وذلك لعدم رشدهم، وعدم معرفتهم التامة بهيئة الصلاة. ومع ذلك إذا تقدم أحدهم وهو مميز وقد عقل ما يقول، فلا بأس أن يصلي في وسط الصف، وإن كان المندوب أن يكون الأطفال الذي دون العشر في أطراف الصف، ويجوز إذا صفوا من الوسط إذا لم يُخش منهم شيء من العبث وما يذهب الطمأنينة ويقلل الخشوع، فإن عادة الطفل أن يكون معه شيء من الحركة. وقد ورد الحث على الصف الأول كقوله صلى الله عليه وسلم: (لو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه -التهجير التبكير-، ولو يعلمون ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا) ، والمراد أنهم لو يعلمون فضيلة الصف الأول لاندفعوا جميعاً ودخلوا دفعة واحدة، ولم يجدوا إلا أن يقترعوا عليه لينظروا من هو أولى به، ومن تخرج له القرعة حتى يكون في الصف الأول! ولا شك أن هذا دليل على فضل الصف الأول. كما تفضل ميامن الصفوف، وقد ورد في ذلك حديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف) يعني: على أيمن الصف، فأيمن الصف أفضل، ولكن القرب من الإمام أفضل من البعد ولو كان على اليمين، فيفضل إذا كان على اليسار وبينه وبين الإمام عشرة مثلاً على من كان في جهة اليمين وبينه وبين الإمام عشرون أو ثلاثون رجلاً، وما ذاك إلا لمزية القرب وأهميته، فإن القرب من الإمام أيضاً له ميزة كما ذكرنا في قوله: (ليلني منكم أولو الأحلام والنهى) ، ثم هو دليل على التقدم، فالقرب من الإمام والسبق إلى الصف الأول له أهميته ومزيته. أما صلاة النساء فورد في بعض الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم: (خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها) فأخذوا من ذلك أن النساء يقمن صفوفاً كما يقوم الرجال صفوفاً، والمرأة كلما بعدت عن الرجال كان ذلك أفضل لها وأسلم، ولكن ذكر بعض العلماء أنه إذا كان بينهن وبين الرجال حاجز وهن يسمعن الصوت بواسطة المكبر كما في هذه الأزمنة فإنهن يبدأن بالصف الأول كما يبدأ الرجال؛ وذلك لأنهن لو بدأن بالصف المؤخر لأدى ذلك إلى مرور المتأخرات أمام المتقدمات، فيكون في ذلك شيء من قطع الصلاة أو نحوه، فيُفضل والحال هذه أن يبدأن بالصف الأول كما يبدأ الرجال. وعلى الإنسان أن يحرص على القرب من الإمام ومحاذاته إن استطاع، وإذا فاته ذلك فليحرص على أن يكون عن يمين الإمام، وإذا فاته ذلك فليحرص على أن يكون في الصف الأول، ثم في الذي يليه، وفي هذه فضل وهو مهم.

استعانة الإمام بمن يسوي الصفوف

استعانة الإمام بمن يسوي الصفوف على المصلين إذا قاموا إلى الصلاة أن يسووا صفوفهم، وعلى الأئمة أن ينظروا إليهم وأن يسووهم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام في الصف ينظر ويلتفت عن يمينه ويساره فيأمرهم بقوله: (استووا) أي: سووا صفوفكم، ويأمرهم كما جاء في الحديث: (سووا صفوفكم فإن تسوية الصف من تمام الصلاة) ، وكذلك قوله: (لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم) ، وكان تارة يتكلم معهم بحيث يقول: تقدم يا فلان، تأخر يا فلان، حتى يستووا، فكان يسويهم كأنما يسوي بهم القداح التي هي ريش السهام. وكذلك كان خلفاؤه رضي الله عنهم، فكان عمر رضي الله عنه قد وكل رجلاً بالصفوف إذا أقيمت الصلاة، فيمشي بينهم فيقدم هذا ويؤخر هذا بالدرة التي هي عصا عمر، فكلما رأى رجلاً متأخراً أمره أن يتقدم، وإذا رأى رجلاً متقدماً دفعه حتى يقوم في الصف، فلا يُكبر عمر حتى يقول له: قد استووا يا أمير المؤمنين! فعند ذلك يكبر، وكل ذلك حرص منهم على تمام الصلاة، فإن تسوية الصف من تمام الصلاة. فالصلاة التي فيها شيء من الانحراف والاختلاف تكون ناقصة غير تامة، وروى في حديث: (إن الله لا ينظر إلى الصف الأعوج) يعني: الذي فيه انحراف، فهذا بالنسبة إلى التسوية التي هي المحاذاة.

كيفية التراص في الصفوف

كيفية التراص في الصفوف أما الأمر الثاني وهو تراص الصفوف: فدليله ما ورد في الأحاديث من أنهم إذا تفرقوا يدخل بينهم مثل أولاد الغنم من الشياطين، أي: تدخل بين الاثنين، فيؤمرون أن يتراصوا ولا يتركوا بينهم هذه الفرج، فيتقاربون بالأقدام، ويتحاذون بالمناكب وبالأكعب وإن لم تحصل مماسة. وقوله في حديث النعمان: (حتى كان الرجل منا يلصق كعبه بكعب صاحبه، ومنكبه بمنكبه) يقول العلماء: هذا على وجه المبالغة، لا أنه على وجه الحقيقة؛ وذلك لأن في الإلصاق شيء من المضايقة. وأيضاً نلاحظ أن بعضهم يُفرج بين قدميه إذا قام فيترك بين قدميه نحو ذراع أو أكثر، فيكون بذلك متسبباً في وجود فرجة بينه وبين الآخر، فيكون هناك تفريج كبير بين الأقدام، وقصده من ذلك العمل بظاهر الحديث، وهو إلصاق الكعب بالكعب، فنقول: لا يلزم الالتماس، ولكن التقارب هو المطلوب فقط، فإذا حصل التقارب لم يحصل هذا التفرق، ولا الفرج ولا الاختلال. وقد بيّن النبي عليه الصلاة والسلام أن هذه التسوية من تمام الصلاة، وخاف على أمته إذا لم يفعلوا ذلك الاختلاف في القلوب فقال: (لتسوّن صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم، أو بين وجوهكم) وكأنه جعل ذلك من باب العقوبة، يعني: إذا تركوا هذا الذي أرشدهم إليه فعقوبتهم أن تقع هذه المخالفة، ولا شك أن آثار المخالفة بين الوجوه والمخالفة بين القلوب سيئة؛ لأنهم إذا اختلفوا اختلفت قلوبهم فحصل تقاطع، وحصل تهاجر، وحصل تخالف في الآراء، وحصل اختلاف في المودة والمحبة، فلا يكونون إخواناً كما أمرهم الله تعالى، بل كل منهم ينفر من الآخر، وكل منهم يكون ضداً للآخر، هذا قد يكون عقوبة لهم إذ تركوا ما أرشدهم إليه النبي صلى الله عليه وسلم.

شرح عمدة الأحكام [13]

شرح عمدة الأحكام [13] الصلاة عمود الإسلام، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أتباعه بالاهتمام بها والإتيان بها على أكمل الوجوه، وحثهم على الاقتداء به، وقد نقلت صفة الصلاة عنه في كل جزء من أجزائها، وقد بين العلماء ذلك وشرحوه، وذكروا أدنى الكمال فيها وأعلاه كما فهموا ذلك من الأحاديث الصحاح، كما سترى ذلك مبيناً في هذا الشرح بإذن الله تعالى.

شرح حديث: (كان إذا كبر في الصلاة سكت هنيهة)

شرح حديث: (كان إذا كبر في الصلاة سكت هنيهة) قال المصنف رحمه الله: [باب صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كبر في الصلاة سكت هنيهة قبل أن يقرأ، فقلت: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي، أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد) . وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد لله رب العالمين، وكان إذا ركع لم يشخص رأسه، ولم يصوبه، ولكن بين ذلك، وكان إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائماً، وكان إذا رفع رأسه من السجدة لم يسجد حتى يستوي قاعداً، وكان يقول في كل ركعتين التحية، وكان يفرش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى، وكان ينهى عن عقبة الشيطان، وينهى أن يفترش الرجل ذراعية افتراش السبع، وكان يختم الصلاة بالتسليم) ] .

دعاء الاستفتاح وما اشتمل عليه من معان

دعاء الاستفتاح وما اشتمل عليه من معان هذه الأحاديث في صفة الصلاة، فالحديث الأول يتعلق بالاستفتاح، وهو: الدعاء بين التكبير والقراءة، وهو من سنن الصلاة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يلزم به أمته، ولم يعلمهم دعاءً محدداً، بل دعا بجملة كثيرة من الأدعية، فدل على أن الأمر فيه سعة، فإن أتى به فهو سنة وفضيلة، وإن لم يأت به وابتدأ بالقراءة فإن صلاته مجزئة إن شاء الله. أول ما يكبر يأتي بالاستفتاح، وأصح الاستفتاحات ما في هذا الحديث أن يقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس. إذا قلت هذا فكأنك تعترف بالخطايا، وتطلب من ربك إزالتها وإزالة أثرها، فأنت تطلب أموراً: الأول: الإبعاد، أن تبعد عنك حتى لا يضرك أثرها، فإذا كان بينك وبينها بعد المشرقين دل على أنها لا تضرك. الثاني: الغسل منها بأنواع ما يغسل به: الماء والثلج والبرد. ويقول بعض العلماء: اختيار الثلج والبرد مع أنه شديد البرودة؛ ليطفئ حرارة الذنوب، فكأن الذنوب لها حرارة على البدن وعلى القلب، فإذا استعمل الثلج خففت تلك الحرارة وأزال أثرها. والثالث: التنقية، كأنه يقول: إن الذنوب تدنس صاحبها وتوسخه، فهي تكسب صاحبها قذراً ووسخاً ودنساً كثيراً، فهو بحاجة إلى ما يزيل ذلك الدنس، مع طلبه من ربه أن ينظفه منها ويطهره كتطهير الثوب الأبيض شديد البياض من الدنس، يعني: إذا طهر زال عنه أي دنس وأي وسخ وأي قذر، فهكذا طلب من ربه إزالة آثارها. هذا الاستفتاح متفق عليه يعني: رواه البخاري ومسلم، فهو حديث صحيح.

تعدد أدعية الاستفتاح يقتضي التنويع في استعمالها

تعدد أدعية الاستفتاح يقتضي التنويع في استعمالها هناك استفتاحات أخرى، منها: ما في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم كان يستفتح بقوله: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك) ، واختار هذا الاستفتاح الإمام أحمد، وقال: إنه ثناء وذكر وتنزيه وتقديس لله تعالى وتوحيد له. والثناء يقوم مقام الدعاء، فقد روي في بعض الآثار القدسية أن الله يقول: (من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين) ، فهذا سبب اختيار الإمام أحمد للاستفتاح الذي فيه الثناء: سبحانك اللهم وبحمدك إلى آخره. هناك استفتاح أيضاً في السنن، مبدوء بقوله: (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض) إلى آخره، مروي عن علي رضي الله عنه، وهو استفتاح طويل يستحبه أيضاً بعض العلماء. وهناك استفتاح رابع لكن نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم استعماله في التهجد إذا قام من الليل وهو قوله: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل) إلى آخره. هذا الدعاء استفتاح وتوسل. هناك أيضاً أدعية أخرى عن الاستفتاحات وقد كتب فيها شيخ الإسلام ابن تيمية رسالة مطبوعة بعنوان: أنواع الاستفتاحات، ورجح أن الكل صحيح، وأن النبي صلى الله عليه وسلم تارة يستعمل هذا وتارة يستعمل هذا، وأنه لما لم يعلم الأمة واحداً منها ويقصرهم عليه؛ دل على أن الأمر فيه سعة. وقد استحب شيخ الإسلام وكثير من العلماء أن يأتي بهذا تارة وأن يأتي بهذا تارة، يعني: أن تستعمل قوله: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي) حيناً، وتستعمل حيناً آخر قوله: (سبحانك اللهم وبحمدك) إلى آخره، وتارة تستعمل قوله: (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض) إلى آخره، وحيناً تستعمل قوله: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل) إلى آخره، يقولون: حتى لا يبقى شيء من السنة مهجوراً. إذا عملت هذا حيناً وهذا حيناً عملت بالسنة كلها. فتعلمها وحفظها سهل، وهي ميسرة، وفي سنن النسائي أوردها متوالية تحت عنوان: الدعاء بين التكبير والقراءة، ثم قال: نوع آخر من الدعاء بين التكبير والقراءة، ثم قال: نوع آخر، وهكذا حتى أورد عدة أنواع، وغيره من الأئمة سردوها تحت هذا العنوان. فإذا حفظها الإنسان وأتى بها كلها أحيا بذلك السنة، ولكن مع ذلك إذا كان يريد أن يختار فيختار واحداً يكثر منه، يكون أكثر استعمالاً له، والبقية يأتي بها أحياناً، في كل أسبوع مرة أو في كل أسبوع مرتين أو نحو ذلك، حتى يعمل بما بلغه من الشريعة. وقد عرفنا أنه من السنة وليس من الواجب ولا تبطل الصلاة بتركه.

الاستعاذة تلي الاستفتاح

الاستعاذة تلي الاستفتاح ثم بعد الاستفتاح يأتي بالاستعاذة لقول الله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98] والاستعاذة المنقولة أن يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه، هكذا علم النبي صلى الله عليه وسلم بعض صحابته.

شرح حديث: (كان يستفتح الصلاة بالتكبير)

شرح حديث: (كان يستفتح الصلاة بالتكبير)

البسملة واستحباب الإسرار بها

البسملة واستحباب الإسرار بها وبعد ذلك يأتي بالبسملة ويأتي بها سراً، هذا هو المشهور من السنة النبوية، ودليله: حديث عائشة الذي تقول فيه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير) يعني: بالتحريم لتكبيرة الإحرام، أي: لا يجعل بدلها سبحان الله، ولا لا إله إلا الله، ولا الحمد الله، ولا لا حول ولا قوة إلا بالله! بل يبدأ الصلاة بقول: الله أكبر، كما أنه يستعمل التكبير في التنقل، الذي هو تكبير الانتقال، فهذا هو المشهور عنه، وهذه التكبيرة ركن، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم) ، فجعل التكبير تحريمها، فأخذوا من ذلك أن هذا التكبير ركن، فتكبيرة الإحرام ركن لا تتم الصلاة إلا بها. تقول عائشة: (والقراءة بالحمد لله) يعني: ويستفتح القراءة بقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] ، هذا هو الذي يسمع المأمومين أول ما يسمعون منه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] ثم يتم الفاتحة، وليس المراد أنه يستفتح القراءة بالفاتحة، بل المراد أنه يأتي بكلمة: الحمد لله رب العالمين مبدأ لقراءته، أي: يبدأ القراءة بهذه الكلمة. ويأتينا أنه لا يستعمل البسملة، فإن هذا الحديث دليل على أنه لم يكن يأتي بالبسملة -يعني بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم- وقد خالف في ذلك الشافعية فاستحبوا البداءة بالبسملة. وأجابوا عن حديث عائشة هذا أن المراد: (يستفتح القراءة بالفاتحة) ولكن هذا في الحقيقة كلام لا حقيقة له ولا معنى له، لقد كان يقرأ الفاتحة قبل السورة وكان ذلك معلوماً من صلاته بالضرورة، ولا حاجة إلى ذكره؛ لأنه أشهر من أن يذكر، فكيف يجعل محملاً لهذا الكلام؟! بل الصواب أن محمله أنه يأتي بالقراءة مبدوءة بقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] . فهذه الجملة الثانية، يعني: في حديث عائشة عشر جمل:

الجمل المستفادة من حديث عائشة في صفة الصلاة

الجمل المستفادة من حديث عائشة في صفة الصلاة الجملة الأولى: الاستفتاح بالتكبير. والجملة الثانية: بداءة القراءة بالحمد لله يعني: بقول: الحمد لله، دون أن يقول: بسم الله الرحمن الرحيم. الجملة الثالثة: صفة الركوع، تقول: (إنه إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه) ، فالتصويب: الرفع، والتشخيص: الخفض، (لم يصوبه) يعني: لم يجعل رأسه مرتفعاً كرأس الطائر، ولم يصوب رأسه ولم يخفضه يعني: التدنية، يعني: أنه يجعل رأسه في أعلى ظهره، فلا يشخصه ولا يصوبه، فالإشخاص: أن يدنيه، والتصويب: أن يرفعه. بل كان يجعله محاذياً لظهره، ويجعل ظهره مستوياً، فلا يجعله محدودباً، وقد ورد النهي عن تحديب الظهر، فالتحديب هو أن يقوس ظهره كأنه قوس، وقد كان يجعله مستوياً بحيث لو وضع عليه إناء لركد، هذا الصواب. الجملة الرابعة: الطمأنينة في الرفع: (إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائماً) يستوي قائماً: ويقف ويعود كل عضو إلى مكانه، ومعلوم أيضاً أنه يطيل هذا القيام حتى يقول القائل: قد نسي. الجملة الخامسة: إذا رفع من السجدة الأولى جلس ولم يسجد السجدة الثانية حتى يستوي جالساً ويطيل أيضاً، حتى يقول القائل: قد نسي، يطيلها بين الركنين، وقد ابتلي كثير من الناس بتخفيفهما، كثير من الناس تشاهده أنه أول ما يرفع وإذا به ساجد، وكذلك يفعل في القيام إذا ركع ثم رفع، فأول ما يرفع وإذا به ينزل. ومن كان جالساً ثم سجد وإذا به يسجد للسجدة الثانية دون طمأنينة، فمثل هذا خالف السنة ولم يأت بالطمأنينة المطلوبة، ولم يأت بالفاصل المعروف بين السجدتين، ولم يأت بهذا الدعاء الذي ورد فيها من قولها: (رب اغفر لي وارحمني) إلى آخره. فهذه خمس جمل. الجملة السادسة: تقول: (وكان يقول في كل ركعتين التحية) يعني: كل ركعتين يتشهد بينهما ويسلم، ويأتي بقوله: (التحيات لله) إلى آخره، وهو التشهد المعروف.

صفة جلوسه صلى الله عليه وسلم بين السجدتين وفي التشهد

صفة جلوسه صلى الله عليه وسلم بين السجدتين وفي التشهد الجملة السابعة: قولها: (وكان يفرش رجله اليسرى ويجلس عليها) يعني: في حالة جلوسه يطمئن فيفرش رجله اليسرى ويجلس عليها، وينصب رجله اليمنى، فيجعلها خارجة من تحته منتصبة، وبطون أصابعها إلى الأرض، ورءوس الأصابع إلى القبلة، هذه صفة الجلوس بين السجدتين أو الجلوس في التشهد الأول ونحو ذلك. وقد ورد في حديث أبي حميد: (أنه يتورك في التشهد الأخير) أي: التشهد الذي قبل السلام وهو الذي يسلم بعده، ولكن أبا حميد وصف الصلاة الرباعية، فذكر أنه في التشهد الأول يفترش، وفي التشهد الأخير يتورك، فيخرج رجليه من تحته ويجلس بمقعدته على الأرض، هذا إذا كان هناك متسع. ومن العلماء من يقول: لا يتورك إلا إذا كان محتاجاً لكبر أو مرض، فهو الذي لا تحمله رجله، كما روي: (أن ابن عمر صلى ومعه ولده، فلما صلى تورك، فتورك ابنه ونهاه، قال: لماذا تتورك وتخرج رجليك من تحتك؟ فقال: إن رجلي لا تحملاني) يعني: أنه لكبر سنه يشق عليه أن يجلس جلسة المفترش. وبعض العلماء يقول: يفترش في صلاته كلها، في التشهد الأول والتشهد الأخير، وسواء كانت الصلاة ركعتين أو أربعاً، فلا يتورك. وبعضهم يقول: يتورك في كل تشهد بعده سلام، كتشهد صلاة الفجر، وصلاة الجمعة، وصلاة النفل الركعتين ونحو ذلك. وبعضهم يقول: لا يتورك إلا في صلاة فيها تشهدان، يتورك في التشهد الأخير منهما، وهذا هو الذي اختاره الإمام أحمد. هذا صفة جلوسه أنه يجلس مفترشاً يفرش رجله اليسرى ويجلس عليها وينصب اليمنى.

النهي عن عقبة الشيطان وعن افتراش السبع في الجلوس في الصلاة

النهي عن عقبة الشيطان وعن افتراش السبع في الجلوس في الصلاة الجملة الثامنة: قولها: (وكان ينهى عن عقبة الشيطان) ، وعقبة الشيطان: أن ينصب قدميه ويجلس على عقبيه، هذه الجلسة تسمى: عقبة الشيطان، كان ينهى عنها؛ وذلك لأنها تدل على عدم الطمأنينة، وتدل على عدم الارتياح في الصلاة، وعلى العجلة أو نحو ذلك، فإذا جلس مستوفزاً رافعاً قدميه وجلس بإليتيه عليهما لم يطمئن في صلاته، فجلسته هذه تدل على الجفاء. وهكذا لو نصب إحدى رجليه عن يمينه والأخرى عن يساره وجلس بينهما وهما منتصبتان، يصدق على ذلك أنه عقبة الشيطان. الجملة التاسعة: ذكرت أنه ينهى أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع، يعني: إذا سجد لا يبسط ذراعية على الأرض كافتراش السبع، فالسبع أو الكلب يبسط يديه إذا أقعى فإنه يمد يديه أو يمد رجليه على الأرض فنهي عن التشبه به. والمأمور أنك إذا سجدت تسجد على الكفين وترفع الذراعين ولا تبسطهما على الأرض حتى تكون بذلك ساجداً سجوداً حقيقياً، فيدل ذلك على صدق الرغبة وعلى محبة العبادة وعلى النشاط فيها والبعد عن الكسل، فهذه الصفة التي هي بسط الذراعين صفة المتكاسلين. الجملة العاشرة والأخيرة: ذكرت أنه (يختم الصلاة بالتسليم) ، وقد دل على ذلك الحديث الذي ذكرنا: (مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم) فيختم بقوله: السلام عليكم ورحمة الله السلام عليكم ورحمة الله. وبالجملة فهذا الحديث اشتمل على صفات عديدة، والتوسع فيها وذكر الخلاف فيها والكيفية وما إلى ذلك يحتاج إلى وقت طويل، ولكنها -والحمد لله- واضحة، والمسلمون يعرفون كيف يبدءون صلاتهم وكيف يختمونها وكيف يفعلون، يشاهدون ذلك من أئمتهم سواء بالأفعال التي يرونهم يفعلونها، أو بسماع ما يسمعونه من الأدلة ومن شروحها ومن توجيهاتهم.

شرح حديث: (كان يرفع يديه حذو منكبيه)

شرح حديث: (كان يرفع يديه حذو منكبيه) قال المؤلف رحمه الله: [وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة، وإذا كبر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك، وقال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، وكان لا يفعل ذلك في السجود) . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة -وأشار بيده إلى أنفه- واليدين والركبتين وأطراف القدمين) متفق عليه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم، ثم يكبر حين يركع، ثم يقول: سمع الله لمن حمده، حين يرفع صلبه من الركعة، ثم يقول وهو قائم: ربنا ولك الحمد، ثم يكبر حين يهوي، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يكبر حين يسجد، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يفعل ذلك في صلاته كلها حتى يقضيها، ويكبر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس) ] . هذه الأحاديث في صفة الصلاة، الحديث الأول في رفع اليدين ومواضعه. والحديث الثاني: في أعضاء السجود وأسمائها وعددها. والحديث الثالث: في تكبيرات الانتقال وعددها.

مواضع رفع اليدين في الصلاة وكيفيته

مواضع رفع اليدين في الصلاة وكيفيته فرفع اليدين ورد في ثلاثة مواضع في حديث ابن عمر، وورد في موضع رابع، وأكثر ما ورد وروداً ثابثاً في هذه الثلاثة. ذكر في هذا الحديث أنه إذا استفتح الصلاة رفع يديه، يعني: عندما يكبر تكبيرة الإحرام، فابتداء الرفع مع ابتداء التكبير، وانتهاؤه إلى المنكبين، وتكون كل يد محاذية لمنكبها. وورد في بعض الروايات: أنه يرفع يديه إلى أذنيه، وجمع بينهما بأن أصابعه تحاذي الأذنين، وأن الكف يحاذي المنكب، فيكون بذلك رفعاً متوسطاً عند استفتاح الصلاة، يعني: عند تكبيرة الإحرام، وهذا الرفع هو آكدها، وهو متفق عليه بين الأئمة الأربعة، الأئمة كلهم يرون أن هذا الرفع من سنن الصلاة، ولم يقل أحد إنه من الواجبات. عرفنا أن رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام آكد ما روي في الرفع وأنه متفق عليه. والحكمة فيه كما قال بعض العلماء: رفع الحجاب، إشارة إلى أنه يرفع الستر والحجب ويدخل على ربه، فعند ذلك يخشع، كأنه إذا رفع هذه الحجب لم يبق بينه وبين ربه ما يستره، وبكل حال فهو من سنن الصلاة، وابتداء الرفع وتحريك اليدين يكون من ابتداء التكبير، وانتهاؤه بانتهاء التكبير. وبعد ذلك يضع يديه على صدره وهو أقوى ما ورد في وضعهما، وهناك من يقول: تحت سرته، ومن يقول: فوق سرته، ولكن الأصح أنهما على صدره، هذا هو الأرجح. أما عند الركوع وعند الرفع من الركوع فقد ثبت في هذا الحديث وعدة أحاديث كثيرة صريحة بأنه يرفع يديه إذا ابتدأ تكبير الركوع، قبل أن ينحني، ثم ينحني بظهره ويمد يديه ويكون تكبيره في حالة انحنائه، يعني: أنه قبل أن يتحرك يرفع يديه حتى يحاذي منكبيه، ثم يكبر حال كونه منحنياً للركوع، فيضع يديه على ركبتيه مفرقتي الأصابع، فهذا أيضاً رفع مسنون. كذلك إذا تحرك من الركوع رافعاً للقيام رفعهما، فإذا استتم قائماً وإذا هو قد انتهى من رفعهما محاذياً لمنكبيه، فعند ذلك أيضاً يردهما إلى صدره، وفي حالة وقوفه ومعلوم أنه يقول: سمع الله لمن حمده، في حالة حركته وارتفاعه من الركوع، ويقول في حالة قيامه: ربنا ولك الحمد، هذه المواضع الثلاثة. أما حالة انحطاطه إلى السجود، أو رفعه من السجدة الأولى إلى الجلسة، أو خروره إلى السجدة الثانية، أو قيامه من السجدة الثانية إلى الركعة، فلا يفعل ذلك؛ لأن ابن عمر ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يفعل ذلك فقال: (كان لا يفعل ذلك في السجود) أي: لا في الانحطاط إليه ولا في الرفع منه، هذا هو المشروع. وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه أيضاً إذا قام من الركعتين أي: إذا قام من التشهد الأول للركعة الثالثة رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، كما يفعل إذا افتتح الصلاة، فيكون هذا أيضاً موضعاً رابعاً في الصلاة الرباعية أو الثلاثية بعد التشهد الأول وعند نهوضه يكبر ويرفع يديه. وهكذا أيضاً يرفع يديه لتكبيرات العيد الزوائد، فإنه يكبر في الركعة الأولى سبعاً وفي الثانية خمساً على اختلاف في عدد التكبير، ويرفع يديه في كل تكبيرة. وكذلك في تكبيرات صلاة الاستسقاء كصلاة العيد، يرفع يديه في التكبيرات الزوائد التي في كل ركعة، فهذه أيضاً مواضع رفع في حالة القيام. وقد استنبط من ذلك أن رفع اليدين يكون في الحالات التي ليس فيها حركة كثيرة، فإن حركة القيام إلى الركوع، أو الركوع إلى القيام، أو حركة التكبير في حالة القيام عند التحريمة: حركة قليلة، وكذلك حركة القيام من الجلوس في الركعة الثانية حركة أيضاً قليلة وليست كحركة السجود، سواء للانحطاط له أو للجلوس أو للرفع منه. فيكون رفع اليدين خاصاً بالانتقال الذي حركته قليلة، هذا هو المعتمد. وقد ورد في رواية: أنه يرفع يديه أيضاً في تنقلات السجود، ولعل ذلك أحياناً لعله فعله مرة أو مرتين، ولكن المعتاد والأكثر أنه لا يفعله في السجود كما نص على ذلك ابن عمر.

شرح حديث: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم)

شرح حديث: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم) أما الحديث الثاني: فيتعلق بأعضاء السجود، يقول صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم -وفي رواية: أعضاء-: على الجبهة -وأشار بيده إلى أنفه- واليدين والركبتين وأطراف القدمين) ، هذه أعضاء السجود السبعة. الجبهة معلوم أنها الجبين الذي ليس عليه شعر، وحدها منابت الشعر، ونهايتها شعر الحاجبين، ولكن الأنف أيضاً متصل بها، فتكون عضواً واحداً أي: أن الجبهة والأنف يكونان عضواً واحداً، فلا بد أن يسجد عليهما، فلا يسجد على الجبهة ويرفع الأنف، ولا يسجد على رأس الأنف فقط ويرفع الجبهة، بل السجود عليهما معاً، ويعتبران عضواً واحداً.

السجود على الوجه آكد أعضاء السجود

السجود على الوجه آكد أعضاء السجود ولا شك أن السجود على الوجه هو آكد أعضاء السجود، وبه يسمى ساجداً وبرفعه لا يسمى ساجداً، لو سجد على اليدين والركبتين وأطراف القدمين ورفع وجهه أو رفع صلبه لم يسم ساجداً حتى يضع وجهه على الأرض؛ وذلك لأن حقيقة التذلل حقيقة الخشوع حقيقة الخضوع: وضع الوجه على الأرض. والوجه هو أشرف أعضاء الإنسان وأعلاها، والوجه هو مجمع المحاسن، والوجه هو مجمع الحواس، فإذا وضع وجهه على الأرض فقد حصل منه التواضع والتذلل، وقد ظهرت فيه العبودية، ويحمله ذلك على أن يخشع، وعلى أن يخضع، وعلى أن يتواضع وعلى أن يتذلل، وعلى أن يستحضر أنه خاشع لربه واقف بين يديه، متذلل له، عابد له غاية العبودية، فيكون هذا السجود أعظم أركان الصلاة وأشرفها بهذه الميزة، وهذه الخصوصية، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد) ، حيث إنه في هذا السجود قد ذل لربه، وقد خضع له وخشع. فلا شك أنه بهذه الحال قد قرب منه قرباً معنوياً، فهو أقرب إلى أن يجيب دعوته وإلى أن يسمعها سماع قبول، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (أما السجود فأكثروا فيه من الدعاء فقمن أن يستجاب لكم) أي: حريٌ وقريبٌ أن تستجاب دعوتكم، حيث إن الساجد خاضع وخاشع لربه ومتواضع.

كيفية وضع اليدين والأصابع أثناء السجود

كيفية وضع اليدين والأصابع أثناء السجود أما الأعضاء الباقية فالسجود عليها للاعتماد، فالسجود على اليدين للاعتماد عليهما، والمراد: الكفان. وقد تقدم أنه ينهى عن أن يبسط ذراعيه، فإذا سجدت فضع يديك وارفع مرفقيك، والمرفق: هو المفصل الذي بين الذراع والعضد، وارفع أيضاً ساعدك، والساعد: هو الذراع، ولا تبسطه كانبساط الكلب: (لا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب) . وقد أمر بأن يضم أصابعه حتى تكون رءوس الأصابع إلى القبلة، فلا يميل بها ولا يصرف يديه فيجعلها إحداهما شمالاً والأخرى جنوباً، أو يفرق الأصابع فيكون بعضها لغير القبلة، بل يضمها حتى تكون رءوسها كلها للقبلة. أما الركبتان فالسجود عليهما ضروري؛ وذلك لأن الاعتماد عليهما.

كيفية وضع القدمين حال السجود

كيفية وضع القدمين حال السجود أما القدمان فالمراد رءوس القدمين، ومأمور بأن يجعل بطون أصابع القدمين على الأرض، ورءوس أصابع القدمين إلى القبلة، وعليه أن يتأكد من السجود على القدمين، فإن كثيراً من الناس يتهاون في ذلك، حيث إن الاعتماد عليهما، فتراه رافعاً قدميه غير ساجد عليهما أو غير ساجد على بطونهما، بل تكون قدماه مائلتين لغير السجود، أو يضع إحداهما على الأخرى، فلا يسجد إلا على ستة أو نحو ذلك، فعلى المصلي أن يتعاهد هذه المواضع. روي في بعض الأحاديث: (أن العبد إذا ترك عضواً لم يسجد عليه لم يزل ذلك العضو يلعنه) ، حيث إنه أخل بالسجود عليه، وحيث إن السجود عليه عبادة، فعليه أن يحرص على السجود على وجهه كله يعني: جبينه وأنفه، ولا يسجد على أنفه فقط ولا على جبهته فقط، ويسجد على قدميه فيجعل بطونهما إلى الأرض، ولا يرفعهما ولا يسجد على رأس الأصبع مثلاً، ولا يجعل إحداهما على الأخرى، ولا يجافيهما أو يميلهما بحيث لا يكون ساجداً عليهما السجود الحقيقي، هكذا أمر الساجد بأن يمكن أعضاءه من السجود؛ ليكون بذلك محققاً لهذا الاتباع.

شرح حديث: (كان إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم)

شرح حديث: (كان إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم)

عدد التكبيرات في الصلاة

عدد التكبيرات في الصلاة أما الحديث الثالث فيتعلق بالتكبير الذي ينتقل به من حال إلى حال، لينتقل به عبر القيام إلى الركوع فيقول: الله أكبر، وينتقل به من القيام إلى السجود فيقول: الله أكبر. وهذا التكبير من واجبات الصلاة، فإذا ترك تكبيرة أو ترك أكثر من تكبيرة كان قد ترك واجباً، فإن كان سهواً فإنه يسجد للسهو، وإن كان عمداً بطلت صلاته. وإذا عددته وجدت في كل ركعة خمس تكبيرات، ووجدت في الصلاة الرباعية اثنتين وعشرين تكبيرة، وفي الثلاثية سبع عشرة تكبيرة، وفي الصلاة الثنائية إحدى عشرة تكبيرة، كل ركعة فيها خمس تكبيرات، التكبيرتان الزائدتان في الظهر هما: تكبيرة القيام من الجلوس للتشهد الأول، وتكبيرة الرفع من السجدة الثانية التي يجلس بعدها للتسليم، فإنهما زائدتان على الخمس. ففي الركعة الأولى: التكبيرة الأولى: للإحرام، التكبيرة الثانية: للركوع، الثالثة: للسجود، الرابعة: للرفع من السجود، الخامسة: للسجدة الثانية، هذه خمس، وفي الركعة الثانية: تكبيرة القيام من السجدة الثانية إلى القيام، ثم تكبيرة الركوع، ثم السجود، ثم الرفع من السجود ثم السجدة الثانية، وهذه خمس تكبيرات، وكل ركعة فيها خمس تكبيرات، وابتداء الخمس: إما تكبيرة الإحرام وإما تكبيرة القيام من السجدة، فيزيد على ذلك في الظهر تكبيرة القيام من التشهد الأول وتكبيرة القيام من السجود الأخير للجلسة بين السجدتين.

سبب إنكار بعض المتقدمين للجهر بالتكبير

سبب إنكار بعض المتقدمين للجهر بالتكبير يحافظ المسلم على هذا التكبير حتى تتم بذلك صلاته، وقد روي عن بعض المتقدمين أنهم أنكروه، وما ذاك إلا أن بعض أمراء بني أمية كانوا يخفونه ولا يسمعه المصلون خلفهم، وكانوا يعتمدون حركة بعضهم مع بعض، وذلك أن بني أمية كانوا يقتدون بـ عثمان رضي الله عنه وعثمان رضي الله عنها لما كان في آخر حياته وكبر سنه كان يخفيه لثقله عليه فظنوا أنه لا يكبر إلا سراً، فصاروا يكبرون سراً. أما بقية الصحابة فإنهم يكبرون جهراً، ويرفعون التكبير حتى يسمعهم المصلون، والمصلون يعتمدون على تكبير الإمام، فإذا سمعوه كبر للتحريم كبروا، وقد أكد بذلك في المتابعة. تقدم لنا قوله صلى الله عليه وسلم في الاقتداء: (إذا كبر الإمام فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا كبر وركع فكبروا واركعوا، وإذا كبر وسجد فكبروا واسجدوا) ، فدل على أنه يكبر وأنهم يوافقونه في ذلك التكبير، الإمام يكبر والمأمومون يكبرون.

الحكمة من التكبير

الحكمة من التكبير الحكمة من هذا التكبير: أولاً: تنبيه المأمومين حتى يسمعوه، وحتى يتابعوه، فليس كلهم يرونه، فقد يراه أهل الصف الأول أو بعضهم والباقون لا يرونه، فينبههم بهذا التكبير. ثانياً: التكبير ذكر يشتمل على التعظيم، فإذا قلت: الله أكبر، فمعناه: الله أجل وأعظم من كل شيء، ولا شك أنك إذا قلت ذلك معتقداً بقلبك كان ذلك أرسخ لهذا التكبير ولهذه العظمة في قلبك، ولا شك أن من استحضر عظمة الله سبحانه في صلاته وفي كل حالاته، واستحضر أنه أعظم وأجل من جميع المخلوقات خضع له وذل، وتواضع له واستكان، أي: الله أكبر وأجل من كل شيء. علمنا أن تكبيرة الإحرام عندما يريد التحريم للصلاة وفي الحديث: (تحريمها التكبير) فعندما يسوَّي الإمام الصفوف وينتهي من تسويتها يكبر، فيتبعونه في التكبير، ثم يبدأ بعد ذلك في القراءة، ثم تكبيرة الركوع عندما يتحرك منحنياً للركوع، فيأتي بها في حالة تحركه وينتهي بها في حالة انتهائه.

التسميع تنبيه على موضع الحمد

التسميع تنبيه على موضع الحمد أما في رفعه من الركوع فلا يكبر، بل يقول: (سمع الله لمن حمده) ، في هذا الركن خاصة؛ وذلك لأن هذا الركن بعده حمد لله، فكأنه يذكرهم ويقول: احمدوا الله فإن الله يسمع من يحمده، والسمع هنا سمع استجابة، فمعنى: (سمع الله لمن حمده) أي: استجاب، أو سماع قبول كأي: قبل منكم هذا الحمد وأثابكم عليه. أما المأموم إذا رفع من الركوع واستوى قائماً فإنه يأتي بالحمد، لأنه لما ذكرهم الإمام وقال: سمع الله لمن حمده، فكأنهم انتبهوا، فقالوا: مادام أن الله يسمع من يحمده فلماذا لا نحمده؟! فنبادر فنحمده فنقول: ربنا ولك الحمد، فالتسميع يأتي تنبيهاً على أن هذا موضع الحمد.

صفة تكبير الإمام والمنفرد والمأموم للانتقال

صفة تكبير الإمام والمنفرد والمأموم للانتقال أما إذا أراد أن يسجد فيكبر حالة انحنائه، فلا يأتي بالتكبير قبل أن ينحني، ولا يأتي بالتكبير أول ما يتحرك، بل يأتي به في حالة الانحناء، وعليه أن يسرع الحركة حتى لا يسابقه المأموم، وبعض الأئمة ينحني ولا يكبر إلا إذا وصل إلى الأرض، فقد يسابقونه ويتحركون قبل أن يسمعوا تكبيره، فعليه أن يجعل تكبيره في حالة حركته. كذلك تكبيرته عندما يتحرك رافعاً رأسه من السجدة فإنه يكبر بعدما يرفع رأسه وينتهي إذا جلس، فتكون نهايته إذا جلس بين السجدتين، وكذلك تكبيرته إذا سجد للسجدة الثانية، فإنه يكبر عندما يتحرك نحو الأرض فيقول: الله أكبر، وينتهي بنهاية سجوده، وتكبيرته عندما يرفع رأسه من السجدة الثانية ناهضاً للركعة الثانية يأتي بها أيضاً، وكذلك تكبيرته إذا قام من الركعتين، أي: إذا جلس للتشهد الأول وانتهى منه كبر حالة ما يتحرك، هذا بالنسبة إلى الإمام. أما المأموم فإنه أيضاً يتابع الإمام في هذا التكبير كله، إلا التسميع فلا يقول: سمع الله لمن حمده، بل يقتصر على التحميد؛ وذلك لأن قصد الإمام من التسميع تنبيه المأمومين، أما التكبير فإنه ذكر، فيوافق الإمام في تكبيره فيقول: الله أكبر كما يقوله الإمام. والمنفرد كالإمام يسمع كما يسمع ويكبر كما يكبر، فهذا التكبير هو من واجبات الصلاة، وكذلك التسميع والتحميد وأذكار الركوع والسجود، وهي التسبيح في الركوع والسجود ونحو ذلك، هذه من الواجبات التي تتم الصلاة بفعلها والمحافظة عليها.

شرح حديث: (صليت أنا وعمران بن حصين خلف علي بن أبي طالب)

شرح حديث: (صليت أنا وعمران بن حصين خلف علي بن أبي طالب) قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن مطرف بن عبد الله قال: (صليت أنا وعمران بن حصين خلف علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فكان إذا سجد كبر، وإذا رفع رأسه كبر، وإذا نهض من الركعتين كبر، فلما قضى الصلاة أخذ بيدي عمران بن حصين فقال: قد ذكرني هذا صلاة محمد صلى الله عليه وسلم، أو قال: صلى بنا صلاة محمد صلى الله عليه وسلم) . وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: (رمقت الصلاة مع محمد صلى الله عليه وسلم فوجدت قيامه فركعته، فاعتداله بعد ركوعه، فسجدته، فجلسته بين السجدتين، فسجدته، فجلسته ما بين التسليم والانصراف قريباً من السواء) ، وفي رواية البخاري: (ما خلا القيام والقعود: قريباً من السواء) . وعن ثابت البناني عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (إني لا آل أن أصلي بكم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا، قال ثابت: فكان أنس يصنع شيئاً لا أراكم تصنعونه، كان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائماً، حتى يقول القائل: قد نسي، وإذا رفع رأسه من السجدة مكث حتى يقول القائل: قد نسي) ] . هذه أحاديث في صفة الصلاة، الحديث الأول في تكبيرات الانتقال، تكبير النقل هو أن يكبر عندما ينتقل، وقد تقدمت أحاديث في ذلك. وذكرنا أن في كل ركعة أربع تكبيرات، وأن للرباعية ثنتين وعشرين تكبيرة، وفي الثلاثية سبع عشرة تكبيرة، وفي صلاة الفجر إحدى عشرة تكبيرة، وذلك لكونها تزيد بتكبيرة الرفع التي للجلوس. وهذه التكبيرات قد خفيت على بعض المتقدمين، وذلك أن بعض الأئمة كانوا يصلون وهم كبار السن فيصعب عليهم رفع الصوت بالتكبير، ويصير انتقال المأمومين بسماع الحركة، ولكن تحققوا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر عندما ينتقل، إلا إذا رفع من الركوع فإنه يقول: سمع الله لمن حمده، وإذا انصرف التفت للخروج من الصلاة فإنه يقول: السلام عليكم ورحمة الله. أما بقية انتقالاته فإنه يستعمل التكبير، والحكمة في ذلك والله أعلم: تذكير المأمومين الذين يسمعون، وتذكير المنفرد نفسه، وتذكير الإمام نفسه بهذا الوصف لله تعالى وهو كونه أكبر، فإنك كلما كررت أو كلما سمعت: الله أكبر، كان ذلك مذكراً لك بكبرياء الله، ومن عظّم الله وكبّره واعتقد أنه أكبر من المخلوقات كلها، عظُم قدر ربه في قلبه، وصغرت المخلوقات عنده واستحقرت مهما كان مقدارها، سواء كانت موجودة على قيد الحياة أو فانية فكلها تصير حقيرة ولا يبقى في قلبه لها قدر، وإنما القدر العظيم لله تعالى الذي هو أكبر من كل شيء، وكل شيء فهو حقير فقير ناقص أمامه، فهذا هو السبب في تكرار التكبير.

شرح حديث: (رمقت الصلاة مع محمد صلى الله عليه وسلم)

شرح حديث: (رمقت الصلاة مع محمد صلى الله عليه وسلم) أما الحديث الثاني: ففيه مدة البقاء في الأركان أو مقدار البقاء في الأركان، يقول البراء: إنه رمق صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، فقدر مكثه في كل ركن، فوجد الأركان متساوية، ولكن في الرواية الثانية استثنى القيام والقعود، فإنها أطول من غيرها. وإذا مشينا على الرواية الأولى فإنه ليس المراد التسوية بين القيام والركوع، بل المراد التقارب، وأنه إذا أطال في ركن أطال في بقية الأركان، وهذا هو السبب في الطمأنينة، وفي حضور القلب، وفي الإتيان بالأفعال التي يأتي بها وحصول الحكمة من ورائها.

التسوية في مقدار الاطمئنان بين أفعال الصلاة

التسوية في مقدار الاطمئنان بين أفعال الصلاة أولاً: في الحديث التسوية بينها، يعني: التقارب بينها، فإذا ركع فمكث في ركوعه -مثلاً- ربع دقيقة أو نصف دقيقة، فإنه إذا رفع من الركوع مكث في رفعه قبل أن يسجد مثل مكثه في الركوع، نصف دقيقة أو دقيقة أو ما أشبهها على قدر ما يتحمله، ثم إذا سجد مكث بقدر ركوعه، وإذا جلس بين السجدتين فكذلك، يعني مثل ركوعه أو مثل قيامه بعد الركوع، وكل ذلك متقارب، وكذا يفعل في السجدة الثانية، فيسوي بين أركان الصلاة، فيمكث في هذا بقدر ما يمكث في هذا، وقد حفظ أنه عليه الصلاة والسلام كان يسبح للسجود عشر تسبيحات. وحفظ أنهم صلوا خلف عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لما كان أميراً على المدينة وحسبوا تسبيحات الركوع وتسبيحات السجود: عشراً عشراً، فكان يقول: سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم، حتى يقول عشراً، وفي السجود: سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى حتى يعد عشراً.

أذكار الصلاة الواجبة

أذكار الصلاة الواجبة أما في الرفع من الركوع فحفظ أنه كان يدعو بالثناء، والثناء الذي كان يدعو به هو قوله: (ربنا ولك الحمد، ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد) . هذا مما حفظ في الركوع وفي الرفع من الركوع. وسمع مرة رجلاً لما رفع من الركوع قال: (ربنا ولك الحمد، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، فأخبر بأنه رأى أن ملائكة يبتدرونها ليكتبوها) ، مما يدل على أنه أقر هذا الحمد. وروي أيضاً أنه كان يقول: (ربنا لك الحمد كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لكرم وجهه وعلم جلاله) ، وبكل حال فإنه موطن فيه الثناء، أي: يندب فيه أن يشتغل بالثناء على الله، وبحمده وبتكرار هذا الحمد. ويمكث فيه بقدر ركوعه أو بقدر سجوده كما ذكرنا. وحفظ أيضاً أنه قال في الركوع: (عظموا فيه الرب) يعني: أكثروا من تعظيم الله والثناء عليه. وقال في السجود: (اجتهدوا فيه في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم) يعني: حري أن تستجاب دعوتكم؛ لأن: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد) ، فحث على الدعاء في السجود، ولم يحدد لهم دعاءً معيناً، بل أطلق الأمر لهم. هذه الأركان التي هي الركوع والرفع منه والسجود والاعتدال والجلسة بين السجدتين والسجود الثاني هذه من أركان الصلاة كما هو معروف. والأدعية فيها والأذكار فيها تعتبر من واجبات الصلاة، فالتسبيح في الركوع واجب، والتسبيح في السجود واجب، وقول: ربنا ولك الحمد واجب، وقول: رب اغفر لي واجب، فلا بد أن يأتي المصلي بقدر الواجب، فإذا أتى بقوله: سبحان ربي الأعلى، مرة كفى، ولكن قد لا تحصل الطمأنينة التي هي الركود، وإذا أتى بقول: رب اغفر لي، مرة كفى، ولكن لا بد من الطمأنينة التي هي الركود، وهكذا يقال في بقية أفعال الصلاة.

إطالة القيام وقعود التشهد

إطالة القيام وقعود التشهد في الرواية الثانية أنه استثنى القيام والقعود؛ وذلك لأنهما أطول، والقعود هو التشهد، فالجلوس للتشهد معلوم أنه أطول من جنس السجود وجنس الركوع؛ وذلك لأنه يقرأ فيه التشهد ثم يأتي فيه بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يأتي فيه بأدعية فهو أطول من أدعية الركوع أو أدعية السجود. كذلك القيام أطول من الركوع؛ وذلك لأن فيه قراءة الفاتحة، ثم قراءة ما تيسر من القرآن، فهو أطول من جنس الركوع، وجنس السجود، بل قد يطيله إطالة كبيرة. وأما الأحاديث التي فيها أن ركوعه بقدر قيامه، فالمراد أنه يطيل الركوع إذا أطال القيام، ويقصر الركوع إذا قصر القيام، فإذا قام في الصلاة وقرأ قراءة طويلة يعني: قدر عشر دقائق أو خمس عشرة دقيقة فإنه يطيل الركوع نحو دقيقتين أو ثلاث دقائق، وإذا خفف القراءة فجعل القراءة قدر خمس دقائق، أو سبع دقائق، خفف الركوع وجعله دقيقة أو ثلثي دقيقة، أو ما أشبه ذلك، فالمعتاد أنه إن أطال ركني القيام والقعود أطال بقية الأركان، وإن قصر قصر. والإطالة لها أسباب، فقد يطيل بعض الصلوات كما أطال صلاة الكسوف إطالة زائدة، وكما أطال صلاة التهجد التي هي قيام الليل. وفي ليلة في رمضان قرأ في ركعة واحدة أكثر من خمسة أجزاء، البقرة ثم النساء ثم آل عمران، ثم ركع فأطال الركوع، فهذا دليل على أنه كلما أطال القيام أطال ما بعده، ولكن لا يلزم التساوي، فلا يلزم أن قيامه إذا كان نصف ساعة يكون ركوعه نصف ساعة، بل يطيله بقدره. وبكل حال فإن الأذكار قد وردت، فورد في الركوع قوله: سبحان ربي العظيم، وورد أنه يعظم فيه الرب لقوله: (عظموا فيه الرب) وتعظيم الرب يكون بالألفاظ الدالة على العظمة سواء من القرآن أو من غيره، فإذا قال في الركوع: اللهم لك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض، ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض، وما أشبه ذلك، أو قال: اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء، وتنزع الملك ممن تشاء إلى آخره، فهذا يعتبر تعظيماً يكون مناسباً في الركوع. وإذا أتى في السجود بالدعاء أو بالتسبيح فقد امتثل ما أمر به؛ لأنه مأمور في السجود بأن يكثر من الدعاء، سواء أدعية قرآنية كأن يقول: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] ، {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} [آل عمران:8] ، {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23] ، أو أدعية من الأدعية النبوية الواردة كقوله: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، أو اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، وما أشبه ذلك من الأدعية فيعتبر أيضاً ممتثلاً. فالحاصل أنه يشرع أن يشغل هذه الأركان بالذكر وبالتسبيح وبالثناء على الله تعالى وبالدعاء حتى يأتي فيها بروح الصلاة وبلبها وهو الخشوع والخضوع وحضور القلب.

شرح حديث: (إني لا آلو أن أصلي بكم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا)

شرح حديث: (إني لا آلو أن أصلي بكم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا)

مقدار الاعتدال من الركوع والجلسة بين السجدتين

مقدار الاعتدال من الركوع والجلسة بين السجدتين أما الحديث الثالث: فيتعلق بإطالة الركنين، وهما: الرفع من الركوع والجلسة بين السجدتين، يذكر أن أنساً رضي الله عنه كان إذا رفع من الركوع وقف حتى يقول القائل: قد نسي، أي: من طول وقوفه، وإذا جلس بين السجدتين مكث حتى يقول القائل: قد نسي، يعني: من طول جلوسه، وقد يكون هذا مخالفاً لحديث البراء، فإن حديث البراء يفهم منه أن ركوعه ورفعه على حد سواء، متقاربات، وكذلك سجدته والجلسة بينهما، أنهما سواء، متقاربات. فكيف يكون أنس مطيلاً لهذين الركنين حتى يقول القائل: قد نسي؟ A أنهم رأوا كثيراً من الناس يخففون هذين الركنين تخفيفاً زائداً، فصاروا إذا رأوا من يطيلهما ظنوا أنه قد نسي، أو قد أوهم، أو قد سها، وإلا فالإطالة ليست إطالة غريبة.

بيان وجوب الطمأنينة وأهميتها

بيان وجوب الطمأنينة وأهميتها الآن نحن نشاهد كثيراً من الناس إذا رأيتهم يصلون الصلاة وحدهم، أو يصلون نافلة، فإنك ترى بعضهم راكعاً، ثم إذا رفع من الركوع لا تقول: إنه اعتدل، بل يرفع قليلاً ثم يخر ساجداً، ولا يتم وقوفه، وهذه عادة سيئة، وهي أنه يطمئن في الركوع ولا يطمئن في الاعتدال، بل يرفع قليلاً وقبل أن يصير قائماً ينحني، فكأنه ما استقام صلبه ولا وقف، بل إذا رفع وقارب من الرفع خر ساجداً. ومثل ذلك أيضاً تخفيفهم للجلسة بين السجدتين، فتراه مثلاً ساجداً مطمئناً في سجدته، ولكن إذا رفع رأسه للجلسة بين السجدتين لم يجلس، إنما يرفع قليلاً وقبل أن يعتدل جالساً يخر للسجدة الثانية، ولا يفصل بينهما بجلسة فيها طمأنينة. فكأن الذين كانوا يصلون في وقت أنس كانوا يخففونها بين الركنين تخفيفاً زائداً عن غيرهما من الأركان، فأنكروا عليهم بفعل أنس حيث كان يطمئن فيمكث في الرفع بعد الركوع وفي الرفع بعد السجدة الأولى مكثاً زائداً على ما يفعلونه، فإذا صلوا معه ظنوا أنه قد نسي في زيادته لهذا الفعل. فالحاصل أنا نلاحظ وتلاحظون هؤلاء الذين يخففون هذين الركنين أو يخففون غيرهما من الأركان، فإذا لاحظت فعليك التنبيه، وإخباره بأن هذه الصلاة ناقصة؛ وذلك لعدم الطمأنينة فيها، فإن الطمأنينة ركن من أركان الصلاة. والمسيء صلاته لماذا أنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال له: (ارجع فصل فإنك لم تصلِّ) ثلاث مرات، ما الذي أنكره عليه؟ أنكر عليه تخفيف الصلاة وترك الطمأنينة فيها، ولهذا نبهه وقال له: (اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً) فأكدت كلمة (تطمئن) الطمأنينة وهي: الثبات والركود، فمن لم يطمئن في أركان صلاته فإنه يقال له كما في هذا الحديث: (ارجع فصل فإنك لم تصلِّ) ، فانتبهوا وفقكم الله. وكذلك نبهوا إخوانكم الذين يخففون هذه الأركان حتى تكون صلاتهم مجزئة ومقبولة إن شاء الله.

شرح حديث: (ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة)

شرح حديث: (ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة) قال المصنف رحمه الله: [عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: (ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم صلاة من رسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه البخاري. وعن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي البصري قال: جاءنا مالك بن الحويرث في مسجدنا هذا فقال: إني لأُصلي بكم وما أريد الصلاة، أصلي كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، فقلت لـ أبي قلابة: كيف كان يصلي؟ قال: مثل صلاة شيخنا هذا، وكان يجلس إذا رفع رأسه من السجود قبل أن ينهض، أراد بشيخهم أبا بريد عمرو بن سلمة الجرمي، ويقال: أبو يزيد. وعن عبد الله بن مالك بن بحينة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى فرج بين يديه حتى يبدو بياض إبطيه) ] .

الاطمئنان في الصلاة والتوسط فيها هو السنة

الاطمئنان في الصلاة والتوسط فيها هو السنة في الحديث الأول: عن أنس رضي الله عنه ذكر أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم كانت خفيفة تامة، وأنه ما صلى خلف إمام أخف ولا أتم صلاة من النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأن أنساً رضي الله عنه صلى خلفه عشر سنين؛ لأنه كان يخدمه فكان ملازماً له في السفر وفي الحضر، وهذه المدة لا شك أن لها أثراً في معرفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم صلى بعده خلف بعض الأئمة كالخلفاء، وكذلك أئمة في البصرة؛ لأن أنساً انتقل إلى البصرة واستوطنها حتى توفي بها. فيذكر أن الذين صلى خلفهم لم تكن صلاتهم مثل صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الخفة والتمام، والحاصل أنه يفيد أنها تامة وكذلك خفيفة، تمامها: أنه يتم الأركان، فيتم الركوع والسجود ويطمئن فيها اطمئناناً كاملاً، ويأتي فيها بالأذكار التامة. وثبت في حديث عن أنس نفسه رضي الله عنه: أنه صلى خلف عمر بن عبد العزيز عندما كان أميراً على المدينة، يقول: شهدت لـ عمر بأنه كان أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم، فحسب تسبيحاته في الركوع والسجود عشراً عشراً، أي: أنه إذا ركع سبح عشراً بقوله: سبحان ربي العظيم، وإذا سجد سبح عشراً بقوله: سبحان ربي الأعلى، فهذا هو التمام. قوله: (أتم) : التمام كونه يأتي بها باطمئنان، ووجد بعده من يطيل في القراءة ويخفف في الركوع وفي السجود، أو يطيل في الجميع إطالة مملة، أو نحو ذلك، فأنكر عليهم أنس وقال: خففوا وأتموا لا تنقروها نقراً فتكونوا مخالفين للطمأنينة، ولا تطيلوها إطالة طويلة فتكونوا منفرين، بل استعملوا الوسط الذي هو التمام، والتخفيف الذي ليس بمنفر. وقد تقدم أن بعض النقارين استدل بحديث معاذ في النهي عن الإطالة على النقر، فيقال: ليس الأمر مع هؤلاء النقارين الذين ينقرون الصلاة نقراً، ولا مع أولئك المنفرين الذين يمكث أحدهم في الصلاة ساعة أو أكثر فيكون بذلك منفراً، بل الوسط هو خير الأمور.

شرح حديث مالك بن الحويرث في صفة الصلاة

شرح حديث مالك بن الحويرث في صفة الصلاة وفي الحديث الثاني حديث أبي قلابة ذكر أن مالك بن الحويرث جاءهم في مسجدهم وصلى بهم ولم يكن قصده أن يصلي في ذلك الوقت، ولكن قصده أن يعلمهم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وسنته التي تلقاها عنه صلى الله عليه وسلم. وكان مالك بن الحويرث ممن تأخر إسلامه، وقد وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة، أي: في آخر حياته صلى الله عليه وسلم، وكان من أهل البحرين أي: من أهل الشرق في ذلك الوقت، وكانوا يأتون من أماكن بعيدة، ويبذلون جهداً كبيراً، ويقطعون مسافة طويلة في زمن طويل. يقول مالك بن الحويرث: (إننا أتينا النبي صلى الله عليه وسلم فأقمنا عنده عشرين يوماً، فلما رأى أنا قد اشتقنا إلى أهلنا، قال: لو رجعتم إلى أهليكم وعلمتموهم ما تعلمتم، وقال لهم: إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم) ، وأمرهم بقوله: (صلوا كما رأيتموني أصلي) . فأخبرهم بأن عليهم أن يقتدوا به في هذه الصلاة التي تلقوها بالفعل، وكذلك تعلموا بقية الأحكام بالقول، فأمرهم بهذه الحال بأن يقتدوا به. فجاء ابن الحويرث إلى مسجد أبي قلابة وبين لهم الصلاة فصلى بهم، ثم إن الذين رووا عن أبي قلابة سألوه: عن كيفية صلاة مالك بن الحويرث؟ فأخبرهم بأنه يصلي بهم كما يصلي بهم شيخهم في ذلك الوقت، والشيخ يراد به الطاعن في السن، هذا هو الشيخ في اللغة، وليس المراد به العالم، فأطلق عليه شيخاً لكونه كبير السن. وأبو بريد عمرو بن سلمة هذا هو أبو بريد عمرو بن سلمة الجرمي، وكان قد أسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن لم يره ولم تثبت صحبته لكونه صغيراً. ذكر أنه كان في صغره يتلقى الركبان ويتعلم منهم القرآن الذي تعلموه فحفظ قرآناً أكثر من غيره، فلما جاء وفدهم من عند النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: (إنه يقول: يؤمكم أقرؤكم أو أكثركم قرآناً) لم يجدوا أكثر من أبو بريد عمرو بن سلمة، فقدموه إماماً لهم مع صغر سنه، وقد ذكر في بعض الروايات أنه كان صغير السن ولكنه كان أكثرهم قرآناً فقدموه، ثم ذكر أنه ما صحب قوماً بعدهم إلا صار إماماً لهم، فكل من صحبوه قدموه ورضوا بإمامته. فكان يصلي في المسجد الذي فيه أبو قلابة، وأبو قلابة تلميذ لـ أنس وتلميذ للصحابة، وهو من الأجلاء التابعين.

جلسة الاستراحة وخلاف العلماء في مشروعيتها

جلسة الاستراحة وخلاف العلماء في مشروعيتها فالحاصل أنه ذكر أن أبو بريد عمرو بن سلمة كان إذا نهض من السجدة الثانية ليقوم إلى الركعة الثانية جلس قبل أن ينهض، فلم ينهض حتى يستوي جالساً، هكذا كان يفعل شيخهم الذي هو أبو بريد عمرو بن سلمة، فاستدلوا بهذا على مشروعية هذه الجلسة، وسموها جلسة الاستراحة. وقد اختلفوا في مشروعيتها: هل تشرع جلسة الاستراحة التي فعلها أبو بريد عمرو بن سلمة أم لا؟ وهل أبو بريد عمرو بن سلمة تلقاها عن أحد أو فعلها استحساناً؟ وهل إقرار أبي قلابة أو تشبيه أبي قلابة لصلاته بصلاة مالك بن الحويرث في جميع الصلاة كلها حتى هذه الجلسة، أو في معظم الصلاة وفي حسنها وفي طولها وفي قصرها وما أشبه ذلك؟ الأقرب أن أبا قلابة يقول: إن صلاة أبو بريد عمرو بن سلمة أقرب إلى صلاة مالك بن الحويرث وأشبه بها في كونه يطمئن، وفي كونه يتم الركوع والسجود، وفي كونه يقرأ كما يقرأ، وفي كونه يخشع فيها، ويمكن أنه لم يذكر أن من فعله هذه الجلسة وإنما ذكرها الذي روى عن أبي قلابة يعني: نقل عن أبو بريد عمرو بن سلمة أنه كان يجلس هذه الجلسة، فبعض العلماء ذهب إلى استحباب جلسة الاستراحة كالشافعية، ورأوا أنها من سنن الصلاة، فإذا قام من الركعة الأولى قبل أن ينهض جلس ثم قام، وإذا قام من الركعة الثالثة قبل أن ينهض جلس ثم قام. وأكثر الأئمة لم يستحبوها ورأوا أنها ليست مستحبة ولا مشروعة، وقالوا: إنها لم تذكر في الأحاديث، وإن الأحاديث كثيرة والسنة التي فيها صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لم تذكر فيها هذه الجلسة، فدل على أن أبو بريد عمرو بن سلمة ما فعلها عن دليل وإنما فعلها عن كبر؛ لأنه كان قد طعن في السن، ففعلها لأجل أن يرتاح قبل أن ينهض، فكان هذا هو السبب في فعله لها. وعلى هذا: لا تكون من سنن الصلاة. وبعض العلماء قال: لما شبه أبو قلابة شبه صلاة أبو بريد عمرو بن سلمة بصلاة مالك ومالك صحابي فإنا نثبتها كما أثبتها، ولكن نقول: لعلها خاصة لكبير السن، أو بمن احتاج إليها لضعف أو نحو ذلك، فهي لمن كان كبير السن كحال عمرو بن سلمة أو لمن هو مريض يشق عليه أن ينهض من السجود سريعاً. وإلا فالثابت المتواتر في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن يجلس، بل كان إذا قام من السجدة الثانية نهض واعتمد على ركبتيه، واستتم قائماً، هذا هو المعتاد. فإذاً عرفنا أن فيها ثلاثة أقوال: قول الشافعية أنها تستحب؛ لأجل فعل أبو بريد عمرو بن سلمة. وأكثر الأئمة لم يستحبوها. وتوسط آخرون وقالوا: يفعلها من هو عاجز لكبر أو مرض، ومن ليس كذلك لا يفعلها. وهذا هو القول الوسط الذي جمعوا به بين القولين.

شرح حديث عبد الله بن مالك بن بحينة في صفة السجود

شرح حديث عبد الله بن مالك بن بحينة في صفة السجود

عظمة السجود والدليل على أهميته

عظمة السجود والدليل على أهميته أما الحديث الثالث ففيه صفة سجود النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن السجود في الصلاة ركن من أركان الصلاة، وأنه أهم أركانها، ومن أهميته أنه يكرر، ففي كل ركعة يأتي بسجودين، مع أنه لا يأتي إلا بركوع واحدة، فلماذا يكرر السجود؟ لأهميته ولفضله. وقد ورد التعبد بالسجود وحده، مما يدل على أنه أفضل، وذلك كسجود التلاوة وسجود الشكر، سجدة واحدة يسجد فيها من غير أن يسبقها تحريم ولا ركوع ولا غير ذلك. كذلك أيضاً جعل السجود جابراً للصلاة كما في سجود السهو مما يدل على أهمية السجود. وورد أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد) وأمر في السجود أن يُكثر فيه من الدعاء كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (إني نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً، فأما الركوع فعظموا فيها الرب، وأما السجود فأكثروا من الدعاء فقمن أن يستجاب لكم) أي: حريٌ أن يستجاب إذا دعوتم الله في حالة السجود؛ وذلك لأنكم في تلك الحالة متواضعون، فالعبد غاية تواضعه إذا وضع وجهه على الأرض؛ وذلك لأن وجه الإنسان هو أشرف أعضائه، وهو أرفعها، وهو مجمع حواسه، فإذا تواضع ووضع وجهه على الأرض كان ذلك غاية التواضع وغاية التعبد. ولأجل ذلك ورد في صيغة السجود ما يحقق كمال الخشوع، وكمال الذل، فمنها: أنه يسجد على سبعة أعضاء، ويمكن هذه الأعضاء من الأرض. ومنها: أنه يرفع ذراعيه، وتقدم أنه عليه الصلاة والسلام كان يرفع ذراعيه عن الأرض، ونهى أن يبسط الرجل ذراعيه في السجود كانبساط الكلب. ومنها: أنه كان عليه الصلاة والسلام يتجافى في السجود، فكان ينصب رجليه ويسجد على بطون أصابعه، وكان يرفع فخذيه عن ساقيه، ويجافي بطنه عن فخذيه، ويجافي عضديه عن جنبه حتى يبدو بياض إبطيه، لأنه أحياناً لا يكون عليه إلا رداء، فإذا فرج يديه ظهر إبطه من وراء الرداء، فظهر بياض إبطيه من تفريجه ومن شدة مجافاته يديه عن جنبيه. وهذه الصفة هي الصفة المتميزة بالاعتدال، يعني: أنها الوسط.

الهيئة الصحيحة للسجود وبيان أخطاء المصلين فيه

الهيئة الصحيحة للسجود وبيان أخطاء المصلين فيه فهذه المجافاة يفعلها بقدر استطاعته، فإذا كان إماماً تمكن من التجافي فيجافي عضديه عن جنبه، أما إذا كان مأموماً، فالغالب أنه لا يتمكن تمكناً زائداً؛ وذلك لأن المأمومين يصف بعضهم بجانب بعض، ويؤمرون بأن يتراصوا ولا يتركوا بينهم خللاً، فلا يتمكن كل منهم في السجود من المجافاة الكثيرة، بل يتجافون بقدر ما يستطيعون، فكل منهم يجافي عضديه عن جنبيه بقدر استطاعته سواء قلت المجافاة أو كثرت. أما بالنسبة لمجافاة البطن عن الفخذين، والفخذين عن الساقين فإنها تكون متوسطة، وقد وصفت في بعض الروايات: بأن ينصب فخذيه، أي: أن تكون فخذاه منتصبة يعني: قائمة، فيعتمد على ركبتيه، ويكون فخذه شبه مرتفع أي: قائم، فلا يميل إلى جهة الساق ولا يميل إلى جهة الأرض، فإن في ميله إلى جهة الأرض شيئاً من المشقة والصعوبة عليه، وفي ميله إلى جهة الساق شيئاً من الكسل أو نحو ذلك. فنرى أن بعض الناس إذا سجد أبعد موضع جبهته بعداً زائداً كمتر أو نحوه! ففي ذلك شيء من المشقة، حيث يشق على نفسه حتى ربما تجاوز الفراش الذي يصلي عليه، أو سجد على الفراش الثاني وربما ضايق الصف الذي أمامه إذا كان هو في الصف الثاني ونحو ذلك. ونرى آخرين يسجد أحدهم بين ركبتيه! فيجعل رأسه أو وجهه أو ذقنه قرب ركبتيه فلا تحصل بذلك مجافاة. والوسط هو المشروع، فإذا جعلت بين رأسك وبين ركبتك قدر نصف متر أو نحو ذلك كان فيه شيء من الاعتدال، وليس فيه شيء من المشقة، هذا هو التفريج الذي ذكر في هذه الأحاديث.

شرح حديث الصلاة بالنعال

شرح حديث الصلاة بالنعال قال المصنف رحمه الله: [عن أبي مسلمة سعيد بن يزيد قال: سألت أنس بن مالك رضي الله عنه: (أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في نعليه؟ قال: نعم) . وعن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أبي العاص بن الربيع بن عبد شمس فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها) . وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اعتدلوا في السجود ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب) ] . هذه من أحاديث صفة الصلاة، فصفة الصلاة -كما عرفنا- متلقاة عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله ومن فعله، وأكثرها أخذت من أفعاله، حيث إنه القدوة عليه الصلاة والسلام، وقد قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) والله يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] ، وقال: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر:7] .

صفة النعال في العهد النبوي

صفة النعال في العهد النبوي فمن ذلك الصلاة في النعلين، كان عليه الصلاة والسلام يصلي في نعليه، وكانت النعال في عهده من جلود الإبل، وكانوا يقطعونها بأيديهم، يعني: يخرزها الخراز، فيقطع على قدر القدم، ويجعلها -مثلاً- ثلاثة أطباق أو أربعة، ثم يجعل فيها سيوراً في حافاتها وفي وسطها تمسك بعضها ببعض، ويجعل لها شسعاً وشراكاً. والشسع: هو السير الذي يمسك النعل من الخلف فوق العقب، والشراك: هو الذي يمسك النعل فوق الأخمص وبين الأصبعين، ويربط فوق الأخمص الذي هو وسط القدم، والمنخفض من القدم، ويحتاجون إلى شدها بتلك السيور وإحكامها وعقدها من خلف القدم وفوق الأخمص، فإذا لبسها فمن المشقة عليه أن يخلعها؛ فلأجل ذلك كان يصلي بها، وكان يدخل بها المجالس، ويجلس بها وكذلك صحابته كانوا يصلون بالنعال؛ وما ذاك إلا لأنه يصعب لبسها ويصعب خلعها في كل حين، لما ذكرنا من أنها تحتاج إلى ربط وعقد فوق الأخمص، وكذلك فوق العقب بتلك السيور التي من أسمائها الشراك والشسع، فلأجل ذلك رأى أن من الأسهل عليهم الصلاة فيها.

مشروعية الصلاة بالنعال وشروط ذلك

مشروعية الصلاة بالنعال وشروط ذلك ثم اشترط لذلك شرطاً وهو تفقدها عن الأذى، ففي بعض الأحاديث أنه عليه الصلاة والسلام قال: (إذا أتى أحدكم إلى المسجد فليقلب نعليه، فإن رأى فيهما أذىً أو قذراً فليمسحه وليصلِّ فيهما) فأمر بتفقدهما، بأن يقلبها وأن ينظر فيها وأن يتحقق من نظافتها ومن نزاهتها، ثم بعد ذلك له أن يصلي فيها. كذلك ثبت أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم أباح الصلاة فيها، أو أمر بذلك مخالفة لليهود، فقال: (إن اليهود لا يصلون في نعالهم فخالفوهم) ، أي: فصلوا في نعالكم مخالفة لهم، فجعل ذلك مقصداً من مقاصد الشريعة. وكان اليهود يتشددون في أمرها، فيخلعونها ولو كان في خلعها صعوبة، ولو كان أيضاً في لبسها شيء من الصعوبة ومن الثقل، فلذلك أمر بمخالفتهم، وأمر بأن يصلى فيها؛ وكل ذلك لأجل المشقة التي ذكرنا في خلعها وفي تجديد لبسها وما أشبه ذلك.

حكم لبس النعال قائما

حكم لبس النعال قائماً وقد ورد في حديث أيضاً: (أنه صلى الله عليه وسلم نهى أن ينتعل الرجل وهو قائم) أي: أن يلبس نعليه وهو قائم؛ ولعل السبب في ذلك صعوبة اللبس؛ لأنها تحتاج إلى أن يشدها فوق الأخمص وفوق العقب، ويربط تلك السيور وتلك الخيوط فيتكلف إذا لبسها وهو قائم، فلذلك أمر بأن يلبسها وهو جالس حتى لا يتكلف ولا يشق عليه، هذه هي الحكمة في ذلك. ذكرنا أن هذا خاص بأحذيتهم الموجودة عندهم، أما أحذيتنا هذه الموجودة فإن خلعها وكذلك لبسها ليس فيه شيء من الصعوبة، بحيث يمكن أن يخلعها وهو قائم ويلبسها وهو قائم، ويمسك شراكها المقدم بأصابعه ولا تسقط منه، فلأجل ذلك قالوا: لو خلعها وهو في هذه الحال فلا إثم. ولو صلى بغيرها فلا إثم، ورأوا أيضاً أن كثيراً من الناس يتساهلون في تفقد الأحذية عند دخولهم المساجد، ورأوا أيضاً أن المساجد فرشت بهذه الفرش، وأنها تتلوث بذلك الغبار الذي تحمله الأحذية، وكذلك ما تحمله من الرطوبة ونحوها فقالوا: لا بأس والحال هذه أن يخلعها عند الأبواب وأن لا يصلي فيها. وبكل حال فلا ينكر على من صلى في نعليه، بل إن ذلك من السنة، بشرط أن يتفقد نعليه، وأن يتأكد من نظافتهما، ولا يشدد في طلب الخلع، ولا يقال: إن من دخل المسجد بنعليه مع نظافتهما إنه فاجر وإنه عاص وإنه وإنه، ما دام لم يفصل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقل: لا تلبسوها في البيوت المفروشة أو نحوها. فبكل حال لا ينكر على من خلعها؛ لأنا رأينا أن الناس يتساهلون في تفقدها، وكذلك لا ينكر على من لبسها وصلى بها لما ورد من الأحاديث، وذلك بعد أن يتأكد من صحتها ونظافتها.

اختلاف الناس في شأن النعال

اختلاف الناس في شأن النعال والناس في أمر الأحذية: منهم من يتساهل كثيراً فيدخلون المساجد والبيوت بأحذية ملوثة ودنسة وسخة ولا يتفقدونها، فيحصل بذلك القذر والأذى والتلويث، وربما حمل النجاسات ونحوها. ومنهم من يتشدد وهو الغالب الكثير، وتشدد هؤلاء لا شك أنه تقليد لليهود كما ذكر في الحديث: (إن اليهود لا يصلون في نعالهم فخالفوهم) ، فجاء هؤلاء واستقبحوا هذه الأحذية، واستقذروها واستنقصوا من يدخل المساجد بها، ومن يجعلها أمامه ولو مقلوبة، ورأوا أن الحذاء أقذر الأشياء، ورأوا عيباً كثيراً على من يدخله أي مجلس ولو كان نظيفاً أو نحو ذلك. وصاروا يضربون المثل بالحذاء ودنسه ووساخته فيقولون: فلان لا يساوي أحذيته أو مواطئ النعال، أو ما أشبه ذلك تحقيراً له وازدراء به. نقول: هذا التشدد لا ينبغي، بل الحذاء إذا كانت نظيفة فلا مانع من دخول المساجد بها والمرور فيها بشرط التنظيف ونحو ذلك. وإنما جعلت عند الأماكن وعند الأبواب ونحو ذلك لما رئي من التساهل من بعض الناس أو كثير منهم في تفقد نظافتها. ففي هذا الحديث أنه عليه السلام كان يصلي في نعليه قياماً وقعوداً وركوعاً وسجوداً، وحدث مرة أنه خلع نعليه في الصلاة فخلع الصحابة نعالهم، فأخبرهم بأن جبريل أخبره بأن فيها قذراً أو أذى فخلعها، فدل على أنه إذا صار فيها شيء من القذر فإنه يخلعها، ويستمر في صلاته، هذا ما يتعلق بصلاته بالنعال.

شرح حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل أمامة)

شرح حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل أمامة) هذا الحديث يتعلق بشيء من العمل في الصلاة، روى أبو قتادة هذا الحديث وذكر فيه: أن المسلمين بينما هم ينتظرون النبي صلى الله عليه وسلم لإقامة الصلاة خرج عليهم وقد حمل هذه الطفلة على كتفه، وهي طفلة هو جدها، واسمها أمامة، وأمها زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وأبوها: أبو العاص بن الربيع بن عبد شمس وهو أول من صاهر النبي صلى الله عليه وسلم، فهو زوج زينب بنته تزوجها بمكة، ولم يسلم مع من أسلم، فإن صهره عثمان رضي الله عنه أسلم في أول الأمر، وأما أبو العاص فبقي على دين قومه، وخرج معهم لما خرجوا في غزوة بدر وأسره المسلمون، أو ساقوه وقدموا به المدينة وهو مع الأسرى، وأرسلت زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم قلادة من ذهب أو من خرز ورثتها عن أمها خديجة، فأرسلتها في فداء زوجها، فمنّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم، واشترط عليه أن يبعث إليه زينب فبعث بها. وبقيت عند النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن أسلم أبو العاص فردها عليه، وماتت في حياة النبي صلى الله علي وسلم. والحاصل أنه كان لها هذه الابنة التي هي أمامة (وعندما جاءت أمها من مكة مهاجرة كانت طفلة، وكان عليه الصلاة والسلام يلين مع الأطفال، ويحملهم، ويقبلهم، ولا سيما من له صلة وقرابة، وذلك دليل على كمال شفقته وكمال رقة قلبه مع الأطفال. وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قبل الحسن بن علي فقال له الأقرع: (إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً! فقال: من لا يَرحم لا يُرحم أو قال: أوأملك أن نزع الله من قلبك الرحمة) .

الفوائد المستنبطة من حديث حمله صلى الله عليه وسلم لأمامة وهو يصلي

الفوائد المستنبطة من حديث حمله صلى الله عليه وسلم لأمامة وهو يصلي فمن رحمته ومن شفقته على هذه الطفلة أن تقدم وهو يحملها على كتفه، وسوى الصفوف وهو يحملها، وكبر تكبيرة الإحرام وهي على كتفه، وقرأ حتى أراد أن يركع فوضعها على الأرض، فركع وسجد وهي على الأرض، ولما قام للركعة الثانية قام بها وحملها معه، واستمر حاملاً لها إلى أن ركع فوضعها، فإذا قام حملها وإذا سجد أو ركع وضعها. لا شك أن هذا شيء من العمل، ولكنه عمل يسير فيتسامح به، فاستفاد العلماء من ذلك: أولاً: شفقة النبي صلى الله عليه وسلم، ورقته ورحمته بالأطفال والصغار. ثانياً: جواز حمل الصبي إذا كانت ثيابه وبدنه طاهرة، ولا شك أنه تأكد من طهارة ثيابها ومن طهارة بدنها؛ لأنه لا يجوز حمل شيء فيه نجاسة في الصلاة، بل لا يحمل النجاسة حتى ولو كانت في قارورة أو في خرقة في جيبه أو نحو ذلك. أما إذا كانت طاهرة فلا بأس، فهذه لا بد أنه تأكد من نظافتها، ومعلوم أن الطفل لا يملك أن يحدث أو مثل ذلك، فحدث الطفل الذي ينقض الوضوء لا يبطل بذلك صلاة من يحمله، فلذلك حملها والحال هذه. ثالثاً: إباحة العمل اليسير في الصلاة، وعمله هنا أنه إذا أراد أن يقوم حملها، وقام وهو حامل لها، وإذا أراد أن يركع وضعها على الأرض بيديه أو بيده، هذا أيضاً شيء من الشغل، وشيء من العمل، فمثل هذا العمل اليسير يتسامح فيه، ويعرف منه أنه لا ينافي الخشوع في الصلاة، وليس في هذه الحركة ما يبطل الصلاة.

الحركة الكثيرة مبطلة للصلاة بخلاف الحركة اليسيرة

الحركة الكثيرة مبطلة للصلاة بخلاف الحركة اليسيرة الحركة المبطلة للصلاة هي الكثيرة المتوالية، كأن يمشي خطوات متوالية لغير حاجة، وكأن يكثر من الالتفات، وكأن يكثر من العمل بيديه في تسوية عمامته، أو تسوية عباءته، أو تسوية شعر رأسه ولفه، أو كثرة حركته بيديه أو تشبيك أصابعه وإدخال بعضها ببعض، أو فرقعتها أي: ليها حتى تصوت، أو كثرة مراوحة رجليه برفع قدم أو وضع قدم، أو شغله مثلاً بشيء يشغل قلبه ككثير من الناس عندما ينظر إلى ساعته التي في ذراعه مثلاً، أو يحرك شيئاً من ثيابه أو من بدنه أو ما أشبه ذلك، لا شك أن كثرة الحركة تبطل الصلاة إذا توالت. ثبت أن حذيفة رضي الله عنه رأى رجلاً يكثر الحركة، فقال: منذ كم تصلي؟ قال: منذ أربعين سنة، فقال له: (لو مت مت على غير الفطرة) وفي حديث أنه عليه السلام رأى رجلاً كثير الحركة فقال: (لو خشع قلب هذا لسكنت جوارحه) . فأما الحركة اليسيرة مثل هذه الحركة فلا تنافي الصلاة، فقد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام في صلاة النفل إذا طرقت عائشة الباب تقدم وفتح الباب لها، يعني: خطوة أو نصف خطوة ومد بيده، وفتح الباب لها، هذا أيضاً عمل يسير. وثبت أيضاً أنه عليه السلام كان مرة يصلي وقد بعث أحد أصحابه يلتمس خبراً، فجعل يلتفت إلى ذلك الشعب الذي بعثه إليه، وينظر هل جاء؟ فمثل هذا الالتفات اليسير لا يبطل الصلاة.

الأسباب التي يحصل بها حضور القلب

الأسباب التي يحصل بها حضور القلب وكذلك المصلي مأمور بأن يأتي بالأسباب التي يحصل بها حضور القلب والخشوع في صلاته، وذلك بكثرة الذكر والقراءة وتأمل ما يقول، وكذلك أيضاً بتقليل الحركة وبسكون الأعضاء. فأمر المصلي بأن يجعل يديه على صدره، فيمسك إحداهما بالأخرى، ويضعهما على صدره حتى يسكن حركته، ويصف قدميه ولا يراوح بينهما إلا لضرورة. وأمر أيضاً بأن ينظر إلى موضع سجوده؛ ليكون ذلك أجمع لقلبه حتى لا يتشتت عليه إذا رفع بصره، ونهي عن رفع البصر، وعن النظر إلى السماء، حتى هدد على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: (لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء أو لتخطفن) ، وفي رواية: (أو لا ترجع إليهم أبصارهم) . وذلك كله محافظة على أسباب حضور القلب، وعلى الخشوع في الصلاة.

وضع اليدين على الصدر حال القيام من سنن الصلاة

وضع اليدين على الصدر حال القيام من سنن الصلاة من سنن الصلاة قبض اليد اليسرى باليد اليمنى ووضعهما على الصدر أو على البطن، فهذا من السنن وليس من الواجب؛ والدليل على أنه يجوز تركه ما كما في هذه القصة. ومعلوم أن الذي يحمل شيئاً ثقيلاً كحمل الطفل أو نحو ذلك، أنه غالباً يحمله بيد، فاليد الأخرى لا يمكنه أن يقبضها، فدل على أن قبض اليدين ووضعهما على البطن من السنن، وتسقط إذا اشتغل الإنسان بمثل هذا، أو إذا لم يتيسر له ذلك لبعض الأسباب، هذا عند الجمهور. والمذهب المالكي أنه لا يسن، فتجد المالكية يسبلون أيديهم في صلاتهم: يدلون أيديهم، ولا يرفعونها ولا يقبضونها، ويزعمون أن ذلك هو مذهب مالك. وقد ذكر العلماء أن مالكاً رحمه الله لم يكن يقبض يديه لعذر، لا أن ذلك من السنة، وذلك لمرض في يديه؛ لأنه لما أوذي وضرب بأمر بعض الخلفاء كانت الضربات في عضديه وفي يديه وفي ذراعيه وتأثر منها، هذا هو الظاهر، فرأى أن الأيسر والأسهل عليه أن يدلي يديه ويسبلهما في حالة الوقوف بعد الرفع من الركوع. فأخذ ذلك بعض أصحابه وجعلوا ذلك سنة له، واقتدوا به في ذلك، هكذا اعتذر بعضهم، وإلا فقد ثبت في الحديث الذي في الموطأ نفسه أنه نقل: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبض يده اليسرى بيده اليمنى) ، ولا يليق أن يروي ذلك ويترك العمل به. فعلى كل حال هذا من سنن الصلاة، أو من صفات الصلاة.

شرح عمدة الأحكام [14]

شرح عمدة الأحكام [14] حديث المسيء صلاته من أعظم الأحاديث في بيان أركان الصلاة وواجباتها التي لا تصح إلا بها، وقد شرحه العلماء مبينين دلالاته والرد على من خالف في العمل به.

شرح حديث المسيء في صلاته

شرح حديث المسيء في صلاته قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب وجوب الطمأنينة في الركوع والسجود: عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد، فدخل رجل فصلى، ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ارجع فصلِّ فإنك لم تصل، فرجع فصلى كما صلى، ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ارجع فصلِّ فإنك لم تصل. ثلاثاً، فقال: والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره فعلمني، فقال صلى الله عليه وسلم: إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، وافعل ذلك في صلاتك كلها) ] . هذا حديث في صفة الصلاة، مشتمل على أغلب صفة الصلاة، ولكن القصد منه: الطمأنينة فيها. وذكر في هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً في ناحية من المسجد ومعه صحابته يعلمهم ويقرئهم ويستفيدون منه، وهكذا كانت عادته في كل صباح غالباً، يجلس ويتوافدون إليه للتعليم، فجاء هذا الرجل فدخل المسجد كغيره، ولما دخل المسجد كان عليه أن يصلي تحية المسجد، فجاء وصلى تحية المسجد ركعتين، والنبي صلى الله عليه وسلم ينظر إليه، ولكنه خففها ولم يتمها. فلما انتهى جاء وسلّم على النبي صلى الله عليه وسلم, فرد عليه السلام وأمره أن يرجع فيعيد الصلاة، وأخبره بأن هذه الصلاة التي صلى ليست صلاة، ولا تحسب له صلاة، فكأنه لم يصلِّ، وكأنه لم يأت بعبادة، وأمره بأن يعيدها، ثم إنه أعادها المرة الثانية وأعادها المرة الثالثة وكرر ذلك ثلاثاً، ولما صلاّها ثلاث مرات على تلك الحالة، أخبر بأنه لا يعرف غير هذا، وأن هذا منتهى ما يعرفه، وطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يصف له الصلاة المجزئة التي إذا فعلها خرج من العهدة وبرئت ذمته، فوصف له صلى الله عليه وسلم الصلاة المجزئة. فأمره بالقيام، ثم أمره بالتكبير، ثم أمره بقراءة ما تيسر من القرآن، ثم أمره بعد ذلك بالركوع وأمره بالطمأنينة فيه، ثم بالرفع من الركوع وأمره بالاعتدال فيه، ثم أمره بالسجود وبالطمأنينة فيه، وأمره بالرفع منه وبالطمأنينة فيه، ووصف له ركعة إلا أنه لم يذكر سوى سجدة في هذه الرواية، وأمره أن يفعل ذلك في كل ركعاته. وهكذا اشتمل هذا الحديث على وصف ركعة، ولكن ليس فيها إلا سجدة، وفي بعض الروايات أنه وصف له السجدة الثانية: أن يسجد سجدتين، وفي بعض الروايات أنه ذكر له الطهارة، قال: (إذا قمت إلى الصلاة فتوضأ كما أمرك الله) ، وفي بعض الروايات أنه وصف له الوضوء فقال: (اغسل وجهك ويديك وامسح برأسك واغسل قدميك) ، فكل ذلك مما أخبر به عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث. وصف له هذه الصلاة، وبيّن له أن هذه هي الصلاة المجزئة، وأنه إذا لم يفعل هذا يكون بذلك لم يصل، وكأنه صلى صلاة لا تكفي ولا تجزي. ومباحث الحديث كثيرة لعلنا نتعرض لشيء منها:

وجوب تكبيرة الإحرام وصفتها

وجوب تكبيرة الإحرام وصفتها قوله: (فكبر) ؛ المراد بها تكبيرة الإحرام، ولا شك أنها أمر بها، وبينها النبي صلى الله عليه وسلم بفعله وبقوله، فكان إذا قام إلى الصلاة يقول: (الله أكبر) ، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تحريمها التكبير وتحليلها التسليم) يعني: أن الصلاة لها تحريم ولها تحليل، فكون الإنسان محرماً بالصلاة يقول: (الله أكبر) ، فإذا كبّر أصبح حراماً عليه أن يعمل ما لا يعمل في الصلاة. وجمهور الأمة على أن تكبيرة الإحرام ركن، وعلى أنه لا يجزئ غيرها بدلها، فلا يجزئ أن يقول: (الله أعظم) ، ولا (الله أجل) ، ولا (الله الأكبر) ، بل لا بد من قول: (الله أكبر) . وذهب بعض الحنفية إلى أنه يجزئ ما يدل على المعنى، ويجزئ عندهم أن يقول: الله أجل، أو الله أمجد، أو الله أقوى. يعني: تأتي كلمة تدل على الكبرياء وعلى العظمة، ولكن معلوم أن الصلاة تعبدية، وأن أفعالها مبنية على النقل، وأنه لا يصح فيها شيء إلا ما ثبت دليله، فلما لم يأت ما يدل على أنه يبدل التكبير بالتعظيم ولا بالتبجيل ولا بالإجلال، دل على أن اللفظة مقصودة. والحنفية يقولون: إن القصد من التكبيرة: استحضار عظمة الله تعالى. فنقول: الكلمة مقصود لفظها ومقصود معناها؛ وذلك لأن المكبر إذا قال: (الله أكبر) فعليه أن يستحضر مدلول هذه الكلمة، وهو كبرياء الله وعظمته وجلاله وهيبته، ويوجب له ذلك تبجيله وتعظيمه، ويوجب له ذلك حضور قلبه وخشوعه وخضوعه بين يدي ربه؛ لأنه إذا قال: (الله أكبر) تمثّل أن الله أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، وأن المخلوقات صغيرة وحقيرة بين يديه، وحقيرة بالنسبة إلى عظمته، فيحتقر المخلوق، ويعظم الخالق، وعند ذلك يخبت إلى الله وينيب إليه، ويخشع ويخضع بين يديه. وهذا هو المقصود من استفتاح هذه الصلاة التكبير.

استحباب دعاء الاستفتاح

استحباب دعاء الاستفتاح قوله: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر) لم يذكر في هذا الحديث دعاء الاستفتاح، وهو قوله: (سبحانك اللهم وبحمدك) أو قول: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي) وقد ذكر في أحاديث أخرى، وقد استدل بتركه هنا على أنه ليس من الواجبات بل هو من المستحبات، ولو تركه عمداً ما بطلت الصلاة بتركه ولكنه سنة مروية عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلذلك يتأكد أن يستفتح وأن يواظب على هذا الاستفتاح إذا تيسر له. بأي نوع يستفتح؟ ورد أنه صلى الله عليه وسلم كان يستفتح بقوله: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي) إلى آخره، وتارة يستفتح بقوله: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل) إلى آخره، وتارة بقوله: (سبحانك اللهم وبحمدك) إلى آخره، فأيها استفتح به أجزأ ذلك إن شاء الله. ولكن اختار الإمام أحمد الاستفتاح بقول: (سبحانك اللهم) ؛ لأنه ثناء ولأنه مختصر. ورجح بعض العلماء أنه يأتي بهذا تارة، وبهذا تارة؛ حتى لا يترك شيئاً من السنة، ولا يهجر شيئاً مما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وجوب قراءة الفاتحة

وجوب قراءة الفاتحة أما القراءة فلم يذكر في هذا الحديث قراءة الفاتحة، وقال: (اقرأ ما تيسر معك من القرآن) ، وقد استدل بذلك بعض الحنفية على أن قراءة الفاتحة ليست بواجبة، بل الواجب جنس القراءة، واستدلوا أيضاً بالآية الكريمة في سورة المزمل، وهي قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ} [المزمل:20] . ولكن دلت أحاديث أخرى على أنه يجب قراءة الفاتحة، قال صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) ، وفي حديث آخر: (صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج) فأخذ من هذا أن قراءة الفاتحة واجبة على الإمام والمنفرد، وأما المأموم فإنها مستحبة في حقه، وذلك لأنه قد يكون مع الإمام والإمام يقرأ، وهو مأمور بأن ينصت لقراءة إمامته، فإن تيسر له قراءتها في سكتات إمامه قرأها، وإن لم يتيسر له اقتصر على قراءة الإمام. وذهب بعضهم إلى أنه يقرأ ولو قرأ الإمام، وروي ذلك عن أبي هريرة لما قيل له: إني أكون خلف الإمام، فقال: اقرأ بها في نفسك، واستدل بحديث: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين) ، وبكل حال فيتأكد قراءتها لمن خلف الإمام في سر وفي جهر. أما من يقول: إنها كغيرها من السور الأخرى، فأخذوا بظاهر هذا الحديث؛ ولعله صلى الله عليه وسلم لم يذكر الفاتحة؛ لأنها معلومة مشهورة، أو لأن ذلك الرجل قد علم حكمها من فعلها المتكرر، فإن الصحابة كانوا يصلون خلف النبي صلى الله عليه وسلم في كل أحوالهم، ولم يتركوا قراءة الفاتحة، وكانوا يعرفون حكمها من قوله ومن فعله، فبذلك يعلم أنه ما ترك تعليم الفاتحة أو ذكر الفاتحة إلا لكونها معلومة مشهورة.

وجوب الركوع

وجوب الركوع بعد ذلك ذكر الركوع، ومعناه: الانحناء من قيام إلى أن تصل يداه إلى ركبتيه، ولا شك أنه ركن في الصلاة، وقد أمر الله تعالى به في عدة آيات، مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج:77] ، وفي قوله تعالى: {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة:125] وفي قوله تعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43] . والركوع وهو الانحناء من القيام وهو عبادة من العبادات، بل هو من أجل العبادات، وما ذاك إلا لما فيه من الانحناء وما فيه من الذل والخضوع بين يدي الرب سبحانه وتعالى، فإنه في تلك الحال يكون مخبتاً منيباً متواضعاً متخشعاً متذللاً لربه، خاضعاً بين يديه، قد خفض رأسه، فلذلك يأتي فيه بالذكر المناسب، فيقول فيه: سبحان ربي العظيم، فكأنه يقول: أنا الذليل وأنت العظيم، أنا العبد وأنت المعبود، أنا العبد وأنت المالك، فأنت مالكي وأنت ربي، أنا المربوب وأنت رب العباد، فأنا أعظمك حق التعظيم. وقد ورد في حديث قوله صلى الله عليه وسلم: (أما إني نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً، فأما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا فيه بالدعاء، فقمن أن يستجاب لكم) . يعني: حريٌ أن تستجاب دعواتكم، فأمرهم في الركوع بأن يعظموا الرب، ولأجل ذلك يسن أن يؤتى بالأذكار التي فيها تعظيم لله تعالى، وتسبيحه، وتنزيهه وتقديسه، وكل ذلك ليستحضر العبد عظمة ربه، وأنه خاشع خاضع واقف بين يديه، فيوجب له ذلك الانكسار الذي يوجب رحمة الله تعالى، وورد في حديث: (أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي) وإذا انكسر القلب تواضع الجسم، فيكون ذلك سبباً في نزول الرحمة.

وجوب الطمأنينة

وجوب الطمأنينة وفي هذا الحديث الأمر بالطمأنينة، في قوله: (حتى تطمئن راكعاً) والطمأنينة هي الركود وذلك بأن يتمكن ويركد. وتمام الركوع هو أن تمس يداه ركبتيه، وكماله: أن يلقم كل ركبة يداً، وأن يفرق أصابعه، وأن يمسك ركبتيه إمساكاً قوياً، وأيضاً: أن يمد ظهره ويجعله مستوياً ويجعل رأسه بحياله، فلا يرفعه ولا يخفضه، بل يجعل ظهره مستوياً بحيث لو وضع عليه قدح لركد ولم يمل هاهنا أو هاهنا. ومقدار الطمأنينة: بقدر ما يقول: سبحان ربي العظيم مرة باطمئنان لا بعجل، هذه حقيقة الطمأنينة المذكورة في هذا الحديث. إذاً: الطمأنينة: الركود والركون. أي: حتى تطمئن وتركد وتركن وتقف. يعني: حتى يتحقق أنك ركنت، وهذا دليل على أن الطمأنينة ركن، وهي التي أنكر على ذلك الرجل الذي أساء صلاته، ولم يحسن أن يأتي بها، فلذلك قال: (فإنك لم تصل) لما لم يأت بهذه الطمأنينة. وذهب جمهور الأمة إلى أن الطمأنينة ركن من أركان الصلاة، ولكن روي عن بعض الحنفية أنهم يوجبون الطمأنينة وأنه يجوز عندهم الصلاة بلا طمأنينة، وعليه: فكثير من الذين يدعون أنهم على مذهب أبي حنيفة لا يطمئنون، فلا يصل أحدهم إلى الركوع حتى يرفع، ولا يرفع حتى ينخفض، ولا يسجد ويصل الأرض حتى يرفع، فإذا مست جبهته الأرض رفع بسرعة، وإذا انحنى رفع بسرعة فيترك ركناً أكده النبي صلى الله عليه وسلم، ويدّعون أن أبا حنيفة لم يوجبه. فيقال لهم: لعل أبا حنيفة لم يفصح بترك ذلك، ثم أيضاً ارجعوا إلى فعل أبي حنيفة رحمه الله فقد كان كثير العبادة، وقد كان كثير الصلاة، وأبو حنيفة الذي تقتدون به وتخففون الصلاة ما اقتديتم به في كل الحالات، فقد كان أبو حنيفة رحمه الله يقوم الليل كله حتى أنه صلى الفجر بوضوء العشاء أربعين سنة أو قريباً منها، ولا شك أنه يطيل أركان الصلاة، فربما تكون الركعة في نصف ساعة أو نحوها، ولا شك أنه يطمئن فيها، ولم ينقل أيضاً في أفعاله أنه كان يخفف صلاته، فهؤلاء الذي يقتدون به ما اتبعوه حقاً. يمكن أنه نقلت عنه رواية أن الطمأنية ليست واجبة، ولكن الرواية قد تكون في وقت له مناسبة، فأخذها هؤلاء وقالوا: الطمأنينة ليست ركناً وليست واجبة، حتى نقول لهم: هل حرمها أبو حنيفة؟ وهل كرهها؟ وهل نهى عنها؟ وهل كونه يقول في هذه الرواية: إنها ليست ركناً، يقتضي أنكم تنقرون الصلاة، وتخففونها التخفيف الذي قد يبطلها. اعتبروا بهذا الحديث الذي قال فيه: (فإنك لم تصلِّ) ، وتذكروا أن نبينا صلى الله عليه وسلم نهى عن التخفيف الزائد وسماه نقراً، ونهى عن نقر كنقر الغراب، ولا شك أن الذي ينقر الصلاة لا يصل إلى الأرض إلا وقد رفع، فيكون شبيهاً بالغراب، ونهى صلى الله عليه وسلم عن النقر في الركوع وفي السجود، فلينتبه المسلم إلى ذلك.

شرح عمدة الأحكام [15]

شرح عمدة الأحكام [15] أمر الله تعالى بقراءة القرآن في الصلاة، وجعل القراءة ركناً من أركانها، وقد جاء في السنة تحديد مقدار التطويل والتخفيف في ركعات الصلاة، وبين العلماء السنة في ذلك، وكل ذلك مما ينبغي للمصلي معرفته.

القراءة في الصلاة

القراءة في الصلاة قال المصنف رحمه الله: [باب القراءة في الصلاة: عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) . وعن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعتين الأوليين في صلاة الظهر بفاتحة الكتاب وسورتين، يطول في الأولى ويقصر في الثانية، يُسمع الآية أحياناً، وكان يقرأ في العصر بفاتحة الكتاب وسورتين، يطول في الأولى ويقصر في الثانية، وفي الركعتين الأخريين بأم الكتاب، وكان يطول في الركعة الأولى في صلاة الصبح ويقصر في الثانية) . وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور) ] .

حركات الصلاة كلها عبادة

حركات الصلاة كلها عبادة معلوم أن الصلاة عبادة، وأن الصلاة عبادة يتعبد بها وفيها حركات وكلمات، ونيات، فتشتمل على عبادة القلب، وعبادة الأركان، وعبادة اللسان، فأما عبادة القلب فهي القصد والنية حتى يكون مثاباً على العمل إذا كانت النية خالصة. كذلك من عبادة القلب حضوره بين يدي الرب في هذه العبادة وتأمله وتعقله لأحكامها ولأقوالها. وأما عبادة البدن فالعين لها عبادة، والأذن لها عبادة، واليد لها عبادة، وكذلك الرجلان وأعضاء السجود والظهر كانحنائه في الركوع، وسجوده على الأعضاء السبعة، وقيامه في أول الصلاة، وقبضه ليديه وجعلهما على صدره، ورفعهما عند الرفع من الركوع، فكل ذلك عبادة. فحركاته في هذه الصلاة بأعضائه تعتبر عبادة، أما اللسان فعبادته بالقول واللفظ، ولذلك ليس في الصلاة سكوت، إلا لاستماع قراءة الإمام أو دعائه ونحو ذلك، وإلا فهو مأمور من حين يكبر إلى أن ينتهي بأن يأتي بأذكار أو بدعوات ولا يسكت.

الصلاة ذكر وقراءة ودعاء

الصلاة ذكر وقراءة ودعاء وكلامه في الصلاة إما ذكر وإما قراءة وإما دعاء، ولا يخلو عن هذه، فلا يخلطها بشيء من كلام الناس، ولأجل ذلك لما تكلم الأعرابي في الصلاة خلف النبي صلى الله عليه وسلم دعاه ونبهه وقال: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو الدعاء والذكر وقراءة القرآن) . فجعل الكلام الذي يأتي به إما ذكر كالتسبيح والتحميد والتهليل والتعظيم والاستغفار، وإما دعاء بالمغفرة وبالرحمة ودخول الجنة وبالنجاة من النار ونحو ذلك، وإما قراءة لما تيسر من القرآن كما أمر الله بذلك. وحيث إن الباب للقراءة فمعلوم أن القراءة لا تكون إلا من هذا القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، والذي هو معجزته التي تحدى بها الله تعالى البشر، هذه المعجزة هي الباقية وهي كلام الله الذي هو أشرف الكلام، والذي جعل الله تلاوته عبادة وقربة تقرب إليه سبحانه.

قراءة الفاتحة في الصلاة

قراءة الفاتحة في الصلاة وورد في بعض الأحاديث: (أحب ما تقرب به العبد إلى الله ما خرج منه وهو القرآن) فإذا كان يتعبد به خارج الصلاة فكذلك في الصلاة. ثم ذكر العلماء أن أعظم سور القرآن سورة الفاتحة، وسميت بفاتحة الكتاب؛ لأنها كتبت في أوله، واستفتح بها القرآن، فقد ثبتت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم لها في الصلاة فرضاً ونفلاً، وكذلك ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أكد قراءتها وحث على قراءتها وأخبر بآكديتها. فعندنا هذا الحديث الذي يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيه: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) ، وهذا ظاهر في أن صحة الصلاة تتوقف على قراءة الفاتحة، وإذا كان كذلك فإنها تعتبر ركناً، فإن الركن هو الذي يتوقف صحة الصلاة عليه، فعرف بذلك أن قراءتها لا تتم إلا بها. وقد ذهب إلى ذلك جماهير الأمة وأشهر علماء الأمة؛ فقالوا: لا تصح الصلاة إلا بقراءة الفاتحة، وقد تقدم في هديه صلى الله عليه وسلم في صلاته. وأجاز الحنفية قراءة قدرها من غيرها، فقالوا: إذا قرأ قدر الفاتحة من السور الأخرى اكتفي بذلك، واستدلوا بما في حديث المسيء صلاته حيث قال: (ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن) واستدلوا أيضاً بالآية وهي قول الله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ} [المزمل:20] . ولكن الآية محمولة على ما زاد على الفاتحة. يعني: أكثروا أو أقلوا على حسب ما تيسر. وقد ذكرنا أنه صلى الله عليه وسلم علم المسيء صلاته ما أخل به، وما كان يجهله، وقد كان مشتهراً أن فاتحة الكتاب لا تتم صلاته إلا بها، لكونهم كانوا يصلون خلف النبي صلى الله عليه وسلم في الجهرية ويسمعون قراءته، ويعرفون أنها لا تتم إلا بها.

حكم قراءة الفاتحة للمأموم

حكم قراءة الفاتحة للمأموم وقد ذهب بعض العلماء كالإمام البخاري إلى أنها لا تتم صلاة إمام أو مأموم أو منفرد إلا بفاتحة الكتاب، فاشترطها حتى على المأموم، ولم يفرق بين المأموم في صلاة جهرية أو سرية. لذلك اختلفوا في الصلاة الجهرية: هل يقرأ المأموم خلف الإمام أم لا يقرأ؟ وكثر الاختلاف في ذلك. فذهب قوم إلى أن كل إنسان عليه أن يقرأ الفاتحة، إماماً أو مأموماً في جهر أو في سر؛ ودليلهم في ذلك حديث: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) فإن كلمة (من) يدخل فيها كل مصل، واستدلوا أيضاً بالحديث الآخر: عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج، خداج، خداج غير تمام، فقال قائل: يا أبا هريرة: إني أحياناً أكون خلف الإمام؟ فقال: اقرأ بها في نفسك يا فارسي، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين) إلى آخر الحديث، فاستدل بأن كل أحد يقرأ الفاتحة ويجيبه الله بقوله: (حمدني عبدي أثنى عليّ علي عبدي مجدني عبدي هذا بيني وبين عبدي هذا لعبدي ولعبدي ما سأل) يعني في حديث: (قسمت الصلاة) وذكر الفاتحة فسماها صلاة، فدل على أن كل أحد ينطق بالفاتحة حتى يجيبه الله تعالى بقوله: (حمدني عبدي) إلى آخر ذلك. فهذا دليل على أن كل أحد عليه أن يقرأ الفاتحة إماماً أو مأموماً. وقد ذهب أكثر العلماء: إلى أن المأموم تكفيه قراءة الإمام سواء في سرية أو في جهرية، وجعلوا قراءته إنما هي فرض على الإمام وحده، واستدلوا بحديث يروى بلفظ: (من كان له إمام فقراءته له قراءة) أي أن قراءة الإمام قراءة للمأموم، ولكن الحديث فيه مقال، فلأجل ذلك لم يعتمده أكثر العلماء. وذهب آخرون -ولعله الأقرب- إلى أن الصلاة الجهرية يتحمل فيها الإمام القراءة على المأموم إذا لم يتيسر للمأموم قراءتها، وأما الصلاة السرية فإن المأموم يأتي بالقراءة فيها كما يأتي بها الإمام، قال الله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} [الأعراف:204] . يقول الإمام أحمد: أجمعوا على أنها في الصلاة. يعني: أن الإنصات الذي أُمرنا به في الصلاة. وكذلك في حديث أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كبر الإمام فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا) ، والإنصات هو الاستماع، والذي يقرأ الفاتحة خلف الإمام لا يكون منصتاً. يعني: مستمعاً لما يقول؛ وذلك لانشغاله بالقراءة، فهذا دليل على أنه مأمور بالإنصات ولو بفاتحة الكتاب.

السكوت بعد قراءة الفاتحة

السكوت بعد قراءة الفاتحة ذهب كثير من العلماء إلى أنه يستحب للإمام أن يسكت بعد الفاتحة سكتة خفيفة يقرأ المأموم فيها الفاتحة، ورويت هذه السكتة في حديث سمرة وغيره أنه قال: (حفظت من النبي صلى الله عليه وسلم سكتتين: إذا استفتح الصلاة، وإذا فرغ من القراءة، ثم قال: (وإذا قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] سكت هنيهة) أو كما قال. وبعض العلماء لم يستحب هذه السكتة، ويواصل قراءة السورة بقراءة الفاتحة، وحجتهم أنهم قد اختلفوا فيها فلم يثبتها إلا بعضهم، ولو كانت ثابتة لما اختلفوا فيها، وحيث ورد إثباتها فقد استحبوا أن يسكت ولكن لا يطيلها، وإذا سكت الإمام ابتدر المأموم وقرأ ما قدر عليه من الفاتحة، فإذا ابتدأ الإمام في قراءة السورة بعدها فإن كان قد بقي عليه آية أو آيتان كملهما ولو مع قراءة الإمام، وإلا اكتفى بقراءة الإمام ولم يكمل، وقطع القراءة، هذا هو الأقرب. وعلى كل حال، فقراءة الفاتحة في حق المأموم فيها هذا الخلاف، فنقول: الأولى إذا كنت في سرية كالظهر والعصر والأخيرة من المغرب والأخيرتين من العشاء فإنك تقرأ، ولا تسقط عنك القراءة؛ لأن الإمام لا يسمعك قراءته، وإذا كنت في الجهرية كالأولتين من المغرب، والأولتين من العشاء، وصلاة الصبح، فإن سكت الإمام فاقرأ الفاتحة، وإن لم يسكت فإنها تسقط عنك، وإن قرأتها سراً -كما قال أبو هريرة - جاز ذلك إن شاء الله.

مقدار القراءة في الصلاة

مقدار القراءة في الصلاة الصلاة السرية، وهي صلاة الظهر والعصر، جاء في هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ فيهما بسورتين، وأنه كان يسمعهم الآية أحياناً، وأنه يطيل في الأولى ويقصر في الثانية. يعني: في صلاة الظهر وصلاة العصر، وأنه يقرأ في الركعتين الأخيرتين الفاتحة فقط، فلأجل هذا الحديث ذهبوا إلى أنه يطيل الركعتين الأوليين أكثر من الأخريين. وقد قدرت القراءة فيهما بأنه يقرأ في الركعتين الأوليتين من الظهر بنحو سورة السجدة، التي هي قريب من ورقة ونصف. أي: ثلاث صفحات، يقرأها ويقسمها بين الركعتين، ولكنه يطيل في الأولى ويقصر في الثانية، ومعنى ذلك أنه يقرأ في الأولى صفحتين وفي الثانية صفحة، أو قريباً من ذلك. أما إذا شق على المأمومين فإنه يقرأ ما يناسبهم، وقد ثبت في صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه ذكر إطالة صلاة الظهر وبالأخص الركعة الأولى، قال: (كانت صلاة الظهر تقام، فيذهب أحدنا إلى البقيع خارج المدينة فيقضي حاجته ثم يأتي إلى بيته فيتوضأ، ثم يذهب إلى المسجد فيدركهم في الركعة الأولى مما يطيلها) ، وهذه المدة قد تستغرق عشر دقائق في الركعة الأولى، مما يدل على أنه كان يطيلها أحياناً، ولعل ذلك لأجل أن يتداركوها وأن يلحقوا الركعة الأولى والصلاة كلها، ولعل ذلك لأن صلاة الظهر تقع في شدة الحر، والناس مكتنون في بيوتهم يحتاجون إلى مدة لقضاء حاجة أو لوضوء أو ما أشبه ذلك، فلعله لهذا تسن إطالة صلاة الظهر في الركعة الأولى أكثر من الثانية. أما الركعتان الأخيرتان فاتفق في هذه الرواية وغيرها على أنه يقتصر فيهما على الفاتحة في الركعتين الأخيرتين من الظهر، وكذا الأخيرتان من العصر. أما الأولتان من العصر فيقرأ فيهما بسورتين، ولم تقدر تلك السورتان، ولكن ورد في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد أنه قدرهما بنحو ورقة ونصف. أي: صفحة ونصف، أي: قدر نصف سورة (السجدة) ، وذلك على وجه التقريب. فهذا يدل أيضاً على أنه يقرأ فيها أكثر من الفاتحة وسورة. يعني: يقسم السورة بين الركعتين أو يقرأ في كل ركعة سورة، وهو الأكثر.

الحكمة من جعل صلاة النهار سرية وصلاة الليل جهرية

الحكمة من جعل صلاة النهار سرية وصلاة الليل جهرية وعلى كل حال حيث إن الصلاة سرية فإن للإمام أن يقرأ ما يشاء، فيقرأ سورة أو بعض سورة أو بعضاً من سورة من وسط سورة أو ما أشبه ذلك، والأمر فيه سعة؛ وذلك أن هذه الصلاة شرعت سرية ليكون كل إنسان يناجي ربه، ويقرأ القرآن لنفسه، ويقبل على قراءته ويتأمل ويتعقل فيها. أما النهار فإن الأشغال فيه كثيرة، والحرف والأعمال قائمة، فالقلب منشغل، فلو كان هناك قراءة جهرية لكان الناس غالباً يسهون ويغفلون، فلا ينصتون لقراءة الإمام ولا يستفيدون، فإذا قرأ الإنسان بنفسه كان ذلك أدعى إلى أن يتأمل ويتعقل ما يقوله وما يقرؤه، ويستفيد من قراءته. أما الليل فشرعت والقراءة فيها جهراً؛ ولعل ذلك لأن الليل تنقطع فيه الشواغل غالباً، فحينئذٍ بكون القلب متفرغاً، فيسمع القراءة ويستفيد، ليسمع قراءة الإمام للفاتحة وقراءة السور ويتعقلها ويعرضها على قلبه، ويستفيد منها، ويتعلم ما كان يجهله عندما يسمع القراءة مرة بعد مرة، ويسمع سورة مراراً يحفظها، ويتزود من حفظ ما كان لا يحفظه، فيكون ذلك سبباً في التلقي والحفظ، فهذا هو سبب كون هذه سرية وهذه جهرية. والقراءة الجهرية معروف أنها الأولتين من المغرب والأولتين من العشاء وكذلك صلاة الصبح، وكذلك الصلوات العابرة كصلاة الجمعة، وصلاة العيدين، وصلاة الكسوف، وصلاة الاستسقاء، فهذه كلها جهرية؛ ولعل السبب في ذلك أنها عابرة وأن الجمع فيها كثير فشرع الجهر بها حتى يسمع القرآن، ويستفيد منه من لم يكن قد استمعه. والجمعة تجمع خلقاً كثيراً، وقد يكون منهم من لم يسمع القراءة كما ينبغي، ولا يسمع إلا قراءة سورة قصيرة أو يسمعها محرفة، فإذا سمع يوم الجمعة استفاد مما يسمع، وهكذا في الصلوات الأخرى.

الإطالة في الصلاة

الإطالة في الصلاة المشروع في الصلاة: القراءة بخشوع، وبتأمل، وبتعقل وبتدبر، وليس العجلة، كما أنه يشرع إطالة القراءة فيها بحسب ما يتحمله الناس، وقد تقدم لنا أنه صلى الله عليه وسلم حث معاذاً على أن يخفف، وقال: (أفتان أنت يا معاذ) وقال: (أيكم أم الناس فليخفف، فإن فيهم الصغير والكبير والضعيف وذا الحاجة) . ولكن التخفيف الذي أراده التخفيف النسبي. أي: بالنسبة إلى قراءة معاذ وما أشبهها، ولأجل ذلك كان صلى الله عليه وسلم يطيل، فإطالته بالنسبة إلى قراءة أئمة زماننا تعتبر إطالة، وتعتبر أن في قراءتهم اختصاراً زائداً. كذلك أيضاً: تعتبر صلاته تخفيفاً بالنسبة إلى صلاة المطولين كثيراً. وعندنا مثال في هذا الحديث الذي سمعنا: (أنه صلى الله عليه وسلم قرأ في صلاة المغرب بسورة الطور) ، وسورة الطور من طوال المفصل، والمفصل يبدأ من سورة (ق) . أي: فهي الثالثة من سوره، وهي من طوال المفصل. ولنفرض أنه قرأها في الركعتين، أي: قسمها، مع أن الغالب أنه كان يقرأ في كل ركعة سورة كاملة، وكان أحياناً يقرأ في الركعة سورتين يقرن بينهما، ويقرأ سورة ثم يقرأ سورة أخرى في ركعة واحدة من المفصل، وربما من غير المفصل، كما قرأ سورة الواقعة والدخان في ركعة، وسورة الذاريات والقلم في ركعة، يعني: من صلاة الصبح.

الترتيل والتدبر في القراءة

الترتيل والتدبر في القراءة وكان أيضاً يتأمل ويرتل قراءته، وهذه في صلاة المغرب، وقد ثبت أيضاً أنه قرأ بأطول من ذلك، فقرأ فيها بسورة الأعراف التي هي أكثر من جزء وربع، وسورة الأعراف قرأها في صلاة المغرب، وقسمها في الركعتين، فهذا دليل على أنه كثيراً ما يطيل في صلاة المغرب التي اعتاد كثير من الناس تخفيفها، فلا يستنكر على من أطال فيها. وكذلك في صلاة العشاء ذكروا أن قراءته تكون متوسطة بين المغرب التي يخفف فيها وبين الفجر التي يطيل فيها.

شرح عمدة الأحكام [16]

شرح عمدة الأحكام [16] المصلي معرض للسهو والنسيان والشك في صلاته بالزيادة أو النقصان، وقد وقع السهو للنبي صلى الله عليه وسلم حتى يبين لأمته ما تفعله إذا سهت، وهذا ما بينه العلماء وذكروا أحكامه مسترشدين بالأحاديث.

سجود السهو وما يتعلق به من أحكام

سجود السهو وما يتعلق به من أحكام قال المؤلف رحمه الله: [باب سجود السهو: عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي -قال ابن سيرين وسماها أبو هريرة ولكن نسيت أنا- قال: فصلى بنا ركعتين ثم سلم فقام إلى خشبة معروضة في المسجد، فاتكأ عليها كأنه غضبان، ووضع يده اليمنى على اليسرى وشبك بين أصابعه، ووضع خده الأيمن على ظهر كفه اليسرى وخرجت السرعان من أبواب المسجد، فقالوا: أقصرت الصلاة؟! وفي القوم أبو بكر وعمر فهابا أن يكلماه، وفي القوم رجل في يديه طول، يقال له: ذو اليدين فقال: يا رسول الله! أنسيت أم قصرت الصلاة؟ فقال: لم أنس ولم تقصر، فقال: أكما يقول ذو اليدين؟! قالوا: نعم، فتقدم فصلى ما ترك، ثم سلم، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه فكبر، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبر، فربما سألوه ثم سلم؟ قال: فنبئت أن عمران بن حصين قال: ثم سلم) . العشي: ما بين زوال الشمس إلى غروبها، قال الله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [غافر:55] . وعن عبد الله بن بحينة وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم الظهر، فقام في الركعتين الأوليين ولم يجلس، فقام الناس معه، حتى إذا قضى الصلاة وانتظر الناس تسليمه، كبر وهو جالس فسجد سجدتين قبل أن يسلم، ثم سلم) ] .

معنى سجود السهو وحكمة سهو النبي صلى الله عليه وسلم

معنى سجود السهو وحكمة سهو النبي صلى الله عليه وسلم هذا الباب عقد لسجود السهو، والسهو: هو النسيان في الصلاة بزيادة أو بنقص أو بشك، والإنسان محل النسيان، وقد حدث هذا النسيان للنبي صلى الله عليه وسلم كما في هذا الباب في هذين الحديثين وفي غيرهما، والحكمة في ذلك معرفة الحكم، أي أنه حدث هذا النسيان وهذا السهو من النبي صلى الله عليه وسلم حتى يعرف حكم النسيان في حق غيره؛ وذلك لأنه إذا وقع للنبي صلى الله عليه وسلم فسجد له عرفنا كيف نفعل إذا وقع لنا، فوقع هذا النسيان الذي حصل منه صلى الله عليه وسلم لهذه الحكمة. ولعله صلى الله عليه وسلم كان قد اشتغل فكره بتأمل ما يقوله أو ما يفعله من الأمور الأخروية التي هو مقبل عليها، فشغله ذلك عن عدد الركعات ولا شك أنه صلى الله عليه وسلم وقع منه هذا، ثم اعتذر في بعض الروايات، فقال: (إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني) ، وقال في بعض الروايات: (إنه لو حدث شيء في الصلاة لأخبرتكم) .

شرح حديث ذي اليدين في السهو

شرح حديث ذي اليدين في السهو في هذه القصة أنه صلى الله عليه وسلم صلى بهم إحدى صلاتي العشي سماها أبو هريرة ونسيها الراوي، وأكثر الروايات على أنها صلاة العصر، وفي رواية أنها الظهر، فالراوي شك فيها هل هي الظهر أو العصر؟ وسميت صلاة العشي؛ لأنها في آخر النهار، فالنهار ينقسم إلى قسمين: أوله يسمى بكرة، وآخره يسمى عشياً، وقوله تعالى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:62] (بكرة) يعني: أول النهار إلى الزوال، (وعشياً) يعني: آخر النهار من الزوال إلى الغروب. وصلاة العشي هما صلاتا الظهر والعصر، إحداهما وقع فيها أنه صلى بهم ركعتين وترك ركعتين، واستمر في التشهد وسلم بعد ركعتين، ولما سلم ظنوا أنه حدث في الصلاة شيء؛ لأنهم لم يعهدوا ذلك من قبل، فقد كان دائماً يصلي بهم أربعاً ولم يحدث أن اقتصر على ركعتين، فظنوا أن الصلاة قد قصرت. و (خرج السرعان) أي: الذين يخرجون سريعاً دائماً، خرجوا من الأبواب وهم يقولون: (قصرت الصلاة، قصرت الصلاة) يعتقدون أنه نقص عددها، وأنها رجعت إلى ركعتين، وكان الحاضرون قد توقفوا في الأمر. النبي صلى الله عليه وسلم قام من مصلاه الذي صلى فيه، وكان هناك خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها، ووضع إحدى يديه على الأخرى، وأدخل أصابعه بعضها في بعض أي: شبك بينهما وفهموا منه أنه غضبان، أو أنه قد أتاه ما يشغله أو ما يسوءه من أمر شغل باله عن عدد الركعات، ففهموا أنه غضبان، ولم يجرؤ أحد أن يتكلم حتى أبو بكر وعمر، فتجرأ هذا الرجل وهو ذو اليدين ويقال له: الخرباق وكان في يديه طول؛ فتجرأ وقال: (يا رسول الله! أنسيت أم قصرت الصلاة؟!) يعني: لا بد من أحدهما. فالنبي عليه الصلاة والسلام على ما يعرف، قال: (لم أنس ولم تقصر) يعني: في نظري أني لم أنس، ولم يأت ما يغيرها ولم تقصر، فكرر عليه وقال: (بلى قد نسيت) يعني: إما أنك نسيت وإما أنها قصرت، فلما تأكد أنها لم تقصر، عرف أنه وقع نسيان فسأل الحاضرين: (أكما يقول ذو اليدين؟) فلما استقروا على أنه قد ترك من الصلاة ركعتين قام وصلى الركعتين اللتين تركهما، وبعد ذلك سلم بعدما صلاهما، ثم سجد سجدتين وأطال فيهما يعني: مثل سجوده المعتاد أو أطول بقليل ثم سلم. هذا الحديث يعرف بحديث ذي اليدين؛ لأنه اشتهر فيه ذكر ذي اليدين. في بعض الروايات أنه دخل بيته وأن ذا اليدين طرق عليه الباب كما في حديث عمران، وأنه صلى الله عليه وسلم خرج مسرعاً وأنه قال: (إن هذا قال: إني تركت ركعتين) فاستدلوا بهذا الحديث على أن الفاصل اليسير لا تبطل به الصلاة فإن هاهنا فصلاً، وهو أنه قام من مكانه وجلس في مكان آخر واستقبل القبلة ومشى وقعد وتكلم وكلموه، ثم بعد ذلك رجع إلى مصلاه ولم يعد ذلك مبطلاً مع كونها حركات من غير جنس الصلاة، وكذلك الذين خرجوا من سرعان الناس خرجوا وهم يعتقدون أن الصلاة قد قصرت وقد تمت، واستدبروا القبلة وتكلموا فيما بينهم ومشوا مشياً قليلاً أو كثيراً، ومع ذلك رجعوا وبنوا على ما مضى من صلاتهم ولم يعدوا هذا الفاصل من المشي والكلام مبطلاً للصلاة. في هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم سجد بعدما سلم من الركعتين اللتين تركهما، ثم سلم تسليمتين، كأنه انتهى من الصلاة، ثم سجد سجدتين يكبر لكل سجدة ويسجد، ويطيل سجوده كسجود الصلاة أو أطول ثم يرفع، ثم بعد ذلك سلم كما في حديث عمران بن حصين فيكون سلم ثلاث مرات: المرة الأولى: لما صلى الركعتين وسلم قبل أن يكمل صلاته. المرة الثانية: لما أكمل ما بقي من صلاته. المرة الثالثة: لما سجد للسهو.

موضع سجود السهو عند الإمام أحمد رحمه الله

موضع سجود السهو عند الإمام أحمد رحمه الله قد اختلف العلماء في مواضع سجود السهو، فالإمام أحمد رحمه الله يقول: إن سجود السهو كله قبل السلام إلا في ثلاث حالات: الحالة الأولى: إذا سلم عن نقص. الحالة الثانية: إذا بنى الإمام على غالب ظنه. الحالة الثالثة: إذا ذكره بعد السلام، ذكر ذلك صاحب كتاب (عمدة الفقه) وغيره من العلماء. أما ما سوى ذلك فإنه يسجد قبل السلام؛ وذلك لأنّا جعلنا سجود السهو جزءاً من الصلاة، والصلاة تنتهي بالسلام؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم (تحريمها التكبير وتحليلها التسليم) فإذا سلم فقد انتهت صلاته، لكن يستثنى من ذلك هاتان الحالتان: إذا سلم عن نقص، وإذا بنى على غالب ظنه. حديث أبي هريرة هذا فيه حالة من تلك الحالتين، وهو كونه سلم عن نقص، حيث نقص من صلاته ركعتين، فمن صلى الظهر ثلاثاً ثم سلم جاء بالرابعة ثم سلم، ثم سجد للسهو ثم سلم، ومن صلى الظهر ركعتين ثم سلم ناسياً جاء بالركعتين اللتين تركهما ثم سلم، ثم سجد سجدتين ثم سلم، ومن صلى المغرب ركعتين ثم سلم ناسياً جاء بالثالثة ثم سلم، ثم سجد ثم سلم، فمن سلم قبل تمام الصلاة ساهياً أتى ببقية الصلاة ثم سلم، ثم سجد للسهو ثم سلم. الحالة الثانية: إذا بنى الإمام على غالب ظنه، كما إذا صليت بجماعة ثم إنك في أثناء الصلاة شككت هل صليت ثلاثاً أم أربعاً؟! وأغلب ظنك أنها ثلاث، فبنيت عليها، ثم قمت وأتيت بالرابعة وسكت عنك المأمومون ولم ينبهوك، فإذا انقلب ظنك الغالب إلى يقين فإنه لا حاجة إلى سجود، وأما إذا لم ينقلب بل بقي معك ظن ولكنه ليس بظن اليقين، بل لا يزال معك شيء من الشك، ففي هذه الحالة تفعل ما ذكر، فتسلم ثم تسجد ثم تسلم. الحالة الثالثة: إذا لم يتذكر السجود إلا بعد السلام، كما إذا كان عليه سجود سهو لترك تسبيح وما أشبه ذلك، ثم سلم ناسياً ثم ذكروه، فإنه يسجد بعدما يسلم.

المواضع التي يسجد فيها للسهو قبل السلام عند أحمد

المواضع التي يسجد فيها للسهو قبل السلام عند أحمد أما حديث ابن بحينة ففيه أيضاً حالة أخرى وقعت للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو أنه لما صلى بهم ركعتين وانتظروا أن يجلس قام، ولم يجلس في التشهد الأول، فقالوا: سبحان الله! فلم يرجع، ثم إنه لما انتهى من صلاته وانتظروا تسليمه سجد سجدتين قبل أن يسلم ثم سلم، فهذا سهو بترك التشهد الأول. وقد استدلوا بهذا الحديث على أن التشهد الأول من الواجبات وليس من الأركان، فإن الأركان لا تسقط، بل لا بد من الإتيان بها، فلما أسقطه وجبره بسجود السهو دل على أنه من واجبات الصلاة، وواجبات الصلاة هي التي تجبر بسجود السهو، فمن ترك التشهد الأول سجد له، كما أن من ترك قول: (سبحان ربي الأعلى) ، أو قول: (سبحان ربي العظيم) أو قول: (سمع الله لمن حمده) فإنه يسجد لها؛ لأن هذه من الواجبات. كذلك بقية واجبات الصلاة الثمانية المعروفة إذا تركت فإنه يسجد لها ثم في هذا الحديث أن سجود السهو كان قبل السلام، لأنه تشهد ولم يبق عليه إلا أن يقول: السلام عليكم ورحمة الله، فسجد سجدتي السهو قبل أن يسلم، فلما سجدهما سلم بعدهما، فدل على أن ترك هذه الواجبات يسجد له قبل السلام، وكذلك بقية أنواع السهو كما إذا زاد ركناً أو زاد ركعة ساهياً، أو زاد صفة من صفات الصلاة، أو شك في شيء من الواجبات، أو ترك واجباً أو نحو ذلك، فالسجود له كله يكون قبل السلام؛ لأن السجود في الأصل جزء من الصلاة، والأصل أن جزء الصلاة يتصل بها فلا يفصل بينه وبينها شيء.

مذاهب العلماء في موضع سجود السهو

مذاهب العلماء في موضع سجود السهو وقد ذهب بعض العلماء إلى أن سجود السهو كله قبل السلام، وجعله جزءاً من الصلاة، بينما ذهب آخرون إلى أنه كله بعد السلام، وجعلوه شيئاً زائداً على الصلاة، فيسلم ويأتي به بعد أن يسلم؛ لأنه يعتبر جابراً للسهو، وقد ورد السجود قبل السلام في حديث أبي هريرة. وجاء في حديث أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشيطان يأتي أحدكم إذا أقيمت الصلاة فيقول له: اذكر كذا اذكر كذا لما لم يكن يذكر، حتى يظل الرجل فلا يدري كم صلى ثلاثاً أم أربعاً، فإذا وجد ذلك فليجعلها ثلاثاً، وليأت برابعة ثم ليسجد سجدتين، فإن كان صلى خمساً شفعت له صلاته، وإن صلى تماماً كانتا ترغيماً للشيطان) أي: فهاتان السجدتان تكونان ترغيماً وإذلالاً للشيطان، فجعل هاتين الركعتين جابرة للنقص الذي حصل بهذا السهو، فهو بمنزلة تكميل النقص الذي يحتاج إلى تكميل.

إذا نسي الإمام التشهد الأوسط وتذكره قبل تمام القيام أو بعده

إذا نسي الإمام التشهد الأوسط وتذكره قبل تمام القيام أو بعده تكلم العلماء على ترك التشهد الأول فقالوا: إذا قام الإمام من الركعة الثانية للثالثة ولم يجلس وتذكر قبل أن يستتم رفع رأسه ورفع ظهره ورفع ركبتيه عن الأرض، فإنه يلزمه أن يجلس؛ لأنه لم يستتم قائماً، وحينئذٍ يجلس ويتشهد ويسجد للسهو عن هذه الحركة وهذا القيام. أما إذا قام من السجود في الركعة الثانية ونهض حتى استتم قيامه، ثم تذكر قبل أن يبدأ في القراءة جاز له الرجوع مع الكراهة، وإن استمر وكمل الثالثة وترك التشهد جازت الصلاة وعليه السجود، وإن رجع جازت الصلاة مع الكراهة، فيرجع ويتشهد ثم يقوم ويأتي بالركعتين الباقيتين أو الواحدة، ثم يسجد أيضاً للسهو. أما إذا شرع في القراءة ولم يتذكر أن عليه جلوساً إلا بعدما شرع في القراءة، ففي هذه الحال يستمر ولا يرجع، وإذا رجع وهو عالم بطلت صلاته، أما إذا رجع وهو ناس أو ساه فهو معذور وعليه سجود السهو في كل حال.

شرح عمدة الأحكام [17]

شرح عمدة الأحكام [17] المصلي يناجي ربه، فلا ينبغي أن يشغل نفسه بشيء أمامه، وقد شرع له اتخاذ السترة حتى لا يمر أحد بين يديه فينشغل به وينقص ثواب صلاته، كما شرع له دفع من يمر بين يديه، وقد بين الفقهاء حكم المرور بين يدي المصلي، وما يشرع للمصلي لاتقاء ذلك.

المرور بين يدي المصلي

المرور بين يدي المصلي قال المصنف رحمه الله: [باب المرور بين يدي المصلي: عن أبي جهيم عبد الله بن الحارث بن الصمة الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه من الإثم، لكان أن يقف أربعين خيراً له من أن يمر بين يدي المصلي) ، قال أبو النضر: لا أدري أقال أربعين يوماً أو شهراً أو سنة؟ رواه البخاري. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس، فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه، فإن أبى فليقاتله، فإنما هو شيطان) . وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (أقبلت راكباً على حمار أتان -وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام- ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار، فمررت بين بعض الصف، فنزلت فأرسلت الأتان ترتع، ودخلت في الصف، فلم ينكر ذلك علي أحد) . وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجليّ، وإذا قام بسطتهما، قالت: والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح) .

الحكمة من النهي عن المرور بين يدي المصلي

الحكمة من النهي عن المرور بين يدي المصلي هذه الأحاديث تتعلق بالمرور بين يدي المصلي، وفيها ما يدل على أنه ذنب وأنه كبيرة من الكبائر؛ وذلك لأن المصلي عندما يكبر فإنه يشتغل بمناجاة ربه، ويقبل على صلاته بقلبه، وينظر إلى موضع سجوده، ويفرغ لذلك باله، ويتأمل فيما يقوله وفيما يفعله؛ فلأجل ذلك يندب أن يكون حاضر القلب خاشعاً ذليلاً مقبلاً على عبادته، مبتعداً عن كل شيء يشغله عن العبادة. ولأجل هذا نهي أن يستقبل أشياء تصرف قلبه عن العبادة، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم (أنه كان يصلي مرة وأمامه ستر -يعني: كساء- فيه شيء من النقوش فقال لـ عائشة: أنيطي عني قرامك، فإني إذا نظرته ذكرت الدنيا) يعني: إذا نظرت ذلك القرام وما فيه من تلك النقوش ونحوها تذكرت الدنيا. ومرة صلى وعليه حلة أو كساء، فلما صلى وانصرف قال لبعض أصحابه: (اذهبوا بسترتي هذه إلى أبي جهم وأتوني بأنبجانية أبي جهم؛ فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي) فجعل العلة أنها ألهته عن صلاته، يعني: كأنه نظر إليها فاشتغل قلبه بها، ومطلوب من المصلي أن لا يشغل قلبه بغير ما هو فيه، حتى يكتب له أجر صلاته كاملة.

حقيقة الوقوف واستشعار إثم المرور بين يدي المصلي

حقيقة الوقوف واستشعار إثم المرور بين يدي المصلي في الحديث: أن الذي يمر بين يدي المصلي عليه إثم، وهذا الإثم لم يصرح به، ولكنه دل عليه بكونه لو وقف هذه المدة لكان خيراً له من المرور بين يدي المصلي. لم يحفظ الراوي تحديد المدة إلا أنها أربعون، يقول: (لو يعلم ما عليه من الإثم) ، يعني: ما عليه من الوزر وما عليه من الذنب، (لكان أن يقف أربعين خيراً له من أن يمر بين يديه) لم يقل: أربعين سنة أو أربعين شهراً أو أربعين يوماً، قد تكون واحدة منها، كيف لو وقف أربعين يوماً ماذا تكون حالته؟! كأنه يقول: لو علم أنه يأثم هذا الإثم الكبير لآثر أن يقف في مكانه أربعين يوماً؛ ينتظر فراغ هذا المصلي، بل لو وقف أربعين ساعة لتحسر من ذلك! ليته يقف ولو أربعين دقيقة ليته يقف ولو عشر دقائق حتى يفرغ هذا المصلي، ليته يقف ولو أقل من ذلك بقدر ما يفرغ المصلي من صلاته، وبكل حال فعلى الداعية أن يخبر من يريد المرور بين يدي المصلي أن عليه إثماً وأن وقوفه أفضل له، قل له: قف بضع دقائق حتى يفرغ أخوك من صلاته، وذلك لا يفوت عليك شيئاً ولا تمر بينه وبين سترته، ولا تمر بين يديه فتشغل قلبه، وتقطع عليه تفكيره، وتقطع عليه إقباله على ربه، دعه يكمل صلاته وانتظر قليلاً، فإما أن تصلي كما يصلي حتى تفرغ مع فراغه، وإما أن تنتظر حتى ينتهي من صلاته، هؤلاء الذين يتخللون الصفوف كثيراً ويمرون بين يدي المصلي، ساعة ما ينصرف أحدهم من صلاته، أو ساعة ما يفرغ من راتبته، يتسلل أمام من يتم صلاته كمسبوق، أو من قد شرع في النافلة، فيمر بينه وبين موضع سجوده، وبينه وبين موضع سترته، فيلحقه هذا الإثم الكبير الذي ذكر في هذه الأحاديث، ولو علم مبلغ هذا الإثم وعلم مقداره لآثر الوقوف، ولفضل أن يقف أربعين يوماً أو شهراً أو سنة، ولكنه لم يتصور. فالحاصل أن عليه إثماً كبيراً؛ ولذلك يكون هذا المرور كبيرة من كبائر الذنوب التي يعاقب عليها، ولا تكفر مع الصغائر، قال الله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31] ، وقد ذكر العلماء تعريف الكبيرة فقالوا: الكبيرة ما ورد فيها وعيد، وهذا الفعل قد ورد فيه وعيد، والوعيد إما أن يكون وعيداً بلعنة، أو وعيداً بغضب، أو وعيداً بعذاب، أو وعيداً بنفي إيمان، أو وعيداً بإثم، أو ما أشبه ذلك، فهذا ورد فيه هذا الوعيد الذي هو إثم، فيكون بذلك من كبائر الذنوب.

حكم السترة وتشبيه المار بين يدي المصلي بالشيطان فيدفع

حكم السترة وتشبيه المار بين يدي المصلي بالشيطان فيدفع المطلوب من المصلي أن يضع أمامه سترة تستره، حتى إذا مر الناس وراء السترة لم يردهم ولم يضروه، ومطلوب منه أن ينظر إلى موضع جبهته، وإذا لم يتيسر له سترة فليقترب من الحائط الذي أمامه، وإذا اتخذ سترة دنا منها، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها، ولا يدع أحداً يمر بين يديه، فإن أبى فليقاتله، فإن معه القرين) يعني: معه الشيطان. ووقع ذلك أيضاً في حديث أبي سعيد الذي ذكر في هذا الباب، وهو أنه صلى الله عليه وسلم أمر المصلي إذا كبر في الصلاة أن يتخذ له شيئاً يستره، فإذا أراد أحد أن يمر بين يديه فعليه أن يدفعه بقوة، ولو أدى ذلك الدفع إلى أنه يسقط ولو أدى إلى قتاله، يقول عليه الصلاة والسلام: (فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان) أو: (فإن معه القرين) ، والقرين هو الشيطان، {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا} [النساء:38] يعني: أن الشيطان هو الذي يدفعه إلى أن يمر، فلذلك شبهه بأنه شيطان، فقال: (إنما هو شيطان) لو قيل لهذا المار: إنك شيطان، أو إن معك شيطاناً لغضب، والنص وارد بأن معه الشيطان الذي يدفعه حتى يخل بصلاة المصلين وحتى ينقصها.

المقاتلة المأمور بها لمن يمر أمام المصلي هي المضاربة

المقاتلة المأمور بها لمن يمر أمام المصلي هي المضاربة علينا أن ننبه هؤلاء الذين يمرون بين يدي المصلي ونأخذ على أيديهم، وقد ابتلي هؤلاء بعدم صبرهم وبكثرة مرورهم، فيكون سبباً في وقوعهم في هذا الإثم، والناس قد غفلوا عنهم، فلا ينكر أحد على من يمر بين يديه، بل يتركه يمر بين يديه ولا ويبالي، وكأنه لن يمتثل هذا الحديث. أنت مأمور بأن تدفعه ما استطعت؛ حتى لا ينقص عليك صلاتك، ومأمور بأن تخبره بأنه شيطان كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، حتى قال العلماء: لو قدر أنك دفعته بقوة فسقط فحصل له عيب أو انكسر منه عضو فلا إثم عليك؛ وذلك لأنك مأمور بهذا الدفع، فحتى لو حصل له تلف لن يكون عليك بأس؛ لأنك مأمور بأن تقاتله. والمقاتلة: هي المضاربة فقوله: (فليقاتله) يعني: فليضاربه، فيفعل المصلي ذلك ولو مشى قليلاً أو تحرك قليلاً؛ فكل ذلك لأجل إنكار المنكر، وللزجر عن اقتراف هذا الفعل الذي يخل بالصلاة وينقصها.

مرور المرأة والكلب والحمار بين يدي المصلي

مرور المرأة والكلب والحمار بين يدي المصلي أما بالنسبة للأحاديث الأخرى فهي فيما يقطع الصلاة، فقد ورد حديث عن عمر، وحديث عن ابن عمر وحديث عن جابر وغيرهم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقطع الصلاة: المرأة، والحمار، والكلب الأسود، فسأله أبو ذر: ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر من الكلب الأبيض؟ فقال: الكلب الأسود شيطان) . فأخبر بأن هذه الأشياء الثلاثة تقطع الصلاة، وقد ورد في بعض الروايات تقييد المرأة بأنها المرأة الحائض، كما قيد الكلب بأنه أسود، فالمرأة قيدت بأنها حائض، ولكن قال بعضهم في المرأة الحائض: أي المرأة التي قد بلغت سن المحيض، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار) يعني: صلاة بالغة سن المحيض. فهنا ذكر بأن المرأة تقطع الصلاة، وأن الحمار يقطع الصلاة، وأن الكلب الأسود يقطع الصلاة.

المراد بقطع الصلاة عند مرور الحمار والمرأة والكلب

المراد بقطع الصلاة عند مرور الحمار والمرأة والكلب وقد اختلف ما المراد بهذا القطع؟ فقال بعضهم: القطع: هو الإبطال، فمن مر بين يديه شيء من هذه الثلاثة بطلت صلاته، فعليه أن يعيدها. وقال آخرون: القطع هنا هو التنقيص، بمعنى: أن ثواب صلاته يكون أنقص، حيث إنه مر بين يديه ما يخل بإقباله على صلاته وما يكون سبباً في انشغال باله بغيرها. ولعل الأرجح هو أن المراد بالقطع هنا هو النقص. فقوله: (يقطع الصلاة) ، يعني: ينقص أجر الصلاة وثوابها، وكأنه أراد بذلك الحث على التحفظ على الصلاة والإقبال عليها، والزجر الشديد عن التهاون بمن يمر بين يدي المصلي، والتهاون بعدم رد المار من رجل أو امرأة أو نحو ذلك.

وجه الاستدلال على أن الحمار لا يقطع الصلاة بحديث ابن عباس

وجه الاستدلال على أن الحمار لا يقطع الصلاة بحديث ابن عباس والدليل على أن الحمار لا يقطع الصلاة ما ورد في حديث ابن عباس، فقد ذكر فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بمنى -يعني: في حجة الوداع- وكان يصلي بالناس ولم يكن أمامهم جدار، فكان أمام النبي صلى الله عليه وسلم سترة يعني: عصاً قد غرسها في الأرض واتخذها سترة. وأما الجماعة فلم يكن أمامهم جدار يسترهم، بل هم يصلون صفوفاً وقد جعلوا سترتهم سترة إمامهم، ولهذا قالوا: من كان له إمام فسترة الإمام سترة له، والصف الثاني سترته الصف الأول، فلا يمر أحد بين الصفين، فإنه بمروره بين يدي الصف الثاني يكون قد مر بينه وبين سترته وهو الصف الأول، وكذلك المأمومون الذين يمر المار بينهم وبين إمامهم. أو بينهم وبين سترة إمامهم، والحاصل أن ابن عباس ذكر: (أنه كان راكباً على حمارٍ أتان) الحمار الأتان: هو أنثى الحمار، يقول: (وكنت قد ناهزت الاحتلام) يعني: كان عمره قريباً من أربع عشرة سنة في ذلك العام ولما يحتلم، وكان راكباً على تلك الأتان، فمر بين يدي الصف، فيحتمل أنه مر بينهم وبين موضع سجودهم، ويحتمل أنه مر أمامهم، أي: قدام الصف وإن كان بعيداً، فإنه يصدق عليه أن مر بين أيديهم، وهذا هو الأقرب والأليق به؛ لأنه لا يليق بـ ابن عباس أن يقترب من الصف وهو على ذلك الحمار، بل مر قدامهم، ولو كان بينه وبين الصف مثلاً ثلاثة أمتار أو أكثر فإنه يصدق عليه أنه مر من بين أيديهم. فلما حاذاهم نزل وأرسل الأتان ترتع، ودخل في الصف وصلى مع المصلين ولم ينكروا عليه لما مر قدامهم، فاستدل بهذا على أن الحمار لا يقطع الصلاة؛ لأن ابن عباس مر أمامهم. وأجيب بأن هذا المرور ليس بينهم وبين موضع سجودهم بل قدامهم بكثير، أي: بنحو ثلاثة أمتار أو أكثر، وأجيب أيضاً بأن سترة الإمام سترة لهم، فهم قد اكتفوا بسترة إمامهم والذي يمر من بين أيديهم لم يكن مروره بينهم وبين السترة. وعلى كل حال فالمرور حتى ولو كان على الأرجل ممنوع كما دلت عليه الأحاديث، ولكن أخذوا من هذا أن مرور الحمار ونحوه لا يقطع الصلاة القطع المبطل لها، بل ذلك ينقص الصلاة فقط.

وجه الاستدلال بحديث عائشة على أن المرأة لا تقطع الصلاة

وجه الاستدلال بحديث عائشة على أن المرأة لا تقطع الصلاة أما الحديث الذي بعده فقد ذكرت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالليل وهي نائمة، وكانت آنذاك صغيرة يعني: ابنة ثنتي عشرة أو ثلاث عشرة سنة أو نحوها؛ فكانت صغيرة في أول الأمر، والصغير قد يغلبه النوم، فكانت ربما يغلبها النوم والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فلما كان يكبر كانت البيوت ليس فيها مصابيح أي: لا يوجد فيها سراج ولا مصابيح يستضيئون بها، حتى تعرف متى يسجد، أو حتى تراه. فكانت تمد رجليها في قبلته؛ وذلك أيضاً لضيق المكان، فلم تجد بداً من أن تنام معترضة قدامه وهو يصلي، فإذا أراد أن يسجد كانت رجلاها في موضع سجوده، فكان يغمز رجليها فتقبضهما، وإذا قام بعد السجود مدت رجليها وبسطتهما، فاستدلت رضي الله عنها بذلك على أن المرأة لا تقطع الصلاة؛ حيث إنها اعترضت قدامه كاعتراض الجنازة كما في بعض الروايات، أو مدت رجليها في قبلته كما في هذه الرواية، فأفاد أن المرأة لا تقطع الصلاة إذا مرت، ولكن ليس في هذا الحديث مرور إنما فيه اعتراضها، أو إنما فيه مد رجليها قدامه. وعلى كل حال حتى لو قيل مثلاً: إنها مرت بين يديه، فما دام المكان مظلماً وهي لم تمر مروراً تاماً، فإن ذلك لا يدل على أنها لا تقطع الصلاة. والقول الأرجح أنه لا يقطع الصلاة شيء ولكن ينقصها، ورد ذلك أيضاً في حديث عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقطع الصلاة شيء، وادرءوا ما استطعتم) يعني: ادفعوا المار مهما تستطيعون، فمهما كنت مستطيعاً فادفع من يمر بين يديك ولو كان لا يقطع الصلاة، أي: ولو كان لا يبطل ثوابها كلياً بحيث تستأنف، ولكن ينقصها، فادفعوا ما استطعتم ممن يمر بين أيديكم.

وجه استثناء الحرم في جواز المرور بين يدي المصلي

وجه استثناء الحرم في جواز المرور بين يدي المصلي وأما استثناء الحرم المكي أو المدني فلم يرد فيه حديث، في كون هذه الأشياء لا تقطع الصلاة فيه، ولكن معلوم أن الزحام شديد قرب المطاف، وأن الناس يكثرون بل كلما كبر واحد فجاء آخرون، فلو وقف الإنسان لطال وقوفه دون أن يفرغ المكان، فلذلك رخصوا في المرور بين يديه إذا كان قريباً من المطاف، واستدلوا بما روي؛ (أنه صلى الله عليه وسلم كان مرة يصلي عند المقام والناس يمرون بين يديه) وعلل ذلك بأنه كان لأجل ضيق المطاف وكثرة الطائفين فلم يردهم. وأما بقية أركان المسجد غير المطاف فإن حكمها كحكم سائر المساجد، فإذا كنت مثلاً في المصابيح أو كنت في الرحبة بعيداً عن المطاف، فإياك أن تمر بين يدي أحد، وإياك أن تترك أحداً يمر بين يديك، بل اعمل معه كما تعمل في سائر البلاد، بأن ترده كما ترده إذا مر بين يديك في أي مكان؛ لأن الأوامر عامة، فهذه الأحاديث التي منها: (لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه؛ لكان أن يقف أربعين خير له من أن يمر بين يديه) لم يقل: إلا في المسجد الحرام أو إلا في المسجد النبوي، بل أطلق، فدل على أن الحكم واحد وأن المساجد كلها يشملها حكم واحد، إنما استثني المطاف لكثرة الطائفين ولاستمرارهم.

شرح عمدة الأحكام [18]

شرح عمدة الأحكام [18] للصلاة حرمة عظيمة في الإسلام، لذلك حرص الشرع على توفير أسباب الخشوع للمصلي وتجنيبه ما يشغل عليه فكره، فحرم الله الكلام في الصلاة، وشرع الإبراد بالظهر في الحر الشديد، ونهى عن إيذاء المصلي بما فيه رائحة كريهة كالثوم والبصل. ولما كان الإنسان قد ينسى الصلاة أو ينام عنها حتى يفوت وقتها، فقد شرع له صلاتها حين يذكرها، وكل ما ذكرناه قد فصل العلماء أحكامه وأحواله.

تحريم الكلام في الصلاة وبطلانها به

تحريم الكلام في الصلاة وبطلانها به قال المؤلف رحمه الله: [عن زيد بن أرقم قال: كنا نتكلم في الصلاة، يكلم الرجل منا صاحبه، وهو إلى جنبه في الصلاة، حتى نزلت: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] ، فأمنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام. عن عبد الله بن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما عن رسول الله أنه قال: (إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم) ] .

الكلام الخارج عن أذكار الصلاة ومصلحتها يبطلها

الكلام الخارج عن أذكار الصلاة ومصلحتها يبطلها حديث زيد دليل على أن الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس؛ وذلك لأن الصلاة عبادة، فكانوا أول ما فرضت الصلاة كأنهم يحتاجون أن يتسامح معهم؛ لكونهم حديثي عهد بالإسلام، فرخص لهم في أن يكلم أحدهم صاحبه في حاجته أو يرد عليه أو نحو ذلك، ثم بعدما عقلوا وبعدما فهموا نهوا عن الكلام في الصلاة، ففي هذا الحديث دليل على النهي. وهذه الآية في سورة البقرة: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] ، فالقيام لله معناه الوقوف في العبادة، والقنوت: هو دوام الطاعة، ولكن يفهم من القنوت الخشوع، والخشوع يستلزم الإقبال على الصلاة، وأن التكلم في نفس الصلاة فيه شيء من المنافات للقنوت؛ فلأجل ذلك أمروا بالسكوت ونهوا عن الكلام. والكلام الذي نهوا عنه هو الكلام الذي يكون خارجاً عن الصلاة ولا يتعلق بمصلحتها، ومعلوم أن الصلاة ليس فيها سكوت مطلق، بل الإنسان لا يسكت إلا إذا كان خلف الإمام والإمام يقرأ، فإنه يسكت ويستمع لقراءته، أما في غير ذلك فإنه يقرأ، ففي حالة القيام يقرأ الإمام والمنفرد السورة والفاتحة، وكذلك المأموم في السرية يقرأ، وكذلك في الركوع كل منهم يسبح، يقول: (سبحان ربي العظيم) ، أو يثني على الله، وفي السجود يسبح، وفي جلسته بين السجدتين يدعو، وفي التشهد يتشهد، وفي الرفع بعد الركوع يأتي بالثناء على الله تعالى، فليس في الصلاة سكوت بل فيها كلام، ولكنه مناجاة بين العبد وربه. فالكلام الذي نهوا عنه هو الكلام الذي كان يجهر بعضهم لبعض به، فيأمر أحدهم صاحبه بحاجته، ويكلم خادمه، ويردون السلام بالكلام ونحو ذلك، ثم نهوا عن ذلك وأمروا أن يتركوا الكلام الذي لا صلة له بالصلاة.

العفو عن الكلام في الصلاة لمصلحتها

العفو عن الكلام في الصلاة لمصلحتها ثم قد يحتاجون إلى أن يتكلموا لمصلحة الصلاة، كما إذا سها إمامهم ولم يجدوا بداً من أن يفتحوا عليه، ففي هذه الحال لهم أن يكلموه بقدر الحاجة لا أكثر، وذلك إذا لم يفهم فيتكلمون معه بقدر الحاجة، كما تقدم في حديث ذي اليدين: (أنه صلى الله عليه وسلم لما صلى ركعتين وانصرف واعتقد أن الصلاة قد تمت، فتكلم معه ذو اليدين فقال: أنسيت أم قصرت الصلاة؟ فقال: لم أنس ولم تقصر، فقال: بلى قد نسيت، فقال: أكما يقول ذو اليدين؟ فقالوا: نعم) ، كل هذا كلام ليس من جنس الصلاة، ولكنه من مصلحتها، فللمأمومين أن يكلموا إمامهم إذا سها ولم يفهم إلا بإيضاح ذلك. أما من تكلم ساهياً أو جاهلاً فإنه يعذر؛ وذلك لحديث معاوية بن الحكم السلمي لما أسلم وكان جاهلاً بالصلاة وصلى معهم؛ يقول: (فعطس رجل فقلت: يرحمك الله -يعني: وهو في الصلاة- فنظر الناس إليّ -يعني: استنكاراً- فقلت: واثكل أمياه، ما لكم تنظرون إليّ؟! فجعلوا يضربون أفخاذهم يسكتونني، فسكت، فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم استدعاني يقول: فوالذي نفسي بيده ما رأيت معلماً أحسن منه، فوالله ما كهرني ولا زجرني، ولكنه قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو الذكر والدعاء وقراءة القرآن) ، فهذا هو الذي يشرع في الصلاة، وهو ذكر الله سبحانه وتعالى ودعاؤه وقراءة كلامه، أما الكلام العادي الذي بين الناس فإنه لا يجوز التكلم به. فمن تكلم وهو جاهل فإنه معذور كما في قصة معاوية هذا، وأما من تكلم عامداً عالماً بالحكم فإنه تبطل صلاته. وقد وقع في زمن أبي موسى أنه صلى مرة بأصحابه فتكلم رجل خلفه فقال: (ويحك! أقرنت الصلاة بالبر والزكاة، فلما سلم أبو موسى سأل: من الذي تكلم بهذه الكلمة؟ فسكتوا كلهم، ثم علمهم واستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا كبر الإمام فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا) والإنصات معناه السكوت والاستماع، يعني: لا تتكلموا بشيء ليس من جنس الصلاة. فالواجب على كل من يعرف أهمية الصلاة وحرمتها أن يخشع فيها ويحضر قلبه، وأن ينكر على من رآه متساهلاً فيها، فكما أن الكلام يبطلها فكذلك كثرة الحركات قد تكون أشد من الكلام، فتبطل بذلك.

الحكمة من تأخير صلاة الظهر عند شدة الحر والإبراد بها

الحكمة من تأخير صلاة الظهر عند شدة الحر والإبراد بها أما الحديث الذي بعده فيقول صلى الله عليه وسلم: (إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة -أو فأبردوا بالصلاة- فإن شدة الحر من فيح جهنم) ، يعني بذلك صلاة الظهر. هذا الحديث يتعلق بالمواقيت، وهو أن الصلاة إذا كان في شدة الحر فإنها تؤخر إلى أن تنكسر شدة الحر، ولعل السبب في ذلك هو الإقبال على الصلاة، فإنهم إذا كانوا في حر شديد لم يقبلوا عليها ولم يخشعوا فيها، والمطلوب الخشوع، وهو لب الصلاة وروحها. كانوا يصلون في المسجد وقد تكون دورهم بعيدة، قد يكون بين بعضهم وبين المسجد نحو أكثر من كيلو، وكانوا يأتون على أرجلهم مع شدة الحر وشدة الرمضاء، والمسجد أيضاً ليس فيه مكيفات، وليس فيه مراوح كهربائية، بل فيه حر شديد وعرق فهم عند أدائهم للصلاة قد يلاقون هذا الحر الشديد، فلا يقبلون على صلاتهم، ولا يطمئنون فيها، ويتمنون أن ينصرفوا؛ لما يجدون من التعب ومن المشقة، فلهذا الغرض أمرهم بأن يبردوا بالصلاة. وقد روي: (أنه عليه الصلاة والسلام كان يبرد بالصلاة حتى في السفر) ، وذكروا: (أنه كان مرة في سفر فأراد بلال أن يؤذن فقال: أبرد، ثم أراد أن يؤذن فقال: أبرد؛ حتى رأوا فيء التلول) ، والتلول: هي كثب الرمل المجتمع، ومفردها تل، قوله: (حتى رأوا فيئها) أي: رأوا لها ظلاً، وذلك لا يكون إلا بعد أن تزول الشمس وتمشي كثيراً؛ فيكون ذلك سبباً لخفة الحر وحصول الإبراد.

استحباب الإبراد عند شدة الحر دون غيره

استحباب الإبراد عند شدة الحر دون غيره ثم أحاديث الإبراد كثيرة وقد عللت بأن شدة الحر من فيح جهنم، وعلى هذا التعليل فالحكم عام؛ لأنه إذا كان ذلك من فيح جهنم، فإن المسلمين لا يشتغلون ولا يصلون في هذا الوقت، وقد ورد أن هذا الحر الذي يكون في وسط النهار هو حر الشمس، ولكن الشمس لا بد أن الله يوقدها ويشدد حرارتها، أو أن تلك الحرارة هي من فيح النار، وفي الحديث المشهور: (اشتكت النار إلى ربها، فقالت: يا رب! أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفس في الصيف ونفس في الشتاء، فأشد ما تجدون من الحر من سموم جهنم -أو من فيح جهنم- وأشد ما تجدون من البرد من زمهرير جهنم) . وإذا كان هذا من فيح جهنم؛ فإنه يسن الإبراد على كل حال، ولكن الجمهور من العلماء فهموا أن الأمر بالإبراد منوط بالعلة وبالسبب، وهو أن الحر لا يحصل معه خشوع ولا إقبال على الصلاة، بل يصلي أحدهم وهو منشغل مشتت الفكر غير مقبل على صلاته، بل يتمنى الخروج منها، فإذا زالت هذه الأسباب فلا داعي للإبراد. أما حالتنا نحن في هذه الأزمنة وفي هذه البلاد ونحوها، فإنه ليس علينا مشقة؛ وذلك لقرب الدور من المساجد، ولأن المساجد مفروشة وفيها مراوح كهربائية ومكيفات، فلم يبق هناك ما يشق معه الجلوس والانتظار، إذاً: فلا داعي إلى الإبراد.

جواز الصلاة في شدة الحر

جواز الصلاة في شدة الحر وعلى هذا فالغرض من الإبراد هو أن يحضر الإنسان قلبه في الصلاة، فلا يصلي وقلبه منشغل بشيء يمله أو يضجره أو نحو ذلك، ومنه الحديث الذي يذكر فيه: (أنهم كانوا يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم في شدة الحر، حتى إن أحدهم إذا سجد يفرش طرف ردائه أو كمه ويسجد عليه) ، فهذا دليل على أنهم قد يصلون أحياناً في مكان شديد الحرارة. ومعلوم أيضاً أنهم كانوا يصلون على الأرض، وقد تكون الأرض حصباء، فإذا وقعت عليها الشمس حميت تلك الحصباء، ولا تبرد إلا في قرب وقت العصر، فيضطرون إلى أن يصلوا، فلا يجد أحدهم بداً من أن يفرش طرف ردائه أو يفرش طرف كمه أو طرف عمامته ويسجد عليه، ليقي جبهته من ذلك الحر الشديد. وأما بقية أعضاء بدنه فيصبر على الحرارة التي تصيبها كيديه وقدميه ونحو ذلك، فهذا دليل على أنه يجوز أن يصلي ولو مع شدة الحر. لكن الأولى أن يقبل على صلاته إقبالاً كلياً، وأن يفعل فيها الأفعال التي إذا أتى بها عن رغبة وعن محبة وعن إقبال أثيب عليها.

من موانع الخشوع في الصلاة

من موانع الخشوع في الصلاة وقد ذكروا أشياء مما يشتت على الإنسان فكره، فمنها ما تقدم من أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة بحضرة طعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان) ، إذاً: لا يصلي وهو يشتهي الطعام، كالصائم شديد الحاجة إلى الطعام؛ لأنه إذا صلى قبل أن يتناول شهوته من الطعام لم يقبل على صلاته، وكذلك إذا خشي أن يؤكل الطعام قبل رجوعه، فيبقى قلبه متعلقاً بذلك الأكل حال صلاته، فأمر بأن يقدم الأكل على الصلاة. كذلك صلاته وهو يدافعه الأخبثان: البول والغائط؛ وذلك لأنه إذا صلى لم يقبل على صلاته، بل يصلي وهو في حالة ملل وضجر وفي حالة شدة، ويتشوش عليه فكره وذهنه؛ فلأجل ذلك أمر بأن يتخلى وبأن يزيل عنه هذا الخبث؛ حتى يقبل على صلاته وقلبه فارغ ليس فيه ما يكدره، فكذلك لا يصلي في حر شديد ولا يصلي في برد شديد وهو يجد ما يخفف ذلك الحر وذلك البرد، كل ذلك لأجل تحصيل الخشوع في الصلاة والإقبال عليها. وإذا اضطر إلى ذلك وخاف فوت الوقت، فإنه يصلي ويتقي الحر بما يستطيع من طرف عمامته الذي يسجد عليها أو طرف كمه أو طرف ثوبه أو نحو ذلك.

قضاء الفوائت بنوم أو نسيان

قضاء الفوائت بنوم أو نسيان أما حديث: (من فاتته صلاة وخرج وقتها، فإنه يصليها، ولا عذر له بتركها) ، فمثلاً: فوات الصلاة إما أن يكون للنسيان، وإما أن يكون للنوم، فمن تركها للنوم فالنوم عذر، ولكن لا ينبغي للإنسان أن ينام في الوقت الذي يغلب على ظنه أنه يستغرق وقت الصلاة، إلا أن يجعل من يوقظه إذا حضرت الصلاة، فإذا وكل أحداً يوقظه فنسي ولم يوقظه حتى طلعت الشمس أو حتى ارتفعت، فإنه معذور، وفي الحديث (ليس في النوم تفريط إنما التفريط في اليقظة) ، فإذا نام واستغرق في النوم ولم يوقظه أحد أو كانت عادته أنه ينتبه ولكن غلبه النوم، فهو معذور. ومتى يصلي؟ جاء في الحديث: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) . وهكذا أيضاً إذا غفل عن الصلاة بأن انشغل ونسي وقتها، كما إذا قدم من سفر فاشتغل ونسي، أو أخرها يعتقد أنه سيصليها ثم نسيها، فالناسي أيضاً معذور، ولكن يصليها إذا تذكرها. فإذا تذكرها بادر بأدائها ولو كان في وقت نهي، فإذا تذكر صلاة الفجر بعد أن شرقت الشمس وقبل أن ترتفع صلاها في ذلك الوقت، وكذلك إذا تذكر صلاة العصر أو استيقظ لصلاة العصر وقد تضيفت الشمس للغروب، فإنه لا يؤخرها بل يصليها في ذلك الوقت، وهكذا لو غفل ونسي صلاة الظهر ولم يذكرها إلا بعد العصر فإنه يصليها في ذلك الوقت، وقد استدل النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية وهي قوله تعالى في سورة طه {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] ، قيل معنى الآية: أقم الصلاة لتذكرني بها، وقيل معنى الآية: أقم الصلاة إذا تذكرتها، وكلا المعنيين صحيح، كما سيأتي في الأحاديث التي ذكرها المؤلف.

قضاء الصلاة الفائتة بسبب النسيان

قضاء الصلاة الفائتة بسبب النسيان قال المؤلف رحمه الله: [عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك، وتلا قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] ولـ مسلم: من نسي صلاة أو نام عنها، فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها) . وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أن معاذ بن جبل كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء الآخرة، ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة) . وعن أنس رضي الله عنه قال: (كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شدة الحر، فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض، بسط ثوبه، فسجد عليه) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد، ليس على عاتقه منه شيء) ] . هذه الأحاديث تتعلق بالصلاة، فالحديث الأول يتعلق بقضاء الصلاة الفائتة: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك، وتلا قوله الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] ) . فالآية ظاهرها الدلالة على مشروعية الصلاة لأجل الذكر وهو صحيح، فإن الصلوات شرعت لأجل ذكر الله تعالى؛ لأن الصلاة تذكر بالله، فمن حين يسمع المؤذن وهو يسمع ذكر الله، مثل: تكبيرات الأذان وكذلك الشهادتان، وهكذا أفعال الصلاة تذكر بالله، وهكذا الأقوال فيها تذكر بالله، فهي كلها ذكر لله. ولكن يدخل في ذلك أيضاً الإتيان بالصلاة عند ذكرها بعد النسيان، فمثلاً: إذا نسي صلاة أو غفل عنها حتى خرج وقتها لشغل أو لغيبة أو لسفر ثم تذكرها، فإنه يبادر في تلك الساعة ويصليها ولو كان في وقت نهي، فإذا تذكر صلاة الظهر بعد العصر صلاها في ذلك الوقت، وإذا تذكر صلاة العشاء بعد الفجر صلاها في ذلك الوقت، وكذلك لو قدر أنه نام عن صلاة العشاء غفلة أو غلبة أو نحو ذلك، ثم استيقظ وصلى الفجر، ولما صلى الفجر تذكر أنه لم يصل العشاء، فإنه يبادر ويصليها في حينه ولا يؤخرها، ولو كان في وقت نهي، وهكذا بقية الصلوات كلما تذكر صلاة بادر وأتى بها دون تأخير.

قضاء الصلاة الفائتة بسبب النوم

قضاء الصلاة الفائتة بسبب النوم وهكذا يقال في النوم، قد ثبت: (أنه صلى الله عليه وسلم كان مرة في سفر، ثم إنهم ساروا أكثر الليل، ولما كان آخر الليل نزلوا ليريحوا أنفسهم، فغلبهم النوم كلهم، ولم يستيقظوا إلا بعدما طلعت الشمس، فلما استيقظوا توضئوا من حينهم، وصلوا صلاة الصبح بعدما طلعت الشمس وانتشرت ولم يؤخروها) ، فصار ذلك سنة فيمن فاتته صلاة لنوم أو لغفلة أو لنسيان أو نحو ذلك أن يبادر ويصليها حين يذكرها. ولا يجوز للإنسان أن يكثر الاشتغال عن الصلاة بما يسبب غفلته، وكذلك لا يجوز له تعاطي الأسباب التي تجعله ينام عن الصلاة حتى يمضي وقتها، بل على المؤمن أن تكون له همة للمحافظة على الصلاة، وأن يكون له ميل إليها ورغبة شديدة تحمله على أن لا يغفل عنها، وتحمله على أن ينتبه لها في وقتها، فإذا انتبه لها وأتى بها كان إتيانه بها في وقتها، هكذا حالة من يكون حريصاً على العبادة. وقد ذكر العلماء أن أوقات النهي تقضى فيها الفوائت، فالصلاة التي فاتت وخرج وقتها إذا تذكرها وهو في وقت نهي فإنه يصليها في ذلك الحين، ودليلهم هذا الحديث: (فليصلها إذا ذكرها؛ لا كفارة لها إلا ذلك) ، هذا وجه الدلالة من هذا الحديث.

حكم صلاة المفترض خلف المتنفل والعكس

حكم صلاة المفترض خلف المتنفل والعكس أما حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه ففيه أنه كان حريصاً على ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم للتعلم وللقراءة، فكان يحضر معه المغرب، ويتعلم منه ما ينزل من الوحي، وما يتجدد من الأحكام، ويطيل ملازمته، ويمكث على ذلك أكثر الوقت ثم يحضر صلاة العشاء، وبعدما يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء ينصرف إلى قومه، وحيث إنه أقرؤهم، حيث كان من حملة وحفظة القرآن مع كونه من شبابهم، حيث كان في ذلك الوقت شاباً دون العشرين، فكان لذلك مقدماً في قومه، فلذلك كانوا يقدمونه في الصلاة، وينتظرونه ولو تأخر عليهم، فيصلي بهم تلك الصلاة التي صلاها مع النبي صلى الله عليه وسلم. وقد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم أمره بأن يرفق بهم وأن لا يطيل عليهم، وقد ذكرنا أنه كان يتأخر؛ وذلك لأن النبي عليه الصلاة والسلام غالباً ما يؤخر صلاة العشاء حتى يمضي من الليل ساعتان وربما ثلاث ساعات، ثم الطريق من المسجد النبوي إلى العوالي يستغرق ساعة أو قريباً منها، فلا يأتيهم إلا وقد مضى نحو ثلث الليل أو قريب منه. وقد كانوا أهل عمل وأهل حرفة، فلأجل ذلك نصح وأمر بأن يرفق بهم وأن لا يطيل عليهم وأن يقرأ من قصار المفصل، ولكن الشاهد في هذا الحديث أنه كان يصلي بهم وهم مفترضون وهو متنفل؛ وذلك لأنه قد أدى الفريضة خلف النبي صلى الله عليه وسلم، فأفادنا أنه يجوز أن يصلي المفترض خلف المتنفل، والمفترض هو الذي يصلي الفرض، والمتنفل هو الذي صلاته نفل. اشتهر عن بعض الفقهاء رحمهم الله أنه لا يجوز أن يصلي المفترض خلف المتنفل؛ وذلك لأن صلاة المفترض أقوى، فلأجل ذلك لا يكون الضعيف إماماً للقوي، ولكن هذا الحديث يخالف ما اختاره، حيث إن فيه دليلاً على أنه يجوز. وإذا جاز هذا جاز العكس، وهو كون المتنفل يصلي خلف المفترض وتكون له نافلة، فقد ثبت: (أنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلين معتزلين في ناحية المسجد، وكان في مسجد الخيف بمنى، فلما انصرف من صلاة الفجر، أمر بهما فجيء بهما فقال لهما: لماذا لم تصليا معنا؟ فقالا: قد صلينا في رحالنا، فقال: لا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما ثم أدركتما الجماعة فصليا معهم، وتكون لكما نافلة) . فأفاد أنه يجوز أن يصلي المتنفل خلف المفترض وذلك بأن تصلي مع الجماعة في المسجد النائي، ثم بعد ذلك تأتي وتجد جماعة يصلون فتعيد تلك الصلاة معهم، وتكون الثانية هي النافلة، ولو صليت الأولى وأنت منفرد، فإنك تصلي الثانية مع الجماعة، وتكون الثانية هي النافلة، والفريضة هي التي أديت في أول وقتها.

حكم الصلاة في الثوب الواحد ووجوب ستر المنكبين

حكم الصلاة في الثوب الواحد ووجوب ستر المنكبين وأما حديث الصلاة في الثوب الواحد فقد ثبت: (أنه صلى الله عليه وسلم سئل: هل تصح الصلاة بالثوب الواحد؟ فقال: أو لكلكم ثوبان؟! -وفي رواية-: أوكلكم يجد ثوبين؟!) وهذا يفيد أنه يجوز أن يصلي المرء في ثوب واحد ولكن إذا كانت الصلاة فريضة فإنه يستر منكبيه أو أحد منكبيه، وإذا كانت نافلة اكتفى بستر عورته من السرة إلى الركبة فقط ويصلي؛ لأن النافلة أمرها أخف من الفريضة.

مسمى الثوب عند العرب

مسمى الثوب عند العرب مسمى الثوب يدخل فيه كل قطعة تستر جزءاً من البدن، فيسمى الإزار الذي يلبس على العورة ثوباً، والرداء الذي يرتديه الإنسان على ظهره يسمى ثوباً، والقميص الذي له جيب وأكمام يسمى ثوباً، والسراويل التي تفصل على العورة تسمى ثوباً، وهكذا بقية الأغطية كل واحد منها يسمى ثوباً. والحديث ورد في القطعة التي ليست مخيطة، والتي كانت هي غالب لباسهم في ذلك الوقت؛ لأنه لم يتوفر عندهم خياطة القمص التي لها جيوب ولها أكمام، فكان أغلب لباسهم الأزر والأغطية كلباس المحرم، هذا أغلب ما كانوا يلبسونه، فكثيراً ما يصلي أحدهم وليس عليه إلا قطعة واحدة، ولكن يتأكد في الصلاة المفروضة أن يستر منكبيه أو أحد منكبيه، بأن يلتحف بهذه القطعة فيضعها على منكبيه ثم يلفها على بدنه إلى ما تحت الركبة، وبذلك يكون قد ستر عورته وظهره ومنكبيه. وأما النافلة فورد في الحديث: (إذا كان الثوب ضيقاً فأتزر به، وإن كان واسعاً فالتحف به) ، فأفاد أنه إذا كان قطعة واسعة كالرداء العريض ألقاه على ظهره والتحف به حتى يستر عورته ويستر ركبتيه إلى ساقيه، وإذا كان الثوب ضيقاً فيكتفى بأن يأتزر به، يعني: يجعله على عورته كالإزار الذي يستر العورة، فهذا ونحوه هو الذي ورد في الحديث.

خلاف العلماء في وجوب ستر المنكبين في الصلاة

خلاف العلماء في وجوب ستر المنكبين في الصلاة ذهب بعض العلماء إلى أنه لا يلزم ستر المنكبين بل يجزئ أن يصلي وهما مكشوفان، سواء كانت الصلاة فرضاً أو نفلاً، أخذاً من قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان الثوب ضيقاً فأتزر به) ، وذهب آخرون وهو الصحيح: إلى أنه يفرق بين الفرض والنفل، ففي النافلة يتسامح فيجوز أن يقتصر على ستر العورة بإزار يشده على عورته من السرة إلى الركبة، فلو صلى وهو مكشوف الظهر ومكشوف الرأس ومكشوف الساقين صحت نافلته. وأما الفريضة فلها أهمية، فلا بد أن يستر فيها ما بين السرة والركبة وهذه هي العورة، ثم مع ذلك يستر الظهر، فيلقي على ظهره كساء يستره، ويستر منكبيه أو أحد منكبيه، وإذا كان عليه قميص واحد مفصل بالجيب والأكمام، وقد ستر ما تحت الركبة اكتفى بذلك ولو كان حاسر الرأس.

حكم الصلاة بالثياب الشفافة

حكم الصلاة بالثياب الشفافة يلاحظ أنه لا بد أن يكون الثوب الذي يصلي فيه صفيقاً أي: متيناً لا يصف البشرة، فإنه يلاحظ أن كثيراً من الذين يلبسون الثياب الشفافة الرقيقة ويلبسون تحتها تباناً -وهي السراويل القصيرة- أنه يظهر بعض عورتهم، بحيث يظهر الفخذ أو بعض الفخذ لرقة الثوب، فلا بد أن يكون الثوب متيناً غليظاً إذا كان واحداً، فإن كان الثوب رقيقاً فلا بد أن يلبس تحته سراويل أو إزاراً؛ ليستر العورة التي هي ما بين السرة والركبة كما هو معروف. وأما بقية الجسد فلا يلزم، فلو صلى مثلاً وهو مكشوف الرأس لم يكن عليه بأس في ذلك، وكذلك بقية أجزاء الجسم كاليدين والرجلين ونحو ذلك، هذا كله بالنسبة إلى الرجل.

صفة ثياب المرأة في الصلاة

صفة ثياب المرأة في الصلاة أما المرأة فإنها تستر جميع بدنها إلا وجهها؛ ولذلك سألت أم سلمة النبي صلى الله عليه وسلم: (هل تصلي المرأة في الدرع الواحد؟ فقال: نعم إذا كان سابغاً يغطي ظهور قدميها) فاشترط أن يغطي ظهور القدمين، يعني: حتى الأصابع. فعلى المرأة أن تستر قدميها، وإذا ألزمت بستر القدمين فمن باب أولى بقية البدن، وتستر أيضاً رأسها وشعرها، ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار) والمراد بالحائض هنا: التي قد بلغت سن المحيض. فإذا بلغت المرأة بالحيض كلفت، ولو كانت بنت عشر أو إحدى عشرة، فمتى بلغت بالحيض وجب عليها أن تستر بدنها كله في الصلاة فلا تبدي من بدنها شيئاً، فمن ذلك الرأس تستره بالخمار الذي يغطي شعرها ويغطي رأسها وعنقها ونحو ذلك، وهذا يتعلق بشروط الصلاة.

حكم دخول المساجد لمن أكل ما له رائحة كريهة

حكم دخول المساجد لمن أكل ما له رائحة كريهة قال المؤلف رحمه الله: [باب ما جاء في الثوم والبصل ونحوها: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من أكل ثوما أو بصلاً فليعتزلنا -أو ليعتزل مسجدنا- وليقعد في بيته، وأتي بقدر فيه خضرات من بقول، فوجد لها ريحاً فسأل عنها؟ فأخبر بما فيها من البقول، فقال: قربوها -إلى بعض أصحابه كان معه- فلما رآه كره أكلها قال: كل؛ فإني أناجي من لا تناجي) وعنه رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أكل البصل أو الثوم أو الكرّاث فلا يقربنّ مسجدنا؛ فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو الإنسان -وفي رواية-: بنو آدم) ] . هذه الأحاديث تدل على ضرورة احترام المساجد واحترام العبادات بتجنيبها الروائح المستكرهة، وكذلك احترام المصلين واحترام الملائكة عن الأقذار وعما يستنكر أو تكره رائحته.

العلة من النهي عن أكل الثوم والبصل لمن يأتي المساجد

العلة من النهي عن أكل الثوم والبصل لمن يأتي المساجد معلوم أن الثوم والبصل والكرّاث من البقول التي خلقها الله وأنبتها، وجعلها مباحة وفيها منفعة، وفيها مصلحة، ويأكلها الناس للعلاج، وفيها منافع وعلاج لكثير من الأمراض، كما ذكر ذلك العلماء في الكلام على منافعها، ومع ذلك فإن فيها رائحة مستكرهة عند الناس، ولما كانت مستكرهة؛ فإن الإنسان إذا شم هذه الرائحة من غيره كره مجالسته وكره القرب منه وابتعد عنه؛ حتى لا يتأذى بهذه الرائحة المستكرهة؛ فلأجل ذلك نهى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأتي المسجد من فيه هذه الروائح ونحوها. وكان عليه الصلاة والسلام لا يأكلها دائماً، ويعتذر بأنه يناجي الملائكة أو أنه ينزل عليه الملك، والملائكة تتأذى من هذه الرائحة مطلقاً؛ فلأجل ذلك أباح أكلها لبعض أصحابه الذين لا يناجون ما يناجي، فقوله: (فإني أناجي من لا تناجي) المناجاة: هي الكلام الخفي بين اثنين، كما في قوله تعالى: {إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المجادلة:9] يعني: إذا تخاطبتم فيما بينكم بخطاب خفي. فيقول: (فإني أناجي من لا تناجي) يعني: أنه ينزل علي الملك ويكلمني ويعلمني القرآن، ولما كان الملك له حرمة فإني أحب أن لا أقابله برائحة مستكرهة، وقد كان عليه الصلاة والسلام يكره أن يوجد منه شيء من الروائح المستكرهة، ولذلك لما شرب عسلاً عند إحدى زوجاته قالت له زوجة أخرى: (إني أجد منك ريح مغافير -المغافير: هو شجر من شجر العضاة له رائحة- فقال: إنما شربت عسلاً، فقالت: جرست نحلها العرفط) ، يعني: أن نحلة أكلت من شجر العرفط الذي له رائحة، فعند ذلك كره ذلك العسل مخافة أن يوجد منه رائحة مستكرهة، فهذا دليل على أنه لا يحب أن يشم منه رائحة مستكرهة. كذلك كان يحب الروائح الطيبة، فكان دائماً يستعمل الطيب في بدنه وفي ثيابه؛ وذلك لكي توجد منه الرائحة الطيبة التي يحبها والتي تألفها الملائكة، والتي يحبها المصلون والمؤمنون، وحث على الطيب وأمر به ورغب فيه وأخبر بأنه يحبه، وكل ذلك حرصاً منه على قطع الرائحة الكريهة واستعمال الرائحة الطيبة بحسب المستطاع. ولما اشتكى إليه أناس في يوم الجمعة أنهم يتأذون ببعض الروائح، أمرهم بالاغتسال والتنظف في يوم الجمعة، وأن يستعمل الإنسان من طيب أهله ليوم الجمعة، حتى لا يتأذى بعضهم ببعض مما يحصل منهم من الوسخ وروائح الجلد والثياب المتسخة ونحو ذلك؛ كل ذلك لأجل احترام العبادة وأن يأتي إليها وهو راغب محب لها بكل قلبه، وأن لا يوجد منه ما ينفر منه الملائكة أو ما ينفر منه المصلون، هذه الحكمة من النهي عن هذه الروائح المستكرهة في هذه العبادة التي هي الصلاة. والإنسان مأمور بأن يخشع ويخضع في صلاته وأن يكون قلبه مطمئناً فيها، ومن المعلوم أنه لا يطمئن اطمئناناً كاملاً إذا كان إلى جانبه من يشم منه رائحة مستكرهة، لا يكون في صلاته ولا يحضر قلبه، ولا يتأمل ما يقول لما يتأذى به. نقول: هذا هو السبب في كونه عليه الصلاة والسلام نهى عن أن يأتي إلى المساجد من فيه هذه الروائح: (من أكل ثوماً أو بصلاً أو كراثاً فلا يقربنّ مسجدنا) هذه الأشياء موجودة وهي مباحة، والدليل على إباحتها أنه قال لبعض الصحابة: (كل؛ فإني أناجي من لا تناجي) فدل على أنها مباحة وحلال. فإذاً: نهيه في هذا الحديث بقوله: (لا يقربن مسجدنا) فيه أمر بعدم أكلها في الأوقات التي تبقى رائحتها وهو في المسجد، بل يأكلها في الأوقات التي يزول ريحها قبل أن يأتي وقت الصلاة، فإذا أكل بصلاً مثلاً أو كراثاً أو نحو ذلك أكله في الأوقات الطويلة كبعد الفجر وبعد العشاء؛ حتى يزول أثرها قبل أن يدخل وقت الصلاة. وورد عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (إذا احتاج أحدكم إلى أكل هذه البقول فليمتها طبخاً) أي: أنها إذا طبخت زال أثر الرائحة منها، هذا إذا احتاج إليها قرب وقت الصلاة، وعلى كل حال فالنهي عنها قرب وقت الصلاة، وأما في الأوقات التي ليس فيها وقت صلاة، أو بالنسبة للمعذور الذي يصلي في بيته لمرض، أو المسافر الذي يصلي وحده أو نحو ذلك، فإن له ذلك، أما المساجد فلا يجوز أن يأتيها من فيه هذه الروائح. وقد علل في الحديث الثاني بقوله: (فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم) أي: أن الملائكة تحضر الصلوات وتحضر المساجد، وحضورها في هذه المساجد وقت الصلاة لأجل مشاهدة صلاة العباد لا شك أن فيه خيراً، ولذلك تشهد للمصلين، حيث يسألهم ربهم عن عباده وهو أعلم بهم؟ فيقولون: (أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون) ، فهؤلاء الملائكة إذا وجدوا هذه الرائحة في المساجد تأذوا بذلك، فلذلك نهي عن استعمال هذه الأشياء قرب وقت الصلاة والإتيان إلى المساجد بها.

حكم من يأكل البصل والثوم والكراث لأجل ترك صلاة الجماعة

حكم من يأكل البصل والثوم والكراث لأجل ترك صلاة الجماعة ثم نقل إلينا أن بعضاً من المتمعلمين جعلوا ذلك عذراً لترك صلاة الجماعة، ذكروا أن الحبشي الذي اشتهر قبل سنوات في لبنان، وكان قد تتلمذ عليه أكثر من عشرين ألفاً، أو انخدعوا به، فقال لهم: كلوا البصل حتى تسقط عنكم صلاة الجماعة وصلاة الجمعة فلا تكونوا مطالبين؛ فإنكم منهيون عن إتيان المسجد إذا أكلتموه. نقول: هذا كذب لا يجوز أن يتخذ عذراً في ترك صلاة الجماعة، والصحابة ماذا فعلوا وماذا فهموا لما أنه أخبرهم بأن الملائكة تتأذى بهذه الرائحة؟ قالوا: (شيء يحرمنا من المسجد لا نريده) ، يعني: لا حاجة لنا في هذا الذي يمنعنا من حضور الصلاة ومن حضور المساجد، فتركوه في الأوقات القصيرة، ولم يأكلوه إلا لحاجة في الأوقات الطويلة التي يذهب معها رائحته، ولم يجعلوه عذراً ولم يقولوا: نأكل البصل ونأكل الكراث ونصلي في البيوت، ما دام أن لنا عذراً؛ لأنهم عرفوا أن صلاة الجماعة واجبة وأن فيها فضلاً، وأنهم مأمورون بحضورها، وأنها تكتب لهم خطواتهم ونحو ذلك، كل ذلك فهموه من النصوص، فلما فهموا هذا من النصوص عرفوا أن ترك المساجد فيه عقوبة، فقالوا: لا حاجة لنا في الشيء الذي يحول بيننا وبين المساجد، فتركوا هذه الأشياء حتى تحصل لهم صلاة الجماعة باطمئنان. إذاً فالذين يجعلون ذلك عذراً لهم، ويتخذون وسيلة يحتالون بها في ترك صلاة الجماعة، كأكل هذه الأشياء التي فيها رائحة ويقولون: نحن منهيون عن حضور المسجد! نقول: إنكم مخطئون باستعمال هذه الأشياء، قد يضطر الإنسان إلى أكل الثوم أو نحوه لعلاج يكون ضرورة أو لا يندفع ألمه أو مرضه إلا به، والثوم يظهر ريحه على البدن ويطول بقاؤه، فإذا كان مضطراً كان له عذر في أن يصلي وحده ولا يؤذي المصلين ولا الملائكة لضرورته، فإذا لم يكن هناك ضرورة لم يجز له استعماله، إلا إذا تحقق أن هناك ما يزيل رائحته، هذا هو الحكم.

حكم الروائح الكريهة غير البصل والثوم والكراث

حكم الروائح الكريهة غير البصل والثوم والكراث ثم ألحق العلماء بذلك كل ما هو خبيث الرائحة، ومن المعلوم أن هذا الدخان الخبيث المنتن ذو رائحة مستكرهة، وكذلك ما يلحق به من (النارجيل) ، (الجراك) وغيرها من هذه الأشياء الخبيثة؛ من المعلوم أنها ذات رائحة مستكرهة، بل هي أشد من رائحة الثوم والبصل والكراث التي هي من المخلوقات التي فيها نفع، فلا يجوز أن تتعاطى قرب أوقات الصلاة. إذا كان الذي يستعمل (الجراك) يصلي إلى جانبك، فإنك تشم منه هذه الرائحة المستكرهة سيما إذا تعاطاها قريباً، وهكذا أيضاً إذا استعمل الدخان وأكثر منه ظهرت رائحته على ثيابه وعلى فمه، وتأذى من قرب منه، ويلحق بذلك كل شيء فيه رائحة خبيثة فلا يجوز استعماله. معلوم أن المسجد له حرمته فأمر بأن ينظف وأن يطيب، وكان الصحابة في كثير من الأوقات يطيبون مساجدهم بالدخنة التي هي دخان العود، وكذلك كانوا ينضحونه بالطيب وغيره؛ كل ذلك لأجل أن يطمئن المصلون في صلاتهم، وأن تحضر قلوبهم، ولئلا يلقوا شيئاً يشوش عليهم صلاتهم. فإذا كان الإنسان مأموراً بإزالة الروائح المستكرهة، فهو كذلك مأمور باستعمال الروائح الطيبة ونحوها. هذا الحكم في استعمال هذه الأشياء وبكل حال فإننا نهينا عن استعمالها؛ لما يحصل بها من الأذى، ولكن لا يتخذ ذلك حيلة لترك العبادات ولا للتهاون في صلاة الجماعات.

شرح عمدة الأحكام [19]

شرح عمدة الأحكام [19] من الأركان المشروعة في الصلاة التشهد، وقد ورد بألفاظ مختلفة شرحها العلماء، كما شرعت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد، وكذلك الدعاء، وقد وردت أدعية كثيرة في ذلك، وللمصلي أن يتخير منها ما شاء.

التشهد في الصلاة وأصح رواية فيه

التشهد في الصلاة وأصح رواية فيه قال المؤلف رحمه الله: [باب التشهد: وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد -كفي بين كفيه- كما يعلمني السورة من القرآن: التحيات لله، والصلوات، والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) ، وفي لفظ: (إذا قعد أحدكم للصلاة فليقل: التحيات لله -وذكره إلى آخره- وفيه: فإنكم إذا فعلتم ذلك فقد سلمتم على كل عبد صالح في السماء والأرض وفيه: فليتخير من المسألة ما شاء) . وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: (لقيني كعب من عجرة فقال: ألا أهدي لك هدية؟ إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج علينا، فقلنا: يا رسول الله! قد علمنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ فقال: قولوا: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو في صلاته: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال) ، وفي لفظ لـ مسلم: (إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع: يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم - ثم ذكر نحوه) . وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم: (أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: علمني دعاء أدعو به في صلاتي. قال: قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم) . وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -بعد أن نزلت عليه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1]- إلا يقول فيها: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي) . وفي لفظ: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي) ] . في هذين الحديثين ما يقوله في التشهد آخر الصلاة، وسمي تشهداً؛ لأن فيه ذكر الشهادتين، وهذا التشهد يعتبر ركناً من أركان الصلاة؛ وذلك للأمر به في هذه الأحاديث: (إذا قعد أحدكم للصلاة فليقل) والأمر لا صارف له عن الوجوب، فلذلك ذهب أكثر العلماء إلى أن التشهد ركن من أركان الصلاة، وأن تركه يبطلها فلا تتم إلا به كسائر أركان الصلاة، ثم هذا التشهد قد رواه عبد الله بن مسعود، ونقله تلامذته مع كثرتهم ولم يختلفوا فيه، بل كلهم نقلوه نقلاً واحداً دون أن يقع بينهم اختلاف. وروي التشهد أيضاً عن عمر بن الخطاب، ولكن فيه شيء من الزيادة وشيء من النقص، يعني: فيه زيادة كلمة أو كلمتين أو ما أشبهها. وروي التشهد عن جابر وفيه شيء من التغيير، ووقع فيه أيضاً شيء من الزيادة والاختلاف بين الرواة. وقد اختار الإمام أحمد تشهد ابن مسعود حيث لم يقع فيه اختلاف بين تلامذته، إلى أن وصل إلى المؤلفين؛ ولعل ذلك أن ابن مسعود اعتنى به فذكر أنه تلقاه من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة دون واسطة، وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم اهتم بتعليمه إياه حيث جعل كفه بين كفيه يعني: أن كف ابن مسعود بين كفي النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليكون ذلك أدعى إلى الاهتمام، وإلى إقباله بقلبه وقالبه، وكذلك علمه هذا التشهد كما يعلمه السورة من القرآن؛ ولأجل ذلك حفظه وأتقنه كما يحفظ السورة، أي: كما يحفظ الفاتحة والمعوذتين وسائر السور، دون أن يزيد فيها أو يضيف إليها أو يخل بشيء منها، فكذلك نقل هذا التشهد دون أن يغير فيه شيئاً. هذا التشهد مشتملٌ على هذه الجمل، وقد ذكر في بعض الروايات، قال: (كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد: السلام على الله من عباده، السلام على الله قبل عباده، السلام على جبريل وميكائيل، السلام على فلان وفلان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا: السلام على الله؛ فإن الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله) إلى آخره. فعلل أن الله هو السلام، وأنه سبحانه يحيّا ولا يسلم عليه؛ وذلك لأن السلام اسم من أسماء الله، فهو يذكر به، وأيضاً فالسلام دعاء، والله تعالى يدعى ولا يدعى له؛ فلأجل ذلك لم يجز أن نقول: السلام على الله، ولا نقول: عليك السلام، أما التحية فإنها توقير وتعظيم وعبادة، ولأجل ذلك تسمى جميع التعظيمات: عبادة، وتسمى: تحيات. السلام الذي نحن نتبادله يسمى تحية؛ لأنه يحيي به بعضنا بعضاً، قال تعالى: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور:61] ، وقال سبحانه: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86] .

تفسير ألفاظ التحيات ومعناها

تفسير ألفاظ التحيات ومعناها أذكر تفسير الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الثلاثة الأصول وشروط الصلاة وأركانها وواجباتها، ولعلكم تحفظونه، فأذكره وأعلق عليه بعض التعليقات، مع أنه مشهور لا بد أنكم قد قرأتموه مراراً.

معنى التحيات لله

معنى التحيات لله لما تكلم على التشهد فسره تفسيراً مختصراً فقال: (التحيات لله) أي: جميع التعظيمات لله تعالى ملكاً وخلقاً وتقديراً، قوله: (التعظيمات) يعني: جميع ما يعظم به، فهو تعالى يعظم بالتكبير ويعظم بالتبجيل ويعظم بالتسبيح، فكل ما فيه وصف له بالرفعة وبالعلو فهو من التعظيمات التي يعظم بها ويحيّا بها، فيدخل فيه: (التحيات لله) .

معنى قوله: (والصلوات)

معنى قوله: (والصلوات) قوله: (والصلوات) قيل: الدعوات، وقيل: الصلوات الخمس، هكذا ذكر الشيخ أن الصلوات: جميع الدعوات، وقيل: الصلوات الخمس. ومعلوم أن الصلاة في اللغة هي الدعاء، ومنه قوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103] يعني: ادع لهم، وكان يدعو لهم بقوله: (اللهم صل على آل فلان) فنحن إذا قلنا: (الصلوات لله) معناه: الدعوات، يعني: أنه تعالى هو الذي ندعوه ونضرع إليه، ونلح في دعائه. و (الصلوات) أي: التي نتعبد لله بها، التي هي الركوع والسجود والقيام والقعود، والتي فيها تحريم وتسليم لا تصلح إلا لله، فلا يصلى للأموات ولا يصلى للأنبياء ولا يصلى للأولياء ولا غيرهم، إنما تصح الصلاة عبادة لله تعالى.

معنى قوله: (والطيبات)

معنى قوله: (والطيبات) وأما قوله: (الطيبات) ففسرها بأنها الأعمال الطيبة، وهي عامة في كل شيء من الأقوال والأعمال والعقائد ونحوها، والمعنى: أنه تعالى إنما يتقرب إليه بكل طيب؛ لأنه طيب ولا يقبل إلا طيباً، فيستحضر العبد عندما يتشهد هذه الكلمات: (التحيات) يعني: التعظيمات، قوله: (والصلوات) يعني: الدعوات، قوله: (والطيبات) يعني: كل طيب وكل عمل طيب.

صفة السلام على النبي وحكمه والحكمة من مشروعيته في التحيات

صفة السلام على النبي وحكمه والحكمة من مشروعيته في التحيات ثم بعد ذلك يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته) فبعدما تقرب إلى الله بهذه التحية كان من المناسب أن يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه رسول الله المبعوث منه إلى عباده فيناسب أن يسلم عليه. الله تعالى قد أمرنا بذلك في قوله: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] ، فناسب أن يسلم عليه، والسلام عليه مثل السلام على سائر العباد؛ لأنك تقول لمن تسلم عليه: السلام عليك يا أخي، السلام عليكم يا إخوتي، السلام عليكم أيها المسلمون، السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، جاء بهذه التحية: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته) وهذه التحية هي تحية المسلمين التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم، والله تعالى قال: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النور:61] . ما صفة هذا السلام؟ لقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم، ثبت: (أنه عليه الصلاة والسلام دخل عليه رجل فقال: السلام عليكم، فقال: وعليكم السلام ورحمة الله، ثم جاء آخر، فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فقال: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، ثم جاء ثالث فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، فقالوا: لماذا لم تزده؟ فقال: إنه لم يترك لنا شيئاً) معنى: أنه أتى بالتحية كاملة وهي إلى قوله: (ورحمة الله وبركاته) ؛ وذلك لأن الله تعالى ذكر الرحمة والبركة في حق آل إبراهيم في قوله تعالى: {رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} [هود:73] فلما ذكرت الرحمة والبركات ناسب أيضاً أن تذكر في التحيات، وناسب أن تذكر في التشهد. ثم تتفاوت الدرجات والحسنات بحسب هذه التحية، ثبت: (أنه جاءه رجل فقال: السلام عليكم، فرد عليه وقال: عشر، ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فرد عليه وقال: عشرون، ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فرد عليه وقال: ثلاثون -يعني: ثلاثين حسنة- ثم قال: هكذا تتفاضل الأعمال) يعني: كل من زاد زاد له الأجر، وزادت الحسنات في حقه، فهذا هو الأصل في التحيات وفي السلام. لا شك أن السلام دعاء، ولذلك يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: السلام دعاء، والصالحون يدعى لهم ولا يدعون مع الله، ولما قال: (السلام عليك أيها النبي) ، قال: تدعون له والذي يدعى له لا يدعى مع الله. فأفاد أن الله تعالى يدعى ولا يدعى له، وأن النبي صلى الله عليه وسلم يدعى له ولا يدعى، إنما الدعاء خالص لله وحق لله تعالى. فهذا هو الأصل في مشروعية السلام على النبي صلى الله عليه وسلم، والدعاء له بالرحمة التي هي زيادة البركة والخير، والدعاء له بالبركة التي هي كثرة الخير. ويعتبر السلام على النبي صلى الله عليه وسلم من تتمة التشهد لا يسقط بحال، يعني: هذه التحيات والصلوات والطيبات، والسلام على النبي تعتبر من أصل التشهد، لا يعفى عنه ولا يسقط. أما السلام على عباد الله فإنه سنة، إن أتى به فهو فضيلة وإن لم يأت به لم تبطل صلاته، بخلاف السلام على النبي صلى الله عليه وسلم.

حكم السلام على النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته بكاف الخطاب

حكم السلام على النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته بكاف الخطاب ثم قولنا: (السلام عليك أيها النبي) الصحيح أنه يؤتى بهذه اللفظة في كل الأوقات وفي كل الأزمنة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد مماته، لكن ورد في بعض الروايات عن ابن مسعود أنه قال: (كنا نقول ذلك في حياته وهو بيننا فلما مات قلنا: السلام على النبي) يعني: كأنه يقول: إننا نقول: (السلام عليك) لما كان حاضراً يسمع، فلما توفي قلنا: (السلام على النبي) ، ولم نقل: عليك؛ لعدم التمكن من مخاطبته. ولكن لا مانع من استعمال الخطاب له؛ وذلك لأن السلام يبلغه من أمته كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يسلم عليّ إلا رد الله عليّ روحي حتى أرد عليه السلام) وقال: (إن لله ملائكة يبلغونني من أمتي السلام) . وقد أمر عليه الصلاة والسلام بأن يسلم عليه البعيد والقريب، وأخبر بأنه يبلغه من أي مكان؛ وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (وصلوا عليّ -وفي رواية-: وسلموا عليَّ؛ فإن صلاتكم أو تسليمكم يبلغني حيث كنتم) فنحن إذا قلنا: (السلام عليك أيها النبي) أو (الصلاة على النبي) بلغه ذلك من أي مكان كان، تبلغه إياه الملائكة، ولا شك أيضاً أن في ذلك ثواباً عظيماً؛ لأن الله تعالى أمر به في قوله: {وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] ولا يأمر إلا بما هو طاعة، فيعتبر هذا ذكراً من الأذكار والأذكار أيضاً يثاب عليها العبد.

صفة السلام على عباد الله الصالحين ومعناه وحكمه

صفة السلام على عباد الله الصالحين ومعناه وحكمه فأما قوله: (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين) فذكر في الحديث أنك إذا قلتها: (سلمت على نفسك وسلمت على كل عبد صالح لله تعالى في السماء والأرض، فإن العباد اسم لكل من هو عبد لله، ولكل من هو عابد متعبد لله، فقد وصف في هذا الحديث بأنه صالح. والصالحون: هم الذين صلحت أعمالهم وأقوالهم ونياتهم، والذين أصلحوا ما بينهم وبين ربهم، فأنت تسلم عليهم سواء كانوا أحياءً أو أمواتاً، وسواء كانوا من الملائكة أو من الآدميين، فأنت تخص الصالحين بهذا الدعاء الذي هو السلام. لا شك أن التسليم عليهم هو الدعاء لهم بالسلامة، كأنك تقول: تغشاهم السلامة من الله، وكأنك تقول: اسم الله عليهم تغشاهم آثاره وبركته. وصفوا بأنهم عباد الله، العباد هنا: العبادة الخاصة؛ لأن العباد يدخل فيها المتعبدون ويدخل فيها العابدون، وهو المراد هنا؛ ولأجل ذلك وصفوا بأنهم صالحون.

معنى الشهادتين ومقتضاهما وحكمهما

معنى الشهادتين ومقتضاهما وحكمهما ثم بعد ذلك ذكر التشهد بقوله: (أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) ، وفي بعض الروايات لم يذكر فيها: (وحده لا شريك له) ، فهاتان الشهادتان هما تأسيس العقيدة، وتأسيس الدين؛ ولأجل ذلك سمي هذا تشهداً؛ لأن فيه هذه اللفظة. ومعنى (أشهد) كما قال الشيخ محمد: أقر وأعترف أن لا إله في الوجود، أو لا إله يستحق الألوهية إلا الله سبحانه وتعالى. والإله: هو المألوه، لا إله يعني: لا مألوه، ولا أحد يستحق أن يؤله، أي: تألهه القلوب وتوده وتحبه وتعظمه وتقر له بالعبودية، غير الله تعالى. وهذه الشهادة تستدعي من العبد أن يتأله الله، أن يتخذه إلهاً، فإنك إذا قلت: أشهد أن لا إله إلا الله فإنه يجب عليك أن تألهه؟! كيف تقر أنه الإله ولا تألهه، عليك أن تألهه وتتألهه بقلبك وبقالبك وبدنك، فترغب إليه، وترهب منه وتحبه وتخافه وترجوه وتتواضع له وتتذلل بين يديه، وتتخذه بذلك إلهاً ومألوهاً ومعبوداً. أما الشهادة الثانية: فهي أيضاً بمعنى الإقرار والاعتراف، فقوله: (أشهد) يعني: أقر وأعترف بأن محمداً عبده ورسوله، ولا شك أن هذه هي مكملة الشهادة، ولا تكفي واحدة منهما، لا بد من الشهادتين؛ وذلك لأن الشهادة الأولى تستدعي العبادة والطاعة لله، والشهادة الثانية تستدعي المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم والتأسي به، والاقتداء به فيما بلغه، وطاعته فيما جاء به. وشهادة أن محمداً رسول الله مقتضاها: أن تؤمن بأنه رسول الله، وأن تؤمن بأنه بلغ ما أرسل به، وأن تؤمن بأن على الأمة تصديقه، وأن تؤمن بأنه تجب طاعته، والتحاكم إليه، وامتثال ما أمر به ودعا إليه، وأن تؤمن بأنه بلغ ما أرسل به أتم بلاغ وأتم بيان، وأن تؤمن بأن لا نجاة لأحد إلا باتباعه، وأن الطرق مسدودة إلا من طريقه. وإذا آمنت بذلك ظهرت عليك آثار ذلك بأن تطبق كل ما جاء به وتمتثله، وتقدم أقواله على كل قول، وترضى بالتحاكم إلى شريعته، هذا هو الرسول، والرسول معلوم أنه الذي يحمل الرسالة من الله، أي: فهو مرسل من الله، وهذه الرسالة هي هذه الشريعة التي جاء بها وبلغها قولاً وفعلاً. فهذا هو التشهد الأول، يأتي به بعد الركعتين الأوليين في صلاة الظهر، وبعد الركعتين في العصر، وبعد الركعتين في المغرب، وبعد الركعتين في العشاء.

معنى الصلاة الإبراهيمية وحكمها وصفتها

معنى الصلاة الإبراهيمية وحكمها وصفتها أما التشهد الأخير الذي هو بعد الركعة الرابعة في الظهر وكذلك في العصر، وبعد الثالثة في المغرب، وبعد الرابعة في العشاء، وبعد الركعة الثانية في صلاة الصبح، وبعد كل ركعتين في التنفلات، فإنه يزيد فيه بالأدعية التي جاءت في بعض الروايات؛ وذلك لقوله: (ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه، أو ما شاء) فهذه الأدعية مناسبتها أو محلها بعد التشهد الأخير، أي: إذا تشهد التشهد الأخير أتى بما يحضره من الدعاء. ولكن في التشهد الأخير الذي يعقبه السلام، يأتي بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وهي التي في حديث كعب؛ وذلك لأن الله تعالى أمر بهما معاً في قوله: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] فلا بد من الإتيان بهما، فيكره الاقتصار على السلام وحده، أو على الصلاة وحدها، لا بد إذا قلت: اللهم صل على محمد أن تقول: وسلم؛ لأن الله قال: (صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا) ، فلذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة والسلام عليه، فالصحابة يقولون: (قد علمنا كيف نسلم عليك) ، أي: علمتنا بقولك: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، وبقي أن تعلمنا كيف نصلي عليك، ما صفة الصلاة عليك؟ والصلاة عليه يدخل فيها كل دعاء. روي عن بعض الصحابة أنه قال: (يا رسول الله! إني أكثر الصلاة عليك، فهل أجعل لك ربع الصلاة؟ فقال: ما شئت وإن زدت فهو خير لك، قال: أجعل لك ثلث الصلاة؟ قال: ما شئت وإن زدت فهو خير لك، قال: أجعل لك نصف الصلاة؟ قال: ما شئت وإن زدت فهو خير لك، قال: فإني أجعل لك كل صلاتي، أو جميع صلاتي، قال: إذاً تكفى همك ويغفر لك ذنبك) والمراد أنه يجعل له دعاءه يقول: بدل ما أدعو بالمغفرة وأدعو بسؤال الجنة أشتغل بالصلاة على محمد، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، أجعل ذلك هو الدعاء كله. قوله: (صلاتي) يعني: دعائي، فجعل ذلك سبباً لغفران الذنوب، وكف الهموم. إذا عرف العبد فضل هذه الصلاة فإنه قد ورد فيها فضائل كثيرة، ذكر جملة كثيرة منها ابن كثير عند تفسير هذه الآية في سورة الأحزاب: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] وأفردت أيضاً بالتأليف والتصنيف في الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، وذكرت فيها الأحاديث الواردة في ذلك وفضيلتها، ويذكرها ويتعرض لها الخطباء في خطبة الجمعة؛ وذلك لأنهم مأمورون بها في يوم الجمعة، ولها مواقيت معروفة ليس هذا موضع تعدادها. وهذه الصلاة هي قولنا: (اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم) إلى آخرها، لا شك أن هذه الصلاة دعاء، ولكن ما هو هذا الدعاء؟ من العلماء من قال: الصلاة رحمة، وهذا قول مشهور عند الفقهاء؛ وذلك لأنهم قالوا: إنه قال: (كما صليت على آل إبراهيم) ، والصلاة الإبراهيمية هي قوله تعالى: {رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ} [هود:73] عبر عن عن الصلاة بالرحمة، ثم عبر عن البركة بالبركة نفسها في قوله: (وبارك على محمد) إلى آخره، فأفاد أن الصلاة هي الرحمة. ومن العلماء من قال: الصلاة من الله ثناؤه على عبده في الملأ الأعلى، هكذا رواه البخاري في صحيحه عن أبي العالية، وهذا هو الأقرب، أي: أننا إذا قلنا: اللهم صل عليه، فمعناه: اذكره بين ملائكتك بالفضل، وإذا صلينا على إنسان فقلنا: عليك صلاة الله، فمعناه: أن يذكرك الله في الملأ الأعلى، مثل قوله: صلى الله عليه وسلم: (إن الله يقول: من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم) . هذه الصلاة تسمى الصلاة الإبراهيمية؛ وذلك لأنه أمر بأن يصلى عليه كما يصلى على آل إبراهيم، ولا شك أن المراد بقولك: (اللهم صلِّ عليه كما صليت على آل إبراهيم) أي: كما أنك ترحمت على آل إبراهيم وباركت عليهم، وليس المراد أن آل إبراهيم أفضل منه، بل إننا نطلب أن يحظى بصلاة من الله، كما أن آل إبراهيم حظوا بصلاة من الله، فصلت عليهم الملائكة بقولهم: {رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود:73] ، ولهذا ذكر هذين الاسمين في آخر هذه الصلاة. وقوله: (وبارك على محمد) المراد: أكثر عليهم من خيرك ومن فضلك وجودك وامتنانك، وقد ذكرت البركة أيضاً في السلام في قوله: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته) ، فالبركات هي الخيرات الكثيرة. والمعنى: أنك تبارك في أعماله وفي أقواله، وتبارك له فيما أعطيته كما ورد في دعاء القنوت: (وبارك لنا فيما أعطيت) ، وتبارك في حسناته بأن تضاعفها، فيدعى لكل مسلم بهذه البركة التي هي كثرة الخير، وهي لا نهاية لها. فإذا علمنا معانيها عرفنا حكم هذه الصلاة، فالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم جعلها كثير من العلماء ركناً في التشهد الأخير، واستحب كثير منهم في التشهد الأول أن يأتي بها أو ببعضها، ولكن الصحيح أنها إنما تشرع في التشهد الأخير؛ لأنه الذي يطول فيه الجلوس، وقد جعلها بعضهم من الواجبات بحيث إن من نسيها فإنه يسجد للسهو، وجعلها كثير من الأركان بحيث لا تتم الصلاة إلا بها، ولعل هذا هو القول الراجح. ويكفي منها أن تقول: (اللهم صل على محمد) ، وقال بعضهم: لا بد أيضاً من الصلاة على آله (وآل محمد) ، وإذا أتيت بذلك فالبركة وما بعدها من السنن، وكذلك الأدعية، وستأتينا الأدعية فيما بعد، وهي التي تقال بعد الشهادتين وبعد الصلاة الإبراهيمية. قد تقدم التشهد الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة وهو قوله: (التحيات لله) إلى آخره، وهذه تقرأ في التشهد الأول وتقرأ في التشهد الأخير كما هو معروف، وتقدم لفظ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وهي قوله: (اللهم صل على محمد) إلى آخره، وهذه يؤتى بها في التشهد الأخير، واستحب بعض المشايخ أن يؤتى بها أو ببعضها في التشهد الأول، فالواجب في الصلاة أن يأتي بالتحيات وأن يأتي بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. أما التشهد الذي هو: (التحيات لله) إلى آخره فالجمهور على أنه ركن لا تصح الصلاة إلا به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علم الصحابة كما يعلمهم السورة من القرآن، وقال: (إذا جلس أحدكم في التشهد فليقل: التحيات الله) إلى آخره، وقال: (لا تقولوا: السلام على الله ولكن قولوا: التحيات لله) فكل ذلك يستدل به على أنه ركن، وأن من تركه لم تصح صلاته، فلو جلس وسلم قبل أن يقرأه بطلت صلاته إذا كان متعمداً، وإذا كان ساهياً رجع وأتى به وسلم بعدما يسجد للسهو، وكل ذلك دليل على أهمية هذا التشهد. أما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير، فذهب جمع من العلماء منهم الإمام أحمد إلى أنها ركن أيضاً كما أن التحيات ركن، بمعنى: أنها لا تصح الصلاة إلا بها، فمن تركها عمداً بطلت صلاته، ومن تركها سهواً رجع وأتى بها إذا تذكر ذلك، فإذا سلم قبل أن يقول: (اللهم صلِّ على محمد) إلى آخره فلا صلاة له. والقدر المجزئ كما ذكرنا سابقاً أن يقول: (اللهم صلِّ على محمد وآل محمد) . وأجاز بعضهم أن يقتصر على الصلاة عليه دون آله، والبقية سنن، يعني قوله: (وبارك على محمد) إلى آخره من السنن، إن أتى بها فمستحب، وإلا فلا حرج.

مشروعية الدعاء بالمأثور بعد التشهد

مشروعية الدعاء بالمأثور بعد التشهد بعد ذلك يأتي بالأدعية في آخر تشهده، أو يأتي ببعضها كما سيأتي في ركوعه وسجوده.

حكم التعوذ بالله من جهنم وفتنة المحيا والممات والقبر والدجال ومعناها

حكم التعوذ بالله من جهنم وفتنة المحيا والممات والقبر والدجال ومعناها فأما الاستعاذة من هذه الأربع فهي بعد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ورد الاستعاذة من النار، وورد الاستعاذة من جهنم، وكلاهما سواء، فإن النار هي جهنم؛ لأن جهنم اسم من أسمائها، قيل: إن النار سبع طبقات، وقيل: إن لها سبعة أسماء مشهورة، فمن أسمائها جهنم. فيقول: (اللهم إني أعوذ من عذاب جهنم -أو يقول: أعوذ بالله من عذاب جهنم- ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال) ، فعذاب جهنم يكون بعد البعث وقد يكون بعضه في البرزخ، فإن الأموات في البرزخ يأتيهم من حرها وسمومها، وعذاب القبر يكون في البرزخ بعد الموت. يؤمن أهل السنة بوجود عذاب القبر وإن لم يكن مشاهداً، يعني: أننا لا نشاهده، وقد نحفر القبر ولا نشاهد فيه نعيماً ولا عذاباً ولا أصواتاً ولا غير ذلك، ولكن الأموات في عالم غير عالمنا؛ لأن الميت قد انتقل من عالم الدنيا، وأصبح في عالم اسمه عالم البرزخ، فالعذاب والنعيم على الروح التي قد انفصلت من الجسد، والروح نحن لا ندركها، ولا ندري ما كيفيتها؛ لأن الله تعالى حجبها عن معرفة البشر، قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85] . فالعذاب في القبر والنعيم على الأرواح، والأجساد تبع لها، فما دام أننا نؤمن بأن عذاب القبر حق؛ فإننا نستعيذ بالله منه، وإن لم نشاهده بالعين، وكان قد كشف لبعض العلماء عن بعض الأشياء فرأوا بعض العلامات ونحوها. وعلى كل حال عليه أن يستعيذ من عذاب القبر، ثم يستعيذ من فتنة المحيا والممات، والفتنة في الأصل هي الاختبار، ومنه قولهم: فتن الحداد الحديد أو فتن الذهب والفضة، يعني: اختبره حتى ميز ما هو صحيح وما ليس بصحيح، ثم تطلق الفتنة على الابتلاء في الدنيا، كون الإنسان يبتلى بعذاب أو يبتلى بسجن أو بضرب مثلاً أو بأذى من أنواع الأذى، أو يبتلى بمرض أو بفقر أو بفاقة، أو بشدة مئونة، أو بهم وغم أو نحو ذلك من الابتلاء، فهذه من فتن الدنيا فيستعيذ بالله منها، ومن ذلك فتن الشبهات والشكوك التي يروجها المبتدعة، ويروجها دعاة الضلال، ويدعون بها إلى الشك وإلى الشرك وإلى المعاصي وإلى الكفر ونحو ذلك، فيدعو أيضاً بأن يؤمنه الله تعالى ويعيذه من فتنة المحيا، من الفتنة التي تأتي في هذه الحياة، والتي تأتي عند الموت، ويدخل في فتنة الموت عذاب القبر، أو الفتنة عند خروج الإنسان من الدنيا عند الممات، والحاصل أنه يستعيذ من هذه الفتن. كذلك أيضاً من فتنة المسيح الدجال، وهو من أعظم الفتن؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أخبر في عدة أحاديث بأن الدجال يخرج في آخر الدنيا، وأنه يفتتن به خلق كثير، وأنه يدعي أنه هو الرب، ويكون معه آيات أو معجزات يفتن بها الناس، فالإنسان يستعيذ بالله من أن يدركه، أو أن يفتتن به إذا أدركه، وأصل الاستعاذة الاحتماء والتحصن والتحفظ، إذا قال مثلاً: أعوذ بالله، فمعناه: ألتجئ وأعتصم وأتحفظ وأحترس وأستجير بالله تعالى، يشعر بأن هذه الشرور تتوارد عليه، وأن هذه الفتن ونحوها تتكاثر عليه إذا لم يحمه ربه عنها، وخيف عليه أن تفتنه وأن تضله فهو يقول: الله تعالى هو الذي يحفظني منها، وهو الذي يحرسني، وأنا على خطر إذا لم يحفظني ولم يحطني بعنايته، فهذا هو السبب في كونه يقول: أعوذ، يعني: ألوذ وأستجير وأحتمي وأعتصم وأتحصن وأستجير بالله ربي أن يعذبني بعذاب جهنم، أو يسلط عليّ شيئاً من فتن الدنيا، أو من فتن المحيا والممات، أو من فتن المسيح الدجال، فإذا استعاذ بالله تعالى شعر من نفسه بأنه عاجز عن مقاومتها، وأنه لا قدرة له على التحفظ عنها إلا إذا أعاذه الله تعالى وحفظه وحماه، فهو الذي يحفظ العبد منها.

الاعتراف بظلم المرء لنفسه وطلب المغفرة بسبب ذلك

الاعتراف بظلم المرء لنفسه وطلب المغفرة بسبب ذلك أما الحديث الثاني ففيه: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمه دعاء يدعو به في صلاته، فعلمه هذا الدعاء وهو: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم) . هكذا علم الصديق أن يدعو بهذا الدعاء ونحن أحق بأن ندعو به. أمر الصديق بأن يعترف بهذا الاعتراف: (ظلمت نفسي ظلماً كثيراً) وفي رواية: (ظلماً كبيراً) هذا الصديق أبو بكر رضي الله عنه هل يقال: إنه ظلم نفسه ظلماً كثيراً، وهو من أول السابقين إلى الخيرات والمسارعين إلى الأعمال الصالحة، وهو من أهل الإيمان الصادق الثابت الذي لا يتزعزع، وهو من المصدقين لله وللرسول دون تردد، ومع ذلك يقول له: (قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً) ، إذا كان هذا يقال لـ أبي بكر الصديق، فنحن أولى بأن نكون قد ظلمنا أنفسنا ظلماً كثيراً، وظلم الناس قد يكون بشيء من حقوق النفس، وقد يكون بمطاوعة النفس في شيء من المعاصي والمخالفات، وكل ذلك من ظلم النفس. وقد ذكر الله تعالى الاعتراف بالظلم من عباده أو من بعضهم، كما حكى الله تعالى عن يونس في قوله: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] فيونس عليه السلام اعترف أنه من الظالمين، ومع ذلك فإن ظلم النفس عن تقصير في شيء من حقوقها يعفى عنه إذا حافظ العبد على أوامر الله سبحانه وتعالى، ويغفر الله له ذلك، لما نزل قول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] قال الصحابة: أينا لم يظلم نفسه؟! أي: إذا كان الأمن والاهتداء لا يكون إلا لمن لم يلبس إيمانه بأي ظلم، فأينا يحصل على ذلك؟! فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: إن الظلم هاهنا هو الشرك ألم تسمعوا قول العبد الصالح -يعني: لقمان- {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] . وعلى كل حال فالظلم الذي وصف به أبو بكر نفسه هو تقصيره في حقوق الله، يعني: فيما يجب لله؛ وذلك لأن العبد مقصر دائماً في حقوق ربه، ولا بد أن يكون قد وقع منه شيء من الغفلة، وشيء من الخطايا والخطرات ونحو ذلك، وكل ذلك من ظلم النفس، وكذلك قد تكلم فيما لا يعنيه، أو نظر إلى ما لا يشتهيه، أو أكل شيئاً بغير حقه أو ما أشبه ذلك، وكل ذلك من الظلم، فعلى الإنسان أن يعترف بهذا الظلم وأن يطلب من ربه أن يغفره. ثم هذا الذكر يأتي به في آخر الصلاة: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم) ليعترف بأنه ولو أدى هذه الصلاة ولو ذكر الله فيها، ولو قرأ كتابه، ولو قرأ ما قرأه، ولو خشع وخضع وركع وسجد، فإنه مع ذلك مقصر فيما يجب عليه لله سبحانه وتعالى، فسبيله أن يطلب العفو، وأن يطلب المغفرة، فهكذا يختم الإنسان صلاته بالاعتراف بالتقصير؛ رجاء أن يتداركه ربه برحمته. هذا الدعاء في هذين الحديثين من السنن، يعني: قوله: (اللهم إني ظلمت نفسي) إلى آخره، أو قوله: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وعذاب القبر، وفتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال) ، هذا من سنن الصلاة، يعني: يتأكد أن يأتي به، وبعض العلماء يرى وجوبهما، حتى روي أن طاوساً أمر ابنه أن يعيد الصلاة لما لم يقل: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم) إلى آخره؛ لأنه ورد في حديث (إذا صلى أحدكم فليستعذ بالله من أربع) . ولعل القول بأنه مستحب لا واجب هو الراجح، والدليل عليه أنه عليه الصلاة والسلام قد خير العبد في الدعاء لما ذكر التشهد قال: (ثم ليتخير بعد من الدعاء ما شاء) وفي رواية: (ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه) ، فلما أمره بأن يتخير من الدعاء ما يناسبه، دل ذلك على أن هذا الدعاء ليس بواجب، وإنما هو مندوب ومستحب. ومع ذلك يحرص على أن يأتي به مهما استطاع، وبعض الأئمة قد يخففون التشهد الأخير، فلا يتمكن المصلون خلفهم إلا من بعض الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والواجب أن ترشدوا الأئمة الذين يخففون وتأمروهم بأن يتأنوا بعد أن يقولوا: (اللهم صل على محمد) ، حتى يقول المأمومون خلفهم: (اللهم إنا نعوذ بك من عذاب جهنم، وعذاب القبر، وفتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال) ، وقوله: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً) إلى آخره، وليس في ذلك إطالة على المأمومين ولا مشقة عليهم.

ذكر بعض الأدعية الواردة بعد التشهد

ذكر بعض الأدعية الواردة بعد التشهد كذلك ورد أيضاً أنه عليه الصلاة والسلام كان يدعو في آخر الصلاة ويستعيذ من المأثم والمغرم، كان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم، فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم؟! فقال: إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف) ، والمراد بالمغرم الديون التي يتحملها حتى يكون من الغارمين، والغارم: هو المتحمل لحقوق الناس، فشرع له أن يستعيذ من المغرم، والمأثم: هو الذنب الذي يكون به آثماً. ورد أيضاً: أنه يستعيذ من ضيق الصدر وشتات الأمر بعد قوله: (من عذاب القبر) يقول: (وضيق الصدر وشتات الأمر) ، كل ذلك من المستحب أيضاً. واستحب بعض العلماء أن يأتي بالذكر الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ في قوله: (إني أحبك يا معاذ فلا تدع أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) فيقولون: إن دبر الصلاة يعني: آخرها، فيقول في آخر التشهد قبل السلام: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) . والبعض الآخر قالوا: يأتي به بعد السلام، فإن دبر الصلاة يعني: بعد الانتهاء منها. واستحب بعض العلماء أن يأتي بشيء من الثناء مثل قوله: (اللهم بك آمنت ولك أسلمت وعليك توكلت وإليك أنبت، وبك خاصمت وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أسرفت) وما أشبه ذلك، إذا تيسر ذلك أتى به؛ لأنه قال في الحديث: (ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه) يعني: أنه إذا طال جلوس الإنسان في صلاته كأن يصلي وحده وأطال التشهد فإنه يدعو؛ لأنه في صلاة، ولأنه ينتظر الإجابة في آخر الصلاة، فيرجى أن يكون ذلك سبباً في إجابة الدعاء، لأنه لما أتى بهذه العبادة كان الإتيان بها من أسباب قبول الدعاء يعني: كأنه يقول: جعلت الصلاة وسيلة وسبباً فأدعو بعدها بهذا الدعاء رجاء أن يقبل مني.

استحباب قول: (سبحانك اللهم ربنا، اللهم اغفر لي) في الركوع والسجود

استحباب قول: (سبحانك اللهم ربنا، اللهم اغفر لي) في الركوع والسجود أما حديث عائشة ذكرت أنه صلى الله عليه وسلم كان يكثر أن يقول في صلاته: (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي) وفي رواية: (سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه) وتقول: (إنه يتأول القرآن) ، وإنه يقول ذلك في ركوعه وفي سجوده، لما أمره الله تعالى بذلك في قوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:3] فذكر الله التسبيح، وذكر الحمد، وذكر الاستغفار، وذكر التوبة، فيجمع بينهما بقوله: (سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك) أو: (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي) أو: (اللهم اغفر لي وتب عليّ) ، فإذا أتى بهذا أو بما تيسر منه رجي أن يستجاب له؛ لأن الاستغفار طلب المغفرة، والتوبة هي طلب قبولها، كأنه يقول: إذا تبت فاقبل توبتي، والتوبة هي الرجوع إلى الله بعد المعصية وبعد المخالفة وما أشبه ذلك. فهذا يكون في الركوع والسجود، إذا قلت مثلاً: (سبحان ربي العظيم) ، ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً تقول بعد ذلك: (سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي) ، أو (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي) أو (سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه) . وكذلك في السجود إذا قلت: (سبحان ربي الأعلى) (سبحان ربي الأعلى) ما شئت، تقول بعد ذلك: (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي) امتثالاً لهذه الآية {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:3] .

شرح عمدة الأحكام [20]

شرح عمدة الأحكام [20] ذِكْر الله عز وجل على نوعين: أولهما: ذكر مطلق لا يتقيد بزمان معين ولا مكان محدد، والثاني: ذكر مقيد إما بزمان أو بمكان، وهو فيما قيد به أفضل من الذكر المطلق. ومن هذا النوع الثاني الأذكار بعد الصلوات الخمس، فهي سبب في تكفير السيئات ورفع الدرجات، وهي وصية رسول الله لأصحابه وأحبابه كما وردت بذلك النصوص.

شرح حديث: (ذهب أهل الدثور بالأجور)

شرح حديث: (ذهب أهل الدثور بالأجور) قال المصنف رحمه الله: [عن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم، فقال: وما ذاك؟ قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلا أعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم، إلا من صنع مثلما صنعتم؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين مرة. قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. قال سمي: فحدثت بعض أهلي بهذا الحديث، فقال: وهمت، إنما قال: تسبح الله ثلاثاً وثلاثين، وتكبر الله ثلاثاً وثلاثين، وتحمد الله ثلاثاً وثلاثين، فرجعت إلى أبي صالح فذكرت له ذلك، فقال: قل: الله أكبر وسبحان الله والحمد لله حتى تبلغ من جميعهن ثلاثاً وثلاثين) رواه مسلم. عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في خميصة لها أعلام، فنظر إلى أعلامها نظرة، فلما انصرف قال: اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم وائتوني بأنبجانية أبي جهم فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي) ] .

حرص الصحابة على الخير

حرص الصحابة على الخير الحديث الأول يتعلق بالذكر بعد الصلاة، وفيه قصة فقراء المهاجرين الذين كانوا ذوي أموال في بلادهم، ولكنهم تركوها وهاجروا لله، كما قال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الحشر:8] . فهؤلاء المهاجرون أسلموا في مكة أو في غيرها من القرى، ثم تركوا أموالهم وبلادهم؛ لكون تلك البلاد بلاد كفر، وذهبوا بأنفسهم ونجوا برقابهم، وقصدهم بذلك أن يسلموا من الفتن، وأن يهربوا بدينهم، فجاءوا إلى المدينة وليس معهم رءوس أموال، فصاروا محلاً للصدقات والنفقات، فكانوا يشتغلون في النهار فيكتسبون ما يقوتون به أنفسهم وأهليهم، وفي الليل يصلون ويتهجدون، ولما رأوا أصحاب الأموال من أهل المدينة من الأنصار عندهم فضل من أموالهم يتصدقون ويعتقون وينفقون ويجهزون الغزاة في سبيل الله ونحو ذلك، غبطوهم على هذا الفعل، وعرفوا أنهم لا يدركونهم في ذلك. فأرادوا أن يكون لهم بدل هذا الأمر عمل يعملونه، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم شاكين حالتهم، وأخبروه بما ساءهم من هذا الشيء الذي لا يستطيعونه، ووصفوا له أهل الدثور، وهم أهل الأموال الطائلة الكثيرة الموجودة بأيديهم، وأنهم تفوقوا عليهم، وأنهم عملوا أكثر منهم، فهم أهل بأن يذهبوا في الآخرة بالدرجات العلى وبالنعيم المقيم، فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن السبب الذي به تفوقوا عليهم، فأخبروه بأنهم يشتركون معهم في الأعمال البدنية، وقالوا: إنهم يصومون كما نصوم، ويصلون كما نصلي، ويجاهدون بأبدانهم كما نجاهد، ويتهجدون كما نتهجد، ونشاركهم في الأذكار وفي القراءة، ولكن لا نستطيع أن نحصل على مثل أموالهم، فهم يعملون أعمالاً مالية لا نستطيع أن ندركها، ومن ذلك الصدقات التي مدح الله أهلها بقوله تعالى {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271] ، وحث على الصدقة على الفقراء في قوله: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:274] . ومعلوم أن أثرياء الصحابة من الأنصار رضي الله عنهم كان عندهم من الأموال ما يتصدقون بفضله على الفقراء، ويواسون به المساكين، بل ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ويعطون المستحقين؛ لأجل ذلك عرف فقراء المهاجرين أنهم لا يدركونهم في هذا الأمر الذي هو الصدقة والنفقة في وجوه الخير، حيث إنهم يجهزون الجيوش في سبيل الله تعالى، ويجاهدون بأموالهم وأبدانهم، بخلاف الفقراء فإنهم يجاهدون بالأبدان دون الأموال. وكذلك غبطوهم بأنهم يعتقون الرقاب، ويفكون العاني وهو الأسير إذا أسره المشركون بأموالهم، وإذا أسلم أحد من عبيد المشركين اشتروه وأعتقوه، والعتق من الأعمال الخيرية التي ورد فيها الوعد بالخير والثواب، فهذه هي التي غبطوا بها هؤلاء الأثرياء.

الذكر يقوم مقام الصدقات

الذكر يقوم مقام الصدقات ولما أخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك دلهم على الذكر بعد الصلاة، وأخبرهم بأن هذا الذكر يقوم مقام الصدقات، ففي بعض الروايات أنه قال: (إن لكم بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وكل خطوة إلى الصلاة صدقة) حتى قال: (وفي بضع أحدكم صدقة -يعني: في إتيانه لأهله- فقالوا: يأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر؟! فقال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟) فحثهم على هذه الأقوال التي هي الأذكار، وقد أخذ العلماء من هذا: أن الذكر بعد الصلاة يقوم مقام الصدقات.

صفة الذكر بعد الصلاة

صفة الذكر بعد الصلاة والذكر هو التسبيح والتكبير والتحميد ثلاثاً وثلاثين كما في هذا الحديث الذي رواه سمي مولى أبي بكر، وهو من علماء التابعين، وهو عتيق لـ أبي بكر بن عبد الرحمن بن حارث بن هشام وأبو بكر هو أحد فقهاء المدينة السبعة، وقد أعتق سمياً هذا، فتعلم سمي العلم وحفظ الحديث، وروى هذا الحديث عن أبي صالح السمان. وأبو صالح هو تلميذ أبي هريرة، رواه عن أبي هريرة، وذكر سمي أنه حدث به بعض أهله، وأنهم قالوا له: إنك وهمت إنما هو: (تكبرون ثلاثاً وثلاثين، وتحمدون ثلاثاً وثلاثين، وتسبحون ثلاثاً وثلاثين) ، وهذا هو مراد أبي صالح، فهو يقول: (تكبرون وتحمدون وتسبحون ثلاثاً ثلاثين) ، أي: يكرر كل واحدة ثلاثاً وثلاثين؛ ولأجل ذلك ورد في حديث آخر أنه عليه الصلاة والسلام قال: (ويقول تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير) ، فدل على أنه يقول: سبحان الله والحمد الله والله أكبر، ثم يكررها حتى يبلغ ثلاثاً وثلاثين، فتكون تسعاً وتسعين، فالتسبيحات ثلاث وثلاثون، والتكبيرات ثلاث وثلاثون، والتحميدات ثلاث وثلاثون. قال العلماء: هو مخيّر بين أن يقول: سبحان الله ويكررها حتى يكمل ثلاثاً وثلاثين، ثم يسرد التكبير فيقول: الله أكبر، ويكررها حتى يكمل ثلاثاً وثلاثين، ثم يسرد الحمد فيقول: الحمد لله، ويكررها إلى أن يكمل ثلاثاً وثلاثين. وإن شاء جمعها بقوله: سبحان الله والحمد لله والله أكبر هذه واحدة، ثم يكرر ذلك إلى أن يبلغ ثلاثاً وثلاثين فيكون الجميع تسعاً وتسعين، ثم يهلل تمام المائة. ويجوز أن يقدم بعضها على بعض، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أخبركم بأفضل الكلام بعد القرآن وهن من القرآن، سبحان الله والحمد الله ولا إله إلا الله والله أكبر) ، وذكر أن هذه الأربع هي الباقيات الصالحات التي مدح الله أهلها، وكذلك بين أنه يجوز البداءة بأي واحدة منهن، قال (أربع بعد القرآن لا يضرك بأيهن بدأت: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر) وعلى كل حال فهذا الذكر المشروع جعله النبي صلى الله عليه وسلم قائماً مقام الصدقات، ومقام إعتاق الرقاب ومقام النفقات في سبيل الله، ومقام الأعمال المالية التي تنفق في المشاريع الخيرية، فدل على ميزته وفضيلته وأنه يشرع للإنسان المحافظة عليه.

مشروعية عد الذكر بالأنامل

مشروعية عد الذكر بالأنامل والمشروع أن يسبحه بعد كل صلاة، ويشرع أيضاً أن يعد التسبيحات والتكبيرات بأصابع يديه اليمين واليسار، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال لبعض أمهات المؤمنين: (اعقدن بالأنامل فإنهن مسئولات ومستنطقات) والأنامل: هي أصابع اليدين معاً، فيدل على أنه يشرع أن يعد بالأصابع كلها، لا يقتصر على اليد اليمنى كما اشتهر عن بعض المتأخرين أنهم اختاروا عدّ التسبيح باليد اليمنى، ولم يعهد هذا عن المتقدمين الذين قرأنا لهم، فالمتقدمون لم يخصوا اليد اليمنى بالعدّ فقط، بل يذكرون أنه يعد التسبيح بأصابعه أو بأنامله ويستدلون بهذا الحديث: (اعقدن بالأنامل فإنهن مسئولات ومستنطقات) يعني أن جميع هذه الأصابع تشهد وتنطق بما عدته من هذه الأذكار ونحوها. وقد ورد أن النبي عليه الصلاة والسلام حث على أن تعد هذه الأذكار فقال صلى الله عليه وسلم: (من قال: سبحان الله وبحمده مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر) ومعلوم أن مائة مرة تحتاج إلى العد بالأصابع كلها لا بيد واحدة، فإن العد بيد واحدة قد يسبب الغلط والخطأ، وكذلك التهليل الذي ورد مائة مرة أيضاً. وأما الحديث الذي يستدل به في سنن أبي داود فهو حديث صحيح، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه صلى الله عليه وسلم كان يعلم أصحابه الذكر، ويقول لهم: (عليكم أن تسبحوا وتكبروا دبر الصلوات) ، فقال عبد الله بن عمرو بن العاص: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يعقد التسبيح بيده) هكذا الرواية، وكلمة (بيده) اسم جنس يدخل فيها اليد اليمنى واليد اليسرى، وكثيراً ما تطلق اليد ويراد بها اليدان، أما رواية: (بيمينه) فقد انفرد بها راوٍ واحد تفرد عن عدد من الرواة فأبدل كلمة (بيده) بكلمة (يمينه) ، ولا شك أن تطرق الخطأ إليه أولى من تطرق الخطأ إلى عشرين راوياً كلهم يقولون: (بيده) . فيقال أولاً: إن هذا المقام مقام تعليم، وإنه عليه الصلاة والسلام إنما كان يعد التسبيح بيده ليعلم أصحابه، فيمكن أن يكون اقتصر على يدٍ واحدة، يحتمل أنها اليد اليسرى ويحتمل أنها اليد اليمنى. ويقال ثانياً: قد يطلق اسم اليد على اليدين، (بيده) يعني بجنس اليد، فيدل على أنه عدّ التسبيح باليدين معاً، ولكن ذكر إحداهما كقوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك:1] وكقوله: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} [آل عمران:26] مع قول النبي صلى الله عليه وسلم (الخير بيديك) ، فاليد هنا اسم للجنس يعم اليدين، وعلى كل حال: لا شك أن عدها باليدين وعدّ التسبيح بالأصابع كلها أفضل لكونه عبادة استعمل فيها جوارحه، واستعمال الجوارح الكثيرة أفضل. وأما استدلالهم بقول عائشة (كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب التيمن في ترجله وتنعله وطهوره وفي شأنه كله) فهو حديث صحيح، ولكن ليس معناه أنه يقتصر على اليد اليمنى، بل معناه أن يبدأ بها، فإذا توضأ غسل اليمنى قبل اليسرى، وإذا انتعل لبس اليمنى قبل اليسرى، وإذا ترجل بدأ بالشق الأيمن قبل الأيسر، فكذلك إذا سبح، يبدأ العد بأصابعه اليمنى ثم بأصابعه اليسرى، فليس فيه أنه يقتصر على واحدة، فعرف بذلك أن الأفضل والسنة أن يستعمل أصابع يديه كلها، ولا حرج في استعمال اليسرى في عدّ الأصابع لأنها إحدى يديه؛ ولأنها طاهرة، ولا يقال: كيف يعد بها التسبيح وهو يستنجي بها أو نحو ذلك؟! فإنها يد طاهرة، ويتكئ عليها في الركوع، ويسجد عليها في السجود، وتوضع على الفخذ في التشهد. وهي إحدى يديه، فلا مانع من أن يعد بأصابعها التسبيح، والتسبيح ليس باليد ولا بالأصابع إنما هو باللسان، ولكنها مجرد ضبط عدد حتى لا يخطئ. وعلى كل حال فهذا التسبيح الذي ورد في قوله صلى الله عليه وسلم: (تسبحون وتكبرون وتحمدون ثلاثاً وثلاثين) يدل على فضيلة ومزية الذكر، وأن على الإنسان أن يحرص على الإتيان بهذه الأذكار بعد الصلوات الخمس، فإذا انصرف من الصلاة يقول: اللهم أنت السلام إلى آخره، ثم يبدأ بقوله: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر حتى يكمل ثلاثاً وثلاثين.

الاهتمام بمعاني الأذكار بعد الصلوات

الاهتمام بمعاني الأذكار بعد الصلوات وعلى المصلح أن يهتم بمعاني هذه الألفاظ ويستحضرها حتى يكون تأثيرها أقوى، فالتسبيح معناه التنزيه، فإذا قال: سبحان الله فمعناه: أنزه الله تعالى عن النقائص والعيوب، وأنزه الله سبحانه وتعالى عما يصفه به المشركون من الشريك والولد والوالد والكفء والند والشبيه والمثيل والنظير وما أشبه ذلك، أنزه الله عن النقائص من الجهل والسِنَةِ والنوم واللغوب وما أشبه ذلك، هذا مقتضى سبحان الله، يعني: تنزيهاً لله وتقديساً له، وتعظيماً له. إذا قال: الحمد لله، فإن معناه أنه يثني عليه بصفاته التي هي صفات كمال، ويعترف بأنه المنعم المتفضل عليه وعلى غيره، وأن حمده له مقابل نعمه، ومقابل فضله ومقابل صفاته الاختيارية ونحوها. وإذا قال: الله أكبر، فإن معناه التعظيم والإجلال والإكبار، وأن العبد صغير وحقير بالنسبة إلى كبرياء الله سبحانه، فالتكبير معناه التعظيم والإجلال، فإذا قال: الله أكبر، أي أنه أكبر وأعظم وأجل من كل شيء، وما سواه صغير حقير وهكذا، فيستحضر هذه المعاني عندما يقولها فيكون لها أثر في عقيدته، هذا هو السبب في شرعية هذه الأذكار التي جعلها النبي صلى الله عليه وسلم قائمة مقام الصدقة، وهي لا تستغرق وقتاً كثيراً يقولها، فقد يقولها الإنسان في خمس دقائق أو أقل، ولكن الكثير من الناس عندما ينصرفون من الصلاة يستبقون الأبواب ويذكرهم الشيطان بحوائجهم، أو يذكرهم بأمور تهمهم، وقد لا يكون لهم أغراض إلا مجرد الخروج والمسابقة إلى الأبواب، فيفوتهم هذا الخير، ولو أنهم حبسوا أنفسهم حتى يأتوا بهذا الذكر لحصلوا على هذا الخير الذي جعله النبي صلى الله عليه وسلم قائماً مقام الصدقات وقائماً مقام العتق ومسبباً للحاق بالصالحين. وفي هذا الحديث أن أثرياء الصحابة وأغنيائهم لما سمعوا الفقراء يسبحون سألوهم: ما هذا التسبيح والتكبير؟ فأخبروهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم علمهم ذلك، فصار أغنياء الصحابة يسبحون ويكبرون دبر الصلوات ثلاثاً وثلاثين، فذهب فقراء الصحابة إلى الرسول وقالوا: يا رسول الله! قد علم إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله، وأنت تقول: (إنه لا يدرككم أحد إلا من عمل مثل ما عملتم) ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) أي: أن الله تعالى هو الذي تفضل عليهم وأعطاهم الأموال، وجعلها رخيصة عندهم بحيث إنهم ينفقونها في وجوه الخير، ولا يقتصرون على البعض، بل ينفقونها ويجودون بها، ثم أعانهم على الأعمال البدنية والأعمال القولية فهو فضل الله ومنته يؤتيه من يشاء، فيدل على أن الغني إذا عمل في ماله وعمل ببدنه أدرك من سواه.

شرح حديث: (اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم)

شرح حديث: (اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم) أما الحديث الذي يتعلق بالخشوع في الصلاة ففيه أنه صلى الله عليه وسلم صلى مرة وعليه خميصة لها أعلام، فلما انصرف نظر إليها وقال: (اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم وأتوني بأنبجانية أبي جهم فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي) .

معنى الخميصة

معنى الخميصة الخميصة كساء له أعلام، أي: فيه شيء من الخطوط الممتدة، وقد تكون في طوله وقد تكون في عرضه، وهذه الخطوط قد ينظر إليها الإنسان فيحدث بها نفسه، أو ينشغل قلبه بالأشياء التي يراها أمامه، فأحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون لبه وقلبه وحديثه في الصلاة كله حاضراً فيما يتعلق بالصلاة، ولا يحدث نفسه بشيء خارج عن عبادته، فعرف أن هذه الخطوط التي في هذه الخميصة قد تشغل قلبه ولو كان قليلاً، فأحب أن يهدي هذه الخميصة إلى غيره، فأرسل بها إلى بعض الصحابة من المهاجرين وهو أبو جهم وأمره بأن يعطيه بدلها أنبجانية يعني: كساء ليست فيه تلك الخطوط حتى إذا صلى فيها لم يكن هناك ما يشغله في صلاته.

الابتعاد عما يشغل في الصلاة

الابتعاد عما يشغل في الصلاة فهذا الحديث فيه بيان أن الإنسان عليه أن يحضر قلبه ولبه في صلاته، ولا يحدث نفسه بشيء من أمور الدنيا وأن يتجنب الأشياء التي تشوش عليه وتذكره الدنيا، أو تشغل شيئاً من قلبه. وجاء في حديث آخر أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلى النافلة في بيت عائشة، وكان أمامه قِرام قد سترت به عائشة سهوة لها، يعني: نافذة، فقال: (أميطي عني هذا القِرام فإن تماثيله تعرض لي كلما نظرت إليه ذكرتُ الدنيا) ، أي: أن فيه شيئاً من الخطوط والتماثيل، وليست صور حيوانات ولكنها نقوش أو ما أشبهها، فإذا نظر إليها ذكر الدنيا، فأحب أن لا يخطر على باله وفي قلبه شيء من الأمور الدنيوية وهو في صلاته، فأحب أنه متى دخل في الصلاة استقر قلبه فيها وانشرح لها وأقبل بقلبه كله على عبادته حتى تكون الصلاة كلها له لا نقص فيها. فيؤخذ من هذا أن على الإنسان أن يتجنب الأشياء التي تشوش عليه في صلاته، فإذا كان أمامه شيء مما يشوش عليه فإنه يزيله؛ ولأجل ذلك حرص العلماء على أن لا يكون في جدران المساجد التي أمام المصلين خطوط أو كتابات تشغل المصلين إذا نظروا إليها، بل كره بعضهم الأنوار التي تكون في قبلة المصلي، وكل ذلك لأجل تحصيل حضور القلب للصلاة ليستفيد منها، لأنه ورد في الحديث أنه (ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل) يعني: ما أقبل بقلبه عليها وعقلها. أما الذي يحدث نفسه في صلاته ويجول قلبه فيها، فلا يدري ما قرأ الإمام ولا يدري ما سبح ولا ما كبر ولا عدد ما دعا به، ولا يقبل بقلبه على الدعاء، فمثل هذا لا يستفيد من صلاته ولا تؤثر فيه ولا تنهاه عن الفحشاء والمنكر، ولا تزيده إيماناً إلا أن يشاء الله. فعلى المسلم أن يحرص على الأشياء التي يحضر بها قلبه في صلاته ويبعد ما يشوش عليه في صلاته.

شرح عمدة الأحكام [21]

شرح عمدة الأحكام [21]

حكم من سبق الإمام بالتسليم ثم جبر ذلك بالإتيان بركعة خامسة

حكم من سبق الإمام بالتسليم ثم جبر ذلك بالإتيان بركعة خامسة Q بعد التشهد الأخير في صلاة الظهر سلمت قبل أن يسلم الإمام ناسياً، وعندما تذكرت انتظرت إلى أن سلم الإمام فقمت وأتيت بركعة خامسة جهلاً مني بالحكم، فماذا علي في ذلك؟ A أخطأت في هذه الزيادة، وكان عليك أن تسجد وحدك للسهو جبراً لذلك بعد أن يسلم إمامك، ومن العلماء من يقول: إن الإمام يتحمل عن المأموم ولا سجود عليه. على كل حال: هذه الزيادة خطأ، وتعتبر مجزئة لك لعذر الجهل.

حكم من صلى العشاء مع الإمام بنية المغرب

حكم من صلى العشاء مع الإمام بنية المغرب Q دخلت المسجد قرب إقامة صلاة العشاء، وكنت لم أصل المغرب، فدخلت مع الإمام في صلاة العشاء، ولكني في الركعة الثالثة بقيت جالساً حتى سلم الإمام ثم سلمت معه، ثم أقمت الصلاة وصليت العشاء، فهل فعلي هذا صحيح؟ A أجازه بعض المشايخ، إلا أن العلماء الأوائل وأهل المؤلفات لا يجيزون مثل هذا، بل يأمرونك بأن تصلي وحدك صلاة المغرب، ثم بعد ذلك تدخل معهم في بقية صلاة العشاء، ولكن أفتى بعض مشايخنا، ومنهم الشيخ عبد العزيز بن باز وفقه الله بأنه يجوز أن تدخل معهم في عشائهم وتجعلها مغرباً وتصلي معهم ثلاثاً وتنوي السلام، أو تنتظرهم حتى يسلموا وتنويها مغرباً لك وتصلي بعدها العشاء. وإن كان هذا لم يكن عليه نقل، ولكن أجازوه من باب الاغتنام لصلاة الجماعة، والأفضل أن يصلي وحده صلاة المغرب، ثم بعد ذلك يصلي ما بقي من صلاة العشاء مع الإمام. مداخلة: لو دخل مع الإمام في صلاة العشاء كاملة ثم صلى بعدها المغرب؟ الشيخ: أما تقديم العشاء على المغرب فلا يجوز ما دام الوقت متسعاً؛ وذلك لترتيب الصلوات، وقد مر بنا الحديث الذي جاء فيه أنه عليه السلام صلى العصر ثم صلى بعدها المغرب.

حكم قول: أقامها الله وأدامها، بعد قول المؤذن: قد قامت الصلاة

حكم قول: أقامها الله وأدامها، بعد قول المؤذن: قد قامت الصلاة Q ما رأيكم في قول بعض المصلين عندما يسمعون جملة: قد قامت الصلاة، يقولون: أقامها الله وأدامها؟ وهل لها أصل في السنة؟ A ورد فيها حديث ولكنه ضعيف، ومع ذلك استحبها كثير من العلماء، وذكروها في مؤلفاتهم وفي أدعيتهم، وإن لم يكن الدليل قوياً؛ وذلك لأنهم اعتبروها دعاء، والدعاء لا يحتاج إلى توقيف بل يدعو الإنسان بما تيسر، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقر أصحابه على كثير من الأدعية لم يكن علمهم إياها بل استحسنوها فدعوا بها فأقرهم على ذلك، فهذا دعاء فيه خير لإقامة الصلاة ولاستمرارها ودوامها، فلا مانع من القول بذلك إن شاء الله.

أفضل صفوف النساء في المساجد المفصولة فصلا تاما عن مساجد الرجال

أفضل صفوف النساء في المساجد المفصولة فصلاً تاماً عن مساجد الرجال Q يكون في المساجد هذه الأيام قسم خاص كمصلى للنساء ينعزل فيه النساء عن الرجال، فيحصل أن يصطف بعض النساء في مقدمة المصلى ويتركن المؤخرة، وفي نفس الوقت تأتي بعض النساء ويقفن في المؤخرة ويتركن المقدمة، فما هو رأيكم فيما يقع من اختلاف الصفوف وعدم إقامتها إقامة تامة؟ A ما دام أنه محجوز بينهن وبين الرجال بحاجز، ويوجد المكبر الذي يوصل الصوت، فنرى أن صفوفهن كصفوف الرجال، فيكون أفضلها هو المقدم، أما قوله صلى الله عليه وسلم: (خير صفوف النساء آخرها وشرها أولها) ، فهذا فيما إذا كانت الصفوف متصلة ليس بينها وبين صفوف الرجال حاجز، فجعل أفضلها أبعدها عن الرجال، وشرها أقربها من صفوف الرجال مخافة الاختلاط ومخافة السماع، أما وقد انعزلن بحاجز قوي لا يمكن معه الرؤية ولا الملامسة ولا الاتصال فصفوفهن كصفوف الرجال يبدأ بالأول؛ ومعلوم أنهن إذا صففن في مؤخرة الصفوف فإن من بعدهن يدخلن بعد اكتمال الصف فيحتجن إلى أن ينشئن صفاً ثانياً متقدماً، وستضطر عندها كل من دخلت إلى المرور أمام المصليات وهكذا، فيحصل بذلك شيء من التشويش، فالأولى كما قلنا أن يبدأ بالصفوف المتقدمة الأول فالأول.

مشروعية صلاة تحية المسجد بعد غروب الشمس ولو لم يؤذن المؤذن

مشروعية صلاة تحية المسجد بعد غروب الشمس ولو لم يؤذن المؤذن Q إذا غربت الشمس والمؤذن لم يشرع في الأذان ثم دخل رجل المسجد، فهل يصلي تحية المسجد أم ينتظر؟ A يصلي ما دام أن الشمس قد غربت؛ لأن النهي يمتد إلى غروب الشمس، يقول الحديث: (لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس) ولم يقل: حتى يؤذن المؤذنون، فإذا تحققت أن الشمس قد غربت فلك أن تصلي.

مشروعية التكلم مع الإمام لمصلحة الصلاة عند عدم فهمه للتسبيح عند السهو

مشروعية التكلم مع الإمام لمصلحة الصلاة عند عدم فهمه للتسبيح عند السهو Q هل يجوز التكلم لتنبيه الإمام، مثل قول: قم، أو اجلس بعد عدم فهمه لقولنا: سبحان الله؟ A يقولون: إذا احتيج إلى الكلام في مصلحة الصلاة مع كون الإمام لم يفهم المطلوب، فيمكن أن يختار كلمة من القرآن إذا كان يستحضر، فمثلاً: إذا أراد منه أن يقوم قرأ عليه: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] يعني: أمر بالقيام، وإذا أراد له أن يجلس أو أن يقعد جاء بمثل قوله تعالى: {وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:46] أو نحو ذلك. وكذلك إذا أراد منه الركوع قرأ عليه: {ارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43] أو أراد منه السلام، قرأ عليه: {وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] وما أشبه ذلك فإذا لم يستحضر ذلك، وقال له: اسجد بدون كلمة ((واقْتَرِبْ)) أو قال له: اجلس، عفي عن ذلك؛ لأنه من مصلحة الصلاة.

بقاء أثر النجاسة بعد غسلها ودلكها بالماء وزوال عينها

بقاء أثر النجاسة بعد غسلها ودلكها بالماء وزوال عينها Q إذا أصاب الإنسان نجاسة في بدنه وغسلها عدة مرات، وبعد ذلك اكتشف أن هناك رائحة نجاسة في بدنه، فهل تكون هذه الرائحة مانعة من الصلاة؟ A لا تكون ما دام أنه قد غسلها عدة مرات؛ وذلك لأن الأصل أن النجاسة تزول بالغسل بالماء، فإذا كانت على يديه مثلاً أو على ساقيه وغسلها ودلكها -ولو لم يكن معه صابون أو منديل أو نحو ذلك- اكتفى بذلك، كذلك إذا كانت على الثوب وغسلها حتى لا يبقى إلا ما لا يزيله الماء، وقد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن دم الحيض يصيب الثوب فقال للمرأة: (يكفيك الماء ولا يضرك أثره) أي: اغسليه حتى يزول ولو بقيت بقعه في الثوب فإنه لا يضر ذلك، كذلك لو بقيت رائحة -وإن كان ذلك نادراً- فإن ذلك أيضاً لا يضر.

قول شيخ الإسلام والظاهرية ببطلان الصلاة في حضرة الطعام ودليلهم على ذلك

قول شيخ الإسلام والظاهرية ببطلان الصلاة في حضرة الطعام ودليلهم على ذلك Q ما دليل الظاهرية وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية على بطلان صلاة من صلى بحضرة طعام؟ A أخذوه من ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة بحضرة طعام) ، فهذا النهي يدل على أنه ترك واجباً، يقول شيخ الإسلام في قواعده: إن الله ورسوله لا ينفيان مسمى اسم شرعي إلا للإخلال ببعض واجباته، فهنا نفي اسم شرعي وهو كلمة (الصلاة) مثل قوله: (لا صلاة لمن أحدث حتى يتوضأ) ، ومثل قوله: (لا صلاة إلا بوضوء، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله) ، أخذوا من وجوب ذكر التسمية عند الوضوء مع التذكر أن من صلى وهو متعلق القلب بالطعام، أو متعلق القلب بإخراج البول أو الغائط أنه لا يقبل على صلاته ولا يطمئن فيها، والطمأنينة ركن من أركان الصلاة، والخشوع روح الصلاة ولبها، فهذا مذهب الظاهرية أنهم تشبثوا بهذا الحديث، ولكن الجمهور قالوا: تنعقد الصلاة مع الكراهة.

المقصود من النهي عن الصلاة في حضرة الطعام ومدافعة الأخبثين

المقصود من النهي عن الصلاة في حضرة الطعام ومدافعة الأخبثين Q هل الصلاة مع الجوع أو مع مدافعة الأخبثين جائزة، وهل النهي في الحديث للكراهة أو التحريم؟ A يظهر أن النهي لأجل التعليم والتوجيه والإرشاد، والحث على الإتيان بالأسباب التي يخشع فيها الإنسان، ويخضع ويقبل على صلاته، ويطمئن فيها، وإلا فالصلاة مجزئة إن شاء الله وإن كانت ناقصة.

إدراك الركعة بالركوع واكتفاء المسبوق بقراءة الإمام للفاتحة

إدراك الركعة بالركوع واكتفاء المسبوق بقراءة الإمام للفاتحة Q تعتبر الفاتحة ركناً من أركان الصلاة، فكيف يتم الجمع بين ذلك وبين ما جاء في الحديث: (من أدرك الركوع فقد أدرك الركعة) أو كما قال عليه الصلاة والسلام، مع العلم أن من أدرك الركوع لم يقرأ الفاتحة، وجزاكم الله خيراً؟ A المسألة لها فروع وفيها كلام طويل قد يطول استقصاؤه، ولكن المختار أنها واجبة في حق الإمام، وهو يتحملها عن المأموم، ومع ذلك فإنها مستحبة للمأموم في سكتات إمامه، وإذا كانت تسقط عن المأموم فإن المسبوق لا قراءة عليه، فتسقط عنه القراءة، أما إذا أدرك الإمام وهو قائم فإنه يتأكد عليه أن يقرأ ولا يركع حتى يتم القراءة، ولكن لو لم يدركه قائماً سقطت عنه وتحملها الإمام، هذا القول الذي يجمع به بين الأقوال مع كثرتها وكثرة النزاع فيها.

ماهية صلاة الإشراق ووقتها

ماهية صلاة الإشراق ووقتها Q نرجو أن توضح لنا ماهية صلاة الإشراق، ومتى يكون وقتها؟ وهل هي صلاة الضحى أم لا؟ مع العلم أني قد رأيت أناساً يصلونها في الأوقات التي لا يجوز الصلاة فيها مثل بعد صلاة الفجر، أفتونا جزاكم الله خيراً؟ A السنة أن الإنسان إذا جلس يذكر الله في المسجد بعد صلاة الفجر أو يقرأ أو يتعلم؛ أن يجلس حتى تطلع الشمس حسناء، يعني: حتى تشرق وحتى ترتفع ارتفاعاً حسناً، وبذلك يخرج وقت النهي، فإذا خرج وقت النهي -بعدما ترتفع قيد رمح أو بعد طلوعها بربع ساعة، أو ما يقارب ذلك- صلى ركعتين، وفي هذه الحال يسمون هذه صلاة الإشراق، ولكن قد تكفيه عن صلاة الضحى، والأفضل أن يصلي الضحى وقت اشتداد الشمس، كما ورد في الحديث: (صلاة الأوابين حين ترمض الفصال) ، فصلاة الضحى الأفضل فيها أن تكون في وسط الضحى عندما تبتدئ الشمس بشدة الحرارة، وحين ترمض الفصال، والفصال: أولاد الإبل الصغيرة، إذا اشتدت الشمس رمضت وصارت تستظل أو تألف الظل أو نحو لك، فذلك الوقت هو الذي تكون فيه صلاة الأوابين.

الصلاة على النبي عند سماع قوله تعالى: (إن الله وملائكته يصلون على النبي) في الصلاة

الصلاة على النبي عند سماع قوله تعالى: (إن الله وملائكته يصلون على النبي) في الصلاة Q هل يجوز قول الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند قوله تعالى في الصلاة: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب:56] ؟ A عند ذكر النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمعه المستمع من قارئ أو نحوه فإنه يتأكد الصلاة عليه، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (رغم أنف امرئ ذكرت عنده فلم يصل عليّ) ، فإذا سمعنا ذكر نبينا صلى الله عليه وسلم امتثلنا أمر الله، فنقول: عليه الصلاة والسلام، أو صلى الله عليه وسلم، أو نحو ذلك. مداخلة: إذا كان المصلي سمع الآية والإمام يقرأ بها؟ الشيخ: أما في نفس الصلاة فإنه يقول ذلك بقلبه ولا ينطق؛ وذلك لأنه مأمور بأن يكون منصتاً في نفس الصلاة، فإذا سمع ذكر الله ذكر بقلبه، وإذا سمع ذكر النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليه بقلبه دون أن ينطق بذلك؛ لأنه مأمور بالإنصات والاستماع.

الموضع الذي ينظر إليه المصلي في جلوسه

الموضع الذي ينظر إليه المصلي في جلوسه Q عند التشهد هل يكون بصر المصلي إلى موضع السجود أو ينظر إلى السبابة عند الإشارة للتوحيد؟ A في حالة جلوسه بين السجدتين أو جلوسه للتشهد ينظر إلى سبابته أو ينظر إلى يديه، وأما في حالة قيامه فينظر إلى موضع سجوده؛ وكل ذلك لأجل أن لا يتشتت عليه فكره، ولئلا ترد عليه الأوهام والوساوس في صلاته.

حكم الذكر للمأموم عند سماع آيات الرجاء وآيات الوعيد

حكم الذكر للمأموم عند سماع آيات الرجاء وآيات الوعيد Q إذا وردت آية وعيد في قراءة الإمام في صلاة الفريضة أو النافلة، هل يتعوذ المصلي، وكذلك في آية الرجاء؟ A في صلاة النفل لا بأس إذا سمع ذكر الجنة أن يسألها، وإذا سمع ذكر النار أن يتعوذ منها، أما في صلاة الفرض فإنه يواصل القراءة، أو يواصل الإنصات. وورد في صلاة النفل: (أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا مر بآية رحمة وقف وسأل الله من فضله، وإذا قرأ آية عذاب وقف وتعوذ) فيدل على أن ذلك جائز بالنسبة إلى الإمام. أما بالنسبة للمأمومين فبعضهم يجيز ذلك، ويقول: ما دام يجوز للإمام القارئ فيجوز للمأمومين المستمعين. والبعض الآخر -وهم الأكثرون- قالوا: وظيفة المأمومين الاستماع والإنصات: {إِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} [الأعراف:204] فيستعيذون بالقلب، ويسألون الله تعالى بالقلب. أما إذا كنت خارج الصلاة سواء أكنت قارئاً أو مستمعاً فإن ذلك مندوب؛ لما فيه من طلب الخير والاستعاذة من الشر.

حال حديث: (تكبيرة الإحرام خير من الدنيا وما فيها)

حال حديث: (تكبيرة الإحرام خير من الدنيا وما فيها) Q ما هي درجة حديث: (تكبيرة الإحرام خير من الدنيا وما فيها) ؟ A في ذلك أحاديث، والحديث في مرتبة الحسن، يعني: فضل تكبيرة الإحرام أنها خير من الدنيا وما فيها، وإن كان ذلك -أيضاً- ورد في سنة الفجر: (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها) ، فتكبيرة الإحرام ورد في شهودها فضل، وقد كان السلف يحرصون على ألا تفوتهم تكبيرة الإحرام، وذلك دليل على أنهم عرفوا أهميتها وفضيلتها.

الاكتفاء بالاستعاذة في الركعة الأولى بعد دعاء الاستفتاح

الاكتفاء بالاستعاذة في الركعة الأولى بعد دعاء الاستفتاح Q هل الاستعاذة والبسملة تتكرر في كل ركعة أم ذكرهما في أول الركعة الأولى يكفي عن ذكرهما في باقي الركعات؟ A يكفي ذكرهما في الركعة الأولى، فبعد الاستفتاح يستعيذ ويبسمل ويقرأ الفاتحة، ولا يعيد في الركعة الثانية غير البسملة، ولا يعيد فيها الاستفتاح، ولا الاستعاذة؛ وذلك لأن الله أمر بالاستعاذة عند قراءة القرآن فيكفيه أن يستعيذ مرة واحدة، ثم بعد ذلك لو سكت قليلاً ثم أراد أن يعود للقراءة لم يحتج إلى إعادة الاستعاذة.

أحكام السفر لا يعمل بها إلا بعد مفارقة العمران

أحكام السفر لا يعمل بها إلا بعد مفارقة العمران Q إذا أراد رجل السفر إلى بعض البلاد وأذن المغرب وهو لا زال في بلده، فهل يصلي المغرب والعشاء جمعاً قبل خروجه من البلد؟ A الصحيح أنه ليس له حكم السفر ولا حكم المسافر حتى يفارق البيوت العامرة، فإذا جدّ به السير، وخرج من حدود البلد ولو بقي بعض البيوت الخارجة غير مسكونة، ففي تلك الحال يجوز له القصر والجمع، أما ما دام أنه في داخل البلد، أو فيما يلحق بالبلد كمطار الرياض -فهو متصل بالرياض، وفيه سكان من أهل الرياض، فله حكم البلد- فليس له أن يجمع فيه؛ لأنه بذلك يكون قد قدم صلاة قبل أن يدخل وقتها، كما أنه ليس له أن يقصر قبل أن يفارق عامر القرية ونحوها. فإذا دخل عليه الوقت ثم أخر الفريضة حتى خرج من البلد، فالراجح عند العلماء أنه يلزمه الإتيان بالفريضة تامة. مثال ذلك: إذا ركبت سيارتك مسافراً إلى مكة، وأذن الظهر وأنت في وسط البلد لم تفارقه، وإنما قطعت مثلا عشرة كيلومترات، أو عشرين، ولكن لم تزل البيوت عن يمينك ويسارك وأمامك، فواصلت السير، وبعد أن خرجت من البلد وسرت -مثلاً- مائة كيلو متر أو مائتين وقفت وصليت الظهر والعصر فصل الظهر أربعاً؛ لأنها وجبت عليك وأنت في البلد، فوجوبها يلزمك أن تؤديها أربعاً، وصل العصر ركعتين، فثبت أنه صلى الله عليه وسلم: (صلى الظهر بالمدينة أربعاً، وصلى العصر بذي الحليفة ركعتين) . فقوله: (بالمدينة) الظاهر أنه إما في مسجده، وإما بعدما خرج من مسجده؛ وذلك لأن بين مسجده وبين ذي الحليفة ستة أميال، وهذه المسافة لا تقطع على الإبل إلا في زمن طويل، فيظهر أنه صلاها إما في المسجد ثم ركب في حينه، أو بعدما سار قليلاً. الحاصل أنه لا يبدأ العمل بأحكام السفر حتى يفارق البلد.

جواز الاكتفاء بالتيمم لرفع الحدث الأكبر عند خشية الضرر

جواز الاكتفاء بالتيمم لرفع الحدث الأكبر عند خشية الضرر Q إذا وجب على الإنسان غسل وكان الجو بارداً ولم يستطع الغسل لشدة البرد، فهل يجوز له التيمم والصلاة في هذه الحالة؟ A يجوز إذا كان في سفر والماء بارداً وليس عنده ما يستدفئ به؛ لقصة عمرو بن العاص حين كان أميراً على سرية ذات السلاسل، يقول: فاحتلمت في ليلة شديدة البرد، وخفت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت وصليت بقومي، فأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي: (أصليت بهم وأنت جنب) فقلت: سمعت الله يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29] فضحك وأقره، ففي مثل تلك الحال له ذلك، أما في البلد فلا يجوز؛ وذلك لأنه يتمكن من تسخين الماء، لوجود أدوات يسخن بها الماء كالحطب مثلاً في بعض البلاد، أو آلات الوقود الحديثة (البوتغاز) وما أشبهه، أو السخانات الكهربائية التي توجد في بعض المساجد وفي بعض البيوت، أو ما أشبه ذلك، هذه بلا شك من الأسباب التي تمكنه من أن يسخن الماء حتى يصلي بطهارة كاملة، ولو فاتته صلاة الجماعة بسبب تأخره في الاغتسال أو نحو ذلك، حتى قال بعضهم: لو استيقظ ولم يبق على طلوع الشمس إلا مقدار ما يصلي فيه ركعتين بدون طهارة -اغتسال- فإن اللازم في حقه أن يغتسل؛ وذلك لأن وقته وقت الانتباه والاستيقاظ. ولو احتاج أيضاً إلى الاشتغال بتدفئة الماء وتسخينه، فليس له عذر في أن يصلي وهو جنب، وإذا كان ضيفاً عند قوم أو نحو ذلك فلا يستحي أن يطلب ما يسخن له ماء إذا لم يكن في البيت سخانات ونحوها، أو كان في قرية لم تصلها الكهرباء فيطلب منهم تسخين ذلك على الغاز أو على الحطب أو ما أشبه ذلك. فالحاصل أنه ليس له عذر في أن يصلي وهو جنب.

حكم من صلى قبل دخول الوقت بوقت يسير دون أن يعلم

حكم من صلى قبل دخول الوقت بوقت يسير دون أن يعلم Q ما حكم الصلاة قبل دخول الوقت بدقيقة واحدة إذا لم يعلم المصلي؟ A إذا لم يعلم فيعفى عنه، ولكن عليه أن يحتاط فلا يكبر إلا بعدما يتأكد من دخول الوقت، فالمعلوم أنه إذا تأكد أنه أحرم بالصلاة قبل دخول وقتها، كأن يكبر قبل غروب الشمس ولو بدقيقة، أو قبل طلوع الفجر الصادق ولو بدقيقة لم تصح، ولكن إذا لم يعلم يعفى عن ذلك إن شاء الله. والأصل أن يتأكد من هذه الثلاثة الأوقات: فالظهر يدخل بزوال الشمس وهو ارتفاع الظل بالزيادة، فمن أحرم قبل أن تزول الشمس ولو بدقيقة لم تنعقد، والمغرب يدخل بغروب الشمس، فمن أحرم بها قبل أن تغرب الشمس، ولو بقي من قرصها جزء يرى بالعين، يعني: يراه هو أو من هو في منزلته، وإن رآه الذين أمامه في البلاد الأخرى أو رآه مثلاً أهل الطائرة ونحو ذلك فلا يضره، إنما الذي في البلد إذا أحرم قبل أن تغرب الشمس لم تنعقد، أو أحرم قبل أن يطلع الفجر لم تنعقد.

الاقتصار على الإتيان بدعاء الاستفتاح في الركعة الأولى

الاقتصار على الإتيان بدعاء الاستفتاح في الركعة الأولى Q هل يشرع دعاء الاستفتاح في غير الركعة الأولى؟ A لا، إنما هو في الركعة الأولى وهو قول: (اللهم باعد بيني وبين خطايا) إلى آخره، أو قول: (سبحانك اللهم وبحمدك) إلى آخره، يؤتى به بعد التكبيرة الأولى، وهي تكبيرة الإحرام، وأما في الركعات الثانية والثالثة إلى آخره فلا يؤتى به.

وقت قضاء الوتر وصفته

وقت قضاء الوتر وصفته Q إذا نام الرجل عن صلاة الوتر، ولم يستيقظ إلا بعد أذان الفجر فمتى يقضيها؟ A روي عن بعض السلف أنهم كانوا يصلون ركعة خفيفة أثناء الأذن أو بعد الأذان بدقيقة أو نحو ذلك، أما إذا تأخر فإن الأولى أن يقضيها في الضحى، ولكن بما أن وقتها قد فات فيقضيها شفعاً، فإذا كان وتره ركعة صلى ركعتين، وإذا كان وتره ثلاثاً جعلها أربعاً وهكذا، فيكون ذلك قضاء، كما ثبت عن عائشة: (أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة، فإذا كسل أو مرض أو تعب صلى من الضحى ثنتي عشرة ركعة) .

وقت إدراك فضل تكبيرة الإحرام

وقت إدراك فضل تكبيرة الإحرام Q متى يدرك فضل تكبيرة الإحرام ومتى يفوت ذلك؟ A فيها أقوال، ولكن الصحيح من الأقوال أنها ما بين التكبيرة إلى القراءة، فإذا كبرت قبل أن يبدأ الإمام في قراءة الفاتحة في الجهرية مثلاً، أو في قدرها، فقد أدركت تكبيرة الإحرام. وأما إذا كنت مشتغلاً بإكمال النافلة، أو أنك في الصف ولكن شغلك شيء عن التحريمة، فلعلك إن شاء الله تكون مدركاً لها ولو بعد القراءة.

حكم من أدرك تكبيرة الإحرام مع الإمام إلا أنه تشاغل حتى ركع الإمام

حكم من أدرك تكبيرة الإحرام مع الإمام إلا أنه تشاغل حتى ركع الإمام Q مأموم أدرك مع إمامه تكبيرة الإحرام، ولكنه تشاغل حتى كاد الإمام أن يركع فما حكم صلاته لا سيما وأنه لم يقرأ الفاتحة في الركعة الأولى بسبب عبثه وتباطئه عن الدخول في الصلاة مع إمامه؟ A بكل حال صلاته منعقدة، فما دام أنه أدرك الركوع واطمأن فيه فركعته تامة؛ لأن من أدرك الركوع عدّ مدركاً للركعة لكونه أدرك معظم الصلاة، ولكن الأولى أنه ساعة ما يدخل يكبر، ولا يشتغل بشيء عن الصلاة، فإذا وصل إلى الصف صف فيه وكبر واشتغل بالاستفتاح، وبقراءة الفاتحة وما بعدها إلى أن يركع إمامه، فإن جاء والإمام قريب الركوع كبر، فإذا ركع إمامه كبر معه وركع ولو لم يقرأ الفاتحة وتعد له الركعة كاملة إن شاء الله. فينهى من يفعل ذلك عن هذا التلهي وعن هذا العبث ويقال: إنك سببت بطلان صلاتك عند بعض الأئمة، وسببت أيضاً فوات الأجر الكثير حيث إنك تشاغلت بما لا أهمية له عما هو مهم. مداخلة: وإذا كان دخل مع الإمام ولكنه لم يقرأ الفاتحة؟ الشيخ: نقول: تجزيه ما دام أنه أدرك الركوع حتى ولو فاتته الفاتحة. مداخلة: ولو كان في غير الأولى. الشيخ: على كل حال عند الجمهور أنه إذا أدرك الركوع أدرك الركعة ولو لم يقرأ الفاتحة فيتحملها إمامه عنه.

عدم اشتراط ملاصقة الأقدام بين الرجل وجاره في الصلاة

عدم اشتراط ملاصقة الأقدام بين الرجل وجاره في الصلاة Q هل يلزم من التحاذي بالأقدام ما يفعله البعض من وضعه لرجله على رجل جاره في الصف، أو إلصاقه رجله برجل جاره بما يشغله به عن الصلاة، ومثل هذا نراه كثيراً، وفيه صرف لاهتمام من حرص على ذلك عن الصلاة، نرجو التوجيه؟ A تكلمنا عليه قريباً، وذكرنا أن الحديث الوارد في ذلك عن النعمان قوله: (حتى رأيت الرجل منا يلصق كعبه بكعب صاحبه ومنكبه بمنكبه) ، أن العلماء قالوا: المراد بذلك المبالغة في القرب وإن لم يحصل مماسة ولا إلصاق. وقلنا: إن في هذا الإلصاق ضرراً؛ وذلك لأنه يلزم منه التفريق بين قدميه حتى يجعل بين قدميه ذراعاً أو أكثر، يعني: إذا فرق بينهما حتى يلصق قدمه بقدم الآخر وقعت الفرجة بين قدميه، فيكون بذلك قد سبب وجود فرجة بينه وبينه، فيكون عمل بسنة وترك سنة، وهي سنة المقاربة، هذا من جهة. ومن جهة ثانية: ما ذكره السائل وهو أن ذلك يكون شاغلاً لباله، وقد يجلب له شيئاً من الاهتمام لهذا الأمر أو نحو ذلك، وبعض الناس قد لا يطمئن بأن يمسه أحد، أو يكون معه شيء من الحساسية والشعور بالألم حين يمس جلده أحدٌ، لذلك نقول: تكفي المقاربة وإن لم تكن هناك مماسة.

حكم إخراج الصبي من الصف الأول والقيام في مكانه

حكم إخراج الصبي من الصف الأول والقيام في مكانه Q هل يحق للكبير أن يخرج الصبي من الصف الأول خلف الإمام ويقوم مكانه، أو كان ذلك المتقدم غير فاضل والقادم أفضل منه، أفيدونا جزاكم الله خيراً؟ A بكل حال من سبق من المكلفين فهو أحق، ولكن إذا كان الصبي دون التمييز -دون السبع- فتأخيره إلى الصفوف المتأخرة أولى حتى لا يشغل مكان المكلفين. أما إذا كان مميزاً -يعني: قد عقل ببلوغه السابعة وما فوقها وصار يفهم- وكان ممن يؤمن عبثه فلا بأس أن يترك، ولكن مع ذلك فالأولى أن يؤخر إلى أطراف الصف أو إلى الصفوف المتأخرة؛ لأن الصبي حتى ولو كان ابن عشر يحصل منه شيء من الحركة والاضطراب في الصلاة فيشوش على من بجانبه. وكذلك إذا جعل أمثاله في أطراف الصفوف قل تشويشهم إن شاء الله.

مشروعية المساواة بين ميامن الصفوف وشمائلها وتوسيط الإمام

مشروعية المساواة بين ميامن الصفوف وشمائلها وتوسيط الإمام Q ما هو الأولى والأفضل للمأموم أن يقف في يمين الصف ولو كان بعيداً من الإمام، أم القرب من الإمام ولو كان عن شماله، خاصة إذا كان العدد في شمال الصف قليلاً بحيث يكون الإمام غير متوسط؟ وهل للإمام أن يأمر من عن يمين الصف أن ينصرف إلى شماله ليعتدل الصف، أفيدونا جزاكم الله خيراً؟ A ذكرنا هذا أيضاً قريباً وقلنا: ورد الأمر بتوسيط الإمام (وسطوا إمامكم) أي: اجعلوا الإمام في الوسط، وفي المساجد تجعل المحاريب في الوسط بحيث يكون طول الصف من اليمين مساوياً لطوله من الشمال، بحيث لا يزيد هذا على هذا، لكن بالنسبة إلى الصافين إذا كانوا أقل من صف، فنرى أن القرب من الإمام أولى من البعد. وذكرنا مثالاً لما سبق فقلنا: من كان بينه وبين الإمام عشرة وهو عن يسار الإمام، أفضل مما إذا كان بينه وبين الإمام عشرون وهو عن يمينه، فإنه يمتاز بالقرب وإن كان الآخر يمتاز باليمين، فالقرب له مزية وله أهمية. فنحن نقول: إن القرب من الإمام له أهميته، وعلى الإمام أن يحرص على استواء طرفي الصف، فإذا كان الذي عن اليمين أطول بعشرة مثلاً أو بالنصف فله أن يأمر بعضهم أن يذهبوا إلى اليسار حتى يستوي الصف ويخبرهم بأن القرب من الإمام له أهميته.

حكم إنشاء صف جديد قبل تمام الصف الأول

حكم إنشاء صف جديد قبل تمام الصف الأول Q إذا أنشأ المصلون صفاً جديداً قبل أن يكتمل الصف الأول فهل يأثمون؟ A نعم، لقوله صلى الله عليه وسلم: (يتمون الصفوف الأول فالأول ويتراصون في الصف) في صفة صف الملائكة، فيأثمون لعدم امتثالهم لهذا، وقد ورد الأمر بأن تكون الصفوف تامة، وأن يكون النقص في الصف الأخير.

حكم صلاة من غيروا إمامهم أثناء الصلاة

حكم صلاة من غيروا إمامهم أثناء الصلاة Q صلى رجل بآخر صلاة رباعية فلما صليا أول ركعة جاء رجل آخر وهم في الركعة الثانية فقدم المأموم فأصبح إماماً وأتم الصلاة فما حكم هذه الصلاة؟ A لا تجوز، إذ كان الواجب أن يؤخر المأموم وأن يتقدم الإمام إذا كانا إلى جانب بعضهما البعض، وهذا الذي دخل وهما يصليان له أن يصف إلى جانبهما يعني: معلوم أن الإمام هو الأيمن، والذي جاء يجوز أن يصف إلى جانب الإمام، فيكون الإمام في الوسط، وله أن يصف إلى جانب المأموم، ويكون الإمام هو الأيسر يعني: يجعلهم كلهم عن يمنيه، ولو صفوا وصلوا كذلك أجزأتهم صلاتهم. فأما وقد كانوا إماماً ومأموماً، ولما دخل هذا الثالث أخر الإمام وقدم المأموم وجعل المأموم إماماً انقلبت النية وتغيرت، يعني: قد كان مأموماً ثم قلب نفسه إماماً، فهذا أرى أنه لا يصح. ولو أن بعض الأئمة أجازه واستدل بقصة أبي بكر لما عاد مأموماً، فنقول: ليس في تلك القصة أنه كان مأموماً ثم عاد إماماً، بل إن أبا بكر كان إماماً لما تأخر النبي صلى الله عليه وسلم، فلما حضر تأخر أبو بكر وصف في الصف، وتقدم النبي صلى الله عليه وسلم وصار هو الإمام، وعلى هذا فنرى لهؤلاء الذين قدموا المأموم أن يعيدوا صلاتهم.

تسوية الصفوف للصلاة تلزم الإمام والمصلين

تسوية الصفوف للصلاة تلزم الإمام والمصلين Q بالنسبة لتسوية الصفوف هل هي من شئون الإمام أو المأموم والإمام على حد سواء، وإذا رأى المأموم أن الصفوف لم تستو هل يلزمه تسويتها أو يأثم؟ A المأمومون كلهم مخاطبون بذلك، إذا سمعوا الإمام يأمرهم بقوله: استووا أو استقيموا أو أقيموا صفوفكم، أو سووا صفوفكم كما في الأحاديث، فإنهم ينظرون في بعضهم، وكل منهم يحاذي الآخر وينتبه، ولابد أن يكون لكلام الإمام وقع في نفوس المأمومين، فالإمام عليه أن يلتفت عن يمينه ويساره، وعليه أن يحاذي الصف الأول، أما الصفوف التي خلفه فإذا سمعوا اكتفوا بذلك، ولكن بعضهم أيضاً عليه مسئولية، أنت مثلاً إذا كنت في الصف الثاني ورأيت فيه اعووجاجاً أو اختلالاً أو تقدماً أو تأخراً، فإن عليك أن تنبه الذي تراه بالإشارة أو بكلمة خفية أو نحو ذلك، حتى لا يكون هناك تشويش وحتى تستوي الصفوف، فكل منا عليه مسئولية، الإمام يسوي ما يراه، والمأمومون ينتبهون لذلك ويسوون ما يرونه من الاختلال.

حكم قيام أحد المأمومين عن يمين الإمام

حكم قيام أحد المأمومين عن يمين الإمام Q هل يصح الصف بجانب الإمام عن اليمين إذا كان المصلى صغيراً وقد امتلأ بالمصلين؟ وما الدليل على ذلك؟ A نعم يصح أن يصف إلى جانبه صف كامل إذا ضاق المسجد، بل ويصح أن يكون هو في وسط صف، بحيث يصفون عن يمينه وعن يساره ويكون هو في وسط الصف الأول، ودليله ما ثبت عن ابن مسعود أنه صلى بين يدي اثنين من أصحابه علقمة والأسود وصار هو في الوسط وهما على جانبيه. فصلاته في وسطهما دليل على أنه جائز أن يتوسط الإمام الصف، مع أن في إمكانه أن يتقدم ويتأخر من بجانبه لأنهما رجلان، وفي إمكانه أن يكون هو الأيسر، وهما عن يمينه، ومع ذلك جعلهما عن يمينه ويساره، فدل على أنه يجوز للإمام إذا ضاق المسجد أن يصف المأمومون عن يساره وعن يمينه، ويقوم هو في وسطهم، ولا إثم عليه في ذلك إن شاء الله. وبطريق أولى إذا صفوا كلهم عن يمينه؛ ذلك لكونه محلاً للصف، وثبت أنه عليه الصلاة والسلام قام مرة يصلي، فجاء جابر بن عبد الله فصف عن يساره، فأداره عن يمينه، ثم جاء جبار بن صخر فصف عن يساره فدفعهما خلفه، فدل على أن هذا هو موقف الإمام إذا كان معه اثنان فأكثر.

كيفية الجمع بين الأحاديث الدالة على الإطالة في الصلاة والأحاديث الدالة على التخفيف

كيفية الجمع بين الأحاديث الدالة على الإطالة في الصلاة والأحاديث الدالة على التخفيف Q كيف نجمع بين الأحاديث الدالة على طول صلاة النبي صلى الله عليه وسلم والأحاديث الدالة على خفة صلاته صلى الله عليه وسلم؟ A يجمع بينها بأن يقال: إن الأمر نسبي فطول صلاته بالنسبة للذين يخففون، وتخفيف صلاته بالنسبة إلى أناس يطيلون، فمثلاً: اشتهر أن معاذاً رضي الله عنه كان يطيل، فأنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فما نوع إطالته؟ استفتح مرة سورة البقرة ليكملها في صلاة العشاء، وكان كذلك يقرأ سوراً طويلة في صلاة الصبح، فأنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم هذه الإطالة، وقال: (إن منكم منفرين) ، فالإطالة التي أنكروها وقالوا: إن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم خفيفة في قول بعضهم: (ما رأيت أخف صلاة من رسول الله صلى الله عليه وسلم في تمام) ، فالمراد بها بالنسبة إلى من يقرأ بأمثال سورة البقرة أو آل عمران ونحو ذلك في صلاة الفريضة، والتخفيف الذي يريدونه بالنسبة إلى من لا يطمئن، يعني: إن صلاته طويلة بالنسبة إلى من يخفف، وصلاته خفيفة بالنسبة إلى من يطيل الإطالة الزائدة. فعلى هذا لا يكون هناك اختلاف. وقد ورد في صلاة الظهر أنه كان يقرأ فيها بنحو ثلاثين آية، وورد أيضاً: (أنه كان يكبر في صلاة الظهر فيذهب أحدهم إلى البقيع فيقضي حاجته ثم يرجع إلى بيته فيتوضأ، ثم يأتي إلى المسجد فيجدهم بالركعة الأولى مما يطيل بهم) ، وهذا في حديث جابر الذي في صحيح مسلم، فكان يتعمد مثل هذه الإطالة حتى يدركوا الركعة الأولى، أو حتى يقضوا حوائجهم ونحو ذلك. ثم قد يخفف أحياناً، فثبت أنه عليه السلام كان يقول: (إني لأدخل الصلاة أريد إطالتها فأسمع بكاء الصبي فأخفف؛ كراهة أن أشق على أمه) ، فهو يخفف أحياناً إذا عرض عارض، يعني: قد يكون قاصداً للإطالة أكثر ثم يعرض له ما يسبب تخفيفه. فالحاصل: أن الإطالة والتخفيف يعتبر نسبياً.

ما يشرع في حق من يؤم الناس في أسواقهم

ما يشرع في حق من يؤم الناس في أسواقهم Q أنا إمام مسجد أسواق تجارية، وإذا أطلنا عليهم في القراءة أو الركوع أو السجود تضايقوا وغضبوا؛ لانشغالهم بالدنيا، هل أطيل عليهم في الصلاة أم أخففها؟ A الزم الوسط، فلا تخففها تخفيفاً زائداً بحيث لا تطمئن فيها، ولا تطل عليهم إطالة منفرة، بل صلاة متوسطة، قد تكون أخف من غيرهم حيث إنهم منشغلون وقلوبهم متعلقة بأسواقهم وبدنياهم، فتخفف تخفيفاً يناسبهم، ولكن لا تخفف التخفيف الزائد الذي يسبب عدم الاطمئنان في الصلاة.

حكم متابعة المأموم للتسبيح في السجود بعد سماعه تكبيرة الإمام للقيام

حكم متابعة المأموم للتسبيح في السجود بعد سماعه تكبيرة الإمام للقيام Q إذا قام المصلي من السجود إلى الركعة الثانية، دون أن يكمل دعاء السجود، فهل يجوز له أن يكمل دعاء السجود، أو يبدأ بقراءة الفاتحة وهو لم يستقم ظهره؟ A إذا كان إماماً فمعلوم أنه ينهض بعد التسبيح ويقوم، والمأموم إذا سمعه فعليه أن يتابعه، ولا يتأخر إذا كان قد أتى بالواجب. وقد أجاز بعضهم أن يأتي بالتسبيحات الثلاث، ولو في حالة رفع إمامه؛ لأنه يتأخر بعد الإمام حتى ينتصب الإمام ويستقيم، ففي حالة ارتفاع إمامك وأنت ساجد بإمكانك أن تقول: سبحان ربي الأعلى مرتين قبل أن يصل إلى القيام، فلا بأس بأن تأتي بذكر بعدما يقوم، فإذا استتم قائماً فإن عليك أن تتبعه، ومتابعة الإمام هي أنه إذا انتهى من التسبيح، ثم كبر وانقطع صوته، تحرك المأموم بعده متابعاً له.

حكم اتخاذ السترة للمنفرد

حكم اتخاذ السترة للمنفرد Q ما حكم وضع السترة للمنفرد؟ A إذا كان يخشى أن يمر أحد بين يديه صلى إلى سارية مثلاً أو إلى شيء شاخص، وإذا كان في المسجد ولم يخش أحداً، أو كان أمامه الصفوف أو نحو ذلك اكتفى بذلك إن شاء الله.

حكم رفع اليدين في الدعاء وصفته

حكم رفع اليدين في الدعاء وصفته Q هل يشرع رفع اليدين عند كل دعاء، وما هي مواضع رفع اليدين في الدعاء؟ A يشرع رفع اليدين عند كل دعاء، فإن رفع اليدين من مظنة استجابته، أو من أسباب إجابة الدعاء أياً كان ذلك الدعاء الذي هو سؤال وطلب، فإذا دعا الإنسان ربه سؤالاً لمغفرة أو لرحمة أو لجنة أو لنجاة من عذاب أو نحو ذلك، شرع له أن يرفع يديه؛ لأن ذلك يدل على ابتهاله وعلى استجدائه وطلبه من ربه أن يغفر له، وأن يعطيه ما طلبه، فهذا الدعاء مع رفع اليدين مظنة الإجابة، وقد ورد في ذلك حديث سلمان المشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً) يعني خاليتين. موضعه أن يرفعهما إلى الصدر، أو إلى محاذاة الوجه، أو أنزل من الوجه قليلاً، ويجمع يديه كأنه يسأل، ويجعل بطونهما إلى السماء كأنه يطلب من ربه أن يعطيه فيهما خيراً.

حكم رفع اليدين للدعاء بعد النافلة وبين الأذان والإقامة، وحكم مسح الوجه بعد الدعاء

حكم رفع اليدين للدعاء بعد النافلة وبين الأذان والإقامة، وحكم مسح الوجه بعد الدعاء Q هل يشرع رفع يديه عند الدعاء بعد الانتهاء من صلاة نفل، أو بين الأذان والإقامة، وما حكم مسح الوجه بعد الدعاء. A كلما أراد الإنسان أن يدعو فإنه يشرع له رفع اليدين، وبعد النوافل مظنة إجابة الدعاء فإنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أراد أن يدعو صلى ركعتين ليكون ذلك وسيلة، وأمر في صلاة الاستخارة بالدعاء بعدها، فإذا أردت أن تستخير الله تعالى، فإنك تصلي ركعتين ثم تدعو، وهذا دليل على أن الصلاة تعتبر وسيلة لإجابة الدعاء، فإذا صليت نافلة، أو صلاة ذات سبب، أو نحو ذلك ورفعت يديك ودعوت الله بعدهما رجي بذلك استجابة هذا الدعاء، هذا هو الأفضل. أما مسألة مسح الوجه فقد ورد فيها أحاديث لا تخلو من مقال، وإن كان مجموعها حسناً، فقد حسنها الحافظ ابن حجر، بمجموعها لا بأفرادها، يقول الحافظ رحمه الله: إنها تبلغ درجة الحسن كما نبه على ذلك في آخر بلوغ المرام، لكن ورد العمل بها عن الصحابة وعن الأئمة وعن التابعين وعلماء الأمة، فورد أنهم كانوا يرفعون أيديهم ثم يمسحون بها وجوههم، فأصبح العمل بها من الصحابة دليل على أنهم تأكدوا من مشروعية ذلك، وذكروا الحكمة في ذلك، وهو أنها إذا اشتملت على خير فإن الأولى بهذا الخير هو وجه الإنسان رجاء أن تظهر آثار هذا الخير على وجهه يوم تبيض وجوه.

الإتيان بدعاء الاستخارة بعد التسليمتين

الإتيان بدعاء الاستخارة بعد التسليمتين Q إذا صلى الإنسان صلاة الاستخارة، فهل يدعو بدعاء الاستخارة قبل التسليمتين أم بعدهما؟ A الاستخارة بعد السلام؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: (يصلي ركعتين ثم يدعو) ، وهذا دليل على أن الدعاء متعقب للركعتين.

حكم الاكتفاء بالخط واتخاذه سترة في الصلاة، وما يلزم المار بين يدي المصلي

حكم الاكتفاء بالخط واتخاذه سترة في الصلاة، وما يلزم المار بين يدي المصلي Q هل يعد الخط سترة أم لا، علماً بأنه يوجد أشياء يمكن أن يجعلها المصلي سترة له؟ A ورد فيه حديث جاء فيه: (ومن لم يجد فليخط خطاً) ، وإن كان الحديث فيه مقال، يعني: لم يكن مشتهراً، ولم يكن صحيحاً كأحاديث الصحيح، ولكن مع ذلك عمل به الأئمة، فإذا لم يجد عصاً يعرضها، أو نعلاً ينصبه، أو شيئاً شاخصاً كسارية أو جدار، فإنه يخط خطاً إذا كان -مثلاً- في صحراء أو ما أشبه ذلك ويكفيه ذلك حيث إنه يقصر نظره على طرف الخط ولا يتجاوزه، ولا يجوز لأحد أن يمر بينه وبين ذلك الخط، وإذا كان في المسجد والمسجد ليس فيه تراب حتى يظهر فيه الخط، فإنه والحال هذه لا يجوز أن يمر بينه وبين موضع سجوده، فيلزم المار أن ينظر إلى موضع جبهته ثم يمر وراءه، ولا يمر بين يديه، يعني: بين رجليه وبين موضع جبهته. ومن مر بين يديه في تلك الحال فإنه يأثم. مداخلة: إذا لم تكن هناك سترة فهل هناك مسافة مقدرة ترفع هذا الإثم إذا مر الرجل؟ الشيخ: نعم. هو ما ذكرنا من أنه يجعل بينه وبين رجلي المصلي ثلاثة أذرع، ويمر وراءها، والذراع مقدر بنصف متر أو أكثر قليلاً، هذا إذا لم يكن له سترة، كذلك يمكن أن يقدر المار بينه وبين موضع جبهة المصلي نحو ممر الشاة، فقد ثبت أنه عليه السلام كان يجعل بين جبهته وبين سترته مثل ممر الشاة، وممر الشاة قد يصل إلى (40 سم) أو ما يقاربها، ودل هذا على أنه يكون بين رجليه وبين سترته مقدار ثلاثة أذرع أو ما يقاربها.

ما يلزم المؤذن إذا نسي التثويب في أذان الفجر

ما يلزم المؤذن إذا نسي التثويب في أذان الفجر Q إذا نسي المؤذن قول: (الصلاة خيرٌ من النوم) في أذان الفجر، فهل يعيد الأذان؟ A إن تذكر قريباً أتى بعبارة التثويب التي هي (الصلاة خير من النوم) ، وإذا لم يذكر إلا بعدما قد طال الوقت سقطت؛ لأنها من السنن، ولا يعيد لأجلها الأذان كله.

حكم المرور بين يدي المصلي إذا صلى في موضع مرور الناس في العادة

حكم المرور بين يدي المصلي إذا صلى في موضع مرور الناس في العادة Q ما الحكم إذا صلى إنسان في مكان مرور الناس كما لو صلى قرب الباب؟ A المرء مأمورٌ بأن يصلي في المكان المناسب لذلك، ولا يصلي في المكان الذي هو مفترق يمر الناس فيه كثيراً فيضايقهم ويحجزهم، أو يؤثمهم بأن يمروا بين يديه، ولكن إذا فعل ذلك ومروا بين يديه، فهو ملوم على كل حال، وهم ملومون أيضاً، والحكم أن الإنسان إذا رأى من يصلي توقف وانتظره أن يتم صلاته، ولو حجزه ذلك مدة، وقد يحدث مثل هذا فيما إذا كان الإنسان مسبوقاً. فإذا قام المسبوق ليصلي ما فاته بعدما يسلم الإمام، يقوم كثير من الناس من أوساط الصفوف ويخرقون الصفوف ويمرون بين يدي المصلين الذين يتمون صلاتهم فيقعون في بعض الإثم. فنقول: عليكم أن تتأنوا قليلاً حتى يصلي إخوانكم ويكملوا صلاتهم، اصبروا دقيقة أو نحوها حتى ينهوا صلاتهم بحيث لا تأثمون ولا تفسدون عليهم صلاتهم أو تنقصوها.

الاكتفاء بالنافلة عن تحية المسجد

الاكتفاء بالنافلة عن تحية المسجد Q إذا دخل الرجل مسجداً بقصد صلاة الضحى، فهل يجب عليه أن يصلي تحية المسجد ثم يصلي صلاة الضحى، وكذلك سنة الفجر؟ A تحية المسجد يكفي أن يصلي ركعتين، فإذا دخل وصلاة الظهر -مثلاً- قد أقيمت كفاه أن يصلي الظهر وتكون تحية للمسجد، وإذا دخل والفجر قد أقيمت اكتفى بالفريضة عن تحية المسجد، وإذا كان للصلاة سنة قبلها كسنة الظهر، وسنة الفجر فصلى ركعتين ينويهما سنة الفجر أو سنة الظهر، اكتفى بهما عن تحية المسجد. وكذلك إذا دخل لصلاة الضحى فيصلي ركعتي الضحى ويكتفي بهما عن تحية المسجد، وإذا دخل للتهجد في الليل أو صلى ركعتين مثلاً اكتفى بهما تهجداً وتحية للمسجد؛ وذلك لأنه حصل له جنس الصلاة.

تأخير الأذان لمن أراد الإبراد بالظهر أو تأخير العشاء إلى ثلث الليل

تأخير الأذان لمن أراد الإبراد بالظهر أو تأخير العشاء إلى ثلث الليل Q إذا أراد الجماعة الإبراد بالظهر في شدة الحر، فهل يؤذنون لها عند دخول وقتها أم يؤخرون الأذان؟ وما الحكم أيضاً عند تأخير صلاة العشاء في الأذان؟ A سمعنا: (أنه صلى الله عليه وسلم كلما أراد بلال أن يؤذن قال له: أبرد) فهذا يدل على أنهم لا يؤذنون إلا عندما يريدون القيام إلى الصلاة، فلا يؤذنون عند الزوال الذي هو وقت الظهر، بل يؤذنون إذا أرادوا أن يصلوا، أو قبل أن يقيموا الصلاة بربع ساعة ونحو ذلك، وكذلك لو تيسر لهم وأخروا العشاء إلى ثلث الليل أو نحوه فإنهم يؤخرون الأذان إلى قرب إقامتهم للصلاة.

شرح عمدة الأحكام [22]

شرح عمدة الأحكام [22] الإسلام دين اليسر والسهولة، ومن ذلك أن الله رخص للمسافر في الجمع بين الصلاتين وقصر الرباعية، إلا أن كثيراً من الناس قد يسيئون استخدام هذه الرخص فيعملون بها في غير محلها، فلذلك كان من الواجب عليهم أن يتعلموا أحكام الجمع والقصر لكثرة الحاجة إليها.

الجمع بين الصلاتين في السفر

الجمع بين الصلاتين في السفر قال المؤلف رحمه الله: [باب الجمع بين الصلاتين في السفر: عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين صلاة الظهر والعصر إذا كان على ظهر سير، ويجمع بين المغرب والعشاء) . باب قصر الصلاة في السفر: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان لا يزيد في السفر على ركعتين، وأبا بكر وعمر وعثمان كذلك) ] . هذا يتعلق برخص السفر: الجمع في السفر، والقصر في السفر.

تعريف السفر وذكر رخصه والحكمة منها

تعريف السفر وذكر رخصه والحكمة منها السفر هو: قطع المسافة التي بين البلاد والبلاد، ولَمَّا كان السفر مظنة المشقة وردت فيه الرخص، ورخص السفر أربع: - الفطر لأجل المشقة. - والقصر. - والجمع. - وزيادة توقيت المسح على الخفين. فهذه رخص السفر الأربع. وسبب ذلك: أن السفر مشقة وصعوبة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم لذته وراحته، أو طعامه وشرابه، فإذا قضى نهمته فليتبع الفيئة) يعني: الرجوع. فلما كان قطعة من العذاب جاءت السنة بالترخيص فيه، فرخَّص الله تعالى في الإفطار فيه كما سيأتي في الصيام، وجعل سببه اليسر، كما في قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] . أي: رخَّص لكم ذلك لأجل اليسر والسهولة وصرف العسر والمشقة والصعوبات التي على العباد.

حكم الجمع للنازل

حكم الجمع للنازل وقد ترخَّص كثير من الناس وصاروا يجمعون وهم نازلون، وهذا لم يُنقل إلا في حديث لا يثبت، وإلا خاصاً لسبب من الأسباب، وروي حديثٌ لا بأس به (أنه صلى الله عليه وسلم جمع مرة وهو في تبوك، بين الظهرَين وبين العشاءين) أي: وهو نازل في تبوك؛ ولكن تلك المرة يمكن أن يكون له عذر، إما مرض وإما شغل أو نحو ذلك مما له سبب، أما بقية أيامه فإنه كان يقصر ويوقت، وأقام في تبوك عشرين يوماً، يصلي كل فرض في وقته؛ ولكنه كان يقصر. وأقام أيضاً في حجة الوداع في الأبطح قبل أن يذهب إلى منى أربعة أيام، يصلي كل صلاة في وقتها، وكذلك أقام في منى أربعة أيام، يصلي كل فرض في وقته، ولم يكن يجمع، إنما كان يقصر الرباعية ركعتين. وكذلك في غزوة الفتح أقام في مكة في الأبطح ستة عشر يوماً أو نحوها يقصر الصلاة؛ ولكنه لم يجمع، إنما يصلي كل صلاة في وقتها. فنقول: إذا كنتَ نازلاً في بلد، وأنت ممن يُباح له القصر فصلِّ كل وقت في وقته مع القصر، وأما الجمع فإنه -على الصحيح- يختص بمن هو جادٌّ به السير، لا يجمع إلا إذا كان بين البلدين، إذا سار -مثلاً- من الرياض إلى المدينة أو إلى تبوك أو إلى البلاد الخارجية كالشام أو مصر أو ما أشبه ذلك عن طريق البر، فإنه بحاجة إلى أن يجمع ما دام في الطريق. إذا عرف -مثلاً- أن الوقوف يتكرر ويقطع عليه وقتاً، فإذا زالت الشمس وقف وصلى الظهر والعصر، ثم واصل سيره إلى أن تغرب الشمس، فينزل فيصلي المغرب والعشاء، ثم يواصل سيره إلى أن يأتي الوقت الذي ينام فيه أو يقف فيه، وهكذا. أو إذا زالت الشمس واصل السير إلى أن ينزل لصلاة العصر في الساعة الرابعة أو الثانية والنصف أو ما أشبه ذلك، ثم يصلي هناك الظهر والعصر، أو إذا غربت الشمس وهو سائر واصل السير حتى ينزل في الساعة التاسعة أو العاشرة، ثم إذا نزل صلى المغرب والعشاء في ذلك الوقت نزولاً واحداً وصلى جمعاً واحداً. أما إذا كان نازلاً فإنه يوقت، إذا كان مسافراً -مثلاً- إلى بلدة في داخل المملكة أو في خارجها ووصل -مثلاً- إلى تبوك أو إلى نجران أو إلى جيزان -مثلاً- وهو مسافر؛ ولكنه سيقيم يومين أو ثلاثة أيام أو مدة، فله أن يقصر الرباعية ويصليها ركعتين، وليس له أن يجمع بين صلاتين لكونه ليس على ظهر سير.

الجمع لعذر المطر والمرض ونحوه

الجمع لعذر المطر والمرض ونحوه ويجوز الجمع أيضاً لبعض الأعذار، كالجمع للمطر والمرض ونحو ذلك. وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم جمع بن الظهرَين للمطر، وجمع بين العشاءين للمطر، وسبب ذلك المشقة، وذلك أن المدينة كانت ضيقةً أسواقُها ودحضاً ومزلَّةً وتمتلئ إذا جاء السيل بالوحل وبالطين ونحو ذلك، فيصعب عليهم أن يصلوا إلى المسجد إلا بمشقة، وربما سقط أحدهم بذلك الحمأ المسنون وتلوثت ثيابه، وصعُب عليه أن يخرج منه، فرُخِّص له فجمع الظهرَين مرةً وجمع العشاءين مراراً لسبب المطر. وأما حديث ابن عباس: (أنه صلى الله عليه وسلم جمع بالمدينة من غير سفر ولا مطر) ، فقيل لـ ابن عباس: ماذا أراد بذلك؟ فقال: أراد ألَّا يحرج أمته. فإن هذا دليل على أن هناك عذراً وحرجاً أراد أن يمحوه. فقيل: إنه كان هناك شغل لكثير من صحابته، وقيل: إن هناك مرضاً له أو لغيره، والمرض من الأسباب التي يباح للمريض بها أن يجمع، والمريض يجوز له أن يجمع بين الصلاتين إذا كان يشق عليه أن يذهب إلى دورات المياه لأجل الوضوء كل وقت، وأحب أن يتوضأ للظهرَين وضوءاً واحداً ويصليهما، وللعشاءين وضوءاً واحداً، حتى لا يشق عليه. وكذلك إذا كان يشق عليه الجلوس، فإذا أُجْلِس للظهر صلى معها العصر، وإذا أُجلس للمغرب صلى معها العشاء، حتى لا يشق عليه كثرة الجلوس وكثرة الحركة. فمثل هذا عذر من الأعذار وهو المرض؛ فيجوز له الجمع. وورد أيضاً: الجمع بالنسبة للمرأة التي هي مستحاضة؛ ولكن قال بعضهم: إنه جمع صوري، فالمستحاضة وهي المرأة التي يجري معها الدم ولا ينقطع، أمرت بأن تؤخر الظهر وتعجل العصر وتغتسل لهما غسلاً واحداً تجمع بينهما، وتصلي الظهر في آخر وقتها، والعصر في أول وقتها؛ ولكن جمع صوري -كما يقولون- وليس معه قصر، إنما هو جمعٌ مع الإتمام. فهذه هي الأسباب التي لأجلها يُجمع بين الصلوات. أما القصر في السفر فهو أيضاً من الرخص التي ذكر العلماء أنه يترخص بها إذا وُجد سببها. وبكل حال فهو من الأسباب التي يشرع للإنسان القصر فيها، فيعرف أن الإسلام دين السهولة واليُسر، وأنه جاء بما فيه السهولة ونهى عن الصعوبات ونحوها. ومفاد هذا الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر قَصَر الرباعية ركعتين؛ لأن الله تعالى رخص له في ذلك بقوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء:101] ، وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام بأنها رخصة من الله تعالى وصدقة لقوله: (صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته) .

شرح عمدة الأحكام [23]

شرح عمدة الأحكام [23] شرف الله هذه الأمة بيوم الجمعة، فهو أفضل الأيام، ويختص بصلاة الجمعة التي يجتمع فيها المسلمون ليسمعوا ما ينفعهم في دينهم وما يهمهم لصلاح دنياهم وآخرتهم، ولهذه الصلاة أحكام كثيرة بينها الفقهاء رحمهم الله.

أحكام الجمعة

أحكام الجمعة قال المصنف رحمه الله: [باب الجمعة: وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من جاء منكم الجمعة فليغتسل) . وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب خطبتين وهو قائم، يفصل بينهما بجلوس) . وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (جاء رجل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس يوم الجمعة، فقال: أصليتَ يا فلان؟ قال: لا. قال: قم فاركع ركعتين، وفي رواية: فصلِّ ركعتين) . وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: (أن رجالاً تمارَوا في منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن أي عودٍ هو؟! فقال سهل: من طرفاء الغابة، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عليه فكبر وكبر الناس وراءه وهو على المنبر، ثم ركع فنزل القهقرى حتى سجد في أصل المنبر، ثم عاد حتى فرغ من آخر صلاته، ثم أقبل على الناس فقال: يا أيها الناس! إنما صنعتُ هذا لتأتموا بي، ولتعلموا صلاتي، وفي لفظ: فصلى وهو عليها، ثم كبر عليها، ثم رفع وهو عليها، ثم نزل القهقرى) ] . باب الجمعة أي: باب صلاة الجمعة. والجمعة: اليوم المعروف، يسمى يوم الجمعة للاجتماع لهذه الصلاة، ولاجتماع أهل القرية جميعاً لأداء هذه الصلاة، فالصلاة تسمى: صلاة الجمعة، واليوم يسمى: يوم الجمعة.

ما يستحب يوم الجمعة

ما يستحب يوم الجمعة ليوم الجمعة فضائل وخصائص كثيرة يطول ذكرها، أوصلها ابن القيم في زاد المعاد إلى ثلاثة وثلاثين خصلة، من أرادها فليقرأها في زاد المعاد، وإنما نحن بحاجة هنا إلى معرفة الأحكام التي يعمل بها العباد. فيوم الجمعة تؤدى فيه صلاة الجمعة، ويوم الجمعة يكثر فيه العباد من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كما أُمِروا بذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: (إن مِن أفضل أيامكم يوم الجمعة فأكثروا من الصلاة عليَّ فيه؛ فإن صلاتكم معروضة عليَّ. فقالوا: يا رسول الله! كيف تُعرض عليك صلاتنا وقد أَرِمْتَ -أي: قد بَلِيْتَ- فقال: إن الله حرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء) . كذلك يخبر عليه الصلاة والسلام بأن (يوم الجمعة فيه ساعة الإجابة، ساعةٌ يستجاب فيها دعاء العبد المسلم ما لم يدع بإثم أو بقطيعة رحم) . فيكون الإنسان مشتغلاً بأداء الصلاة، وبالاجتهاد في الدعاء؛ رجاء موافقة تلك الساعة التي قد أخِّرت في ذلك اليوم، وقد شُرِع فيه صلاة الجمعة.

الحكمة من الخطبة والجهر في صلاة الجمعة

الحكمة من الخطبة والجهر في صلاة الجمعة هذه الصلاة الخاصة فيها خطبتان، وفيها جهر بالقراءة، ولا يوجد في بقية الصلاة خطب، ولا في الصلاة النهارية جهر بالقراءة. والحكمة أنه يجتمع في الجمعة خلق من أماكن متباينة متباعدة، فيناسب أن يستمعوا للتعليمات وللنصائح والعظات، فيخطب الإمام بهم خطبة يعلمهم فيها الأحكام، ويعلمهم الحلال والحرام، وينبههم على الأخطاء والخلل الذي قد يقعون فيه، ويرغِّبهم في الدار الآخرة وثوابها، ويزهِّدهم في الدنيا ومتاعها، ويحثهم على الأعمال الصالحة؛ لتؤهلهم لدخول الجنة وتحميهم وتنقذهم من النار، فيجتمع المصلون في هذه المساجد ويتلقون هذه الخطب.

الاجتماع في مسجد واحد لأداء الجمعة

الاجتماع في مسجد واحد لأداء الجمعة والسنة أن يجتمع أهل القرية في مسجد واحد، ولهذا لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا جمعة واحدة في مسجده، يأتي إليها أهل العوالي، ويأتي إليها أهل المدينة من مسيرة ساعتين أو أكثر من ساعتين، ثم يصلون جميعاً، ولم يرخص لأحد أن يصلي في مسجد آخر مع حاجتهم، لا في مسجد قبا مع بعده، ولا مساجد أبعد منه.

مشروعية المنبر لخطيب الجمعة

مشروعية المنبر لخطيب الجمعة سن في هذه الصلاة سنناً، فمنها: أن يكون الإمام مرتفعاً على المأمومين عندما يخطب، فيخطبهم فوق مكان عالٍ، وهو ما يسمى بالمنبر الذي يلتصق بالمسجد. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب على جذع نخلة مغروسة في قبلة المسجد، يرقى عليها ويخطب، ثم صُنع له هذا المنبر من طرفاء الغابة. والطرفاء هو: نوع من الأثل، صنعه نجار كان لبعض الصحابيات مملوكاً عندها، فجعله ثلاث درجات، يعني: أنه قطع من متين عروق الأثل ثلاث قطع، كل قطعة جعلها كدرجة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب على الدرجة الثالثة التي هي أرفعها. وهكذا استمر يخطب على هذا المنبر، وأول ما قام عليه وابتدأ في الخطبة حنَّ عليه ذلك الجذع لِمَا فَقَدَ من ذكر الله، فنزل إليه وضمه حتى هدأ وقال: (لو تركتُه لحنَّ إلى يوم القيامة) ثم رجع وكمَّل خطبته، وبعدما أتم الخطبة وأقيمت الصلاة كبر وهو على الدرجة السفلى من ذلك المنبر، وقرأ وهو عليها، وركع وهو عليها، ثم عند السجود نزل القهقرى -أي: رجع خلفه- حتى نزل في الأرض، ثم سجد السجدتين وبينهما جلسة، ثم قام للركعة الثانية، وصعد على الدرجة الأولى، وصلى الركعة الثانية كالأولى. والسبب في ذلك أن يكون الإمام ظاهراً حتى يراه المصلون ليقتدوا ويأتموا به، وحتى يسمعوا خطبته وقراءته وتكبيره، حيث لم يكن هناك مكبر، وكان المسجد مكتظاً وممتلئاً، فلأجل ذلك ارتفع فوق أعلى درجة. هذا هو السبب في كونه صلى بهم وهو على هذه الدرجة من المنبر، وذكر أن السبب أن يأتموا به، ويقتدوا بصلاته، ويسمعوا صوته، وهذا دليل على جواز أن يكون الإمام أرفع من المأمومين شيئاً يسيراً لحاجة تبليغهم ولحاجة سماعهم لقراءته وتكبيراته.

غسل يوم الجمعة

غسل يوم الجمعة من جملة الأحاديث التي مرت بنا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من جاء منكم الجمعة فليغتسل) . والأحاديث في الأمر بالاغتسال يوم الجمعة كثيرة، واعتقد بعضهم أنه واجب، واستدلوا بحديث أبي سعيد في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم) . وذهب آخرون إلى أنه سنة، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل) ، ومعنى قوله: (فبها) يعني: أخذ بالسنة ونعمت السنة ما أخذ، فإذا اقتصر على الوضوء وأخذ به فلا بأس. وقيل: معناه: أخذ بالرخصة. أي: أخذ بالرخصة (وبها ونعمت) . والقول الثالث: إنه يجب الغسل على من كان بعيد العهد بالنظافة وبالاغتسال، ومستحب لغيره. وبكل حال فلما وردت أحاديث كثيرة تدل على الأمر به عرفنا آكديته، فهو آكد السنن، يعني: آكد من كثير من المأمورات التي يذهب بعضهم إلى وجوبها. فمثلاً: الأحاديث التي في نقض الوضوء بأكل لحم الجزور حديثان، والأحاديث التي في الاغتسال للجمعة أكثر من حديثين وثلاثة وأربعة، والأحاديث التي في نقض الوضوء من مس الذكر حديثان أو نحوهما، والأحاديث التي في غسل الجمعة: أكثر وأكثر؛ فلأجل ذلك أكده كثير من العلماء. ولعل القول الثالث هو الأولى، وهو أنه واجب على من كان بعيد العهد بالاغتسال، فمن كان حديث العهد بالاغتسال، وكان نظيف الجسد، فإنه يكون سنة في حقه، ودليل ذلك: ما روته عائشة من سبب الأمر بالاغتسال، وهو أن الناس كانوا يأتون لصلاة الجمعة وهم أهل عمل، وقد اتسخت أبدانهم وثيابهم، فيؤذي بعضهم بعضاً بروائحهم ونتن الوسخ وما أشبه ذلك، فأمروا أن يتنظفوا ليوم الجمعة حتى لا يؤذي بعضهم بعضاً. وهذه حكمة عظيمة، ومعلوم أن الصحابة في ذلك العهد كانوا فقراء، وأغلبهم مهاجرون ليس لهم مأوى، وبعضهم إنما يكون في المسجد وهم أهل الصُّفَّة الذين ليس لهم بيوت وليس لهم أهل، وليس لأحدهم إلا قميص أو رداء وإزار يلتف به كلباس المحرم، وقد يبقى عليه لباسه خمسة أشهر، ولا يجد ما يغيِّره، أو أكثر من ذلك أو أقل، ثم أيضاً لا يتيسر له غسله ولا تنظيفه، حيث إنه لا يملك إلا ذلك القميص أو ذلك الثوب، فيقيم مدةً طويلة لم يغسله، فمع طول المدة يبقى ذلك الثوب متسخاً. كذلك أيضاً كثير منهم أصحاب عمل في مزارعهم وفي أشجارهم، ومع كثرة العمل ومع التعب تتسخ الأبدان، ويكون فيها العرق الذي يتجمد فوقها، ومع اتساخ البدن وطول العهد بالنظافة يتولد القمل، وتتولد الروائح المنتنة التي تؤذي المصلين. فإذا جلس من هذه حالته إلى جانب غيره تأذى برائحته، وتأذى بوسخه، فاشتكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع أن المسجد لم يكن فيه تهوية، وليس فيه تكييف، بل هو يضيق بهم، ويكتظ بالمصلين، والجو شديد الحر؛ فلذلك ونحوه تضرروا لذلك، واشتكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأرشدهم إلى هذا الأمر الذي هو الاغتسال؛ رجاء أن يخفف هذا الأمر الذي يتأذى منه الكثير، فهذه هي الحكمة في الأمر بالاغتسال، فلذلك نقول: من كانت هذه حالته وجب عليه أن يغتسل، حتى لا يتأذى به المصلون، ولا تتأذى به الملائكة، ومن كان حديث عهد بنظافةٍ وباغتسال فلا يجب ذلك عليه

نظافة المساجد

نظافة المساجد سن التنظُّف يومَ الجمعة والتطيُّبُ ولُبسُ أحسنِ الثياب والسواكُ وما أشبه ذلك، وكلُّ ذلك لأجل ألَّا يؤذي بعض المصلين بعضاً، وكله لأجل أن يحترموا ذلك اليوم وذلك المكان، فالمساجد لها أهميتها وحرمتها، وكذلك المصلون، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الملائكة (أنهم يتأذون مما يتأذى منه بنو آدم) ، ولذلك نهاهم عن أكل الثوم والبصل قرب وقت الصلاة حتى لا يتأذى بهم الملائكة أو المصلون؛ لأن الثوم والبصل لهما رائحة مُسْتَنكَهة مُسْتَكرَهة في مَشامِّ الناس، والملائكة تتأذى وإن لم يكن هناك أحد من بني الإنسان، فكل ما فيه رائحة مستكرهة في مشام الناس كالوسخ والقذر والقذى ونحو ذلك فينبغي صيانة المساجد عنها. وقد وردت الأحاديث في تنظيف المساجد والأمر بإزالة القذى عنها، ففي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على امرأة كانت تقمُّ المسجد أي: تخرج قمامته وتنظفه-، فلما ماتت قال: (دلوني على قبرها، فصلى عليها) . وكذلك ورد أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (عرضت علي حسنات أمتي وسيئاتها فرأيت في حسناتها القذاة يخرجها الرجل من المسجد) ، يعني: أية قذاة حتى ولو عوداً أو خرقة أو نحو ذلك يدركها البصر، فمن الحسنات إخراجها من المسجد ليبقى المسجد نظيفاً. يقول (ورأيت في سيئات أمتي البصاق يكون في المسجد ولا يدفن) يعني: إذا كان المسجد -مثلاً- رملياً، وقد أنكر عليه الصلاة والسلام على الذين يبصقون في المسجد وأمام المصلين، ورأى مرة بصاقاً في حائط المسجد فساءه ذلك وغضِب حتى قال: (أيحب أحدكم أن يُستقبَل وجهُه فيُبصَق فيه؟!) وقال: (إن أحدكم إذا كان يصلي فإنه يناجي ربه، فلا يبصُق قِبَل وجهه) ، (ولما رأى ذلك البصاق حكَّه بعود ودعا بخلوق -يعني: بطيب- وطيب) . وكل ذلك لأجل أن يكون المسجد نظيفاً، ولأجل أن يكون المصلون قد نظفوا أبدانهم وثيابهم. وكذلك أيضاً: حث على الطيب، وأخبر بأنه محبوب لديه، فيستحب للإنسان أن يكون متطيباً، طيب رائحة الثوب والبدن، ونحو ذلك، حتى يوجد منه رائحة طيبة تقوي القلب، وترغب في المسجد، وترغب المصلين في أداء الصلوات وما أشبه ذلك. وفي ذلك أيضاً: تعظيم لهذه العبادة واحترام لها، بأن يأتي وهو نظيف، قد أزال ما عليه من الوسخ والقذر ونحو ذلك، فهذه هي الحكمة في الأمر بالاغتسال.

أحكام الغسل يوم الجمعة

أحكام الغسل يوم الجمعة وللاغتسال أيضاً أحكام أخرى، منها: أنه يجوز الاغتسال في أول النهار وفي وسطه قبل الصلاة، أما الاغتسال بعد الصلاة فإنه يعتبر قد فات أوانه وذهب وقته؛ وذلك لأن الحكمة فيه -كما عرفنا- الإتيان إلى المسجد وقد نظف بدنه. كذلك أيضاً الاغتسال هو: تعميم البدن بالماء حتى يعمه، وذُكر في بعض الأحاديث: (أن يغتسل كغسل الجنابة) ؛ ولكن إذا كان بعيد العهد من نظافة فإن عليه أن يستعمل ما يزيل الوسخ وينظفه كالسدر أو الأشنان أو الصابون أو ما أشبه ذلك مما هو معروف لإزالة الوسخ ونحوه.

أحكام الخطبة

أحكام الخطبة من الأحاديث التي ذُكرت في هذا الباب: حديث الخطبة، والجمعة تُصلى ركعتين، ويُخطب قبل الركعتين بخطبتين، وبينهما جلسة كما هو معروف ومعتاد. والحكمة من ذلك أن المصلين غالباً يأتون من أماكن نائية، وغالباً قد يكون زيادةً في الأحكام، فيجتمعون ويصلون في هذا المكان، ويتلقون هذه التعليمات من هذا الإمام، فينصرفون وقد تزودوا علوماً لم يكونوا قد سمعوها، ويتأثرون بها، ويعملون بما أُمروا، فهذا هو السبب في شرعية هذه الخطبة. وينبغي للخطباء أن يتحروا الأشياء المهمة التي يحتاج إليها الحاضرون المستمعون، فيتطرقون إليها، فإذا رأوا غفلة من المصلين عن الآخرة رغَّبوهم في الدار الآخرة، وإذا رأوا منكراً من المنكرات قد ظهر حذروهم من ذلك المنكر ونهوهم عنه، وإذا رأوا تقصيراً في الطاعات وتكاسلاً وتأخراً عن بعض العبادات نهوهم وحذروهم عن ذلك التقصير، وهكذا. وليس المراد أن يقتصروا على ذكر الموت أو الزهد في الدنيا والتقلل منها دائماً، بل القصد الموعظة التي تحرك القلوب.

شروط الخطبة وما ينبغي أن تشتمل عليه

شروط الخطبة وما ينبغي أن تشتمل عليه ذكر العلماء خمسة شروط للخطبة، وهي تجتمع في الخطبتين: الشرط الأول: حمد الله والثناء عليه، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يبدأ خطبه إلا بالحمد، وذلك استفتاحاً لذكر الله تعالى، ولأنه إذا لم يبدأ بذلك الأمر فخطبته بتراء أي: ناقصة البركة. الشرط الثاني: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأن الخطب تشتمل على تعليمات، وتشتمل على أدعية، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من أسباب القبول، كما ورد في الحديث: (الدعاء موقوف بين السماء والأرض حتى يُصَلى على النبي صلى الله عليه وسلم) . الشرط الثالث: الوصية بتقوى الله، يعني: أن يكون هناك تذكير وموعظة وتنبيه للناس وتخويف لهم وما أشبه ذلك، ولو لم تأتِ كلمة التقوى ما دام أن هناك ما يقوم مقامها. الشرط الرابع: الشهادة، فقد ورد في حديث: (كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء) ، فيأتي بالشهادتين. والحكمة في ذلك: أن فيهما تجديد العقيدة، والتذكير بالتوحيد، وبحقوق (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) ، وتنبيه الناس إلى علامات وضمانات تتضمنها هذه الشهادة. الشرط الخامس: أن يقرأ آية من القرآن سواءً في أول الخطبة أو في آخرها أو في وسطها، وذلك لأنه مشتهر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ آيات، ويذكر بمعانيها ويدعو إلى ما تتضمنه. ثم لا بد أن تكون الخطبتان مشتملتين أيضاً على تعليمات للأشياء المهمة، من الأحكام التي يجهلها معظم الناس، من الأوامر والنواهي، ونحوها. ولا بد أن تشتمل الخطبة على تعليمات للأشياء المهمة، فبذلك يستفيد الحاضرون من هذه الخطبة. كذلك أيضاً: لما كانت الجمعة بها ساعة الإجابة نُدب أن يدعو فيها، وقد ورد ما يدل على أن ساعة الإجابة هي: وقت أداء الصلاة، ووقت الخطبتين، وما أشبه ذلك، فقد روي أنه أقرب إلى أن يكون ساعة الإجابة، فلما كان كذلك استُحب للخطيب أن يكثر من الأدعية، وأن يدعو بما يستطيعه، أو بما يتيسر من الأدعية التي هي صلاح عام للإسلام والمسلمين، رجاء أن يصادف ساعة الإجابة، والحاضرون يؤمِّنون على دعائه. ويُستحب إذا دعا أن يرفع يديه، فإن رفع اليدين من أسباب إجابة الدعاء، كما في حديث سلمان (إن ربكم حيي كريم، يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً) يعني: خاليتين. وإذا رفع الإمام يديه للدعاء فعلى المأموم أن يرفع يديه للتأمين، فالمأمومون يؤمِّنون على الدعاء؛ رجاء أن تُقبل دعوتهم جميعاً، والله قد وعد بإجابة الدعاء ما لم يكن فيه إثم أو قطيعة رحم؛ لقوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] . الشرط السادس: أنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب الجمعة خطبتين، وكذلك كان في العيد يخطب خطبتين، وكان يجلس بين الخطبتين، وذلك أيضاً دليل على أنه يطيل الخطبة، فإنه ما جلس إلا وقد خطب خطبة طويلة احتاج إلى أن يجلس ليستريح قليلاً ثم يستقبل الخطبة الثانية. وتشتمل الخطبة الثانية أيضاً: على حمد وثناء ووصية بالتقوى، وعلى شهادة وترغيب وترهيب، وعلى قراءة آية وما أشبه ذلك، فهي أيضاً اسمها خطبة، فيخطب خطبتين يفصل بينهما بجلوس.

مقدار الخطبة

مقدار الخطبة لا يُستنكر إطالة الخطبة ما دام أنه صلى الله عليه وسلم كان يجلس بينهما، فالحكمة في هذا الجلوس الاستراحة، ومعلوم أنه لا يحتاج إلى استراحة إذا كانت الخطبة عشر دقائق أو خمسة عشر دقيقة، فدل على أنه يطيل، فتكون الخطبة -مثلاً- نصف ساعة أو ثلثي ساعة، يخطب خطبة ثم أخرى بعدما يجلس بينهما، فلأجل هذا لا يُستنكر على الخطيب الذي يخطب ثلث ساعة أو خمس وعشرين دقيقة أو ثلاثين دقيقة، لا يُستنكر عليه، فإن الجلوس بينهما دليل على أنه يطيل في هذه الخطبة. والأدلة تدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب خطبة متوسطة، ليست بالطويلة التي تستغرق عدة ساعات، وليست بالقصيرة التي تكون في خمس دقائق أو في عشر دقائق، والتي لا يتمكن فيها من تبليغ ما يريد. وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن قصر خطبة الرجل وطول صلاته مئنة من فقهه) يدل على أنه يحث على قصر الخطبة، والمراد بالخطبة القصيرة: التي تبلغ -مثلاً- عشرين دقيقة أو ثلاثين دقيقة، فهذه تعتبر قصيرة، أما الطويلة فهي التي تستغرق ساعة أو ساعتين، هذه هي الخطبة الطويلة التي نهى عنها. إذاً: هو الوسط في اختيار الخطب، وبذلك يعرف أن الحكمة من الخطبة هو التعليم، وذلك لأن الكثير من الناس لا يسمعون إلا إلى الخطب، ولا ينصتون إلا للخطبة، إذا قام واعظ يعظهم بعد الصلاة نفر الكثير منهم، ولم يبق إلا أفراد، وإذا كان هناك محاضرات في أماكن كالمساجد ونحوها لم يحضر إلَّا قلة قليلة، أما الأكثرون فلا يحضرون، وإذا كان هناك مجالس علم لم يحضرها إلَّا أفراد، وإذا كان هناك تعليمات أخرى ببعض الوسائل الحديثة كنشرات أو كتب دينية أو أشرطة دينية لم يستعملها إلا أفراد قلة من الناس، وهم أهل الخير والصلاح، أما هؤلاء العامة الباقون فلا يحضرون إلا خطبة الجمعة، فمن المناسب أن يخطبهم الخطيب بخطبة تناسبهم، وأن يعلمهم التعليمات البليغة، ولا يُستنكر عليه إذا أطال إلى نصف ساعة أو ثلثي ساعة أو ما أشبه ذلك على حسب القدرة، لكن قد يؤمر بالتخفيف إذا رأى منهم نفرة أو شدة كراهية لهذا، وسموا ذلك إطالة، كما كانوا أيضاً يكرهون إطالة الصلاة.

الإنصات للخطيب

الإنصات للخطيب قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قلت لصاحبك: أنصت، يوم الجمعة، والإمام يخطب، فقد لغوت) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من اغتسل يوم الجمعة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر) . وعن سلمة بن الأكوع -وكان من أصحاب الشجرة- رضي الله عنه قال: (كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الجمعة، ثم ننصرف وليس للحيطان ظل نستظل به. وفي لفظ: كنا نجمِّع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس، ثم نرجع فنتتبع الفيء) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة الفجر: {الم * تَنزِيلُ} [السجدة:1-2] السجدة، وفي الثانية: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ} [الإنسان:1] ) . هذه الأحاديث كلها تتعلق بصلاة الجمعة، ومنها ما يتعلق بالمأموم، ومنها ما يتعلق بالوقت والزمان، ومنها ما يتعلق بيوم الجمعة وما يكون فيه. فالحديث الأول يتعلق بالمأمومين في حالة الخطبة، والخطبتان اللتان للجمعة شُرعتا للعظة وللتذكير وللتعليم، والمأمومون الذين يحضرون جاءوا للاستفادة والتعليم، فيلزمهم أن يكونوا متعلمين، وأن يستفيدوا من هذه الخطب، فينصتوا لذلك، فإذا لم ينصتوا لم يستفيدوا، ومع ذلك يحصلون على ضد ذلك وهو نقصان أجرهم، فالمأموم مأمور بأن ينصت للخطبة ويستمع لها، ويطيع لما يقال ولما يلقى، ومنهي عن أن يتكلم أو يتحرك أو يضطرب أو يرفع صوته، ورد في الحديث: (من مس الحصى فقد لغى) ؛ لأن حركته بتسوية الأرض أو تسوية الحصى قد تشوش عليه، وقد تلفت الأنظار نحوه، فيكون ذلك نقص في الصلاة. كذلك أيضاً الكلام، أدنى كلمة في الخطبة ممنوعة كالحديث بكلمة (أنصت) ، فإذا قلت لصاحبك: أنصت، والإمام يخطب؛ فقد لغوت أي: أتيت باللغو، وقد ورد أن اللغو يبطل الصلاة أو ينقصها، وفي بعض الروايات: (ومن لغى فلا جمعة له) وهذا على وجه التهديد، وهو زجر وتهديد عن اللغو في حالة الخطبة. فيؤمر المصلي في حالة الخطبة أن ينصت للخطيب وأن يصيخ له، وأن يرعي سمعه لما يقوله الخطيب، وأن يترك الحركة والالتفات والاضطراب ونحو ذلك حتى لا تبطل صلاته. وكلمة (أنصت) قد تكون مفيدة، وهي أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، ففيها نهي عن منكر تراه من إنسان يتكلم، فتقول له: أنصت، ومع ذلك أخبر في هذا الحديث بأن الذي يقولها يعتبر لاغياً: (فقد لغى، ومن لغى فلا جمعة له) . قد يُستثنى من ذلك: ما إذا احتيج إلى أن يتكلم مع الإمام، فقد ثبت (أن رجلاً دخل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فوقف وناداه طالباً له أن يستسقى) كما ي الحديث المشهور، ويأتينا في الاستسقاء إن شاء الله. كذلك أيضاً كلام الإمام مع غيره، وجوابه له، وقد تقدم أنه لما دخل رجل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب قال له: (أصليت؟ قال: لا. قال: قم فاركع ركعتين) فهنا الكلام من الخطيب لذلك المأموم، والمأموم أجابه بقوله: (لا) . ثم أمره بقوله: (صلِّ) ، فيجوز من الإمام لأحد الحاضرين، ويجيبه إذا سأله. فأما من مأموم لمأموم أو من مستمع لمستمع فلا يجوز؛ لكن إذا رأيت من يعبث فأشر إليه إشارة، والإشارة تكفي حتى لا تلفت أنظاراً نحوك، أو ارمقه وانظر إليه ليدل على إنكارك له ونحو ذلك. وقد يُتسامح في بعض الحركات اليسيرة، مثل رفع الأيدي في الدعاء عندما يدعو الخطيب ويرفع يديه، فالمأمومون يرفعون أيديهم للتأمين على دعائه، هذا مستثنىً وفيه فائدة، فإنه من أسباب قبول الدعاء. كذلك أيضاً: بعض الإخوة يسأل عن استعمال السواك في حالة خطبة الخطيب؟ فنقول: نرى أنه لا يَشْغَلُ، إذا رأى أنه يتسوك والإمام يخطب، فهذه حركة يسيرة لا تَشْغَل البالَ ولا تلفت الأنظار، وليست شبيهةً بتسوية الحصى. كذلك كل مَن رأيتَه -مثلاً- يتخطى رقاب الناس فلك أن تشير إليه، والنبي عليه السلام رأى رجلاً يتخطى الرقاب من صف إلى صف، فقال له: (اجلس فقد آذيت) . وفي رواية: (آذيت وآنيت) فإذا رأيته وأشرت إليه بأنه قد آذى هؤلاء المصلين الذين كونه يتخطى رقابهم، فمثل هذا يكفي فيه الإشارة إليه دون الكلام أو إمساكه ورده حتى لا يتأذى به المصلون؛ لأنه كلما تخطى صفاً التفتوا إليه، وشوش عليهم، وتحركوا لأجل أن يفرِّجوا له فرجةً، وليس له ذلك إلا إذا رأى فرجة في صف من الصفوف قد أخلوا بها، فله والحال هذه أن يتخطاهم حتى يسد تلك الفرجة، وما ذاك إلا لأنهم هم الذين فرطوا وأسقطوا حقهم بترك هذه الفرجة في أثناء الصف. كذلك يقع كثيراً -لا سيما في بعض الأماكن الجامعة حتى في الحرمين- تخطي أولئك الذين يتسولون، بحيث إنهم يؤذون ويتكلمون ويسألون ويطلبون والإمام يخطب، فمثل هؤلاء: يُمنعون؛ لأنه إذا مُنع من كلمة (أنصت) والإمام يخطب ومن حركة تسوية الحصى فكيف يمكنون من كونهم يسيرون بين الصفوف، وكونهم يتخطون الرقاب، ويخرقون الصفوف، ويتكلمون ويشغلون كثيراً من الذين ينظرون إليهم. فعلى الأئمة أن يأمروا بإجلاسهم ومنعهم إذا فعلوا ذلك، وعلى المأمومين إذا رأوهم يتسولون أن يمسكوهم ويقبضوهم ويؤخروهم حتى لا يشوشوا على المأمومين. وبكل حال فالفائدة من ذلك هي: حصول الإنصات والاستماع، وترك ما يشوش على المصلي.

التبكير إلى الجمعة

التبكير إلى الجمعة الحديث الذي بعده يتعلق بفضل التبكير إلى صلاة الجمعة، وقد تقدم لنا حكم الاغتسال، وذكرنا أن الراجح: أنه واجب على من هو بعيد العهد بالنظافة، متسخ البدن أو الثياب أو نحو ذلك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم) وأما إذا كان نظيفاً وحديث عهد بنظافة وليس في بدنه شيء من الوسخ ولا من الروائح المستكرهة؛ فإنه يكون مستحباً في حقه. قوله صلى الله عليه وسلم: (من راح في الساعة الأولى ومن راح في الساعة الثانية ومن راح في الساعة الثالثة) إلخ، يدل على فضل التقدم، وأن الإنسان كلما أسرع وتقدم فإنه له أجر أكبر. و (التقرب) هو: التصدُّق، والقربان هو: ما يُتَقَرب بلحمه، والقرابين هي: التي تُقرَّب إلى الله تعالى، قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً} [المائدة:27] يعني: تقربا به إلى الله تعالى، فالقرابين هي: الذبائح التي تذبح للتقرب بها إلى الله تعالى، ومنه تسمى الأضاحي قرابين، كما في قول ابن القيم: ولأجل ذا ضحى بجعد خالد القـ ـسري يوم ذبائح القربانِ شكرَ الضحيةَ كلُّ صاحب سنةٍ لله درك من أخي قربانِ فالقربان هو: الأضاحي والهدايا ونحوها، وسميت بذلك لكونها تقرب إلى الله تعالى. وهذا التقريب معنوي في قوله: (فكأنما قرب بدنة فكأنما قرب بقرة فكأنما قرب كبشاً أقرن) والبدنة هي: الواحدة من الإبل، والبقرة معروفة، والكبش هو ذكر الضأن، والدجاجة والبيضة معروفتان، والمعنى: كأنه تصدق بها قرباناً، وهذا دليل على فضل التبكير. وبين كل واحد والآخر ساعة، (في الساعة الأولى في الساعة الثانية) والساعة هي الساعة الزمنية؛ لأنها معروفة قديماً، وهذه الساعة التي هي ستون دقيقة هي: الساعة الزمنية. ورد في حديث في سنن ابن ماجة وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يوم الجمعة -يعني: النهار غالباً- اثنا عشر ساعة، منها ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها إلا أعطاه) ، فجعل النهار اثني عشرة ساعة، يعني: النهار المتوسط: اثنا عشرة، والليل: اثنا عشرة، فدل على أن المراد بالساعة هي: الساعة الزمنية، فمعناه: أن الذي يذهب في الساعة الأولى بينه وبين الذي يذهب في الساعة الثانية ستون دقيقة، وهكذا. ومعنى هذا: أنه يذهب مبكراً في أول النهار، والذي يريد أن يكون متقرباً ببدنة، هو الذي يذهب في أول النهار، وكانت الساعة في ذلك الوقت بالتوقيت الغروبي، فكانت الساعة الأولى بعد طلوع الشمس وانتشارها بقليل، فتبدأ الساعة الأولى وتستمر إلى الساعة الثانية، والأذان والخطبة غالباً يكونان في الساعة السادسة إلى عهد قريب. قبل عشرين سنة أو نحوها كان التوقيت بالتوقيت العربي الذي يبدأ من غروب الشمس في كل البلاد، ويبدأ أيضاً من طلوع الشمس أو نحوها، وإذا كان الليل اثني عشرة ساعة من الغروب إلى الطلوع، والنهار اثنا عشر من الطلوع إلى الغروب فتكون الصلاة أداؤها قريب الساعة السادسة أو نحوها. فالنبي عليه الصلاة والسلام حث على التبكير، وحثنا على أن نتقدم وأن نحظى بهذا الأجر، ونحرص أن نكون الذي يذهب في الساعة الأولى وكأنه قرب بدنة، ولا نكون مثل الذي يذهب في الساعة الخامسة وكأنه قرب بيضة، ما قيمة هذه البيضة التي يتصدق بها؟! وماذا تغني؟ ما هذا إلَّا شيء يسير لا أهمية له ولا قيمة له، فيفوته خير كثير، ولو تقدم ساعة أو ساعتين أو ثلاثاً لحصل على هذا الأجر الكبير. فعلى الإنسان ألَّا يزهد في هذا الخير، لا سيما إذا كان عنده وقت فراغ، وعنده سعة وقت، فعليه أن يتقدم، فإنه في تقدمه يشتغل بالأذكار في جلوسه، أو القرآن، أو يستمع لقارئ، أو يصلي ما كُتب له، ولو صلى عشر ركعات، ولو صلى عشرين ركعة، ولو أطال الصلاة أو خففها، فيتقرب بالصلاة والذكر، ويشتغل بالقرآن، ويشتغل بالعلم، وينصت لكلام الله، ولو سكت ولم يتكلم ولم يقرأ لَكُتب في صلاة حيث إن الصلاة هي التي تحبسه، فإنه في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه، والملائكة تستغفر له تقول: (اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ما دام في مصلاه) ، وما دام لا يمنعه أن ينصرف إلا انتظار الصلاة. فما أعظم ذلك من فائدة! وما أكثر الأجر الذي يترتب على ذلك! وما أعظم زهد الناس في ذلك! فأنت تأتي المسجد الجامع قبل أن يؤذن الأذان الأخير بعشر دقائق، فلا تجد فيه إلا صفاً أو صفين، أو ربما أقل من ذلك، ولا يأتي أكثرهم إلا بعد سماع الأذان الأخير الذي هو أذان الخطبة، فتفوتهم هذه الخيرات التي هي هذه القربات، فيفوتهم أجر انتظار الصلاة بعد الصلاة، ويفوتهم استغفار الملائكة لهم، وإذا ما حصلوا هذه الخيرات فما الذي حصلوا عليه؟! ماذا حصلوا عليه من جلوسهم؟! جلوسُهم غالباً إما على فرش مضطجعين عليها وليس لهم شغل، وإما مع أطفال يلعبون معهم، وإما على لهو أو نظرٍ إلى ملاهٍ أو آلات لهوٍ أو نحو ذلك، وإما مع مجموعة يتكلمون في فلان أو علان، ويخوضون في قيل وقال وما لا فائدة فيه، وما علموا قدر ما فاتهم، وما علموا أن هذا الذي فوَّتوه لا يُقْدَر قَدْرُه. فالنبي عليه الصلاة والسلام حثنا على أن نتقرب بالقربات المعنوية التي هي الصدقات المعنوية، والصدقات الحسية فيها أجر، فلو أن الإنسان -مثلاً- رأى حاجة بالناس وشدة جوع، وذبح كل أسبوع بدنة وتصدق بلحمها، لكَثُر الذين يدعون له، وصاروا يترحمون عليه، ويأكلون ويدعون له بأن يتقبل الله منه، أو -مثلاً- تصدق بلحم بقرة وأعطى ذوي الحاجة ونحوها كل أسبوع لكان ذلك خيراً كثيراً، فهذا يحصل له بمجرد أن يتقدم هذه الساعات، ويتقدم هذا الزمان، ويجلس ينتظر الصلاة، ويترك الأشغال، ويشتغل بعبادة الله تعالى، ويترك اللهو والسهو. وذَكر في هذا الحديث أنه إذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر، ورد في بعض الآثار وفي بعض الأحاديث: (أن الملائكة يقفون على أبواب المساجد يوم الجمعة يكتبون الأول فالأول -الأول فلان، الثاني فلان- حتى إذا قام الإمام وخرج للخطبة طوَوا صحفهم وجلسوا يستمعون الذكر) ، فمعناه: أن الذين يأتون بعد الأذان لا يُكتبون في تلك الصحف، وتفوتهم هذه الكتابة التي هي كشاهد على أنهم تقدموا أو على أنهم من أهل الصلاة الذين جاءوا راغبين فيها. صحيحٌ أنه يُحكم بأن الجمعة ابتُدئ في فعلها: من وقت الأذان، ولأجل ذلك يحرم الاشتغال بالأمور الدنيوية بعد الأذان، ولا يجوز البيع ولا الشراء ولا الحرف ولا الأشغال الدنيوية بعد سماع الأذان الأخير، بل كلها تلغى لقوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] ؛ ولكن التقدم فيه خير، والتقدم إلى المسجد والاشتغال بالقربات فيه أجر وخير كبير، يفوت هؤلاء الذين يجلسون ويشتغلون بأمورهم الدنيوية، هذا يتعلق بالتبكير ونحوه.

وقت صلاة الجمعة

وقت صلاة الجمعة حديث سَمُرة يتعلق بوقت الصلاة، يقول فيه: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصعد المنبر بعد الزوال) يعني: يبدأ بالخطبة بعد الزوال مباشرة، (ثم ينصرف وليس للحيطان ظل يُستظل به) ولا يجدون ظلاً يستظلون به، إنما هو ظل قصير ولا يمكن أن يجلس فيه الواحد، وحيطانهم كانت قصيرة، يمكن أن يكون الحائط متراً أو مترين أو نحو ذلك، فإذا انصرفوا يتتبعون الظل، يجدون ظلاً يكفي لأن يضعوا فيه أقدامهم احترازاً من الرمضاء؛ ولكن لا يجدون ظلاً يكفي لأن يجلسوا فيه. فأخذوا من هذا أنه عليه الصلاة والسلام كان يبكر في الصلاة، فيصلي بعد الزوال مباشرة، وأن صلاته وخطبته قد تستغرق -مثلاً- نصف ساعة أو ثلثي ساعة أو ساعة إلا ربع، أو نحو ذلك، حتى يكون للحيطان ظل؛ ولكنه لا يكون ظلاً يكفي للجلوس، وهذا معنى قوله: (ظل يُستظل به) . ومعنى قوله: (نتتبع الفيء) أي: نتتبع الظل لنمشي فيه، فعُرف بذلك أنه يُهتَم بالصلاة ويُبكَّر بها بعد الزوال مباشرة، وربما أباح بعضهم أن تُصلى أو بعضها قبل الزوال. وقد ذهب بعضهم إلى أن وقتها واسع، وأنه يبدأ من خروج وقت النهي. أي: من دخول وقت صلاة العيد، وصلاة العيد معروف أنها تبدأ بعد ارتفاع الشمس قيد رمح، فيقولون: الجمعة كذلك؛ ويستمر وقت الجمعة إلى نهاية وقت الظهر وإلى دخول وقت العصر، وكله وقت الجمعة، فإذا فات ذلك فاتت الجمعة، وإذا دخل وقت العصر وهي لم تُصَلَّ فات وقت الجمعة، فأما ما دام وقت الظهر باقياً فإنهم يصلوا، حتى ولو قبل العصر بنصف ساعة أو بساعة أو نحو ذلك، فلو انشغلوا ولم يأتِهم خطيب إلا قرب وقت العصر صلوها جمعةً كما كانوا يصلونها.

ما يقرأ في فجر يوم الجمعة

ما يقرأ في فجر يوم الجمعة في الحديث الأخير: ما يُقرأ في فجر يوم الجمعة، ففيه: (أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة بهاتين السورتين: سورة {الم * تَنزِيلُ} [السجدة:1-2] السجدة، وسورة: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ} [الإنسان:1] ) . ويذكر العلماء أن تخصيص هاتين السورتين لمعنىً فيهما، لا لأجل اختيار السجدة -مثلاً-، بل لمعنىً في السورتين، فيقولون: إن هاتين السورتين قراءتهما في صبح الجمعة سنة مؤكدة، كان عليه الصلاة والسلام يداوم على ذلك أو يكثر من قراءتهما في صلاة الصبح. سورة {ألم} [السجدة:1] مشتملة على المعاد، مشتملة على الثواب والعقاب، ففيها مبدأ خلق السماوات: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ * يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة:4-5] إلى قوله: {وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ} [السجدة:7] . فذكر خلق السماوات، ثم ذكر خلق الإنسان وأنه بدأه من طين، ثم ذكر بعد ذلك نهايته: {يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} [السجدة:11] . ثم ذكر بعد ذلك البعث في قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [السجدة:12] . والذي يسمعها يتذكر مبدأ الخلق؛ خلق السماوات وخلق الإنسان ووفاته والبعث بعد الموت والحضور عند الرب تعالى في ذلك اليوم، وكون الحاضرين ناكسي رءوسهم يقولون: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} [السجدة:12] . كذلك أيضاً: ذكر الثواب والعقاب في أثناء هذه السورة في قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} [السجدة:20] ، ولما ذكر ثواب هؤلاء ذكر عقاب هؤلاء. فالحكمة في قراءتها: ما اشتملت عليه من المبدأ والمعاد والوعد والوعيد، وليس لأجل السجدة كما يفعله بعض العامة ويعتقدونه، ويعتقدون أن القصد هو السجدة، فيقرأ بعضهم سورة: {اقْرَأْ} [العلق:1] ويقول: سجدت، ويقرأ بعضهم سورة: {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} [الانشقاق:1] ويقول: سجدت، وليس ذلك هو المقصود، بل نفس السورة هي المقصودة. كذلك السورة الثانية أيضاً فيها ذكر المبدأ والمعاد، وذكر الله تعالى فيها المبدأ والمعاد، وذكر فيها الثواب والعقاب. مبدأ الإنسان: {لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} [الإنسان:1] . ومبدأ خلقه: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:2] إلى قوله: {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ} [الإنسان:5] ، هذا هو الثواب، كذلك العقاب: فيما ذَكَرَه. فالحاصل: أن هاتين السورتين مقصودتان بالذات، فالذي يريد السنة يقرأهما، وبعض الأئمة يقتصرون على قراءة واحدة منهما، وربما بعض واحدة، وهذا لم يأتِ في السنة، ولا تكون السنة إلا إذا قرأهما كاملتين كما هما، فهذه هي السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبعض العلماء يكره المداومة عليهما مخافةَ أن يُعتقد أن قراءتهما واجبة، وأن الذي لا يقرأهما لا صلاة له، والصحيح: قراءتهما سنة وليس بواجب.

شرح عمدة الأحكام [24]

شرح عمدة الأحكام [24] يوما العيد في الإسلام هما يومان يفرح فيهما المسلمون بإتمام عبادتين عظيمتين: عبادة الصيام ويأتي بعدها عيد الفطر، وعبادة الحج ويأتي بعدها عيد الأضحى، وللعيدين آداب وصلوات وأذكار بينها العلماء، فعلى المسلم أن يحرص على معرفتها.

أحكام العيدين

أحكام العيدين بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب العيدين: وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر يصلون العيدين قبل الخطبة) . وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: (خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأضحى بعد الصلاة فقال: من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب النسك، ومن نسك قبل الصلاة فلا نسك له، فقال أبو بردة بن نيار -خال البراء بن عازب -: يا رسول الله! إني نسكت شاتي قبل الصلاة، وعرفت أن اليوم يوم أكل وشرب، وأحببت أن تكون شاتي أول ما يذبح في بيتي، فذبحت شاتي وتغديت قبل أن آتي الصلاة، قال: شاتك شاة لحم، قال: يا رسول الله! فإن عندنا عناقاً، هي أحب إلينا من شاتين، أفتجزئ عني؟ قال: نعم، ولن تجزىء عن أحد بعدك) . وعن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنهما قال: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر، ثم خطب، ثم ذبح، وقال: من ذبح قبل أن يصلي فليذبح أخرى مكانها، ومن لم يذبح فليذبح باسم الله) ] .

معنى العيد والحكمة من مشروعيته

معنى العيد والحكمة من مشروعيته قوله: (باب صلاة العيدين) العيد في الأصل: كل يوم يكون فيه اجتماع على فرح وسرور، وقد كان في الجاهلية أعياد يجتمعون فيها، فجاء الإسلام بالأعياد الشرعية، فالأعياد الشرعية هي عيد الفطر، وعيد الأضحى، ويتبع عيد الأضحى أيام التشريق التي هي من تمامه، هذه هي الأعياد الشرعية، ولا شك أن لها مناسبة، فمناسبة عيد الفطر: الإتمام لصيام رمضان، فإذا أتم المسلمون صيام رمضان وقيامه، والعبادة التي فيه، وقاموا بحقوق الله عليهم، ووفقهم ربهم لذلك وأعانهم عليه حتى أتموه، كان ذلك فضلاً كبيراً، ونعمة عظيمة، وعملاً صالحاً كثيراً يكون لهم به أجر كبير، فيفرحون بتوفيق ربهم لهم إذ أتموا صيامهم وعبادتهم، فيكون من آثار هذا الفرح أن يجعلوا عيداً بعد هذا الشهر، هذا العيد لا شك أنهم يشكرون ربهم فيه، ويعبدونه، ويحمدونه على تمام العمل، ويسألونه أن يقبل منهم أعمالهم، وأن يعطيهم ثوابهم؛ ولأجل ذلك يُسمى يوم العيد يوم الجوائز، وكأن الناس بعد انصرافهم من صلاة العيد ينصرف كل منهم بجائزة قد أخذها، لا تشبه جوائز الأمراء، فهذه هي الحكمة في شرعية عيد الفطر، فإنه في غاية المناسبة. وأما عيد الأضحى، فشرع في وقت مناسب، بل هو غاية المناسبة، وهو أداء نسك الحج؛ وذلك لأن الله تعالى لما فرض الحج حدد له زماناً وهو يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق، وجعل هذا الزمان هو الزمان الذي لا يصلح أن يُؤدى الحج إلا فيه، فإذا وفق الله العباد إلى أداء هذا الحج وتكميله ناسب أن يكون هناك عيد يجتمعون فيه، ويؤدون فيه عبادات خاصة أو عامة. كذلك -أيضاً- العشر الأول من ذي الحجة لها مزيتها، ولها فضيلتها، وجميع العباد في كل مكان مأمورون أن يجتهدوا فيها في العبادات، فيصوموا منها ما يتيسر، وأن يصلوا فيها، وأن يكبروا الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، ومأمورون بأن يتعبدوا بعبادات خاصة، كالتسبيح والتكبير والتهليل والصدقة والصلة وما أشبه ذلك، ثم إذا كان آخرها -وهو يوم عرفة- أمروا بأن يحتسبوه ويصوموه، ويجتهدوا في العبادة فيه، فإذا كملوا هذه العشر ناسب أن يكون في آخرها يوم عيد يوم فرح يوم سرور بنعمة الله عليهم، وهو توفيقهم للأعمال الصالحة في هذه المواسم.

الفرق بين عيدي الإسلام وأعياد الكفار

الفرق بين عيدي الإسلام وأعياد الكفار لا شك أن شرعية عيد الفطر وعيد الأضحى من باب الشكر لله عز وجل، ولأجل ذلك لم يبدءوها باللهو واللعب، ولم يبدءوها بالغناء والطرب، ولم يبدءوها بالأشر والبطر، بل ابتدءوها بالصلاة، وهذا دليل على أنها أيام شكر، ولأجل ذلك فالمسلمون في كل مكان إذا أصبحوا في عيدهم -عيد فطر أو عيد أضحى- خرجوا خارج البلاد في طرفها، واجتمعوا رافعين أصواتهم بالتكبير، وصلوا لله لا لغيره صلاة متميزة بالتكبير؛ لأن فيها تكبيراً لا يُكبر في غيرها، وتفتتح كل ركعة بعدد تكبيرات، ثم بعدها يخطبهم الخطباء بخطب تناسبهم، ويبينون لهم الأعمال التي يعملونها في ذلك اليوم، ويبينون لهم ما يجب عليهم، فينصرفون من كل صلاة عيد وقد ازدادوا حسنات، وقد عرفوا الحِكَم والأحكام التي شرعت لها هذه العبادات. وهذا بخلاف أعياد الكفار وأعياد الملاحدة وأعياد الجهلة ونحوهم؛ فإنها أعياد أَشَرٍ وبطر، أعياد لهو ولعب، أيام يتخذون فيها الطبول والرقص والضرب بالدفوف وما أشبه ذلك، يجتمعون فيها على قيل وقال، أو على لهو ولعب، أو على طرب ونحوه، أو على مآكل محرمة، أو ما أشبه ذلك، وقليل ذكر الله عندهم، وقليل شكره، وقليل الاعتراف بفضله، فأين هذا من هذا؟! فأعياد الإسلام مشتملة على ذكر الله وتعظيمه وإجلاله، ولأجل ذلك كان كثير من السلف في أيام الأعياد يحزنون، ويخشون ألا تقبل أعمالهم، كما رئي بعضهم في ليلة عيد وهو ينوح ويبكي على نفسه ويقول: بحرمة غربتي كم ذا الصدود ألا تعطف علي ألا تجود سرور العيد قد عم النواحي وحزني في ازدياد لا يبيد لئن كنت اقترفت خلال سوء فعذري في الهوى ألا أعود فهذا ونحوه هو من الذين يخشون أن ترد أعمالهم؛ فلأجل ذلك يظهر عليهم الحزن. ورأى بعض السلف قوماً في يوم العيد يضحكون فقال: (إن كان هؤلاء قُبِلَ صيامهم فما هذا فعل الشاكرين، وإن كان رُدَّ صيامهم فما هذا فعل الخائفين) ، وهذا يدل على أنهم كانوا يحزنون، مع أن اليوم يوم فرح.

صلاة العيد قبل الخطبة

صلاة العيد قبل الخطبة صلاة العيد التي يُبدأ بها العيد تتميز عن غيرها، فتقدم قبل الخطبة، وهذا بخلاف الجمعة، فالجمعة يُبدأ فيها بأداء الخطبتين وبعدهما الصلاة، وأما العيد فيبدأ بالصلاة ركعتين، ثم بعدها يأتي الخطيب بخطبتين: خطبة بعد خطبة يجلس بينهما، هذا هو المشروع. وفي عهد خلفاء بني أمية كان بعض الخطباء يجعل في خطبته شيئاً من التنقص لـ علي رضي الله عنه لما كان بينهم أو لاتهامهم له بأنه شارك في قتل عثمان رضي الله عنه، فكان الناس إذا بدأ الإمام في الخطبة خرجوا ولم يستمعوا له، فاحتال بعض أمرائهم فقدموا الخطبة قبل الصلاة حتى ينحبس الناس وينتظروا الصلاة، وأنكر عليهم كثير من الصحابة، وقالوا: إن الصلاة تقدم في العيد قبل الخطبة. وانقطع ذلك العمل الذي عمله ذلك الخطيب أو ذلك الأمير والحمد لله، ورجع الناس إلى السنة، وهي: البداءة بالصلاة ثم الخطبة.

الذبح في الأضحى بعد الصلاة

الذبح في الأضحى بعد الصلاة من أحكام عيد الأضحى أن يبدأ بالصلاة قبل الذبح، ففي عيد النحر يتقرب الناس بذبح أضاحي قربة إلى الله تعالى، فيذبحونها للنسك، ويسمونه عند الذبح، فهذا النسك الذي يذبحونه يحيون به سنة أبيهم إبراهيم، فإنه عندما امتحنه الله بذبح ولده فداه سبحانه كما قال: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:107] فقال النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأضاحي: (إنها سنة أبينا إبراهيم) ، وأخبر بأن لهم فيها أجراً، وجعل من أحكامها أنها لا تذبح إلا بعد الصلاة، فلما صلى وخطبهم أخبرهم بأن من ذبح قبل الصلاة فلا نسك له، يعني: كأنه لم يذبح أضحية، وأن وقت الذبح بعد الانتهاء من الصلاة والخطبتين، ولما أخبر بذلك قام هذا الرجل الذي هو خال راوي الحديث البراء بن عازب، وهو أبو بردة بن نيار، وسأله عن هذا الحكم، وهو أنه ذبح قبل الصلاة، وأراد أن تكون شاته أول ما يؤكل في بيته، فذبحها آخر الليل، وطبخ منها، وأكل قبل أن يأتي إلى الصلاة، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بأن شاته شاة لحم، وليست أضحية، وأنها كسائر الذبائح التي تذبح لأجل الصدقة أو لأجل الكرامة أو لأجل اللحم أو نحو ذلك، ولا تكون أضحية إلا إذا ذبحت بعد الصلاة. وحيث إنه ذبحها جاهلاً بالحكم، ولم يكن عنده أضحية يذبحها أخرى إلا عناقاً صغيرة لم تبلغ أن تكون مجزئة، ولكنها أغلى عنده من شاتين -يعني: لسمنها أو للرغبة فيها- فأخبره صلى الله عليه وسلم بأنها تجزئه، ولا تجزئ عن أحد غيره لجهله. وأخذوا من ذلك أنه لابد أن تشتمل الخطبة على بعض أحكام الأضاحي ونحوها، فالخطباء يشرحون للناس أحكام الأضحية حتى يعرفها الناس، وأخذوا من ذلك أن وقت الذبح بعد الصلاة لا قبله، وأن من ذبح لم تجزئه تلك الذبيحة، بل تكون شاة لحم كسائر اللحوم التي تذبح لأجل التفكه ونحو ذلك، وأخذوا من ذلك أن من ذبح قبل الصلاة فعليه أن يذبح أخرى. وقد استدل به بعضهم على أن الأضحية واجبة على من وجد الثمن؛ ولقوله في حديث آخر: (من وجد سعة فلم يضحِ فلا يقربن مصلانا-) ، ولكن لعل هذا من باب التأكيد لها، فالجمهور على أنها مستحبة ولا تصل إلى الوجوب. وعلى كل حال فهي من شعائر الإسلام، وعلى المسلمين أن يهتموا بها، وأن يذبحوا ما تيسر لهم. ولها موضع آخر في باب: الذبائح والأضاحي، وسيأتي في آخر الحج إن شاء الله، وعلى كل حال فمحل ذبحها -كما في هذه الأحاديث- بعد الصلاة وبعد قدر الخطبتين، ومن ذبح فعليه أن يعيد الذبح مرة أخرى. وأخذ من هذا أيضاً أن الذبح يكون باسم الله كما في الحديث الأخير، وهو قوله: (ومن لم يذبح فليذبح باسم الله. فهذا ونحوه دليل على أنه عليه الصلاة والسلام كان يجعل في الخطبة شيئاً من التعاليم ومن العلوم التي تهم المسلمين، ويهتمون بتعلمها وبتعليمها.

شرح حديث جابر: (شهدت النبي صلى الله عليه وسلم يوم العيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة)

شرح حديث جابر: (شهدت النبي صلى الله عليه وسلم يوم العيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة) قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن جابر رضي الله عنه قال: (شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم العيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بلا أذان ولا إقامة، ثم قام متوكئاً على بلال، فأمر بتقوى الله، وحث على طاعته، ووعظ الناس وذكرهم، ثم مضى حتى أتى النساء فوعظهن وذكرهن، فقال: يا معشر النساء! تصدقن؛ فإنكن أكثر حطب جهنم، فقامت امرأة من سطة النساء سفعاء الخدين، فقالت: لم يا رسول الله؟! قال: لأنكن تكثرن الشكاة، وتكفرن العشير. قال: فجعلن يتصدقن من حليهن، يلقين في ثوب بلال من أقرطتهن وخواتيمهن) رواه مسلم. وعن أم عطية نسيبة الأنصارية رضي الله عنها قالت: (أمرنا -تعني: النبي صلى الله عليه وسلم- أن نخرج في العيدين العواتق وذوات الخدور، وأمر الحيض أن يعتزلن مصلى المسلمين) ، وفي لفظ: (كنا نؤمر أن نخرج يوم العيد حتى نخرج البكر من خدرها، وحتى نخرج الحيض؛ فيكبرن بتكبيرهم، ويدعون بدعائهم؛ يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته) ] . قد ذكرنا أن العيد اسم لما يعود ويتكرر مع الاجتماع العام على وجه مخصوص، ويصحبه شيء من الفرح والابتهاج، وأن أعياد المسلمين هي: عيد الفطر، وعيد الأضحى، وهي تعود كل سنة، وعيد الأسبوع هو يوم الجمعة، وذكرنا أن هذه الأعياد شرعت لأجل الابتهاج بنعمة الله تعالى على إكمال ما أتمه لهم، فعيد الأسبوع فيه الفرح والسرور بما يسر الله لهم في ذلك الأسبوع من إقامة العبادة التي هي هذه الصلوات الخمس مدة أسبوع، ثم بعد ذلك يجتمعون في مسجد واحد، ويؤدون هذه الصلاة الخاصة. وعيد الفطر فرح وابتهاج بإكمال الصوم الذي هو ركن من أركان الإسلام، فبعدما يكملونه يظهرون الفرح والسرور، ويصلون هذه الصلاة الخاصة. وعيد الأضحى فرح وابتهاج بإكمال ركن آخر من فرائض الإسلام وهو الحج، وإن لم يكونوا كلهم أدوه، ولكن أداه إخوتهم الذين حجوا وكانوا في المناسك، وهم شاركوهم في بعض الأعمال: من تكبير، وصوم، وذكر، وذبح قرابين، وما أشبه ذلك. هذه هي الحكمة في شرعية هذه الأعياد، وهي أعياد الإسلام، ولا يجوز أن يضاف إليها أعياد أخرى، وقد جاء الإسلام بالاقتصار على هذه الأعياد، فلا يجوز مشاركة اليهود والنصارى في أعيادهم كعيد الميلاد النصراني، وعيد النيروز، وعيد المهرجان، ونحوها من أعياد أهل الكتاب وغيرهم، بل يقتصر المسلمون على أعيادهم الشرعية. وما يعمله المسلمون في هذه الأعياد مخالف لما يعمله أولئك، فاليهود والنصارى ونحوهم يجعلون أعيادهم أشراً وبطراً، ولعباً ولهواً، ومعاصٍ، ومآكل آثمة، ومشارب محرمة، واختلاط رجال بنساء، وغير ذلك من المآثم. وأعياد المسلمين بخلافهم، فهي مشتملة على ذكر، وعلى شكر، مبدوءة بالتكبير في الصباح وفي الليل، ومبدوءة في أول النهار بهذه الصلاة الخاصة التي تختص بالعيد، والتي يكثر فيها المصلون من التكبير الذي أمروا به في قوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة:185] ، فهذه هي أعياد الإسلام وما اشتملت عليه.

الخروج في العيد إلى المصلى ومخالفة الطريق

الخروج في العيد إلى المصلى ومخالفة الطريق في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم العيد، وأنه لم يكن هناك أذان ولا إقامة، وذلك لأنهم خرجوا في ظاهر البلد، فالسنة أن يكونوا في مكان قافر نظيف في خارج البلد، وفي طرف من أطرافها في صحراء، ولعل الحكمة في ذلك: أنهم ببروزهم يفارقون البلد وما فيها، وأنهم بذلك يؤجرون؛ لأنهم متعبدون كلهم لله. ومن الحكمة -أيضاً-: تكثير مواضع العبادة؛ فإنهم يأتون بعبادات في طريقهم، ويأتون بعبادة في مجتمعهم ذلك الذي في خارج البلد. وقد ذكروا -أيضاً- من السنن أن المصلي يخالف الطريق، فإذا خرج من طريق رجع من طريق ثانٍ، هكذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولعل الحكمة في ذلك -أيضاً-: تكثير مواضع العبادة، أو تفقد أحوال البلاد، أو إغاضة المنافقين وتفريح المؤمنين، أو غير ذلك من الحكم.

صلاة العيد ليس فيها أذان ولا إقامة

صلاة العيد ليس فيها أذان ولا إقامة وفي هذه الأحاديث أنه صلى العيد بلا أذان ولا إقامة، وسبب ذلك: أن وقت الصلاة واضح لا حاجة إلى تبيينه، ولا حاجة إلى إيضاحه بشيء زائد، بل هو معلوم ظاهر، فلم يحتج إلى أذان، ولما كانوا قد اجتمعوا، وتكاملوا في ذلك المكان، ورأوا النبي صلى الله عليه وسلم جميعاً قد أقبل متوجهاً إلى المكان الذي أعد للصلاة فيه؛ لم يحتاجوا إلى إقامة، بل قاموا فور وصوله إليهم، فهذا يفيد أنه لا يؤذّن ولا يقام لصلاة العيدين. وفي هذا الحديث أنه بدأ بالصلاة قبل الخطبة، وتقدم ذلك -أيضاً- في الأحاديث التي قبله، وهذه هي السنة: أن يقدم الصلاة، ثم يأتي بعدها بالخطبتين، خلافاً لما في صلاة الجمعة، فإن الجمعة -كما هو معروف- تقدم الخطبتان، ثم يأتي بالصلاة، وقد حدث في عهد ولاية مروان بن الحكم على المدينة أنه قدم الخطبة قبل الصلاة، وتعلل بأن الناس لا يجلسون للخطبة؛ لأنهم كانوا إذا صلوا انصرفوا، وقد أنكر عليه أبو سعيد الخدري، وأنكر عليه من معه من الصحابة، ثم استقر أمر المسلمين على تقديم الصلاة في جميع بلاد الإسلام.

حكم سماع خطبتي العيد

حكم سماع خطبتي العيد دل الحديث على أن سماع الخطبتين سنة، ولكنه مؤكد؛ لأن المسلمين ما خرجوا إلا ليستفيدوا، وما أتوا إلى هذه الصلاة إلا ليستفيدوا مما يسمعوا، ولكن لا يلزمهم الجلوس، بل يجوز بعد الصلاة الانصراف، والأولى جلوسهم حتى يستمعوا تلك المواعظ والنصائح، ويستفيدوا منها.

كيفية صلاة العيد

كيفية صلاة العيد في هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم صلى بهم ركعتين، وقد ذكروا فيها -أيضاً- التكبيرات الزوائد، وأنها في الأولى سبع تكبيرات بعد تكبيرة الإحرام، وفي الثانية خمس تكبيرات بعد تكبيرة القيام، وكلها تكبيرات زوائد. ثم بعد التكبيرات يبدأ في القراءة كما هو معروف، ويقرأ جهراً كما يجهر في صلاة الجمعة. بعد ذلك يخطب، ويضمن خطبته مواعظ وتذكيراً وتنبيهاً، وهذه هي السنة، فالسنة: أن الخطيب يذكر ما يناسب في الحال، فيذكر الناس بربهم، ويذكرهم بنعمه عليهم، ويذكرهم ببعض حقوق الله، ويخوفهم من آثار المعاصي والذنوب، ويقوي هممهم لفعل الطاعات، ويرغبهم في الثواب الأخروي وما أشبه ذلك، وهكذا -أيضاً- يذكر لهم في الخطب شيئاً من الأحكام، فإن كان في خطبة عيد الفطر ذكر لهم زكاة الفطر، وكيف صرفها، وآخر وقتها، وما أشبه ذلك، ويذكر لهم -أيضاً- عملهم في ذلك اليوم، وما ينبغي أن يكونوا عليه من الفرح والسرور بذلك اليوم، وما ينبغي أن يجتنبوه من الأشر والبطر واللهو واللعب وما أشبه ذلك، وإن كان في عيد النحر ذكر لهم الأضاحي، والسنن التي تجب فيها، وما يجزئ فيها وما لا يجزئ، ومصارفها، وما أشبه ذلك. ويذكرهم -أيضاً- بأركان الإسلام وبواجباته، ويحذرهم من الآثام والمحرمات، وما أشبه ذلك، وهذا معنى قوله: (ذكرهم، وخوفهم) .

خطبة النساء في يوم العيد

خطبة النساء في يوم العيد في هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم لما انتهى من خطبته للرجال كان النساء في مكان بعيد، وعرف أنهن لم يصل إليهن صوته، ولم يسمعهن، فأتاهن وخطبهن بخطبة خاصة وذكرهن، وكان من جملة ما ذكرهن تخويفهن بقوله: (تصدقن؛ فإنكن أكثر حطب جهنم) يعني: كأنه عرف أو أطلعه الله على أن النساء ممن يأثمن، لكثرة الأعمال التي يذنبن فيها، وكأنهن استغربن ذلك، ففي بعض الروايات أنهن قلن: لمَ؟ وفي هذا الحديث أنها امرأة واحدة كأنها جريئة، وقوله: (سفعاء الخدين) معناه: جريئة على الكلام، ليس معناه: أنها كانت كاشفة عن خديها، إنما كلمة (السفع) يراد بها: المرأة الجريئة التي لا تستحي أن تتكلم أمام غيرها من الرجال، فهي التي نطقت دون هؤلاء النساء مع كثرتهن، وقالت: لماذا نحن أكثر حطب أهل النار؟ فأخبرهن بأنهن يكفرن العشير ويكفرن الإحسان، و (كفر العشير) أي: كفر الزوج، يعني: أنهن يكفرن إحسان الزوج إليهن، ومثل ذلك في بعض الأحاديث بقوله: (لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط) . وبكل حال: هذا وصف أغلبي، وليس عاماً لهن كلهن، بل فيهن ذوات الإيمان وذوات التقوى، وفيهن من تخاف الله وتراقبه وتعبده، والرجال -أيضاً- فيهم كثير ممن هو جاحد للإحسان وجاحد للمعروف، ولكن وصف إنكار المعروف في النساء أغلب، وعلى هذا جرى هذا الحديث في قوله: (إنكن أكثر أهل النار؛ لأنكن تكفرن العشير وتكفرن الإحسان) . وهذا يدل على أن الإنسان عليه أن يعترف لصاحب الفضل بفضله الذي امتن به عليه، فمن أحسن إليك فلا تنكره، ولا تنكر إحسانه وفضله، واحرص على أن تكافئه، فإن كان إحسانه إحساناً دنيوياً فأحسن إليه بمثل ذلك ما استطعت، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه) هذا في الإحسان الذي هو نفع مالي أو نفع بدني أو نحو ذلك. وأما في الإحسان الذي هو نفع ديني كالفائدة والمعرفة ونحو ذلك فإن عليك -أيضاً- ألا تنكر فضله عليك، بل تدعو له على ذلك، وفي ذلك يقول بعضهم: إذا أفادك إنسان بفائدة من العلوم فلازم شكره أبداً وقل فلان جزاه الله صالحة أفادنيها، وألق الكبر والحسدا ثم لما حثهن النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة أخذن يتصدقن من حليهن؛ لأنه ليس معهن إلا الحلي، وليس معهن حلي ذو قيمة أو ثمن رفيع، إنما معهن أقراط وخواتيم، والقرط هو: ما يعلق في الأذن، والخواتيم: ما يجعل في الأصابع، وغالباً تكون من فضة، فجعلت المرأة تخلع القرط من أذنها وتلقيه في ثوب بلال، وتخلع الخاتم الذي في يدها -وهو من فضة غالباً- وتلقيه في ثوب بلال، حتى يجتمع من ذلك ما يجتمع، ويباع ويتصدق بثمنه على المهاجرين والمستضعفين.

شرح حديث أم عطية: (أمرنا أن نخرج في العيدين العواتق وذوات الخدود)

شرح حديث أم عطية: (أمرنا أن نخرج في العيدين العواتق وذوات الخدود) الحديث الثاني: حديث أم عطية، أخذوا منه وجوب صلاة العيد على كل فرد؛ ففي هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يأمرهم أن يخرجوا النساء، حتى يخرجوا المخدرات، فتخرج الأبكار من خدورهن، وتخرج العواتق وذوات الخدور، حتى تخرج الحيض اللاتي لا صلاة عليهن؛ يخرجن ليذكرن الله إذا ذكره المسلمون، وكذلك -أيضاً- يستمعن ويستفدن من هذا الاجتماع، وهكذا تنزل عليهن الرحمة معهم. ولكن أمر الحيض بأن يعتزلن المصلى، وأن يكن منفردات في مكان ليس ببعيد، ولكنهن ينفردن في مكان خاص لا يختلطن بالمصلين، وأما بقيتهن فيقمن في صفوف الصلاة التي يصلين فيها. ومن هذا الحديث أخذ بعضهم أن صلاة العيد فرض عين، وقال: ما دام أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأن تخرج النساء حتى الأبكار، وحتى المخدرات اللاتي يحتجبن في خدورهن، وحتى الحيض اللاتي لا صلاة عليهن، أمر بأن يخرج لها كل أحد، حتى النساء فكيف بالرجال الذين هم مكلفون وليس لهم عذر ولا مانع؟! فيلزم -إذاً- أن يخرج كل أفرادهم شيوخاً وشباباً وكهولاً، أي: كل من كان عنده قدرة واستطاعة أن يصل إلى المسجد الذي أعد للصلاة، فاستدلوا بهذا على أنها فرض على كل إنسان بعينه. وذهب آخرون إلى أنها فرض كفاية، وقالوا: إن الفريضة حصرت في خمس صلوات؛ لأن ذلك الرجل الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله عن فريضة الله قال له: (خمس صلوات في اليوم والليلة، قال: هل علي غيرها؟ قال: لا، إلا أن تتطوع) فأفاد بأنه لا يُطلب منه إلا خمس صلوات فقط، ولم يطلب منه غير ذلك إلا تطوعاً. ولكن لعل المراد الصلوات اليومية التي يؤديها كل يوم، ولا يدخل في ذلك الصلوات الأسبوعية، أو الصلوات السنوية كهذه الصلاة، وعلى كل حال إذا قلنا: إنها ليست فرض كفاية فإنها مؤكدة، وعلى الإنسان ألا يتركها وهو قادر ليس له عذر.

مشروعية صلاة العيد في المصلى

مشروعية صلاة العيد في المصلى إذا كانت البلاد واسعة جاز أن تصلى في أكثر من موضع، والأصل أنها تصلى في صحراء، ولا يجوز أن تصلى في المساجد العادية إلا إذا لم يجدوا مكاناً صالحاً لأدائها في الصحراء، أو كانت الصحراء بعيدة لا سيما على الضعفاء والمرضى وكبار السن ونحوهم، فحينئذٍ يجوز أن تُصلى في داخل البلد في المساجد، كما فعل ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الكوفة لما اتسعت، فإنه لما اتسعت الكوفة ترك رجلاً يصلي في المسجد في داخل البلد بالمستضعفين ونحوهم، وخرج هو يصلي بالبقية في خارج البلد. والأفضل -أيضاً- أن تكون في مسجد واحد أو في مساجد قليلة، ولا يكثر العدد، وفي هذه الأزمنة في هذا البلد خاصة يكثرون المواضع، بحيث إن بعض الخطباء يسمع خطبة الآخر، وهذا خلاف السنة، بل الأفضل أن يختاروا مسجداً واسعاً، أو يختاروا صحراء واسعة، تتسع لعدد كثير ولو عشرين ألفاً أو ثلاثين ألفاً، فالصحارى كثيرة واسعة، والناس عندهم استطاعة، والصلاة إنما هي مرتان في السنة، وعندهم تمكن؛ لأنهم يجدون السيارة ولو بأجرة، فيخرجون إليها، والأفضل عدم التكرار إلا لعذر. وبكل حال: فإن هذه الصلاة من شعائر الإسلام التي جاء بها وأقرها، واستمر العمل عليها إلى يومنا هذا، وإلى ما شاء الله، ومتى أظهرها المسلمون وتمسكوا بها أظهروا شعائر إسلامهم، وأحيوا سنة نبيهم.

شرح عمدة الأحكام [25]

شرح عمدة الأحكام [25] من رحمة الله بعباده إنذارهم وتخويفهم بما يوجب رجوعهم إليه إذا أكثروا من المعاصي، ومن ذلك ما يحدث في الكون من آيات عظيمة تفزع لها القلوب، كالكسوف والخسوف ونحوهما، ففي حصولهما موعظة وذكرى للذاكرين.

أحكام صلاة الكسوف

أحكام صلاة الكسوف

معنى الكسوف وأسباب حدوثه

معنى الكسوف وأسباب حدوثه قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [باب صلاة الكسوف. عن عائشة رضي الله عنها: (أن الشمس خسفت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث منادياً ينادي: الصلاة جامعة. فاجتمعوا، وتقدم فكبر، وصلى أربع ركعات في ركعتين، وأربع سجدات) . وعن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد من الناس ولا لحياته، فإذا رأيتم منهما شيئاً فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم) . والله أعلم] . هذا باب صلاة الكسوف، ويطلق الكسوف والخسوف على انمحاء النيرين، المحو الذي يكون في النيرين -الشمس والقمر- يسمى كسوفاً وخسوفاً، وقد ذكر في القرآن باسم الخسوف في قوله تعالى: {وَخَسَفَ الْقَمَرُ} [القيامة:8] ، وهذا الخسوف من الحوادث التي تحدث في هذه الكواكب التي سيرها الله تعالى وجعلها آية لعباده، يقول الله تعالى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن:5] يعني أنهما سائران بحساب محدد. ويقول في آية أخرى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس:38] أي: تجري إلى مستقر لها. ثم يقول: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40] ، فهذه الكواكب التي يسيرها الله في هذا السماء هي مسيرة ومذللة بأمر الله تعالى، يشاهدها العباد تطلع وتغرب، ويشاهدون الشمس والقمر تارة مجتمعين ببعضهما كأول الشهر أو آخره، وتارة يكون بينهما بعد ما بين المشرقين، فتكون الشمس في المشرق والقمر في المغرب، أو بالعكس، وذلك دليل على أنهما يسيران بحسبان، فالقمر له منازل، كما في قوله: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} [يس:39] يعني: جعلنا له كل ليلة منزلة ينزلها. فهذا دليل على أن الله هو الذي يسيرها ويسخرها كما شاء، قال تعالى: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} [الرعد:2] أي: كل منهما جار إلى أجل مسمى محدد بأمر الله تعالى. وأجرى الله تعالى العادة بأنه يحصل اضمحلال في هذين النيرين - الشمس والقمر-، يحصل هذا الاضمحلال والمحو الذي يسمى كسوفاً وخسوفاً، ولا شك أن حصوله تغير ظاهر مشاهد معروف، هذا التغير الظاهر لابد أنه آية من آيات الله. وبين أيدينا هذا الحديث الذي ذكر فيه أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، وآيات الله بمعنى الدلالات التي نصبها لعباده ليستدلوا بها على كمال قدرته، وعلى وحدانيته، وعلى أنه المتصرف في الكون وحده دون غيره، فإذا عرف العباد ذلك استدلوا على عظمته وجلاله بهذه الأشياء، فهذا تسميتها آيات، فهما آيتان من آيات الله، أعني الآيات الكونية التي يشهدها العباد ويرونها. وهذه الآيات التي جعلها الله علامات ودلالات على كمال قدرته وكمال تصرفه يعتريها هذا التغير الذي أجراه الله وجعل له أسباباً خفية أو جلية، وأمرهم إذا شاهدوا هذه الأسباب أن يحدثوا عبادة، وأن يحدث لهم شيء من الخوف وشيء من الوجل، وذلك لأن هذا التغير يحدث تغييراً في النفوس، فيكون ذلك سبباً للخوف، ودليل ذلك قول الله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء:59] أي: ما نحدث من الآيات الكونية في النيرين وفي السماء وفي الأفلاك وفي النجوم إلا لأجل أن يخاف العباد، فإذا رأوا هذه الأمور متجددة يتجدد لهم الخوف من الله تعالى وتوقيره وتعظيم حدوده. ولا شك أن الخوف يسبب انزعاجاً في النفوس، هذا الانزعاج لابد أن يفزع العباد فيه إلى عبادة ربهم، ومعلوم أن العبادة تتمثل في الصلاة، والصلاة هي أمثل العبادات وأشهرها وآكدها، فلذلك شرعت في الكسوف صلاة تسمى باسمه (صلاة الكسوف) ، وهذه الصلاة ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وثبتت عن صحابته ثبوتاً قطعياً كثبوت كسوف الشمس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لما مات ابنه إبراهيم، فقال الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم. فخطبهم النبي صلى الله عليه وسلم بعدما صلى بهم صلاة الكسوف، وأخبرهم بأن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، إنما هما آيتان مما يخوف الله به عباده، فلا يجعلوا سببهما موت فلان أو ولادة فلان أو غير ذلك، بل عليهم أن يعتبروهما من الآيات والدلالات، ويعتبروهما من أسباب التخويف. قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة) ، وفي بعض الروايات أنه حث على الذكر وعلى الصلاة والصدقة والعتق والأعمال الصالحة التي تكون سبباً للنجاة؛ مخافة أن يكون ذلك قرب الساعة أو قرب عذاب، أو مقدمة بين يدي عذاب شديد أثاره غضب الله تعالى على العباد بسبب معاص اقترفوها، فعليهم أن يفزعوا إلى الصلاة. نقول بعد ذلك: هذا الكسوف الذي يحدث للشمس ويحدث للقمر له أسباب، وأسبابه قد تعرف بواسطة السير وتسيير الشمس والقمر، ولكن معرفتها ومعرفة تحديد أوقاتها لا يدل على أنها ليست آية من آيات الله، ولا يدل على أنها ليست مما يخوف الله به العباد، بل هي آيات الله، وآيات كونية، وهي مما يحصل به التخويف، ولكن مع ذلك كله قد تعرف أسبابها بالحساب وبالمقدمات وبسير الشمس والقمر. وقد ذكروا أن سبب كسوف الشمس أن القمر في آخر الشهر قد يحول بيننا وبينها، وذلك لأن سير الشمس أسرع من سير القمر، فتدركه وهو سائر؛ لأن القمر في أول الشهر قد يكون أمامها -مثلاً- أو في آخر الشهر فتدركه، فإذا أدركته حال بينها وبيننا، فإذا حال بينها وبيننا عند ذلك اختفت الشمس أو اختفى جزء منها، فاختفى ضوؤها ونورها، فذلك هو الكسوف. ولا شك أن هذا -أي: الحيلولة دونها- آية من آيات الله، فكيف بقمر هذه علاماته وهذه آثاره، ومع ذلك يغطي ضوء الشمس أو جزءاً من ضوئها، وذلك يسبب لنا الخوف، ويسبب لنا الانزعاج ونحو ذلك. أما كسوف القمر فذكروا أن الشمس تنير القمر وتضيئه، وأن ضوءه يأخذه من الشمس، فيستمد ضوءه ونوره من الشمس، ففي وسط الشهر تحول الأرض بينه وبينها، فلا تحصل مقابلته لها حتى يشع فيه نورها، فيحصل بذلك هذا الانمحاء الذي في القمر أو في جزء منه. ولا شك -أيضاً- أن هذا آية من آيات الله، كيف أن هذا الجرم الكبير يحال بينه وبين هذه الشمس البعيدة التي هي بعيدة عنه، أجرى الله ذلك بقضاء وقدر، فما دام كذلك فإنه مما يخاف من حدوثه، ومما يوجب على المسلمين أن يحدثوا عبادة تدل على تعظيمهم لما عظم الله، وخوفهم من آيات الله التي تتجدد، والتي يخشى أن يكون وراءها غيرها، كما قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} [فصلت:53] يعني: نطلعهم على آيات وبراهين ودلالات وحوادث جديدة في الآفاق التي هي الأفق الغربي والشرقي ونحوهما، ونريهم -أيضاً- آيات في أنفسهم، فليعتبروا بذلك.

كيفية صلاة الكسوف

كيفية صلاة الكسوف إذا حصل الكسوف شرعت هذه الصلاة التي تسمى صلاة الكسوف، وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم بصفة في أغلب الصحيحين أنه صلاها ركعتين، كرر الركوع في كل واحدة مرتين كما هو معروف، فقرأ ثم ركع، ثم رفع فقرأ قراءة طويلة دون الأولى، ثم ركع ركوعاً ثانياً، ثم رفع رفعاً عادياً، ثم سجد سجدتين سجوداً عادياً إلا أنه يطوله، ثم قام للركعة الثانية، ثم ركع، ثم رفع فقرأ قراءة طويلة دون الثانية، ثم ركع، ثم رفع فقرأ قراءة طويلة دون الثالثة، ثم ركع، ثم رفع رفعاً عادياً، ثم سجد سجدتين. فهذه صفة من صفاتها، وهي أشهرها. وهناك روايات في صحيح مسلم وفي السنن أنه ركع في كل ركعة ثلاثاً، أي أنه قرأ ثم ركع، ثم رفع فقرأ ثم ركع، ثم رفع فقرأ ثم ركع، ثم سجد، ثم قام للركعة الثانية فقرأ ثم ركع، ثم قرأ وركع، ثم قرأ وركع، ثم رفع وسجد، فيكون قد كرر الركوع ثلاث مرات، وهذا -أيضاً- ثابت في الصحيح. وفي رواية أخرى أنه كرر الركوع أربعاً، فقرأ وركع، ثم قرأ وركع، ثم رفع وقرأ وركع، ثم رفع وقرأ وركع، أربع مرات في كل ركعة، وكل ذلك ثابت. وحمل ذلك على أنها تعددت الوقعات، أي أن الكسوف وقع متعدداً ولو لم ينقل، ولو أنكر ذلك بعض العلماء الأجلاء كشيخ الإسلام ابن تيمية؛ فإن الروايات الصحيحة الثابتة التي رويت من طرق واضحة لا يمكن أن ترد بتلك الاحتمالات، فالصحيح أننا نقول: إنه تعدد الكسوف، ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم مكث بالمدينة عشر سنين، وخلال هذه العشر لابد أن يقع كسوف للشمس وكسوف للقمر في كل سنة كما هو واقع، أو في كل سنة مرتين، أو في كل سنتين مرة، وفي كل مرة لابد أن يصلي، فتلك الصلاة تارة يطيل فيها ويكرر الركعات ونحوها، وتارة لا يفعل ذلك، بحسب ما يقتضيه الحال.

مميزات صلاة الكسوف

مميزات صلاة الكسوف وهذه الصلاة التي شرعت تميزت بميزات خاصة، منها إطالة الأركان، حيث إن القيام يكون طويلاً -أعني القيام الأول-، حتى قال بعضهم: إنه بقدر سورة البقرة. وسورة البقرة طويلة، والقيام الثاني أقل منه، أي: بقدر سورة آل عمران، وسورة البقرة جزءان وقريب من النصف، وسورة آل عمران نحو جزء وربع أو جزء وثلث، وبكل حال فهي أقل من سورة البقرة بكثير، فجزء وربع أقل من جزئين وزيادة. فالقيام الأول في الركعة الثانية لو أطاله -مثلاً- بقدر سورة المائدة فهي أقل بكثير من سورة آل عمران، وبعد ذلك إذا قرأ سورة الأنفال في القيام الأخير فلا شك أن هذه القراءة تستدعي ساعتين أو أكثر من ساعتين، سيما مع الترتيل، وكان عليه الصلاة والسلام يرتل القراءة، وسيما مع إطالة الأركان، فيذكرون أنه إذا ركع أطال الركوع، فيمكن أن يكون الركوع في ربع ساعة أو قريباً من ذلك، والسجود كذلك، ففي كل سجدة من أربع سجدات قد يمكث فيها ربع ساعة، أو على الأقل عشر دقائق ونحو ذلك، وهكذا الرفع الذي قبل السجود، وهكذا الجلسة بين السجدتين قد يجلس فيها -أيضاً- هذا المقدار، فلا شك أن ذلك يستدعي مدة طويلة، فيدل على أنه أطالها، ولأجل ذلك ذكروا أن الشمس قد انخسفت ولم يبق لها ضوء لما حصل الكسوف، ثم لما انتهى من الصلاة كانت الشمس قد تجلت، قد تجلى ذلك الانكساف الذي بها. ولا شك أنها عادة إذا خسفت -والقمر كذلك- قد تمكث ثلاث ساعات، وربما أربع ساعات أو ثلاثاً ونصفاً، فيدل على أنه أطال أركان هذه الصلاة، وأنه مدها مداً طويلاً، وهذا في الروايات التي فيها أنه لما حصل الكسوف كرر الركوع، أي: ركع ثلاث مرات، أو ركع أربع مرات، ولعل ذلك لمعرفته أن ذلك الكسوف يمتد ساعات، فأراد أن يصلي إلى أن يزول الكرب، ولأجل ذلك ورد في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال: (إذا رأيتم ذلك فصلوا وادعوا حتى يكشف ما بكم) . فاستمر على هذا حتى تجلت الشمس وانكشف الكسوف، فلما انكشف سلم، أو علم أنه قد انكشف أو قارب الانكشاف وانقضت صلاته، وبعد صلاته عليه الصلاة والسلام حدثهم ببعض ما جرى له، وذلك لأنه في تلك الصلاة رأوا منه أشياء أنكروها، رأوا منه أنه تقدم وهو في الصلاة، ولما تقدم مشوا وراءه إلى أن وصل إلى قرب الجدار، ثم رأوه بعد ذلك تقهقر-أي: مشى وراءه- فتقهقروا وراءهم حتى ردهم الجدار الخلفي، فأخبر بأنه رأى الجنة، وأنه أراد أن يتناول منها، وذلك هو الذي حمله على أن تقدم، وأنه رأى النار، ثم لما رآها تقهقر خوفاً من لهبها، وذلك لما رأوه مشى وراءه. وأخبرهم في تلك الخطبة أنه رأى أشياء في النار، رأى فيها المرأة التي عذبت في هرة ربطتها حتى ماتت جوعاً، لم تطعمها ولم تتركها تأكل من خشاش الأرض، فرآها تعذب بها، ورأى سارق الحاج الذي هو صاحب المحجن الذي يعلق فيه الأمتعة ويجرها، فإذا فطنوا له قال: تعلق به المحجن دون قصد. وإذا لم يفطن له أخذه، ورآها فيها عمرو بن لحي بن خندف الذي غير دين إبراهيم عليه السلام، رآه يجر قصبه في النار، وهذا دليل -أيضاً- على أنه عليه الصلاة والسلام بعد الصلاة خطبهم أو ذكرهم تذكيراً يفيدهم ما يعملون وما يفعلون في هذه الصلاة، وكذلك ما يجعلهم يخافون. وهذه المكاشفات التي حصلت له، والتي فيها هذا التخويف لا تحصل لغيره؛ لأنها من خصائصه، كونه كشف له عن الجنة، وكشف له عن النار، لا يحصل هذا إلا له عليه الصلاة والسلام، لذلك أخبر بما رآه، وعلى كل حال فهذه الصلاة التي هي صلاة الكسوف من ذوات الأسباب، تفعل عند وجود سببها، ولا تفعل إلا عند كسوف الشمس أو كسوف القمر.

حكم صلاة الكسوف عند الزلازل ونحوها

حكم صلاة الكسوف عند الزلازل ونحوها روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى صلاة الكسوف عند حدوث زلزال وقع في بعض البلاد، فلما حصلت زلزلة في بلد من بلاد المسلمين صلى، أو أمر بصلاة كصلاة الكسوف، فأجاز ذلك بعضهم، أما بقية الحوادث فلا تصلى صلاة الكسوف، فلو حصلت عواصف ورياح شديدة، ولو كانت تقلع الدور، أو تحمل الأمتعة لا يشرع لها صلاة كسوف، وإنما يشرع الدعاء والذكر والصلاة التي هي صلاة عادية مفردة، أو ما أشبه ذلك. كذلك لو حصل غرق، أو حصلت صواعق مغرقة أو ما أشبه ذلك لا يشرع -أيضاً- أن تصلى صلاة الكسوف، إنما صلاة الكسوف وردت في خسوف أحد النيرين، وصلاة ابن عباس عند حصول الزلزلة اجتهاد منه، وإن صلي فلا بأس بذلك عند الزلازل ونحوها.

إطالة صلاة الكسوف

إطالة صلاة الكسوف قال المؤلف رحمه الله تعالى: [عن عائشة رضي الله عنها قالت: (خسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس فأطال القيام، ثم ركع فأطال الركوع، ثم قام فأطال القيام وهو دون القيام الأول، ثم ركع فأطال الركوع وهو دون الركوع الأول، ثم سجد فأطال السجود، ثم فعل في الركعة الأخرى مثلما فعل في الركعة الأولى، ثم انصرف وقد انجلت الشمس، فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تنخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وصلوا وصدقوا، ثم قال: يا أمة محمد! والله ما من أحد أغير من الله سبحانه من أن يزني عبده أو تزني أمته. يا أمة محمد! والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً) ، وفي لفظ: (فاستكمل أربع ركعات وأربع سجدات) . وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: (خسفت الشمس على زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام فزعاً يخشى أن تكون الساعة حتى أتى المسجد، فقام فصلى بأطول قيام وركوع وسجود، ما رأيته يفعله في صلاة قط، ثم قال: إن هذه الآيات التي يرسلها الله تعالى لا تكون لموت أحد ولا لحياته، ولكن الله يرسلها يخوف بها عباده، فإذا رأيتم منها شيئاً فافزعوا إلى ذكر الله ودعائه واستغفاره) ] . هذه الأحاديث من تمام الأحاديث التي تتعلق بصلاة الكسوف، وقد ذكرنا أن الكسوف هو انخساف أحد النيرين الشمس والقمر، وفي هذه الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين في كل ركعة ركوعان وسجودان، ولكن ذكر فيه أنه أطال القيام وأطال الركوع إطالة لم تكن معهودة، كان من آثارها أنه لما انصرف كانت الشمس قد تجلت، مع أنها لما كسفت أظلمت الدنيا، مما يدل على أنها اضمحلت، بمعنى أن الكسوف قد عم الشمس حتى لم يبق لها ضوء ولا نور، ولا شك أنها إذا كانت كذلك تستمر نحو ثلاث ساعات أو أكثر لا تتجلى، فدل على أنه أقام في هذه الصلاة ما لا يقل عن ثلاث ساعات أو قريباً منها، وذلك يستدعي إطالة القيام، وقد ذكرنا أن بعضهم قدره بسورة البقرة -أي: في الركعة الأولى-، وأنه في القيام الثاني في الركعة الأولى أطال القيام أيضاً، ولكن دون القيام الأول، وكذلك القيام الأول من الركعة الثانية دون القيام الثاني من الأولى، وأقلها القيام الرابع الذي هو في الركعة الثانية، وعلى كل حال فلا شك أنه أطال القراءة في هذا القيام، وهكذا -أيضاً- أطال الركوع في كل الركعات الأربع، أطاله بما لا يقل عن ربع ساعة أو ثلث ساعة في كل ركوع، وكذلك السجود، ففي السجدات الأربع لا يقل السجود -أيضاً- عن ربع ساعة أو نحو ذلك، وبذلك تكون هاتان الركعتان أو الأربعة الركوعات تستغرق نحو ثلاث ساعات أو أربع ساعات، وهذا بالنسبة إلى نفس الصلاة ما بين التحريم والتسليم.

تعليم النبي صلى الله عليه وسلم أمته بعض الأحكام المتعلقة بالكسوف

تعليم النبي صلى الله عليه وسلم أمته بعض الأحكام المتعلقة بالكسوف وبعدما انقضى من هذه الصلاة ابتدأ يعلم أمته عليه الصلاة والسلام بعض الأحكام، فعلمهم شيئاً مما يقولونه أو يفعلونه عندما يرون مثل هذه الآيات، وكذلك أخبرهم بأنها من آيات الله عز وجل، فالشمس والقمر آيتان من آيات الله، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [فصلت:37] أي: من الآيات التي جعلها علامة يعرف بها كمال قدرته وكمال تصرفه، فهي من أعظم الآيات، والآيات يراد بها الدلالات والبراهين التي يعرف ما وراءها، فأنت تستدل بهذه الشمس وطلوعها وغروبها وسيرها سيراً معتدلاً لا تختلف فيه بوقت من الأوقات على أن لها مدبراً، وأن لها مصرفاً، ولها آمراً، ولها خالقاً، لا تتأخر ولا تتقدم عن موعدها، فلا شك أن هذا تقدير العزيز العليم، وهذا كونها آية من آيات الله، وهكذا سير القمر في فلكه، وكونه على حد محدود، وكونه لا يتقدم ولا يتأخر، بل سيره منتظم، ففي كل يوم له سير، وفي كل ليلة له منزلة ينزلها تتأخر عن المنزلة التي في اليوم الذي قبله، وهكذا يسير سيراً منتظماً، كما في قول الله تعالى: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} [يس:40] يعني: أن تستولي على القمر وتذهب آياته. وعلى كال حال فهي آية من آيات الله، وقد ذكر الله عز وجل أنها من آياته في قوله تعالى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن:5] يعني: كل منهما يمشي بحساب محدد مقدر لا يتقدم ولا يتأخر، فذلك آية من آيات الله. وذكرنا فيما سبق أن الكسوف الذي كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم -كسوف الشمس- وافق يوم موت إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا يعتقدون أن الشمس تكسف لموت عظيم أو نحوه، فقالوا: كسفت لموت إبراهيم. فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا اعتقاد خاطئ، وأنها لا تكسف لموت أحد ولا لحياته، ولكنها من آيات الله التي يخوف الله بها عباده كالآيات التي تحدث في هذا الكون، فيحدث في هذا الكون آيات كزلازل وصواعق وقحط وجدب وغرق أحياناً وفيضانات، ويحصل -أيضاً- في الأفلاك العلوية تغيرات ورياح شديدة وخفيفة، ونحو ذلك، وكل هذه من آيات الله التي يتعرف بها إلى عباده، ويعرفهم كمال قدرته وكمال تصرفه. فهكذا -أيضاً- سير الشمس وسير هذا القمر، وما يجري عليهما من انمحاء وكسوف وخسوف، كل ذلك من آيات الله التي يخوف بها عباده، يقول الله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء:59] ، فإذا رأى عباد الله هذه الآيات فعليهم أن يحدثوا لله عبادة، وعليهم أن يظهروا أثر الخوف، وأن يظهروا المخافة الشديدة من الله، وأن يأتوا بما يستطيعونه من العبادات، ومن جملة ذلك هذه الصلاة الخاصة التي تصلى في هذه المناسبة، ومن ذلك -أيضاً- كثرة الأذكار، أن يكثروا من ذكر الله سبحانه، وكثرة الصدقات التي تدفع العذاب، والتي تكون سبباً لنزول رحمة الله تعالى واندفاع أسباب سخطه، وعليهم -أيضاً- أن يكثروا من ذكر الله ومن دعائه حتى ينكشف ما بهم، وذلك لأن هذه الآيات تسبب لهم مخافة، فتسبب لهم أنهم يخافون من هذه الأشياء التي نزلت بهم، فيحدث لهم هذا الخوف عبادة جديدة يكون من آثارها صلاة وصدقات ونحو ذلك رجاء أن يدفع الله عنهم ذلك العذاب. وقد ذكرنا أن بعض العلماء استحبوا الصلاة كصلاة الكسوف عند حدوث الآيات، فروي أن ابن عباس لما حصل زلزال في بقعة من البقاع صلى بهم صلاة الكسوف لدفع أثر ذلك الزلزال الذي حصل في تلك الأرض، وذهب بعضهم إلى أنه لو حدث -مثلاً- صواعق تنزل من السماء محرقة أو عذاب أو نحو ذلك كان مما يستحب أن يصلى له، ولكن ليس على ذلك دليل، بل الدليل جاء على كسوف الشمس والقمر، وأما الصواعق وكذلك الزلازل وكذلك الرياح الشديدة والرعود والبرق وما هو كذلك كالغرق وما أشبهه فلم يعهد لذلك صلاة، إلا صلاة الكسوف كما سيأتي، إلا أنه يصلى لأجل طلب الله عز وجل الرزق، ودفع الألم والضرر، وبذلك يُعرف أن الشريعة مشتملة على ما يذكر الإنسان بعبادة الله عز وجل، وأن الله تعالى هو المعبود في كل وقت وفي كل حال، وأنه كلما حدثت آية فزع العباد إلى ربهم وخافوه، وعرفوا أنه هو الملجأ وحده، لا ملجأ ولا منجى من ألمه ومن عذابه ومن آياته ومن أسباب سخطه إلا بالفزع إليه. والنبي صلى الله عليه وسلم لما صلى صلاة الكسوف ذكّر العباد بهذه التذكيرات، كقوله صلى الله عليه وسلم: (لا أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (يا عباد الله -ينادي المسلمين-! لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً -وفي بعض الروايات: ولما تلذذتم بالنساء على الفرش-، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله) ، وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام أطلعه الله على ما لم يطلع عليه أمته، أطلعه على أهوال الآخرة، وعلى أفزاعها وشدائدها، وعلى ما فيها من الآلام والعذاب، فالإنسان لو علم ذلك وتفاصيله، وعلم ما بعده لما تلذذ بهذه الحياة، ولما تنعم بالنعيم الذي فيها، ولما استقرت له الحياة على هذه الحال، بل لتكدر عليه صفو عيشه، وأفزعه ذلك الذي يعلمه، ولأسهر ليله بالدعاء والعبادة، ولأظمأ نهاره وأتعب جسمه وأنهكه خوفاً من العذاب، وقد ذكر مثل هذه الأحوال عن كثير من العبّاد الصالحين الذين لا يهنأ لهم المنام، كلما نام أحدهم ونعس قليلاً قام فزعاً يقول: لم أهنأ بالمنام وأنا أتذكر النار، منعني ذكر النار من أن أنام نومة كاملة أو نومة مستمرة، أو نحو ذلك، هؤلاء هم أهل المعرفة بالله الذين عرفوا أو أيقنوا، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول في هذا الحديث: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً) أي: لكان بكاؤكم أكثر من ضحككم. ومعلوم أن البكاء لا يكون إلا من الخوف، يعني: إنكم ستخافون مما أمامكم خوفاً شديداً يحملكم على أن لا تهنئوا بالمقام، وأن يكثر بكاؤكم ونحيبكم خوفاً من سوء العاقبة، ولا تغركم زينة الدنيا، ولن تضحكوا من المضحكات ولا العجائب ولا غيرها. وأما الغيرة التي ذكرها عن الله تعالى بقوله: (لا أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته) فالغيرة هي الأنفة والحمية التي تكون من الولي إذا زنا أحد من أهل بيته، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يغار في قوله: (إن الله يغار، وإنني أغار) ، وذلك لما ذكر له كلام سعد بن عبادة لما ذكر له أنه يقول: لو وجدت رجلاً على امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح. فقال: (أتعجبون من غيرة سعد؟! لأنا أغير منه، والله أغير مني) ، فالله تعالى يغار على عباده إذا زنا عبده أو زنت أمته، وغيرته لها آثار، هذه الغيرة يكون من آثارها أنه ينتقم من هذا العبد الزاني، ويعاقبه إما عقوبة عاجلة وإما عقوبة آجلة، ولم يذكر في هذا الحديث إلا الزنا، وذلك لأنه الذي تكون منه الغيرة، وذلك لأن الإنسان يغار إذا زنت ابنته، ويغار إذا زنت زوجته، ويغار إذا زنت أمه أو أخته، وتأخذه أنفة وحمية إلى أن يفعل بها ما يردعها، أو يفعل بذلك الزاني الذي اعتدى على حرماته، فهكذا الرب سبحانه وتعالى إذا زنا عبده أو زنت أمته فإنه -ولابد- سيعاقب هذا الزاني إما عاجلاً وإما آجلاً، وعلى كل حال فهذا مثال من الأمثال التي حذر بها النبي صلى الله عليه وسلم من أسباب العذاب، فالعذاب له أسباب كثيرة، عذاب الله تعالى في الآخرة له أسباب كثيرة، ومن أمثلتها وقوع هذه الفاحشة التي مثل بها، وهي فاحشة الزنا، وعلى المسلم أن يجتنب كل الأسباب التي تكون سبباً لنزول العذاب. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

شرح عمدة الأحكام [26]

شرح عمدة الأحكام [26] العبادة أمر تكليفي توقيفي، ولما كانت الصلاة عبادة معلومة الهيئات والصفات كان المطلوب الإتيان بها على صفاتها الشرعية، إلا أنه لما تعذر ذلك حال الخوف أيام قتال العدو خفف الشارع فيها فوردت لها صفات سميت بصفات صلاة الخوف، وفيما يلي ذكر بعضها.

أحكام صلاة الخوف

أحكام صلاة الخوف

مشروعيتها

مشروعيتها قال المؤلف رحمه الله تعالى: [بسم الله الرحمن الرحيم باب صلاة الخوف. عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف في بعض أيامه التي لقي فيها العدو، وقامت طائفة معه وطائفة بإزاء العدو، فصلى بالذين معه ركعة ثم ذهبوا، وجاء الآخرون فصلى بهم ركعة، وقضت الطائفتان ركعة ركعة) . وعن يزيد بن رومان عن صالح بن خوات بن جبير عمن صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة ذات الرقاع صلاة الخوف (أن طائفة صفت معه وطائفة وجاه العدو، فصلى بالذين معه ركعة، ثم ثبت قائماً فأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا فصفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت ثم ثبت جالساً، وأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم) الرجل الذي صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هو سهل بن أبي حثمة] . صلاة الخوف هي صلاة الجماعة التي يصلونها عند مقابلة العدو إذا خافوا أن يفجأهم العدو وأن يأتيهم وهم في نفس الصلاة فيبيتهم ويجتاح أموالهم ويأخذهم على غرة وغفلة. وقد ذكرها الله تعالى في سورة النساء، فقال تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً} [النساء:102] يعني: تمنى الكفار أن تغفلوا عن أسلحتكم فيأخذونها، أو تغفلون عن أمتعتكم فينتهبونها، أو تشتغلون بالصلاة فيميلون عليكم وأنتم في نفس الصلاة. وكان سببها أنهم كانوا في غزوة من الغزوات، ولما كانوا قبل العدو صلوا صلاة الظهر ركعتين؛ لأنهم مسافرون، فلما رآهم المشركون تمنوا أنهم أتوهم وهم في الصلاة، فقالوا: لماذا لم نمل عليهم في الصلاة؟ فعند ذلك صلى بهم العصر صلاة الخوف كما في هذه الأحاديث، وقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم صلاها مراراً، ولها صفات متعددة كلها ثابتة في الصحيح، والأصل فيها الإباحة، فكل صفة من صفاتها ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا بأس بفعلها.

دلالتها وصفاتها

دلالتها وصفاتها وقد استدل بشرعية صلاة الخوف على أهمية الجماعة، وذلك لأنها لم تسقط حتى في شدة الخوف إذا أمكن الإتيان بها جماعة، مع أنها لما شرعت في هذه الحالة أسقط فيها أشياء، وتسومح فيها في أشياء كانت تبطل الصلاة لولا شرعية الجماعة على هذه الحالة، كما سيأتي في هذه الصفات. فلو كانت تصح فرادى لقال لهم: صلوا كما أنتم، فصلوا -يا عشرة- جماعة، وصلوا -يا خمسة- جماعة، وصل -يا واحد- وحدك ونحو ذلك، ولا حاجة إلى أن تجتمعوا كلكم خلف إمام. لكنهم لما أمروا بأن يصلوا خلف إمام واحد، وأن يهتموا بأداء الصلاة جماعة دل على أنها لا تسقط، وإذا لم تسقط في حالة الخوف وفي حالة مقابلة العدو فكيف تسقط في الأمن؟ وكيف يتخلى عنها المصلي ويصلي في بيته وهو آمن، وهو قريب من المساجد، وهو قوي وليس عنده ما يمنعه؟! فلا شك أن التخلف عن صلاة الجماعة قد يؤدي إلى إبطالها، أو يؤدي إلى نفيها؛ حيث لم تسقط في صلاة الخوف أو في شدة الخوف، فكيف تسقط في الأمن وفي الرخاء والطمأنينة والقوة والفراغ؟! وقد ذكرنا أنها رويت بصفات متعددة، وأن كلها جائزة، ففي حديث ابن عمر أنه قسمهم طائفتين: طائفة قابلت العدو تحرس المسلمين المصلين، وطائفة صفت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فصلى بالتي معه ركعة وانصرفوا، ثم وقفوا مقابل العدو وهم في نفس الصلاة، وجاءت الطائفة التي كانت تحرس فصلى بهم الركعة الباقية ثم سلم، فلما سلم قضى هؤلاء ركعة وأولئك المصافون -أيضاً- ركعة، كل واحد صلاها لنفسه بمفرده، فهذا مضمون هذا الحديث. ولا شك أن فيه عملاً كثيراً، فهذه الطائفة الأولى انصرفوا وهم في نفس الصلاة لا يتكلمون، وجاءوا إلى الذين كانوا مصافين للعدو وقاموا مقامهم، ووقفوا مقابل العدو وهم لا يزالون في نفس الصلاة، ووجهوا أو سددوا سهامهم مقابل العدو حتى يحرسوا أنفسهم ويحرسوا إخوتهم الذين يصلون وهم لا يزالون في الصلاة، فساروا بعيداً، وانصرفوا عن القبلة، ولكن كل ذلك محافظة على الجماعة. والطائفة الذين صلى بهم الركعة الباقية كبروا معه وصلوا معه الركعة الأخيرة، ولما سلم قاموا وهم في مكانهم وصلوا الركعة التي بقيت عليهم، وصلى أولئك الركعة التي لم يصلوها معه، فكان لكل واحد منهم ركعة صلاها مع النبي صلى الله عليه وسلم جماعة وركعة صلاها بمفرده بعد السلام، فهذا شرع لأجل حرصهم على أن يصلوا جماعة، وأن يحظوا بالصلاة خلف النبي صلى الله عليه وسلم. هذه هي الصفة في حديث عبد الله بن عمر، أما حديث سهل بن أبي حثمة الذي رواه صالح بن خوات كما عرفنا فذكر أنه جعلهم طائفتين: طائفة قابلت العدو بأسلحتها وبحذرها، تحرس وتحمي ظهور المسلمين، وطائفة جاءت وصفت خلف النبي صلى الله عليه وسلم، فصلى بالتي معه الركعة الأولى وهم في نفس الصلاة، ولما صلى ركعة واحدة أشار إليهم أن يفارقوه وأن يتموا لأنفسهم، فأتموا لأنفسهم، ففارقوا إمامهم في نفس الصلاة وأتموا لأنفسهم ركعة وسلموا، وبقي واقفاً ينتظر الطائفة الأخرى، فجاءت الطائفة التي كانت وجاه العدو، ووقفت هذه الطائفة التي صلت وجاه العدو مقامهم، فجاء الذين يحرسون وصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، وجلس ينتظرهم، فقاموا قبل أن يسلم، وصلوا لأنفسهم كل واحد ركعة، ثم جلسوا، فلما أحس بأنهم قد انتهوا من التشهد سلم وسلموا معه. وهذه الصلاة هي أقرب إلى الصلاة التي ذكرت في الآية، فالله تعالى يقول: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا} [النساء:102] يعني: صلوا ركعة؛ فالركعة لابد فيها من سجود، أي: إذا سجدوا لأول مرة. قال تعالى: {فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} [النساء:102] يعني: يحرسونكم. {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا} [النساء:102] يعني: ما سبق أنهم صلوا قبل. فإذا جاءت الطائفة الأخرى الذين لم يصلوا فليصلوا معك بقية صلاتك. فهذه الصفة التي في حديث سهل هي أقرب إلى الآية، ولأجل ذلك رجحها الإمام أحمد رحمه الله، وهي متفق عليها وثابتة، ففيها أنه قسمهم إلى قسمين: قسم وجاه العد يحرسون ومعهم أسلحتهم، وقسم يصلون معه، فلما صلى بالذين معه ركعة واحدة وقف، وأشار إليهم فأطال الوقوف، ولا شك أنهم فهموا أو علمهم أنه سيقف ويطيل الوقوف، فهم ركعوا لأنفسهم، وكل واحد منهم نوى الانفراد فركع لنفسه ورفع، وسجد لنفسه سجدتين، وتشهد وسلم، وأخذوا سلاحهم، فقاموا وذهبوا حتى جاءوا مكان الطائفة التي صافت العدو، وكانت وجاه العدو فوقفوا مكانهم، وأشاروا إليهم أن: اذهبوا وصلوا مع نبيكم بقية صلاتكم. فهذه الطائفة التي كانت مصافة للعدو أخذت أسلحتها وذهبت، وجاءت والنبي صلى الله عليه وسلم لا يزال واقفاً ينتظرهم، فلما تكاملوا خلفه ركع بهم ورفع وسجد بهم سجدتين وجلس للتشهد، ولما علموا أنه جلس للتشهد أشار إليهم وهو جالس، فقام كل واحد منهم ناوياً شبه انفراد، فصلى كل واحد منهم ركعة لنفسه بركوعها وبسجدتيها وجلس للتشهد، ولما أحس بأنهم أكملوا التشهد سلم بهم فسلموا معه، وتمت صلاته، فالأولون صلوا معه الركعة الأولى، والآخرون صلوا معه الركعة الثانية، هذه هي صلاة الخوف.

صلاة المسايفة ونحوهما مما يأخذ حكمها

صلاة المسايفة ونحوهما مما يأخذ حكمها تشرع صلاة الخوف بصفاتها تلك إذا كان العدو مقابلهم، أو يخافون أن يفجعهم أو يأتيهم على غرة فيتركون من يحرسهم، أما إذا دخل الوقت وهم في حالة القتال، وفي حالة المسايفة يتقاتلون بالأسلحة اليدوية سواء بالرصاص أو بالسيف أو بالرمح أو بالخناجر أو نحو ذلك، ويخشون أن تفوت الصلاة، فماذا يفعلون؟ قال الله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة:239] يعني: إذا كان الخوف شديداً فإن لكم أن تصلوا كيف كنتم، وأن يصلي كل منكم لنفسه راجلاً -أي: على رجليه- أو راكباً على فرسه، (فرجالاً أو ركباناً) ، فيصلي حتى ولو كان يتحرك بيديه أو برجليه، ولو كان مستقبلاً جهة غير القبلة، يصلي مستقبل القبلة أو غير مستقبلها، ويصلي ولو كان يسير ويسعى في طلب العدو ونحو ذلك، وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً صلى وهو يمشي لما كان طالباً لعدو يخشى أن يفوته، فقد أرسل رجلاً من الصحابة ليقتل بعض المشركين من الذين آذوا المسلمين، وذلك المسلم الذي أرسله رأى العدو بعيداً، ودخل عليه وقت الصلاة، فخاف أن تفوته، فصلى وهو يمشي، صلى يومئ إيماءً حتى وصل إليه فقتله. وكذلك ذكروا -أيضاً- أنه تجوز الصلاة للراكب إذا كان مستعجلاً إذا كان يخشى فوات شيء عليه فيصلي أينما كان وجهه إذا كان هارباً أو طالباً، فالهارب هو الذي هرب من عدو إذا قبضه أتلفه أو أهلكه وقتله، فيجوز أن يصلي ولو بالإيماء ولو لغير القبلة راكباً أو ماشياً، كذلك إذا كان طالباً كما ذكرنا، حتى ذكروا أنه لو خاف أن يفوته الوقوف بعرفة، وهو سائر مواصل للسير جاز أن يصلي على بعيره ولو لغير القبلة، ولو لم يأتِ بأركان الصلاة كاملة حتى يدرك الوقوف بعرفة، وهكذا سائر الأحوال المطلوبة. وقد ثبت أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم صلى على راحلته بأصحابه كإمام لما كانوا مرة مسافرين والسماء تمطر فوقهم والأرض تسيل تحتهم ولا يستطيعون النزول، فصفوا رواحلهم، وصار متقدماً لهم على راحلته، فصلى بهم على رواحلهم يومئون إيماءً، ويجعلون الركوع أقرب من السجود. كذلك -أيضاً- في هذه الأزمنة يرخص في الصلاة إذا خيف أن تفوت، فيرخص في الصلاة في المراكب الحديثة؛ وذلك لسعتها، ولتمكن المصلي من أن يستقبل القبلة ويستدير نحوها، ففي السيارة قد لا يتمكن من استقبال القبلة إذا كانت المقاعد موجهة أمام الراكب والسير إلى جهة مخالفة لجهة القبلة، كالذي تكون القبلة خلفه أو عند أحد جانبيه، ففي هذه الحال إن استطاع أن يقف ويستقبل القبلة إذا خشي أن يفوته الوقت لكونه هارباً أو طالباً، أو لا يتمكن من النزول، أو لم يقفوا له حتى يصلي جاز أن يصلي ولو على سريره إذا خشي أن يفوت الوقت. وأما في الطائرة فإن الطائرة قد تستمر ست ساعات أو اثنتي عشرة ساعة في مسيرها ولا تنزل، ففي هذه الحال قد يمر عليه وقتان أو أكثر، ولو لم يصلها لفات الوقت، فله أن يصلي إن وجد متسعاً يصلي فيه صلاة بطمأنينة فإنه يصلي، وإذا لم يجده صلى ولو على كرسيه مستقبلاً أو غير مستقبل؛ لقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] ، وأما القطار فالقطار فيه أماكن متسعة يتمكن المصلي من أن يستدير نحو القبلة، وجهته محددة، فإذا استطاع أن يستقبل القبلة لم تسقط عنه، ويقال كذلك في المراكب البحرية كالبواخر الكبيرة أو الصغيرة إذا كان فيها أماكن متسعة وجهتها محددة، فيستطيع أن يستقبل القبلة وأن يصلي قائماً، إلا أن يكون هناك ما يخشى معه من الوقوف كريح شديدة، أو عواصف، أو أمواج، أو اضطرابات بحرية أو نحو ذلك، فله أن يصلي جالساً، وعلى كل حال فالصلاة إذا خشي فوات وقتها لا يجوز تركها، بل يصليها على حسب حاله. وهذا بالنسبة إلى الفرائض، وأما النوافل فإنها تصلى على أية حالة، فصلاة النافلة يجوز أن يصليها إذا كان مستعجلاً وهو في سيارته يومئ بها إيماءً، كما يجوز أن يصليها وهو ماش على قدميه، أو راكب على بعير أو على حمار كما كان الصحابة يفعلون كذلك، وبطريق الأولى إذا كان على سيارة أو طيارة -مثلاً- فيجوز أن يصليها، وأمرها أسهل، حتى ولو كانت مؤكدة كصلاة الوتر، وسنة الفجر، وراتبة الظهر التي قبلها والتي بعدها، وراتبة المغرب أو العشاء، وقيام الليل، وصلاة الضحى يجوز أن يصليها وهو يسوق سيارته ولو لغير القبلة يومئ بها إيماءً، ويجعل سجوده أخفض من ركوعه؛ ليكون قد أتى بما يستطيعه، فإذا تمكن -مثلاً- من أن يستقبل القبلة في حالة الاستفتاح فعل، وإذا لم يتمكن سقط ذلك عنه كله، وذلك لقوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115] .

شرح عمدة الأحكام [27]

شرح عمدة الأحكام [27] الموت قضاء الله تعالى الذي قضاه على كل نفس منفوسة، إلا أن الله تعالى جعل في شرعه لبني آدم تكرمة لهم وتمييزاً أحكاماً خاصة يلزم المسلمين تطبيقها، وذلك كغسل الميت وتكفينه والصلاة عليه وحمله ودفنه، مما فيه الكرامة للميت والأجر للمشتغل به.

أحكام الميت

أحكام الميت

تغسيل الميت وتجهيزه وممن يكون

تغسيل الميت وتجهيزه وممن يكون قال الله المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [باب في صفة تغسيل الميت وتشييع الجنازة. عن أم عطية الأنصارية قالت: (دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفيت ابنته زينب، فقال: اغسلنها بثلاث أو خمس أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسدر، واجعلن في الآخرة كافوراً أو شيئاً من كافور، فإذا فرغتن فآذنني، فلما فرغنا آذناه فأعطانا حقوه، فقال: أشعرنها إياه -تعني إزاره، وفي رواية: أو تبعاً- وقال: ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها، وأن أم عطية قالت: وجعلنا رأسها ثلاثة قرون) . وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (بينما رجل واقف بعرفة إذ وقع عن راحلته فوقصته -أو قال: فأوقصته-، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تحنطوه ولا تخمروا رأسه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً) ، وفي رواية: (ولا تخمروا وجهه ولا رأسه) . وقال المصنف رحمه الله: الوقص: كسر العنق] . هذه الأحاديث فيها صفة تغسيل الميت وتكفينه، وقد ذكر لنا أن تغسيله وتكفينه من فروض الكفايات، وفروض الكفايات هي التي إذا قام بها بعض المكلفين سقط الإثم عن الباقي، وإذا تركوها كلهم وهم قادرون أثموا كلهم، فيدل على أنهم مكلفون. فإذا مات إنسان بين أهل بلد ففرض عليهم أن يقوموا بتغسيله، ثم بتكفينه، ثم بحمله والصلاة عليه، ثم بدفنه، فريضة عليهم، فإذا قام به بعضهم سقط الإثم عن الباقين، فإذا تركوه كلهم وهم قادرون أثموا كلهم، أي: لحقهم الإثم. وذلك لأن من كرامة ابن آدم أنه بعد موته لا تبقى جثته على الأرض تأكلها السباع والطيور ونحوها لحرمة ابن آدم، بل شرعت مواراته، وشرع دفنه ومواراة جثته، يقول الله تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس:21] أي: شرع أن يقبر. ويقول: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} [طه:55] فهذا دليل على أن دفن المسلم بعد موته من فروض الكفايات، وأما الكفار فلا يعترفون بذلك، بل يحرقون أمواتهم، أو يشرحونهم -كما يقولون-، أو ما أشبه ذلك. ففرض -أولاً- تغسيله رجلاً كان أو امرأة، ففي حديث ابن عباس الذي ذكره المصنف تغسيل الرجل، وفي حديث أم عطية تغسيل المرأة، فدل على أن الرجل أو المرأة بعد الموت كل منهما يغسل، فالمرأة يغسلها النساء والرجل يغسله الرجال.

الحكمة من تغسيل الميت

الحكمة من تغسيل الميت في حديث أم عطية أن زينب إحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أكبر بناته، وقد ماتت سنة تسع، أي: قبله صلى الله عليه وسلم بسنة. ولما ماتت تولى النساء تجهيزها، ومنهن أم عطية، واسمها نسيبة الأنصارية، وهي من الصحابيات اللاتي حملن الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. فذكرت أنه لما أمرهن بالتغسيل أمرهن أن يغسلنها عدداً يحصل به النظافة، فالقصد من التغسيل تنظيف جسد الميت إذا كان فيه وسخ أو نحوه، فإن كان نظيفاً فتغسيله تعبد، كأن ذلك تطهير له، واعتبر بعضهم أن الموت كالحدث يسبب وجود الغسل لا للنظافة ولكن للطهارة، فإن الإنسان إذا أحدث حدثاً أكبر -كما لو وطئ مثلاً أو احتلم- ولو كان حديث العهد بالاغتسال والنظافة فإن عليه أن يغتسل مرة ثانية، ليس للنظافة ولكن لرفع الحدث، فيقولون: إن الموت حدث، فيغسل الميت لتطهيره من ذلك الحدث الذي هو الموت، حتى إذا صلي عليه يكون قد نظف وقد طهر، فتكون الصلاة من طاهر على طاهر. أما إذا كان متسخ البدن بعيد العهد بالنظافة فإنه يغسل بما يزيل الدرن والوسخ الذي عليه، ففي هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهؤلاء النساء: (اغسلنها ثلاثاً، أو خمساً، أو سبعاً، أو أكثر من ذلك -إن رأيتن ذلك- بماء وسدر، واجعلن في الآخرة كافوراً) أمرهن بأن يكون غسلهن وتراً، فالثلاث وتر، فإذا لم ينق إلا برابعة غسل خامسة، فإذا احتاج إلى سادسة فما نظف إلا بست غسلات زيد سابعة، حتى يقطع على وتر؛ لأن الله وتر يحب الوتر، هذا معنى أن يغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً، ومن العلماء من يقول: إذا زاد عن السبع فلا يحتاج إلى الوتر؛ لأنه قال: (أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك) .

كيفية الغسل والمواد المستخدمة فيه

كيفية الغسل والمواد المستخدمة فيه والغسل يبدأ من رأسه إلى قدميه، ويدلك بماء وسدر، فيمر يده عليه ويغسله بالماء والسدر إلى أن يصل إلى قدميه، ثم يعود مرة ثانية ويغسل رأسه إلى قدميه، ثم ثالثة من رأسه إلى قدميه يدلكه، ويبدأ بجنبه الأيمن ثم الأيسر، وبفخذيه الأيمن ثم الأيسر، وبساقيه الأيمن ثم الأيسر، وهكذا. فإذا نقي بالثلاث لم يحتج إلى زيادة. والسدر ورق السدر المعروف، فإذا قطع ورق السدر ويبس وسحق فإنه ينظف به، وكانوا يستعملونه كما نستعمل الصابون في تنظيف الأواني وفي تنظيف الثياب، ويكون له رغوة إذا خلط بالماء، أو رغوة تكون فوقه، فيأخذ تلك الرغوة ويغسل بها شعر رأسه، ويغسل بها شعر لحيته حتى لا يدخل شيء من حبات السدر بين الشعر، فيغسل الرأس والشعر بالرغوة، وأما حثالة السدر فيغسل بها بقية جسده؛ لأنها تزول إذا صب عليها الماء. وحيث إن القصد من الغسل بالسدر التنظيف فقد ذهب بعضهم إلى أن السدر تعبدي، وأنه يستعمل في الغسيل ولابد منه، وذهب آخرون إلى أنه للتنظيف، فيقوم مقامه الصابون أو الأشنان، والأشنان معروف، وهو ثمر شجر يشبه الرمث المعروف، ينبت في شجر من البلاد، تؤخذ زهرته وتسحق بعد أن تيبس، ويقوم مقام الصابون في تنظيف الأواني وتنظيف الثياب ونحوها. فيجوز أن يجعل بدل السدر أشنان أو صابون أو غير ذلك من المنظفات؛ لأن القصد إزالة الوسخ وتنظيف البدن وإزالة ما علق به من درن أو نحوه، وذلك حاصل بالصابون ونحوه. فالحاصل أنه أمر بغسلها ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً بماء سدر. يقول بعضهم: إن السدر يجعل في إناء، والماء يجعل في إناء، فيؤخذ غرفة من السدر ويدلك بها الجسد، ثم يصب عليها ماءً حتى يزول أثرها -الذي هو حبات السدر- وتنظف، وكذلك إذا جعل الصابون في قدح ثم أخذ منه غرفة وغسل بها، ثم بعد ذلك أتبع هذا الماء حتى يزيل أثرها ولزوجتها. ثم في هذا الحديث أنه أمر بأن يبدأ بالميامن وبمواضع الوضوء، والمعنى أنه يبدأ بأعضاء الوضوء؛ لأن ذلك يعتبر حدثاً، والمحدث الذي هو عليه حدث أكبر إذا اغتسل بدأ بأعضاء الوضوء ويتوضأ، كما نقل ذلك مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكذلك الميت يغسل، يبدأ بمواضع الوضوء منه، ومواضع الوضوء الوجه واليدان والرجلان، أي: أعضاء الوضوء، فيبدأ بالمضمضة، ولكن لا يدخل الماء في فمه لئلا يحرك النجاسة في باطنه، بل ينظف فمه بإصبعه أو نحو ذلك دون أن يدخل الماء في فمه، وكذلك ينظف المغسل منخريه ولا يدخلهما الماء لهذا السبب؛ لأنه قد يحرك النجاسة، فيقتصر على المسح. ووجهه يغسله كما يغسل بقية بدنه، وذراعاه يغسلهما كذلك، ويمسح برأسه ويغسله، ويغسل بعد ذلك قدميه، وإذا انتهى من أعضاء الوضوء بدأ في التغسيل، فيغسل رأسه، ويبدأ بجانبه الأيمن قبل الأيسر، وذكرنا أنه يغسل برغوة السدر أو بالصابون بعدما يذوب، ثم بعد ذلك يغسل عضده ومنكبه الأيمن ثم الأيسر، وكذلك جنبه الأيمن إلى نصف الصدر ونصف الظهر، ثم يقلبه ويغسل جنبه الأيمن قبل الأيسر، كذلك بعدما يغسل جنبيه إلى حقويه يبدأ فيغسل رجليه، الرجل اليمنى من الفخذ إلى العقب، ثم الرجل اليسرى من الفخذ إلى العقب أو إلى الإبهام، فيغسل الرجل كلها، وهكذا، فهذه تعتبر غسلة، وبعد ذلك يعود مرة ثانية وثالثة إلى أن ينتهي وإلى أن ينظف، فإن لم ينقضِ الوسخ زيد حتى ينقى. أما الغسلة الأخيرة فيجعل فيها كافوراً كما في الحديث، والكافور هو الذي يباع في أماكن العطورات ونحوها، فهذه القطع البيضاء ونحوها تسحق، ثم تخلط بالماء، ثم تجعل في الغسلة الأخيرة، والحكمة فيه أنه يصلب الأعضاء، فقد يكون الماء الذي غسل به حاراً فتستأكل مفاصله وأعضاؤه، فهذا الكافور يكون صلابة في مفاصله وفي أعصابه، فهذه الحكمة في غسله في الأخيرة بالكافور أو بما يقوم مقامه. وبعدما يغسل وينظف ينشف بثوب أو نحوه، ثم بعد ذلك يكفن، وقد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب، وذكرنا أنه وضع فوقها بعدما بسط بعضها فوق بعض، ثم يرد الطرف الأعلى طرفاه بعضهما إلى بعض، ثم الأوسط طرفاه بعضهما على بعض، ثم الأسفل طرفاه بعضهما، ثم بعد ذلك يعقد بالعقد التي تمسكه.

غسل الميت المحرم

غسل الميت المُحرِم والحديث الثاني حديث ابن عباس، وفيه أن رجلاً كان محرماً مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع في عرفة، وفي أثناء وقوفهم في آخر النهار سقط عن دابته وهو محرم، ولما سقط سقط على رأسه فاندقت رقبته فمات وهو محرم، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجهزوه، فأمرهم بالتغسيل، مما يدل على أنه يجب أن يغسل كل ميت حتى ولو كان نظيفاً؛ لأن العادة أن المحرم يكون نظيفاً، فأمر بأن يغسل. وأمر بأن يغسل بماء وسدر (اغسلوه بماء وسدر) ، وهذا دليل على أن السدر كان مستعملاً عندهم لكل ميت؛ لأنه يحصل به التنظيف. وفي رواية أخرى أنه (نهى أن يحنط) ، والتحنيط: هو تطييب الميت بعد أن يغسل، فالحنوط: طيب يجمع من أنواع من العطورات، كالورد والمسك وما أشبههما، فتجمع وتسحق، ثم بعدما ينتهون من تغسيله يجعلون من ذلك الطيب بين إليتيه وفي إبطيه، وفي بطون ركبتيه، وكذلك في سرته وتحت حلقه، وفي أذنيه، وفي المواضع الرقيقة منه، وقد يجوز أن يطيب كله، فهذا يسمى الحنوط. وكل ميت يحنط إلا المحرم، وذلك لأن المحرم باق على إحرامه بعد موته، فلا يحنط -أعني: لا يطيب-، كما أن المحرم في حياته لا يقرب الطيب؛ لأن الطيب من المرفهات، فكذلك بعد موته، أما غير المحرم فيحنط، فيجعل فيه من أنواع هذه الأطياب، والسبب في ذلك ألا تتغير رائحته بسرعة، وأن يبقى معه رائحة طيبة بعد دفنه. وعلى كل حال فقد وردت أدلة تدل على أنه يحنط الميت ويطيب بعدما يغسل. أما المحرم فيكفن في ثوبيه، ومعلوم أن المحرم يكون عليه ثوبان إزار ورداء، والإزار هو الذي يجعل على عورته، والرداء على ظهره، فيكفن فيهما، ولكن لا يغطى وجهه ولا رأسه، بل يكشف؛ لأن المحرم مأمور بكشف رأسه في حالة الإحرام إذا كان رجلاً، فيبقى مكشوف الرأس؛ لأنه يبعث يوم القيامة محرماً ملبياً، وهذا من خصائصه، فيدفن مكشوف الرأس، ويجعل الكفن ساتراً للرقبة وللمنكبين ولبقية البدن، حتى القدمين يسترهما، فالإزار والرداء اللذان هما لباس المحرم يلف فيهما ويعقد ويدفن فيهما فقط، هكذا وردت السنة بدفنه فيهما وعدم تحنيطه وعدم تغطية رأسه. وهذه صفة تكفينه، وصفة تغسيله أنه يغسل بماء وسدر حتى ينقى.

كيفية تكفين الرجل والمرأة وعدد لفائفهما

كيفية تكفين الرجل والمرأة وعدد لفائفهما أما تكفين المرأة فذكر في حديث أم عطية أن النبي صلى الله عليه وسلم ناولهن حقوه وقال: (أشعرنها إياه) ، والحقو هو الإزار، كان عليه إزار يلبسه، وغالباً يكون أبيض كإزار المحرم؛ لأنه خفيف، فأمرهن أن يشعرنها إياه، والشعار: هو اللباس الذي يلي الجسد. والدثار: هو اللباس الظاهر الذي فوق الشعار. ولهذا في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار: (الأنصار شعار والناس دثار) يعني: الناس لحاف أعلى وهم لباس داخلي، يعني أنهم مقربون لديه. وقوله: (أشعرنها إياه) يعني: اجعلنه شعاراً لها. أي: لباساً يلي جسدها. وذكرت أم عطية في رواية أخرى أنه ألقى إليهن خمسة أثواب، مما يدل على أن المرأة تكفن في خمسه، فذلك الشعار الذي هو إزار تشد به العورة كالإزار، ثم خرقة أخرى يلف بها الرأس تسمى الخمار، يلف بها الرأس والوجه والعنق والرقبة، ثم بعد ذلك قميص، وهو ثوب طويل ليس بمخيط، يشق في وسطه خرق للرأس، ويجعل نصفه لحافاً ونصفه فراشاً، فيعتبر كالثوب، إلا أنه ليس بمخيط الطرفين، وهذا لباس ثالث. وبعد ذلك يلف فوقه لفافتين كلفافتي الرجل تلف إحداهما فوق الأخرى، فهذا تكفين المرأة في خمسة أثواب، أولاً الإزار الذي على العورة، ثم الخمار الذي على الرأس، ثم القميص الذي له شبه الجيب فتحة في وسطه، ثم بعد ذلك اللفافتان، أما الرجل فإنه يجعل في ثلاث لفائف كما تقدم؛ لما في الحديث الذي فيه أنه عليه الصلاة والسلام كفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية من كرسف -أي: من قطن- ليس فيها قميص ولا عمامة. فهذه صفة التكفين وصفة الغسل، وبعدهما صفة الصلاة تأتينا إن شاء الله.

أحكام الجنازة

أحكام الجنازة

حكم اتباع الجنازة للرجال والنساء

حكم اتباع الجنازة للرجال والنساء قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه في باب صفة تغسيل الميت وتشييع الجنازة: [عن أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أسرعوا بالجنازة؛ فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم) رواه البخاري. باب في موقف الإمام من الميت. عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: (صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة ماتت في نفاسها فقام في وسطها) . باب في تحريم التسخط بالفعل والقول. عن أبي موسى عبد الله بن قيس رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم برئ من الصالقة والحالقة والشاقة) قال المصنف: الصالقة: التي ترفع صوتها عند المصيبة] . هذه الأحاديث تتعلق بأحكام الجنائز، فمن أحكامها اتباع النساء الجنائز، حيث ورد النهي عن زيارتهن المقابر ولعنهن على ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: (لعن الله زائرات القبور) ، وفي رواية: (لعن الله زوارات القبور) ، ولا شك أن اللعن دليل على التحريم، فهذا يدل على أنه لا تشرع لهن زيارة القبور، كذلك النهي عن اتباع المرأة للجنائز، ومعلوم أن اتباع الجنائز فيه فضل وأجر ثبت فيه قوله صلى الله عليه وسلم: (من صلى على جنازة فله قيراط، ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان. قيل: يا رسول الله! وما القيراط؟ قال: مثل الجبل العظيم -أو القيراطان مثل الجبلين العظيمين-) يعني: من الأجر. وجعل النبي صلى الله عليه وسلم من حقوق المسلمين بعضهم على بعض اتباع الجنائز في قوله: (للمسلم على المسلم ست بالمعروف: يسلم عليه إذا لقيه، ويشمّته إذا عطس، ويعوده إذا مرض، ويتبع جنازته إذا مات، ويجيبه إذا دعاه، ويحب له ما يحب لنفسه) ، ومعنى (يتبع جنازته) أنه إذا مات شيعه وتبعه إلى أن يدفن، فإن ذلك من حقه، ودليل على بقاء المودة له، ومن مواساة ذويه وأهله. ولكن بالنسبة للنساء لا يحق لهن ذلك، وما هو السبب؟ هو ضعف نفوسهن، وقلة تحملهن، وكثرة الجزع والفزع فيهن أكثر من الرجال، وكذلك الفتنة بهن، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم رأى نسوة تبعن ميتاً فقال لهن: (هل تُدلين فيمن يُدلي؟ قلن: لا. قال: هل تَدْفِنَّ فيمن يَدْفِن؟ قلن: لا. فقال: ارجعن مأزورات غير مأجورات؛ فإنكن تفتن الحي وتؤذين الميت) علل بهذا، فأمرهن بالرجوع ولم يمكنهن من الذهاب، أي: تؤذين الأموات بالصراخ وبالنياحة وغير ذلك، وتفتن الأحياء، فالنظر إلى المرأة حتى ولو كانت متحجبة قد يكون فتنة، فلأجل ذلك أمرهن بالرجوع ونهاهن عن الاتباع، وأخبر بأنهن ليس لهن حظ في التشييع، وأن الجنائز يشيعها الرجال، وهم الذين يتولون مواراتها. وثبت -أيضاً- في سنن أبي داود والترمذي بسند صحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى فاطمة جاءت من قبل البقيع، فقال: من أين أتيتِ؟ فقالت: من أهل ذلك الميت عزيتهم في ميتهم. قال: لعلك بلغت معهم الكدأ - والكدأ هو المكان الصلب الذي يعد للمقابر- فقالت: معاذ الله وقد سمعتك تنهى عن ذلك! فقال: لو بلغت معهم الكدأ ما دخلتِ الجنة -أو ما رأيتِ الجنة- حتى يراها جد أبيك) يعني الذي مات كافراً، فهذا فيه وعيد شديد، مع أنها فاطمة الزهراء، وهي ابنة النبي صلى الله عليه وسلم، والعمل الذي هو زيارة للقبر فيه هذا الوعيد الشديد لا شك أنه دليل على التحريم، وهو من أحاديث الوعيد التي يرد فيها الزجر عن بعض الأعمال، فيستدل به العلماء على أنه حرام. فعلى هذا نقول: زيارة النساء للقبور حرام ما دام الوعيد قائماً عليها؛ لأنهن يرجعن مأزورات غير مأجورات، فإذا كانت فاطمة الزهراء لن ترى الجنة حتى يحصل كذا وكذا فلا شك أن هذا دليل على أنه محرم، ولا يغتر بمن كتب يؤيد أو يدعو النساء إلى الزيارة ويفتح لهن الأبواب ويرخي لهن الحجاب، ولا شك أن الذين كتبوا في ذلك واشتهروا بهذا الكتاب قوم رأوا المرأة في تلك البلاد شاركت الرجال، وأصبحت كأنها مع الرجال إلى جنب الرجل، فقالوا: نعطيها -أيضاً- حريتها وحقها في أن تزور القبور كما يزورها الرجل، وأن تشيع الجنائز، وأن تفعل كما يفعل الرجال. واستدلوا بأدلة ليس فيها معنى، قالوا: إن عائشة زارت قبر أخيها. وصحيح أنها زارت قبر أخيها عبد الرحمن، ولكن لم يكن في مقبرة، إنما كان مدفوناً في مكان، مرت عليه في الطريق وعدلت قريباً، حتى إنها اعتذرت عن ذلك وقالت: (لو شهدتك -أي: عند موتك- ما زرتك) أرادت أن تأتي إلى قبره وتسلم عليه وتدعو لأخيها عبد الرحمن حين مات في الطريق بين مكة والمدينة، فلا دلالة في هذا على زيارة القبور. واستدلوا -أيضاً- بأن عائشة قالت: (يا رسول الله! ما أقول إذا زرت القبور؟ فقال: قولي: السلام عليكم) ، ونقول: هذا فيما إذا كانت عابرة طريق فمرت، فإذا مرت المرأة وهي تسير -مثلاً- في سيارة أو راكبة أو ماشية والقبور إلى جنبها قريباً منها وهي عابرة التفتت وقالت: السلام عليكم. أما كونها تدخل داخل الأسوار وتقف عند القبور. وتقول: هذا قبر فلان وهذا قبر فلان -كما هو مشاهد- فهذا ما فعله الصحابيات، ولا فعله المؤمنون. وعلى كل حال المسلم يتمسك بذلك، فليس في ذلك تنقص للمرأة، فالمرأة ما دام أنها عارفة بالأحكام فلا يضرها كونها ممنوعة من الخروج أو ممنوعة من زيارة القبور أو نحو ذلك، ولا ينقصها ذلك، بل يزيد ذلك في كرامتها وفي حشمتها وفي رفعة منزلتها متى عملت بالشريعة كما ينبغي. وأما قول أم عطية في هذا الحديث: (نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا) فالنهي لابد أن يكون بقول: أنهاكم أنهاكن أو بقول: لا تزوروا المقابر لا تأتوا المقابر لا تتبعوا الجنائز، وإذا كان ذلك فالأصل في النهي للتحريم، ولكن فهمت من ذلك أنه لم يكرر، فإنه لما لم يكرر النهي ظنت أنه للكراهة لا للتحريم، فلذلك قالت: لم يعزم علينا. ولكن الأصل أنه للتحريم، فهذا فيما يتعلق باتباع النساء للجنائز.

كيفية مشي الرجال بالجنازة

كيفية مشي الرجال بالجنازة أما اتباع الرجال فورد فيه حديث أبي هريرة، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (أسرعوا بالجنازة؛ فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم) . يقول بعضهم: الإسراع هو سرعة السير، فقوله: (أسرعوا بها) يعني: أسرعوا السير، فإذا حملتموها على رقابكم فسيروا سيراً حثيثاً وسيراً سريعاً. وروي أن بعض الصحابة أو بعض المسلمين حملوا جنازة وصاروا يخبون بها خباً، أي: يسرعون بها السير، فهذا محتمل أن يكون المراد به السرعة بها، ثم قال: (إن تك صالحة فخير تقدمونها إليه) أي: تعجلونها إلى الخير الذي أعد لها في القبر، وإن تك سوى ذلك -غير صالحة- فشر تضعونه عن رقابكم، قد حملتموه على أكتافكم فتضعون عن رقابكم هذا الشر. والاحتمال الثاني -ولعله أوجه- أن المراد بالسرعة هنا سرعة التجهيز، أي: أسرعوا بتجهيز الجنائز فإذا مات الإنسان فأسرعوا بتجهيزه ولا تؤخروه، ولا تتباطئوا في تجهيزه وتحبسوه مدة طويلة، بل بادروا بعد موته وواروه ولا تؤخروه، فإنه إذا كان صالحاً قدمتموه إلى جزائه الذي ينتظره في المعاد، وإذا كان غير صالح ارتحتم من الحمل الذي تحملتموه، وهو الاهتمام بتجهيزه. ومعلوم أن قوله: (فشر تضعونه عن رقابكم) هو أنه إنما يحمله بعضهم، فقد يشيعه -مثلاً- مائة ولا يحمله إلا أربعة -مثلاً- أو عشرة، فعرف أن قوله: (تضعونه عن رقابكم) يعني: تضعون همه، وتضعون شغله، وتضعون العمل الذي تعملونه، يعني: كأنكم حملتم على أكتافكم شيئاً من الهم ومن الأعمال، فإذا جهزتموه وواريتموه فقد وضعتم ذلك الذي حملتموه وقد انتهيتم منه، فهذا هو الأقرب، أن المراد السرعة في تجهيزه. وقد ورد في الإسراع حديث آخر، يقول صلى الله عليه وسلم: (لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله) أي: بعد موته يصبح جيفة ليس فيه حركة وليس فيه روح، فلا ينبغي أن تحبس هذه الجثة بين أهله، بل يسارع في مواراته، فيسرع أهله في تجهيزه تغسيلاً وتكفيناً وصلاة عليه ودفناً، حتى لا يحبس عمَّا هو معد له. فهذا هو الأرجح، ومع ذلك نقول: لا بأس بالسرعة إذا لم يكن فيها مشقة إذا حملوه، وكان الأصل أن الميت يحمل على الرقاب، فيحملونه على رقابهم إلى أن يضعوه عند شفير قبره، لكن في هذه الأزمنة لبعد المسافة استثقلوا ذلك وصاروا يحملونه على السيارات، ولا بأس بذلك، والسيارة معلوم أن سيرها محدود، لا يتمكن من الإسراع بها إسراعاً زائداً عن القدر المحدد، ومع ذلك إذا كان الطريق -مثلاً- خالياً فلا يتباطأ بالسير تباطؤاً تطول مدته، بل يسير السير المعتاد. وهذا عند الحاجة، أعني الحمل على السيارة عند الحاجة لبعد المكان ونحوه، فأما إذا لم يكن هناك بعد ولم يكن هناك مشقة فالحمل على الأكتاف هو الأصل.

موضع حمل الجنازة، وما يستحب لحاملها

موضع حمل الجنازة، وما يستحب لحاملها وأخذوا من قوله: (تضعونه عن رقابكم) أنه يحمل على الرقاب؛ لأن قوائم النعش تحمل على المنكب، وتوضع على الجانب الأيمن أو الأيسر، وقد ورد عن بعض الصحابة أنهم يتربعون في حمله، يحمله أحدهم حتى يستقل به، ويحمله أربعة، فإذا ابتدأ فحمل مقدمه الذي هو عند رأسه من اليمين، وحمله -مثلاً- مسيرة عشرين متراً أو مائة متر انتقل وحمل في الطرف الثاني في المقدمة، وهو يسار مقدمته، ثم بعد مدة انتقل وحمل في المؤخرة، ثم انتقل وحمل في المؤخرة الثانية حتى -كما يقولون- يستقل به، وهكذا غيره، فكلما حمله واحد وسار به هذه المدة حمله الثاني، حتى يشاركوا في حمله كله، وهذا استحباب، أعني التربيع في حمله، وإن حمله في موضع إلى أن انتهى فلا مانع.

موقف الإمام في الصلاة على الجنازة

موقف الإمام في الصلاة على الجنازة أما الحديث بعده فيتعلق بموقف الإمام، فإذا صلى الإمام على الجنازة فأين يقف؟ في هذا الحديث أنه يقف من المرأة عند وسطها، وورد في حديث آخر أنه يقف من الرجل عند صدره، وفي حديث آخر عند رأسه، فهذه هي السنة، فالمرأة يقف عند وسطها، والرجل إما عند صدره أو عند رأسه أو بينهما؛ فإن الصدر والرأس متقاربان، فإن وقف قرب الصدر وقرب الرأس فإنه يكفي ذلك، وعلى كل حال هذا هو المستحب، وإن غير ذلك فلا مانع، فلو وقف عند وسط الرجل أجزأ ذلك، وإذا اجتمعت جنائز رجال ونساء فإنه يجعل وسط المرأة محاذياً لصدر الرجل، فيكون رأس المرأة مقدماً على رأس الرجل، حتى يكون وسطها وصدره متحاذيين فيقف عندهما. وتكون المرأة مما يلي القبلة، والرجل مما يلي المصلي، هكذا ترتيبهم، يقرب الرجل إليه ويجعل المرأة بعده إذا كان في الجنازة رجال ونساء، وإن كان هناك أطفال جعلهم في الوسط بين الرجال والنساء، فهذا ترتيبهم.

حكم النياحة على الميت ونحوها

حكم النياحة على الميت ونحوها أما الحديث بعده فيتعلق بالنهي عن النياحة، والنياحة: رفع الصوت عند الميت بالندب وبالصراخ والصياح ونحو ذلك. ففي هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم برئ من الصالقة والحالقة والشاقة، وفسره الصحابي بأن الصالقة التي ترفع صوتها عند المصيبة، والحالقة التي تحلق شعرها أو تنتفه، والشاقة التي تشق ثوبها أو جيبها أو شيئاً من ثيابها من حر المصيبة. وفي حديث آخر أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية) ، وهذا يعم الرجال والنساء، يعني أن النياحة ليست خاصة بالمرأة، بل إذا ناح الرجل وصاح وشق ثوبه ونتف شعره من حر المصيبة -في زعمه- دخل في الوعيد الشديد: (ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية) ، وكان في الجاهلية يدعون عند الميت بالويل والثبور، إذا مات لهم ميت يقولون: وا ثبوراه! واويلاه! أو دعوى الجاهلية أن يندب ذلك الميت، فيندبه إما باسمه كأن يقول: وا سعداه! وا محمداه! وإما بقرابته كأن يقول: وا ولداه! وا أخيَّاه!، وإما بصفته كأن يقول: وا مطعماه! وا كاسياه! فهذه من دعوى الجاهلية، وهي داخلة في الصياح الذي برأ منه النبي صلى الله عليه وسلم من الصالقة التي ترفع صوتها، والشاقة التي تشق ثوبها، والحالقة أو الناتفة التي تنتف شعرها، ويعم ذلك الرجال والنساء. فإذا عرفنا أن ذلك منهي عنه نعرف الحكمة فيه، ذلك لأن المصيبة مقدرة، فالله تعالى قدر على الإنسان هذه المصيبة وقضاها، ولا راد لقضائه، فإذا علم العبد أنه لا منجى له من هذه المصيبة فليرض بذلك، الرجل تصيبه مصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم، وهذا تعليل. وتعليل ثان: نقول لهذا النادب وهذا الصائح: ماذا ينفعك هذا الصياح؟ وماذا يزيدك؟ وماذا يؤثر فيك؟ هل يرد فائتاً؟ هل يحيى ميتك؟ هل يرد عليك ما فقدته منه؟ لا يفيدك، بل يضرك ويفوتك أجر الصبر الذي هو الاحتساب وطلب الأجر، فأنت إذا لم تصبر على هذه المصيبة كان ذلك مفوتاً لك حارماً لك من أجر المصيبة، والله تعالى قد وعد على الصبر بأجر عظيم في قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:157] ، فالذي يجزع هذا الجزع يفوته هذا الأجر.

مخالفة تناقض التوحيد

مخالفة تناقض التوحيد

الشرك المتعلق بالقبور

الشرك المتعلق بالقبور قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن عائشة رضي الله عنها قالت: (لما اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم ذكر بعض نسائه كنيسة رأينها بأرض الحبشة يقال لها مارية، وكانت أم سلمة وأم حبيبة أتتا أرض الحبشة، فذكرتا من حسنها وتصاوير ما فيها، فرفع رأسه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنو على قبره مسجداً ثم صوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله) . وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، قالت: ولولا ذلك لأبرز قبره صلى الله عليه وسلم، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً) . وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان. قيل: وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين) ، ولـ مسلم: (أصغرهما مثل أحد) ] . الحديثان الأولان يتعلقان بالعمل عند القبور، وفتنة القبور، وما كان لها من الآثار بسبب الجهل، وأم سلمة هند بنت أبي أمية إحدى أمهات المؤمنين، وأم حبيبة رملة بنت أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية، إحدى أمهات المؤمنين، وكلتاهما هاجرتا مع زوجيهما إلى الحبشة، فـ أبو سلمة رجع بـ أم سلمة وتوفي بالمدينة، فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعده، وأم حبيبة توفي زوجها بالحبشة، وتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بالحبشة، وأرسل عمرو بن أمية الضمري فجاء بها. ذكرتا للنبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته تلك الكنيسة، والكنيسة: هي معبد النصارى، فالمعابد التي يتعبدون فيها يسمونها كنائس، ولا تزال تسمى كنائس إلى اليوم، ولا يزالون يتعبدون في كنائسهم. تلك الكنيسة فيها تصاوير وفيها قبور، فأخبرتا بما فيها من حسن، وبما فيها من تصاوير، ولكن ذمهما النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الأمر. أخبر النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مرض موته بأن هذه الكنيسة أقيمت على صور وقبور، كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح من نبي أو رجل صالح من أهل الصلاح ودفنوه صوروا صورته ونصبوها في تلك الكنيسة، وبنوا على قبره مسجداً، أو جاءوا به إلى تلك الكنيسة المبنية ودفنوه فيها. فبنوا على قبور الصالحين أبنية ومعابد، وصوروا فيها صورهم، هذا قبر الولي فلان وهذه صورته، وهذا قبر الولي فلان والنبي فلان وهذه صورته، فيتعبدون في تلك الكنائس التي قد ملئت بتلك القبور وبتلك الصور، يقول ابن القيم -أو ينقل عن بعض السلف-: هؤلاء جمعوا بين الفتنتين: فتنة الصور، وفتنة القبور. ولا شك أن القبور إذا بني عليها وإذا تعبد حولها اتخذت أوثاناً، ولا شك أن الصور إذا نصبت وعظمت اتخذت أوثاناً، كما حصل من قوم نوح لما صوروا تصاوير أولئك الصالحين فطال عليهم الأمر فعبدوهم، قال تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح:23] ، وهذه أسماء رجال صالحين كانوا في قوم نوح، فلما ماتوا أوحى الشيطان إليهم أن انصبوا في مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها صوراً أو تماثيل، وسموها بأسمائهم ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت، جاءهم الشيطان وقال: ما صوروها إلا لعبادتها، فصاروا يعبدونها ويتمسحون بها ويخضعون لها، فإذا دخلوا ركعوا أو فعلوا شبه ركوع، وكانوا يدعون أصحابها ويهتفون بهم، وكذلك -أيضاً- كانوا يذبحون لها وينذرون لها، ونحو ذلك، فمثل هذا خافه النبي صلى الله عليه وسلم على أمته، ففي مرض موته خشي أن يفعل أصحابه به كما فعل أولئك من نَصبِ صورته -مثلاً- منحوتة أو منقوشة، ومن البناء على قبره ونحو ذلك، فذكرت عائشة في الحديث الثاني أنه لما مرض المرض الذي ماته فيه ولم يقم منه، قال: (لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. يحذر مما صنعوا، تقول: ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً) ، وفي بعض الروايات أنه لما نزل به الأجل وصار في سياق الموت طفق يطرح خميصة له على وجهه -والخميصة: كساء له أعلام- فإذا اغتم بها كشفها فقال -وهو كذلك-: (لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) . ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: فقد نهى عنه صلى الله عليه وسلم في آخر حياته، ثم إنه لعن وهو في السياق من فعل ذلك، ثم قال: والصلاة عندها من ذلك وإن لم يبنَ مسجد، وهو معنى قولها: (خشي أن يتخذ مسجداً) يعني: مصلى. فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا على قبره لو كان بارزاً مسجداً، فكل موضع قصدت الصلاة فيه فهو مسجد، بل كل موضع يصلى فيه يسمى مسجداً، قال صلى الله عليه وسلم: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) يعني: موضعاً للصلاة. والحاصل أن في هذا دليلاً على أنه لا يجوز البناء على القبور، خصوصاً قبور الصالحين؛ وذلك لأن البناء عليها ورفعها سبب لتعظيمها، وإذا عظمت صرف لها شيء من حق الله، مع أن أصحابها أموات قد انقطع أملهم، فليس لهم ملكية تصرف. ولما تمادى الجهل واستمر في الأمة من يعظم القبور عبدت القبور، ولا يزال إلى الآن في كثير من البلاد التي تُسمى بأنها بلاد إسلامية يبني الناس عليها بيوتاً، أو يأتون بالصالحين ويدفنونهم في المساجد التي يصلى فيها، وكلما صلوا جاءوا إلى القبر وتمسحوا به، أو أخذوا من ترابه، أو قصدوا الصلاة عنده وزعموا أن الصلاة عنده تقبل أو يضاعف فيها الأجر أو نحو ذلك، فكانوا بذلك متسببين في أن عظموا مخلوقاً غير الله، ولا شك أن هذا التعظيم يؤول بهم إلى الشرك والكفر؛ لأنه عبادة لغير الله، وصرف العبادة لغير الله شرك. فهذا هو السبب في أنه عليه الصلاة والسلام لعنهم على هذا، وأخبر في الحديث الأول بأنهم شرار الخلق، ولا شك أن هذا ذم لهم، ولم يذكر لهم ذنب إلا أنهم يبنون على القبور ويصورون صور الصالحين، فهذا ذنبهم الذي صاروا به شرار الخلق.

اتخاذ القبور مساجد

اتخاذ القبور مساجد وذكر في الحديث الثاني اللعن، فقال: (لعن الله اليهود والنصارى) ، ولم يذكر ذنبهم إلا أنهم اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، وعرفنا أن المساجد المراد بها: المصلى، سواء أكانت مبنية كهيئة المساجد ذوات المحاريب، أم كهيئة الكنائس والصوامع والأديرة التي يتعبدون فيها، أم كانت مقصودة للصلاة عندها وإن لم يكن هناك مسجد، بل يقصدونها لأداء الصلاة عندها، فهؤلاء كلهم قد تشبهوا باليهود الذين يقصدون القبور ويسمونها مشاهد ويعمرونها بالصلاة عندها، قد تشبهوا باليهود، وقد استحقوا ما استحقه اليهود من اللعن (لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) قال ذلك في آخر حياته، فلما علم أن أجله قد قرب خشي أن يتخذ قبره مسجداً. وأما إدخال القبر في المسجد -كما هو عليه الآن- فهذا حصل بعد ذهاب الصحابة، وبعد موت الصحابة بالمدينة كلهم، وفي عهد أحد خلفاء بني أمية لما أراد توسعة المسجد واضطر إلى توسعته من الجهات كلها أدخل في ذلك حجر أمهات المؤمنين، ورأى أن ذلك من الضرورة لتوسعته، ولكن جعلوا القبر في زاوية من زواياه، وجعلوا عليه ثلاثة جدران على هيئة المثلث، حتى لا يتمكن أحد من استقباله، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم قد دعا الله بقوله: (اللهم! لا تجعل قبري وثناً يعبد) ، فأجاب رب العالمين دعاءه فأحيط بثلاثة جدران. وعلى كل حال فلا يزال -بحمد الله- محفوظاً، لا أحد يعبده ولا يطوف به ولا يتمسح به ولا يهتف باسمه ولا غير ذلك، ولو كان في جانب المسجد، والمسجد معروف انفصاله ومعروف أصله، وعلى كل حال فلا يقال إنه وقع ما حذر منه، بل هو دفن في حجرته التي مات فيها، والتي هي حجرة عائشة، ودفن معه أبوها أبو بكر، ثم دفن معهما عمر، فالثلاثة دفنوا في حجرة عائشة، وكانت منفصلة عن المسجد، ولولا أنه خاف أنه إذا أبرز يأتي إليه الجهلة ويتمسحون به ويطوفون به ويذبحون عنده ويتخذونه وثناً أو يصورون صورته وينصبونها وينحتونها أو نحو ذلك، لولا ذلك لأبرز قبره، فلما سمعوا تحذيره من فعل اليهود والنصارى لم يبرزوه خوفاً عليه، بل تركوه بمكانه حتى يكون محفوظاً مراقباً من جهة أهل المسجد، ومن جهة سكان الحجرات ونحو ذلك. فهذا يدل على أنه لا يجوز البناء على القبور، وقد وردت أدلة كثيرة في النهي عن البناء على القبور، والنهي عن اتخاذ السرج عليها، والنهي عن تجصيص القبر وتشييده، وكل ذلك مخافة أن يغتر به الجهلة، فالجهلة إذا رأوا هذا القبر مشيداً مرفوعاً مجصصاً قالوا: هذا دليل على أنه قبر شريف وقبر فيه صالح. فينخدعون بذلك ويتمسحون به، ويصرفون له شيئاً من حق الله تعالى.

أفعال الجاهلية عند المصائب

أفعال الجاهلية عند المصائب أما الحديث بعده فيتعلق بالنهي عن الأفعال الجاهلية التي يفعلونها عند المصيبة، يقول صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية) . هذا من أحاديث الوعيد التي يشدد فيها صلى الله عليه وسلم على بعض المعاصي؛ حتى يكون أبلغ في الزجر، وذلك لأن هذه الأفعال كانت منتشرة في الجاهلية، والجاهلية: ما قبل الإسلام، سميت بذلك لكثرة جهلهم، وعبادتهم صادرة عن جهالة، فمنها أنهم كانوا إذا مات الميت فمن حزنهم عليه ومن شدة وجدهم يضرب أحدهم خده، أو يضرب صدره على وجه الحزن، وعلى وجه التوجع، وضرب الخدود تسخط من قضاء الله، فالذي يفعل ذلك كأنه سخط قضاء الله وقدره، ولم يرض بما قدره ولا بما أصابه، وذلك ينافي الصبر، والله تعالى أمر بالصبر عند المصيبة في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:153] إلى قوله: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:155-156] ، فكونه -مثلاً- يضرب خده بيديه أو صدره أو فخذه أو جنبه، يظهر بذلك التسخط ينافي الرضا، وينافي الإيمان بالقدر والقضاء، وينافي الصبر. كذلك قوله: (من شق الجيوب) ، والجيب هو مدخل الرأس، والفتحة التي يدخل منها الرأس معروفة، كما في قوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] ، فالعادة أنه إذا سمع بالمصيبة أو سمعت المرأة بالمصيبة أنه مات فلان، أو مات أخوه أو أخوها، فأقرب شيء جيبه يمسكه ويشقه، حتى يشق الثوب كله، وربما بقي عرياناً إذا لم يكن عليه سراويل أو إزار، وقد يشق غير الجيب، فيشق الأكمام -مثلاً- أو يشق الثوب من أسفله أو من أحد جانبيه، وكل ذلك تسخط لقضاء الله، وكذلك لو شق -مثلاً- عباءته أو شق عمامته أو نحو ذلك، فكل ذلك من التسخط، ولا شك أن هذا ينافي الصبر، وكذلك دعوى الجاهلية كالتشكي باللسان، وذلك لأنه ينافي الصبر، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم لما مات ابنه دمعت عيناه، فكأن الصحابة استنكروا منه، فقال: (إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا أو يرحم -وأشار إلى لسانه-) يعني أن العذاب على التسخط باللسان، وعلى الصياح والنياحة ونحو ذلك، فالصياح والكلام الرفيع يسمى نياحة، والنائح: هو الذي يدعو بدعوى الجاهلية، فهو الذي ينوح ويندب ويصيح بأعلى صوته لحر المصيبة -في زعمه- في قلبه. ودعوى الجاهلية سميت بذلك لأنهم هم الذين يفعلونها، وسميت (دعوى) ، وتسمى -أيضاً- (ندباً) ، وتسمى (نياحة) ، وقد ورد أنه عليه الصلاة والسلام قال: (النائحة إذا لم تتب تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب) ، والسربال: هو الثوب الذي يلبسه المقاتل، وكذلك الدرع من حديد يلبس في القتال. يقول: إنه يلتصق بجلدها هذا السربال الذي يستر البدن كله، والدرع الذي يستر البدن إلى نصفه إلى الحقوين أو نحو ذلك، والقطران معروف، وهو الذي تطلى به الإبل، وهو مادة سوداء شديدة الحرارة، إذا التصقت بالجلد تمزق الجلد، يطلى بها البعير إذا أصابه الجرب فينسلخ شعره في حينه، وهو معروف باسمه القطران، والجرب معروف، وهو الذي يتشقق به الجلد، حكة تكون في الدواب يتشقق منها الجلد. وعلى كل حال فهذا من العذاب الذي يعذب به النائح، والنياحة -كما فسرت- هي: ندب الميت إما باسمه، كأن يقول: وا محمداه! وا إبراهيماه! وا سعداه! ونحو ذلك يناديه باسمه، وإما بقرابته منه، كأن يقول: وا أبواه! وا أخياه! وا ولداه! وا صديقاه! وما أشبه ذلك، وإما بصفة يصفه بها، كأن يقول: وا مطعماه! وا كاسياه! وا كافلاه! وا ناصراه! يصفه بأنه كذلك، وورد في بعض الأحاديث أن الميت يتألم من هذا الندب، فكلما قالوا له: وا مطعماه! يضرب أو يوبخ فيقال: هل أنت المطعم؟ هل أنت الكاسي؟ هل أنت الكافل؟ هل أنت الناصر؟ فيؤلمه ذلك ويؤلمه كلام أهله. فهذا ونحوه دليل على الزجر عن أفعال الجاهلية من النياحة ومن الصياح ونحو ذلك.

أجر الصلاة على الميت وتشييعه

أجر الصلاة على الميت وتشييعه أما الحديث بعده فيتعلق بالصلاة على الميت وبتشييع الميت، ففيه أن من صلى على جنازة المسلم كان له قيراط من الأجر لا يعلم قدره إلا الله، ومثل بأنه مثل جبل أحد، وإذا تبعها حتى تدفن كان له قيراط آخر، وهذا أجر كبير، ولا شك أن الصلاة عليه فيها شفاعة له ودعاء له بالرحمة، ولأجل ذلك يستحب تكثير المصلين؛ لأن كلاً منهم يدعو للمسلم بالرحمة، وكذلك التشييع، حيث يدعون له في حالة مسيرهم خلفه، وكذلك عند جلوسهم عند قبره، في كل ذلك -أيضاً- يدعون له، وبعد دفنه يدعون له، فهو يصله بذلك أجر، وهم -أيضاً- لهم أجر، كما ذكر في هذا الحديث أن أحدهم يحصل على هذا الأجر، وهو قيراط. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

شرح عمدة الأحكام [28]

شرح عمدة الأحكام [28] الزكاة من أركان الإسلام، وهي سبب لحصول البركة والنماء في المال، وقد أوجبها الله في بهيمة الأنعام من الإبل والبقر والغنم، وأوجبها أيضاً في الزروع والثمار وفي الذهب والفضة، ولكن بشروط لابد من معرفتها كالنصاب والحول وغير ذلك مما بينه العلماء وشرحوه.

أحكام الزكاة

أحكام الزكاة

تعريف الزكاة وأهميتها وحكمتها

تعريف الزكاة وأهميتها وحكمتها قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [كتاب الزكاة. عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ معاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن (إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) . وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس فيما دون خمس أواق صدقة، وليس فيما دون خمس ذود صدقة، وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة، وفي لفظ: إلا زكاة الفطر في الرقيق) ] . ابتدأ في كتاب الزكاة، والزكاة قرينة الصلاة، وقد ذكرت الزكاة والصلاة في القرآن في مواضع عديدة قد تصل إلى ستين موضعاً أو نحوها، ولا شك أن اقترانها بالصلاة دليل على أهميتها، وذلك لأن الصلاة عبادة بدنية، والزكاة عبادة مالية، فكما أن الله تعبد الإنسان في بدنه بعبادة محضة من قيام وركوع وسجود وذكر ودعاء وقراءة ونحوها فإنه قد تعبده في ماله، فهذا المال الذي رزقه الله إياه ويسر له أسبابه قد فرض عليه فيه حقاً، هذا الحق هو هذا الجزء المعين المعلوم منه الذي أمره الله بإخراجه، وسماه (زكاة) . والزكاة في اللغة: النماء أو الطهارة. يقولون: زكا المال إذا نما وكثر، أو إذا طهر ونقي، وزكيت الشيء: إذا طهرته ونقيته. ومنه تزكية النفس، وهو تطهيرها وإزالة ما علق بها، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:9] ، وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى:14] يعني: طهر نفسه من الأدناس ونحوها، فسميت الزكاة بذلك لأنها تطهر المال وتنميه؛ ولأنها قربة إلى الله وطاعة لأمره، وقد أكد الله تعالى الأمر بها، قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] أي: تطهر أموالهم وتزكي أموالهم. يعني: تنميها بهذه الزكاة، فهذا من الحكمة في شرعيتها. ومن الحكمة أنها طعمة للفقراء، قال الله تعالى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات:19] ، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24-25] . فجعل الله الزكاة حقاً، والحق هو الواجب، وجعلها في أموالهم، وبين مستحقها وأنه المحروم الذي هو فقير ولكنه لا يسأل، والسائل هو الذي يطلب من الناس ويستجدي، فهذان من جملة أهلها.

حكم الزكاة

حكم الزكاة وقد اتفق الصحابة رضي الله عنهم على قتال من منع الزكاة، فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم منع قوم الزكاة، فعند ذلك اجتمع الصحابة مع أبي بكر على قتالهم، وقال أبو بكر: إن الزكاة حق المال. وقال: (لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه) . قال عمر: (فما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعلمت أنه الحق) . واستدلوا على ذلك بآيات وبأحاديث، فمن الآيات قول الله تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5] ، فما أمر بتخلية سبيلهم إلا بالتوبة من الشرك، وبالصلاة، وبالزكاة. وثبت في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها) ، فهذا دليل من السنة، وقد جعلها النبي صلى الله عليه وسلم ركناً من أركان الإسلام في قوله: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت) ، جعل هذه أركاناً، وجعل الصلاة والزكاة ركنين مجتمعين لا متفرقين، لا يجوز أن يؤتى بواحد دون الآخر، فمن صلى ولم يزك لم تقبل صلاته، كما أن من لم يصل وزكى لم تقبل زكاته، فعرف بذلك أهمية هذا الحق.

كيف يتصرف العامل عليها فيها

كيف يتصرف العامل عليها فيها وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث الجباة الذين هم عمال الزكاة العاملون عليها لجبايتها، ويبعثهم لتفريقها وإعطائها لمستحقيها، ومن ذلك ما في حديث معاذ هذا الذي رواه ابن عباس، وكان مبعث معاذ إلى اليمن في أول سنة عشر، وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم سنة إحدى عشرة وهو باليمن، بعثه يدعوهم إلى الله، ولهذا قال: (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله) أي: يدعو إلى الإسلام، وبعثه معلماً وذلك لأنه من أعلم الصحابة بكتاب الله وبأحكام الله كما شهد له بقوله: (أعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل) . وبعثه يفرق الزكاة بعد جبايتها، وقال له في هذا الحديث: (واتق دعوة المظلوم) يعني: لا تأخذ منهم أكثر من الواجب عليهم فوظيفته أنه يدعوهم إلى الله تعالى وإلى الإسلام، وبعد ذلك يعلمهم الأحكام والشرائع، ثم بعد ذلك يقبض منهم الحقوق التي عليهم، يقبض الزكاة ويفرقها، ويقبض الجزية ممن هي عنده ويرسلها إلى المدينة، أو يعطي منها من هو مستحق، وهكذا كان عمله الذي بعث به، ويقضي بينهم فيما اختلفوا فيه، فهذا شخص واحد وصحابي واحد بعث إلى قطر من الأقطار ودولة من الدول مترامية الأطراف، وهو وحده قام بهذه الأعمال كلها، قام بالدعوة إلى الله، وقام بجباية الزكوات وتفريقها، وقام بالقضاء بينهم عند اختلافهم، وقام بتعليمهم ما يخفى عليهم من أحكام الله وشرائعه. وأوصاه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث وأخبره بأن فيهم أهل كتاب، أي: من هم من أهل الكتاب يهوداً أو نصارى، وذلك لأن أهل الكتاب معهم شيء من الجدل، ومعهم شيء من الحجج، فلابد أن يلقاهم مستعداً لمخاصمتهم ومجادلتهم بالتي هي أحسن حتى يظهر الحق على باطلهم، وهكذا كان معاذ رضي الله عنه كلما لقي من عنده شيء من الشبهات أزالها وخاصمهم إلى أن يقبلوا الحق وينيبوا إليه. فأولاً كان يبدأ بالدعوة إلى التوحيد، وذكر في هذا الحديث إحدى الشهادتين؛ وذلك لأن فيها النزاع؛ لأنهم كانوا يقولون: (لا إله إلا الله) ، ولكن يجعلون معه آلهة أخرى وإن لم يسموها آلهة، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بأنهم يعظمون الأموات، وإذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره وصوروا صورته وعظموها، وذلك تعظيم وتأليه لها وإن لم يسموها آلهة، فقد بطل بذلك توحيدهم، فأمره بأن يجدد لهم التوحيد، وأن يحققوا كلمة لا إله إلا الله. ولا شك -أيضاً- أنه لابد من الشهادة الثانية، وهي الشهادة بأن محمداً رسول الله، وذلك لأن الرسول عليه الصلاة والسلام هو الواسطة، وهو الذي أمره بأن يدعو إلى التوحيد، فلابد أن يشهد العبد له بالرسالة حتى يتلقى الشريعة منه، ويتلقى رسالته التي هي هذا الدين. بعد ذلك أمره بأن يدعوهم إلى الصلاة؛ لأنها عمود الإسلام، فإذا دخلوا في الإسلام بالشهادتين فكأنهم دخلوا في الدين، والدين لابد أن يكون قائماً، والصلاة عماد الدين، فهي بمنزلة عمود الخيمة الذي لا تقوم الخيمة إلا عليه، فأمره بأن يؤكد لهم هذه الصلاة، وأن يخبرهم بأنها فريضة، ويخبرهم بأنها خمس صلوات في كل يوم وليلة، ولم يذكر له النوافل لأنها زائدة، ولأن معاذاً رضي الله عنه سيخبرهم بالنوافل وبالرواتب وبالوتر وبذوات الأسباب من العبادات ونحو ذلك، اكتفاءً بأنه كان من أعلم الصحابة بالأحكام، فاكتفى بمعرفته، واكتفى بعلمه.

حكمة الزكاة وحق الفقير فيها

حكمة الزكاة وحق الفقير فيها كذلك بعد الصلوات أمره بالزكاة، وأخبره بأنها صدقة، وذلك لأنها تدل على صدق من بذلها وتصديقه، فإذا قام بها وأداها اعتبر من المصدقين. واسمها في الحقيقة زكاة، فسماها هنا صدقة، وذكر أهلها وذكر من تجب عليه فقال: (تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) ، والأغنياء: هم الذين يملكون من المال نصاباً كما في حديث أبي سعيد، والفقراء: هم الذين لا يملكون إلا أقل من قوتهم الكافي. فجعل هؤلاء هم أهلها الذين يستحقونها. فتؤخذ من أغنيائهم، يعني: اقبضها من هؤلاء وفرقها على هؤلاء، وليس القصد من الزكاة أن تجبى إلى بيت المال، وأن يستكثر منها، وليس القصد من الزكاة أن يأخذها الأغنياء ويستبدوا بها، بل القصد منها أن تكون مخففة لفقر أولئك الفقراء، وذلك لأن الله تعالى لم يسوِ بين خلقه، بل جعل فيهم غنياً وفقيراً ومتوسطاً، فهذا الفقير الذي لا يجد القوت، أو لا يجد إلا بعض القوت، أو لا يجد إلا قوت بعض السنة أو بعض الشهر يشاهد أصحاب الأموال الذين يكون عندهم فضل أموال، ويكون عندهم زيادة كثيرة عن أقواتهم، فيبقى محروماً ليس له حق في ذلك، وهذا لا يأتي به الإسلام، ولا تأتي به شريعة سمحاء. فجعل الله في أموال الأغنياء حقاً لهؤلاء المساكين والفقراء حتى يخفف ما هم فيه وما أصابهم من الفقر والفاقة وشدة المئونة، وحتى يسدوا بذلك جوعتهم وجوعة أطفالهم، ويكسوا بذلك عوراتهم، ولا يبقوا متضررين طوال حياتهم، فهذه هي الحكمة في قوله: (تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) . وهذا هو العدل، ليس كما تفعل الرأسمالية الذين ليس لأحدهم هم إلا أن يجمع المال وأن يمسكه، ولا يرى فيه حقاً لله، ولا يرى فيه حقاً لأي إنسان، بل يجمع الأموال ويكدسها كعادة هؤلاء المستبدين، وليس كغير ذلك من الشرائع، بل الشريعة جعلت في هذا المال جزءاً يسيراً، فجعلت فيه -مثلاً- ربع العشر إذا كان من الفضة والذهب، أو أقل من ربع العشر إذا كان من الغنم، ففي الأربعين واحدة، وهي ربع العشر، وقد يكون فيه أقل من ربع العشر، كما إذا كان عند الإنسان مائة من الغنم، فليس فيها إلا شاة واحدة، وهذا جزء يسير من هذا المال لا يضر بصاحبه، فهذا حق للفقراء يعطونه من أموال الأغنياء، ليخفف الفقر عنهم ويوسع عليهم، وذلك أن الله ابتلى الأغنياء بالفقراء. ولو كان الناس كلهم متساوين في الغنى لما وجد هؤلاء الأغنياء مصرفاً لأموال زكواتهم، ولكن الله من حكمته أن فاوت بين الناس في المكاسب وفي الحيل وفي جمع المال، حتى يجمع بعض الناس أموالاً يكون فيها حق، ويكونون بذلك أغنياء، فتؤخذ منهم وتعطى للفقراء.

وجوب إخراج الزكاة ولو لم يطلبها الحاكم

وجوب إخراج الزكاة ولو لم يطلبها الحاكم وفي قوله: (تؤخذ من أغنيائهم) دليل على أنهم يعطونها من طلبها ممن بعث لذلك، وإذا لم يأتهم من يطلبها أخرجوها بأنفسهم. فقد لا يأتيهم من يطلبها من العمال والجباة، كزكاة الأموال الخفية، وزكاة النقود، وزكاة التجارات وما أشبهها، فالزكاة فيها واجبة، ولكن إذا لم يأتهم من يطلبها ممن يبعثهم السلطان لجبايتها أخرجوها هم، فحسبوا ما عندهم وعزلوها، وأعطوها لمستحقيها من ذوي الفاقة والفقر الذين جعلهم الله أهلاً لها.

صفة ما يؤخذ للزكاة

صفة ما يؤخذ للزكاة ثم نهاه عن الظلم بقوله: (وإياك كرائم أموالهم) ، وكرائم الأموال نفائسها وخيارها، فإذا كانت أموالهم من المواشي -مثلاً- فلا تأخذ خيار المال، ولا تأخذ أنفسها فتكون ظالماً لهم، ولكن خذ من الوسط، ولا تأخذ من الرديء فتظلم بذلك الفقراء وتعطيهم دون ما يستحقون، ولا تأخذ من خيارها وجيدها ونفيسها فتظلم ذلك الغني وتأخذ منه غير ما يجب عليه، ولكن خذ من الوسط (إن الله لم يكلفكم خيار أموالكم، ولا يقبل منكم شرارها، ولكن الوسط) . وقد ذكر العلماء من الخيار -مثلاً- السمينة التي هي الغاية في السمن، أو اللبون التي هي الغاية في ذلك، وكذلك الربع التي تربي ولدها أو أولادها، وكذلك فحل الغنم الذي يحتاجون إليه وهو عندهم نفيس، وما أشبه ذلك. وذكروا من الرديء أنه لا يقبل تيس؛ لأنه قد يكون رديئاً، ولا تقبل هزيلة ضعيفة ليس فيها -مثلاً- مخ، أو ليس فيها ما يرغب فيها، بل يأخذ من وسط المال لا من خياره ولا من شراره. وإذا أخذ من شراره ظلم الفقراء كما قلنا، فلم يعطهم إلا أقل من حقهم، ويقال كذلك -أيضاً- في الإنسان الذي يدفع زكاة ماله من نفسه، فإذا كان عنده مال فيه جيد ورديء، مثل التمور التي يجنيها أو يجزها من نخله فيها جيد وفيها رديء وفيها متوسط، فلا يعطي الفقراء من خيار ماله، أي: لا يلزم بأن يدفع من خيار ماله؛ لأن في ذلك ظالماً له، ولا يدفع من شرار التمر ورديئه وحشفه وما لا رغبة فيه، فيكون بذلك ظالماً للفقراء، ولكن من وسطه وأغلبه، هذا هو الأصل. فإذا أخذ الجابي خيار المال ظلم ذلك الغني وأخذ منه ما لا يستحق، فيخشى عليه من دعوة صاحب الغنم أو صاحب الإبل الذي أخذ منه شيئاً زائداً، وإذا دعا فإنه يعتبر مظلوماً، فلذلك قال: (واتق دعوة المظلوم) ، فإذا أخذت منه ما لا يستحق فأنت ظالم له وهو مظلوم، فربما يدعو عليك فتجاب دعوته، فدعوته ليس بينها وبين الله حجاب، أي أنها لا تحجب عن الله، بل يرفعها فوق الغمام، ويقول: (وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين) أي: لأنصرنك أيها المظلوم، فتقبل دعوته ولو بعد حين، فليتقِ الإنسان الظلم، والحديث عام في أن المظلوم تجاب دعوته، سواء أكان الظلم بأخذ ما لا يجب عليه في الزكاة، أم بغير ذلك من أنواع الظلم.

أنصبة النقدين والإبل والزروع

أنصبة النقدين والإبل والزروع أما حديث أبي سعيد فيتعلق بمقدار النصاب، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجمل في حديث معاذ فقال: (تؤخذ من أغنيائهم) ، فمن هو الغني؟ الغني حدده النبي عليه الصلاة والسلام، فذكر أنه الذي يملك من الدراهم مائتي درهم، والدرهم قطعة من الفضة كان يتعامل بها، وهي معروفة الوزن، وأيضاً من الذهب عشرين مثقالاً أو عشرين ديناراً، والدينار قطعة من الذهب معروفة كانت ومتداولة، ومعروف قدرها، وقدرت الفضة بأنها ستة وخمسون ريالاً سعودياً بالريال الفضي المعروف قديماً الذي صنع في عهد الملك عبد العزيز رحمه الله، وكان مرسوماً عليه (ريال عربي سعودي واحد) ، أما بعد اختفائه وقيام هذه الأوراق النقدية فتعتبر قيمته، أي قيمة الستة والخمسين من الأوراق، فما دام أن الريال الفضي موجود فينظر إلى قيمته، فإذا طلب الريال الفضي فكم يبذل فيه من الريال الورقي؟ هل يبذل فيه عشرة أو عشرون أو ثلاثون، وتضرب في ستة وخمسين، فما بلغ فهو نصاب الفضة. وأما نصاب الذهب فإنه عشرون مثقالاً، وقدرت بأنها من الجنيه المعروف أحد عشر جنيهاً ونصفاً. والرسول عليه السلام ذكر الفضة فقال: (ليس فيما دون خمس أواق صدقة) ، والأواق: جمع أوقية من الفضة، والأوقية أربعون درهماً، والخمس الأواقي مائتا درهم، فيخبر بأن من كان عنده أقل من خمس أواق -أي: أقل من مائتي درهم- فلا زكاة عليه؛ لأنه فقير، وليس عنده إلا ما يسد حاجته، ولا يصدق عليه أنه غني. أما الإبل فقدرها بخمس، فقال: (ليس فيما دون خمسٍ ذود صدقة) والذود اسم لا مفرد له، يعرفه أهل البادية بأنه الإبل؛ لأنها تذاد عن الحياض ونحوها، فيقول: (ليس فيما دون خمس ذود صدقة) أي: إذا لم يكن له إلا أربع من الإبل فلا تجب الزكاة عليه، فإذا بلغت خمساً ففيها الزكاة، وزكاتها من الغنم واحدة. أما الغنم فأقل نصابها أربعون من الغنم، ففيها شاة، ولم تذكر في هذا الحديث، ولكن ذكرت في حديث غيره. أما الخارج من الأرض فإن العادة أنه يكال ويقدر، فيقول في هذا الحديث: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) ، والوسق: ستون صاعاً، والخمسة الأوسق ثلاثمائة صاع، والصاع النبوي مثل الصاع الموجود عندنا، إلا أنه يمسح مسحاً، فلا يجعل عليه علاوة، إنما يمسحونه مسحاً ثم يفرغونه. فقدرها العلماء في هذا الزمان بأنها مائتان وسبعون صاعاً بالصاع الموجود الذي له علاوة؛ لأن الناس أصبحوا يكيلون ويجعلون علاوة، فمن كان عنده زرع حصل له منه مائتان وسبعون صاعاً ففيه الزكاة، وما دون ذلك فإنه أقل من نصاب فلا زكاة فيه. والتمور كذلك أيضاً؛ لأن التمر كان يكال، فيجفف التمر ثم يكال في الصاع كما يكال القمح، فإذا بلغ ثمر النخل خمسة أوسق -أي: ثلاثمائة صاع بالصاع النبوي- ففيه الزكاة، وما دون ذلك فلا زكاة فيه لكونه قليلاً، فيكون بقدر كفاية صاحبه، فهذا الحديث اشتمل على نصاب الزكوات.

حكم زكاة الخيل والعبيد

حكم زكاة الخيل والعبيد أما حديث أبي هريرة فأخبر بأن الأشياء المستعملة لا زكاة فيها إذا لم تكن للتجارة، فيقول: (ليس على المسلم في فرسه ولا في عبده صدقة) ، فإذا كان للإنسان خيل يقاتل عليها فلا زكاة فيها، وكذلك إذا كان عنده عبيد يستخدمهم أو يؤجرهم، فليس عليه زكاة فيهم إلا زكاة الفطر التي أمر أن يخرجها بعد الفطر من رمضان، فإنه يخرج عن العبد.

شرح حديث: (العجماء جبار)

شرح حديث: (العجماء جبار) قال المؤلف رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (العجماء جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس) الجبار: الهدر الذي لا شيء فيه، والعجماء: الدابة البهيم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر على الصدقة. فقيل: منع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيراً فأغناه الله تعالى، وأما خالد فإنكم تظلمون خالداً؛ فقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله، وأما العباس فهي علي ومثلها، ثم قال: يا عمر! أما علمت أن عم الرجل صنو أبيه) . وعن عبد الله بن زيد بن عاصم المازني رضي الله عنه قال: (لما أفاء الله على نبيه صلى الله عليه وسلم يوم حنين وقسم في الناس وفي المؤلفة قلوبهم، ولم يعط الأنصار شيئاً، فكأنهم وجدوا في أنفسهم إذ لم يصبهم ما أصاب الناس، فخطبهم فقال: يا معشر الأنصار! ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي. كلما قال شيئاً قالوا: الله ورسوله أمنّ. قال: ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: الله ورسوله أمنّ. قال: لو شئتم لقلتم: جئتنا بكذا وبكذا ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟ لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس وادياً أو شعباً لسلكت وادي الأنصار وشعبها، الأنصار شعار والناس دثار، إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض) ] . هذه الأحاديث تتعلق بالزكاة، وبعضها يتعلق بالغنائم، فالحديث الأول فيما لا زكاة فيه وما لا دية له، يقول صلى الله عليه وسلم: (العجماء جبار) .

حكم جناية الدابة

حكم جناية الدابة العجماء: هي الدابة، والجبار: الهدر الذي لا شيء فيه، ومعنى ذلك أن الدابة إذا أتلفت شيئاً فلا ضمان عليها؛ لأنها عجماء، فإذا قرب منها إنسان فرفسته فلا ضمان عليها، وإذا لفحت إنساناً بذنبها -مثلاً- أو عضته بفمها فلا ضمان عليها؛ لأنها بهيمة عجماء، وهو الذي أخطأ حيث قرب منها. وكذلك إذا أتلفت شيئاً وصاحبها لم يفرط فلا ضمان عليه، فإذا أرسلها صاحبها في النهار لترعى فأتلفت زرعاً أو شجراً، أو دخلت بيتاً -مثلاً- وقد فتحه أهله فأكلت من طعامهم، أو أراقت ماءهم أو أدهانهم أو ألبانهم أو نحو ذلك فلا ضمان على صاحبها، حيث إن أهل البيت هم الذين فرطوا، وكذلك أهل الحروث ونحوهم، فهذا معنى كونها جباراً. أما إذا كان صاحبها قد أطلقها في داخل البيوت، وهو يعلم أنه ليس لها إلا أن تدخل في البيوت، وليس بين الأبواب ما ترعاه ولا ما تأكله، أو أطلقها في الليل وهو يعلم أنه ليس لها إلا أن تذهب إلى الحروث فإنه يضمن حيث لم يحفظها. وعلى كل حال فما أتلفته الدابة بيدها أو بفمها أو برجلها أو بذنبها، فإنه لا ضمان عليها لأنها بهيمة، فهذه هي العجماء.

الآبار والمناجم المحفورة في غير طريق الناس

الآبار والمناجم المحفورة في غير طريق الناس قوله صلى الله عليه وسلم: (والبئر جبار) : البئر إذا حفرت في غير طريق الناس، وكان القصد من حفرها أن ينتفع الناس بالشرب منها وبالارتواء ونحو ذلك، فسقط فيها إنسان أو سقطت فيها دابة فلا ضمان على من حفرها؛ لأنه حفرها لابن السبيل، ولم يضيق بها الطريق، أما إذا حفر حفرة في وسط الطريق فإنه يضمن ما سقط فيها؛ لكونه ضامناً لتغيير الطريق، فالبئر إذا سقط فيها شيء من دابة أو متاع أو إنسان أو نحو ذلك وهي في مكان واسع فإنها جبار، أي: هدر. قوله عليه الصلاة والسلام: (والمعدن جبار) : المعدن: هو المنجم الذي يكون في الأرض تستخرج منه بعض المعادن، كمعدن الملح، ومعدن النحاس، ومعدن الكحل، ومعدن الجص، ومعدن الصهر، والمعادن الأخرى، حتى معدن الفضة أو معدن الذهب، فالمناجم التي تحفر وتؤخذ منها بعض الأشياء، فهي مشتركة إذا لم تكن في ملك أحد، فإذا جاء إليها إنسان فسقط في هذا المعدن فإنه جبار ولا شيء على من حفر هذه المناجم أو نحوها، وما ذهب فيها هدر، وإذا سقطت فيها دابة فلا ضمان على صاحبها.

حكم الركاز

حكم الركاز قوله صلى الله عليه وسلم: (وفي الركاز الخمس) : الركاز: هو ما وجد من دفن الجاهلية، فالكنز الذي يوجد مدفوناً وعليه آثار الكفار وليس للمسلمين يسمى ركازاً، فهو مثل الغنيمة يؤدي من وجده خمسه كما يؤدى من الغنيمة، وباقيه لمن وجده كالغانمين، هذا حكم الركاز. أما إذا كانت عليه علامات المسلمين فإنه لقطة، فإذا كان مكتوباً عليه أسماء الله، أو اسم دولة مسلمة أو نحو ذلك على هذه الدراهم أو هذه الدنانير أو هذا الذهب المكنوز أو نحو ذلك، أو كانت صناعته تدل على أنه للمسلمين اعتبرناه لقطة، فعلى صاحبه أن يعرفه كما تعرف اللقطة، فإن وجد صاحبها وإلا أخرج منها جزءاً كربع أو خمس وباقيه له، وإذا لم يعرفها فإنها من بيت المال. وعلى كل حال فالشاهد منه ذكر الركاز، وهو أنه يخرج منه الخمس، ولا يكون ذلك زكاة، بل غنيمة كما يخرج خمس الغنيمة.

شرح حديث منع العباس وخالد وابن جميل الزكاة

شرح حديث منع العباس وخالد وابن جميل الزكاة وأما الحديث الذي ففيه أنه صلى الله عليه وسلم أرسل جماعة منهم عمر بن الخطاب يجمعون زكاة التجارة التي في المدينة، يمشون إلى التجار ويطلبون منهم الزكاة، فجمعوا من الزكاة ما جمعوا، وكلما جاءوا إلى تاجر أعطاهم زكاة تجارته أو زكاة ماله، ولما رجعوا أخبروه بأن هؤلاء الثلاثة قد منعوا الزكاة، فلام النبي صلى الله عليه وسلم أحدهم وهو ابن جميل، ولم يعرف اسمه، بل هكذا ذكر، فقال: ما ينقم ابن جميل -يعني: ما ينكر وما يطلب- إلا أن كان فقيراً فأغناه الله. أي ألا يتفضل إذ أغناه الله فيؤدي حق الله عليه؟ وهي هذه الزكاة التي هي قليل من كثير، فبعدما أغناه الله وأنعم عليه منع حق الله، أنكر عليه منعه للزكاة. وأما خالد فاعتذر عنه؛ لأنه لم يكن عنده مال، بل جميع ما عنده قد أوقفه في سبيل الله، فعنده أدراع، وهي التي يقاتل بها، وليست للبيع بل هي وقف ومسبلة، وعنده أفراس وخيول وقد جعلها وقفاً، وعنده سيوف وقد جعلها -أيضاً- وقفاً، وعنده رماح، وعنده خناجر، وعنده أقواس، وعنده سهام، وكلها من آلات القتال، وقد سبلها لله، فليست ملكاً له، وهذا دليل على أن الأوقاف لا زكاة فيها؛ لأنها ليست ملكاً لإنسان، بل هي مما ينتفع به في وجوه الخير. فإذا كان عند إنسان مال موقوف كالأسبال فلا زكاة فيه، ولكن عليه أن يخرج منه في سبيل الله وفي وجوه البر، فالذين على أيديهم أسبال وأوقاف لأموات قد جعلوها -مثلاً- في أعمال البر لا نأمرهم بأن يزكوها، ولكن نأمرهم بأن يصرفوا فضلها في وجوه الخير، فيتصدقون على المساكين منها، ويعمرون منها المساجد أو يساهمون في عمارة المساجد وفي عمارة المدارس الخيرية، وفي كفالة الأيتام ونحوهم، وفي الصدقة على الفقراء والمساكين، وفي إصلاح الطرق والموانئ وما أشبهها، وكذلك في نشر العلم وطبع الكتب والمصاحف، وفرش المساجد، والسقايات والبرادات ونحوها، وكذلك الصدقة على الأقارب والمستحقين، فهذه مصارف الأوقاف ونحوها، وأفضلها مصرف الجهاد، أي: على المجاهدين في سبيل الله، فليس فيها الزكاة التي في أموال التجار ونحوهم؛ لأنها كلها في سبيل الله. أما العباس فقد كان من التجار، كان عنده تجارة وقد منع، وتعلل بأنه قد فدى نفسه، وقد فدى ابن أخيه لما أسر ببدر، لكن النبي صلى الله عليه وسلم تحمل زكاة عمه وقال: (هي علي، ومثلها) ، وقال: (أما علمت أن عم الرجل صنو أبيه؟!) أي: أخو أبيه، فهو وأبوه صنوان، والصنوان: هما الفرخان اللذان ينبتان في أصل النخلة، يقال: في هذه النخلة صنوان، أي: فرخان متساويان. يقول: إن الرجل وأخاه بمنزلة الصنوين ينبتان في أصل النخلة، فهذا معنى كون عم الرجل صنو أبيه؛ فتحمل عنه هذه الصدقة وأداها عنه، وفي هذا دليل على أنه يجوز أن يتحمل الإنسان صدقة الفرض عن قريبه، وقد ورد في بعض الروايات أن العباس كان قد قدم صدقته، فقد تعجل منه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إنا كنا قد احتجنا فأقرضنا العباس صدقة سنتين) ، فلذلك قال: هي علي ومثلها. ولكن ظاهر الحديث أنه عليه الصلاة والسلام تحملها عنه لقرابته.

شرح حديث غنائم غزوة حنين

شرح حديث غنائم غزوة حنين وأما حديث المازني فكان ذلك في غزوة حنين لما غزا النبي صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة وغنم غنائم وأموالاً من هوازن، ورجع من الطائف بعدما حاصرها أربعين يوماً، بعد ذلك قسم تلك الغنائم، وأعطى رؤساء القبائل، فأعطى الكثير منها لرؤساء القبائل كأشراف قريش وبعض أشراف العرب، فأعطى عيينة بن حصن مائة من الإبل، وأعطى الأقرع بن حابس مائة، وأعطى العباس بن مرداس مثل ذلك أو نحوه، وأعطى أبا سفيان كذا، وأعطى الحارث بن هشام، وأعطى صفوان بن أمية ثم أعطاه ثم أعطاه، وأعطى رجلاً غنماً بين جبلين، ولم يعطِ الأنصار. وكان الأنصار رضي الله عنهم ممن قاتل معه قتالاً شديداً، وممن دافع، وممن أبلى بلاءً حسناً، ولم يعطهم شيئاً من تلك الغنيمة، ووكلهم إلى ما جعل الله في قلوبهم من الإيمان، فروي أنهم -أو بعضهم- أنكروا ذلك وقالوا: رسول الله يعطي صناديد قريش وسيوفنا تقطر من دمائهم، ولا يعطينا شيئاً! فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فجمعهم، أو جمع جماعة منهم في قبة، فخطبهم بهذه الخطبة التي يذكرهم فيها فضل الله عز وجل، فأخبرهم بأنه وجدهم ضلالاً -يعني: ضالين- مخطئين الطريق، فدلهم الله به وهداهم، ووجدهم متفرقين متقاتلين متناحرين فهداهم الله به وجمعهم بعد ذلك التفرق، ووجدهم عالة -يعني: فقراء- في غاية من الإعواز فأغناهم الله به بما فتح عليهم، يذكرهم بذلك، وكلما قال شيئاً قالوا: الله ورسوله أمن. أي: المنة لله، فالله هو الذي له المن وله الفضل، ورسوله كذلك، فلا منة لنا. ثم إنه استجوبهم وقال: (لو شئتم لقلتم: جئتنا كذا وكذا) أي: لو شئتم لذكرتم ما منكم وما لكم من الأثر، وفي بعض الروايات أنه قال: (لو شئتم لقلتم جئتنا وحيداً فقويناك، وجئتنا طريداً فآويناك، وجئتنا مخذولاً فنصرناك) ولكن لم يقولوا ذلك، بل قالوا: المنة لله ولرسوله. ولما ذكرهم بذلك أخذ يذكر لهم فضائلهم فقال: (أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون برسول الله إلى رحالكم؟) فما تذهبون به خير مما يذهب به الناس، الناس إنما ينصرفون بهذا المال وبهذا المتاع الدنيوي الذي هو عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر، وأنتم تحوزون الرسول إلى رحالكم، فهذا خير وأفضل مما أعطيه هؤلاء الناس. يقول في هذا الحديث: (لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار) يعني: لولا أنني أحتسب أجر الهجرة لعددت نفسي أنصارياً، وهو صلى الله عليه وسلم مهاجر، والمهاجر يبتغي أجر الهجرة، فيقول: إنني أبتغي أجر الهجرة مع المهاجرين، فتسميت مع المهاجرين لأني مهاجر، ولولا ذلك لقلت: أنا من الأنصار. يعني: أنا أنصاري. فذكرهم بأنه منهم، إلا أنه يتسمى بالهجرة لأجل أن يحصل على أجر المهاجرين. كذلك يقول: (الأنصار شعار والناس دثار) يعني أنهم مقربون إليه، والشعار: هو اللباس الرقيق الذي يلي الجلد. والدثار: هو اللحاف الذي يكون فوقه. ومعلوم أن الإنسان لا يلبس مما يلي جلده إلا اللباس الرقيق اللين، أما الخشن كالصوف الغليظ والشعر وما نسج منه ونحو ذلك فإنه يجعله أعلى حتى لا يؤذيه بشعره أو بخشونته، فشبه الأنصار بأنهم أقرب إليه بمنزلة الشعار الذي يلي الجسد، وبقية الناس حتى بني عمه وحتى أهل مكة بمنزلة الدثار الذي هو أعلاه. يقول في هذا الحديث: (إنكم ستجدون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض) . وقد وقع ذلك، حيث إن الناس بعده لما كانت الولاية في بني أمية وفي غيرهم استأثروا بالأموال، واستأثروا بالولايات، واستأثروا بالمناصب، ولم ينقل أنهم يولون أنصارياً، لا ولاية مال ولا جباية ولا إمارة ولا غير ذلك، بل استأثروا عليهم بهذه الولاية. وقوله: (ستجدون بعدي أثرة) ، يعني: أن يستأثر الناس دونكم بالولايات وبالمناصب وبالأموال ونحوها، فاصبروا على ما ترون حتى تلقوني على الحوض، وعدهم بذلك، ولا شك أن ذلك منه تخفيف عليهم لما أصابهم، وحث لهم على الصبر، فرضوا بذلك وقنعوا.

إعطاء المؤلفة قلوبهم من الزكاة

إعطاء المؤلفة قلوبهم من الزكاة واستدلوا بهذا الحديث على أنه يجوز أن تصرف الأموال في المؤلفة قلوبهم من الغنائم ونحوها، فإذا كانت الغنائم تصرف في المؤلفة قلوبهم فكذلك الزكاة، جعل الله منها نصيباً للمؤلفة قلوبهم، فمتى وجدوا أعطوا من الزكاة. والمؤلفة قلوبهم هم الذين أسلموا لأجل الدنيا، فيعطون من الزكاة ويعطون من الغنيمة حتى يقوى بذلك إيمانهم، إما أن يكونوا ضعاف الإيمان فإذا أعطوا من المال رغبوا في الإسلام، فإذا جمعت زكوات أقوامهم وجبيت فيعطون منها، ليقوى إيمانهم، وإما أن يسلم نظراؤهم من الأكابر والأمراء والقادة والسادة، فإذا أعطوا أسلم ذلك الأمير وأسلم ذلك الثاني والثالث رغبة في العطاء وفي المال، وإما أن يعطوا لكف شرهم إذا كان يخشى منهم الانقلابات والشرور ويخشى منهم الفتك بالإسلام وبالمسلمين، فيعطون من زكاة المال أو من بيت المال أو نحو ذلك ما يكف شرهم، فهؤلاء هم المؤلفة. فمن هؤلاء الذين هم قادة في قومهم هذا الرجل الذي هو من قادة العرب، ويقال له عيينة بن حصن، كان من أشراف العرب، وكذلك الأقرع بن حابس كان من أشراف تميم وأمرائهم، وهكذا العباس بن مرداس كان شريفاً مشهوراً في سليم، ولذلك لما أعطاه أقل منهم روى مسلم أنه أنشد شعراً يقول فيه: أتجعل نهبي ونهب العبيـ ـد بين عيينة والأقرع وما كان حصن ولا حابس يفوقان مرداس في مجمع وما كنت دون امرئ منهما ومن يخفض اليوم لا يرفع فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم مثلهم. وكذلك لكف شرهم، ولأنهم ذوو ألسن وذوو نجدة يرجى أن ينصروا الإسلام، وأن يكف بذلك شرهم. فهذا حكم المؤلفة قلوبهم، والصحيح أنهم باقون فإذا احتيج إليهم أعطوا، وإذا لم يحتج إليهم فلا حق لهم لا في زكاة ولا في بيت مال.

شرح عمدة الأحكام [29]

شرح عمدة الأحكام [29] فرض الله زكاة الفطر طهرة للصائم وطعمة للمساكين، فيجب على المسلم إخراجها في وقتها حتى يتقبل الله صومه، ولأجل أن تحصل المواساة والمودة بين الأغنياء والفقراء، وقبل ذلك على المسلم أن يتعلم أحكامها ليعرف ما يجوز إخراجه وما لا يجوز، ولمن تعطى وعمن تخرج، ونحو ذلك.

أحكام صدقة الفطر

أحكام صدقة الفطر

دليل مشروعيتها

دليل مشروعيتها قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [باب صدقة الفطر. عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (فرض النبي صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر -أو قال: رمضان- على الذكر والأنثى والحر والمملوك صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير. قال: فعدل الناس به نصف صاع من بر على الصغير والكبير) وفي لفظ: (أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة) . وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كنا نعطيها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعام أو صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير أو صاعاً من أقط أو صاعاً من زبيب، فلما جاء معاوية وجاءت السمراء قال: أرى مداً من هذه يعدل مدين. قال أبو سعيد: أما أنا فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) ] . من جملة الزكاة زكاة الفطر، وتسمى صدقة الفطر، أي: الفطر من رمضان، أي أنها تخرج في آخر رمضان عندما يقرب إفطار الناس من رمضان وإنهاؤهم لصيامه، وقد استدل عليها بعضهم بقوله تعالى في سورة الأعلى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:14-15] ، فحمل قوله: ((تزكى)) على زكاة الفطر، ((وذكر اسم ربه)) أي: كبر التكبيرات التي في العيد، ((وصلى)) أي: صلاة العيد، وهذا محتمل، وإن كان اللفظ على عمومه. ولكن الأصل فيها الأحاديث الثابتة الصريحة الكثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه شرعها لأمته، ووردت الأدلة في تحديدها وفي وقتها وفي نوعها وفي أهلها وفي الحكمة منها.

الحكمة من مشروعيتها

الحكمة من مشروعيتها فأما الحكمة فيها فقد ورد فيها حكمتان: أنها طعمة للمساكين، وأنها طهرة للصائم. فالصائم قد يعتريه في صيامه شيء من الخلل وشيء من النقص، ويرتكب شيئاً من المحظورات والأقوال السيئة، فيحتاج إلى ما يطهر صيامه، فجعلت هذه الصدقة طهرة للصائم من اللغو والرفث، أي: تطهر صيامه إذا كان قد لغى أو قد رفث أو قد تكلم بسوء، فتمحو ذلك كله. وأما كونها طعمة للمساكين: فورد في حديث: (أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم) ، وذلك أن يوم عيد الفطر يوم يفرح فيه الناس بإتمام صيامهم، ويجعلونه يوم عيد يظهر فيه سرورهم وانبساطهم، ويظهرون فيه الشكر والاعتراف لربهم بالفضل والامتنان، فكان ينبغي اشتراك الصغير والكبير والغني والفقير والمأمور والأمير، في هذا الفرح وهذا الاغتباط، ولما كان في الأمة من هم فقراء معوزون ذوو حاجة غالبة إذا لم يتصدق عليهم فإنهم يظهرون للناس التكفف والاستجداء، ويسألونهم طعاماً وقوتاً وكسوة ونفقة، ومعلوم أن السؤال فيه شيء من الذل ومن الإهانة لأنفسهم، وفيه شيء من الصغار والإذلال، فأمر بأن يعطوا في هذا اليوم ما يكفيهم ذلك اليوم أو أياماً بعده، فيتصدق هؤلاء على هؤلاء حتى يستغنوا، ويخرجها الجميع. وقال في بعض الروايات: (أما غنيكم فيطهره الله، وأما فقيركم فيرد عليه أكثر مما أعطى) ، ومعلوم أن الفقير أيضاً يخرج الصدقة، فيخرج هذه الزكاة، ولكن يأتيه أكثر مما أعطى؛ لأن الأغنياء لا يجدون مصرفاً إلا هذا الفقير، فإذا كان في البلد مائة بيت، منها -مثلاً- عشرة أبيات فقراء وتسعون أغنياء فإن هؤلاء الأغنياء يعطون هؤلاء الفقراء، والفقراء يعطي بعضهم بعضاً، فيكونون قد أعطوهم أكثر مما أخرجوه، فيجتمع عندهم نفقة زائدة، وإن كانوا كثيراً فكذلك، فلو كان النصف فقراء والنصف أغنياء فإن الفقراء يعطي بعضهم بعضاً، والأغنياء يعطون الفقراء، فيجتمع أنهم أغنوهم. فهذه هي الحكمة فيها.

زمن إخراجها

زمن إخراجها أما زمانها فقد حدد بأنه قبل خروج الناس إلى الصلاة، فيخرجها قبل أن يخرج إلى صلاة العيد، وأجازوا أن يقدمها قبل ذلك بيوم أو بيومين، ولا يجوز بأكثر، وما ذاك إلا أنه لو أعطيها الفقير قبل العيد بأيام أمكن أن ينفقها، فيأتيه العيد وليس عنده شيء، فيحتاج إلى التسول وإلى الاستجداء، فأمر بأن تؤخر حتى يعطاها قبل العيد بيوم أو يومين، فيأتي العيد وعنده منها ما يكفيه، فهذه هي الحكمة. فالأفضل أن تكون في ليلة العيد، أو في صباح العيد قبل الصلاة، أو في اليوم الأخير من رمضان وهو اليوم الثلاثون، أو في اليوم التاسع والعشرين، فالأفضل اليوم التاسع والعشرون، أو اليوم الثلاثون، أو ليلة الثلاثين، أو صباح الحادي والثلاثين الذي هو يوم العيد.

الأصناف التي تخرج منها

الأصناف التي تخرج منها أما نوعها فإنها تخرج من هذه الخمسة، والصحيح -أيضاً- أنها تخرج من غيرها، فهذه الخمسة هي البر المعروف، والشعير وهو معروف أيضاً، والتمر وهو معروف، والأقط الذي يعمل من اللبن، والزبيب الذي هو حمل العنب، فهذه الخمسة يصلح أن تكون قوتاً. فهناك من قوتهم الأقط يأكلونه أو يحرثونه، وهناك من لا يأكلون إلا التمر، وهناك من يأكلون البر، وهناك من لا يجدون إلا الشعير فيأكلونه. فهذه الخمسة الأقوات كانت هي الغالب على أهل المدينة ومن حولهم لا يخرج قوتهم عن هذه الخمسة، ولكن إذا وجد آخرون يقتاتون غيره فإنهم -على الصحيح- يخرجون من قوت بلدهم، فإذا غلب على أهل البلاد أن قوتهم من الأرز -كما في هذه البلاد- فإنه يخرج من الأرز؛ لأنه قد يكون أنفع للمساكين وأقل تكلفة، وإذا كان أهل البلد لا يقتاتون إلا السلق فإنه يخرج منه، وإذا كانوا لا يقتاتون إلا الذرة فإنها يخرج منها، وإذا اقتاتوا الدخن فإنه يخرج منه، وهكذا أنواع المأكولات، يخرجون مما هو غالب في بلادهم، ومما أكل أهل بلدهم منه. والحكمة فيه أنه قوت للمساكين، وإذا أخرج من غير القوت لم ينتفعوا به؛ لأنهم لم يعتادوه، فإذا أخرجوا -مثلاً- من الشعير والناس لا يعرفونه ولا يأكلونه علفوه الدواب كما في هذه الأزمنة، أو باعوه بثمن بخس لمن يعلفه الدواب، وإذا أخرجوا من التمر والناس لا يأكلونه كما في هذه الأزمنة فكذلك لن يأكلوه، ولن يجعلوه قوتاً، فنحن نقول: الأولى أن تنظر إلى الشيء الذي يأكلونه، فتعطيهم حتى يأكلوه ولا يبيعوه. ويقول بعض العلماء: إنه يجوز إخراج القيمة. وهو مروي عن الحنفية، ولكن الصحيح أنه لا يجوز، بل إنه لابد من إخراج طعام، والقيمة كانت موجودة في العهد النبوي، ولم ينقل أنه أمرهم بأن يخرجوا القيمة، وبأن يعطوهم الثمن، ولو كان الثمن أنفع أحياناً؛ لأنه يصلح أن ينتفعوا به في جميع الأشياء، ولكن ما ورد إلا القوت، فتخرج الصدقة من القوت الذي يؤكل، ولا تخرج من اللباس، ولا تخرج من الأحذية -مثلاً-، ولا تخرج من الدراهم قيمة، بل لابد أن تكون من الأقوات والأطعمة المعتادة، هذا هو الصحيح الذي عليه العمل.

مقدار ما يخرج

مقدار ما يخرج لابد أن يخرج هذا المقدار، وهو الصاع، والصاع أربعة أمداد كما هو معروف، والمد يقدر بأنه ملء الكفين المتوسطتين من البر المعتاد أو من الشعير ونحوه. ولكن صاعنا المعتاد الذي يجعل عليه علاوة كاف في ذلك، وإن كان أكثر من أربع حفنات، فهذا هو المقدار المجزئ، وقد عرفنا أن معاوية رضي الله عنه أباح لهم أن يخرجوا مدين من البر، وذلك لأنه قدم إلى المدينة ورآهم يخرجون صاعاً من الشعير، ومعلوم أن الشعير قليل القيمة وأن أكثرهم لا يأكله، وأن البر ولو كان قليلاً أنفع لهم، وهو الذي يأكلونه ويقتاتونه، فأرشدهم إلى أن يخرجوا صاعاً من الشعير أو نصف صاع من البر، فقال لهم: إذا أخرجتم نصف صاع من البر فقيمته قيمة الصاع من الشعير، وربما يكون خيراً وأنفع للفقير؛ لأنه يؤكل، وأما الشعير فإنهم لا يأكلونه، فأفتى بأنهم يعدلون إلى نصف الصاع من البر حتى ينفع الفقراء، وهذا اجتهاد منه. ونحن نقول: إذا عرفت أنك لا تخرج إلا من الشعير والشعير إنما يعطونه الدواب، أو من التمر الرديء ويعطى الدواب فالأفضل أن تعطيهم شيئاً يأكلونه ولو أقل من صاع، ولكن الاختيار لك ألا تنقص من الصاع كما عمل بذلك أبو سعيد -راوي الحديث-، فإنه يقول: أما أنا فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. التزم أبو سعيد ألا ينقص من الصاع، سواء من البر أو من الشعير أو من التمر أو من البر أو من الزبيب أو من الأقط، وهذا هو الأولى. ونقول: الأفضل أن تخرج من الشيء الذي يأكلونه وينتفعون به كالبر والأرز ونحوه، وإذا كنت ولابد مخرجاً من الشعير الذي لا يؤكل فكونك تخرج نصف صاع من البر الذي يؤكل أفضل من كونك تخرج صاعاً من الشعير الذي هو علف للدواب، فهذا هو الأفضل.

حكم نقلها إلى غير محلها

حكم نقلها إلى غير محلها ثم هل يجوز نقلها إلى بلاد بعيدة؟ ذهب الأكثرون إلى أنها لا تخرج من البلاد إذا كان فيها فقراء، وهذا هو القول الصحيح، فإذا كان في البلد فقراء واستعطت أن توصلها إليهم، وأنت تعرفهم وتتحقق بأنهم محتاجون وذوو فاقة، فأعطهم صدقتك، أما إذا كنت لا تعرف فقراء، أو ليس في البلد فقراء فإنه يجوز نقلها ولو إلى بلاد بعيدة، فيجوز نقلها -مثلاً- إلى مجاهدي الأفغان أو غيرهم من الذين يأكلونها وينتفعون بها وتقع عندهم موقعاً، ولكن لابد أن يذكر أنها زكاة فطر، ولابد أن يقدم إرسالها حتى تصل إليهم قبل خروج وقتها، فترسل قبل خروج الشهر في آخر الشهر ونحو ذلك، وأن يتحقق من الذي قبضها أنه سوف يشتري بها من الأطعمة المعتادة عندهم التي يأكلونها ويأكلون أمثالها، فإذا كان كذلك جاز إرسالها، وإلا فلا. وعلى كل حال: فصدقة الفطر هي صدقة من الصدقات، يجب أن يخرجها الإنسان في هذا الزمان، فلو قدر أنه لم يتمكن جاز إخراجها في يوم العيد، وإذا فاتته ليلة العيد ولم يتمكن إلا بعدما صلى العيد أجزأت في ذلك اليوم، وأما إذا فات ولم يتمكن من إخراجها إلا بعد يوم العيد، فهل تسقط؟ A لا تسقط. ولكن مع ذلك يخرجها ولو بعد يوم أو بعد أيام، ويعتبرها ديناً، فيعتبرها شيئاً وجب عليه فيخرجها، ولكنه مع ذلك آثم في تأخيره لها. فهذه من الصدقات التي شرعها النبي صلى الله عليه وسلم وحث أمته عليها ورغبهم فيها وأمر بأن تخرج.

من يلزم المكلف إخراجها عنه

من يلزم المكلف إخراجها عنه أما من تخرج عنه: فإنها تخرج عن أهل البيت كلهم، عن الذكر والأنثى، والصغير والكبير، والحر والعبد، تخرج عمن ينفق عليه، فإذا كان في بيتك جماعة أنت تقوم بالنفقة عليهم فأخرج عنهم، فإخراجها عن الصغير والكبير وكذلك الذكر والأنثى والحر والعبد هو الواجب. وقد تقول: كيف تخرج عن الذين لم يصوموا إذا كانت طهرة للصائم؟ نقول: شرعت حتى يكثر إخراجها، وحتى يكثر حظ المساكين، فإذا أخرج الغني عن عشرة يقوتهم أو عن عشرين من أهل بيته كثر الذي يأتي إلى الفقراء من هذا الطعام، حيث إنه لو لم يخرج إلا عن نفسه وعن زوجته إذا كان أطفاله لا يصومون لصغرهم لم تكثر الصدقة التي تأتي إلى المساكين، فشرع إخراجها عن الكل، كما أن الفقير -أيضاً- يخرجها عن الكل، أي: عن جميع أهل بيته. ثم يخرجها -أيضاً- عمن يقوت من المسلمين، وكلمة (من المسلمين) وردت في رواية الإمام مالك، فأخذوا منها أنها لا تجب عن الكافر ولو كان ممن يقيته المسلم، فقد يكون في البيت خادمة أو خادمات لسن بمسلمات، وكذلك خدام وسواقون ونحوهم ليسوا بمسلمين، فهؤلاء لا يخرج عنهم، وذلك لأنهم ليسوا من المسلمين، وليسوا من الذين يحتاجون إلى تطهير، وليسوا ممن يصومون، فلا حاجة إلى أن يخرج عنهم؛ لأنها خاصة بالمسلمين ولا تعطى إلا للمسلمين.

شرح عمدة الأحكام [30]

شرح عمدة الأحكام [30] للصيام أحكام بينتها كتب الفقه، فمن ذلك ما يتعلق بالصوم قبل رمضان، وبأي شيء يثبت الصيام، وما يتعلق بالسحور، وكذلك إدراك المرء للفجر وهو جنب، ونحو ذلك من الأحكام.

أحكام الصيام

أحكام الصيام قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [كتاب الصيام. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا رجلاً كان يصوم صوماً فليصمه) . وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فاقدروا له) . وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تسحروا؛ فإن في السحور بركة) . وعن أنس بن مالك عن زيد بن ثابت رضي الله عنهما قال: (تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قام إلى الصلاة. قال أنس: قلت لـ زيد: كم كان بين الأذان والسحور؟ قال: قدر خمسين آية) ] . هذا كتاب الصيام، وهو أحد أركان الإسلام الخمسة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت) ، فجعل صوم رمضان من أركان الإسلام، وقد فرضه الله تعالى في السنة الثانية من الهجرة، أي: بعد الهجرة بسنة، هاجر النبي صلى الله عليه وسلم في السنة الأولى في شهر ربيع الأول، ولم يفرض تلك السنة، ولما دخلت السنة الثانية صام يوم عاشوراء تطوعاً أو فرضاً كما قاله بعض العلماء، وفي تلك السنة نزل صوم رمضان، فرضه الله تعالى بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183] إلى قوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] يعني: من حضر الشهر وأدركه فليصمه، فأصبحت هذه الآية قد حددت الصيام الذي فرضه الله، وأنه صوم شهر رمضان، فهذا هو دليل الصيام. ولا شك أن الله تعالى ما فرضه إلا ليختبر عباده، وذلك أن هذا الصيام فيه شيء من الجهد، ففيه الجوع وفيه الظمأ والنصب، وفيه أن الناس قد يتعبون في طلب الأعمال والحرف وهم صيام، فيشق عليهم فيتحملون ذلك، فالله تعالى اختبر فضل العباد وامتثالهم لأوامره ليظهر من يطيع ومن يعصي، فإذا تقبل العبد ذلك بتقبل حسن وبرغبة كاملة دل ذلك على قوة يقينه وعلى تقبله للشريعة الإسلامية، وعلى تحمله لما أمر به، بل المؤمن يفرح بذلك ويسر؛ لأنه عبادة وطاعة، وكل عبادة يحبها الله فالعبد يحبها. ولا أحب أن أطيل في المقدمة؛ لأن العلماء قد أطالوا في ذلك، ومن أراد التوسع في أحكام الصيام فليراجع الكتب التي تُقرأ دائماً في كل رمضان، وهي ميسرة ومبسطة والحمد لله. ونأتي إلى هذه الأحاديث.

النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين وحكمته

النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين وحكمته الحديث الأول قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه) . والحكمة في ذلك أن يتميز رمضان، وأن تكون أيامه متميزة لها أول ولها آخر، فأولها اليوم الأول من شهر رمضان، فلا يصوم اليوم الذي قبله، ولا اليومين الذين قبله، وآخرها اليوم الثلاثون أو التاسع والعشرون إن كان ناقصاً، فلا يصوم اليوم الذي بعده وهو يوم العيد، فيكون رمضان متميزاً؛ لأنه الفرض وما عداه فهو نفل، والنفل يتميز عن الفرض، وذلك بحكمه وبصفته، هكذا قال العلماء. وقد ورد -أيضاً- حديث في السنن فيه أكثر من ذلك، فيه قوله: (إذا انتصف شهر شعبان فلا تصوموا حتى رمضان) ، وهذا الحديث كأنه لم يثبت عند بعضهم، وذكر بعضهم أن فيه ضعفاً، ولكن إسناده على شرط مسلم، فهو صحيح من حيث السند، ولكنه غريب من حيث المتن، وقد تكلم العلماء على حكم الصيام قبل رمضان -أي: من آخر شعبان- وأوضحوا أنه لا بأس به، وقد استدل على ذلك بما روت عائشة رضي الله عنها، قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ما يصوم في شهر شعبان، كان يصوم شعبان إلا قليلاً) تعني أنه يكثر من صيام أيام شعبان، وإنما يفطر منه أياماً قليلة، ولعل ذلك ليقوى على استقبال شهر رمضان؛ فإن الإكثار من صوم شعبان يقوي على شهر رمضان. وروي -أيضاً- في الصحيح (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: هل صمت من سرر هذا الشهر -يعني: شعبان-؟ قال: لا. قال: فإذا أفطرت فصم يومين) ، وسرر الشهر: آخره. فدل على أنه يجوز الصوم من آخره، كاليوم الخامس والعشرين أو السادس والعشرين أو نحو ذلك، فأفاد أنه لا بأس أن يصام في آخر شعبان كما يصام في أوله. فمفاد هذا الحديث والحكمة فيه أن لا يتقدم رمضان بيوم أو يومين حتى يتميز رمضان، ورخص في ذلك لصاحب العادة التي يصومها، مثاله: إذا كنت تصوم كل اثنين أو كل خميس، فوافق أن آخر شعبان يوم الإثنين أو يوم الخميس، فلك أن تصوم ذلك؛ لأن هذا صيام لسبب، ولا بأس بالصيام لسبب، ومثلوا -أيضاً- بمن اعتاد أن يصوم يوماً ويفطر يوماً من دهره كله، كما التزم بذلك بعض الصحابة، وهو صيام داود كما سيأتي. فإذا وافق أن اليوم الذي يصومه هو آخر شعبان فلا بأس أن يصومه بهذا النية، أعني أنه يصوم يوماً ويفطر يوماً، فيصوم اليوم التاسع والعشرين وهو آخر شعبان -مثلاً- أو يفطر التاسع والعشرين ويصوم الثلاثين إذا كان شعبان كاملاً، وعلى كل حال فلا بأس إذا كان له عادة. وهكذا لو كان عليه أيام قضاء، فلو أن إنساناً أفطر من رمضان، أو امرأة أفطرت من نفاس أو حيض ولم يتيسر لها الصيام إلا في شعبان أو في آخر شعبان وجب حينئذ وتحتم، وقد ذكرت عائشة أنها أحياناً لا يتيسر لها صيام أيام القضاء إلا في شعبان أو في آخر شعبان، فدل على أنه لا بأس، فلو أن إنساناً -مثلاً- عليه خمسة أيام من رمضان الماضي وفرط فيها، ولم يتفرغ إلا في اليوم الرابع والعشرين أو الخامس والعشرين من شعبان تحتم عليه أن يصوم الخمسة الباقية؛ لأنها من تمام فرضه للعام الماضي؛ لأنه إذا فرط حتى جاءه رمضان الثاني اعتبر مفرطاً، وألزم بالكفارة مع القضاء، والكفارة صيام أيامه التي ترك وإطعام مساكين بعدد أيامه. فلو قدر -مثلاً- أنك أفطرت خمسة أيام من رمضان، ثم تفارطت الأيام وتتابعت الأشهر وأنت ما صمت، فجاءك رمضان الثاني وأنت ما صمت، فصمت رمضان الثاني والخمسة باقية عليك من الأول فماذا تفعل؟ عليك صيامها بعد رمضان، وعليك إطعام خمسة مساكين جزاءً لتفريطك وتأخيرك. فنقول: يجوز لمن عليه صيام واجب أن يصوم آخر شعبان، ولو كان اليوم الذي يليه رمضان، وهكذا لو نذر أياماً وافق أنها آخر شعبان فإنه يصومها؛ لأن صيام النذر واجب.

ابتداء وقت وجوب الصيام

ابتداء وقت وجوب الصيام أما متى يبدأ في صيام رمضان فالصحيح أنه يجب إذا رأى الناس الهلال أو أكملوا شعبان ثلاثين يوماً، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يهتم لشعبان، فيأمر الناس بأن يهتموا به ليروه وينظروا في دخوله، فإذا دخل شعبان أخذ يعد الأيام، وأمر أصحابه بأن يعدوها، فإذا مضى تسعة وعشرون عند ذلك نظروا، فإن رأوه في ليلة الثلاثين صاموا وصار الشهر ناقصاً -أعني: شعبان-، فإن لم يروه أو كان هناك غيم أو قتر أصبحوا مفطرين وأتموا شعبان ثلاثين يوماً، فهذه هي العادة التي أمر بها عليه الصلاة والسلام. لكن بعض العلماء أخذ من هذا الحديث معنى، فهذا الحديث يقول: (فإن غُم عليكم فاقدروا له) ، فقوله: (إن غم عليكم) يعني: إن كانت ليلة الثلاثين فيها غيم ولم تروه ولم تتمكنوا من رؤيته فإنكم تصومون. هكذا قال بعضهم، قال: (اقدروا له) أي: ضيقوا له. وكان ابن عمر -الذي هو راوي الحديث- إذا كانت ليلة الثلاثين أرسل من ينظر، فإن رأوه أصبح صائماً يوم الثلاثين، فإن لم يروه وكانت السماء صحواً أصبح مفطراً؛ لأنه تحقق أنه لم يثبت، ولو ثبت لرأوه، فإن كان هناك غيم أو قتر قد حال بينهم وبين رؤيته أصبح صائماً، وحمل ذلك على أن قوله: (اقدروا له) يعني: ضيقوا له واجعلوه أضيق شيء. والتضييق أن يجعل شعبان تسعة وعشرين، هكذا عمل ابن عمر، فكأنه يصوم اليوم الثلاثين إذا كانت ليلة الثلاثين فيها غيم أو قتر. ولكن الجمهور على أنه لا يصام ذلك اليوم -الذي هو يوم الثلاثين- إذا كان في السماء قتر أو غيم، بل يصبحون مفطرين؛ لأنه لابد أن يكون الصيام عن رؤية أو عن يقين بدخول الشهر، وذلك يتوقف على إتمام شهر شعبان ثلاثين يوماً. وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام الشك، فقال سلمان: (من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم) ، واليوم الذي يشك فيه هو اليوم الذي لا يدرى هل هو من شعبان أو من رمضان، فيفطرونه حتى يتحققوا أنهم لم يصوموا شيئاً إلا رمضان، حتى يكون رمضان متميزاً ليس فيه ما يخلطه بغيره، هكذا أمر في هذا الحديث، ويدل عليه أنه صلى الله عليه وسلم في بعض الروايات قال: (الشهر هكذا وهكذا وهكذا) ، ثم قال مرة: (وهكذا وهكذا وهكذا) يعني: مرة ثلاثين ومرة تسعة وعشرين. ثم قال: (صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكلموا العدة) أي: فأتموا عدة شعبان ثلاثين يوماً. هكذا أمرنا، فعلينا أن نفطر شعبان حتى نرى الهلال، أو نكمل ثلاثين يوماً إذا لم نره. وهكذا رمضان، فنصوم إلى أن نرى هلال شوال، أو نكمل شهر رمضان ثلاثين يوماً، هذه هي السنة. أما الصيام فمعروف أنه الإمساك بنية عن المفطرات من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس، وهذه مدة يوم الصيام.

السحور وبركته

السحور وبركته في هذه الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته أن يتسحروا في آخر الليل، والسحور: هو الأكلة قبيل الإمساك. فقال في هذا الحديث: (تسحروا؛ فإن في السحور بركة) ، وقد أمر أمته في عدة من الأحاديث أن يتسحروا ولو بتمرة أو بمذقة لبن أو نحو ذلك حتى يتم الامتثال. وأما البركة التي في السحور فيقول بعضهم: إن الذي يتسحر يبارك له في عمله، فيوفق بأن يعمل أعمالاً صالحةً كثيرة في ذلك اليوم، بحيث إنه لا يعوقه الصيام عن الصلوات، ولا يعوقه عن الأذكار، ولا عن القراءة ولا عن الأدعية، ولا يعوقه الصيام ولا يقعده عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى دين الله والتعليم لشرع الله تعالى، وأيضاً لا يعوقه الصيام عن عمله وحرفته وكسبه الذي يكتسب به لنفسه ولولده إذا كان صاحب عمل، بخلاف ما إذا أجهده الصيام لقلة أكله ولكونه ما عهد الأكل إلا في أول الليل، فإنه إذا أصبح أصبح مثقلاً وأصبح متعباً، فلا يستطيع مواصلة عمل، ولا يستطيع أن يقوم بعمل دنيوي، ولا يستطيع أن يقوم بعمل ديني من الأعمال الصالحة التي ندب إليها، فلأجل ذلك رغب في أكلة السحور. وقد ثبت -أيضاً- في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر) ، وروي أنه صلى الله عليه وسلم ترك السحور لما كان يواصل، فدل على أنه ليس بفرض، بل الأمر في قوله: (تسحروا؛ فإن في السحور بركة) الأمر للإرشاد، ولأجل ذلك علله بالبركة التي هي كثرة الخير، فأفاد أنه ليس بفرض، ولو كان فرضاً ما تركه لما واصل بأصحابه. والوصال -كما سيأتي- هو ألا يأكل بين اليومين، أن يصل يوماً بيوم، فيأتيه الليل فلا يفطر ولا يأكل فيه حتى يصله باليوم الذي بعده، فيصوم -مثلاً- ستاً وثلاثين ساعة، يومين بينهما ليلة، هذا هو الوصال. وقيل: أن يصل الليل باليوم فلا يفطر إلا عند السحر؛ لأنه ورد في حديث: (من كان مواصلاً فليواصل إلى السحر) ، ولما واصل يومين أو أياماً دل ذلك على أن السحور ليس بفرض، ولكنه سنة وفضيلة، وعلى كل حال فهو من الأعمال التي رغب فيها النبي صلى الله عليه وسلم.

وقت السحور المستحب

وقت السحور المستحب في الحديث الأخير أنه بين وقت السحور، والسَحور هو الفعل، والسُحور هو الأكل، يقولون: إنه إذا قال: تسحرت سُحوراً فالمعنى: أكلت طعاماً. وإذا قيل: السَحور مرغب فيه فالمراد به الفعل، فهنا بين وقت التسحر وهو آخر الليل، وذلك أنه مشتق من السحر، والسحر هو آخر الليل، وجمعه أسحار، قال تعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران:17] يعني: في آخر الليل. وقال تعالى: {إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} [القمر:34] يعني: في آخر الليل. فالأكل في ذلك الوقت بنية الصيام يسمى سحوراً، وهو الذي ورد الترغيب فيه والحث عليه في هذه الأحاديث، ففي هذا أنه صلى الله عليه وسلم أكل قبيل الأذان، فلم يكن بين فراغه من الأكل وأذان الصلاة إلا قدر خمسين آية، أي: قدر قراءة خمسين آية. يقول زيد: (تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قمنا إلى الصلاة. قال أنس لـ زيد: كم كان بين الأذان والسحور؟ قال: قدر خمسين آية) يعني قراءة خمسين آية من معتاد القراءة، قراءة مجودة ولكن ليس فيها تمطيط ولا مد طويل، وقراءة لآيات متوسطة ليست آيات طويلة جداً، ولا آيات قصيرة كالآيات التي من آخر القرآن، بل الآيات المتوسطة التي من الجزء الثالث -أي: جزء (قد سمع الله) وما بعده-، فهذا متوسط الآيات، أو من أوائل سورة البقرة، قراءة خمسين آية لا تستغرق -مثلاً- بالقراءة المتوسطة عشر دقائق أو نحوها، فقد يستغرق عشراً وقد لا يستغرقها، فهذا دليل على أنه كان يؤخر السحور. وقد ورد -أيضاً- الترغيب في تأخير السحور في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور) ، فهذا دليل على تأخيره، يعني أنه يكون حقاً سحوراً، ولعل الحكمة في تأخيره أن يكون أقرب إلى الإمساك، فإنه إذا كان السحور في وسط الليل لم يكن اسمه سحوراً، وأيضاً لم يبق أثره في النهار، بخلاف ما إذا كان قرب الإمساك فإنه يبقى أثر الأكل، ولا يحس بالجوع إلا بعد مضي مدة لكونه حديث عهد بأكل وبشرب. فالحاصل أن الشرع الشريف جاء بالترغيب في العبادة، والترغيب فيما يحبب العبد إليها والتنفير مما يثقلها، فلما كان الصيام بدون سحور قد يثقل العبادة على العباد أمرهم بالسحور حتى يحبها العباد وحتى يألفوها، وحتى يأتوا بها بصدق ورغبة ومحبة.

مسائل تهم الصائم

مسائل تهم الصائم

حكم الجنب إذا أدركه الفجر قبل الاغتسال

حكم الجنب إذا أدركه الفجر قبل الاغتسال قال المؤلف رحمه الله تعالى في كتاب الصيام: [عن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله، ثم يغتسل ويصوم) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه؛ فإنما أطعمه الله وسقاه) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله! هلكت. فقال: ما أهلكك -أو: ما لك-؟ قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم -وفي رواية: أصبت أهلي في رمضان- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا. قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا. قال: فهل تجد إطعام ستين مسكيناً؟ قال: لا. قال: فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما نحن على ذلك إذ أتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر -والعرق: المكتل- فقال: أين السائل؟ قال: أنا. قال: خذ هذا فتصدق به. قال: أعلى أفقر مني يا رسول الله؟! فوالله ما بين لابتيها -يريد الحرتين- أهل بيت أفقر من أهل بيتي فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال: أطعمه أهلك) الحرة: الأرض تركبها حجارة سود] . هذه أحاديث تتعلق ببعض الأحكام في الصيام، فقد كان أول ما شرع الصيام إباحة الإفطار بعد غروب الشمس إلى أن ينام الإنسان، فإذا نام في وسط الليل أو في آخر الليل أو في أوله لزمه الإمساك إلى الغروب من الغد، فلم يجز له الأكل ولا الشرب ولا الجماع بقية الليلة التي نام فيها، ولم يكن هناك إباحة لأكل السحور في آخر الليل، فعلم الله أن عليهم في ذلك مشقة، فأباح لهم الأكل في الليل والجماع فيه بقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة:187] إلى قوله: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] ، فأباح لهم الجماع والأكل والشرب طوال الليل إلى الفجر، وأمرهم بالإمساك بعد الفجر إلى الليل، أي: إلى ابتداء الليل وهو غروب الشمس. فهذه شرعية الصيام، واستقر الأمر على ذلك. وروى أبو هريرة حديثاً رواه عن الفضل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أدركه الفجر وهو جنب فليقضِ ذلك اليوم) ، ثم إن أبا هريرة أخبر بأنه رواه عن الفضل، ولما نقل له أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنباً رجع عن الفتيا بهذا الحديث، وذكر العلماء أنه من الأحاديث المنسوخة، أي أنه كان قبل إباحة الأكل والشرب والوقاع في الليل، فإذا وطئ ولم يغتسل في الليل وأدركه الفجر قضى ذلك اليوم، وبعد ذلك استقر الأمر على الإباحة. وما الحكم فيما إذا أصبح جنباً قبل أن يغتسل إذا انتبه من الليل في آخره وقد قرب الوقت للسحور وعليه جنابة، فهل يقدم الاغتسال ولو فاته السحور، أو يقدم السحور ولو طلع الفجر ويؤخر الاغتسال؟ A يقدم السحور. وتقدم لنا أنه صلى الله عليه وسلم قال: (تسحروا؛ فإن في السحور بركة) ، ويؤخر الاغتسال؛ فإن وقته واسع ولا يضر تأخيره، وإذا طلع الفجر قبل أن يغتسل اغتسل وصلى وأتم صيامه ولم يضر ذلك بصومه. فأخبرت عائشة وأم سلمة في هذا الحديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنباً من أهله في رمضان، أي: يدركه الفجر وهو جنب من أهله -أي: من جماع لا من احتلام- ثم بعد ذلك يغتسل ثم يصلي الفجر، ثم يتم صيامه، ولا يرده ذلك عن إتمام الصيام، وأخبرتا أن ذلك في رمضان، وأن هذا وقع منه مراراً في رمضان، فأفاد أن هذا الصوم لا يضره كونه أصبح وهو جنب، هكذا ثبت فعله عن النبي صلى الله عليه وسلم. ولا شك -أيضاً- أن الصحابة وقع منهم ذلك تكراراً، وذلك لأن هذا الفعل من ضروريات الحياة، فالإنسان غالباً قد يغلبه النوم بعد الوطء وقبل الاغتسال، فيؤخر الاغتسال إلى آخر الليل، فلا يستيقظ إلا قرب طلوع الفجر، فيؤثر أنه يتسحر ولو طلع الفجر، ويقع هذا كثيراً، فعليه أن يتم صيامه ولا يضر ذلك به، فهذا معنى الحديث الأول.

تناول الصائم مفطرا ناسيا

تناول الصائم مفطراً ناسياً أما الحديث الثاني ففيه أن الله سبحانه وتعالى رفع النسيان والإثم عليه عن الصائم، يقول صلى الله عليه وسلم: (من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه؛ فإنما أطعمه الله وسقاه) . ومعلوم أن الصوم هو الإمساك عن الأكل والشرب والوقاع في نهار رمضان، ومعلوم أن الإنسان محل النسيان، وأنه كثيراً ما تعتريه الغفلة، وكثيراً ما يسهو وينسى صيامه، سيما إذا كان غير معتاد للصيام وغير منتبه له، فقد يقع منه نسيان صيامه فيتعاطى أكلاً أو شرباً، ففي هذه الحال لا يؤاخذه الله بذلك، وقد وردت الأدلة في عدم المؤاخذة بالنسيان، قال الله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] ، وقال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب:5] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (رُفع -أو: وضع- عن أمتي الخطأ والنسيان) ، وفي رواية: (إن الله تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان) ، فالله تعالى لا يؤاخذ على النسيان؛ لأن الإنسان طبيعته النسيان، كما قيل: وما سمي الإنسان إلا لنسيه ولا القلب إلا أنه يتقلب فإذا فعل شيئاً من هذه المحظورات وهو ناسٍ صيامه فلا يضره، حتى إن السهو والنسيان يقع في الصلاة ولا يبطلها، بل تجبر بسجدتي السهو كما هو معروف، فالسهو في الصلاة يجبر بالسجود، وأما السهو في الصيام وتعاطي أكل أو شرب فإنه يقع، فحينئذ يكمل صيامه، ويقال: أتم صيامك؛ فإن الله هو الذي أطعمك وهو الذي سقاك. أي: يسر لك ذلك وأعطاك ما أعطاك. فعليه أن يتم صيامه، ولا ينقص ذلك من أجره. ويبقى أن تقول: إذا رأيته يأكل وأنا أعرف أنه ناسٍ هل أذكره أو لا أذكره؟ وكيف أذكره والله هو الذي أطعمه وسقاه؟ نقول: عليك أن تذكره؛ لأنه يحب ذلك، فالصائم يحب أن يتم صيامه، ويحب أن يكمله، ويحب أن يكون صومه أعظم أجراً، وذلك يتصور فيما إذا أكمل الصيام كما ينبغي، فكلما كان الصوم أشق وأكثر تعباً كان الأجر أكثر، فهو يحب ذلك. وأيضاً فإن هذا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا رأيته يأكل فإن عليك أن تأمره بالإمساك فهو من المعروف، وتنهاه عن الأكل فهو من المنكر. وأيضاً فإن في تركه والناس ينظرون شيئاً من التهاون في أحكام الصيام وإساءة للظن به، حتى يظن أكثر الناس أنه لا يبالي بالصوم، وأنه لم يكن ممن صام وأنه وأنه، فلأجل ذلك يقولون: عليك أن تذكره. ثم هل يلحق الجماع بذلك لو وطئ وهو ناسٍ، فهل يلحق بذلك ويقال: أتم صومك ولا شيء عليك؟ تكلم العلماء في ذلك، وأكثرهم يقولون: لا يكون. وذلك لأن الجماع غالباً تطول مدته، ثم الجماع يكون بين اثنين، وغالباً أنه لا يتصور السهو والنسيان من الزوجين، ولكن لو قدر نسيان الزوجة والزوج معاً واجتماعهما على الجماع ولم ينتبها ولم يعرفا إلا بعد الانفصال، أو بعدما تذكرا انفصلا. ففي هذه الحال نقول: يعفى عنه لدخوله في الأدلة، ولا يؤاخذ بذلك، هذا الذي اختاره كثير من المحققين؛ فإنه داخل في قوله: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] .

مدافعة شهوة الجماع في نهار رمضان وكفارة الجماع

مدافعة شهوة الجماع في نهار رمضان وكفارة الجماع أما إذا كان الجماع عمداً سواء تذكره الزوجان أو تذكره أحدهما فإن فيه الكفارة، وقد دل عليها هذا الحديث الذي ذكره المصنف، وهي كفارة مثل كفارة الظهار. فهذا الرجل ذكر أنه وقع في مهلكة، فقد عرف أن الجماع في نهار رمضان ذنب كبير، ولأجل ذلك قال: هلكت. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أهلكك؟) فأخبر بأنه وطئ امرأته في نهار رمضان، فهو يعرف أنه حرام ويعرف أنه ذنب وأن فيه هلكة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوبخه، ولم يشدد عليه بالتقريع، بل عذره؛ لأن الغالب أنه غلبته شهوته فلم يتمالك نفسه أن وقع في الجماع. وبالمناسبة نقول: أولاً: كثيراً ما يقع هذا من الشباب، وبالأخص إذا تزوج قرب رمضان فإنه تغلبه الشهوة حتى في النهار، فيقع منه إفساد أيام كثيرة أو قليلة، فلأجل ذلك يستحب أن يؤخره إلى بعد رمضان، أو يقدمه على رمضان بأشهر. ثانياً: إذا كان ممن تثور شهوته بمجرد المقاربة فلا يقرب من زوجته أو لا تقرب منه في نهار رمضان، بل ينام كل منهما على فراش بعيداً عن الآخر. ثالثاً: إذا أحس بثوران شهوته فعليه أن يبتعد حتى تبرد شهوته، فإن غلبته فليس له الوطء، بل يخففها بالمباشرة أو نحو ذلك؛ فإن في المباشرة إبطالاً للصيام ولكن لا تلزم الكفارة، والمباشرة تعني مجرد اللمس والضم والتقبيل إلى أن يحصل الإنزال، أو نحو ذلك. أما إذا غلبته نفسه فوقع في الجماع، ولم تندفع شهوته إلا بالإيلاج ففي هذه الحالة عليه الكفارة على الترتيب ككفارة الظهار، فيقال له: أعتق رقبة، وهي -على الصحيح- رقبة مؤمنة سالمة من العيوب المخلة بالعمل، فلابد أن تكون سالمة من كل عيب يخل بالعمل أو يضر به ضرراً بيناً. وإذا لم يجد رقبة أو لم يجد ثمنها ولم يستطع شراءها انتقل إلى صيام شهرين متتابعين لا يفطر بينهما إلا لعذر كمرض أو سفر ضروري، ويكفيه شهران هلاليان، ولو كان أحدهما ناقصاً أو كانا ناقصين. فإذا لم يستطع انتقل إلى الإطعام، فيطعم ستين مسكيناً، والمساكين هم الذين تحل لهم الزكاة، فيطعم كل واحد منهم نصف صاع من الطعام المعتاد الذي يأكله هو وأهله، ويجوز أن يجمعهم جميعاً ويغديهم أو يعشيهم أو يعطيهم ما يكفيهم، فهذه كفارة الوطء في نهار رمضان. بعد ذلك نقول: إذا لم يجد كما في حال هذا الرجل، حيث كان فقيراً، فلما جيء النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الطعام الذي في المكتل - إذ العرق مكتل يسع خمسة عشر صاعاً- قال: تصدق به على المساكين، فأخبر بأنهم فقراء، وأن أهل بيته هم أفقر أهل المدينة التي بين الحرتين؛ لأن المدينة بين حرتين حرة في الشرق وحرة في الغرب، والحرة: هي الأرض التي تركبها حجارة سوداء. فقال: ما بين لابتيها -أي: الحرتين- أهل بيت أفقر منا، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم تعجباً منه، حيث جاء وهو في غاية الوجل وفي غاية الخوف، وجاء وهو مشفق يخشى من العقوبة، ويخشى أنه وقع في مصيبة، وأنه ليس له التخلص من هذه المصيبة، ولا يدري ماذا يحكم عليه به، فلما رأى رقة النبي صلى الله عليه وسلم وانتقاله من حالة إلى حالة، حيث عذره لما لم يجد الرقبة، وعذره لما لم يستطع الصيام، فعند ذلك رجا أن يعذره لما لم يجد الإطعام، ورجا -أيضاً- أن يعذره لما وجد الطعام فيطعمه أهله، فطلب أن يطعم أهله هذا الطعام، وقال: ليس هناك أحد أحوج إلى هذا الطعام من أهل بيتنا، فأمره بأن يطعمه أهله. قال العلماء: لم يأمره أن يقضي إذا وجد، فدل على أنها تسقط بالعجز، فإذا لم يجد الإطعام سقطت عنه إلى غير بدل، ولكن عليه أن يقضي اليوم الذي أفسده، وعليه أن يتقي الله فلا يعود؛ لأن الكفارات شرعت للزجر عن مثل هذه الأمور، فهذه الكفارة كفارة فيها شيء من القوة، وفيها شيء من الشدة، ومع ذلك تساهل النبي صلى الله عليه وسلم حتى جعل الطعام الذي يتصدق به طعاماً لأهله، فأباح له أن يأكله هو وأهله.

حكم المرأة في كفارة الجماع

حكم المرأة في كفارة الجماع لم يذكر في الحديث الكفارة على المرأة، ومعلوم أن الجماع لابد أن يكون بين اثنين، فلم يذكر المرأة، ولم يقل: عليها كفارة كما على زوجها. والعلماء يقولون: إذا كانت مطاوعة فعليها كفارة كما على زوجها، وإذا كانت مكرهة - ملجأة- قد غصبها وألجأها، ولم يكن لها اختيار ولا قدرة على الامتناع فلا كفارة عليها سوى قضاء ذلك اليوم؛ لأن المكره معذور؛ لقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ} [النحل:106] ، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) ، فأما إذا كانت قد وافقت ورضيت بذلك فعليها كما على زوجها من الكفارة، هذا هو الذي عليه جماهير العلماء، وقالوا: إنه صلى الله عليه وسلم سكت عن المرأة لمعرفته أنها فقيرة كما أن زوجها فقير، فإذا كان زوجها لم يجد ما يتصدق به فكيف بالمرأة تجد أو تستطيع؟! فسكت عنها لعذرها كعذر زوجها، أو أن في بيان الحكم لأحد الزوجين تنبيه على الزوج الثاني؛ فإنه إذا عرف أن على الزوج الذي هو أحد المجامعين كفارة فكذلك المرأة، فهذا جواب أهل الحديث عن تركه لذكر المرأة. وذهب آخرون إلى أنه ليس عليها شيء ما دام أنها لم تذكر في الحديث، فكأنهم يقولون: الكفارة الواحدة تكفيهما معاً. ولكن الصحيح أنه لابد لها من كفارة إذا كانت مختارة مطاوعة، أو كانت هي الطالبة أو نحو ذلك، فقد يكون هناك موانع منعت ذكر هذه المرأة، ولكن لا يساويها غيرها في تلك الموانع.

شرح عمدة الأحكام [31]

شرح عمدة الأحكام [31] الصيام عبادة عظيمة، وهي حق من حقوق الله تعالى على عباده، ويتعلق بها جملة من الأحكام الشرعية، ومن ذلك قضاؤها من قبل المكلف نفسه وزمنها الذي يعد تجاوزه تفريطاً، وكذلك قضاؤها عن الميت الذي وجبت في ذمته، كما يتعلق بها بيان الهدي النبوي في الإفطار والسحور، وكذلك حكم الوصال، وغير ذلك مما ينبغي على المسلم أن لا يجهله.

قضاء الصيام

قضاء الصيام قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان يكون علي الصوم في رمضان فما أستطيع أن أقضي إلا في شعبان) . وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) . وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن أمي ماتت وعليها صوم شهر، أفأقضيه عنها؟ قال: لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها؟ قال: نعم. قال: فدين الله أحق أن يقضى) . وفي رواية: (جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن أمي ماتت وعليها صوم نذر، أفأصوم عنها؟ قال: أفرأيتِ لو كان على أمك دين فقضيته أكان يؤدي ذلك عنها؟ قالت: نعم. قال: فصومي عن أمك) ] . هذه الأحاديث تتعلق بقضاء الصوم، سواء الذي يصوم عن نفسه قضاءً أو الذي يصوم عن غيره، فالحديث الأول بتعلق بقضاء الإنسان ما أفطره من أيام رمضان، فالله تعالى أباح الفطر لعذر، قال تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] ، فأخبر بأنه أباح لنا الفطر لمرض أو لسفر لأجل العسر الذي يكون في السفر، وأنه لا يريد العسر بعباده وإنما يريد اليسر، وهذه إرادة دينية شرعية. ولكن لابد من القضاء، فمن أكل في رمضان ثم زال عذره فلابد أن يبادر بالقضاء.

الفور والتراخي في قضاء الصوم

الفور والتراخي في قضاء الصوم وقد اختلف العلماء: هل قضاء رمضان على الفور أو على التراخي؟ والمعنى: هل يبادر حينما ينتهي عذره، فحينما يخرج رمضان ويزول عذره يبادر ويصوم، أو يجوز له التأخير ولو شهراً وشهرين وأشهراً حيث إن الوقت واسع؟ وعلى كل حال فالجمهور على أن له أن يؤخره إذا كان الوقت واسعاً مع تأكد المبادرة واستحباب الصيام بالسرعة، وذلك لأن الإنسان لا يدري ما يعرض له، ولأنه إذا تمادى وأفطر شهر شوال قرب عليه الصيام -مثلاً- في شهر ذي القعدة، ثم كذلك في شهر ذي الحجة، ثم يتهاون بالصيام وتتوالى عليه الأشهر حتى يصل إلى رمضان وهو مفرط، فربما لم يتمكن من إكمال ما صامه، فيأتيه رمضان الثاني وهو لم يصم، فيعد بذلك مفرطاً، وربما مات قبل أن يقضي ما عليه، فيكون -أيضاً- بذلك مفرطاً إذا مات وهو على هذا الإهمال. فلا جرم أنه يبادر، فيصوم أيامه التي عليه، هكذا ذكر العلماء لأجل المحافظة على أداء العمل في وقته، أو حين يتمكن مخافة العوارض. أما عائشة فلها عذر، حيث ذكرت أنها لا تتمكن من القضاء إلا في شعبان، تعني قرب رمضان، فيكون عليها القضاء فلا تتمكن منه إلا في شهر شعبان، وذكرت أن لها عذراً وهو الشغل برسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك لكثرة سفرها معه، فقد كان يسافر كثيراً في غزواته وفي سراياه، وتسافر معه غالباً، والسفر مظنة المشقة. وأيضاً قد تشتغل بحاجاتها الخاصة، وهذا الشغل يحول بينها وبين أن تصوم، وأيضاً قد تظن أن به حاجة إليها في نفسها كاستمتاع ونحوه، وذلك لا يمكنها من أن تصوم، فإذا ظنت أن به حاجة إليها أفطرت، وأيضاً قد تحتاج إلى استئذانه ولا تستطيع الاستئذان، فيكون لذلك لها عذر. ثم نقول: هذا -أيضاً- لم يكن مستمراً، بل يمكن أنه وقع منها سنة أو سنتين، أي: وجد العذر في سنة. ولكن الغالب أنها تصومه مبادرة بذلك، فتصومه حينما ينقضي عذرها، هذا هو الغالب عليها وعلى بقية أمهات المؤمنين وعلى الصحابة رضي الله عنهم، فإذا كان عليهم أيام من رمضان صاموها مبادرة ولم يؤجلوها، هذا هو الأصل فيهم، وذلك لما عرف من حرصهم على أداء العبادة وعدم التفريط فيها مخافة أن يعرض ما يسبب أن بفرطوا، فلذلك يبادرون بالقضاء، فهذا هو المعتاد عندهم.

حكم تقديم صوم النفل على الفرض

حكم تقديم صوم النفل على الفرض يستدل بهذا الحديث بعض الناس على أنه يجوز أن يصوم الإنسان نفلاً وعليه فرض، ويقول: عائشة لا تقضي أيامها إلا في شعبان، ولابد أنها تصوم النوافل، وتصوم -مثلاً- الست من شوال، وتصوم تسع ذي الحجة أو يوم عرفة، وتصوم -مثلاً- يوم عاشوراء أو تاسوعاء، فلابد أنها تتنفل في هذا العام، ومع ذلك يبقى عليها الفرض! والصحيح أنه لا يجوز أن يتنفل قبل أن يؤدي الفرض، فالذي عليه أيام من رمضان يقدمها، ويبدأ بها ولو كان حتى قبل الست من شوال، وحتى ولو فات شوال، فلو أن إنساناً أفطر رمضان كله ثم زال عذره في أول شوال نقول له: صم شهر شوال ما عدا يوم العيد، واجعله عن رمضان، وتسقط عنك الست من شوال، وإن صمتها بعد الانتهاء من أيامك التي عليك فلك الأجر، ولو من ذي القعدة، وذلك لأن هذا قدر ما تستطيعه. ومثله المرأة، فلو نفست في رمضان كله ونفست في عشرة أيام من شوال ولم تطهر إلا في العاشر من شهر شوال نقول: تصوم بقية شهر شوال عشرين يوماً، وتصوم عشرة أيام من ذي القعدة، ولها أن تصوم ستاً من ذي القعدة أيضاً بعد أن تفصل بين الفرض والنفل بفاصل. وأما كون الإنسان يكون عليه أيام من رمضان فيصوم الست قبلها، وهي باقية عليه، أو يصوم يوم عرفة وعليه قضاء، أو يصوم عاشوراء وعليه قضاء فهذا لا يصح، ولو صامها بدون أن ينوي أنها أيامه التي عليه فإن ذلك لا يجزيه، فلو أنه صام تسعة أيام من ذي الحجة وعليه تسعة أيام من رمضان، ونيته صيام هذه التسع لا القضاء فالصحيح أن أيامه باقية عليه وأن هذه بنيتها؛ لأنه نواها تطوعاً، فلا يسقط شيء من أيامها التي عليه. ومن العلماء من يقول: تنقلب إلى أيامه التي أفطر من رمضان. هكذا قالوا، واستدلوا بالحج، وهو أن من حج عن غيره ولم يكن حج عن نفسه انقلبت حجته عن نفسه؛ لقوله في الحديث: (حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة) لذلك الذي كان يلبي عن شبرمة، فالحج صحيح، إلا أنه لا يصح أن يحج عن غيره وهو لم يحج عن نفسه، وذلك لأن العمل لغيره، فأما هذان العملان فهما له، فصيام النفل وصيام الفرض كلاهما عن نفسه، فالفرض آكد، والفرض لابد له من نية، والنفل يصح بنية من النهار. فبذلك نعرف أنه لا يتنفل حتى يقضي أيام فرضه، وإذا تنفل بدون نية الفرض وقعت عن النفل ولم تقع عن الفرض، فهذا مدلول هذا الحديث.

قضاء الصوم عن الميت

قضاء الصوم عن الميت ذكر المؤلف أحاديث في الصيام عن الميت، قوله صلى الله عليه وسلم: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) . وهذا الحديث متفق عليه، ولمَّا رواه أبو داود صرفه إلى أنه في النذر خاصة، ونقل ذلك عن الإمام أحمد، وقال: إن الولي لا يقضي عن الميت صيام الفرض، وإنما يقضي عنه صيام النفل. والمسألة فيها خلاف في قضاء الصوم عن الميت، فهل يقضى عنه كل الصيام الفرض والنذر، أو لا يقضى عنه إلا النذر فقط؟ فذهب الإمام أحمد إلى أن القضاء خاص بالنذر؛ لرواية في بعض الأحاديث كما سيأتي، وذكر أن هناك حديثاً بلفظ: (لا يصلِ أحد عن أحد، ولا يصم أحد عن أحد) ، لكن هذا الحديث محمول على الأحياء، فلا يصوم أحد من الأحياء عن أحد، بمعنى أن تقول له: أفطر -يا أخي- وأنا أصوم عنك صيام الفرض -مثلاً- أو صيام القضاء أو: اترك الصلاة وأنا أصلي لك. أو: صلاتي لك. وذلك لأن هذه العبادات تعبد الله بها الإنسان نفسه، فهو مأمور بأن يفعل العبادة بنفسه، ولا يصح أن يوكل غيره في العبادات، والعبادات البدنية مقصود بها إظهار العبودية، فالصيام مقصود به التعبد لله بترك هذه الشهوات، والصلاة مقصود بها تعبد هذا البدن وهذا الجسد بالذل والخضوع لله بهذه الصلاة، فلا يصح أن يتعبد عنه غيره. لكن استثني من ذلك الميت لهذه الأحاديث، فهذا الحديث عام: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) ، فالصحيح أنه عام يدخل فيه الفرض والنفل، فالفرض مثاله إذا أفطر لمرض أو لسفر ثم تمادى بعد أن انتهى رمضان فلم يصم، ثم أتاه الأجل فمات، فإنه -والحال هذه- يصوم عنه وليه. وخص العلماء ذلك بما إذا كان متمكناً ولم يفعل، مثاله: إذا مرض في رمضان عشرة أيام، وبعدما خرج رمضان شفي وزال مرضه وصح جسمه وتمكن من الصيام واستطاع الصيام، ولكنه أفطر لا لعذر بل إهمالاً وتفريطاً، ثم بعد ذلك عاوده المرض ومات في ذلك المرض الثاني، فنقول: يصام عنه، وذلك لأنه فرط؛ حيث قدر على الصيام ولم يصم. أما إذا لم يفرط فلا، وصورة ذلك: إذا مرض في رمضان وأفطر لهذا المرض، واستمر به مرضه بعد رمضان شهراً أو شهرين أو أشهراً وهو على فراشه لا يستطيع أن يصوم لمرضه الشديد الذي لا يتمكن معه من الصيام، فنقول: إذا مات وهو على هذه الحال فلا قضاء عليه ولا كفارة ولا إطعام، ولا قضاء على وليه، وذلك لأنه لم يجب عليه، إنما يجب عليه إذا تمكن، وهذا لم يتمكن، بل بقي على حالته حتى أتاه أجله، فلا يعد مفرطاً ولا مهملاً. فعرفنا هنا الفرق بين من فرط ومن لم يفرط، فيقضى عن الذي فرط حيث تمكن ولم يفعل، ولا يقضى عن الذي لم يفرط بل استمر به المرض والعذر إلى أن مات، فهذا بالنسبة للقضاء. وهذا إذا جعلنا القضاء عامّاً عن الفرض والنفل، بمعنى أنه يصوم عنه وليه أيامه التي من رمضان، ويصوم عنه أيامه التي نذرها. أما النفل -الذي هو نفل مطلق- فالصحيح أنه يجوز أن يصوم يوماً أو أياماً ويهدي ثوابها لأبيه الميت، أو لأمه، أو لقريبه الميت، ويصل إليه الثواب إن شاء الله. وقد ذهب الإمام أحمد -كما عرفنا- إلى أن القضاء خاص بصيام النذر، وصورة ذلك أن يقول -مثلاً-: إن ولد لي ولد في هذا الشهر فلله عليه أن أصوم شهراً، أو أصوم عشرة أيام أو أسبوعاً. أو يقول: إن شفيت من هذا المرض فلله علي أن أصوم شهراً. أو يقول: إن شفي مريضي. أو: إن قدم غائبي سالماً. أو: إن قدمت تجارتي سالمة. أو: إن ربحت في هذه التجارة كذا وكذا فلله عليه أن أصوم كذاوكذا يوماً. فحصل الشخص، أو ربحت تجارته أو قدمت، أو شفي مريضه، أو شفي هو، أو نجح في أمره، أو حصل الذي شرط ولكنه مات قبل أن يصوم ففي هذه الحال يصوم عنه وليه كما يقضي عنه بقية النذور، فإذا نذر صدقة، أو نذر حجاً، أو نذر اعتكافاً أو نحو ذلك فإنه يقضيه عنه وليه، فكذلك الصيام إذا نذر الصوم ولم يصم حتى مات فإن عليه أن يصوم وليه. أما الفرض فعند الإمام أحمد أنه لا يقضيه، ولكن يتصدق عنه، فيخرج من تركته بقدر ما عليه من أيام رمضان عن كل يوم نصف صاع، فإذا كان عليه عشرة أيام تصدق من تركته بخمسة آصع من البر أو من الأرز عن كل يوم طعام مسكين، هكذا قال الإمام أحمد، فيقول: يطعم عن الفرض كرمضان، ويقضى النذر. وأما أكثر الأئمة فيقولون: لا فرق بينهما، بل يقضى الجميع، فالنذر والفرض كلاهما يقضى، يقضيه أحد أقاربه لهذا الحديث: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) .

كيفية الصيام عن الميت في كل ما يقضى عنه

كيفية الصيام عن الميت في كل ما يقضى عنه الولي هنا يدخل فيه كل الورثة، فيجوز أن يقتسم الورثة هذا الصوم، فإذا كان له خمسة أبناء وخمس بنات والأيام التي عليه عشرة فقالوا: نصوم نحن العشرة يوماً واحداً. فصاموا كلهم يوماً واحداً يكون بمنزلة صيام عشرة أيام، فيقضي ذلك عنه. ويجوز أن يختص به أحدهم، فإذا قالت -مثلاً- أمه: أتبرع بأن أصوم عنه أو قالت زوجته، أو أن أخته صامت عنه، وكذلك ابنه أو أبوه فيجوز أن يتولى ذلك واحد منهم. ويستثنى من ذلك الكفارة، فالصحيح أنه يجب فيها التتابع، وحينئذ يتولاها واحد، فإذا كان الميت عليه كفارة ككفارة القتل صيام شهرين متتابعين، أو كفارة الوطء في نهار رمضان صيام شهرين متتابعين، أو كفارة الظهار صيام شهرين متتابعين ففي هذه الحالة يتولاها واحد يقوم بالصيام لشهرين متتابعين؛ لأنا لو قلنا: يصوم عشرة -مثلاً- ستة أيام لم يكن في ذلك مشقة عليهم، والآية جاءت بلفظ التتابع، فلابد أن تكون الأيام متتابعة يوماً بعد يوم بعد يوم إلى أن يتم العدد. وهذا اختاره بعضهم، وهو الراجح، وإن كان هناك قول بالجواز.

حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين

حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين وفي الأحاديث الأخرى حديث ابن عباس وحديث عائشة أن رجلاً وامرأة سألا النبي صلى الله عليه وسلم، فالرجل قال: إن أبي مات وعليه صوم. والمرأة قالت: إن أبي مات وعليه صوم. والرجل قال: صوم شهر. والمرأة قالت: صوم نذر. وكل منهما استأذن أن يقضي عن أبيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفرأيتَ لو كان على أبيك دين أكنت قاضيه؟ قال: نعم. قال: فدين الله أحق أن يقضى) ، فالله أحق أن يقضى دينه، فهذا الصوم دين لله شبهه النبي صلى الله عليه وسلم بدين الآدمي، وهذا فيه -أيضاً- دليل على المبادرة بقضاء دين الآدمي، فإذا مات قريب لك وأنت الذي ترثه وكان عليه دين ولم يخلف تركة فإنك مطالب بذلك، مطالب بأن توفي عنه؛ لما في هذا الحديث: (أكنت قاضيه؟ قال: نعم. قال: فدين الله أحق أن يقضى) . ويقال كذلك في هذا الصوم، شبهه النبي صلى الله عليه وسلم بالدين، لكن معروف أن الدين يكون في التركة، ويقدم على الإرث وعلى الوصايا وعلى الحقوق كلها؛ لأن الميت قد استوفى حقوق الناس في حياته، فيعطون دينهم ويوفون حقهم من تركته. أما إذا لم يكن له تركة فإن وفاء الدين على ورثته الذين لو كان فقيراً للزمتهم نفقته، فكذلك يوفون دينه، وذلك لأنهم أقرب له، فأولاده -مثلاً- يقومون بنفقته إذا احتاج، فيوفون دينه إذا كان عليه دين وهم ذو سعة وذو مقدرة، وكذلك أبواه، فإذا كان لا مال له كلف الأب أو الأم بالوفاء عنه كما يكلفان بالنفقة عليه في حياته، وهكذا -أيضاً- الإخوة والأخوات والأعمام ونحوهم، يكلفون بأن يقضوا الدين كما أنهم يكلفون بالنفقة، وكما أنه لو خلف مالاً لورثوه فكذلك يوفون ما عليه من الحقوق. فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل الدين في ذمة الميت، وجعل هذا الصيام من جملة الدين أو شبيهاً بالدين، فكما يوفى الدين فكذلك توفى هذه الحقوق التي هي لله، وقال: (فدين الله أحق أن يقضى) .

تابع أحكام الصيام

تابع أحكام الصيام قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور) . وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا فقد أفطر الصائم) . وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال، قالوا: يا رسول الله! إنك تواصل! قال: إني لست كهيئتكم، إني أطعم وأسقى) رواه أبو هريرة وعائشة وأنس بن مالك رضي الله عنهم. ولـ مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر) ] . هذه الأحاديث تتعلق بالصيام، كان النبي صلى الله عليه وسلم يرغب في الصيام ويحببه إلى العباد، ويخبرهم بأنه من أحب الأعمال إلى الله تعالى، بل ورد ما يدل على أن الله تعالى اختاره لنفسه، ففي الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، قال الله تعالى: إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به) ، فلما أخبر بأن الله اصطفى الصيام كان يرغب فيه ويخبرهم بالأشياء التي تحبب الصيام إليهم، فمن ذلك تأخير السحور وتعجيل الفطر حتى لا يكلف؛ لأنهم إذا أخروا الفطور صعب عليهم، حيث يمسكون جزءاً من الليل، وكذلك إذا عجلوا السحور فتسحروا قبل الفجر بساعة أو بساعات زادت مدة الإمساك، فبدل أن يمسكوا النهار أمسكوا النهار وأمسكوا جزءاً من الليل، وكذلك إذا وصلوا الليل بالنهار فأمسكوا النهار كله والليل كله كان في ذلك -أيضاً- تنفير لهم عن الصيام وتثقيل له عليهم، فلا جرم حبب إليهم الأشياء التي يكون الصيام بها خفيفاً عليهم ومحبوباً عندهم بحيث تألفه نفوسهم، وبحيث تطمئن إلى محبته ولا يستثقلونه.

هدي النبي صلى الله عليه وسلم في وقت الفطور والسحور

هدي النبي صلى الله عليه وسلم في وقت الفطور والسحور قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور) الخير الذي وصفهم به هو أنهم يحبون هذا العمل الذي هو الصيام، وأنهم يسيرون على النهج القويم، وأنهم يتمسكون بالسنة، وأنهم يؤدون العمل الذي أمروا به، ولا شك أن العمل الذي أمروا به هو الإمساك -إمساك النهار-، والله تعالى قد حدد النهار، وحدد وقت الإفطار في قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] ، فجعل الإمساك يبدأ من تبين الخيطين، والخيطان هما الليل والنهار، يعني: إذا تبين الخيط الأبيض الذي بدأ وهو ضياء الصبح والخيط الأسود انفصل -وهو سواد الليل- كان هذا وقت الإمساك. كذلك -أيضاً- أمر بالإمساك إلى الليل فقال تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] ، فالليل يبدأ بغروب الشمس كما حدده النبي صلى الله عليه وسلم، فما دام الأمر كذلك فإن الذي يتمسك بالسنة ويؤديها هو الذي لا يزال بخير، والسنة هنا هي إمساك هذا الزمن الذي حدده الله تعالى، فيقول: (لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور) . وقد ورد -أيضاً- الترغيب في تعجيل الفجر، فثبت في بعض الأحاديث أن اليهود لا يفطرون حتى تشتبك النجوم، فأمرنا بمخالفتهم، وثبت -أيضاً- أنهم لا يتسحرون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر) أي: هي الفارقة بين صيامنا الذي هو صيام الإسلام وصيامهم الذي هو صيام اليهودية أكلة السحر فهي الفاصلة بيننا وبينهم.

وقت الإفطار، وهل هو أمر أو حكم؟

وقت الإفطار، وهل هو أمر أو حكم؟ في حديث عمر قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا فقد أفطر الصائم) حدد بهذا وقت الإفطار، وهو إقبال الليل من جهة المشرق وإقبال النهار من جهة المغرب وغروب الشمس. وإذا نظرت بعدما تغيب الشمس وجدت سواداً في جهة الشرق، فهذا هو الليل إذا أقبل، وكذلك تنظر بعد غروب الشمس إلى بياض النهار قد انعزل وتبع الشمس، فهذا هو إدبار النهار من جهة الغروب، ولا يكون ذلك إلا بغروب الشمس، فإذا تم غروب الشمس عند ذلك يبدأ طلوع الليل وبدوه وإقباله من جهة الشرق، فذلك وقت الإفطار. واختلف في معنى قوله: (فقد أفطر الصائم) فقيل: معناه: فليفطر. أي: إذا أقبل الليل وأدبر النهار فأفطروا فهذا وقت الإفطار. وقيل: معناه: فقد أفطر حكماً وإن لم يتناول مفطراً. أي: أصبح في حكم المفطر وإن لم يأكل شيئاً، وعلى هذا فيكون الذي يواصل أو يستمر في عدم الأكل لا يثاب على استمراره، ولا يعد هذا من الصيام، وذلك لأن الليل ليس من الصيام، فالليل ليس زمناً للصيام، فالصيام زمنه هو النهار. وقد ذكرنا الحكمة، وهي أنه متى قل الزمن كان الصيام محبوباً عند النفس وغير شاق عليها، فإذا قل الزمن الذي بين الإمساك وبين الإفطار صار هذا الزمن زمناً معتاداً ليس فيه ثقل وليس فيه مشقة، فيتمكن المسلم المعتاد أن يمسكه ولا يتضرر، ويقدر بخمس عشرة ساعة أكثر ما يكون أو مع زيادة قليلة، وقد ينقص إلى أن يكون زمن الإمساك اثنتي عشرة ساعة أو نحو ذلك، وهذا لا مشقة فيه. وإذا وجد في بعض البلاد مشقة ففيهم احتمال لذلك، فقد يوجد في بعض البلاد أن يطول النهار فيها، فيكون النهار في ثماني عشرة ساعة أو سبع عشرة ساعة، وقد يصل إلى تسع عشرة وإلى عشرين ساعة، ولكن الغالب أنه يكون بارداً، فالزمن زمن برودة، ولا يجتمع -غالباً- طول نهار مع حر، بل يكون الوقت فيه برودة وسهولة فيسهل الصوم، والله تعالى لا يكلف العباد إلا بما يطيقونه، ولكن لو قدر في تلك البلاد أنهم لا يطيقون لطول النهار وكذلك لصعوبته ولكونه شديد الحر جاز لهم أن يفطروا ثم يقضوه إذا قصر النهار، وذلك لأنه يطول في زمان ويقصر في زمان كما يكون عندنا، ففي الصيف يكون النهار خمس عشرة ساعة أو أكثر، وفي الشتاء يكون النهار نحو ثلاث عشرة أو اثنتا عشرة ساعة، فكذلك عندهم، فإذا وصل في الصيف إلى عشرين ساعة فينقص في الشتاء إلى اثنتي عشرة ساعة أو ثلاث عشرة ساعة أو نحو ذلك، وهو محتمل، فأباح بعض العلماء أن يفطروا في رمضان لأجل طول النهار وعدم احتماله، ثم إنهم يصومون إذا أطاقوا الصيام في أثناء السنة ولا حرج عليهم. ومثلوا لذلك بمن سافر في رمضان والزمن شديد الحر وأفطر، ثم صامه في الشتاء والزمن قصير النهار وفيه برودة، ولا إثم في ذلك ولا حرج إن شاء الله؛ لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] .

الوصال وحكمه

الوصال وحكمه حديث النهي عن الوصال رواه جماعة من الصحابة كما ذكر المصنف، رواه عبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، وأبو هريرة، وعائشة، رووا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصال، فقال الصحابة: (إنك تواصل يا رسول الله! قال: إني لست كهيئتكم، إني أطعم وأسقى) ، وفي رواية: (إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني) . والوصال: صلة الليل بالنهار، وهو ألا يفطر بينهما، وربما واصل يومين وليلة، فيتسحر فيأتي الإفطار فلا يفطر، ويستمر في عدم الأكل إلى السحر، أو يفطر ثم يتوقف عن الأكل ولا يستحر، وينوي الصيام من المغرب إلى المغرب من اليوم الثاني، أو ينوي الصيام من الفجر إلى الفجر الثاني، أو يمسك ستاً وثلاثين ساعة، أي: يومين وليلة فهذا هو الوصال. ولا شك أن فيه مشقة، وذلك لأن نفس الإنسان ضعيفة لا تعيش عيشة تامة إلا على ميل إلى شهواتها، ولا شك أن من أعظم ما تعيش به وتبقى به هذه النفس هو الأكل والشرب الذي به حياتها وبه بقاؤها، وقد جعلهما الله تعالى غذاءً لهذه النفس وسبباً في حياتها، وأمراً ظاهراً في بقائها وفي قوتها، فإذا ترك الإنسان الأكل والشراب هذه المدة أجهد نفسه وأضرها، وربما أدى به ذلك إلى أن يضعف عن الواجبات، وربما أدى به إلى المرض أو إلى الموت إذا واصل أياماً طويلة، وربما أدى به إلى كراهة الصيام إذا واصل هذه الساعات ستاً وثلاثين ساعة أو أكثر وهو لا يأكل ولا يشرب، فلا شك أنه يجهده ذلك أو يمرضه، فلذلك نهى عن الوصال، وأمرنا بأن نفطر عند وقت الإفطار ونتسحر عند وقت السحور، ونستعين بهذه الأكلات وهذه الوجبات على الأعمال الصالحة. فالعبد إذا نوى بأكله التقوي على الطاعة، والتقوي على العبادة كان ذلك مثاباً عليه، وإذا نوى بشربه التقوي على طاعة الله حتى لا يضعف بدنه عن صلاته ولا عن قيامه ولا عن عبادته ولا عن جهاده ولا عن كسبه لأهله ونحو ذلك، فنوى بذلك هذه الأشياء أثيب عليه، أما إذا زهد في الطيبات وأضعف نفسه وأهلكها فيوشك أن يمل من العبادة وأن يضعف جهده ويضعف جلده، فيؤدي به ذلك إلى أن يبغض العبادة ولا يعود إليها. وعلى كل حال ففي هذا الحديث أن الصحابة قالوا: يا رسول الله! إنك تواصل! ويظهر أنهم رأوه لا يفطر إذا أفطروا، فرأوا أنه يواصل الليل بالنهار، أو يصل النهار بجزء من الليل، فأخبر بأنه يطعمه الله ويسقيه، فقال: (إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني) ، واختلف في هذا الإطعام والسقي، فقيل: إنه حقيقي، فيؤتى من الجنة بطعام وشراب لا يطلع عليه الناس. وهناك قول آخر، وهو أن الإطعام والسقي الذي ذكر ليس طعاماً حقيقياً، وإنما هو ما يفتح الله على قلبه من الإلهامات، وما يتوارد عليه من الأذكار والفتوحات، فتقوم مقام الطعام والشراب، ويعبر عن ذلك بعضهم بأن هذه قوى معنوية يمده الله بها من آثار ذكره، ومن آثار شكره، ومن آثار عبادته، فيقويه الله حتى يكون ذلك قائماً مقام الزاد ومقام الأكل والشرب، وفي ذلك يقول بعضهم: لها أحاديث ذكراك تشغلها عن الطعام وتلهيها عن الزاد وهذا هو المعنى الصحيح، أي أنه لم يكن أكلاً وشرباً حقيقياً، وإنما هو فتوحات وإلهامات تفيض على روحه من ربه فتقوم مقام الطعام والشراب. وعلى كل حال فقد نهاهم عن الوصال، وأخبر بأنه ليس كمثلهم، فليس لهم من الإلهامات والفيوض التي يفتحها الله عليه ما له، فعليهم أن يستعينوا بالأكل والشرب على ما أمروا به. وفي بعض الروايات أنهم لما رأوه يواصل استمروا في الوصال، يقول الراوي: (فواصل بهم يوماً ثم يوماً، ثم رأوا الهلال، وقال: لو تأخر لزدتكم. كالمنكل لهم لما أبوا أن ينتهوا) . وقد ورد في بعض الروايات -كما ذكر المصنف- قوله صلى الله عليه وسلم: (فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر) ، وفي بعض الروايات: (أنه صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر كان يجعل عشاءه سحوراً) ، فكان يتناول فطوراً يسيراً، فيفطر على تمرات أو على رطبات أو على جرعات من ماء، ثم يؤخر العشاء فيجعله سحوراً ليكون أخف له عند قيامه من الليل، فمن أراد أن يقتدي به تناول إفطاراً خفيفاً. وأخر العشاء إلى الليل ليكون أقوى له على القيام، ومن رأى أن نفسه لا تصبر على ذلك فله أن يتزود من الأكل بما يكون له متاعاً. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

شرح عمدة الأحكام [32]

شرح عمدة الأحكام [32] الصوم من أعمال البر الفاضلة، وقد أوجب الشرع صيام شهر رمضان ورغب فيما عدا ذلك من الأيام، وجعل المراوحة بين الصوم والفطر من أفضل ما يتقرب به من أراد الصيام تخفيفاً على النفس ودفعاً لها إلى محبة الطاعة، كما نهى الشرع مع ذلك عن صيام بعض الأيام.

أعمال من الخير فاضلة

أعمال من الخير فاضلة قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [باب أفضل الصيام وغيره. عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: (أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أني أقول: والله لأصومن النهار ولأقومن الليل ما عشت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنت الذي قلت ذلك؟ فقلت له: قد قلته بأبي أنت وأمي يا رسول الله. قال: فإنك لا تستطيع ذلك، فصم وأفطر، وقم ونم، وصم من الشهر ثلاثة أيام؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها، وذلك مثل صيام الدهر. قلت: إني لأطيق أفضل من ذلك. قال: فصم يوماً وأفطر يومين. قلت: إني لأطيق أفضل من ذلك. قال: فصم يوماً وأفطر يوماً، فذلك صيام داود عليه السلام، وهو أفضل الصيام. قلت: إني لأطيق أفضل من ذلك. فقال: لا أفضل من ذلك) ، وفي رواية قال: (لا صوم فوق صوم أخي داود عليه السلام، شطر الدهر صم يوماً وأفطر يوماً) . وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أحب الصيام إلى الله صيام داود عليه السلام، وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام ثلثه، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أوصاني خليلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام) ] . هذه الأحاديث تتعلق بصيام التطوع، فالله تعالى فرض جنس الصيام وهو شهر رمضان فرضه وألزم به، وجعله ركناً من أركان الإسلام، ورغب النبي صلى الله عليه وسلم في التطوع في جنس الصيام زائداً عن الفرض، وفعل جنس ذلك، فثبت عنه أنه كان يسرد الصيام أحياناً حتى يقولوا: لا يفطر. ويسرد الفطر أحياناً حتى يقولوا: لا يصوم. ولكنه لم يستكمل صيام شهر بأكمله إلا شهر رمضان، وغالباً كان يصوم من كل شهر أياماً، وقد حث ورغب على جنس الصيام، فرغب في صيام ستة أيام من شهر شوال، ففي صحيح مسلم عن أبي أيوب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال فكأنما صام الدهر) ، ورغب في صيام أيام عشر ذي الحجة ما عدا العاشر وهو يوم العيد، وأخبر في بعض الروايات بفضل صيامهن، وبالأخص صيام يوم عرفة كما تقدم، وكذلك رغب في صيام يوم عاشوراء، وهكذا في التنفل المطلق، ورغب في صيام كل اثنين وكل خميس، وأخبر بأن الأعمال تعرض فيهما على الله، يقول: (فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم) . ورغب في صيام أيام البيض التي هي الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر من كل شهر، ورغب في صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وهو موضوع هذه الأحاديث. وقد أوصى بذلك بعض أصحابه، فأوصى أبا هريرة، وأوصى أبا ذر، أوصى كلاً منهما بثلاث، يقول: (أوصاني خليلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام) ، فأما الوتر قبل النوم فجعله من باب الاحتياط، وقيل: إن أبا هريرة كان يدرس الحديث في أول الليل، فلا يتمكن من القيام في آخر الليل، فكان يصلي أول الليل، ويوتر قبل أن ينام، لكنه بعد ذلك كان يقوم أكثر الليل أو ثلث الليل. وأما ركعتا الضحى فالمراد أن يصلي في الضحى ركعتين نفلاً، وإن زاد فله أجر. أما صيام ثلاثة أيام من كل شهر فقد أوصاه بذلك، وأصى به -أيضاً- عبد الله بن عمرو بن العاص، وكان عبد الله في أول شبابه من العباد المبالغين في العبادة، فالتزم أن يصوم النهار وأن يقوم الليل، أن يصوم الدهر كله ولا يفطر أبداً، وأن يقوم الليل كله ولا ينام أبداً، فالتزم بذلك حتى إنه لما تزوج لم يتفرغ لزوجته، فشكاه أبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما حضر عنده قال له: (إن لنفسك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقاً، وإن لربك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه) ، وذلك حين التزم بهذا الأمر الذي فيه مشقه، وهو صيام النهار كله وقطع نفسه عن الشهوات وقيام الليل كله وعدم التفرغ لأية شهوة من الشهوات المباحة، حتى إنه كان يقرأ القرآن كله في كل ليلة، فقال له: (كم تصوم؟ قال: كل يوم. فقال: كم تختم؟ قال: كل ليلة) يعني أنه يختم القرآن في كل ليلة ويصوم النهار، فعند ذلك أخبره بأنه إذا فعل ذلك كلف نفسه وشق على نفسه في الصيام، فأنزله إلى أن يصوم يوماً ويفطر يوماً، وأمره أولاً بأن يقتصر على ثلاثة أيام من كل شهر، يقول: قلت: إني أطيق أفضل أو أكثر من ذلك. فعند ذلك نقله إلى أن يصوم ثلث الدهر، فيفطر يومين ويصوم يوماً، ولكنه لم يقتنع، وطلب أن يزداد في الصيام، وقال: إني أطيق أفضل من ذلك أو أكثر من ذلك. فرفعه إلى أن يصوم النصف، أن يصوم نصف الدهر، فيصوم يوماً ويفطر يوماً، ولكنه -أيضاً- لم يقتنع، بل طلب الزيادة، وتمنى أن يصوم أكثر الدهر، لكن النبي صلى الله عليه وسلم قصره على ذلك ولم يرخص له في الزيادة على نصف الدهر، فيصوم صوم داود، يصوم يوماً ويفطر يوماً، فالتزم بذلك. وأمره في القيام أن يقوم ثلث الليل، والثلث كثير، وأمره بأن يقرأ في كل ليلة سُبع القرآن، فيختم في كل سبع ليال، والتزم. ولكنه أسف بعد ذلك، فلما طالت به الحياة ثقل عليه هذا الصوم الذي هو الاستمرار في أن يصوم يوماً ويفطر يوماً، وثقل عليه ذلك، وتمنى أن يكون قبل الرخصة، وتمنى أن يكون قبل صوم ثلاثة أيام من كل شهر، ولكن لم يترك ما التزمه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكره أن يترك شيئاً فارق عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فكان أحياناً إذا أراد أن يريح نفسه أفطر أياماً وأحصاهن، فيفطر -مثلاً- عشرة أيام متوالية ليريح نفسه، ثم يصوم بعددهن عشرة أيام متوالية كراهية أن يترك شيئاً فارق عليه النبي صلى الله عليه وسلم، أما القيام فكان إذا أراد أن يخف عليه القرآن عرضه على بعض أهله نهاراً، فيقرأ السبع في النهار، فيقرأ -مثلاً- في الليلة الأولى البقرة وآل عمران والنساء، ثم قبل أن يأتي الليل يعرضها، فيقرأها على بعضهم حتى تخف عليه في الليل، وهكذا التزم. فالتزم بذلك إلى أن توفي وهو على ذلك، ولم يخل بما فارق عليه النبي صلى الله عليه وسلم. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا صوم داود، وأن أفضل القيام قيام داود، وقد كان داود يصوم يوماً ويفطر يوماً، وداود عليه السلام نبي من أنبياء الله قد آتاه الله الملك والحكمة كما أخبر بذلك في قوله: {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} [البقرة:251] . وكذلك قد فضله بفضائل في قوله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ * وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص:17-20] فكان من الشاكرين امتثالاً لقول الله: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] . فالتزم داود أن لا يمر على أهله وقت إلا وفيهم مصل أو تال أو عابد بأية عبادة حتى يكونوا شاكرين لما أعطاهم الله تعالى، فالتزم داود هذا الوصف، أن يصوم يوماً ويفطر يوماً، أما في القيام فالتزم أن ينام النصف الأول من الليل، ثم يقوم ثلث الليل -وثلث الليل بعد النصف-، ثم يريح نفسه سدس الليل الأخير الذي قبيل الفجر، فيكون قيامه الثلث الذي في وسط الليل الذي يبدأ من نصف الليل الثاني، هكذا كان قيام داود، وهكذا كان صيامه. وعلى كل حال فمن قدر على هذا الذي هو صوم داود صامه وله أجر، ومن اقتصر على أن يصوم أيام البيض فله ما نواه وله أجره، ومن زاد على ذلك فله أجره، ومن صام كل إثنين وكل خميس لما ذكرنا من أن الأعمال ترفع فيهما فإن له أجره، ومن اقتصر على صيام أيام البيض أو ثلاثة أيام من كل شهر فله أجره. وكان عبد الله بن عمر بن الخطاب يصوم ثلاثة أيام من كل شهر ويستمر على ذلك، ولكنه يصومها من أول الشهر، ولا ينتظر أيام البيض، فقيل له: لماذا لا تؤخرها إلى أيام البيض؟ فقال: وما يدريني أني أعيش إلى البيض. يقول: ربما أموت قبل أيام البيض، أو ربما يشغلني شاغل. فكان يقدمها. وعلى كل حال فمن أراد أن يتطوع بهذه الأيام فيصوم ثلاثة أيام من كل شهر جاز أن يصومها ثلاثة من أول الشهر، وجاز من وسطه، وجاز من آخره، وجاز أن تكون متوالية وأن تكون متفرقة، فيصوم من أوله يوماً ومن وسطه يوماً ومن آخره يوماً، أو يصوم يوماً ويفطر يوماً إلى أن يتم الثلاثة، والكل جائز، ويصدق عليه أنه صام ثلاثة أيام من كل شهر، وهي عشر الشهر، وقد بين النبي عليه السلام أن الحكمة فيها أن الحسنة بعشر أمثالها، وحينئذ كأنه صام الشهر كله، فإذا صام ثلاثة أيام فكأنها ثلاثون يوماً -أي: كأنها الشهر-، ثم يصوم من الشهر الثاني ثلاثة أيام فكأنه صام الثلاثين يوماً، فيصبح كأنه قد صام الدهر، مع أنه لم يصم إلا عُشر الدهر، ولكن الله تعالى يضاعف لمن يشاء.

صيام الدهر الممنوع منه والجائز

صيام الدهر الممنوع منه والجائز أما صيام الدهر فقد ورد النهي عنه، ففي بعض الأحاديث أنه عليه الصلاة والسلام قال: (لا صام من صام الدهر) ، وفي رواية: (لا صام من صام الدهر ولا أفطر) يعني أنه أشغل نفسه وأتعب نفسه، فلا صام صياماً يحصل له به الامتثال، ولا أفطر. ومع ذلك فقد نُقل عن كثير من السلف أنهم يسردون الصيام، ولا يفطرون إلا يوم العيد أو أيام التشريق، ولا يفطرون إلا الأيام التي نهي عنها، فيسرد أحدهم الصوم، ومع ذلك يخفي نفسه ويخفي حالته، فلا يشعر به أحد حتى أهله، فكان بعضهم إذا أصبح أخذ رغيفين من خبز أهله وخرج بهما، فيظن أهله أنه أكلهما، ويظن أهل السوق أنه قد أكل في بيته، فإذا دخل السوق تصدق بهما على المساكين، فيتم صيامه ولا يشعر به أحد. وعلى كل حال فهذا من باب الاجتهاد، وإن كان فيه شيء من التشديد على النفس، وفيه شيء من الضيق والضرر على النفس، وأما صيام يوم وإفطار يوم فإن فيه راحة النفس في نصف الأيام، وفيه تعويدها على هذا الصبر الذي هو صيام هذه الأيام الكثيرة، وفيه الاقتداء بنبي من أنبياء الله تعالى.

أيام منهي عن صيامها

أيام منهي عن صيامها

صوم يوم الجمعة منفردا

صوم يوم الجمعة منفرداً قال المؤلف رحمه الله تعالى: [عن محمد بن عباد بن جعفر قال: (سألت جابر بن عبد الله: أنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الجمعة؟ قال: نعم. وزاد مسلم: ورب الكعبة) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوماً قبله أو يوماً بعده) . وعن أبي عبيد مولى ابن أزهر -واسمه سعد بن عبيد - قال: (شهدت العيد مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: هذان يومان نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامهما: يوم فطركم من صيامكم، واليوم الآخر الذي تأكلون فيه من نسككم) . وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يومين: النحر والفطر، وعن اشتمال الصماء، وأن يحتبي الرجل في الثوب الواحد، وعن الصلاة بعد الصبح والعصر) أخرجه مسلم بتمامه، وأخرج البخاري الصوم فقط. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صام يوماً في سبيل الله بعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً) ] . هذه أحاديث تتعلق بصيام التطوع، أي: ما يصح صومه وما لا يجوز صومه، فالحديثان الأولان في حكم صوم يوم الجمعة، وقد يجب صوم يوم الجمعة كما إذا كان في أيام رمضان، ففي شهر رمضان تقع عدة أيام جمعاً أربع أو خمس جمع، ويصومها المسلمون ولا يفطرونها، وذلك لأنها في وسط الشهر الذي أمروا بصيامه، وكذلك إذا كان الإنسان يسرد الصوم، فإنه إذا مر به يوم الجمعة في أثناء صيامه فإنه يصومه، وكذلك إذا كان يخصه أو ناسب له لموجب أو لسبب فإنه يصومه. مثاله: إذا كان الإنسان يصوم يوماً ويفطر يوماً كصوم داود، ووافق أنه أفطر يوم الخميس وصام يوم الجمعة، وأفطر يوم السبت وصام يوم الأحد، وأفطر يوم الإثنين وصام يوم الثلاثاء، وهكذا، ففي هذا يكون قد صام يوم الجمعة مع فطره لليومين الذي قبله والذي بعده، ولكن قصد بذلك أن يتبع، فيصوم يوماً ويفطر يوماً. أما صومه المنهي عنه في هذه الأحاديث في قول جابر: (إي ورب الكعبة) فيعني: نهى عن صوم الجمعة ورب الكعبة. أي: أقسم بذلك، وهو أنه نهى عن صوم يوم الجمعة. وفي الحديث الثاني أنه رخص فيه إذا ضم إليه يوماً، فإذا صام معه يوماً قبله أو يوماً بعده فإن ذلك يجوز الصيام ويزيل المحذور، وفي بعض الروايات: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على إحدى أمهات المؤمنين وهي صائمة يوم الجمعة -أو على إحدى بناته- فقال: أصمتِ أمس؟ قالت: لا. قال: أتصومين غداً -يعني يوم السبت- قالت: لا. قال: فأفطري، فنهاها عن إفراد يوم الجمعة، فدل على أن النهي يختص بتخصيص يوم الجمعة بدون أن يصوم معه يوماً قبله أو يوماً بعده، فيزول المحذور إذا صام يوم الخميس والجمعة، أو صام يوم الجمعة والسبت. فهذا وجه النهي، وسببه أن يوم الجمعة عيد الأسبوع، فتخصيصه بالصيام ليس له مزية، والأعياد الأصل أنها أيام إفطار، فعيد الأسبوع هو يوم الجمعة، ولعل النهي -أيضاً- لئلا يعتقد أن له مزية لأنه يوم الأعمال أو يوم الراحة أو نحو ذلك، ومن المعلوم أن عيد الأسبوع للنصارى يوم الأحد، وعيد الأسبوع لليهود يوم السبت، وعيد الأسبوع لهذه الأمة يوم الجمعة، فلأجل ذلك نهي عن إفراده بالصوم.

صوم يومي العيدين

صوم يومي العيدين أما الحديث الذي بعده فهو في النهي عن صوم يومي العيدين: يوم عيد الفطر وهو أول يوم من شوال، ويوم عيد النحر وهو اليوم العاشر من شهر ذي الحجة كما هو معروف. وصوم هذين اليومين حرام، ووردت أدلة تدل على التحريم، وعلل النهي عن صوم يوم النحر بأنه اليوم الذي يُذبح فيه النسك، فيقول: (تأكلون فيه من نسككم) ، فالحجاج يذبحون فيه قربانهم وفديتهم، وغير الحجاج يذبحون فيه أضاحيهم، وكلها مناسك ونسك يذبحونها، فمن آثار ذلك أن لا يصوموا، وأن يأكلوا من ذبائحهم ومن الطعام الذي أحله الله لهم وأمرهم بالأكل منها في قوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج:28] ، وقال تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج:36] ، ولو صاموا لما أكلوا منها أكلاً مطلقاً، وإن كانوا قد يأكلون إذا أفطروا ليلاً، ولكن الأكل المعتاد هو الأكل منها حينما تذبح نهاراً، وبذلك تعرف حكمة الله. وكذلك -أيضاً- لا شك أنه يوم فرح، فيوم العيد -عيد الأضحى- يوم فرح، وذلك لأن الحجاج يفرحون بإتمام نسكهم، وغير الحجاج يفرحون بإتمام أعمالهم حيث عملوا فيها من الأعمال ما يرجون ثوابه، فصاموا في تلك الأيام وتصدقوا، وكذلك ذكروا الله وكبروه وعبدوه، فكان عليهم أن يشكروا نعمة الله، وأن يفرحوا بما أعطاهم الله تعالى وبما أباح لهم، ويوم الفرح هو اليوم الذي تسر فيه النفوس، فلا يناسب أن يصوموه. وأيضاً فإن هذا اليوم مع الأيام التي بعده -وهي أيام التشريق- كلها أيام ذبح، ولو صاموا لشق عليهم الصوم مع الاشتغال بذبح القربان وبالتصدق به وما أشبه ذلك، ولو صامه الحجاج لشقت عليهم الأعمال التي يعملونها، فإنهم في يوم العيد يذبحون، وكذلك يرمون ويحلقون ويطوفون ويسعون، فيتكلفون تكلفاً، والصيام قد يتعبهم، فنهوا عن الصيام حتى ولو كانوا من أهل مكة، وكذلك تبعهم غيرهم من أهل القرى في أنهم لا يشرع لهم الصيام في هذه الأيام.

صوم أيام التشريق

صوم أيام التشريق أما أيام التشريق الثلاثة التي بعد العيد -وهي الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من شهر ذي الحجة- فهذه -أيضاً- لا يجوز صومها، وهي أيام أكل وشرب، وتسمى أيام منى، وثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أيام منى أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل) ، والأكل والشرب ينافي أن يكون هناك صيام؛ لأنه يقلل من التمتع بنعم الله تعالى وبرزقه، فناسب أن الحجاج وكذلك غيرهم من المقيمين يفطرون في أيام التشريق، ولأنهم في تلك الأيام غالباً يذبحون، ولا يزال عندهم بقية من لحوم الأضاحي، فناسب أنهم يأكلون منها ولا يصومون. أما يوم عرفة فقد تقدم أنه اليوم الذي فضله كبير، وأن صيامه عظيم وأجره كبير، إلا للحجاج، فالحجاج يفطرون يوم عرفة، وورد النهي عن صوم يوم عرفة بعرفة، وورد الأمر بصوم عرفة لغير الحجاج، فيعتبر يوم عرفة للحجاج من أيام الأعياد، وفي حديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب) . أما عيد الفطر -وهو اليوم الأول من شهر شوال- فإنه يحرم أيضاً صومه؛ لكثرة الأحاديث التي تنهى عن صيامه، والحكمة فيه أنه يوم فرح. وبأي شيء هذا الفرح؟ إن الفرح المذكور بإكمال الصيام، فالله تعالى إذا وفق العباد فأكملوا صيام شهرهم وقضوه وأتموه، وأتموا هذا الشهر بكماله قياماً وصياماً وقراءة وعبادة، وانتهى هذا الشهر ناسب أن يظهروا الفرح بهذه الأعمال، فجعل لهم يوم عيد بعد هذا الشهر مباشرة، فاليوم الذي يلي رمضان جعل يوم عيد يظهرون فيه سرورهم وابتهاجهم، ولا يجوز لهم -والحال هذه- أن يصوموا. وأيضاً فأمرهم بالفطر ليحصل الفصل بين رمضان وغيره، ليحصل أنهم أفطروا اليوم الذي يلي رمضان، فيتميز رمضان عن غيره كما أمروا أن يميزوا أوله. وبذلك عرف أن صيام هذين اليومين -يوم الفطر ويوم النحر- ممنوع ومحرم لهذه الحكم. وفي هذا الحديث النهي عن صوم يومين: يوم الفطر ويوم الأضحى، والنهي عن صلاتين: صلاة بعد العصر وصلاة بعد الفجر، أي: في أوقات النهي، وقد تقدم الكلام عليها في الصلاة. وكذلك النهي عن لبستين: عن اشتمال الصماء وعن الاحتباء، وهو أن يحتبي الرجل في الثوب الواحد، وهذه تتعلق باللباس. واشتمال الصماء: هو لبسه للثوب الذي ليس له منافذ، أن يلف على بدنه رداءً -مثلاً- أو كساءً ولا يجعل ليديه مخرجاً يخرجهما منه، فيكون كأنه أصم، فكأن هذا الثوب أصم، والصمم هو انسداد الأذنين، فكذلك اشتمال الصماء هو الالتفاف بالثوب الذي ليس له منافذ، ولعل الحكمة فيه أنه ربما يحتاج إلى إخراج يده، فإذا أخرج يده من تحت الثوب الذي ليس عليه غيره بدت عورته أو نحو ذلك، أو مس عورته، أو أنه قد يحتاج إلى عمل بيديه ولا يستطيع العمل بهما ما دام قد التف بهذا الثوب، فهذا اشتمال الصماء. وأما الاحتباء فهو أن يجلس الإنسان على إليتيه وينصب قدميه ويرفع ركبتيه، ويلف على ظهره وعلى ساقيه ثوباً ليس بين عورته وبين الأرض شيئاً، فيحتبي في هذا الثوب وهو جالس. والحكمة في النهي أنه ربما يقوم فتبدو عورته، وربما يميل يمنة أو يسرة فتبدو عورته، والإنسان مأمور بأن يحفظ عورته ويسترها عن الناس؛ لأنها كاسمها عورة وسوءة، وقد جعل الله عقوبة آدم وحواء لما أكلا من الشجرة أن بدت لهما سوءاتهما، أي: عوراتهما. فالإنسان يحافظ على ستر ما يعيبه أو ينشر له سمعة سيئة.

فضل الصيام في سبيل الله تعالى

فضل الصيام في سبيل الله تعالى بقي الحديث الأخير الذي يقول فيه صلى الله عليه وسلم: (من صام يوماً في سبيل الله بعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً) ، وهو حديث صحيح، وفيه فضل الصوم في سبيل الله، قيل: المراد الصوم وهو غازٍ، فأكثر ما يطلق سبيل الله على الغزو، فعندما يذكر الله هذا الاسم ينصرف إلى الغزاة، ففي قوله: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [آل عمران:169] أي: في الغزو. وكذلك في قوله تعالى: {وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ} [التوبة:20] وما أشبه ذلك، وقال تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ} [النساء:95] ، فسبيل الله المراد به الغزو. ومعلوم أن الغزو غالباً يكون في سفر، والغازي يحتاج إلى سفر وأن يقطع مسافة قد تستغرق سنة، وقد تستغرق شهراً، وقد تستغرق أياماً في هذا الغزو، ومع ذلك فالسفر مظنة المشقة، ومع ذلك رغب في الصوم فيه، ووردت أدلة في النهي عن السفر مع المشقة، كقوله: (ليس من البر الصوم في السفر) كما تقدم، ولكن إذا لم يكن هناك مشقة، أو كان الإنسان لا يعوقه الصوم وصام في هذا الغزو حصل على أجر وظفر بمضاعفة الثواب، فلأجل ذلك جعل الله الصوم في سبيل الله سبباً لإبعاده عن جهنم، قال صلى الله عليه وسلم: (بعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً) . وهناك قول أن المراد بقوله: (من صام يوماً في سبيل الله) أن المراد بسبيل الله ليس هو الغزو، وإنما المراد سبيل الله الذي هو الطريق الموصل إلى الله، يقولون: كل شيء يوصل إلى الله فإنه من سبيل الله. فلذلك يقولون: صلى في سبيل الله. تصدق في سبيل الله، صام في سبيل الله. حج في سبيل الله. وروي أن رجلاً سبل بعيراً له في سبيل الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الحج من سبيل الله) يعني: أعطه من يحج عليه، وكأنه في سبيل الله في الغزو، فدل على أن سبيل الله هو كل عمل يبتغى به وجه الله، فمعناه: أن من صام يوماً ابتغاء وجه الله، وطلباً لما يوصل إلى الله فإنه يستحق هذا الثواب، وهو أنه يبعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً، وذلك فضل كبير! فيدل على فضل صوم التطوع، وأن الإنسان إذا صام تقرباً إلى الله تعالى وأكثر من الصوم، فكل يوم يصومه له هذا الأجر؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم أحياناً يكثر الصوم، فيسرد الصوم حتى يقال: لا يفطر، وأحياناً يسرد الفطر حتى يقال: لا يصوم، ولكنه غالباً يصوم من كل شهر، ويرغب في الصيام من كل شهر، ولو ثلاثة أيام أو ما تيسر منه؛ ذلك لأن الصيام عمل بر يحبه الله تعالى، وقد اصطفاه لنفسه في قوله: (الصوم لي وأنا أجزي به) والله أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

شرح عمدة الأحكام [33]

شرح عمدة الأحكام [33] لقد رحم الله تعالى أمة محمد صلى الله عليه وسلم في عبادتها؛ حيث شرع لها أبواباً من الخير قليلة العمل كثيرة الأجر، فمن تلك الطاعات العبادة في ليلة القدر، فإنها تزيد على عبادة عمر كبير، وقد بينت السنة ما يتعلق بهذه الليلة المباركة من الفضائل والأعمال.

ليلة القدر وما ورد فيها

ليلة القدر وما ورد فيها قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [باب ليلة القدر. عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (أن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان منكم متحريها فليتحرها في السبع الأواخر) . وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر) . وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في العشر الأوسط من رمضان، فاعتكف عاماً، حتى إذا كانت ليلة إحدى وعشرين -وهي الليلة التي يخرج من صبيحتها من اعتكافه- قال: من اعتكف معي فليعتكف في العشر الأواخر، فقد أريت هذه الليلة ثم أنسيتها، وقد رأيتني أسجد في ماء وطين من صبيحتها، فالتمسوها في العشر الأواخر، والتمسوها في كل وتر. قال: فمطرت السماء تلك الليلة، وكان المسجد على عريش فوكف المسجد، فأبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى جبهته أثر الماء والطين من صبح إحدى وعشرين) ] . هذا الباب فيه هذه الأحاديث التي تتعلق بليلة القدر، وسبب ذكرها أنها في رمضان، وأن رمضان هو شهر الصوم، فبعدما ذكرت الأحكام التي تتعلق بالصوم كان من تمام ذلك أن تعرف الليلة التي في شهر رمضان، وهي ليلة القدر. وقد اختص رمضان بالصيام، وفضل فيه القيام الذي هو التهجد والتراويح ونحو ذلك، وخص -أيضاً- بفضل ليلة فيه، وهي ليلة القدر، وهي -بغير شك- في رمضان، وذلك لأن الله أخبر بنزول القرآن في رمضان، وأخبر بنزوله في ليلة القدر، قال الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185] أنزل القرآن في رمضان، وفي أي رمضان أنزل؟ لقد أنزل في ليلة واحدة، قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1] ، فإذا كان أنزل في رمضان وأنزل في ليلة القدر دل على أنها في رمضان وأنها ليلة من لياليه.

تسمية ليلة القدر بهذا الاسم

تسمية ليلة القدر بهذا الاسم أما سبب تسميتها فقيل: سميت لأنها تقدر فيها الأمور، فيكتب الله في تلك الليلة ما يكون في تلك السنة. ودليله قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان:3-4] ، و (يفرق) : يفصل ويكتب وينقل، فينقل الملائكة بأمر الله في تلك الليلة ما يكون في تلك السنة، فهذا هو القدر، فـ (ليلة القدر) أي: ليلة التقدير. أو: ليلة القضاء والقدر الذي يكتبه الله في تلك الليلة. وقيل: سميت (ليلة القدر) لعظم قدرها، أي: الليلة التي لها قدر، ولها فضل، والقدر بمعنى الشرف، أي: ليلة الشرف وليلة الفضل وليلة الميزة التي تميزت بها عن غيرها، أو الليلة ذات القدر. وعلى كل حال فإنها ليلة فاضلة قد أخبر الله بفضلها، فقال تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:3] أي: العبادة فيها أفضل من العبادة في ألف شهر. أو نحو ذلك من الأقوال.

قيام ليلة القدر

قيام ليلة القدر أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بفضل قيامها في قوله: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) ، والإيمان معناه التصديق بأن العمل قربة إلى الله، والاحتساب هو طلب الثواب أو رجاء الأجر، والجزاء هو غفران ما تقدم من ذنبه، والقيام هو أن يصلي أكثر تلك الليلة، نصفها أو ثلثيها أو نحو ذلك، يقال: قام ليلة القدر. أي: قامها كلها، أو قام أكثرها، أو قام نصفها، أو نحو ذلك، فإذا فعل ذلك فإنه يعتبر قد حصل على الأجر الذي رتب على هذه الليلة، وبذلك تعرف ميزتها وفضلها. كذلك قد وردت الأدلة الكثيرة على فضلها، وقد أخفى الله تعيينها، والحكمة في ذلك أن يجتهد العباد في ليالي الشهر، فلو أخبروا بعينها وأنها الليلة السابعة أو السادسة أو الخامسة لم يجتهدوا في بقية الليالي، بل ينامون ليالي الشهر كله، فإذا جاءت تلك الليلة قاموها وحصلوا على الأجر، والله تعالى يحب من عباده أن يكثروا العمل، ويحب من عباده أن يشتغلوا بالعبادة في الأوقات كلها في عدة ليال في شهر أو في أشهر أو في عشر ليال أو ما أشبه ذلك، فليست العبادة في ليلة واحدة كالعبادة في خمس ليال أو في عشر ليال، ولو كان الذي يوافق تلك الليلة يحصل على هذا الأجر الذي هو ألف شهر، ولكن مع كثرة العمل حتى يرجو موافقتها يحصل له مضاعفة الأجر والثواب، وبهذا تعرف الحكمة في إخفائها حتى يجتهد العباد في ليالي الشهر. فعلى العباد أن يجتهدوا رجاء أن يوفقوا لموافقة تلك الليلة.

تعيين ليلة القدر عند الفقهاء

تعيين ليلة القدر عند الفقهاء وقد اختلف الناس في تعيين ليلة القدر، فرجح بعضهم أنها ليلة سبع وعشرين، وهذا المختار عند الإمام أحمد، فعنده أنها أرجى الليالي من غير جزم، واستدل بما روي عن أبي بن كعب أنه قيل له: إن فلاناً يقول: من قام السنة كلها وقعت له ليلة القدر. فعجب أبي بن كعب وقال: (لقد علم أنها في رمضان، ولقد علم أنها في العشر الأواخر، ولقد علم أنها في السبع الأواخر، ولقد علم أنها ليلة سبع وعشرين، وهي التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقومها) ، وذكر أنه راقب الشمس عشرين سنة صبيحتها تطلع بلا شعاع، وهذا هو الذي رجحه أحمد. وذهب الشافعي إلى ترجيح ليلة إحدى وعشرين، واستدل بحديث أبي سعيد الذي سبق، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أنه يسجد في صبيحتها في ماء وطين، فمطرت السماء ليلة إحدى وعشرين فوكف المسجد، وكان المسجد على عريش -يعني: لم يكن مسقوفاً بالطين-، فلما أصبح النبي عليه الصلاة والسلام بعدما صلى الفجر رأى أبو سعيد على جبهته وأنفه أثر الماء والطين، فرجح أن تلك الليلة هي ليلة القدر، وهذا ما رجحه الشافعي لهذا الحديث. والآخرون قالوا: إنها ليست يقينية. وذهب بعضهم إلى أنها تتنقل، أي أنها في سنة تكون في العشر الأواخر، وفي سنة تكون في السبع الأواخر، وفي سنة تكون في الوسط، وسنة تكون في العشر الأول، وسنة تكون -مثلاً- ليلة إحدى وعشرين، وأخرى ليلة ثنتين وعشرين ونحو ذلك، فلأجل ذلك قالوا: إنما تقع للإنسان إذا قام العشر كلها، وهذا هو السبب في تخصيص العشر الأواخر بزيادة صلاة وزيادة اهتمام اتباعاً للسنة النبوية، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم (كان إذا دخل العشر أحيا ليله، وأيقظ أهله، وجد وشد المئزر) ، وفي رواية: (أحيا ليله كله) ، فأفاد بأنه يخص العشر الأواخر بزيادة اجتهاد وأعمال لا يعملها في غيرها رجاء أن تحصل له تلك الليلة، ورجاء أن تقتدي به أمته في ذلك. وكذلك رجح بعضهم أنها في السبع الأواخر، واستدل بهذا الحديث عن ابن عمر، فقد ذكر ابن عمر أن رجالاً كثيرين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أروا في المنام ليلة القدر أنها في السبع الأواخر، فلما توافقت رؤياهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أرى رؤياكم قد تواطأت -يعني: توافقت- في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر) . والسبع الأواخر قيل: أولها ليلة ثلاث وعشرين على تقدير أن الشهر ناقص. وقيل: أولها ليلة أربع وعشرين على تقدير كمال الشهر. فتكون هذه السبع محل اجتهاد.

ليلة القدر ووتر ليالي العشر

ليلة القدر ووتر ليالي العشر في الحديث بعده وفي حديث أبي سعيد أنه حث على أن تلتمس في الوتر من العشر الأواخر، قال: (فإن غلب أحدكم فلا يغلبن على السبع الأواخر) . والوتر هي الليالي الأوتار، فليلة إحدى وعشرين وتر، وليلة ثلاث وعشرين، وليلة خمس وعشرين، وليلة سبع وعشرين، وليلة تسع وعشرين هذه الليالي الوتر، والوتر هو العدد الفرد الذي فيه زيادة فرد، والشفع هو الاثنان، فليلة اثنتين وعشرين شفع، وليلة أربع وعشرين شفع، وليلة ست وعشرين، وليلة ثمان وعشرين وليلة ثلاثين، هذه تسمى ليالي الشفع، ومعروف بأن العدد ينقسم إلى شفع ووتر، كما في قوله تعالى: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر:3] . فعرفنا بذلك أن هذه الليلة تترجح أنها في الوتر، ولكن لا ندري هل المراد الوتر مما بقي أو الوتر مما مضى، وحينئذ يكون ذلك حثاً على قيام العشر كلها، فالوتر مما مضى أن تكون ليلة إحدى وعشرين وثلاث وعشرين وخمس وعشرين وسبع وعشرين وتسع وعشرين، فهذا الوتر بالنسبة للماضي، والوتر بالنسبة للباقي هو ما ورد في الحديث: (التمسوها في تاسعة تبقى، في سابعة تبقى، في خامسة تبقى، في ثالثة تبقى، في آخر ليلة) ، فهذا وتر، وقوله: (تاسعة تبقى) إذا كان الشهر كاملاً فهي ليلة ثنتين وعشرين، فهذه (التاسعة الباقية) وهكذا، فيكون ذلك حثاً على الاجتهاد في هذه الليالي كلها، أعني ليالي العشر. ولا شك أن الحرص على قيام هذه الليالي حرص على كثرة الأعمال، والإنسان يحب أن يعمل عملاً كثيراً يثاب عليه، والعمل الذي يعمله في هذه الليلة هو العبادة، الصلاة مع طول القيام ومع الخشوع والخضوع، وثبت في الحديث أن عائشة قالت: يا رسول الله! إن وافقت ليلة القدر ما أقول؟ فقال: (قولي: اللهم! إنك عفو تحب العفو فاعف عني) أمرها بأن تطلب العفو، والعفو هو التجاوز عن الخطأ، كأنه أمرها بأن تعترف بأنها مقصرة وليس لها مطلب إلا العفو، وهكذا سائر العباد، فالعبد عليه أن يحتقر عمله ولو كان كثيراً، فيكون منتهى طلبه المغفرة والعفو عن الخطأ وعن التقصير، فهذا مطلب من المطالب التي تطلب في ليلة القدر، والدعاء فيها مرجو أن يستجاب، وكذلك كثرة الذكر وكثرة القراءة وطول القيام وما أشبه ذلك، فإذا أدام العبد ذلك رجي أن يثيبه الله وأن تحصل له المغفرة التي رتبت على تلك الأعمال، والله أعلم. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

شرح عمدة الأحكام [34]

شرح عمدة الأحكام [34] من رحمة الله تعالى فتح أبواب الطاعة والخير لعباده ليقبلوا على ربهم ويزدادوا من الخيرات، ومن هذه الطاعات والقربات عبادة الاعتكاف، وهي عبادة عظيمة لها فضلها في الشرع، سيما إذا كانت في رمضان في عشره الأواخر؛ إذ تكون سبباً -بإذن الله- في إدراك ليلة القدر.

أحكام الاعتكاف

أحكام الاعتكاف قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [باب الاعتكاف. عن عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى، ثم اعتكف أزواجه من بعده) ، وفي لفظ: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان، فإذا صلى الغداة جاء مكانه الذي اعتكف فيه) . وعن عائشة رضي الله عنها: (أنها كانت ترجل النبي صلى الله عليه وسلم وهي حائض وهو معتكف في المسجد وهي في حجرتها يناولها رأسه) ، وفي رواية: (وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان) ، وفي رواية أن عائشة قالت: (إني كنت لا أدخل البيت إلا لحاجة، والمريض فيه، فما أسأل عنه إلا وأنا مارة) . وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! إني كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة -وفي رواية: يوماً- في المسجد الحرام. قال: أوف بنذرك) ، ولم يذكر بعض الرواة يوماً ولا ليلة. وعن صفية بنت حيي رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفاً في المسجد، فأتيته أزوره ليلاً فحدثته، ثم قمت لأنصرف فقام معي ليقلبني -وكان مسكنها في بيت أسامة بن زيد - فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرعا في المشي، فقال صلى الله عليه وسلم: على رسلكما؛ إنها صفية بنت حيي. فقالا: سبحان الله يا رسول الله! فقال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خفت أن يقذف في قلوبكما شراً -أو قال: شيئاً-) ، وفي رواية: (أنها جاءت تزوره في اعتكافه في المسجد في العشر الأواخر من رمضان، فتحدثت عنده ساعة، ثم قامت تنصرف فقام النبي صلى الله عليه وسلم معها يقلبها، حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أم سلمة) ثم ذكره بمعناه] . قد ذكر الله الاعتكاف في قوله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187] ، فأخذوا من الآية أن الاعتكاف يختص بالمساجد، وذكره في قوله تعالى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة:125] ، فجعل العاكفين بعد أهل الطواف، فدل على أن الاعتكاف من أفضل القربات، حيث ذكر بين الطائفين والمصلين.

تعريف الاعتكاف ومشروعيته

تعريف الاعتكاف ومشروعيته الاعتكاف: هو لزوم المسجد لطاعة الله، لزوم المسجد والبقاء فيه مدة لا تقل عن يوم للتفرغ للعبادة والانقطاع عن الدنيا وعن أشغالها وعن أهلها، وهو سنة ومشروع، وفيه فضل، ولكنه لا يجب إلا بالنذر، فإذا نذره وجب عليه الوفاء، ففي حديث عمر الذي مر بنا ذكر أنه نذر في الجاهلية أن يعتكف ليلة، وفي رواية: (أن يعتكف يوماً في المسجد الحرام، فقال صلى الله عليه وسلم: أوف بنذرك) . أمره بأن يفي بنذره، كأنه قال: علي لله أن أعتكف يوماً أو أعتكف ليلة في هذا المسجد ولم يتمكن من الاعتكاف فيه لما أسلم وأخرجه الكفار، فأمره أن يوفي بنذره بعدما فتحت مكة وأصبح متمكناً، فيجب الاعتكاف بالنذر، فإذا نذرت أن تعتكف وجب عليك الوفاء بالنذر؛ لقوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان:7] ، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من نذر أن يطيع الله فليطعه) ، ولا شك أن الاعتكاف طاعة لله، فمن نذره وجب عليه الوفاء. وكذلك فعله النبي صلى الله عليه وسلم، كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده، ذلك لأن العشر الأواخر هي أفضل الشهر، فإن أفضله آخره، وفيها ترجى ليلة القدر، فيعتكفها من ليلة إحدى وعشرين إلى نهاية الشهر، وهكذا كان يعتكف. وذكروا أنه كان يدخل معتكفه بعد صلاة الصبح من يوم العشرين أو من يوم واحدٍ وعشرين، ولكن الأقرب أنه يدخل من ليلة إحدى وعشرين لأنها أول العشر الأواخر. فيعتكف هذه العشر إلى آخرها، ويجوز للمعتكف أن يعتكف بعضها، كأن يعتكف الخمس الأواخر، أو يعتكف -مثلاً- الثلاث الأواخر، أو السبع الأواخر؛ لأنه عبادة يفعل منه ما يستطيعه، فإن استطاع أن يعتكف العشر كلها أو بعضها فكلما زاد فله أجر. وكذلك -أيضاً- لا شك أن الاعتكاف من الأعمال الصالحة؛ لأنه يتفرغ فيه للعبادة، فلأجل ذلك لو أكثر منه لكان ذلك مثاباً عليه، فلو اعتكف الشهر كله، أو اعتكف شهرين فله الأجر لذلك، ولكن قد ينقطع بذلك عن أشغاله الدنيوية الضرورية، فلأجل ذلك ثبت أنه صلى الله عليه وسلم مرة اعتكف العشر الوسطى، ولما كان في آخر ليلة منها -وهي التي يخرج من صبيحتها- أمر من اعتكف معه أن يعتكفوا العشر الأواخر، فاعتكف في ذلك العام عشرين يوماً، فدل على أنه يجوز أن يزيد في الاعتكاف على العشر، وإذا اعتكف عشرين يوماً أو ثلاثين يوماً أو أكثر أو أقل فله أجر على ذلك، وكلما زادت المدة زاد الأجر فيحتسب الإنسان ويتفرغ جزءاً من زمانه حتى يحيي هذه السنة ويعبد الله تعالى بقدر ما يتيسر له.

الحكمة من مشروعية الاعتكاف

الحكمة من مشروعية الاعتكاف ذكروا أن الحكمة من الاعتكاف أن يتفرغ للعبادة ويشتغل بالقربات، وذلك لأن الإنسان في سائر وقته يشتغل بالدنيا، ويشتغل باللهو، ويشتغل بالمجالس العادية التي تذهب عليه كثيراً من وقته في غير طاعة، فيذهب عليه وقت طويل كل يوم، إما في كسب الدنيا وإما في لهو وسهو، فهو يحب أن يقطع هذه الأشياء ويجعل له وقتاً خاصة للعبادة، فينقطع للعبادة ويتفرغ لها وينقطع عن الدنيا وأشغالها وأهلها، ويلزم المسجد ويشتغل بالقربات، فإذا كان في المسجد فإنه يتنقل من عبادة إلى عبادة، فهو إما أن يشتغل بالصلاة، وإما أن يشتغل بالقراءة، وإما أن يشتغل بالذكر، وإما أن يشتغل بالفكر، وإما أن يشتغل بالتدبر والتعقل، وإما أن يحمي نفسه ويحفظ نفسه عن الآثام ونحوها، فهو منزو منفرد منقطع عن ملذات الدنيا وعن شهواتها وعن أهلها، وعن مكاسبهم وأرباحهم، وعن تجاراتهم وأشغالهم وحرفهم لا يهتم بشيء منها، انقطع عن الخلق كلهم واشتغل بالخالق وأقبل على الله تعالى، وفرغ قلبه للعبادة، فأصبح قلبه يتعبد ولسانه وبصره وسمعه ويداه ورجلاه وجميع بدنه، أصبح بدنه كله وجسده كله في عبادة، كل جزء من أجزائه يشتغل بعبادة، فلا شك أنه -والحال هذه- يكتسب أجراً ويكتسب حسنات، وتمحى عنه سيئات، ويحمي نفسه عن الآثام ونحوها، فلأجل ذلك أصبح الاعتكاف من أفضل القربات ومن الأعمال الصالحة. ومعلوم أن الإنسان في حياته لا يخلو من أن يغفل أو يسيء أو يذنب، فإذا أحس بأن قلبه قد قسا من هذه الغفلة، أو أنه قد أذنب في حياته وارتكب بعض السيئات، وقصر في بعض الطاعات بحيث لا يجد للطاعة لذة، ولا يجد في قلبه تفرغاً، ولا يحس بآلام الذنوب والمعاصي التي تكاثرت عليه وتراكمت عليه، فلابد أن يعالج قلبه، وكيف يعالج قلبه؟ إنه يعالجه بأن يتفرغ في جزء من وقته لهذه العبادة؛ حتى يكون هذا التفرغ مؤثراً ومفيداً له فائدة عظيمة، وعند ذلك يصحو القلب ويقبل على الله ويحب العبادة ويستكثر من الطاعات وأنواع القربات والحسنات، وينفطم عن السيئات والمخالفات، ويبغض كل ما هو شاغل عن الله عز وجل، فهذه من فوائد الاعتكاف. لذلك يجد الإنسان من قلبه قسوة، وإذا اعتكف يوماً أو أسبوعاً أو عشرة أيام وجد في قلبه رقة، ووجد في قلبه محبة للعبادة وبغضاً للهو والسهو، وبغضاً للمعاصي ولو كانت من الصغائر، وبغضاً لأهلها.

سبب كون الاعتكاف مشروعا في المسجد

سبب كون الاعتكاف مشروعاً في المسجد وإذا قيل: لماذا خص بالمسجد؛ فإن المساجد يكثر فيها الناس، يأتونها للصلوات ويأتونها للقراءة ونحو ذلك، فلماذا لم يكن في مكان خاص لا يخالطه أحد ولا يراه أحد؟! نقول: خص الاعتكاف بالمسجد لأنه لابد للمعتكف من أداء الصلاة جماعة، وكل خلوة تشغل عن الجماعة فلا خير فيها، فصلاة الجماعة وأداء الصلاة جماعة واجب من واجبات الإسلام، والخلوة التي هي الاعتكاف سنة من السنن، فلا تترك الصلوات الواجبة مع الجماعة لأجل سنة من السنن، فلأجل ذلك أمكن الجمع بين الخلوة وبين أداء الواجب، فجعل الاعتكاف في المساجد. وهذا بخلاف ما يفعله غلاة الصوفية الذين يجعلون لهم خلوات يجمع فيها -كما يقولون- أحدهم همومه وأفكاره، فينفرد -مثلاً- عشر ساعات أو أكثر أو أقل يفكر في نفسه، ثم يفكر فيمن فوقه، ثم يفكر في العالم العلوي والسفلي، إلى أن تجتمع عليه أفكاره. ولا شك أن تلك الخلوة الطويلة وذلك الفكر ولو حصل منه جمعية وحصل منه اتصال بالخالق وما أشبه ذلك فإنه غير مشروع، بخلاف الاعتكاف، فإنه الخلوة المشروعة التي أباحها الله، بل حث عليها.

مسائل متعلقة بالاعتكاف

مسائل متعلقة بالاعتكاف أما أحكام الاعتكاف فقد عرفنا أن أقله يوم أو ليلة، فلا يصح أن يسمى من جلس في المسجد ساعة أو ساعتين معتكفاً، فالاعتكاف لابد أن يكون زمناً طويلاً، فأقله اثنا عشرة ساعة أو نحوها، يوم كامل أو ليلة كاملة، واليوم المتوسط اثنا عشرة ساعة. وكذلك -أيضاً- يجب الاعتكاف بالنذر، فإذا نذر أصبح واجباً عليه، كما فعل ذلك عمر. وكذلك -أيضاً- إذا عين مسجداً خاصاً بالنذر لم يتعين إلا أن يكون من المساجد الثلاثة، فإذا نذر -مثلاً- أن يعتكف في مسجد أسبوعاً لم يلزمه ذلك المسجد، بل يجوز أن يعتكف في غيره من المساجد والجوامع التي هي مثل ذلك المسجد؛ لأنه لا مزية لذلك المسجد على غيره، إلا المسجد الحرام فإنه يلزمه أن يفي به، فإذا نذر أن يعتكف في المسجد الحرام وجب عليه الاعتكاف فيه، ولم يجز له أن يعتكف في غيره من المساجد؛ لأنه أفضل المساجد، والصلاة فيه أكثر من غيره مضاعفة. وكذلك المسجد النبوي إذا نذر أن يعتكف فيه لم يجزه غيره من المساجد إلا المسجد الحرام؛ فإنه أفضل، وكذلك المسجد الأقصى إذا نذر الاعتكاف فيه لم يجز أن يعتكف في غيره إلا مسجدي مكة والمدينة؛ فإنهما أفضل منه، أما بقية المساجد فمن عين مسجداً لم يتعين. فـ عمر رضي الله عنه عين المسجد الحرام، فقال: (إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام. فقال صلى الله عليه وسلم: أوف بنذرك) ، ولم يقل له: اعتكف في مسجد المدينة ولا في غيره من المساجد، بل ألزمه بأن يفي بنذره، فيعتكف في المسجد الحرام ولا يقوم غيره مقامه.

المعتكف وما يجري منه مع زوجته

المعتكف وما يجري منه مع زوجته أما أعمال المعتكف ففي هذه الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يدني رأسه إلى زوجته عائشة فترجله وهو معتكف، وكان شعر رأسه قد أرسله إلى المنكب أو نحوه، فيحتاج إلى ترجيل وتسريح الشعر ودهنه ومشطه بالمشط ونحوه، فترجله عائشة وهو معتكف، ولا يكون ذلك مباشرة، فالمباشرة التي نهى الله عنها في قوله: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187] المراد بها الجماع ونحوه، فإنه لا يجوز أن يطأ امرأته وهو معتكف للنص الصريح في النهي عن ذلك، وللإجماع عليه.

خروج المعتكف من المسجد

خروج المعتكف من المسجد كذلك لا يجوز للمعتكف أن يخرج من المسجد إلا لحاجة الإنسان، فإذا خرج -مثلاً- لقضاء حاجة الإنسان كبول أو طهارة أو نحو ذلك فحينما يفرغ يرجع، ولا يطيل البقاء. وكذلك -أيضاً- لا يعود مريضاً، ولا يتبع جنازة، وذلك لأن هذه الأمور من الأمور العادية، وهو في عباده، ولأنها تشغله عما هو مشغول به، وهو مأمور بأن يجمع قلبه وبأن يتفرغ، وبأن يشتغل بالقربات، وبأن يترك اللهو ونحوه. وهذه الأمور تعرضه إلى أن يخرج ويطيل الخروج ويكثر الخروج، فإن المرضى قد يكثرون، وكذلك الموتى، فلا يتبع جنازة ولا يعود مريضاً، هذا على الصحيح. وقد ذكرت عائشة أنها تدخل البيت إذا كانت معتكفة وفيه المريض فلا تسأل عنه إلا وهي مارة، فما تجلس عنده وتسأله وتقول: كيف أنت. وكيف حالك. إنما تسأل فتقول: كيف فلان، وهي مارة ولا تقف ولا تجلس إلا لحاجة. وهكذا ذكروا عن المعتكف أنه لا يخرج إلا لضرورة، فإذا لم يجد من يأتيه بطعامه وشرابه جاز له أن يذهب ليأتي به، وإذا لم يكن هناك في المسجد مكان لتناول الأكل كالمسجد الحرام جاز أن يخرج لأجل الأكل الضروري في وقته، ثم يرجع حينما ينتهي أو نحو ذلك. وكذلك -أيضاً- لا يجوز له أن يجعل معتكفه مقراً للاجتماعات، فيجتمع عليه الناس ويشتغلون بالقيل والقال وبالضحك والقهقهة ونحو ذلك، بل ينفرد عنهم ويبتعد عنهم.

زيارة المعتكف للمحادثة

زيارة المعتكف للمحادثة تجوز زيارته للمحادثة في بعض الأحيان، كما في هذه القصة، وهي قصة صفية، وصفية هي إحدى أمهات المؤمنين، وكانت من سبي خيبر، قتل أبوها مع بني قريظة، ثم قتل زوجها في غزوة خيبر، وأصبحت مفجوعة، وتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم رجاء أن يثبتها وأن تطمئن في حياتها، ولما تزوجها كان يؤنسها، وكان يحرص على جبر نفسها وقلبها وعلى ما يجلب لها الطمأنينة والحياة السعيدة، فلأجل ذلك أقرها على زيارته، وقد جاءته وهو معتكف وتحدثت معه وتحدث معها؛ لأنها غريبة ليس لها في المدينة ولد ولا والد ولا أخ ولا قريب، فهي وحيدة في هذه البلاد، فلأجل ذلك آنسها وأقرها على زيارته وهو معتكف، ولم يذكروا أن غيرها من زوجاته كن يأتينه للتحدث معه؛ لأن زوجاته الباقيات كن عند أهلن، وأهلهن معهن غالباً، فلعل هذا هو السبب في أنه أقرها على زيارته وتحديثه، وكذلك كونه قام معها ليقلبها بعدما تحدثت معه وقامت لترجع، وكان بيتها خارج المسجد في بيت أسامة الذي كان فيه بعدها، فقام معها ليؤنسها إلى أن تخرج من المسجد. فلما خرجت من المسجد ومشى معها قليلاً رآه رجلان من الأنصار، فلما رأياه أسرعا مشيهما، فخاف أن يظنا ظناً سيئاً فيقولا: هذا النبي صلى الله عليه وسلم يمشي مع امرأة في هذا الليل وفي ظلمة الليل. فيوسوس لهما الشيطان بأنها امرأة أجنبية فيقعان في الهلاك، فعند ذلك أزال ذلك وقال: (إنها صفية بنت حيي) يعني: ليست أجنبية فلا تظنوا أنني أمشي مع امرأة أجنبية، فأخبرهم بذلك حتى لا يظنوا به ظناً سيئاً، وأخبر بأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ينفذ بين لحمه ودمه فيجري مع عروقه، وأنه يخشى أن يقذف في قلبيهما شيئاً، أن يوسوس لهما فيقذف في قلبيهما أن محمداً يمشي مع امرأة أجنبية في هذا الليل المظلم، فيهلكان بهذا الظن السيئ. وعلى كل حال فيجوز للمعتكف أن يحدث من يزوره، ولكن يكون حديثاً قليلاً، ويكون -أيضاً- في حد ما هو مباح شرعاً بغير جدل وبغير كلام في العورات ولا كلام في الأعراض ولا كلام في الدنيا ولا في أهلها ولا في منافسة أهلها فيها، بل يكون كلاماً ذا حاجة وضرورة، إما فائدة، وإما سؤال عن حاجة ملحة أو نحو ذلك، فمثل هذا يجوز للمعتكف أن يتكلم به، والله أعلم. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

شرح عمدة الأحكام [35]

شرح عمدة الأحكام [35] الحج عبادة عظيمة لها مكانتها في الإسلام، وهو مع ذلك يجمع من المعاني شيئاً كثيراً، ففيه تلتقي جموع المسلمين من كل بلد، وفيه يستوي الحجاج في لباسهم وأعمالهم، ونحو ذلك، وقد جعل له الشرع أحكاماً تخصه، حيث أوجب الإحرام له من مواقيته الزمانية والمكانية المحددة التي لا يجوز تجاوزها، وجعل له هيئات ولباساً يختص به.

أحكام الحج

أحكام الحج

حكم الحج

حكم الحج قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [كتاب الحج باب المواقيت عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، وقال: هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلن ممن أراد الحج أو العمرة، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة) . وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يهل أهل المدينة من ذي الحليفة، وأهل الشام من الجحفة، وأهل نجد من قرن المنازل) قال عبد الله: وبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ويهل أهل اليمن من يلملم) ] . هذا كتاب الحج، بدأه بالمواقيت، وجعل العلماء الحج آخر أركان الإسلام، فلما ذكروا أركان الإسلام العملية بدءوا بالصلاة، ثم بالزكاة، ثم بالصوم، ثم الحج، فرتبوها على ترتيب الحديث في قوله صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت) ، أما الشهادتان فأفردت لهما مؤلفات لأنهما متعلقتان بالعقائد، ولما كانت بقية الأركان من الأعمال جعلت في كتب الأحكام. والحج ركن من أركان الإسلام كما في هذا الحديث، والحج: هو قصد البيت الحرام لأداء هذا النسك في زمن مخصوص من شخص مخصوص. أما حكمه فقد ذكرنا أنه ركن من أركان الإسلام، ولكن لا يجب إلا على المستطيع، ولا يجب إلا مرة في العمر، وما زاد على ذلك فهو تطوع، وقد كان معمولاً به في الشرائع قبلنا، كان الأنبياء الذين قبلنا يحجون البيت، وقد ذكر الله تعالى أن إبراهيم هو الذي بنى البيت -يعني: جدد بناءه- لما وضع ابنه إسماعيل عند مكانه، قال: {إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم:37] ، فكيف يكون وضعه عند البيت مع أنه لم يبنَ؟! نقول: قد كان مبنياً قبل إبراهيم، بل قبل آدم، قال الله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:96-97] ، فأخذوا من هذه الآية أنه أول بيت بني على وجه الأرض، قيل: إنه بني قبل خلق آدم بكذا وكذا سنة، ولما أهبط آدم أمر بأن يطوف عليه كما تطوف الملائكة حول عرش الله تعالى أو حول البيت المعمور تعبداً لله، فكان ذلك منه عبادة من العبادات، وحجه الأنبياء قبل النبي صلى الله عليه وسلم، فقد حجه نوح وهود ولوط وشعيب وصالح ونحوهم من الأنبياء. ثم بقي البيت معظماً حتى في الجاهلية، فأهل الجاهلية الذين قبل الإسلام بقي فيهم هذا البيت مقدساً محترماً عندهم، يحجونه ويقصدونه من أماكن نائية، ويطوفون به، ويحترمون -أيضاً- البلدة كلها، يحترمون مكة لأنها البلد الذي احتوى على هذا البيت، فهي حرم، فيلقى فيها الرجل قاتل أبيه فلا يهيجه ولا يفزعه احتراماً لهذا البيت، فلذلك أصبح هذا البيت محجوجاً حتى قبل الإسلام، ولما جاء الإسلام فرض الله تعالى هذا الحج على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، والصحيح أنه فرض في سنة عشر أو سنة تسع، وقد كان قبل ذلك مسنوناً مرغباً فيه غير واجب، أما بعد أن فرض فقد أصبح ركناً من أركان الإسلام.

مواقيت الحج الزمانية

مواقيت الحج الزمانية نقتصر هنا على ذكر المواقيت الذي ذكرت في الحديث؛ لأن الكلام على الحج وعلى أحكامه ليس هذا محله، فنقول: هذا الباب في باب المواقيت. وقد ذكر العلماء أن للحج مواقيت زمانية ومواقيت مكانية. فالمواقيت الزمانية هي أشهر الحج، قال الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197] ، وذكر في الأحاديث أن هذه الأشهر شهر شوال -وهو الشهر العاشر- وشهر ذي القعدة وعشر من ذي الحجة التي هي العشر الأول، أي: شهران وبعض شهر، أطلق الله عليها أنها أشهر تغليباً، وهذه الأشهر هي التي يصح الإحرام بالحج فيها، أما ما قبلها فلا يحرم بالحج فيها. وقد اختلف فيمن أحرم بالحج في آخر رمضان وأراد أن يبقى على إحرامه إلى يوم عرفه، فأكثرهم على أنه لا يصح إحرامه؛ لأنه أحرم قبل الوقت، فهو كمن كبر لصلاة الظهر قبل الزوال، أو كبر تحريمة الفجر قبل طلوع الفجر، أو كبر لصلاة المغرب قبل غروب الشمس، فلا تنعقد صلاته، فيقولون: كذلك من أحرم بالحج قبل أن تدخل أشهر الحج -أي: في آخر يوم من رمضان- فلا يصح. أما أشهر الحج فإذا أحرم فيها بالحج فإنه ينعقد حجه، فلو أحرم يوم عيد الفطر وبقي على إحرامه بالحج إلى يوم عرفة ثم تحلل يوم العيد صح حجه، وإن كان الأفضل له -كما سيأتي- أن يتحلل بعمرة. وعلى كل حال فهذا معنى كونها مواقيت للحج، أي: يصح الإحرام بالحج فيها لا فيما قبلها ولا فيما بعدها؛ لأنه لو أحرم بالحج في اليوم الحادي عشر من ذي الحجة يقال: فات محله وانتهت أيام الحج. فهذه مواقيته الزمانية. أما المواقيت المكانية فهي مواقيت الإحرام المعروفة، وواحدها ميقات.

فضل مكة وما خصها الله تعالى به

فضل مكة وما خصها الله تعالى به اختصت مكة بأنها بلد المناسك التي تقضى فيها هذه المناسك، وإذا أقبل إليها العباد فإنهم يحرمون، يدخلون في النسك قبل أن يصلوا إليها بمدة وبمسافة، والحكمة في ذلك أن يتهيئوا لهذا العبادة ويلبسوا لباساً يختص بهذه العبادة يميز المحرم عن غير المحرم. وذكر العلماء أن إبراهيم حين حكى الله عنه بقوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:27] أنه دعا فقال: أيها الناس! إن الله كتب عليكم الحج فحجوا. وأن هذه الدعوة سمعها القريب والبعيد، وأنه بلغها من في الأصلاب ومن يأتي، وأن الآتين إلى هذه البلد -التي هي مكة- إذا أقبلوا إليها تجردوا من لباسهم ورفعوا هذا الشعار الذي هو شعار الإجابة، ولبوا بقولهم: لبيك اللهم لبيك. أي: مجيبين لذلك النداء الذي هو نداء الله الذي أمر إبراهيم أن ينادي به. فمن فضيلة هذه البلد أن المتنسكين إذا أقبلوا إليها رفعوا أصواتهم بالتلبية، وجردوا أبدانهم من لباسهم المعتاد، وارتدوا أردية خاصة وألبسة خاصة تشبه أكفان الموتى، واستعدوا للأعمال الصالحة، فكان ذلك من ميزتهم وعلامتهم أنهم جاءوا مجيبين لتلك الدعوة وجاءوا لعبادة الله سبحانه وتعالى، فهذه هي الحكمة في جعل هذه المواقيت، ولما كانت مكة في وسط القرى سماها الله تعالى أم القرى، قال تعالى: {وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الأنعام:92] ، وكان الناس يأتونها من كل الجهات الأربع، من جهة الغرب، ومن جهة الشرق، ومن جهة الشمال، ومن جهة الجنوب، يأتونها من هذه الجهات، فكل جهة إذا أقبلوا منها إليها استعدوا، فجعل لهم مكاناً يستعدون فيه.

مواقيت الحج المكانية

مواقيت الحج المكانية لأجل ما سبق وقت النبي صلى الله عليه وسلم هذه المواقيت لأهل كل جهة، فأهل المدينة وكذلك من كان في جهة المدينة من أهل البلاد الشمالية، كأهل تبوك، ووادي القرى، وأهل دومة الجندل، وأهل الحدود الشمالية يأتون إلى المدينة ويحرمون من ميقاتها، وميقات أهل المدينة ذو الحليفة، وهو موضع قرب المدينة بينه وبين المسجد النبوي ستة أميال، معروف الآن، ويسميه أهل المدينة (أبيار علي) أو (بئر علي) ، وهذه التسمية محدثة، سماها بذلك الرافضة، وفي المدينة كثير من الرافضة سموها به، وإلا فاسمها على الأصل (ذو الحليفة) . وذكر شيخ الإسلام أن الرافضة يزعمون أن فيها بئراً قد قاتل علي فيها الجن، فقالوا: (أبيار علي) أو: (بئر علي) وكذبوا، فلم يقاتل علي أحداً من الجن، وكذلك جميع الصحابة ما ذكر أنهم قاتلوا أحداً من الجن، لا في ذلك المكان ولا في غيره. فإذاً تسميتها بئر علي أو آبار علي تسمية من الشيعة الذين يغالون في علي ويدعون فيه هذه الكرامة ونحوها، وإلا فأصلها أنها (ذو الحليفة) ، كان فيها حلفاء -النبات المعروف- صغيرة، فسميت باسمها. وبينها وبين مكة في ذلك الوقت عشر مراحل، والمرحلة: مسيرة ثنتي عشرة ساعة للدابة. أي: عشرة أيام، فلما أحرموا أقاموا بين مكة والمدينة عشرة أيام أو نحواً منها وهم محرمون، أما في هذه الأزمنة فلها طريق، وأصبح يزيد على أربعمائة كيلو متر قيلاً، فأصبحت تقطع في ثلاث ساعات ونصف، أو في أربع ساعات بدل أن كانت تقطع في عشرة أيام، كل يوم يسيرون فيه ثنتي عشرة ساعة. ولا شك أن النصب والتعب يكون أعظم للأجر، فالصحابة الذين أحرموا وبقوا على إحرامهم عشرة أيام أجرهم أكبر من الذين يكون إحرامهم أربع ساعات أو نحوها، وعلى كل حال فتيسير الطرق وتسهيلها وتقاربها وقطعها في هذه المسافة أو المدة القصيرة بواسطة هذه الناقلات والسيارات التي قربت البعيد من نعم الله سبحانه وتعالى التي يجب أن تشكر، والتي خففت المئونة، وأصبح لا عذر لأحد ولا مشقة عليه في أن يأتي إلى المناسك وأن يعمر هذه المشاعر التي هي مشاعر الحج والعمرة. أما ميقات أهل نجد فهو قرن المنازل، وأصله جبال صغيرة متسلسلة أمام الوادي الذي يقال له: (وادي السيل) أو قريباً منه في جهة الجنوب، ولكن لما كان الطريق لا يسهل إلا مع هذا الطريق جعلوا الميقات هو هذا الوادي أو نحوه، فأصبح محاذياً له من جهة الجنوب، وقرن المنازل -أو قرن الثعالب- محاذٍ للوادي من جهة الجنوب قليلاً، فهو عبارة عن مرتفع فوق طرف الوادي معروف باسم (قرن المنازل) . وكانوا يحرمون منه لكونهم يأتون مع طرق في وسط أو مع وسط الجبال، ولكن السيارات لم يكن لها طرق إلا مع هذا المكان السهل، فأصبح الناس يحرمون من هذا الوادي. ومثله -أيضاً- الميقات الذي في طرف الجبل أو رأس الجبل الذي هو جبل كرى، هذا الوادي -أيضاً- يسمى وادي محرم، ويسمى -أيضاً- قرن المنازل، وهو محاذٍ لقرن المنازل من جهة الجنوب الغربي، بني فيه -أيضاً- مسجد، ويحرم به من نزل من ذلك الوادي الذي هو طريق كرى، فمن أحرم من كل منهما فقد أحرم من ميقات أهل نجد. كذلك ميقات أهل اليمن يعرف بـ (يلملم) ، وفي هذا الأزمنة يسمونه السعدية، وهو ميقات مشهور بينه وبين مكة -أيضاً- مرحلتان كما بين ميقات أهل نجد وبين مكة، ومرحلتان في ذلك الوقت معناهما مسيرة يومين، أما في هذه الأزمنة فما بقي بينه وبين مكة إلا نحو ثمانين كيلو متر تقطع في أقل من ساعة، وذلك بعد تسهيل هذه الطرق. وعلى كل حال: فهذه مواقيت معترف بها، أما ميقات أهل الشام، وأهل مصر، وأهل المغرب الذين يأتون من جهة المغرب وينزلون بالسواحل فميقاتهم الجحفة، وهي قريبة من الساحل، وهذه الجحفة كانت قديماً تسمى (مهيعة) ، وكانت عامرة، ثم إنه حصل فيها وباء وأمراض، فخربت البلد، وصار الناس يحرمون من رابغ -البلدة المعروفة بهذا الاسم-. وفي هذه الأزمنة أعادت الحكومة الميقات إلى الجحفة، وبنت فيها الحكومة -أيدها الله- مسجداً كمساجد المواقيت التي في السعدية وفي وادي محرم وفي السيل، بنت مسجداً كبيراً يحرم منه من يمر من ذلك الميقات، كالذين يأتون -مثلاً- من بلاد السواحل كينبع وضبع والوجه، وما إلى تلك الجهات، حتى أهل رابغ يحرمون منه، وقد يمرون على الميقات ويحرمون منه، وكذلك الذين يأتون من خارج البلد -أي: خارج المملكة- الذين يأتون في السفن إذا حاذوا ميقات الجحفة أحرموا منه، وكذلك أهل البواخر، وهناك -أيضاً- بواخر ترسي في ينبع ميقات أهلها. والجحفة أبعد من قرن المنازل، بينها وبين مكة ثلاث مراحل، فهذه هي المواقيت. يقول في الحديث: (هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلن ممن أراد الحج والعمرة) يعني: من أتى إلى مكة قاصداً الحج أو قاصداً العمرة ومر على ميقات من هذه المواقيت فإنه لا يتجاوزه إلا محرماً.

ميقات من كان دون المواقيت

ميقات من كان دون المواقيت ومن كان دون ذلك فمحله حيث أنشأ، حتى أهل مكة يهلون من مكة، فميقات أهل مكة للحج من مكة، وميقاتهم للعمرة من أدنى الحرم، فإذا أرادوا أن يعتمروا خرجوا إلى أمن الحرم كالتنعيم أو الجعرانة أو نحوها، فإنه صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يعمر عائشة أعمرها من التنعيم، ولما اعتمر هو في سنة ثمان اعتمر أو أحرم من الجعرانة، ويجوز أن يحرم من أية جهة، وأن يحرم من أي مكان خارج حدود الحرم، فيخرج -مثلاً- إلى عرفة، أو إلى طريق جدة، إذا تجاوز حدود الحرم ويحرم ثم يدخل مكة بعمرة فيقضي عمرته.

ميقات أهل العراق ومن في جهتهم

ميقات أهل العراق ومن في جهتهم تلك هي المواقيت، ولما فتحت العراق في زمن عمر قال أهل العراق: إن طريق أهل نجد جائر عن طريقنا، يشق علينا أن نذهب حتى نحرم من طريق أهل نجد الذي هو قرن المنازل! فقال عمر: انظروا حذوها من طريقكم -يعني: ما يحاذيها- فنظروا فوجدوا الوادي الذي يسمى الآن (الضريبة) ، ويسمى قديماً (ذات عرق) محاذياً للسيل، فجعل ميقاتاً لأهل خراسان الذي يعرف الآن بـ (إيران) ، ولأهل العراق، ولمن في تلك الجهات يحرمون من الميقات الخامس الذي يسمى الآن الضريبة، ولكنه الآن لا يمر به طريق، فلأجل ذلك لا يحرم منه أحد.

المار على الميقات وحكمه

المار على الميقات وحكمه المواقيت المكانية حكمها أنه لا يمر عليها أحد قاصداً مكة يريد الحج أو يريد العمرة إلا ويحرم منها، ويلزمه أن يحرم من هذه المواقيت، أما إذا قصد مكة لا لقصد الحج ولا لقصد العمرة وإنما لزيارة -مثلاً- أو لقضاء شغل عرض له أو نحو ذلك فإنه لا يلزمه؛ لأن الرسول قال: (ممن أراد الحج والعمرة) ، أما إذا مر وهو لا يريد الحج وإنما يريد الزيارة لأقارب له أو نحو ذلك، أو كان عابر سبيل يمر على مكة -مثلاً- ويتجاوزها إلى جدة فإنه لا يحرم ولا يلزمه إحرام. وفي هذه الأزمنة جاءت المراكب الجوية، وهي هذه الطائرات لا تمر مروراً دقيقاً بهذه المواقيت بحيث تنزل عندها ونحو ذلك، ولكنها تحاذيها في الجو، فيلزم الإنسان الذي يركب الطائرة أن يحرم عند هذا الميقات، وإن احتاط وأحرم قبله فهو أولى وأفضل، ولا يجوز أن يؤخر الإحرام إلى أن ينزل بجدة؛ فإن جدة دون المواقيت، فجدة إنما هي ميقات لأهل جدة، فأما أهل الرياض -مثلاً- وأهل الشرقية وأهل الحدود الشمالية الذين يركبون في الطائرات فلابد أن يحرموا إذا حاذوا الميقات الذي يمرون به، فإن كانوا في جهة الشمال فإذا حاذوا ميقات أهل المدينة أحرموا، وإن كانوا من جهة الشرق فإذا حاذوا ميقات أهل نجد إما قرن المنازل وإما ذات عرق أحرموا، ويجب الانتباه، فإن كثيراً منهم يغفلون، ولا يشعر أحدهم إلا وقد وقعت الطائرة وهو لم يحرم، فيحرمون من جدة ويقعون في مجاوزة الميقات، ومن جاوز الميقات وهو عازم على الإحرام وأحرم بعدما جاوزه فقد ترك نسكاً، فيكون عليه دم. فنقول للذين لا يحرمون إلا من جدة: عليكم دم عن مجاوزة الميقات. أما إذا نزل جدة وهو لم يحرم، وركب سيارة ورجع إلى السيل وأحرم منه فإنه يسقط عنه الدم، وذلك لأنه ما أحرم إلا من الميقات. أما إذا أحرم من جدة فلا ينفعه الرجوع، فلو رجع وهو محرم لا يفيده ولا يسقط عنه الدم. وعلى كل حال فينتبه لمثل هذا. وكثير من الراكبين يقولون: إنه اعترتنا غفلة، أو إن قائد الطائرة لم ينبهنا على محاذاة الميقات، أو غفلنا حتى نزلنا في جدة أو حتى تجاوزنا الميقات. فنقول: قد أخطأتم، فعلى الذي يريد الإحرام أن يكون مستعداً، حتى لو أحرم وهو في الرياض، فلو لبس إحرامه ونوى ولبى وهو في الرياض لا يضره، فزيادة ساعة أو نصف ساعة يحرمها لا يضره، ويسقط عنه الدم، ولا تضره الزيادة، فالزيادة خير من النقص، فهي من باب الاحتياط ومن باب أخذ الحذر. ولا يغتر بمن أفتى أن جدة ميقات للذين يركبون في الطائرات؛ فإن تلك فتوى خاطئة. ويمكن أن تكون جدة ميقاتاً للذين يأتون من السودان أو مما يحاذي جدة من جهة المغرب، فبلاد السودان أو ما يحاذيها لا يمرون بشيء من المواقيت إذا جاءوا في الطائرة أو جاءوا -مثلاً- في الباخرة، فنقول لهم: ميقاتكم جدة، أما الذين يجيئون من مصر أو من الشام أو نحوهم فإنهم يمرون على مواقيت قبل جدة، فيمرون على الجحفة، أو يمرون على ميقات أهل المدينة ذي الحليفة، فلا يجوز لهم أن يتجاوزوا مواقيتهم إلا بإحرام، فيتفطن لذلك حتى يحتاط الإنسان، وحتى لا يقع في مجاوزة الحد فيلزم بدم، والله أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

شرح عمدة الأحكام [36]

شرح عمدة الأحكام [36] الإحرام بالعمرة أو الحج عبادة لها معناها وأثرها على صاحبها، وهي هيئة توحي بالذل والافتقار إلى الله تعالى، ولذلك خصها الشرع الحكيم بقيود تعزز ذلك المعنى هي المسماة محظورات الإحرام.

أحكام تتعلق بالمحرم

أحكام تتعلق بالمحرم

ما يلبسه المحرم حال إحرامه

ما يلبسه المحرم حال إحرامه قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ما يلبس المحرم من الثياب قال صلى الله عليه وسلم: (لا يلبس القميص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف، إلا أحد لا يجد نعليه فليلبس خفين، وليقطعهما أسفل من الكعبين، ولا يلبس من الثياب شيئاً مسه زعفران أو ورس) ، وللبخاري رحمه الله: (ولا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين) . وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب بعرفة: من لم يجد نعلين فليلبس خفين، ومن لم يجد إزاراً فليبس سراويل) يعني: للمحرم. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (أن تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) قال: وكان عبد الله بن عمر يزيد فيها: لبيك لبيك وسعديك، والخير بيديك، والرغباء إليك والعمل] . في هذا الحديث لباس المحرم، والإحرام: هو نية النسك. والنسك: هو العمل الذي يتلبس به المحرم إذا قدم إلى مكة أو إذا أقبل إليها، ولا شك أن القاصدين مكة إما أن يقصدوا حجاً أو عمرة أو يجمعوا بينهما، فالذي يقصد حجاً يسمى مفرداً، والذي يقصد عمرة يسمى معتمراً، وإن كان في أشهر الحج يسمى متمتعاً بالعمرة إلى الحج، والذي يجمع بينهما يسمى قارناً، وقد عرفنا أن الحجاج إذا اقبلوا إلى مكة رفعوا أصواتهم بالتلبية مجيبين دعوة الله على لسان إبراهيم حيث أمره بقوله: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:27] ، فيقولون: (لبيك لبيك) . ويأتون مسرعين رافعين أصوتهم بالتلبية، أي: لبيك أيها الداعي، لبيك أيها المنادي. ثم يتجردون من لباسهم المعتاد، ويلبسون لباساً خاصاً هو الذي شرعه وبينه لهم النبي صلى الله عليه وسلم، فيتركون لباس الرفاهية ولباس التنعم الذي كانوا قد اعتادوه، ولباس التوسع الذي توسعوا به في حياتهم، ويختصون بلباس واحد وبزي واحد يشترك فيه صغيرهم وكبيرهم، وأميرهم ومأمورهم، وسيدهم ومسودهم، وحرهم وعبدهم، لا فرق بين أسودهم وأحمرهم وأبيضهم، كلهم على حد سواء في هذا اللباس. فلأجل ذلك ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أحرم في إزار شد به عورته، وفي رداء ألقاه على ظهره. والإزار: هو ما يستر العورة من السرة إلى الركبة أو إلى ما تحت الركبة، والرداء: ما يرتدي به ويلف به جسمه فيلقيه على ظهره ويرده على منكبيه وعلى صدره، ويستر به عضديه وجنبيه وظهره وبطنه، هذا هو الرداء، وأحرم في نعلين لبسهما في قدميه، فهذا هو الذي أحرم فيه.

ما لا يجوز للمحرم لبسه من الثياب

ما لا يجوز للمحرم لبسه من الثياب نهي عن الألبسة المعتادة، وفي هذا الحديث أنه نهى عن لباس القمص، ةالقمص: جمع قميص. والقميص: هو كل ثوب له جيب وأكمام. والجيب: هو الفتحة التي هي مدخل الرأس. والأكمام: هي التي تدخل منها اليدان. فكل ثوب له جيب وله أكمام يسمى قميصاً، فيدخل في ذلك الدراعة المعروفة، ويدخل في ذلك الجبة وما أشبهها، ويدخل في ذلك الفروة وإن كانت مشقوقة المقدم، ويدخل في ذلك الحلة التي تلبس -أيضاً- ولها جيب وأكمام، وما أشبه ذلك، وتدخل في ذلك -أيضاً- الأكسية الموجودة الآن، كالفانيلة المعروفة، أو الأكوات المسماة بهذا، أو البالطو أو ما أشبه ذلك، فهذه الأكسية كلها داخلة في القمص، فلا يلبسها المحرم. وكذلك -أيضاً- لا يلبس البرانس، والبرانس: جمع برنس، وهي شبيهة بالقمص، ولكن تزيد عليها أن لها رءوساً تستر الرأس، فكل ثوب رأسه منه فإنه يسمى برنساً، فيجعل في مؤخر فتحة الرأس مثل المظلة يستر بها رأسه، فهذا يسمى البرنس، فلا يلبسه، وخصه لأن له اسماً خاصاً. ونهى المحرم أن يلبس العمائم، واحدها عمامة، وهي ما يستر به الرأس، فكل شيء يستر الرأس فإنه يسمى عمامة، سمي بذلك لأنه يعم الرأس، فيدخل في ذلك القلنسوة -وتعرف بالطاقية-، ويدخل في ذلك الغترة المعروفة الآن، ويدخل في ذلك العصابة التي تلف على الرأس ويجعل طرفها تحت الحنك، فكل شيء يغطي الرأس يسمى عمامة، فلا يلبسه المحرم، بل يكشف رأسه، فيترك المحرم رأسه مكشوفاً، حتى لو مات وهو محرم لا يجوز تغطية رأسه، وسيأتينا في الرجل الذي مات محرماً قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تحنطوه ولا تغطوا رأسه، ولا تمسوه طيباً؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً) ، ولما أمرهم بأن يغسلوه بماء وسدر قال: (اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تحنطوه ولا تخمروا رأسه) ، فدل على أن المحرم الرجل لا يغطي رأسه بأي غطاء. واستثنوا من ذلك إذا حمل متاعه على رأسه فلا بأس، فلو كان معه فراش وعجز عن حمله بيديه ووضعه على رأسه فإنه لا يسمى ساتراً، ولا يسمى غطاءً، وإنما يسمى شيئاً حمله على رأسه، واستثنوا استظلاله، فقالوا: يجوز أن يستظل، وإن كان الأفضل له أن يبرز في الضحى -أي: في الشمس والهواء-، ولكن قد يحتاج إلى أن يستظل بمظلة أو بخيمة أو بسقف سيارة أو بظل شجرة أو نحو ذلك، ولا ينافي ذلك الإحرام، ولا يلصق رأسه بذلك الشيء الذي استظل به، فلو كان معه مظلة فلا يلصقها على رأسه بل يرفعها، وهكذا.

لبس النعال للمحرم

لبس النعال للمحرم وكذلك منع المحرم من أن يلبس الخفاف، والخفاف: جمع خف، والخف: هو الذي يستر القدم إلى الكعبين، والخفاف هي التي تصنع من الجلود ونحوها وتلبس على القدمين، فلا يجوز لبسها للمحرم. ومثلها -أيضاً- الجوارب -الشراب- التي تستر القدم إلى فوق الكعب، فهي داخلة في ذلك. لكن لا تلبسه إلا عند العدم، فإذا لم يجد نعلين واحتاج إلى أن يلبس ما يقي قدميه من الحجارة ونحوها جاز له أن يلبس الخفين، واختلف هل يقطعهما أم لا، والصحيح أن القطع منسوخ، والقطع ثبت في حديث ابن عمر، ولم يذكر في حديث ابن عباس، فذلك كان تركه رخصة؛ لأن حديث ابن عمر كان بالمدينة، وذكر فيه قطع الخفين إلى ما تحت الكعبين، وحديث ابن عباس كان في عرفة، وقد حضره من لم يحضره في المدينة ولم يتعرض للقطع، فدل على أنه رخص في اللبس بدون قطع، هذا هو الصحيح. أما الأحذية التي هي أسفل من الكعبين فهذه -أيضاً- بمنزلة الخف المقطوع لا يلبسها إلا عند الحاجة إذا لم يجد نعلين، فإن وجد النعلين فلا يلبس الخف مقطوعاً ولا غير مقطوع ما دام أنه ما رخص له في لبس الخف ولا ما يشبه الخف إلا عند عدم النعلين، فإذا وجدت النعلان اكتفى بهما ولم يلبس الخف المقطوع ولا غير المقطوع. فإذا عدم النعلين ووجد خفين فالصحيح أنه لا يقطعهما، وإن وجد الأحذية التي هي شبيهة بالخفاف المقطوعة فهو أولى، أي: هي أولى أن يلبسها حتى يخرج من الخلاف.

لبس الثياب المصبوغة للمحرم

لبس الثياب المصبوغة للمحرم أما الثياب المصبوغة فلا يجوز لبسها للمحرم، بل ولغير المحرم، فمكروه أن يلبس الثياب المصبوغة بالورس أو بالزعفران أو بالعصفر، أي: الأصباغ التي تصفرها وتجعلها كأنها مصبوغة بهذه الأشياء، فلا يجوز لبسها للرجال، ويكره المزعفر والمعصفر والمورس. والورس: نبات معروف يصبغ به، ومثله أو قريب منه العصفر، وهو شبيه بالزعفران، وكلاهما يصبغ به، وتوجد ثياب ملونة لونها كأنه اللون الذي فيه الورس أو الزعفران، فنقول: لا يلبسها المحرم، فإذا وجد هذه الأردية أو الأزر التي هي صفراء شبيهة بالمعصفر فلا يلبسها، بل يختار الثياب البيض، والثوب هنا يطلق على كل ما يلبس على البدن وإن لم يكن مفصلاً، فالرداء يسمى ثوباً، فلا يلبس الرداء المعصفر أو الذي هو كلون المعصفر، وكذلك الإزار المعصفر أو هو كلون المعصفر لا يلبسه.

ما لا يجوز للمحرمة لبسه

ما لا يجوز للمحرمة لبسه وكذلك -أيضاً- نهى المرأة في هذا الحديث أن تلبس النقاب، والنقاب: هو البرقع الذي يكون للعينين فيه نقب بقدر العينين. وجائز للمرأة أن تلبسه إذا لم تكن محرمة، ولكن تكون الثقوب بقدر حدقة العين، فلا تكون واسعة بحيث يبدو الأنف، أو ما بين العينين كلاهما، أو تبدو الوجنة والحاجب؛ فإن هذا فتنة، إنما تقتصر على لباس يكون ثقب العين فيه قليلاً، فإذا كانت محرمة فلا تلبس هذا اللثام، ولا تلبس هذا البرقع، بل تكتفي بالخمار. والصحيح أن المرأة تستر وجهها وتغطي وجهها إذا كانت محرمة، ولا بأس إذا مس الغطاء والخمار وجهها أو بشرة وجهها، كما قالت عائشة رضي الله عنها: (كان الرجال إذا مروا علينا ونحن في هوادجنا سبلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه) ، ولم تقل: إننا نتوقع أن يمس بشرة الوجه. بل الظاهر أنه إذا تدلى على الوجه أنه يمس الأنف ويمس الجبين ويمس الفم، فلا بأس بذلك، ولا دليل على أن المرأة تتوقى ستر الوجه بمباشر، بل الأصل أنها تستر وجهها في الإحرام إذا كانت أمام الرجال، وبالأخص إذا كانت في الطواف، أو كانت في المسجد الحرام الذي يكثر فيه المشاة ويكثر فيه الرجال، فتستر وجهها ولو كانت محرمة، ولا يجوز أن تكشفه أمام الرجال الأجانب. ونهيت المرأة في هذا الحديث -أيضاً- أن تلبس القفازين، والقفاز: هو اللباس الذي يلبس على الكف، الذي يفصل بقدر الكفين. فهذه لا تلبسها المحرمة، ولكن لها أن تستر كفيها بأطراف الأكمام، ولها أن تسترهما بعباءتها ونحوها، لها ذلك ولا فدية عليها، ولو مس الغطاء بشرة وجهها ولو غطت يديها. فهذه الأكسية التي نهي عنها المحرم، أما البقية فإنه يباح له أن يلبسها، فإذا تجنب كل لباس له أكمام وله جيب دخل في ذلك كل ما فيه التفاصيل. والفقهاء يقولون: لا يلبس المخيط. وكلمة (المخيط) فيها إجمال، ولكن عبارتهم تقتضي أنه لا يلبس الشيء الذي فصل على قدر جزء من البدن، سواء كانت خياطته بالإبر أو بالماكينة، أم نسج على تفصيل ذلك العضو، فمثلاً الشراب الذي في القدم قد لا يكون مخيطاً، ولكنه منسوج هكذا، ومع ذلك لا يلبسه، أما النعال فالنعال المعروفة يجوز لبسها ولو كان فيها خياطة، وقد يوجد في بعضها خياطة، ولا يقال: إنها ممنوعة لأنها مخيطة. فلا تدخل في المخيط؛ لأن المخيط هو ما فصل على قدر جزء من البدن من الأغطية القطنية والصوفية والكتان وما أشبه ذلك. فهذا ما يتعلق باللباس.

التلبية معناها وصيغتها وهدي النبي صلى الله عليه وسلم فيها

التلبية معناها وصيغتها وهدي النبي صلى الله عليه وسلم فيها بقي الحديث الذي يتعلق بالتلبية، وقد عرفنا أن التلبية إجابة للنداء الذي أمر الله به خليله إبراهيم عليه السلام، فالحجاج والعمار إذا أقبلوا إلى مكة رفعوا أصواتهم بهذه التلبية. ورفع الصوت بها سنة، وفي الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن جبريل أمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال) ، والإهلال: هو التلبية، وكل شيء فيه رفع للصوت فإنه يسمى إهلالاً، يقال: استهل بكذا، أي: ابتدأ به ورفع صوته. ومنه سمي الهلال؛ لأن الناس إذا رأوه رفعوا أصواتهم عادة، وكذلك (استهل الصبي) أي: رفع صوته عندما يولد. فالإهلال هو التلبية. ورفع الصوت بها علامة على أنه محرم. والإحرام في الأصل هو النية، أن تنوي بقلبك أنك دخلت في النسك، فإذا نويت بقلبك فهناك عليك أن تتجنب المحظورات، فتتجنب لبس المخيط كما فصلنا، وتتجنب تغطية الرأس، وتتجنب الطيب، وقص الشعر، وقص الأظفار، وقتل الصيد الذي حرمه الله على المحرم، وتتجنب النساء مباشرة أو تقبيلاً، وتتجنب الوطء، وتتجنب عقد النكاح إذا دخلت النسك عند ما تنوي بقلبك، وليس اللباس هو الإحرام، فلو لبست الإحرام وأنت في الرياض جاز لك ذلك ما دام أنك ما نويت، فإن لبست الإزار ولبست الرداء وركبت -مثلاً- السيارة جاز لك أن تطيب؛ لأنك ما أحرمت، إنما لبست، وليس اللباس هو الإحرام، وجاز لك -مثلاً- أن تنقص من أظفارك وأن تنقص من شعرك؛ لأنك ما نويت ولا أحرمت، فالإحرام هو النية والعزم بالقلب على الدخول في النسك. والحاصل أن المحرم متى عزم بقلبه على أن يدخل في النسك فهو محرم، وهنالك يترك المحظورات، وهنالك يرفع صوته بالإهلال الذي هو علامة على هذا النسك حج أو عمرة. والتلبية النبوية المشهورة: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك) ، كرر فيها قوله: (لا شريك لك) مرتين، وذلك رداً على تلبية الكفار، فالكفار كانوا يدخلون الشرك في تلبيتهم، فيقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك. وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قالوا: لبيك لا شريك لك يقول لهم: (قدقد) أي: قفوا، فلا تتجاوزوا ولا تفسدوا تلبيتكم، ولا تجعلوا فيها شركاً. فلما كان في تلبيتهم هذه الكلمة الشركية كرر (لا شريك لك) مرتين ليحقق بذلك أن التلبية لله وحده، وأنه لا يجوز أن يشرك معه، وهكذا شرع هذه التلبية. وإذا قلت: ما معنى هذه التلبية؟ نقول: إذا دعاك أبوك أو أخ لك أكبر منك أو عمك ونحو ذلك لبيت دعوته فقلت: لبيك يا أبتي لبيك يا أخي فهي علامة على استجابة وعلامة على إجابة الدعاء، ولا شك -أيضاً- أنها علامة على القبول، على تقبل ما يرشدك إليه وما يدعوك إليه، فإذا دعاك وقلت: (لبيك) فإنك تقول: إنني قابل لما قلته ملتزم به. واشتقاقها من (لب بالمكان) إذا لصق به، ومنه سميت اللبابة التي في داخل اللباس (لبابة اللباس) لأنها ملاصقة له، فكذلك (لب بالمكان) أي: لصق به. ولفظها لفظ المثنى (لبيك) ، فما قال: (لبك) ، ولكن (لبيك) يعني: مرتين، فلفظها لفظ المثنى، ولهذا يقول بعضهم: دعوت لما نابني مسوراً فلبى فلبي يدي مسور فجعلها بلفظ المثنى. وليس المراد منها التثنية فقط، بل المراد التكرار، فإن قوله تعالى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك:4] ليس المراد به مرتان فقط، فإنه في مرتين لا ينقلب البصر خاسئاً وهو حسير، بل المراد تكرار النظر، فكذلك قوله: (لبيك) ليس المراد إجابتك مرتين، بل المراد تكرار الإجابة. فالملبي كأنه يقول: أنا مقيم على طاعتك، وأنا ملازم لدعوتك، وأنا ملازم لأمرك مرات بعد مرات وكرات بعد كرات. فهكذا يكون معنى هذه التلبية، إجابة الدعوة ولزومها والالتزام بالطاعة، والالتزام بالامتثال الذي أمر به، كأنه يجيب الدعوة، ويلتزم بما دعي إليه، وكأنه يقول: أنت -يا رب- دعوتني لأمر، فأنا قد أجبتك، وقد ألزمت نفسي، وقد التزمت بأن أتقيد بأمرك، وأنا مقيم على طاعتك مرة بعد مرة، وكرات بعد كرات، لا أتخلى عن طاعتك. وإذا كان كذلك فإن الملبي يعرف أنه قد عاهد ربه على أن يلازم طاعته، وعلى أن لا يتخلى عنها في وقت من الأوقات. إذاً فالتلبية كأنها عهد، وكأنها التزام، وكأنها مبايعة من الإنسان لله سبحانه وتعالى، إذا أتى لأداء هذا النسك، ورفع صوته بهذا الشعار، والتزم بما تعهد به، ورجع وهو على هذا الالتزام ولم يخل به، ولم يأت بما يناقضه، فبذلك يصير من الموفين بعهدهم إذا عاهدوا. فهذه التلبية هي شعار للمتلبس بهذا النسك بحج أو عمرة، يكثر من هذه التلبية، ولا يقطعها إلا إذا شرع في رمي جمرة العقبة إن كان إحرامه لحج، أو إذا شرع في طواف العمرة إن كان إحرامه بعمرة، فيكررها، وتتأكد في عشرة أماكن، تتأكد إذا رقى على مرتفع، أو هبط في واد، أو ركب دابته، أو نزل منها، أو أقبل الليل، أو أقبل النهار، أو تلاقت الرفاق، أو سمع ملبياً، أو صلى مكتوبة، أو فعل محظوراً في عشرة مواضع تتأكد، وفي بقية الأماكن والأوقات تكون مشروعة مندوبة للإكثار منها، فالتلبية النبوية هي التي سمعنا، والزيادة عليها جائزة، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يسمع أصحابه يزيدون ولا يغير عليهم ولا ينكر عليهم، فمنها زيادة ابن عمر في قوله: لبيك وسعديك، والخير بيديك، والشر ليس إليك، نحن عبادك الوافدون إليك، الراغبون فيما لديك. وكذلك قوله: لبيك والرغباء إليك والعمل. أو: لبيك إن العيش عيش الآخرة. أو: لبيك حقاً حقاً تعبداً ورقاً، وكل هذا جائز؛ وذلك لأن فيه تعهداً من العبد بهذه الأعمال، وكذلك التزام بذلك، وكذلك -أيضاً- فيه وصف لله سبحانه وتعالى بما هو أهله من هذه الصفات؛ لأنه منه الخير، وإليه الخير، ومنه العطاء، وأن الشر ليس إليه، فإذا التزم الإنسان بمثل هذه رجي -إن شاء الله- أن تتقبل أنساكه وعباداته، وأن يحفظه الله تعالى في بقية حياته.

شرح عمدة الأحكام [37]

شرح عمدة الأحكام [37]

حكم صلاة الجماعة للمسافر

حكم صلاة الجماعة للمسافر Q هل تجب صلاة الجماعة في المسجد على المسافر الذي وصل إحدى البلاد وما زال تحت حكم المسافر، مع ذكر الدليل؟ A تجب عليه ولو كان مسافراً، وذلك للأحاديث الدالة على أن الجماعة مخاطب بها كل من سمع النداء، ولكن المسافر إذا كان معه مسافر آخر وصلوا جماعة قصراً حصل لهم فضل الجماعة. وكذلك -أيضاً- إذا كان المسافر فرداً، فالمسافر المنفرد واحد، فنقول له: لا تصل وحدك فيفوتك فضل الجماعة؛ فإن المنفرد إنما له جزء واحد من سبعة وعشرين جزءاً من صلاة الجماعة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (صلاة الجماعة تفضل على صلاة بسبع وعشرين درجة) . فنحن نقول: يؤمر ويكلف المنفرد أن يصلي مع الجماعة ولو كان مسافراً، وإذا صلى معهم أتم ولا يقصر؛ لأن من صلى مع الجماعة والمتمين لزمه أن يتم ولزمه أن يصلي تماماً، وأما إذا كان معه جماعة فإنهم يقصرون. فالحاصل أنكم إذا قدمتم بلداً وأنتم مسافرون ولكنكم لا تقيمون فيها وإنما تمرون عابرين فاقصروا الصلاة وأنتم جماعة، أما إذا قدمتها وأنت وحدك فلا تصل وحدك فتفوتك صلاة الجماعة ما دمت قادراً على أن تصلي مع الجماعة وتحصل لك فضيلة.

الصلاة في الطائرة مع تخلف بعض الأركان أو الشروط

الصلاة في الطائرة مع تخلف بعض الأركان أو الشروط Q هل يجوز أداء صلاة الفريضة في الطائرة، وكذلك الجمع بين الصلاتين؟ وما الحكم إذا تعذر على المصلي استقبال القبلة في الطائرة؟ A لا بأس إذا خاف خروج الوقت، فإذا خاف أن الشمس تطلع وهو لم يصلِ الفجر، ولا يستطيع أن يأتي بالصلاة على الهيئة المطلوبة صلى ولو على كرسي، فإن كان هناك مكان متسع يتمكن أن يصلي فيه وهو قائم يستقبل القبلة لزمه ذلك، فإذا لم يتمكن صلى ولو على كرسيه، ولو كان وجهه لغير القبلة؛ لكونه معذوراً في ذلك؛ لأنه لم يتمكن من استقبال القبلة ولم يجد مكاناً يصلي فيه، وقد يكون المكان المخصص -مثلاً- يتسع لاثنين أو لأربعة أو لعشرة، والطائرة قد يكون فيها مائة أو مئات لا يتسع لهم هذا المكان، فأين يصلون إذا كان الوقت قصيراً من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس؟! ففي هذه الحال يصلون إذا خافوا خروج الوقت على كراسيهم ولو لغير القبلة لأجل العذر. وهكذا -مثلاً- إذا أخروا العصر وعرفوا أنهم لا ينزلون إلا بعد غروب الشمس، وأن الطائرة لا تنزل إلا بعد غروب الشمس، ووقت العصر يخرج بغروب الشمس، ففي هذه الحالة يجوز لهم أن يصلوا وهم على كراسيهم ولو لغير جهة القبلة للعذر، وإن تمكن أحدهم أن يصلي وهو قائم صلى، وإلا اكتفى بالصلاة جالساً.

جمع المسافر بين الصلاتين في غير وقت السير

جمع المسافر بين الصلاتين في غير وقت السير Q ما صحة حديث معاذ الذي في الموطأ (أن الرسول صلى الله عليه وسلم جمع نازلاً في تبوك) ؟ A الحديث صححه بعضهم، وأجابوا عنه بأنه لعذر إما لشغل وإما لمرض أو نحو ذلك، كالجمع بين صلاتين كالظهرين أو العشاءين في المدينة من غير سفر ولا مطر، ةذلك -أيضاً- لعذر، وعلى كل حال فالمعتاد والأكثر أنه عليه الصلاة والسلام ما كان يجمع إلا إذا جد به السير، إذا كان على ظهر سير، وأما إذا كان نازلاً فإنه كان يوقت، كما كان في منى، إذ إنه نزل في منى أربعة أيام: يوم العيد وثلاثة أيام بعده أو يومين بعده يصلي كل وقت في وقته، فيصلي الظهر في وقته ركعتين، والعصر في وقته ركعتين، والمغرب في وقته، والعشاء في وقته ركعتين، فيكون قد وقّت وقصر لكونه على أهبة السفر فيعتبر مسافراً، ولكن لم يكن المسافر الذي يباح له الجمع بين الصلاتين؛ لأن الجمع -كما عرفنا- يختص بمن كان على ظهر سير.

دخول وقت الرباعية في السفر وصلاتها في الحضر

دخول وقت الرباعية في السفر وصلاتها في الحضر Q إذا كنت مسافراً وجد بي السير، فدخل الظهر وأخرته إلى العصر، ووصلت إلى بلدي التي أقيم فيها بعد دخول وقت العصر، فهل يجوز لي أن أصلي الظهر ركعتين جمعاً مع العصر؟ A من أخر الوقت حتى وصل إلى بلده فإنه يصلي تماماً، وذلك لأن القصر إنما كان للسفر، وبعد الدخول ليس هو على سفر، وصورة ذلك: إذا دخل عليك وقت الظهر وأنت في الطريق وأخرته، ووصلت البلد وأنت لم تصل الظهر أو العصر، إما قبل أن يدخل العصر وإما بعد أن يدخل، فهذا الفرض الذي دخل عليك وأنت في الطريق وأخرته حتى وصلت إلى أهلك صله تماماً، أي: صل الظهر أربعاً. وهكذا لو مضى عليك الوقتان، فلو أنك ما أتيت إلى البلد إلا بعد العصر في الساعة الرابعة والنصف -مثلاً- أو الخامسة، ولم تصل ظهراً ولا عصراً تصليها أربعاً وأربعاً، فتصلي كل وقت أربعاً، وتجمعهما، فإذا وصلت بادرت وصليت أربعاً ظهراً وأربعاً عصراً، وهكذا -أيضاً- العشاء، فإذا دخل عليك وقت العشاء وأنت في الطريق ولكنك أخرته فوصلت إلى بلدك وأنت لم تصل فلا تقل: هذا الظهر قد وجب علي ركعتين وأنا في الطريق، والآن وصلت فأصليه ركعتين والناس قد صلوا الساعة التاسعة أو العاشرة. نقول: ما دمت وصلت إلى البلد فإنك تصليه تماماً، تصلي العشاء أربع ركعات لكونك لست على سفر. وهكذا لو ذكر صلاة سفر في حضر، وصورة ذلك: إذا ترك صلاة الظهر نسياناً من يوم السبت، وجاء يوم الأحد وهو في بلده، فذكر أنه وهو في السفر ما صلى العصر التي مرت به في يوم السبت، وهو في الطريق نسيها، نقول في هذه الحال: يصليها في البلد أربع ركعات، ولو أنه صلاها في الطريق أو صلاها في السفر صلاها ركعتين، فهو الآن من أهل الأربع، فيصليها أربعاً. والعكس، فلو قدر -مثلاً- أنك وأنت عند أهلك نسيت صلاة الظهر، ثم سافرت في يوم السبت آخر النهار وما صليت الظهر نسياناً وقد صليت العصر، فذكرتها في يوم الأحد وأنت في الطريق، فإنك تصليها أربعاً احتياطاً للصلاة؛ لأنها وجبت عليك أربعاً وأنت في البلد وأخرتها بتفريط أو نحو ذلك، فتصليها أربعاً. وهذا كله من باب الاحتياط للفرائض والإتيان بها كاملة كما أمر الله سبحانه وتعالى. ويلاحظ -أيضاً- أن كثيراً من الناس إذا أقبلوا على البلد قبل العصر وهم في الطريق آتين، صلوا الظهر والعصر، فيصلونها في الساعة الثانية عشرة أو نحوها، ثم يأتون إلى البلاد في الساعة الثانية قبل أن يدخل العصر، ويقولون: قد صلينا العصر، وانتهينا. نقول: صليتموها ركعتين، وأنتم الآن من أهل الأربع، فأعيدوها، فما دام أنكم وصلتم في الوقت، ودخل عليكم الوقت وأنتم من أهل الأربع لزمكم أن تصلوها أربعاً. وهكذا -مثلاً- العشاء، فلو أنهم أقبلوا -مثلاً- من المدينة أو من القصيم، ولما قربوا من البلد غربت عليهم الشمس، وصلوا المغرب، وصلوا معه العشاء ركعتين، وجاءوا -مثلاً- إلى الرياض في الساعة الثامنة قبل أن يدخل الوقت، أو قبل دخول وقت العشاء، وقالوا: قد صلينا العشاء ركعتين في الطريق. نقول: أنتم الآن من أهل الأربع، وأنتم صليتموها هناك ركعتين، وقد وجبت عليكم الأربع، فعليكم أن تعيدوها. أما لو صلوها أربعاً هناك إن كان ممن يباح لهم الجمع أجزأ ذلك عنهم إن شاء الله. والله تعالى أعلم.

غسل الجمعة من ليلتها

غسل الجمعة من ليلتها Q هل الاغتسال بعد المغرب من يوم الخميس يعتبر غسلاً للجمعة؟ A إذا علمنا أن الحكمة فيه أن يكون الإنسان نظيفاً فعندما يحضر إلى المسجد يكون نظيف البدن فإنه يحصل بذلك أنه قد اغتسل. ولكن على كل حال فما دام في الأحاديث الأمر بالاغتسال يوم الجمعة، كحديث: (من جاء الجمعة فليغتسل) ، وحديث: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم) ، فالأفضل أن يكون بعد صلاة الصبح وقبل صلاة الجمعة.

المقدار الزمني لخطبة الجمعة

المقدار الزمني لخطبة الجمعة Q هل لخطبة الجمعة مقدار محدد من الزمن، أم لابد من إتمام الموضع الذي تطرق له الإمام؟ A الكثيرون من الناس يستطيلون الخطبة إذا كانت عشرين دقيقة أو خمس عشرة دقيقة، وينفرون من الخطيب، وقد يقطعون الخطبة وقد يخرجون، ولا شك أن هذا خلاف الأصل، فالأصل أن الخطبة كانت تمكث مدة، لذلك احتيج إلى أن يجلس بينهما للاستراحة، فلو لم يكن هناك طول لما جلس بينهما يستريح. وعلى كل حال فقد يكون الموضوع قصيراً فينهيه في خمس دقائق أو في عشر دقائق ويعطيه حقه، ولكن في مثل هذه الحال ينبغي أن يطرق عدة مواضيع حتى يستفاد من ذلك، وقد يكون الموضوع طويلاً، فالأولى أن يبسطه ويتوسع فيه، فيبسط ذلك الموضع حتى يستوفي الكلام حوله، ولو بلغ خمس عشرة دقيقة أو عشرين دقيقة أو ثلاثين دقيقة حتى يبلغ ويأتي بالأمثلة والأدلة والتعليلات والتحذير من المخالفة وما أشبه ذلك، فإذا تكلم -مثلاً- على الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر ذكر الأدلة، وذكر الأمثلة، وذكر المصالح التي تترتب على ذلك، وذكر المفاسد التي تنجم عن التهاون بذلك، وذكر الكيفية التي يستعملها، ومتى يكون المكلف أهلاً لهذه الوظيفة وما أشبه ذلك. وإذا تكلم على الدعوة إلى الله تعالى تكلم على الأدلة، وتكلم على الحكم والمصالح، وتكلم على الأساليب، وتكلم على الأهلية التي يكون بها أهلاً لأن يدعو إلى الله، وما أشبه ذلك. وقد يكون الخطيب مستحضراً لكثير من الأدلة، وقد لا يستحضر إلا بعضها، ولكل مقام مقال.

حكم رفع اليدين في دعاء خطبة الجمعة

حكم رفع اليدين في دعاء خطبة الجمعة Q هل للإمام أن يرفع يديه في خطبة الجمعة للدعاء، وكذلك المأمومون هل لهم ذلك؟ A يرفعون أيديهم إذا رفع الإمام، والحديث عام، وهو قوله (إن ربكم حيي كريم، يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً) ، و (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في الدعاء) ، وأن رفع اليدين من باب الاستجداء والاستعطاء من الله تعالى فهو سبب للعطاء، وما دام كذلك فإن الإمام يرفع يديه، والمأمومون يرفعون أيديهم للتأمين، وهذا هو الصحيح. وأما الحديث الذي يستدل به من ينهى عن ذلك، وهو أن بعض الصحابة دخل ورجل من بني أمية يخطب وهو يحرك يديه، فقال: (قبح الله هاتين اليدين؛ ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرك إلا إصبعه) يعني: للتشهد. فنقول: فعل هذا الخطيب ليس في الدعاء، إنما هو في أثناء الخطبة، وهو يحرك يديه بكثرة، يحرك يديه من باب الاهتمام بالأمر، فأنكر عليه كثرة مد اليدين ورفعهما وتحريكهما، فذكر أنه عليه الصلاة والسلام في أثناء الخطبة إنما كان يحرك إصبعه للتشهد، وليس رفع اليدين للدعاء تحريكاً، إنما الذي أنكر هو التحريك الذي هو مستمر باطراد بيديه.

وقت الامتناع عن الكلام في خطبة الجمعة

وقت الامتناع عن الكلام في خطبة الجمعة Q متى تبدأ فترة النهي عن الحديث وقت صلاة الجمعة؟ A عند ابتداء الخطبة، إذا ابتدأ الإمام يخطب الخطبة الأولى فبعد ذلك يلزم المأمومين أن ينصتوا، وأن يقطعوا الحديث، وأن لا يتكلم أحد بأدنى كلمة، حتى ولو كانت أمراً بالمعروف ونحو ذلك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قلت لصاحبك: أنصت. والإمام يخطب، فقد لغوت) ، وكلمة (أنصت) لفظة واحدة، وهي أمر بخير، ومع ذلك جعلها لغواً، والحكمة في ذلك: أن الخطيب يوجه كلماته إلى الحاضرين، فيجب أن يكون كل من الحاضرين منصتاً لما يوجه إليه مصغياً بأذنيه، لا يتحرك لسانه، ولا تتحرك يداه حركة تشوش عليه أو تسبب غيبة فكره، ولأجل ذلك قال: (ومن مس الحصى فقد لغا) ، وكان المسجد فيه حصا وليس مفروشاً، فكان أحدهم إذا جلس أخذ يمسح الحصى ويسويه، فجعل ذلك -أيضاً- من اللغو ومن العبث، وكل ذلك لأجل أن لا يكون هناك حركة تشوش على المصلي.

تحية المسجد يوم الجمعة قبل وقت الظهر

تحية المسجد يوم الجمعة قبل وقت الظهر Q إذا دخلت المسجد والإمام يخطب قبل دخول وقت الظهر بعشر دقائق هل أجلس أو أصلي ركعتين؟ A يوم الجمعة ليس فيه نهي، ولأجل ذلك يؤمر بأن يصلي كل من دخل، كما في الحديث، فإنه لما دخل رجل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب ورآه قد جلس -وهذا الرجل اسمه سليك الغطفاني - قال له: (أصليت يا سليك؟ قال: لا. قال: قم فاركع ركعتين) ، ولو لم تزل الشمس، ولو كانت في وسط النهار، أي: عندما يقوم قائم الظهيرة، فيصلي كلما جاء، سواء في وقت النهي أو بعده أو قبله، يصلي تحية المسجد، أو يصلي ما كتب له. والصلاة قبل الجمعة مرغب فيها، ففي الحديث الذي في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من اغتسل يوم الجمعة، ولبس أحسن ثيابه، ومشى ولم يركب، وأتى إلى المسجد، وصلى ما كتب له كان ذلك كفارة لما بينه وبين الجمعة الآتية) ، فأباح له أن يصلي ما كتب له، ولو عشر ركعات أو عشرين ركعة، ولم يحدد له عدداً.

إذا وصل المسافر إلى بلده وقت الجمعة وقد صلاها ظهرا

إذا وصل المسافر إلى بلده وقت الجمعة وقد صلاها ظهراً Q ما الحكم فيمن كان مسافراً يوم الجمعة إلى بلده فصلى الجمعة ظهراً في سفره، ثم وصل إلى بلده قبل خروج وقت صلاة الجمعة؟ A ما دام أنه لم يأت إلا بعد صلاة الجماعة تجزئه صلاة الظهر التي صلاها ولو قصراً، إنما تلزمه إذا جاء قبل أن تصلى، فيلزمه أن يتوجه إلى المسجد ويصليها مع الحاضرين، ولا يجزئه صلاته قبل ذلك، والأصل أن المسافر لا يصلي الصلاة إذا كان قد قرب إلى بلده إلا بعد أن يصل، أو أن يخشى خروج الوقت، فإذا أقبل -مثلاً- إلى الرياض من المنطقة الشرقية -مثلاً- وزالت الشمس، وبينه وبين الرياض -مثلاً- ساعة فله أن يصلي الظهر قصراً هناك، فيصليها ظهراً، ويأتي بعد أن تصلي الجمعة ويخرجوا من المساجد بنصف ساعة أو بساعة أو نحو ذلك، ولا يقال له: إن الوقت لا يزال وقت الجمعة؛ إذ كيف يصلي جمعة وهو وحده؟ بل تجزيه صلاة الظهر قصراً.

الإمام والتبكير إلى المسجد

الإمام والتبكير إلى المسجد Q علمنا ما للمأموم من التبكير في صلاة الجمعة من فضل في الساعة الأولى أو الثانية أو غيرها، فما للإمام؟ هل يلزمه أن يأتي ويدخل المسجد، أم ماذا يفعل حتى يحصل على ذلك الأجر؟ A لا يلزمه، فإذا تأهب لذلك واستعد واشتغل بما يشتغل به المأمومون من قربات أو صلوات ولو كان في بيته مستعداً لذلك فهو على أجر، وله هذا الأجر، ويجوز أن يأتي ويقف في الصف الأول مبكراً، ويشتغل بالصلوات، ويشتغل بالقربات وبالقراءة إلى أن يحين وقت الخطبة، ثم يبدأ فيخطب، ويعتقد كثير من العامة أنه لا يجوز لإمام أن يدخل إلا وقت الصلاة، ويقولون: إن هذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم. نقول: النبي عليه الصلاة والسلام كان بيته في داخل المسجد، فهو في حكم المسجد، فيجلس فيه إلى أن يحين وقت الإقامة أو وقت الخطبة، ثم يأتي فيقصد المنبر أو المحراب للصلاة، فيكون حكمه حكم من هو في داخل المسجد. فعلى كل حال إذا رأى الإمام من المصلحة أن يجلس في بيته متأهباً مغتسلاً مشتغلاً بقراءة أو مشتغلاً بقربة أو بصلاة نفل فهو على خير وله أجر، وإن رأى أن يأتي إلى المسجد ويجلس في جانب أو حجرة من حجره أو في صف من صفوفه ويشتغل بالقرب فله أجر إن شاء الله.

الاكتفاء بالغسل عن الوضوء

الاكتفاء بالغسل عن الوضوء Q مكلف عليه الوضوء فاغتسل، فهل يجزئ هذا الغسل عن الوضوء؟ A يجزئ مع النية والترتيب، والنية أن ينوي رفع الحدث الأصغر والأكبر، والترتيب أن يبدأ بالمضمضة وغسل وجهه بعد الاستنجاء مثلاً، ثم بعد ذلك يغسل يديه، ثم بعد ذلك يغسل رأسه، ثم من رأسه يغسل بقية بدنه حتى يغسل قدميه آخر ما يغسل، فيكون قد رتب، فبدأ بوجهه ثم يديه ثم رأسه ثم عنقه ثم منكبيه ثم بطنه وظهره ثم فخذيه ثم ساقيه ثم قدميه، فيكون قد رتب، وهذا الترتيب لازم في الوضوء، فالترتيب ركن من أركان الوضوء. وهذا هو الصحيح، وهناك قول أنهما يتداخلان، فإذا نوى رفع الحدث الأكبر دخل فيه الأصغر، والأصغر هو الوضوء، والأكبر هو الغسل، فيقول بعض العلماء -ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية -: إنه لا يجب الوضوء مع الغسل، بل يكفي ويدخل الوضوء في الغسل.

عدد خطب العيد وحكم صيام أيام التشريق

عدد خطب العيد وحكم صيام أيام التشريق Q الخطبة في العيدين هل هي واحدة أو اثنتين؟ وما حكم صيام أيام التشريق؟ A مشاهد أن خطبة العيد خطبتان، يخطب في كل عيد خطبة ثم يجلس ثم يخطب خطبة، لا خلاف في ذلك، ثم بعد ذلك تنتهي، وبانتهاء الخطبة تنتهي الصلاة ويدخل وقت ذبح الأضاحي. أما الصيام فإنه حرام أن يصوم يوم العيد، سواء عيد الفطر أو عيد الأضحى، أما أيام التشريق فالصحيح -أيضاً- أنه حرام صيامها، إلا في مكة لمن لم يجد الهدي واحتاج إلى أن يصوم ثلاثة أيام بمكة فله أن يصوم أيام التشريق: يوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، فأما غير أهل مكة فليس لهم أن يصوموها؛ وذلك لأنها بقية أيام العيد، والناس فيها يأكلون من أضاحيهم ومن نسكهم، ولهذا علل النهي عن صوم يوم العيد في بعض الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يومين: يوم عيد الفطر الذي تفطرون فيه من صيامكم، وعيد النحر الذي تأكلون فيه من نسككم، ولا شك أن الثلاثة هي أيام ذبح وأيام نسك، فنهي عن صيامها حتى يتمكن الناس من أن يأكلوا فيها ويذكروا الله عز وجل على ما رزقهم من بهيمة الأنعام. والله تعالى أعلم.

توجيه المحتضر إلى القبلة

توجيه المحتضر إلى القبلة Q ذكر الشارح رحمه الله أن المحتضر يوجه إلى القبلة، فهل هذا مشروع؟ A هو مشروع، ودليله ما روي في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما عد كبائر الذنوب ذكر منها استحلال الكعبة، وقال: (كبائر الذنوب قول الزور، وشهادة الزور، والشرك بالله -إلى أن قال:- واستحلال القبلة قبلتكم أحياءً وأمواتاً) ، فمن قوله: (قبلتكم أحياء وأمواتاً) أخذوا من ذلك انه إذا احتضر يوجه إلى القبلة، يكون وجهه إلى القبلة حتى تخرج روحه وهو على أحسن الحالات وأفضلها، فيموت موجهاً إلى القبلة التي يتوجه إليها وهو يصلي، فهذا دليله (قبلتكم أحياءً وأمواتاً) . وقد روي -أيضاً- عن حذيفة أنه لما حضره الموت قال: وجهوني. أو روي عن غيره من الصحابة أنهم كانوا يأمرون المحتضر أن يوجه إلى القبلة حتى تخرج روحه وهو على تلك الحال، وقد أنكر ذلك -أيضاً- بعض السلف كـ سعيد بن المسيب، ولعله لم يبلغه الأثر. وعلى كل حال فمشروع توجيهه إلى القبلة حتى يموت على أحسن حال.

حكم صلاة العيدين

حكم صلاة العيدين Q ما هو القول الراجح في حكم صلاة العيدين؟ A الراجح -كما هو قول الجمهور- أنها فرض كفاية، ولكنها من الفروض المؤكدة، حيث جاء فيها هذا التأكيد والأمر للنساء، فقد روي أن عائشة رضي الله عنها في آخر حياتها قالت: لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدثه النساء لمنعهن المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل. كأنها رأت أن النساء في زمانها قد حصل منهن شيء من التبرج أو التجمل الذي تحصل به الفتنة في زمانها الذي هو القرن الأول، فقالت: إن هذا الذي هو تجمل وتطيب ولبس لأحسن الثياب ولبس لكامل الحلي وما أشبه ذلك مما تحصل به الفتنة، وخروجها -والحال هذه- تحصل به مفسدة؛ حيث إن الناس لابد أن ينظروا إليها، سيما إذا كان يجمعهن بالرجال طريق واحد أو نحو ذلك، فهذا دليل على أن عائشة فهمت أن أمر النساء الذي كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بإخراج ذوات الخدور وإخراج الأبكار والمخدرات ونحوهن أن ذلك لمناسبة وأنه لا يدل على الوجوب.

ما يحصل به الركن من ركوعي صلاة الكسوف

ما يحصل به الركن من ركوعي صلاة الكسوف Q لو دخلت في صلاة الكسوف وقد رفع الإمام من الركوع الأول من الركعة الأولى، فهل أكون قد لحقت تلك الركعة؟ A الصحيح أن الركن يحصل بالركعة الأولى، فالركوع الأول هو الركن الذي هو من أركان الصلاة، والقيام الثاني يعتبر سنة، والركوع الثاني يعتبر -أيضاً- سنة، والسنة لا تقوم مقام الركن، ولأجل هذا يجوز -عند بعض العلماء- عدم تكرار الركوع، فيجوز أن يصليها بركوع واحد كصلاة الفجر، إلا أنه يطيل فيها الأركان، فما دام أن الركوع الأول هو الركن فمن أدركه أدرك الركعة، ومن فاته فاتته تلك الركعة، فيقوم ويقضيها، ولو أدرك القيام الثاني والركوع الثاني أي: فاته القيام الأول والركوع الأول، لكن أدرك القيام الثاني وأدرك الركوع الثاني وأدرك الرفع وأدرك السجدتين ورجع فلابد أنه يقضي؛ لأنه فاته القيام الأول وفاته الركوع الأول، فهو بمنزلة الركوع في صلاة الفجر.

سهو المصلي في الكسوف عن الركوع الثاني

سهو المصلي في الكسوف عن الركوع الثاني Q إذا سها الإمام في صلاة الكسوف فركع ركوعاً واحداً ثم سجد، فهل يفعل في الركعة الثانية مثل الأولى، أم أنه يأتي بالصيغة الواردة ثم يسجد للسهو؟ A ذكرنا أن بعض العلماء أجاز أن يقتصر على ركوع واحد، وأن تكون كصلاة الفجر، إلا أنه يطيلها، ولكن هذا خلاف السنة، حيث ورد التكرار تكرار كل ركوع، وتكرار الركوع الأول في الركعة الأولى وفي الركعة الثانية، يكرره مرتين أو ثلاثاً كما ذكرنا. ولا سجود عليه إذا اقتصر على ركوع، لكن لو كان ذلك عن غفلة أو عن نسيان فإنه يسجد؛ وذلك لأنه أخلف الصلاة عما كان عزم عليه، فلو دخل على أنه سيجعل الركعة الأولى بركوعين، ولكنه لما رفع من الركوع الأول نسي أن يقرأ فسجد بعدما قال: (ربنا ولك الحمد) واستمر في سجوده سجدتين، وقام للركعة الثانية، وقرأ فيها ثم ركع، ثم رفع وقرأ ثم ركع، ثم رفع وسجد، فأتى في الركعة الثانية بركوعين وبقيامين، والركعة الأولى ليس فيها إلا قيام وركوع، فجائز ذلك، وعليه السجود لكونه لم يأتِ بما عزم عليه وسها وفعل شيئاً نسياناً.

الخطبة لصلاة الخسوف

الخطبة لصلاة الخسوف Q هل يشرع لصلاة الخسوف خطبة؟ A لا يشرع لها الخطبة التي تشرع في خطبة العيد أو في خطبة الجمعة، ولكن يشرع بعدها موعظة وتذكير لما يفعل في هذه الصلاة، وكذلك بأسبابها، وكذلك بنتائجها، فيذكرهم الخطيب الذي هو الإمام ويعظهم، ويحثهم في مثلها على أن لا يتهاونوا بآيات الله، وأن يسارعوا إلى الصلاة التي وجد لها سبب، فأما أن يصعد المنبر ويخطب خطبة مبتدأة بالحمد وبالشهادة وبالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وبالوصية بتقوى ونحو ذلك فلا يشرع ذلك؛ لأنه لم يرد إلا موعظة بعدها.

صلاة حراس المسلمين متناوبين

صلاة حراس المسلمين متناوبين Q هل يجوز للجنود في مواجهة العدو أن يصلوا مجموعتين، كل مجموعة بإمامهم، على أن تحرس كل مجموعة الأخرى في أثناء صلاتهم؟ A إذا كانوا مضطرين إلى الحراسة، فيجوز لهم ما دام أن معهم من يصلح إماماً، فلا بأس أن يصلوا جماعتين أو جماعات على قدر الحاجة، والأولى أن يتركوا أقل عدد يمكن قيامهم بالحراسة، فإذا كان الجنود -مثلاً- ألفاً، وفي الإمكان أن يقوم بالحراسة كاملةً مائة، فإن تسعمائة يصلون الصلاة في وقتها خلف إمام، والبقية الذين يحرسون إذا جاء أولئك يصلون خلف إمام آخر، فلا بأس أن ينقسموا إلى قسمين، فإذا كانت الحراسة لا يكفيها مائة ولابد من أكثر ولو خمسمائة انقسموا قسمين، فيصلي خمسمائة ويحرس الباقون، ثم يصلي الباقون ويحرس الذين قد صلوا. وعلى كل حال إذا كان هناك عمل مهم يحتاج إلى حراسة وإلى مراقبة له فإنه يجعل فيه من يكفي ويصلي الباقون. وكثيراً ما يذكر لنا بعض الذين يلازمون الحراسة أنه يمضي عليهم وقت أو وقتان وهم ملازمون للحراسة، وأن ذلك يلزمون به من قبل رؤسائهم ومدرائهم، فنقول لهم: ما دام كذلك فإذا دخل الوقت ورأيت واحداً منهم قد صلى ففي الإمكان أن يأتي مكانك عشر دقائق حتى تصلي، كما لو احتجت إلى المرحاض أو إلى الحمام للتخلي فإنك تأتي بواحد يقوم مقامك، فكذلك وقت الصلاة الذي لا يستغرق أكثر من عشر دقائق على الأكثر، فتأتي بواحد يقوم مقامك، وإذا كان لا يكفي واحد تأتي باثنين أو بعشرة حتى يؤدوا الواجب، وحتى تؤدي الصلاة في وقتها، فأما أن تستمر في الحراسة حتى يخرج الوقت فإن هذا لا يجوز، فلابد من أداء الصلاة في وقتها ما دام هناك تمكن.

حكم سجود السهو للنافلة

حكم سجود السهو للنافلة Q هل يلزم سجود السهو للمتنفل كالمفترض، فلو قام المتنفل إلى ثالثة سهواً ثم رأى أن يتنفل بأربع فما حكم فعله؟ وهل يسجد للسهو؟ A ما دام أنه دخل بنية ركعتين فإذا قام للثالثة وتذكر أنها ثالثة قطعها وجلس، حتى ولو ركع، وحتى ولو رفع، فساعة أن يتذكر أنها ثالثة يجلس؛ لأنه دخل على أن نيته ركعتان، ثم إذا تشهد سجد للسهو ثم سلم.

ما يفعله المسبوق إن سها إمامه

ما يفعله المسبوق إن سها إمامه Q كيف يعمل المأموم المسبوق الذي سها إمامه سهواً لا يعلمه -أي: قبله- أو يعلمه، سواء أكان سجوده قبل السلام أم بعده؟ A المأموم يتابع إمامه، سواء أكان مسبوقاً أم مدركاً، فيسجد معه بسجوده، ولو كان السهو قد سبقه، وورد في كلام الفقهاء: لا سهو على مأموم إذا كان خلف الإمام، وإذا سها الإمام سجد المأموم معه تبعاً له. فالحاصل أنك إذا أتيت والإمام عليه سجود سهو فاسجد معه، حتى لو كان السهو في الركعة التي سبقتك اسجد معه، وإذا كان السجود قبل السلام فإنك تسجد معه ثم تقوم بعدما يسلم وتكمل ما فاتك. أما إذا كان السجود بعد السلام فإذا قمت وأنت لا تدري أن عليه سجوداً فلك الخيار أن ترجع إذا رأيته سجد وتسجد معه، ثم إذا سلم مرة ثانية قمت لإكمال ما سبقك، أو تستمر على انفرادك، وإذا كان في آخر صلاتك تسجد للسهو عوضاً عما فاتك من سجودك مع إمامك، ولكن الأولى أنك إذا قمت لتأتي بالركعة التي فاتتك بعدما سلم الإمام، ثم سجد أو تذكر أن عليه سجود وسجد أن ترجع حتى ولو كنت واقفاً، فارجع واسجد معه سجدتين، وإذا سلم الثانية فقم.

المساواة بين يمين الصف ويساره في العدد

المساواة بين يمين الصف ويساره في العدد Q هل يشرع تعديل عدد المأمومين من يسار الصف كعددهم من اليمين؟ وهل يشرع تفريق الصبيان في الصلاة؟ A نعم، ورد في حديث: (وسطوا إمامكم) ، فالأولى أن يكون الإمام في الوسط، ولكن على كل حال الصف الأيمن أفضل تفضيلاً لليمين، والقرب من الإمام أفضل، فأنت إذا رأيت في الصف الأيمن عشرين، ورأيت في الصف الأيسر عشرة فالأفضل أن تكون في الناقص؛ حتى تكون أقرب إلى الإمام وتعدل الصف. والأفضل للإمام أن يجعل بعض العدد في الأيسر، وإذا كان في الصف الأيمن -مثلاً- زيادة اثنين أو ثلاثة يتسامح في ذلك، هذا بالنسبة إلى تعديل الصفوف. أما بالنسبة إلى الأطفال فالذين دون السابعة الأولى أن لا يدخلوا في الصف الأول؛ لأنهم لم يكلفوا ولم يؤمروا، والذين قد أكملوا السابعة يجوز، ولكن الأولى أن لا يقربوا من الإمام، وأن يكونوا في أطراف الصفوف؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (ليلني منكم أولوا الأحلام والنهى) يعني: أهل العقول الكاملة هم الذين يقربون من الإمام. ثم إذا صف هؤلاء الأطفال ولو فوق العاشرة أو قريباً منها فالغالب أنهم إذا كانوا مجتمعين يحصل منهم شيء من الحركة التي تشوش على من بجانبهم، فالأولى تفريقهم حتى تخف حركتهم أو يخف عددهم.

حكم الصلاة على الميت بعد دفنه

حكم الصلاة على الميت بعد دفنه هل تجوز الصلاة على الميت وهو مدفون في القبر؟ وما هي المدة التي يجوز فيها الصلاة عليه وهو فيه؟ A ثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلى على قبر أم سعد بعد دفنها بشهر، وأيضاً صلى على المرأة التي كانت تقم المسجد، صلى عليها بعدما دفنت بمدة ولا يدرى كم هي، وصلى على أهل أحد بعد موتهم بثماني سنين، فدل على أنه يجوز أن يصلي الإنسان على القبر ولو بعد مدة، حتى ولو كان الإنسان قد صلى عليه إذا كان القصد من الصلاة هو الدعاء للميت والترحم عليه. لكن الأفضل أنه إذا زار الميت أو زار الأموات أن يدعو لهم وأن يترحم عليهم، لكن إذا وجد ميتاً جديداً، أو عرف أن فلاناً مات ولم يحضره، فحضره وصلى عليه، فله أجر على هذه الصلاة إن شاء الله. والله سبحانه وتعالى أعلم.

حكم دخول المسجد بكتب فيها صور

حكم دخول المسجد بكتب فيها صور Q يوجد في بعض الكتب التعليمية شيء من التماثيل والصور، فهل يجوز أن ندخل بها إلى المسجد أو إلى المكتبة للمذاكرة وغير ذلك؟ وهل تجوز الصلاة بالملابس التي فيها شيء من التصاوير؟ A قد رخص في هذه الصور بعض العلماء، وادعوا أنها لا يصدق عليها التصوير الذي ورد في الأحاديث نحو: (كل مصور في النار) ، (من صور صورة كلف أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ) ، فرخصوا في ذلك وجعلوها مباحة، ولكن الذي تطمئن إليه النفس أنها داخلة في الصور المنهي عنها، هذا هو الأصل، ولكن يدعى أنها كثرت وانتشرت وعمت بها البلوى، فأصبحت في كل شيء بحيث لا يسلم شيء من المستعملات غالباً منها، ولكن يحرص الإنسان على إخفائها، فإذا اشترى صحيفة -مثلاً- أو مجلة أو كتاباً مدرسياً أو نحو ذلك وفيه شيء من هذه الصور، فإن استطاع أن يطمس وجوهها فهو الأفضل، وإن كثرت ولم يستطع ذلك فالحيلة في ذلك أن يخفيها ويجعل فوقها شيئاً يسترها حتى لا تكون بارزة ظاهرة، فالإثم قد يكون في إظهارها، أو في نصبها في الستائر أو على الحيطان أو نحو ذلك، بخلاف ما إذا كانت مخفية، فلعل ذلك يكون أخف لشأنها. وفي الجملة من استطاع أن يمحوها أو يخففها فهو أفضل، ومن كثرت عليه حرص على أن يخفف منها ما استطاع.

إرجاع حقوق المسلمين وكيفيته

إرجاع حقوق المسلمين وكيفيته Q إذا سرق شخص ثم تاب وأراد أن يرجع ما سرق، لكن لا يستطيع لعدم وجود المال إلا ما يكفيه لحاجته، ونيته أن يسدد ولكن قليلاً قليلاً، فما الحكم في ذلك؟ A ما لا يدرك كله لا يترك جله، فيفعل من ذلك ما يستطيع، فإذا كان عنده حقوق كثيرة ومظالم، ولكنه فقير حرص على أن يستبيح من أهلها، فإن لم يفعلوا حرص على أن يعطيهم ما لديه ويعدهم خيراً، ويخبرهم بأنه سوف يعطيهم إذا وجد، وكلما تيسر له أو جمع شيئاً من المال دفعه إليهم، ويكون على نيته إلى أن يدفع ما عنده لهم بكامله، أو يعفوا عنه.

إذا خشي السارق بعد توبته حصول مشكلة عند إعلام المسروق منه

إذا خشي السارق بعد توبته حصول مشكلة عند إعلام المسروق منه Q من سرق مالاً وأراد أن يرجعه لكنه خشي أنه إذا علم أنه سرق منهم تحصل هناك مشكلة، فماذا يفعل؟ A يحرص على أن يوصل المال إليهم ولو بطريق غير مباشرة، كأن يعطيه إنساناً مجهولاً ويقول: هذا لفلان. أخبره بأنه حقه، ولا تخبره بمن أعطاكه، أو يدخله مع أموالهم، أو ما أشبه ذلك، فيحرص على أن يوصله إليهم بأية طريق، وإن لم يخبرهم أنه مسروق منهم أو أنه سرقه أو نحو ذلك مخافة أن يسيئوا به الظن، أو أن يرفعوا بأمره أو ما أشبه ذلك.

قراءة المأموم الفاتحة خلف الإمام

قراءة المأموم الفاتحة خلف الإمام Q متى يقرأ المأموم الفاتحة؟ هل يستمع لقراءة الإمام للفاتحة ثم إذا انتهى شرع هو فيها، أم أنه يشرع فيها مع الإمام لاسيما إذا كان الإمام لا يطيل السكوت بعد الفاتحة بالقدر الذي يكفي للمأموم قراءة الفاتحة؟ A في ذلك خلاف، فمن العلماء من يقول: يتحملها الإمام، ولا قراءة على مأموم، وروي في ذلك حديث فيه مقال: (من كان له إمام فقراءته له قراءة) ، واستدلوا بقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} [الأعراف:204] ، وإن كان هذا في الصلاة الجهرية، وبالحديث في قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا كبر الإمام فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا) ، فكل ذلك دليل على أنه ينصت المأموم ويستمع لقراءة إمامه ولا يقرأ مع قراءته، فهذا مذهب من المذاهب في أن الإمام يتحمل القراءة، وإنما تستحب إذا سكت، فإن كان له سكتات قرأ في سكتاته، وإلا أنصت لقراءته ولم يقرأ معه. والمذهب الثاني أنه يقرأ الفاتحة ولا تسقط عنه، وصنف في هذا المذهب البخاري كتابه المعروف المسمى بـ (القراءة خلف الإمام) وشدد في ذلك، حتى إنه أبطل ركعة الذي لم يدرك الفاتحة، فإذا أتى والإمام راكع ولم يدرك الفاتحة قال: لا تصح صلاته ولا يعتد بتلك الركعة. وهذا قول فيه شيء من التشدد، ولعله يقال: إنها تتأكد. واستدل الذين قالوا بذلك بالحديث عن أبي هريرة لما حدث بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (صلاة لا يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خداج. فقال رجل: إني أحياناً أكون خلف الإمام! فقال أبو هريرة: اقرأ بها في نفسك يا فارسي) أمره بأن يقرأ بها في نفسه. وكذلك استدلوا بحديث (أنه صلى الله عليه وسلم لما سمعهم مرة يقرءون، قال: لعلكم تقرءون خلف إمامكم؟ قالوا: إنا لنفعل. قال: لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب؛ فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها) ، وهذا يؤكد ما ذهب إليه من اشترط قراءتها للمأموم، وعلى كل حال فتتأكد قراءتها إن سكت الإمام، وإذا لم يسكت واستطاع أن يقرأها -مثلاً- ولو في سكتاته بين الآيات أكملها بسرعة، وإذا لم يستطع ذلك قرأ منها ما تيسر وسكت عن بقيتها، ويتحملها الإمام إن شاء الله.

قراءة المأموم الفاتحة في النافلة والفريضة

قراءة المأموم الفاتحة في النافلة والفريضة Q هل هناك فرق بين النافلة والفريضة في قراءة المأموم الفاتحة خلف الإمام؟ A الذي يصلي نافلة كصلاة التراويح خلف الإمام الأولى -أيضاً- أنه يسكت، ما دام أن الإمام غالباً ليس له سكوت، بل حين يفرغ من الفاتحة يشرع في السورة، فتسقط عنه ويتحملها الإمام ما دام أنه استمعها المأموم وأمن على دعائه.

شبهة في حديثين متعارضين

شبهة في حديثين متعارضين Q ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يخرج الله قوماً لم يعملوا خيراً قط) ، فما المراد بالخير هنا؟ فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر) ، والكافر مخلد في النار، وإذا صلى يكون قد عمل خيراً، بل الصلاة كل الخير، فما هو تفسير لفظ الحديث الأول، وكيفية الجمع بينهما؟ A هؤلاء من الذين آمنوا وصدقوا ودخل الإيمان في قلوبهم، وعملوا من الأعمال الأساسية ولكنهم قصروا، فلأجل ذلك صار التقصير سبباً في نفي العمل عنهم، فكأنهم لم يعملوا، ولا شك أنهم مسلمون، ولا يتم إسلامهم إلا بأركان الإسلام، فقوله: (لم يعملوا خيراً قط) يعني أنهم لم يحملهم الإيمان الصادق على أن يعملوا نوافل ويعملوا حسنات ويعملوا طاعات سوى الأصول التي هي العقيدة وما ينجم عنها، هكذا حمل الحديث على أنهم أقاموا الواجبات ومن جملتها الصلوات، ولكنهم قصروا في تتماتها وتكملاتها.

الزكاة في مال المضاربة، وكيفية ضم النقدين

الزكاة في مال المضاربة، وكيفية ضم النقدين Q هل تجب الزكاة في حصة المضارب قبل القسمة إذا بلغت نصاباً؟ وما صورة ضم الذهب إلى الفضة في تكميل النصاب؟ A المضاربة هي كونك تعطي إنساناً مالك يتجر به، فإذا أعطيته -مثلاً- عشرين ألفاً واشترى بها بضائع على أن له نصف الربح ولك نصف الربح ويرد عليك رأس مالك، فبعد سنة أصبحت العشرون ثلاثين بأرباحها، فحصة العامل خمسة آلاف وحصة صاحب المال خمسة آلاف ورأس المال عشرون، فيزكي الجميع، فيزكي الثلاثين الألف، وتكون الزكاة من الجميع، من الربح ومن رأس المال، فهذا صورة المضاربة وصورة الزكاة فيها. أما الذهب والفضة فيقول الفقهاء: يضم الذهب إلى الفضة في تكميل النصاب، وتضم قيمة العروض إلى كل منهما، فيقولون -مثلاً-: إذا كان عنده عشرة دنانير نصف نصاب من الذهب، وعنده مائة درهم، نصف نصاب من الفضة، فقد بلغ المجموع نصاباً -نصف ونصف-، وعليه الزكاة. وإذا قلنا -مثلاً-: إن الزكاة في القيمة نقدر الذهب كم يساوي بالفضة، فإذا بلغ قيمة نصاب الفضة فعليه الزكاة، هذا هو الأرجح، أنه يثمن الحلي كم يساوي بالدراهم، فإذا بلغ قيمة النصاب بالفضة فعليه الزكاة.

المرأة والنفاس

المرأة والنفاس Q المرأة النفساء إذا انتهت مدة الأربعين يوماً دون أن يتوقف الدم هل تصلي أم تنتظر توقف نزول الدم؟ وإذا توقف الدم قبل انتهاء الأربعين ثم عاودها مرة أخرى فما الحكم؟ والرطوبة التي تخرج من المرأة هل هي نجسة أم طاهرة؟ A ما دام أن المرأة لم ينقطع عنها الدم فإنها لا تزال في نفاس، ولو وصلت الأربعين والخمسين، وذلك لأن هذا الدم محتجر في الرحم أيام الحمل، فإذا وضعت يخرج متتابعاً، والعادة أنه لا يصل إلى الأربعين، بل ينقطع قبلها، ولكن قد يزيد عن الأربعين، فإذا زاد عن الأربعين وهو على حالته لم يتغير أوله وآخره فإنه نفاس، أما إذا انقطع بعد ثلاثين، ورأت الطهر واليبس واغتسلت وصلت ثم رجع إليها في آخر الأربعين أو بعد الأربعين، وليس في مدة الحيض ولا في زمنه فتعتبر هذا دم فساد، ولا يردها عن الصلاة، وكذلك إذا انقطع ولم يبق معها إلا ماء، فكثير من النساء يخرج منهن في آخر النفاس ماء أو شبه ماء أو صديد أو نحو ذلك، فتعتبر هذا نجاسة وليس حيضاً ولا نفاساً، فلا يردها عن الصلاة، ولكن تعتبره نجساً، فتتطهر منه كما تتطهر من سائر الخارج من السبيلين، والله أعلم. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

شرح عمدة الأحكام [38]

شرح عمدة الأحكام [38]

حكم إهداء ثواب الصدقة للنبي صلى الله عليه وسلم والأموات المسلمين

حكم إهداء ثواب الصدقة للنبي صلى الله عليه وسلم والأموات المسلمين Q بعض الناس إذا تصدق بصدقة قال: بركة نازلة وهدية واصلة بالروح إلى روح النبي محمد وإلى أرواح أمواتنا أجمعين. فما حكم هذا؟ A لا حاجة إلى هذه المقالة، ويكفي فيها النية، والأولى أنه يجعلها لنفسه، أو يتصدق بها عن أمواته أو عن أموات المسلمين. وأما قوله: إلى روح النبي صلى الله عليه وسلم فلا أرى ذلك، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم له مثل أعمال أمته وإن لم يهدوا له مثلها، ولم يكن السلف يهدون إلى النبي صلى الله عليه وسلم من الأعمال شيئاً؛ لأنه الذي أرشد الأمة ودلهم، فهو له مثل أعمالهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من دعا إلى هدى كان له مثل أجور من اتبعه) ، أما المسلمون فلا بأس أن تتصدق عنهم أو تدعو لهم، سواء كانوا أقارب أم أباعد لا بأس بذلك، أما هذه المقالة فلا، لكن لو قلت -مثلاً-: اللهم! اجعل ثوابها لي ولأمواتي أو للمسلمين فلا بأس بذلك.

حكم الدعاء بقول: اللهم استرني بسترك الجميل الذي سترت به نفسك

حكم الدعاء بقول: اللهم استرني بسترك الجميل الذي سترت به نفسك Q يرد على ألسنة بعض الناس دعاءٌ، وهو: اللهم! استرني بسترك الجميل الذي سترت به نفسك فلا عين تراك. فهل هذا صحيح ويدعى به؟ A ما ورد هذا الدعاء، أما قوله: الذي سترت به نفسك فلا عين تراك، فهذا خاص بالله، وهو أنه لا يرى في الدنيا، وأن دونه الأنوار، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) ، فلا ينبغي أن يشرك مع الرب تعالى في هذا النور أحد أو في هذا الستر، فله أن يدعو بأن يستر الله عورته ويؤمن روعته، كما ورد ذلك في حديث: (اللهم! استر عوراتي وآمن روعاتي) ، وأما قوله: سترك الجميل الذي سترت به نفسك فلا عين تراك فلم يرد مثل هذا.

حكم خلع المرأة لحجابها استهزاء به وحكم قيادتها للسيارة

حكم خلع المرأة لحجابها استهزاء به وحكم قيادتها للسيارة Q حدث أن بعض النساء قمن بخلع الحجاب ودوسه في الأرض، ويطالبن بالحرية وقيادة السيارة، فهل ما قلنه وما عملنه يعتبر من الاستهزاء بالدين؟ وما موقف طالب العلم مما حصل؟ A لا شك أن هذا الحادث حادث موجع ومفزع لأهل الإيمان ولأهل الغيرة، وأنه مما يحزن النفوس ومما يسيء إلى أهل الخير. والواجب إنكار مثل هذا على من فعله، وإنكاره على من أقره أو دعا إليه أو حبذ هذه الفكرة ونحو ذلك. ولا شك أنه ردة، وذلك لأن المرأة التي تلقي الجلباب عن رأسها وتدوسه في الأرض وتقول: هذا آخر العهد بك. أو: هذا جزاؤك يا أيها الجلباب أو يا أيها الخمار هذا يعتبر استهزاءً بما جاء به الشرع، من قوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] ، وقوله تعالى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59] أي: أكسيتهن وأرديتهن وقول النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له: إحدانا ليس لها جلباب. قال: (لتلبسها صاحبتها من جلبابها) وما أشبه ذلك. فإذاً هذه التي قالت هذه المقالة قد ردت على الله عز وجل، فيعتبر ذلك ردة والعياذ بالله. كذلك اللاتي صدر منهن تلك الأفعال يعتبر ذلك من باب الاستهزاء، وقد ذكرنا أن المستهزئ بالدين يخرج من الملة وأنه يدخل في الكفر والعياذ بالله؛ لأنه استهزأ بالشرع، والاستهزاء بالشرع استهزاء بمن شرعه وهو الرب تعالى، وبمن بلغه وهو الرسول صلى الله عليه وسلم. وعلى كل حال فالواجب على المسلم أن يكون منكراً لهذه الحوادث ونحوها، ومنكراً على الدعاة إليها، ويبين للمسلمين الذين يجهلون فظاعة هذا الأمر وشناعته، ويبين أن الواجب على المرأة أن تقر في بيتها؛ لقوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] ، وإقراره صلى الله عليه وسلم لابنته لما قالت: (خير للمرأة أن لا ترى الرجال ولا يروها) ، ومعلوم أنها إذا قادت السيارة برزت للرجال، وقد تكون وحدها تشق الأسواق وتقطع الطرق والبلد من جهة إلى جهة، وتتعرض لمن يعترض لها، وربما يشير إليها رجل في ثياب امرأة، وربما تشير إلى رجل إذا كانت قليلة الإيمان، فيركب معها كأنه محرم أو كأنه قريب لها، وربما يحدث خراب في السيارة، فمن يصلحها ومن يساعدها على ذلك؟ وربما حصل منها حادث فمن يحقق معها؟ وما أشبه ذلك من المحذورات. فلا شك أن المرأة لا يجوز لها ولا يصح أن تتولى مثل هذه الأعمال العامة؛ لما في ذلك من المحاذير. ولا يصح ما ذكروا أن الصحابيات كن يقدن الإبل أو يركبن البعير، أو المسلمات كن يركبن البعير ونحو ذلك، ولا يصح أن يقاس على ذلك؛ لأن المرأة قد نهيت من أن تسافر ولو بريداً وليس معها محرم، وإنما تسافر مع المحرم، والعادة أن النساء إذا سافرن لا تركب على ظهر البعير، بل تركب في هودج يستر جرمها كله، ويسمى بالمحمل الذي يكون على جنب البعير، وربما يجعل على ظهر البعير ويسمى (عمارية) ، من باب ستر المرأة وأن لا يبرز حتى جرمها، هكذا كانت غيرة المسلمين، إذا سافروا بالنساء جعلوهن في داخل الهوادج وفي داخل المحامل، وستروهن غاية الستر، وإذا اضطرت إلى ركوب البعير إلى مكان قريب فالبعير ليس كالسيارة، البعير يمكنها أن تقوده، ويمكنها أن تريحه، ولا يحصل غالباً منها شيء من الحوادث، ولا يحصل تعطل، ولا حاجة إلى من يصلحه ولا إلى غير ذلك، فالفرق شاسع بين البعير والحمار، والسيارات التي تحتاج كثيراً إلى من يصلحها، فلا ينبغي أن يكون هذا دليلاً مبيحاً لهذه المسألة. وعلى كل حال المرأة قد كفاها الله المئونة، فلها محارم ولها أقارب ولها جيران يبلغونها ويسيرون بها ويقضون حوائجها، وهي في بيتها مكتنة، وخير ما للمرأة منزلها.

حكم من عليه عشرة أيام قضاء ولم يذكر إلا في الثامن والعشرين من شعبان

حكم من عليه عشرة أيام قضاء ولم يذكر إلا في الثامن والعشرين من شعبان Q إذا كان على الإنسان صوم قضاء، وأدركه رمضان ولم يقض الذي عليه، مثلاً: كان عليه عشرة أيام، ولم يستطع أو لم يتذكر إلا في الثامن والعشرين من شعبان، فماذا يفعل؟ A عليه أن يصوم ما يقدر عليه، وما بقي يصومه بعد رمضان الثاني، وعليه كفارة عن التفريط، فهذا الذي عليه عشرة أيام انتبه في اليوم الثامن والعشرين من شعبان، فصام الثامن والعشرين والتاسع والعشرين والثلاثين من شعبان، وتبقى عليه سبعة أيام، فهذه السبعة إذا أفطر العيد يصومها بعده مباشرة، وعليه معها إطعام سبعة مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام جزاء تفريطه.

حكم البيع والشراء بعد الأذان عند المساجد وغيرها

حكم البيع والشراء بعد الأذان عند المساجد وغيرها Q ما حكم البيع والشراء بجانب المساجد بعد الأذان، أي: بين الأذان والإقامة كما يفعل الآن؟ A نرى أنه بعد الأذان يشتغل المصلي بالطهارة وبالإتيان إلى المسجد، ويؤجل البيع والشراء إلى ما بعد الصلاة، سواء عند المساجد أو في الدكاكين أو في المتاجر أو نحو ذلك؛ لأن الله تعالى أمر بالسعي عند النداء للجمعة، فيلحق بها غيرها، كما في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] ، فيلحق بها سائر الصلوات. فإذاً على كل من سمع النداء للصلاة أن يتأهب لها، فيتطهر للصلاة ويتقدم، ويأتي بالنوافل التي قبل الصلاة، ويشتغل بالقراءة، ويشتغل بالذكر وما أشبه ذلك حتى تقام الصلاة، قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة:10] يعني: إذا قضيت الصلاة وفرغ منها فله أن يذهب إلى متجره أو محله ويبيع بما يسر الله، وفي الرزق الحلال كفاية عن المشتبه، وكفاية عن الشيء الذي يشغل عن ذكر الله وعن الصلاة، والله تعالى نهانا عن الاشتغال بالمال والولد ونحو ذلك عن الذكر، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [المنافقون:9] ، وأفضل الذكر هو الصلاة، والتقدم إلى المساجد من أفضل الأعمال، والملائكة يكتبون الأول فالأول. والواجب على المسلم إذا سمع النداء أن لا يشتغل بشيء من أموره، لا بشهوته، ولا بتجارته، ولا بأمور دنياه، إلا إذا كان مضطراً لذلك، كحالة الصائم الذي يتناول حاجته من الطعام إذا كان صائماً؛ لأنه ورد أن الأكل بعد الأذان وقبل الصلاة من السنة بالنسبة للصائم، فتقديم الفطر على الصلاة هذا مستثنى، ويقاس عليه من كان شديد الحاجة إلى الطعام؛ للحديث الوارد، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أقيمت الصلاة ووضع العَشاء فابدؤوا بالعَشاء) ، فعرفنا أن ذلك خاص بما إذا كان شديد الحاجة إلى الأكل وشديد الجوع، بحيث إنه إذا دخل في الصلاة لم يكن مطمئناً فيها ولا مقبلاً بقلبه عليها، فهنالك يقدم الأكل حتى يسد رمقه ليقبل على الصلاة بقلب فارغ. ومعلوم أن الذين يشتغلون بالبيع وخاصة الذين يبيعون أشياء دنيئة، كسبهم أولاً دنيء ورديء بالنسبة إلى غيرهم، فهذه الفائدة التي يرجونها كدرهم أو خمسة دراهم أو نحو ذلك قليلة بالنسبة إلى ما يفوتهم. ثانياً: أنه لا يفوتهم شيء، فالذي يشتري منهم قبل الصلاة إذا لم يجد قبل الصلاة وبعد الأذان فإنه سيرجع إليهم بعد الصلاة فيشتري منهم حاجته، فلا يفوتهم شيء، وإذا فاتهم احتسبوا ذلك عند الله تعالى.

حكم من أكره على قول أو فعل محرم

حكم من أكره على قول أو فعل محرم Q هل المستثنى في قوله عز وجل: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] القول أو الفعل؟ وهل يجوز للإنسان أن يرتكب جرماً إذا أكره؟ A الإكراه تارة يكون على القول وتارة يكون على الفعل، فإذا ألجئ المكره ولم يستطع التخلص جاز له أن يفعل ما أكره عليه، كما إذا ألجئ أن ينطق بكلمة كفر، فلا إثم عليه إذا كان قلبه مطمئناً بالإيمان، وكذلك أن يسب الإسلام أو يسب أحداً من المسلمين إذا قيل له: إن لم تفعل قتلناك أو عذبناك ولم يجد سبيلاً للتخلص. وقد يجوز ذلك أيضاً لمصلحة، وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه الذين قتلوا ابن الأشرف أن يقول في النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس بمعتقد له، وكذلك الحجاج بن علاطة لما أخبر بأنه يريد أن يذهب إلى مكة فأباح له أن يتكلم في حق النبي صلى الله عليه وسلم بما لا يعتقده، فأفاد ذلك أنه يجوز. أما الأفعال فقد تكلم العلماء على الأفعال كثيراً، وأكثر ما تكلموا عليه مسألة القتل، فقالوا مثلاً: إذا أكره على أن يقتل فهل له ذلك وهو يعرف أن المقتول مظلوم، فيكون بذلك قد قتل من لا يستحق القتل؟ نقول: إنه إذا عرف ذلك فلا يجوز له، إلا إذا عرف أنهم سوف يقتلونه بعد أن يقتلوه هو، فيقول: إن لم أقتله قتلوني وقتلوه، فكوني أذهب نفساً واحدة أهون من نفسين؛ لأن هذا ظالم وشديد الظلم وجبار قد أكرهني وقد ألجأني إلى أن أقتل مسلماً بغير حق، وإذا لم أفعل فلابد أن يقتلني ثم يقتل من لم أقتله، ففي هذه الحال أباحوا له أن يقتله، ويكون الإثم أو القصاص على الآمر، فهذا مثال، والأمثلة كثيرة. واختلفوا أيضاً في مسألة الإكراه على الزنا، فلو أن امرأة أحضرت رجلاً وأكرهته على أن يطأها، وألجأته وقالت: إذا لم تفعل فلابد أن أقتلك، ولابد أن أقول وأقول. فهل يتصور الإكراه على الزنا؟ في ذلك خلاف، والأكثر على أنه لا يتصور؛ لأنه قد لا تحصل له شهوة ورغبة مع الإكراه، فلا يتصور ذلك، هذا هو القول الصحيح، وأما بقية الأفعال فإنه يتصور فيها الإكراه. وعلى كل حال إذا كان هناك تهديد بقتل ولد أو بأخذ مال أو ما أشبه ذلك فإنه يصبح عذراً في فعل ما أكره عليه. والأفضل أنه يصبر على الأذى ويصبر على العذاب إذا كان عنده تحمل.

فعل المكره ما يخالف الشرع للتخلص من الإكراه

فعل المكره ما يخالف الشرع للتخلص من الإكراه Q هل يجوز للمكره أن يفعل أشياء تخالف الشرع حتى يتخلص من الإكراه؟ A هذه أشياء قد تدخل فيما فعله بعض الصحابة، فقد ذكر ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ} [النحل:106] قصة بعض الصحابة الذين أسروا، فاضطروا لأنهم في حالة الإكراه أن يفعلوا أشياء لا تجوز في الشرع، وذلك لتخليص أنفسهم من الأسر ومن الأذى، فإذا فعل ذلك وهو مكره وألجئ على أن يفعل مثل هذه الأفعال فإنه معذور، ولو سجد للصنم مثلاً، ولو مدح ولياً أو دعاه، إذا كان سبيله التخلص من هذا الشر وقلبه مطمئن بالإيمان فلعله معذور في ذلك، ولكن إن استطاع التخلص بغيره فإنه يفعله إن استطاع التخلص من شرهم، وإن استطاع الصبر والتحمل فله ذلك. أما قصة الرجل الذي قرب ذباباً فخلوا سبيله فدخل النار فقد ذكر العلماء أنه لم يكن مكرهاً، وإنما بمجرد ما دعوه قرب ذلك احتقاراً له، وكأنه عظم صنمهم بهذا القربان، فلو كان قد هدد بالقتل كأن قيل له: لا نخلي سبيلك إلا إذا فعلت ذلك. وفعل ذلك من غير اعتقاد فإنه لم يكن آثماً إذا قربه من غير اعتقاد تعظيم ومن غير اعتقاد احترام لهذا الصنم، وأما صاحبه الآخر فذكروا أنه لم يقرب فقتل، فهم طلبوا منه أن يقرب فأبى وصبر فقتل.

حكم تعليق العقود والفسوخ والولايات بالشروط وعدمها

حكم تعليق العقود والفسوخ والولايات بالشروط وعدمها Q ما الراجح في تعليق العقود والفسوخ والولايات؟ A تعليقها هل المراد به تعليقها على شروط، أو تعليقها على غير شروط؟ فإذا كان المراد تعليقها على شرط، وكان ذلك الشرط لا ينافي مقتضى العقد فلا بأس بذلك، كأن يقول مثلاً: بعتك بشرط أن تنقدني الثمن في ثلاثة أيام. أو يقول الرجل مثلاً: زوجتك بشرط أن تصدق ابنتي كذا وكذا من المهر وتدفعه في اليوم الفلاني أو يقول: أطلق ابنتك بشرط أن تدفع لي ما دفعت لها. فهذا شرط صحيح، تعليق لهذه العقود بهذه الشروط، فإذا لم يتم الشرط لم يتم العقد أو الفسخ أو نحو ذلك، وهكذا يقال في المعاملات. أما التعليق بغير شرط، كأن يقول: بعتك إذا شئتُ. أو: متى شئتُ أعطيتك أو وهبتك أو أنكحتك فهذا تعليق غير محدد بوقت، ومثل أن يقول: بعتك بيعاً معلقاً لا يدرى وقته، فإذا لم يكن التعليق محدداً ولا معلقاً بوقت أو فعل لم يصح التعليق، ولم ينعقد ذلك العقد.

حكم من أمذى وهو صائم

حكم من أمذى وهو صائم Q هل المداعبة كالتقبيل وغيره تفطر وتفسد الصوم مع نزول المذي؟ A اختلف في إنزال المذي، ولم يختلفوا في إنزال المني، أما المني إذا نزل -وهو الماء الأبيض المعروف- فالصحيح أنه يفطر ويفسد الصوم، والغالب أنه لا ينزل إلا بسبب، وهو بتكرار النظر، أو بالمداعبة، أو باللمس، أو بالضم، أو بالتقبيل، فإذا حصل منه الإنزال وهو صائم فإن عليه أن يعيد ذلك اليوم. أما المذي -وهو الماء الأبيض الرقيق الذي يخرج عند الشهوة، ولاسيما من الشباب- فالغالب أنه يخرج بكثرة، وأن الشاب قد لا يملك نفسه، بل كثير منهم عندما يرى أدنى شهوة أو يرى أدنى نظرة ينزل منه هذا المذي، ففي هذه الحال الأقرب أنه لا يفطر للمشقة ولكثرته من كثير من الشباب، هذا إذا كان لمجرد عارض. أما إذا كان بتسبب فإنه يفطر، إذا كان بتسبب كأن كرر النظر، أو ضم، أو قبل، أو لمس بشهوة حتى حصل منه هذا المذي أو المني فإنه يلزمه أن يقضي.

حكم جماع الصائم حال النسيان

حكم جماع الصائم حال النسيان Q مَنْ مِنَ المحققين قال: إن الناسي في الجماع يعفى عنه ويصح صومه، مع ذكر المذاهب؟ A قال ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، وذلك لأنه نظر إلى أن الأحاديث والألفاظ عامة. وأكثر الأئمة لم يذكروه، وقالوا: إن الحديث اقتصر على من نسي وهو صائم فأكل أو شرب، ولأنه لم يقل: أو وطئ. فقالوا: إنه لا يتصور النسيان في الجماع لطول مدته ولكونه من شخصين، فلأجل ذلك لم يعذروه. ولكن إذا نظرنا في التعليلات التي علل بها شيخ الإسلام وعموم الأدلة ترجح لنا أنه إذا تحقق ما قاله من النسيان الكامل بين الزوجين مدة الوطء حتى حصل الانفصال فالصحيح أنه إنما يقضي وليس عليه كفارة.

حكم صرف الزكاة لمريد الزواج غير القادر عليه

حكم صرف الزكاة لمريد الزواج غير القادر عليه Q هل تصرف الزكاة لإنسان يريد الزواج ولا يملك ما يتزوج به من مال؟ A نعم. أفتى بذلك مشايخنا، وقالوا: إن الزواج من الضرورات، وكما أنه ضرورة في هذه الحياة فهو ملحق بالحاجات الضرورية كحاجته إلى الطعام والشراب والسكن، فكذلك حاجته إلى الزواج، ولو لم يفعل لحصل عليه ضرر، ولحصلت مفاسد كثيرة على الشباب والشابات، فلأجل ذلك ذكروا أنه يباح له أن يأخذ من الزكاة ما يستعين به في مهر زواجه ووليمته وما هو تابع لذلك.

حكم تغيير المنكر باللسان في الأسواق وغيره للمستطيع

حكم تغيير المنكر باللسان في الأسواق وغيره للمستطيع Q فكرت أنا وبعض الإخوة في أن نخرج بعض الأيام إلى السوق، وذلك لإنكار المنكر باللسان، فما مكانة هذه الفكرة؟ وهل ينصح الإخوة بتطبيقها؟ A تغيير المنكر مأمور به في كل حال، سواء في الأسواق أو في الطرق أو في المجتمعات أو نحو ذلك؛ لعموم الحديث: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه) ، فلا شك أنه إذا كان عنده استطاعة على أن يقنع أهل المنكر وأن ينصحهم وأن يأمرهم بالكف عن إظهار ذلك المنكر، سواءٌ أكان سماعاً كالغناء، أم فعلاً كالدخان والتبرج، أم فعالاً مثل اللمس أو الاحتكاك والاختلاط بين الرجال والنساء، أو نحو ذلك كما هو موجود في الأسواق، فإذا كان عند الإنسان قدرة واستطاعة على أن يزيل ذلك أو يخففه فعليه أن يفعل ذلك، وعليه أن يستعمل مع ذلك الحكمة، وأن يتكلم بلين ولطف، وأن لا يتمادى بما يسبب تشويشاً أو بما يسبب شيئاً نحو ذلك من الأشياء التي يحصل منها شقاق ونزاع ومضاربة وشيء من التناوشات ونحوها بحيث تكثر وتكبر المسألة، فليقتصر على مجرد النصح والتخويف، وإذا لم يستطع ذلك فليغير المنكر بقلبه، أو يخبر به من هو قادر على تغييره باليد أو نحو ذلك.

حكم قضاء الصوم والصلاة عن ميت كان متهاونا بهما

حكم قضاء الصوم والصلاة عن ميت كان متهاوناً بهما Q إن لي ابناً يبلغ من العمر ثمانية وعشرين عاماً، وقد توفي، وكان يتهاون بالصلاة والصوم، فهل يصح لي أن أصوم عنه وأصلي؟ وإن كان لا يصلي ولا يصوم بالكلية فهل أقضي عنه ذلك؟ A إذا كان يقر بالإسلام ويفعل شعائر الإسلام الظاهرة فهو قد يكون تهاونه من باب التساهل ومن باب التسويف والتأجيل، ففي نظره أنه سوف يتوب فيما بعد، فيجوز عند بعض العلماء الاستغفار له، والحج عنه، والصدقة عنه، والدعاء له وما أشبه ذلك. وذهب بعض العلماء إلى أنه ما دام لا يؤدي الصلاة طوال حياته ولا الصيام فإنه في هذه الحال لا ينفعه ذلك، ولكن إذا كان كما ذكرت أنه مجرد تهاون لا أنه ترك مستمر دائم فلعله أن ينفعه أن تدعو له وأن تتصدق عنه وأن تحج أو تعتمر عنه، أما الصلاة والصوم فلا؛ لما ذكرنا من أنها عمل بدني، فلا حاجة، بل تكتفي بالدعاء له والاستغفار والترحم عليه وما أشبه ذلك، والله تعالى يرحم من يشاء.

حكم من ترك الصوم والصلاة ثم تاب

حكم من ترك الصوم والصلاة ثم تاب Q لقد هداني الله سبحانه وتعالى بعد أن أتممت ثلاثين عاماً، ولم أكن قبلها أصلي أو أصوم، فهل يلزمني القضاء؟ A لا يلزم، ولكن عليك أن تكثر من النوافل في بقية حياتك، فالذي مضى لا يلزم قضاؤه، وذلك للمشقة، فقد يشق عليك أن تقضي صلاة عشر سنين أو خمس عشرة سنة، وكذلك صيامها، ولكن عليك أن تكثر من النوافل والعبادات، فتصلي بالليل تهجداً، وتصلي في الضحى إذا تيسر، وتحافظ على النوافل والرواتب، كأن تصلي قبل الظهر أربعاً وبعدها أربعاً، وقبل العصر أربعاً، وقبل المغرب ركعتين وبعدها أربعاً، وقبل العشاء ركعتين أو أربعاً وبعدها ركعتين أو أربعاً، وهكذا أيضاً ذوات الأسباب، وتكثر من نوافل العبادة كالحج والعمرة والذكر وقراءة القرآن والاستغفار والدعاء والابتهال إلى الله والأعمال الصالحة، وتحمي نفسك عن المحرمات والآثام، وبذلك -إن شاء الله- يمحو الله عنك ما سلف من التفريط والإهمال.

علاج الوسوسة في الأفعال والنيات

علاج الوسوسة في الأفعال والنيات Q أصابني قبل ما يقارب السنة مرض الوسواس، ومن ذلك الوقت كلما أردت أن أؤدي الصلاة أو الوضوء فإنه لا أستطيع إلا بصعوبة، وأحياناً يخرج الوقت وأنا لم أصل، فما هو التوجيه في ذلك؟ A هذا -للأسف! - يحدث لبعض الناس رجالاً ونساءً، فيخيل إلى أحدهم أن الماء لم يبلغ أعضاءه، سواء أكان هذا العضو وجهه أم يديه أم رجليه، فيكرر الغسل ويكرر الدلك، حتى يخرج الوقت وهو على هذا الحال من التكرار، وهو يضر بذلك نفسه ويفوته الوقت، وأحياناً يوسوس له الشيطان أنه ما نوى مع أنه قد نوى، فنحن نقول له: عليك أولاً أن تعتقد أنك ما حملك على غسل هذه الأعضاء إلا النية، فإن النية هي التي دفعتك، ولم يدفعك أمر آخر، وأن تعتقد أنك لم تكن تنوي نظافة، ولم تكن تنوي بهذا الغسل -مثلاً- إزالة وسخ، ولم تكن تنوي تبرداً، ولكن ما دفعك إلى هذا إلا رفع الحدث والطهارة للصلاة، وعلامة ذلك أنه لو أوقفك أحد في الطريق وسألك وقال: إلى أين تذهب لقلت له: أذهب لأتوضأ. فأنت نطقت بما في قلبك، فإذاً لا حاجة إلى أن تعيد لأجل النية، فكثيرون يعيدون لأجل النية، يقولون: ما نوينا، نجدد النية، وننوي فيما بعد. وما أشبه ذلك، وهذا إذا كان الأمر لأجل النية. أما إذا كان الأمر تكراره لأجل الشك في بلوغ الماء إلى الأعضاء فنقول: إن هذا من الشيطان، كثير منهم يصب الماء على قدمه، ويخيل إليه أن الماء يزل من القدم وهي لم تبتل، فلا يزال يكدها ولا يزال يفركها، حتى ربما خرج الدم من شدة فركه لها بأظافره، فيكون ذلك ضرراً عليه، نقول له: الماء له قوة في الاتصال بالبشرة، فمرة واحدة أو مرتان وأكثر شيء ثلاث مرات تكفي لأن يبلغ الماء إلى العضو ويطهره وينظفه، فلا حاجة إلى الزيادة على ثلاث غسلات، بل في ذلك شيء من الوسوسة، فأنت لا تطع الشيطان إذا جاءك ووسوس إليك بأنك ما غسلت هذا العضو، أو أنك لم تتطهر الطهارة الكاملة أو ما أشبه ذلك، فهذا بالنسبة إلى التكرار. لكن بعض الناس قد يأتيه الشيطان من جهة الحدث، فيوسوس إليه أنه انتقض وضوؤه، ويقول: كلما غسل أعضاءه خيل إليه أنه خرج منه ريح، أو انتقض وضوؤه بفعله أو ما أشبه ذلك. فيعيد الوضوء لأجل ذلك، وهذا من الشيطان؛ وذلك لأن هذه القرقرة والأصوات التي تحصل في بطن الإنسان ليست حدثاً، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالبقاء على اليقين في قوله: (لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) . فإذا كان تكرارك لما يوحي إليك الشيطان وينفخ في مقعدتك بأنك قد انتقض وضوؤك فعليك أن لا تطيع الشيطان في ذلك، وقد ورد في الحديث: (يأتي الشيطان أحدكم فينفخ في مقعدته، فيخيل إليه أنه أحدث، فإذا وجد ذلك فليقل: كذبت) ، فليقل ذلك في نفسه كما في بعض الروايات، فيستمر على طهارته إن شاء الله، ولا يتمادى مع هذه الوسوسة.

حكم التتابع في الصيام لمن نذر شهرا أو ثلاثين يوما

حكم التتابع في الصيام لمن نذر شهراً أو ثلاثين يوماً Q من نذر أن يصوم شهراً هل يجب عليه التتابع في الصيام أم لا؟ A كلمة (شهر) اسم لما بين الهلالين، فإذا نذر شهراً فعليه أن يصوم ما بين الهلالين من الهلال إلى الهلال. أما إذا نذر ثلاثين يوماً فله التفريق؛ لأنه يصدق عليه أنه صام ثلاثين يوماً ولو كانت متفرقة، وكذلك إذا نذر أن يصوم أسبوعاً فإنه يصوم سبعة أيام متوالية من السبت إلى الجمعة أسبوعاً كاملاً، أما إذا نذر أن يصوم سبعة أيام فإن له التفريق.

حكم توزيع المال العام الفائض على بعض الموظفين

حكم توزيع المال العام الفائض على بعض الموظفين Q مدير دائرة حكومية لديه مبلغ من المال فائض من ميزانية العام الماضي، فاتصل بمدراء الأقسام وطلب منهم رفع أسماء العاملين المجتهدين في عملهم ليتم توزيع ذلك المبلغ عليهم باسم عمل إضافي، علماً بأنهم لم يعملوا عملاً إضافياً، فهل يجوز أخذ هذا المبلغ؟ A لا يجوز له هذا العمل ما دام أنه ليس عندهم عمل، وإنما عليه أن يرده لبيت المال ما دام أنه فائض عن الميزانية، فهناك دوائر أخرى بحاجة إلى أن تمون بمثل هذا الفائض وأن يزاد في تموينها، فعندها نقص كثير، فلو أن هؤلاء الذين تحصل عندهم هذه الزيادات يتورعون ويردونها لأضيفت إلى الإدارات الأخرى التي يحصل فيها شيء من الخلل والنقص. فنقول: المسئولية على مدير الإدارة الذي هو مسئول، عليه إذا فاض هذا المال أن يرده كما كان، وأن لا يأخذ إلا بقدر ما يستحق، فلا يعطي العمال إلا بقدر ما يعملونه من الأعمال، فإذا كان ليس هناك عمل وليس هناك زحمة في العمل، وقام وكتب لهم انتداباً بأنهم عملوا خارج الدوام عملاً إضافياً وهم مع ذلك لم يعملوا فهذا المسئول أو المدير الذي يدير الإدارة هو المسئول عن هذا الفعل، أما الموظفون الذين تحته فالمسئولية ليست عليهم، ولكن من الورع أنه إذا صرف لهم وعرفوا أنه إذا لم يستلمونه فسوف يستلمه آخرون لا يستحقونه ولا يردونه إلى بيت المال فمن الورع أن من استلمه لا يدخله في ماليته، بل يتصدق به، أو يدفعه في عمل خيِّر كشراء كتب يوقفها، أو أشرطة دينية يوزعها، أو نشرات علمية أو ما أشبه ذلك، وذلك تورعاً عن أخذ شيء لم يستحقه بعمل، فإن الأعمال الحكومية لابد أن يكون المستحق لها قد عمل مقابل هذا الاستحقاق. وعلى كل حال المسئولية على رؤساء الأقسام وعلى المدراء الذين يحتالون هذه الحيل، ولا يطلعون عليها رؤساءهم الذين فوقهم، ويدعون أن عندهم زيادة أعمال وأنهم بحاجة إلى عمل إضافي والحال ليس كذلك.

حكم من نذر صوم شهر فصامه غير متتابع

حكم من نذر صوم شهر فصامه غير متتابع Q نذرت صوم شهر لله تعالى، وصمته أياماً غير متتابعة ثلاثين يوماً، وسمعت أن من نذر صوم شهر فليصم من الهلال إلى الهلال، فهل يجزئ صومي ثلاثين يوماً غير متتابعة، أم لابد أن أعيد الصوم شهراً من الهلال إلى الهلال؟ A من نذر شهراً فالشهر اسم لما بين الهلالين، هكذا كما في قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} [التوبة:36] أي: ما بين الهلالين يسمى شهراً، فأنت إن قلت: لله علي أن أصوم ثلاثين يوماً أجزأك مع التفرق، وإن قلت: لله علي أن أصوم شهراً فلابد من التتابع، ولابد أن يكون من الهلال إلى الهلال ولو كان ناقصاً، أي: لو كان تسعة وعشرين فمن الهلال إلى الهلال يسمى شهراً، ولأجل ذلك لما آلى النبي صلى الله عليه وسلم من نسائه شهراً مكث تسعة وعشرين يوماً، ثم نزل بعد تسعة وعشرين يوماً، وقال: (إن الشهر تسعة وعشرون) قال العلماء: إن ذلك الشهر كان ناقصاً، فهذا دليل على أنه لابد من أن يكون شهراً متوالياً.

النهي عن تخصيص يوم الجمعة بالصيام

النهي عن تخصيص يوم الجمعة بالصيام Q هل نهي تخصيص يوم الجمعة بالصيام نهي تحريم أم نهي كراهة؟ A فهم العلماء أنه نهي كراهة، وذلك لأنه رخص فيه في أحاديث كثيرة، ورخص فيه إذا كان الإنسان عليه قضاء ولا يتيسر له أن يصوم إلا هذا اليوم، فما دام أنه رخص فيه إذا صام معه السبت، أو صام معه الخميس، أي: صام الخميس والجمعة، أو صام الجمعة والسبت، ورخص فيه إذا كان يصوم يوماً ويفطر يوماً كما أذن صلى الله عليه وسلم لـ ابن عمرو في ذلك، ورخص في صيامه لأيام رمضان فدل على أن النهي عنه نهي كراهة، والعلة من النهي أنه عيد الأسبوع.

المراد بالصوم في سبيل الله

المراد بالصوم في سبيل الله Q حديث: (من صام يوماً في سبيل الله بعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً) هل هذا خاص بالصوم في الجهاد في سبيل الله، أم هو عام؟ A قوله: (في سبيل الله) فيه قولان: الأول: أن المراد به الجهاد، أي: قتال الكفار والغزو. ويلحق به الحج؛ فإنه من سبيل الله، الثاني: أن المراد به التطوع، أنه صام تطوعاً، والتطوع من سبيل الله، أي: مما يقرب إلى الله، وعلى هذا لا يكون خاصاً بالجهاد.

حكم من قضى الصوم يوم الجمعة وحكم صومه دون اعتقاد التخصيص

حكم من قضى الصوم يوم الجمعة وحكم صومه دون اعتقاد التخصيص Q إذا أفطر شخص يوماً من رمضان لعذر وأراد أن يقضيه يوم الجمعة فما الحكم؟ وما الحكم لمن أراد صوم يوم الجمعة منفرداً وهو لا يعتقد تخصيصه بصوم؟ A بعض العمال ما عندهم إجازة ولا عطلة إلا يوم الجمعة، ولا يستطيعون أن يصوموا وهم يعملون، ففي هذه الحال إذا كان عليه قضاء أو يريد تطوعاً مطلقاً جاز له أن يخص يوم الجمعة، ولكن لا يخصه لأجل أن فيه مزية، أو أن صيامه فيه مزية، أو أن له زيادة فضل على غيره، ولكن يخصه لأجل أنه لم يتيسر له الصوم إلا فيه. فكثير من العمال يتعللون ويقولون: أيام الأسبوع كلها عندنا أيام عمل، والعمل قد يكون فيه مشقة، ومن الصعب أن نصوم ونحن نعمل، فلا يكون لنا إجازة ولا رخصة إلا يوم الجمعة، ونحن نحب أن نتقرب بالصوم، أو يكون علينا صيام قضاء! فنقول لهم: لا بأس أن تصوم يوم الجمعة لهذه المبررات. كذلك من صامه خاصاً به، أي: خصص يوم الجمعة. فنقول له: إن كان اعتقادك أن له مزية وله فضيلة على غيره فلا يجوز هذا الاعتقاد ولا يجوز هذا التخصيص؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم ما أمر بإفطاره إلا نهياً عن اعتقاد مزية في صيامه. ولا شك أن يوم الجمعة له مزية وفضل، وله مزية في الأعمال، ولكن الصيام يستثنى من هذه الأعمال.

وجه كون النهي عن إفراد يوم الجمعة بالصوم بأنه عيد الأسبوع

وجه كون النهي عن إفراد يوم الجمعة بالصوم بأنه عيد الأسبوع Q ذكر أن سبب النهي عن إفراد يوم الجمعة بالصيام كونه عيداً، مع أنه يجوز صيامه إذا ضم إليه يوماً آخر؟ A الله أعلم أن السبب في كون تخصيصه لأجل مزية فيه، فالنهي عنه لأجل أنه عيد الأسبوع، ولأن الذين يصومونه قد يعتقدون أن في صيامه أجراً لكونه ذا فضل، ففي الحديث: (خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، وفيه تقوم الساعة) ، فما دام أنه خير الأيام فقد يعتقد بعض الناس أن له مزية وله فضيلة ولصيامه ميزة على غيره، فنهي عنه لأجل هذا الاعتقاد، ويزول هذا المحذور إذا صام يوماً قبله معه أو يوماً بعده.

حكم صيام أيام التشريق لمن لم يجد هديا

حكم صيام أيام التشريق لمن لم يجد هدياً Q ما حكم صيام أيام التشريق لمن لم يجد هدياً؟ A رخص بذلك بعض الصحابة حتى يتحقق صوم الأيام الثلاثة في الحج؛ لأن الله تعالى يقول: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة:196] ، فإذا لم يجد الهدي أو قيمة الهدي، ومضت عليه الأيام التي قبل العيد، ولم تبق إلا الأيام الثلاثة التي بعد العيد فيصوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، وهي أيام التشريق، فهذا مرخص فيه، أما لغير ذلك فلا يجوز.

حكم من نذر صيام عشر ذي الحجة

حكم من نذر صيام عشر ذي الحجة Q من نذر أن يصوم عشر ذي الحجة. فكم يوماً يصوم؟ A يصوم تسعة أيام، أما العاشر فلا يجوز، وتطلق العشر على التسع، يقال: صام العشر. أو: صيام العشر أو نحو ذلك، ومعلوم أنه لا يجوز صوم العاشر، وإنما يجوز له أن يصوم التسعة فقط.

حكم من نذر صيام العيدين

حكم من نذر صيام العيدين Q من نذر صيام يوم العيدين فهل يوفي بنذره؟ A لا يجوز، ولكن عليه أن يكفر ويصوم بدلهما، يكفر عن يمينه ويصوم يومين غيرهما.

حكم تردد النية بين الصوم والإفطار في النفل والواجب

حكم تردد النية بين الصوم والإفطار في النفل والواجب Q إذا كان الإنسان صائماً، ثم ترددت نيته في الإفطار وعدمه، فهل يعد مفطراً؟ وهل يقضي؟ وهل هناك فرق بين النفل وبين الواجب؟ A ذكر العلماء أن من عزم على الإفطار ولو لم يأكل بطل صومه، فلو سافر إنسان وعزم على أنه يفطر، ولكن ما وجد ماء ولا وجد أكلاً، ولما لم يجده أكمل صيامه نقول: بطل صومه بهذا العزم. أما مسألة التردد فالأصل البقاء، فإذا لم يكن هناك عزم إنما هو تردد هل أتم صومي أو أقطعه، وهل أفطر أو أصوم فالأصل البقاء، فلا يضره هذا التردد إن شاء الله، وله صيامه، ولا يلزمه القضاء والحال هذه، ولا فرق، إلا أنه معروف أن النفل يصح بنية من النهار، فلو أن إنساناً أصبح مفطراً، ولكنه في وسط الضحى لم يجد طعاماً يأكله فنوى إكمال صيام ذلك اليوم صح صيامه، بشرط أن تكون النية قبل الزوال، وأن لا يكون قد أكل في ذلك النهار. ويقولون: إنه ما يحسب له إلا من وقت النية، أما الفرض فلابد أن ينويه من الليل.

حكم تداخل النية بين الست من شوال وأيام البيض والإثنين والخميس

حكم تداخل النية بين الست من شوال وأيام البيض والإثنين والخميس Q هل الذي يصوم ستاً من شوال ويكون من بينها أيام البيض أو يوم الإثنين والخميس يكون له أجر الست وأجر صيام أيام البيض وأجر الإثنين والخميس؟ A يكون له ذلك إن شاء الله، وذلك لأنه حصل له صيام ستة أيام؛ فمثلاً: صام من الأسبوع الأول الإثنين والخميس، ومن الأسبوع الثاني الإثنين والخميس، ومن الأسبوع الثالث الإثنين والخميس، فيكون قد حصل له أنه صام الأيام التي تعرض فيها الأعمال كل إثنين وخميس، وحصل له صيام الست من شوال؛ لأن صيام الستة الأيام تصح ولو متفرقة، وكذلك لو صام أيام البيض وصام قبلها أو بعدها ثلاثاً صدق عليه أنه صام ستة أيام من شوال، وصدق عليه أنه صام أيام البيض، فله أجر هذا وهذا.

صفة تطهير المذي من الملابس والبدن

صفة تطهير المذي من الملابس والبدن Q إني رجل مذاء، وقد علمت حديث علي رضي الله عنه في ذلك، ولكن بالنسبة للباس إذا أصابه المذي هل يغسل، أم يرش عليه الماء، أم يمر عليه بالماء؟ وهل الجواب يشمل ما خالط البول باعتبار نجاسة المذي والبول على السواء؟ A قد ورد فيه حديث علي المشار إليه، قال: (كنت رجلاً مذاءً، فاستحييت أن أسأل النبي صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته مني، فأمرت المقداد فسأله، فقال: فيه الوضوء -أو: منه الوضوء -) ، وفي رواية: (قال: يغسل ذكره ويتوضأ) ، وفي رواية: (قال: اغسل ذكرك وأنثييك، وتوضأ وضوءك للصلاة) ، ولم يذكر في الحديث غسل ذلك المذي الذي يصيب الثوب، ولا غسل ما يصيب الجسد منه، ولكن ذلك مأخوذ من أحاديث أخرى. ويذهب بعض من العلماء إلى أن المذي طاهر، وأكثرهم على أنه نجس والذين قالوا: إنه طاهر قالوا: غسله من باب إزالة الوسخ ومن باب إزالة القذر، كما يغسل من البصاق ونحوه. وعلى هذا ما دام أن هذا السائل يخرج منه هذا المذي بكثرة لقوة الغلمة وشدة الشهوة، يخرج منه بأدنى خطرة وبأدنى نظرة، كما يخرج من كثير من الشباب عندما يخطر بباله خاطر أو ينظر أدنى نظرة إلى امرأة أو إلى امرأته، فمثل هذا قد يتضرر بغسله من ثيابه ومن بدنه كل وقت، فنقول له: احرص على تنظيفه إذا تمكنت، ولو بمسحه بمنديل أو مسحه بخرقة أو نحو ذلك، وإذا صليت به أحياناً في الثوب أو في البدن فلا تعد صلاتك، والأصل أنه مثل المني أو أخف منه عند كثير منهم، وإن كان بعضهم ذهب إلى أنه مثل البول، وقال: يغسل كما يغسل البول. وهو قول الكثير من العلماء، وبعضهم قال: يطهره الغسل والفرك والحك وما أشبه ذلك.

حكم من أدركه عيد الفطر في غير البلد التي ابتدأ الصيام فيها

حكم من أدركه عيد الفطر في غير البلد التي ابتدأ الصيام فيها Q إنسان أدركه رمضان وهو في المملكة، ثم سافر في رمضان إلى بلد آخر، فهل يجعل الفطر على بلده أم البلد التي سافر إليها؟ وهل هناك فرق بين ما إذا كان سيصوم واحداً وثلاثين يوماً أو أقل؟ A يفطر مع أهل البلد التي هو فيها، سواء صام تسعة وعشرين أو واحداً وثلاثين، أو أقل أو أكثر. فأحياناً بعض البلاد يتأخرون عن صوم المملكة يومين، فيسافر إليهم بعض من صام مع المملكة، فيكون الصوم عندنا تسعة وعشرين، فلا يصوم معهم إلا ثمانية وعشرين ثم يفطرون، أو بالعكس، فيصوم معهم ويفطر معنا، فلا يصوم إلا ثمانية وعشرين، ففي هذه الحال يقضي يوماً واحداً؛ لأن أقل الشهر تسعة وعشرون. فعلى كل حال يفطر مع من أهل هلال شوال وهو عندهم، ويصوم مع من أهل هلال رمضان وهو عندهم، فإذا أهل هلال رمضان وهو في الهند، وتأخروا عن هذه البلاد يوماً أو يومين فلا يصوم إلا بصومهم.

حكم الإشارة باليد نحو القبلة عند التلبية بالحج والعمرة

حكم الإشارة باليد نحو القبلة عند التلبية بالحج والعمرة Q هل يشترط في التلبية عند الحج والعمرة أن يشير بيده باتجاه القبلة؟ A لا حاجة إلى الإشارة، فالتلبية إنما يرفع بها الرجل صوته، وأما المرأة فإنها تخفيها، وكونه يشير إلى جهة بيديه لا حاجة إلى ذلك، إنما التلبية لفظ وكلام، وليست متوقفة على إشارة ولا حركة.

حكم ركعتي الإحرام وحكم رمي الجمرات قبل طلوع الشمس لليوم الأول

حكم ركعتي الإحرام وحكم رمي الجمرات قبل طلوع الشمس لليوم الأول Q هل يجب أداء ركعتين قبل الإحرام؟ وما حكم رمي الجمرات قبل طلوع الشمس في اليوم الأول؟ A ركعتا الإحرام ليستا من ذوات الأسباب، فيفضل أن يصلي بعده ركعتين إن كان في وقت صلاة، كأن أحرم بعد صلاة الفجر، أو بعد صلاة الظهر، أو بعد المغرب، فهو أفضل، وإن كان في وقت نهي فإنه لا يصلي، بل يحرم بدون صلاة، كأن أحرم بعد العصر أو بعد الفجر، وإن كان في غير وقت نهي استحب له أن يصلي ركعتين، فإذا كان في الضحى، أو بعد الظهر، أو في الليل قبل الفطر أو بعد المغرب استحب له أن يصلي ركعتين تحية للمسجد وسنة للطهارة، فيكون قد جمع بين قول وفعل، فهذا بالنسبة إلى ركعتي الإحرام. أما الرمي فيكون رمي جمرة العقبة بالنسبة للقادرين بعد طلوع الشمس، هذا هو الصحيح، والعجزة والضعفة يجوز لهم الرمي من آخر الليل، فإذا غاب القمر في الليلة العاشرة رخص لهم في ذلك، وبعض العلماء رخص لهم في النصف الأخير، ولكن لا ينبغي التوسع في الرخص في مثل هذا.

حكم من اعتمر ولم يحلق أو يقصر

حكم من اعتمر ولم يحلق أو يقصر Q رجل اعتمر ولم يحلق رأسه ولم يقصر بعد أداء السعي، فماذا عليه؟ A هذا الذي ترك الحلق أو التقصير ولبس ثيابه يعتبر ترك نسكاً، فإن طالت المدة، فلبس الثياب وطالت المدة وباشر امرأته ونحو ذلك فقد انتهت العمرة وبطلت أعمالها، فيكون قد بقي عليه نسك وهو ذبح، فعليه أن يذبح فدية. وأما إذا تذكر في الحال، أو تذكر بعد ساعة أو نصف ساعة أو نحوها أو بعد يوم أو ما أشبه ذلك، وقام بمباشرة امرأته ونحو ذلك فإن عليه أن يخلع ثيابه ويلبس إحرامه ويحلق أو يقصر، ويعتبر عمله هذا عملاً بجهالة، أي: لبسه قبل أن يتحلل، فهذا بالنسبة إلى الذي تحلل قبل الإحرام.

حكم استعمال المحرم للصابون والطعام المخلوط بالزعفران وغيره

حكم استعمال المحرم للصابون والطعام المخلوط بالزعفران وغيره Q ما حكم استعمال الصابون للمحرم ومن أكل طعاماً فيه زعفران؟ A هناك أنواع من الصابون فيها طيب، فلا يجوز أن يستعمل الصابون المطيب، بل إذا احتاج إلى أن يغسل يديه بعد طعام ونحوه غسلها بصابون ليس فيه ريح طيب كالصابون التايت وما أشبهه. أما استعماله للزعفران فلا يجوز؛ لأن الزعفران فيه طيب، فلا يستعمله في القهوة، وكل شيء يتطيب به وله رائحة زكية، حتى القرنفل لا يستعمل في القهوة ونحوه، فالقرنفل له رائحة زكية، فإذا فعل ذلك عن جهل فإنه معذور.

شرح عمدة الأحكام [39]

شرح عمدة الأحكام [39] الكعبة المشرفة جعلها الله عز وجل قبلة المصلين ومهوى الأفئدة، وفي الفقه تتعلق بها أحكام، كالصلاة داخلها، واستلام بعض أركانها في الطواف، وتقبيل الحجر الأسود فيها، وغير ذلك.

شرح حديث دخوله صلى الله عليه وسلم البيت وأسامة بن زيد

شرح حديث دخوله صلى الله عليه وسلم البيت وأسامة بن زيد قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت وأسامة بن زيد، وبلال، وعثمان بن طلحة فأغلقوا عليهم الباب، فلما فتحوا الباب كنت أول داخل، فلقيت بلالاً فسألته: هل صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. بين العمودين اليمانيين) . وعن عمر رضي الله عنه: (أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبله وقال: إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) . وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا ما بين الركنين، ولم يمنعهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم) . وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم -حين يقدم مكة- إذا استلم الركن الأسود أول ما يطوف. يخب ثلاثة أشواط) . وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على بعير، يستلم الركن بمحجن) . وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (لم أر النبي صلى الله عليه وسلم يستلم من البيت إلا الركنين اليمانيين) ] . هذه الأحاديث تتعلق بالطواف بالبيت وما يتصل به، ومعلوم أن البيت الحرام هو الذي شرفت به مكة، فهو أشرف بقعة على وجه الأرض، هذا البيت هو الذي فرض الله حجه، فرض الله السفر إليه، وفرض التعبد حوله، وجعل قصده عبادة من العبادات، وجعل التوجه نحوه في الصلاة فرضاً على كل مسلم في شرق الأرض وفي غربها، أن يستقبلوه لشرفه، وأخبر تعالى بأنه بيته، وأضافه إلى نفسه فقال تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [الحج:26] ، {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [البقرة:125] ، وأمر بعبادته لأنه ربه {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} [قريش:3] فهذا البيت الذي هو البيت الحرام الكعبة المشرفة له هذه الميزة. وفي هذه الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم دخل البيت في غزوة الفتح، لما فتح مكة في سنة ثمان واستولى عليها، أراد أن يدخل البيت الحرام، وكانت السدانة ومفتاحه عند بني عبد الدار، وكان الذي عنده المفتاح في ذلك الوقت هو أحد بني عبد الدار، ويقال له: عثمان الحجبي. فسدنة الكعبة يقال لهم (الحجبة) ؛ لأنهم يحجبون الناس عنها، فطلب المفتاح من عثمان هذا، ولما أخذ المفتاح خاف بنو عبد الدار أن لا يرده عليهم، وقالوا: إنه أمانة. فأنزل الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58] فرده إليهم، وأصبحوا هم سدنة الكعبة. ودخل الكعبة لأجل أن يطهرها مما كان قد أدخله المشركون فيها، فوجد فيها صورة إبراهيم وإسماعيل يستقسمان بالأزلام، فدعا بماء فمحا تلك الصور، ولو كانت صورة الخليل وإسماعيل، ومحا الأزلام التي صورا على أنهما يستقسمان بها، وقال: (قاتلهم الله! والله ما استقسما بها قط) ، والاستقسام بالأزلام عادة جاهلية، جعلها الله من العادات السيئة، وقرنها بالخمر في قوله: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة:90] وقال: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ} [المائدة:3] . ثم لما دخلها صلى ركعتين بين العمودين؛ لأنها كانت على ستة أعمدة في ذلك الوقت، ولما خرجوا منها كان ابن عمر أحرص على أن يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم، فسأل بلالاً: أين صلى؟ فذكر له أنه صلى بين العمودين المتقدمين، حرصاً منه على أن يصلي في موضع صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: ونسيت أن أسأله كم صلى الله عليه وسلم. وفي بعض الروايات أنه صلى ركعتين. وعلى كل حال فإنه لا يلزم كل أحد أن يدخل داخل الكعبة، ومن تيسر له فدخلها فله أن يصلي فيها ركعتين، ولا يلزم الدخول، وروي: (أن عائشة طلبت من النبي صلى الله عليه وسلم أن تدخل البيت، فقال لها: صلي في الحجر؛ فإن الحجر من البيت) والحجر: هو حجر إسماعيل الذي في شمال البيت، فهذا بعضه من البيت، ومن صلى فيه فكأنه صلى داخل الكعبة. وقد روي -أيضاً- أنه لما دخلها تأسف على دخولها، وقال: (أخشى أن أشق على أمتي) يعني: أن يعتقدوا أن دخولها سنة فيزدحموا عليها، فبين أنه لا يلزم دخولها، وإنما دخلها ليطهرها. وقد ذهب الإمام أحمد إلى أنه لا يجوز أن يصلي الفرض في داخلها، وأن من صلى الفرض في داخل البيت أو داخل الحجر لا تصح صلاته، وذلك لأنه لم يستقبل البيت كله، بل جعل بعضه خلف ظهره، والمصلي لا بد أن يستقبله كله، أما النافلة فيتسامح فيها، فيجوز استقبال جزء من الكعبة.

شرح قول عمر: (إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع)

شرح قول عمر: (إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع) الحديث يتعلق باستلام الحجر الأسود الذي هو في أحد أركان البيت، وهو في الركن الجنوبي الشرقي، هذا الحجر قد روي أنه من حجارة الجنة، وأنه لما نزل من الجنة كان أبيض من الثلج فسودته خطايا بني آدم، ولعل ذلك من باب المبالغة، فالصحيح أنه هكذا كان منذ أن وضع. وقد شرف بأنه يستلم أو يقبل أو يشار إليه، وليس على وجه الأرض شيء يسن تقبيله إلا هذا الحجر الأسود، وتقبيله ليس لذاته، وإنما هو للاتباع، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما قبله أخبر بأن تقبيله إنما هو اتباع لا لاعتقاد، فقال: (إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) ، فجعل تقبيله من باب الاتباع لا من باب التعظيم له وذلك لأن عمر أدرك الجاهلية، وعرف أنهم يعظمون الأشجار والأحجار ويعتقدون فيها أنها تضر وتنفع، فبين أن هذا كسائر الحجارة، وتقبيله لا لذاته.

مشروعية تقبيل الحجر الأسود وكيفيته

مشروعية تقبيل الحجر الأسود وكيفيته ما ذكره عمر يبين أنه يسن تقبيله، وثبت أنه صلى الله عليه وسلم وقف عنده فقبله بأن وضع شفتيه عليه دون أن يظهر تصويتاً بالتقبيل، ولما رآه عمر، قال: (يا عمر! هاهنا تسكب العبرات) ، فلأجل ذلك كان بعض الصحابة يحرص على تقبيله، ومنهم عبد الله بن عمر، وكان يزاحم عليه حتى يقبله، ويروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحجر الأسود والركن اليماني: (إن مسحهما يحط الخطايا) ، ولكن ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال لـ عمر: (إني أراك رجلاً قوياً، فلا تزاحم على الحجر، إن وجدت سعة فقبل أو فاستلم، وإلا فأشر وامضِ) ، فإذاً إن وجدت سعة وتيسر لك أن تقبله فقبله، فإن كان هناك زحام وقدرت على أن تستلمه بيدك -أي: تمسه بيدك- اليمنى وتقبلها كفى ذلك، وإن كان عليك مشقة وقدرت أن تستلمه بمحجن أو بعصا اكتفيت بذلك وقبلت العصا، فإذا لم يتيسر لك ذلك اكتفيت بالإشارة إليه مع التكبير دون أن تقبل شيئاً.

شرح حديث: (أمرهم أن يرملوا الأشواط الثلاثة)

شرح حديث: (أمرهم أن يرملوا الأشواط الثلاثة) في هذا الحديث أن الصحابة لما قدموا سنة سبع لعمرة القضية، وكانوا قد جاءوا إلى مكة سنة ست معتمرين صدهم المشركون، واصطلحوا على أن يأتوا في سنة سبع ويعتمروا، وتسمى عمرة القضية. فلما جاءوا في سنة سبع وكان المشركون بمكة لا يزالون معادين للمسلمين ولا يزالون يحقرونهم ويمقتونهم ويبغضونهم، فأرادوا أن يصغروا شأنهم عند جهلة أهل مكة حتى لا يقع في قلوبهم لهم شيء من الهيبة، فقالوا لسفهائهم: يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب. أي: أن محمداً وأصحابه يأتونكم وهم ضعاف هزيلون، مرضى، قد أضعفتهم حمى المدينة، وقد أوهنتهم، وقد أنهكت قواهم، فهم ضعاف فلا تهابوهم، ولا تخشوا منهم، ولا يكن في قلوبكم شيء من الهيبة لهم، ولا تخافوا من سطوتهم عند القتال. هكذا أرادوا أن يحقروا شأنهم عند سفهائهم، فسمع بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يظهر قوة المسلمين، وأراد أن يبطل ما يظنه المشركون من ضعفهم ومن هزالهم ومن مرضهم، فأمر الصحابة أن يرملوا في الأشواط الثلاثة. فالطواف بالبيت سبعة أشواط، فأمرهم أن يرملوا في الثلاثة الأول، أي: يسرعون فالرمل هو إسراع المشي مع مقاربة الخطا، وهز المنكبين، وهو دليل على الجلد ودليل على القوة ودليل على النشاط، والمشركون كانوا ينظرون إليهم من عند جبل قعيقعان الذي هو في شمال البيت، وكان في المكان الذي يعرف الآن بالشامية أو ما جاورها، كانوا جلوساً في ذلك المكان المرتفع ينظرون إلى الصحابة وهم يطوفون، فكانوا في مكان مرتفع، والبيوت التي بينهم وبين الكعبة منخفضة لا تحول بينهم وبين النظر إليهم، فلما رأوهم يطوفون وهم يرملون ذلك الرمل، ويسرعون ذلك الإسراع هابوهم، وقالوا: كيف تقولون: إن الحمى قد وهنتهم؟! ما هم إلا كالغزلان. أي: في سرعتهم وفي قوتهم، فكان ذلك مضعفاً لما في قلوبهم من احتقار الصحابة واحتقار المسلمين، وموقعاً في قلوبهم هيبة الإسلام وهيبة المسلمين وتخوفيهم من سطوتهم. وإذا كانوا بين الركنين مشوا؛ لأنهم في ذلك المكان يستخفون عن المشركين الذين هم في جهة الشمال، فيمشون بين الركنين اليمانيين، فإذا برزوا للمشركين بعدما يتجاوزون الحجر بدءوا في الرمل، وهكذا حتى تموا ثلاثة أشواط وهم يسرعون، ولم يمنعه أن يرملوا الأشواط السبعة إلا الإبقاء عليهم، أي: إلا الرفق بهم وترك المشقة؛ لأنهم لو استمروا السبعة الأشواط كلها في رمل لشق ذلك عليهم مع ما فيهم من كبر السن ومن جهد السفر ونحو ذلك. وعلى كل حال فما قصد بذلك إلا غيض المشركين، وأصبحت هذه سنة، فأصبح كل من قدم إلى مكة أول ما يبدأ بالطواف يرمل الثلاثة الأشواط، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة في حجة الوداع وابتدأ في طواف القدوم خب ثلاثة أشواط ومشى أربعاً، والخبب هو الرَمَل -أي: الإسراع-، وذلك ليعيد تلك الذكرى التي فعلها عندما قال أهل مكة ما قالوا، فنحن عندما نرمل نتذكر أولاً ما كان عليه المشركون من العداوة للمسلمين، ونتذكر -أيضاً- ما يظهره المسلمون من الجلد والقوة التي فيها إغاظة الكافرين، ونظهر -أيضاً- قوتنا ونشاطنا في هذه العبادة، لذلك أصبح كل من قدم مكة أول ما يطوف بالبيت يرمل ثلاثة أشواط. وروي أن عمر رضي الله عنه لما كان في خلافته قال: ما لنا وللرمل! وما لنا بإبداء المناسك -يعني: الاضطباع- وقد أذهب الله المشركين وأذهب ما كنا نظهر لأجلهم! ثم قال: سنة فعلها النبي صلى الله عليه وسلم لا نتركها. إذاً أصبح هذا من السنة، أي: الرمل أصبح سنة وإن كان قد انقضى سببه.

شرح حديث: (كان لا يستلم من البيت إلا الركنين اليمانيين)

شرح حديث: (كان لا يستلم من البيت إلا الركنين اليمانيين) أما الاستلام ففي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يستلم إلا الركنين اليمانيين، أما الركنان الشاميان فلا يستلمهما. والبيت له أربعة أركان -أي: أربع زوايا-: ركنان يمانيان في جهة اليمن، وركنان شاميان في جهة الشام، والركن الشرقي الجنوبي هو الذي فيه الحجر الأسود، وهو -أيضاً- في جهة اليمن، والركن الغربي الجنوي يطلق عليه الركن اليماني، فهذان هما اللذان يستلمان، أما الركن اليماني فإنه يستلم باليد بأن يضع عليه يده دون أن يقبل، فإذا تيسر أن يضع عليه يده فإنه يفعل ذلك، فإذا لم يتيسر فإنه يمضي ولا يكبر ولا يشير إليه، أما الركن الذي فيه الحجر الأسود فإنه إن استطاع أن يقبله بوضع شفتيه فعل، فإذا لم يستطع تقبيله استلمه بيده وقبل يده، فإذا لم يقدر استلمه بعصاً وقبل العصا، فإذا لم يستطع أشار إليه بيده ومضى ولا يقبل شيئاً. والدليل على أن يستلمه بالمحجن أو بالعصا هذا الحديث، وهو: أنه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع طاف على بعيره ومعه محجن يستلم به الركن اليماني والحجر الأسود كلما حاذاهما. وذكروا أن الناس في حجة الوداع تزاحموا عليه، كلهم يريد أن ينظر إليه كيف يطوف وكيف يعمل، فأحب أن يبرز لهم، فقرب بعيره وطاف على البعير، طاف السبعة الأشواط، ويحتمل أن ذلك طواف القدوم أو أنه طواف الإفاضة أو طواف الوداع، وكان في يده محجن -أي: عصاً محنية الرأس-، فكان كلما حاذى الركن اليماني دلى ذلك المحجن، ثم يستلم الركن اليماني، ثم إذا أتى على الحجر الأسود مد يده بذلك المحجن واستلم الركن الذي فيه الحجر. أما الركنان الشاميان فلم يكن يستلمهما، لا بمحجن ولا بيده ولا يشير إليهما، ولعل السبب في ذلك ما نقل عن ابن عباس أنهما لم يكونا على قواعد إبراهيم، أما الركنان اليمانيان فعلى قواعد إبراهيم فالزاوية اليمانية وكذلك الجدار الغربي والجدار الشرقي كلاهما على قواعد إبراهيم، أما الجدار الشمالي فإنه قد نقص من جهة الشمال، فقد ترك المشركون عندما بنوا البيت جزءاً من البيت في جهته الشمالية نحو ستة أذرع أو سبعة أذرع من الحجر لم يبنوها، وذلك لأنهم قصرت بهم النفقة، فلما كان الركنان الشاميان ليسا على قواعد إبراهيم لم يستلمهما لا بإشارة ولا بيده. وقد روي عن بعض السلف أنهم يستلمونهما، وروي أن معاوية طاف مع ابن عباس، فكان معاوية يستلم الأركان الأربعة كلها. ويقول: ليس من البيت شيء مهجور. فقال له ابن عباس: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] ، فلنا أسوة حسنة في النبي عليه الصلاة والسلام في أنه لم يستلم إلا الركنين اليمانيين، ولو كان سنة لفعله ولاستلم هذه الأركان كلها. وبذلك نعرف في نهاية الكلام أن الطواف بهذا البيت العتيق يجب فيه الاتباع فنتبع فيه ولا نبتدع، ونقتدي فيه بما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن الله تعالى أمرنا بالطواف مطلقاً في قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29] . والطواف في الأصل هو الاستدارة حول الشيء، وكذلك الطواف بين الصفا والمروة في قوله: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158] يعني: يصل الصفا ثم يصل المروة. إذاً: الطواف بالبيت هو الدوران حوله، هذا هو الأصل. وهذه الكيفية قد يكون فيها شيء من الإجمال، فنحتاج إلى أن نعرف كيفيتها على التفصيل، فنرجع إلى السنة النبوية، فنجد النبي صلى الله عليه وسلم قد بينها بفعله مع قوله: (خذوا عني مناسككم) ، فنتبع النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك. والطواف بهذا البيت ليس عبادة للبيت، ولكنه عبادة لرب البيت، وتعظيم لرب البيت، وذكر لرب البيت، ولهذا يقول الله تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} [قريش:3] ، ولم يقل: فليعبدوا هذا البيت. ولأجل ذلك قالت عائشة رضي الله عنها: (إنما جعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار؛ لإقامة ذكر الله) . إذاً الطائف بهذا البيت والذي يستلم ما يستلمه كل ذلك لا يذكر فيه البيت، وإنما يذكر رب البيت، ففي دعائه يقول: يا الله يا رب اللهم! اغفر لنا، اللهم! ارحمنا وأكرمنا. ولا يقول: يا بيت الله وكذلك عند استلامه يقول: الله أكبر! أو: باسم الله، ولا يقول: باسم البيت، ولا يقول: يا بيت الله، فدل على أنه عندما يقول وعندما يفعل إنما يذكر الله، وإنما يعبد رب البيت وحده، فالطواف بالبيت عبادة للرب سبحانه، كما أن الصلاة واستقبال البيت فيها إنما هي عبادة لله تعالى.

شرح عمدة الأحكام [40]

شرح عمدة الأحكام [40] التمتع أحد أنساك الحج الثلاثة، وبه يجمع الإنسان بين الحج والعمرة مع إراحة نفسه من البقاء على الإحرام، خصوصاً إذا سبق يوم الحج بزمن طويل، وفيه أحكام تتعلق به ينبغي على المسلم معرفتها.

التمتع في الحج

التمتع في الحج قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [باب التمتع عن أبي جمرة نصر بن عمران الضبعي رضي الله عنه قال: (سألت ابن عباس عن المتعة فأمرني بها، وسألته عن الهدي فقال: فيها جزور أو بقرة أو شاة أو شرك في دم. قال: وكأن أناساً كرهوها، فنمت فرأيت في المنام وكأن إنساناً ينادي: حج مبرور ومتعة متقبلة. فأتيت ابن عباس فحدثته فقال: الله أكبر! سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم) . وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، وأهدى فساق معه الهدي من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج، فتمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة إلى الحج، فكان من الناس من أهدى فساق الهدي من ذي الحليفة، ومنهم من لم يهدِ، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة قال للناس: من كان منكم قد أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه، ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة، وليقصر وليحلل، ثم ليهل بالحج وليهدِ، ومن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله. فطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم إلى مكة واستلم الركن أول شيء، ثم خب ثلاثة أشواط من السبعة، ومشى أربعة، وركع حين قضى طوافه بالبيت عند المقام ركعتين، ثم سلم فانصرف فأتى الصفا، وطاف بين الصفا والمروة سبعة أشواط، ثم لم يحل من شيء حرم منه حتى قضى حجه ونحر هديه يوم النحر وأفاض وطاف بالبيت، ثم حل من كل شيء حرم منه، وفعل مثلما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهدى فساق الهدي من الناس) ] . الأنساك في الحج ثلاثة: التمتع، والإفراد، والقران. وهذا التفريق والتقسيم اصطلاحي من الفقهاء، وإلا فهي في الحقيقة اثنان: تمتع، وإفراد. فالإفراد: أن يحرم بالحج فقط، ولا يجعل معه عمرة. وأما التمتع فهو أن يأتي بعمرة إما مع حجه مقترنة به -وهو القران- وإما منفصلة عنه، يأتي بها قبل الحج ويفرغ منها، هذا هو التمتع، وسمي تمتعاً لأن فيه انتفاعاً، والانتفاع هو أنه سافر سفراً واحداً حصل فيه على نسكين: نسك حج ونسك عمرة، فحصل فيه على الحج والعمرة جميعاً بسفر واحد، وقد كانوا قبل الإسلام يسافرون للحج في شهر الحج، ويسافرون للعمرة في نصف العام في شهر رجب، فيأتون بنسكين في سفرين، فلما جاء الإسلام أباح لهم أن يجمعوهما في سفر واحد يقضي فيه حجاً وعمرة تخفيفاً عليهم حتى لا تكون هناك مشقة، ولكن إذا تمتعوا واكتفوا بسفر واحد كان من جبران ذلك أن يهدوا هدياً، فسبب الهدي هو جبر ذلك النقص، ما دام أنه في سفر واحد حصل له نسكان كان عليه جبر ذلك بأن يأتي بهذا الهدي، أو يصوم عشرة أيام، ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع، هذا هو نسك التمتع.

شرح حديث: (المتعة في الحج سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم)

شرح حديث: (المتعة في الحج سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم) في الحديث الأول أن نصر بن عمران: أنه سأل ابن عباس عن متعة الحج فأمره بها، يعني: أمره بأن يتمتع في الحج. يقول: فكأن أناساً كرهوها. يعني: كرهوا المتعة، فنام أبو جمرة ورأى في المنام قائلاً يقول له: حج مبرور ومتعة متقبلة. فسر بذلك، وقص هذا على ابن عباس خبر هذا الذي نبهه وذكر له أن المتعة متقبلة (متعة متقبلة) ، فلما أخبر ابن عباس قال: الله أكبر! سنة محمد صلى الله عليه وسلم، يعني: هذا المتعة هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم. وهؤلاء الذين كرهوها وذكرهم أبو جمرة لهم سلف، وهناك من كانوا على طريقتهم، وذلك لأن الخلاف في شرعية متعة الحج قديم، وقد كان فيه خلاف بين أكابر الصحابة، حتى إن عمر رضي الله عنه مع أقدميته ومع فضله كان ينهى عن متعة الحج، وكان يأمر بالإفراد، فأطاعه أناس، وصاروا لا يعتمرون مع الحج، بل يقتصرون إذا سافروا على الحج فقط، ثم يسافرون للعمرة في أثناء السنة. وسبب نهي عمر تأويل منه، وذلك لأنه خاف أن يبقى البيت معطلاً في زمن من الأزمنة، وقال: إذا رخصنا للناس أن يعتمروا مع حجهم فإنهم يكتفون بهذه العمرة، فلا يأتون إلى مكة في أثناء السنة، أما إذا نهيناهم وقلنا: لا تعتمروا، لا تمتعوا، اقتصروا على الحج وأدوا العمرة مرة أخرى فإنهم يؤدونها في بقية السنة، فيأتي أناس يعتمرون في شهر محرم، ويأتي آخرون في شهر صفر، ويأتي آخرون في رجب، ويأتي آخرون في ربيع أو جمادى أو شعبان أو رمضان، فيبقى البيت معموراً بالطائفين طوال السنة ولا يبقى معطلاً، هذا هو ما أراد عمر رضي الله عنه بنهيه عن التمتع الذي هو العمرة مع الحج، وهو اجتهاد منه. وقد استدل بأن الله تعالى أمر بإتمام الحج والعمرة في قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] والإتمام معناه أن من شرع في الحج يتم الحج، ومن شرع في العمرة يتم العمرة، وظهر له أن الإنسان إذا توجه إلى مكة فإنه لابد أن يكون قاصداً أحد النسكين: إما الحج وإما العمرة، ولا يجمع بينهما، هذا هو الذي ظهر له. ولا شك أنه اجتهاد منه، وكذلك تبعه على ذلك بعض الصحابة كـ عثمان وغيره، فكانوا ينهون -أيضاً- عن العمرة قبل الحج. أما علي رضي الله عنه فكان يرى القران، وهو الإحرام بالحج والعمرة جميعاً، ويستدل بقوله صلى الله عليه وسلم: (دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة) ، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبي بهما معاً، يقول: لبيك عمرة وحجاً. ونقول: لا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد روي عنه أنه تمتع، وروي عنه أنه أفرد، وروي عنه أنه قرن، والروايات كلها صحيحة، ففي حديث عائشة رضي الله عنها أخبرت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يريد الحج فليهل بالحج، ومن كان يريد العمرة فليهل بالعمرة) أي: أنه خيرهم، تقول عائشة: (وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج، وكنت فيمن أهل بالعمرة) هكذا ذكرت عائشة أنه أهل بالحج، وظاهره أنه أفرد. وفي حديث علي سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لبيك عمرة وحجاً) ، وكذلك رواه جابر، ورواه أنس أنه لبى بالحج والعمرة جميعاً، وظاهر هذا أنه قرن. وفي حديث ابن عمر أنه تمتع، يقول ابن عمر رضي الله عنه في هذا الحديث الطويل: (تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج، وأهدى فساق الهدي من ذي الحليفة، فبدأ وأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج) ، وظاهره: أنه أهل بالعمرة متمتعاً بها إلى الحج، ثم أهل بالحج، ولكن هذا دليل على أنه قرن، وأنه أدخل الحج على العمرة، وهذا جائز، أي: إدخال الحج على العمرة، وهو إدخال الأكبر على الأصغر، فالعمرة نسك أصغر، والحج نسك أكبر، فإذا أحرم بالعمرة وحدها جاز أن يدخل عليها الحج، وقد فعل ذلك ابن عمر رضي الله عنهما، فقد خرج مرة إلى الحج، فلما نزل الحجاج بمكة. قيل له: إنه كائن بين الناس قتال. فقال: إن حبسنا عن مكة تحللنا كما فعلنا بالحديبية. فأهل أول ما أهل بالعمرة، ثم قال: ما شأنهما إلا واحد، أشهدكم أني أهللت بحجة مع عمرتي، واشترى هدياً وساقه. وذكر في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم ساق الهدي، بمعنى أنه اشترى هدياً وساقه معه إلى مكة، وكان ساق سبعين بدنة، وجاء علي من اليمن بثلاثين، فأصبحت مائة بدنة، فنحرها كلها يوم النحر. فهذا معنى كونه تمتع، أنه جمع النسكين في عمل واحد، هذا هو التمتع الذي هو الانتفاع، فسماه ابن عمر تمتعاً مع أنه قران، أحرم بالعمرة ثم أدخل الحج عليها فأصبح قارناً.

من ساق الهدي لم يتحلل حتى يبلغ الهدي محله

من ساق الهدي لم يتحلل حتى يبلغ الهدي محله ذكر ابن عمر في هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أمر أصحابه أن يتحللوا إلا من كان معه الهدي، وذلك لأن الذي معه الهدي لا يقدر أن يتحلل حتى ينحر هديه؛ لقول الله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196] يعني: محل ذبحه. فلذلك بقي على إحرامه لكونه قد ساق الهدي حتى نحر هديه يوم العيد، وأمر الذين معهم هدي أن يبقوا على إحرامهم حتى ينحروا هديهم يوم العيد، ثم يتحللوا. أما الذين ليس معهم هدي -وهم أكثر الصحابة- فلم يسوقوا الهدي لعجزهم أو لفقرهم، فهؤلاء أمرهم بالتحلل حتى ولو كانوا مفردين ولو كانوا قارنين، أمرهم بأن يفسخوا حجهم إلى عمرة ففعلوا. وقد كرهوا ذلك، كرهوا أن يحلوا إحرامهم إلى عمرة، وقالوا: كيف نحوله إلى عمرة وقد سمينا حجاً؟! وبعضهم سمى حجاً وعمرة، فقالوا: كيف نفسخ إحرامنا ونجعله عمرة وما نوينا إلا الحج؟! فألح عليهم وشدد، وقال: افعلوا ما آمركم به، فعند ذلك تحللوا، ولم يحبسهم هدي، فطافوا بالبيت، وسعوا بين الصفا والمروة، وقصروا من رءوسهم أو حلقوا وتحللوا، وكان ذلك في اليوم الرابع أو اليوم الخامس من شهر ذي الحجة، وبقوا متحللين، فلبسوا اللباس، وتطيبوا، وأتوا النساء، فأحل لهم التقصير والتقليم والنكاح ونحو ذلك مما كان محرماً عليهم بسبب الإحرام، ثم بقوا على حلهم إلى اليوم الثامن فأحرموا بالحج. أما الذين معهم الهدي فإنهم بقوا على إحرامهم، فالذين تحللوا لم يحرموا بحج إلا في اليوم الثامن، وبقوا حلالاً تلك الأيام، والذين معهم الهدي حبسهم الهدي وبقوا على إحرامهم، سواء أكانوا مفردين -أي: بالحج فقط- أو قارنين -أي: بالحج والعمرة-. والنبي صلى الله عليه وسلم كان ممن أحرم بالحج والعمرة كما عرفنا، فبقي على إحرامه. فلما قدم طاف وسعى، ففي هذا الحديث أنه طاف وسعى، وأنه بدأ بالطواف ورمل فيه، وبذلك أصبح الرمل سنة في الثلاثة الأشواط الأولى من طواف القدوم، أو أول طواف يطوفه الحاج، وهو أن يسرع في المشي مع مقاربة الخطى، يقول ابن عمر في هذا الحديث: (فخب ثلاثاً ومشى أربعاً) . وبعدما طاف صلى ركعتين خلف المقام، وهي سنة الطواف، وبعدها أتى إلى الصفا، وطاف بين الصفا والمروة سبعة أشواط، ثم بقي على إحرامه حتى كمل حجه. وابن عمر في هذا الحديث لم يذكر بقية أعماله؛ لأنها مشهورة، كوقوفه بعرفة، وكذلك عمله في عرفة ثم رجوعه إلى مزدلفة، وكذلك أعماله بمنى مشهورة معروفة، وإنما ذكر أنه بقي على إحرامه حتى قضى حجه ونحر هديه، ثم أفاض في يوم العيد وطاف بالبيت، واكتفى بالسعي الأول لأن القارن ليس عليه إلا سعي واحد، ثم بعدما رمى وحلق وطاف، تحلل التحلل كله، وهكذا فعل من كان معه هدي من المسلمين، هذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أنه أمر الذين معهم الهدي أن يبقوا على إحرامهم إما مفردين وإما قارنين حتى ينحروا هديهم. وأما الذين ليس معهم هدي فإن الأفضل لهم أن يحرموا بالعمرة متمتعين، ومن أحرم منهم بالحج مفرداً فالأفضل له أن يتحلل إذا قدم مبكراً، فيفسخ حجه إلى عمرة، ويبقى بلباسه إلى يوم التروية، وكذلك من أحرم قارناً فسخ إحرامه وجعله عمرة، وفصل عمرته عن الحج. هذا هو الأفضل، وهو الذي اختاره الإمام أحمد، وقال: إن عندي فيه سبعة عشر حديثاً. يعني: في فسخ الحج إلى العمرة، ولو خالف في ذلك كثير من الأئمة، فأكثر الأئمة كالشافعية وكذلك الحنفية ونحوهم لا يرون الفسخ، إنما الذي يستحبه هو الإمام أحمد، وقدوته ابن عباس كما في هذا الحديث، فإنه شهد بأن ذلك سنة، وأنه هو الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، وهو آخر الأمرين منه، فيكون الأفضل فسخ الحج إلى العمرة أو فسخ القران إلى العمرة، وأن يكون الإنسان متمتعاً، وإن أحرم بالعمرة أولاً فهو أفضل؛ حتى لا يقال له: افسخ حجك أو نسكك إلى عمرة وتحلل، وإن قدم متأخراً وقد أحرم بالحج فقط أو قارناً فله أن يبقى على ذلك؛ لأنه إذا لم يكن هناك زمان يتمتع فيه بالمحظورات وبالمباحات فلا يصدق عليه أنه تمتع.

الخلاف في التمتع وفسخ الحج إلى العمرة

الخلاف في التمتع وفسخ الحج إلى العمرة قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [وعن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: (يا رسول الله! ما شأن الناس حلوا من العمرة، ولم تحلل أنت من عمرتك؟! فقال: إني لبدت رأسي وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر) . وعن عمران بن حصين رضي الله عنه أنه قال: (أنزلت آية المتعة في كتاب الله، ففعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينزل قرآن يحرمه، ولم ينه عنها حتى مات. قال رجل برأيه ما شاء) قال البخاري: يقال: إنه عمر. ولـ مسلم نزلت آية المتعة -يعني: متعة الحج- وأمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لم تنزل آية تنسخ آية متعة الحج، ولم ينه عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات. ولهما بمعناه] . الأحاديث تتعلق بالتمتع بالعمرة إلى الحج، وسبب ذلك أن فيها خلافاً قوياً، خاصة في فسخ الحج إلى العمرة وصيرورة الحاج متمتعاً. وقد ذكرنا أن الأنساك ثلاثة: التمتع، والقران، والإفراد. وأن أفضلها عند الإمام أحمد هو التمتع؛ لأنه آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهناك ثلاثة أحاديث في التمتع بالعمرة إلى الحج، أو في فسخ الحج إلى العمرة، وأخذ من ذلك الإمام أحمد أن التمتع هو أفضل الأنساك، وقد وقع اختلاف كثير -حتى بين الصحابة- في أفضل الأنساك، فذهب بعضهم إلى أن أفضلها الإفراد، وهو المروي عن عمر رضي الله عنه، حيث كان ينهى عن العمرة في أشهر الحج، وينهى عن فسخ الحج إلى عمرة، وينهى عن التمتع بالعمرة إلى الحج. وقد ذكرنا عذره في ذلك، وأنه أراد بذلك أن لا يخلو البيت من طائفين، أن يكون البيت الحرام معموراً طوال السنة بالطائفين وبالمعتكفين وبالمصلين الذين يقدمون لأداء نسك العمرة، فإنهم إذا اعتمروا مع الحج لم يرجعوا، وأما إذا جاءوا وأدوا الحج فقط فإن العمرة تبقى في ذممهم، وتبقى واجبة عليهم، فيؤدونها متفرقين، فيأتي قوم يعتمرون في شهر محرم، وآخرون في شهر صفر، وآخرون في ربيع إلى آخر السنة، فلا يخلو البيت من طائفين، هذا قصد عمر، وهو مقصد مناسب، ولكن لا يجوز أن تترك السنة لأجل هذا التعليل. كذلك -أيضاً- عمر رضي الله عنه تأول، حيث إن الله تعالى أمر بالإتمام، قال تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] ، يقول عمر: إذا بدأ في الحج فإن عليه إتمامه، وليس له أن يفسخه، فإن فسخه لا يكون إتماماً؛ لأنه قد لا يتيسر له الحج. ويقول -أيضاً-: إن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم بالحج والعمرة قارناً، وبقي على إحرامه، وكذلك بقي الذين معه الذين ساقوا الهدي على إحرامهم إلى أن تحللوا يوم النحر، فلم يفسخوا حجهم إلى عمرة. فهذا -أيضاً- مما علل به عمر رضي الله عنه بقاء الحاج على نسكه وعدم فسخه الحج إلى عمرة. وأيضاً مما علل به رضي الله عنه أنهم إذا تحللوا بعد العمرة أو أفردوا الحج أو اعتمروا وتمتعوا وتحللوا بعد العمرة، ترفهوا وتنعموا وفعلوا المباحات ونحوها، حتى يأتي يوم عرفة أو يوم التروية، يقول في بعض الروايات عنه: يوشك أن يظلوا معرسين بهن في ظل الأراك حتى يوم التروية. وكذلك قال هذه المقالة -أيضاً- بعض الصحابة لما أمروا بأن يتحللوا ويفسخوا إحرامهم إلى العمرة، ويجعلوا حجهم عمرة ويصيرون متمتعين، قالوا: ننطلق إلى منى وذَكَرُ أحدنا يقطر منياً! أي: ونحن حديثو عهد بالترفه وبالاستمتاع ونحو ذلك، كأنهم يقولون: إن الذي يذهب إلى عرفة يذهب وهو بعيد عن الترفه، وبعيد عن التنعم، وهو الذي يحرم بالحج من الميقات ويبقى على إحرامه إلى أن يقف بعرفة وهو على هذه الصفة أشعث أغبر بعيداً من التنعم ونحوه، هذا كان رأيهم. ولكن قد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بأن يتحللوا كما تقدم في حديث ابن عمر لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة معه في صبح اليوم الرابع من شهر ذي الحجة، وكان أكثرهم محرماً بالحج مفرداً، لا يذكرون إلا الحج، وكانوا -أيضاً- ليس معهم هدي، عند ذلك قال لهم: (من طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة فليتحلل وليحلق رأسه أو ليقصر وليجعلها عمرة) ، فكأنهم تثاقلوا وقالوا: كيف نجعلها عمرة وقد سمينا حجاً؟! فقال: (افعلوا ما أمرتكم به) ، ثم تمنى أنه ما ساق الهدي، وقال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة، أو لأحللت معكم) ، فجعل الذي منعه من التحلل هو كونه قد ساق الهدي. وهكذا قال في حديث حفصة بنت عمر -إحدى أمهات المؤمنين- الذي تقدم، وذلك أن الناس لما تحللوا من العمرة في اليوم الرابع وبقوا محلين، ولبسوا الثياب وتطيبوا، وأتوا النساء وفعلوا محظورات الإحرام، بقي صلى الله عليه وسلم على إحرامه، فقالت له حفصة: ما شأن الناس حلوا من عمرتهم ولم تحل أنت من عمرتك -أي: لماذا بقيت على إحرامك والناس قد تحللوا-؟ فاعتذر بأنه لبد رأسه، يقول: (إني لبدت رأسي وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر) كان شعر رأسه كثيراً، فجعل عليه شيئاً يمسكه ويتلبد معه كصمغ -مثلاً- أو شمع أو نحو ذلك يمسك بعض الشعر ببعض حتى لا يتشعث رأسه ولا ينتشر فيدخله التراب والغبار، بل يتماسك؛ لأنه عرف أنه سيطول إحرامه، فإنه بقي في الإحرام نحو خمسة عشر يوماً، أي: أحرم في اليوم الخامس والعشرين من شهر ذي القعدة، ولم يتحلل إلا في اليوم العاشر من شهر ذي الحجة، فبقي نصف شهر، وهذه المدة طويلة، فيخشى أنه يدخل في شعر رأسه شيء من الغبار يتأذى به، فجعل فيه هذا الذي لبده. قوله صلى الله عليه وسلم: (وقلدت هديي) أي: سقت الهدي وجعلت في رقابه قلائد مهدياً له إلى الله تعالى. وقد شرع الله تعالى الإهداء إلى البيت، وأمر به، ثم أمر -أيضاً- بأن يجعل له ما يميزه وهي القلائد، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ} [المائدة:2] ، فالقلائد: هي التي تجعل في رقاب الهدي، وقد قلد النبي صلى الله عليه وسلم هديه، فجعل في رقبة كل بعير أو كل جمل أو كل ناقة قلادة يعرف بها أنها من الهدي، والله تعالى قد نهى عن التحلل حتى ينحر ذلك الهدي في قوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196] ، فلما كان معه هذا الهدي امتنع من التحلل، وبقي على إحرامه لسوقه للهدي، ولو لم يكن معه هذا الهدي لتحلل كما تحلل الذين ليس معهم هدي. ولا شك أن هذا من أقوى الأدلة في استحباب فسخ الحج إلى العمرة لمن قدم حاجاً مفرداً أو قارناً، ولكن يقول العلماء الذين قالوا بالفسخ: إن ذلك فيما إذا كان القادم قدم مبكراً، فإن له أن يجعل إحرامه بعمرة. فإذا قدم -مثلاً- في اليوم الخامس أو السادس من شهر ذي الحجة فعنده يومان أو ثلاثة أيام يتحلل فيهما. فإذا قدم وهو مفرد نقول له: الأفضل أن تتحلل بعمرة وتجعل إحرامك عمرة وتقلب نيتك إلى العمرة، فطف بالبيت، واسع بين الصفا والمروة، وقصر من شعرك، وتحلل، والبس ثيابك، وتحل لك امرأتك، ويحل لك الطيب، وتحل لك المحظورات كلها، وإذا كان في اليوم الثامن فأحرم بالحج كما يحرم المتمتعون. فإن قال: أنا أختار ما اختاره عمر للصحابة من البقاء على الإحرام قلنا له: لك ذلك، فلسنا ننتقد على عمر، ولكن نذكر الأفضل، فنقول: الأفضل ما اختاره النبي صلى الله عليه وسلم لصحابته.

خلاف الصحابة في التحلل من الحج

خلاف الصحابة في التحلل من الحج قد ثبت تحلل الصحابة عن نحو سبعة عشر صحابياً، كلهم رووا أنه صلى الله عليه وسلم أمر من لم يكن معه هدي أن يجعل إحرامه عمرة، وأن يفسخ ذلك الحج الذي أحرم به، وذهب إلى ذلك الإمام أحمد، وخالفه في ذلك الشافعية ونحوهم، واختاروا ما ذهب إليه عمر، من أنه لا يجوز التحلل، ولا يجوز فسخ الحج إلى عمرة، واستدلوا بالآية، وهي قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ} [البقرة:196] ، قالوا: لابد أن يكون الحج تاماً، فالذين ذهبوا إلى البقاء على الإحرام هم أبو بكر وعمر وعثمان، وكانوا يأمرون بالبقاء على الإحرام وينهون عن التحلل، وخالفهم في ذلك بعض الصحابة كـ ابن عباس رضي الله عنهما، فكان يلزم بالتحلل لمن أحرم مفرداً أو قارناً، يلزمه بأن يتحلل، وأن يجعل إحرامه بعمرة، فقيل له: إن أبا بكر وعمر ينهيان عن التمتع! فقال: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر!! يقول: إن اجتهاد أبي بكر وعمر يخصهما، وإنه نظر نظراهُ واجتهاد اجتهداه، ولكن سنة النبي صلى الله عليه وسلم أولى بأن تقدم. ولكن مع ذلك نقول: رأي أبي بكر وعمر وعثمان ذهب إليه مالك والشافعي ونحوهما، أن من أحرم لا يتحلل، ورأي ابن عباس ذهب إليه الإمام أحمد، وقال: إنه آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي تمناه، فذهب إليه هذا الإمام لقوة الأدلة ولكثرتها، ومع ذلك الكل على حق وعلى صواب، فالشافعية لا يبطلون إحرام من تمتع، ولا من فسخ الحج إلى عمرة، ولا يضللونه، وكذلك الحنابلة لا يضللون من بقي على إحرامه ولا يخطئونه، هذا هو القول المختار. لكن قد ذهب بعض العلماء إلى وجوب فسخ الحج إلى العمرة، ورجح ذلك ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد، واختار وجوب التحلل والإلزام به، واستدل بأنه صلى الله عليه وسلم لما أمر أصحابه أن يتحللوا قال له بعضهم: (أرأيت عمرتنا هذه ألعامنا هذا أم للأبد؟ فقال: بل للأبد) . ومما استدل به حديث عمران بن حصين الذي تقدم، فذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بالمتعة -يعني: متعة الحج-، وأن الله تعالى أمر بها في قوله: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196] ، فما دام أنها وردت في القرآن، وفعلها الصحابة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم فليس لأحد أن يعترض عليها، وذكر أن عمر رضي الله عنه إنما نهى عنها اجتهاداً اجتهده ورأياً رآه، وهذا معنى قوله: (قال رجل برأيه ما شاء) بعدما ذكر أنهم فعلوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينزل قرآن ينسخها، ولم ينه عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات، فبقيت من السنة، فلماذا نتركها ما دام أنه لم ينزل ما ينسخها، إنما عمر هو الذي نهى عنها لمجرد رأي رآه ولاجتهاد اجتهده. وعلى كل حال فإن أفضل الأنساك الذي نختاره -إذا لم يكن الإنسان ساق الهدي- أن يحرم متمتعاً بالعمرة إلى الحج، وأنه إذا أحرم مفرداً وقدم مبكراً أن الأفضل له التحلل، وأما إذا كان معه الهدي فإن عليه أن يحرم بالقران أو بالإفراد، ولا يتحلل حتى ينحر هديه كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وأن من قدم متأخراً في اليوم الثامن -مثلاً- أو مساء اليوم السابع فالأفضل له أن يبقى على إحرامه إذا كان مفرداً أو قارناً؛ إذ ليس هناك مدة يتمتع فيها، فما بقي إلا ساعات قليلة حتى يحرم الناس بالحج، فيبقى على إحرامه والحال هذه، وإذا اختار التحلل أو اختار إتمام العمرة فلا مانع من ذلك، والأمر فيه سعة.

شرح عمدة الأحكام [41]

شرح عمدة الأحكام [41] إن ما يهديه الإنسان من بهيمة الأنعام إلى بيت الله من الأعمال المشروعة المستحبة، وهو من تعظيم شعائر الله وحرماته، وهذا الهدي قد يكون مستحباً وقد يكون مستحباً وقد يكون واجباً، وله آداب وشروط يتعين على المكلف الذي يريد الهدي معرفتها حتى لا يقع في مخالفة الشرع أو تفسد عبادته.

الهدي وأحكامه

الهدي وأحكامه قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الهدي: (عن عائشة رضي الله عنها قالت: فتلت قلائد هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أشعرها وقلدها -أو قلدتها- ثم بعث بها إلى البيت، وأقام بالمدينة، فما حرم عليه شيء كان له حلالاً) . وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة غنماً) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن نبي الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسوق بدنة، فقال: اركبها، قال: إنها بدنة، قال: اركبها، فرأيته راكبها يساير النبي صلى الله عليه وسلم) ، وفي لفظ: (قال في الثانية أو الثالثة: اركبها، ويلك، أو ويحك) . وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه، وأن أتصدق بلحمها وجلودها وأجلتها، وأن لا أعطي الجزار منها شيئاً، وقال: نحن نعطيه من عندنا) . وعن زياد بن جبير قال: (رأيت ابن عمر قد أتى على رجل قد أناخ بدنته ينحرها، فقال: ابعثها قياماً مقيدة سنة محمد صلى الله عليه وسلم) ] . جعلوا باب الهدي تابعاً للحج؛ وذلك لأن الغالب أن الهدي يكون مع حج أو يكون مع عمرة، وإن كان يجوز أن يهدي بلا إحرام، أو يرسل هدياً وإن لم يذهب مع هديه.

تعريف الهدي ومشروعيته

تعريف الهدي ومشروعيته الهدي: هو ما يهديه الإنسان من بهيمة الأنعام إلى بيت الله تعالى ليذبح هناك ويتصدق بلحمه، ويوسع به على أهل مكة وعلى الوافدين إليها. وقد كان هذا مألوفاً قبل الإسلام، كان الرجل إذا توجه إلى مكة لحج أو لعمرة أو لزيارة عزل من إبله أو من غنمه قطعة واحدة أو جمعاً وقلدها وسار بها إلى أن يصل إلى مكة، ثم نحرها وخلى بين المساكين وبينها ليأكلوا من لحمها. وهكذا كان في الإسلام أيضاً، كان المسلمون كلما توجهوا إلى مكة اشتروا هدياً من بهيمة الأنعام من الإبل أو من البقر أو من الغنم وساروا بها حتى يصلوا إلى مكة، ثم إذا طافوا وسعوا وتحللوا نحروها وخلوا بين المسلمين المستحقين وبينها. ولا يتحللون إلا بعد أن نحرها، قال الله تعال: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196] أي: حتى يأتي الوقت الذي يذبح فيه الهدي ويحل فيه ذبحه، ففي الحج: يوم النحر، وفي العمرة إذا لم يكن زمن حج إذا طاف وسعى للعمرة وقصر أو حلق نحر بعد ذلك هديه، وقد ذكر الله أيضاً ما تتميز به هذه الهدايا في موضعين من سورة المائدة، ففي أولها قول الله تعالى: {لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ} [المائدة:2] ، وفي أواخرها قوله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ} [المائدة:97] ، فذكر مما جعله قياماً للناس الهدي والقلائد، ومعنى: (لا تحلوها) : لا تتعرضوا لها، فإذا رأيتم الهدي فلا تتعرضوا له بأذى حتى يصل إلى بيت الله الذي أهدي إليه، وإذا رأيتموه وفي رقابه قلائد فلا تأخذوا القلائد.

مشروعية تقليد الهدي وإشعاره

مشروعية تقليد الهدي وإشعاره وكان من علامة ما يهدونه أن يجعلوا في رقابه قلائد، يفتلون قلائد من ليف أو من صوف أو من شعر، ثم يجعلونها في رقاب الإبل أو في رقاب الغنم والبقر، فإذا رؤيت معلقة فيها قلادة عُرف أنها هدي فامتنع الناس من التعرض لها، فلا يركبونها، ولا يحلبونها إلا إذا بقي بعد ولدها لبن، ولا ينحرونها، ولا يعترضونها، ولا يسرقونها، ويحترمونها؛ لأن لها حرمة؛ لأنها مهداة إلى بيت الله تعالى، معظم بها حرمات الله عز وجل. هكذا كان الهدي، وأكثر ما كانوا يهدون البدن التي هي الإبل، يقول الله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج:36] ، فهذا هو الأصل في الهدي، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يهدي كثيراً، ففي غزوة الحديبية سنة ست لما توجه إلى مكة ومعه أصحابه ساق معه مائة بدنة أو سبعين بدنة، وللصحابة الذين معه غيرها، فوصلوا إلى الحديبية، ولكن لم يمكنهم المشركون من أن يصلوا إلى البيت فصدوهم عنه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (انحروها في مكانكم وتحللوا) ، ونزل في ذلك قوله تعالى: {هُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً} أي: مصدوداً (أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح:25] صدوكم وصدوا الهدي وصرفوه ومنعوه أن يبلغ محله. ولما كان في سنة سبع واعتمر عمرة القضية ساق معه هدياً فذبحه في مكة بعدما تحلل من عمرته، ولما حج أبو بكر رضي الله عنه سنة تسع أرسل معه النبي صلى الله عليه وسلم هدياً، وبقي في المدينة ولم يذهب، ولما حج سنة عشر ساق معه هدياً، ومجموع ما ساقه من المدينة وما جاء به علي من اليمن مائة بدنة، فهذا دليل على أنه كان دائماً يرسل الهدي أو يسوق الهدي معه، وعمل بذلك الصحابة من بعده، فكانوا كلما ساروا إلى مكة -غالباً- يسوقون معهم هدياً إلى البيت ويقلدونه ويشعرونه. أما تقليده فقد عرفنا أنهم يفتلون حبالاً من ليف أو من شعر ويجعلونها في رقابه، وقد يعلقون في رقاب الإبل أحذية، فإذا رأى إنسان هذا البعير أو هذا الجمل أو الناقة قد علق في رقبتها نعلان عرف أنها هدي فاحترمها ولم يتعرض لها، فالنعلان علامة على أنها هدي. وكذلك من علاماتها الإشعار، وهو أنهم يشقون أسنمة الإبل حتى يسيل الدم، ثم يأخذون صوفة منها فيبلونها في ذلك الدم حتى ينقلب لونها أحمر، ثم يربطونها في ذروة البعير، فإذا رؤيت والدم قد ظهر لونه على تلك الصوفة أو على ذلك الوبر الذي في ذروة سنامه عرف بأنها هدي فلم يتعرض لها، وهذا الإشعار خاص بالإبل؛ لأنها تتحمل، أما الغنم فإنها لا تشعر، وذلك لصغرها، وكذلك اختلف في البقر، هل تشعر أم لا؟ ولم ينقل الإشعار إلا في الإبل، فالظاهر أنه يقتصر عليها، هذا معنى الهدي.

شرح حديث: (فتلت قلائد هدي النبي صلى الله عليه وسلم بيدي)

شرح حديث: (فتلت قلائد هدي النبي صلى الله عليه وسلم بيدي) الحديث الأول فيه أن عائشة تقول: (فتلت قلائد هدي النبي صلى الله عليه وسلم بيدي -فتلت لكل بعير قلادة- فقلدها ثم بعث بها -وهذا كان في حجة أبي بكر - فبعث بها وأقام بالمدينة) ، بعث بها إلى مكة وأقام بالمدينة، ولم يحرم عليه شيء كان له حلالاً، وذلك لأن الإحرام إنما يلزم من ساقها وسار معها فإنه يحرم، ولا يحلق رأسه حتى ينحر هديه، وقد تقدم لنا ما يدل على ذلك. فـ عائشة أخبرت بأنها فتلت القلائد، فدل على سنية القلائد، وأخبرت بأنه قلدها أو هي قلدتها -قلد الهدي-، وأخبرت بأنه أرسلها -أي: مع أبي بكر -، وأنه أقام بالمدينة حلالاً ولم يحرم، فلم يحرم عليه أخذ الشعر ولا الطيب ولا نكاح زوجاته، فلم يحرم عليه شيء كان حلالاً، ولو كان ساقه وسار معه للزمه الإحرام، ولم يحلق ولم يحل من إحرامه حتى ينحر هديه، ودليل ذلك حديث حفصة الذي تقدم أنها قالت: (يا رسول الله! ما بال الناس حلوا من عمرتهم ولم تحل أنت من عمرتك؟ فقال: إني قلدت هديي ولبدت رأسي فلا أحل حتى أنحر) ، فبقي على إحرامه؛ لأنه منعه الهدي، فلم يحل حتى نحر يوم النحر.

شرح حديث: (أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة غنما)

شرح حديث: (أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة غنماً) الحديث الثاني: ذكرت فيه عائشة رضي الله عنها: (أنه أهدى مرة غنماً) ، وهذا دليل على أن الغنم تهدى، وذلك لأنها من بهيمة الأنعام، ولأن أكلها مألوف، فهي من جملة ما يوسع به إذا ذبح في المناسك وفي المشاعر، يوسع به ويأكله المستضعفون ونحوهم.

شرح حديث: (أنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة فقال: اركبها)

شرح حديث: (أنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسوق بدنة فقال: اركبها) الحديث الثالث: ذكر فيه أبو هريرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسوق بدنة فقال: اركبها) كأنه لم يكن معه إلا بدنة واحدة، وقد أشعرها وقد قلدها، ورأى أنه لا يتعرض لها؛ لأن الله تعالى نهى عن التعرض لها بقوله: {لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ} [المائدة:2] ، يعني: لا تستحلوه فرأى أنه قد أخرجها من ملكه فلا ينتفع منها بشيء، فصار يمشي خلفها راجلاً ليس معه ما يركبه، فأرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنه لا بأس بركوبها ولو كانت هدياً، فاعتذر وقال: إنها هدي، إنها بدنة، يعني: إنها من البدن التي قال الله تعالى فيها: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [الحج:36] ، فهي من شعائر الله، ولكن رخص له وقال: (اركبها، -حتى قال-: ويحك أو ويلك) فركبها ذلك الرجل وارتفق بها فكان يساير النبي صلى الله عليه وسلم -يسير محاذياً له- ولم ينكر عليه أحد، وهذا دليل على ركوبها عند الحاجة. والأصل أنه لا ينتفع منها بشيء كما ذكرنا قريباً، فركوبها فيه انتفاع، ولكن لما كان هذا الرجل مضطراً إليها، ولم يكن معه مركب يركبه رخص له في أن يركبها، وركوبها أيضاً لا يضرها، وذلك لأنه فرد واحد وليس معه أثاث يثقلها فركبها وارتفق بها، ولم ينقص ذلك من قيمتها ولا من صفتها، فيجوز ركوبها عند الحاجة، وأما عند الاستغناء فلا يجوز، وذكرنا أيضاً أنه لا يجوز أن يُحلب من لبنها شيء إذا كان لها ولد، بل يترك ولدها يشرب لبنها، إلا إذا زاد عن حاجته فلا بأس بذلك، ولا بأس بحلبها وشرب لبنها عند الحاجة.

شرح حديث: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه)

شرح حديث: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه) أما حديث علي رضي الله عنه فيقول فيه: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه، وأن أقسم جلودها وأجلتها على المساكين، وأن لا يعطي الجزار منها شيئاً وقال: نحن نعطيه من عندنا) ، وكان ذلك في حجة الوداع، حين صف صلى الله عليه وسلم البدن وأمر بأن تنحر، فدعا بسكين فجعل ينحر بيده حتى نحر بيده ثلاثاً وستين، ثم أعطى علياً فنحر ما بقي، ولما سقطت جنوبها احتاجت إلى من يسلخ جلودها وإلى من يقطع لحومها، فدعا جزارين يساعدون علياً، وأمر علياً أن يقوم عليها ويراقبها حتى تقسم، فأمره بأن يقوم عليها، فبدأ أولاً بسلخها وأخذ جلودها، وهي مما ينتفع به، فتصدق بها على المساكين الذين ينتفعون بها، وبعد ذلك لحومها قطعها وفرقها على المساكين أو أذن لهم فيها، وفي بعض الروايات أنه: (لما نحر عشراً وتساقطت قال: من شاء اقتطع) يعني: من أراد فليأت ويقتطع لنفسه ما أراد، أي: قدر حاجته، ولكن الحديث المشهور أنه أمر علياً أن يأتي بجزارين وأن يقطعوها ويعطوا هذا ويعطوا هذا، حتى قسمها كلها على المساكين. وكانوا أيضاً قد جعلوا على ظهورها أجلة -أكسية من صوف أو نحوها- تحميها عن الشمس، وتحميها عن النسور وعن الغربان ونحوها حتى لا تنقر ظهورها- وتلك الأجلة قد أخرجها لله، فأمره أن يتصدق بالأجلة أيضاً ولا يستعيدها، وكذلك أيضاً القلائد التي في رقابها يتصدق بها، وكل شيء اتصل بها أخرجه لله، فليس له أن يسترجع شيئاً منها، هكذا أخبر في هذا الحديث: (أن أقوم على بدنه) -يعني: أراقبها- (وأن أتصدق بلحمها على المساكين) ، وجلودها عليهم، وأجلتها على من يحتاج إليها ومن ينتفع بها، وأما الجزارون فلم يعطهم من لحمها على أنه أجرة لهم، وذلك لأن تقسيمها، وكذلك تقطيعها من تمام تمكين المساكين منها، والجزار أجرته على صاحبها، فقال صلى الله عليه وسلم: (نحن نعطيه من عندنا) لا نعطيه أجرته لحماً، أما إذا كان فقيراً فإنه يأخذ من لحمها صدقة مع سائر المستحقين. وهكذا يقال أيضاً في الأضحية، فمن ذبح لك أضحية فلا تعطيه أجرته منها، بل أعطه أجرته من غيرها، وإذا كان مستضعفاً فأعطه من لحمها كسائر المستضعفين، هذا حكم الأضاحي. وفي ذلك الوقت كان اللحم له قيمته، أعني لحم الإبل ولحم البقر ولحم الغنم، كان المساكين والحجاج كثيرون، وكان الذين ساقوا هدياً قلة، فالذين معهم هدي قليل والأكثرون ضعفاء لم يكن معهم ما يحملهم، أي: ركائبهم التي تحملهم. فلذلك كان فيهم ضعف وحاجة إلى اللحم، فلما ذبحت هذه اللحوم اقتسموها وأكلوها، ولم يبق منها شيء في يومها يوم العيد، وانتهت تلك المائة من الإبل التي أهداها النبي صلى الله عليه وسلم، وقسم غيرها أيضاً مما أهداه غيره، ومع ذلك لم يبق منها شيء، ولم يفسد منها شيء. أما في هذه الأزمنة فإنه لكثرة اللحوم فقد لا يقال باستحباب الهدي ما دام أن اللحوم في هذه الأزمنة لا ينتفع بأكثرها؛ إذ أنه غالباً يبقى كثير منها في بيوت الجزارة وتدفن -مثلاً-، أو تحرق، أو تترك حتى تنتن، أو يؤخذ منها شيء قليل والبقية تفسد؛ لأجل ذلك لم ير العلماء استحباب ذبح الهدايا أو استحباب الإهداء، واقتصروا على فدية التمتع وفدية القران ونحوها، فالإنسان إذا حج متمتعاً فليس عليه إلا فدية وهي شاة أو سبع بدنة أو سبع بقرة، وأما كونه يهدي مائة من الإبل، أو يهدي عشراً من الإبل يذبحها فمن الذي ينتفع بها؟ قلّ أن يؤكل منها شيء؛ خاصة لحوم الإبل، وكذا لحوم البقر، وكذلك يقال في الغنم وإن كان في الغنم قد يوجد من يأكلها، وأما الفدية التي هي فدية التمتع والقران فهذه لازمة لكل من كان عنده فدية وعنده قدرة على ذبحها، ومن لم يجد فعليه الصيام كما ذكر الله تعالى، وعلى كل حال فهذه هي سنية الهدي، أنه تسن إذا كان ينتفع به، ولا تسن إذا لم يكن ينتفع به، فلو جاء زمان واحتيج فيه إلى اللحوم وقلّت فيه الهدايا وصار أكثر الحجاج لا يهدون ويقتصرون على الصيام مثلاً، أو يحرمون مفردين دون أن يتمتعوا وقلت اللحوم فحينئذٍ يعود الأمر إلى حالته وتشرع كثرة الهدايا لمن كان عنده فدية حتى توزع وتعم المسلمين في ذلك المكان، وحتى يتمكنوا من الأكل في تلك الأيام التي هي أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل.

شرح حديث: (ابعثها قياما مقيدة سنة محمد صلى الله عليه وسلم)

شرح حديث: (ابعثها قياماً مقيدة سنة محمد صلى الله عليه وسلم) أما حديث ابن عمر ففيه كيفية ذبح الهدي، فقد رأى رجلاً قد أناخ بدنته ينحرها وهي باركة، فأمره بأن يقيمها وأن يعقلها وأن ينحرها وهي قائمة، وقال: (ابعثها قياماً مقيدة سنة محمد صلى الله عليه وسلم) ، فالنبي صلى الله عليه وسلم عرضت عليه البدن وهي كلها قائمة، ولكن قد مسكت رءوسها بحبال، وكذلك عقلت إحدى قوائمها، وقامت على ثلاث فنحرها حتى سقطت، ذكر الله ذلك بقوله: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} صفها صفوفاً، اذكروا اسم الله عليها صواف {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} إذا سقطت جنوبها بعدما تنحر {فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج:36] ، فدل على أن السنة والأفضل في الإبل أنها تنحر وهي قائمة معقولة إحدى يديها، وأنها بعدما تنحر تسقط على جنبها، ثم بعد ذلك يكمل ذبحها ويكمل سلخها وينتفع بها، أما البقر والغنم فإنها توضع على جنبها الأيسر وتوجه إلى القبلة وتذبح في أصل الرءوس، بخلاف الإبل فإنها تنحر في أصل الرقبة. هذه كيفية الهدي وهذه سنته وسبب شرعيته. قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن عروة بن الزبير قال: (سئل أسامة بن زيد وأنا جالس: كيف كان رسول صلى الله عليه وسلم يسير حين دفع؟ قال: يسير العنق، فإذا وجد فجوة نصَّ) ، العنق: انبساط السير، والنص: فوق ذلك. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع فجعلوا يسألونه، فقال رجل: لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح؟ قال: اذبح ولا حرج، وجاء آخر فقال: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي؟ قال: ارم ولا حرج. فما سئل يومئذٍ عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: افعل ولا حرج) . وعن عبد الرحمن بن يزيد النخعي: (أنه حج مع ابن مسعود فرآه يرمي الجمرة الكبرى بسبع حصيات، فجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه، ثم قال: هذا مقام الذي نزلت عليه سورة البقرة صلى الله عليه وسلم) . وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: اللهم! ارحم المحلقين قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: اللهم! ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: والمقصرين) ] .

شرح حديث: (كان يسير العنق، فإذا وجد فجوة نص)

شرح حديث: (كان يسير العنق، فإذا وجد فجوة نص) الحديث الأول يتعلق بصفة سير النبي صلى الله عليه وسلم من عرفة إلى مزدلفة، ذكر أنه كان يسير العنق فإذا وجد فجوة نص، وفسر العنق بأنه انبساط السير والنص فوق ذلك. وقف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة على ناقته التي تسمى القصوى من حين صلى الظهر والناس معه وقوف على رواحلهم وطال بهم الوقوف ولم يزالوا واقفين على إبلهم، وبعضهم لم يكن معه ما يركبه فوقف على قدميه أو جلس كلهم يذكرون الله ويدعونه في يوم عرفة، ولم يزلوا كذلك حتى غربت الشمس، وقفوا ما لا يقل عن ست ساعات وهم على هذه الحال، ولا شك أن الإبل قد تعبت وكذلك الواقفون عليها قد تعبوا، فلما انصرفوا متوجهين إلى مزدلفة علموا أنهم إذا وصلوا إليها أناخوا رواحلهم وباتوا بها، فكان كثير منهم يسرع في سيره، وكانوا يزدحمون في الأماكن الضيقة، فعندما يأتون إلى أماكن ضيقة يزدحمون لكثرتهم، فكان يشير إليهم بقوله: (يا أيها الناس! السكينة، السكينة) ، أي: سيروا على تؤدة وتأنٍ ولا تعجلوا ولا تسرعوا السير فتشقوا على أنفسكم ويضيق بعضكم على بعض. أما النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان ينبسط في سيره، ذكر الراوي أنه كان قد قبض زمام ناقته، الذي تقاد به -وهو الحبل الذي يسمى (الخطام) الذي يربط في رأسها- فكان قد قبضه حتى إن رأسها ليصيب مورك الرحل، أي: موضع قدميه أو ساقيه من شدة قبضه لها حتى لا تسرع؛ لأنها إذا أسرع الذين أمامها وخلفها تسرع عادة، وهم يسرعون لما انصرفوا، ولكن حثهم على أنهم لا يسرعون، وأن ينبسطوا في السير. والعنق: هو لوي عنق الناقة، كأنه التوى عنقها حتى صار كأنه حلقة، فرأسها يصيب ظهرها مما يلي طرف عنقها، هذا معنى (يسير العنق) ، وإذا أتى على كثيب من الكثب وحبل من الحبال الرملية أرخى لها قليلاً حتى تصعد، وهكذا إذا وجد فجوة -أي: متسعاً- أرخى لها فأسرعت، وهذا معنى قوله: (إذا وجد فجوة نص) ، هكذا سار وهكذا ساروا حتى وصلوا إلى مزدلفة، قطعوا تلك المسافة في نحو ساعتين من موقفهم من عرفة الذي عند جبل الرحمة إلى أن وصلوا إلى المشعر الحرام الذي يقال له: (قزح) ، فوصلوا في نحو ساعتين أو ساعتين ونصف؛ لأنهم يسيرون بتأن وبعضهم يسرع، فيمكن أن بعضهم يصل في ساعة ونصف أو في ساعتين. والحاصل أنهم عند ما وصلوا بدءوا بصلاة العشاءين، ذكر في بعض الأحاديث أنه في أثناء الطريق مال إلى شعب من الشعاب ونزل وبال، ثم توضأ وضوءاً خفيفاً، ولما وصل إلى مزدلفة توضأ وأسبغ الوضوء وصلى، واضطجع بعد ذلك حتى أصبح. ولما أصبح ودعا الله تعالى حتى أسفر جداً، وقبل أن تطلع الشمس توجه إلى منى، ولما أتى منى رمى الجمرة الأولى، ثم نحر بعدما رمى، فبدأ بالرمي، ثم بعده بالنحر -نحر الهدي-، ثم بعده بحلق رأسه، ثم أفاض إلى مكة، والصحابة لم يكونوا كلهم يشاهدون أفعاله، بل منهم من سبقه ومنهم من تأخر عنه، فلأجل ذلك اختلفوا، فبعضهم بدأ بالنحر، فنحر هديه أو فديته قبل أن يرمي، وبعضهم لما رمى بدأ بالحلق قبل أن ينحر، اجتهاداً منهم، فلم يرتبوا كما رتب النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان في أثناء الضحى بعدما نحر وبعدما حلق وقف للناس على بعيره، فتوافد عليه الناس يسألونه أسئلة كثيرة. فذكر بعضهم: (أنه قدم النحر قبل الرمي، مع أن الرمي سنة منى، فقال: ارم ولا حرج، -أنت الآن قد نحرت قبل أن ترمي، اذهب فارم ولا حرج عليك-، وجاءه آخر وقال: لم أشعر فحلقت قبل أن أنحر، قدمت الحلق قبل النحر، خلاف ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم لكونه نحر قبل أن يحلق، فقال: وانحر ولا حرج) ، وسئل عن مسائل كثيرة وكلها يقول فيها: لا حرج لا حرج. فأفادنا هذا بأن أعمال يوم النحر أربعة، وأنه لا يلزم فيها الترتيب، فمن قدم فيها أو أخر فلا إثم عليه، إذا قدم الذبح قبل أن يرمي فلا حرج، وعليه أن يرمي ويكمل بقية الأعمال، وكذلك لو لم يتيسر له الذبح من ذلك اليوم، فنحر في اليوم الثاني أو في اليوم الثالث بعدما يتحلل فلا حرج عليه، يبدأ بالرمي، ثم يحلق، ثم يتحلل التحلل الأول، وكذلك لو طاف فلا حرج، لو قدم الطواف أيضاً قبل النحر فلا حرج، وكذلك لو أخر الرمي فحلق ونحر وطاف ولم يرم إلا في آخر النهار فلا حرج عليه أيضاً في ذلك، وكل ذلك من باب التوسعة، وذلك لأن المطلوب الإتيان بهذه الأعمال وقد أتى بها كما أمر، فما دام أنها قد حصلت فلا إثم عليه في تقديم أو تأخير. وفي بعض الروايات أن رجلاً قال له: (رميت بعدما أمسيت، فقال: لا حرج) ، والمراد بالمساء آخر النهار؛ لأنه صلى الله عليه وسلم رمى في الضحى وأكثر الصحابة رموا جمرة العقبة في يوم العيد في الضحى، وهذا لم يرمها إلا بعد الزوال في آخر النهار، وآخر النهار يسمى مساء، فقال: (رميت بعدما أمسيت فقال: لا حرج) ، وفي بعض الروايات: (أن رجلاً قال له: سعيت قبل أن أطوف) قدم السعي، مع أن المشروع لمن دخل البيت أن يقدم الطواف؛ لأن الطواف تحية البيت، وهذا قدم السعي، (فقال: لا حرج) ، ولكن هذه الرواية لم تكن مشهورة، فليست في الصحيحين وإن كان سندها قوياً، وأكثر العلماء يخصونها بالجهل، أن من سعى جاهلاً قبل الطواف أجزأه سعيه، فلا يعيد السعي بعد الطواف، وأما المعتمد فلا؛ لأن فيه أنه لم يشعر، فدل هذا على أنه لم يكن شاعراً بالحكم. ورمي الجمرة معلوم أنه في يوم العيد في النهار كله من طلوع الشمس إلى غروبها؛ لحديث ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام قال له: (أي بني! لا ترم الجمرة حتى تطلع الشمس) .

موضع رمي الجمرات

موضع رمي الجمرات كذلك موضع الرمي وموقفه إذا أراد أن يرمي دل عليه حديث ابن مسعود، فلما أراد أن يرمي جمرة العقبة قابلها، واستقبل جهة الشمال وجعل مكة أو البيت عن يساره ومنى عن يمينه، وقال: (هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة) يعني النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت جمرة العقبة في أصل جبل صغير مبنية في أصله، ولا يتمكن أحد أن يرميها إلا من الجانب الجنوبي أو من الغربي قليلاً والشرقي، أما الجانب الشمالي فإنه مرتفع رأس جبل عقبة، فلذلك سميت جمرة العقبة، وقد أزيلت تلك العقبة في عهد الملك سعود في سنة خمس وسبعين من القرن الرابع عشر بعد أن أفتى بذلك المشايخ في ذلك الوقت، ورأوا أنها في الطريق -متوسطة في الطريق-، فأزالوها لتوسعة الطريق، وبقيت الجمرة بارزة كما هي الآن، ويمكن أن ترمى من الجهات كلها، لكن لما لم يكن في الجهة الشمالية حوض لم يُجوز الرمي منه؛ لأنه في الأصل ما كانت ترمى من الجهة الشمالية؛ لأنها في أصل جبل كما ذكرنا، فلذلك نقول: لا يجوز رميها إلا في الحوض، أو في الجهات التي فيها حوض، من الجهات الغربية جانب الحوض، وكذا الشرقية جانب الحوض، والجنوبية وسط الحوض، وهذا هو الأفضل، أن يجعل مكة عن يساره ومنى عن يمينه ويتوسط الحوض. وفي هذه الأزمنة قد بني فوقها سطح وجعل فيه أيضاً مرمى، فترمى من الأعلى وترمى من الأرض، فالذي يرميها من فوق يرميها من كل الجهات، وذلك لأن الحصيات تسقط في الحوض ولابد، فقد رفع الشاخص إلى أن برز للرامين، فيرمونه وتسقط الحصيات في الحوض، والمطلوب أن كل حصاة إما أن تصيب الشاخص وإما أن تصيب الحوض وتقع فيه ولو تدحرجت وسقطت على الأرض، ولو ضربت الشاخص مثلاً وقفزت وسقطت على الأرض اكتفي بذلك، ولا نطيل في الكلام على هذه الجمرات ونحوها. فهذه الأحاديث تتعلق بشيءً من صفات الحج ومن أعمال الحجاج، ومعلوم أن صفة الحج مأخوذة من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ومن سنته، وأنه هو الذي بين للأمة هذه المناسك، وقال: (خذوا عني مناسككم؛ فلعلي لا ألقاكم بعدها أبدا) ، وأنه صلى الله عليه وسلم بين للناس كيف يرمون الجمرات في أيام الجمرات، وكذلك في أوقاتها، وبين بأفعاله وبأقواله جميع المناسك، فأصبحت واضحة المعالم والحمد لله. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

شرح عمدة الأحكام [42]

شرح عمدة الأحكام [42] شرع الله الطواف بالبيت وجعله عبادة يتقرب بها إليه كالصلاة، حتى يشترط له ما يشترط للصلاة، وهو آخر ما يكون من الحاج إذا غادر الأماكن المقدسة، ومن مناسك الحج المبيت بمنى ليالي التشريق وما يتبع ذلك من الأعمال.

شرح حديث: (حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فحاضت صفية)

شرح حديث: (حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فحاضت صفية) قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن عائشة رضي الله عنها قالت: (حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فأفضنا يوم النحر فحاضت صفية، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم منها ما يريد الرجل من أهله، فقلت: يا رسول الله! إنها حائض. قال: أحابستنا هي؟ قالوا: يا رسول الله! إنها قد أفاضت يوم النحر، قال: اخرجوا) ، وفي لفظ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عقرى حلقى، أطافت يوم النحر؟ قيل: نعم. قال: فانفرى) . وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (أُمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض) . وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (استأذن العباس بن عبد المطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته فأذن له) . وعنه قال: (جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء بجمع، كل واحدة منهما بإقامة، ولم يسبح بينهما، ولا على إثر واحدة منهما) ] . هذه أحاديث تتعلق ببعض أحكام الحج. فالحديث الأول حديث عائشة، ذكرت أنهم حجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع سنة عشر، ولم تذكر في هذا الحديث تفاصيله؛ لأنها ذكرته في حديث آخر. ولما كان يوم النحر -وكانت قد طهرت من حيضها يوم عرفة وتطهرت- أفاضوا يوم النحر إلى مكة للطواف، أي: طواف الإفاضة، وكل أزواجه صلى الله عليه وسلم كن معه وهن تسع، كلهن طفن في ذلك اليوم، ولما كان في يوم المحصب وهو اليوم الرابع عشر الذي عزم فيه على السفر، ففي تلك الليلة أمرهم بأن يوادعوا، وكان من جملتهم صفية إحدى زوجاته صلى الله عليه وسلم، فأراد منها ما يريد الرجل من أهله، أن يقضي وطره أو يطأها، ولكن ذكروا له أنها حائض، ولم تكن طافت طواف الوداع، ولم يكونوا قد طافوا طواف الوداع، فخاف أن تحبسهم، فينتظرونها إلى أن تطهر مدة ستة أيام أو سبعة، ولكن لما أخبروه بأنها قد أفاضت -أي: طافت طواف الإفاضة- سمح لها ولهم بالخروج وأسقط عنها طواف الوداع.

شرح حديث: (أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت)

شرح حديث: (أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت) وكذلك الحديث الذي بعده حديث ابن عباس، يقول: (أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض) ، ففي هذين الحديثين شرعية طواف الوداع.

حكم طواف الوداع

حكم طواف الوداع ذهب جمهور العلماء إلى أنه واجب من الواجبات، وأنه يجب على كل حاج أن لا يخرج من البيت -من مكة- حتى يكون آخر عهده بالبيت بأن يطوف سبعة أشواط، ثم يرحل بعده، وسمي وداعاً لأنه يودع به مكة، ويودع مشاعر الحرم، يودع به تلك الشعائر وتلك الأماكن، وذلك لأن مكة إنما شرفت بالبيت، وإنما كانت لها ميزة بهذا البيت أنه موجود فيها وواقع فيها. والعبادة التي يتعبد بها في البيت هي الطواف الذي هو عبادة من العبادات ولا يتم الحج إلا به، لقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29] ، فالطواف به عبادة خاصة لا تصح الأنساك إلا به، ولا يصح الحج والعمرة إلا بالطواف، ولا يطاف بشيء إلا بهذا البيت العتيق، فهذا الطواف هو عبادة الله تعالى بالاستدارة حول هذا البيت، هو أول ما يبدأ به وهو آخر ما يعمله فأول ما يبدأ به طواف القدوم، ويسمى تحية مكة أو تحية البيت، فحينما يقدم يكون أول شيء يعمله أن يطوف بهذا البيت، فإن كان متمتعاً فطوافه للعمرة، وإن كان مفرداً أو قارناً فللقدوم، فأول شيء يبدأ به هذا البيت أن يطوف، وآخر شيء يعمله أن يطوف، أن يودع مكة بطواف. ولما كان الحاج يغيب عن مكة مدة طويلة كان الطواف بالبيت أفضل الأعمال التي يتقرب بها، أي: أنه جاء إلى مكة بعد غيبة سنوات، وربما لا يرجع إليها، أو لا يأتي إليها إلا مرة واحدة في عمره بالنسبة لمن كان في السنوات الماضية أو القرون الماضية، وكذلك بالنسبة لأهل البلاد البعيدة الذين لا يتيسر لأحدهم أن يأتي إلا مرة واحدة، فلأجل ذلك كانت همتهم أن يكثروا من الطواف إذا تيسر لهم، وذلك لأن الطواف عبادة من العبادات وقربة من القربات، ولا يتيسر لهم في كل حين، فإذا قدموا إلى مكة اهتموا به وكان عليهم أن يستكثروا منه وأن يكرروا الطواف ليلاً ونهاراً، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم الحجبة بأن لا يردوا عنه أحداً، فقال عليه الصلاة والسلام: (يا بني عبد مناف! لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار) ، فمنعهم أن يغلقوا أبواب الحرم وأن يمنعوا الناس من الطواف في أية ساعة ولو نصف الليل أو آخر الليل أو نصف النهار أو ما أشبهه، ولما كان هذا الطواف قربة من القربات ابتدئ به في أول النسك وختم به في آخر النسك. يقولون: إنه يكون آخر أعمال الحاج (أمر الناس -يعني الحجاج- أن يكون آخر عهدهم بالبيت) يعني: أن يطوفوا بالبيت، فلا يعملوا عملاً بعده، بل يجعلوه آخر الأعمال. يقول العلماء: إذا أقام بعده إقامة طويلة أعاده أو اتجر بعده فاشترى شيئاً للتجارة، أو باع واشترى لأجل الربح فإن عمله يعتبر إقامة، فيعيد طواف الوداع ليكون آخر عمله هو طواف الوداع. والإقامة التي يعيد الطواف لأجلها حددت بأنه إذا أقام يوماً أو أغلب اليوم، فلو طاف للوداع مثلاً في آخر الليل ولم يخرج إلا في أول الليل أمر بأن يعيد، ولو طاف للوداع أول الليل بعد غروب الشمس ولم يخرج إلا بعدما أصبح أمر بأن يعيد، أن يوادع مرة ثانية، أما إذا أخره بعضاً من نهار لشغل أو لاجتماع أو ما أشبه ذلك فإنه لا يعيده، فلو طاف -مثلاً- في الصباح بعدما طلعت الشمس، ولكن لم يتيسر له الخروج إلا في آخر النهار فإنه لا تلزمه الإعادة، وذلك لأنه عمله في ذلك الوقت ولم يعمل عملاً بعده، وكذلك لو طاف أول الليل وخرج آخر الليل لم يلزمه أن يعيده، أما إذا عمل عملاً بعده من أعمال المناسك فلابد أن يعيده، ونسمع أن كثيراًَ من الحجاج يتعجلون في اليوم الثاني عشر، فيذهب في الضحى في الساعة العاشرة أو الحادية عشر ويوادع، ثم يرجع ويرمي الجمرات في الساعة الثانية عشر أو الواحدة، ثم يسافر. نقول: هذا ما كان آخر عهده بالبيت، بل كان آخر عهده بالجمرات، فلا يجزئه هذا الطواف، فإذا خرج -والحال هذه- فقد ترك نسكاً وهو طواف الوداع الذي يكون آخر العهد، فيكون عليه دم جبران، نقول له -والحال هذه-: عليك أن ترمي الجمرات بعد الزوال، وبعد ذلك تذهب إلى مكة وتطوف وتسافر، ولو كان هناك ازدحام فعليك أن تصبر على الزحام، أو تنتظر إلى أن يخف الزحام ولا يفوتك شيء. فكونهم يتعجلون ويودعون قبل أن يرموا الجمار ويجعلون الجمرات آخر العهد هذا مخالفة للسنة، وهذا بالنسبة إلى الحج.

حكم طواف الوداع للمعتمر

حكم طواف الوداع للمعتمر أما بالنسبة للعمرة فهل لها طواف وداع؟ قد اختلف العلماء في ذلك، فعند كثير منهم كالمالكية ونحوهم أنه يودع للعمرة كما يودع للحج، وذلك لأنها أحد النسكين، ولأن المعتمر جاء وافداً من بلاد بعيدة، جاء وافداً إلى مكة ثم رجع، فأول ما يقدم يبدأ بطواف العمرة ويكفيه عن طواف القدوم، ثم يقيم يوماً أو أياماً أو نحو ذلك، فيكون -والحال هذه- كالذي يذهب ويترك مكة، فيكون عليه وداع كما على الحاج وداع، فالحاج بدأ بالطواف وختم به، فكذلك المعتمر بدأ بالطواف فيختم به، فهذا هو الأحوط، أنه يودع للعمرة كما يودع للحج، وهذا إذا أقام في مكة أكثر من يوم، أما إذا قدم مكة في الضحى -مثلاً- وطاف في ضحاه ثم خرج في ذلك اليوم كفاه طوافه للعمرة عن طوافه للوداع، وذلك لأنه لم يقم إقامة طويلة. وهناك قول آخر أن العمرة لا يلزم لها وداع، وهذا الذي ذكر في كتب الفقهاء -فقهاء الحنابلة ونحوهم- أن العمرة لا يلزم لها طواف وداع، ولم يذكروه في شروطها، وقالوا: إنه صلى الله عليه وسلم ما أمر بطواف الوداع إلا في الحج، ولم يأمر به في العمرة، فقد اعتمروا عمرة القضية ولم يأمرهم بهذا الطواف. ولكن على كل حال حتى ولو كان هذا القول معمولاً به نقول: الأحوط للمسلم أن لا يخرج وهو يقدر إلا بعدما يطوف، فإن شق عليه أو زُحم أو انشغل وخرج بدون وداع لم نلزمه بأن يفدي كما يفدي لطواف الوداع في الحج. ثم طواف الوداع لمن يريد أن يخرج، أما من لا يريد الخروج -كأهل مكة- فلا وداع عليهم، وذلك لأنهم لم يخرجوا، وكذلك لو خرج إنسان إلى جدة ثم رجع ووادع فلا حرج عليه، فلا يلزمه أن يوادع إذا أراد أن يخرج إلى جدة أو الطائف، ثم يرجع من يومه، وذلك لقصر المدة يوماً أو نصف يوم أو ما أشبه ذلك.

العودة إلى مكة لأداء طواف الوداع بعد السفر

العودة إلى مكة لأداء طواف الوداع بعد السفر كذلك في أيام الموسم، فلو أن أهل جدة شق عليهم الزحام في اليوم الثاني عشر والثالث عشر وذهبوا إلى جدة وأقاموا عند أهلهم يوماً أو يومين أو ثلاثة أيام ولم يودعوا، ثم رجعوا وودعوا كفاهم ذلك، وذلك لأنهم حصل منهم طواف الوداع، والفقهاء قالوا: لا يرجع الذي ذهب مسافة قصر، وذلك لمشقة الرجوع في ذلك الوقت؛ لأن مسافة القصر مسيرة يومين، يقولون: لو أنه سار مسيرة يومين، ثم تذكر أنه يلزمه الوداع مع المشقة حين يرجع يومين أيضاً، فيفوته الركب فيسبقه الركبان فلأجل ذلك لا حاجة إلى أن يرجع، ولكن يلتزم دم جبران. وعلى كل حال إذا لم يكن عليه مشقة في الرجوع يرجع، حتى ولو من الرياض، وفي هذه الأزمنة ليس عليه مشقة في تيسر الوصول ولقرب المسافات ولتيسر المواصلات السريعة، فلا مشقة عليه، ولو رجع من الرياض وطاف للوداع سقط عنه دم الجبران.

شرح حديث: (استأذن العباس أن يبيت بمكة)

شرح حديث: (استأذن العباس أن يبيت بمكة) هذا الحديث يتعلق بترك المبيت بمنى أيام منى للعذر، ومن الأعذار سقاية الحاج، في هذا الحديث أن العباس استأذن النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته فأذن له. وسقاية الحاج كان يقوم بها العباس رضي الله عنه هو وخدم معه ومماليك له، كانوا يسقون من زمزم، يجتذبون الماء ويصبونه في حياض حتى يشرب الحجاج الذين يأتون إلى مكة للطواف؛ لأنه لا يخلو البيت من طائفين، فبعض الحجاج يأتون -مثلاً- بعد المغرب، وبعضهم يأتون بعد العشاء ثم يرجعون، وبعضهم يأتون نصف الليل، وبعضهم يأتون في آخر الليل، وبعضهم يأتون في صلاة الفجر، وبعضهم بعد طلوع الشمس، وبعضهم في الضحى فلا يخلو المكان من أناس يأتون إلى مكة ليطوفوا، وإذا جاؤوا احتاجوا إلى شراب، والشراب في ذلك الوقت هو من زمزم، وزمزم عميقة بعيدة القعر، ولا يحصل إخراج الماء إلا بالدلاء، ولابد من اجتذابه بالدلاء ويصب في حياض، وعندهم كيزان يشربون بها ويسقون بها الحجاج، فاحتاج العباس إلى أن يكون معهم ولو ترك المبيت، فرخص له ولخدمه ولأولاده الذين يساعدونه أن يبيتوا بمكة وسقط عنهم المبيت بمنى، والمبيت بمنى في ليلة الحادي عشر وليلة الثاني عشر واجب من الواجبات لا يسقط إلا لأهل الأعذار كأهل السقاية وأهل الرعاية، فرخص لأهل السقاية أن يتركوا المبيت بمنى، ورخص للرعاة أن يتركوا المبيت، حيث إنهم يذهبون مع الإبل، أي: الركائب التي هي رواحل الحجاج، كانوا في ذلك الوقت يأتون على الإبل الرواحل ويحتاجون إلى من يرعاها، ولا يجدون لها علفاً فيما قرب من مكة، فتحتاج إلى من يذهب بها إلى أماكن الرعي، فيذهب بكل عشر من الإبل أو عشرين أو أربعين راع، وعند الأربعين أو الخمسين الأخرى راع آخر، فهؤلاء الرعاة يشق عليهم أن يأتوا كل يوم للمبيت، فلأجل ذلك رخص لهم في ترك المبيت بمنى، ورخص لهم أيضاً في تأخير الرمي -رمي الجمار-، فكانوا لا يرمون اليوم الأول الذي هو يوم العيد، ثم يؤخرون رمي الحادي عشر، وإذا جاء صباح اليوم الثاني عشر جاؤوا وإذا زالت الشمس رموا عن اليوم الحادي، ثم رموا عن اليوم الثاني عشر، ثم ارتحلوا إذا كانوا يريدون التعجل، فهؤلاء هم الذين يسقط عنهم المبيت: السقاة والرعاة، وأما غيرهم فلابد أن يبيتوا بمنى أو ما اتصل بمنى، ولا يسقط عنهم هذا المبيت، وذلك لأنه نسك من الأنساك، أي: إقامة الحاج بمنى في أيام منى يوم العيد ويومان بعده أو ثلاثة، فهو نسك من الأنساك، فلابد أن يقيموا فيها ويعملوا فيها الأعمال التي أمروا بها، فمن كان له عذر كعذر السقاة والرعاة وكالمريض الذي يرقد في أحد المستشفيات الداخلية يسقط عنه المبيت لأجل العذر، وكذلك من له شغل شاغل أو ضروري، كالمرافق للمريض ونحوه فإنه يسقط عنه، فأما من تركه بدون عذر فإنه يجبره بدم.

خطأ يرتكبه كثير من الحجاج في هذه الأزمنة

خطأ يرتكبه كثير من الحجاج في هذه الأزمنة وكثير من الحجاج في هذه الأزمنة سواء من أهل مكة أو من غيرهم ينزلون في داخل مكة، يستأجر أحدهم شقة أو بيتاً ويقيم فيه، ويأتي إلى منى أول الليل فيقيم فيها، أو آخر الليل فيقيم أو ينام -مثلاً- على الرصيف ثلاث ساعات أو ساعتين، ثم بعد ذلك يرجع إلى مكانه ويقيم فيه ليله كله ونهاره كله، ويترفه بما يترفه به المقيمون، فمثل هؤلاء أخطئوا، وذلك لأنهم تركوا الشيء الذي فعل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، وهو ملازمة منى؛ فإن تلك الأيام تسمى أيام منى، ولابد للحجاج أن يبقوا فيها ولا يتحولوا عنها إلا لعذر، فكونك -مثلاً- تنزل في داخل مكة في العزيزية أو في الششة أو في الروضة أو في غيرها، ولا تأتي إلا ساعتين من الليل أو ثلاث ساعات ثم ترجع فما أعطيت منى حقها.

شرح حديث: (جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء بجمع)

شرح حديث: (جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء بجمع) هذا الحديث يتعلق بالجمع بين الصلاتين في ليلة جمع، وليلة جمع هي ليلة مزدلفة، فمزدلفة تسمى (جمعاً) ، فإذا قيل: أفاضوا إلى جمع. باتوا في جمع. ليلة جمع فالمراد بجمع (المزدلفة) ، فالنبي صلى الله عليه سلم لما انصرف من عرفة بعدما غربت الشمس توجه إلى مزدلفة، وكان يسير العنق فإذا وجد فجوة نصَّ، وكان يمسك زمام دابته، فإذا أتى حبلاً من الحبال الرملية أرخى لها حتى تصعد، وكان يقول لأصحابه: السكينة السكينة. أي: أن يسيروا تؤدة. والطريق بين الموقف الذي هو جبل الرحمة وبين المشعر الحرام يستغرق فيه أكثر من ساعتين، فلم يصلوا إلا بعد ساعتين ونصف مع أنهم أيضاً يسرعون، ولما وصلوا بادروا بإقامة الصلاة، فأول شيء بدؤوا به صلاة المغرب والعشاء؛ لأنهم أخروا المغرب ولم يصلوه حتى وصلوا إلى مزدلفة، فبدؤوا بإقامة الصلاة قبل حط الرحال. فبدؤوا بالصلاة، صلوا المغرب ثلاثاً والعشاء ركعتين، جمعوا بين الصلاتين جمع تأخير وقصروا العشاء الرباعية، ولم يصل النبي صلى الله عليه وسلم ولا صحابته بينهما نافلة، ولم يتنفل بعدهما، وإنما اقتصر على الفريضة، وذلك لأنه مسافر، والسفر مظنة المشقة، وقد شق عليهم، وذلك لأنهم من نصف النهار من حين صلوا الظهر وهم وقوف على رواحلهم، أي: أكثر من ثمان ساعات، ففي هذه الأزمنة من نحو الساعة السادسة بالتوقيت العربي أو الساعة الثانية عشرة إلى الساعة الثامنة ليلاً أو نحو ذلك، فهذه المدة التي هي ثمان ساعات لابد أنهم فيها قد تعبوا وسئموا. ثم بعد ذلك اضطجع النبي صلى الله عليه وسلم واضطجعوا وناموا إلى آخر الليل، ثم بعد ذلك صلوا الفجر مبكرين، ثم ذكروا الله، ثم توجهوا إلى منى، هذه هي السنة، أن المسافر يؤخر الصلاة إلى أن يصل إلى جمع، أي: إلى مزدلفة. والناس في هذه الأزمنة يتفاوتون، فبعضهم يكون الطريق بالنسبة له من عرفة إلى مزدلفة في أربع دقائق، فيصلونها في وقت مبكر فلا يعوقهم عائق، فيقطعون الطريق في أربع دقائق وخمس دقائق وعشر دقائق وربع ساعة، فنقول: ساعة وصولكم صلوا. وبعضهم يعوقهم السير ويتعثرون ولا يسيرون إلا ببطء، ولا يصلون إلا نصف الليل أو آخر الليل، نقول: تؤخرون الصلاة ولو لم تصلوا إلا الساعة الثانية أو الثالثة في آخر الليل، أخروا الصلاة مادمتم تأملون أنكم تصلون، أما الذين يخشون أن يطلع الفجر قبل أن يصلوا فإنهم لا يؤخرون الصلاة، فإذا خشوا فوات الوقت وطلوع الصبح صلوها في آخر الليل، صلوها قبل الفجر بساعة أو ساعتين، وصلوها ولو في الطريق، فيقال لهم: اجتنبوا عن الطريق قليلاً ثم قفوا وصلوا، ولا تؤخروها حتى يخرج وقتها. أما السنة والنافلة بعدها فالأمر في ذلك مباح في هذه الأزمنة لوجود الراحة وعدم المشقة.

شرح عمدة الأحكام [43]

شرح عمدة الأحكام [43] المحرم بالحج أو العمرة متلبس بشعيرة عظيمة، فقد تجرد من دنياه ظاهراً، وحرم عليه ما يشعر بالترفه كالطيب ولبس المخيط ونحوهما، ومما يحرم عليه كذلك الصيد وغيره مما ينافي الغرض الذي لأجله خرج، وهو قصد وجه الله تعالى والدار الآخرة وترك شواغل الدنيا.

أكل المحرم من صيد الحلال

أكل المحرم من صيد الحلال قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [باب المحرم يأكل من صيد الحلال. عن أبي قتادة الأنصاري: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج حاجاً فخرجوا معه، فصرف طائفة منهم فيهم أبو قتادة وقال: خذوا ساحل البحر حتى نلتقي، فأخذوا ساحل البحر، فلما انصرفوا أحرموا كلهم إلا أبا قتادة فلم يحرم، فبينما هم يسيرون إذ رأوا حمر وحش فحمل أبو قتادة على الحمر فعقر منها أتاناً، فنزلنا فأكلنا من لحمها، ثم قلنا: أنأكل لحم صيد ونحن محرمون؟! فحملنا ما بقي من لحممها فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عن ذلك؟ فقال: منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها؟ قالوا: لا. قال: فكلوا ما بقي من لحمها) ، وفي رواية: (فقال: هل معكم منه شيء؟ فقلت: نعم. فناولته العضد فأكلها) . وعن الصعب بن جثَّامة الليثي (أنه أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم حماراً وحشياً وهو بالأبواء أو بودان فرده عليه، فما رأى ما في وجهه قال: إنا لم نرده عليك إلا أنا حُرم) ، وفي لفظ لـ مسلم: (رجل حما) ، وفي لفظ: (شق حمار) ، وفي لفظ: (عجز حمار) ، وجه هذا الحديث أنه ظن أنه صيد لأجله والمحرم لا يأكل ما صيد لأجله. ] . هذان الحديثان في حكم الصيد للمحرم، ولا شك أنه قد حرم على المحرم الاصطياد مادام محرماً، وأحل له إذا انتهى من الإحرام، قال الله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة:2] يعني: فيجوز أو فيحل لكم أن تصطادوا الصيد، وقال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة:69] يعني المسافرين: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} [المائدة:96] ، حرم عليكم صيد البر مادمتم حرماً أي: مادمتم محرمين فصيد البر محرم عليكم، وكذلك قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:95] هذه الآية صريحة في أن الممنوع هو قتل الصيد، وأما الآية التي بعدها: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} [المائدة:96] فيحتمل أن المراد: حرم عليكم الاصطياد: ويحتمل أن المراد: حرم عليكم الأكل أكل الصيد. ولما كان كذلك وقع الاشتباه عند الصحابة كما في القصة الأولى.

شرح حديث صيد أبي قتادة لحمار الوحش

شرح حديث صيد أبي قتادة لحمار الوحش في القصة الأولى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج حاجاً، ولفظة: (خرج حاجاً) موهمة أنه أحرم بالحج، ولكن المراد بالحج هنا الحج الأصغر وهو العمرة، أي: خرج معتمراً. وذلك سنة ست أو سنة سبع في عمرة الحديبية أو عمرة القضاء، خرج معتمراً، ولما خرج من المدينة أحرم هو وأصحابه من ميقات أهل المدينة وهو ذو الحليفة، وصرف طائفة أخرى وأمرهم بأن يسيروا على ساحل البحر لحمايتهم ولحراستهم لئلا يأتيهم أعداء من تلك الجهات، فسار أولئك الذين على ساحل البحر وكان معهم راوي الحديث وهو أبو قتادة الأنصاري الحارث بن ربعي فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انصرفوا أحرموا كلهم لما حاذوا ذا الحليفة وأبو قتادة لم يحرم، وذلك لأنه سيمر بميقات أهل الشام ومصر وهو الجحفة، فأخر الإحرام إلى أن يصل إلى الجحفة، وبعدما أحرموا ونزلوا منزلاً وجلسوا فيه للراحة أو للأكل مرت بهم حمر وحش وهي من الصيد، وحمار الوحش نوع من الوعول إلا أنه أكبر منها، ولكنه ليس مثلها في سرعة السير ولا في الصعود على الجبال، وهو نوع من الصيد حلال كبير مأكول اللحم، فلما رآها أصحابه سكتوا، ولكن جعلوا ينظرون إليها، فلما رفع نظره رأى تلك الحمر فركب فرسه وقال: ناولوني رمحي. فأبوا أن يناولوه، ناولوني السهام. فأبوا أن يناولوه، وذلك لأنهم محرمون ويعرفون أن المحرم لا يجوز له أن يساعد في قتل الصيد، فنزل وأخذ سيفه وأخذ رمحه وأخذ سهامه وركب فرسه وسار خلف تلك الحمر ورماها بسهم فعقر منها حماراً أنثى وهي الأتان، ولما عقره نزل وذبحه وجاء به إلى أصحابه فجعلوا يأكلون منه، وذلك لأنهم تمسكوا بقوله تعالى: ((لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ)) [المائدة:95] ، فقالوا: ما قتلناه ونحن حرم وإنما قتله من ليس بمحرم. فعند ذلك جعلوا يشوون منه أو يطبخونه ويأكلونه، ثم إنهم تذكروا الآية الثانية: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} [المائدة:96] ، فقالوا: نخاف أن هذه الآية فيها تحريم الأكل كما في الآية الأولى تحريم الاصطياد. فتوقفوا عن الأكل وحملوا بقية لحمه حتى أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم أمامهم فسألوه فقال: (هل منكم أحد أعانه على قتله أو على اصطياده؟ قالوا: لا. هل منكم من أشار إليه أو دله عليه. فقالوا: لا. قال: فكلوا ما بقي) ، فأباح لهم أكل ما بقي، وفي رواية أنه قال: (هل بقي معكم شيء من لحمه؟ فقالوا: نعم. فناوله العضد أو غيره فأكله) ليطيب بذلك نفوسهم وأنهم ما أكلوا شيئاً ممنوعاً، فهذا دليل على أنه يجوز للمحرم أن يأكل مما صاده الحلال الذي ليس بمحرم، وأن المنع إنما هو من الاصطياد، فالمحرم لا يجوز له أن يصطاد الصيد حتى ولو لم يأكله، بل ذكر العلماء أنه إذا صاد صيداً فذلك الصيد غير مباح، بل جعلوه بمنزلة الميتة؛ لأنه منهي عنه، قال تعالى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ} [المائدة:95] ، أمر الله فيه بالجزاء، فدل على أنه لا يجوز الاصطياد ولا يحل للمحرم قتل أي شيء من الصيد.

الصيد الذي يحرم على المحرم صيده

الصيد الذي يحرم على المحرم صيده والصيد اسم لكل ما يقتنص من الوحوش البرية المتوحشة بالطبع، التي طبعها التوحش وهي مأكولة، سواء أكانت صغيرة أم كبيرة، وسواء أكانت من الطيور أم من الدواب التي تدب على الأرض وهي صغيرة، حتى ولو كان يربوعاً، أو ضباً، أو أرنباً، أو وبراً، أو ضبياً، أو وعلاً، أو بقر وحش، أو حمر وحش، أو غنماً وحشية، أو ما أشبهها، كل الدواب البرية التي تصطاد وتؤكل ويحل أكلها تدخل في الآية.

ما يجوز للمحرم قتله من السباع والطير ونحوها

ما يجوز للمحرم قتله من السباع والطير ونحوها ولا يدخل في الآية ما ليس بحلال، فلا يدخل فيها قتل السباع، بل يجوز قتل السبع المعتدي كالذئب والأسد والنمر وغيره من الدواب التي تعتدي وتفترس بطبعها، ولا يدخل في ذلك المحرم من الطيور كالنسر والعقاب والغراب والحدأة وما أشبهها، ويدخل في ذلك من الطيور ما هو حلال حتى ولو عصفوراً أو حمرة أو حمامة أو سمانا أو غيرها من الطيور المباحة، وأدخل فيه بعضهم الجراد، فإنه من جملة ما يصاد، فيدخل في الصيد إلا إذا انفرش على الأرض ولم يكن بد من أن تطأه الأقدام أو تطأه خفاف الإبل أو تطأه عجلات السيارة، فلا يضر، وذلك لأنه لا يمكن التحرز منه، ولا فدية فيه.

الفدية التي يجب إخراجها على من قتل صيدا وهو محرم

الفدية التي يجب إخراجها على من قتل صيداً وهو محرم وقد بين العلماء الفدية التي يفديها من قتل شيئاً من الصيد تعمداً عملاً بقوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ} [المائدة:95] أي: فعليه من النعم مثلما قتل من الصيد أي: ما يقاربه وما يكون مماثله. والنعم التي تكون منها الفدية الإبل والبقر والغنم، هذه هي التي تخرج منها فدية الجزاء الذي يسمى جزاء الصيد، فإذا قتل شيئاً من الصيد الذي حرم اصطياده بالإحرام قيل له: اخرج عنه فدية أو جزاء. وقد بين العلماء الجزاء الذي يكون فيها، فبينوا -مثلاً- أن الضبع من جملة الصيد، وأن فيه كبشاً، والكبش هو الذكر من الضأن، وأن الأرنب والوبر ونحوهما فيه جفرة من المعز، وأن الضبي فيه الأنثى من المعز، وذلك لأنها تشبهه، وأن النعامة من الصيد فيها ناقة أو بعير -بدنة-، وذلك لأنها تشبهها في طول العنق، حتى قالوا: إن الحمامة وما يشبهها من الفواخت والقطا ونحوها الفدية فيها شاة، وذلك لأنها تشبهها في العب والشرب، تعب عباً، فهذه أمثلة لما قضى به الصحابة في جزاء الصيد. والحاصل أنه إذا صاده وهو محرم متعمداً فلابد من الجزاء، أن يخرج جزاءه من بهيمة الأنعام، وذلك الجزاء يذبح بمكة ويتصدق به على مساكين الحرم، وأما العمد والخطأ فقال بعض العلماء: إنهما سواء، فإذا قتله ولو مخطئاً فإنه يخرج الجزاء، وذلك لأن الصحابة رضي الله عنهم جاءهم من قتل شيئاً من الصيد ولم يسألوه: هل أنت متعمد أو أنت غير متعمد؟ والأصل أن أولئك الصحابة لا يمكن أن يتعمدوا القتل للصيد وهم قد عرفوا المنع، فالأقرب أنهم ليسوا متعمدين، ومع ذلك جعلوا فيه فدية، وذلك لأنه يعتبر إتلافاً، والإتلاف لابد فيه من الفدية حتى من الخاطئ، حتى لو قطع شجرة من شجر الحرم مخطئاً أمر بأن يخرج فدية بدلها، فكذلك إذا قتل حمامة من حمام الحرم ولو خاطئاً أمر بأن يخرج جزاءها شاة، وقد وقع أن عمر رضي الله عنه خلع رداءه مرة وأرد أن يلقيه على وتد في الحرم، وكان عليه حمامة لم يشعر بها، فطارت من موضعها فوقعت في جانب فجاءها قط فافترسها وهو ينظر، فقال: أنا الذي أطرتها من مكانها وهي آمنة وعرضتها لهذا الخطر حتى افترست، فلابد أن أخرج لها فدية فأخرج لها فدية وهي شاة، مع أنه ما تعمد قتلها وما رماها، ولكن لما كان له شيء من التسبب في إطارتها وإزالتها لم يرتح حتى أخرج فديتها، فدل على أنه تخرج الفدية حتى ولو كان مخطئاً، هذا هو الأصل في منع المحرم من الصيد، وكذلك غير المحرم بالنسبة إلى صيد مكة. مكة لما كانت محرمة لا يحل قطع الشجر فيها ولا يحل قتل الصيد ولا تنفيره صار فيها جزاء، ففي شجرها جزاء، وفي صيدها جزاء، حتى ولو قتل فيها عصفوراً لأمر بأن يدفع له جزاء.

شرح حديث: (إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم)

شرح حديث: (إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم) في هذا الباب ذكر أيضاً حديثاً عن الصعب بن جثامة (أنه أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم حماراً وحشياً وهو بالأبواء أو بودان فرده عليه، فلما رأى ما في وجهه من الكراهية قال: إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم) هذه القصة وقعت في حجة الوداع، أنه صلى الله عليه وسلم أحرم هو وأصحابه من ذي الحليفة، ولما كانوا بالأبواء أو بودان -قرب مكة- جاءهم هذا الرجل الليثي من بني ليث فأهدى لهم بعضاً من حمار وحشي قد اصطاده وجعله كهدية له، فخاف النبي صلى الله عليه وسلم أنه صاده لأجلهم وأنه تحرى قدومهم، فجعله ممنوعاً لهذا السبب فرده عليه، فأخذ العلماء من حديث أبي قتادة أنه أباح لهم أن يأكلوا ذلك الصيد الذي ما صادوه وإنما صاده رجل غير محرم ولم يصده لأجلهم، أما الصعب بن جثامة فصاده لأجلهم، كأنه حرص على اقتناصه إلى أن أدركه فرماه وعقره وجاء به. والحاصل أنه فهم أنه صيد لأجله، وهذا هو الجمع بين الحديثين، فإذا قيل: لماذا أمرهم في حديث أبي قتادة أن يأكلوه وقال: هل منكم من أعانه في قتله؟ هل منكم أحد أشار إليه؟ فقالوا: لا. قال: (كلوا ما بقي) مع أنه صاده لهم غالباً، أو أنه صاده لنفسه أو أنه صاده لأنه حلال، وفي حديث الصعب بن جثامة رده عليه وقال: لا نقبله لأنا محرمون؟! كأنه يقول: المحرم لا يأكل الصيد؛ لأن الله يقول: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} [المائدة:96] . إذاً فالجمع بينهما أنه إذا صيد لأجلك وأنت محرم فلا تأكل منه، وأما إذا صيد لغيرك فصيد لحلال فلا بأس أن تأكل منه، هذه هو الجمع. وقد ورد في ذلك حديث عن جابر في السنن، قال صلى الله عليه وسلم: (صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصد لكم) أي: صيد البر لكم حلال وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصد لكم. فيكون في هذا جمعاً بين الحديثين، وهو أن أبا قتادة صاده لنفسه، وأن الصعب صاده لأجل المحرمين. وأما الآية الثانية: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} [المائدة:96] ، فالمراد اصطياد صيد البر، وقد عرفنا أن الصيد كل ما يقتنص، سواء من الطيور أو من الدواب التي يحرص على تتبعها والتي هي حلال ولا تدخل فيما حرمه الله ولا ما حرمه النبي صلى الله عليه وسلم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

شرح عمدة الأحكام [44]

شرح عمدة الأحكام [44] جاء الإسلام بما يصلح أمور الدين والدنيا، وكما شرع للعبادات أحكاماً عديدة شرع كذلك للمعاملات أحكاماً كثيرة، وكلها وفق الحكمة والرحمة، ومن أهم المعاملات البيوع، وقد بين الفقهاء أحكام البيوع من الكتاب والسنة، فعلى المسلم أن يعرف هذه الأحكام لحاجته الشديدة إليها.

أحكام البيوع

أحكام البيوع قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [كتاب البيوع: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعاً، أو يخير أحدهما الآخر، فإن خير أحدهما الآخر، فتبايعا على ذلك؛ فقد وجب البيع، وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك واحد منهما البيع، فقد وجب البيع) . وعن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا -أو قال: حتى يتفرقا-، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما) ] . ابتدأ المصنف بالأحاديث التي تتعلق بالمعاملات، والمعاملات هي التعامل بين الناس في طلب المكاسب وطلب الأرباح وطلب الحاجات، وأشهرها البيوع، وجمعت لأنها جمع بيع، والبيع: هو مبادلة مال أو منفعة مباحة بمثل أحدهما على التأبيد، غير رباً وقرض، والمنفعة المباحة مثل الدار، والمعنى أن البائع يستبدل بسلعته الثمن، والمشتري يستبدل بماله السلعة، فكأنهما تبادلا، يقول أحدهما: أعطني هذه السلعة وأعطيك هذا الثمن، أو: أعطني هذا الثمن وأعطيك هذه السلعة، فهذا معنى المبادلة. وهذه المبادلة تسمى (البيع) ، وذكره الله تعالى في قوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275] ، وفي قوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] وما أشبه ذلك، فهذا البيع هو الذي ورد في السنة إباحته، وبلا شك أنه من ضروريات الحياة؛ لأن الإنسان تتعلق حاجته بما في يد غيره، وصاحبها لا يدفعها له ولا يبذلها إلا بعوض، فجعل الله هذه المعاوضة ليحصل بها منفعة للطرفين.

الحكمة من البيع

الحكمة من البيع البيع من الحاجيات التي لا يستغنى عنها في هذه الحياة، ويحصل بها منفعة للطرفين، فالبائع يشتري السلعة برخص، ثم يبيعها بربح؛ فتنمو تجارته، والمشتري يبذل فيها الثمن ويستعملها لحاجته، ويحصل بها منفعته الضرورية التي هو بحاجة إليها، فهو بحاجة إلى ثوب ليلبسه، أو طعام ليأكله، أو دابة ليركبها أو ليأكل من لحمها، أو بيت ليسكنه، فهو بحاجة إلى سلعة يستعملها وليست عنده، وهناك آخر قد ملكها ويريد الربح فيها، فهذا يربح في سلعته، وهذا يستعملها ويبذل فيها مالاً، فهذا هو أصل شرعية البيوع. والأصل في هذه البيوع أنها على الإباحة، ولا يحرم منها شيء إلا بدليل، ولا شك أن الشرع الشريف قد تدخل في مثل هذه الأمور، فحرم منها أشياء، وأباح أشياء، والغالب أن الذي حرمه هو الشيء الذي فيه ضرر على أحد المتبايعين، فنهي عن ذلك الضرر. والله تعالى قد أرشد العباد إلى بعض الأمور، ونهى عن الضرر، كما في قوله تعالى: {غَيْرَ مُضَارٍّ} [النساء:12] ، وفي قوله: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} [البقرة:282] ، واشترط الرضا في قوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29] ، وأمر بالإشهاد فقال تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة:282] يعني: إذا خيف إنكار أحد المتعاقدين شرع الإشهاد، وقال تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة:282] .

الخيار في البيع

الخيار في البيع الحديثان اللذان عندنا نقصر الكلام عليهما؛ لأن الكلام على غيرهما قد يخرجنا، فنقتصر على هذين الحديثين. الحديث الأول: حديث ابن عمر، وفيه يقول صلى الله عليه وسلم: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعاً) . الخيار معناه: أن لكل منهما أن يرجع، فالبائع والمشتري كلاهما يسمى بائعاً، فلهذا قال: (البيعان) ، وفي رواية: (المتبايعان بالخيار) . وسبب ذلك أنه قد يندم أحدهما فيتمكن من استرجاع حقه ما داما مجتمعين، يقول: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعاً، أو يخير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع) . وهذا الخيار يسمى (خيار المجلس) ، وذلك لأنهما ما داما جالسين، أو قائمين، أو راكبين، وتبايعا بقول أحدهما: بعتك هذا الثوب، بعتك هذا الكيس، بعتك هذه السيارة؛ فقال الآخر: اشتريتها بكذا وكذا، فما داما يمشيان جميعاً، فرجع أحدهما وقال: ندمت، فإنه يتمكن من ذلك، فإن رجع البائع فإنه يقدر على الرجوع، وإن رجع المشتري فإنه يقدر على الرجوع، ولو كان قد دفع الثمن، فيسترد ثمنه ويرد السلعة، فهذا معنى الخيار؛ وذلك لأن البيع قد يقع في وقت قصير لا يحصل فيه تأمل ولا تفكر ولا إمعان نظر، فيندم أحدهما، فيندم البائع ويتذكر أنه بحاجة إلى ثوبه أو بحاجة إلى كتابه، فيقول: ندمت؛ أو يندم المشتري ويذكر أنه لا حاجة له في هذه السلعة، وأنه عنده مثلها، أو أنها رفيعة وغالية، فيقول: رد علي دراهمي، وخذ سلعتك، فهذا معنى كونهما بالخيار، فما داما جميعاً لم يتفرقا فإن الخيار ثابت.

حالات التفرق عن مجلس العقد

حالات التفرق عن مجلس العقد ذكر العلماء للتفرق حالات أقربها مثلاً أنهما إذا تفرقا، أدبر هذا وأدبر هذا، بحيث لو التفت إليه ودعاه باسمه لم يسمع، فلو دعاه باسمه دعاء معتاداً ولو برفع الصوت: يا فلان! فلم يسمع؛ يحسب هذا تفرقاً. كذلك إذا كانا في منزل فخرج أحدهما من حجرة ودخل الحجرة الثانية، يعتبر تفرقا. وكذلك لو اشترى منك في دكانك، وغاب عنك في زقاق آخر، أو في سكة أخرى، وخفي عليك؛ اعتبر هذا تفرقاً، فالتفرق يلزم البيع. ولو قال أحدهما بعد ذلك: ندمت، قاله البائع أو قاله المشتري، لم يقبل منه؛ وذلك لأنه ينبني على هذا البيع ملكية التصرف ما دام أنه قد لزم، فالمشتري قد يلبس الثوب مثلاً، أو يلبس الحذاء، أو يأكل من الطعام إذا كان فاكهة أو نحو ذلك، والبائع قد يتصرف في النقود، فقد يفي بها ديناً، وقد يشتري بها سلعاً، وقد يصرفها، فإذا ندم بعد يوم، أو بعد نصف يوم أو بعدما تفرقا لا ينفعه هذا الندم. ولو تفرقا وكانا قد اشترطا خياراً، فإن المسلمين على شروطهم، وذلك فيما إذا كان الأمر يحتاج إلى مشاورة في الأمور التي لها قيمة، ولها قدر، ولها مقام، كما لو اشترى أرضاً -مثلاً- بمائة ألف، وهو يحتاج إلى عمارتها، اشتراها بمائة ونقد بعض الثمن، ولكن اشترط وقال: لي الخيار خمسة أيام أو أسبوع أستشير وأنظر، فله -والحال هذه- أن يرجع في هذه الخمسة الأيام؛ لأنه قد يسأل عن الجيران فلا يناسبونه مثلاً، وقد يبحث عن الثمن فقد لا يجده مجتمعاً عنده أو نحو ذلك، فلذلك يصح شرط الخيار. أما إذا لم يشترط فاشترى منك الأرض بمائة ألف وأعطاك مقدم الثمن خمسة آلاف أو أكثر أو أقل، ثم إنه ندم بعد يوم أو بعد نصف يوم أو بعد ساعة، بعدما تفرقا، وقال: ندمت، ورأيت أني مغبون، فخذ أرضك ورد علي ثمني فليس له ذلك؛ فإنه قد وجب البيع بالتفرق، فلا يقبل، ويستطيع البائع أن يشتكيه، ويأخذ منه بقية الثمن. وكذلك لو ندم البائع، فلو فكر البائع وقال: إنني فكرت وإذا أنا بحاجة إلى أرضي، أو إلى بستاني، أو إلى عمارتي، ولا أستغني عنها، فخذ دراهمك ورد علي مفاتيحها، أو رد علي وثائقها، فامتنع المشتري؛ فله ذلك، ولا يقدر البائع أن يلزمه باسترجاعها؛ وذلك لأنه ملكها بهذا العقد بمجرد التفرق، فبمجرد ما يحصل التفرق بينهما -بدون شرط خيار- يلزم البيع، ولا يحصل بذلك لأحدهما رجوع، فهذا معنى أن لهما الخيار. ولو أسقطاه في حالة اجتماعهما سقط قبل أن يتفرقا، فإذا اشترى منك سيارة بثلاثين ألفاً مثلاً وفحصها وعرف صلاحيتها، وقال البائع: أنا بعتها بيعاً منجزاً لا خيار لي، وليس لي أن أرجع، فقال المشتري: قبلتها واشتريتها وليس لي خيار، وليس لي أن أرجع، فأسقطاه جميعاً قبل أن يتفرقا، فإنه يسقط؛ وذلك لأنه ما أسقط سقط، فما داما قد تبايعا على ألا خيار بينهما فإنه يسقط، كما إذا اشترطاه مدة يوم، أو مدة يومين، أو مدة أسبوع يبقى، وهذا معنى قوله: (أو يخير أحدهما صاحبه، فإن خير أحدهما صاحبه وتبايعا على ذلك فقد وجب البيع) . فالحاصل أنه يلزم البيع بالتفرق أو بإسقاط الخيار أو بمضي مدته التي اشترطت، فإذا شرط أن له الخيار خمسة أيام أو نحوها، ومضت قبل أن يستقيل؛ فإنه يلزم البيع. لكن لو اشترى منك -مثلاً- بيتاً، وبعدما سلمك الثمن ندم بعد يوم أو بعد أيام، وتبين له أنه مغبون وأنه خاسر، وجاء إليك وقال: رد علي دراهمي فقد ندمت، فإن هذا يسمى نادماً، ويسمى رد دراهمه عليه (إقالة) ، ويسمى هو: مستقيلاً، ويندب لك أن تقيله؛ لأنه ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (من أقال نادماً بيعته أقال الله عثرته يوم القيامة) ، وسواء أكان الذي ندم هو البائع أم المشتري، فقد يندم البائع ويقول: تسرعت في بيع هذا المسكن الذي أسكن فيه أنا وأولادي أو في بيع هذه السيارة التي أركبها، ندمت فرد علي بيتي أو سيارتي وخذ دراهمك فإني قد ندمت، فيستحب لك أن تقيله وترد عليه بيعه، وهذا بعد التفرق، أما قبل التفرق فليس له أن يمتنع، فمن ندم منهما فليس للآخر أن يمتنع، بل يفسخ بمجرد طلبه الفسخ؛ لأن لكل منهما الفسخ. ويمكن أيضاً أن يكون لأحدهما الخيار دون الآخر، فلو تبايعا وهما في المجلس فقال البائع: أنا بعته جزماً ولا خيار لي، وسكت المشتري، ثم ندم المشتري؛ فله الخيار، وأما البائع فليس له خيار إذا ندم، وليس له الإقالة، وكذا العكس.

النصح في البيع

النصح في البيع قوله صلى الله عليه وسلم في حديث حكيم: (فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما) في هذا الحديث يحث صلى الله عليه وسلم على الصدق وعلى البيان، فيقول: (فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما) ، وهذه الجملة قد تحتاج إلى كلام طويل، ولكن نذكر فيها كلمات قليلة يظهر بها المعنى المراد إن شاء الله، فنقول: واجب على البائع أن ينصح لأخيه المشتري، وأن يبين له الحقيقة التي يقع فيها، فإذا علم مثلاً أنه مغبون، وأن السلع رخيصة، فعليه أن يبين، ولا ينتهز غفلته؛ وذلك لأن المشتري قد يدخل السوق ولا يشعر أن السلع قد رخصت فيشتري غالياً، فيشتري -مثلاً- العمامة بخمسين، ويشتري الثوب بأربعين، وهما رخيصان عند الناس ولا يدري، فالمشتري جاهل، ففي نظره أن هذه هي قيمة السلع، ولكن البائع عالم بأنه مغبون، وعالم بأنه سيجد أرخص منها فيبيعه، وفي هذه الحال نقول: على المشتري أن يبحث، وعلى البائع أن ينصح ويبين. وكذلك -أيضاً- كثير من الباعة قد يكتمون العيوب ويظهرون المصالح، فيبيع السيارة وهو يعلم أن فيها عيباً، ويعلم أن فيها نقصاً، ويقول: أبيعك هذه السيارة التي أمامك وأنا غير مسئول عنها، فنقول: لا يكفي ذلك؛ لقوله: (فإن صدقا وبينا) ، فلا تكتم العيب الذي تعلمه، بل أخبر بما تعلمه فيها، وقل: ينقصها كذا وكذا، وفيها عيب كذا وكذا، ولست بمسئول عن غيره من العيوب، فلا أدري، وهذا هو الذي أعرفه، هذا هو البيان، وكذلك في جميع الحالات، فلابد من بيان ما تعرفه في هذه السلعة، فهذا معنى قوله: (صدقا وبينا) . وكذلك لو استرشد البائع وقال: أنا أبيعك بما يبيع الناس، والبائع جاهل ببيع هذه السلع من أكياس أو غتر أو ثياب، فجاء بها إلى هذا السوق وقال: أبيعك مثلما يبيع الناس أو مثلما يشترون، فخدعته أنت وقلت: الناس يشترونها بخمسين، وأنت تعلم أنهم يشترونها بستين أو بخمسة وخمسين أو نحو ذلك، فصدقك وباعك، ففي هذه الحال تكون قد كتمت، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما) ، فعليك أن تبين وتقول: الناس يشترونها بخمسة وخمسين ويطلبون الربح فيها، فأنا أشتري كما يشتري الناس. وكذلك لو قال لك: بعني مثلما يبيع الناس، وأنت تعرف أن الناس يبيعون بعشرة، فكتمت وقلت: الناس يبيعون بخمسة عشر، وأنت كاذب، وتعرف أنهم يبيعون بعشرة، وهم مع ذلك يربحون؛ لأنهم قد اشتروا بتسعة أو اشتروا بثمانية، فلا شك أن هذا أيضاً من الكذب والكتمان، (فإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما) . والأمثلة على ذلك كثيرة لا نطيل بها، ففي كل الحالات يلتزم الإنسان الصدق، فلا ينتهز غفلة المشتري ويزيد عليه ويكتمه ما يعرفه الناس، وكذلك لا ينتهز غفلته فيشتري منه وهو جاهل. وكثير من الناس إذا رأى رغبة في الأرض الفلانية أتى إلى صاحبها وخدعه، واشترى منه وهو يعلم أنها محل رغبة، وأن الناس سيقبلون عليها، وأن سعرها قد يرتفع وهو لا يعلم، فيخدعه ويشتريها برخص، وهذا من الكتمان. وكذلك كثير من الناس يعلم أن هذه المساكن -مثلاً- قد نزعت ملكيتها، وسيعوض أهلها، فيأتي إلى أهلها أو إلى بعضهم ويشتريها منهم برخص، ويكتمهم الخير حتى يكون له التعويض، وأشباه ذلك، وهذا كله من الكتمان، وهو داخل في هذا الحديث: (فإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما) . والبركة: هي كثرة الخير، أخبر أنه مع الصدق والبيان تحصل البركة، ومع الكذب والكتمان يحصل المحق، والمحق قد يكون حقيقياً، وقد يكون معنوياً، والحقيقي هو أنه ولو كثرت أمواله، ولو كثرت أرباحه وتجارته، فإنه لا يجد لها أثراً، بحيث يبقى قلبه فقيراً، أو أنه يتسلط عليها وينفقها في أشياء لا أهمية لها، فلا يجد لها موقعاً، أو أن الله تعالى يتلفها إتلافاً ظاهراً، فيبقى فقيراً مدقعاً بسبب كونه لم ينصح لإخوته المسلمين، ولم يصدقهم، ولم يبين لهم.

شرح عمدة الأحكام [45]

شرح عمدة الأحكام [45] من البيوع المحرمة شرعاً بيع حبل الحبلة، وبيع الثمار قبل بدو صلاحها، وكذلك بيع المزابنة، وكل بيع يشتمل على غرر أو غبن أو غش أو نحو ذلك.

شرح حديث: (نهى عن بيع حبل الحبلة)

شرح حديث: (نهى عن بيع حبل الحبلة) قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع حبل الحبلة، وكان بيعاً يتبايعه أهل الجاهلية، كان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة ثم تنتج التي في بطنها. قيل: إنه كان يبيع الشارف -وهي الكبيرة المسنة- بنتاج الجنين الذي في بطن ناقته) . وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، نهى البائع والمشتري) . وعن أنس بن مالك رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى تزهي، قيل: وما تزهي؟ قال: حتى تحمر، قال: أرأيت إن منع الله الثمرة بم يستحل أحدكم مال أخيه؟) ] . الحديث الأول داخل في بيع الغرر الذي ورد النهي عنه، وقد كثرت الأمثلة لبيع الغرر. والحكمة فيه أنه لابد من وجود غبن لأحد المتبايعين، ولا شك أن الغبن والغلبة تسبب بغضاء وحقداً فيما بين المتبايعين، إذا علم أنه خدعه في بيعه، فإنه يحقد عليه، ويضمر له العداوة، ولا يثق به بعد ذلك، وكلما رآه تذكر أنه الذي خدعه، وأنه الذي ضره، فلا يكون بينهما أخوة ولا محبة، وهذا ينافي ما يهدف إليه الشرع الشريف، فالشرع بأمر المسلمين بالمودة وبالمحبة، ويأمر المسلمين بأن يتحابوا فيما بينهم، وأن يتآلفوا وأن يتآخوا، ونهاهم عن أسباب التقاطع بقوله: (لا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تنافسوا) ، وإذا اجتنب المسلمون مثل هذه البيوع التي فيها خداع وفيها غرر فإنه -بغير شك- تصفو قلوبهم، ويصيرون إخوة فيما بينهم، ويتحابون، وكلما تحابوا وتآخوا تعاونوا على الخير، وتعانوا على البر والتقوى، وتعانوا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى إظهار دين الله تعالى، وقوى بعضهم بعضاً، وساعد بعضهم بعضاً، بخلاف ما إذا تباغضوا وتحاقدوا وتقاطعوا، فلا شك أنه يحصل بينهم التهاجر والتقاطع، ويستبد كل منهم برأيه، ويحقد كل على أخيه، فلا تحصل الأخوة المطلوبة بين المسلمين. فهذا من الحكم التي استنتجها المسلمون من تدخل الشرع في هذه الأمور، وإلا فالأصل أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر الناس على معاملاتهم وعلى مبايعاتهم، ولم يأمرهم بأن يستعملوا صيغة كذا وكذا، فلم يقل لهم: لا تبع إلا بقولك: (بعت) ، ولا تشتر إلا بقولك: (اشتريت) ، ولا تبع إلا بصفة كذا وكذا، بل أقرهم على معاملاتهم، ولكن تدخل ببعض الأشياء لأجل ما فيها من المصلحة، وما في تركها من المضرة. ففي الحديث الأول النهي عن بيع حبل الحبلة. وفي الحديث الذي بعده النهي عن بيع الثمار حتى تزهو. وفي الحديث الذي بعده النهي عن بيعها حتى يبدو صلاحها.

معنى بيع حبل الحبلة

معنى بيع حبل الحبلة بيع حبل الحبلة فسر في الحديث بأنه بيع كان يتبايعه الجاهليون، يبيع أحدهم ناقته بحمل ناقة أخرى، أو بولد ولدها، أو يبيع ولد الولد، فيقول: بعتك ولد ما في بطن هذه الناقة، إذا حملت هذه الناقة ثم حملت الناقة التي تلدها، فإذا ولدت بكرة فإني أبيعك ذلك المولود، ولا شك أن هذا غرر؛ لأنه بيع معدوم، قد يحصل وقد لا يحصل، فقد يكون الحمل جملاً وقد يكون ناقة، وقد يكون الحمل يحصل بعد سنتين، وقد لا يحصل إلا بعد أربع سنين، فيكون في ذلك غرراً، هذا إذا قلنا: إن المبيع هو حمل الحمل، أي: إذا حبلت هذه وحبلت بنتها فولدت فخذ ما تلده البنت. وهناك من يقول: إن المراد الأجل، كأن يقول مثلاً: بعتك هذا الكيس إلى أجل بعيد، وهو أن تلد هذه الناقة، ثم تلد بنتها التي تلد، فعلى هذا يكون أجلاً مجهولاً؛ لأنه غير محدد، فهو إلى أن تنتج الناقة ثم تنتج بنتها التي في بطنها، فيكون ذلك أجلاً مجهولاً. فالحاصل أن هذا من البيوع الجاهلية، وقد جاء الإسلام بإزالتها ونسخها.

شرح حديث: (نهى عن بيع الثمار حتى تزهي)

شرح حديث: (نهى عن بيع الثمار حتى تزهي) الحديث الذي بعده فيه النهي عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، أو حتى تزهو، والمراد بالثمار: الثمرة التي تؤكل بعدما تثمر، كالرطب والعنب والتين والرمان وسائر الثمار التي تؤخذ من أشجارها، فهذه الثمار لا شك أنها مقصودة، فإن الذين يغرسون الأشجار يقصدون من غرسها أن تثمر، فإذا أثمرت انتفعوا بثمرها، فإما أن يبيعوه وإما أن يأكلوه وهو رطب، وإما أن يتركوه إلى أن يجف، ثم يأخذونه وهو تمر أو زبيب أو نحو ذلك، وينتفعون به، فالثمرة هي المقصودة. وكانوا كثيراً ما يحتاج أحدهم إلى نقود قبل أن تثمر ثمرته، فيأتي إليه أحد التجار فيقول: بعتك ثمرة هذه النخلة -أو ثمرة هذا العنب- والتمر لا يزال بسراً، فإذا باعه وهو بسر، وجاء وقت النضوج، إذا هو قد أصابه مرض من بياض أو نشاف أو غير ذلك من عاهات تصيب الثمر، فعند ذلك يكون المشتري قد اشترى شيئاً لا يناسبه ولا يصلح له، فيقول: هذه لا تصلح، فأعطني غيرها، أعطني ثمر النخلة الثانية أو الثالثة؛ فيتشاجرون عند ذلك أو يختلفون، فإذا رأى هذه الثمرة قد تحات ثمرها قال: ما بعتني هذه، إنما بعتني الأخرى، فيحصل بعد ذلك اختلاف فيما بينهم، ويكثر ترافعهم؛ لذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا البيع الذي هو البيع قبل أن يبدو الصلاح، فإذا بدا الصلاح، فالأصل أو العادة أن العاهات التي تصيبها قليلة، فحيئنذٍ يجوز البيع، ثم فسر بدو الصلاح في النخل بأن تحمر أو تصفر. ومعلوم أن النخل أول ما يخرج من أكمامه يكون لونه أخضر، وعندما يقرب من النضج ينقلب بعضه إلى أحمر -وهو الذي يكون رطبه أسود-، وإلى أصفر وهو الذي يكون رطبه أحمر. فبدو الصلاح أن يتغير لونه من الخضرة بأن يكون أحمر أو أصفر، فإذا وصل إلى هذه الألوان جاز بيعه والحال هذه لقلة الآفات التي تعتريه في هذه الحال. هذا هو الأصل، فالصحيح أنه يجوز بيعه إذا وصل إلى هذه الحال. أما بالنسبة للعنب فيجوز بيعه إذا بدا صلاحه، وبدو صلاحه أن بعضه يسود، فإذا انقلب إلى أسود أو إلى أحمر فذلك بدو صلاحه، والذي يبقى على لون الخضرة فإذا تموه حلواًً -أي: إذا انقلب ماؤه بعدما كان حامضاً إلى كونه حلواً- ففي هذه الحال يجوز بيعه. وبقية الثمار كثمر التوت، والرمان، والبرتقال، والليمون، وسائر الثمار، لا يجوز بيع الثمرة وحدها إلا بعدما يبدو صلاحها، أي: حتى ينتفع بها فيصلح قطعها والانتفاع بها، فأما إذا كان قطعها قبل بدو ثمارها فلا يجوز بيعها والحال هذه.

وضع الجوائح

وضع الجوائح يقول في تمام الحديث: (أرأيت إن منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه؟) ، استدلوا بهذه الجملة على مسألة وضع الجوائح، وقد ورد فيها حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح) . وصورة ذلك: إذا اشترى إنسان ثمرة، ثم أصابتها جائحة قبل أن تصلح، فيقول: إنها تذهب على البائع، وإن البائع يرد الثمن إلى المشتري؛ حيث إن المشتري لم يحصل له شيء، ولم ينتفع بهذا البيع، ولم يقبض شيئاً، أما صاحب الشجر فإنه مقدم على مثل هذه الأمور، وتصيبه هذه الجوائح وهذه الآفات عادة، فليس له إلا الصبر والتسلي، فيقدر أنه ما باع شيئاً. مثال ذلك: إذا اشتريت -مثلاً- ثمرة النخل قبل بدو صلاحه أو بعد بدو الصلاح، ثم بعدما اشتريتها أصابتها جائحة، جاءها برد فتحاتت، أو أصابتها ريح مثلاً فقلعتها، أو صواعق فأحرقتها، آفة من الآفات أو مرض من الأمراض، فإنها تذهب على البائع الذي هو المالك، ويرد عليك أنت المشتري ثمنك ودراهمك، وهذا ذهب إليه كثير من العلماء، وخصه بعضهم بما إذا باعها قبل أن يبدو الصلاح، أما إذا باعها بعدما بدا صلاحها وجاز بيعها فما دام المشتري قد أقدم على الشراء ودفع الثمن، والبائع قد خلى بينه وبينها، وأصابتها هذه الآفة السماوية التي لا صنع لآدمي فيها؛ فإنه -والحال هذه- يصبر كما يصبر البائع.

شرح حديث: (نهى عن تلقي الركبان، وأن يبيع حاضر لباد)

شرح حديث: (نهى عن تلقي الركبان، وأن يبيع حاضر لباد) قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تتلقى الركبان، وأن يبيع حاضر لباد. قال: فقلت لـ ابن عباس: ما قوله: حاضر لباد؟ قال: لا يكون له سمساراً) . وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة. والمزابنة: أن يبيع تمر حائطه إن كان نخلاً بتمر كيلاً، وإن كان كرماً أن يبيعه بزبيب كيلاً، أو كان براً أن يبيعه بكيل طعام، نهى عن ذلك كله) ] . في هذين الحديثين بعض البيوع المنهي عنها، وقد ذكرنا أن الأصل في البيوع الإباحة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الناس على معاملاتهم وعلى مبايعاتهم، إلا أنه نهى عما فيه ضرر، فكل شيء فيه ضرر على المتبايعين أو على أحدهما أو يسبب شحناء أو يسبب غبناً أو يوقع في الغرر أو نحو ذلك فقد نهى عنه، والنهي لأجل مصلحة المسلمين؛ وذلك لأن الضرر يسبب العداوة بين المسلمين، ويسبب المقاطعة، ويسبب التهاجر فيما بينهم والشحناء، ويحمل كل منهم على الآخر، ويكون بينهم ضغائن وعداوة، والإسلام جاء بما يجمع شمل المسلمين.

حكم تلقي الركبان

حكم تلقي الركبان المسألة الأولى: تلقي الركبان، والمراد بهم الذين يجلبون السلع إلى البلاد، وسماهم ركباناً لأنهم في الغالب يكونون على رواحلهم قد ركبوها، ولكن الحكم يعم حتى ولو كانوا مشاة، كما لو كانوا يسوقون إبلهم أو بقرهم أو غنمهم ويمشون على أرجلهم، فإنه لا يجوز تلقيهم، وكذلك إذا كانوا قد جلبوا طعاماً، أو جلبوا أقمشة، أو جلبوا سلعاً أخرى، وهم يجهلون الأسعار في هذه البلاد، فالذي يتقبلهم ويتلقاهم خارج البلاد قد يخدعهم وقد يغرهم ويقول: إنها رخيصة، وإنها لا تساوي كذا وكذا، وإنكم لو بعتموني لربحتم أكثر من غيركم، فيبيعونه برخص. أو يشترون منه بغلاء إذا كانوا جاهلين بالأسعار، وهم يريدون أن يشتروا طعاماً، أو يشتروا قماشاً، أو يشتروا أواني أو سلعاً أخرى، فيأتيهم ويخدعهم ويقول: إنها غالية رفيعة، وإنها توجد عندي بكذا، فيبيعهم بأكثر مما يبيع الناس به، فهذا لا يجوز، وإذا حصل ذلك وهبطوا الأسواق ووجدوه قد خدعهم في بيع أو في شراء ولو بشيء يسير كما لو غبنهم بواحد في العشرة أو واحد في العشرين يكون لهم الخيار؛ وذلك لأنه عصى وخالف النهي، فلهم أن يستردوا سلعهم التي اشتراها منهم، أو يرد عليهم السلع التي باعهم بزيادة، هذه المسألة الأولى.

حكم بيع الحاضر للبادي

حكم بيع الحاضر للبادي المسألة الثانية: بيع حاضر لباد، وفسره ابن عباس بأن يكون له سمساراً، والسمسار هو الذي يسمى الدلال الذي يبيع السلع للناس، والمعنى أنه لا يجوز له أن يتقبل البوادي، وغالباً هم الأعراب، فقال: (لا يبع حاضر لباد) ، فالحاضر هو صاحب البلد، والبادي هو صاحب البادية، والحكم معلق بكل من كان خارج البلد جاهلاً بالسعر، فإذا جاء صاحب السلع سواء كان بدوياً أو قروياً، فجاء بسلع يريد أن يبيعها، فيبيع المواشي، أو يبيع هذا الطعام، أو يبيع الأدهان التي معه أو السلع، فجاء لقصد بيعها لا لقصد خزنها، فإنه لو قصد أن يخزنها فجئته وأمرته أن يبيعها فقد نفعت الناس، أما إذا جاء لقصد أن يبيعها، وكان جاهلاً بالسعر، لا يدري بأسعار الناس، ولا ما هم فيه -فإنه إن كان عالماً فلا يزيده صاحب البلد شيئاً ليس عنده- وكان عازماً على أن يبيعها في حالها لا يتأنى بها، وكان أهل البلد بحاجة إلى هذا الطعام، أو بحاجة إلى هذا الدهن، أو هذا الأقط، أو بحاجة إلى هذه المواشي؛ لذبحها أو للبنها أو ما أشبه ذلك، بخلاف ما إذا كانت البلد مستغنية عنها، أو كان يوجد أمثالها كثير. فالحاصل أنه إذا اجتمع كونه جاهلاً، وكونه جاء بها ليبيعها، وكونه عازماً على بيعها بسعر يومها، وكون الحاضر هو الذي جاء إليه أو تلقاه، وكون الناس بحاجة إليها؛ ففي هذه الحال لا يكون له سمساراً، فلا يقل: أعطني سلعك، أنا صاحب البلد أبيعها بتأنّ، حتى تربح فيها أكثر، فينفعه ويضر الناس، بل يقول في الحديث: (دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض) ، فيتركه ليبيعها كما يشاء، فهذا هو الأصل في بيع حاضر لباد.

بيع المزابنة

بيع المزابنة المسألة الثالثة: بيع المزابنة، وهي مشتقة من الزبن، وهو الدفع، فالأصل في الزبن أنه الدفع، ومنه قول الله تعالى: {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [العلق:18] وهم خزنة النار؛ لأنهم يدفعون الكفار في النار دفعاً، فالعادة أن هذين اللذين يتبايعان هذه المبايعة يقع بينهما شيء من الاختلاف، وكل منهما يدفع الآخر إما دفعاً حسياً أو دفعاً معنوياً. وذكر للمزابنة ثلاثة أمثلة: المثال الأول: أن يبيع التمر الذي في رءوس النخل بتمر مقطوع، فإن هذا فيه جهل، وفيه عدم تحقق التماثل؛ لأن التمر من الأشياء الربوية، فلا يجوز أن يباع إلا بمثله كيلاً مثلاً بمثل، فكونه يقول -مثلاً-: اشتريت منك ثمرة هذه النخلة بهذا المكتل من التمر -تمر بتمر من غير تحقق التماثل- لا يجوز، وهذا من المزابنة. المثال الثاني: إذا كان عنده شجرة عنب، والعادة أنه يتركها حتى تصير زبيباً، فيقول: بعني ثمرة هذه الشجرة -شجرة العنب- بهذا المكتل من الزبيب، أو: بعشرة آصع أو: بعشرين صاعاً زبيباً، خذها الآن واترك لي ثمرة هذه الشجرة من العنب لآخذها، سواء زادت عن عشرين أو نقصت، وهذا أيضاً فيه اختلاف؛ وذلك لأنه لا يتحقق التساوي، فقد يكون ثمر الشجرة أربعين صاعاً، وقد لا يصفو منه إلا عشرة؛ لأنه شيء مجهول ولوكانوا ينظرون إليه، وكذلك ثمر النخلة، فلا يتحقق هنا التماثل. المثال الثالث: في ثمر الزرع، فإذا جاء إليك وزرعك قد أثمر، وقد بدا سنبله؛ فقال: بعني زرعك هذا بمائة صاع، أو بهذه الأكياس التي فيها مائة صاع أو مائتان أو خمسمائة، خذ مني هذه الأكياس وأعطني هذا الزرع؛ فهذه الأكياس معلوم وزنها، ومعلوم كيلها، والزرع مجهول لا يدرى هل يكون كثيراً أو قليلاً، فلا يتحقق التماثل. فهذه أمثلة للمزابنة، والنبي عليه الصلاة والسلام مثل بها، وأراد بذلك كل شيء يماثلها مما فيه غرر؛ لأنه أمر إذا بيع شيء من المكيلات أنه لابد من التساوي والتماثل، ولعله يأتينا ما يستثنى من ذلك إن شاء الله.

شرح عمدة الأحكام [46]

شرح عمدة الأحكام [46] حرم الله ورسوله بيع كل حرام كالخمر والميتة والخنزير والأصنام، وذلك لنجاستها وخبثها، أو لضررها على العقل أو النفس أو الدين وغير ذلك، فالإسلام يحل الطيبات ويحرم الخبائث، ويدعو إلى معالي الأمور، وينهى عن سفاسفها.

العرايا وأحكامها

العرايا وأحكامها

تعريف العرية

تعريف العرية قال المصنف رحمه الله تعالى وإياه: [باب العرايا وغير ذلك. عن زيد بن ثابت رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لصاحب العرية أن يبيعها بخرصها) ولـ مسلم: (يخرصها تمراً يأكلونها رطباً) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في بيع العرايا في خمسة أوسق، أو دون خمسة أوسق) ] . هذا الحديث يتعلق بالعرايا، والعرايا هي النخلة يباع ثمرها وهو في قنوانه بتمر، وهي مستثناة من مسألة المزابنة، وقد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم (نهى عن المزابنة، ورخص في العرايا) ؛ وذلك لأن من أنواع الربا بيع التمر بالتمر دون أن يكون متساوياً، أما بيع بعضه ببعض متساوياً فإنه جائز ولا يكون ربا، مثال ذلك: أن يبيع صاع تمر بصاع تمر، هذا له نظر في هذا، وهذا له نظر في هذا، فيجوز، ولا يجوز التفاوت في شيء من ذلك عن قصد، وقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم أرسل مرة بلالاً يأتيه بتمر من تمر خيبر، فجاءه بتمر جنيب-يعني: جيد قوي نظيف حسن- فتعجب وقال: (أكل تمر خيبر هكذا؟! فقال: لا والله. إنا لنشتري الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال: لا تفعل، بع الجمع بالدراهم ثم اشتر بالدراهم جنيباً) ، والجمع: هو التمر المجموع. أي: يكون فيه الرديء والجيد. والجنيب: هو التمر الذي كله جيد، وكله نظيف، وكله طيب. يقول: إذا كان عندك تمر رديء، وتريد أن تبدله بتمر جيد فلا تقل: أعطني صاعاً من هذا بصاعين من هذا، فإن هذا ربا، بل هو عين الربا، فلا يباع التمر إلا مثلاً بمثل متساوياً، كما لا يباع البر بالبر إلا مثلاً بمثل، وكذلك جميع الحبوب ولو اختلفت القيم، فلا يباع كيس أرز بكيس أرز من جنس آخر أحسن منه، بل يباع بمثله ولو اختلفت القيم، وإذا كان الإنسان عنده أرز رديء وأراد أن يشتري به أرزاً جيداً؛ باع الرديء بدراهم واشترى بالدراهم جيداً، وهكذا في التمور، وهكذا في الزبيب، وهكذا في الشعير، وهكذا في القمح، وهكذا في كل الحبوب، فلابد -كما سيأتينا في الربا- من بيعها بالدراهم ثم شراء غيرها. ويستثنى من ذلك مسألة العرايا، فيتسامح فيها لأجل الحاجة، فأما لغير حاجة فلا يجوز، وذلك لعدم تحقق التساوي، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: هل يباع الرطب بالتمر؟ فقال: (أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم، فقال: فلا إذاً) ، فبين العلة، فالرطب معلوم أنه ثقيل؛ لأن فيه ماء، فإذا وزنت تمراً جافاً بتمر فيه ماؤه كالرطب فإنه قد يتوازن، ولكن متى جف ويبس هذا الرطب خف وزنه وقل كيله، فلا يكون متساوياً، فمن أراد أن يشتري رطباً بتمر فإن عليه أن يبيع التمر بدراهم، ويشتري بالدراهم رطباً. وذكرنا أنه استثنى من بيع التمر بالرطب مسألة العرايا، وسببها أن بعض الناس يكون عندهم بقية تمر من السنة الماضية، ويأتي الرطب وهو غير موجود عندهم، ويحبون التفكه بأكل الرطب، وليس عندهم دراهم يشترون بها الرطب، فيشترون بالتمر رطباً، فرخص لهم للحاجة.

شروط جواز العرية

شروط جواز العرية يشترط في بيع العرايا خمسة شروط: الشرط الأول: أن يأكلوها رطباً، فإذا تركوها حتى صارت تمراً لم يصح البيع. الشرط الثاني: ألا يجدوا دراهم، فإذا وجدوا دراهم اشتروا بها رطباً ليأكلوه. الشرط الثالث: أن يكون دون خمسة أوسق، والوسق ستون صاعاً، أي: أقل من ثلاثمائة صاع، والصاع يقارب نحو ثلاثة كيلو أو أقل؛ وذلك لأنه لا يكون -غالباً- أحد يحتاج إلى أكل تسعمائة كيلو في وقت الرطب، فلذلك لابد أن يكون خمسة أوسق أو دون خمسة أوسق. الشرط الرابع: التقدير أو الخرص، وهو أن يأتي الذي يعرف قدرها فيقف تحت النخلة فيقول: أقدر بأنها مائة كيلو، أو أنها مائة وخمسون، فهناك من عندهم معرفة بتقديرها وإن لم يصرموها، فإذا قدروها باعوها بقدر ذلك من التمر القديم. الشرط الخامس: الحلول والتقابض قبل التفرق، فيحضر صاحب التمر تمره تحت النخلة في زنبيل أو نحو ذلك ويقول: اشتريت منك ثمرة هذه النخلة الذي في رءوسها وفي قنوانها بهذا التمر الذي في هذا الفرق، أو في هذه العيبة ونحوها، فيقول: قد بعتك، فهذا يأخذ تمره، وهذا يخلي بينه وبين هذه النخلة ليقتطفها، وليأخذها شيئاً فشيئاً ليتفكه في أيام أكل الرطب، ويطعم أهله.

إشكال وجوابه

إشكال وجوابه قد يقال: إن بينهما تفاوتاً؛ وذلك لأن قيمة الرطب أغلى بكثير من قيمة التمر الذي قد مضى عليه سنة، والغالب أنه قد اسود وقد بدأ فيه التغير! فنقول: هذا صحيح، ولكن قد يكون أفضل عند كثير من الناس، ومعلوم أن التمر الذي قد مضى عليه سنة أحسن حلاوة وأقوى طعماً من التمر الجديد، وإن كان التمر الجديد له حلاوة وله فاكهة وله لذة حاضرة، ولكن لاشك أن التمر الذي قد نضج وقد مضى عليه مدة وهو ناضج يكون أقوى طعماً، وهذا من جهة. ومن جهة ثانية أن أهل النخل قد يحتاجون إليه علفاً لدوابهم، وقد يكون التمر الذي في النخل لا يصلح علفاً، فيأخذون هذا التمر في عيبة ونحوها ويبيعونه بهذا الرطب الذي في النخلة. وقد ذكرنا أيضاً أنه لابد من البدو والصلاح، فلابد أن يكون قد بدا صلاحه في هذه الشجرة، وبدو الصلاح أن يحمر أو يصفر، ومعلوم أن التمر عندما يكون بسراً أو بلحاً يكون لونه أخضر كله، ثم إذا قارب النضج وقارب الاستواء فإنه يصير إما أصفر وإما أحمر، ومعلوم هذا كما هو مشاهد، ثم بعد ذلك يبدأ في النضج ليكون رطباً، وما كان أحمر يكون لونه أسود أو قريباً من السواد، وغيره يكون لونه أحمر، فلا يباع إلا إذا بدا صلاحه، فالعرايا لا تباع إلا إذا بدا صلاحها. وقد تقدم أنه يجوز بيعها بالدراهم، ولكن تبقى في رءوسها، وتكون إذا تلفت من ضمان صاحبها وهو صاحب النخل، وهي المسألة التي تقدمت وعرفت بوضع الجوائح، فهذه مسألة العرايا.

تفسير آخر للعرايا

تفسير آخر للعرايا قال بعضهم: إن العرايا هي المنح، وذلك أن أصحاب النخل ينزل عندهم بعض المجاورين فيعرونهم نخلاً، فيقول: هذه النخلة أعريتكها، لك ثمرتها مجاناً أو يقول لأخيه الذي ليس له نخل أو لابن أخيه أو لابن عمه أو لقريبه: أعريتك هذه النخلة، يعني: أعطيتك ثمرها بدون مقابل، فيكون هذا من جملة ما يسمى: (عرية) ، ولكن الأصل في العرايا أنها ما يؤكل رطباً، وقد عرف أن أهل النخل يأكلون كثيراً من تمرهم ويعطونه بدون مقابل لأهليهم ولأقاربهم. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث الخراصين الذين يخرصون النخل يقول لهم: (دعوا الثلث، فإن لم تدعوه فدعوا الربع) فإن كان عند أحدهم مائة وعشرون نخلة، فالغالب أنه سوف يأكل منها قسطاً ويعريه لأقاربه، فيقول لهم: اتركوا له الثلث- نحو أربعين نخلة-، فإذا رأيتم أنه أكثر من حاجته فاتركوا له الربع- أي: ثلاثين من مائة وعشرين يأكل هذه هو وأهله رطباً، ويعري هذه، ويعطي هذه، ويمنح هذا، ونحو ذلك- واخرصوا الباقي وقدروه؛ لتؤخذ منه الزكاة.

العرايا تختص بالتمر

العرايا تختص بالتمر مسألة العرايا تختص بالتمر على الصحيح، وبعضهم ألحق بها الزبيب، والزبيب هو ثمر العنب، ومعلوم أيضاً أن العنب ما دام عنباً فإنه لذيذ وشهي، وإذا أصبح زبيباً فقد تقل قيمته، وقد تقل لذته، ولكن لا يزال مرغوباً فيه، فإذا كان إنسان عنده زبيب من العام الماضي، وليس عنده دراهم ويحب أن يأكل من العنب الجديد، فقال لصاحب شجرة العنب: بعني ثمرة هذه الشجرة بهذا الزبيب الذي في هذا المكتل الذي قدره -مثلاً- مائة صاع أو نحو ذلك، فهل يجوز ذلك؟ أجازه بعضهم، ومنعه الآخرون وقالوا: لم تكن العادة أن الحاجة إلى العنب تكون كالحاجة إلى الرطب؛ فإن الرطب يكون قوتاً، وأما الزبيب والعنب فإنما هو فاكهة يتفكه بها. فعلى هذا تختص العرايا بالنخل الذي يباع بالرطب، وفي هذه الأزمنة الناس يجدون النقود، وما داموا يجدون النقود والدراهم فليسوا بحاجة إلى أن يشتروا الرطب بالتمر، سواء أكان ذلك التمر جافاً وقديماً أم ليس بقديم، فيشترون الرطب أينما كان، كما تشتري -مثلاً- عشرين نخلة بثمرتها كل نخلة بمائة أو بمائتين أو نحو ذلك، ولو تركتها إلى أن أثمرت لا يضر ذلك، إنما الشروط هذه فيما إذا باع ثمرة النخلة بتمر.

شرح حديث: (إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام)

شرح حديث: (إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام) قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عام الفتح: (إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، فقيل: يا رسول الله! أرأيت شحوم الميتة؟ فإنه يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس، فقال: لا، هو حرام. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: قاتل الله اليهود؛ إن الله لما حرم عليهم شحومها جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه) (جملوه) أي: أذابوه] . هذا الحديث يدل على تحريم بيع كل ما هو حرام، وإذا كان أكله حراماً واقتناؤه حراماً فثمنه حرام، والله تعالى حرم الميتة، فثمنها حرام، وذلك لأنه لا يجوز أكلها، فكذلك لا يجوز أكل ثمنها ولو وجد من يستحلها، وكذلك كل الدواب المحرمة لا يحل ثمنها، فمثلاً: الكلاب والخنازير محرمة الأكل، فكذلك ثمنها محرم، فالذين يبتاعون الخنازير في البلاد الغربية ليسوا بمسلمين، ولو باعه مسلم أو ملكه مسلم لم يحل له أن يأخذ عليه عوضاً، فعوضه محرم، وقد ورد في الأحاديث تحريم ثمن الكلب، وكما أن أكله ولحمه حرام فثمنه حرام ولو وجد من يأكله أو يستحل ثمنه، فإذا حرم الله بيع شيء، فإن من باعه قد أكل حراماً، وإذا حرم أكل شيء؛ فإن بيعه يكون حراماً. وحرم الله الخمر، وإذا كانت محرمة فإن ثمنها حرام، بل ورد لعن عشرة في الخمر في قوله عليه السلام: (لعن الله الخمر وبائعها ومشتريها وشاربها وساقيها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها) ، فهؤلاء اشتركوا في الإثم، والشاهد أنه جعل ثمنها محرماً. ولما حرمت الخمر في أول الأمر كان هناك بعض الصحابة عندهم خمر لأيتام، فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيعها؛ حتى لا تذهب على اليتامى، وكان هناك من يشتريها من اليهود، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الذي حرم شربها حرم بيعها) .

حكم بيع ما هو محرم

حكم بيع ما هو محرم يحرم بيع كل شيء محرم، مثل الصور التي أمرنا بإتلافها، كما في حديث: (لا تدع صورة إلا طمستها) ، فهذه الصور محرم اقتناؤها ومحرم أيضاً ثمنها، فالذي يأكل من ثمنها يعتبر قد أكل حراماً، والذي يبيعها أو يجعلها بضاعته يتعامل بحرام. كذلك الصليب نحن مأمورون بأن نتلفه؛ لأنه معبود النصارى، فالذين يبيعون الصلبان ويستفيدون من ثمنها، فيشترونها ثم يربحون فيها أو يعملونها ثم يبيعونها، لا شك أنهم يبيعون حراماً ويأكلون حراماً، وكذلك جميع المعبودات، والنبي صلى الله عليه وسلم مثل بالأصنام التي هي عبارة عن صور منحوتة، ينحتون صورة من خشب أو من حجر على صورة شخص أو رجل صالح، ثم يبيعونها لمن يعبدها أو لمن ينصبها أو لمن يتبرك بها. فهذه الصور -ولو كانت صور صالحين، سواء أكانت منقوشة أم منحوتة- داخلة في الأصنام التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن بيعها حرام. فهذه المحرمات سواء أكانت تباع على من يستحلهاكبيع الخمر لليهود، وبيع الصلبان للنصارى، أم تباع على مسلم يرى حرمتها، أم تباع على مسلم يرى حلَّها ولكن البائع يرى حرمتها كبيع الكلاب والخنازير وما أشبهها، أم تباع على من تباح له كالميتة يبيعها لمضطر -جائع- وهي ميتة، فحلال له أن يأكل منها، لكن ثمنها حرام، فهذا الذي يبيعها وهو يعلم أنها ميتة إن كان جائعاً فله أن يأكل منها، وأما كونه يبيعها فليس له ذلك. وهكذا يقال في آلات اللهو والملاهي كلها، فنحن مأمورون بإتلافها، وبمحق العود والطنبور والطبول والمزامير وما أشبهها، وثمنها يكون حراماً، فمن باعها وأكل ثمنها يعتبر قد أكل حراماً، فهذا معنى قوله في بعض روايات الحديث: (إن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه) يعني: إذا حرم عينها حرم بيعها؛ وذلك لأن الأصل كون أكلها حراماً لكونه يكسب البدن داءً خبيثاً.

حكمة تحريم الميتة

حكمة تحريم الميتة حرم الله الميتة؛ لكونها قذرة، والتغذي بها يؤذي ويسبب أمراضاً، وإنما أباحها للضرورة، فأباحها لمن اشتد به الحال وخشي الموت من الجوع، قال تعالى: {فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:3] ، ولكن عند الاستغناء يحرم أكلها، وإذا كان يحرم أكلها فكذلك يحرم أيضاً بيعها. وكذلك ما حرم الخنزير إلا لمضرته؛ وذلك لكونه قذراً ونجساً، وغذاؤه خبيث، فإذا كان نجساً ومستقذراً فإن أكله يكسب آكله خبثاً وضرراً، فإذا كان كذلك؛ فإنك إذا بعته على من يأكله شاركته في هذا الإثم.

حكم بيع شحوم الميتة

حكم بيع شحوم الميتة لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله حرم بيع الميتة استشكل بعض الصحابة أنه قد ينتفع بشيء منها، فهل يكون هذا الانتفاع مسوغاً لبيع ذلك الشحم؟ فإن شحم الميتة ذكروا أنه ينتفع به في غير الأكل في هذه الثلاثة الأشياء: الأول: تطلى به السفن، فالسفينة معلوم أنها تصنع من خشب، وأنها تسبح في البحر، ومعلوم أن ماء البحر لملوحته قد تتآكل منه خشب السفينة، فتحتاج إلى أنهم يدهنونها قبل أن تدخل في البحر؛ حتى يكون ذلك الدهن مضاداً لتأثير الماء في الخشبة، فهذا معنى أنها تدهن بها السفن، أي: تطلى بها السفن، فيطلون بها ظاهر السفينة. الثاني: يدهنون به الجلود بمنزلة الدباغ، فالجلد أو بعض الأواني الجلدية كالقربة والسقاء والدلو قد يكون يابساً، ويحتاج إلى ما يلينه، فيلينونه بدهن. الثالث: كانوا يوقدون السرج بالشحم، ليس عندهم الكهرباء الموجودة الآن، ولا الأجهزة الجديدة، ولا ما استحدث من النفط كالغاز أو القاز أو ما أشبهه، فما كانوا يوقدون السراج إلا بالشحم أو بالزيت، فقالوا: هل يجوز لنا أن نوقد السرج - التي هي المصابيح - بشحم الميتة؟ وهل يجوز لنا أن نطلي السفينة بشحم الميتة؟ فالناقة إذا ماتت نأخذ شحمها ونذيبه ونطلي به السفينة، ولا يتأثر به شيء؛ لأنه لا يصلى عليه ولا يضر أحداً، والدلو أو نحوه إذا كان يابساً لا يضره أن ندهنه بهذا الشحم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا، هو حرام) . ومن العلماء من يقول: إنه ما حرم إلا البيع، وكأنهم يقولون: مادام أن هذه الشحوم ينتفع بها؛ فيوقد بها السراج، وتطلى بها السفينة، ويدهن بها الجلد قبل دبغه، فألا يكون ذلك مبرراً في أن نبيعها على من يدهن بها وينتفع بها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا، هو حرام) .

حكم استخدام شحوم الميتة ونحوها

حكم استخدام شحوم الميتة ونحوها لا خلاف أن بيع شحوم الميتة حرام، ولو كان من يشتريها يوقد بها السراج، ولو كان من يشتريها يدهن بها السفينة، بيعها حرام مطلقاً، ولكن هل يجوز أن تطلى بها السفن أو تتخذ سرجاً؟ في ذلك خلاف، والأقرب أنه إذا كانت لا تتعدى نجاستها فإن ذلك جائز، فالسراج مثلاً إذا لم يكن في المسجد جاز أن يوقد بالدهن المتنجس، أو بالدهن النجس، أما في المسجد فلا يجوز؛ وذلك لأنه يتحلل منه دخان، وذلك الدخان دخان نجاسة، وأما في البيوت وغيرها فإنه لا تتعدى نجاستها. وأما طلاء السفينة، فالسفينة لا تتعدى منها النجاسة؛ وذلك لأنها تخوض في لجّة البحر، والبحر لا يتنجس؛ لعمقه ولكثرة مائه، فلا تتعدى نجاستها، ولأن الذي يطلى إنما هو ظاهرها الذي يلي البحر، وأما باطنها الذي يركبون فيه فلا يطلى، فلأجل ذلك يجوز أن تطلى بالشحم المتنجس أو النجس أو نحو ذلك.

الحيلة في بيع الحرام

الحيلة في بيع الحرام لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بحكم شحوم الميتة أخبرهم بفعل اليهود في احتيالهم على أكل الحرام، فقد حرم الله على اليهود بعض الشحوم وبعض اللحوم، فحرم عليهم كل ذي ظفر، وهو الإبل، فحرام عليهم أكل لحمها وشرب لبنها أو شرب مرقها أو الادهان بدهنها، وكذلك ما يشبهها في الخلقة كالنعام لا يأكلونه. وحرم عليهم من شحوم البقر والغنم شحم الثربة وشحم الكليتين وشحم القلب ونحوها، قال تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} أي: خف، {وَمِنْ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوْ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} [الأنعام:146] ، فأباح لهم شحم الظهر، وأباح لهم شحم الإلية؛ لأنه مختلط بعظم، وأباح لهم شحم الحوايا التي هي شحم الأمعاء، وحرم عليهم بقية الشحوم التي في البطن، وشحم الكلية وما أشبه ذلك، ولما حرمت عليهم هذه الشحوم، وكذلك شحوم الإبل، احتالوا فأذابوها؛ فصاروا يجمعون هذا الشحم ثم يذيبونه حتى يذوب على النار، ثم يبيعونه على العرب الذين هو مباح لهم، ويأكلون ثمنه، وهذه حيلة إلى أكل ما هو حرام، فإن الله لما حرم الثمن حرم الأكل، فكان مما يتبع ذلك تحريم الثمن، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أمته عن مثل هذه الحيلة. وورد في حديث قوله صلى الله عليه وسلم: (لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل) ، والحيلة كونه يأتي الحرام من جهة وهو يعلم أنه حرام، فيقول: ما أتيته من الجهة التي هو حرام فيها، وإنما من جهة أخرى، مثل حيلة أصحاب السبت، لما حرم الله عليهم صيد السمك في يوم السبت، وابتلاهم بأن كانت الأسماك تخرج في ذلك اليوم، وإذا كان في يوم الأحد غابت عنهم واختفت في البحر، فأهمهم ذلك، كيف أنها لا تخرج إلا في اليوم الذي منعوا من الصيد فيه؟ فاحتالوا بأن نصبوا شباكهم في يوم جمعة، فإذا خرجت يوم السبت أمسكتها الشباك، ثم يأخذونها في يوم الأحد، فأصبحوا يمسكونها في يوم السبت بأن تمسكها لهم شبكاتهم، فعاقبهم الله بالعقوبة التي ذكرها في القرآن في قوله تعالى: {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف:166] . والحاصل أن الحيل نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم، أي: كون الإنسان يحتال فيقول: هذا الشيء حرام علي أكله، وما دام أن هناك من يأكله، فلماذا لا أبيعه عليه وآكل ثمنه؟ وقد سمعت أن هناك من يستحل أكل الكلاب من هؤلاء النصارى من بلاد الفلبين ونحوهم، فهم يستحلون أكل الكلاب، يقتنصونها ويقتلونها ثم يأكلونها، وكذلك يأكلون السنانير (القطط) ، وكأنها عندهم شيء معتاد ونظيف لا محذور فيه، وبعض الشباب أو بعض الصبيان قد يجلبون إليهم في محلهم القطط ونحوها، ويعوضونهم عليها، ولا شك أن هذا حرام، ولو كان أولئك أطفالاً لم يبلغوا، ولكن على أوليائهم إذا عرفوا ذلك أن ينهوهم عن مثل ذلك وأن يخبروهم بحرمته. وعلى كل حال لا تجوز المساعدة على أكل شيء محرم بأي نوع من أنواع الإعانات والمساعدات.

شرح عمدة الأحكام [47]

شرح عمدة الأحكام [47] بيع السلم هو بيع فيه تعجيل الثمن وتأخير السلعة، وقد أباحته الشريعة لحاجة البائع والمشتري، لكن يشترط فيه شروط تخفف من الغرر، وتحقق أكبر قدر يمكن من المصلحة.

أحكام السلم

أحكام السلم

معنى السلم

معنى السلم قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [باب السلم. عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين والثلاث، فقال: من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم إلى أجل معلوم) . هذا الحديث يتعلق بالسلم الذي هو تعجيل الثمن وتأخير السلع، فيكون الثمن حاضراً والسلعة المشتراة غائبة مؤجلة بأجل محدود، سواء أكان الأجل قريباً أم بعيداً، وجاءت الرخصة فيه من باب التوسعة؛ فكما أن الثمن يكون غائباً والسلعة حاضرة فكذلك العكس، فيكون الثمن حاضراً والسلعة غائبة، ولكن لابد وأن تكون السلعة موصوفة مضبوطة بالصفة؛ حتى لا يقع الاختلاف، وذلك لأن الغائب الذي يقع عليه البيع لا بد من معرفته، فالثمن الذي يدفع لا بد أن يكون معروفاً، والمثمن -الذي هو السلعة- لا بد أيضاً أن يكون معروفاً؛ حتى لا يقع فيهما شيء من الاشتباه.

شروط السلم

شروط السلم في هذا الحديث يقول: (قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين والثلاث، فقال: من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم) ، ومعنى كونهم يسلمون في الثمار أن يأتي الرجل إلى صاحب النخل فيقول: أشتري منك -مثلاً- مائة صاع من ثمر النخل لمدة سنة أو لمدة ثلاث سنين أعطيك ثمنها الآن، وإذا حلت تعطيني الثمرة التي اشتريتها منك في ذمتك، ويكون البيع رخيصاً؛ وذلك لأنه قدم الثمن وانتفع به، والحاجة داعية إليه. فأرشدهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنه لا بد من تحديد المثمن الذي هو المبيع، إما بوزن إذا كان يوزن، وإما بكيل إذا كان يكال، ولا بد أيضاً من تحديد الزمن الذي يحل فيه، فيقول مثلاً - إذا كان مما يكال كالحبوب والبر والشعير والذرة ونحو ذلك -: اشتريت منك في ذمتك مائة صاع من الذرة التي لونها كذا وكذا، أو من البر، أو من الشعير، أو من الأرز تعطينيها بعد خمسة أشهر أو بعد سنة أو بعد سنتين، وكل صاع قيمته ريال أو درهم. فيحتاج البائع إلى الدراهم لينتفع بها، فيبيع التمر أو البر رخيصاً حتى تحصل له هذه الدراهم ليشتري بها حاجاته الضرورية، فإذا حل الأجل وصرم النخل مثلاً أو حصد الزرع فعند ذلك يدفع ما حصل عليه الاتفاق، فيحصل لكل منهما منفعة.

الحكمة من إباحة السلم

الحكمة من إباحة السلم السلم من الارتفاقات التي يرتفق بها وينتفع بها؛ وذلك لأن صاحب النخل أو صاحب المزرعة قد يكون بحاجة إلى دراهم ليشتري بها حاجاته ككسوة أولاده مثلاً أو غذائهم، ولا يجد لهم غذاءً مثلاً، ولا يجد لهم كسوة، والثمر متأخر -ثمر النخل- يحتاج إلى ثمانية أشهر أو إلى عشرة أشهر أو إلى سنة، ولا يجد أحداً يقرضه ولا يهبه، فيضطر إلى أن يبيع من الثمر قبل أن يحمر، ويأتيه إنسان عنده دراهم ليس بحاجة لها، فيقول: أنا أشتري منك مائة صاع من التمر، أو ألفاً، أو مائة صاع من البر أو نحوه، كل صاع بريال بدل أن يكون الصاع -لو كان موجوداً- بخمسة أو بثلاثة أو نحو ذلك، ولكن لحاجتك أنت إلى الدراهم وأنت صاحب الزرع بعته رخيصاً، كل صاع بريال أو بريالين؛ حتى تنتفع بالدراهم الآن، وحتى تقضي بها حاجتك. فإذا حصد الزرع جاء هو وأخذ مائة صاع قد حصل عليها رخيصة فباعها وربح فيها، فأنت - يا صاحب الزرع أو الثمر - انتفعت بحصول الدراهم لك وقضاء حوائجك ونفقة أولادك وبذرك وسقيك ونحو ذلك، وصاحب الدراهم انتفع حيث ربح فحصلت له هذه السلعة رخيصة، فربح فيها أكثر مما يربح غيره. فهذا وجه كون السلم نافعاً للاثنين، نافعاً للبائع الذي باع رخيصاً وانتفع بالثمن مقدماً، ونافعاً للمشتري الذي اشترى رخيصاً وربح في بيعه.

ما يصح فيه السلم

ما يصح فيه السلم يصح السلم في الثمار كالزبيب والتمر، ولو لم يكن المشتري صاحب نخل، فيقول: أنا بحاجة إلى دراهم لأقضي بها حاجتي، فأبيعك مائة صاع من التمر أو من الزبيب كل صاع بريال وأعطني النقود الآن، وإذا مضت سنة أعطيتك الزبيب أو التمر أو نحو ذلك، فيكون هذا قضاءً لحاجته، فإذا حل الأجل ذهب واشترى لك ما التزمه في ذمته، فإن كان له ثمر أعطاك منه، وإلا اشترى لك من الأسواق وقضاك. ويصح أيضاً في الثياب أو ما يباع ذرعاً، فيصح أن تشتري منه مائة ثوب مؤجلة يعطيكها بعد سنة كل ثوب بخمسة، مع أن قيمتها الآن كل ثوب بعشرة، ولكن هو بحاجة إلى الدراهم لينتفع بها، وأنت لست بحاجة إلى هذه الدراهم، وتريد أن تربح فيها، فبعد سنة يعطيك مائة ثوب تبيعها مثلاً بألفين أو بألف، ولا شك أن هذا فيه مصلحة للاثنين. كذلك أيضاً يصح السلم في اللحوم ويصح في الخبز، فيصح -مثلاً- أن تعطي الخباز مائة ريال أو مائتين على أن يبيعك كل ستة أرغفة بريال، إذا كان هو بحاجة إلى الدراهم، وأنت لست بحاجة إليها، فتتفقان على أن يبيعك كل ستة أرغفة بريال، ففي كل يوم يعطيك ستة إلى أن تنقضي مائة يوم. فأنت ربحت حيث حصل لك ستة أرغفة بدل أربعة، وهو ربح حيث انتفع بهذه الدراهم واشترى بها دقيقاً، أو اشترى بها حوائج أو نحو ذلك. وكذلك صاحب اللحم، فإذا كان اللحم يباع الكيلو منه -مثلاً- بعشرة، وكان صاحب اللحم بحاجة إلى دراهم فقلت له: أنا أشتري في ذمتك -مثلاً- خمسمائة كيلو من اللحم الذي صفته كذا وكذا، الكيلو بسبعة أو بستة، أسلمها لك الآن، وتعطيني كل يوم كيلوين أو ثلاثة من اللحم، وثمنها مقدم لك. فتأخذها كل يوم إلى أن ينتهي مالك عنده من اللحم، ويصح ذلك، فأنت دفعت الدراهم نقداً وهو انتفع بها، وأنت حصلت على رخص السعر، فبدل أن الناس يشترون بعشرة اشتريت أنت بستة أو بسبعة أو نحو ذلك. ويصح أيضاً في المواشي، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكراً -والبكر: هو ولد الناقة- فاشتراه في ذمته، فقال: بعتك بكراً بكذا فأعطاه الثمن، فلما حل الأجل جاءه ليطلبه، فلم يجد إلا خياراً رباعياً، وقال: (إن خيركم أحسنكم قضاءً) ، فيجوز أن تدفع لصاحب الغنم -مثلاً- ألفاً على أن يعطيك خمساً من الغنم في وقت الأضحية، تكون كل واحدة بمائتين، مع أنها في ذلك اليوم قد تساوي أربعمائة أو خمسمائة، ولكنه بحاجة إلى ثمنها، لكن لا بد من وصفها؛ أي: وصف السن واللون وما أشبه ذلك. وكذلك يصح حتى في الأشياء الجديدة، والتجار يتفقون الآن مع المصانع على أن يقدموا لهم الثمن، أعني: أصحاب المصانع الخارجية الذين يصنعون الأدوات كالقدور والصحون والأواني والسكاكين والملاعق، بل وحتى المكائن والسيارات، الأشياء الكبيرة والصغيرة، فالآن يقدمون ثمنها قبل خمسة أشهر أو قبل عشرة أشهر، ويتفقون على السعر، وإن كانوا أيضاً قد يفرقون الثمن بأن يدفعوا الدفعة الأولى في وقت التعاقد، والدفعة الثانية في وقت التحميل، والدفعة الثالثة في وقت الوصول، أو ما أشبه ذلك، وهذا أيضاً يسمى سلماً؛ وذلك لأنهم لو لم يحصل لهم هذا الثمن مقدماً لباعوه غالياً، ولما حصل لهم بعضه مقدماً باعوه رخيصاً؛ فيربحون هم بتحصيل الثمن، ويربح المشتري بوجودها رخيصة، فهذا معنى أن السلم من الارتفاقات التي أباحها الإسلام، والتي فيها مصلحة للبائع ومصلحة للمشتري، فالبائع ينتفع بالثمن في وقت حاجته وضرورته، والمشتري تحصل له السلعة رخيصة فيربح فيها أكثر مما يربح غيره.

شرح عمدة الأحكام [48]

شرح عمدة الأحكام [48] المسلمون على شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً، والشروط الواجب الوفاء بها تكون على الطرفين، وعدم الوفاء بها داخل في إخلاف الوعد الذي هو صفة من صفات المنافقين، وللشروط أحكام بينها أهل العلم.

شرح حديث عائشة: (جاءتني بريرة فقالت: كاتبت أهلي)

شرح حديث عائشة: (جاءتني بريرة فقالت: كاتبت أهلي) قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [باب الشروط في البيع: عن عائشة رضي الله عنها قالت: (جاءتني بريرة فقالت: كاتبت أهلي على تسع أواقٍ في كل عام أوقية، فأعينيني، فقلت: إن أحب أهلك أن أعدها لهم ويكون ولاؤك لي فعلت، فذهبت بريرة إلى أهلها فقالت لهم، فأبوا عليها، فجاءت من عندهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، فقالت: إني عرضت ذلك عليهم فأبوا إلا أن يكون لهم الولاء، فأخبرت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: خذيها واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق، ففعلت عائشة، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد: فما بال رجال يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله؟! ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق) ] . هذه قصة واقعية، وهذه الأَمَة كانت مملوكة لبعض الأنصار، وكانت تحب أن تتحرر، فاشترت نفسها بثمن مؤجل، وجاءت إلى عائشة تطلب منها أن تعينها في هذا الثمن حتى تعتق، ولكن عائشة عرضت عليها أن تشتريها بالثمن الذي طلبه أهلها، وتدفعه لهم لتكون مملوكة لها، ثم بعد ذلك تعتقها. ومن المعلوم: أنها إذا أعتقتها أصبحت مولاة لها، ولكن لما أخبرت أهلها الذين كاتبوها قالوا: نريد أن تكوني مولاة لنا، ولا يكون الولاء لغيرنا، فسمع بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فتعجب! كيف يكون لهم الولاء وهم قد أخذوا الثمن؛ وقد باعوها؟! لا يمكن أن يكون الولاء إلا لمن منّ بالعتق، فعند ذلك خطب هذه الخطبة، وأخبر بأن الولاء لمن أعتق، ولا يجوز اشتراط الولاء لغير المعتق.

الشروط في البيوع لازمة إلا شرطا محرما

الشروط في البيوع لازمة إلا شرطاً محرماً المؤلف جعل هذا الحديث في باب الشروط في البيع، والشروط: هي ما يلتزمه أحد المتعاقدين للآخر مما له فيه مصلحة، كأن يشترط أنه ينتفع بالعين مدة قبل تسليمها للمشتري، أو يشترط عليه المشتري أن الثمن غائب، أو يشترط البائع أن الثمن الغائب فيه رهن، أو فيه كفيل، أو يشترط المشتري أن يكون الثمن أقساطاً، أو يكون الثمن من النقود كذا وكذا، جنيهاً مثلاً، أو ديناراً، فإذا كان هذا الشرط لا خلاف فيه، وليس فيه محذور؛ لزم العمل به، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلمون على شروطهم، إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً) فإذا أحل حراماً أو حرم حلالاً فلا يجوز العمل به، فمثلاً: اشتراط أن الولاء لغير المعتق يحرم حلالاً، ويغير شرعاً. ومثله: إذا أعتق الأمة واشترط أن يطأها وهي عتيقة، فهذا أحل حراماً. وهكذا لو اشترط عليه إذا اشترى الأمة ألا حق له في الاستمتاع، مع كونه قد دفع ثمنها، فهذا شرط حرم حلالاً. وكذا لو اشترط عليه ألا ينتفع بالعين، كأن يقول له: بعتك الثوب ولا تلبسه، أو بعتك البيت ولا تسكنه، أو بعتك الأرض ولا تحرثها؛ فهذا شرط يحرم حلالاً. إذاً: الشروط التي تُلتزم هي ما لا محذور فيها، ولا تخالف شيئاً من قواعد الشرع المشهورة المقعدة. فهؤلاء باعوا هذه الأمة، بمعنى: أنهم باعوها نفسها، وهذا يُسمى: الكتابة، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33] بمعنى: أنك إذا ملكت عبداً وطلب ذلك العبد أن يشتري نفسه بثمن مؤجل، كأن يقول: ثمني - مثلاً- خمسة آلاف، ولكن أنا أشتري نفسي بعشرة آلاف، أشتغل عند الناس، أو أجعل لي حرفة أو صنعة، ثم أعطيك كل سنة ألفاً أو ألفين، فتمكنه، فيشتغل، ويكتسب، ويتجر، ويغزو ليغنم، ويسافر للتجارة، ويجمع من حرفته ومن كسبه، ويعطيك كل سنة القسط، فإذا أعطاك القسط الأخير فأعتقه، مع أنك مأمور بأن تحط عنه بعض الأقساط، لقوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33] . فهذه الأمة- بريرة - اشترت نفسها على أن تسلم لأهلها كل شهر أو كل سنة كذا وكذا، وكأنها شعرت بأنها عاجزة، فاستعانت بـ عائشة، فـ عائشة قالت: أنا أشتريك وأدفع الثمن دفعة واحدة، ويكون الولاء لي، أي: تكونين مولاة لي، فذهبت تلك الجارية إلى أهلها وأخبرتهم، فطمعوا وقالوا: نحن نريد الولاء، ولكن لما أخبرت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم بكلامهم أنكر ذلك الكلام؛ لأنه شرط يخالف شرع الله، فصعد المنبر وقال: (ما بال رجال يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله؟ كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط؛ قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق) . فولاء العتاقة يكون للسيد الذي منّ على عبده بتحريره، فيكون مولاه، وتكون منه النصرة، ويكون منه الإرث، فيرث المعتق ذلك العبد إذا مات، وكذلك يواليه وينصره، وينضم إليه، ويكون كأحد أفراد الأسرة؛ فلذلك طمع هؤلاء في الولاء، ولكن عائشة لما طمعت في ولاء تلك الجارية رأتها أهلاً لأن تشتريها، ولم يكن لها رغبة فيها إلا أن يكون الولاء لها. فالحاصل: أن الشروط التي تخالف الشرع لاغية، والشروط التي توافق الشرع ثابتة، وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم: (من اشترى نخلاً قد أُبر فثمرته للبائع إلا أن يشترط المبتاع) فإذا كان لك نخل قد طلع ثمره فبعته، فالثمرة تكون لك؛ لأنك سقيته سنة أو نحوها، وهذه الثمرة تعلق نظرك بها، لكن لو قال المشتري: أنا أشتريه بكذا بشرط أن هذه الثمرة لي صح الشرط والبيع؛ وهذا شرط لا يخالف الشرع؛ لأنه شيء معلوم، فأما الشرط الذي يخالف الشرع ويخالف القواعد الشرعية فإنه لا يحوز.

شرح حديث جابر: (أنه كان يسير على جمل فأعيا)

شرح حديث جابر: (أنه كان يسير على جمل فأعيا) قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: (أنه كان يسير على جمل فأعيا، فأراد أن يسيبه، قال: فلحقني النبي صلى الله عليه وسلم فدعا لي وضربه، فسار سيراً لم يسر مثله قط، ثم قال: بعنيه بأوقية، قلت: لا. ثم قال: بعنيه، فبعته بأوقية، واستثنيت حملانه إلى أهلي، فلما بلغت أتيته بالجمل، فنقدني ثمنه، ثم رجعت فأرسل في إثري، فقال: أتراني ما كستك لآخذ جملك؟ خذ جملك ودراهمك فهو لك) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد، ولا تناجشوا، ولا يبع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه، ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في صحفتها) ] . حديث جابر ذكر أنه كان في غزوة من الغزوات، وكان على جمل، وذلك الجمل أعيا كسائر الجمال التي قد تعيا من طول السفر، وهزل وضعف حتى كاد أن يهمله ويسيبه؛ لكونه أصبح بطيء السير، لا يستطيع أن يحمل شيئاً، ولا أن يسير مع الإبل، فلما هم بأن يسيبه (لحقه النبي صلى الله عليه وسلم فدعا له، ونخسه) فعند ذلك سار سيراً عجيباً سريعاً حتى كاد يسبق الإبل، وحتى كان جابر يمسكه لئلا يتقدم عليها؛ وذلك لبركة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما سار هذا السير طلب أن يشتريه، فقال: (بعنيه) وكان جابر يقول: (ليس عندنا ما ننضح عليه غيره) يعني: أنه كان هو الذي يسقون عليه النخل، ولكن لم يكن بد من أن يتنزل على رغبة النبي صلى الله عليه وسلم، فباعه بوقية؛ والوقية: أربعون درهماً من الفضة، فلما باعه عرف أنه بحاجته إلى أن يصل إلى المدينة، فاستثنى حملانه؛ أي: اشترط ظهره بأن يبقى معه، يحمل عليه متاعه حتى يصل إلى المدينة، فوافقه النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الشرط، فلما وصل إلى المدينة وأنزل رحله أتاه بالجمل، فأناخه عند المسجد، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنقده ثمنه أربعين درهماً، فلما نقده ثمنه ورجع، رأى أن يرده عليه، فدعاه ورد عليه جمله، وسمح له بالدراهم. استدلوا بهذا الحديث على جواز الشرط في البيع؛ وذلك لأن جابراً اشترط بقاءه عنده إلى المدينة ليحمل عليه متاعه. وفيه دليل على جواز المماكسة، فإنه لما امتنع من بيعه كرر عليه وقال: (بعنيه) مرة بعد مرة، فتجوز المماكسة، يعني: المراجعة في البيع. وفيه دليل على أنه صلى الله عليه وسلم قد رفق بـ جابر؛ حيث رد عليه جمله لما رأى حاجته إليه، فأفاد ذلك أنه يجوز البيع والشراء، وأنه يجوز الاستثناء في البيع والشرط، واستثناء المنفعة فيه.

شرح حديث: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد)

شرح حديث: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لبادٍ) حديث أبي هريرة اشتمل على خمس جمل: الجملة الأولى: قوله: (لا يبع حاضر لبادٍ) . والحاضر: هو القروي، والباد: هو البدوي، فالمقيم في البلد يسمى: حاضراً، والمقيم في البر المتنقل يسمى: بادياً. والمعنى: أنه لا يبيع المقيم للمسافر، بل يترك المسافر يبيع ويشتري لنفسه. وقد تقدم مثل هذا الحديث، وفيه قول ابن عباس: (لا يكون له سمساراً) والسمسار: هو الدلال أو ما يسمى: الواسطة، وعلل في بعض الروايات بقوله: (دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض) . وبين العلماء ما يشترط لذلك: الشرط الأول: أنه يبطل إذا قدم البادي بسلعته لبيعها، أما إذا قدم بها ليخزنها فلا بأس أن يأتيه الحاضر ويشير عليه ببيعها للتوسعة على الناس. الشرط الثاني: أن يقصده الحاضر في بيته، أو في منزله ويقول له: دعني أبيع لك سلعك، فإني أعرف بالسلع، أما إذا كان البادي هو الذي قصد الحاضر وقال: بعه لي، فإني لا أعرف، فلا مانع من ذلك، يعني: إذا قدم البادي لبيعها، وكان يريد أن يبيعها بالسعر الحاضر لا أن يتأنى بها، أما إذا كان يريد التأني بها ولا يبيعها إلا بعد أيام فلا بأس أن يتدخل الحاضر. الشرط الثالث: أن يكون الناس محتاجين إلى تلك السلع، أما إذا كان أمثالها كثير في الأسواق، فلا بأس أن يتدخل الحاضر وأن يبيعها. قال الفقهاء: يبطل البيع إذا قدم البادي لبيعها بسعر يومها جاهلاً بسعرها، وبالناس حاجة إليها، فلا يجوز حينئذ للحاضر أن يتلقاه.

حكم النجش في البيع

حكم النجش في البيع الجملة الثانية: النهي عن النجش. النجش هو: أن يزيد الرجل في السلعة وهو لا يريد شراءها، فإذا كانت السلعة تباع بالمزاد العلني فجاء وأخذ يزيد فيها، فلا يجوز، وقد يعمل هذا ويقصد نفع البائع، أو إضرار المشتري. مثلاً: عرضت الأرض أو السيارة للبيع بالمزاد العلني، فرآك تزيد فيها راغباً فيها، فأخذ يزيد عليك، فكلما زدت مائة زاد مائة أو مائتين، حتى زادت على القدر المعتاد، ويقصد بذلك أن يضرك أيها المشتري؛ لأنه عرف أنك تريدها، أو يقصد زيادة الثمن للبائع ليكثر الثمن الذي يُبذل له، فهذا يسمى: النجش، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النجش وقال: (لا تناجشوا) . وقد ذكر العلماء: أنه إذا زاد الناجش زيادة زائدة على الثمن المعتاد، وعلم المشتري أن هذا الناجش ليس له غرض في شرائها، فإنه يخير بين أن يبقى على الثمن الذي دفعه وبين أن يردها، فإذا علم أنه زاد وهو لا يريدها فله أن يردها ويأخذ ثمنه، ويقول: إنني قد غُبنت فيها، وزاد علي من ليس له نظر فيها، واعتقدت أنه صادق في أنها تساوي ذلك، وإذا هو كاذب.

حكم البيع على بيع الغير

حكم البيع على بيع الغير الجملة الثالثة: قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يبع بعضكم على بيع بعض) . صورة ذلك: إذا كنت تبيع سلعاً وجارك يبيع مثلها، ورأيت إنساناً عند جارك قد اشترى ثوباً -مثلاً- بعشرة، وما بقي إلا أن يدفع الثمن، فأشرت إليه أن يأتي إليك، وقلت له: ائتني؛ فأنا أبيعك بأرخص، أنت اشتريت الثوب بعشرة وأنا أعطيك مثله بثمانية، فتُعتبر في هذه الصورة بعت على بيع أخيك. أو مثلاً: رأيت إنساناً قد اشترى ثوباً بعشرة، وما بقي إلا أن يبيعه صاحب الثوب ويسلم له الثوب، فقلت لصاحب الثوب: لا تبعه؛ أنا أعطيك فيه اثني عشر، وقصدك بذلك أن تفسخ هذا البيع، وأن تفسده. والعلة في ذلك: أنه سبب للبغضاء والحقد بين المسلمين، فجارك هذا سيحقد عليك، ويقول: كلما بعت سلعة أفسد علي بيعتي، ودعا الزبائن وأخذهم علي، وباع لهم، وقد تكون سلعة أقل قيمة من سلعتي، فعند ذلك تحصل العداوة، وتحصل البغضاء بين المسلمين. ولا شك أن ذلك مما ينهى عنه؛ لما يسببه من العداوة، والمطلوب بين المسلمين التآخي والتحاب، وأن يبتعدوا عن كل خصلة تسبب العداوة والمقاطعة. فإذا رآك أخوك تفسد عليه بيعه، أو تفسد عليه شراءه، حقد، وحنق عليك، وأبغضك، وأخذ كل منكما يسب الآخر، هذا هو سبب النهي عن كونك تبيع على بيعه أو تشتري على شرائه.

حكم الخطبة على خطبة الغير

حكم الخطبة على خطبة الغير الجملة الرابعة: قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا يخطب على خطبة أخيه) . الخطبة بكسر الخاء: هي خطبة المرأة، وذلك بأن تعلم أنه قد خطب فلانة بنت فلان، وأن أهلها قد قبلوه، أو لم يقبلوه ولكن توقفوا للسؤال عنه، فتأتي إليهم وتخطب أنت منهم، وتقول: أنا أعطيكم أكثر مهراً، أو أنا أحسن منه جمالاً، أو أحسن منه خلقاً، أو أفضل منه رتبة، أو علماً، أو نحو ذلك، فإذا أتيتهم قبلوك أنت، وردوا أخاك الذي سبقك بالخطبة. ولا شك أنه إذا علم بأنك قد أفسدت عليه حنق عليك وحقد، وصارت بينكما الشحناء والبغضاء. والواجب: إذا علمت بأنه قد خطبها إنسان قبلك فليس لك أن تتقدم عليه، ولا أن تخطب على خطبته، إلا إذا أذن لك، أو رده أهلها، فإذا ردوه وقالوا: لا نقبلك، أو لم تقبلك المرأة، فعند ذلك تقدم، أو أذن لك وقال: أنا خطبت، يمكن أن يقبلوا ويمكن ألا يقبلوا، فأنت مباح لك أن تخطبها، فيمكن أن يقبلوا ويمكن ألا يقبلوا، أي: أنك أنت وهو سواء في الخصال، يعني: كل منكما فيه من الخصال التي تؤهله للقبول أو عدم القبول ما هو معروف، فلا بأس في ذلك. فالحاصل: أنه لا يجوز أن يخطب على خطبة أخيه إلا بعد أن يرد، أو بعد أن يأذن.

حكم طلب المرأة طلاق ضرتها

حكم طلب المرأة طلاق ضرتها الجملة الخامسة والأخيرة: (ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في صحفتها) . يتصور هذا فيما إذا خطب رجل امرأة وعنده زوجة، فقالت له: لا أتزوجك إلا أن تطلق امرأتك، فهذا لا يجوز؛ وذلك لأنها تفرق بين زوجين متآلفين، وليس لها ذلك، بل إما أن تتزوجه وإما أن ترده، إما أن تتزوجه على ما هو عليه، وإما أن تقول: لا حاجة لي فيك، أو لا أريدك، فأما أن تقول له: طلق امرأتك، فهذا لا يجوز. ومثله أيضاً: لو أن امرأة اتصلت بك، وقالت لك: أنا أريدك زوجاً، وذكرت لك جمالها، ومالها، وحسبها، ونسبها، وشرفها، وشبابها، وما أشبه ذلك، ومدحت لك نفسها، وقالت لك: طلق امرأتك حتى أتزوجك، فهذه عرضت عليك نفسها وطلبت منك أن تتزوجها، واشترطت أن تطلق امرأتك التي قبلها، فلا شك أن هذا لا يجوز؛ وذلك لأنها تسبب الفرقة بين الزوجين، ولا يجوز لها أن تفعل هذا الفعل، بل إذا رغبت في الرجل تزوجته على ما هو عليه، ولها نصيبها، وإذا لم ترغبه توقفت فيه، والله تعالى يقول: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ} [النساء:130] .

شرح عمدة الأحكام [49]

شرح عمدة الأحكام [49] الربا كبيرة من كبائر الذنوب، وهو محرم بالكتاب والسنة والإجماع، وله صور كثيرة، ولذا يجب على كل من يتعامل بالبيع والشراء والصرف والقرض أن يعرف الربا وأحكامه، حتى لا يقع فيه فيقع في اللعنة والإثم.

أحكام الربا والصرف

أحكام الربا والصرف قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [باب الربا والصرف: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الذهب بالذهب رباً إلا هاء وهاء، والفضة بالفضة رباً إلا هاء وهاء، والبر بالبر رباً إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير رباً إلا هاء وهاء) . وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائباً بناجز) ،وفي لفظ: (إلا يداً بيد) ،وفي لفظ: (إلا وزناً بوزن، مثلاً بمثل، سواء بسواء) ] . هذا الباب يتعلق بالربا والصرف، والربا لغة: الزيادة والنمو، ومنه قول الله تعالى: {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [الحج:5] يعني: نمت، ومنه: تسمية المرتفع من الأرض: الربوة، قال تعالى: {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ} [المؤمنون:50] فالربوة: هي المكان المرتفع الذي نبا عن غيره وربا عما سواه، وكذلك قوله تعالى: (كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} [البقرة:265] أي: بمكان مرتفع. والربا في الاصطلاح: هو زيادة في شيء مخصوص، أي: من المعاملات. وأصله: أن أهل الجاهلية كانوا يتعاملون بالبيع والشراء ونحوه، فإذا حل الدين قالوا لصاحبه: إما أن تعطي، وإما أن تربي الدين الذي عليك، فإما أن تسلمه لنا الآن وإلا تركناه وزدنا عليك فيه، فإذا كان -مثلاً- ألفاً نؤجله سنة أخرى ونصيره ألفاً ومائتين مثلاً، فإذا حل الألف والمائتان جاء إليه في السنة التي بعدها فقال: إما أن تعطي وإما أن تربي، فإذا لم يجد قال: أزيده ثلاثمائة ليصبح ألفاً وخمسمائة، فإذا حلت جاء إليه وقال: إما أن تعطي وإما أن تربي، فإذا لم يجد زاده مثلاً أربعمائة ليصبح ألفاً وستمائة وهكذا يزداد الدين في ذمة المدين ويترابى، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130] أي: أنه يتضاعف شيئاً فشيئاً؛ لأنه في كل سنة يزداد ذلك الربا الذي في الذمة، فلأجل ذلك حرمه الله؛ وذلك لما فيه من الإضرار على أولئك المساكين الذين في ذمتهم ذلك المال وذلك الدين، فإنه يُزاد عليهم وهم لم ينتفعوا بشيء، بل يتضاعف عليهم. وقال الله تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ} [الروم:39] أي: ليكثر في أموال الناس؛ فيعطيه -مثلاً- مائة ويقول: أكتبها عليك بمائة وعشرة، فإذا حلت وأخره قال: هي عليك بمائة وعشرين، أو بمائة وثلاثين، ثم بمائة وخمسين وهكذا يربو في أموال الناس، ويزيد في أموالهم شيئاً فشيئاً، هذا هو الأصل في الربا.

أقسام الربا

أقسام الربا ذكر العلماء أن الربا ينقسم إلى قسمين: ربا فضل، وربا نسيئة. وربا النسيئة هو الذي كان مشهوراً قبل الإسلام، وهو: مشتق من النسء الذي هو: التأخير؛ من نسأ الشيء، يعني: أخره؛ وذلك لأنهم يقولون: ننسأ الدين، يعني: نؤخره ونزيد في قدره، مثلاً يقولون: نعطيك هذا الصاع ونجعله بصاعين مؤخرين، أو نعطيك هذه المائة ونجعلها بمائة وخمسين أو بمائتين إلى أجل، وهذا هو ربا النسيئة. وصورة ذلك: أن يعطيه هذا المال ويجعله بزيادة، كأن يقول: أعطيك ألفاً وأكتبها عليك بألف ومائتين ديناً مؤجلاً لمدة شهر أو شهرين، أو سنة أو سنتين، فهذا ربا نسيئة. كذلك ربا الفضل: جاءت الأحاديث بالمنع من ربا الفضل، وأنه داخل في النهي الذي أكده الله؛ وذلك لأن الله عظم شأن الربا، قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ} [البقرة:275] ، وتوعد الله عليه بقوله تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:275] وهذا وعيد للكفار، فيدل على أنه من كبائر الذنوب، وأن أصحابه يدخلون النار إلا أن يتوبوا؛ ولأجل ذلك جعله النبي صلى الله عليه وسلم من السبع الموبقات كما قال: (اجتنبوا السبع الموبقات: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا) إلى آخره، فجعل أكل الربا من السبع الموبقات اعتماداً على هذه الآية؛ حيث توعد الله عليه بالنار. وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بلعن من تعاطاه أو أعان عليه، فقال: (لعن الله آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه) يعني: أنهم تعاونوا عليه.

سبب تحريم الربا

سبب تحريم الربا شدد العلماء في الربا، واستدلوا بالأدلة التي تحذر منه، وتحرض على الابتعاد عنه، والتحفظ عن تعاطيه. ولعل السبب: أنه ظلم للعباد، وبالأخص يُظلم به الفقراء والمستضعفون، وسواء كان ربا الفضل أو ربا النسيئة الذي هو ربا الجاهلية، فكلاهما ظلم للفقراء، وتكثير للديون عليهم، وإضرار بهم لا سيما في وقت الحاجة.

حكم الصرف

حكم الصرف أحاديث الباب تتعلق بربا الفضل، وتتعلق بالصرف، وهو أحد قسمي الباب، فإن الباب معقود للربا والصرف. والصرف هو: بيع نقد بنقد، والنقود تختلف، ففي هذه الدولة نقدان أصليان؛ نقد من الذهب؛ وهو: الجنيه السعودي، ونقد من الفضة؛ وهو: الريال السعودي، أو ما يقوم مقامه من الأوراق النقدية، والنقد الثالث الذي هو الفلوس أو القروش ملحق أيضاً بالنقد الفضي؛ وذلك لأنه بدل عنه، أو قائم مقامه، أو فرع عنه. فبيع نقد بنقد يسمى: صرفاً، فلابد فيه من التقابض؛ بأن يكون يداً بيد، فإذا اشتريت جنيهاً بدراهم، فلابد من التقابض؛ لأن الجنيه يكون معمولاً من الذهب، وجميع الذهب يكون ربوياً، والعلة فيه هي العلة في الجنيه وفي الدينار، فلا يباع الذهب إلا يداً بيد إذا بيع بفضة أو بنقد آخر. وفي الحقيقة: الكلام في مثل هذا قد يحتاج إلى إطالة، والمهم أن نعرف أنك -مثلاً- إذا اشتريت ذهباً فإنك تشتريه يداً بيد، فإن بقي عليك شيء فإنك تأخذه على أنه ذهب، لا على أنه دراهم. مثال ذلك: إذا اشتريت أسورة من الذهب التي تُجعل في اليدين، أو قلائد تُجعل في الرقبة، أو أقراطاً تُجعل في الأذن، أو خواتيم تُجعل في الأصابع، أو ما أشبهها من الذهب المصوغ الذي قد أصبح حلياً يتحلى به، فإذا اشتريته وقيمته -مثلاً- عشرة آلاف، ووزنه -مثلاً- ثلاثمائة جرام، ولم تجد معك إلا نصف الثمن، فالبائع لا يقول: في ذمتك ثلاثمائة جرام، بل يكتب: في ذمتك مائة وخمسون جراماً، فإذا أتيت لتقضيه ووجدت الذهب قد رخص فإنك تشتريه جديداً برخص، وإن كان قد ارتفع وغلي فإنك تشتريه شراءً جديداً ولو كان في ذمتك، ولو كان في بيتك، فتقول: عندي لك مائة وخمسون جراماً من الذهب، وهذه قيمتها معي، فإذا قال: ارتفعت قيمتها عن الأمس أو انخفضت، فتجددون لها قيمة، وهذه هي السلامة من بيعها بثمن مؤجل؛ وهذا معنى قوله: (لا تبيعوا منها غائباً بناجز) يعني: إذا كان الذهب غائباً وبعتموه بناجز، أو الفضة غائبة وبعتموها بناجز كان ذلك ربا. وأما إذا كان أحدهما في الذمة، فإنه يجوز المحاسبة والبيع عنه، ولهذا جاء في حديث ابن عمر: (كنا نبيع الإبل بالبقيع، فنبيع بالدراهم ونأخذ الدنانير، ونبيع بالدنانير ونأخذ الدراهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا بأس، ما لم تفترقا وبينكما شيء) فهذا صرف بعين وذمة، فأصبح ذلك جائزاً. وأما قوله: (لا تشفوا بعضها على بعض) فإنه قال ذلك في الذهب، وكذلك في الفضة، أي: لا تبيعوا منها كثيراً بقليل، والشف بمعنى: الزيادة، فقوله: (لا تشفوا) يعني: لا تزيدوا، فلا تبيعوا -مثلاً- حلياً قديماً بحلي جديد أكثر قيمة، فلا تقل مثلاً: هذا حلي وزنه عشرون قيراطاً ولكنه مستعمل، بعني بدله خمسة عشر قيراطاً جديداً، فإن هذا لا يجوز، بل لابد أن يكون مثلاً بمثل، عشرين وعشرين، وإذا لم يوافق صاحب الذهب فإنك تبيعه المستعمل بدراهم، ثم تشتري بالدراهم جديداً، فأما أن تقول: حلي بحلي أكثر منه أو أقل فهذا لا يجوز، وهذا معنى قوله: (لا تشفوا بعضها على بعض) وهذا في الذهب، وهو كذلك في الفضة؛ لأن الفضة يصنع منها أيضاً حلي، فتصنع خواتيم من الفضة، وتصنع أيضاً خلاخل من الفضة، وتصنع أيضاً أسورة من الفضة، ومع ذلك قد تباع بالفضة النقدية، وبالريال النقدي الذي هو فضة، أو ما يقوم مقامه من الأوراق النقدية، ومع ذلك لا يجوز أن يباع إلا مثلاً بمثل أو بقيمته. أما بيعه بالعروض فلا بأس أن يباع بالعروض ولو غائبة، فلو مثلاً: كان هناك حلي وزنه -مثلاً- عشرون قيراطاً، فاشتريته بخمسة أكياس أرز، فإنه يجوز ولو كان الأرز غائباً؛ لأنه ليس من جنسه.

الأصناف الربوية

الأصناف الربوية ذكر العلماء أن ربا الفضل ورد في ستة أشياء: الذهب، والفضة، والبر، والشعير، والتمر، والملح، هكذا ورد في حديث عبادة، ومعناه: أنه لا يجوز أن يباع صاع بر بصاعين، أو صاع تمر بصاعي تمر، ولو كان يداً بيد؛ وذلك لأنه فيه ربا، والربا هنا: هو الزيادة، فهذا صاع بصاعين، وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، كما جاء عنه أنه: (أرسل مرة بلالاً ليأتيه بتمر من تمر خيبر، فجاءه بتمر جنيب -يعني: جيد-وقال: إنا نأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة -نشتري صاعاً جيداً بصاعين رديئين- فقال: هذا عين الربا، إذا أردت أن تشتري من الطيب فبع التمر الذي معك -التمر الرديء- بدراهم واشتر بالدراهم تمراً جنيباً) ، وكذلك سائر أنواع الربويات، فإذا كان عندك -مثلاً- بر رديء وتريد برأ طيباً فبع الرديء بدراهم، ثم تشتري بالدراهم جيداً. ويلحق به أيضاً كل المكيلات، فالأرز مثلاً يختلف، فقد يكون عندك أرز رديء وأنت بحاجة إلى أرز جيد، فتبيع الرديء بدراهم، وتشتري بالدراهم من الذي تريده. ومثله التمر، لا يجوز أن تبيع صاعاً من تمر بصاعين، ولا كيلو بكيلوين. ومثله الزبيب، لا يجوز أن تبيع زبيباً كيلو بكيلوين. وهكذا المكيلات كلها: الذرة، والدخن، والعدس، والفول، والبن، والقرنفل، والهيل، وما أشبهها، لا يجوز أن يباع منها شيء إلا مثلاً بمثل، وإن كان الناس لا يتعاملون بذلك عادة، لكن ينهى عن ذلك. مثلاً: الإنسان قد يكون عنده كيلو من الهيل الرديء، وهناك أناس آخرون يريدونه لأنه أرخص، فيقولون: أعطنا هذا الكيس الرديء بنصف كيس جيد، فيقال: لا، وإنما بعه بدراهم واشتر بالدراهم من الجيد الذي تريده. وهكذا كل شيء يوزن ويباع بالوزن، مثل: اللحوم، والحديد، والقطن، والموزونات الأخرى بأنواعها، فلا شك أن فيها علة الربا، فيقال: كل شيء يكال فإنه لا يباع إلا مثلاً بمثل، وكل شيء يباع وزناًَ فإنه لا يباع إلا مثلاً بمثل، وأما الذي لا يكال ولا يوزن كالأقمشة، فهذه لا بأس بها، فيجوز أن تبيع ثوباً بثوبين. وكذلك الذي يباع بالعدد، كالخضار التي تباع بالعدد، كالقرع والبطيخ، يجوز أن تبيع واحدة باثنتين أو بثلاث؛ وذلك لأنه ليس بمكيل ولا بموزون؛ ولأنه يتسامح فيه. وورد مثل ذلك أيضاً في بيع الحيوان، ورد أنه يجوز أن تبيع شاة بشاتين؛ لأنها قد تتفاوت، ولا يكون ذلك ربا. فالحاصل: أن هذه العلة، وهي: كون الشيء يكال أو يوزن أصلاً لا يجوز بيع جنسه بجنسه إلا يداً بيد، ومثلاً بمثل، أما إذا بيع بغير جنسه فيشترط فيه التقابض، لقوله صلى الله عليه وسلم: (فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد) فإذا بعت تمراً بزبيب جاز التفاوت ولزم التقابض، فتقول مثلاً: بعتك كيلو زبيب بثلاثة كيلو تمر، لكن هاء وهاء؛ يعني: خذ وأعط، وهذا هو معنى قوله: (هاء وهاء) يعني: حاضر بحاضر، فلا يباع غائب بناجز، وكذلك مثلاً: بر برز، يجوز أن يباع صاع بصاعين، وكذلك بر بشعير، يجوز أن يباع صاع بصاعين، ولكن لابد أن يكونا حالين حاضرين (هاء وهاء) حتى لا يكون في البيع ربا النساء الذي هو التأخير. فنتفطن لهذا؛ حتى لا نقع فيه ونحن لا نشعر.

شرح حديث: (جاء بلال إلى النبي عليه الصلاة والسلام بتمر برني)

شرح حديث: (جاء بلال إلى النبي عليه الصلاة والسلام بتمر برني) قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (جاء بلال إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بتمر برني، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أين هذا؟ قال بلال: كان عندنا تمر رديء، فبعت منه صاعين بصاع ليطعم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك: أوه أوه! عين الربا، لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر، ثم اشتر به) . وعن أبي المنهال قال: سألت البراء بن عازب وزيد بن أرقم رضي الله عنهما عن الصرف، فكل واحد منهما يقول: هذا خير مني، وكلاهما يقول: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالورق ديناً) . وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفضة بالفضة، والذهب بالذهب، إلا سواءً بسواء، وأمرنا أن نشتري الفضة بالذهب كيف شئنا، ونشتري الذهب بالفضة كيف شئنا، قال: فسأله رجل فقال: يداً بيد، فقال: هكذا سمعت) ] .

حكم شراء تمر بتمر آخر أكثر منه أو أقل

حكم شراء تمر بتمر آخر أكثر منه أو أقل هذه الأحاديث تتعلق بربا الفضل وتتعلق بالصرف، أما الربا فقد عرفنا أنه ينقسم إلى: ربا فضل، وربا نسيئة، وهذه الأحاديث تتعلق بربا الفضل. الحديث الأول: فيه قصة وهي: أن بلالاً قبض تمراً من خيبر من نصيب المسلمين، ولما قبضه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر جيد، فاستغرب من أين هذا التمر؟ وكأنهم يعرفون أن تمر خيبر الذي يقبض من أهلها مجموع ومخلوط رديء وجيد، ولكن استنكر هذا التمر الجيد، فقال بلال: (إني اشتريت صاعاً بصاعين من هذا؛ لأجل إطعامك من التمر الجيد والطيب، فعند ذلك قال: (أوه) ، وهي كلمة يعبر بها عن الإنكار، أي: أنكر عليه، ثم قال: (عين الربا) ، أي: هذا عين الربا، ويسمى ربا الفضل، وأمره بعد ذلك أن يبيع التمر الرديء بدراهم، ثم يشتري بالدراهم من التمر الطيب؛ حتى يسلم من الربا. فكونه يأتي إلى بائع التمر الجيد ويقول: بعني صاعاً بصاعين، فهذا رباً؛ لأن التمر لا يجوز أن يباع بتمر، إلا مثلاً بمثل، ولو اختلفت القيمة. وهذا -أيضاً- يدخل فيه جميع الربويات، فالبر بالبر لا يجوز أن تبيع منه صاعاً بصاعين، ولا صاعاً من أرز بصاعين، ولو كان أحدهما أغلى ثمناً، فإذا كان عندك رزٌ رديء وتريد رزاً جيداً فبع الرديء بالدراهم ثم اشتر ما تشاء، وكذلك جميع المكيلات وجميع الموزونات، لا يباع جنساً بجنسه إلا مثلاً بمثل، أو أن تبيع الرديء بدراهم وتشتري بالدراهم ما تريده من الجيد، هكذا اتفقت هذه الأحاديث.

كيفية التعامل الشرعي في الأصناف الربوية

كيفية التعامل الشرعي في الأصناف الربوية تقدم قوله عليه السلام: (الذهب بالذهب مثلاً بمثل، يداً بيد) إلخ، وقوله: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا هاء وهاء) يعني: خذ وأعط، يداً بيد، مثلاً بمثل. وكذلك الفضة بالفضة، لا تباع إلا مثلاً بمثل يداً بيد؛ وذلك حتى لا يكون فيها تفاوت، فيشترط في المثليات التماثل والتقابض، وفي غيرها التقابض. وبيع الجنس بجنسه، متساوياً أو متفاضلاً قد يكون قليلاً، ولكن الذي يقع الناس فيه كثيراً هو بيعه بغير جنسه من المكيلات، فلابد فيه من التقابض وإن لم يكن هناك تساوي، فإذا بيع -مثلاً- لحمٌ بلحم فلابد من التقابض، فبيع لحم إبل بلحم غنم يجوز فيه التفاوت، فيجوز رطل غنم برطلين من لحم الإبل، لكن لابد أن يكون يداً بيد، وكذلك المكيلات يجوز بيع صاع بر بصاعين من الشعير أو بصاعين من الأرز؛ وذلك لأنهما جنسان، فيجوز صاع بر بصاعين شعير أو نحوه، أو صاع أرز بصاعين شعير؛ وذلك لأنهما جنسان، ولكن لابد من التقابض قبل التفرق، ولابد أن يكون يداً بيد، وكذلك بقية المكيلات المختلفة. فمثلاً: قد تحتاج إلى زبيب وليس عندك دراهم، فتشتري الزبيب بالتمر، فتشتري -إذا كان بالكيل- صاع زبيب بصاعين من التمر، أو بالوزن رطل زبيب برطلين من التمر، يجوز ذلك، ولكن بشرط أن يكون يداً بيد، فلابد من التقابض، وهكذا يقال في سائر المبيعات التي هي من الأجناس. وقد عرفنا أن الذي يدخله الربا ما كان مكيلاً أو موزوناً، وأما الأشياء التي لا توزن عادةً ولا تكال فلا بأس من التفاوت فيها، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشاً للغزو، لعل عددهم كان -مثلاً- ستمائة، وكانت الإبل التي عندهم قدر أربعمائة أو خمسمائة، لا تكفي هذا الجيش الذي يريد الغزو، فقال له صلى الله عليه وسلم: (اشتر على إبل الصدقة) ، وإبل الصدقة قد تأتي بعد نصف سنة أو بعد ثمانية أشهر، فلم يجد بدّاً من أن يشتري من الناس، فصار يشتري البعير بالبعيرين من إبل الصدقة، حتى اشترى ما جهز به بقية ذلك الجيش. فدل هذا على أنه يجوز أن يشترى البعير بالبعيرين، ولو كان أحدهما غائباً؛ لأن إبل الصدقة غائبة، فعلى هذا يجوز أن تشتري شاة بشاتين سواء كانت حاضرة أو غائبة، وفرساً بفرسين، وكذلك في الأدوات سيارة بسيارتين، وكذلك في الأكسية ثوباً بثوبين حاضراً أو غائباً؛ لا بأس في ذلك كله؛ لأنه ليس مما يدخله الربا.

كيفية التعامل الشرعي في الصرف

كيفية التعامل الشرعي في الصرف القسم الثاني في الباب هو: الصرف؛ فإن الباب معقود بأمرين: الربا والصرف، ولا شك أن الصرف يكون فيه ربا، والصرف هو: بيع نقد بنقد، وبيع النقود بالنقود كثيراً ما يحصل بينها تفاوت، ولو كان مسماها واحداً؛ فإن الزمن القديم كانت العملات تصنع من الذهب والفضة، فكل شيء يصنع من الذهب يسمى ديناراً، وما صنع من الفضة يسمى درهماً، وما صنع من النحاس يُسمى فلساً، وجمعه فلوس، ودانق جمعه دوانق، وكلها يتعامل بها إلا أن بعضها أقل قيمة، فالفلوس أقل قيمة من الدراهم، والفلوس تكون من النحاس، والفضة تكون منها الدراهم، وهي أقل قيمة من الدنانير التي هي من ذهب. فعلى هذا احتيج إلى صرف هذه الأشياء بعضها ببعض، فيأتي الإنسان بالفلوس التي تصنع من النحاس، ومثلها أيضاً في هذه الأزمنة القروش التي تصنع من المعدن إلى إنسان آخر ويقول: أصرفها لي بدراهم من الفضة، أو يأتي صاحب الفضة بالدراهم ويقول: أريد أن تصرفها لي بفلوس، ومعلوم التفاوت بينها، فمثلاً: قد تكون عشرون قرشاً بريال، أو أربعون فلساً بدرهم، فيجوز أن تكون أربعون بواحد؛ لأن هذا نوع وهذا نوع، ولكن لابد من التقابض، بأن يكون يداً بيد. وكذلك الذهب مع الفضة، فالفضة دراهم، والذهب دنانير، فيأتي صاحب الدينار ويقول: اصرف لي هذا الدينار بدراهم فيقول: قيمته عشرة دراهم أو عشرون درهماً، فيقال: لابد من التقابض يداً بيد، هذا هو حكم صرف النقود بعضها ببعض. وفي هذه الأزمنة حلت محلها هذه الأوراق النقدية التي قامت مقام الفضة في جميع الدول إلا ما شاء الله، ولما قامت مقامها أصبحت نقداً، ومعلوم أن الأوراق لا قيمة لها، ولولا أن الحكومات أكدت التعامل بها وجعلتها قائمة مقام الفضة لما قبلت، وهذه الحكومات جعلت عندها رصيداً لها من الفضة أو من الذهب، فعلى هذا تأخذ حكم الفضة في كونها يتعامل بها كما يتعامل بالفضة، ويدخلها من الصرف ما يدخل الفضة، فلابد إذا صرفت بالدراهم أو صرفت بالدنانير من التقابض مع وجود التفاوت ولو اتفقت الأسماء. فمثلاً: عندنا الريال السعودي والريال اليمني والريال القطري، الاسم واحد ولكن بينها تفاوت، فيجوز صرف الريال السعودي بثلاثة أو بأربعة ريالات يمنية أو قطرية، ولكن لابد من التقابض، بأن يكون يداً بيد، هذا معنى قوله: (هاء وهاء) أي: خذ وأعط، فلابد من التقابض قبل التفرق، وكذلك سائر العملات -ولو اختلفت الأسماء- يجوز فيها التفاوت؛ ومع ذلك لابد من التقابض، فعندنا -مثلاً- الدولار الأمريكي والدينار الكويتي أو العراقي، والجنيه المصري أو السوداني، والليرة السورية أو التركية، والربية الهندية، ونحوها، ولا شك أن هذه عملات من أوراق، وهي تتعرض لأن يأتي عليها التلف، فتغرق بالماء، وتحرق بالنار، وتحملها الرياح وتفرقها، ولكن لما كانت عملات قائمة مقام الذهب والفضة جعل لها قيمة، فأخذت مأخذ أصلها وهو الفضة؛ فلزم عند صرف بعضها ببعض من التقابض قبل التفرق. فإذا أردت صرف الريال السعودي بالليرة السورية -مثلاً- فلابد من التقابض، خذ وأعط، أو أردت صرف الجنية السعودي بجنيه مصري فلابد من التقابض مع وجود التفاوت، ولو كان الاسم واحداً والتفاوت كثيراً، ولو كان هذا جنية وهذا جنية فلابد من التقابض قبل التفرق، خذ وأعط. إذاً: صرف العملات بعضها ببعض، لابد فيه من التقابض، وأجاز بعض المشايخ عند الحوالة الاكتفاء بالإسناد أو ما يسمى (الشيكات) ، وجعلوا ذلك قائماً مقام التقابض؛ وذلك لأنه قد لا يتيسر وجود العملة الثانية التي أريد صرفها. فمثلاً: تريد حوالة ريالات سعودية إلى بلاد أخرى كمصر أو سوريا، وقبل أن يرسلوها يحولونها من ريال إلى ليرة أو إلى جنيه، ولا يسلمونك نفس الجنيه المصري، وإنما يقولون: ليس موجوداً عندنا، إنما هو موجود في فرعنا الذي في مصر أو في دمشق، ويسلمون لك شيكاً، فبعض المشايخ جعل هذا الشيك قائماً مقام النقد، وجعله كافياً في القبض، وتساهلوا في ذلك لوجود المشقة. وبعضهم يقول: إذا أردت الحوالة فاجعلها عندهم أمانة، فمثلاً: إذا أردت أن تحول خمسة آلاف ريال سعودي إلى مصر فإنهم يقبضون منك الخمسة الآلاف ويعطونك سنداً بأن عندنا خمسة آلاف لفلان يقبض قيمتها في القاهرة، وقد تكون الخمسة الآلاف يوم الحوالة -مثلاً- بثلاثة آلاف وخمسمائة جنيه مصري، فذهبت بعد خمسة أيام إلى فرعهم في مصر، وقلت: عندكم لي خمسة آلاف ريال سعودي، أعطوني بدلها جنيهات مصرية، فقبل خمسة أيام قيمتها ثلاثة آلاف وخمسمائة، فقالوا: الآن قيمتها قد نقصت، فلا تساوي الخمسة الآلاف إلا ثلاثة آلاف، فماذا تقبض منهم؟ هل تقبض ثلاثة آلاف ونصف الذي هو سعرها عندما سلمت لهم الخمسة الآلاف أو ليس لك إلا سعرها في الوقت الحاضر الذي سلُمت لك وهو ثلاثة آلاف؟ A ليس لك إلا سعرها في الوقت الحاضر. وكذلك لو ارتفعت: فلو أعطيتهم خمسة آلاف وقيمتها في ذلك اليوم ثلاثة آلاف، وذهبت إلى المصرف ووجدت قيمتها أربعة آلاف، فلك أربعة آلاف جنيه، يعني: لك قيمتها في وقت القبض، وبهذا يسلم المسلم من الربا. فإذا حولت دراهم إلى بلاد أخرى فيها الجنيه أو فيها الليرة أو نحو ذلك فحولها بالريالات السعودية، ثم هناك يقبضونها بقيمتها، لكن قد يقول أهل المصارف: لا يمكن أن نرسلها بدون مصلحة؛ بل نحن نريد المصلحة، فنقول: لا شك أنكم تأخذون مصلحة؛ فإنهم يأخذون مصلحة حتى في البلد الواحد، فأنت -مثلاً- لو كان معك جنيه سعودي وأتيت به صاحب المصرف لقال: آخذه منك بخمسمائة، فإذا أخذت الخمسمائة، ورجعت إليه بعد يوم وقلت: بعني جنيهاً فسيقول: أبيعك بخمسمائة وخمسين؛ لأنه ما صرف عليك إلا ليربح، فقد يشتريه منك بأربعمائة وخمسين، ويبيعك أو يبيع غيرك بخمسمائة وهكذا، فأهل المصارف لابد أنهم يربحون، سواءً ربحوا هنا أو ربحوا هناك، فالمصلحة لهم، وبهذا يسلمون من الربا في الصرف.

حكم بيع الذهب المصوغ بآخر غير مصوغ أو العكس

حكم بيع الذهب المصوغ بآخر غير مصوغ أو العكس بيع الذهب المصوغ مشتهر، ومعلوم أن الذهب المصوغ والفضة المصوغة لها قيمة تزيد على قيمتها عندما كانت غير مصوغة؛ لأنه لا شك أن الصياغة لها قيمة، فأنت -مثلاً- إذا كان عندك قطع أو سبائك ذهب وجئت إلى الصائغ وأمرته أن يصوغها لك حلياً: قلائد، أسورة، خواتيم، أقراطاً، أو أي شيء مما يتحلى به؛ فلا شك أنه لا يصوغه إلا بمصلحة، فيقول: أجرتي على هذا مائة أو ألف، فمثلاً: إذا كان قيمته عشرين ألفاً فقد يأخذ عليه -مثلاً- ألفاً مقابل الصياغة، فإذا أردت بيعه بذهب فنقول: بعض العلماء يجوز بيعه بذهب زائد على وزنه، فإذا كان وزنه -مثلاً- ربع كيلو، وتريد أن تبيعه بذهب مضروب جنيهات؛ فيجوز أن تزيد فيه، وقد تقول: هذا ما يستعمل إلا نقوداً، ولكن الصحيح: أنه لا يباع إلا بمثله، وإذا أراد الفائدة فيبيعه بغير جنسه، يبيعه بفضة أو يبيعه بأوراق نقدية أو نحو ذلك. وهكذا أيضاً كثيراً ما يحدث شراء الحلي بثمن مؤجل، وهذا لا يجوز، فالحلي من النقود أصله نقود، فلا يجوز بيعه إلا مثلاً بمثل، يداً بيد، لكن إذا لم يكن معك نقود كافية، ودخلت تشتري قلائد أو نحوها، ووجدت وزنها -مثلاً- مائة جرام، وقيمتها عشرون ألفاً، فنظرت وإذا معك عشرة آلاف، فأخذت القلائد التي وزنها مائة جرام وأعطيته عشرة آلاف، فقال البائع: أين العشرة الأخرى؟ فقلت: ليست معي، فماذا يكتب في ذمتك؟ لا يكتب: في ذمتك عشرة آلاف، بل يكتب: في ذمتك مائة جرام من الذهب عيار كذا وكذا، سباكة كذا وكذا، فإذا أتيته بالقيمة بعد خمسة أيام فوجدت أن خمسين جراماً قيمتها اثنا عشر ألفاً أو قيمتها ثمانية آلاف فلا يستحق عليك إلا ثمنها وقت الوفاء، فاكتبها في ذمتك ذهباً ولا تكتب دراهم حتى لا يكون بيع ذهب بفضة مع عدم التقابض، فيكون في ذمتك ذهب، فبهذا يسلم المتبايعان من الوقوع في المخالفات.

شرح عمدة الأحكام [50]

شرح عمدة الأحكام [50] من يسر الشريعة الإسلامية أنها وسعت المعاملة بين الناس وسهلتها، ووضعت لها الضوابط التي تبين الحلال من الحرام فيها، وكذلك وضعت أحكاماً يحفظ بها الحق لصاحبه، ومن ذلك الرهن، فإن به يضمن صاحب المال ماله، وفيه أيضاً التوسعة على الناس في المداينة فيما بينهم.

أحكام الرهن

أحكام الرهن

تعريف الرهن وبيان الحكمة من مشروعيته

تعريف الرهن وبيان الحكمة من مشروعيته قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [باب الرهن وغيره: عن عائشة رضي الله عنها (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاماً ورهنه درعاً من حديد) ] . هذا الباب عقده المصنف لأحاديث تتعلق بموضوعات من البيوع ونحوه، وبدأ بهذا الحديث الذي يتعلق بالرهن، والرهن معروف ذكره الله تعالى في القرآن فقال سبحانه وتعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283] ، وقرأها بعضهم: (فرهن مقبوضة) أي: جمع رهن، وكل شيء يمسك لأجل حق من الحقوق يسمى رهناً، ومنه قوله تعالى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21] ، وقوله: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38] أي: مرهونة بكسبها. والإنسان قد يحتاج إلى سلعة يشتريها وليس معه ثمنها، وصاحبها لا يريد أن يفرط في دراهمه أو في قيمة سلعته، فيقول له: أطلب منك رهناً أتوثق به أنك تُسلِّم الدين إذا حل، أو إذا وجدته، فالرهن: وثيقة يمكن أخذ المال أو ثمن المبيع منها أو من ثمنها، فالراهن أعطى هذه السلعة للمرتهن ليتوثق من حقه، فكلاهما منتفع، والراهن قد يصعب عليه أن يجد الثمن أو يجد من يقرضه، أو يجد من يبيعه بمؤجل بدون رهن، والمرتهن قد لا يثق به، فيقول: من المصلحة أني أعطيه هذه السلعة بثمن غائب وأقبض السلعة الأخرى وثيقةً إذا حل الدين؛ إما أن يوفيني وإما أن أبيعها وأقبض دراهمي من ثمنها، هذا هو الأصل. ولا شك أن الله تعالى شرعه للتوسعة على الطرفين، فالراهن يتوسع حيث إنه قد لا يجد الثمن الآن، ولكن يمكن أن يجده بعد شهر أو بعد شهرين أو بعد سنة، كأن يأتيه من كسب له أو يأتيه من حق له أو يأتيه من حرفة أو من دين أو من مال أو نحو ذلك، فيطلب هذا المال، أو يطلب -مثلاً- طعاماً لأهله، أو كسوة ضرورية لأهله، أو طعاماً لضيف نزل به، أو بيتاً يستأجره، ولا يحد الأجرة، أو ما أشبه ذلك. والمرتهن ينتفع أيضاً، حيث يحصل له زيادة في الثمن لأجل التأجيل، فهو يبيعه هذه السلعة مؤجلة لمدة سنة، وقيمتها -مثلاً- نقداً بمائة ولكن يبيعها له بمائة وعشرة؛ لأجل الدين، ولأجل غيبة الثمن، وحينئذٍ ينتفع بزيادة الثمن ويتوثق بهذا الرهن، فإذا باعك إنسان كيساً قيمته مائة، واشتريته منه بمائة وعشرين لمدة سنة، ورهنته سيفك أو درعك، أو رهنته بيتك أو دابتك أو سيارتك ليتوثق بها، وأنت واثق بأنك ستجد قيمة هذا الكيس بعد شهرين أو بعد سنة أو نحو ذلك، فإذا وجدته دفعت له قيمة الكيس وخلصت رهنك، والبائع انتفع بزيادة ماله، وبقبضه لهذا الرهن الذي هو وثيقة.

قبض الرهن

قبض الرهن لابد من قبض العين المرهونة، لقوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283] والمقبوضة هي: التي يمسكها المرتهن عنده، فيمسك سيفك أو يمسك جملك الذي رهنته أو كيسك أو ما أشبه ذلك؛ لأن في إمساكه توثقاً في حقه، وقد اختلف في هذا الشرط، فبعضهم يقول: يصح بدون قبض، فيصح -مثلاً- أن تقول: هذه السيارة رهن، ولكن استعملها -أيها الراهن- فهي سيارتك، وإذا لم توفني بعتها، أو هذا البيت رهني، وأنت ساكن فيه، إذا حل ديني وما أوفيتني بعته، فنقول: لعل هذا يجوز، ولكن لابد من وثيقة يقبضها، ففي الدار يقبض الحجة أو وثيقة الملكية ويمسكها حتى لا تباع، وفي السيارة يقبض الاستمارة التي لا يمكن أن تباع إلا بها؛ مخافة أن الراهن يبيعها وينتفع بثمنها، ويبطل حق المرتهن، وأما إذا رهنه ولم يقبضه فقد فرط. فالحاصل: أنه لابد أن يقبض المرتهن شيئاً من الرهن أو يقبض الرهن كله، فيمسك المرتهن السلاح كالدرع والسيف والقوس وكذلك الأسلحة الجديدة مثل المسدس والرشاش أو ما أشبه، كذلك أيضاً السلع الأخرى التي يمكن رهنها، لو رهن عندك ثوباً أو رهن عندك كيساً أو رهن نعلاً له قيمة أو رهن طعاماً يمكن أن ينتفع به فيما بعد أو يباع ولا يخشى فساده؛ صح ذلك.

الأشياء التي يصح فيها الرهن

الأشياء التي يصح فيها الرهن يصح الرهن في كل شيئ يجوز بيعه، والعبد المكاتب يصح رهنه؛ لأنه يجوز بيعه، وأما الذي لا يجوز بيعه -كالأمة التي استولدها سيدها- فلا يصح رهنه. وهناك شيء يجوز رهنه ولا يجوز بيعه حالاً، وهو الزرع الأخضر، فالزرع الأخضر يجوز رهنه، ولا يجوز بيعه إلا بشرط القطع؛ وذلك لأن الرهن لا يباع في الحال، بل يتأنى به، فهذا الزرع إذا استحصد يمكن بيعه إذا حل الدين بشرط التبقية، ويكون للمشتري أو للبائع الثمرة أو نحو ذلك. وهكذا لا يجوز بيع ثمر النخل حتى يبدو صلاحه، ولا يجوز بيعه قبل أن يبدو صلاحه إلا بشرط القطع، ولكن يجوز رهنه، فيجوز أن يقول: رهنتك ثمرة هذه النخلة؛ لأنه يمكن أن يتركها إلى أن تثمر، ثم تباع إذا حل الدين. فإذا حل الدين فإنه يطالب بوفائه ويقول: أوفني ديني، فإذا لم يوفه قال له: خذ الرهن وبعه وأوفني من ثمنه، فإذا امتنع رفعه إلى الحاكم كقاضي البلد، والحاكم يقول له: بع الرهن واقض دينك من ثمنه، فإذا لم يفعل تولى الحاكم القاضي بيعه وإيفاء الثمن.

حكم الرهن في الحضر

حكم الرهن في الحضر اختلف هل يجوز الرهن في الحضر أو لا يجوز؟ وذلك لأن الآية الكريمة قيدته بالسفر، قال سبحانه وتعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ} [البقرة:283] ، فقال: بعضهم لا يجوز الرهن في الحضر، ويجوز الكتاب، والكتابة وثيقة تكفي عن الرهن. والصحيح أنه يجوز في الحضر كما يجوز في السفر، فإن في هذا الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى طعاماً من يهودي ورهنه درعاً له) ، وفي بعض الروايات: (توفي ودرعه مرهونة عند يهوديٍ بطعام اشتراه لأهله) ، وهذا الحديث ثابت في الصحيحين، ولو قلت: لماذا لم يجد النبي صلى الله عليه وسلم من يقرضه؟ فنقول: النبي صلى الله عليه وسلم محبوب عند الصحابة، ولو طلب منهم أموالهم لأعطوه ولبذلوا له ما في إمكانهم، ولكنه لا يحب أن يضايقهم، ولا يحب أن يكون على أحد منهم شيء من المضايقة أو نحوها، فعدل إلى الشراء من يهودي، وقد يكون ذلك اليهودي من يهود خيبر، أو من يهود فدك أو نحو ذلك، وقد يكون أيضاً من يهود المدينة قبل إجلائهم. والحاصل: أنه اشترى من هذا اليهودي طعاماً لأهله، ورهنه درعاً، ومعلوم أن هذا كان في المدينة، والمدينة أهلها حضر، ولم يكن على سفر، فدل على أنه -كما يجوز الرهن في السفر- يجوز في الحضر؛ وذلك لوجود العلة، فإن العلة هي الوثيقة، أي: كونه يجعل هذا الدين وثيقة يتوثق بها صاحبها حتى إذا حل وجد ما يؤمِّن له رد ثمنه أو رد دينه إليه.

حكم الوثائق وذكر بعض أنواعها

حكم الوثائق وذكر بعض أنواعها الوثائق كثيرة، فمنها: الكتابة التي تكتب بين المتبايعين إذا كان البيع مؤجلاً، وقد أمر الله بها بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282] ، فهي وثيقة، والإشهاد وثيقة، وذلك بأن يُشهد اثنين على أن فلاناً استدان مني كذا وكذا، حتى لا يضيع حقه. والرهن وثيقة؛ لأنه يتوثق به على ضمان أخذ حقه عند حلوله. والكفيل أو الضمين وثيقة؛ لأنه إذا عجز عن أخذ حقه من المدين رجع إلى الكفيل أو الضمين وأخذ الحق منه؛ لأن هذا قد تكفل بأداء الحق أو بإحضاره أو نحو ذلك، وبلا شك أن هذا دليل على عناية الشرع بحفظ الحقوق، والنهي عن التساهل في حقوق بني الإنسان، فالناس تأتيهم حاجات، ويحتاج بعضهم إلى بعض، فأحدهم يحتاج إلى من يقرضه، يحتاج إلى من يتصدق عليه، أو ما أشبه ذلك، فما دام أنه تمسه الحاجة ولابد فإنه يأتي بما يضمن أنه يرد على صاحب الحق حقه. والإنسان البائع قد يربح في بيعه بالثمن الغائب، ولكن يريد أن يتوثق من ثمنه، والمقرض الذي أقرض أخاه ولم يربح عليه، ولكنه نفعه؛ يريد وثيقة يتوثق بها، وهكذا بقية المنافع. فشرعية هذه الوثائق دليل على أن الشرع الشريف اعتنى بالحقوق، وأمر بأن تقيد وتثبت، ونهى عن الاختلاف والتساهل بحقوق بني الإنسان، وورد الشرع بالتحذير من أخذ حق لمسلم، وأن التساهل في أخذ الحقوق يعتبر اعتداءً على المسلمين، وأن الإنسان إذا استدان ديناً فإذا وثق به أهل الدين فعليه أن يحسن الظن، وأن يوفي بالوعد، وربه يساعده، كما ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله) .

شرح حديث: (مطل الغنى ظلم، وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع)

شرح حديث: (مطل الغنى ظلم، وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع) قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مطل الغني ظلم، وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع) ] . هذا الحديث فيه فائدتان: الفائدة الأولى: وجوب وفاء الدين إذا كان الإنسان غنياً. الفائدة الثانية: قبول الحوالة إذا أحيل على مليء. فأما المسألة الأولى فدل عليها قوله صلى الله عليه وسلم: (مطل الغني ظلم) ، والمطل هو: تأخير القضاء، سمي مطلاً لأنه يطول على صاحب الدين طلب حقه؛ لأنه كلما طلب ماله ودينه مطله، يعني: طول عليه المدة وقال: أمهلني أو اصبر عليّ أو قال: أخر عني الطلب، فلا يزال يطلب ويطلب حتى تطول المدة، وهذا يعتبر ظلماً، ولكنه خاصٌ بما إذا كان غنياً؛ لأنه قال: (مطل الغني) فدل على أنه إذا كان فقيراً فإنه معذور، ويجب على صاحب الحق أن يمهله، وأن يؤخر عنه الطلب لإعساره، قال الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280] أي: إذا كان صاحب الدين معسراً فأنظروه وأمهلوه وأخروا الطلب عنه إلى أن يوسر ويجد ما يوفي به دينه، هكذا دلت هذه الآية. نقول: لا شك أن الغني هو الذي يجد ما يوفي به حق الغرماء وحق الدين، وأنه يجب على المسلم أن يحتاط عند أخذ أموال الناس، ولا يدخل نفسه في أمور لا يستطيعها ويقدر على التخلف عنها، كما ورد في بعض الأحاديث: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله) ، بمعنى أن ذلك راجع إلى نيته. فإذا كان إنسان نيته صالحة، وما استدان هذه الأموال إلا لأجل أن يقضي حاجةً له ضروريةً لا غنى له عنها، وليس في إمكانه الصبر عنها، وقد عزم على أنه يقضي هذه الحقوق متى تيسر له القضاء، وأنه سيسعى في وفائها، فإن الله سبحانه سيعينه على الوفاء، وأما إذا كان من المسرفين المفسدين الذين يتباهون بالنفقات الطائلة التي لا يطيقونها، ويستدينون لها الأموال، وتتراكم عليهم الديون، وأحدهم يعرف أنه ليس عنده ما يوفي به، وأنه عاجز عن الكسب، أو ليس له دخلٌ يكفي لهذه الديون، ومع ذلك يقدم على استدانة الأموال والإسراف فيها؛ فإن هذا يتلفه الله، وأما إذا كان عنده ثروة وعنده غنى، وطالب صاحب الحق بحقه، فإن عليه أن يأتيه بحقه ولا يؤخره ولا يمهله عن أداء الحق الذي وجب عليه، فمطله والحال هذا ظلم وأي ظلم! وذلك؛ لأن الناس يرغبون في الحصول على أموالهم وجمعها وتحصيلها لديهم، ولا يستغنون عن اقتنائها وتنميتها وتثميرها والتصرف فيها، فإذا أعطوها إنساناً كقرضٍ أو كدين أو نحو ذلك، فبلا شك أن هذا المدين يلزم أن يوفي ما عليه متى قضى حاجته، ولا يماطل وهو يعرف حاجة أهل المال إلى مالهم، لكن إذا كان صاحب المال غنياً عنها، وليس بحاجة إليها وقال له: لا حاجة لي حاضرة بهذا المال، وأنت في حلٍ منه مادمت معسراً، ومادمت أنا لستُ بحاجة إليه، ولو بقي عليك سنين؛ ففي هذه الحال جائز له أن يؤخر الوفاء، وإنما يأثم إذا رأى أن أصحابه بحاجة إليه، وعنده استطاعه، وقد طالبه أهل المال بحقوقهم، وطلبوا منه الوفاء، ومع ذلك أخر الوفاء ومطلهم؛ فهذا لا يجوز، وقد ورد في حديث آخر: (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته) ، واللي هنا هو: التأخير، يعني: تأخيره للوفاء، والواجد هو: الغني الذي يجد الوفاء، فذكر أن ليه يحل عرضه، يعني: شكايته، ويحل عقوبته أي: يحل حبسه؛ حيث إنه قد ظلم صاحب الحق بتأخير الوفاء عنه.

أركان الحوالة وشروطها

أركان الحوالة وشروطها قوله: (وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع) ، هذا الحديث يتعلق بالحوالة، والإتباع هو: الإحالة، وقد ذكر العلماء أن أركانها أربعة: -المحيل. -والمحال عليه. -والمحتال. -والمحال به. فلابد من رضا المحيل؛ لأنه صاحب الدين، ولابد من رضا المحتال إذا كان المحال عليه مفلساً أو معسراً، وأما إذا كان المحال عليه مليئاً فلا يشترط رضا المحتال. فمثلاً: إذا كان لك دين عند زيد، وجاءك عمرو يطلب منك ديناً هو عندك له، فقلت له: أحلتك على زيد، فإن عنده لي ديناً، وزيدٌ غني قادرٌ على الوفاء، ففي هذه الحالة يلزم عمراً أن يذهب إليه، ويقبض منه حقه، فأنت المحيل وافقت على أنه يقبضه، وعمرو هو المحتال رضي بذلك، وزيد هو المحال عليه لا يشترط رضاه؛ وذلك لأنه يلزمه وفاء الدين الذي في ذمته لك أو لوكيلك، فالمحتال كأنه وكيل عنك، يقوم مقامك في القبض. فيشترط أن يكون المحال عليه مليئاً، فإن كان المحتال لا يعرف حال المحال عليه، يظنه من أهل الملاءة والثروة، ولكن ظهر أنه مفلس لا قدرة له على الوفاء، فيرجع إليك؛ لأنك أحلته على مفلس، فالإحالة لا تكون إلا على مليء يتمكن من الوفاء، والمليء هو المليء بقوله، والمليء ببدنه، والملي بماله. المليء بقوله هو: أن يكون بشوشاً سهل الجانب يتقبل طلبك، فأما إذا كان عبوساً شرساً ثقيل الكلام، سيء الأخلاق، يلقاك بوجه عبوس، ويردك رداً عنيفاً، ولو كان عنده أموال كثيرة، ولكنك إذا أقبلت عليه نفر في وجهك، وعبس عليك، واشتدت نظرته إليك؛ فأنت تحتشم أن تذهب لاقتضاء الحق منه؛ فلا تقبل الإحالة عليه. كذلك مثلاً: إذا كان سهل الجانب، سلس القول، لين الكلام، لطيف المقال، وكثير المال، ولكن له منصب ومكان رفيع، ولا تقدر أن تصل إليه، وإذا أقبلت إليه رُدعت دونه؛ وبينك وبينه أبواب وحجاب وحراس فلا تصل إليه، ولا تقدر أن تشتكيه؛ لكونه ذا منصب ورفعة، لا يجلس معك عند الحاكم، ولا تقدر أن ترافعه، فلك والحالة هذه أن ترجع إلى المحيل؛ لأنه ليس مليئاً بقوله وببدنه، بل لابد أن يكون مليئاً ببدنه وبقوله وبماله. فإذا تمت هذه الشروط انتقل الحق من ذمتك -أيها المحيل- إلى ذمة المحال عليه، وبرئت -أيها المحيل- وأصبح الحق واحداً، وبدل ما كان الحق على اثنين يصبح على واحد؛ وذلك لأنك عليك حق لزيد، ولك حق على عمرو، فجاءك زيد يقتضي، فقلت: لي حق على عمرو، فذهب إليه، فيصبح الحق واحداً بدل ما كان على اثنين. ولابد أن يكون الدين الذي لك والدين الذي عليك من جنس واحد، فإن كان الدين الذي عليك ذهباً، والدين الذي لك فضة، أو الدين الذي عليك ريالات سعودية، والدين الذي لك دولارات أمريكية؛ فإن الدين مختلف؛ فلا تصح الإحالة هذه؛ وذلك لأن من شرطها أن يتفق الدينان؛ ولأن الريال سيصرف من غير تقابض، والصرف -الذي هو تحويل العملة إلى عملة أخرى أو بيع نقدٍ بنقد- لابد فيه من التقابض، فاشترط فيه أن يكون الدينان من جنس واحد، حتى ولو لم يكونا نقوداً، فلو كان الدين الذي عليك طعاماً، والدين الذي لك هو طعام، فإنه تجوز الإحالة، فتحيله ببر على بر، أو بتمر على تمر، أو بقماش على قماش من جنسه، أو ما أشبه ذلك، كل ذلك الحوالة فيه جائزة، وذلك لأن هذا ونحوه مما جاءت الشريعة بإباحته، تسهيلاً على العباد، وتهويناً عليهم. ثم لابد أن يكون المحيل والمحال عليه في بلد واحد، أما إذا كان المحال عليه في بلد بعيد، بحيث إن المحتال يتكلف السفر، ويصرف أموالاً في السفر في الذهاب والإياب؛ فإن له ألا يقبل الإحالة؛ وذلك لأنه والحال هذه عليه مشقة. فعرف بذلك أن هذه المعاملة -التي هي الحوالة- الأصل فيها أنها شرعت للتسهيل على العباد، ولئلا يتكلف الإنسان الطلب مرتين، بل يكون الطلب مرةً واحدة، وأمر المحتال أن يذهب إلى المحال عليه تخفيفاً على المحيل، وأمر المحال عليه أن يدفع له، وألا يماطله، فكما يدفعه إلى صاحبه يدفعه إلى وكيله.

شرح عمدة الأحكام [51]

شرح عمدة الأحكام [51] للمفلس أحكام شرعية كثيرة، ومن ذلك الحجر عليه، ومنعه من التصرف، ومحاصة الغرماء في ماله، ومن أدرك منهم ماله بعينه فهو أحق به من غيره، وغير ذلك من الأحكام.

أحكام التفليس

أحكام التفليس قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [باب ما يتعلق بالإفلاس: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من أدرك ماله بعينه عند رجلٍ أو إنسان قد أفلس، فهو أحق به من غيره) ] .

تعريف المفلس

تعريف المفلس هذا الحديث يتعلق بباب التفليس أو الإفلاس. والمفلس: هو الذي يقلّ ماله، وتكثر ديونه؛ وسمي بذلك من باب أنه ليس له مال إلا ما لا قيمة له، تشبيهاً بمن لا يملك إلا الفلوس. والفلوس: هي النقود الرخيصة، كما يقال: هذا لا يساوي فلساً، فالفلس هو عملة رخيصة، كانت تسمى قديماً الفلس، وتسمى أيضاً الدانق، وفي هذه الأزمان تسمى الهللة أو نحوها. فالمفلس هو: الذي قل ماله ولم يبق عنده إلا هذه الفلوس، وكثر دينه، ولا شك أنه بسبب كثرة ديونه وقلة أمواله يكثر الذين يطالبونه بحقوقهم، ويطلبون منه الاستيفاء. فإذا رأوا أمواله قليلة بالنسبة إلى ديونه، رجعوا إلى الحاكم أو القاضي وطلبوا أن يحجر عليه، ويمنعه من أن يتصرف في ماله الموجود، ويمنع أحداً من أن يشتري منه أو يبيع عليه ويضيف ديناً إلى دينه. وعند ذلك يأمر الحاكم بإحصاء ديونه بعدما يحجر عليه، وإذا: أحصيت ديونه، باع أمواله التي يمكن أن يستغني عنها، وقسمها على الغرماء أهل الديون، وأعطى كل ذي حق بقدر حقه بالنسبة. فإذا كانت ديونه -مثلاً- عشرين ألفاً، وأمواله بعدما صفيت لم تكن إلا خمسة آلاف، فنسبتها الربع من الديون، فيعطى كل ذي دينٍِ ربع دينه، يقال: هذا نصيبك، والبقية تبقى في ذمة المدين، هكذا العمل بمن حجر عليه.

من وجد من الغرماء عين ماله فهو أحق به بشروط

من وجد من الغرماء عين ماله فهو أحق به بشروط ذكر في هذا الحديث: (أن من وجد ماله بعينه فهو أحق به) ، صورة ذلك: إذا حجر الحاكم على المفلس في أمواله، ووجدت سلعتك بعينها التي بعته، فأنت أحق بها، هذا مقتضى الحديث. واشترطوا لذلك شروطاً: الشرط الأول: ألا تكون قد قبضت من ثمنها شيئاً، فإذا وجدت كيسك الذي بعته بمائة بعينه؛ لم يبعه ولم يأكل منه ولم يرهنه؛ وجدته بعينه، وأنت لم تستلم من المائة شيئاً؛ فأنت أحق به، ولو قال أهل الديون الأخرى: نبيعه ونأخذ من ثمنه بالنسبة وأنت معنا، ف A أنت أحق به؛ لأنه عين مالك. الشرط الثاني: ألا يكون قد تغير، فإذا تغير بأن فصل الثوب، أو خاطه، أو لبسه حتى اخلولق مثلاً، أو استعمل السيارة -مثلاً- حتى تغيرت، أو هدم البيت وجدد عمارته؛ فإن صاحبه يصير كأسوة الغرماء؛ وذلك لأنه لم يجد ماله بعينه، بل وجده قد تغير. الشرط الثالث: ألا يتعلق به حق للغير، فإذا كان قد رهن السيارة عند إنسان، أو باعه نصفها مثلاً، أو وهبها أو وهب بعضها لإنسان آخر؛ فإنها تخرج من كون صاحبها أحق بها، بل يكون كأسوة الغرماء، فيستوي مع بقية الغرماء، فتباع السيارة أو السلعة، ويقسم ثمنها على الغرماء بقدر ديونهم. كذلك أيضاً: لابد أن يكون الدين ثابتاً في الذمة، فإذا كان الدين ليس بثابت فإنه لا يلحق بسائر الغرماء. والدين الذي ليس بثابت مثل دين السلم، ومثل دين الكتابة بأن يشتري العبد نفسه، وما أشبه ذلك؛ فلاشك أنه والحال هذه ليس الدين ثابتاً. فالأصل أن الإنسان لا يتجارى في كثرة الديون والاستدانة من الناس، حتى يسرف في أموالهم ويأخذها وهو لا يجد وفاء لها، وإذا قدر أنه احتاج وكثرت ديونه، فعليه أن يجتهد في الوفاء، وأن يوفيهم بقدر ما يستطيعه.

معنى الحجر

معنى الحجر الأصل في الحجر على المفلس ما روي: أن معاذ بن جبل رضي الله عنه كان شاباً يحب كثرة الإنفاق وكثرة الصدقة والتبرع، فكان يستدين ويقترض حتى كثر الذين يطالبونه، ولما كثروا سألهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يتسامحوا عنه، ولو تركوا أحداً لأجل أحدٍ لتركوا معاذاً لأجل النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنهم ذكروا أنهم يطالبونه بأموال هم بحاجةٍ إليها، وأن بعضها مال أيتام، فلم يجد النبي صلى الله عليه وسلم بدّاً من الحجر عليه، ومنع كل أحد أن يبيع منه أو يشتري منه، ثم جمع أمواله التي يمكن أن يستغني عنها، وباعها وأعطى الغرماء بعض حقهم، وقال لهم: (ليس لكم إلا ذلك) ، ثم أرسله إلى اليمن كعامل لينجبر ما حصل عليه، وليصيب من سهم العاملين على الزكاة. والحاصل: أن الحجر: هو أن يمنع الإنسان من التصرف ببيع أو شراء فيما يملكه من المال، ثم بعد ذلك يباع ويصفى ويقسم على الغرماء، فإذا وجدنا أن ماله بقدر ديونه أو أكثر من ديونه فإنه لا يحجر عليه، ولكن يؤمر بأن يوفي ديونه. وإذا لم يوجد له مال أصلاً، وعليه ديون، وليس له ما يوفيها به، ولا يملك شيئاً، فمثل هذا عاجزٌ، وليس لأحد أن يشدد في طلبه، بل يجب إنظاره، وهو المذكور في قول الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280] ، والذي لا يقدر على وفاء شيء من دينه فلا يحجر عليه؛ لأنه لا مال له حتى يحجر عليه، وإنما يحجر على الذي له مالٌ أقل من الديون الحالة المطالب بها. فهذه الأموال التي عنده التي يحجر عليه فيها هي أموالٌ اكتسبها أو اشترها بنقدٍ مثلاً، أو ربح بها أو استغنى عنها، وهي من جملة ما يملكه، فمثلاً: إذا كان عنده عقار، وقد أوفى ثمنه، فإنه يباع ويقسم ثمنه، وإذا كان عنده دواب كبقرٍ أو غنمٍ أو نحوها، وقد أوفى ثمنها أو بعض ثمنها، فإنها تباع إذا لم يكن بحاجةٍ إليها، ويترك له ما هو مضطر إليه، فيترك له البيت الذي يسكنه، والدابة التي هو في حاجة إلى لبنها لقوت أولاده، ويترك له آلته التي يعمل بها، فإن كان عنده سيارة أجرة فلا تباع؛ لأنه يكتسب عليها، وإن كان له حرفةٌ تركت آلة حرفته، كماكينته التي يعمل عليها مثلاً، أو التي يخيط عليها إذا كان خياطاً، أو التي يغسل عليها إذا كان غسالاً مثلاً، أو آلة حدادة، أو آلة نجارةٍ، أو آلة خرزٍ، أو آلة بناءٍ، أو ما أشبه ذلك، هذه تبقى له حتى يتكسب ما يوفي بقية ديونه، ويتكسب ما يقوت عياله وهكذا. ولا يجوز أن يتمادى في الإنفاق ويتمادى في الإسراف وأهل الديون يطالبونه بحقوقهم، وقد ذكر العلماء أنه إذا كان عنده شيء لا يستحقه كله، فإنه يباع ويشترى له بقدره، فإذا كان له سيارة قيمتها سبعون ألفاً، فإنها تباع ويشترى له سيارةٌ قيمتها عشرون أو خمسة وعشرون؛ لأنه فقير، وهذه التي تناسب الفقير، وإذا كان له بيتٌ قيمته مثلاً ثمانمائة ألف أو نحوه، ويكفيه بيتٌ قيمته أربعمائة، فيباع ذلك البيت، ويشترى له بيت بأربعمائة يكنه ويكن أولاده، ويقضي ديونه، وكذلك جميع ما يمكن أن يستغني عنه، وكل ذلك لأجل تبرئة ذمته، وإعطاء الحقوق لأهلها. فأما إذا كانت السلعة موجودة، وصاحبها لم يقبض من ثمنها شيئاً، فإنه أحق بها، ولو كان ثمنها مؤجلاً، كم لو قال: هذه سيارتي قيمتها في الحال خمسون ألفاً وأنا بعتها بثمانين ألف، نقول: خذ سيارتك عن الثمانين التي هي رأس مالك، وليس لك شيء، ولا تساهم مع أهل الديون؛ لأنك وجدت عين مالك، ولم تكن قد قبضت منها شيئاً، ولم تكن قد نقص من قيمتها، وهكذا بقية السلع. وبذلك يعرف أن الشرع جاء بحفظ حقوق المسلمين، وبالنهي عن التساهل فيها، أو التسبب في إتلافها وأن ذلك دليلٌ على كمال هذه الشريعة، واشتمالها على جلب المصالح ودفع المفاسد.

شرح عمدة الأحكام [52]

شرح عمدة الأحكام [52] جاءت الشريعة بجلب المصالح ودفع المفاسد، ومن قواعدها أن الضرر يزال، ومن الأمثلة على هذه القاعدة الشفعة، فإذا اشترك اثنان في شيء ثم باع أحدهما نصيبه من غير أن يعلم الآخر فإن له أن يشفع، فيشتري نصيب شريكه دفعاً للضرر عنه بالشريك الجديد، وللشفعة أحكام كثيرة بينها أهل العلم رحمهم الله.

أحكام الشفعة

أحكام الشفعة قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الصرف، فلا شفعة) أخرجه البخاري في صحيحه] .

تعريف الشفعة

تعريف الشفعة هذا الحديث يتعلق بالشفعة في الشركات، واشتقاقها من الشفع، وهو من العدد الزوج؛ لأن سهم الشريك يعتبر واحداً، فإذا ضم إليه سهم شريكه الذي باعه أصبح اثنين، أي: أصبح شفعاً بعد أن كان وتراً، وبذلك سميت شفعةً، حيث إنه يشفع سهمه بسهم شريكه. وصورتها: أن يكون بين اثنين بيتٌ أو أرضٌ أو دكانٌ أو نحو ذلك، كلاهما يملك نصفه، فيبيع أحدهما نصفه على طرفٍ ثالث، فإذا علم الشريك فإنه أحق بذلك السهم الذي باعه شريكه، حتى يكون الشقص الذي بيع ملكاً له، وحتى يكون ذلك العقار كله ملكاً له خالصاً، ويزول عنه ضرر الشركة؛ وذلك لأن العادة أن الإنسان يتضرر بالشراكة، ويحب أن يكون الملك له خالصاً لا يزاحمه فيه أحد، بل يتصرف فيه كما يشاء دون أن يكون هناك من يضايقه في ملكه أو في تصرفه.

شرعت الشفعة لإزالة ضرر الشراكة

شرعت الشفعة لإزالة ضرر الشراكة عادةً أن الأرض المزروعة مثلاً أو الدكان المشترك إذا كان بين اثنين أو ثلاثة أو نحوهم، فإن التصرف لا يكون متوافقاً غالباً، بل يكون هذا له نظر، وهذا له نظرٌ، فتختلف آراؤهم، وتختلف وجهاتهم، وكل منهم يزعم أن نظره هو السديد، وأن رأيه هو الصواب، فيختلفون عند ذلك، ويتمنى كل واحد منهم أن يكون بعيداً عن هذه المشاركة، وأن يكون مستقلاً بملك يتصرف فيه التصرف التام بحيث لا يعقبه أحدٌ. وقد ذكر الله عادة الشركاء فقال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص:24] يعني: عادةً أن الخلطاء بعضهم يعترض على البعض وينتقده لشيء من تصرفه، وهذا الانتقاد يسيء إليه؛ لأنه يحب أن تكون إشارته ونظره وتصرفه ليس فيها ما ينتقد، فلأجل ذلك شرعت الشفعة؛ لإزالة ضرر المشاركة وضرر المخالطة عن الشريك، هذا هو السبب في شرعيتها. ومعلومٌ أن الشراكة قد يكون فيها خير، وأن الشركاء قد يعملون ما لا يعمله الأفراد، وقد يعجز الإنسان بمفرده فيحتاج إلى من يشاركه في أمر من الأمور، فإذا أراد مثلاً زرعاً ولم يستطع أن يشتري الأدوات ولا يشتري الأرض الزراعية، فيحتاج أن يشاركه فلانٌ وفلان حتى يجتمع من رأس مالهما ما يكونان قادرين معه على شراء المعدات والأدوات الزراعية التي ينتجون منها، بخلاف ما لو كان واحداً. ثم بعد ذلك قد ينتقد بعضهم بعضاً في التصرف، فيؤدي ذلك إلى أنهم إما أن يقتسموا، وإما أن يبيع بعضهم سهمه على شركائه، وإما أن يبيع على غيرهم، فإذا باع سهمه على غيرهم فإنهم أحق به بثمنه، وهو ما يسمى بالشفعة.

ما لا تدخله الشفعة

ما لا تدخله الشفعة الشفعة لا تكون في المنقولات، وذلك لعدم الضرر فيها؛ لأن العادة أن المنقول يمكن بيعه على طرفٍ ثالث، وقسمة ثمنه. وكذلك لا تكون فيما ينقسم بالأجزاء، وذلك لسهولة قسمه، وانفراد كلٍ منهم بنصيبه، فإذا كان بينهما أكياس برٍ أو أكياس أرز أو سكر أو نحو ذلك، فباع أحدهما نصفها، فليس للآخر أن يشفع؛ وذلك لأنها من المنقول، والمنقول يسهل قسمته؛ لأنه قبل بيع شريكه يقدر أن يقتسما وأن يقول: هذه الأكياس العشرة نقتسمها لي خمسة، ولك خمسة، أو هذا الكيس الذي فيه أربعون صاعاً نقتسمه لي عشرون، ولك عشرون، فلا شفعة في المكيل والموزون ونحو ذلك. وإذا كان بينهم ثياب يمكن أن يقتسموها أو يبيعوها ويقتسموا ثمنها، فإذا كان بينهم شيء ينقل كسلاح، أو سيارة، أو دواب كإبل أو غنم أو نحو ذلك، فهذه لا حاجة إلى الشفعة فيها، وما ذاك إلا أنها يمكن تجزئتها ويمكن بيعها، فإن احتاجوا إلى توزيعها أمكنهم تقييمها، فيقولون: قيمة هذا البعير مائة لك أو لي، أو نبيعه ونقتسم ثمنه، قد لا يقدرون على قسمه وهو حي، فالبعير مثلاً لا يقسم إلا لحماً، وكذلك الشاة ونحوها، ولكن قد يبيعونه ويقتسمون ثمنه، فمثل هذا لا شفعة فيه، أي أن المنقولات التي يمكن نقلها لا شفعة فيها، لسهولة توزيعها، وكذلك المعدودات لا شفعة فيها، وهي التي تعد عدداً كدواب وغنم مشتركةٌ بينهما ونحوها، فيمكن توزيعها وقسمتها دون أن يحتاج إلى أن يشفع الذي لم يبع. وبكل حال فالشفعة إنما شرعت في العقارات ونحوها؛ لإزالة الضرر؛ لأنه لا يمكن إزالة الضرر عن المشرك إلا بالشفعة.

لزوم الشفعة

لزوم الشفعة وقد ذكروا أنه إذا طلب الشريك القسمة فيما يمكن قسمه أجبر على قسمه، فإذا كانت الأرض التي بينهما يمكن أن تقسم، ولا يحصل في قسمتها ضررٌ على واحد منهما؛ أجبر الآخر على القسم، كأن تكون مزرعة كبيرة مساحتها ألف متر أو ثلاثة آلاف أو خمسة آلاف أو نحوها، فهذه تنقسم، ولا ضرر على من أخذ نصفها، ففي إمكانه أن يزرع، وفي إمكانه أن يغرس، وفي إمكانه أن يحرث، وفي إمكانه أن يبيع أو يبني، فيلزم بقسمتها. أما إذا كانت صغيرة، كما إذا كان بينهما دكان صغير طوله مثلاً ثلاثة أمتار، وعرضه متر أو متر ونصف، وطلب أحدهما أن يقسم هذا الدكان، فلا شك أنه إذا قسم قل نفعه، فإذا قسمناه وجعلنا لكل واحد ٍمنهما سبعون سم -مثلاً- فماذا ينتفع به، فلا يقسم إلا بتراضيهما، إذا رضي كل منهما. أما إذا لم يرض فيقال له: إما أن تبيع، وإما أن تقسم، إما أن تبيع سهمك أو تشتري سهم شريكك، أو ترضى بالقسمة ولو كان عليك فيها ضرر؛ وذلك لإزالة ضرر الشراكة، الشريك مثلاً قد يقول: أنا ما انتفعت بهذا الدكان، أريد أن أبيعه، فإما أن تشتريه مني وإما أن تتركني أبيعه على غيرك، وإما أن تأخذ سهمي وتعطيني ثمنه مثلاً، وإما أن تقسمه؛ فهذا بلا شك يلزمه، أما الشيء الذي لا ضرر عليه فيه، فإنه لا بأس بقسمته، وتلزم قسمته عند الطلب.

ما تدخله الشفعة

ما تدخله الشفعة الشفعة تثبت في العقار، والعقار يعم المزارع والدكاكين والمساكن والبساتين؛ كل هذه فيها الشفعة، فإذا كان البستان بين اثنين أو بين ثلاثة فباع أحدهم نصيبه فإن لصاحبه ولشريكه انتزاع ذلك الشقص من المشتري بثمنه؛ وذلك لأنه أحق به. مثلاً: إذا كانت المزرعة بين اثنين، فباع أحدهما نصفه بخمسين ألفاً، فإن الشريك يقول: أنا أحق بها، وأنت أيها المشتري طرف ثالث، فخذ الخمسين التي دفعتها، والملك يبقى لي كله، حتى أسلم من ضرر المشاركة، قد لا تناسب أنت معي؛ قد لا يمازج طبعك طبعي. كذلك لو كان الملك بين ثلاثة لكل منهما ثلثه، فباع أحدهم ثلثه، فالآخران لهما الخيار إما أن ينتزعا هذا الثلث الذي بيع لكل منهما نصف الثلث؛ ليكون الملك بينهما، وإما أن يأخذه أحدهما ليكون له الثلثان وللآخر الثلث، وإما أن يتركاه للمشتري ويبقيا على نصيبهما، ويدخل المشتري معهما وينزل منزلة البائع.

الشفعة في المشاع

الشفعة في المشاع تكون الشفعة إذا كان الملك مشاعاً، والملك المشاع: هو أن تكون هذه البقعة مملوكة للشركاء، كل واحد يملك جزءاً منها، يقول: هذا المنزل لي نصفه، وهذا الدكان لي نصفه، وهذه البقعة لي نصفها؛ كل جزء منها لك نصفه، هذا معنى كونه مشاعاً، يعني: أن ملكه شائع فيها. يقول: إنه صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة، يعني: بعد القسم، لو أن الشريكين اتفقا على القسم، فقسما الأرض بينهما نصفين، وحدد كل واحد نصفه بحدود، وهي الرسوم والنصب التي ينصبونها لتميز نصيب هذا من هذا، أو اتفقا على بناء جدار فاصل بينهما، ثم كل منهما عرف طريقه: هذا طريقه من هنا، وهذا طريقه من هنا، ملك هذا من هنا، وملك هذا من هنا، وفصل بينهما بفاصل، وبعد ذلك باع أحدهما، لم يقدر الآخر على الشفعة؛ لأنه لم يعد شريكاً، بل كل منهما ملكه مستقل، ولو كان شريكاً في الفاصل أو الحاجز أو الجدار فلا يعد هذا شراكة. هذا معنى كونه حددت الطرق، أي: بينت وأظهرت وصرفت الطرق ووقعت الحدود، وعلم كل واحد نصيبه. وكذلك لو كان بينهما داراً واسعة اتفقا على قسمتها، فاقتسماها نصفين، وجعل هذا نصفه شرقاً، وهذا نصفه غرباً، وحجزا بينهما بحائط، وجعل هذا له فتحةٌ على الطريق وهذا له فتحة، وهذا له باب من هنا، وهذا له باب من هنا، ثم باع أحدهما جزأه، لم يقدر شريكه سابقاً على أن يشفع؛ وذلك لكونه لا ضرر عليه بعد هذه القسمة.

متى يشفع الجار؟

متى يشفع الجار؟ كل شيء قسم وتصرف كل منهما في نصيبه، لا شفعة فيه بعد ذلك، إلا إذا بقي بينهما شيء مشترك ينتفعان به جميعاً غير الطريق، فإن له أن يشفع، فإذا كان بينهما هذه الغرفة، أو اقتسما الدور الأرضي، وبقي العلوي مشتركاً بينهما، أو بقيت في الدار غرفةٌ مشتركة كالمجلس الكبير مثلاً لم يزل مشتركاً، فإن له الشفعة، وكذلك لو كانا مشتركين في مرفق من المرافق، كأن اشتركا مثلاً في بيارةٍ بينهما أو في بئر يسقيان منها جميعاً، هذا يسقي منها، وهذا يسقي منها، وباع أحدهما نصيبه منها، فإن للآخر الشفعة. وبكل حالٍ شرعت الشفعة؛ لأجل إزالة الضرر، وذلك بأن يبيع شريكك نصيبه من هذا العقار، فتقول: أنا متضرر بشراكتك، فكيف تأتيني بشريكٍ آخر لا أعرفه، فأنا أحق بها، فتعطي المشتري قدر المال الذي اشترى به ويكون العقار كله ملكاً لك، وتكون سالماً من ضرر المشاركة.

شرح عمدة الأحكام [53]

شرح عمدة الأحكام [53] الوقف من محاسن الإسلام، وأجره مستمر ما بقي، فحري بأهل الأموال أن يوقفوا في حياتهم ما يكون صدقة جارية لهم، وللوقف أحكام بينها الفقهاء رحمهم الله تعالى.

أحكام الوقف

أحكام الوقف قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: (أصاب عمر أرضاً بخيبر، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله! إني أصبت أرضاً بخيبر لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي منه، فما تأمرني به؟ فقال: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها، قال: فتصدق على أنه لا يباع أصلها، ولا يوهب، ولا يورث، قال: فتصدق بها عمر للفقراء، وفي القربى، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، أو يطعم صديقاً غير متمولٍ فيه -وفي لفظٍ: غير متأثل) ] .

تعريف الوقف

تعريف الوقف هذا الحديث يتعلق بالوقف، والوقف هو: تحبيس الأصل، وتسبيل المنفعة، ويكون في كل عينٍ ينتفع بها مع بقاء عينها، وهو من أفضل القربات. في هذا الحديث أن عمر رضي الله عنه ملك هذه الأرض وأعجبته؛ لكونها ذات غلة وذات منفعة، وأحب أن يقدمها لآخرته، فأشار عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يتصدق بها، ولكن صدقة لا تباع ولا تبدل ولا تنقل، بل ينتفع بها مع بقاء عينها، ولا تجري فيها سهام المواريث، ولا يتصرف فيها المالك تصرفه في ملكه المطلق، بل ينتفع بها مع بقاء أصلها ويتصدق بغلتها. وهذا هو شأن الوقف: أن يجعل غلته في كل شيء ينفع في الآخرة، فتصدق بها على الفقراء والمستضعفين؛ لأنهم مستحقون وفيهم الأجر، لسد حاجتهم، وكذلك المساكين، وهم أخف حاجة من الفقراء، الفقراء: هم الذين يكون دخلهم أقل من نصف حاجتهم، والمساكين يكون دخلهم أكثر من النصف ودون الكل، والجميع يحتاجون إلى تمام الكفاية. كذلك ابن السبيل، وهو المسافر المنقطع الذي لا يجد ما يوصله إلى بلده، ولو كان له في بلده مال، لكن سافر وطال سفره، فنفذ ما معه أو سرقت نفقته، أو طال سفره ولم يكن يظن أنه يطول، أو ظن أنه يجد ما يرجع به إلى أهله فلم يجد، فأصبح منقطعاً، ويقال له: ابن السبيل؛ لأن السبيل هي الطريق، فكأنه لملازمته لها ابن لها. وكذلك الضيف الذي ينزل على أهل القرية له حق الإكرام، بأن يقروه جائزته يومه وليلته. وهكذا أيضاً الوجوه العامة الخيرية يصرف فيها الوقف، فهذا مصرف وقف عمر جعله في هؤلاء. وأعطى الأقارب من الفقراء والمساكين؛ لأن لهم زيادة حق، والصدقة عليهم صدقة وصلة، ورد في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: (صدقتك على المسكين صدقة، وعلى ذي القربى اثنتان صدقةٌ وصلة) ؛ فلذلك جعل عمر فيها حقاً لذوي القربى. هذا هو الوقف، يكون في غلة الشيء الذي يمكن استغلاله مع بقاء عينه، فإذا كان الوقف أرضاً تغل، أي: تزرع مثلاً، ويحصل من زرعها ما يزيد على نفقتها، فهذا الزائد هو الذي يصرف للفقراء والأقارب والمعوزين. وإذا كان فيها شجر؛ كنخل وعنبٍ ورمان وتينٍ، وما أشبهه مما له ثمرٌ ينتفع به فيؤكل أو يباع أو نحو ذلك؛ فثمرته تصرف -إما بعد بيعها وإما قبله- للمعوزين وللمحتاجين، ويكون لصاحبها الذي أوقفها أجرٌ بقدر ما انتفع بها. وإذا كان الوقف -مثلاً- داراً جعلها مسكناً للمستضعفين أو غيرهم، صدقة على أنها وقف، فقد ثبت أن الزبير رضي الله عنه أوقف داراً وجعلها للمردودة من بناته، أي: المطلقة من بناته تسكن في هذه الدار، ولا تورث ولا تباع. إذا جعل الإنسان داراً موقوفةً للمحتاج من أولاده أو أولاد أولاده، فهذا أيضاً من الوقف الذي ينتفع به مع بقاء عينه.

فضل الوقف

فضل الوقف للموقف أجر، والوقف هو المراد بالصدقة الجارية، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) ، فبدأ بالصدقة الجارية. فالدار التي تؤجر ويتصدق بأجرتها صدقة جارية، والأرض التي فيها شجرٌ أو لها أجرة أو فيها ثمرةٌ أو نحو ذلك، يتصدق بثمرها وغلتها؛ فهذه صدقة جارية، وكذلك الأعيان التي ينتفع بها تعتبر أيضاً صدقةً جارية، ولو لم يكن فيها غلة، ولكن ينتفع بها، فالمساجد التي يتعبد فيها، إذا بنى الإنسان مسجداً فإنه يعتبر صدقةً جارية، وكذلك جميع المنافع التي يرتفق بها تعتبر صدقة جارية، مثل فُرُش المساجد حيث يرتفق بها المصلون، فتعتبر من الأوقاف الجارية النافعة، ومكيفاتها مثلاً ومراوحها وأدوارها ونحو ذلك من الصدقات الجارية.

وقف المنقولات

وقف المنقولات يجوز وقف الكتب التي ينتفع بها، ووقفها من الصدقات الجارية؛ وذلك لأنها باقية ينتفع بها من يقرأ فيها أو يسمع منها أو نحو ذلك مع بقاء عينها، فلذلك اعتبرت من الأعمال الخيرية التي يجري أجرها لمن سبلها، ويقال كذلك في كل الأشياء التي يمكن أن ينتفع بها. كانوا في قديم الزمان يوقفون الأجهزة التي ينتفع بها في المنافع العامة أو الخاصة، فيوقف مثلاً الإنسان الأسلحة التي يقاتل بها في سبيل الله، ويرجو بذلك الأجر من الله، ومنهم خالد بن الوليد رضي الله عنه، يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل إنه منع الزكاة: (أما خالد فإنكم تظلمون خالداً، لقد حبّس عتاده -وفي رواية: وأعبده- وسلاحه في سبيل الله) ، كان عنده أسلحة فقالوا له: أعطنا زكاة هذه الدروع وزكاة هذه الرماح وزكاة هذه السيوف وزكاة هذه الخناجر ونحوها، فامتنع وقال: هذه في سبيل الله، إذا غزونا أعطيت كل سيفٍ أو كل رمحٍ أو كل قوسٍ من يقاتل به، فتصبح كأنها غير مملوكة له، ولو كانت في بيته، فلذلك كان يريد أجرها، فهذه مما ينتفع بها مع بقاء عينها. كذلك أيضاً كانوا يوقفون العتاد لمن يحج إذا كان عاجزاً عن الحج، فيركبونه على الفرس أو على الراحلة من الإبل أو نحوها، ويقولون: هذه الراحلة أو هذا البعير مسبلٌ للمجاهدين أو للحجاج، وكذلك: هذه الرحال التي كانوا يجعلونها على ظهور الإبل والركائب يسبلونها أيضاً لمن ينتفع بها، وكذلك أيضاً الأشياء التي يحتاج إليها في البلد كانوا يوقفونها، ولا يزال موجوداً في هذا البلد أشياء موقوفة، وإن كان قد قل الانتفاع بها، فيوجد عند القدماء من أهل البلد قدورٌ مسبلةٌ لمن يطبخ فيها مثلاً، أو أرحية لم يطحن عليها، أو أسلحةٌ لمن يحتاج إليها، أو ما أشبه ذلك، فهذه من الأوقاف. وتجددت أشياء وقامت مقامها، وأصبح يمكن إيقافها، ويمكن تسبيلها، فمثلاً بدل ما كانوا يوقفون القربة أصبحوا يوقفون البرادات ونحوها مما يقوم مقامها في كونها يحصل بها تبريد المياه لمن يشرب، بدل ما يشرب ماءً حاراً. كذلك بدل ما كانوا يوقفون المراوح اليدوية أصبحوا يوقفون مراوح كهربائية أو مكيفات أو ما أشبهها مما يحصل به الكفاية، ويحصل لمن أوقفها الأجر، والأجهزة كلها فيه أجر، حتى مثلاً هذه الطاولة الذي أوقفها له عليها أجرٌ، وهذه الأجهزة المكبرة ونحوها الذي أوقفها له أجرٌ، وهذه الفرش في هذه المساجد وهذه الأدوار ونحوها الذي أوقفها يحتسب في ذلك الأجر، ويجري عليه أجرها ما دام ينتفع بها. المدارس الخيرية التي يدرس فيها القرآن ونحوه، ويوقف فيها المصاحف والرسائل ونحوها، ولا شك أيضاً أن فيها أجراً، حيث إنه ينتفع بها، ويلحق بذلك الرسائل والأشرطة الإسلامية إذا سبلها الإنسان، فله أجرٌ ما دام ينتفع بها.

تنجيز الوقف وخروجه من ملك الواقف

تنجيز الوقف وخروجه من ملك الواقف الوقف يسمى وقفاً منجزاً، أي: ليس للواقف أن يرجع فيه؛ وذلك لأنه أخرجه لله، وإذا أخرجه فإنه يخرجه من ملكيته، وفي وقف عمر قال: (لا يباع أصلها) ، فإذاً: لا يجوز الرجوع فيها متى أوقفها. لو أن إنساناً أوقف مكيفات في مسجد، ثم إن ذلك المسجد هدم، وألغي لطريق أو لحاجة إلى توسعة أو نحو ذلك، فهذه الأدوات التي فيه، تنقل لمسجدٍ آخر، فليس له أن يرجع في مكيفاته ولا في نوافذه ولا في فرشه، ولا في أبوابه، ولا في المكبرات أو الأشياء التي تبرع بها، لا يجوز له أن يعود فيها؛ وذلك لأنه أخرجها لله، فتصرف إما للوكالة التي تتولى ذلك، وهي في هذه الأزمنة وزارة الأوقاف، فإنها هي التي تتولى غلال الأوقاف أشجاراً أو عقاراً أو ما أشبه ذلك، وإما أن ينقل إلى مسجد آخر أو مرتفق آخر ينتفع به، ولا يجوز لصاحبها أن يتملكها. الإنسان مثلاً إذا قال: أشهدكم أن بيتي هذا وقفٌ منجز، ولكن أسكن فيه مادمت حياً، أو يسكن فيه المحتاج من ولدي، ثم بعد ذلك بدا له أن يعود فيه وأن يبيعه، نقول: لا يجوز لك أن ترجع فيه، ولا يجوز لك أن تبيعه، ولا أن تتملكه؛ لأنه وقف خرج عن ملكية الواقف، وأصبح ملكاً للمنتفعين به، أو ليس لملك لأحد، ولكن غلته لمن ينتفع به أو لمن جعل له، أو يصرف لمن يستحقه.

ناظر الوقف

ناظر الوقف يجوز أن يجعل على الوقف ناظر، والناظر هو الوكيل، إذا كان الوقف مثلاً عقاراً احتاج إلى ناظر، فهذا الناظر هو الذي يؤجره، وهو الذي يقبض الأجرة، وهو الذي يستغله، وهو الذي يعمر منه ما وهى وما فسد ويصلحه، وهو الذي يصلحه إذا خرب، كما إذا كان جهازاً من الأجهزة يحتاج إلى إصلاح، فلابد أن يكون له ناظر. هذا الناظر قد يلقى مشقةً وتعباً؛ فلذلك يستحق أن يجعل له جزء من الغلة، فـ عمر رضي الله عنه في هذا الأثر ذكر أن الذي يليه يجوز له أن يأكل، ويجوز له أن يطعم صديقه، أو يطعم زواره، ولكن لا يتمول منه مالاً، إنما يأكل منه بقدر نفقته أو بقدر تعبه وعمله، فإذا زاره أصدقاؤه أو نحوهم أطعمهم من ثمر هذا الشجر من فاكهة أو ما أشبهها، أما أن يتخذ منه مالاً فلا، فإذا لم يجد إلا بأجرة، جاز أن يقول مثلاً: لك من غلته (3%) ، أو (5%) ، أو ما أشبه ذلك، على أن تصلح ما وهى منه، إذا تصدعت حيطانه تصلحها مثلاً، وإذا وهى سقفه تتعاهده، وإذا خربت أدواته تصلحها، وما أشبه ذلك، فإنه: غالباً بحاجة إلى من يقوم عليه. فالحاصل أن الذي يوقف هذه الأوقاف يريد بذلك استمرار الأجر، وأن يأتيه أجرها بعد موته، ويستمر العمل الصالح له وهو ميتٌ، حيث ينتفع بهذه الأدوات أو بهذه الغلات أو ما أشبهها، ويدعو له أيضاً الذين ينتفعون بذلك، ويترحمون عليه، فيحصل بذلك على أجر؛ ولذلك فإن أكثر الصحابة رضي الله عنهم جعلوا أوقافاً وأحباساً، وعرفت أحباسهم في مكة وفي المدينة وفي البصرة والكوفة، وفي غيرها من المدن والقرى، واستمر الانتفاع بها أزمنةً عديدة إلا أن اضمحلت المنفعة بها أو تلاشت وقلَّت؛ فعند ذلك نقلت إلى غيرها. ولا يزال هناك أوقافٌ تعرف بأوقاف كذا وكذا، وقد تجعل في جهةٍ خاصة كأن يقال مثلاً: هذا البيت وقف على هذا المسجد، يعمر به أو نحو ذلك، أو تابعٌ له، كوقف على الإمام الذي يصلي به أو من يؤذن فيه أو ما أشبه ذلك، أو يقال: وقفٌ على الكعبة، كالذي يوقف أمواله على الكعبة، أو على المسجد الحرام، وهي أوقافٌ كثيرةٌ، أو في شيء خاصٍ، كانوا يوقفون مثلاً على الأدوات التي يحتاج إليها أهل المسجد كمياه الشرب أو مياه الطهارة والوضوء أو آبار يحفرونها أو مياه يجرونها لمن يتطهر في هذا المسجد، أو ما أشبه ذلك، وكل ذلك يلتمسون به بقاء الأجر واستمراره بعد الوفاة.

شرح عمدة الأحكام [54]

شرح عمدة الأحكام [54] شرعت الهدية لإزالة الشحناء وغرس المحبة، وهي إما هدية بثواب أو بغير ثواب، وإما أن تكون من الوالد لولده أو لأجنبي، وهي على كل حال تختلف عن الصدقة في مقصودها وبعض أحكامها. وقد وجب في الشرع المساواة بين الأولاد في العطية، وذلك إذا لم يكن هناك سبب يقتضي المحاباة، فإن قام سبب المحاباة جازت.

حكم استرداد الهبة ونحوها

حكم استرداد الهبة ونحوها يقول المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [وعن عمر رضي الله عنه قال: (حملت على فرسٍ في سبيل الله فأضاعه الذي كان عنده، فأردت أن أشتريه، فظننت أن يبيعه برخص، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا تشتره، ولا تعد في صدقتك وإن أعطاكه بدرهم، فإن العائد في هبته كالعائد في قيئه -وفي لفظ: فإن الذي يعود في صدقته كالكلب يعود في قيئه، يقيء ثم يعود فيه) ] .

النهي عن الرجوع في الهبة

النهي عن الرجوع في الهبة فهذا حديث عن عمر، ذكر فيه أنه كان عنده فرس فأراد أن يتصدق به على رجل، وقال لذلك الرجل: هذا لك تغزو عليه، وتركبه، وتنتفع به، فأعطاه إياه كصدقة وقصده من ذلك أن ينتفع به، وبالأخص في الغزو، وفي السرايا، وفي الخروج في سبيل الله وما أشبه ذلك، ولكن ذلك الرجل الذي أخذ ذلك الفرس لم يكن يعرف قدره فأضاعه وأهمله، ولم يعرف قيمته، ولم يكن من أهل هذا الصنف. فعند ذلك علم عمر أنه سيبيعه، وأنه يبيعه رخيصاً، فأراد أن يشتريه، لكونه يعلم أهلية ذلك الفرس، ويعلم كفاءته وقوته وغلاءه وصلاحيته، فلما أراد أن يشتريه وهو يباع بثمن رخيص لم يقدم على ذلك حتى سأل النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم يخافون أن يقعوا في شيء لا يجوز في الشرع، فتوقف حتى استفصل من النبي صلى الله عليه وسلم: هل يجوز لي شراؤه وأنا الذي تصدقت به؟ فسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فوجد من النبي صلى الله عليه وسلم إنكاراً شديداً لاقتنائه ولتملكه ولو بطريق الشراء، وأخبره بأنه لا يجوز ولا يحل له أن يشتريه: (ولو أعطاكه بدرهم فلا تشتره) ، فإن هذا يشبه الرجوع في الهبة؛ لأنك وهبته له، والهبة صدقة وتبرع فلا ترجع في هبتك، ولا تعد فيها، فإنك إذا رجعت فيما وهبته وأخرجته من ملكك لوجه الله تعالى، أشبهت الذي يرجع في قيئه. وضرب مثلاً سيئاً وهو الكلب، والكلب معروف أنه من شر الحيوانات وأقذرها، فهو موصوف بهذا الوصف القذر؛ وهو أنه يقيء ثم يرجع في قيئه، ومثله أيضاً السباع أو كثير منها، فهذا مثل سيئ، بحيث إنه إذا أكل وامتلأ بطنه واشتد امتلاؤه، وخاف مثلاً أن لا يستطيع العدو، أو لا يستطيع البروك، أو الدخول في جحر أو نحوه، فإنه يخرج من بطنه كثيراً مما أكل حتى يخف عنه، وهو القيء عن طريق الفم، فإذا جاع بعد ذلك رجع إلى ذلك القيء الذي كان قد أخرجه من بطنه مع تغيره ومع نتنه فأكله، هذا مثله سيء شبّه به النبي صلى الله عليه وسلم الذي يعطي عطية ثم يرجع في عطيته، أو يهدي هدية ثم يرجع فيها، أو يهب هبة ثم يرجع فيها، أو يتصدق بصدقة ثم يرجع فيها. والرجوع فيها معناه: إما أن يطلبها ويقول: رد لي هديتي، رد عليّ صدقتي أو هبتي، رد عليّ ما أعطيتك، أنا أعطيتك مثلاً هذا الثوب أو هذا الكيس فرده عليّ، فإنك لا تستحقه ولست أهلاً ولا كفؤاً له، يطلبه حتى يأخذه منه، كذلك إذا طلبه بشراء فإن ذلك شبيه بالرجوع. ولأجل ذلك منع النبي صلى الله عليه وسلم عمر أن يشتري ذلك الفرس ولو كان رخيصاً؛ وذلك لأنه إذا جاء ليشتريه، فإن صاحبه قد يستحيي منه ويتغاضى عنه ويبيعه بشيء من الرخص، فيذهب على صاحبه بعض من الثمن؛ فمثلاً: إذا كان الفرس أو البعير الذي أهديته لزيد يساوي ألفاً، فإنه إذا رآك تستامه احتشم واستحيا منك وباعه بنصف الألف أو بثلث الألف؛ احتشاماً واستحياءً وقال: هذا مالكه، وهذا هو الذي أنعم عليّ وأهداه لي وتفضل به عليّ، فما دام أنه يسومه فإني أبيعه ولا أغالي فيه!! كذلك إذا طلبته منه، وقلت مثلاً: إني قد أهديتك هذا الإناء مثلاً، أو هذا الثوب، أو هذا القدح، أو هذه الآلة ونحوها، فأريد أن تردها عليّ فإني بحاجةٍ إليها، لا شك أنه بذلك يحتشم ويستحيي، ويردها عليك على استحياء مع أنه قد يكون بحاجة إليها؛ هذا كله فيما إذا كان ذلك هبةً أو هديةً أو نحو ذلك.

لا يجوز المن بالعطية أو الصدقة

لا يجوز المن بالعطية أو الصدقة ويدخل في ذلك أيضاً المنّ بها وتذكيره إياها، فإن في ذلك شيئاً من التحقير لصاحبها وتكبير النعمة عليه، بحيث إنه يتمنى أنه ما قبل منك هذه الهدية أو هذه الصدقة؛ ولأجل ذلك نهى الله تعالى عن المن بها، وأخبر بأنه يبطل ثوابها، قال الله تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى} [البقرة:262] ، فالمنّ يدخل فيه أن يذكره، فكلما لقيك أخذ يذكرك: أتتذكر أني أهديتك ثوباً؟ أما تتذكر أني أهديتك لحماً؟ أما تتذكر أني أهديتك قدحاً أو إناءً؟ أما تتذكر أني أهديتك مالاً، أو فراشاً أو ما أشبه ذلك، فلا يزال يذكرك. وربما أيضاً يمنّ عليك فيقول: أنا الذي أركبتك وأنت منقطع أنا الذي أطعمتك وأنت جائع أنا الذي كسوتك وأنت عار أنا الذي أنقذتك وأنت هالك! فلا يزال يمنّ عليك إلى أن تتمنى أنك ما قبلت منه تلك الصدقة ونحوها، ولا شك أن هذا مما يحبط الأجر ويبطل الصدقة؛ فلأجل ذلك نهى الله تعالى عن المنّ وعن الأذى.

فضل الصدقة وإخفائها

فضل الصدقة وإخفائها الصدقة: هي التي يقصد بها المتصدق وجه الله والدار الآخرة، فيجب أن يخلصها لله، بأن يتصدق على الفقير والمسكين وذي الحاجة بقصد رضا الله تعالى وثوابه. والأولى أيضاً أن يخفيها، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) ؛ لأن إخفاءها: أولاً: فيه الإخلاص والبعد عن الرياء، وثانياً: أن فيها تخفيفاً للمنة على المتصدق عليه. إذا لم يظهرها بل أخفاها، وكان لا يريد أن يعلم أحد به، وربما لا يعلم المتصدق عليه من صاحب هذه الصدقة، كما إذا وضعها في بيته وهو لا يعلم، أو وضع النقود في جيبه أو في مخبئه وهو لا يدري؛ كان في ذلك إخلاص قوي من المتصدق. أما الهبة والهدية، فقد يراد بها الأجر الأخروي وقد يراد بها المودة في الدنيا، وحصول الأخوة والمحبة بين المهدي والمهدى له، وفي بعض الأحاديث: (تهادوا تحابوا، فإن الهدية تسل السخيمة) يعني: تذهب الضغائن التي في القلب، فإنه إذا أهدى لك إنسان هدية، حتى لو كانت شيئاً يسيراً كفاكهة ولحم وطعام، أو أهداك كسوة فاخرة لها قيمتها، فإن قلبك يوده ويميل إليه، وتحصل بينك وبينه ألفة وصداقة، والشرع جاء بتحصيل الألفة بين المسلمين، وتثبيت المحبة والمودة، وإبعاد الضغائن والشحناء عن القلوب. وقد يقصد بالهدية طلب المكافأة، فإنه إذا عرفت أنه أهدى إليك وأنت أكثر منه مالاً وأغنى منه، وهو من المتوسطين أو من الفقراء، عرفت أنه ما أهدى إليك إلا لتثيبه على الهدية، فلكل هدية ثواب، فقد يريد أكثر من قيمتها، فإذا كافأته عليها وأعطيته أكثر من ثمنها؛ كان ذلك من أسباب القبول، ودخل ذلك أيضاً في أسباب المحبة وثبوت المودة، بين المهدي والمهدى له.

جواز الرجوع في هبة الثواب ما لم يثب

جواز الرجوع في هبة الثواب ما لم يثب فهذا مما يتعلق بالهدية، فنقول: إن الهدية، وكذلك العطية والنحلة والهبة والصدقة وما أشبهها؛ كلها تمليك، والغالب أنها تمليك بدون عوض مسمى، فما دام أنها بدون عوض مسمى فإن الذي يرجع فيها؛ نفسه دنيئة ضعيفة، فلذلك شبه بالكلب يرجع في قيئه، يطلب هديته أو هبته أو صدقته حتى يعود فيها، فهو كالذي يعود في قيئه. وقد استثنى بعض الصحابة هبة الثواب، حيث قالوا: إن الهبة تنقسم إلى قسمين: - هبة تبرر. - وهبة ثواب. فهبة التبرر: هي التي يقصد بها ثبوت المودة، فهي هبة بين اثنين يقصد بها ثبوت المحبة والمودة بين المهدي والمهدى له، وزوال الإحن والبغضاء ونحوها. أما هبة الثواب فهي التي يكون قصده أن يعطى أكثر منها، فإذا أهدى الفقير للغني، فالغالب أنه يريد أن يعطيه الغني ثمنها مضاعفاً؛ لأنه يعرف أنه ليس أهلاً للصدقة، بل هو الذي يتصدق على غيره، ويعرف أن هذا الفقير ليس ممن يتصدق على هذا الغني، فهو ما أهدى له إلا لأجل أن يثيبه، فهذه هي هبة الثواب. ذكروا أن عمر رضي الله عنه أباح رجوع المهدي هبة ثوابٍ إذا لم يثب عليها، فقال: (الرجل أحق بهبته ما لم يثب عليها) ؛ فكأن هذا يعتبر بيعاً، أي: الهبة التي هي هبة ثواب بمنزلة المبايعة بين اثنين، فالذي يبيع الشيء ولا يحصل له ثمنه يطالب باسترجاعه، فإذا باعك إنسان جملاً ولكن لم تدفع له قيمته، فإنه يطالبك بقيمته أو بجمله، فكذلك إذا أهدى لك -مثلاً- جملاً أو فرساً أو شاةً أو بقرةً، أو أهدى لك سيارةً، أو أهدى لك كيساً أو ثوباً، وعرفت من قصده أنه يطلب أضعاف ثمنها أو يطلب مثل الثمن فقط، ولكنك لم تعطه؛ فإن له أن يطالب باسترجاع ما أهداه ولا يدخل ذلك في حديث العائد في قيئه؛ لأن هذا مقصده معروف. ومع ذلك فإن الأولى ألا يكون هذا القصد موجوداً، والأولى أيضاً ألا يحوجه إلا أن يذكره أو يطالبه ويقول: أهديت لك فلم تعطني، لماذا لم تعطني؟ أعطني ثواباً أو رد عليّ هديتي، فيندب أن لا تكون هذه هي المقاصد. وهذا أخف من المن والأذى الذي ذمه الله سبحانه في الآية التي أشرنا إليها، وأخبر بأنه يبطل الأجر في قوله تعالى: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة:264] ، أي: لا تبطلوا أجرها، وفي قوله: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة:263] ، والقول المعروف هو: الرد الجميل، إذا جاءك إنسان يستعطيك أو يسألك وهو محتاج، ولم يكن عندك شيءٌ تعطيه، أو لست ممن يتصدق؛ فرددته رداً جميلاً واعتذرت إليه عذراً مسموعاً، وأجملت له بالكلام وقلت له: سوف يأتيك رزق من الله فاصبر وتحمل، فإن الله هو الذي يعطي، ولا تدنس نفسك ولا تدسها وتذلها ولا تخضع للناس، ولا تتواضع لهم، بل اجعل ذلك لله سبحانه وتعالى، وعلق قلبك به، فإن الله تعالى يعزك ويرفع مقامك ويرزقك، ولا يحوجك إلى أحد من الناس إذا علقت قلبه بالله ونصحته بذلك، رجي بذلك أن يكون من الذين يترفعون عن التدني لغيرهم. وحكي أن بعضهم كانوا من الذين بهم حاجة شديدة، ولكنه عز نفسه ونظم أبياتاً يتعلق فيها قلبه بربه، فرزقه الله ووسع عليه؛ قال في أبياته: يا من له الفضل محض في بريته وهو المؤمل في الضرا وفي الباس عودتني عادة أنت الكفيل بها فلا تكلني إلى خلقٍ من الناس ولا تذل لهم من باب عزته وجهي المصون ولا تخضع لهم رأسي وابعث على يد من ترضاه من بشرٍ رزقي وصني عمن قلبه قاسي وذلك دليل على ارتفاع الهمة وعلى التعلق بالله وعدم الدناءة إلى المخلوقين، وإذا كان ذلك كذلك فإن الله تعالى يرزق العبد من حيث لا يحتسب، وهو خير له من أن يتصدق عليه إنسان ثم يمن عليه، ويذكره بصدقته أو يؤذيه بسببها، أو ينتقده فيها، أو ما أشبه ذلك.

التسوية بين الأولاد في العطية

التسوية بين الأولاد في العطية قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [التسوية بين الأولاد في الهبة. عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: (تصدق عليّ أبي ببعض ماله، فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى يشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق أبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليشهده على صدقتي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفعلت هذا بولدك كلهم؟ قال: لا، قال: اتقوا الله واعدلوا في أولادكم، قال: فرجع أبي فرد تلك الصدقة) . وفي لفظ قال: (فلا تشهدني إذاً؛ فإني لا أشهد على جور) ، وفي لفظ: (فأشهد على هذا غيري) ] .

الفرق بين العطية والهبة

الفرق بين العطية والهبة يتعلق هذا الحديث بالعطية، والعطية: هي الهبة بلا ثواب، وأكثر ما تكون عطية الرجل لأولاده أو لأقاربه يقصد بذلك نفعهم، أو يقصد بذلك مجازاتهم، أو نحو ذلك. فالعطية: لها أحكام غير أحكام الهبة، لذلك جاز للأب أن يرجع في عطيته، وأما الواهب فلا يجوز له أن يرجع في هبته، كما تقدم في قوله صلى الله عليه وسلم لـ عمر: (لا تعد في هبتك، فإن العائد في هبته، كالعائد في قيئه) . عرفنا أن الهبة صدقة وتبرع لمستحقها من مسكين أو فقير أو نحو ذلك، وأما العطية، فهي تبرع لا يبتغى به الأجر الأخروي غالباً، وإنما يبتغى بها نفع المهدى لهم أو المعطين، أو مجازاتهم أو نفع الولد، أو ما أشبه ذلك. فعلى هذا يجوز أن يعطي الأب أولاده ويجوز أن يعطي إخوته، ويجوز أن يرجع في عطيته إذا لم تستلم ولم يكن هناك لها سبب، إلا الإتيان بأسباب المودة وما أشبهها.

لا يجوز المفاضلة في العطية بين الأولاد

لا يجوز المفاضلة في العطية بين الأولاد نعود إلى القصة: هذه القصة فيها أن النعمان بن بشير بن سعد الأنصاري ذكر أن أباه بشير بن سعد أعطاه عطية، وفي بعض الروايات: أنه نحله عبداً يعني: مملوكاً، وفي بعض الروايات أطلق وقال: نحلني نحلةً، أو: أعطاني عطية. ولم يسمها. وكانت أمه عمرة بنت رواحة، وهي أخت عبد الله بن رواحة؛ كانت تحب ولدها النعمان، فأحبت أن يثبت هذا العطاء، وأن لا يكون فيه إنكار، فقالت: لا أرضى حتى تشهد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: حتى يثبت إذا شهد به ويقره، ولا يمكن أن ينكر بعد ذلك. ففعل ذلك بشير بن سعد فذهب بولده، ولما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبره بأنه نحل ابنه عطية، وأن أم الابن أرادت أن تشهد على هذه العطية، فلسان حاله يقول: أتيتك لأشهدك على نحلة ابني وعلى عطيته، ولما كان في هذا شيء من الجور وعدم التسوية، استفصل النبي صلى الله عليه وسلم وسأل بشيراً: هل لك أولاد غير النعمان؟ فأخبره بأن له أولاداً ذكوراً وإناثاً، فسأله: هل نحلتهم مثلما نحلت هذا؟ أو خصصت هذا بالعطية وحده؟ فأخبر بأنه لم ينحلهم وإنما نحل هذا، وأن هذه العطية خاصة بـ النعمان! وعند ذلك أنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) ، أي: ليحملكم خوف الله وتحملكم التقوى على أن تعدلوا وتسووا بين أولادكم، ولا تجوروا فتميلوا مع واحدٍ ميلاً يفهم منه تفضيلكم له على غيره، بل عليكم أن تسووا بينهم ولا تفضلوا واحداً على واحد. كذلك في بعض الروايات أنه قال: (أشهد على هذا غيري) ، أي: إن هذا جور وظلم، فلا أشهد على الظلم ولا أشهد على الجور، فاذهب إلى غيري، وأشهد عليه غيري، فإني لا أشهد عليه، وليس معناه إقرار الشهادة من الغير، بل معناه التحذير منه، فلأجل ذلك التزم بشير ورد تلك العطية لما نهاه النبي صلى الله عليه وسلم، وفي بعض الروايات أنه علل فقال: (أتحب أن يكونوا لك في البر سواء؟ فقال: نعم، فقال: فلا إذاً) أي: ما دمت تحب أن يبروك كلهم ويطيعوك، فلماذا لا تجعلهم كلهم سواء في برك وفي طاعتك، فسو بينهم في عطيتك، حتى يستوي كلهم في طاعتك وفي برك، هكذا علل صلى الله عليه وسلم!

الأحكام المستفادة من الحديث

الأحكام المستفادة من الحديث ومن هذا الحديث أخذ العلماء استحباب الإشهاد على العطايا والهدايا ونحوها، وذلك لتثبت؛ ما دام أنه ذهب ليشهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذوا منه إشهاد ذوي الفضل وذوي العلم وذوي المنزلة الرفيعة، حيث لم ترض عمرة بنت رواحة إلا بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم. ويؤخذ منه أن العطية تثبت بالإقرار وبالإشهاد، وأخذوا منه أن عطية الوالد لولده تملك بالقبض إذا تمت شروطها، أو تملك بعد الهبة إذا تمكن من قبضها واستلامها. وأخذوا منه: وجوب التسوية بين الأولاد لقوله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) ، ولقد كان السلف والعلماء رحمهم الله يعملون بهذا بقدر ما يستطيعون من العدل بين أولادهم، حتى كانوا يسوون بينهم في القبل، إذا قبّل هذا رحمةً به قبل البقية ذكوراً وإناثاً من باب العدل ومن باب التسوية، فضلاً عن التسوية في الأمور الظاهرة، فإذا اشترى لهذا ثوباً اشترى للثاني وللثالث مثله، وكذلك إذا اشترى لهذا طعاماً أو فاكهة أو أطعمه سوى به الآخرين وأعطاهم مثلما أعطاه. كل ذلك حرصاً على العدل الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، وحرصاً -أيضاً- على البر، وذلك لأنه علل بقوله: (أتحب أن يكونوا لك في البر سواء؟ قال: نعم) ، فإذاً لا شك أنه يحب أن يبره هذا ويبره الثاني ويبره الثالث، ويكونوا كلهم بارين بأبيهم، ولا يرضى أن يكون هذا براً وهذا عاقاً، وهذا مطيعاً وهذا عاصياً، بل يحب أن يكونوا كلهم بررة له، هذا هو الذي يرضى به، فهذا معنى قوله: (أتحب أن يكونوا لك في البر سواء) . ذكر العلماء أنه لا يجوز لأحد الرجوع في عطيته إلا الأب وقالوا: لا يحل لأحد أن يرجع في هبته إلا الأب فيما وهب لأولاده أو لولده، أخذاً من هذا الحديث.

أسباب جواز المفاضلة بين الأولاد في العطية

أسباب جواز المفاضلة بين الأولاد في العطية

اختلاف الحاجات بين الصغار والكبار والذكور والإناث

اختلاف الحاجات بين الصغار والكبار والذكور والإناث ثم هذا الحديث محمول على ما إذا لم يكن هناك أسباب لعطية بعض الأولاد وقت حاجتهم، فأما إذا كان هناك أسباب فإنها جائزة، ومعلوم مثلاً أن الوالد ينفق على أولاده بقدر حاجتهم، ويشتري لهم بقدر حاجتهم ولو تفاوتت الحاجات. ومعلوم وجود التفاوت بين الحاجات تفاوتاً مشهوراً ظاهراً، فإذا كان له عدد من الأولاد ذكوراً وإناثا، فحاجات الذكور غير حاجات الإناث، فحاجة الذكر مثلاً أنه يمكنه من الدراسة، ويعطيه ما يحتاج إليه في الدراسة، فإذا احتاج مثلاً إلى سيارةٍ يتنقل عليها ويذهب عليها إلى مدرسته أو جامعته، أعطاه سيارة، وكذلك إذا احتاج إلى زواج زوجه ولو كان إخوته أطفالاً؛ لأن هذا من الحاجات الضرورية، فإذا احتاج مثلاً إلى سكن أسكنه في مكان أو بيت يناسبه إذا كان قادراً؛ لأن هذا من حقه عليه، والوالد عادة إنما يجمع أمواله لأولاده؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنك أن تذر ورثتك أغنياء، خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) . فالولد مثلاً إذا احتاج إلى النفقة وكان فقيراً، فإن الوالد ينفق عليه ولو كان الولد قادراً على الاكتساب، فإذا عجز عن الاكتساب بأن لم يجد عملاً، أو مثلاً كان منشغلاً بدراسةٍ ونحوها، وكان الأب واجداً وذا مال ألزم بأن ينفق عليه، فإذا كان أحد أولاده مستغنياً في وظيفةٍ وعمل، والآخرون غير مستغنين أنفق على المحتاجين دون غيرهم، ولا يكون هذا جوراً. وإذا كان هذا مضطراً إلى سيارة يتنقل عليها أعطاه ولم يعط الآخرين لصغرهم مثلاً أو لعدم حاجتهم، وإذا كان هذا مضطراً إلى الزواج زوجه، ولو لم يزوج الآخرين إما لعدم طلبهم، أو لصغرهم، وذلك لأن هذا من تمام حق الولد على أبيه وله في مال أبيه حق. كذلك معلوم أن الذكر والأنثى يتفاوتان في الحاجة، فمثلاً هو ملزم بكسوة الذكور والإناث، ومعلوم مثلاً أنهم يتفاوتون، فقد تكون كسوة الأنثى بمائتين وكسوة الذكر مثلاً بخمسين أو نحوها، فهذا وجه التفاوت، والأنثى مثلاً بحاجة إلى الحلي وإلى الجمال، فله أن يعطيها كغيرها ما تتجمل به من الحلي ولو كان رفيع الثمن، وليس الذكر بحاجةٍ إلى ذلك. وهكذا مثلاً إذا مرض أحد أولاده فإنه يعالجه ولو صرف عليه أموالاً طائلة، ولا يقال: أعط أولادك الآخرين مثلما أنفقت عليه؛ لأنه ما أنفق عليه إلا لحاجته أو لضرورته، فهذا من الأسباب التي تستثنى من ذلك.

تشجيع من يستحق التشجيع

تشجيع من يستحق التشجيع كذلك أيضاً معلوم أنه قد يحتاج إلى تشجيع بعض أولاده على أمرٍ يستحق عليه التشجيع، فإذا كان أحد أولاده عاكفاً على العلم وعلى الفهم، وعلى التفقه في الدين، والآخرون قد أعرضوا عن ذلك، وعكفوا على اللهو واللعب، وعكفوا على الباطل، وأضاعوا حياتهم وأعمالهم؛ فلا شك أن هذا الذي عكف على العلم الصحيح يستحق أن يشجع وأن يرفع من معنويته، وأن يعطى ما يشجعه وما يكون سبباً لالتفات الآخرين إلى مثله، فإذا قالوا: لماذا لم تعطنا؟ يقول: لا أعينكم على لهوكم ولعبكم، لا أعينكم على الباطل، أما هذا فقد قطع حياته في التعلم والتفقه، فهو أهل أن يشجع على ذلك. وهكذا إذا كان بعضهم عاصياً لأبويه عاصياً لربه، خارجاً عن الطاعة، متمادياً في المعاصي عاكفاً على اللهو واللعب، عاكفاً على شرب المسكرات ونحوها، والآخر متطوعاً لله بأنواع الطاعات، عاكفاً على الطاعة والعبادة ملازماً لعبادة الله، هادياً ومهتدياً صالحاً ومصلحاً؛ لا شك أن هذا الصالح يستحق أن يشجع وأن يفضل على ذلك العاصي الذي خرج عن طاعة أبويه وخرج عن طاعة الله سبحانه، فكان مستحقاً أن يبعد وأن يحرم؛ لأنه إذا أعطاه والحال هذه، فقد أعانه على المعصية، فيعين عاصياً على عصيان.

افتقار بعض الأولاد ونحو ذلك

افتقار بعض الأولاد ونحو ذلك ويقال كذلك فيما إذا كان هناك سبب آخر، فإذا قدر أن أحد الأولاد افتقر لكثرة عياله، وركبته الديون، والآخرون مستغنون إما لقلة العيال وإما لكثرة الكسب ولكثرة الدخل، وليس عليهم ديون ولا غيرها، فلا شك أن الأب له أن يخفف عن هذا الولد الذي تحمل هذا الدين، فله أن يساعده، ولا يقال: أعط البقية كما أعطيت هذا؛ لأنه ما أعطاه إلا لسبب وهو كثرة عياله، أعطاه لفقره وفاقته، فهو في حاجة للنفقة. فمعنى (يساوي بينهم في النفقة) : أن يعطي هذا قدر ما يكفيه هو وعياله، وهذا قدر ما يكفيه وزوجته، وهذا قدر ما يكفيه وحده إذا كان أعزب، وهكذا.

انقطاع بعض الأولاد لعمل أبيه

انقطاع بعض الأولاد لعمل أبيه وهناك سبب آخر: وهو إذا أعطاه مجازاة له أو استحقاقاً له؛ وذلك أنه في هذه الأزمنة يجلس بعض من الأولاد عند أبيه في خدمته، وفي العمل بما يأمره به أبوه، فيكون قد قصر نفسه على حاجة أبيه، فتارة يشتغل مع أبيه في تجارته إذا كان أبوه تاجراً، أو في معمله، والبقية يكتسبون لأنفسهم، قد انفردوا وقد استقلوا وصاروا يكتسبون لوحدهم. أو هذا قد اشتغل بحرفة أبيه إذا كان أبوه ذا حرفة، فإذا كان أبوه يعمل خياطاً أو خرازاً أو غسالاً أو بناءً، أو كذلك إذا كان له بستان للزراعة أو غراس أو نحو ذلك، فهو يعمل في تنمية مال أبيه، أو يرعى ماشيته إذا كان له إبلٌ أو بقرٌ أو غنمٌ أو نحوها، أو يكون قد قصر نفسه على تجارة أبيه، ينقل له مثلاً إذا كان له ناقلات في سيارةٍ ونحوها، أو يبيع له الناتج من ثمره. فالحاصل أنه قد قضى مع أبيه عشر سنين أو عشرين سنةً، وهو لم يتفرغ لشغل نفسه ولم يعد لنفسه مالاً، بينما إخوته الآخرون كل مستقل بماله وبعياله وبوظيفته وبحرفته، فلا يكون هذا شريكاً، أما المنقطع في عمل أبيه فلا شك أنه يستحق أن يشركه أبوه فيجعل له نصيباً من هذا المال الذي يكون هو السبب فيه، وقد يكون له مرتب فيدخله مع مال أبيه. فنقول: لا بد أن يجعل له شركةً فلا يقول: إن له أخوات وأخواته لم يعلمن مثل عمله، أو له إخوةٌ أطفال، الأطفال هؤلاء لم يعلموا مثل عمله، وله إخوةٌ مستقلون، فالإخوة الآخرون مستقلون لم يعملوا مثل عمله. فعلى هذا يجوز أن يفضله وأن يعطيه ما يكون مقابلاً لتعبه، فيجعله كشريك أو كأجير أو كعامل عمل عنده، فيعطيه قدر ما يستحقه، ولا يكون ذلك من الظلم إن شاء الله.

شرح عمدة الأحكام [55]

شرح عمدة الأحكام [55] قد يملك المرء أرضاً زراعية واسعة، لكنه لا يتمكن من زراعتها واستغلالها، وقد يوجد شخص يحب أن يزرع ويستغل الأرض، لكنه لا يملكها، فلأجل مصلحة الطرفين شرعت المساقاة والمزارعة والمغارسة، كما شرع كراء الأرض بجزء مما يخرج منها أو على أجرة مقدرة، وكل هذه الأمور لها أحكام وضوابط استخرجها العلماء من الأحاديث، فينبغي للمسلم تعلم هذه الأحكام فلعله يصبح في حاجة إليها.

أحكام المساقاة

أحكام المساقاة يقول المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع) ] .

فتح خيبر ومساقاة أهلها

فتح خيبر ومساقاة أهلها يستدلون بهذا الحديث على المزارعة والمغارسة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما افتتح خيبر في سنة سبع من الهجرة، دخلها بالقوة وفتحها عنوة، وملكها بهذا الفتح، إلا حصناً أو حصنين فإنه دخلهما بالصلح، أما بقية أماكن خيبر فإنه فتحها بالقوة. ومعلوم أنه إذا فتحها بالقوة أصبحت للمسلمين، أرضها وأشجارها ومنازلها وبقاعها، لأن المسلمين تغلبوا عليها، وبتغلبهم عليها ملكوها، فلما ملكوها كان فيها قطع زراعية وأراض واسعة، فتلك القطع قسمها بين الغزاة الذين فتحوها معه، فأعطاهم سهاماً بقدرها، وذلك لسعة الأرض، فجعل هذه البقعة لواحد، وهذه لاثنين ونحو ذلك، وبقيت المزارع والأشجار والنخيل فكانت تحتاج إلى من يحرثها، ومن يزرعها، ومن ينتجها ويعمل فيها حتى تنتج، وكان الصحابة رضوان الله عنهم منشغلين عنها بالجهاد وغيره من الأعمال والتجارات، ولم يكونوا ليتفرغوا للعمل في هذا النخيل ونحوه. وعند ذلك اتفق مع أهلها الذين هم اليهود على أن يبقوا فيها، فقالوا: دعنا لنعمل فيها ولكم نصف الثمر ولنا نصفها، فتركهم فيها عمالاً، أي: عاملين بأجرة، وبقوا على ذلك إلى خلافة عمر رضي الله عنه. وفي أثناء خلافة عمر حدث منهم ضرر على بعض أولاده، ذلك أنه أتي أحد أولاده وهو مسافر، أتاه قومٌ في الليل، فضربوه حتى فتوا في عضده أو أعابوه وهربوا، ولم يدر من هم؟ فعرف عمر أنه ليس لنا عدوٌ إلا هؤلاء اليهود، فعند ذلك أجلاهم، وطردهم إلى أذرعات الشام وقال: لا حق لكم! فقالوا: أتطردنا من مكانٍ أقرنا فيه محمد وصاحبك، الذي هو أبو بكر، فاستدل عمر رضي الله عنه بقول النبي صلى الله عليه وسلم لهم: (نقركم فيها ما شئنا) ، وبأنه لم يقرهم إلا لحاجة، وذلك لما كان بالمسلمين قلة عن القيام بهذا الحرث ونحو ذلك، فلما كان في زمن عمر رضي الله عنه كان في المسلمين كثرة، وكان عندهم قوة وقدرة أن يعملوا في هذه المزارع وفي هذه الأشجار، وأصبحت ملكاً للمسلمين، فعند ذلك طردهم.

تقويم ابن رواحة لثمر خيبر خرصا

تقويم ابن رواحة لثمر خيبر خرصاً في العهد النبوي، وكذلك في عهد أبي بكر كانوا يحرثون فيها ويزرعون، فإذا زرعوا البقعة فلهم نصف الزرع، وإذا عملوا على النخيل فلهم نصف الثمر وللمسلمين نصفه، وكان يرسل إليهم من يخرص ذلك النخل، فأرسل إليهم عبد الله بن رواحة، فخرصها وقدرها بثمن من الأثمان؛ قدرها مثلاً بعشرة آلاف، قال: هذا النخل يقدر بعشرة آلاف صاع، أو نحو ذلك، فقالوا: إنك قد ظلمتنا يعني: أكثرت علينا. فقال لهم: إذا كنت أكثرت عليكم فادفعوا فنأخذها نحن وندفع لكم النصف، أي: إذا قدرناها بعشرة آلاف نعطيكم خمسة آلاف ولنا الباقي حتى ولو كان ألفاً أو ألفين، أو خذوها وأعطونا النصف الذي هو خمسة آلاف، وقال ما معناه: (إنكم لأبغض الناس إليّ، ولكن بغضي لا يحملني على أن أظلمكم، وإن محمداً صلى الله عليه وسلم أحب الناس إليّ، ولا تحملني محبته على أن أجور ولا أن آخذ له ما لا يستحقه) ، أو كما قال، فعرفوا أن هذا هو العدل، وأنه بهذا قامت السماوات والأرض. فعند ذلك استسلموا لذلك؛ فكانوا إذا خرصت عليهم مثلاً بخمسة آلاف دفعوا ألفين ونصفاً ولهم الباقي، وقد يكون الباقي أكثر من ألفين ونصف، ولكن يسمح لهم المسلمون بالزائد؛ وذلك لأنهم في العادة يحتاجون إلى أن يأكلوا منها رطباً قبل أن تجذ، فإذا حدد الذي عليهم عرفوه ودفعوه كاملا. هكذا كانت الحال في خيبر، ولا شك أن هذا دليل على جواز المزارعة، وعلى جواز المغارسة، وعلى جواز المساقاة التي هي مما تدعو إليها الحاجة.

معنى المزارعة وحكمها

معنى المزارعة وحكمها أما المزارعة فصورتها: أن يكون لك أرض لا تقدر على الزرع فيها، وهناك رجلٌ لا يملك أرضاً ولكنه متفرغ يحسن أن يزرعها، فتتفقان على أن منك الأرض ومنه الزرع، وأن لك نسبة من هذا الزرع؛ إما الثلث أو الربع أو النصف، بقدر ما تتفقان عليه، فلا بأس بذلك. ويجوز أن تدفع شيئاً ويدفع هو شيئاً، فمثلاً: إذا دفعت أنت البذر وزدت في نصيبك جاز ذلك، ولا يجوز أن تقول: أدفع البذر مثلاً مائة صاع وإذا حصد الزرع أخذت المائة مقدماً والباقي بيننا نصفين، لماذا لا يجوز؟ مخافة أن يقل الزرع وأن يقل البر الذي يحصد منه بسبب مصيبة أو برد أو جراد أو نحو ذلك، فلا يغل إلا قدر البذر ونحوها، فيذهب سعيه وتعبه خسارة، فلذلك قالوا: لابد أن يكون للعامل نسبة كنصف أو ثلث أو نحو ذلك. وهذا يسمى المزارعة، وتصح المزارعة بأجرة معينة محددة وتكون كأنك أجرت أرضك بدراهم معينه، وقلت: ازرع هذه السنة وأعطني أجرتها ألف ريال أو ألفين، فيجوز ذلك إن شاء الله. فالحاصل أن المزارعة تصح حسب ما يتفق عليه الطرفان، ولابد أن يكون بينهما شروط، والمسلمون على شروطهم، فإذا شرط العامل مثلاً أن النفقة على رب الأرض، يعني: الماكنة مثلاً، أو الرشاش الجديد، أو عليه البترول والوقود الذي توقد به الماكينة، والزيوت التي تحتاجها، فله شرطه؛ فإن شرطها صاحب الأرض على العامل فله شرطه، ويقوم العامل بقسط من المال الذي تحتاجه هذه المزرعة، أو بالمال الذي تحتاجه. وبكل حال فالمزارعة من المرافق التي جاء الإسلام بالحث عليها أو إباحتها، وذلك لأن هذه الأرض لو بقيت معطلة فلن يحصل الانتفاع بها، وليس كل من ملك أرضاً يقدر على استغلالها، فلأجل ذلك جاز أن يتفق الطرفان على استغلالها. وليس كل إنسان له القدرة على العمل وعلى الحرث يجد أرضاً، فإذا تساعدا فكان من هذا الأرض والوقود والنفقة، ومن هذا العمل، وكان الناتج بينهما على حسب ما يتفقان عليه، انتفع كل واحد منهما وحصل له مصلحة. هذا بالنسبة إلى المزارعة؛ وذلك لأن خيبر كانت فيها أرض تزرع فكانوا يزرعونها بالنصف، ولم يذكر أن المسلمين يدفعون البذر، ولم يكونوا يدفعون شيئاً من النفقة في إخراج الماء، وذلك لأن أرض خيبر في ذلك الزمان كان فيها عيون تنبع من الأرض، ثم يفجرونها ويسقون بها الزرع ويسقون بها النخيل، أما في هذه الأزمنة فقد غارت تلك العيون، وإن كان بقي منها قليل إذا حفر نبع، ولكنها نزلت كثيراً، وإذا كثرت السيول زادت ونفعت، فمع ذلك كان المسلمون لهم النصف من الزرع؛ لأن النفقة يسيرة، وإنما كانوا يفجرون هذا النهر ثم يسقون به هذا الزرع. كان منهم البذر والحرث والحصاد والتصفية، ومن المسلمين الماء، لأن هذا النبع ملك للمسلمين، والأرض ملك للمسلمين، ومع ذلك صار لهؤلاء النصف لعملهم ولبذرهم، ولهؤلاء النصف لملكيتهم الأرض والماء. أما النخل فبلا شك أنه كان فيها نخل كثير، وكان لها ثمر كثير، بل يضرب المثل بخيبر حتى قال بعض الصحابة: (ما شبعنا من التمر حتى فتحت خيبر) ، أي: حتى فتحوها وصار لهم النصف، فكان يأتيهم من التمور الشيء الذي يأكلون منه ويشبعون ويبيعون ويتصدقون، ويبقى النصف لأهل خيبر الذين هم اليهود. فالنخيل فيها منافع كثيرة ومتنوعة بأنواع كثيرة، وكلما سقطت نخلة غرس بدلها أخرى في مكانها أو قريباً منها، فهذا بالنسبة للنخل. كذلك النخل يحتاج إلى سقي وإن كان الماء نابعاً، ويحتاج إلى زبر وهو قطع الشوك، ويحتاج إلى تلقيح كما هو معروف، وإلى تركيب بأن يركب القنو على سعف النخل وجريده، حتى لا يسقط، ويحتاج أيضاً إٍلى تصفية فهو يحتاج إلى عمل، فلليهود النصف مقابل عملهم، وللمسلمين النصف مقابل مالهم وملكيتهم. فأخذوا من ذلك أنه يجوز أن يؤجر صاحب النخل نخله لمن يحرثه، ولمن يسقيه، وله قسط من ثمرته، حسب ما يتفقان عليه، فإن دفع المالك نفقة السقي والماكنة -مثلاً- وإصلاحها ونحو ذلك، ولم يبق على العامل إلا العمل، فله ما يعادل عمله أو يقاربه، وإن لم يدفع له شيئاً وقال: أسقها وعليك مئونة السقي، جاز ذلك أيضاً. فالحاصل أن هذا جائز، وإذا كان فيها شجر غير النخل كالعنب مثلاً والتين والزيتون والخضار، والفواكه الأخرى كالليمون والبرتقال وما أشبهه؛ فإن ثمارها أيضاً تقسم بينهما حسب ما يتفقان عليه؛ وذلك لأن ذلك كله مما يحتاج إلى سقي، ويحتاج إلى إصلاح ويحتاج إلى عمل، فالعامل يريد قسطاً من ثمره، وإنما ينتفع بالثمر غالباً ولا ينتفع بالأعواد ولا بالأوراق، هذا بالنسبة إلى المساقاة.

معنى المغارسة وحكمها

معنى المغارسة وحكمها أما المغارسة، فصورتها: أن يملك أرضاً ولا يقدر على زرع الغرس فيها، فيتفق مع آخر على أن يغرس فيها وله بعض من الغراس، فيقول: هذه أرضٌ تصلح لأن يغرس فيها وأنا لا أقدر على ذلك، وأنت تقدر فلك -مثلاً- نصفها على أن تغرس فيها من النخل كذا وكذا، ومن العنب كذا، ومن الزيتون كذا، ومن الرمان كذا، وما أشبه ذلك. فإذا أثمرت وأينعت وحصل أنها انتهت وما بقي إلا الاستغلال فأعطني نصفها ولك نصفها، أو ثلثها ولك ثلثاها، أو ما أشبه ذلك، بحسب ما يتفقان عليه، فيكون من هذا الأرض، ومن هذا الشجر والغرس والسقي ونحو ذلك، إلى أن تثمر، ثم بعد ذلك يقتسمانها. ولا شك أن هذه الأشياء مما يحتاج إليها، ومما يحصل فيها مصالح عامة، أعني أن المزارعة وكذلك المساقاة وكذلك المغارسة، يحصل فيها مصالح للمسلمين، فتستغل هذه الأرض -بدل ما كنت بوراً قاحلةً لا ينتفع فيها- بغراسٍ مثلاً أو سقيٍ أو نحو ذلك، وتسقى هذه النخيل، لأنها لو أهملت لماتت، فيسقيها عامل بجزء من ثمرها، وكذلك تزرع هذه الأرض ويأخذ من زرعها وغلتها ما يمكن أن ينتفع به، فيكون بذلك مصلحةٌ أولى من إهمالها وإماتتها، وذهاب منفعتها على مالكها. وذلك يدل على أن الشرع جاء بكل المصالح التي فيها نفع للعباد، ويقاس على ذلك من المصالح أنواع كثيرة، مثل المضاربة، التي هي الاتجار بالمال، وصورة ذلك: أن يكون عندك مال ولكنك لا تحسن الاتجار به، ويكون هناك رجل ليس عنده مال، ولكنه قادر على أن يتجر، ويعرف كيفية استغلال الأموال وكيف يربح في البضائع، فتعطيه المال وهو الذي يعمل فيه وينميه، فمنه العمل ومنك المال، فتتفقان على جزء من الربح، فإذا ربح مقداراً من الربح أعطاك نصيبك من الربح وأخذ نصيبه، فهو شبيهٌ بالمزارعة التي هي استغلال أرضك بجزء من غلتها، وشبيه بسقي شجرك بجزء من ثمره، وكل ذلك مما فيه المصلحة للعباد وبقاء هذه الأموال ينتفع بها حتى لا تتعطل وتذهب منفعتها.

أحكام كراء الأرض

أحكام كراء الأرض قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن رافع بن خديج قال: (كنا أكثر الأنصار حقلاً، وكنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه، فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه، فنهانا عن ذلك، فأما الورق فلم ينهنا) . ولـ مسلم عن حنظله بن قيس قال: (سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والورق؟ فقال: لا بأس به، إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما على الماذيانات وأقبال الجداول وأشياء من الزرع، فيهلك هذا ويسلم هذا، ويسلم هذا ويهلك هذا، ولم يكن للناس كراء إلا هذا، ولذلك زجر عنه، فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به) . الماذيانات: الأنهار الكبار، والجدول: النهر الصغير] .

النهي عن كراء الأرض ببعض ما يخرج منها في بقعة معينة

النهي عن كراء الأرض ببعض ما يخرج منها في بقعة معينة هذا الحديث يتعلق بكراء الأرض، ذكر فيه أنهم كانوا في الجاهلية وفي أول الإسلام يكرون الأرض بزرع بقعة معينة، فيقول صاحب الأرض: ازرع أرضي هذه، ولي زرع هذه البقعة ولك زرع هذه، فإذا نبتت ربما كانت هذه لا تنبت، أو لا يكون فيها إلا قليل، وهذه فيها كثير، فيحصل بذلك ضرر على بعضهم وغبن له، والإسلام ينهى عن كل شيء فيه مضرة على أحد الطرفين؛ فلأجل ذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا. الأحاديث أو الروايات الكثيرة التي في النهي عن المحاقلة محمولة على المحاقلة الجاهلية التي هي كراء الأرض بزرع بقعة معينة. وكانوا يؤجرون الأرض بما على الماذيانات وأقبال الجداول، وفسر الماذيانات بأنها الأنهار الكبيرة، والجداول بأنها الأنهار الصغيرة، والأقبال بأنها حافات الجدول. والجدول: هو الساقية التي يجري فيها الماء، فإذا كانت صغيرة سميت جدولاً، وفي هذه الأزمنة قد اكتفى بإجراء الماء في المواسير، وكانوا قديماً يحفرون حفراً كذراعٍ أو نحوه وعرضه كشبر يجري معه الماء من البئر أو إلى منتهى الزرع، ثم يفرق من هنا ومن هنا، فهذا المجرى يسمى جدولاً، وإذا كان المجرى كبيراً يسمى ماذياناً، يعني: نهراً كبيراً يجري معه الماء. ولا شك أن حافات الجداول تشرب دائماً، فيكون الزرع الذي ينبت عليها له أفضلية، ويكون أكثر سنبلاً وأكثر نباتاً، فإذا أخذ ذلك هذا المالك غبن الزارع، فيقول: أنا الذي زرعته وسقيته وبذرته ثم أخذه مني وما بقي لي إلا الأطراف التي يكون نباتها قليلاً، ويكون سنبلها صغيراً أو ما أشبه ذلك. فهذا لا شك أنه غرر، وعليه يحمل النهي الذي جاء في هذه الأحاديث.

جواز كراء الأرض بقدر معين مما يخرج منها أو بالنقود

جواز كراء الأرض بقدر معين مما يخرج منها أو بالنقود أما إذا كان الأجرة بشيءٍ معين أو بنقود فلا مانع من ذلك، وذلك مثل أن يقول: أجرتك أرضي لتزرعها ولي ربع الزرع، أو عشر الزرع، أو نصف العشر، أو ما أشبه ذلك، يتفقان على شيء للمالك مقابل كراء أرضه، والبقية للعامل. كذلك أيضاً: إذا كانت الأجرة بنقود، كأن يقول: أجرتك الأرض تزرعها أو تغرس فيها سنة أو سنين كل سنةٍ مثلاً بمائة ريال أو ألفٍ أو ألوف؛ لأنه كراء عقار بمنزلة كراء الدكاكين وكراء العمارات وما أشبه ذلك، ولا مانع من الكراء، وعلى المكتري أن ينتفع بها فيما اتفق عليه من الانتفاع. أما الأحاديث التي وردت في النهي عن كراء الأرض فقد اختلف فيها واختلفت ألفاظها، فالمؤلف هنا اقتصر على الأحاديث التي فيها الإذن، وإلا فنفس الأحاديث من رواية رافع قد ورد أنه نهى عن كراء الأرض مطلقاً، وقال: (من كان له أرضٌ فليزرعها، أو ليمسكها، أو ليمنحها أخاه) ، وظاهر هذا أنه منعهم من أن يكروها بأجرةٍ أو بقسطٍ من الناتج أو نحو ذلك، وأمرهم بأن يمسكوها أو يمنحوها إخوتهم، ولكن لعل هذا كان في أول الأمر، ثم رخص لهم بعد ذلك أن يؤجروها بقسطٍ مما يخرج منها أو بالدراهم والدنانير. أو لعل النهي كان عن العمل الجاهلي، أي: كأنه قال: إذا كانت لك أرض وأنت تؤجرها بالأجرة الجاهلية، أي: بما على أقبال الجداول أو بما على الماذيانات وما أشبه ذلك، فلا تؤجرها بهذا، بل إما أن تمسكها، وإما أن تمنحها أخاك، وإما أن تبيعها. فهذا يحمل عليه الأحاديث التي فيها النهي الشديد عن تأجير الأرض، ولا شك أن الذي ملك الأرض وأحياها -ملكها بالإحياء أو بالشراء أو نحو ذلك- لأنه قد صار أحق بغلتها، وأحق بغرسها أو بزرعها، فما دام أنها في ملكه فهي كسائر الأملاك له أن ينتفع بها، وله أن يؤجرها، وله أن يمنحها، وله أن يعيرها، وينتفع بها ببقية أنواع الانتفاع كما ذكر في هذا الحديث وكما ذكر في أحاديث غيره.

شرح عمدة الأحكام [56]

شرح عمدة الأحكام [56] يكثر النزاع بين الناس على الأراضي غروراً بالدنيا وطمعاً في زخارفها، وقد جاء الشرع بتحديد الحدود التي يجب على المسلم التزامها تجاه إخوانه وجيرانه، وتوعد من ظلم قيد شبر من الأرض بالوعيد الشديد، بل أمر المسلم أن لا يمنع جاره من الانتفاع بجداره إذا احتاج إليه لوضع خشبة مالم يضره، وعلّمه إذا أعمر أحداً داراً أو عقاراً أن يحتاط فلا يفسد ماله.

أحكام العمرى والرقبى

أحكام العمرى والرقبى يقول المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرى لمن وهبت له) . وفي لفظ: (من أعمر عمرى له ولعقبه، فإنها للذي أعطيها، لا ترجع للذي أعطاها؛ لأنه أعطى عطاءً وقعت فيها المواريث، وقال جابر: إنما العمرى التي أجازها الرسول صلى الله عليه وسلم، أن يقول: هي لك ولعقبك، أما إذا قيل: هي لك ما عشت، فإنها ترجع إلى صاحبها) . وفي لفظٍ لـ مسلم، (أمسكوا عليكم أموالكم، ولا تفسدوها، فإنه من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها، حياً وميتاً، ولعقبه) ] .

معنى العمرى والرقبى

معنى العمرى والرقبى يتعلق هذا الحديث برواياته بباب العطية، أو الهبة، وتسمى العمرى، وتسمى أيضاً الرقبى، وهي نوعٌ من العطية، وظاهر هذه الروايات الاختلاف، ونذكر قبل ذلك صورتها ثم نذكر الراجح فيها. ونمثل بالسكنى في الدار: إذا كان عنده منزل زائد عن حاجته أعطاه قريباً له أو صديقاً، وقال: قد أعمرتك هذه الدار، أي: جعلتها لك حياتك ومدة عمرك، أو يقول: قد أرقبتك هذه الدار لتسكن فيها، أو مثلاً أرضاً أرقبتها لتزرعها أو نحو ذلك، تسمى عمرى ورقبى، وسميت عمرى لأنها له مدى عمره، وسميت رقبى لأن صاحبها يرتقب موته حتى تعود إليه تلك الأرض التي وهبها هبةً مؤقتة، هذا مثالها في العقار. وتكون أيضاً في المنقول: فقد يعطيه مثلاً سيفاً ويقول: هو لك ما عشت، أو هو لك عمرك تقاتل به مثلاً، أو يعطيه إناءً يطبخ فيه، ويقول: هو لك حياتك، هو لك عمرك، أو يعطيه مثلاً دابةً يركبها ويقول: هي لك حياتك، يعني ما دمت حياً، كفرس يقاتل عليها، أو خلفةً يحلبها أو يركبها أو ما أشبه ذلك، فيعطيه إياها عطية مؤقتة، وتكون بمنزلة العارية التي لها حدٌ وهو منتهى حياته، فهذه تسمى العمرى وتسمى الرقبى، هذا اسمها قبل الإسلام. فلما جاء الإسلام وكانت العمرى والرقبى مشهورة في تلك المجتمعات التي صارت مجتمعات إسلامية، تغيّر الحكم، فاختلفت الأحاديث: هل تكون هبةً يملكها المهدى له، أم ترجع إلى المهدي والمعطي بعد موت المهدى له؟ في ذلك خلاف.

اختلاف الأحاديث في الرجوع في العمرى والرقبى

اختلاف الأحاديث في الرجوع في العمرى والرقبى فكثيرٌ من الروايات التي سمعنا تفيد أنها لا ترجع بل تجري فيها المواريث، أي: هذه الدار التي قلت لصاحبك: هي لك ما عشت، أو هي لك حياتك، أو هي لك عمرك، في الرواية الأولى وفي كثير من الروايات: أنها تدخل ملكه، وتقع فيها المواريث وتقسم بين ورثته على قدر سهامهم، فتكون بمنزلة العطية المنجزة أو الهدية المملوكة، سواء كانت عقاراً أو منقولاً، وسواء نقصها الاستعمال أو لم ينقصها. هذا مقتضى أكثر الروايات، حتى الروايات التي قال فيها: (أمسكوا عليكم أموالكم لا تفسدوها، من أعمر شيئاً فإنه للذي أعمر) ، يعني: أنه يبقى للذي أعمر. ولكن الرواية الأخرى تقتضي أنها ترجع إلى مالكها الأول؛ لأنه وقَّت عطاءه، حيث قال: هي لك ما عشت أو هي لك حياتك، فإذا مات رجعت إلى مالكها بمنزلة العارية المحددة، هذا مقتضى الرواية الثانية التي قال: (إنها ترجع إلى صاحبها) . وذلك بمنزلة العواري: فإذا أعرت صاحبك كتاباً وقلت له: اقرأ فيه حتى تقضي حاجتك منه، فقد أردت أن تسترده، كذلك إذا حددت وقتاً وقلت مثلاً: هذا الكتاب عارية عندك تقرأ فيه، أو هذا القدر عارية عندك تطبخ فيه، أو هذه السكين عارية عندك تقطع بها، ولم تحدد، جاز لك أن تسترده ولو بعد يوم أو بعد شهر، وجاز لك أن تبقيه ما دمت مستغنياً عنه، ولكنه لا يدخل في ملك المعار، بل هو عارية مستردة ومؤداة. وأما إذا حددت المدة فإنك لا ترجع فيه إلا بعد نهايتها، فلو قلت مثلاً: هذا البيت لك تسكنه عشر سنين، ففي هذه الحال لا ترجع قبل تمام عشر سنين، وذلك لأنك أعطيته والمسلم لا يرجع في عطيته، وقد تقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (العائد في هبته كالعائد في قيئه) . والعطية والهبة تعم المنافع وتعم الأعيان، فأنت مثلاً إذا أعطيته عيناً ينتفع بها كقدر، وقلت: هو لك، فلا يجوز لك أن تعود فيه، أو ثوباً يلبسه وقلت: هو هدية لك أو هبة لك، لم يجز أن تسترده، أو مثلاً بقرة يحلبها لم يجز لك أن تستردها، لأنك أعطيته عطية وهبة. فكذلك إذا حددت فقلت مثلاً: لك هذه الشاة تحلبها ما دام فيها لبن، فلا ترجع فيها بعد شهر أو بعد شهرين مادام فيها لبن، فإذا نشف لبنها فإن لك الرجوع. أو حددت مدة، قلت مثلاً: هذا القدر لك أن تطبخ فيه لمدة سنة، فبعد السنة يحق لك أن تعود فيه وترجع. فيقال كذلك في الأموال التي تحدد بأوقات: فإذا أعطيته هذه الدار يسكنها، وقلت: هي لك حياتك، فإذا مات فإن لك أن تستعيدها، لأن عطيتك له هو، لا للوارث، بل هي خاصة بذلك الذي أعطيته، فلا تجري فيها سهام الورثة، هذه هي العمرى التي ذكر في الأحاديث أنها ترجع إلى صاحبها. أما إذا قال: هي لك ولعقبك، يعني: أولادك ومن جاء بعدك، أو هي لك ولذريتك، فمثل هذه نسميها عطية منجزة وهبة، فليس له أن يرجع فيها، سواء في حياة المعطى أو بعده، فإن رجوعه في هذه يسمى رجوعاً في الهبة وعوداً فيها، والعائد في هبته كالعائد في قيئه. كذلك إذا حدد الوقت فليس له أن يرجع فيها قبل نهاية الوقت، فرجوعه قبل نهاية الوقت يكون رجوعاً في الهبة، وكأنه عائدٌ في قيئه.

الراجح في حكم الرجوع في العمرى والرقبى

الراجح في حكم الرجوع في العمرى والرقبى فالحاصل أن العمرى تنقسم إلى قسمين: - قسم يحدد فيه المدة بأن يقول: هي لك حياتك، أو لك عشر سنين، أو لك شهراً، فلا يرجع إذا جعلها شهراً إلا بعد نهايته، أو بعد نهاية عشر سنين، أو بعد انتهاء حياته يرجع بعد موته. - وقسم يقول: هي لك ولعقبك، أو يقول: هي لك ويسكت، ففي هذه الحال نعتبرها هبة تدخل فيها سهام المواريث. وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (المسلمون على شروطهم) ، ومعلوم أنه إذا شرط في الهبة أنها ترجع فإنها تعتبر مؤقتة، يعني: كالعارية، أباح لك أن تنتفع بها، وعند حاجته يرجع فيها، أو عند نهاية المدة، أو عند استغنائك، فإذا حدد المدة باستغنائك بأن قال: هي لك حتى تستغني عنها، فإذا استغنيت ووجدت ما يقوم مقامها، فإنه يملك استرجاعها، هذه هي العمرى والرقبى.

حكم منع الجار من غرز خشبته في الجدار

حكم منع الجار من غرز خشبته في الجدار قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يمنعن جار جاره أن يغرز خشبه في جداره) ، ثم يقول: أبو هريرة رضي الله عنه: (مالي أراكم عنها معرضين، والله لأرمين بها بين أكتافكم) ] .

الحث على حسن الجوار وكف الأذى عن الجار

الحث على حسن الجوار وكف الأذى عن الجار هذا الحديث في حسن الجوار، وقد وردت أدلة وأحاديث تحث المسلم على أن يحسن إلى جاره وأن يتحمل منه ما يسمعه، وأن يكف عنه أذاه، وقد ثبت في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) ، أي: يجعله من الورثة. كذلك أيضاً، يقول صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه) ، يعني: غوائله وخياناته، فالذي لا يأمنه جاره أن يخونه، ولا يأمن أن يغتاله، ولا يأمن أن يختلس منه جاره، هذا ليس بمؤمن كامل الإيمان. وقد وردت الأدلة في إحسان الجوار أيضاً، بل أمر بأن تحسن إلى جارك، وأن تتحفه وتهدي إليه، وأن تطعمه إذا علمت خصاصةً به، حتى ورد قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك) . وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن من بات شبعان وجاره جائع إلى جانبه) أو كما في الأحاديث. وسألت عائشة: (إن لي جارين فإلى أيهما أهدي، فقال: إلى أقربهما باباً) ، ففضل القريب باباً على غيره، ولا شك أن هذا كله يحث على حسن الجور، ومن ذلك ما تضمنه هذا الحديث، يقول صلى الله عليه وسلم: (لا يمنعن جار جاره، أن يغرز خشبةً في جداره) ، وفي رواية: (أن يغرز خشبه في جداره) .

يجب تمكين الجار من وضع خشبه على جدار الجار ما لم يضره

يجب تمكين الجار من وضع خشبه على جدار الجار ما لم يضره والعلماء ذكروا أن الجار قد يحتاج إلى أن يسقف له حجرةً أو غرفةً، ويكون بحاجةٍ إلى أن يمد خشبه أو حديده إلى جدار جاره الملاصق، والعادة أن الجيران يأتون غالباً متلاصقين، هذا ملاصق لهذا، فإذا كان جداره ملاصقاً لجدارك واحتاج إلى أن يسقف حجرةً أو غرفةً وأن يمد خشبه أو حديده، ويجعله على هذا الجدار أو هذه العمد، ويحفر لها فيه، فليس لك منعه، ولكن بشرط أن لا يضر الجدار. فإن كان الجدار لا يتحمل، فيلزمه أن يقيم إلى جانبه جداراً؛ لأن بعض الجدر قد تكون رقيقةً دقيقه، إذا وضع عليها خشب من هنا ومن هنا، فقد لا تتحمل فتسقط، فيحتاج إلى إقامة جدار إلى جانب جدار، حتى يجتمع ويتحمل ذلك الخشب. فأما إذا كان الجدار قوياً يمكنه أن يتحمل، فليس للجار أن يمنعه، وحيث ورد بلفظ الجمع: (أن يغرس خشبه) ، فإنه يكون على وجه العموم، فمتى احتاج إلى خشب ولو كثيرة فإنه له ذلك ولا يمنع. فهذا معنى قوله: (لا يمنع جار جاره أن يغرز) ، والغرز: هو النحت، بأن يحفر لها ثم يغرزها في الجدار، ثم يسقف عليها بعدما يمسكها في الجدار، وإذا كان الأمر كما كانت الغرف قديماً يجعل لها سقف تعرض عليه الخشب، فاحتاج إلى أن يجعل السقف على هذا الجدار، وكان الجدار يتحمل، فله ذلك، فإن كان لا يتحمل فإنه يضع عموداً، أي: ساريةً تتحمل ذلك السقف، ثم بعده يعرض الخشب عليه. وعلى كل حال فهذا كمثال في حاجة الجار إلى شيء مما يتصل بجاره، لأن الجار قد يحتاج إلى أحد حيطان جاره لوضع خشبه عليه، سواء كان جدار سورٍ من الأسوار التي تحيط بالمباني، أو جدار غرفةٍ أو حجرةٍ يلي هذا الجار، فإنه يمكنه من أن يسقف عليه. لما حدث أبو هريرة هذا الحديث كأنه استثقله بعضهم وأنكره، وقال: كيف أمكنه وأنا الذي بنيت هذا الجدار وقمت به وتوليته، وينتفع به غيري؟ فـ أبو هريرة لم يبال بذلك فيقول: (مالي أراكم عنها معرضين) ، يعني: عن هذه السنة أو عن هذا الحديث، (والله لأرمين بها بين أكتافكم) أو (بين أكنافكم) ، يعني: لأحدثن بهذا الحديث ولا أبالي من كره ذلك، لأنه لما تحقق أنه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، لم ير بداً من أن يحدث به، ولو كره ذلك واستثقله بعضهم. كذلك يقول بعضهم: إن الضمير يعود إلى الخشب، أي: لأرمين بالخشبة بين أكتافكم، يعني: ولو لم أجد إلا كتف أحدكم أضعه عليه -من المبالغة- يعني: عند الحاجة لأفعلن ما أمرني به الرسول وما أمر به الأمة، وما نهاهم عنه بقوله: (لا يمنع) . ثم الأولى بالجيران أن يتعاونوا فيما بينهم، فإذا كان هناك جدار حاجز بين اثنين، فالأولى أن يشتركا في النفقة عليه، وأن يجعلاه متحملاً لخشب هذا وهذا، أو لصبة هذا وهذا، حتى لا يقع بينهما شيء من المنافسة أو من الامتنان، أو من الكراهية لانتفاع جاره به أو نحو ذلك. لكن إذا سبق أحدهم وانفرد بإقامة هذا السور أو بإقامة هذا الجدار، ثم جاء إلى جانبه آخر وأقام منزله واحتاج إلى التسقيف على جداره؛ فليس له منعه؛ هذا مقتضى الحديث.

النهي عن الظلم في الأرض

النهي عن الظلم في الأرض قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من ظلم قيد شبرٍ من أرضٍ طوقه من سبع أرضين) ] .

الطرق الشرعية لملك الأرض دون ظلم

الطرق الشرعية لملك الأرض دون ظلم هذا الحديث يحذر فيه النبي صلى الله عليه وسلم من الظلم، ويمثل بظلم الأرض، يعني: اقتطاع الأرض، ومعلوم أن الأرض ملك لله تعالى يورثها من يشاء، قال تعالى: {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [الأعراف:128] ، ويقول الله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف:137] ، فأخبر بأنها لله وأنه يملكها من يشاء، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن الأرض تملك بالإحياء، فقال: (من أحيا أرضاً ميتة فهي له) . وذكر العلماء أنواع الإحياء الذي تملك به الأرض، فقالوا: يحصل بحفر الآبار، فقد ورد أن من حفر بئراً حتى وصل إلى الماء، فإنه يملك تلك البئر ويملك حريمها، أي: ما حولها، قيل: إنه يملك مد رشائها، وقيل: يملك من كل جانب خمسةً وعشرين ذراعاً إن كانت بئراً منتزعة، وأما إذا كانت قديمةً فإنه يملك خمسين ذراعاً، أما إذا كانت بئراً زراعيةً حفرها للزراعة، فإنه يملك ثلاثمائة ذراع من كل جانب، وبكل حال فهذا مما تملك به الأرض. كذلك أيضاً تملك بالسقي، فإذا جلب الماء إلى الأرض وسقاها فإنه يملكها إذا أخرج ماءً من بئرٍ فسقى به تلك الأرض، سواء كان فيها زرع أو شجر أو ليس فيها. وكذلك إذا أجرى الماء إليها: فإذا أجرى الماء في ساقيةٍ أو مواسير أو نحوها، إلى أن وصل إلى هذه الأرض وسقاها، ملكها بذلك، ولا يملكها إذا صب الماء فيها من إناء أو نحوه. فلو أن إنساناً ملأ سيارةً مما يسمى بالوايت، وجاء إلى أرضٍ صحراء وصب الماء عليها، لم يملكها بذلك إلا أن يكون قد غرس فيها أو زرع، فأما إذا جلب الماء إليها ولو من بعيد فإنه يملكها مع الساقية ونحوها. كذلك أيضاً يملكها بالبناء: فإذا بنى حولها قدر ما يستر الواقف حائطاً مستديراً من كل جهاتها فإنه يملكها وتدخل في ملكه بمثل ذلك. فعرفنا بذلك أنه إذا أحياها فقد ملكها. (من أحيا أرضاً ميتةً فهي له) ، والميتة: هي التي ليس فيها آثار تدل على أنها قد ملكت قبله، بل لم يكن لها مالك، فهذا دليل على أنه يملكها بهذا الإحياء، فإذا ملكها فلا شك أنه أحق بها، ولا يجوز لأحد أن يعتدي عليها ولا أن يتقدم ويأخذ ويتملك منها شيئاً ولو كان قليلاً.

الوعيد الشديد لمن أخذ من مال غيره

الوعيد الشديد لمن أخذ من مال غيره توعد النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، بأن (من ظلم شبراً) ، أي: من اقتطع شبراً (من الأرض) يعني: أخذه من غير حقه، (طوقه من سبع أرضين) ، أي: جعل يوم القيامة طوقاً في عنقه، وفي بعض الروايات: (خسف به إلى سبع أرضين) ، فكونه طوقاً بمعنى أنه يحمله من سبع أرضين! فماذا يحمل الإنسان؟ وماذا يستطيع أن يحمل في رقبته؟ فلا شك أن هذا دليل على عظم شأن هذا الظلم. في حديث متفق عليه عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنه، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، أن امرأة من جيرانه يقال لها: أروى، ادعت عليه عند بعض الخلفاء وقالت: إنه أخذ أرضي، أو اقتطع بعض أرضي، فترافعوا إلى الأمير؛ فقال سعيد: كيف آخذ أرضها وقد سمعت ما سمعت! فقالوا: ما سمعت؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من اقتطع شبراً من الأرض بغير حق، طوقه من سبع أرضين) فقال ذلك الأمير: لا نطلب منك بينةً بعد ذلك! ولكنه ترك ذلك ودعا عليها فأصابتها دعوته. وقد ورد أيضاً اللعن لمن اقتطع شيئاً من الأرض، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله من غير منار الأرض) ، ومنار الأرض هو حدودها ورسومها، وذلك أن الذي يملك الأرض يجعل لها حدوداً وتسمى رسوماً، وهي نصب ينصبونها تميز أرض هذا عن هذا، وتبين الحد الفاصل بين الأرضين، فهذه تسمى مناراً، فالذي يأتي مثلاً ويقلع هذا النصب، ثم يقدمه في أرض جاره، ليأخذ قطعة من هذه الأرض، ويقلص من أرض جاره، فلا شك أن هذا داخل في هذا الوعيد الذي هو اللعن: (لعن الله من غير منار الأرض) ، وهذا وعيد شديد. وإذا كان هذا في ظلم الأرض، فلا شك أن بقية أنواع الظلم داخل في ذلك، فظلم الأرض هو اقتطاع شيء من حق الغير ولو شيئاً يسيراً، هذا إذا كانت مملوكةً لأحد، أما إذا كانت حرةً غير مملوكة، فإن الأرض لمن سبق إليها، لقوله: (من سبق إلى مال فهو أحق به، أو: فهو له) .

تحذير من يخاصم على أرض وهو يعلم أنه لا حق له فيها

تحذير من يخاصم على أرض وهو يعلم أنه لا حق له فيها ومعلومٌ ما يقع من المنازعات ومن المخاصمات في الأراضي، وكيف أن الناس يختلفون على هذه الأرض وأنهم يعرفون أو بعض منهم أنها ليست ملكاً لهم، ومع ذلك يحملهم الطمع على أن يأخذوا ما ليس لهم، وهم يعرفون هذا الوعيد الشديد! كثير من الخصومات وكثير من القضايا التي في المحاكم إنما هي حول بقاع أو قطع من الأرض، هذا يدعي أنها له، وهذا يدعي أنها له، ولو علموا أن فيها هذا الوعيد الشديد لزهدوا فيها كلها، كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ترافع إليه رجلان من الصحابة في مواريث بينهما قد اندرست، يمكن أن يكون منها أراض وعقارات وبقع قد اندرست، ولا يعلمون ما حق هذا من حق هذا، فعند ذلك وعظهم صلى الله عليه وسلم وقال: (من قضيت له بحق أخيه، فإنما أقطع له قطعة من النار، فليأخذها أو ليدعها) ، وكان أولئك الصحابة ذوي ورع وذوي مخافة، فلما سمعوا هذا الوعيد خاف كلٌّ منهم أن يأخذ شيئاً من حق أخيه فقال: أنا أتنازل عنها كلها، ولا أريدها إذا كانت عاقبة هذا الظلم أو عاقبة هذا العدوان النار، فلا حاجة لي فيها. فعند ذلك أرشدهم صلى الله عليه وسلم إلا أن يتحروا الصواب ويقتسموها على ما يقرب من الحق، ثم بعد ذلك يستبيح كل منهم صاحبه، فنحن نقول: إذا كان بينك وبين جارك، أو بينك وبين شريكك خلاف في شيء من الأرض، أنت تقول: هذا لي وهو يقول: هذا لي؛ فاعلم أنك إذا أخذته وأنت تعلم أنه ليس من حقك، فإنك متعرض لهذا الوعيد، ومتعرض لأن تحمل هذه الأرض يوم القيامة كلها طوقاً في عنقك من سبع أرضين، أو متعرض لأن يخسف بك في هذه الأرض كلها إلى سبع أرضين، ومتعرض للَّعن الذي توعد به في هذه الأحاديث. فإذاً نقول: عليك أن تصطلح مع جارك أو شريكك، على أن تقتسما هذه الأرض ويستبيح كل منكم صاحبه، أي: تتنازل عنها إذا كنت تعرف أنه لا حق لك فيها، وأنك ظالم ومعتد بأخذك ما ليس لك. ومعلوم أن كثيراً من المتخاصمين يعرفون خطأهم، وأنهم في نفس الأمر ليس لهم حق في هذه البقعة، وأنهم معتدون في دعواهم، لكن ما الذي يحملهم على هذه المخاصمات وهذه المرافعات والشكايات التي قد تطول مدةً طويلة، والواحد منهم يجعل من يحامي ويجادل عنه، ويلصق الأكاذيب ويلفق الحجج، فيجمعها وهو في نفس الأمر يعرف أنه كاذب وأنه لا حق له؟ فالذي يحمله هو الطمع الذي يريد به أن يكتسب مالاً أو يكتسب بقعاً لا حق له فيها، أو إنما هي ملك الله يؤتيه من يشاء، فتكثر في ذلك المنازعات، مع أنه يعرف الحق من الباطل.

الحذر من دعوة المظلوم

الحذر من دعوة المظلوم فننصح كل من عرف خطأه وعرف أنه لا حق له؛ أن يخاف من الحساب ويخاف من الظلم، ويعرف أنه ظالم لهذا، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة) . فقد تكون أنت أيها الظالم أقوى حجةً، وأمكن في الكلام وألحن، وتلصق ما تلصق، وربما تأتي بشهود كذبة، وتعطيهم على أن يشهدوا معك، وربما تجمع وثائق لا أساس لها ولا أصل لها، فينخدع القضاة ويعتقدون أنك صادق، فيقضون لك بتلك البقع أو بتلك الأراضي، وتأخذها وهي ليست لك، وتظلم أصحابها أو أهلها الذين ملكوها والذين أحيوها، فماذا تكون حالتهم؟ يدعون عليك ويطلبون من ربهم أن ينتقم لهم منك، وهذا فيه خطر كبير، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (اتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) ، بمعنى: أن المظلوم الذي ظلمه ظاهرٌ وواضح، إذا رفع يديه يدعو على من ظلمه، سيما في أوقات الإجابة؛ فإن دعوته لا تحجب، فدعوة المظلوم غير محجوبة، بل تخرق الحجب ويرفعها الله تعالى فوق السماء، ويقول: لأنصرنك ولو بعد حين. فعلينا أن نحذر من هذا الاعتداء، وسواء كان الظلم في الأراضي أو في غيرها من الأموال، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة.

شرح عمدة الأحكام [57]

شرح عمدة الأحكام [57] كثيراً ما يفقد الناس أموالاً من نقود وأمتعة وبهائم فيجدها غيرهم، وقد أوجب الشرع على من وجد مالاً ضائعاً له قيمة أن يعرفه سنة، فإن لم يجد صاحبه فله أن يتملكه ويبقى في ذمته بحيث لو جاء صاحبه يوماً من الدهر أعطاه، وللفقهاء خلاف في بعض أحكام اللقطة بينها الشيخ في هذه المادة.

اللقطة

اللقطة قال المؤلف رحمه الله: [باب اللقطة: عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لقطة الذهب أو الورق، فقال: اعرف وكاءها وعفاصها، ثم عرفها سنة، فإن لم تعرف فاستنفقها ولتكن وديعةً عندك، فإن جاء طالبها يوماً من الدهر فأدها إليه، وسأله عن ضالة الإبل، فقال: مالك ولها! دعها فإن معها حذاءها وسقاءها، ترد الماء وتأكل الشجر، حتى يجدها ربها، وسأله عن الشاة، فقال: خذها فإنما هي لك، أو لأخيك، أو للذئب) ] هذا الحديث يتعلق باللقطة، واللقطة: هي المال الذي سقط من مالكه، سواء كان متاعاً أو نقداً أو آنيةً أو نحو ذلك مما يتملك، وقد ذكر في هذا الحديث أنه يعرف، ومعنى تعريفه: أنه ينادى عليه: من له مال أو من له متاع، أو نحو ذلك.

شرط تعريف اللقطة

شرط تعريف اللقطة اشترط الفقهاء لتعريف اللقطة: أن يكون المال المفقود مما تتبعه همة أوساط الناس، فأما الأشياء الطفيفة الرخيصة التي لا يهتمون بطلبها، فلا حاجة إلى تعريفها، فإذا وجد الإنسان مثلاً رغيفاً أو قطعة حلواء أو عصا أو حذاءً مستعملاً رخيصاً أو قلنسوة -يعني طاقية- أو ريالاً ونحوه مما لا يهتم أغلب الناس بطلبه؛ فمثل هذا لا يحتاج إلى أن يعرفه، بل يملكه آخذه؛ لكون صاحبه في الغالب قد تركه أو قد أيس منه، ولو أحس بفقده؛ ولكنه لا يرجع ويسأل عنه، ولا يهمه أن يفقده. والناس بحسب ما يفقد منهم ثلاثة أقسام: القسم الأول: الفقراء والضعفاء ونحوهم، ولاشك أن أحدهم يهمه إذا سقط منه ريالٌ أو قرشٌ أو نحو ذلك؛ لكونه يجد له موقعاً، ويؤثر في اقتصاده وفي ماله، فمثل هؤلاء قليلٌ، ولا يعتد بطلبهم لهذه الأشياء الساقطة أو القليلة. القسم الثاني: الأثرياء أهل الأموال الطائلة، فهؤلاء لو سقط من أحدهم مائة أو مائتان أو نحو ذلك، فالغالب أنهم لا يهتمون بطلب هذا، ولا يطلبونه؛ لكونه لا يؤثر في اقتصادهم، ولكون أموالهم طائلةً لا يحسون بفقد المائة أو المئات أو ما أشبهها. ولكن ننظر إلى أغلب الناس، وهم الوسط الذين يهتمون للعشرة وللعشرين وللثلاثين ونحوها، وهؤلاء هم أغلب الناس، فنعد هذه لقطةً تحتاج إلى تعريف.

أنواع اللقطة

أنواع اللقطة اللقطة ثلاثة أنواع: الأول: المتاع والنقود ونحوه. الثاني: ما لا يحوز التقاطه من بهيمة الأنعام وهي الإبل ونحوها. الثالث: ما يجوز التقاطه من بهيمة الأنعام كالغنم ونحوها. فإذا وجدت نقوداً من ذهبٍ أو من فضةٍ أو ما قام مقامها من الأوراق النقدية سواء كانت نقوداً سعودية، أو لدولةٍ أخرى لها قيمة، فهذه النقود لها قيمتها عند أهلها، فماذا يجب عليك أن تفعله قبلها؟

وجوب تعريف اللقطة وكيفيته

وجوب تعريف اللقطة وكيفيته يقول في هذا الحديث: اعرف عفاصها ووكاءها وعددها، ثم عرفها سنةً، فإن جاء صاحبها وإلا فاستنفقها، فإذا جاء صاحبها يوماً من الدهر فادفعها إليه. عفاصها: هي الخرقة التي تكون فيها، فاكتب أو أثبت أنها موجودةٌ في غلاف لونه كذا، أو بخرقةٍ لونها كذا، أو إناء لونه كذا. وكذلك الوكاء: وهو الخيط الذي تربط به، فاكتب ما كانت مربوطة به من خيط أو سلك أو ما قام مقامه مما تربط به النقود ونحوها. واعرف أيضاً عددها، يعني: مقدارها من النقود، فمثلاً في بلادنا هذه اعرف ما أنواعها، هل هي من فئة خمسمائةٍ أو من فئة خمسة أو من فئة خمسين أو نحو ذلك، فاكتب عددها، وأنها فئة كذا وكذا حتى ينتبه لها صاحبها؛ وكذلك اعرف موضعها الذي سقطت فيه، أنها سقطت في المكان الفلاني. كذلك أيضاً اعرف زمنها، أنك وجدتها في اليوم الفلاني، في الساعة الفلانية، كل ذلك تثبته، ولكن إذا عرّفتها فلا تذكر هذا كله؛ لأنه قد يدعيها من ليس بأهل لها، بل تقول: من له الدراهم التي ضلت منه في يوم كذا وكذا؟ أو تقول: وجدت في مكان كذا كذا، فإذا جاءك إنسان وقال: هي لي، فسله واستخبره كم عددها؟ فإذا ذكر عددها فاسأله: ما ألوانها؟ وما وعاؤها الذي هي فيه؟ فإذا وصفها وصفاً دقيقاً عرفت أنه صاحبها، فعند ذلك تدفعها إليه، فإذا لم يطابق وصفه لها، فاعلم أنه متقولٌ أو له لقطةٌ أخرى. ما هي كيفية التعريف؟ يقول العلماء: إنه في الأسبوعين الأولين يعرفها في كل يوم، أما فيما بعد فيعرفها مثلاً في كل يومين، ثم في كل أسبوع كأيام الجمع والمجتمعات، ثم بعد ذلك يقتصر على تعريفها في المجتمعات كأيام الجمع في كل شهر مرتين أو ثلاث مرات أو ما أشبه ذلك. ما هي أماكن التعريف؟ لا يجوز تعريفها في المسجد، كما لا يجوز أيضاً إنشاد الضالة في المسجد، فلا يجوز أن تقول في المساجد: من له ضالة؟ أو من فقد ضالة كذا وكذا؟ حتى ولو كانت قليلة القيمة أو كثيرة القيمة، حتى ولو كانت حذاءً مثلاً أو عمامةً أو ما أشبه ذلك، بل يكون التعريف عند أبواب المساجد، فيقف عند باب المسجد، ويقول: من له ضالة؟ من فقد ضالةً من نوع كذا وكذا حذاءً ثوباً نقوداً؟ فإذا جاءه صاحبها ووصفها أعطاه إياها. وإذا كنت لست من الذين يجرءون على التعريف، فإنك توكل من يعرف وينادي عند أبواب المساجد وفي المجتمعات، فإذا قال: أنا لا أنادي إلا بأجرة، فإنك تعطيه أجرته منها يعني: بشيء تحدده له ولو مثلاً ثلثها أو ربعها وما أشبه ذلك، فتقول: هذا مقدارها، ولك منها كذا وكذا.

حكم اللقطة بعد تعريفها سنة

حكم اللقطة بعد تعريفها سنة إذا عرفتها ولم تجد صاحبها، وأنت قد قمت بهذا التعريف قياماً كاملاً، فلك أن تستنفقها أي: تدخلها في مالك، وذهب بعضهم إلى أنها تدخل في ملكه، وتصير له، وورد في بعض الروايات: (فإن جاء صاحبها وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء) ، وفي بعض الروايات: (فإن علمت وإلا فهي لك) ، ومعناه: أنها أصبحت مملوكة لك، حيث إنك الذي وجدتها، وحيث إنك الذي ناديت عليها، وصبرت على النداء لها، فأنت أحق أن تملكها وتدخل في ملكك. ولكن لا تدخلها في مالك ألا بعد أن تعرف أوصافها، وقيمتها إذا كانت متقومة، فإذا كانت لها قيمةٌ كالمتاع، كأن تكون قدراً أو ثوباً أو كيساً أو علبةً أو ما أشبه ذلك مما له قيمة؛ فقدر قيمتها عند تمام الحول، واستنفقها وأدخلها في مالك، واكتب أوصافها في ذمتك، فربما يأتيك صاحبها في السنة الثالثة، أو في السنة الخامسة، أو بعد عشر سنين؛ لأنك لا تزال تنشدها، ولا تزال تخبر عنها في المجتمعات، وتقول: إني وجدت من الذهب كذا وكذا، أو وجدت من الفضة كذا، أو جدت كذا من الأواني أو الأمتعة أو الأطعمة أو الفواكه أو ما أشبه ذلك. وإذا كانت مما لا يبقى سنةً فتباع، فلو وجدت مثلاً علبةً طعام لا يمكن بقاؤها، أو وجدت قطعة لحمٍ، فإنها لا تبقى في العادة، أو وجدت خضرة أو فواكه أو ما أشبه ذلك مما يفسد إذا بقي مدة، أو يحتاج إلى تجميد أو نحوه بأجرة، فهذا لا يبقى، بل تقومه في حينه وتقدر قيمته، ثم تستنفقه أو تبيعه أو تحفظ قيمته، وتعرفه حتى تتم المدة.

حكم ضالة الإبل والبقر والخيل

حكم ضالة الإبل والبقر والخيل قال عن ضالة الإبل: (مالك ولها! معها سقاءها وحذاءها، ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها) ، الإبل تمتنع من السبع، تمتنع من الذئب، ومن الضبع، ومن السباع الصغيرة، وقد تجتمع عليها الذئاب الكثيرة وتفترسها، أو قد يسلط عليها سبعٌ كبير كالأسد والنمر، ولكن ذلك نادر، فلأجل ذلك نعمل بالأصل، فنقول: إن الأصل امتناعها. ويلحق بها أيضاً البقر، فالبقر في الغالب تمتنع من السباع، وتقدر أن تتخلص إذا هاجمها ذئب أو نحوه. ويلحق بها أيضاً الخيل، فهي تمتنع لعدوها أو قوتها من صغار السباع وما أشبه ذلك، فهذه الأصل لا تلتقط، فلا يجوز إذا وجدت بعيراً أو فرساً أو ثوراً كبيراً يمتنع أن تلتقطه، بل يترك إلى أن يجده صاحبه، أو يرد على صاحبه، فالغالب أنه يعرف الأماكن ويعرف الطرق، ويذهب إلى أهله، ويرد المياه التي قد اعتاد ورودها، فلا يجوز تعرضك لهذه الدواب ونحوها، لكن إذا وجدتها قد تردت، فلك أن تأخذها، إذا وجدت مثلاً بعيراً يكاد أن يموت من الظمأ، أو وجدته قد هزل وبرك ولم يكن باستطاعته أن يقوم، فأنقذته وعلفته وسقيته، ففي هذه الحال يكون لقطة، لك أن تأخذه وتملكه، وكذلك إذا وجدته قد عيي وتركه أهله لعيه ولهزاله، وعرفت أنهم لا يريدونه ولا يرغبون فيه، ففي هذه الحال أيضاً لك أن تلتقطه وتملكه لمعرفتك بأن أهله قد زهدوا فيه. وأولاد البقر وأولاد الإبل تلتقط، ولد الإبل الصغير يسمى فصيلاً، وولد البقر يسمى عجلاً، وولد الخيل يسمى فلواً، فهذه لا تمتنع؛ فلأجل ذلك يجب التقاطه إذا خيف أن يعتدي عليه السبع، وكان في مهلكة ولم يكن مع غيره، والعادة أن البقر إذا اعتدى عليها السبع فإنها جميعاً تتحامل وتطرد السبع، وتنتصر منه، فلا يجوز التقاط مثل هذا. أما الذي يجوز التقاطه فهو ما لا يمتنع كأولاد البقر الصغار إذا كانت وحدها، أو أولاد الإبل الصغار إذا كانت وحدها، وكذلك الغنم معروف أنها لا تمتنع، وأن السبع يعتدي عليها ويفترسها.

حكم ضالة الغنم وصغار الإبل والبقر

حكم ضالة الغنم وصغار الإبل والبقر إذا وجدت شاة ضالةً، وعرفت أنه ليس حولها أهلها؛ فإن لك أن تلتقطها، ولهذا قال في هذا الحديث: (خذها فإنها لك أو لأخيك أو للذئب) ؛ إما أن تحفظها لأخيك الذي هو صاحبها الذي افتقدها، وإما أن تتركها فيفترسها الذئب غالباً، وإما أن تأخذها ولا تجد صاحبها فتكون ملكاً لك، وإذا أخذها الملتقط فإنه يبقيها عنده، ويعمل فيها كما يعمل في اللقطه، بمعنى أنه يعرفها. ومعلوم أنها تحتاج إلى نفقه، وتحتاج إلى من يرعاها، وتحتاج إلى من يسقيها إذا كانت تسقى ولا ترد الماء، وتحتاج علفاً فمثل هذه عليه أن يعلفها إن كان قادراً أو يقدر قيمتها ويدخلها في ملكه، أو يبيعها ويحفظ قيمتها بعد ما يحفظ أوصافها، فإذا لم يجد صاحبها وأدخلها مع غنمه، أو أدخل الفصيل مع إبله أو العجل مع بقره، ثم إنه تنامى وتوالد، وحصل له أولاد، فلمن هؤلاء الأولاد الذين تفرعوا عن هذه الشاة أو عن هذا العجل أو عن هذا الفصيل؟ ومن يملكهم؟ نقول: إذا جاء صاحبها بعد خمس سنين، وقد أصبحت خمساً أو عشراً فليس له إلا الأولى التي وجدت ضالةً منه، وأولادها الذين ولدوا عندك وأنت الذي ربيتهم ورعيتهم وحفظتهم وسقيتهم وعلفتهم، ولدوا في ملكك بعدما دخل في ملكك؛ فأنت أولى بها.

حكم من وجد لقطة فأخفاها

حكم من وجد لقطة فأخفاها كثير من الناس من يجد اللقطة ولكن يخفيها، وتبقى عنده سنة ويأكلها، ثم بعد ذلك يندم ويسأل ويقول: إني وجدتها ولكني لم أعرفها، هل ينفع أن أعرفها بعد سنتين أو بعد ثلاث سنين؟ نقول: لا ينفع؛ وذلك لأن أصحابها غالباً قد يئسوا منها، فلا يهتمون بطلبها، ولا يسألون عنها، وقد اعتقدوا أنها اختلست منهم أو أخذت سرقة من مكانها، فأنت غررت بهم حيث أخفيتها هذه المدة. فحينئذ نقول له: لا تملكها والحال هذه سواء كانت من بهيمة الأنعام، وجدتها في طريق أو متأخرة من دواب أو نحو ذلك؛ فأخفيتها وجعلتها مع غنمك، أو كانت نقوداً أخفيتها وجعلتها مع مالك، أو كانت متاعاً أخفيته ككيس وجدته أو علبةً أو كرتوناً أو نحو ذلك، أخفيته إلى أن مضى عليه مدة، وأيس منه أصحابه، ففي هذه الحال نرى أنه لا يملكها، ولكن يبيعها ويقدر ثمنها ثم يتصدق به إذا أيس من أصحابها، وتكون صدقةً مضمونة، بمعنى أنه لو جاء صاحبها بعد سنة أو سنين فيخبره ويقول: أنا وجدت هذا المال، ولكني أخطأت في إخفائه ولم أعرفه في حينه، وبعدما مضت المدة أو زادت تصدقت به، فالآن أنت بالخيار: إما أن يكون أجر الصدقة لك، وإما أن يكون الأجر لي، وأعطيك قيمتها، وإذا لم يفعل أو خاف فله أن يسلمها إلى من يتصدق بها مضمونةً، أو إلى بيت المال إذا كانت ذات قيمة. وكذلك نقول: في بهيمة الأنعام التي يجدها كثير من الناس أو الأمتعة التي توجد على الطرق ساقطةً من أصحاب السيارات أو نحوهم، فمن يأخذها ويخفيها مدة، ثم بعد ذلك يندم، وكذلك في كل الأموال المجهولة، وكثير من الناس قد يكون عنده دين لإنسان أو أمانة لإنسان أو أجرة عمل أو نحو ذلك، وتبقى عنده مدةً، ويغيب عنه صاحبها ولا يجدها، أو يشتري من بقالة ثم يأتي بعد مدةً ويجد صاحب البقالة قد تغير أو قد نقل أو أن ذلك العامل تنتهي مدة إقامته ويرحل فلا يجده، فما تصنع بالمال الذي عندك؟ نقول: عليك أن تحرص على البحث عن أصحابه، فإن وجدتهم وإلا فتصدق به مضموناً أو أعطه من يتصدق به مضموناً.

شرح عمدة الأحكام [58]

شرح عمدة الأحكام [58] جعل الله للإنسان عند موته ثلث ماله يتصرف فيه بالوصية، وهذه الوصية مستحبة، وقد تجب في حق من عليه حق لا يعلم إلا بوصيته، وللوصايا أحكام كثيرة فصلها أهل العلم رحمهم الله.

الوصايا

الوصايا قال المصنف رحمه الله: [باب الوصايا: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى عليه وسلم قال: (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده) . زاد مسلم قال ابن عمر: (فوالله ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك إلا وعندي وصيتي) . وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي فقلت: يا رسول الله! قد بلغ بي من الوجع ما ترى، وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا. قلت: فالشطر يا رسول الله؟ قال: لا. قلت: فالثلث؟ قال: الثلث والثلث كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعله في فيّ امرأتك. قال: قلت: يا رسول الله! أخلف بعد أصحابي؟ قال: إنك لن تخلف فتعمل عملاً تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة، ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون، اللهم أمض لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم! لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة) . وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الثلث والثلث كثير) ] .

تعريف الوصية والوصي

تعريف الوصية والوصي الوصايا: ما يوصي به الإنسان بعد موته، والوصي هو: الوكيل على هذه الوصايا، والإنسان قد يعرف من نفسه أنه سوف يموت، فيحتاج إلى من يخلفه في ذريته، ليكون وصياً عليهم، ويخلفه في ماله ليكون حافظاً له، ومنفقاً منه على ذريته ونحوهم، أو يخلفه في وقفه وفي صدقاته؛ ليوزعها ويعطيها لمن يستحقها وهكذا. فلأجل ذلك شرعت الوصية، قال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [البقرة:180] ، وهذا قد كان مفروضاً، والكتب هو: الإيجاب، كما في قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] ، فكان الرجل عند الموت يوصي فيقول: لوالدي من المال كذا، ولأخي من المال كذا، أو لابني أو لزوجي. ونحو ذلك، يوصي لهم بهذه الوصايا، فإذا أوصى لهم فبعد موته تنفذ تلك الوصايا، ولما نزلت آيات المواريث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصيه لوارث) فاستقرت الفرائض لأهلها، والوصية لغير الوارث.

الحث على الوصية

الحث على الوصية على الإنسان أن يهتم بما عنده من الحقوق فيكتبه، ففي هذا الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: (ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده) ، والشيء الذي حث على كتابته مثل الأمانات والديون والأوقاف وكذلك وصيته ووصايا أبويه إذا كانت على يديه، فيكتب ما يخرجه من ماله، ويكتب مصارفه الذي يصرف فيها، ويكتب الناظر عليه والوكيل، ويكتب الديون التي في ذمته، والديون التي له مثلاً، ويكتب الحقوق والأمانات التي عنده، ويكتب الأشياء التي قد يجهلها غيره وهو يعلمها من الأملاك أو نحو ذلك، حتى لو فجأة الموت لم يكن مفرطاً، بل وجد ما عنده مكملاً، أما لو فرط ومات فجأةً بقيت ذمته مشغولة، وبقيت حقوق الناس وأماناتهم عنده وديونهم في ذمته؛ لأن الورثة قد لا يعلمون شيئاً عن ذلك، فيقتسمون ما خلف من الأموال، وقد يكون بعضها أو أكثرها لغيره، فيأكلون ما لا يستحقون، وسبب ذلك تفريطه هو حيث لم يثبت ما عنده من الأمور. فلأجل ذلك يقول ابن عمر: (ما أتت عليّ ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ووصيتي عندي) ، وبعضهم يجعلها تحت رأسه، كلما تجدد له شيء زاد فيها وغير ونقص وأضاف، حتى إذا مات يكون قد أكملها، وقد روي في الآثار عن بعض السلف أنهم كانوا يكتبون في مقدمة وصيتهم: هذا ما أوصيت به، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، فهذه وصية بمعنى الشهادة. وكذلك يوصي أهله فيقول: أوصيكم بما أوصى به إبراهيم بنيه ويعقوب قال الله تعالى: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ} [البقرة:133] وقال تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} [البقرة:131-132] ، ووصاهم بقوله: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132] ، وويوصيهم بتقوى الله، فإنها وصية الله للأولين والآخرين كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] ، ويوصيهم بالوالدين مثلاً لقوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} [العنكبوت:8] .

الوصية في المال

الوصية في المال في حديث سعد هذا الوصية بالمال، وقد أمره أن يقتصر على الثلث، فذكر سعد رضي الله عنه أنه مرض مرضاً شديداً في حجة الوداع في سنة عشر، فعاده النبي صلى الله عليه وسلم، وكان في ذلك الوقت ليس له أولاد إلا بنت واحده وعنده أموال، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأنه خاف من الموت، وقال: إن المرض قد بلغ بي ما ترى، فأخبر بأن المرض قد اشتد به، وأنه يخشى أن يفجأه الموت، وأنه له أموال كثيرة، وليس له ورثة إلا زوجته وبنته فيكفيهم بعض ماله، وأراد أن يتصدق بالثلثين، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم منعه من ذلك، ثم انتقل إلى النصف، فأراد أن يتصدق بنصف المال، ويترك للورثة النصف، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم منعه أيضاً، فانتقل إلى الثلث، فرخص له في الثلث، ولكن قال له: (الثلث والثلث كثير) . وابن عباس رضي الله عنه يقول: (لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع) أي: اقتصروا على الربع فإنه فيه الكفاية، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر بأن الثلث كثير، فالربع يكون وسطاً، ليس بقليل ولا كثير، وقد نقل عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: (أختار لنفسي ما اختاره الله، إن الله تعالى اختار الخمس أو رضي لنفسه الخمس في قوله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال:41] ) فأوصى بالخمس، وهكذا غيره من الصحابة أوصوا الخمس من أموالهم ليكون صدقة من بعدهم؛ لأجل ذلك يقول العلماء: إن النهاية هو الثلث، فلا يزيد الموصي على الثلث إلا برضا الورثة، إلا إذا لم يكن ورثة فإن له أن يتصدق بجميع ماله؛ لأنه ما منع إلا لأجل الورثة؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ سعد بن أبي وقاص: (إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) يقول: إنك إذا خلفت مالاً أغنيت ورثتك، وتركت لهم ما يتمتعون به، وما يأكلون منه وينتفعون به، وهذا أفضل لك إذا كانوا أغنياء، فينتفعون ويدعون لك بالرحمة وبالجنة، وتقر أعينهم ويرضون عنك، بخلاف ما إذا تصدقت بأموالك كلها، وتركتهم فقراء يسألون الناس، فإنهم سيمدون أكفهم، هذا معنى قوله: (عالة يتكففون الناس) أي: يسألونهم بأكفهم.

ما يستفاد من حديث سعد

ما يستفاد من حديث سعد في قصة سعد رضي الله عنة أنه لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، خاف أن يموت بمكة فقال: (يا رسول الله! أخلف بعد أصحابي) يعني: هل أموت في هذا المكان أو أشفى وأخلف؟ فقال: (إنك لن تخلف -يعني: تعافى- فتنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها) ، أية نفقة تنفقها على أهلك حتى اللقمة ترفعها في في امرأتك أي: حتى ما تطعم زوجتك، فإذا ابتغيت بذلك وجه الله فلك أجر عند الله تعالى. ويقول أيضاً في هذا الحديث: (ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام، ويضر بك آخرون) ، واستجاب الله دعوة نبيه، فشفي سعد من هذا المرض، ورزق بعد ذلك بأولاد كثير، منهم مصعب وعامر وعمر وغيرهم. وكذلك انتفع به أقوام، فقاد جيش القادسية الذي حصل به الوقعة العظيمة، وبقي إلى أن أدرك خلافة معاوية، فانتفع به أقوام، ورويت عنه أحاديث، وتضرر به آخرون من أعداء الله الذين قتلوا بسيفه وقتلوا بقيادته، فنفع الله به من أراد الله به خيراً. ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (اللهم أمض لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم، ولكن البائس سعد بن خولة. يرثي له النبي صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة) ، وذلك لأن الصحابة رضي الله عنهم تركوا مكة لله، هاجروا منها لما أوذوا فيها، واستبدلوا بها دار هجرتهم وهي المدينة، وكانوا يكرهون أن يموتوا في مكة التي انتقلوا عنها، فـ سعد يكره أن يموت بها؛ لأنه قد تركها لله، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم أمضي لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم) أي: لا تردهم إلى بلادهم التي تركوها لله، بل اشفهم وامض لهم هجرتهم، أما سعد بن خولة رضي الله عنه فإنه مرض في مكة ومات بها، مع كونه قد هاجر منها، فرثى له النبي صلى الله عليه وسلم بما حصل له، وسماه بائساً مع أنه معذور في ذلك؛ لأنه جاء مكة لأجل الحج فأصابه مرض فمات بها. وبكل حال، الشاهد من هذا الحديث هو: ذكر الوصية التي اشتمل عليها هذا الحديث، وهو: أنه يستحب للإنسان أن يوصي من ماله، فيقال: إذا كان المال كثيراً، وسوف يترك للورثة ما يكفيهم ويغنيهم، جاز أن يتصدق منه بعد موته بثلثه أو بأكثر إذا لم يضر الورثة، ووافق الورثة على ما زاد عن الثلث، أما الثلث فلا خيار لهم فيه، بل يخرجه إذا أراد ولو كره الورثة، وعليهم أن ينفذوه، وقد جعله النبي صلى الله عليه وسلم صدقة من الميت على نفسه رحمة من الله تعالى ورخصة له، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم زيادة في أعمالكم) أي: زيادة في حسناتكم أن تخرجوا هذا الثلث، ويكون صدقة منكم على أنفسكم، تجدون ثوابها، ولا تجوز الزيادة على الثلث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حدده بقوله: (الثلث والثلث كثير) .

الحث على الصدقة في الحياة

الحث على الصدقة في الحياة الإنسان ما دام حياً فإن له أن يتصدق بما أرد، فقد ثبت أن أبا بكر رضي الله عنه أخرج جميع ماله صدقة لله، في حديث عمر قال: (أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصدقة فوافق ذلك عندي مالاً فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن كنت سابقاً له. فأتيت بنصف مالي فقال عليه الصلاة والسلام: ما تركت لأهلك؟ فقلت: مثله، وإن أبا بكر أتى بجميع ما عنده فقال له: ما تركت لأهلك؟ فقال: تركت لهم الله ورسوله) ، هكذا في الحياة جاء أبو بكر بجميع ماله الذي عنده، ووثق بأن الله سيرزقه وسيجعل له رزقاً، وجاء عمر بنصف ما كان عنده من المال، وترك النصف ليتمتع به، ويعطي منه أهله، وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك. وقد ورد الحث على الصدقة في الحياة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تأمل الغنى وتخشى الفقر، ولا تمسك حتى إذا بلغت الروح الحلقوم قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان) فيرشد إلى أن يخرج الصدقة ويتصدق بها ما دام حياً، وما دام سليماً قوياً، وهذا يدل على أنه أنفقها لله، وابتغاء مرضاة الله؛ ليكون ذلك أجراً له في الآخرة، وهذا يدل على كونه قد وقي شح نفسه {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9] . أما الذي يمسك أمواله، وكأنه سوف يعمر مئات السنين، ثم إذا حضره الموت أخرج أو قال: تصدقوا وأعطوا وأعطوا، فنقول: لا ينفذ من عطاياه في مرض الموت إلا الثلث، وما زاد عن الثلث فإنه لا ينفذ إلا برضا الورثة، أما الثلث فإنه ينفذ ولو لم يرض الورثة، إلا إذا خص به بعض الورثة، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا وصية لوارث) ، فلا يعطي أحد أولاده في الحياة أو عند الممات أكثر من الثاني بغير مبرر، ولا يعطي لزوجته أو زوجاته ولا لإخوته إذا كانوا وارثين ولا لغيرهم من الورثة، بل يجعل المال على ما قسمه الله عليه، ويجعل الوصية لغير الوارثين. كذلك أيضاً يجعل الوصية في العمل الصالح الذي يعود عليه بالخير وهو الوقف الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) ، فالصدقة الجارية هي الوقف الذي يخرجه في حياته ليتصدق منه بعد موته، أو الوصية التي يخرجها في حياته ليصل إليه أجرها بعد موته.

وجوه مصارف الصدقات

وجوه مصارف الصدقات وجوه المصارف كثيرة ومتعددة، وأفضلها الصدقة على الفقراء، فإذا كانت الأوقاف أو الوصايا فيها ثمرات، كبستان فيه نخيل وفيه ثمار، فيقول: هذا النخل قد تصدقت به بعد موتي، ويخرج منه الثلث، ففي هذه الحال يتصدق به على المساكين وعلى المستضعفين من قريب وبعيد، ويخص القريب ويفضله لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (صدقتك على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان: صدقة وصله) . ومن وجوه الخير: بناء المساجد، وبناء المدارس العلمية لتحفيظ القرآن ونحوه، وطبع الكتب والمصاحف ونشرها، سيما في البلاد التي يعوزها الحصول على الكتب والرسائل ونحوها، وكذلك الأشرطة الإسلامية إذا جعل من ثلثه جزءاً تشترى به هذه الأشرطة الإسلامية وترسل إلى البلاد التي تحتاج إليها، والتي يكون لها نفع وتأثير، زيادة على الرسائل والكتب والخطب وما يشبهها. ومن وجوه الخير: الجهاد في سبيل الله، فإذا كان هناك جهاد فإنه يشترى بهذه الوصية أسلحة وعدة للمجاهدين، يتقوون بها، ونفقة ينفقون منها على أنفسهم، ولاشك أن ذلك من القربات التي يكون تأثيرها نافعاً لكل من وفقه الله تعالى. ووجوه الخير كثيرة، ومن جملتها الصدقات، وقد ذكر العلماء أن من الصدقات: الأضاحي التي تذبح في يوم عيد الأضحى، فإذا أوصى بها فإنها تنفذ وصيته، وإذا لم يوص بها فإنه يتصدق على المساكين بما يكون قائماً مقامها، وبالأخص في الأوقات الفاضلة، فالصدقة في رمضان أو في أوقات الجوع وفي البلاد التي يكثر فيها الجوع، ويغلب على أهلها الضرر أفضل، وما أكثرهم في هذه الأزمنة!

واجب الوصي في الوصية

واجب الوصي في الوصية وبكل حال إذا كان الإنسان له أموال كثيرة فإن الثلث لا يضر الورثة، أما إذا كان ورثته محتاجين فالأولى له ألا يوصي، وأن يترك ماله لورثته ليستغنوا به عن التكفف، سيما إذا كانوا ذوي حاجة، وأما إذا لم يكن له ورثة من أولاد وأقارب فإن له أن يتصدق بماله كله في حياته وبعد موته. وإذا أوصى إلى شخص فإن ذلك الشخص -الذي هو الوكيل- عليه أن يتقي الله وأن يراقبه في ذلك؛ ولهذا قال تعالى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:181-182] يعني: قد يحيف بعض الموصين على ورثته، ويحاول أن يضرهم، فمثل هذا لا يجوز، فإذا وفقك الله أو كنت حاضراً عنده فأصلح بينهم وأرشده إلى ألا يجور في الوصية، ولا يخرج عن الحد المعتاد؛ حتى يقبل الله منه وصيته، وحتى يرضى عنه ورثته.

شرح عمدة الأحكام [59]

شرح عمدة الأحكام [59] لقد تكفل الله سبحانه وتعالى بقسمة الفرائض بنفسه، وفي هذا دليل على أهميتها، وذلك لأن حقوق الآدميين مبنية على المشاحة، بخلاف حقوق الله عز وجل فإنها مبنية على المسامحة. وللمواريث شروط وأسباب وموانع فصلها الفقهاء في كتب مستقلة. وعلم المواريث من أهم العلوم، ويحتاج في تعلمه إلى معرفة قواعد وتطبيقات وأمثلة، وفي كتاب عمدة الأحكام بيان للمعالم الرئيسة المهمة في الفرائض.

أحكام المواريث وبيان الأنصباء

أحكام المواريث وبيان الأنصباء قال المؤلف رحمه الله: [باب الفرائض: عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأولى رجل ذكر) ، وفي رواية: (اقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله، فما تركت الفرائض فلأولى رجل ذكر) . وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قلت: (يا رسول الله! أتنزل غداً في دارك بمكة؟ قال: وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور، ثم قال: لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم) ] . هذان الحديثان في قسمة المواريث بين الورثة، وهو أمر يتعلق بالأموال، ولكن له أهميته؛ وذلك لأن فيه إيصال الحقوق إلى أهلها، والمراد أن الميت إذا مات وخلف مالاً فهذا المال لا شك أن أحق من يأخذه أقارب ذلك الميت الذي جمعه والذي ملكه، فهم أولى بأن يكونوا هم الوارثين له.

أدلة المواريث من القرآن الكريم

أدلة المواريث من القرآن الكريم لقد أنزل الله تعالى خمس آيات في المواريث. الآية الأولى مجملة: وهي قول الله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً} [النساء:7] . فهذه الآية أجمل الله فيها نصيب الرجال والنساء، إلا أنه عرف أن للرجل نصيباً من مورثه وللمرأة نصيباً. حتى جاءت الآية الثانية التي بيّن الله فيها ميراث الأولاد ذكوراً وإناثاً، وبيّن فيها ميراث كل من الأبوين، على التفصيل، وذلك في قوله تعالى: {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء:11] يعني: الذكور والإناث، {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء:11] . فهذه الآية ذكر الله فيها أن الميت إذا مات وله أولاد قسم ماله بين أولاده، للذكر سهمان وللأنثى سهم، فإذا لم يكن له إلا بنات، فإنهن لا يزدن على الثلثين ولو كن عشراً فيشتركن في الثلثين، أما إذا كانت واحدة فإنها تستقل بالنصف فتأخذ النصف وحدها. كذلك ذكر ميراث الأم والأب، فإذا كان للميت أولاد فإن لكل من الأبوين السدس، والبقية للأولاد يقسم بينهم: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11] . وإذا كان هناك أبوان فقط وليس للميت ولد، فإن المال يقسم بين الأبوين، الأب له الثلثان والأم لها الثلث، أما إذا وجد للميت إخوة حجبوا الأم ومنعوها من الثلث وأنزلوها إلى السدس، هذه قسمة أنصباء الأبوين وأنصباء الأولاد. أما الآية الثالثة فبين الله فيها أنصباء الزوجين والإخوة من الأم، وهي قوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمْ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ} [النساء:12] ثم قال: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} [النساء:12] في هذا ذكر نصيب أحد الزوجين من الآخر، فبيّن الله أنه إذا كان له أولاد ذكور أو إناث؛ واحد أو عدد؛ أن زوجته لا تأخذ إلا الثمن، فإذا لم يكن له أولاد ولا أولاد ابن فإنها تأخذ الربع. أما الزوج فيأخذ النصف إذا لم يكن للزوجة أولاد ولا أولاد ابن، فإذا كان لها ولد أو ولد ابن فإنه لا يأخذ إلا الربع. ثم بيّن الله في نفس الآية ميراث الإخوة من الأم في قوله: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً} [النساء:12] أي: ليس له أولاد ولا والدان: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} [النساء:12] يعني: أولاد أم، {فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء:12] ، أي: للأخ أو الأخت من الأم السدس، {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء:12] أي: الإخوة من الأم لا يزيدون عن الثلث ولو كثر عددهم، فهذه الآية ذكر الله فيها ميراث الزوجين وميراث الإخوة من الأم. أما الآية الرابعة في آخر سورة النساء وهي قوله تعالى: {إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء:176] إلى قوله: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ} [النساء:176] ثم قال: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:176] ، وفي نفس الآية ذكر ميراث الأخ بقوله: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء:176] . فبيّن ميراث الأخوات، فإذا كانت واحدة أخذت النصف، أو اثنتين فلهما الثلثان، والجماعة ذكوراً وإناثاً يقتسمون المال كما يقتسمه الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين، والأخ الواحد يرث مال أخته كله إذا كان وحده، وكذلك إذا كانوا جماعةً، هذه الآية ذكر الله فيها ميراث الإخوة الأشقاء والإخوة من الأب.

ميراث العصبات

ميراث العصبات أما الآية الخامسة في آخر سورة الأنفال وهي قول الله تعالى: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال:75] فذكر الله أولي الأرحام، وأن بعضهم أحق ببعض، فإذا كان بعضهم أولى ببعض فإن من أحقيتهم أن يأخذوا ما بقي من المال، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا الأخذ يسمى: تعصيباً، والتعصيب: هو أن يرث المال بدون أن يحدد له جزءاً معيناً، وذلك ما أشار إليه صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بقوله: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر) ، وتأكيد وصف الرجل بقوله: (ذكر) من باب التأكيد، وإلا فمعلوم بأن الرجل اسم للذكر، فكلمة: (أولى) يراد بها الأقرب يعني: فلأقرب العصبة وأولاهم بذلك الميت، فإنه هو الذي يأخذ ما بقي، ويسمى أخذه: عصبة. وبيّن العلماء أن العصبة هم أقارب الميت من الأصول ومن الفروع ومن الحواشي، فالأصول: هم أبوه وجده وجد أبيه، أما فروعه: فهم أبناؤه وأبناء أبنائه وأبناء أبناء أبنائه وإن بعدوا؛ لأنهم تفرعوا منه. أما أقاربه الآخرون: فهم إخوته وبنو إخوته وبنو بنيهم، وكذلك إخوة أبيه الذين هم أعمامه، وبنو أعمامه وبنو بنيهم، ثم أعمام أبيه، ثم بنوهم، ثم أعمام جده وهكذا، ويسمون عصبة؛ لأنهم في الغالب يتعصبون لقريبهم ويحمونه ويجتمعون معه؛ فلأجل ذلك كانوا هم ذوي أرحامه، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعطوا حقهم مما بقي بعد أهل الفروض، فمعنى قوله: (ألحقوا الفرائض بأهلها) يعني: أعطوا أهلها حقهم من الفرائض وما بقي فأعطوه الأقارب من ذوي الأرحام أو من العصبة، هذا معنى الإلحاق أي: سلموها وأعطوها لهم، والباقي أعطوه من يستحقه من ذوي العصبات ونحوهم.

ميراث أهل الفروض مع العصبات

ميراث أهل الفروض مع العصبات وقوله: (ألحقوا الفرائض بأهلها) يعني: أعطوهم فروضهم على ما في كتاب الله تعالى، فإذا كان أهل الفرائض إناثاً كما لو لم يكن له إلا بنتان أو ثلاث بنات أعطيناهن الثلثين والباقي نعطيه أقرب العصبة من الورثة كالابن أو ابن الابن مثلاً، أو الأخ أو ابن الأخ أو نحوهم؛ لأنه أولى رجل وأقرب رجل بعد البنات. وهكذا لو كان أهل الفروض زوجاً، فإن كان الزوج يأخذ النصف فالبقية للأخ أو ابن الأخ أو العم أو ابن العم إذا كان أقرب من غيره، وهكذا إذا كان صاحب الفرض أخاً لأم فإنا نعطيه السدس والبقية نعطيه لأقرب العصبة كأخ شقيق، أو أخ لأبٍ، أو ابن أخ، أو عم، فننظر أقرب الأقارب من ذوي الأرحام فيأخذ بقية المال الذي تركته الفرائض. كذلك لو كان الميت لم يخلف إلا أمّاً من أهل الفروض أخذت نصيبها وهو الثلث، والبقية يأخذه العاصب كالعم أو ابن العم أو ابن الأخ أو نحوهم، ننظر من هو أقربهم.

التقديم بين العصبات في الإرث

التقديم بين العصبات في الإرث معلوم أن الأب له قرابة والابن له قرابة، لكن قرابة الابن أقوى؛ وذلك لأن الغالب أن الجامع الذي يجمع المال يحرص على أن يورثه لأولاده، وقد ورد ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم كما تقدم: (إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) فإذا كان للميت ابن وأب، فالأب يعتبر صاحب فرض وهو السدس، والبقية نعطيها للابن فهو أولى رجل ذكر، يعني: أقرب الورثة، ولا يقال: إن الأب أحق منه؛ لأن الله جعل للأب فرضاً ولم يجعل للابن فرضاً، بل جعل الابن يأخذ المال كله، أو يأخذ ما بقي من المال بعد أهل الفروض، أما إذا لم يكن هناك ابن فإن الأب يكون أقوى وأولى من غيره، فإذا كان هناك مثلاً زوجة وأب، فإن الزوجة تأخذ الربع فرضاً والأب يأخذ الباقي فهو أولى رجل ذكر. كذلك إذا لم يكن عندنا ابن ولا أب، فأقرب الأقارب هم إخوة الميت، فننظر أقواهم فنعلم أن الأخ من الأبوين أقوى من الأخ من الأب، فإذا كان عندنا جدة وأخ شقيق وأخ من الأب أعطينا الجدة سدسها والباقي أعطيناه الشقيق؛ لأنه أقوى حيث يدلي جهتين: جهة الأبوة وجهة الأمومة، ونسقط الأخ من الأب لقوة الأخ الشقيق، فإذا لم يكن عندنا أخ شقيق فالأخ من الأب أقوى من العمومة وأقوى من بني الإخوة ونحوهم، فإذا لم يكن عندنا إخوة ولا بنوهم فلا شك أن العم الذي هو أخو الأب ينزل منزلة الأخ أو ينزل منزلة الأقرب فيعطى بقية المال، أو يعطى المال كله إذا لم يكن هناك ذوو فرض. وهكذا فيقدم الابن ثم يقدم الأب ثم يقدم الأخ الشقيق ثم الأخ من الأب ثم ابن الأخ الشقيق ثم الأخ من الأب ثم بعد ذلك ابن العم الشقيق ثم ابن العم من الأب، ثم ينقل إلى عم الأب ثم عم الجد وما تفرع عنهما، هذا معنى قوله: (فلأولى رجل ذكر) . وهذا العلم الذي هو علم الفرائض هو من أهم العلوم، ويحتاج في تعلمه إلى معرفة قواعد ومعرفة تطبيقات ومعرفة أمثلة، ولأجل ذلك اهتم به العلماء المتقدمون والمتأخرون، وألفوا فيه مؤلفات خاصة لا يمكن أن تذكر في مثل هذه الحلقات العامة. لا بد أن تبدأ من أوائله وقواعده وشروطه ونحوها، تبدأ من أوله، فالذي يريد معرفته عليه أن يأخذ فكرة عن كيفية ابتدائه وكيفية تطبيقه، والشروط التي تشترط له، ولكن كتب الفقه والأحكام اقتصرت في علم الفرائض على مهمات المسائل.

موانع الإرث

موانع الإرث ذكروا أن للتوارث ثلاثة شروط، وأن له ثلاثة أركان، وله ثلاثة أسباب، وله ثلاثة موانع، وقد توسعوا فيها كلها، ولا نحب أن نبحث فيها لطولها، وإنما نذكر الموانع التي ذكر في الحديث بعضها. فالموانع التي تمنع الإرث: الرق، والقتل، واختلاف الدين.

المانع الأول: الرق

المانع الأول: الرق فالرق: هو العبودية، والرقيق: هو المملوك الذي ليس له تصرف في نفسه بل ملكيته لسيده الذي يملكه، فهذا لا يرث ولا يورث؛ لأنه ليس له مال، ولأنه لو ورث من أبيه الحر لأخذ ذلك المال سيده، وسيده ليس بينه وبين عصبة أبيه قرابة.

المانع الثاني: القتل

المانع الثاني: القتل إذا قتل إنسان قريبه حرم من ميراثه، ولو كان القتل خطأً؛ وذلك سداً للذريعة حتى لا يعمد أحد إلى قتل قريبه لأجل أن يرثه، فيتخذ القتل وسيلة لإرث قريبه حتى يأخذ المال. ومشهور أن رجلاً من بني إسرائيل كان عمه ثرياً كثير المال، وكان له ابنةً واحدة، وليس يرثه إلا ابن أخيه وابنته، فخطب ابنة عمه فرفض عمه أن يزوجه بها فقال: سأقتل عمي وآخذ ماله وأتزوج ابنته، فعند ذلك قتله، وهو الذي نزل فيه قصة البقرة التي أمرهم الله بذبحها، فقاموا بعد تردد بذبح البقرة، فأخذ موسى عضواً من أعضائها فضرب به ذلك الميت فحيي وقال: قتلني ابن أخي، ثم عاد ميتاً، فمن ثم حرم القاتل من الميراث حتى ولو لم يكن متعمداً. وكذلك حوادث السيارات إذا كان الذي يقودها له نسبة من الخطأ ولو قليله، ومات معه أحد أقاربه لم يرث منه، أما إذا كانت نسبة الخطأ كلها على الطرف الثاني؛ فإنه يرث ممن مات معه من أقاربه، أما لو كان متسبباً ولو بجزء قليل من الخطأ، مثل أن يكون على هذا ثمانون في المائة من الخطأ وعليه هو عشرون في المائة، فما دام أن عليه عشرين في المائة فإنه محروم من ميراث من مات معه من أقاربه، أما إذا لم يكن له نسبة، بل الخطأ على الطرف الثاني كله فلا يمنع من الإرث.

المانع الثالث: اختلاف الدين

المانع الثالث: اختلاف الدين من المعلوم أن من موانع الإرث: اختلاف الدين، وقد جاء في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم لما افتتح مكة سنة ثمان قال له أسامة بن زيد: (أين تنزل غداً في مكة؟ فقال: وهل ترك لنا عقيل من رباع، ثم قال: لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم) . بيان ذلك أن عقيل بن أبي طالب وهو أخو علي بن أبي طالب لما مات أبو طالب لم يرثه إلا عقيل، ولم يرث منه علي ولم يرث منه جعفر؛ لأنهما مسلمان، وعقيل باق على كفره فهو الذي ورث أباه أبا طالب. قول أسامة: (أين تنزل غداً؟ فقال: وهل ترك لنا عقيل من رباع) الرباع: البيوت والرحبات التي حولها، والأماكن التي كان يملكها أبو طالب، فورثها بعده عقيل بن أبي طالب واستبد بها، وأسلم وهي له ولم يرث غيره أحد من إخوته. فدل هذا على أن الكافر لا يرث المسلم ولا المسلم يرث الكافر، فإذا مات ميت كافر فإن ميراثه لقرابته الكفار، فإذا لم يكن له قرابة من الكفار فميراثه لبيت المال ويعتبر فيئاً، وكذلك لو مات رجل مسلم وأقاربه كلهم كفار فماله لبيت المال، لا يعطى أقاربه الذي ليسوا على دينه من ماله شيئاً؛ وذلك لأن الإسلام فرق بين المسلم والكافر، وجعل كلاً منهما بعيد الصلة عن الآخر، قال الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] فجعل الولاية للمؤمن على المؤمن، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73] أي: لا توالوا الكفار بل اجعلوا ولايتهم فيما بينهم، لا تجعلوا ولاية لكم عليهم؛ لأنه لا ولاية ولا قرابة بين مسلم وكافر، فمن آثار قطع الولاية أنهم لا يتوارثون حتى ولو كانوا مجتمعين في بيت واحد أو في بلد واحد. والكفر هنا هو كل عمل يخرج صاحبه من الإسلام، ولو لم يكن على ملة، فالنصراني الذي أبواه مسلمان لا يرث منهما؛ وذلك لاختلاف الدين، وكذلك لو كان بوذياً وأبواه مسلمان؛ فإنه لا يرثه أبواه ولا يرث هو من أبويه. وهكذا الديانات أو العقائد الفاسدة مثل: النصيرية الموجودة في سوريا وغيرها، لا شك أنهم كفار فلا يتوارثون مع المسلمين ولو كانوا أقارب لهم. والقاديانية: وهم يوجدون بكثرة في الهند وفي باكستان ونحوها، لا شك أنهم كفار، فلا يتوارثون مع أقاربهم المسلمين. الدروز: وهم يوجدون في لبنان وسوريا، لا شك أنهم كفار، فلا يتوارثون مع أقاربهم المسلمين. وكذلك الباطنية: والباطنية يقول فيهم العلماء: ظاهرهم الرفض وباطنهم الكفر المحض، فلا يتوارثون مع أقاربهم المسلمين. وإذا حكمنا بكفر أهل ملة فإننا نقطع الصلة بينهم وبين أقاربهم، فإذا حكمنا مثلاً بكفر تارك الصلاة المصر على تركها المعاند فيها، الذي لا يصلي أصلاً لا وحده ولا مع جماعة قلنا: لا يرثه أقاربه ولا يرث من أقاربه بل يكون ماله لبيت المال، وإن كنا نحكم بأنه إذا كان كذلك يصير مرتداً، والمرتد لا يقر على ردته، بل يستتاب فإن رجع وإلا قتل. وكذلك العقائد السيئة التي يكفر بها، وقد ذكر العلماء من العقائد التي يكفر بها: عقيدة الجهمية الذين يبالغون في تحريف القرآن في باب الصفات، وكذلك الذين يقولون بالجبر والإرجاء ونحوها، هؤلاء كثير من العلماء يكفرونهم ويخرجوهم من الإسلام، وعلى هذا فلا يتوارثون مع المسلمين. وكذلك أيضاً غلاة الرافضة لا شك أنهم كفار، الذين يطعنون في القرآن، أو يطعنون في أجلاء الصحابة الذين نقلوا لنا الدين ويكفرونهم، أو كذلك الذين يشركون ويدعون غير الله تعالى في الشدائد والملمات ونحوها يكفرون، وعلى هذا فلا يتوارثون مع أقاربهم من المسلمين. فعرفنا بذلك أن الإسلام حث أهله على أن يوالوا كل مسلم ولو كان بعيداً في النسب، ويقاطعوا كل كافر ولو كان قريباً في النسب.

حكم بيع الولاء وهبته

حكم بيع الولاء وهبته قال المؤلف رحمه الله: [عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الولاء وهبته) . وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان في بريرة ثلاث سنن: خيرت على زوجها حين عتقت، وأهدي لها لحم، فدخل عليّ رسول صلى الله عليه وسلم والبرمة على النار، فدعا بطعام فأتي بخبز وأدم من أدم البيت، فقال: ألم أر البرمة على النار فيها لحم، قالوا: بلى يا رسول الله، ذلك لحم تصدق به على بريرة، فكرهنا أن نطعمك منه، وقال: هو عليها صدقة وهو منها لنا هدية، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها: إنما الولاء لمن أعتق) ] . قوله: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الولاء وهبته) ، الولاء هنا: ولاء العتاقة، ورد في بعض الأحاديث: (الولاء لحمة كلحمة النسب، لا يباع ولا يوهب ولا يورث) ، والمراد به أن الرجل إذا كان يملك عبداً فأعتقه، فذلك العبد العتيق يصير مولىً لذلك المعتق، وكأنه أحد أسرته وأحد أقاربه، ينتمي إلى تلك القبيلة التي هي قبيلة المعتق، وينتسب إليهم، ويكون كأحد أفرادهم، فلا يجوز أن تباع قرابته ولا أن توهب ولا أن تورث، بل تصير منة المعتق عليه أنه يلحق بنسبه ويكون كأحد أفراد النسب، هذا المراد بالولاء. ولهذا شبه بالنسب: (لحمة كلحمة النسب) ، والنسب لا يجوز أن يباع ولا يجوز أن يوهب، فلو أن إنساناً مثلاً من قبيلة مشهورة أراد أن يخرج عن هذه القبيلة ويقول: أنا أبرأ من هذه القبيلة، وأنا أنتسب إلى قبيلة أخرى، كما لو كان مثلاً من قبيلة تميم وأراد أن ينتسب إلى غطفان، هل يجوز له ذلك؟ لا يجوز، هل يجوز لبني تميم أن يبيعوا واحداً منهم، ويقولون: نبيعكم يا غطفان، نبيعكم يا بني حنظلة، نبيعكم يا رباب هذا الرجل الذي كان منا ويكون واحداً منكم وينتسب إليكم؟ نقول: هذا أيضاً لا يجوز. فإذا لم يجز بيع النسب فكذلك بيع الولاء. يقول: (نهى عن بين الولاء وهبته) البيع: أخذ العوض على المبيع، والهبة: الهدية بلا عوض أو بلا عوض مسمى. بمعنى أنه لا يجوز للمعتق أن يقول لإنسان أجنبي: بعتك قرابتي من هذا العبد الذي أعتقته بكذا وكذا، أو أهديتك قرابتي منه أو ولايتي منه، كما لا يجوز أن يبيع أولاده، فلا يجوز أن يقول: بعتك ولدي هذا، أو قرابتي من هذا الولد، أو أهديتك قرابتي من هذا الولد، أو قرابتي من هذا الأخ أو من هذا العم، أو نحو ذلك. كما لا يجوز للرجل أن ينتسب إلى غير أبيه، ولا يتولى غير مواليه، هكذا ورد في بعض الأحاديث: (نهى أن ينتسب الرجل إلى غير أبيه، أو يتولى غير مواليه) ، مواليه: هم الذين أعتقوه، وقد أخبر الله تعالى بأن العتق نعمة، قال الله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:37] يعني: أن زيد بن حارثة أنعم الله عليه بالإسلام وأنعمت عليه بالعتق، فجعل إعتاقه وتحريره نعمة، فالسيد إذا أعتق عبده أصبح ذلك العبد يملك نفسه ويتصرف في نفسه، ولكن لسيده الذي أعتقه عليه الولاء، بحيث إنه يواليه وينتسب إليه وينصره، ويصير كأنه فرد من أفراد أسرته، هذا هو الولاء الذي هو ولاء العتاقة، وهو أيضاً من أسباب الميراث، يقول الرحبي: أسباب ميراث الورى ثلاثه كل يفيد ربه الوراثه وهي نكاح وولاء ونسب ما بعدهن للمواريث سبب فجعل الولاء سبباً من أسباب الإرث، ومعناه: أنه يرث عبده الذي أعتقه، إذا لم يكن للعتيق أحد من أقاربه من النسب، فإنه يرثه حينئذٍ معتقه أو عصبة معتقه من الرجال، فإذا مات هذا العتيق فإن كان له أولاد أو إخوة أو أعمام أو بنو عم ورثوه، فإذا لم يكن له أحد من هؤلاء فلمن يكون ماله؟ يكون لمعتقه. المعتق: هو الذي أنعم عليه فهو أحق بتركته يرثه كما يرث بالنسب؛ لأجل أن النبي صلى الله عليه وسلم شبهه بالنسب: (الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب) .

الولاء لمن أعتق

الولاء لمن أعتق في الحديث الثاني: قصة بريرة وكانت أمة مملوكة ولكنها أعتقت؛ وذلك لأنها مملوكة لقوم من قريش، فاشترت نفسها منهم بثمن مؤجل، وأرادت أن تشتغل حتى تؤدي ثمنها، فجاءت إلى عائشة تطلب منها أن تعينها في دفع الثمن، وعرفت عائشة فيها الأهلية والكفاءة والحذق فاختارت أن تعينها على العتق، فقالت: أنا أدفع لك كامل الثمن لتعطيه مواليك ويكون الولاء لي، يعني: أنا أدفع لهم الثمن فكأنهم باعوكِ لي وأعطيتهم الثمن، ولكن يكون الولاء لي، الولاء الذي هو الانتساب، ولكن أولئك الذين كانوا يملكونها أصروا أو امتنعوا إلا أن يكون الولاء لهم، يريدون أن يأخذوا الثمن، ومع ذلك يكون الولاء لهم.

حكم اشتراط الولاء لغير المعتق

حكم اشتراط الولاء لغير المعتق فلما علم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن هذا خلاف شرع الله وخلاف حكم الله، وأن الولاء لمن أعتق، فقال: (ما بال رجال يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، قضاء الله أحق وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق) ، فأصبحت هذه قاعدة من القواعد الشرعية: الولاء لمن أعتق. الولاء: هو ولاء العتاقة، يعني: العتيق يوالي من أعتقه وينتسب إليه، ولا يكون لغير من أعتق؛ وذلك لأنه مقابل هذه النعمة.

السنن المستفادة من قصة بريرة

السنن المستفادة من قصة بريرة ذكرت في هذا الحديث أن في بريرة ثلاث سنن: السنة الأولى: أنها خيرت لما عتقت بالبقاء مع زوجها المملوك فاختارت نفسها، وقد كان لها زوج يقال له: مغيث، فلما عتقت كانت بلا شك أفضل منه؛ لأنها حرة وهو عبد، فعند ذلك خيرت، قيل لها: أتختارين البقاء مع زوجكِ، أم تختارين فراقه؟ فقالت: لا أريده، ولا رغبة لي فيه، فأصبح ذلك سنة، أن الأمة إذا كانت زوجة لمملوك فعتقت فإنها تخير، إما أن تختار البقاء تحت ذلك العبد، وإما أن تختار التحرر وعدم البقاء معه، فتطلق منه إذا اختارت. أما إذا كان زوجها حراً فلا خيار لها؛ وذلك لأنها تصبح مثله، هو حرٌ وهي قد أصبحت حرة، قد كانت مملوكة قبل ذلك ثم أعتقت وزوجها حرٌ فليس لها اختيار، بل تبقى في عصمته، ولا تقدر على أن تخلص نفسها، بخلاف المملوك، فإنها تخلص نفسها منه، إن شاءت بقيت وإن شاءت تحررت وطلقت، يقولون: عتقها طلاق لها إذا شاءت. أما السنة الثانية: فهي أنه صلى الله عليه وسلم دخل مرة فدعا بطعام، فأتوه بشيء من طعام البيت من خبز وإدام من خلٍ أو نحوه، وكان قد رأى على النار برمة فيها لحم، فقال: (ألم أر البرمة على النار فيها لحم؟ فقالوا: بلى، ولكنه صدقة) ، أي: وأنت لا تأكل الصدقة. كان الطعام صدقة تصدق به على بريرة؛ لكونها مملوكة أو لكونها كانت أمة، فهذه صدقة تصدق به عليها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قربوه فهو لها صدقة ولنا هدية) ، أي هو عليها صدقة لكونها تستحق الصدقة، ولكن الصدقة قد بلغت محلها فكأنها أهدته إليه، فأكل منه عليه الصلاة والسلام. فمعروف أنه صلى الله عليه وسلم ما كان يأكل الصدقة بل يأنف منها ويقول: (إن الصدقة لا تحل لبني هاشم، وإنما هي أوساخ الناس) ، سواء كانت صدقة فرض كالزكوات أو صدقة تطوع، بل كان لا يأكل منها أحد من بني هاشم ولا من أقاربه، ولكنه كان يقبل الهدية، فهذا اللحم هدية أهدي إليه صلى الله عليه وسلم، كأنها لما تصدق به عليها لم تكن تأكل ذلك اللحم كله، فأعطته لأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقبله وصار هدية فأكل منه. السنة الثالثة: أن الولاء لمن أعتق؛ فهذه ثلاث سنن في هذه المملوكة التي تحررت وأصبحت مولاة لـ عائشة. وبكل حال الشاهد: أن الولاء الذي هو قرابة سببه نعمة المعتق على عبده بالعتق، فإنه يرثه هو أو عصبته الذين هم الرجال دون النساء، فإذا مات العتيق ولم يكن له أقارب ورثه المعتق، فإذا لم يكن هناك معتق، ورثه أولاد المعتق أو إخوة المعتق أو أقارب المعتق ويكونون أحق به؛ لكونه منسوباً إليهم، وهكذا مثلاً لو انقطع نسب المعتق، المعتق الذي من بالعتق، وليس له وارث إلا عبده الذي أعتقه فإنه يرثه؛ وذلك لقوة الصلة بينهما، هذا هو القول الراجح الصحيح، وهذا هو مناسبة ذكر الحديث في الفرائض.

الأسئلة

الأسئلة

حقيقة الرافضة وسبب انخداع كثير من الناس بهم

حقيقة الرافضة وسبب انخداع كثير من الناس بهم Q يوجد مجموعة من المتكلمين في هذه الأزمنة يقولون: إنه ليس ثمة فروق بيننا وبين الرافضة، وإنما الفرق بيننا وبينهم هو بمقدار شيء ضئيل، وقد انطلى هذا القول على كثير من الناس، ومع أن الذي ندين الله به أن الفرق بيننا وبينهم كما هو الفرق بين الكفر والإسلام، فما هو رأي الشرع في ذلك، وفيما يقوله هؤلاء المتكلمون؟ A هذا قول خاطئ؛ وذلك لأنهم انخدعوا بالرافضة، انخدعوا بهم لما يرون مثلاً من سلاسة أقوالهم، ومن تحسين أخلاقهم، ومن لين كلامهم، ومن ملاطفتهم لغيرهم، ومن وفائهم مثلاً بالعهود، ومن إظهارهم للأمانة، ومن إظهار نصحهم للولاة ونحو ذلك. وكذلك من حسن معاملتهم في البيع والشراء، وإظهارهم للأمانة فيما ائتمنوا عليه ونحو ذلك، فيقولون: هذه الأخلاق لا يمكن أن يتحلى بها الكفار، فدل على أنهم مسلمون. نقول: هذه الأخلاق قد يتحلى بها الكفار، فالكفار قبل الإسلام فيهم من هم أهل صدق وأهل كرم وأهل وفاء وأهل عهود وأهل أمانة وأهل سخاء، فلا يستبعد أن يتخلق الرافضة بهذه الأخلاق، وقصدهم من التخلق بها أن يستميلوا أكثر الناس، وأن يخدعوا أغلب الناس بأن يقولوا: نحن نتحلى بأخلاق المسلمين ونحن نتأدب بآداب القرآن، ونحن نعمل بتعاليم الدين فنحن من أهل هذا الدين، هذا هو ما يظهرونه. ومعلوم أنهم يظهرون لأغلب الناس أنهم معهم، وأنهم ينطقون بلا إله إلا الله، محمد رسول الله، وأنهم قد يصلون معهم إذا اضطروا إلى ذلك، وأنهم يسمعونهم قراءة القرآن وما أشبه ذلك؛ فهم يخدعون كثيراً من الناس، مع أنهم في الحقيقة منافقون. ومعلوم أن المنافقين الذين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يغزون مع المسلمين، ويتصدقون مع المسلمين، ويصلون معهم في مسجدهم، ولكن كما قال الله: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14] ، فهذا معتقد الرافضة في هذه الأزمنة، كانوا قبل ثلاثين سنة أو نحوها أذلة، فلم يكونوا يظهرون شيئاً من معتقداتهم، ولكن نشطوا في الأزمنة المتأخرة فأظهروا شيئاً من معتقداتهم، والآن قد بنوا لهم مساجد خاصة يسمون الواحد حسينية، وصاروا يتعبدون فيها، وإذا دخل معهم أهل السنة يصلون فيها أخرجوهم وقالوا: هذا مسجدنا، ولا يخالطون المسلمين في مساجدهم، بل لا يعترفون بإمام من أهل السنة ولا يستبيحون أن يصلوا خلف واحد منا، ويعتقدون أن الصلاة لا تصح إلا خلف من هو معصوم، فأئمتنا وخطباؤنا وعلماؤنا عندهم لا تصح الصلاة خلفهم؛ لأنهم ليسوا من المعصومين، فهم يكفرون من ليس على طريقتهم، هذا مشهور عنهم وأمر ظاهر، ودليل ذلك أنهم حتى في غير بلادهم التي هي في الأصل الأحساء وفي القطيف، لكن الآن تمكنوا في أماكن كثيرة في الدمام وفي الخبر، بل وتمكنوا كذلك في الرياض وفي الحجاز ونحوها. فلا جرم في أنهم صاروا يداهنون أحياناً، ولكن الغالب أنهم يظهرون ما هم عليه، فتجدهم لا يصلون في مساجد المسلمين في تلك البلاد. على كل حال الفرق ظاهر، هذا من حيث الظاهر، أما الباطن فأمره أجل وأجل؛ وذلك لأنهم يعتقدون كفر أهل السنة، بل يتمنون أن يتمكنوا من كل سني فيقضون على حياته، وكذلك حقدهم على الصحابة وبغضهم لكل الصحابة ونيلهم منهم، وتمنيهم أن يتمكنوا من لعنهم وشتمهم علناً، وقد ذكر لنا بعض الإخوان أنهم في يوم عاشوراء هذه السنة أعلنوا بدعتهم، وصاروا يصفقون في الأسواق بشتم الصحابة وبلعن وسب أبي بكر وعمر، وأكثر الصحابة الذين خانوا في زعمهم، وأخذوا الولاية من صاحبها، أعلنوا ذلك في هذه السنة، وإن كانوا من قبل في السنوات الماضية يتسترون. فعلى هذا لا شك أن الفرق كبير بيننا وبينهم، وقد ذكرنا أن المسائل التي يُكفّرون بها ثلاث: أولاً: طعنهم في السنة، وذلك أنهم إذا طعنوا في الصحابة فالسنة كلها مكذوبة ولو كانت في الصحيحين، لأنهم هم الذين نقلوها لنا. ثانياً: طعنهم في القرآن، إذا كان الصحابة كفرةً فالقرآن الذي نقلوه لنا مطعونٌ فيه. ثالثاً: غلوهم في علي حتى جعلوه مع الله إلهاً يملك الضر والنفع، وصاروا يدعونه ويدعون أولاده ويعبدونهم من دون الله.

حكم توريث العلمانيين والحداثيين مع المسلمين

حكم توريث العلمانيين والحداثيين مع المسلمين Q هناك طوائف ظهرت في هذا الزمان ليست يهوداً ولا نصارى، ولكنهم علمانيون وحداثيون، فهل يورثون إذا توفي قريب لهم؟ A لا بد أن نبحث عن معتقدهم، وأن نتحقق من عملهم أنهم على معتقد مكفّر، فمثلاً عقيدة من يسمون بالبعثيين عقيدة سيئة تئول إلى الكفر، وهي التي يعتقدها ويعتنقها حاكم العراق وغيره، لاشك أنها مكفرة ولا نطيل في شرح معتقدهم. كذلك أيضاً العلمانيون عقيدتهم أن الدين اختياري، وأن الإنسان مخير له أن يختار ما يشاء، وما يقدر عليه من أمور الدين والدنيا، ولا حرج عليه إذا ترك عبادة وفريضة وركناً من أركان الإسلام ونحو ذلك، وأن الدين ليس له علاقة بالدنيا، فمثل هذا إذا كان يعتقد اعتقاداً جازماً وصرح بذلك حكم بكفره، ولن يرث من أهله المسلمين، أما إذا كان يتهم بذلك لمجرد عمل فقد لا يكون ذلك العمل صادراً عن عقيدة، وإنما هو عن تأويل، أو عن تساهل وتكاسل.

مدة صناعة الجيران الطعام لأهل الميت

مدة صناعة الجيران الطعام لأهل الميت Q قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً، فقد أتاهم ما يشغلهم) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، السؤال: كم عدد الأيام التي يصنع لأهل المصاب الطعام، حيث جرت العادة بثلاثة أيام، والبعض يرى يوماً، بل وقال آخرون: الحديث مطلق ولم يقيد عدد الأيام، فما رأي فضيلتكم؟ A ذكر الفقهاء أنه لا يتجاوز ثلاثة أيام؛ لأن الغالب أن الحزن يكون في هذه الأيام وأن أهل المصاب يبقى معهم الحزن والأسف على ميتهم وحر المصيبة ثلاثة أيام، وبعدها يتسلون ويخف أثر المصيبة، ففي هذه الثلاثة لا بأس أن يصنع لهم جيرانهم أو أصدقاؤهم طعاماً، حيث إنهم فيها مشغولون رجالاً ونساء عن الاهتمام بإصلاح الطعام، فلا مانع من ثلاثة أيام، أما بعدها فيتوقف.

حكم التسمية للوضوء داخل الحمامات

حكم التسمية للوضوء داخل الحمامات Q تكون المغسلة في بعض المنازل داخل الحمام -أكرمكم الله- فكيف تكون التسمية لمن أراد الوضوء؟ وهل تكون سراً، أرجو التوضيح جزاكم الله خيراً؟ A ورد في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) ومحل التسمية عندما يريد أن يغسل وجهه، يقول: باسم الله، لكن المعلوم أنه لا يجوز رفع الصوت باسم الله في ما يسمى بالمراحيض التي هي أماكن قضاء الحاجة، والتي هي أماكن النجاسات، فتنزه أسماء الله أن تذكر في تلك الأماكن المستقذرة، ولو كانت في هذه الأزمنة مبلطة ونظيفة، لكن لما كانت محلاً لإلقاء النجاسات نزّه اسم الله عن ذكره فيها. إذاً بعض المشايخ يقولون: يكتفي بالتسمية عند الدخول، عندما يريد أن يقدم رجله اليسرى داخلاً يقول: (باسم الله، أعوذ بالله من الخبث والخبائث، ومن الرجس النجس الشيطان الرجيم) كما ورد ذلك في بعض الأحاديث، فتكفيه هذه التسمية. وبعضهم يقول: لا تكفيه، ولكن يسمي بقلبه، إذا أراد أن يتمضمض ويستنشق ويغسل وجهه سمى، ولكن لا يجهر بل بقلبه أو سراً. وبعضهم يقول: بل إذا استنجى وستر عورته وابتدأ الوضوء، فإنه لا بأس أن يسمي؛ وذلك لأنه مأمور بأن يذكر اسم الله في هذه الحال، ولقول عائشة: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه) . والمختار أن يستنجي في محل قضاء الحاجة ثم يخرج إلى المغسلة خارجة ويكمل وضوءه ويسمي، هذا هو الأحسن.

حكم من أحيا أرضا دون إذن من الدولة

حكم من أحيا أرضاً دون إذن من الدولة Q لدي أرض وأحييتها بإجراء الماء فيها، وحفرت فيها بئراً وأخرجت منه الماء، فهل يكون لي فيها حق شرعاً، مع العلم أن إحياء الأراضي في هذا الوقت ممنوع وموقف من قبل الدولة، أرجو الإفادة عن هذا الأمر وفقكم الله؟ A من العلماء من اشترط إذن الإمام في الإحياء، فقال: إن الإحياء لا بد أن يكون مأذوناً فيه من الدولة أو من رئيس الدولة؛ وذلك سداً للنزاعات وردعاً عن الخصومات، فعلى هذا لا يحصل الإحياء إلا بإذن من الدولة، وهذا هو الذي اصطلحوا عليه في هذه الدولة. ومن العلماء من يقول: إنه يملكها بالإحياء مطلقاً، والدولة لا تمنع من ذلك إذا لم يكن هناك من ينازعه، ولم يكن فيها خصومة ولا حق لأحد يكون قد سبقه إليها؛ فإنه أحق بها؛ لعموم الأدلة (من أحيا أرضاً ميتة فهي له) .

صفة من يدفع الله بهم البلاء عن الأمة

صفة من يدفع الله بهم البلاء عن الأمة Q سمعت طلبة العلم يقولون: إن العلماء هم الذين عصموا الناس من الهلكة، أو كانوا سبباً لعصمة الناس من الهلكة، فهل هذا صحيح؟ A ليس بصحيح مطلقاً، بل الذين يدفع الله بهم العذاب هم العباد، وكذلك الضعفاء ونحوهم، ورد في حديث مرفوع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لولا شيوخ ركع وبهائم رتع وأطفال رضع، لصب البلاء عليكم صباً) ، فجعل من جملة الذين يدفع الله بهم البلاء: الشيوخ الركع، والمراد بالشيوخ: المسنون، يعني: كبار السن الذين اشتغلوا بالعبادة، وأجل العبادة الصلاة التي يركعون فيها ويسجدون، فهؤلاء يدفع الله بهم البلاء، فلو لم يكن الشيوخ الركع والأطفال الرضع والبهم الرتع لصب من فوقنا العذاب صباً. فنحن نقول: على المسلمين جميعاً أن يتقوا الله وأن يعبدوه وأن يخافوه وأن يشتغلوا بطاعته سبحانه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

شرح عمدة الأحكام [60]

شرح عمدة الأحكام [60] ركب الله تعالى في النوع الإنساني غريزة النكاح لتكون سبباً في التناسل وبقاء جنس الإنسان، ولكن هذه الغريزة قد تكون سبباً لاختلاط الأنساب وضياعها إن ترك لها العنان، فجاء الشرع الحكيم لينظم هذه الغريزة بعلاقة شرعية لها ضوابط وشروط تحقق حاجة الإنسان ومقصد الشرع من بقاء التناسل في بني آدم استمراراً للخلافة في الأرض.

مشروعية النكاح والحث عليه

مشروعية النكاح والحث عليه الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [كتاب النكاح: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء) . وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن نفراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر؟ فقال بعضهم: لا أتزوج النساء. وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش. فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فحمد الله وأثنى عليه، وقال: ما بال أقوام قالوا كذا وكذا؟ لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) . التبتل: ترك النكاح، ومنه قيل لمريم: البتول. ] . تتعلق هذه الأحاديث بالترغيب في النكاح وبأفضليته، وسبب ذلك معروف: أولاً: الله سبحانه وتعالى جعل في البشر شهوة وميلاً إلى هذا النكاح، وجعل ذلك سبباً لبقاء النوع البشري والجنس الإنساني، فجعل في الرجل شهوة تدفعه إلى المرأة، وجعل في المرأة أيضاً شهوة تدفعها إلى الرجل، وجعل بين الزوجين مودةً ورحمة، كما أخبر بذلك في قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21] . وكثيراً ما يخبر الله تعالى بأنه خلق الأزواج لنسكن إليها، فأول ما خلق الله حواء لآدم قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف:189] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء:1] ، خلق الله زوج آدم من ضلع من أضلاعه ليسكن إليها، فلما وجد منها الأولاد بعد ذلك صاروا يتوالدون فيما بينهم، ثم بعد أن حصلت منهم هذه الولادة حرم نكاح الأخ لأخته بعد أولاد آدم، وأصبح النكاح فيما بينهم مشروعاً، فهذه سنة الله تعالى. ولا شك -أيضاً- أن الزواج قد يكون ضرورياً وواجباً، وذكر العلماء أن الزواج قد تتعلق به أكثر الأحكام، فيجب تارةً، ويسن تارةً، ويكره تارة، ويحرم تارة، فيقولون: إذا كان الإنسان قوي الشهوة يخشى على نفسه أن يقع في الفاحشة ويقدر على مئونة النكاح فإنه يجب عليه، فإذا لم يفعل فإنه يأثم، وذلك لأنه ترك واجباً، ولأنه إذا لم يفعل فلا بد أن يقع منه الحرام الذي هو الزنا أو مقدمات الزنا، والشيء الذي يوقع في الحرام يجب أن يبتعد عنه. فمن خاف على نفسه الزنا وكان قادراً قلنا: واجب عليك أن تتزوج، أما من لم يخف على نفسه ولكن عنده قوة وشهوة، وهو مع ذلك يملك نفسه ويقدر على إقناعها فهذا مستحب في حقه، ولكن لا يصل إلى حد الوجوب. فالحديث الأول قوله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصيام؛ فإنه له وجاء) . فالنداء هنا للشباب، وخصهم لأنهم غالباً أقوى شهوة، ولأن غريزة الشهوة الجنسية فيهم تدفعهم إلى فعل الفاحشة أو إلى مقدماتها، ولأنهم أقل تجربة أو أقل معرفة أو أقل تأثراً، فلأجل ذلك يؤكد على الشباب يؤكد عليهم في الزواج المبكر ويرغبهم فيه. والشباب يكون ما بين العاشرة إلى الثلاثين سنة، أما ما قبل العاشرة فإنه صبي أو غلام، فإذا بلغ العاشرة سمي شاباً حتى سن الثلاثين، ثم من بعدها يصير كهلاً إلى الستين، ثم يبدأ بالشيخوخة بعد الستين. ومعلوم أن هذه السن التي بين البلوغ وبين الثلاثين سنة أن الشاب فيها عنده قوة الشهوة وقوة الغلمة والشبق الذي يكون غالباً يدفعه ويندفع به، فلأجل ذلك يؤكد عليه أن يتزوج في هذه السن حتى يحفظ نفسه. والباءة التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم هي مئونة النكاح، وليست الباءة الشهوة؛ لأنه لو لم يكن له شهوة لم يحتج إلى ما يهونها أو يخففها، بل الباءة هي مئونة النكاح، يعني: من استطاع منكم مئونة النكاح كالمهر والنفقة والسكنى والحاجات التي يتطلبها إذا كان متزوجاً وما أشبه ذلك. فهذه تسمى (باءة) من المباءة التي هي التبوء، يقال: تبوء منزلاً مباءة. وباء بكذا بمعنى: حصل عليه. بمعنى أن من قدر منكم على المهر وعلى التكلفة وعلى النفقة وعلى التأثيث وعلى السكنى فإن عليه أن لا يتأخر عن الزواج، سواء أكانت قدرته من نفسه أم من ولي أمره الذي يتولى أمره كأبيه أو وصيه أو نحو ذلك، فليبادر بالزواج.

فوائد النكاح

فوائد النكاح ثم ذكر فائدتين للنكاح: الأولى: غض البصر. والثانية: تحصين الفرج. وغض البصر يعني خفضه عن النظر إلى النساء، وذلك لأنه إذا كان متزوجاً فإنه في الأصل يقتصر على النكاح الحلال، يقتصر على زوجته ولا ينظر إلى غيرها، وأما إذا لم يكن كذلك فإنه في الغالب يهوى أن ينظر ويقلب نظره، ومعلوم أن تقليب النظر في النساء يورث الفتنه، فكم نظرة أورثت حسرة، فلأجل ذلك أمر الله بغض البصر، قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30] . فالزواج سبب في غض البصر، فالمرأة تغض بصرها فلا تنظر إلا إلى زوجها، والرجل يغض بصره لا ينظر إلا إلى زوجته، فيحصل بذلك مصلحة للطرفين، وأما مع عدمه فإن النظر قد يجره إلى ما وراءه، ولأجل ذلك ورد في الحديث: (النظرة سهم مسموم من سهام إبليس) ، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة فقال: (اصرف بصرك) يعني: إذا نظرت نظر فجأة من دون قصد فلا تتمادى بل اصرف بصرك، وقال في حديث آخر: (يا علي! لا تتبع النظرة النظرة؛ فإن لك الأولى وليست لك الآخرة) . وقد تكاثرت الأدلة في أن النظر يسبب الوقوع في الفاحشة أو في مقدماتها، كما قال بعضهم: نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء يعني أن أولها نظرة، ثم بعد النظرة تكون هناك ابتسامة بين الناظر والمنظور، أي: بين الرجل والمرأة، ثم بعد ذلك يأتي بسلام، ثم يعقب السلامَ كلامٌ، ثم بعد ذلك يكون هناك موعد يتفقان عليه، ثم يحصل اللقاء الذي لا تحمد عاقبته. ولا شك أن هذا مبدؤه من النظر، ولذلك يقول بعضهم: كل الحوادث مبدؤها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر فلا شك أن الكثير من الناس قد يطلقون أبصارهم وينظرون إلى النساء وإن كانوا متزوجين، ولكن لا يفكرون في العاقبة السيئة التي تورثها تلك النظرة، وذلك لأن الذي ينظر إلى النساء ويقلب أحداقه نحوهن ليس قادراً على أن يشبع نهمته، وليس قادراً أيضاً على أن يحصل على كل من نظر إليها من النساء، فإذاً الأولى أن يغض بصره كما أمره الله بقوله: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] . وقد قال بعضهم: وكنت متى أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً عذبتك المناظر رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر فهل تقدر على أن تتصل بكل من رأيتها من النساء، إذا رأيت هذه فأعجبتك ثم هذه ثم هذه فرأيت عشراً أو عشرين هل تستطيع أن تأتيهن كلهن وأن تتحصل عليهن كلهن بالطريق الحرام؟! لا تستطيع، إذاً فما عليك إلا أن تغض بصرك وأن لا تنظر إلا إلى ما أباح الله لك. فقوله عليه الصلاة السلام: (فإنه أغض للبصر) فيه الحث على غض البصر. الفائدة الثانية: تحصين الفرج، ومعناه: حفظه عن فعل الفاحشة التي هي الزنا ونحوه. فقوله صلى الله عليه وسلم: (وأحصن للفرج) فيه حث أيضاً على حفظ الفرج عن الحرام. التحصين أصله: الحفظ، ومنه قوله تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [التحريم:12] يعني: حفظته. ومنه سميت المحصنات في قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:24] وقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة:5] أي: المحصنات اللاتي أحصن أنفسهن وحفظن فروجهن. فلا شك أن الإنسان المؤمن إذا رزقه الله امرأة حلالاً اقتصر عليها وحفظ فرجه ولم يتعد إلى غيرها وكان معه إيمان يمنعه، أما إذا كان ضعيف الإيمان فإنه قد لا يقنع بما أباح الله له، ويشاهد في هذه الأزمنة كثير من الناس -والعياذ بالله- يكون عند أحدهم زوجة حلال ولكنه لا يقنع بزوجته، فتراه يذهب إلى الأسواق ومجتمعات النساء ويعاكس هذه ويغازل هذه ويتكلم مع تلك. وتراه أيضاً يتصل هاتفياً بفلانة وبابنة فلان ويعقد معها موعداً، يتصل بها اتصالاً محرماً والعياذ بالله، فلم يقنع بما أباحه الله له لأنه لم يكن معه حاجز إيماني، لم يكن معه تحصين إيماني، فالتحصين الإيماني هو الذي يحفظ الإنسان ويمنعه من اقتراف الحرام، لكن إذا كان شاباً ولم يكن معه زوجة فقد يكون عذره أخف إذا أطلق بصره أو نظره وإن كان ملوماً، لكن إذا رزقه الله إيماناً ورزقه نكاحاً حلالاً حصن فرجه وحفظه ولم يطلق بصره إلى ما حرم الله عليه. فهذا بلا شك دليل على أنه صلى الله عليه وسلم رفيق بأمته، فلما علم أن الشباب هم أقوى شهوة وميلاً إلى النكاح حثهم عليه ورغبهم فيه، ونحن كذلك نحث شباب المسلمين على أن يبادروا بالزواج وأن لا يؤخروه، نحثهم كما حثهم النبي صلى الله عليه وسلم، ونقول لهم: تزوجوا بحسب قدرتكم. ونقول أيضاً للأولياء: لا تحبسوا النساء ولا تؤخروهن، فإذا بلغن النكاح وأتاكم من هو كفءٌ كريم فلا تردوه فتحصل المفسدة، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض) ، فهو عليه الصلاة والسلام حذر من رده إذا كان كفئاً مخافة أن تتعطل النساء إذا رد هذا الكفء، وكذلك يتعطل هذا الكفء، ويتعطل الشباب إذا رد هؤلاء وأولئك، فتحصل مفسدة عظيمة وهي انتشار الفاحشة أو مقدمات الفاحشة.

أعذار الشباب والفتيات في التأخر عن الزواج بين القبول والرد

أعذار الشباب والفتيات في التأخر عن الزواج بين القبول والرد في هذه الأزمنة يكثر تعلل كثير من الشباب إذا عذلهم عاذل عن التأخر في الزواج، فمنهم من يعتذر بالحاجة وبالفقر، وأنه لا يجد مئونة، وهو معذور بقوله: (من استطاع منكم الباءة) ، ولكن نقول له: ابذل السبب وتزوج، والله تعالى يرزق من يشاء بغير حساب، قال الله تعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32] أي: لا تردوه وتقولوا: هذا فقير. أو: ابن فقير أو ليس له وظيفة. أو: ليس له عمل. أو: ليس عنده تجارة أو نحو ذلك. بل ثقوا بأن الله تعالى سيرزقه وسيوسع عليه كما وعد بذلك، وهو سبحانه لا يخلف الميعاد. وقد شاهدنا كثيراً كانوا فقراء، ولما تزوجوا ورزقوا أولاداً جاءهم الرزق من كل جهة، يسر الله لهم أسبابه، وحصل لهم الرزق الذي يقوم بكفايتهم، وقد نهى الله تعالى عن قتل الأولاد خشية الفقر، فقال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء:31] ، فتكفل برزق الأولاد وبرزق الآباء، وهو لا يخلف ما وعده سبحانه، ولكن على الإنسان أن يبذل السبب. وكذلك الذين يؤخرون الزواج بسبب الحصول على مؤهل كما يقولون، ويقولون: إن الزواج قد يمنع من مواصلة الدراسة أو نحو ذلك فالجواب أن هذا ليس بصحيح، بل في إمكانه أن يدرس ويواصل الدراسة ولو كان متزوجاً، وإذا احتاج مثلاً فله أن يعمل، فإن ذلك أيضاً يخفف عنه مئونة النكاح ونحوه. وكذلك أيضاً لو تزوج وليس له وظيفة، فالله تعالى ييسر له أسباب الرزق، وهذا بالنسبة إلى الشباب والأزواج. أما بالنسبة إلى أولياء النساء فلا شك أن كثيراً من النساء الشابات تمتنع من الزواج بسبب الدراسة كما تزعم، وتدعي أنها إذا تزوجت حرمت من مواصلة الدراسة، وتعد ذلك فضيلة لها وشرفاً، فتترك الزواج من الأكفياء الكرام الذين يتقدمون لها ولا تقبلهم، وتقبل على دراستها، وبعد ما تنتهي من الدراسة لا يتقدم لها من هو كفء كريم، وقد تطعن في السن فتبقى محبوسة في دارها لا يأتيها من ترغب فيه ونحو ذلك. فنقول: لا شك أن هذا خطأ، وأن الأولى بالولي أن يزوج موليته، وأن يمنعها من الدراسة التي تكون سبباً في عنوستها وتأخر زواجها التأخر الكثير. كذلك أيضاً قد يكون الذي يمنع من النكاح للرجل أو للولي هو المهر؛ لأن كثيراً من الآباء يشترطون مهوراً زائدة، ويكلفون الأزواج شيئاً قد لا يطيقونه، وهذا أيضاً خطأ، فعلى الأولياء أن لا يكلفوا الأزواج ما لا يطيقونه، وأن يقتصروا على ما يسر الله، وأن يقنعوا بالشيء الذي يكون مسمى في النكاح كما سيأتي، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (خير النساء أيسرهن مئونة) يعني: أيسرهن تكلفه. فرغب في أن لا يتكلف الإنسان في النكاح، وروي أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم جاءه رجل وقد تزوج فطلب منه الإعانة فقال: (على كم تزوجت؟ فقال: باثني عشر أوقية. فأنكر عليه وقال: كأنما تنحتون الفضة من هذا الجبل! ليس عندي ما أعينك به) واثنا عشر أوقية شيء قليل، قد تساوي -مثلاً- خمسمائة درهم أو نحوها، فهذا شيء يسير. وثبت أيضاً أن امرأة تزوجت على نعلين، دفع لها زوجها نعلين فرضيت بذلك، وقيل لها: رضيت من نفسكِ بنعلين؟ فقالت: نعم. وثبت أيضاً أنه عليه الصلاة والسلام قال لرجل لما خطب امرأة: (التمس ولو خاتماً من حديد) يعني: لو وجده لجعله مهراً لتلك المرأة. ولما لم يكن عنده شيء قال: هذا إزاري. لم يكن عنده إلا إزار قد شد به على عورته، وأراد أن تجعله مهراً، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل ذلك منه وقال: (ما تصنع بإزارك إن لبسته أنت لم يكن عليها شيء، وإن لبسته هي لم يكن منه عليك شيء) ، وأمره بأن يعلمها آيات من القرآن ليكون ذلك صداقاً لها. أليس ذلك كله حثاً على أن الإنسان يخفف المهر حتى لا يكلف غيره ولا يقتدي به غيره، وأن الأولياء عليهم أن يخففوا ذلك حتى ييسروا على الشباب، وييسروا على الشابات ولا يصيروا سبباً في حبس بعضهم عن بعض، ويكونوا سبباً في وقوع ما يحصل من المفاسد.

ما تندفع به الشهوة لغير القادر على الزواج

ما تندفع به الشهوة لغير القادر على الزواج وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء) حث صلى الله عليه وسلم على ما يخفف الشهوة، فأمره بأن يصوم حتى يكون الصوم مخففاً للشهوة، والوجاء في الأصل: هو قطع عروق الخصيتين حتى تخف الشهوة. فكانوا إذا أرادوا أن يخففوا من الكبش حتى لا ينزو على الضأن ونحوها قطعوا عروق خصيتيه حتى تبرد شهوته أو تقل، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الصوم كأنه وجاء وخصاء، وهو قطع عروق الخصيتين من الكبش أو التيس ونحوه، أي أن الصوم يخفف الشهوة كما أن الوجاء يخفف الشهوة. وقد ذكر لنا كثير من الشباب أنهم يكثرون الصوم ومع ذلك لم يجدوا خفة في الشهوة، بل الشهوة لا تزال عندهم قوية، والغلمة والشبق دافع قوي، ويقول أحدهم: إنه يضطر إلى الاستمناء -وهو عمل العادة السرية- حتى لا تدفعه الشهوة إلى فعل جريمة الزنا أو نحوها، ويقول: ما وجدت للصيام أثراً لتخفيف الشهوة. نقول: سبب ذلك أولاً: قوة الشهوة في بعض الشباب، حيث تكون الشهوة عندهم قوية جداً. ثانياً: أن هناك مقويات لها، فلا شك أن كثرة المآكل وتنوع الأطعمة وكثرة اللحوم وأكل الفواكه وما أشبهها مما يقوي الشهوة، وكان الصوم في القديم مختلفاً عن وقتنا، كان الصائم إنما يجد العلقة من الطعام، فيأكل في وقت السحر لقيمات أو تمرات قليلة، ثم هو في وسط النهار يشتغل إما في حرفته أو مع غنمه أو نحو ذلك، ثم إذا جاء الإفطار لم يجد إلا تمرات أو ماءً أو نحو ذلك، وعند العشاء إنما يأكل رغيفاً أو نصف رغيف فيكون هذا الجوع هو الذي يكسر حدة الشهوة. فنقول: الذي يريد أن تنكسر حدة الشهوة عليه أن يقلل من الأكل عند الإفطار وفي السحور وفي الليل، وأن يتجنب المشتهيات وكثرة الفواكه واللحوم المتنوعة وأنواع المأكولات الشهية، فإنها لاشك تقوي هذه الشهوة وتمكنها، فلا يخففها الصيام الذي لا يحصل معه هذا الجوع ولا هذا التعب ولا هذه المشقه. وعلى كل حال فهو إرشاد من النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما يخفف الشهوة، إلى أن يتمكن الإنسان من النكاح الذي يعف به نفسه، فعلينا أن نحرص على أن نعف شبابنا وفتياتنا، وأن نجمع بينهم بالأسباب التي تكون ميسرة، وأن نحرص على ذلك حتى لا تحصل هذه الجريمة التي هي فاحشة الزنا، وحتى يجد الشباب ما يعفون به أنفسهم ويسلمون من العادة السرية أو نحوها، وحتى يحصل ما أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إليه بقوله: (فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة) أي: من أجل تكثير النسل في الأمة التي هي أمة المسلمين، الذين يباهي بهم النبي صلى الله عليه وسلم الأمم يوم القيامة.

فضل النكاح وأهميته

فضل النكاح وأهميته [عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن نفراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر، فقال بعضهم: لا أتزوج النساء. وقال بعضهم: لا آكل اللحم. وقال بعضهم: لا أنام على فراش. فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فحمد الله وأثنى عليه وقال: ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) . وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل، ولوا أذن له لاختصينا) .

حكم الزهد في النكاح وغيره من الطيبات

حكم الزهد في النكاح وغيره من الطيبات هذان الحديثان في مناسبة فضل النكاح الذي هو من سنن المرسلين، وقد تضمن الحديث الأول أن هؤلاء الثلاثة من زهاد الصحابة أتوا إلى بيوت النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته في السر، أي: عن صلاته وعن صيامه وعن ذكره وعن قراءته وعن أدعيته وعن أعماله. فكأنهم تقالوا تلك العبادة، وقالوا: أين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ونحن بحاجة إلى أن نعمل أكثر منه؟! فلأجل ذلك التزموا بهذه الأعمال. التزموا بأعمال يريدون بها الأجر والثواب وكثرة الجزاء عليها، فالتزم أحدهم بأن يصوم أبداً ولا يفطر، وهذا بغير شك فيه كلفة ومشقة على نفسه، والتزم الثاني بأن يقوم الليل كله ولا ينام ولا يضطجع طوال الليل، بل يبيت مصلياً، والتزم الثالث بأن لا يتزوج النساء، بأن يعف عن النساء زهداً وتقشفاً. وفي بعض الروايات أن بعضهم قال: (لا آكل اللحم) تقشفاً وزهداً في الدنيا وتركاً لملذاتها، وبعضهم حرم على نفسه أن لا ينام على فراش، وهذا من باب البعد عن الملذات وعن الشهوات ونحوها. ولا شك أن قصد أولئك النفر الثلاثة من الصحابة رضي الله عنهم هو كثرة الأجر وزيادة الثواب، فالذي التزم أن يصوم أبداً رأى أن الصيام دائماً عمل صالح مبرور، فأراد أن يحظى بأجر هذا الصيام المستمر، ولكن بين النبي صلى الله عليه وسلم أن في ذلك مشقة على النفس، وأن فيه تحريماً للمباحات ونحوها، وكذلك الذي التزم أن لا ينام بل يصلي الليل كله، أو إذا نام لا ينام على فراش لاشك أنه قد يشق على نفسه وقد يتعبها ويكلفها ما لا تطيق، فلأجل ذلك أرشده النبي صلى الله عليه وسلم وأرشد غيره إلى أن هذا فيه تكليف للنفس وإضرار بها ومشقة شديدة عليها. وكذلك الذي حرم اللحم على نفسه أو الخبز وغيرهما من الأطعمة المباحة التي جعلها الله قوتاً ضرورياً للمسلمين، بل لجنس بني آدم، لاشك أن تحريمه تحريم للطيبات التي قال الله فيها: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة:4] ، فإذا كان الله قد أحل الطيبات ومن جملتها اللحوم، وأخبر بأنه لم يحرم الزينة ولم يحرم الطيبات فقال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف:32] أي: الطيبات التي أنزلها والتي أباحها لعباده. فمن حرم الطيبات من الأرزاق ومن المآكل والمشارب ونحوها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين أنهم قد حرموا ما أحل الله. وكذلك الذي حرم على نفسه النكاح أن لا يتزوج، فلا شك أنه إذا ترك الزواج من باب التقشف ومن باب الزهد فإنه يكون قد كلف نفسه، وما ذاك إلا أن الله تعالى ركب في جنس الإنسان هذه الشهوة التي تدفعهم إلى النكاح، وجعل ذلك سبباً لوجود جنس الإنسان وبقاء هذا النوع البشري، فالذي يمتنع من النكاح لا شك أنه يكلف نفسه ويشق عليها، حيث قد تتكلف النفس بالتصبر على رد هذه الشهوة الجنسية التي فطر الناس عليها، إذاً فتحريم النكاح وتحريم التزوج بالنساء لا شك أنه إضرار بالنفس، وكذلك مخالفة لشريعة الله سبحانه ولما أباحه. وهناك بعض الأدلة على فضل النكاح، وكذلك أيضاً الأوامر والأدلة عليه، كقوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:3] ، وقوله: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور:32] وقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:24] ، وقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ} [المائدة:5] وقوله تعالى: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [النساء:25] ، ونحو ذلك، كل ذلك دليل على أن الله تعالى أباح هذا الأمر وجعله فطرة وجعله من الدوافع إلى بقاء هذا الجنس البشري. هؤلاء الثلاثة الذين حرموا هذه الأشياء لما سمع عنهم النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس وقال: (ما بال أقوام يقولون كذا وكذا. ثم قال: لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني) . وعيد شديد (من رغب عن سنتي) أي: من زهد عن سنته عليه الصلاة والسلام. ولا شك أن هذه الأشياء المذكورة في الحديث من سنته، من سنته أنه لا يحب أن يشق على النفس، ومن سنته مشروعية النكاح والزواج وإباحته، ومن سنته إباحة الطيبات من المآكل والمشارب، ومن جملتها اللحوم والخبز والفواكه ونحوها، ومن سنته استحباب النكاح ليعف الإنسان نفسه عن التطلع إلى الحرام ونحوه، ومن سنته أن الإنسان يصوم بحسب ما يستطيعه ولا يكلف نفسه فوق طاقتها، وأن يقوم من الليل بحسب ما يقدر عليه، ولا يكلف نفسه فوق طاقتها.

مآل التشديد على النفس بالعبادة

مآل التشديد على النفس بالعبادة وقد ثبت -أيضاً- في الصحيح قصة أخرى قصة عبد الله بن عمرو بن العاص، وكان في شبابه عابداً مجتهداً في العبادة، حتى كان يختم القرآن في كل ليلة، ويصوم النهار كله ولا يفطر، فلما زوجه أبوه مكث مدة وهو يسأل امرأته يقول: (ما فعل؟ فتقول: نعم الرجل من رجل لم يطأ لنا فراشاً ولم يفتش لنا كنفاً) أي أنه لم يطأها ولم يجامعها ولم يجلس معها ولم ينم معها. وذلك كله بسبب اشتغاله بالعبادة اشتغاله بالصيام والقيام والاجتهاد في الطاعة حرصاً منه على أن يكون من السابقين في العبادة، ولكن استدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (كيف تصوم؟ فقال: كل يوم. فقال: إنك لا تطيق، فصم من الشهر ثلاثة أيام وذلك يكفيك؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها، وذلك كصيام الدهر. فقال: إني أطيق أفضل من ذلك -يقول عبد الله: شددت فشدد عليّ- فقال: صم يوماً وأفطر يومين. فقال: إني أطيق أفضل من ذلك. فقال: صم يوماً وأفطر يوماً، وذلك صيام داود. يقول عبد الله: فقلت: إني أطيق أفضل من ذلك. فقال: لا أفضل من ذلك) يقول بعد أن كبر: تمنيت أني قبلت رخصة النبي صلى الله عليه وسلم في صيام ثلاثة أيام، وذلك لأنه بعد ما كبر أحس بالمشقة عليه. كذلك في القيام أرشده إلى أن يختم كل سبعة أيام، يقرأ سبع القرآن في ليلة، ويختم كل سبعة أيام ولا يزيد، وأن يجعل لأهله حقاً فقال: (إن لنفسك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لربك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه) فقبل ذلك، وعند ذلك خفف على نفسه. وعلى كل حال فهذا دليل على أنه لا يجوز للإنسان أن يشدد على نفسه بالعبادة، ولا أن يشدد على نفسه بترك الزينة أو ترك الشهوات المباحة، ومن جملة الشهوات المباحة النكاح الذي أباحه الله، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم رغب في النكاح وغيره من المباحات، ونهى عن التشدد فيها.

نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التبتل

نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التبتل أما قصة عثمان بن مظعون فـ عثمان رضي الله عنه توفي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من المهاجرين ومن العباد ومن الزهاد، فهو لما هاجر شدد على نفسه وكلفها، واعتزل امرأته وكانت له امرأة جميلة، فبقيت معه مدة طويلة لا يسأل عنها ولا يشتغل إلا بالعبادة، فلما رآها النساء وهي متبذلة غير متجملة لباسها خشن وشعرها شعث سألنها فأخبرتهم بأن زوجها لا حاجة له في النساء، وأنه يريد أن يتبتل، أي: ينقطع إلى العبادة ويترك الشهوات ويترك النساء والتلذذ بهن، وعزم على ذلك. لما سمع بذلك النبي صلى الله عليه وسلم نهاه عن ذلك ورده عليه، وقال: (لا يحل لك؛ فإن امرأتك لها حق عليك، ونفسك لها حق عليك) ، فليس لك أن تحرم نفسك شهوتها ولذتها، ولا أن تحرم نفسك ما ينتج عن هذا النكاح من إعفاف امرأتك، وكذلك من ذرية صالحة يكونون بعدك يذكرونك بذكر حسن ونحو ذلك. فعند ذلك رجع إلى امرأته، ولما رجع إليها رجعت إلى جمالها وإلى زينتها، وقد كان بعض من الصحابة أرادوا أن يتبتلوا كما تبتل عثمان، ولو أذن النبي عليه الصلاة والسلام لـ عثمان بن مظعون بالتبتل لكثر المتبتلون من الصحابة، فعلموا -أيضاً- أنهم لا يمكن أن يتركوا الشهوة الجنسية التي هي غريزة في الإنسان إلا إذا قطعوا الجهاز التناسلي الذي هو السبب في هذه الشهوة، وهو معنى قوله: (ولو أذن له لاختصينا) أي: لتبتلنا. ولا يكون التبتل إلا بالاختصاء، أي: قطع الخصيتين أو قطع عروقهما، وهو الوجاء كما تقدم. وقد روي أيضاً أن جملة من الصحابة منهم: عثمان بن مظعون وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود وغيرهم أرادوا أن يتبتلوا وأن ينقطعوا عن الدنيا، وهموا بالاختصاء، وهموا بأن يحرموا طيبات الدنيا وملذاتها وشهواتها على أنفسهم، وأن ينقطعوا للعبادة وأن يعزموا عليها، فنزل فيهم قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة:87] فعند ذلك رجعوا إلى ما أحل الله لهم، وتمتعوا بالطيبات، ولم تشغلهم تلك الطيبات وتلك المباحات عن العبادة، بل جمعوا بين اللذات المباحة وجمعوا بين العبادة وقاموا بها خير قيام. وهكذا حال أتباعهم إلى هذا الزمان، يستطيع المسلم أن يجمع بين العبادة التي كلف بها سواء كانت فرضاً أو نفلاً، ويتناول أيضاً ما أبيح له من الشهوات المباحة ومتع هذه الحياة.

حكم نكاح أخت الزوجة والربيبة وابنة الأخ من الرضاعة

حكم نكاح أخت الزوجة والربيبة وابنة الأخ من الرضاعة قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه. [عن أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنهما أنها قالت: (يا رسول الله! انكح أختي ابنة أبي سفيان. فقال: أوتحبين ذلك؟ فقلت: نعم. لست لك بمخلية، وأحب من شاركني في خير أختي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ذلك لا يحل لي. قالت: فإنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة. قال: بنت أم سلمة؟! قلت: نعم. قال: إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي؛ إنها لابنة أخي من الرضاعة، أرضعتني وأبا سلمة ثويبة، فلا تعرضن عليّ بناتكن ولا أخواتكن) . قال عروة: (وثويبة مولاة أبي لهب، كان أبو لهب أعتقها فأرضعت النبي صلى الله عليه وسلم، فلما مات أبو لهب أريه بعض أهله بشر حيبة، فقال له: ماذا لقيت؟ قال أبو لهب: لم ألق بعدكم خيراً، غير أني سقيت من هذه بعتاقتي ثويبة) . الحيبة -بكسر الحاء المهملة-: الحال. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يجمع الرجل بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها) ] . أم حبيبة هي إحدى أمهات المؤمنين بنت أبي سفيان أخت معاوية، كانت من المسلمين الأولين، هاجرت مع المهاجرين إلى الحبشة، وتوفي زوجها هناك وبقيت في الحبشة، فرغب النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها حتى تكون من أمهات المؤمنين، مع أن أباها كان في ذلك الوقت من المحاربين للإسلام، ولكن أراد تثبيتها، وأراد تسليتها فتزوجها، فأرسل من يخطبها له، أرسل عمرو بن أمية الضمري، فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم، وأصدقها عنه النجاشي ملك الحبشة أربعمائة دينار، وجاء بها عمرو بن أمية من الحبشة إلى المدينة، حيث لم يكن لها محرم بعد موت زوجها في ذلك الوقت؛ لأن أهلها لم يسلموا ولم يهتموا بأمرها، فاضطر إلى أن يرسل إليها من يأتي بها، فأصبحت من أمهات المؤمنين. ولما كان الصلح بين المسلمين وبين أهل مكة، ونقض أهل مكة الصلح بقتالهم مع بني بكر لخزاعة، وخافوا أن يكون ذلك نقضاً للعهد والصلح في الحديبية جاء أبو سفيان إلى المدينة، وأراد أن يجدد الصلح ويزيد في المدة، فدخل على ابنته التي هي أم حبيبة، ولما دخل عليها طوت فراش النبي صلى الله عليه وسلم وأجلسته على الأرض، فقال: يا بنية هل رغبت بي عن هذا الفراش، أو رغبت به عني؟ أي: هل أنتِ قد نزهتيني عن هذا الفراش؛ لأنه لا يناسب، أو نزهتيه عني؟ فقالت: (هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت مشرك، فلا أجلسك عليه) فقال: لقد أصابك يا بنية بعدي شر. ولكن هداه الله بعد ذلك وأسلم في سنة الفتح، ولما أسلم كان لها أخت أيضاً لم تتزوج. ففي هذا الحديث أنها عرضت عليه أختها وقالت: ألا تتزوج أختي؟ أي: تتزوجها معي. فسألها: لماذا ترغبين أن أتزوج أختكِ؟ فقالت: (إني لست لك بمخلية وأحب من شاركني في خير أختي) تقول: أنا لم أكن وحدي معك، بل معي شريكات، فهناك زوجاتك قد شاركنني فيك، ويمكن أن يوجد أيضاً زوجات أخرى يشاركنني، فلست بمنفردة بك ولست بمخلية لك، ولست بمخلىً لي، بل لابد من شركاء، فإذا كان لابد هناك من يشاركني فأحب من يشاركني في هذا الخير هي أختي. هكذا اعتذرت، فأخبرها النبي صلى الله عليه وسلم بأن ذلك لا يحل، كما أن الله حرم الجمع بين الأختين على المؤمنين، فكذلك حرمه على النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى في آية المحرمات: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء:23] . فلما ذكرت أختها وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يحل له الجمع بين الأختين كما لا يحل لغيره ذكرت أمراً أعجب، وقالت: (فإنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة. وأبو سلمة هو من المهاجرين أيضاً، هاجر إلى الحبشة ثم رجع إلى المدينة وتوفي بالمدينة، ولما توفي كان له أطفال، وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم أمهم أم سلمة، وبنته زينب بنت أبي سلمة وأولاد غيرها تربت معهم في حجر النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة أبيهم، فـ زينب بنت أبي سلمة ربيبة للنبي صلى الله عليه وسلم بنت زوجته وربيبته وفي حجره، فتقول أم حبيبة: (إنك تريد أن تنكحها) فتعجب من ذلك، وأخبر بأنه لا يحل له، حتى ولو لم تكن ربيبة له ولو لم تكن في حجره ولو لم تكن بنت زوجته، فإن هناك مانعاً آخر وهو الرضاعة، يقول: (إنها ابنة أخي من الرضاعة) . فـ أبو سلمة كان قد أرضعته ثويبة وهي جارية لـ أبي لهب يقول: (أرضعتني وأبا سلمة ثويبة) . فإذا كانت قد أرضعت أبا سلمة وأرضعت النبي صلى الله عليه وسلم فقد أصبحا أخوين؛ لأنهما رضعا من امرأة واحدة، وإن لم تكن والدة أحدهما بل امرأة أخرى، فأفاد أن الاثنين إذا ارتضعا من لبن امرأة أجنبية صارا أخوين وصارت المرضعة أماً لهما من الرضاعة، فهذه ثويبة كانت مملوكة لـ أبي لهب، ولما ولد النبي صلى الله عليه وسلم جاءت وبشرته بأنه ولد لأخيك ولد، فأعتقها بهذه البشارة، ولما أعتقها صارت حاضنة للنبي صلى الله عليه وسلم، وصارت مربية له، وأرضعته في سن الرضاعة، وأرضعت معه أيضاً أبا سلمة، وهي من الجواري اللاتي أسلمن في أول الأمر. وفي هذه القصة أن أبا لهب لما مات رآه بعض أهله بعد موته رأوه في شر حِيبة، أي: في شر حالة، فسألوه، فقال: لم ألق بعدكم خيراً، إلا أني سقيت من هذه بعتاقي لـ ثويبة) وأشار إلى النقرة التي بين الأصبعين فقال: (سقيت من هذه بعتاقي لـ ثويبة؛ لأن الله تعالى ذكر أنه من أهل النار بقوله: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد:3] . والحاصل أنه صلى الله عليه وسلم قال لـ أم حبيبة: (لا تعرضن عليّ بناتكن ولا أخواتكن) ؛ فإنهن لا يحل له نكاحهن، فلا تعرضي يا أم حبيبة أختكِ عليّ لكون الجمع بين الأختين محرماً، ولا تعرضي يا أم سلمة ابنتك -مع أن أم سلمة لم تعرض ذلك- فإنها لا تحل لي لكونها ربيبتي وبنت أخي -أيضاً- من الرضاعة، وبهذا يعرف أن المحرمات علينا محرمات على النبي صلى الله عليه وسلم، والمباح لأمته مباح له، ولأجل ذلك قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} [الأحزاب:50] ، ثم ذكر منهن فقال: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} [الأحزاب:50] ، فهؤلاء يحل نكاحهن له وكذا لغيره، يحل لك نكاح بنت عمك وبنت عمتك، وبنت خالك وبنت خالتك، فكذلك تحل للنبي صلى الله عليه وسلم، كما تحل لك زوجة أخيك بعد طلاقه وزوجة عمك وزوجة خالك بعد طلاقه لها. وفي حديث أم حبيبة دليل على أن الرضاع يصير سبباً في التحريم، وأن الجمع بين الأختين لا يجوز.

حكم الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها

حكم الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها في الحديث الآخر يقول صلى الله عليه وسلم: (لا يجمع الرجل بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها) ، فأفاد بأنه لا يجوز أن يجمع الرجل بينهما، الله تعالى نهى عن الجمع بين الأختين، والنبي صلى الله عليه وسلم أضاف إلى ذلك النهي عن الجمع بين المحارم، بحيث لو كانت إحداهما تحته لم يحل له نكاح الثانية، فلا يجوز أن يجمع بين المرأة وبنت أخيها، إذا كانت عندك امرأة لا يحل لك أن تنكح عمتها، ولا أن تنكح خالتها حتى تطلق زوجتك، ولا أن تنكح بنت أخيها، ولا بنت أختها، ما دامت زوجتك عندك يحرم عليك هؤلاء الأربع. أما اللاتي يحرمن عليك من أقاربها ويصرن محرماً لك فهن بنتها وأمها، إذا تزوجت امرأة فإن أمها تصير محرماً لك دائماً، وبنتها بالدخول تصير محرماً لك دائماً، وأختها محرمة عليك ما دمت متزوجاً لأختها، وعمتها كذلك محرمة عليك ما دامت بنت أخيها في عصمتك، وخالتها محرمة عليك ما دامت بنت أختها في عصمتك، وكذلك بنت أخيها وبنت أختها، فهؤلاء قريبات زوجتك سبع: أمها حرام عليك أبداً وبنتها كذلك بعد الدخول، أما عمتها وخالتها وبنت أخيها وبنت أختها فهؤلاء يحل لك نكاحهن بعد فراق زوجتك، وأما معها فلا، وأختها نص الله عليها، وعمتها وخالتها وبنت أخيها وبنت أختها نص عليهن النبي صلى الله عليه وسلم، فأصبح قريبات زوجتك الخمس تحريمهن تحريماً مؤقتاً، أما بنتها وأمها فتحريمهما مؤبد.

الحكمة من تحريم الجمع بين الأختين والمرأة وعمتها وخالتها

الحكمة من تحريم الجمع بين الأختين والمرأة وعمتها وخالتها الحكمة في ذلك ما ورد في بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم) ، وسبب ذلك معلوم أن الضرتين يصير بينهما منافسة، إذا كان للرجل زوجتان فالغالب أنه يقع بينهما منافسة، كل واحدة قد تحسد الثانية، وقد تضارها، وقد تفتخر عليها ونحو ذلك حتى تسوءها، وذلك لأنها شريكتها في هذا الرجل، فلأجل ذلك سميتا ضرتين. فإذا كانت الأختان تحت رجل واحد فلابد أن يقع بينهما شيء من هذه المنافسة وشيء من هذا الحسد، فتحصل بذلك قطيعة الرحم، والله تعالى قد رتب على قطيعة الرحم وعيداً شديداً حيث قال: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22-23] . فلأجل ذلك نقول: إن الحكمة في النهي عن الجمع بين هذه المحارم كونه سبباً لقطيعة الرحم، فالأم والبنت تحريمهما مؤبد، ومعلوم أنه لا يتصور الجمع بين المرأة وأمها أو بنتها، والأخت تحريمها مؤقت منصوص عليه في القرآن، ومعلوم أيضاً أنه سبب للتقاطع بين الأختين، وكذلك إذا تزوج امرأة وعمتها فإنه سيحصل بينها وبين عمتها منافسة، كذلك إذا تزوج امرأة ثم تزوج عليها بنت أخيها، حصل أيضاً بينهما منافسة؛ لأن هذه تقول: هذه بنت أخي، وهذه تقول: هذه عمتي. فكيف يحصل الوئام والوداد وهما ضرتان تحت رجل واحد؟ لاشك أن هذا سبب للمنافسة وسبب لقطيعة الرحم. وكذلك إذا تزوج عليها خالتها أو بنت أختها فإنه سيحصل بينهما أيضاً هذه الإثم الذي هو التقاطع، والإسلام جاء بالمودة، وجاء بالمحبة، وجاء بالصلة، ونهى عن كل شيء فيه تقاطع، فهذا هو السبب، فهذا الحكم يختص بالمحارم.

حكم الجمع بين المرأة وابنتها وأختها أو عمتها أو خالتها من الرضاعة

حكم الجمع بين المرأة وابنتها وأختها أو عمتها أو خالتها من الرضاعة ثم إن العلماء ألحقوا بذلك القرابة من الرضاع؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) ، فهذه المحرمية من النسب لا شك أن لها تأثيراً، فكذلك يلحق بها المحرمية من الرضاع، فلا يجوز أن يجمع بين المرأة وبنتها من الرضاع، أو أمها من الرضاع، أو أختها من الرضاع، حتى وإن لم يكونا بنتي امرأة واحدة، إذا كان هناك ابنتان إحداهما رضعت من امرأة والثانية رضعت من تلك أيضاً وكلتاهما متباعدتان فإنه لا يحل لك أن تجمع بينهما لكونهما اختين من الرضاع، وكذلك المرأة وعمتها من الرضاع، إذا كانت مثلاً أخت أبيها من الرضاع لم تحل لك أن تنكحها مع زوجتك، وكذلك بنت أخيها من الرضاع، وكذلك خالتها، أو بنت أختها من الرضاع، كل هؤلاء لا يحل الجمع بينهن لهذه الحكمة، وهي قوله: (إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم) .

حكم الشروط في عقود النكاح

حكم الشروط في عقود النكاح قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج) . وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح الشغار) والشغار: أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته وليس بينهما صداق. وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح المتعة يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الأهلية) ] . قوله صلى الله عليه وسلم: (إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج) المراد: الشروط التي يشترطها أحد الزوجين على الآخر، أو يشترطها الولي على الزوج له فيها مصلحة، فهذه الشروط التزامات يلتزمها الزوج أو تلتزمها الزوجة أو الولي، فيجب الوفاء بها، وإذا لم يوف بها فإن لكل منهما طلب الفسخ ونحوه.

أقسام الشروط في النكاح

أقسام الشروط في النكاح وقد توسع العلماء في تقسيم الشروط وذكروا ما يجوز منها ومالا يجوز، فذكروا في كتب الفقه باباً بعنوان: باب الشروط في النكاح، وقالوا: إنها إما أن تكون من قبل الزوجة أو من قبل الزوج أو من قبل الولي، أو نحو ذلك.

الشروط الشرعية والأحكام المتعلقة بها

الشروط الشرعية والأحكام المتعلقة بها لا شك أن هناك شروطاً شرعية لا حاجة إلى ذكرها في العقود، وذلك اكتفاءٌ بما ذكر الله تعالى في كتابه، قال الله تعالى: {فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] ، فهذا شرط شرطه الله على الزوج وهو أن يمسك زوجته بمعروف، ولو لم يذكر هذا الشرط عند العقد أو يسرح زوجته بإحسان. وقال تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة:231] ، وفي آية أخرى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق:2] ، فهذا شرط شرعي. ومن الشروط الشرعية أيضاً قيام الزوج بنفقة زوجته، ولو لم يذكر في العقد، قال تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:233] ، فالزوج يقوم بكسوة امرأته وكذلك بنفقتها. ومن الشروط أيضاً السكنى، قال تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق:6] ، فهذه لاشك أنها شروط شرطها الله تعالى. ومن الشروط أيضاً العشرة الطيبة، قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] والعلماء جعلوا باباً في كتاب النكاح بعنوان (باب العشرة بين الزوجين) ، أو (باب عشرة الزوجين) ، وقالوا: إن كلاً منهما عليه أن يحرص على هذه العشرة بالمعروف، وذلك بأن يلين جانبه لامرأته وكذلك هي، ويبسط إليها وجهه وكذلك هي، ويلين قوله وكلامه ويحسن خلقه ويصفح عن الهفوات والأخطاء التي تقع منها أو منه، وكذلك يستعمل الأخلاق الفاضلة والآداب الدينية الطيبة، وهكذا أيضاً يستعمل الصدق والوفاء، ويبتعد عن الشقاق واللعن والسب وتتبع العثرات والعورات وما أشبه ذلك، فهذا من العشرة التي أمر الله بها.

الشروط الجائزة والممنوعة في عقد النكاح

الشروط الجائزة والممنوعة في عقد النكاح معلوم أن الشروط التي يشترطها الزوج أو تشترطها الزوجة يكون فيها شيء من المصلحة لكل منهما، فعليه أن يفي بهذه الشروط لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج) ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلمون على شروطهم، إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً) . وهناك شروط قد نهي عنها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تشترط المرأة طلاق ضرتها لتكفأ ما في إنائها) ، ومعناه: إذا خطب رجل امرأة فلا تقل: بشرط أن تطلق امرأتك. وكذلك لو عرضت نفسها عليه وقالت: تزوجني بشرط أن تطلق امرأتك. لا يجوز هذا؛ لأنه تفريق بين الزوجين، وأما إذا كان فيه مصلحة فلا بأس، وقد اختلف العلماء في بعض الشروط، فمنها إذا شرطت الزوجة أن لا يتزوج عليها، فهل لها ذلك؟ بعضهم يقول: لا يصح، وذلك لأنه شرط حرم حلالاً، وبعضهم يقول: بل هو شرط لها فيه مصلحة؛ لأن عليها مشقة من وجود ضرة تضايقها؛ فإن الزوجة الثانية تسمى: ضرة، وهي لا تحرم الحلال وإنما تقول له: هذا شرطي لا أرضى بزوجة ثانية، فإن رضيت بي زوجة وإلا فطلقني وتزوج من تريد. فعلى هذا يوفي بهذا الشرط، إذا شرطت أن لا يتزوج عليها، إذا شرطت عليه ذلك والتزم به، فهو بالخيار إذا أراد الزواج إما أن يترك الزواج وإما أن يطلقها ويتزوج. أما إذا شرطت شيئاً لها فيه مصلحة، كأن يسكنها بقرب أبويها، أو أن لا يخرج بها من بلادها أو مدينتها التي نشأت فيها فإن لها في هذا الشرط مصلحة فيلزمه أن يوفي به لدخوله في هذا الحديث، وقد روي عن بعض الصحابة أنهم أباحوا له أن يسافر بها ولو شرطت أن لا يخرجها، وقالوا: حق الزوج أقدم. ولكن معلوم أنها قد تلقى مضايقة إذا سافرت إلى بلد آخر أو تلقى حرجاً، أو تفقد من يؤنسها أو نحو ذلك، فلها مصلحة في ذلك. وهناك الشرط الذي فيه ظلم وجور، كما لو اشترطت أن يقسم لها أكثر من ضرتها، أن يعطيها -مثلاً- ليلتين وللأخرى ليلة، فهذا شرط فيه جور وظلم، أو شرطت أن يزيد لها في النفقة على ضرتها أو على بني جنسها، وكذلك في الكسوة ونحوها، فإن مثل هذا أيضاً فيه مشقة، وفي هذه الأزمنة تقع شروط من الولي ونحوه ولا بأس بها، فمثلاً تكون طالبة في إحدى المدارس أو الجامعات، فإذا شرطت أن تواصل دراستها فإن هذا شرط لها فيه مصلحة، فعليه أن يفي بهذا الشرط، وكذلك إذا كانت عاملة كمدرسة وشرطت أن تبقى في وظيفتها فإن لها ذلك ويلزمه الوفاء به؛ لدخوله في هذا الحديث، وإذا شرطت أن تكفى المئونة فإن لها ذلك. وقديماً كانت تشترط المرأة أمة تخدمها، فيشتري لها أمة تقوم بخدمتها، لكن في هذه الأزمنة انقطع الرق فلا يوجد إماء مملوكات، واعتاد الناس باستقدام الخدم من البلاد النائية، فصارت الزوجة تشترط أن يأتي لها بخادمة، وفي هذا شيء من الإحراج والمضايقة، ولكن إذا التزم بذلك فإنه يوفي لها بذلك، مع ما في ذلك من الحرج أو ما فيه من الحرام، أما شرط الزيارة لأبويها أو لأخوتها ونحو ذلك، أو شرط كفالة أولادها وحضانتهم من غيره فإن هذا أيضاً من المصالح التي فيها صلة للرحم، وفيها قيام بحقوق الأقارب، فعليه أن يفي بمثل هذه الشروط.

حقوق الزوج على زوجته المشروطة وغير المشروطة

حقوق الزوج على زوجته المشروطة وغير المشروطة أما شروط الزوج فإذا كانت موافقة للشرع فإن لها أن تقوم بها، فإذا شرط عليها أن تخدمه وتقوم بخدمته في البيت فإن هذا معتاد، وقد ذكر كثير من العلماء أن خدمة البيت لا تلزمها، حتى إصلاح الطعام ونحوه، لكن الصحيح أنه يلزمها أن تخدم زوجها وتقوم بشئونه، وهذا هو المعتاد والمعروف عن الصحابة وعن نساء الصحابة، فقد ثبت في الصحيح: (أن فاطمة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشتكي المئونة والخدمة، وتذكر أنها طحنت على الرحا حتى مجلت يداها وأنها تعبت) ، ولكن مع ذلك لم يعطها النبي صلى الله عليه وسلم خدماً، بل تركها لتخدم زوجها، وكذلك أسماء بنت أبي بكر أخت عائشة وهي زوجة الزبير كانت تخدم الزبير حتى إنها كانت تدق النوى نوى التمر ثم تحمله على رأسها إلى أن تأتي به فرس الزبير في طرف الحرة مسيرة نصف ساعة لتعلف ذلك الفرس، زيادة على خدمتها لأولاده وقيامها بشئونه، لا شك أن هذا أيضاً من خدمة المرأة لزوجها، فإذا شرط أنها تخدمه فإن ذلك من حقه عليها، بل ورد أنها تطيعه في كل شيء لا يخالف الشرع، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها) ، وفي بعض الروايات: (لو أمرها أن تنقل جبلاً من موضعه وهي تقدر لكان عليها ذلك) . وأخبر صلى الله عليه وسلم بعظم حق زوجها عليها وطاعتها، وأن عليها أن لا تعصيه. ومعلوم أن الزوج إنما تزوج امرأته لأجل منفعة الاستمتاع وما يتبعها، فلأجل ذلك عليها أن تطيعه إذا دعاها إلى حاجته، حتى قال النبي عليه الصلاة والسلام في بعض الأحاديث: (إذا دعا الرجل امرأته لحاجته فلتأته ولو كانت على التنور) ، والتنور: هو الذي يخبز فيه. يعني: ولو خشيت أن يفسد ذلك الخبز ويحترق فإن عليها أن تأتي إليه، وهذا مبالغة في الإسراع وعدم التأني، وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح) ، وذلك دليل على عظم حقه عليها، فهذه حقوق الزوج على زوجته ولو لم تشترط هذه الحقوق، وذلك لأنها شروط شرعية داخلة في العشرة التي قال الله فيها: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] ، وداخلة في حق المرأة على زوجها وحق الزوج على امرأته، قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ} [النساء:34] مدحهن بهذا المدح (صالحات قانتات حافظات للغيب) .

النشوز والإعراض من الزوجين وما يتعلق بهما من أحكام

النشوز والإعراض من الزوجين وما يتعلق بهما من أحكام النشوز هو نشوز المرأة، أي: عصيانها لزوجها وتبرمها بحقه وتثاقلها إذا طلب منها حاجته. فهذا يعتبر نشوزاً، قال تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34] . يقول العلماء: إذا رأى شيئاً من التبرم ورأى شيئاً من العصيان والتثاقل بحقه بدأ بالوعظ والتخويف والتذكير، أي: يذكرها بحقه عليها وفضل طاعتها له وثوابها وصبرها على ذلك، وكذلك يخوفها وينهاها عن المعصية، فإذا لم تقبل منه ولم تتأثر بالموعظة هجرها بالكلام ثلاثة أيام، وهجرها في الفراش بأن يوليها ظهره إذا نام، فإذا لم تتأثر بذلك انتقل إلى الضرب، ولكن لابد أن يكون ضرباً غير مبرح، أي: غير شديد؛ لكون ذلك زاجراً لها عن مثل هذا الفعل، فإذا أطاعته فقد قال تعالى: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء:34] . وفي آية أخرى يقول تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء:128] والنشوز من الزوجة والإعراض من الزوج، فإذا خافت منه إعراضاً فلها أن تصطلح معه على إسقاط بعض حقها له، وإذا خاف منها نشوزاً فله أن يصطلح معها على إعطائها زيادة على حقها أو على إرضائها أو ما أشبه ذلك حتى تلتئم الزوجية وتثبت العشرة الطيبة، وذلك لأنه بقيام هذه الزوجية وبتماسكها وبتمام الألفة بين الزوجين ولوجود الولد الصالح بينهما الذي يكون مثالاً للصلاح تصلح الأسر وتأتلف ويحصل بينهما المحبة والوئام فيكون ذلك سبباً في صلاح الأمة بأسرها، فإذا كان الأبوان دائماً متآلفين متحابين كل منهما يلبي دعوة الآخر ويطيعه، وكان كل منهما حسن العشرة حسن الخلق حسن الملاطفة لين الكلام، ورأى أولادهما هذه الأخلاقيات الطيبة تعلمون منهما الأخلاق والآداب الشرعية ومحاسن الأعمال، ونشأ الأولاد على هذه النشأة الطيبة، فكانت تلك أخلاقاً وسجايا يمدحها الإسلام ويثني على أهلها، فهذا هو سبب الأمر بالعشرة الطيبة ولو لم تكن مشروطة بين الزوجين؛ لأن شرط الله كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: (قضاء الله أحق وشرط الله أوثق) .

حكم إكراه المرأة على الزواج من شخص لا تريده

حكم إكراه المرأة على الزواج من شخص لا تريده قال المصنف رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن. قالوا: يا رسول الله! وكيف إذنها؟ قال: أن تسكت) . عن عائشة رضي الله عنها قالت: (جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: كنت عند رفاعة القرظي فطلقني فبت طلاقي، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، وإنما معه مثل هدبة الثوب. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك. قالت: وأبو بكر عنده، وخالد بن سعيد بالباب ينتظر أن يؤذن له، فنادى: يا أبا بكر! ألا تسمع إلى هذه ما تجهر به عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!) ] . الحديث الأول فيه مشروعية الاستئذان، ذكر العلماء أن من شروط النكاح تعيين الزوجين، ومن شروط النكاح رضا الزوجين، فالتعيين هو أن تسمى الزوجة بما لا تشتبه به، كقوله: زوجتك ابنتي فلانة ونحوه. وتعيين الزوج أن لا أن يشار إليه بل يسمى فيقال: زوجتك يا فلان. أو: زوجتك أيها الجالس. وأما الرضا فهو ضد الإكراه، الرضا بالشيء قبوله وعدم رده، فلا بد من رضا الزوجة، فلا تكره ولا تزوج بمن لا تريده، ولا بد من رضا الزوج، فلا يكره على من لا يريدها. والله تعالى ذكر الرضا في أمور عادية، ففي البيع يقول تعالى: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29] ، بمعنى أنه لابد أن يكون البيع بعد التراضي، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما البيع عن تراض) ، فإذا كان هذا في بذل المال فلا شك أن بذل الزوجية أولى بأن يكون محل الرضا، فلابد من رضا الزوجة، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تنكح المرأة الثيب حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن. فقالوا: وكيف إذنها؟ قال: أن تسكت) فاشترط رضاها، ولم يذكر هنا اشتراط رضا الزوج؛ لأن الزوج عادة هو الذي يطلب، وهو الذي يتقدم، وهو الذي يتكلم، ولا حاجة حينئذ إلى استرضائه، وإن كان قد يلزمه وليه أحياناً إذا رأى أن في تزويجه مصلحة له. فعلى هذا لابد من رضا كل من الزوجين، واشترط رضا الزوجة، وذلك لأنها هي التي تحبس نفسها على هذا الزوج مدة طويلة قد تكون عشرات السنين، فإذا كانت مكرهة مغصوبة لم تطمئن في معيشتها، ولم تهنأ في حياتها، ولم يستقر لها قرار، بل عيشها نكد ونومها كمد وقرارها ضرر؛ حيث إنها ترى ما تكره، لأجل ذلك لم يكن بد من رضا الزوجة، وقد ثبت (أن النبي صلى الله عليه وسلم رد نكاح امرأة أكرهها أبوها وكانت بكراً) ، وثبت أيضاً (أن امرأة جاءت وقالت: يا رسول الله! إن أبي زوجني من ابن أخيه ليرفع بي خسيسته -أي: ليرفعه بي وكنت شريفة وكان هو وضيعاً- فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم) . فهذا دليل واضح على أن المرأة لا يجوز إكراهها، وإذا أكرهت فإن لها الخيار إن شاءت أن تستقر مع هذا الزوج وإن شاءت أن تنفصل عنه، هذا هو القول الصحيح، وذلك لأن إجبارها ضرر واضح عليها، فمعلوم أنها هي التي تعاشر الزوج، وهي التي تقيم عنده، وهي التي يستمتع بها، وهي التي يستخدمها ويستنفع بها، فإذا كانت تكرهه إذا رأته فكأنها ترى عدواً من أشد الأعداء لها، فلا قرار لها ولا استقرار، فاشترط بذلك رضاها. ومعلوم أنها إذا لم تكن راضية لم تطمئن مع هذا الزوج.

معرفة صفات وأخلاق كل من الزوجين

معرفة صفات وأخلاق كل من الزوجين ذكر العلماء أنه لابد أن يبين صفات الزوج ويبين أخلاقه فإنها ربما تكون جاهلة به، فإذا كانت جاهلة بأخلاقه وجاهلة بمعاشرته وجاهلة بصحته وبخلقه ثم صحبته مدة ولم تكن تعرفه من قبل فإن لها بعد ذلك أن تفتدي؛ لأنها ترى مالا صبر عليه. وكثير من النساء تتزوج الزوج وتعتقد أنه حسن الخلق دمث الأخلاق سهل الجانب لين العريكة يبش في وجهها، ولكن تجده عبوساً وتجده شديداً وتجده حقوداً غضوباً شديداً عليها كثير الضرب وكثير السباب وكثير الغضب وكثير التأثر، يقصر في حقها ويسيء بها الظن، ويعاتبها ويتتبع عثراتها، ويشدد عليها، فلا تستقر معه ولا تحيا حياة طيبة، بل تكون معذبة معه، إذاً يجب على وليها أن يبحث عن أخلاق الرجل قبل أن يزوجه وأن يعرف ما هو عليه، أن يعرف ماذا كان عليه من خلق. كذلك أيضاً قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تنكح المرأة لأربع: لمالها ولجمالها ولحسبها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك) . نقول: إن كثيراً من الناس يرغبون في الزوج لأنه ثري وذو مال، ولكن قد يكون ماله وبالاً عليه، قد يرغبون فيه لأنه ذو حسب من أناس لهم شرف ولهم نسب ولهم منزلة ورفعة وشهرة وإمارة وولاية فيرغبونه لذلك، ولكن قد يكون سيئ الخلق، وقد يكون شرساً حقوداً غضوباً وهم لا يعرفون، ويرغب آخرون في الإنسان لكونه من ذوي الشرف ومن ذوي النسب الرفيع، ولكن قد يخيب ظنهم فيه، إذاً فالأفضل أن يزوج من كان من أهل الدين ومن أهل الصلاح ومن أهل الاستقامة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اظفر بذات الدين تربت يداك) . ونقول: كذلك اظفر -يا ولي المرأة- بصاحب الدين؛ فإن الدين ما كان في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه، صاحب الدين والخير إما أن يحسن إليها ويحبها ويقوم بحقوقها ويعطيها ما يلزم لها، وإما أن يفارقها بإحسان، فيعمل بقول الله تعالى: {فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] يعمل بهذه الآية، فيحمله دينه على أن لا يظلمها وأن لا يسيء عشرتها، فهذا هو الواجب على الولي. إذاً فلا يجوز أن يجبرها على سيئ الخلق.

العيوب التي يرد بها النكاح من الزوجين

العيوب التي يرد بها النكاح من الزوجين لا يجوز للزوج أن يخفي شيئاً من صفاته إذا كان فيه شيء من العيوب الظاهرة التي يرد بها كل من الزوجين، فواجب على ولي المرأة أن يخبر بما فيها من العيوب، وواجب أيضاً على الزوج أن يخبر بما فيه من العيوب، وذكر العلماء أن عيب الجنون في أحدهما يرد به النكاح، وكذلك عيب البرص، فإذا كان فيه برص فإنه مما ينفر منه الطبع. وكذلك عيب المرض الشديد، سيما الأمراض المنتشرة المعدية كمرض الجذام وما يعرف الآن بالسرطان والسل الرئوي -نعوذ بالله- وما أشبه ذلك، فهذه بلا شك إذا كان أحد الزوجين مصاباً بمثل هذه الأمراض فلا يجوز أن يخفي هذا المرض، بل يخبر بما فيه، فإن شاؤوا قبلوا وإن شاؤوا ردوا. كذلك أيضاً معلوم أنه إذا لم تكن فيه هذه العيوب الظاهرة وكان فيه شيء من العيوب الخفية التي قد تكون عيوباً عند بعض الناس دون بعضهم فعليه أن يبينها حتى لا يقع سوء صحبة. وكثير من الناس الآن إذا وقع منه الطلاق يسألنا ويقول: أنا عصبي وشديد التأثر وشديد الغضب، أنا إذا غضبت فلا أدري ما أقول. فلماذا لم تخبر بهذا العيب قبل أن يقع منك هذا الأمر؟ تعترف الآن على نفسك أنك مصاب بأعصاب، أو بهذا المرض الذي تسميه ما تسميه. فعلى هذا لابد أن تفصل هذه الصفات والسمات حتى يقدم الأولياء وقد عرفوا من يزوجونه وحتى تحسن الصحبة الطويلة بين الزوجين، فإذا كان فيها ما يكدرها من هذه السمات لم تستقر الزوجة مع زوجها، ولم تهنأ العيشة الهنيئة في الدنيا، فعلى هذا لابد أن تستأذن ويؤخذ منها الإذن.

الحكمة من استئذان البكر واستئمار الثيب

الحكمة من استئذان البكر واستئمار الثيب إذا قيل: لماذا فرق النبي صلى الله عليه وسلم بين البكر والثيب فقال في البكر: (تستأذن) . وقال في الثيب: (تستأمر؟) فإنهم يقولون: إن الثيب قد عرفت الرجال، وقد صار معها شيء من الجرأة، فهي لا تحتشم أن تقول: أريده أو: لا أريده. تنطق بالكلام حتى لا يكون هناك شيء من الالتباس، أما البكر فالعادة أنها تستحيي، ولا تتجرأ على أن تتكلم بقولها: رضيت به. بل تسكت وتستحيي، فإذا رأوا أنها سكتت أو ظهر منها ما يدل على الرضا كإشارة برأسها مثلاً فهذا دليل الموافقة أو ما أشبه ذلك، فنعرف بذلك أنها وافقت فيحصل بذلك تزويجها، هذا هو الفرق بينهما، فلو نطقت البكر فإن ذلك أتم وأدل على رضاها، فعلى كل حال هذا ما يسمى بالإجبار والاستئمار.

حكم من طلقت ثلاث طلقات وأرادت زوجها الأول

حكم من طلقت ثلاث طلقات وأرادت زوجها الأول ننتقل إلى الحديث الثاني قصة تميمة بنت وهب، حيث ذكرت أنها كانت تحت رفاعة فطلقها وبت طلاقها، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير وذكرت أن ما معه مثل الهدبة، وكأنها تريد أن ترجع إلى زوجها الأول، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) ، والله تعالى ذكر أن الطلاق مرتان، يعني الطلاق الرجعي، فبعد المرتين يقدر أن يمسك ويقدر أن يسرح، وذكر أن بعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحاً، أي: بعد الطلقتين. ثم ذكر الطلقة الثالثة بقوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230] . وسبب نزول هذه الآية أن المشركين في الجاهلية لم يكن عندهم عدد للطلاق، ولما كان في أول الإسلام غضب رجل على امرأته وسبها فقال: لأعذبنك. فقالت: كيف تعذبني؟ قال: أطلقك، فإذا قربت العدة أن تنتهي راجعتك، ثم بعد ذلك أطلقك ثم أراجعك في آخر العدة. بهذا كانت المرأة تبقى بدون زوج عشرات السنين متألمة معذبة لا أيماً ولا ذات زوج، فساءها ذلك ورفعت أمرها إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فعند ذلك أنزل الله العدد الذي يملكه الزوج، وهو طلقتان يملك بعدهما الرجعة، حتى لا يتلاعب الرجال الفسقة بأمور نسائهم، فجعل الطلاق الذي يراجع بعده مرتين، بمعنى أنه قد يطلق في حالة غضب، أو يفكر أنه لا حاجة به إلى هذه الزوجة، أو يرى منها سوء تصرف فيوقع الطلقة الأولى، فبعد ذلك يندم ثم يُمكن من مراجعتها، وتحسب عليه طلقه، ثم تجيء مرة أخرى يسوء ما بينهما من العلاقة، فعند ذلك قد يوقع بها طلقة ثانية عن غير تروٍ وعن غير تبصر، فيندم بعد ذلك كما حصل لكثير منهم، ثم إذا ندم رأى أن في الأمر سعة فعند ذلك يستردها بعد الطلقة الثانية، ثم يفكر أنه إذا أوقع الطلقة الثالثة حرمت عليه إلا بعد زوج، فإذا فكر في ذلك قال: لا أفرط في امرأتي وأم ولدي. فيحمله ذلك على أن يمسكها ما دام راغباً فيها، لكن لو قدر أنه تسرع وطلقها الطلقة الثالثة حينئذ تحرم عليه حتى تنكح زوجاً غيره، ودليله هذه الآية، وهي قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة:230] يعني الثالثة {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230] .

شرط التزوج بالمبتوتة

شرط التزوج بالمبتوتة اشترط في هذا الزوج الثاني أن ينكحها نكاح رغبة، بمعنى: أن يتزوجها على أنها زوجة له يحبها ويحب المقام معها، وهي كذلك تحبه وتريده كزوج وكعشير لها في حياتها، هذا هو الأصل، أنه لابد أن يكون الزوج الثاني نكاحه نكاح رغبة لا نكاح تحليل للزوج الأول، وذلك لأنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله المحلل والمحلل له) . وأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن التحليل، ووصف المحلل بالتيس المستعار، أي أنه شبيه بالتيس الذي هو ذكر المعز، بمعنى أن الزوج الأول يستعيره ويدخله على زوجته ويجامعها ثم يفارقها، فأصبح كأنه تيس مستعار، هذا هو المحلل الذي ينكحها حتى يحللها للزوج الذي طلقها، يبيت معها ليلة أو ليلتين ثم يطلقها ولا رغبة له فيها. إذاً فهذا هو الذي نهي عنه، ولا يجوز سواءٌ من الزوج أو من الزوجة أو من المطلق، فإذا طلقت امرأة وحرمت عليك بأن بتت طلاقها -أي: طلقتها آخر ثلاث طلقات- وعرفت أنها لا تحل لك إلا بعد زوج فلا يجوز لك أن تقول: يا زيد! تزوجها واجلس معها ليلة ثم فارقها. كأنه أجير، وربما تدفع له أجرة حتى يحللها لك، فأنت -أيها الزوج المطلق- تدخل في هذا الوعيد؛ وحيث إنه قبل كلامك وتزوجها بهذا الشرط يدخل في هذا الوعيد. وذكروا واقعة في عهد عمر بن الخطاب، وهي (أن رجلاً من أكابر قريش طلق امرأته ثم ندم عليها بعدما طلقها ثلاثاً، وفكر كيف ترجع إليه، وكانت هي أيضاً تريده، ولكن لا حيلة لها ولا حيلة له، فجاؤوا إلى رجل أعرابي فقير لا يملك إلا طمرين -أي: ثوبين خلقين- فقالوا له: ها هنا امرأة تريد زوجاً وتناسبك. فعند ذلك تزوجها، ولما تزوجها رغبة منه أرادوا أن يفرقوا بينه وبينها، فرفع أمره إلى عمر بن الخطاب فقال: لا تطلقها. إن طلقتها أوجعت ظهرك ولو ضربوك ولو قالوا لك أو قالوا لك. وانظر إلى غيرة وحماسة عمر رضي الله عنه!! نقول: كذلك يستحق المحلل من يوجع ظهره كما هم بذلك عمر رضي الله عنه، وكذلك يستحقه المحلل له والزوجة إذا كانت متفقة مع الزوج على هذا التحليل. والشاهد أن تميمة بنت وهب تزوجت بعد زوجها رفاعة زوجاً آخر وهو عبد الرحمن بن الزبير، وذكرت أنه لا يصيبها، ورمته بأنه عنين، أي أنه لا يقدر على أن يأتي النساء، وإنما ما معه مثل هدبة الثوب، ولكن في بعض الروايات أنه كذبها، وذكر أنه يصيبها. والحاصل أنها لما قالت: إنه لم يصبها لم يأذن لها النبي صلى الله عليه وسلم أن ترجع إلى رفاعة حتى يطأها الزوج الثاني ويذوق عسيلتها وتذوق عسيلته، وبذلك فسر قول الله تعالى: {حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230] أن النكاح ليس هو مجرد العقد، بل هو الدخول والإصابة، فإذا طلقها بعد العقد قبل أن يدخل بها لم تحل للزوج الأول، أي: لابد أن يدخل بها ويذوق كل منهما عسيلة الآخر، بمعنى لذة الجماع، أي: أنه يطؤها الوطء الكامل. فهذا هو النكاح الذي تحل به إذا كان عن قصد وعن رغبة لا عن تدليس وتحليل وشبهة، هذا هو ما يدل عليه هذا الحديث.

أحكام العشرة بين الزوجين

أحكام العشرة بين الزوجين قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعاً ثم قسم، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثاً ثم قسم) . قال أبو قلابة: ولو شئت لقلت: إن أنساً رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: باسم الله، اللهم! جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه يقدر بينهما ولدٌ في ذلك لم يضره الشيطان أبداً) . وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والدخول على النساء. فقال رجلٌ من الأنصار: يا رسول الله! أفرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت) . ولـ مسلم عن أبي الطاهر عن ابن وهب قال: سمعت الليث يقول: الحمو: أخو الزوج وما أشبهه من أقارب الزوج، ابن العم ونحوه] . هذه الأحاديث تتعلق بالنكاح، فالحديث الأول والثاني يتعلقان بالعشرة، ويبوب الفقهاء عليها بباب (عشرة الزوجين) ، ويستدلون بقول الله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] ، والعشرة بالمعروف هي أن كلاً من الزوجين يحسن صحبة الآخر، ويحرص كل منهما على أن لا يرى منه الآخر إلا ما يسره، فالزوجة تطيع زوجها، وتحسن خلقها، وتلبي طلباته ودعوته، وتريه ما يسره منها، وتتجمل أمامه، وتخدمه بما تستطيع، وكذلك تلين له الجانب، وتظهر فرحها وسرورها به، وتظهر موافقتها له فيما يطلب، وتبتعد عن مخالفته وعما يثير غضبه أو حماسه إذا علمت أنه شديد الغيرة أو أنه سريع الغضب أو ما أشبه ذلك، كذلك أيضاً تطيعه في نفسها، فلا تتمنع ولا تتبرم ولا تظهر منة، ولا تظهر أنها خيرٌ منه أو أنها أفضل أو أكثر مالاً أو أكثر نسباً أو ما أشبه ذلك. أما بالنسبة إلى الزوج فالعشرة منه أن يلين جانبه لزوجته، وأن يتغاضى عما يراه من الأخطاء ومن الهفوات والزلات التي قد تصدر منها، وكذلك أيضاً أن يتخلق بكل خلق فاضل، ويبتعد عن الرذائل ونحوها، فلا يتعامل معها بكذب ولا بزورٍ، ويجتنب الإثم والظلم والسباب والشتائم والعيب والسبب وتتبع العثرات، ولا يتشدد عليها بمطالبه، ولا يكلفها ما لا تطيقه، ويظهر أيضاً موافقتها إذا طلبت أمراً فيه منفعة أو نحو ذلك، وهكذا أيضاً يظهر نفسه أمام زوجته مظهر جمالٍ ومظهر حسنٍ، ولا يظهر أمامها بصفة مستقذرة وموحشة بحيث تنفر منه، وهكذا أيضاً يعطيها حقها في الاستمتاع الذي هو مطلب لكل من الجهتين، وأشباه ذلك. ولا شك أنه بهذه العشرة تدوم الصحبة وتحصل الألفة والمودة التي ذكر الله أنها بين الزوجين في قوله تعالى: {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21] .

شرح حديث: (من السنة إذا تزوج البكر أقام عندها سبعا)

شرح حديث: (من السنة إذا تزوج البكر أقام عندها سبعاً) في الحديث الأول يقول: (من السنة إذا تزوج البكر) يعني: وعنده زوجة قبلها (أقام عندها سبعاً ثم قسم، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثاً ثم قسم) . ومعنى هذا الحديث أن البكر إذا تزوجها وعنده امرأة قبلها فإنها بلا شك تهواها نفسه وتميل إليها، ويكون لها مكانةً في قلبه، فيكون لها حق في أن يوالي المبيت عندها ليالي متتابعة، فصار لها حق أن يبيت عندها سبع ليال قبل أن يبدأ في القسم بين زوجاته أو بينها وبين زوجته الأخرى. فهذا المصلحة فيه للطرفين، فهي بالنسبة إلى أنها حديثة عهد بالزواج لم تعرف زوجاً قبله فهي تحب أن يؤنسها وأن يؤلفها، وأن يحبب إليها نفسه، وأن يعاشرها العشرة الطيبة، وأن يطيل محادثتها ومؤانستها، ويبين لها مودته لها، ويكتسب أيضاً مودتها في هذه الليالي، فإذا تمت سبع ليال فتكون في ذلك قد استأنست إليه، وكذلك أيضاً هو يعرف أن نفسه مائلة إليها لبكارتها ولجدتها، فيكون في قلبه شيء من المحبة والميل إليها، ويكون هو الذي يواصل ذلك ويحبه ويوده، فالمصلحة في متابعة هذه الليالي للبكر للطرفين. أما إذا كانت ثيباً -أي: مطلقة أو متوفى عنها- قد دخل بها غيره فتزوجها وعنده امرأة أو نساء غيرها قبلها فإن لها حقاً أن يبيت عندها ثلاث ليال متتابعة ثم يبدأ في القسم، هذه الليالي الثلاث هي أقل العدد، فإن أقل الجمع ثلاثةٌ كما هو معروف، فهذه الثلاث تحصل بها المؤانسة له ولها، ويحصل بها إشباع الغريزة من الشيء المستجد، فلهذا جاء الشرع به. وقوله: (من السنة) يعني: من أمر النبي صلى الله عليه وسلم ومن شريعته.

شرح حديث: (لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله)

شرح حديث: (لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله) أما الحديث بعده فيتعلق بالتسمية عند الجماع، روي عن ابن عباس في قول الله تعالى: (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة:222] إلى قوله: {وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ} [البقرة:223] يقول: التقديم هو التسمية عند الجماع. والنبي صلى الله عليه وسلم أرشد في هذا الحديث الزوج إذا أراد مواقعه زوجته أن يبدأ باسم الله، فقال: (لو أن أحدكم إذا أرد أن يأتي أهله قال: باسم الله، اللهم! جنبنا الشيطان. وجنب الشيطان ما رزقتنا) يقول ذلك قبل البدء أو عند البدء في الوقاع، ويقول ذلك بحيث يُسمع نفسه، وتقوله أيضاً الزوجة، فإذا قاله كل من الزوجين حصلت البركة، ولا شك إن اسم الله تعالى سببٌ للبركات وكثرة الخيرات. وقوله: (إذا قال: باسم الله) معناه: باسم الله استعيذ، وباسم الله أتحصن، وباسم الله أتحرز من كل ضرر، وباسم الله أتبرك، وباسم الله ابتدئ أو أفعل ما أقدر عليه. وقد ورد الأمر بالتسمية في أشياء كثيرة، كما أمر بالتسمية عند الأكل، وعند الشرب، وعند دخول المنزل، وعند الخروج منه، وعند دخول المسجد والخروج منه، وعند لبس الثوب، وعند النوم، وعند دخول الخلاء وما أشبه ذلك. فكذلك أيضاً التسمية هنا يقصد بها التبرك بهذا الاسم والتحصن به من السوء ومن الأضرار ومن الشرور ونحوها، ثم بعد ذلك يقول: (باسم الله، اللهم! جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا) يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره الشيطان أبداً) يعني: إذا قدر أنه خلق منهما ولد من ذلك الوقاع فإن الله يحميه ويحفظه من ضرر الشيطان، فلا يضره أو يضله. قوله: (جنبنا) يعني: أبعده عنا وأبعدنا عنه، وأبعده عما رزقتنا وعما ترزقنا من الأولاد والذرية. والتجنب هو الابتعاد، وهو أبلغ من الترك، فإن معناه: اجعله في جانب ونحن في جانب بعيدين عنه. والشيطان واحد الشياطين، وهم إبليس وجنوده، ولا شك أن الشيطان عدو للإنسان، وأنه حريص على أن يضل الإنسان بما يستطيعه، وأن يخلف عليه قلبه ويفسد عليه عقله وفطرته، ويصرفه عن الهدى إلى الضلال، ويوقعه في الكفر والفسوق والعصيان. وإن الله تعالى هو الوكيل وهو الحفيظ، فإذا حمى الإنسان وحفظه فلن يكون للشيطان عليه سلطان؛ لأنه لا سلطان له على أولياء الله، قال الله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل:99-100] ، يعني: على أوليائه. أي: أولياء الشيطان الذين قال الله فيهم: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ} [البقرة:257] . فلا شك أن هذا دعاء مفيد إذا استعمله الإنسان عند كل مواقعة، وعندما يريد أن يواقع يقوله سراً بحيث يسمع نفسه، فإذا قال: (اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا) فقد تكفل النبي صلى الله عليه وسلم له بقوله: (فإنه إن يقدر بينهما ولد لم يضره الشيطان أبداً) .

إشكال والجواب عنه

إشكال والجواب عنه أشكل هذا الحديث على كثير من الشراح، وقالوا: إننا قد نشاهد أولاداً آباؤهم عبَّاد وصالحون وأهل تقوى، ونتحقق أنهم يعملون بهذا الحديث، وأنهم لا يتركون مثل هذا الدعاء، ومع ذلك نرى أبناءهم قد انحرفوا وقد وقع منهم شيء من الفسوق ومن المعاصي التي يدعو إليها الشيطان، فكيف أغراهم وقد استعيذ منه عند الوقاع وعند انعقاد الولد في ذلك الوقاع؟ فأجابوا بأنه قد يغفل أحدهم في بعض الأحيان، وقد تكون استعاذته استعاذة باللسان لا بالقلب، وقد يكون هناك أسباب تفسد الإنسان وإن لم تكن من الشيطان، بل من أعوان الشيطان الذين هم شياطين الإنس وما يشبه ذلك، وقد يكون الحديث محمولاً على الكفر، فيكون قوله: (لم يضره الشيطان أبداً) يعني: لم يخرجه من الإسلام ويدخله في الكفر. وعلى كل حال نحث على العمل بهذه الأحاديث حتى يكون الإنسان باذلاً للسبب، والله تعالى هو الموفق والمعين.

شرح حديث: (إياكم والدخول على النساء)

شرح حديث: (إياكم والدخول على النساء) أما قوله صلى الله عليه وسلم: (إياكم والدخول على النساء! فقال رجل: أفرأيت الحمو؟ فقال: الحمو الموت) وفسر الحمو بأنه أخو الزوج أو قريبه كابن عمه ونحوه فالحديث يدل على النهي عن الخلوة بالمرأة الأجنبية والدخول عليها دخولاً في ريبة، وذلك لأنه يخاف من هذه الخلوة أن يوسوس الشيطان بينهما؛ فإن الشيطان ثالثهما، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما) أي: كان الشيطان يوسوس بينهما إلى أن يقرب أحدهما إلى الأخر فيوقع بينهما شيئاً من الفاحشة أو مقاربة الفاحشة. هذا هو الذي حث وحذر النبي صلى الله عليه وسلم على البعد عنه، أي: الخلوة بالنساء الأجنبيات. والمراد بالنساء هنا غير المحارم؛ لأن المحارم لا مانع من الخلوة بهن، فالرجل يخلو بأمه وبابنته وبأخته وببنت أخيه وبعمته وخالته ونحوهن ولا تحدثه نفسه بالميل إليهن ولا بمقارفة فعل الفاحشة معهن، ولا يفعل ذلك إلا أفسق الناس وأفجرهم، وإن وقع من أفراد فلا يكونون عبرة، إنما المراد إذا كان أجنبياً عن هذه المرأة، حتى ولو كانت من أقاربه كابنة عم وابنة خال، وكذلك زوجة أخ أو أخت زوجة أو نحو ذلك، فهذه لها قرابة وهذه لها مصاهرة، وبعض الناس يتجرأ على أن يدخل في بيت أخيه وليس فيه إلا تلك المرأة، ويتجرأ أيضاً على دخول بيت عمه أو خاله، وكذلك بيت أخيه ويخلو بزوجة أخيه أو بأخت زوجته أو نحوهن ويدعي أنه من أهل البيت وأنه لا محذور في خلوته بها فتراه لا يستنكر أن يطرق باب أخيه فتفتح له تلك الزوجة فيدخل وقد لا يكون عندها أحد، وهذا هو المحذور. والوقائع التي تقع فيها مفاسد مما حذر عنه في هذا الحديث كثيرة وشهيرة، ولما لم يعمل كثير من الناس بهذا الحديث صار الأخ يخرج ويترك زوجته وليس معها أحد وليس في البيت سوى أخيه وزوجته فيخلو أخوه بتلك الزوجة، وقد يوسوس بينهما الشيطان إلى أن يقرب بينهما فيوقع بينهما فعل الفاحشة أو مقاربتها، وذلك أنه قد يثق بأن أخاه لا يقرب محارمه، ويقول: هو أخي لا يمكن أن يخونني ولا يمكن أن يسيء إليّ؛ لأني أنا الذي أحسن إليه، وأنا الذي آويته في بيتي وهو لا يزال عزباً. أو: أنا الذي أنفقت عليه وأحسنت إليه، فلا يمكن أن يخون. فنقول: هذا وإن كان مجرباً أو معروفاً لكن لا تنبغي الثقة كل الثقة بكل أحد؛ فإنه قد لا يكون له ميل إليها، لكن هي قد تتبرج أمامه وتدفعه إلى نفسها، أو هو قد يراودها ويحاول أن يعرض عليها نفسه أو ما يشبه ذلك، فتقع الفاحشة أو مقاربتها، فالنبي صلى الله عليه وسلم حذر في هذا الحديث من الخلوة بها حتى ولو كان أخا الزوج فقال: (الحمو الموت) ، وهذه كلمه معتادة مسموعة كثيراً، يقال: هذا هو الموت. بمعنى أنه الخطر الكبير، لماذا؟ لأن الناس لا يستنكرون خلوته، ولا يستنكرون أن يطرق باب أخيه ثم يدخل، ولا يستنكرون أن يعطيه أخوة مفتاحاً لبيته يدخل كلما جاء وكلما أراد. ولعل هذا أيضاً فيما إذا لم يكن في البيت إلا امرأة واحدة، أما إذا كان فيه عدد من النساء فقد يكون ذلك أقرب إلى السلامة، وكذلك أيضاً إذا كان فيه أطفال أو فيه محارم له، كما إذا كان فيه زوجته أو أمه أو نحو ذلك فالأمر أسهل، ومع ذلك فإن الخلوة بالمرأة الأجنبية خطر كبير دل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لرجل أن يخلو بامرأة إلا مع ذي محرم) . فعلى المسلم أن يكون غيوراً على محارمه، وأن يهتم بمحافظته على أن لا يخلو بهن أجنبي، سواء السائق الذي يدخل بها وحدها أو يزور بها الأماكن والأسواق ونحو ذلك وهو منفرداً بها، أو غيره، ولا يجوز أن يدخل في البيت عليها وليس عندها أحد، حتى ولو كانت قريبة منه، فقد تأتي وتناوله القهوة مثلاً أو الأكل أو الشراب أو ما يشبه ذلك، فإذا دخلت إليه فلربما كلمها وألان لها القول وخضع كلاً منهما بالقول الذي نهى الله عنه بقوله: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] ، فيقرب بينهما الشيطان إلى أن يقع ما نهى الله عنه وما هو المحذور، فإذا احتاط الإنسان ولم يأذن لامرأته في إدخال أحد وهو غائب، أو جعل عندها امرأة ثانية أو ما يشبه ذلك كان ذلك أقرب إلى السلامة، والله أعلم. وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

شرح عمدة الأحكام [61]

شرح عمدة الأحكام [61] من أهم الأشياء في النكاح الصداق الذي يدفعه الزوج للمرأة مقابل استمتاعه بها، ومما يندب إليه في الصداق أن يكون يسيراً، وتكره المغالاة في المهور لما فيها من تعقيد الزواج وإثقال كاهل الزوج، وللصداق أحكام فصلها العلماء وبينوا الحق فيها.

أحكام الصداق

أحكام الصداق قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [باب الصداق: عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق صفية، وجعل عتقها صداقها) . وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة فقالت: إني وهبت نفسي لك، فقامت طويلاً، فقال رجل: يا رسول الله! زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة، فقال: هل عندك من شيء تصدقها؟ قال: ما عندي إلا إزاري هذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أعطيتها إزارك جلست ولا إزار لك، فالتمس غير هذا، قال: ما أجد، قال: فالتمس ولو خاتماً من حديد، فالتمس فلم يجد شيئاً، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل معك شيء من القرآن؟ قال: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: زوجتكها بما معك من القرآن) . وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى عبد الرحمن بن عوف وعليه ردع زعفران، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مهيم؟ فقال: يا رسول الله! تزوجت امرأة، فقال: ما أصدقتها؟ قال: وزن نواة من ذهب، فقال: بارك الله لك، أولم ولو بشاة) ] .

أسماء الصداق

أسماء الصداق من مكملات النكاح: دفع الصداق، قال الله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء:4] سماه الله صداقاً، قيل: لأنه يدل على صدق الرغبة؛ فإنه ما بذل ماله إلا وهو صادق في رغبته في هذا النكاح، وسماه الله نحلة، والنحلة هي العطية، كما في قول النعمان: (نحلني أبي عبداً) يعني: أعطاني، فسماه الله نحلة؛ وذلك لأنه شبه عطية؛ لأنه في مقابل الاستمتاع، وهو -أي: الاستمتاع- يحصل به منفعة للطرفين، فلذلك سماه الله عطية من الزوج لامرأته، وكذلك سماه الله أجراً في قوله سبحانه وتعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء:24] يعني: متى تمتعتم بهن هذا الاستمتاع المباح فآتوهن أجورهن، وسماه الله فريضة لأنه يفرض، يعني: يقتطع للمرأة من مال الزوج برضاه، فقال تعالى: {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} [النساء:24] أي: لا جناح عليك أن تزيد المرأة زيادة على الفريضة لترغبها. ولا جناح عليها أن تسقط شيئاً من صداقها لترغب الزوج في إمساكها. وتطيب نفسها بشيء من مهرها، قال تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء:4] أي: متى طابت نفس الزوجة بشيء من الصداق لزوجها فإنه حلال له هنيء مريء مباح له أكله، ولا يلزمه أن يدفعه لها مرة ثانية إذا كانت قد سمحت به. وسماه الله تعالى نفقة في قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34] ، يعني: بما دفعوا من هذا المال، أي: المال الذي دفعه الزوج لزوجته، فبذلك صار له الفضل والرفعة على المرأة: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34] ، ولأن الرجل هو الذي يقوم بالنفقة فله مزية وفضيلة عليها. والحاصل: أن النكاح لابد فيه غالباً من الصداق.

وجوب الصداق

وجوب الصداق وقد ذهب بعض العلماء إلى أن الصداق أو تسميته بالعقد شرط للصحة، فجعلوا شروط العقد أربعة أو خمسة: الأول: الرضا من كل من الزوجين. الثاني: تسمية كل منهما بما يتميز به. الثالث: الإيجاب والقبول من الولي ومن الزوج. الرابع: تسمية الصداق، بأن يقال: زوجتك بصداق كذا وكذا، وذلك لأن الله أمر به في قوله: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء:4] ، وهذا هو سبب تسميته صداقاً. واستحقاق المرأة لهذا الصداق لا يكون إلا بالعقد؛ كما ذكر الله تعالى أنه يجب بالعقد، وإذا طلقها قبل أن يفرض لها فليس لها إلا المتاع في قوله تعالى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة:236] ، وفي قوله: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:241] ، فإذا طلقها ولم يفرض لها فإنه يمتعها بكسوة، يمتعها بحلية، أو نحو ذلك.

استحباب تخفيف المهور وكراهة المغالاة فيها

استحباب تخفيف المهور وكراهة المغالاة فيها وقد وردت السنة بالأمر بتخفيف المهر، فورد في حديث: أن أفضل النكاح أيسره مهراً؛ وذلك أنه إذا كان المهر يسيراً فإن الرجل يرغب في الزوجة، ويعاملها معاملة طيبة، حيث إنها لم تكلفه ولم تحمله على دين أو على اقتراض أو على خسارة ظاهرة، فيحسن صحبتها، وهي أيضاً تحسن صحبته ومعاملته إذا رأته لبقاً لين الجانب حسن العشرة حسن الخلق. فهذا هو السبب في الأمر بتخفيف الصداق، وأيضاً فإن في تخفيفه حملاً للكثير على الزواج، بخلاف ما إذا تشدد الناس وتشدد الأولياء وضاعفوه وأكثروه فإن التقدم من الزوج سيكون متأخراً، وربما يجلس الواحد سنوات يجمع الصداق! فيفوت عليه جزء من عمره قبل أن يتزوج، وربما لا يتزوج إلا أفراد معدودون؛ حيث إن الكثير قد يعجزون عن ذلك الصداق الذي يثقل كواهلهم. كذلك أيضاً ورد أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: أعني؛ فإني تزوجت، فقال له: (وكم دفعت من المهر؟ فذكر له مهراً كأنه استكثره فقال: عشرين مثقالاً؟! كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل) أي: أنه يلومه على أن دفع مهراً عشرين مثالاً من فضة، مع أنها شيء يسير بالنسبة إلى زماننا. وحصل أن امرأة تزوجت بنعلين، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (أرضيت من نفسك بنعلين؟ فقالت: نعم، فأجاز نكاحها) ومنه أُخذ استحباب تخفيف الصداق وتقليله حتى لا يثقل على المتزوجين، وحتى لا يتعطل كثير من رجال ونساء.

شرح حديث: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق صفية وجعل عتقها صداقها)

شرح حديث: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق صفية وجعل عتقها صداقها) والأدلة من الأحاديث المذكورة واضحة، فالحديث الأول حديث أنس ذكر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أعتق صفية، وجعل عتقها صداقها) . وصفية هي بنت حيي بن أخطب، وهي من بني النضير من اليهود، وكان أبوها من أهل المدينة الذين أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم من ديارهم المذكورون في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} [الحشر:2] ولما خرج حيي نزل في خيبر، ثم فتحت خيبر، وكان قد قتل قبل ذلك، وسبيت نساء اليهود الذين استولي عليهم، وكانت صفية من جملة السبي، فكانت من نصيب بعض الصحابة، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم، قيل: إنه أخذها قبله ثابت بن قيس بن شماس. والحاصل: أنه اصطفاها النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه وأصبحت ملك يمين، ولما رأى أنه قد قتل أبوها، وقتل زوجها، وقتل أحد إخوتها، وأنها مصابة رأى أن يعتقها حتى يزول ما في نفسها، ورأى أن يتزوجها وأن يجعلها كأمهات المؤمنين، وأن يحجبها كما حجب نساءه، فكان في ذلك ما تسلت به عن هذه المصيبة، فجعل عتقها صداقاً فقال: (أعتقتكِ وجعلت عتقكِ صداقكِ) فرضيت بذلك، وأصبحت إحدى زوجاته يقسم لها كما يقسم لزوجاته، وبقيت في عصمته حتى مات عنها، وهي من أمهات المؤمنين رضي الله عنهن. استدلوا بذلك على أنه يجوز أن يكون الصداق غير مال؛ وذلك لأنه لم يسلم لها شيئاً، إنما قيمة نفسها جعلت كصداق لها، وهذا هو مدلول هذا الحديث.

شرح حديث: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة فقالت: إني وهبت نفسي لك)

شرح حديث: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة فقالت: إني وهبت نفسي لك) أما الحديث الذي بعده ففيه هذه القصة، وكأن هذه امرأة من المهاجرات، ولم يكن لها مأوى فجاءت إما من قرية من القرى أو من بادية من البوادي، ولم يُذكر اسمها، جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: (إني قد وهبت نفسي لك) قال الله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا} [الأحزاب:50] وكأنها سمعت هذه الآية فوهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم لتصبح كزوجة من زوجاته يقسم لها كما يقسم لزوجاته. ثم لما عرف منها هذا ونظر إليها كما في بعض الروايات: (صعد النظر فيها وصوبه) أي: وطأطأه ولما طال وقوفها جلست تنتظر، ولما طال جلوسها قام رجل من الحاضرين -وهو أيضاً من فقراء المهاجرين- وطلب أن يتزوجها إذا لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم حاجة بها، ولما كان الصداق لابد منه في النكاح طلب منه صداقاً، ولكنه فقير من فقراء المهاجرين لا يملك شيئاً، فأمره أن يصدقها شيئاً فلم يجد؛ لأنه لم يكن عنده شيء، ولم يكن له إلا إزار قد شد به عورته حتى لم يبق على ظهره منه شيء، فهو عارٍ حتى من الرداء الذي يستر به ظهره، ومن العمامة التي يستر بها رأسه، فهو إذاً من الفقراء الذين هم في شدة فقر وحاجة، هكذا حالته، فلما لم يجد عنده شيئاًَ طلب منه أن يلتمس، وردده مراراً، حتى طلب منه ولو خاتماً من حديد، والخاتم هو: الذي يوضع في إحدى الأصابع، والحديد معروف يعني: قيمته قد تساوي قرشاً أو نحو ذلك، ولكنه لم يجد حتى هذا الخاتم من حديد؛ وذلك لفقره، فجلس وانتظر، وفي بعض الروايات: (أنه ذهب مولياً) ، ولما رآه النبي صلى الله عليه وسلم مدبراً، دعاه وسأله عن الحفظ الذي يحفظه من القرآن، فعدد سوراً يحفظها: سورة كذا، وسورة كذا، فقال له: (زوجتكها بما معك من القرآن) وفي رواية قال: (فعلمها عشرين آية) فجعل تعليمه لها قائماً مقام المال الذي يُدفع لها مقابل نكاحها. هذا هو مدلول هذا الحديث. وقد استدل به بعض العلماء على أن تعليم القرآن يصح أخذ الأجرة عليه؛ وذلك لأنه هنا جعله مقام الأجر المطلوب في قوله تعالى: {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} [النساء:24] وجعله قائماً مقام المال المطلوب في قوله تعالى: {وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34] فأصبح مما يؤخذ عليه مال، ومما يصح أن يجعل صداقاً ومهراً ينتفع به، فعُرف بذلك أنه يصح أن يكون تعليم القرآن صداقاً، وبطريق الأولى تعليم غيره من العلوم التي يحتاج إليها، فإذا علمها شيئاً من الفقه، أو من الأحاديث، أو من تفسير بعض الآيات، أو علماً يحتاج إليه كعلم أدب أو علم أخلاق أو علم لغة أو غير ذلك مما يحتاج إلى تعليم صح أن يجعل هذا التعليم صداقاً. وبذلك يُعرف أنه عليه الصلاة السلام كان يسهل في أمر الصداق؛ بحيث إنه جعل هذا التعليم صداقاً قائماً مقام الأموال التي يدفعها الزوج لزوجته مقابل أن تكون بينهما الزوجية، فإذا جاز تعليمها آيات من القرآن صداقاً أو أحاديث أو تفسير آيات أو تعليم حكمٍ أو أحكام أو مسائل فقهية أو نحو ذلك ويكون ذلك قائماً مقام المال، فبالطريق الأولى أنه يصح صداقها مالاً ولو قليلاً. والله أعلم. وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

شرح عمدة الأحكام [62]

شرح عمدة الأحكام [62] أبغض الحلال إلى الله الطلاق، وقد أباحته الشريعة إذا احتاج الرجل إليه لئلا يبقي امرأة في عصمته وهو لا يحبها فتكثر المشاكل والمفاسد بينهما، وللطلاق أحكام وآداب وسنن ينبغي معرفتها.

حديث النهي عن طلاق الحائض

حديث النهي عن طلاق الحائض قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [كتاب الطلاق: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أنه طلق امرأته وهي حائض، فذكر ذلك عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتغيظ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها قبل أن يمسها، فتلك العدة كما أمر الله عز وجل) ، وفي لفظ: (ثم تحيض حيضة مستقبلة سوى حيضتها التي طلقها فيها) ، وفي لفظ: (فحسبت من طلاقها وراجعها عبد الله كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم) . وعن فاطمة بنت قيس: (أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة وهو غائب -وفي رواية: طلقها ثلاثاً- فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته فقال: والله مالكِ علينا من شيء. فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال: ليس لك عليه نفقة -وفي لفظ: ولا سكنى- فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك ثم قال: تلك امرأة يغشاها أصحابي، اعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك، فإذا حللت فآذنيني. قالت: فلما حللت ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له، انكحي أسامة بن زيد، فكرهته ثم قال: انكحي أسامة، قالت: فنكحته فجعل الله فيه خيراً كثيراً واغتبطت) ] . الطلاق: هو تخلية عصمة المرأة بعد أن ربط بينهما وثاق النكاح، فالنكاح هو: رباط بين الزوجين، والطلاق حل لذلك الرباط. علم الله تعالى أن الزوجين قد تسوء العشرة بينهما، فلا يتلاءم الزوج مع الزوجة، وتسوء صحبتها له أو صحبته لها، ويمل كل منهما من صاحبه، فحينئذٍ جعل لهما مخرجاً بهذا الطلاق، فأباح له أن يطلقها وجعل لذلك شروطاً وجعل له صفات وأسباباً. ومع كونه مباحاً فإنه مكروه، ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أبغض الحلال إلى الله الطلاق) ، فجعله حلالاً ومع ذلك ذكر أنه مكروه عند الله؛ وما ذاك إلا أنه يسبب الفرقة بين الزوجين، وقد يكون بينهما أولاد، وقد يكون بينهما صحبة طويلة، وقد يندم بعدما يطلق ولكن بعدما يفوت الأوان، فهذا ونحوه من أسباب كراهة الطلاق. وذكر العلماء: أنه يكون مباحاً، إذا احتاج إليه بأن ملّ صحبة المرأة ولم تناسبه ففي هذه الحال هو مباح، ومع ذلك فالصبر أفضل، فينبغي له أن يصبر ويتحمل المشقة، ويعاشر زوجته بما أمر الله بقوله: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] فهذا أولى، ولكن إذا حصلت الأسباب التي تسيء الصحبة فإنه يكون حلالاً ومباحاً. وأما إذا ضجرت منه الزوجة واشتد ضررها، واحتاجت إلى أن تفتدي نفسها وتبذل شيئاً من مالها حتى تفارقه وتتخلص من شره وغضبه، ففي هذه الحال يكون مستحباً؛ لما فيه من إزالة الضرر وتفريج الكربة. مر بنا هذا الحديث عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مره فليراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء) يعني: قول الله تعالى: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1] ، وفسرها بعضهم بقوله: في قُبُلِ عدتهن، أي: في أول العدة، بأن تطلق في مستقبل العدة؛ وذلك لأنه إذا طلقها وهي حائض فإن تلك الحيضة لا تحسب من العدة، فيكون سبباً في تطويل العدة بخلاف ما إذا طلقها وهي طاهر قبل أن يمس فإن ذلك الطهر يكون أول عدتها، أو تكون الحيضة التي بعده هي أول عدتها.

عدم جواز الطلاق في طهر مس امرأته فيه

عدم جواز الطلاق في طهر مس امرأته فيه قوله: (فليطلقها قبل أن يمسها) أفاد أنه إذا جامعها في ذلك الطهر لا يجوز له أن يطلقها، وإذا حاضت لا يجوز أن يطلقها في ذلك الحيض، فعرف بذلك: أن الطلاق في الحيض بدعة، وأن الطلاق في طهر قد وطئها فيه بدعة، وأن من أراد أن يطلق فليطلق وهي طاهر، يعني: ليس عليها حيض ولم يمسها في ذلك الطهر، هكذا ذكروا. ولعل ذلك لتقليل الطلاق، فإنه إذا عزم على الطلاق وملّ من صحبة زوجته قيل له: لا تطلقها وهي حائض، فإن نفسك تكون كارهة لها في تلك الحال وهي حالة الحيض، فانتظر حتى تطهر، فإذا صبر وانتظر إلى أن تطهر، فيمكن أن نفسه تندفع إليها فيطؤها؛ لأنه قد صبر وهي حائض ستة أو سبعة أيام وهو ينظر إليها، فيقول: سوف أجامعها في هذا الطهر، فإذا جامعها قيل له: لا تطلق ما دمت قد وطئتها في هذا الطهر، لا تطلق في طهر قد وطئتها فيه، فإذا انتظر إلى أن يأتي الحيض الثاني قيل له: لا تطلقها وهي حائض، فإذا طهرت من الحيضة الثانية وعزم على الطلاق فقد لا يصبر ويندفع إليها ويطؤها، فإذا وطئها عرف أنه لا يحلّ له أن يطلقها في ذلك الطهر الذي قد وطئها فيه فيمسكها، وهكذا، وبعد ذلك إما أن تتحسن الحال والعلاقة بينهما، وإما أن يخف الذي وجد في نفسه، فيعزم على إمساكها ويترك طلاقها، فهذا هو السبب في منعه من طلاقها في حيض أو في طهر قد وطئها فيه. إذاً: متى يطلق؟ لا يطلق إلا وهي في طهر لم يمسها فيه، أو بعدما يتبين حملها، فإذا حملت وتبين حملها جاز له أن يطلق، أو إذا بلغت سن الإياس وانقطع عنها الحيض جاز له والحال هذه أن يطلقها في أية حال، فأما طلاقها في طهر وطئها فيه وهي غير آيسة أو في حيض فإنه طلاق بدعة.

هل يقع طلاق البدعة؟

هل يقع طلاق البدعة؟ هل يقع طلاق البدعة أو لا يقع؟ ابن عمر طلقها وهي حائض، وذلك الطلاق بدعة، وأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يردها وقال: (مره فليراجعها) ، كلمة (يراجع) دليل على أنها طلقة؛ لأن الرجعة لا تكون إلا لمطلقة، فأفاد بأن تلك الطلقة حسبت، وسمعنا قوله في هذا الحديث: (وحسبت عليه تطليقة) ، أي: حسبت تلك الطلقة التي في الحيض، وعدت عليه من طلقاتها؛ وذلك لأن الزوج يملك ثلاث طلقات، فإذا طلق المرة الأولى ملك الرجعة ما دامت في العدة، وإذا انتهت العدة قدر على نكاحها بعقد جديد إذا تراضوا بينهم. وإذا طلقها المرة الثانية سميت أيضاً رجعية، يقدر على أن يستردها في العدة ولو بدون رضاها وبدون عقد، فإذا انتهت العدة من الطلقة الثانية فهي بائن بينونة صغرى، له أن يخطبها، وإذا تراضوا بينهم جدد العقد ورجعت إليه. فإذا طلقها الطلقة الثالثة بانت منه بينونة كبرى، بحيث لا يستطيع أن يردها، ولا يقدر على ردها، ولا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره نكاح رغبة لا نكاح تحليل. فهذا هو الطلاق الشرعي: أولاً: إذا أراد الرجل أن يطلق امرأته فلا يستعجل مخافة أن يندم، كما حكي عن الفرزدق أنه لما طلق امرأته ندم ندامة شديدة وقال في شعره: ندمت ندامة الكسعي لما غدت مني مطلقة نوار كانت له زوجة اسمها نوار، طلقها وندم عليها ندامة شديدة كندامة الكسعي، فمن تسرع في الطلاق قد يندم، فعليه أن يتريث وأن يصبر. ثانياً: إذا عزم على الطلاق فإن عليه أن يطلقها وهي طاهر في طهر لم يطأها فيه، لا يطلق في حيض ولا يطلق في طهر قد جامعها فيه إلا أن تكون حاملاً. ثالثاً: عليه أن يطلق واحدة ولا يزيد، فالزيادة على الواحدة طلقتين أو ثلاث طلقات بدعة، وإن كان يقع عند بعضهم، بل يقتصر على طلقة واحدة. رابعاً: إذا طلقها فليتركها تبقى في بيتها؛ لأنها في حكم الزوجة ما دامت في عدته ومحبوسة عليه، فهي كزوجة له، يجوز لها أن تتكشف أمامه، ويجوز لها أن تتجمل وأن تتطيب وأن تتعرض له، فإذا غلبته نفسه واندفع إليها ووطئها فلا تمتنع منه، ويكون وطؤه لها كرجعة، يعني: يعتبر أنه راجعها؛ فلأجل ذلك قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق:1] يعني: المطلقات {وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق:1] ، لا تخرج المطلقة إلا إذا كانت بذيئة اللسان، إذا كانت مثلاً شريرة فيها شيء من العتو ومن النفرة ومن الشر والقساوة الشديدة فهذا هو الفاحشة، فالفحش هو الفحش في القول، فإذا أتت بفاحشة مبينة فيجوز له والحال هذه أن يخرجها، فإذا لم تكن كذلك فإنه يتركها في بيتها، ويجوز أن يدخل ذلك البيت، وما دامت في العدة فلها حق أن ينفق عليها، ولها حق أن يبيت عندها، وإن بات عندها وحفظ نفسه ولم يطأها حتى انتهت عدتها فإنها تحل بعد ذلك لغيره، أي: إذا انتهت عدتها وهو لم يراجع ولم يجامع، فتحل لغيره وتحل له أيضاً إن أراد زواجها إذا كان الطلاق رجعياً كما قلنا. فالنبي صلى الله عليه وسلم أنكر على ابن عمر أنه طلقها وهي حائض، وجعل ذلك الطلاق بدعة وقال: (مره فليراجعها) ، فأفاد أن من طلق حائضاً يقال له: راجع. ما معنى راجع؟ يشهد لقول الله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2] فيقول: اشهدا يا فلان وفلان أني قد راجعت امرأتي. إلى متى هذه الرجعة؟ إذا راجعها أمسكها، فإذا طهرت من تلك الحيضة التي طلقت فيها فالرجعة لها آثار، فلابد من أن يجامعها في ذلك الطهر الذي يلي تلك الحيضة حتى يصدق عليه أنه راجعها؛ لأنه قال: (مره فليراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر) ، فطلاقها في الطهر الذي راجعها في الحيض قبله يعتبر أيضاً بدعة، فيقال له: إذا راجعتها وهي حائض فلا تطلقها في الطهر الذي بعده، ولو لم تمسها، بل لا تتم الرجعة إلا بأن يمسها -أي: يجامعها في ذلك الطهر- ثم يتركها، فإن تبين حملها طلقها بعد الحمل، وإن لم يتبين حملها بل حاضت الحيضة الثانية فإذا طهرت من الحيضة الثانية طلقها وهي طاهر. فعرفنا بذلك أنه لا يجوز الطلاق في الحيض، ولكن إذا طلق فإنها تحسب عليه طلقة من الثلاث الطلقات التي يملكها، وإذا طلقها وهي حائض فإنه يؤمر أن يستردها، وإذا استردها يؤمر أن يجامعها في الطهر الذي يلي تلك الحيضة، وإذا جامعها وحاضت حيضة بعدها فيؤمر إذا كان راغباً في طلاقها أن يطلقها في الطهر الذي يلي الحيضة الثانية قبل أن يجامعها، فحينئذٍ يكون قد طلقها لعدتها. والعدة للحائل التي تحيض ثلاثة قروء قال تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] أي: ثلاث حيض، فإذا طهرت من الحيضة الثالثة فإنها تحتجب عنه، وتحل لغيره إذا خطبت، وإن خطبها بعد ذلك وتراضيا حلت له، ونكحها على ما بقي له من الطلقات، فهذا هو طلاق السنة.

حكم طلاق الثلاث

حكم طلاق الثلاث الطلاق أكثر من مرة يعتبر طلاق بدعة، والسنة أن يطلق واحدة، فإن طلق اثنتين قيل: هذا طلاق بدعة، وإن طلق ثلاثاً قيل: هذا طلاق بدعة، والطلاق في الحيض بدعة، والطلاق في طهر وطئ فيه بدعة، والجمهور على أنه يقع الطلاق البدعي ويحسب عليه عقوبة له، وقد ثبت أن رجلاً جاء إلى ابن عباس رضي الله عنه فقال: إني طلقت امرأتي مائة طلقة فقال: بانت منك بثلاث طلقات، وسبع وتسعون وبال عليك، اتخذت بها آيات الله هزواً. فأبانها بينونة كبرى بثلاث، وجعل البقية وبالاً عليه، فهذا دليل على أنها تعد عليه ولو جمعها. وبكل حال فالطلاق كما عرفنا تخلية نكاح المرأة وفراقها، وقد ذكرنا أنها تتعلق به الأحكام الخمسة، فيكون مباحاً إذا احتاج إلى الطلاق وضجر من الحياة معها، ويكون مندوباً إذا كانت المرأة متضررة من سوء الصحبة وبحاجة إلى أن تفتدي، فيستحب أن يطلقها ولا يحوجها إلى فدية، ويكون حراماً إذا كان الطلاق في حيض أو في طهر وطئ فيه ونحو ذلك، فيعتبر حراماً؛ لأنه طلاق بدعة، ويكون واجباً إذا آلى من زوجته ألا يطأها أكثر من أربعة أشهر، فإنه بعد الأربعة الأشهر يجب عليه أن يرجع عن يمينه أو يطلق. إذاً: يكون واجباً للإيلاء، وحراماً للبدعة، ومكروهاً لغير الحاجة، فإذا حسنت الصحبة بين الزوجين واستقامت الحال فإنه يكره أن يطلقها؛ لأن أبغض الحلال إلى الله الطلاق، ولأنه قد يندم بعدما يقع الطلاق وقد يصعب بعد ذلك تلافيه. وقد وردت الأدلة على الأمر بالتغاضي من الزوج عما يرى من زوجته، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج، وكسرها طلاقها) ، فأمره أن يصبر على ما يرى فيها من عوج ومن نقص، ومن عيب، ويتحمل ذلك، ويصبر على ما يسمع أو على ما يرى؛ وذلك لما يتسبب عن الطلاق من الفرقة وشتات الأولاد وندم الزوج أو الزوجة على ما وقع منهما أو من أحدهما. وكذلك أيضاً المرأة مأمورة أن تتحمل، وذلك فيما إذا كان الزوج سيئ العشرة، سيء الصحبة، شرساً حقوداً غضوباً شديداً شرس الأخلاق، ضيق العطن، بذيء الكلام، سباباً شتاماً ضراباً، شديد الأذى على زوجته، فإنها تتحمل وتصبر وتصابر إلى أن تستقيم حاله، وأما إذا كانت حالته مستقيمة ليس عليها ضرر، فليس لها حق أن تطلب الطلاق؛ وذلك لقول صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة سألت الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة) ، والبأس هو: الضرر. فإذا كان الزوج قد أوفى لها متطلباتها، وأرغد عليها نفقتها وكسوتها، وقام بحقها ولم تجد منه ضرراً، ولم تجد منه نقصاً ولا قصوراً في شيء من أمور الحياة؛ فلا يجوز لها أن تطلب الفراق حتى ولو تزوج غيرها اثنتين أو ثلاثاً، فليس لها أن تطلب الطلاق ما دام أنه لا ضرر عليها ولا مشقة، فمتى تحمل كل من الزوجين ما يجده من الآخر، وصبر على ذلك؛ استقامت الحال وحسنت الصحبة.

شرح عمدة الأحكام [63]

شرح عمدة الأحكام [63] شرع الله العدة لحق الزوج وبراءة الأرحام، وفي هذه العدد معان وحكم تختلف من عدة إلى أخرى، وهي من محاسن الشريعة في تنظيم المجتمع وحفظ الأنساب.

أنواع العدد

أنواع العدد قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [باب العدة. عن سبيعة الأسلمية: (أنها كانت تحت سعد بن خولة وهو من بني عامر بن لؤي، وكان ممن شهد بدراً، فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته، فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك -رجل من بني عبد الدار- فقال لها: ما لي أراك متجملة! لعلك تريدين النكاح؟ والله ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر. قالت سبيعة: فلما قال لي ذلك، جمعت عليّ ثيابي حين أمسيت فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك، فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي، وأمرني بالتزويج إن بدا لي) ، قال ابن شهاب: ولا أرى بأساً أن تتزوج حين وضعت وإن كانت في دمها غير أنه لا يقربها زوجها حتى تطهر. وعن زينب بنت أم سلمة قالت: (توفي حميم لـ أم حبيبة فدعت بصفرة فمسحت بذراعيها، وقالت: إنما أصنع هذا؛ لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد فوق ثلاث إلا على زوج) ، الحميم: القرابة] . هذا الباب يتعلق بالعدة أي: عدة المطلقة أو المفارقة أو المتوفى عنها، وقد أخبر الله تعالى بأن المطلقة لها عدة قال تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] والتربص هو الانتظار، أي: لا تتزوج حتى يمر بها ثلاثة قروء، وفسرت القروء بأنها الحيض أي: حتى تحيض ثلاث حيض، وفسرت أيضاً بأنها الأطهار، أي: حتى تطهر ثلاثة أطهار أي: طهر ثم حيضة ثم طهر ثان ثم طهر ثالث. المرأة التي يأتيها الحيض منتظماً أو التي لم تزل في سن تحيض فيه أمثالها، عدتها ثلاثة قروء. وإذا أراد أن يطلقها فقد تقدم أنه ينتظر حتى تطهر من حيضها ثم يطلقها بعدما تطهر قبل أن يجامعها؛ وذلك لقول الله تعالى: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق:1] طلقوهن لعدتهن أي: في ابتداء العدة، وأحصوا العدة أي: احفظوا العدة حتى لا تزيدوا عليها في العدة ولا تظلموها. فهذا يبين أن المرأة المطلقة لها عدة لابد أن تتربصها، هذا إذا كانت ذات أقراء، أما إذا انقطع حيضها للكبر أو كانت لم تحض بعد كالصغيرة فبين الله عدتها في قوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق:4] ، فالكبيرة التي لا تحيض إذا طلقت تربصت ثلاثة أشهر، والصغيرة التي لم تحض إذا طلقت عدتها ثلاثة أشهر أيضاً. وذكر الله عدة الحامل في قوله تعالى: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4] ، وذكر عدة المتوفى عنها في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة:234] ، فبين الآيتين عموم وخصوص، فقيل: إن آية سورة البقرة أعم، يعني: أن كل متوفى عنها لابد أن تمكث أربعة أشهر وعشراً بعد موت زوجها، فإن كانت حاملاً ووضعت حملها انتظرت بعد وضع الحمل حتى تتم أربعة أشهر وعشراً، وإن لم تكن حاملاً أتمتها. وهذا قول روي عن بعض السلف، قالوا: وإن أتمت الأربعة أشهر وحملها باقٍ فإنها تنتظر حتى تضع حملها ولو بقي بعد موت زوجها تسعة أشهر، فلا تنقضي عدتها حتى تضع؛ لقوله تعالى: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4] . ولكن قصة سبيعة التي ذكرت في هذا الحديث تبين أن الحامل تنقضي عدتها ولو وضعت حملها قبل أن يوارى زوجها أو قبل أن يجهز؛ لعموم الآية: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4] . وفي هذه القصة: أن سبيعة كانت تحت سعد بن خولة وهو من بني عامر من قريش، فمات عنها في حجة الوداع في السنة العاشرة، وكانت حاملاً، فوضعت حملها بعد موته بأيام قليلة، فلما وضعت حملها اعتقدت أنها قد حلّت، فلما انتهت من نفاسها أو تعلت من نفاسها تجملت للخطّاب. وفي هذا الحديث: أن أبا السنابل بن بعكك دخل عليها، وأخبرها بأنها لا تزال في العدة حتى تكمل الأربعة الأشهر والعشر؛ لأنه ما مضى على موت زوجها إلا أيام قليلة، فأنكرت ذلك وقالت: إن الله يقول: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4] ، فكيف تبقى في العدة بعد أن وضعت الحمل؟ فسألت النبي صلى الله عليه وسلم، فأقرها على ما فهمت، وأجرى آية سورة الطلاق على عمومها، وأن كل حامل متى وضعت حملها انقضت به عدتها، سواء وضعته بعد ستة أشهر أو بعد ستة أيام، أو أقل أو أكثر، فلو وضعت حملها بعد موت زوجها بدقائق انقضت عدتها، ولو وضعت حملها بعد موته بتسعة أشهر؛ بأن مات وقد علقت منه لم تنقض عدتها إلا بعد أن تضعه، ولو تعدد الحمل بأن كان في بطنها اثنان أو أكثر، لم تنقض عدتها إلا بوضع آخر ما في بطنها؛ لعموم الآية: {أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4] . وإذا أرادت أن تتزوج بعد وضع الحمل فلها ذلك، ولو كانت في دمها، حتى ولو بعد وضع الحمل بدقائق، ولكن معلوم أنه لا يحل وطؤها للزوج الجديد إلا بعد أن تطهر من نفاسها، فهذه هي المتوفى عنها. أما إذا لم يكن بها حمل فإنها تمكث أربعة أشهر وعشرة أيام كما في الآية، وقد كان الجاهليون تمكث الزوجة بعد زوجها سنة كاملة، ونزل في ذلك آية هي قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ} [البقرة:240] ثم نسخ الحول، واقتصر على أنها تمكث أربعة أشهر وعشرة أيام.

الحكمة من العدة

الحكمة من العدة الحكمة في العدة ظاهرة، فالحامل لا تتزوج حتى تضع حملها؛ لأن هذا الحمل من الزوج السابق، ولا يجوز لها أن تتزوج فيطؤها الزوج الجديد فيختلط الماءان، وقد ورد النهي الشديد عن وطء الحبلى، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسق ماءه ولد غيره) يعني: لا يطأ الحامل التي حملها من غيره؛ وذلك لأن الوطء يكون زيادة لهذا الحمل أو تنمية له، يزيد المني في سمعه أو في حواسه أو نحو ذلك، فلأجل ذلك سماه سقيا: (لا يسقي ماءه ولد غيره) ، وفي رواية: (زرع غيره) ، حتى لا تختلط الأنساب؛ لأنها إذا تزوجت وهي حامل فربما تنسب الولد إلى الزوج الجديد، وتنكر أنه لزوجها القديم، فيحصل بذلك اختلاط الأنساب، وكون هذا الإنسان انتسب إلى غير أبيه، والأم تعرف أنه قد انعقد الحمل في رحمها، فلا يحل لها أن تتزوج وهي حامل، بل عليها أن تخبر بما في رحمها، قال تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة:228] ، فلا تكتم الحمل الذي في رحمها، ولا تكتم الحبل الذي في رحمها، بل تخبر بحقيقة الأمر، وهي مصدقة ومقبولة الكلام، والأمر يرجع إليها. أما تربص المطلقة فمعلوم أن الحكمة في ذلك الرفق بزوجها، فإذا طلقها ثلاثاً أو طلقها آخر ثلاث، أو طلقها واحدة أو اثنتين، فإنها لا تتزوج حتى تمكث ثلاث حيض، فإن كانت رجعية بأن كان الطلاق واحداً أو اثنتين أمكنه أن يراجعها في هذه المدة، قال الله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة:228] أي: في ذلك الوقت والزمان الذي هو العدة، أي: أن الزوج إذا طلقها واحدة ومكثت ثلاثة قروء يمكن أن يستردها بأن يعيدها إلى عصمته، يقول الله تعالى: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق:1] فأمره أن يطلقها لعدتها، وأن يتركها في بيتها، وأن تبقى على حالتها معه لا تحتجب عنه، فإذا بدا له في هذه المدة مراجعتها، وتغيرت نيته وراجعها، رجعت إلى عصمته، وعادت الأمور إلى ما كانت عليه، ورجعت الزوجية وحسنت الحال، فقد يحصل تأسف من أحدهما بعد وقوع الطلاق، فإذا كان الطلاق رجعياً وكانت المدة طويلة ثلاثة أشهر أو ثلاث حيض كان في الإمكان أن يتراجعا، فجعلت هذه المدة فسحة للزوج حتى يراجع نفسه. وكذلك إذا كانت المطلقة تعتد بالأشهر كالآيسة والصغيرة، فإن عدتها ثلاثة أشهر، وفي هذه الثلاثة الأشهر أيضاً فسحة، ربما يتأسف فيعيدها، سيما إذا كانت طويلة الصحبة، وكانت أم أولاده، فإنه قد يندم بعد ذلك، وهي أيضاً قد تندم إذا حصل الطلاق بسبب من قبلها، بأن تكون هي التي طلبت الطلاق أو أساءت المعاملة أو شددت عليه الصحبة، أو في العشرة، ثم وقع الطلاق، وكان الطلاق واحدة أو اثنتين؛ فجعلت العدة لها حتى تراجع نفسها وحتى تنظر في أمرها، فربما تتأسف وتقول له: أريد الرجعة، وأحب أن تعيدني، وسوف أحسن العشرة، وأحسن الخلق، ولا أعود إلى طلب طلاق، ولا أعود إلى سباب، ولا إلى سوء معاملة، ولا إلى عصيان ونشوز ومخالفة. فعند ذلك يعيدها إلى ما كانت عليه، فعرف أن شرعية هذه العدة سببه الرفق بالزوج، والإحسان إليه. وأما المتوفى عنها إذا كانت حاملاً فمعلوم أن زوجها لا رجوع له عليها في الدنيا، بل قد بانت منه البينونة الكبرى التي هي الموت، فإذا مات فإنه لا جمع بينهما في الدنيا، فإذاً: تحل لغيره، ولكن بعدما تنقضي عدتها، فإن لم تكن حاملاً انتظرت أربعة أشهر مخافة أن يكون في بطنها حمل وهي لم تشعر به. والغالب أن الأربعة الأشهر يتقلب فيها الجنين إلى أن ينفخ فيه الروح، أربعة أشهر هي أربعون يوماً نطفة ثم علقة ثم مضغة، ثم بعد الأربعة الأشهر ينفخ فيه الروح فيتحرك، فإذا مضت الأربعة الأشهر جعلت العشرة الأيام احتياطاً حتى تعرف، فإن كان فيها حمل أحست به وبحركته، فإذا لم يكن فيها حمل تبين أنها حائل، وجعلت الأربعة الأشهر وعشرة الأيام لكل مطلقة حتى ولو كان يأتيها الحيض كل شهر، وتتحقق براءة رحمها، فجعلت العدة والاحداد لكل متوفى عنها سواءً كانت حائضاً أو آيسة أو في بطنها حمل لم يتبين، فإذا تبين براءة رحمها في الأربعة الأشهر والعشرة عند ذلك تمت عدتها. ومعلوم أنها في هذه المدة تستطيع أن تصبر عن الزواج أربعة أشهر، وقد تصبر أيضاً أكثر من ذلك، ولكن هذه المدة هي التي يخشى إذا طالت المدة فوقها أن يضر ذلك بها، فإن لها شهوة كما للرجال شهوة، فجعل الله هذه المدة لأنها مدة مستطاعة لكل من الزوجين، ولكل منهما مراجعة الآخر، والنظر في حاله في الطلاق الرجعي وفي غيره. أما المطلقة التي طلقت ثلاثاً فمعلوم أنه لا رجعة لزوجها عليها، ومع ذلك تعتد ثلاثة قروء أو ثلاثة أشهر، ولعل الحكمة في ذلك الاحتياط للنكاح حتى لا تكون مثلاً قد انتهت عدتها في شهر أو في نصف شهر فتستعجل النكاح، فجعل لها ثلاث حيض أو ثلاثة أشهر احتياطاً للحمل، واحتياطاً لحفظ الأرحام، ولتكون عدة المطلقة على نمط وباب واحد. واعلم أن باب العدد قد ذكرت أدلته في القرآن كما أشرنا إلى ذلك، فيعرف بذلك أنه من أهم المهمات، وأن أدلته واضحة في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

شرح حديث: (لا تحد امرأة على ميت فوق ثلاث)

شرح حديث: (لا تحد امرأة على ميت فوق ثلاث) قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [وعن أم عطية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تحد امرأة على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً، ولا تلبس ثوباً مصبوغاً إلا ثوب عصب، ولا تكتحل ولا تمس طيباً إلا إذا طهرت نبذة من قسط أو أظفار) العصب: ثياب من اليمن فيها بياض وسواد. وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن ابنتي توفي عنها زوجها، وقد اشتكت عينها أفنكحلها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، مرتين أو ثلاثاً، ثم قال: إنما هي أربعة أشهر وعشر، وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول، فقالت زينب: كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشاً ولبست شر ثيابها، ولم تمس طيباً ولا شيئاً حتى تمر عليها سنة، ثم تؤتى بدابة حمار أو طير أو شاة فتفتض به، فقلما تفتض بشيء إلا مات، ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها، ثم تراجع بعد ما شاءت من طيب أو غيره) الحفش: البيت الصغير. تفتض: تدلك به جسدها] .

معنى الإحداد

معنى الإحداد هذه الأحاديث تابعة للعدة، ولكنها تختص بالإحداد، والإحداد يختص بالزوجة المتوفى عنها، ولا يحد غيرها من المتوفى عنهن، ولا يحد غير المتوفى عنها من سائر المطلقات، فإذا طلقها ثلاثاً فلا تحد، وإذا خالعها فلا إحداد عليها، سواءً كانت صغيرة أو كبيرة، ذات أقراء أو غيرها، إنما الإحداد على من مات عنها زوجها، فهذه هي التي تحد. والإحداد ترك الزينة، وقد كانت مدته في الجاهلية سنة كاملة، وجاء ذلك في أول الإسلام قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة:240] ، ففي هذه الآية أن المتاع وعدم الإخراج من المنزل كان في أول الأمر سنةً وافية، ثم بعد ذلك خففه الله وجعله أربعة أشهر وعشرة أيام في قوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة:234] ، وجاءت السنة بزيادة الإحداد، لأن القرآن جاء فيه التربص، أي: الانتظار، وهو انتظار المتوفى عنها أربعة أشهر وعشرة أيام، وعدم تزوجها حتى تمضي هذه المدة، والسنة جعلت عليها الإحداد في أربعة أشهر وعشر. والإحداد يختص بوفاة الزوج، فلا تحد المرأة على أبيها ولا على أخيها ولا على ولدها ولا على عمها أو خالها، ولا على أحد من أقاربها إلا على الزوج فإنها تحد عليه هذه المدة.

الحكمة من الإحداد

الحكمة من الإحداد الحكمة في الإحداد: أنها تمتنع من الزواج؛ وذلك لأنه لو رخص لها في التجمل وفي التحلي ونحو ذلك، لأدى بها ذلك إلى أن تمتد أطماعها إلى الزواج، وتخبر بانقضاء العدة قبل انقضائها، وتنسى ما هي فيه أو نحو ذلك. وقيل: إن الحكمة في الإحداد معرفة المرأة حق زوجها في الحياة، إذا كان زوجها هو الذي تحد عليه وتترك بعد موته الزينة وتترك الجمال، فإنه يجب أن تعرف له حقه في الحياة، وأن تطيعه وأن تخدمه وتقوم بخدمته، وأن تعرف له الأقدمية والمكانة، وأن تعرف له حقه عليها فتطيعه ولا تتمنع من حق له عليها.

ترك المحتدة لثياب الزينة والكحل والطيب

ترك المحتدة لثياب الزينة والكحل والطيب والمحدة مدة إحدادها تمتنع من كل أسباب الزينة، فلا تلبس ثياب الزينة، ولا تلبس الثياب التي تتجمل بها أو تلبسها في الحفلات وعند الزيارات ونحوها. قوله في حديث أم عطية: (ولا تلبس ثوب عصب) ثياب العصب: ثياب تنسج في اليمن، فيها خطوط مستطيلة ومعترضة، وهذه الخطوط تزيدها جمالاً وتكون لافتة للنظر بلبسها، فلا جرم نهي عن لبس هذه الثياب، ويقاس عليها كل الثياب المخططة التي فيها خطوط إما مستطيلة وإما معترضة وإما بقع للزينة أو نحوها، فتؤمر بأن تلبس الثوب الذي ليس فيه إلا لون واحد سواد كله أو حمرة كله أو صفرة كله أو خضرة أو ما أشبه ذلك. ولا تلبس الثياب التي فيها شهرة بحيث يلتفت إليها من ينظر إليها، أو تلفت نظره بأنها متجملة وبأنها تريد الخطّاب أو نحو ذلك. كذلك أيضاً في الحديث الذي بعده أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن تلك المرأة التي مات زوجها، واشتكت عينيها هل تكتحل أم لا تكتحل؟ فقال: (لا تكتحل) مرتين أو ثلاث مرات؛ وذلك لأن الكحل عادة يجمل العينين، ويجمل الحدقتين والأهداب والأجفان، وقد تكحل أيضا حاجبيها فيزيدها جمالاً، فنهيت عن الاكتحال مع أنها قد تحتاج إليه، ولكن يقولون: لا تمتنع من علاج عينها، فإذا رمدت عالجت عينها بإثمد مثلاً أو بمرهم أو بقطرة من القطرات التي تعالج بها العين في الرمد أو ما أشبه ذلك، فهذا مما لا بأس به، وأما الكحل فإنه في الحقيقة يعتبر جمالاً وزينة، ورخص بعضهم فيه إذا احتاجت إليه للضرورة ولم يكن فيه زينة بأن تكحل بالليل وتمسحه في النهار؛ لأن النهار هو الذي يراها فيه الناس غالباً، فتقتصر على وقت الحاجة إذا اضطرت إلى الاكتحال ولم تجد غيره يقوم مقامه، هذا بالنسبة إلى الاكتحال. كذلك أيضاً تتجنب الطيب سواء كان له رائحة أو له لون، وسواء في بدنها أو في ثيابها، ولا شك أن الطيب يلفت الأنظار. وفي حديث أم حبيبة لما توفي أبوها أبو سفيان، ومضى عليها ثلاثة أيام دعت بصفرة يعني: طيباً فيه صفرة كالكرمي ونحوه، ومسحت به ذراعيها وقالت: (والله! ما لي بالطيب من حاجة، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً) . فتطيبت بعد موت أبيها بثلاثة أيام حتى لا يقال: إنها حادة على أبيها؛ لأن الإحداد لا يكون إلا على الزوج، وطيبها إنما هو بهذه الصفرة التي مسحت بها ذراعيها، فدل على أن الطيب الذي له لون ينافي الإحداد فلا تتطيب بهذا اللون، وبطريق الأولى الطيب الذي له رائحة عبقة، سواء يطيب به الثوب أو يطيب به الشعر أو يطيب به البدن، أو نحو ذلك، وقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم على أم سلمة وهي حادة على زوجها فرآها قد غسلت رأسها بصبر فيه شيء من الرائحة، فسألها فأخبرته فقال: لا تستعملي هذا الصبر فإنه يشب الوجه، فسألته بأي شيء أغسل رأسي فقال: بالسدر، يعني: بورق السدر المسحوق فإنه لا رائحة له، وهو مع ذلك ينظف الشعر، وينظف البشرة، وليس فيه أثر طيب، وإذا احتاجت الحادة في هذه الأزمنة إلى أن تغسل رأسها غسلت رأسها بالسدر إن كان موجوداً أو غسلته بالصابون الذي لا رائحة له، وأما استعمال الصابون الذي فيه طيب كالممسك فلا تستعمله. وكذلك لا تدهن رأسها بدهان فيه طيب، وإذا احتاجت إلى أن تدهن رأسها دهنته بدهن لا طيب فيه، كدهن زيت الزيتون ونحوه مما ليس فيه رائحة، بخلاف بقية الأدهان التي فيها رائحة عبقة، والحادة مأمورة أن تتجنب ما له رائحة تلفت الأنظار. وعلى كل حال فالحادة لا تتطيب. وفي هذا الحديث رخص النبي صلى الله عليه وسلم لها إذا طهرت من الحيض أن تغسل ما أصاب جسدها من دم الحيض، تتخذ نبذة من ظفر أو أقساط تتبع به أثر الدم، والقسط: طيب معروف ولكن ليس له رائحة عبقة، والأظفار: أيضاً نوع من الطيب يوجد عند البقالين، تخلط هذا القسط وهذه الأظفار وتسحقه، وبعد ذلك تضربه بماء وتتبع به أثر الدم على فخذيها أو على ثيابها، فتستعمله بعد طهرها من حيض إن كانت تحيض، فأما في غير الطهر فلا تستعمل القسط ولا غيره من أنواع الطيب. وكذلك الحادة منهية أن تلبس الحلي؛ لأنه من الزينة فلا تلبسه في رقبتها كالقلادة، ولا تلبسه في أصابعها كالخواتيم، ولا تلبسه في ذراعيها كالأسورة، ولا تلبسه في آذانها كالأقراط، ولا في رجل ساقيها كالخلاخيل، ولا غير ذلك من الألبسة التي يتحلى بها، سواء كانت من الذهب أو من الفضة، ولا شك أن الحلي يلبس للزينة، وتتجمل به المرأة، وتدعو به من يرغب فيها، فإذا لم تتحل فإنه دليل على أنها حادة قد اجتنبت ما يلفت إليها الأنظار، فهذا ما تتركه الحادة.

عادة الجاهلية في إحداد المرأة

عادة الجاهلية في إحداد المرأة أهل الجاهلية كان الإحداد عندهم مدة سنة، وإذا مات زوج المرأة تدخل حفشاً أي: بيتاً صغيراً، وغالباً أنه مكون من قصب أو من جريد أو من سعف أو نحو ذلك، تدخل هذا الحفش وليس عندها مكيفات ولا تهوية ولا غير ذلك، وتبقى في هذا الحفش سنة وافية، لا تغتسل فيه ولا تتنظف، ولا تغير ثيابها، ولا تغسل شعرها في هذه المدة كلها، حتى تمضي عليها سنة وهي على هذه الحال، ولا تأكل إلا القوت الضروري الذي تقوت به نفسها، تعطى خبزة كل يوم أو خبزتين أو نحو ذلك قدر كفايتها، ومن الشراب ما يسد ظمأها فقط، أما أنها تغسل رأسها أو تغسل جسدها فلا، فكانت لا تغسل شيئاً من جسدها ولا من ثيابها مدة سنة، ماذا تكون حالها بعد هذه السنة وهي في هذا الحفش -البيت الصغير- الذي ليس فيه تهوية، وكله وسخ وقذر؟ كيف تكون حالها إذا خرجت منه؟ وبعد تمام السنة تؤتى بدابة كحمار أو طير أو نحو ذلك فتفتض به قبل أن تغتسل، أي: تدلك به جسدها الذي قد تراكم عليه الغبار، وتراكمت عليه الأوساخ، وتراكمت عليه الروائح، فتدلك جسدها بجلد ذلك الحمار أو تلك الدابة أو الشاة ونحوها، حتى أن تلك الدابة قد تموت من رائحتها وقذارتها، قلما ما تفتض -يعني: تدلك- بشيء من الدواب إلا مات، ثم بعد ذلك يأتونها ببعرة، والبعرة هي بعرة الإبل أو نحوه، فترمي بهذه البعرة طوال ما تستطيعه وكأنها تقول: هذه السنة التي مضت عليّ خفيفة كما تخف عليّ هذه البعرة التي أنبذها وأطرحها، وكل ذلك محافظة على حق الزوج، ولكن جاء الإسلام بالتخفيف عنها، فأمرت أن تغتسل متى شاءت، وتغتسل إذا انتهت من الحيض أو نحو ذلك، وإذا احتاجت إلى الاغتسال فإنها تغتسل ولكن كما قلنا: لا تستعمل في غسل جسدها ما له رائحة ونحوه، وذلك من تخفيف الله تعالى، وتخفيف هذه الشريعة عليها، وذلك من سهولة الإسلام وإزالة الآصار والأغلال.

شرح عمدة الأحكام [64]

شرح عمدة الأحكام [64] من الأمور التي شرعها الله للخلاص من المرأة المتهمة في عرضها اللعان، وهو فرقة ناتجة عن تلاعن الزوجين، ويترتب عليها أحكام بينها العلماء.

شرح حديث الملاعنة

شرح حديث الملاعنة قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [باب اللعان. عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن فلان ابن فلان قال: (يا رسول الله! أريت أن لو وجد أحدنا امرأته على فاحشة كيف يصنع؟ إن تكلم تكلم بأمر عظيم، وإن سكت سكت على مثل ذلك، قال: فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجبه، فلما كان بعد ذلك أتاه فقال: إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به، فأنزل الله تعالى هؤلاء الآيات في سورة النور: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور:6] فتلاهن عليه ووعظه وذكره وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فقال: لا والذي بعثك بالحق ما كذبت عليها. ثم دعاها ووعظها وذكرها وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فقالت: لا والذي بعثك بالحق إنه لكاذب، فبدأ بالرجل فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم ثنى بالمرأة، فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، ثم فرق بينهما ثم قال: الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟ ثلاثاً -وفي لفظ: لا سبيل لك عليها قال: يا رسول الله! ما لي، قال: لا مال لك، إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها، وإن كنت كذبت عليها فهو أبعد لك منها) . وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن رجلاً رمى امرأته وانتفى من ولدها في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلاعنا كما قال الله تعالى، ثم قضى بالولد للمرأة، وفرق بين المتلاعنين) ] .

سبب نزول آيات اللعان

سبب نزول آيات اللعان هذه الأحاديث من الأحاديث التي تشرح وتبين ما ورد في كتاب الله تعالى من آيات اللعان، ذكر العلماء أنه لما نزلت آيات القذف وحد القاذف وهي قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:4-5] ، استثقلها بعض الصحابة وقالوا: إذا رأى أحدنا رجلاً مع امرأته يفجر بها كيف يذهب ويأتي بأربعة شهداء؟ أي أنه لا يتمكن من المجيئ بأربعة شهداء حتى يقضي الفاجر حاجته ويذهب، فعند ذلك تحرجوا ووقعوا في مشكلة، فبين الله تعالى حكم ما إذا قذف الرجل امرأته في هذه الآيات، وبقيت الآيات التي فيها حد القذف خاصة لمن قذف أجنبياً أو أجنبية، فمن قذف رجلاً بفعل فاحشة لا يقبل منه إلا بأربعة شهداء، أو قذف امرأة محصنة فلا يقبل منه إلا بأربعة شهداء، قال الله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء:15] ، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور:4] ، وقال تعالى: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور:13] . أما إذا قذف الرجل امرأته فإنه قد لا يستطيع أن يحضر أربعة شهداء، ففي هذه الحال ماذا يفعل؟ يقول هذا السائل الذي عبر عنه الراوي بقوله: فلان، وقد سمي في بعض الروايات بأنه عويمر العجلاني من بني عجلان من الأنصار، ووقعت مثل هذه القصة لرجل آخر وهو هلال بن أمية أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم في قوله {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة:118] . هذان الاثنان وقع أن كلاً منهما قذف امرأته وتلاعن معها عند النبي صلى الله عليه وسلم بعدما نزلت هذه الآيات، ويمكن أن قصة هلال وقصة عويمر وقعتا في وقت قريب في شهر أو في شهرين، فأنزل الله هذه الآيات في بيان حكم مثل هذه القصة. دعا النبي صلى الله عليه وسلم عويمراً فقرأ عليه هذه الآيات وذكره ووعظه إذا كان كاذباً أن يعترف؛ وذلك لأنه إذا اعترف بأنه كاذب فحده ثمانون جلدة، وإذا أنكر وهو كاذب عليها فعقوبته في الآخرة أشد؛ ولأجل ذلك قال له: إن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا، فعذاب الدنيا منقطع، وعذاب الآخرة أشد وأبقى، ولكنه أصر على أن يستمر على قذفه لها، وأنه رآها تزني. فعند ذلك أمره أن يلتعن ويقول: أشهد بالله على امرأتي هذه أنها زنت، أشهد بالله على زوجتي هذه أنها زنت، أشهد بالله على هذه المرأة أنها زنت، أربع مرات ثم يقول بعد ذلك في المرة الخامسة: لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، فشهد أربع شهادات أنه صادق، وقال: لقد صدقت عليها فيما قلت، ولعن نفسه في المرة الخامسة إن كان قد كذب عليها. ولما تم لعانه دعا المرأة واستثبتها ووعظها وذكرها وأخبرها بأن عذاب الآخرة أشد من عذاب الأولى؛ رجاء أن تعترف إن كانت قد فجرت، ولكنها أصرت على الإنكار وتشددت وقالت: قد كذب عليّ، فعند ذلك استحلفها فشهدت أربع مرات، وقالت: أشهد بالله على زوجي هذا أنه من الكاذبين فيما قذفني به، أربع مرات ثم قالت في الخامسة: غضب الله عليها إن كان من الصادقين، فلما شهدت على نفسها أربع مرات، وفي الخامسة دعت على نفسها بالغضب؛ عند ذلك ذكرهما بالتوبة فقال: (الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب؟) . النبي صلى الله عليه وسلم بشر لا يعلم الغيب، ولو كان يعلم الغيب لقال: أنتِ كاذبة، وأنت صادق، أو أنتِ صادقة وأنت كاذب، ولكن الله الذي يعلم فلذلك قال: (الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب؟) ، فلما استمر كل منهما على ما يبرر موقفه وأنكر ما يقوله الثاني، عند ذلك فرق بينهما فرقة مؤبدة، فأخذ العلماء من ذلك أن الملاعنة تحرم على الملاعن عقوبة لهما حرمة مؤبدة، حتى لو كذب نفسه بعد ذلك لم يرجع إليها، وكذلك لو كذبت نفسها وسقط عنها الحد أو كانت غير محصنة وجلدت وأقيم عليها الحد لم يتمكن من مراجعتها، لا بعقد ولا بمراجعة ولا بغير ذلك، بل الفرقة بينهما فرقة دائمة لا رجوع بعدها؛ ولأجل ذلك قال: لا سبيل لك عليها، أي: ليس لك سلطان ولا قدرة أن تستعيدها. وفي بعض الروايات أنه طلقها، وقال: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، أي: إن كنت رضيتها فأنا كاذب عليها، فطلقها ثلاثاً قبل أن يأمره النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا الطلاق لا يحتاج إليه؛ لأن الفرقة حصلت قبله، بمجرد تمام التلاعن حصلت الفرقة، ولما طلب ماله الذي دفعه كمهر قطع رجاءه من هذا المال وقال: (إن كنت كاذباً عليها فهو أبعد لك منها، وإن كنت صادقاً فهو بما استحللت من فرجها) أي: أنك قد نكحتها مدة، فهذا المال الذي قد دفعته إليها مقابل استمتاعك بها هذه المدة.

الفوائد المستفادة من حديث الملاعنة

الفوائد المستفادة من حديث الملاعنة أخذ العلماء من هذه الواقعة ومن هذه الآيات أحكاماً ومنها: أن هذه الفاحشة لا يصبر عليها ولا يقرها في أهله إلا الديوث الذي يقر الخنا في أهله، فهذان اثنان من الصحابة هلال وعويمر، كل منها صبر على فراق زوجته وادعى أنها زانية ولاعنها ولم يقرها أن تبقى معه وهو يعلم أنها قد فجرت، ولو مرة واحدة، وذلك دليل على حماستهم وغيرتهم على نسائهم، لا يرضى أحدهم أن يشاركه في امرأته شخص أجنبي يفسد عليه فراشه، ويدخل عليه من الأولاد ما ليس له، ولا يرضى أن امرأته تخونه فتدخل في بيته من لا يرضاه، وتجلس على فراشه غيره، وتمكن من نفسها غير زوجها، فإن ذلك حرام، وفعلها يعتبر خيانة لزوجها، وإقرار الزوج على ذلك يعتبر دياثة وإقراراً للإثم والحرام، ولم يكن الصحابة يقرون شيئاً من ذلك. وهكذا أيضاً كل غيور، وكل من عنده حماسة وغيرة على محارمه لا يقر الخنا في أهله، بل متى رأى من امرأته شيئاً من الخيانة أدبها ولو بالإشارة أو نحو ذلك، وإذا لم يستطع أن يقيمها لم يمسكها، بل صبر على فراقها ولو كان معها أولاده، يصبر على فراقها ولو قد خسر عليها مالاً كبيراً، وكذلك يحرص على أن تبرأ ساحته، حتى لا يقال: إنه ظلمها، وإنه كذب عليها؛ فلأجل ذلك يحضر الغيور الذي يغار على محارمه عند القاضي، ويحضر امرأته، ويحضر معه من يشهد عليها ويعرف أنها فلانة امرأة هذا الرجل، فعند ذلك يأمره القاضي بهذا الأمر الذي هو التلاعن. والقرائن غالباً تكون في جانب الرجل، فهو أولى أن يكون صادقاً؛ وذلك لأنه في الغالب لا يصبر على فراق امرأته، ولا على فراق أولاده، ولا على ذهاب ماله الذي دفعه إلا وقد رأى شيئاً يسوءه، ورأى ما لا صبر له عليه من هذه الخيانة الشنيعة البشعة، فعند ذلك يقدم على قذفها ورميها؛ حتى تبرأ ساحته، وحتى يظهر عيبها وشناعتها، ويظهر خيانتها، ويعرف الناس أنها متهمة فلا يقبلها من هو ذو غيرة، وذو أنفة على نفسه؛ فإذا افتضحت هذه المرأة بأنها قد لاعنت وطلقت، وأن زوجها ليس بمتهم، وأن التهمة أقرب إليها؛ كان ذلك أقرب إلى ألا تفعل شيئاً يسوءها ولا يسوء زوجها. وفي هذه الأزمنة كثير من الرجال يأتون إلينا ويشتكون ما يرونه من نسائهم أو يسمعون أو يطلعون على أسرار أو على خفايا أو على قرائن أو نحو ذلك، ولعلكم قد سمعتم أكثر مما سمعنا، فنشير عليه بأن يفارقها سراً إذا تحقق أنها قد اتخذت أخداناً، وأنها قد خانته في نفسها وفي فراشه، فنشير عليه أن يفارقها وألا يكشف سترها وسرها، ولكن يخبرها فيما بينه وبينها حتى يكون ذلك عذراً له عندها، فيخبرها بأنه قد اطلع على كذا وكذا، وكثير من الرجال يطلعون على شيء كثير، وفي الأخص في الزمن الأخير بسبب وجود المكالمات الهاتفية، فيسجل عليها مكالمات بينها وبين بعض أخدانها، ويجد أنها قد خرجت معهم، أو أنها قد أدخلتهم في غيبته، وهذه الأشرطة تشهد بكلامها معهم، وبما قد يحصل من ترقيق الكلام، وما أشبه ذلك مما يدل على بشاعة ما حصل منها أو تهمتها في ذلك، أو قد يجد أنها أدخلت في اليوم الفلاني شخصاً أو خرج من عندها من هو متهم، أو نحو ذلك، ولكن ليس عنده يقين، ما رأى بعيني رأسه فعلها للفاحشة ولكن رأى هذه المقدمات، ولا يستطيع أن يقذفها بمجرد هذه المقدمات، ففي هذه الحال يخبرها سراً، ويفارقها ولا يمسكها وهي على هذه الحالة حتى يسلم عرضه، وحتى يسلم نسبه، ولا يدخل في نسبه ولا في أولاده من ليس من أهله، وبذلك يستر نفسه ويستر امرأته، ولا يعرض نفسه للحلف أو للعن أو للشهادات أو ما أشبه ذلك. أما إذا رأى بعينه وسمع بأذنه، رأى الفاحشة بأن وجد عليها رجلاً أجنبياً، فنقول له في هذه الحال: يحقق هذا الباب الذي هو اللعان، فيرميها، ويحضر معها عند الحاكم كما فعل هذان الصحابيان هلال وعويمر، ويأمره القاضي بأن يشهد هذه الشهادات، ثم بعد ذلك يكون ذلك فضيحة لها وتشهيراً لها حتى يتوب أمثالها من النساء اللاتي فيهن ميل إلى المخادنة وخيانة أزواجهن، ويعرفن أن هذه الفضيحة كما أتت عليها قد تأتي على إحداهن أو على جميعهن، فيقل بذلك الشر وينتشر الخير.

شرح حديث: (وهذا عسى أن يكون نزعه عرق)

شرح حديث: (وهذا عسى أن يكون نزعه عرق) قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء رجل من بني فزارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن امرأتي ولدت غلاماً أسود، فقال النبي صلى الله عليه وسلم، هل لك إبل؟ قال: نعم. قال: فما ألوانها؟ قال: حمر. قال: فهل يكون فيها من أورق؟ قال: إن فيها لورقاً، قال: فأنى أتاها ذلك؟ قال: عسى أن يكون نزعه عرق، قال: وهذا عسى أن يكون نزعه عرق) . وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة في غلام فقال سعد: يا رسول الله هذا ابن أخي عتبة بن أبي وقاص، عهد إليّ أنه ابنه، انظر إلى شبهه! وقال عبد بن زمعة: هذا أخي يا رسول الله! ولد على فراش أبي من وليدته، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شبهه، فرأى شبهاً بيناً بـ عتبة، فقال: هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش، وللعاهر الحجر، واحتجبي منه يا سودة، فلم تره سودة قط) . وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليّ مسروراً تبرق أسارير وجهه، فقال: ألم تري أن مجززاً نظر آنفاً إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد فقال: إن بعض هذه الأقدام لمن بعض) ، وفي لفظ: (كان مجزز قائفاً) ] . الحديث الأول فيه بعض القذف، وهل يكون هذا قذفاً أم لا؟ هذا رجل ولد له غلام، ورأى لونه وبشرته مخالفة لبشرة أبويه وأجداده وإخوته، فشك في نسبته وفي صحة أنه منه، فأراد أن يعرّض بامرأته أنها زنت، وأن هذا الولد ليس مني، كيف يكون مني وهو أسود الجلد مع أن أبويه ليسا كذلك؟! فبيّن له النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا السواد ليس دليلاً على أنه من غيرك، وضرب له المثل بالإبل: إذا كان لك إبل، فالإبل عادة يكون أولادها مثلها، فإن كان الأبوان حمراً كان الأولاد كذلك، وإن كانوا سوداً أو بيضاً أو صفراً أو نحو ذلك كان الأولاد كذلك، إلا إذا اجتذبه عرق ولو بعيد، فأخبره بأن له إبلاً وأن ألوانها حمر، وكانوا يغالون في حمر النعم، أي: الحمر من الإبل، فسأله: (هل فيها أورق؟ يعني: أسود- فقال: إن فيها لورقاً) يعني: لمجموعة ورق، أي: سود، قال: من أين جاءت هذه الورق؟ قال: لعله نزعه عرق، فقال: وهذا الولد الأسود يمكن أنه قد نزعه عرق، فلعل أحد أجداده ولو كان بعيداً أو جداته فيه شيء من السواد أو السمرة أو نحوها، فلا تستغرب أن يكون ولدك بهذه الصفة. ومعلوم أن الأب ينسب إليه أولاده، وثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان ينسب الأولاد إلى من ولدوا له كما سيأتي، ففي هذا الحديث أن الولد ينسب إلى أبيه، وأنه لا يجوز له أن يتبرأ من ولده الذي ولد من زوجته التي هي فراشه يستمتع بها، ويطؤها حلالاً، وحملت ووضعت وهي تحته فراشاً له، فلا يجوز أن ينفيه، سيما إذا عرفها بالعفة وبالنزاهة وبالبعد عن أن تمكن من نفسها غيره، أو البعد عن أن تتهم بفاحشة؛ لأن ذلك الرجل زكى زوجته، وشهد لها أنها بعيدة عن الشبهات، وبعيدة عن أن تتهم بتهمة سيئة. ولما كان هو زوجها وكانت هي امرأته وليست متهمة، فإنه ينسب إليه أولادها مهما كانت ألوانهم، ولو كان هو أبيض وهم سود أو هو أحمر وهم بيض أو غير ذلك؛ فأولادها تبع لزوجها، ينسبون إلى زوجها، هذا هو القول الصحيح، ولا عبرة في مغايرة اللون، فالله تعالى هو الذي خلق الإنسان وغيّر ألوان الناس كما في قول الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} [الروم:22] فجعل اختلاف الألسن واختلاف الألوان من آيات الله؛ ليكون ذلك عبرة، فهؤلاء كلهم بنو آدم، وجعل الله منهم الأسود والأحمر والأبيض، وجعل الله منهم القصير والطويل، وجعل الله منهم كامل الخلق وناقص الخلق، والمشلول والمعيب ونحوهم، وكلهم خلق الله تعالى، ومع ذلك فاوت بينهم {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم:22] .

شرح حديث: (الولد للفراش وللعاهر الحجر)

شرح حديث: (الولد للفراش وللعاهر الحجر) قصة عبد بن زمعة هي: أن زمعة الذي هو أبو سودة أم المؤمنين وهو من أكابر قريش، كانت له أمة مملوكة، وتسمى وليدة؛ لأنه استولدها فكان يطؤها فولدت له أولاداً فسميت وليدته، يعني: أم أولاده، مع كونها مملوكة له. وكان الإماء في الجاهلية لا يتورعن من الزنا، ثم إن عتبة بن أبي وقاص وهو أخو سعد زنى بها، ولما زنى بها كان يمكن أنها حملت من ذلك الزنا، ويمكن أنها حملت من سيدها الذي هو زمعة، ولكن عتبة اعتقد أن الحمل الذي علقت به منه، فولدت غلاماً فكان شبيهاً بـ عتبة شبهاً ظاهراً، فلما حضره الموت قال لأخيه سعد: إذا فتحتم مكة فاقبض إليك ابن وليدة زمعة فإنه مني، إنه ولد لي؛ لأني جامعت تلك الأمة في الجاهلية وحملت به، فهو ولدي، وهو مني ومخلوق من مائي، فخذه فإنه ابن أخيك. ولما فتحت مكة، ذهب سعد إلى أولاد زمعة، وطلب منهم أن يسلموا إليه ذلك الغلام، وقال: إنه ابن أخي فقالوا: بل هو أخونا وابن أمة أبينا، فلا نسلمه لك، فهو من أولاد زمعة، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فاحتج سعد بحجتين: الحجة الأولى: أن أخاه قد عهد إليها أنه وطئ وزنى بتلك الوليدة، وأنها حملت منه. الحجة الثانية: أن الولد شبيه بـ عتبة في الخلقة الظاهرة وفي الصورة وفي الهيئة، فحينئذٍ يكون أولى به. وأما عبد فاحتج بالحجة الشرعية، وهو أن أمة زمعة كانت حلالاً له، وكانت أم أولاده، وكانت فراشاً له يطؤها وطأً حلالاً، وليس أحد يستنكر أنها أمته التي أبيح له وطؤها لكونها مملوكته، وأن الولد ولد منها وهي فراش له، بمعنى أنها كالفراش يفترشها لكونها حلالاً له، فهذا الولد ولد على فراش زمعة، هذه حجته. فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يلتفت إلى الشبه الظاهر في ذلك الغلام، بل حكم بالظاهر، وقال: الولد لك يا عبد، هو أخوك وينسب إلى أبيك؛ لأنه ولد على فراشه، وحكم بهذا الحكم وقرر هذه القاعدة: الولد للفراش وللعاهر الحجر. الولد سواء كان ذكراً أو أنثى ينسب إلى صاحب الفراش الذي هو الزوج أو السيد الذي يستمتع بأمته، فالولد ينسب إليه، وأخذوا من هذا أن الزاني لا ينسب إليه الولد مهما كان، ولو اعترف بأن الولد منه، ولو اعترفت الزانية بأنه فجر بها وبأنها حملت منه، وبأنه ليس له شريك في هذا الولد، فنقول: لا ينسب إليه الولد، ولا يستحقه؛ وذلك لأن نكاحه نكاح حرام، فلا ينسب إليه مهما كانت الحالة، ولو كان شبيهاً به، ولو اعترف الأبوان بأنه منه، فلا ينسب إليه بل ينسب إلى أمه، فإذا ولد بينهما ولد من زنا يقال: ابن فلانة، هذا هو النسب الصحيح، ولا يجوز له والحال هذه أن يتزوجها وهي حامل حتى ولو كان الحمل منه.

حكم زواج الزاني بمن زنى بها وهي حامل منه

حكم زواج الزاني بمن زنى بها وهي حامل منه مشهور الآن أن بعض الناس يخدع فتاة، ثم يواقعها مرة أو مراراً، فإذا حملت وتبين أنها حامل وخشي فضيحتها ذهب وخطبها ووافقت عليه، وبعد ذلك يعقد عليها وهي حامل من الزنا، ويدخل بها ويقول: أريد أن أسترها، فإذا وضعت حملها فلا حاجة لي فيها فسوف أطلقها، فنقول: هذا لا يجوز؛ وذلك لأن لا يجمع بين ماء حلال وماء حرام، ولو كان الماءان له، فلا يجوز له ولا يجوز لها هذا النكاح، بل متى حملت منه أو من غيره من زنا فإنه لا يقربها أحد حتى تضع حملها. والمرأة المزوجة لو غاب زوجها مثلاً فوطئت بشبهة أو زنت وحملت من الزنا أو من وطء الشبهة حرمت على زوجها، ولم يجز له أن يجامعها حتى تضع ذلك الحمل، وإذا لم تحمل فعليه أن يتجنبها حتى يعلم براءة رحمها، وأنها لم تعلق من ذلك الزنا أو ذلك الوطء بشبهة، فلا يجامعها حتى تحيض حيضة يعلم به براءة رحمها من الحمل. فإذا زنى إنسان بامرأة فلا يجوز له أن ينكحها ولو كان قصده أن يسترها، بل لا حرمة لها ولا حرمة له، وإذا ثبت زناها واعترفت أقيم عليها الحد الذي هو العقوبة الشرعية، فإن كانت ثيباً أقيم عليها الرجم إلا إذا ادعت أنها مكرهة، وإن كانت بكراً أقيم عليها الجلد والتغريب، وهو الحد الشرعي الذي ثبت بالسنة، وأما هو فإذا اعترف بأن هذا الحمل منه، وأنه وطئها؛ فإن كان اغتصبها فلا عقوبة عليها لكونها مغصوبة مكرهة، وإن كان باختيارها فإن العقوبة عليهما معاً، وعقوبته هو كعقوبتها: إن كان قد تزوج زواجاً صحيحاً، ودخل بزوجته -وهو المحصن- فحده أن يرجم بالحجارة حتى يموت، وإن كان بكراً لم يسبق أن تزوج، فحده أن يجلد ويغرب كما يأتينا إن شاء الله في الحدود. فأما أن يقول: سوف أتزوجها حتى أسترها أو حتى لا تفتضح؛ فلا يجوز، بل تترك حتى تفتضح وحتى يفتضح هو أيضاً، وإقامة الحدود والعقوبات الشرعية سبب لقلة المنكرات، وسبب لقلة الفواحش، وترك ذلك سبب لفشوها، فإذا رخص لهم في هذا كثر الزنا، وكثر الفحش، وصار كل من زنى وواقع امرأة حرص على أن يتزوجها ثم يطلقها، وطلاقه لها قد يكون الحامل له عدم ثقته بها، يقول: إذا زنت وهي غير متزوجة فيمكن أن تزني وهي متزوجة، فلا آمنها فراشاً لي. وبكل حال فهذه القصة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش وللعاهر الحجر) تبين أن المرأة إذا ولدت مولوداً نسب إلى زوجها الذي هو زوجها وتحل له، ولا ينسب إلى الزاني، ولا حق للزاني فيه ولا كرامة.

شرح حديث مجزز المدلجي القائف

شرح حديث مجزز المدلجي القائف دخل النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة وهو مسرور تبرق أسارير وجهه أي: يظهر عليه الفرح، فبشرها وقال لها: (ألم تري أن مجززاً المدلجي رأى آنفاً أسامة بن زيد وزيداً وقد غطيها رءوسهما وبدت أقدامها فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض) .

فضل زيد بن حارثة

فضل زيد بن حارثة كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب زيداً، ويقال لـ زيد بن حارثة: حب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأنه كان قد اعتقه، وقد ملكته خديجة في الجاهلية، ثم وهبته للنبي صلى الله عليه وسلم فأعتقه وتبناه، ولما نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم صدقه، وكان هو أول من صدق النبي صلى الله عليه وسلم من الموالي، فصار محبوباً عنده صلى الله عليه وسلم، وزوجه بابنة خالته التي هي زينب بنت جحش، ولما أراد أن يطلقها قال له: (أمسك عليك زوجك واتق الله) ، ثم إن الله تعالى قدر أنه يطلقها حتى ينكحها النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب:37] فالله تعالى هو الذي زوجه زينب أي: عقد له عليها وهو ربها، وكانت تفتخر فتقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات. والحكمة في تزويجه قوله تعالى: {لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [الأحزاب:37] ، حيث كان زيد يدعى زيد ابن محمد، فأنزل الله فيه {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} [الأحزاب:4] ، وقال تعالى في تحريم زوجة الابن: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء:23] حتى لا يدخل فيها المتبنى الذي ليس هو ابناً، وإنما يسمى مولى. والحاصل أنه صلى الله عليه وسلم كان يحبه، وقد تزوج أولاً بـ أم أيمن، وكانت أيضاً مولاة للنبي صلى الله عليه وسلم، وكانت سوداء، وزيد لونه أبيض أو أحمر، فولدت له أسامة، وكان لون أسامة أسود، فطعن الناس في نسبه وقالوا: كيف يكون الأب أبيض، والولد أسود؟ يمكن أنه ليس منه، يمكن أنه من زنا، فطعنوا في نسبه، ومعروف أنه ينسب إلى أبيه الذي هو صاحب الفراش، ومعروف أن زيداً رضي الله عنه من السابقين الأولين، وأنه لا يمكن أن يتبنى من ليس ابناً له، ومعروف أيضاً أن أم أيمن التي هي أم أسامة من السابقات، ومن المؤمنات، ومن العفيفات، فهي بعيدة عن فعل الفاحشة، ولكن كان لونها أسود فصادف أن الولد صار لونه كلونها، وهو أسامة، وقد رزق أيضاً محبة النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يسمى الحب ابن الحب، كان يحبه ويحب أباه، وقال لما أمره على الجيش الذي أراد أن يبعثه إلى الشام وطعنوا في إمارته: (إنه لمن أحب الناس إليّ -يعني: زيداً - وإن هذا -يعني: ولده- لمن أحب الناس إليّ بعده) . فلما كان يحبهما كان حريصاً على إبطال الشبهة التي يطعن بها فيهما، وفي نسب أسامة، وأنه ليس ابناً لأبيه، فجاء هذا القائف، وبنو مدلج يعرفون بالقيافة، والقيافة هي معرفة الشبه، بحيث إن أحدهم يعرف الإنسان ويعرف ولده ولو لم يكن بينهما تماثل في الألوان، فنظر إليهما مجزز وقد غطيا وجوههما، وغطيا رءوسهما في لحاف، وبدت أقدامهما، هذا أقدامه حمر وهذا أقدامه سود، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض، يعني: أن هذا ولد هذا أو جده أو نحوه، ففرح النبي صلى الله عليه وسلم بهذا؛ ليكون مبطلاً لقول من طعن في نسب أسامة، حيث إن هذا القائف معروف بالصدق والذكاء وبالقيافة، ومعرفة الشبه، هو وأسرته وقبيلته، وهم في منزلة بني مرة في هذا الزمان الذين يعرفون الشبه ويعرفون الأثر، وكذلك كثير من القبائل الآن معهم قوة في الذكاء ومعرفة الشبه، بحيث يعرفون أن هذا ولد لهذا، ويعرفون أن هذا الأثر لأخوة أو نحو ذلك.

اعتبار قول القائف

اعتبار قول القائف الحاصل أن في هذا دليل على اعتباراً قول القافة الذين يعرفون الشبه، وأنه إذا شهد واحد منهم مجرب الإصابة بأن هذا النسب صحيح قبل قوله. وأخذوا من ذلك لو أن اثنين وطئا امرأة في طهر واحد، أحدهما زوجها، والآخر وطئها خطأً يعتقدها امرأته أو نحو ذلك، وعلقت بولد، واعترانا الشك هل هذا الولد لهذا أو لهذا؟ لمن يكون الولد؟ أو مثلاً كانا شريكين في أمة يملكانها، واعتقد كل منهما أنه يجوز له وطؤها، فوطئها هذا، ووطئها هذا، وعلقت بحمل، ولا ندري هل هو لهذا أو لهذا، كيف نفعل؟ وكذلك اللقيط، إذا وجدنا لقيطاً ساقطاً، ثم جاء اثنان وكل منهما يدعيه، هذا يقول: هو ولدي، وهذا يقول: هو ولدي، طرحته أمه عجزاً أو نحو ذلك، فكيف نفعل؟ نعرضه على القافة العارفين بالشبه، فإذا قالوا: إنه ابن هذا؛ ألحق به وثبت نسبه بذلك. والشرع حريص على اتصال الأنساب؛ حتى لا يبقى مسلم بين المسلمين مجهول النسب؛ فإذا تحقق أو قارب أنه من فلان نسب إليه. بعض العلماء يقول: لابد من اثنين من أهل القيافة يشهدان بأنه ابن فلان أو يقران بذلك، وبعضهم يكتفي بواحد لما في هذه القصة، وهو أن أسامة نسب إلى أبيه بدون شك، ولكن قد عرفنا أن أسامة ولد على فراش زيد، وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش، وللعاهر الحجر) ، فـ أسامة ولد على فراش زيد من زوجته التي هي حل له، فهو أنه ينسب إليه، وصدق ذلك كلام مجزز المدلجي: إن هذه الأقدام بعضها من بعض، فثبت النسب، وبطل قول من يطعن في نسبه بأنه ليس ابناً له، وأما إذا لم يكن هناك فراش، ولم تكن المرأة خاصة بأحد الرجلين أو نحو ذلك فيقول بعض العلماء ولعله القول الأرجح: لابد من قائفين معروفين بالإصابة، فيتفقان على أنه ابن هذا، فإذا اختلفا رجع إلى غيرهما، فإذا تنازع اثنان في ولد، كل منهما يقول: إنه ابني؛ لأنه وطء أمه لشبهة، عرض على القافة، فإذا عرض على اثنين، فأحدهما قال: هو ابن هذا، والثاني قال: بل هو ابن هذا، أتينا بقائفين آخرين حتى يتفقوا أو يخير بأن ينتسب إلى أيهما شاء إذا لم يعرف بيقين أنه ابن لأحدهما بسبب اختلاف القافة، فالقافة بشر ليسوا يعلمون الغيب، وإنما يحكمون بما يظهر لهم، وليس الظاهر جلياً لكل أحد، فقد يختلفان فيقول هذا قولاً، ويخالفه آخر أو آخرون، وعلى كل حال فالشريعة حريصة على صلة الأنساب، وعلى تقليل الأفعال التي يكون فيها ضياع للأنساب.

شرح أحاديث العزل

شرح أحاديث العزل قال المؤلف رحمه الله: [عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (ذكر العزل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ولم يفعل ذلك أحدكم؟ -ولم يقل: فلا يفعل ذلك أحدكم- فإنه ليست نفس مخلوقة إلا الله خالقها) . وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (كنا نعزل والقرآن ينزل، قال سفيان: لو كان شيئاً ينهى عنه لنهانا عنه القرآن) . وعن أبي ذر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا حرم الله عليه الجنة، ومن ادعى ما ليس له فليس منا وليتبوأ مقعده من النار، ومن دعا رجلاً بالكفر أو قال عدو الله، وليس كذلك إلا حار عليه) كذا عند مسلم وللبخاري نحوه، وحار بمعنى رجع] . سئل صلى الله عليه وسلم عن العزل، فقال: (ولم يفعل أحدكم ذلك؟ ولم يقل: فلا يفعل ذلك أحدكم، فإنه ما من نفس مخلوقة إلا الله خالقها) ، وكذلك الحديث الثاني قول جابر: (كنا نعزل والقرآن ينزل، قال سفيان: لو كان شيئاً ينهى عنه لنهانا عنه القرآن) . هذان الحديثان يتعلقان بالعزل، وقد ورد فيه هذان الحديثان اللذان يفهم منهما إباحة العزل، والعزل يتعلق بالجماع، وذلك أن الإنسان قد يحتاج إلى الجماع ولكن لا يحب أن تحمل زوجته؛ لسبب: إما لمرض فيها، وإما لضعفها عن أن تربي أولادها، وإما لكونها مملوكة له ولا يحب أن تلد منه، بل يريد بيعها، أو لقلة ماله ولا يستطيع أن يعول الأولاد ونحوهم، أو لأن أولاده يخرجون ضعافاً مهزولين، أو نحو ذلك من المقاصد، فيحتاج إلى منع الحمل بأسباب تمنعه.

معنى العزل وحكمه

معنى العزل وحكمه من أسباب منع الحمل العزل: وهو الإنزال خارج الفرج، إذا أحس بالإنزال نزع وأنزل في غير الرحم حتى لا ينعقد الولد، وهذا العزل قد يحصل به مقصد الرجل وهو فتور أو قضاء وطره وشهوته، ولكن المرأة قد تتضرر؛ وذلك لأن لها حقاً ولها شهوة، فإذا نزع قبل أن تقضي وطرها تألمت وتضررت؛ لذلك ورد حديث -وإن كان في إسناده مقال- أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن العزل، فقال: (ذلك الوأد الخفي) فسماه وأداً، يعني: قاتلاً للأولاد، ولكنه قاتل خفي، وهو أن العرب كانوا يقتلون الإناث ويسمون ذلك وأداً كما في قوله: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8-9] ، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنع وهات) . فهكذا ورد أن العزل يسمى الوأد الخفي، ولكن هذه الأحاديث أصح من ذلك الحديث، فـ جابر يقول: (كنا نعزل والقرآن ينزل) ، وأكثر ما كانوا يعزلون عن الإماء حتى لا تحبل الأمة فلا يتمكن من بيعها، ومع ذلك لم ينههم القرآن أي: لم ينزل في القرآن نهي عن استعمال العزل، وسواء كان القصد منه عدم إضرار المرأة، أو القصد منه عدم الحمل أو منع الحمل أو نحو ذلك، فهذا سبب من أسباب منع الحمل، يعني: الإنزال في غير الرحم، وظاهر الحديث أنه جائز، والدليل من الحديث الأول قوله: (ولم يفعل أحدكم ذلك؟ ولم يقل: لا يفعله) ، كأنه يقول: لماذا يفعله؟ (ما من نفس مخلوقة إلا الله خالقها) . وفي بعض الروايات: أن رجلاً جاء وقال: (يا رسول الله! إن لي أمة، وإني لا أريد أن تحمل وإني أعزل عنها، فقال: ما عليك ألا تفعل -يعني: جائز لك أن تفعل وألا تفعل- فإنه إذا أراد الله أن يخلقه لم تستطع أن ترده) ، وفي رواية: (لو وضعت هذا المني على صخرة وقد قدر الله أن يخلق منه ولداً لخلقه) . وكثيراً ما يتحفظ الإنسان فينزع وينزل في خارج الرحم، ولكن قد يسبقه ولو قطرة يسيرة ينعقد منها الولد، فيحصل الحمل وإن لم يقصده، وإن لم يرده، وقد جاء في الرواية إن ذلك الرجل جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إن الأمة التي حدثتك عنها قد حملت، فقال: قد أخبرتك أنك لا تقدر أن ترد ما قدر الله) ، إذا قدر الله خلق ولد من هذا الوطء فإنك لا تستطيع أن ترده، ولكن بكل حال هناك أسباب يحصل بسببها منع الحمل، ويحصل بسببها الحمل، وقد ذكر العلماء والأطباء أسباباً كثيرة تعين على الحمل، فإذا أراد أن تحمل زوجته من ذلك الوطء، فهناك صفات وأسباب تكون سبباً غالباً في عدم الحمل من ذلك الوطء وإن لم تكن مطردة.

حكم الحبوب التي تمنع الحمل

حكم الحبوب التي تمنع الحمل يكثر السؤال في هذه الأزمنة عن فعل الأسباب التي تمنع الحمل، حيث إن كثيراً من المتزوجين وهم شباب يحاولون عدم الإنجاب، فيأتون بأسباب تمنع أن يولد لأحدهم، وفي زعمه أنه لا يريد الأولاد في ذلك السن المبكر، ويريد أن يبقى مع زوجته وحيداً حتى يتفرغ أو تتفرغ هي لتنشئة الأولاد، أو حتى يجمع مالاً، أو حتى تتفرغ أو تنهي مثلاً دراستها وعملها، أو ما أشبه ذلك، فيعملون حيلاً لمنع الإنجاب، فمنها: استعمال هذه الحبوب التي تمنع انعقاد الحمل، فتبتلع المرأة هذه الحبوب فتبقى عدة سنوات لا يحصل منها أولاد. وقد ذكر الأطباء أن هذه الحبوب مضرة، ولا شك أن لها ضرراً على المرأة، على الرحم وعلى أثر العادة؛ لأنها تغير عادتها، فالعادة الشهرية التي هي الحيض المستمر أو المعتاد تتغير بهذه الحبوب، زيادة على أن احتباس هذا الدم يؤثر عليها مرضاً، وقد ذكر الأطباء أن المرأة لا تستعمل الحبوب إلا بعد أن تعرضه على طبيب مختص فيشير عليها، إما بأن تستعمل أو لا تستعمل، ومع ذلك فإنها منتشرة وفاشية كثيراً، وبيعها في الصيدليات قد يكون أكثر من بيع كثير من الحبوب التي تستعمل للصحة أو للعلاج. فنقول: لا شك أن هذه مصيبة، كيف أنك تضيق بالأولاد، فالواجب أن ترضى بما قدر الله، وأن تفرح إذا رزقك الله ولداً، لا تضيق بالأولاد ذرعاً فإن الله تعالى هو الذي خلقهم، وهو الذي يتكفل برزقهم، يقول الله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام:151] {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء:31] ، فهو الذي يتكفل برزقهم، وكم رأينا وكم رأيتم من إنسان كان فقيراً لما كان وحده، ولما تزوج ورزق أولاداً وسع الله عليه، ورزق بسبب أولاده، ولما انفصل عنه أولاده وبقي وحده عاد إلى فقره وحاجته، فوجود الأولاد سبب للرزق، فلا يضيق أحدنا بكثرة الأولاد مهما كثروا، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أمر بتزوج الودود الولود في قوله: (تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة) ، فهو يحب أن تكثر أمته، وأن يكثر أولادهم الذين هم على سنته، متبعون لشريعته؛ حتى يباهي بهم الأمم، وإن كان الله تعالى قد قدر من سيخلقه، وعلم عدد الخلق الذين قدر وجودهم، ولكنه جعل لذلك أسباباً وجودية أو أسباباً سلبية. فننصح هؤلاء الذين لا يريدون الإنجاب، ويملون وجود الأولاد، حتى ولو كانوا في شبابهم، حتى ولو كثر الأولاد لديهم، فلا يضيقون بذلك، فإن رزقهم على الله تعالى، كما في قوله تعالى: {وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} [العنكبوت:60] .

الحالات التي يجوز منع الحمل فيها

الحالات التي يجوز منع الحمل فيها رخص العلماء في منع الحمل في ثلاث حالات: الحالة الأولى: الزوجة قد تكون مريضة يشق عليها الحمل والوضع والحضانة والتربية، أو كانت مثلاً نحيفة ضعيفة لا تتحمل ذلك، ومتى حملت أضر بها ولقيت أوجاعاً ونحو ذلك، فلها والحال هذه أن تتعاطى ما يمنع الحمل. الحالة الثانية: إذا كان أولادها ضعافاً، يعني: يخرجون وهم نحاف ضعاف عجاف مرضى، ويتتابعون وهم على هذا، ويكون في ذلك لمشقة عليها أن تحضنهم وأن تربيهم وأن تعالجهم وهم على هذه الحالة، فيؤدي ذلك إلى تضررهم مع كثرتهم؛ فلذلك قد يباح في هذه الحال علاجها بما يقطع أو بما يقلل الحمل. الحالة الثالثة: لو قدر مثلاً أن الأبوين في بلاد كفر، وأنهم متى ولد بينهم أولاد تربوا على ما تربى عليه أهل تلك البلاد، درسوا دراسة الكفار، وخرجوا مع الكفار، فصار أولادهم زيادة في الكفرة، ففي هذه الحالة قد يقال: بجواز المعالجة التي تقلل الحمل أو تمنعه، وما ذاك إلا مخافة أن يرى أولاده يعتنقون الكفر ولا يستطيع أن يردهم. وإذا عرفنا ذلك فنقول: كثير من الناس الآن يشتكون من كثرة الأولاد بحيث إن المرأة تلد في كل سنة ولداً إذا لم تتعالج بهذه العلاجات، ولم تتعاط الأسباب التي تمنع من الحمل، وهذا لم يكن معهوداً في الأزمنة المتقدمة قبل ثلاثين أو أربعين سنة. ما كانوا على هذه الحال، ولعل السبب في ذلك أن المرأة قديماً كانت ترضع ولدها من ثدييها فكلما ولد لها ولد ألقمته ثدييها وحنت عليه وأشفقت عليه ودرت عليه، واعتقدت أن لبنها دواء وشفاء وأثر من آثار المحبة، ولا تحمل عادة ما دامت ترضع ولدها من صدرها، حيث إن الدم الذي هو دم الطمث الذي يكون غذاءً للحمل يقلبه الله لبناً، فإذا كانت ترضع فإنها في العادة لا يأتيها دم الحيض، فتبقى سنتين ما دام فيها لبن لا ترى الحيض، أين ذلك الحيض؟ ينقلب لبناً يمتصه الطفل من الثديين ويتوقف الحيض، وكانت هذا عادة كثير من النساء، فتبقى سنتين وهي ترضع الولد، ولو كان زوجها يجامعها كل ليلة فإنها لا تحمل، بل المني ينقلب أيضا لبناً، والحيض ينقلب لبناً، وكل ذلك يكون غذاءً لرضيعها، لكن بعض النساء قد تكون بنيتها قوية، وغذاؤها كثيراً، ودمها قوياً، فيؤثر أنه يصير فيها لبن ويصير أيضاً معها حيض، فينعقد الحمل ولو كانت ترضع، وأما التي لا ترضع ولدها، بل حينما تلده ترضعه من الألبان الصناعية، ويتوقف منها اللبن وتنشف، ويأتيها الحيض بعدما تخرج من الأربعين مباشرة، فالغالب أنه ينعقد حملها مباشرة بعد أول وطء، وهذا هو الواقع الآن كثيراً؛ ولذا يشتكون من كثرة الأولاد. فنقول للزوج: لماذا لا تلزمها أن ترضع ولدها حتى يتوقف الحمل مدة سنتين أو سنة أو نحو ذلك، هذا في الأمر الأغلب؟ فهذا سبب. السبب الثاني: يقولون: لو جامعها بعد الطهر بيوم أو يومين لا تحمل، أما بعد الطهر بثلاثة أيام أو بأربعة إلى نصف الطهر أو ثلثيه فإنها تكون قد أنزلت البويضة التي يخلق منها الحمل، فإذا جامعها في هذه الفترة انعقد الحمل بإذن الله، أما إذا جامعها في آخر الطهر أي: قبل الحيضة الثانية بعشرة أيام أو أسبوع ونحوه فإن ذلك الجماع لا ينعقد معه الحمل؛ وذلك لأنه قد انعقد أو قد اجتمع الدم الذي هو دم الطمث فلا ينعقد بذلك حمل إلا إذا قدر الله تعالى الحمل، فهذا سبب من أسباب توقف الحمل.

حكم استخدام اللولب لمنع الحمل

حكم استخدام اللولب لمنع الحمل من الأسباب الجديدة لمنع الحمل ما يسمى باللولب الذي تركبه المرأة في رحمها، لكن فيه مضار، وكثير من النساء يحصل بسببه مشقة عليها؛ وذلك لأنه يزيد في مدة الحيض، فبدل ما كان حيضها ستة أيام يكون عشرة؛ لأنه يقلل خروج الدم، ويكون أول الدم ووسطه وآخره على حد سواء بسبب هذا اللولب، زيادة على أنه يستلزم تكشفها أمام غيرها عند معالجتها وما أشبه ذلك. وهناك أسباب أخرى قد تكون معروفة عند المتخصصين ولكنا ننصح الإنسان ألا يمل مما خلق الله منه، فالله تعالى شرع للإنسان هذه الشهوة التي تدفعه إلى الوطء، وجعل أيضاً في المرأة دافعاً نحو الرجل حتى يحصل من هذه الشهوة اندفاع من الرجل والمرأة، كل منهما يطلب الاتصال بالآخر؛ ليكون ذلك سبباً في هذا التوالد، وفي وجود هذا النوع الإنساني الذي قدر الله أنه يعمر هذه الأرض، ويكون مكلفاً عليها، ولو أن الناس عزفوا عن ذلك وتركوا النكاح لانقطع هذا النوع الإنساني، والله تعالى قد قدر أنه يبقى. الله تعالى شرع هذا النكاح الحلال، وأمر الإنسان أن يبذل السبب لوجود الأولاد، وله في الأولاد مصلحة حيث إنهم ينفعونه في الدنيا، وينفعونه أيضاً بعد موته كما في قوله تعالى: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74] ، هذا دعاء حكاه الله تعالى عن عباده المؤمنين، مما يدل على أن الأولاد قرة أعين لآبائهم. وكذلك يستفيد منهم بعد موته إذا كانوا صالحين، يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) ، فعلى الإنسان أن يحرص على أن يرزقه الله أولاداً صالحين ذكوراً وإناثاً يكونون له قرة أعين، وينفعه الله بهم في دنياه، ويزودونه بأدعية نافعة في آخرته، وألا يمل من وجودهم، وأن يثق أن ربه هو الذي خلقهم وأوجدهم، وهو الذي تكفل برزقه وبرزقهم {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء:31] ، وأن يعتقد أن الله تعالى قد يسهل له الرزق بواسطتهم أو بسببهم، فإذا فعل ذلك رزقه الله من حيث لا يحتسب.

شرح عمدة الأحكام [65]

شرح عمدة الأحكام [65] جعل الإسلام الرضاع رابطة تربط بين الرضيع والأسرة التي رضع منها، فيحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، وذلك يعد من عظمة الإسلام في توثيق الروابط وشد الصلات.

شرح حديث: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)

شرح حديث: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [كتاب الرضاع: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في بنت حمزة: (لا تحل لي، يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، وهي ابنة أخي من الرضاعة) . وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الرضاعة يحرم ما يحرم من الولادة) . وعنها قالت: (إن أفلح أخا أبي القعيس استأذن عليّ بعدما أنزل الحجاب، فقلت: والله لا آذن له حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أخا أبي القعيس ليس أرضعني، ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس، فدخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: يا رسول الله إن الرجل ليس هو أرضعني، ولكن أرضعتني امرأته، فقال: ائذني له فإنه عمك تربت يمينك) . قال عروة: (فبذلك كانت عائشة تقول: حرموا من الرضاع ما يحرم من النسب) . وفي لفظ: (استأذن عليّ أفلح فلم آذن له، فقال: أتحتجبين مني وأنا عمك؟ فقلت: كيف ذلك؟ قال: أرضعتك امرأة أخي بلبن أخي، قالت: فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صدق أفلح ائذني له تربت يمينك) تربت يمينك أي: افتقرت، والعرب تدعو على الرجل ولا تريد وقوع الأمر به. وعنها قال: (دخل عليّ النبي صلى الله عليه وسلم وعندي رجل فقال: يا عائشة من هذا؟ قلت: أخي من الرضاعة، فقال: يا عائشة! انظرن من إخوانكن، فإنما الرضاعة من المجاعة) ] .

تعريف الرضاع

تعريف الرضاع يراد بالرضاعة هنا أثر الرضاع الذي ذكر في قول الله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء:23] أي: ما تحرمه الرضاعة وما لا تحرمه، وليس المراد البحث في كيفية رضاع المرأة ولدها، المذكور في قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة:233] ، فإن هذا المقصود منه كيف ترضع المرأة ولدها، ومتى تفطمه ونحو ذلك، وأما هذا ففي إرضاع المرأة غير ولدها، وكيف يكون أثر هذا الرضاع. ذكر العلماء في تعريف الرضاع المحرم أنه: امتصاص الطفل لبناً ناتجاً عن حمل وهو في الحولين. وقوله: (امتصاص) هذا على وجه الأغلب وإلا فلو شرب اللبن شرباً دون امتصاص وهو دون الحولين لحصل منه التأثير والتحريم، وهكذا لو أدخل مع أنفه ووصل إلى جوفه، وتغذى به؛ حصل بذلك الرضاع. ثم الجمهور على أنه لا يحرم إلا إذا كان الرضاع في الحولين، ويستدلون بما في حديث عائشة الأخير وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الرضاعة من المجاعة) ، والمجاعة هي الجوع، يعني: الرضاع المحرم هو الذي يرتفع به الجوع، ويحصل به الشبع.

تأثير الرضاع يتعدى إلى أقارب المرضعة لا الرضيع

تأثير الرضاع يتعدى إلى أقارب المرضعة لا الرضيع قوله صلى الله عليه وسلم في بنت حمزة: (لا تحل لي إنها ابنة أخي من الرضاعة) . ابنة حمزة قتل أبوها وهي صغيرة في مكة، ثم في عمرة القضية سنة سبع أخذوها معهم إلى المدينة، وكفلها ابن عمها جعفر، وكانت زوجته خالتها، وبقيت عند خالتها، وقد عرضها على النبي صلى الله عليه وسلم وقيل له تزوجها فقال: (لا تحل لي) ، وذلك لأن حمزة رضع من ثويبة وثويبة أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم، فلذلك أصبح أخا حمزة من الرضاع. فهذا دليل واضح على أنه إذا حصل الرضاع من امرأة أجنبية، وأرضعت اثنين؛ أصبحا أخوين من الرضاع، فهذه ثويبة أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم وليست أمه، وأرضعت حمزة وليست أمه، فصارا أخوين منها، فصار الرضاع من امرأة أجنبية محرماً، وبالطريق الأولى إذا كان الرضاع من أم أحدهما، فإن حليمة السعدية التي أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم أصبحت أمه، وأولادها الذين ولدتهم أو أرضعتهم يعتبرون أيضا إخوة له، وهذا التحريم يختص بالرضيع ولا يتعدى إلى إخوته، فلذلك لم يتعد إلى إخوة حمزة كـ العباس وأبي طالب، فإن كل واحد منهما ولو كان أخاً لـ حمزة بن عبد المطلب فإنه لا يعتبر أخاً للنبي عليه الصلاة والسلام، فالإخوة اختصت بالرضيع الذي هو حمزة. وتكون الرضاعة مؤثرة في أقارب المرضعة، فيكون زوجها أباً للرضيع، وأقاربه محارم للرضيع كما في قصة عائشة، فإن امرأة أبي القعيس أرضعتها، ثم هلكت المرأة وهلك أبو القعيس، وجاء أخوه واسمه أفلح واستأذن على عائشة، فامتنعت وقالت: كيف آذن له وهو لم يرضعني، ولم ترضعني امرأته، وإنما أرضعتني امرأة أخيه؟ فأخبرها بأنه عمها وقال: أرضعتك امرأة أخي بلبن أخي، فإن اللبن تسبب من أخيه، فصار أخوه صاحب اللبن أباً لـ عائشة، وزوجة أبي القعيس المرضعة أماً لـ عائشة، وأخا أبي القعيس الذي هو أفلح عماً لـ عائشة، وأولاد أبي القعيس إخوة لـ عائشة من الرضاعة. وهذا يبين أن الرضاعة تتعدى إلى أقارب المرضعة وإلى أقارب زوج المرضعة، ولا تتعدى كما ذكرنا إلى أقارب الرضيع، فإخوة عائشة لم يؤثر فيهم رضاعها من امرأة أبي القعيس، فأخوها عبد الرحمن لم يكن ابناً لـ أبي القعيس، وكذلك أخوها محمد وأختها أسماء ونحوهم، بل اختصت الرضاعة والتحريم والتأثير بالراضعة التي هي عائشة. فلما استأذن عليها استغربت وقالت: كيف آذن له وهو بعيد لم يرضعني هو، ولم ترضعني امرأته، فليست امرأته هي التي أرضعتني وإنما امرأة أخيه، وليس هو الذي أرضعني؟ فلما قال لها: أرضعتك امرأة أخي بلبن أخي، أقر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وجعل ذلك مبرراً لكونها تأذن له أن يدخل عليها ويسلم عليها؛ لأنه أصبح عمها، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (ائذني له فإنه عمك تربت يمينك) ، وكلمة (تربت يمينك) ذكر المؤلف أنه لا يقصد بها حقيقة الدعاء، وإنما يقصد بذلك التوبيخ لعدم الفهم، أو لعدم التذكر.

خلاف العلماء في حكم إرضاع الكبير

خلاف العلماء في حكم إرضاع الكبير قوله: (إنما الرضاعة من المجاعة) يدل على أن الرضاعة التي تحرم هي التي تكون في الصغر، وينتفع بها من الجوع، فإذا رضع الطفل من المرأة اندفع جوعه وشبع، وحصل له غذاء، ونبت بذلك الرضاع لحمه، ونشز عظمه، فيصبح قد تغذى من لبن تلك المرأة، ونبت منه لحمه، فينسب إليها، ويكون ابناً لها من الرضاع. وقد اختلف في رضاع الكبير، فذهب بعض الصحابة كـ عائشة إلى أنه يحرم، واستدلوا بقصة سهلة امرأة أبي حذيفة، فإن أبا حذيفة كان له مولىً يقال له: سالم، فجاءت امرأة أبي حذيفة وقالت: يا رسول الله! إن سالماً بلغ مبلغ الرجال، وإنه يشق عليّ التحجب منه فقال: (أرضعيه تحرمي عليه) ، وقد كان رجلاً قد نبتت لحيته، فأرضعته خمس رضعات ليكون محرماً لها. ولكن الجمهور على أن هذا من خصائص سهلة، وأنه لا يحل لغيرها أن ترضع كبيراً فتحرم عليه، وما ذاك إلا لضرورة حصلت لها؛ وذلك لأن رضاع الكبير لا يتغذى به بدنه، ولا ينبت منه لحمه، ولا ينبت منه عظمه، وأيضاً فإن الله تعالى قد حدد الرضاع في قوله تعالى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان:14] ، وفي قوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة:233] ، فلا يمكن أن يزاد على السنتين، والزيادة عليهما زيادة في غير محلها، فالصبي إذا أتم السنتين اكتفى بما يعطى من الأكل ونحوه، واستطاع أن يمضغ الطعام ويتغذى به؛ فلذلك لا حاجة إلى الرضاع بعد الحولين، فإذا أرضع بعد الحولين أو بعد الفطام فهذا الرضاع لا يؤثر ولا يحرم، وهذا هو القول الصحيح، وقصة سالم مولى أبي حذيفة من خصوصيات سهلة، ولو خالف في ذلك من خالف. وذهب بعضهم إلى أنه إذا اضطرت المرأة إلى رجل لا تجد بداً من الكشف له، وأن يكون محرماً لها جاز لها أن ترضعه كما حصل لهذه المرأة التي هي امرأة أبي حذيفة. واستدل الجمهور بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا رضاع إلا ما كان في الحولين) ، أو (لا رضاع إلا ما كان قبل الفطام) ، وكذلك قوله: (انظرن من إخوانكن، فإنما الرضاعة من المجاعة) ، يعني: الرضاعة المحرمة التي يكون لها تأثير هي ما كانت من المجاعة، وفي حديث آخر أنه عليه الصلاة والسلام قال: (لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء، وأنشز العظم وأنبت اللحم) ، فالرضاع الذي في الصغر هو الذي ينشز العظم، يعني: ينبت به العظم ويكبر، وإنشاز العظام نموها ونباتها، كما في قوله: {وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا} [البقرة:259] ، يعني: ننميها وننبتها، وكذلك قوله: (أنبت اللحم) يعني: نبت اللحم على العظم بذلك الرضاع، فهذا هو الذي يحرم. الرضاع من جملة ما بحث فيه العلماء؛ لأن الله تعالى ذكره بقوله: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء:23] ، والبحث فيه مشهور وأدلته واضحة، وقد جاءت متنوعة في هذه الأحاديث، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، فقالوا: كل قريب يحرم من النسب فإنه يحرم مثله من الرضاعة، فزوج المرأة يسمى أباً من الرضاع، وأولاد المرضعة يسمون إخوة من الرضاع، وإخوان المرضعة أخوال الرضيع، وأخواتها خالات الرضيع، وكذلك أقارب الزوج، فإخوته يصيرون أعماماً للرضيع؛ لأنهم إخوة أبيه، وهكذا بقية الأقارب عملاً بهذا الحديث.

شرح حديث: (كيف وقد زعمت أن قد أرضعتكما)

شرح حديث: (كيف وقد زعمت أن قد أرضعتكما) قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن عقبة بن الحارث رضي الله عنه (أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب، فجاءت أمة سوداء فقالت: قد أرضعتكما، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، قال: فأعرض عني، قال: فتنحيت فذكرت له، قال: وكيف وقد زعمت أن قد أرضعتكما؟ فنهاه عنها) . وعن البراء بن عازب رضي الله عنه، قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني من مكة- فتبعته ابنة حمزة تنادي: يا عم، فتناولها علي فأخذ بيدها وقال لـ فاطمة: دونك ابنة عمك، فاحتملتها، فاختصم فيها علي وزيد وجعفر، فقال علي: أنا أحق بها وهي ابنة عمي، وقال جعفر: ابنة عمي وخالتها تحتي، وقال زيد: ابنة أخي، فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها، وقال: الخالة بمنزلة الأم، وقال لـ علي: أنت مني وأنا منك، وقال لـ جعفر: أشبهت خَلقي وخُلقي، وقال لـ زيد: أنت أخونا ومولانا) ] . الحديث الأول يتعلق بالرضاعة، والشهادة فيه، والحديث الثاني يتعلق بالحضانة: وهي كفالة الطفل وتربيته. ذكر في حديث عقبة، أنه لما تزوج هذه المرأة التي يقال لها: أم يحيى بنت أبي إهاب؛ جاءت أمة مملوكة سوداء، وادعت أنها أرضعت عقبة، وأرضعت المرأة التي تزوج بها، وأنها أصبحت أماً لهذا ولهذه، فيكونان أخوين من الرضاعة، فأنكر ذلك عقبة، ولم يكن قد سمع هذا منها، واتهمها بأنها تريد أن تفرق بينهما، فلم يجرؤ على أن يرد عليها، ولكنه ركب راحلته من مكة إلى المدينة، فقدم على النبي صلى الله عليه وسلم وسأله، وذكر له أنها تكذب، وأنه لا يعرف ذلك من قبل، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أقرها على ما تدعي، وجعل الأمر راجعاً إليها، وقال: (كيف وقد زعمت أن قد أرضعتكما؟ دعها عنك) ، فعند ذلك فارقها عقبة، وتزوجت غيره، فأخذوا من هذا الحديث: أولاً: أن الرضاع يحرم ولو لم يكن من أم أحد الولدين، فإذا رضعت من امرأة ليست أمك، ورضع منها زيد وليست أمه، صرت أنت وزيد أخوين من الرضاع، لا تحل لك بنته ولا تحل له بنتك، مع أنك لست أخاً له من النسب، ولم ترضع من أمه، ولم يرضع من أمك، وإنما اجتمعتما في رضاع امرأة أجنبية أرضعتكما. ثانياً: أن الرضاع يرجع فيه إلى المرضعة، إذا ادعت ذلك فإنها تصدق؛ وذلك لأنه يورث شبهة، فإذا ادعت أنها أرضعت فإن هذا الكلام يورث شبهة؛ فلأجل ذلك تُتجنب الشبهات؛ لقوله: (ومن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه) . كذلك أيضاً: لا شك أن هذه المرأة لم يتهمها عقبة إلا بتهمة أنها تريد الفراق بينهما، ولم يذكر أنه جرب عليها كذباً، ولا أنها ذات حسد، فلعلها لما سمعت بأنه تزوجها خافت أن يكون بينهما شيء من العلاقة مع تحريم، فأبدت ما عندها، وأظهرت أنهما ولداها من الرضاع، فهذا رضيع منها، وهذه رضيعة منها، فقُبل قولها، وقد عرفت حد الرضاع، فلا بد أنها عرفت أن الرضاع المحرم هو خمس، ولا بد أنها عرفت أن الرضاع المحرم ما كان في الحولين، وأنها ما أقدمت على الحكم بأنهما ولداها من الرضاع إلا وقد عرفت الحكم وتيقنت، فيقبل قولها.

قبول قول المرأة الواحدة في الرضاع

قبول قول المرأة الواحدة في الرضاع يقول العلماء: إذا ادعت امرأة أنها أرضعت هذه المرأة وزوجها، قبل قولها ولو كانت واحدة، أخذاً من هذه القصة، وإذا كانت كاذبة فكما قال تعالى: {وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} [غافر:28] ، فإذا كانت كاذبة فإنها تستحق العقوبة في الآخرة، وربما تعجل لها العقوبة في الدنيا إذا فرقت بين زوجين وهي كاذبة، فتصيبها دعوة مظلوم، وقد يعرف كذبها بقرائن، ولكن لا يُعمل بالقرائن بل يعمل بقولها اتقاءً للشبهات. روي عن ابن عباس أنه قال: إن كانت كاذبة لا تتم السنة حتى تبيض ثدياها. يعني: عقوبة لها يصيبها في ثدييها برص يكون سبباً في عدم قبول أحد لثدييها، وهذا وإن لم يكن مطرداً لكن قد يكون واقعاً في بعض الأحيان.

شرح حديث: اختصام علي وجعفر وزيد في ابنة حمزة

شرح حديث: اختصام علي وجعفر وزيد في ابنة حمزة الحديث الثاني: يتعلق بقصة ابنة حمزة، وقد تقدم أن علياً عرضها على النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها، ولكن أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها لا تحل له؛ لأن حمزة أخوه من الرضاعة، رضع هو وحمزة من ثويبة مولاة أبي لهب، فهذا حكم: وهو أنها ابنة أخيه من الرضاع، ومع ذلك لم يطالب بحضانتها. فلما قتل حمزة رضي الله عنه سنة ثلاث من الهجرة في وقعة أحد كانت ابنته عمارة في مكة، وكانت صغيرة مع أمها، ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه في سنة سبع مكة في عمرة القضية، ثم خرجوا من مكة تبعتهم ابنة حمزة تنادي وتقول: يا عم! يا عم! وذلك لأنها قد كبرت عن سن الحضانة، تجاوزت عشر سنين أو نحوها، فأرادت أن تكون مع أهلها، وأمها وأخوالها كانوا لا يزالون مشركين. والحاصل أنها لما تبعتهم أركبها علي رضي الله عنه مع زوجته فاطمة على بعيرها، وقال: دونك ابنة عمك، وذهبوا بها إلى المدينة، فطلب كفالتها هؤلاء الثلاثة، كل منهم يريد أن تكون تحت كفالته؛ ليأخذ أجرها لكونها يتيمة، فـ علي رضي الله عنه يقول: هي بنت عمي، فإنه حمزة عمه وهو عم جعفر وعم النبي صلى الله عليه وسلم، وفاطمة ابنة ابن عمها كأنه يقول: أدلي بقرابتي لها وقرابة امرأتي. أما جعفر فأدلى أيضاً بحجتين وهو أنها بنت عمه، وأن زوجته خالتها أخت أمها، وزوجته هي: أسماء بنت عميس، فطلبها جعفر أيضاً، وكذلك طلبها مولاهم زيد بن حارثة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد آخى بينه وبين حمزة فقال: ابنة أخي، يعني: بالمآخاة، ولكنه صلى الله عليه وسلم جعلها تحت كفالة خالتها وكفالة ابن عمها جعفر وقال: (الخالة بمنزلة الأم) الكفالة هنا إنما هي النفقة، وإلا فالحضانة قد ذهب وقتها، الحضانة تكون قبل السبع السنين، وأما بعد سبع سنين فإنه لا يحتاج الطفل إلى حضانة، ولكن لما كانت يتيمة أراد كل من هؤلاء الثلاثة أن يحظى بكفالتها وبالنفقة عليها. قوله صلى الله عليه وسلم لـ علي: (أنت مني وأنا منك) يعني: أنت لك الفضل ولك القرابة، القرابة لكونه ابن عم، والقرابة لكونه صهراً، والقرابة لكونه قديم الإسلام، ولكونه قديم الهجرة. وقوله لـ جعفر: (أشبهت خَلقي وخُلقي) فيه فضل عظيم لـ جعفر رضي الله عنه. وقال لـ زيد: (أنت أخونا ومولانا) ، فأرضى كل واحد منهم بهذا الأمر، وبكل حال فهذا دليل على تنافس الصحابة رضي الله عنهم في فعل الخير، ومسابقتهم إليه، وأن كلاً منهم يحرص على أن يكون من السابقين إلى الخيرات، وأن يكون من الذين يحظون بالأجر في كفالة اليتيم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (أنا وكافل اليتيم كهاتين) أي: في الجنة، يعني: بعضنا يكون مع بعض في الجنة فأشار بأصبعيه السبابة والتي تليها، وفرق بينهما شيئاً. وقد أمر الله تعالى بالإحسان إلى اليتامى، وبمراعاتهم، ونهى عن إضرارهم، وقال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ} [البقرة:220] .

شرح عمدة الأحكام [66]

شرح عمدة الأحكام [66] جاءت هذه الشريعة بالعدل وأمرت بالعدل، وأحكامها كلها عدل، ومن ذلك أنها أوجبت القصاص في النفوس والأطراف، وفي ذلك حكم عظيمة ومصالح عديدة.

شرح حديث: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث)

شرح حديث: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث) قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [كتاب القصاص: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) . وعنه أيضاً رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء) . وعن سهل بن أبي حثمة قال: (انطلق عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود إلى خيبر وهي يومئذ صلح، فتفرقا، فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط في دمه قتيلاً، فدفنه ثم قدم المدينة، ثم انطلق عبد الرحمن بن سهل وحويصة بن مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذهب عبد الرحمن يتكلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: كبر كبر، وهو أحدث القوم؛ فسكت، فتكلما، فقال: أتحلفون وتستحقون دم قاتلكم أو صاحبكم؟ قالوا: وكيف نحلف ولم نشهد ولم نر؟ قال: فتبرئكم يهود بخمسين يميناً، فقالوا: كيف نأخذ بأيمان قوم كفار؟ فعقله النبي صلى الله عليه وسلم من عنده) وفي حديث حماد بن زيد: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته، فقالوا: أمر لم نشهده كيف نحلف؟ قال: فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم، قالوا: يا رسول الله! كيف نأخذ بأيمان قوم كفار؟) وفي حديث ابن عبيد: (فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبطل دمه، فوداه بمائة من إبل الصدقة) ] قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئٍ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) وصفه بأنه مسلم، وأنه يشهد الشهادتين، فإذا أسلم لله تعالى، واستسلم لأمره، وأقر بالشهادتين؛ عصم دمه، وعصم ماله، وحرم قتله وإراقة دمه، وحرم قطع طرفه، وحرم شجه أو جرحه، وحرم الاعتداء عليه؛ لأنه عصم دمه بهذه العقيدة، وبهذا الدين، إلا بثلاثة أشياء: الأول: إذا زنى وهو محصن، والإحصان: هو كونه قد تزوج زواجاً صحيحاً، ودخل بزوجته، ثم بعد ذلك زنى، فهذا ثيب، فيقتل إن زنى بأن يرجم حتى يموت، فهذا سبب أباح دمه، وهو زناه مع الإحصان. الثاني: إذا قتل بريئاً قتل به، لقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة:178] فمن قتل شخصاً مكافئاً له قتل به، فمن قتل رجلاً مسلماً قُتل به، وكذا لو قتل امرأة مسلمة قتل بها. الثالث: (التارك لدينه المفارق للجماعة) فهذا يباح قتله، ويسمى مرتداً، أو مبتدعاً بدعة مكفرة تلحقه بالردة، فهذا يقتل ولو أقر بالشهادة؛ لأنه أتى بما يبطلها، فمن ترك دينه بعبادة القبور حل قتله، وكذلك من ترك الصلاة وأصر على تركها قتل، وكذلك من منع الزكاة، وكذلك من استحل شيئاً من الحرام، من استحل الزنا وجعله مباحاً، أو استحل الربا، أو استحل الخمر، أو نحو ذلك؛ أُبيح قتله؛ لأنه أتى بمبرر وهو ترك دينه. وكذا إذا فارق جماعة المسلمين وإمامهم وسوادهم الأعظم، فارقهم وأصبح شاذاً، فإنه يقاتل إلى أن يرجع إلى معتقد المسلمين، وجماعة المسلمين هم الذين على عقيدة السلف ولو كانوا أقل من غيرهم.

شرح حديث: (أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء)

شرح حديث: (أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء) الحديث الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: (أول ما يُقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء) يوم القيامة يكون فيه الحساب، فتوزن أعمال العباد السيئات والحسنات، وتقابل هذه بهذه، ويحاسب العبد على أعماله التي تخصه، فيحاسب على صلاته، ما نقص وما أتم فيها، ويحاسب على زكواته، وعلى أذكاره، وعبادته، وجميع حسناته وسيئاته، ثم إذا انتهى من الحساب الذي بينه وبين ربه، عند ذلك ينظر فيما بينه وبين الناس من المظالم، فلا بد أن يحاسب عليها، وأن ينظر فيها، مظلمة في مال، مظلمة في عرض، مظلمة في حرمة، مظلمة في سباب، أو قذف مظلمة في إراقة دم، في إزهاق نفس، وفي قطع طرف، وفي شجة أو نحو ذلك، هذه كلها مظالم بين العباد، أول ما يُنظر في الحقوق التي بين العباد الدماء، يعني: القتل أو ما يقرب من القتل، فإذا كان بين الناس مظالم بدئ بالقتل ونحوه قبل المظلمة في المال، وإذا كان هذا الإنسان قد قتل وسرق وانتهك حرمة، فيؤخذ حق المقتول منه قبل كل شيء، قبل أن يؤخذ منه حقوق المال ونحوها، وهذا دليل على عظم شأن القتل؛ لأنه اعتداء على روح مسلم بغير حق، وإراقة لدمه بغير مبرر، فقدم على غيره.

شرح حديث: (إن الله قد حبس عن مكة الفيل)

شرح حديث: (إن الله قد حبس عن مكة الفيل) قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (لما فتح الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة، قتلت خزاعة رجلاً من هذيل بقتيل كان لهم في الجاهلية، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله عز وجل قد حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين، ألا وإنها لم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، وإنها ساعتي هذه حرام، لا يعضد شجرها، ولا يختلا شوكها، ولا تلتقط ساقطتها إلا لمنشد، ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يقتل، وإما أن يفدى، فقام رجل من أهل اليمن يقال له: أبو شاه فقال: يا رسول الله! اكتبوا لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتبوا لـ أبي شاه، ثم قام العباس فقال: يا رسول الله! إلا الإذخر فإنا نجعله في بيوتنا وقبورنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلا الإذخر) ] . هذا الحديث يتعلق بالقصاص، وفي هذه القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا مكة في سنة ثمان بعد أن قواه الله تعالى ونصره، وآمن معه من آمن، فاجتمع معه عشرة آلاف، وتوجه بهم إلى مكة بسبب نقضهم العهد الذي تعاهدوا عليه في سنة ست في الحديبية، ولما غزاهم ودخل مكة، أحل الله له القتال فيها، فقاتلوا فيها من أول النهار إلى قرب العصر، ثم بعد ذلك استسلم أهل مكة وأمنهم، واستتب الأمن ولم يعد يقاتلهم. ولما أسلم أهل مكة واطمأنوا، ودخل الناس في مكة، واجتمع بعضهم مع بعض، كان هناك بعض من الجاهليين الذين معهم شيء من حمية الجاهلية، ومن العادات القديمة التي منها الأخذ بالثأر، فكانت قبيلة خزاعة قد قُتل منهم قتيل في الجاهلية، قتلته هذيل، وقيل: إن هذيلاً هي التي كان لها قتيل، فقتلت خزاعة هذلياً، أو قتلت هذيل خزاعياً، وقالوا: ما دام أن مكة زالت حرمتها؛ فلماذا لا نأخذ بالثأر؟ واعتقدوا أن حرمة مكة إنما هي في الجاهلية، وأنها ليست بلدة محرمة، وأنه يجوز أخذ الثأر فيها، ويجوز القتال فيها، فقتلوا القتيل فأخطئوا خطأين: الخطأ الأول: الأخذ بالثأر الجاهلي. الخطأ الثاني: استحلال القتال في البلد الحرام. فلما فعلوا ذلك غضب النبي صلى الله عليه وسلم، وخطب هذه الخطبة في المسجد الحرام، فأخبر بأن هذا البلد حرام حرمه الله تعالى منذ خلق السماوات والأرض، وأنه لا يزال على حرمته، قال الله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران:97] ، وقال تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص:57] (حرماً آمناً يجبى إليه) أي: يجلب إليه الثمرات من كل البلاد، وقال تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} [النمل:91] البلدة هي مكة، أن أعبد الله حيث إنه حرم هذه البلدة، فهذه الآيات ونحوها تدل على أن هذا البلد الذي هو مكة له أهميته، وله منزلته، وأنه باق على حرمته. والحاصل أنه صلى الله عليه وسلم أنكر على هؤلاء الذين قتلوا في مكة، وقد ثبت أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم خطب خطبة بليغة في حجة الوداع في عرفة، وكان من جملة ما ذكره أنه قال: (إن دماء الجاهلية موضوعة تحت قدمي هاتين، وأول دم أضعه دم بني هاشم) أي: رجل من بني هاشم قتلته هذيل، فوضع دماء الجاهلية، ونعرات الجاهلية، والعادات الجاهلية، فعرف بذلك أن القتل في المسجد الحرام، والقتال فيه؛ لا يجوز، وإذا قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أبيح له القتال فيها؟ ف A أن الله أباحه لنبيه، وأذن له ولم يأذن لغيره كما في هذا الحديث، يقول صلى الله عليه وسلم: (إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين) لما جاء أصحاب الفيل ليستبيحوا حرمة هذا البلد؛ حبسهم الله وردهم {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} [الفيل:3-4] ، أما النبي صلى الله عليه وسلم فإن الله سلطه عليهم لما أصروا على الكفر، واستمروا عليه، واستباحوا البلد الحرام بأن جعلوه بلاد كفر وشرك، وردوا الرسالة النبوية، فأمره أن يقاتلهم، وأحل له القتال في هذا البلد هذا اليوم، ثم بعد ذلك عادت حرمة هذا البلد كما كانت، فأخبر أنه عادت حرمته اليوم كحرمته بالأمس، وأخبر أنه يحرم فيه سفك الدماء والقتال؛ وذلك لحرمة المكان، والذي يقتل فيه يعتبر قد فعل جرمين: الأول: أنه سفك دماً حراماً بغير حق، ولو كان مظلوماً. الثاني: أنه تهاون بحرمة البيت الحرام وبحرمة البلد الحرام، فاستحل ما حرم الله.

حكم القصاص في الحرم

حكم القصاص في الحرم أجاز العلماء القصاص في الحرم، فإذا قتل إنسان في المسجد الحرام، واستهان بحرمته فإنه يقتل {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] فجزاء قتله أن يقتل، وكذلك أجازوا أن تقام فيه الحدود، بل ويشدد فيها، فمن زنى داخل البلد الحرام جلد الحد إن كان بكراً، ورجم إن كان ثيباً، فيقام عليه الحد؛ لأنه امتهن حرمة البيت، وهكذا يقطع من سرق فيه، ويُجلد من شرب فيه خمراً، وهكذا من ارتد فيه يستحق القتل لردته، وما ذاك إلا أنه تهاون بهذا البلد الحرام، تهاون بحرمته، ولم يعرف قدره، فكان جزاؤه أن يشدد عليه في العقوبة، فيعاقب بعقوبتين، عقوبة جنايته، وعقوبة انتهاكه للبلد الحرام.

حرمة قطع شجر الحرم وتنفير صيده

حرمة قطع شجر الحرم وتنفير صيده يحرم في مكة قطع الشجر، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يعضد شجرها، والمراد الشجر الذي أنبته الله، أما الذي ينبته ويغرسه الآدمي فإن له أن يقطع منه ما يريده، فإذا قدر أنه قطع منه شجرة محرمة فإن عليه فدية، إن كانت كبيرة ففيها بدنة، وإن كانت صغيرة ففيها شاة، وإن كان قطع منها أغصاناً فعليه بقدر ما نقص منها. وكذلك لا يختلى خلاها، والخلا هو العشب الذي ينبت منبسطاً على الأرض، وترعاه الدواب، يجوز أن تترك الدواب ترعى فيه سواء من الإبل أو البقر أو الغنم، وأما أن يختلى بمعنى: يُحش؛ فلا يجوز، ومن حشه فإن عليه فديته بقدر ما أخذ منه أو بقيمته يتصدق بها على مساكين الحرم. كذلك لا ينفّر صيدها لعموم قوله: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران:97] ، ولعموم قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ} [المائدة:95] أي: قتل الصيد، وهو كل ما يقتنص ويصاد، فلا يجوز أن ينفر، ولا يجوز أن يُصاد. ويدخل في الصيد الطيور، ويدخل فيه الدواب المتوحشة التي تقتنص وتصاد، فإذا صاد فإن عليه جزاء. وقد بين العلماء مقدار جزاء الصيد في الكتب الفقهية والحديثية ونحوها، وإذا كان لا يجوز أن ينفر الصيد حتى يطير ولو عصفوراً أو حمامة أو نحو ذلك؛ فبالطريق الأولى لا يجوز أن يُذبح، ويستثنى من ذلك الذي يملك ولا يقال له: الصيد، كالدجاج أو البط من الطيور، وكذلك بهيمة الأنعام من الإبل والبقر ونحوها. واستثنى من ذلك الإذخر، وهو هذا النبات الذي يكون له أعواد دقيقة، وله رائحة طيبة، كانوا يقطعونه فيوقدون به، ويوقد به الحدادون، ويستعملونه عند سقف البيوت يسدون به الخلل، ويجعلونه بين اللبنات في القبور، فهم بحاجة إليه، فطلب العباس أن يرخص لهم في قطع وحش الإذخر، فرخص لهم في ذلك، وقال: (إلا الإذخر) .

(من قتل له قتيل فهو بخير النظرين)

(من قتل له قتيل فهو بخير النظرين) قوله صلى الله عليه وسلم: (ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين، إما أن يقتل وإما أن يفدى) المعنى: أن الذي يُقتل ظلماً فإن أولياءه بالخيار، إما أن يأخذوا بالدية وإما أن يقتلوا القاتل، وليس لهم غير ذلك إلا إذا عفوا عفواً مطلقاً بدون دية وبدون قصاص، وهذا أفضل لقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:178] وقوله: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة:237] ، فإذا عفوا فأجرهم على الله، وإذا طلبوا الحق فلهم الخيار بين أن يقتلوا ذلك القاتل وهو القصاص الذي قال الله: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:178] ، وقال: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] ؛ وإما أن يأخذوا الدية التي قدرت بأنها مائة من الإبل في ذلك الزمان، أو بقدرها من القيمة في هذا الزمان، وتقدر الآن بمائة ألف ريال؛ لأن كل بعير بألف ريال. ليس لهم إلا ذلك، وليس لهم أن يقتلوا غير القاتل فإن هذا ظلم، فإذا هرب القاتل فلا يقتلوا أخاه، أو يقتلوا قريبه، فهذا ظلم، قال الله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164] ، فكون الجاني قريباً لهذا لا يلزم أن يكون جانياً، أو يكون مذنباً، بل الجناية تتعلق بالمعتدي، فهو الذي يؤخذ منه الحق دون غيره، وهذا هو حكم الله تعالى. وقد شرع القصاص؛ لأجل الأمن، فتأمن البلاد ويأمن العباد؛ وذلك لأن من يريد أن يقتل إذا تذكر أنه سيقتص منه ارتدع عن القتل، ويقول: ما الفائدة من أن أقتل ما دمت سوف أقتل، ولو أنه سبني، ولو أنه قهرني؟ ما الفائدة من كوني أقتله وآخذ ماله، ثم سأُقتل بعد ذلك؟ فيحصل بذلك ارتداع عن القتل، وتخويف من هذه الفتنة الكبيرة، والذنب الكبير.

حكم طلب أحد الورثة للدية

حكم طلب أحد الورثة للدية الخيار يكون للأولياء، فالأولياء هم الذين يختارون إما القتل وإما العفو وإما الدية، وإذا تعددوا فلكل منهم أن يختار، فإذا كان أولاده ذكوراً وإناثاً، فطلب أحدهم الدية، أجبروا بأخذها كلهم ولو طلب أكثرهم القصاص، وما ذاك إلا لأن القصاص لا يتجزأ، ولا يمكن أن يعطى هذا نصيبه ويقتص لأجل نصيب الآخرين، ولو كان الذي طلب الدية زوجة له، ولو كانت ابنة له، ولو كانت قريبة للقاتل، ما دام أن لها حقاً في الدية فإن لها طلب الدية، وعند ذلك تُعطى نصيبها من الدية، ويجبر الباقون على أن يأخذوا الدية، ويتركوا القصاص الذي لا يتجزأ. كذلك يجوز أن يعفو بعضهم عفواً مطلقاً، ويأخذ الباقون نصيبهم من الدية، فمن أسقط نصيبه من الدية وطلب الأجر فله أجره، والبقية الذين لم يسقطوا نصيبهم يأخذوه كاملاً أو يأخذوا ما طلبوه. والدية قدرت بمائة من الإبل، وإذا طلبوا القصاص كلهم، أو طلبوا مالاً كثيراً فإن لهم ذلك، وقد روي أن بعض الصحابة عرضوا على أولياء المقتول أربع ديات، وقالوا: له: نعطيك ديتين؟ فقال: لا أريد إلا القصاص، فقالوا: نعطيك ثلاث ديات؟ فقال: لا أريد إلا القصاص، فقالوا: نعطيك أربع ديات؟ فقال: لا أريد إلا القصاص، فلما أصر على ذلك مكنوه من القصاص وقال: لو أعطيتموني عشرين دية لما قبلت، وهذا يدل على أنه يجوز أن يزاد في الدية، ولكن هذا يسمى صلحاً عن الدم، وكأن القاتل يشتري نفسه، يقول: لا تقتلوني وأنا أعطيكم أكثر من الدية، أو يقول أهله وعصبته: نحن نشتريه منكم بما تطلبون، ولو طلبتم خمس ديات أو ست ديات أو عشر ديات أو نحو ذلك، فيجوز أن يصطلحوا على أكثر من الدية، ولكن الأولى العفو والصلح، والإنسان إذا عفا وأصلح فأجره على الله.

شرح حديث دية الجنين

شرح حديث دية الجنين قال المصنف رحمنا الله وإياه: [عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أنه استشار الناس في إملاص المرأة، فقال المغيرة: شهدت النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه بغرة عبد أو أمة، فقال: لتأتين بمن يشهد معك! فشهد معه محمد بن مسلمة) إملاص المرأة: أن تلقي جنينها ميتاً. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن دية جنينها غرة عبد، أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها، وورثها ولدها ومن معهم، فقام حمل بن النابغة الهذلي وقال: يا رسول الله! كيف أغرم من لا شرب، ولا أكل، ولا نطق، ولا استهل، فمثل ذلك يطل؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما هو من إخوان الكهان) من أجل سجعه الذي سجع. وعن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه: (أن رجلاً عض يد رجل، فنزع يده من فمه فوقعت ثنيتاه، فاختصموا إلى النبي فقال: يعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل! لا دية لك) ] .

مقدار دية الجنين

مقدار دية الجنين تتعلق هذه الأحاديث بالديات وبالجنايات، ففيها دية الجنين إذا جني على أمه فسقط ميتاً ولم يتحرك بعد موته، أما إذا سقط حياً وتحرك حركة حي ثم مات، وكان سبب موته هو الجناية فإن فيه الدية كاملة، أي: ديته إن كان ذكراً دية رجل، وإن كان أنثى دية امرأة، وأما إذا مات في بطنها أو سقط قبل تمام مدته ومات أو سقط ميتاً فإن فيه غرة عبد أو أمة. والغرة هي بياض الوجه كما في قول أبي هريرة (فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل) ، وقوله عليه الصلاة والسلام: (إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين) فالغرة: بياض الوجه، لكن هنا أطلق الغرة على العبد المملوك أو الأمة المملوكة، فكأنه قال: دية الجنين إذا سقط بجناية فيه عبد أو أمة، وفي هذه الأزمنة: يقلّ وجود عبد أو أمة، ولو قدر وجودهما في بعض البلاد فإن ثمنهما رفيع، بل كان ثمن العبد قبل إلغاء الرق في هذه البلاد أرفع من دية الحر، ولكن العلماء في الزمن الأول قدروا الغرة، واستمروا على تقديره، فقالوا: الغرة التي هي عبد أو أمة قيمتها خمس من الإبل، ولا تزال هذه قيمتها، فالآن إذا سقط الجنين بسبب جناية بأن ضرب رجل بطن امرأة فأسقطت، أو حصل حادث بسببه كحادث اصطدام أو انقلاب فأسقطت المرأة، وحكم عليه بالدية، فإنه يحكم عليه بخمس من الإبل، وسواء كان السقط قد تخلق أو لم يتخلق، ما دام أنه حمل، وسواء طالت مدة الحمل أم لا، فإذا مات في بطنها سواء كان في الشهر التاسع أو الرابع أو الثاني وسقط ميتاً فديته خمس من الإبل، والإبل في هذه الأزمنة تقدر الواحدة بألف، فتكون دية الجنين خمسة آلاف ريال.

شرح حديث: (أن امرأتين من هذيل اقتتلتا)

شرح حديث: (أن امرأتين من هذيل اقتتلتا) حديث أبي هريرة: (أن امرأتين من هذيل اقتتلتا) أي: تشاجرتا وتخاصمتا (فضربت إحداهما الأخرى بحجر) وفي رواية: (بعمود فسطاط) (فقتلتها وما في بطنها) كانت المقتولة حاملاً، بعض الرواة يقول: إنها رمتها بحجر أصابت بطنها فماتت وجنينها، وبعضهم يقول: ضربتها بعمود فسطاط، والفسطاط الخيمة، وكانوا يجعلون عند مدخلها عموداً يعني: عصا أو عصاتين يرفعان المدخل حتى يدخل منه، وليس المراد العمود الذي في وسط الخيمة الذي ترتفع عليها، فإن تلك يصعب حملها، ففسروا عمود الفسطاط بالعصا التي تكون عند المدخل، وهي عصاً دقيقة يستطيع الواحد أن يحركها ويضرب بها، ولو كان بعمود خيمة كبيرة لكان القتل عمداً، لكن هذا قتل شبه العمد، وهو القتل بالشيء الذي لا يقتل غالباً، فإن الضربة الواحدة بعصا لا تقتل في الغالب إلا إذا صادفت مقتلاً، أو إذا كرر الضرب على موضع واحد، أو ضرب بشدة وبقوة وكان قوي الضرب، أو نحو ذلك، ولكن المعتاد أن العصا المحمولة التي يحملها الإنسان بيده ويتوكأ عليها إذا ضرب بها إنساناً فالغالب أن هذه الضربة لا تصل إلى القتل، ولكنها تردي، ولكن صادف أن هذه العصا قتلت المرأة، وقتلت ما في بطنها، فترافعوا وتحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل هذا القتل شبه عمد، ولم يجعله عمداً حتى يقتص من القاتلة، بل جعله شبه عمد، وجعل الدية على العاقلة، والعاقلة: هم قرابة الجاني، أي: تحمل تلك الدية أقارب المرأة القاتلة.

دية الخطأ وشبه العمد على العاقلة

دية الخطأ وشبه العمد على العاقلة اتفق العلماء على أن دية الخطأ ودية شبه العمد تكون على العاقلة؛ حتى لا يتحمل القاتل أشياء عليه فيها ضرر، فإنه قد يعجز مع عذره، ومعلوم أنه معذور حيث إنه لم يتعمد، وبالأخص إذا كان مخطئاً، وقد يحصل موت كثير بسبب الخطأ، كالانقلاب والاصطدام ونحوه، فقد يموت معه عشرة أو عشرات، ولو تحمل ديتهم وحده لعجز، فمما جاءت به الشريعة أن خففت عنه، وجعلت عليه جزءاً يسيراً من الدية أو لم يجعل عليه شيء، وجعلت على عاقلته الذين هم أقاربه. ولما كانت الدية تحملها العاقلة، والعاقلة ما جنت، قسمت على ثلاث سنين، ويكون عليهم في كل سنة ثلثها، فتفرق على إخوة القاتل وبنيهم، وأعمامه وأبناء عمه، وأبناء عم أبيه وبنيهم، وهكذا إلى الجد الخامس أو الجد السادس، وربما إلى الجد السابع أو الثامن إذا قلوا، فتقسم الدية عليهم، هذا معنى تحمل العاقلة لدية الخطأ ودية شبه العمد. في هذا الحديث حكم بالدية على العاقلة، وحكم بدية السقط غرة عبد أو أمة، وأن الذي يحمله نفس الجاني، العاقلة لا تحمل الصلح، ولا تحمل الإقرار، ولا تحمل العمد، ولا تحمل ما دون الثلث؛ فلذلك أنكر ولي المرأة أن يفدى هذا السقط، وتكلم بهذا الكلام، وهو قوله: كيف نفدي من لا أكل، ولا شرب ولا استهل، فمثل ذلك يطل؟ هكذا تلفظ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما هذا من إخوان الكهان) من أجل سجعه الذي سجع، ومعروف أن الكهان يتعاطون السجع في كلامهم، ويحرصون على الكلام المتوازن، وهذا فيه سجع كما سمعنا: كيف نفدي من لا أكل، ولا شرب، ولا استهل، فمثل ذلك يطل؟ يعني: الجنين ما أكل، مات قبل أن يحتاج إلى الأكل، ولا شرب، ولا استهل عندما ولد أي: ما ظهر أنه استهل، واستهلال المولود هو أن يصيح ساعة ولادته، فهذا ما استهل، فمثل ذلك يطل يعني: يهدر، ويترك، ويهمل، ولا يكون له دية، فالنبي صلى الله عليه وسلم أنكر عليه كلامه وقال: (إنه من إخوان الكهنة) .

شرح حديث: (يعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل؟)

شرح حديث: (يعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل؟) في حديث عمران أن رجلين تقاتلا، وكان أحدهما مولى لـ يعلى بن أمية، وحصل أن أحدهما قاتل بفمه، فقبض بأسنانه وبثنيته على أصابع الآخر، وعض عليها بشدة، ولما أحس الآخر بحرارة العض وبحرارة الأسنان لم يجد بداً من أن ينتزع يده بقوة انتزاعاً شديداً، وكان من آثار انتزاعه أن سقطت ثنية العاض، ولما سقطت كانت هذه جناية، والثنية فيها دية، فترافعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وطلب دية ثنيته، مع أنه لا بد أنه جرح أصابع ذلك الذي عضه، فلما أخبره بالقصة، لم يلم الذي انتزع يده، فمعلوم أنه لا يضع يده ولا يلقيها في فم ذلك العاض، فلا بد أن ينتزعها، ولا لوم عليه إذا انتزعها وقد أحس بحرارة أثر الأسنان، وأهدر دية تلك الثنية، وقال: (لا دية لك) أي: أنت الجاني؛ حيث إنك استعملت العض بالأسنان، فأنت الذي جنيت، فلا دية لك ولا قصاص، والله تعالى قد أخبر أن في السن قصاص، قال تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة:45] ، فلو أن إنساناً جنى على آخر بأن ضربه في فمه حتى أسقط سناً أو أسناناً، سواء بيده أو بدبوس أو بعصاً لها رأس كبير أو ضربه بحجر؛ فكسر سناً أو قلعه؛ فإن فيها القصاص إذا كان عمداً، وفيها الدية إذا كان خطأ، القصاص السن بالسن، والدية في كل سن خمس من الإبل، أي: الأسنان المتقدمة، وفي الأسنان الوسط والمتأخرة ثلاث أو اثنتان، فأما إذا كان هو الجاني، وهو المبتدي والمعتدي؛ فإنه لا دية له، وهكذا كل من تسبب في إضرار أخ له؛ ولم يجد بداً إلا أن يدفعه؛ فإنه لا دية فيما يحصل بالدفع؛ ولهذا ورد في حديث أنه صلى الله عليه وسلم جاءه رجلٌ فقال: (إن جاءني رجل يريد أخذ مالي! قال: لا تعطه، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: أنت شهيد) لماذا أمره بقتاله؟ أمره بقتاله؛ لأنه ظالم معتد لطلبه أخذ مالك أو سفك دمك، أو الاعتداء عليك بغير حق، أو الاعتداء على محارمك، فلك أن تدفعه، فإذا رأيته يقاتل فقاتله، وإذا رأيته يخاصم فخاصمه، أو ينازع فنازعه، أو يشاجر فشاجره، فدافعه بما يندفع به، فإن لم يندفع إلا بقتله فلك قتله. روي أن لصاً دخل إلى بيت ابن عمر رضي الله عنه، ولما رآه ابن عمر شهر سيفه، وقال: دعوني أقتله، يقول الراوي: لولا أنّا دفعناه ومنعناه لقتله، واستدل بحديث: (من قُتل دون ماله فهو شهيد) . وبكل حال هذه القصة شبيهة بمن يدافع عن نفسه، وهي في عض الإصبع، ويلحق بذلك غيره من أنواع الاعتداء، فإذا اعتدى برمي حجر، فرد حجره عليه، ولو قاتل بعصا فلك أن ترد عصاه عليه، ولو قتل بها نفسه أو قتلته بها، وكذلك إذا قاتل بأظافره فإن لك أظافر دافعه بما يندفع به، ويسمى هذا الدفاع برد الصائل. ومعلوم أن الخصومات التي تحدث بين اثنين ويحصل بينهما شجار ونزاع، يكون من آثارها أنهما يتشادان، ويحصل من آثار المشادة قتال، وكل منهما يقاتل أو يدفع عن نفسه ويدافع، ويحصل من آثار هذه المشادة أن أحدهما قد يكون أقوى من الآخر، فإذا انفصل هذا النزاع رجع بعد ذلك إلى المقاصة والأرش، فتتقابل الجروح بعضها ببعض، هذا السن بهذا السن مثلاً، أو هذا الجرح بهذا الجرح، هذه الشجة بهذه الشجة، هذا العضو بهذا العضو، وينظر بعد ذلك في الزائد فيكون فيه إما قصاص وإما دية حيث يقتضيه العمد.

شرح حديث: (بادرني عبدي بنفسه، حرمت عليه الجنة)

شرح حديث: (بادرني عبدي بنفسه، حرمت عليه الجنة) قال المصنف رحمه الله: [عن الحسن بن أبي الحسن البصري قال: حدثنا جندب في هذا المسجد وما نسينا منه حديثاً وما نخشى أن يكون جندب كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح فجزع، فأخذ سكيناً فجز بها يده، فما رقأ الدم حتى مات، قال الله عز وجل: بادرني عبدي بنفسه حرمت عليه الجنة) ] . في هذا الحديث: أن هذا الرجل كان من الأمم السابقة، قتل نفسه؛ فعوقب بأن حُرِم ثواب الله تعالى وجنته. ذكر أنه كان به جراح في يديه أو في قدميه، فكأنه تألم من هذه الجراح واشتد عليه الوجع، ولما اشتد عليه الألم والوجع لم يتحمل ولم يصبر، فرأى أن السلامة قطع ذلك العضو أو تلك اليد أو الرجل التي فيها الجرح يريد أن يريح نفسه من هذا الألم والوجع الشديد الذي يحس به؛ ولكنه لما قطع ذلك العضو خرج الدم واستمر في خروجه إلى أن خرجت نفسه، فمات بسبب قطع يده أو قطع ذلك العضو الذي كان يؤلمه، مات بسبب نفسه، فحرمه الله تعالى ثوابه، فقال الله تعالى: (بادرني عبدي بنفسه، حرمت عليه الجنة) أي: سابقني بنفسه، وتسبب في قتل نفسه، ولم يتحمل هذا الألم الذي أنزلته به، فصار قتله لنفسه سبباً في حرمانه ثواب الله تعالى، وفي حرمانه الجنة. وهذا دليل على أن الإنسان لا يجوز له أن يتسبب في قتل نفسه الذي يسمى في هذه الأزمنة: الانتحار، يعني: كون الإنسان يقتل نفسه، إما لألم أو لهم أو غم أو لضيق حال أو ما أشبه ذلك، فإذا فعل ذلك تسبب في حرمان نفسه من ثواب الله تعالى، وأقدم على عقابه. وورد أيضاً أن رجلاً في عهد الصحابة يقال له: قزمان، كان يقاتل معهم في غزوة أحد، ذُكر للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (إنه في النار) فشكُّوا في أمره، قاتل قتالاً شديداً في غزوة أحد، فلما كان في آخر أمره أصابته جراحة، فتألم من هذه الجراحة، فوضع سيفه في وسطه، وتحامل على السيف حتى خرق جوفه وخرق ظهره بالسيف، وقتل نفسه، فتبين صدق النبي صلى الله عليه وسلم في أنه من أهل النار؛ لأنه قتل نفسه. فلما فعل ذلك الرجل ما فعل قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة) . الأعمال بالخواتيم، فخاتمة هذا الرجل الذي كان مع الصحابة خاتمته لَمَّا قتل نفسه أن حُكم عليه بأنه في النار، فهذا يبين أن الذي يتسبب في قتل نفسه يعذب بهذا العذاب.

عذاب قاتل نفسه في الآخرة

عذاب قاتل نفسه في الآخرة ورد عذاب شديد في حديث صحيح رواه مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من تردى من شاهق فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن وجأ نفسه بحديدة فقتلها فهو يجأ نفسه -يعني: يطعن نفسه- في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تحسى سُمَّاً -يعني: التهم سُمَّاً- فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً) . فهو تسبب في قتل نفسه، ونفسه ليست ملكاً له، بل هي ملك لله، وخالف ما تقتضيه الطباع، فالعادة أن الإنسان يحب نفسه ويكره الموت، ويؤثر الحياة، كما في قوله تعالى حكاية عن اليهود: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة:96] ، وقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن تمني الموت بقوله: (لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به) والمراد بالضر هنا: عموم ما يضر الإنسان، سواء كان ضرراً بدنياًأو ضرراً قلبياً، أو ضرراً مالياً، فلا يتمنى الموت، فضلاً عن أن يتعاطاه بأن يحمل على نفسه ويقتلها. والسبب أنه قد يجزع في هذه الدنيا مما يصيبه من الألم، ويعتقد أنه إذا قتل نفسه أراحها من هذا الهم ومن هذا الغم الذي يلاقيه، وأنه لا يجد بعد ذلك شيئاً يؤلمه، وهذا خطأ كبير، وما ذاك إلا أنه ينتقل إلى ما هو أشد من هذا الألم الذي يحس به، ينتقل إلى غضب الله وعذابه، ينتقل إلى العذاب الشديد بدل العذاب السهل الخفيف الذي يمكن تحمله في الدنيا، سواءً كان هما ًأو غماً أو عذاباً بدنياً أو نحو ذلك.

الوعيد الشديد لمن قتل نفسه

الوعيد الشديد لمن قتل نفسه يكثر في هذه الأزمنة ما نسمعه من قصص الانتحار حيث يقتل أحدهم نفسه لأدنى سبب، إذا جاءه خبر يحزنه أو نحو ذلك قتل نفسه، أو إذا وقع به هم أو غم أو مضايقة أو نحو ذلك قتل نفسه بأي حيلة يقدر عليها، فمنهم من يطعن نفسه بحديدة، ويقطع بها مجاري الدم في حلقه إلى أن يموت، ومنهم من يقتل نفسه برصاص أو نحوه، ومنهم من يحرق نفسه، ومنهم من يسقط من عمارة على أم رأسه إلى أن يموت، لأدني شيء يؤلمه أو يحزنه أو نحو ذلك، لماذا هذا؟! يقولون عنه: إنه لا يتحمل الصبر على هذا الحزن أو على هذا الألم أو ما أشبه ذلك!! والواجب على الإنسان أن يصبر على ما يصيبه من أذىً أو على ما يصيبه من ألم أو نحو ذلك، وما ذاك إلا لأن الله تعالى يبتلي العباد في هذه الدنيا بأنواع من البلايا ابتلاءً واختباراً لهم، فمنهم من يُبتلى بالجوع والضيق والجُهد، ومنهم من يبتلى بالأمراض والعاهات في بدنه، ومنهم من يُسلط عليه بنو جنسه، ومنهم من يبتلى بالسجن والضرب والمضايقات ونحوها. فالواجب على الإنسان أن يصبر على ذلك، وأن يتحمل، وأن يرضى بقضاء الله تعالى وقدره، ولو عُذِّب ولو أوذي ولا يقول: إنني لا أتحمل، أريد أن أريح نفسي بالانتحار حتى أسلم من هذه الآلام والعذاب ونحوه. إنك تتعاطى ما لا يحل لك إذا انتحرت، إنك تتصرف في شيء لا تملكه، إن نفسك ملك لربك وليست ملكاً لك، إنك مأمور بالصبر والتحمل بقدر ما تستطيع، ولو أوذيت غاية الأذى، ولو وصل بك الأذى ما وصل، مأمور بأن تصبر على ذلك، وتعلم أن هذا فيه أجر كبير، فإذا صبرت عليه أثابك، فإما أن يكون هذا الذي أصابك ابتلاء بقوة الإيمان ولضعفه، فإذا صبرت صار إيمانك قوياً، وإما أن يكون عقوبة على ذنوب اقترفتها، فإذا صبرت على ذلك كُفِّرت تلك الذنوب بهذا البلاء وبهذه الأمراض والعاهات ونحو ذلك، وإما أن تكون تلك البلايا والمصائب ونحوها رفعاً لدرجاتك، ونحو ذلك من الأسباب. إذاً: المسلم إذا ابتُلي صبر كما ورد في الآثار: (عنوان سعادة العبد أنه إذا أعطي شكر، وإذا أذنب استغفر، وإذا ابتُلي صبر) أي: تحمل وصبر على ما يصيبه. أما هؤلاء الذين إذا حصل عليهم أدنى شيء بادر أحدهم وقتل نفسه، فمثل هؤلاء لم يتحملوا الصبر، ويزعمون أنهم يريحون أنفسهم، وما دروا أن أحدهم كالمستجير من الرمضاء بالنار، كالذي يفر من الرمضاء إذا أحرقت قدميه، ثم يقع في النار فتحرقه كله! وذلك أن عذاب الدنيا منقطع هين يمكن تحمله، أما عذاب الآخرة الذي هو سخط الله وعقوبته وعذابه الشديد فإنه دائم أبدي سرمدي.

من أحكام قاتل نفسه

من أحكام قاتل نفسه ذكروا أن من قتل نفسه فإن من عقوبته ألَّا يصلي عليه الإمام الأعظم أو الإمام العام، وما ذاك إلا للزجر عن هذا الذنب الذي اقترفه. كذلك أيضاً: إذا تُحُقِّق إمام المسجد أن القاتل قتل نفسه فليس له أن يصلي عليه، وأما الذين لم يعرفوا فلهم أن يصلوا عليه. أما أقاربه ومن له صلة فيصلون عليه، ويدعون له ويترحمون عليه، رجاء أن يخفف عنه هذا الذنب، ولو كان ذنباً كبيراً؛ لأن كثيراً من العلماء لم يخرجوه به من الإسلام، ولم يحكموا بكفره، وتأولوا الأحاديث التي فيها الوعيد الشديد عليه بأنها من باب الزجر والنهي عن مثل هذه الكبائر، ومن باب محافظة الإنسان على حرمة نفسه، وعلى حرمة المسلمين. ولا شك أن المسلم له حرمة، رُوي أن ابن عمر طاف مرة بالكعبة وقال: (ما أعظمك وأعظم حرمتك! وإن حرمة المؤمن أعظم عند الله من حرمتك) فالمؤمن له حرمة، ومن حرمته ألا يُتَعدَّى عليه، فإذا كان الله تعالى توعد من قتل نفسَاً بغير حق بأشد الوعيد، فكذلك الوعيد أيضَاً ينصب على من تسبب في قتل نفسه والعياذ بالله. فننتبه لمثل هذا، ونحذِّر هؤلاء الذين يتساهلون في الانتحار، وما أكثرهم! ولكنهم قليلون -والحمد لله- في البلاد الإسلامية، وإنما يكثرون في البلاد التي يكون الإسلام فيها ضعيفاً أو أنهم يقلدون الدول الكافرة الذين يقتل أحدهم نفسه بأدنى سبب يخالف ما يهواه. فالأخبار تنقل أن في دولة كذا وكذا: انتحر في هذا الشهر عدد كذا وكذا، قتلوا أنفسهم سواء كانوا رجالاً أو نساء ونحو ذلك، وإذا عرّفنا للناس خطأهم، وبعدهم عن العقل وعن الدين، انتبه الناس لمثل ذلك، فلا يفعل مثل ذلك إلا من هو مسلوب العقل والمعرفة والعياذ بالله.

شرح عمدة الأحكام [67]

شرح عمدة الأحكام [67] جاءت الشريعة بحفظ النفوس والأموال والأعراض، وسدت كل طريق يوصل إلى انتهاكها، وقررت الأحكام الشديدة الزاجرة لكل من تسول له نفسه استباحتها، ومن أشد تلك الأحكام أحكام المحاربين الذين يفسدون في الأرض، فجزاؤهم أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض.

أحكام الحرابة والمحاربين

أحكام الحرابة والمحاربين قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [كتاب الحدود. عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قدم ناس من عكل أو عرينة فاجتووا المدينة، فأمر لهم النبي صلى الله عليه وسلم بلقاح، وأمرهم أن يشربوا من ألبانها وأبوالها، فانطلقوا، فلما صحوا قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم، واستاقوا النعم، فجاء الخبر أول النهار؛ فبعث في آثارهم، فلما ارتفع النهار جيء بهم، فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم، وسمرت أعينهم، وتركوا في الحرة يستسقون فلا يسقون. قال أبو قلابة: فهؤلاء سرقوا وقتلوا، وكفروا بعد إيمانهم، وحاربوا الله ورسوله. أخرجه الجماعة] . هذا الحديث في حكم المحاربين والحرابة، وقد ذكر المحاربون في القرآن، قال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة:33] قال ابن عباس رضي الله عنه: (إن قتلوا وأخذوا المال قتلوا ثم صلبوا، وإن قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا، وإن أخذوا المال ولم يقتلوا قطع من كل واحد منهم يد من جانب ورجل من جانب، وإن أخافوا السبيل نفوا من الأرض) . وقيل: إن نفيهم: أن يسجنوا في الحبس. والمحاربون هم: الذين يعترضون الناس في الطرق وفي البراري، فيعترضون المسافر فيقطعون عليه سيره، فإما أن يقاتلوه لأجل أن يأخذوا ما معه من مال إن كان، وإما أن يقصدوا فعل جريمة الزنا بمحارمه إذا كان معه محارم، وهكذا، فهؤلاء هم المحاربون. وقد دخل فيهم أهل هذه القصة، وفي هذه القصة: أن هؤلاء قوم -قيل: عددهم ثمانية من قبيلتين: قبيلة عكل، وقبيلة عرينة، وهما قبيلتان من قحطان ومن عدنان- جاءوا إلى المدينة وأظهروا أنهم أسلموا، وبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم، ولما أقاموا في المدينة أياماً اصفرت ألوانهم، وتغيرت عليهم البيئة والمكان والطعام والشراب، وانتفخت بطونهم بمرض يسمى الجواء، فلما رأى تغير حالتهم رحمهم ورفق بهم، وعرف أنهم كانوا أهل دواب وأهل أغنام وأهل إبل، وقد عاشوا عليها، وأن أحسن حالهم أن يرجعوا إلى التغذي بألبان الإبل ونحوها، فأرسلهم إلى إبل الصدقة، وهي إبل كانت ترعى في طرف المدينة، وأمرهم أن يتغذوا بألبانها، ويتعالجوا بأبوالها، ويشربوا الأبوال علاجاً ودواءً، ويشربوا الألبان غذاء، ففعلوا، وذهبوا مع تلك الإبل، واستمروا في هذا العمل يشربون ويتعالجون حتى عادت إليهم صحتهم، وسمنوا وقووا. فعند ذلك بدا لهم أن يكفروا بعد إسلامهم، وأن يستبدوا بهذه الإبل التي وجدوا منها هذه المنفعة، فقتلوا الراعي الذي كان يرعى تلك الإبل -وكان راعياً مسلماً- ومثلوا به، فجدعوا أنفه، وفقئوا عينيه، وبقروا بطنه، وقطعوا أطرافه، ثم هربوا بالإبل، وصاروا بهذا محاربين لله ولرسوله، فجاء الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم بما فعلوه من هذا الجرم وكفران النعم، فبعث في آثارهم من يردهم، روي أن جرير بن عبد الله البجلي كان أميراً على السرية التي بُعثت في آثارهم، فأدركهم الطلب أثناء الطريق وهم هاربون مشتدون في الهرب، فأسروهم وجاءوا بهم، ولما جاءوا بهم -وكانت جريمتهم جريمة شنيعة- عاقبهم النبي صلى الله عليه وسلم بعقوبة شنيعة تماثل جريمتهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وترك الدم يسيل منهم، أي: لم يحسمهم حتى يتوقف الدم، وأمر بمسامير من حديد فأحميت في النار، فكحلت بها أعينهم، وهو معنى: (سمل أعينهم) ، وكان ذلك عقاباً لهم؛ لأنهم فعلوا ذلك بالراعي، وتركهم في حرة المدينة يستسقون فلا يسقون حتى ماتوا، وهم على تلك الحال. روي أن الحجاج أمير العراق المشهور لما سمع هذا الحديث أخذ يستدل به على عقوبته لبعض المجرمين، ويقول: انظروا إلى عقوبة النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الأشخاص، وما ذنبهم إلا أنهم أخذوا ذوداً من الإبل لا تساوي إلا عدة دنانير، فعاقبهم بهذه العقوبة الشنيعة، وقد لام بعض المحدثين من حدث الحجاج بهذا الحديث وبهذه القصة؛ لأنه صار يستدل بها على سفكه للدماء بأدنى شبهة، ولما اشتهر استدلاله بذلك اعتذر عن هذا الحديث أبو قلابة الذي روى هذا الحديث عن أنس فقال: هؤلاء -يعني: هؤلاء الذين أذنبوا هذا الذنب- سرقوا -أي: سرقوا الإبل- وقتلوا ذلك الراعي، وحاربوا الله ورسوله أي: نصبوا الحرب للرسول عليه الصلاة والسلام، وارتدوا بعد إسلامهم أي: كفروا؛ لأن فعلهم هذا ردة؛ حيث إنهم هربوا إلى الكفار، ففعلهم هذا ردة، أي: لم يبقوا على إسلامهم، فكانت هذه عقوبة لهم. وبلا شك أن المحارب الذي يقطع الطريق على المسلمين، ويقتل لأجل أخذ المال، وينهب المال بالقوة، ويفعل ما يقدر عليه؛ لا شك أن رده وصده واجب على المسلمين؛ حتى لا تكثر الفوضى، وحتى لا تشتد المنكرات، وحتى لا يكون الضعيف نهبة للقوي، وحتى لا تسفك دماء المسلمين، وتنتهك أعراضهم بالزنا والفواحش وما أشبهها، فلأجل ذلك يؤخذ على أيدي هؤلاء المحاربين، ويعاقبون بما يرتدعون به. ومن ذلك عقوبة هؤلاء المحاربين الذين في هذا الحديث، فإن من عقوبتهم: القتل؛ لأنهم قتلوا، فلما قتلوا ذلك الراعي بغير حق قتلوا، وقد اتفق جمهور العلماء على أن الجماعة إذا قتلوا واحداً قتلوا كلهم، وهؤلاء ثمانية قتلوا واحداً وهو الراعي، فقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم به قصاصاً، وإن كانوا قتلوا لأجل أنهم مرتدون، ولكن لما قتلوه قتلوا، ومثل بهم، والمثلة قد ورد النهي عنها، ولكن تجوز على وجه المقابلة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث بريدة: (اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا، ولا تمثلوا) أي: لا تمثلوا بالقتلى يعني: لا تشوهوا منظر القتيل بقطع أنفه، أو بفك شدقيه، أو بفقأ عينيه، أو بقطع مذاكيره، أو ببقر بطنه، أو بإخراج كليته، أو نحو ذلك، فما دام أنه قتل ومات فلا تمثلوا به هذا التمثيل. ولكن إذا رؤي أن في ذلك زجراً لأمثالهم، وأنهم إذا رأوا هذا الفعل بهم انزجر أمثالهم فلا يفعلون كفعلهم؛ جاز بقدر الحاجة، والنبي صلى الله عليه وسلم هنا مثل بهم، أي: فقأ أعينهم بهذا الحديد المحمي، وكذلك قطع أيديهم وأرجلهم، أي: قطع من كل واحد منهم يداً ورجلاً، وكذلك لم يحسمهم، والحسم هو: أن يكوى طرف اليد المقطوعة حتى يتوقف الدم، بأن يغلى زيت وإذا غلي واشتد حره غمست فيه اليد بعدما تقطع، فتقطع اليد من المفصل وتغمس في ذلك الزيت حتى يتوقف جريان الدم؛ لأنها إذا لم تحسم استمر خروج الدم إلى أن يموت الذي قطعت يده، بخلاف ما إذا حسمت، فهو عليه السلام ما حسمهم. وكذلك تركهم في الحرة يطلبون ماءً ويطلبون طعاماً فلم يُسقوا ولم يُطعموا، وتركوا تجري دماؤهم إلى أن ماتوا، ولا شك أن هذه العقوبة البشعة الشنيعة دليل على عظم جرمهم، فهي عقوبة على خيانتهم، وعلى حربهم لله ورسوله، وعلى قتلهم إنساناً بريئاً محسناً إليهم، وعلى ردتهم وارتدادهم عن الإسلام وتبديلهم دينهم، فيدخلون في قوله صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه) ، وهؤلاء جمعوا بين هذه الأمور، ففعلت بهم هذه الأفعال، فجمعوا بين كونهم حاربوا الله ورسوله، وصاروا من المحاربين، فكان جزاؤهم كما قال الله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا} [المائدة:33] ، وكذلك ارتدوا عن الإسلام، وردتهم تعتبر كفراً وتبديلاً للدين، وكذلك كفروا المعروف، وكفروا العشير، وكفروا الإحسان، وكفروا الفضل والخير الذي حصل لهم، وجازوا الإحسان بالإساءة، فحصل لهم ما يستحقونه من هذه العقوبة. ولا شك أن الجزاء من جنس العمل، وأن من فعل مثل هذه الأفعال أو قريب منها يجازى بذلك، فإذا قدر على هؤلاء القطاع الذين يقفون في الطرق، ويخدعون بعض الناس حتى ينخدع معهم، ويسرقون ما معه من المال، أو يهددونه بالسلاح ويأخذون ما معه قهراً، وما أشبه ذلك، فإذا قدر عليهم فيجوز للحاكم أن يقتلهم، لا سيما إذا قامت القرائن على خيانتهم وعلى شرهم وعلى ضررهم بالمسلمين، أو اعترفوا أو قامت قرائن على أنهم يخيفون السبل، ويخيفون الآمنين، وأنهم يحاولون الاعتداء بأخذ المال وبقتل المسلم بغير حق ليتمكنوا من ماله أو ما أشبه ذلك. فإن كانوا أخذوا المال على وجه المغالبة وعلى وجه القهرية، بأن قالوا: أعطنا ما معك من المال من النقود أو من الذهب أو ما أشبه ذلك وإلا قتلناك، فيخرجون السلاح ويهددونه بإطلاق النار، فأعطاهم ليكف شرهم؛ فعقوبتهم إذا قدر عليهم أن يقطع من كل منهم يد ورجل، ويحسموا حتى لا يموتوا؛ لأن ذنبهم لا يصير إلى القتل، لكونهم لم يقتلوا مع استرجاع الأموال التي أخذوها بالمغالبة، أما إذا كان اعتداؤهم على الأعراض بأن فعلوا جريمة الزنا أو اللواط، وقامت البينات على ذلك منهم باعترافهم، أو بوجود العلامات الظاهرة، فيقام عليهم الحد، فحد اللواط هو القتل، لقوله عليه السلام: (اقتلوا الفاعل والمفعول به) ، يعني: المفعول به إذا كان مختاراً، وأما حد الزنا فهو الحد المعروف: جلد مائة وتغريب عام إن كان بكراً، والرجم إذا كان قد تزوج، كما دلت عليه الأحاديث.

شرح عمدة الأحكام [68]

شرح عمدة الأحكام [68] الزنا من أعظم الفواحش، ومفاسده كثيرة، وأضراره عديدة، ولذا فقد حرمه الله في جميع الشرائع، وحد له عقوبة في الدنيا تزجر عنه، وهي تختلف بحسب الإحصان وعدمه، والحرية وعدمها.

حد الزنا

حد الزنا قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن أبي هريرة وزيد بن خالد رضي الله عنهما أنهما قالا: إن رجلاً من الأعراب أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! أنشدك الله إلا قضيت بيننا بكتاب الله، فقال الخصم الآخر -وهو أفقه منه-: نعم، فاقضِ بيننا بكتاب الله وائذن لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل، فقال: إن ابني كان عسيفاً على هذا فزنى بامرأته، وإني أُخبرت أن على ابني الرجم، فافتديت منه بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم فأخبروني: إنما على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله، الوليدة والغنم ردٌّ عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس -لرجل من أسلم- على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها. قال: فغدا عليها فاعترفت، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت) . وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما قالا: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأمة إذا زنت ولم تحصن، فقال: إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم بيعوها ولو بضفير) . قال ابن شهاب: لا أدري أبعد الثالثة أو الرابعة! والضفير: الحبل] . هذه الأحاديث تتعلق بحد الزنا، وقد عُرف أن الله تعالى حرمه وجعله فاحشة من أعظم الفواحش، قال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلَاً} [الإسراء:32] ، وجعل حده الجلد فقال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:2] أي: لا ترحموهما ولا ترقُّوا لهما: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2] . فهذا دليل على عظمة هذا الذنب. والمفاسد التي تترتب عليه كثيرة ومشهورة، وقد توسع العلماء في ذكرها، وبينوا الأضرار التي تحصل في المجتمعات إذا فشت فيها فاحشة الزنا، وكذلك أيضاً ما يحصل فيها من العقوبات الأخروية أو العقوبات السماوية بسبب فُشُوِّ هذه الفاحشة. ولأجل ذلك جعل الله حد الزنا -أي: العقوبة التي تترتب على فعله- من أبشع العقوبات وأشنعها، فإذا كان الزاني قد من الله عليه بالزواج، وقد أحصن فرجه يعني: قد نكح نكاحاً صحيحاً ثم بعد ذلك زنى فذنبه أكبر، فيستحق أن يُرجم، ولو كان قد طلق زوجته أو توفيت ما دام أنه قد تزوج زواجاً صحيحاً ودخل بزوجته، وهكذا المرأة التي تزوجت ودُخل بها ثم زنت، فإن عقوبة كل منهما أن يُرجم بالحجارة حتى يموت، وأن يجتمع عليه جماعة ويرجموه ويقذفوه بالحجارة إلى أن يموت، وذلك لأن الله تعالى عاقب قوم لوط بمثل ذلك كما في قوله تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ} [هود:82-83] . (مِنْ سِجِّيْلٍ) : قيل: إنها من النار. (مَنْضُودٍ) أي: منضَّدة مهيأة، (مُسَوَّمَةً) أي: موسومة مهيأة لمن تقع عليه وتقتله، {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83] . وكانت فاحشتهم شنيعةً، وهي أنهم كانوا يأتون الذكران من العالمين، فكذلك كل من فعل هذه الفاحشة وهي جريمة الزنا، ومثلها أو أبشع منها جريمة الفعل في الذكور، كل ذلك يستحق أصحابه هذه العقوبة التي هي الجلد أو الرجم، فإن كان لم يسبق أن تزوج بل لا يزال بكراً رجلاً كان أو امرأة فإنه يُجلد مائة جلدة، ويُشدد عليه في الجلد لقوله تعالى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:2] ، ويُشهر أمره لقوله: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2] أي: يكون جلده على مشهد من جمع من الناس. ويجلده الجلاد وهو إما قائم وإما مضطجع، ويفرق الجلد على جسده. الجلد هو الذي ذكر في القرآن، وفي هذه القصة أن البكر عليه جلد مائة، وعليه مع ذلك تغريب عام، وأن الرجم يكون على المحصن. وهذه القصة فيها أن رجلاً كان له ابن شاب فاستُخدم في أحد البيوت، وأصبح خادماً عند صاحب بيت من البيوت، وكان فيه نزعة الشباب، وفيه قوة الشهوة، فسولت له نفسه أن زنى بامرأة صاحب البيت، وكأنها لم يكن عندها من الورع ما يمنعها من هذه الفاحشة، فمكنَّته من نفسها، واعترف هو بالفعل، واعترفت أيضاً، وعرف كل منهما أنه وقع في ذنب، وأراد كل منهما التخلص والتطهير لَمَّا وقعا في هذه الفاحشة التي دفعتها إليهما الشهوة. والعسيف هو الأجير، فوالد الأجير اعتقد أنه يكفي أن يدفع عنه هذه الفدية، فدفع عنه مائة من الغنم كفدية، ودفع عنه وليدةً أي: مملوكة أراد أن يبذلها حتى يخلص ولده من الرجم، ولما سأل أُخبر بأنه ليس عليه رجم؛ لأنه لم يُحصن، وأن الرجم يكون على المرأة، وأن عقوبته الجلد والتغريب، وأقر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الفُتيا، وأخبره بأن مائة من الغنم والوليدة ترجع إليك، ولا تُقبل الفدية عن الحدود، وأن عقوبة ولدك أن يُجلد مائة جلدة وأن يغرَّب. والتغريب هو: أن يُنفى عن بلده إلى بلاد بعيدة ينقطع خبره عن أهله، ويكون غريباً في تلك البلاد بحيث لا يرى من يعرفه، رجاء أن تتغير حاله إلى أحسن، هذا هو التغريب، ويرى بعضهم أنه يُكتفى بالسجن إذا خيف أنه إذا غرِّب زاد شره وزاد فساده، فإن كثيراً من البلاد البعيدة قد يكون فيها فساد، وقد يكون فيها منكر، فلذلك رأوا أنه يُسجن لمدة سنة، وكل ذلك حفاظاً على الحرمات، وغَيرةً على الأنساب؛ لأن هذه الفاحشة تفسد الأخلاق، وتفسد البيوت، وتختلط الأنساب، وتُدخل المرأةُ على الرجل من ليس من أولاده؛ فيعظُم الشر والضرر، هذه عقوبة هذا الزاني. أما المرأة فلما كانت محصنة أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليها هذا الرجل فاعترفت، فأمر بها فرُجمت، أي: قذفت بالحجارة، واجتمع عليها مَن رجَمها إلى أن ماتت، فاستقرت الشريعة على أنه يُرجم من كان محصناً، ويُجلد من لم يكن محصناً.

حد الأمة المملوكة إذا زنت

حد الأمة المملوكة إذا زنت قال الله تعالى في الإماء: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء:25] وفهم الصحابة أنها إذا كانت قد أحصنت فعقوبتها نصف عقوبة المحصنات، وظنوا أن الإحصان هو النكاح، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا رجم على الأمة، ولا رجم على العبد، وما ذاك إلا أنه مملوك لغيره، ولا يزول ملك الغير بسبب ذلك الجاني، فكانت عقوبته الجلد. وما مقدار عقوبة العبد أو الأمة؟ مقداره: خمسون جلدة، نصف جلد الحر رجلاً كان أو امرأة، فتُجلد الأمة خمسين، ويُجلد العبد خمسين، ولو كان قد تزوج، ولا رجم عليه؛ لأن الرجم لا يمكن أن يتنصف. ثم في هذا الحديث أنه فوَّض جلدها إلى السيد الذي يملكها، وأمره أن يقيم الحد عليها، فقال: (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد، ولا يثرِّب -يعني: لا يوبخها، قال:- ثم إن زنت فليجلدها، ثم إن زنت فليجلدها، ثم إن زنت فليبعها ولو بحبل من شعر) ، يعني: أنها لا خير فيها ما دام أنها تكرر منها الزنا أربع مرات، ولم تتب بهذا الجلد وبهذا الحد. ولا يجوز إكراهها على الزنا كما قال تعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنَاً} [النور:33] . وبكل حال فهذه الآية تدل على أن الزنا فاحشة محرمة، وأن البغي التي تزني وتمكن من نفسها إذا كانت أمة لا يجوز إمساكها، وإذا كانت زوجةً لا يجوز إبقاؤها، بل يفارقها إذا خاف أن تفسد عليه فراشه، ومعلوم أن هذا كله محافظة على الفُرُش، وأن الرجل تأخذه غَيرة شديدة أن يرى امرأته تفعل الفاحشة، وكذلك يرى أمته أو يرى أحد محارمه يفعل مثل هذه الجريمة. ولا شك أن هذا يوجب على كل مسلم أن يكون حذراً غيوراً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته) أي: كلكم عبيد الله، وكل نسائكم إماء الله، فالله تعالى يغار، كما أن الإنسان يغار، والإنسان الذي لا يغار إذا زنت امرأته يسمى ديوثاً، وهو الذي يقر الخنا في أهله، فالذي يغار إما أن يقتلها أو يقتل ذلك الذي فعل الجريمة معها، كما رُوي أن سعدا رضي الله عنه قال: (لو وجدتُ مع امرأتي رجلاً لضربته بالسيف غير مصفِّح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتعجبون من غَيرة سعد! والله لأنا أغير منه، واللهُ أغير مني) ، وسعد بن عبادة من سادات الأنصار من الخزرج، وهذه غيرته. وذكروا أن رجلاً من الصحابة وجد مع امرأته رجلاً، ولما وجدهما في الفراش سل سيفه وضربهما وهو لا يشعر بما حصل منه ولا يدري، وكانت ضربته قد قطعتهما نصفين، وجاء حتى وقف إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه فقالوا له: ما فعلت؟ فقال: لا أدري، إلا أني رأيت شيئاً وضربته ولا أدري كيف ضربته، فذهبوا وإذا هو قد قدَّهما نصفين، ولا شك أن ذلك كله من الغَيرة على محارم الله تعالى، والإنسان تحمله هذه الغَيرة على ألَّا يأتي أية فاحشة، ولا أن يقرها في أهله؛ مخافة أن يفسد المجتمع بمثل إقرار وانتشار هذه الفواحش، ومتى أقيمت الحدود على مثل هؤلاء الزناة وقُمعوا واضطُهدوا وأُذلُّوا؛ قلت الفواحش، وذلَّ أهلها، وإذا تُسُوهل بهذه الحدود وتُرك أهلها يفعلون هذه الجرائم خُشي أن يفسد المجتمع وأن تنتشر العقوبات، وأن تنزل الآفات والأمراض والعاهات التي لم تكن في سلف من أسلاف الأمم، كما ورد ذلك في الحديث: (ما ظهر الزنا في قوم حتى أعلنوه إلا ابتلوا بالعقوبات والأمراض التي لم تكن فيمن قبلهم) .

رجم الزاني المحصن

رجم الزاني المحصن قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: أتى رجل من المسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، فناداه فقال: (يا رسول الله! إني زنيت، فأعرض عنه، فتنحى تلقاء وجهه فقال: يا رسول الله! إني زنيت، فأعرض عنه، حتى ثنى ذلك عليه أربع مرات، فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أبك جنون؟ قال: لا، قال: فهل أحصنت؟ قال: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهبوا به فارجموه) ، قال ابن شهاب: فأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنه يقول: (كنت فيمن رجمه، فرجمناه بالمصلى، فلما أذلقته الحجارة هرب، فأدركناه بالحرة فرجمناه) . الرجل هو: ماعز بن مالك، وروى قصته جابر بن سمرة، وعبد الله بن عباس، وأبو سعيد الخدري، وبريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنهم] . هذا الحديث في رجم الزاني، وقد ذكر الله تعالى الزنا في أول الأمر فقال تعالى: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} [النساء:15] ، وثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً: البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم) ، فهذا يعتبر إيضاحاً لهذه الآية؛ حيث أمر الله بإمساكهن بالبيوت إلى أن يجعل لهن سبيلاً، وأمر بإيذاء الرجل بقوله: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} [النساء:16] فأمر في الأول بإيذائهما إلى أن يتوبا، وبعد ذلك نزل الحد في قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2] ، فذكر الله حد الزنا أنه جلد مائة، وأن هذا الجلد يكون شديداً بلا رأفة ولا رحمة، وأنه يكون معلناً أمام طائفة من المؤمنين، ثم جاءت السنة بأنه إذا كان ثيباً -يعني: قد تزوج- فإنه يرجم ولا يرحم، بل يرجم بالحجارة إلى أن يموت، فتكون الآية في البكر الذي لم يتزوج، فإنه يجلد مائة جلدة رجلاً كان أو امرأة، أما إذا كان قد تزوج فإن حده الرجم. وهذا الرجل الذي في هذه القصة هو ماعز الأسلمي، حصل منه الزنا، وكان قد تزوج، فلما حصل منه الزنا الصريح خاف على نفسه من هذا الذنب، فقالوا له: اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه سوف يطهرك، فجاء واعترف هذا الاعتراف، فنادى: يا رسول الله! إني قد زنيت، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم كرر ذلك، ثم كرره ثالثة ثم رابعة، ولما اعترف أربع مرات كان هذا بمنزلة أربعة شهود المقصودين في قوله: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء:15] فأقر على نفسه أربع مرات، فكان هذا سبباً في ثبوت الحد عليه، وثبوت الفعل هو الذي يوجب إقامة الحد، ولا شك أن هذا دليل على خوف السلف رحمهم الله من معرة الذنب، فعلم أن هذا الذنب ذنب كبير، وأنه من عظائم الإثم، لقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32] ، فعرف أن هذا ذنب كبير، وخاف أن يوبقه ذنبه، وخاف أن يهلك بسبب ذلك، فعند ذلك احتاج إلى أن يطهر، فجاء واعترف هذا الاعتراف، وكرر ذلك. ولما اعترف سأله النبي صلى الله عليه وسلم ليتثبت: (أبك جنون؟) أي: هل أنت ناقص العقل أو فاقده؟ ولكنه اعترف بأنه كامل العقل، وأنه كامل الإدراك، وليس في عقله نقص ولا خلل، فكان في ذلك ما يدل على حرصه على أن يطهر من هذا الذنب؛ لأنه كأنه قال: ماذا تريد من هذا الاعتراف؟ قال: أريد أن تطهرني، فأقيم عليه الحد وهو الرجم، بعد ما تثبت النبي صلى الله عليه وسلم، وفي بعض الروايات أنه استفصل منه وقال: (لعلك قبلت، أو لمست، أو غمزت -يعني: أنك فعلت مقدمات الزنا ولم تفعل الزنا- فقال: لا، فقال: أتدري ما الزنا؟ قال: نعم، أتيت منها حراماً ما يأتي الرجل من أهله حلالاً) ، فلما اعترف بذلك أمر صلى الله عليه وسلم بأن يرجم. وذكروا أنه رجم في المصلى، والمصلى كان قرب المقابر، وهو مكان متسع كانوا يصلون فيه على الجنائز، ثم لما بدءوا يرجمونه أذلقته الحجارة وأحس بحرها فهرب، فتبعوه حتى أدركوه بالحرة الشرقية، فرجموه حتى مات. والرواية التي فيها أنه قال لما هرب: (هلا تركتموه؟) يقال: إنها لم تثبت، وعلى تقدير ثبوتها أراد بذلك أن يتثبت منه، وبكل حال فالحق قد ثبت عليه، والحد قد وجب عليه باعترافه أربع مرات بأنه زنا، واعترافه بأنه ليس به جنون، واعترافه بأنه محصن، واعترافه بأن الزنا وقع منه حقيقة وليس مقدمات الزنا، ولما ثبت ذلك عنه لم يكن بد من إقامة الحد.

الحكمة من شرعية الحدود

الحكمة من شرعية الحدود الحدود جعلها الله تعالى تطهيراً للعباد، وإقامتها فيه مصلحة كبيرة، وهذه المصلحة هي أمن الناس على محارمهم، وأمنهم على دمائهم وعلى أموالهم وعلى أعراضهم وعلى أديانهم. والعقوبة في الزنا هي: إن كان محصناً يرجم حتى يموت، وإن كان غير محصن يجلد مائة جلدة، ويغرب سنة عن بلده، والحكمة في ذلك: أولاً: الزجر عن هذا الذنب الكبير، والتحذير من سوء مغبته، فإنه من أكبر الذنوب. ثانياً: الحرص على حفظ أعراض الناس وحفظ أنسابهم؛ لأنه إذا فشا الزنا اختلطت الأنساب، وفسدت الأعراض، وذهبت الغيرة والحماسة، والإنسان مأمور بأن يكون غيوراً على محارمه؛ لأنه إذا لم يكن كذلك وكان يقر الخنا في أهله لقب بالديوث، وفي الحديث: (لا يدخل الجنة ديوث) ، وهو الذي يقر الخنا في أهله. وإذا كان هناك من يقيم الحدود ومن يأخذ الحقوق أمن الناس، وأمنت البلاد واطمأنت، وأمن الناس على محارمهم، وصار المذنب أو العاصي يخاف على نفسه من مثل هذه العقوبة، ويفكر ويقول: ما فائدة من هذا الذنب الذي أقترفه؟ أصبر على نفسي وأصبر على قمع شهوتي ولا أتعرض للعذاب، ولا أتعرض للأذى، ولا أعرض نفسي لأن أقتل قتلاً شنيعاً، ونحو ذلك. قالوا: الحكمة في شرعية الرجم أنه لما عدل عن الحلال، وتلذذ جسمه كله بهذا الحرام الذي هو فعل هذه الفاحشة ناسب أن يُرجم، وأن يُؤلم جسده كله. وأما كيفية الرجم فقيل: إنه يحفر له حفرة قدر ذراع أو نحوه، ثم يوقف فيها، وتربط يده من خلفه، ثم يأخذون حجارة ملء الكف، ثم يقذفونه بها، ويرمونه مع رأسه ومع بطنه ومع ظهره ومع عضديه ومع فخذيه، إلى أن تذلقه الحجارة وينصرع ويموت.

الصلاة على من رجم في الزنا

الصلاة على من رجم في الزنا في بعض الروايات أنه صلى الله عليه وسلم استغفر لذلك الرجل الذي هو ماعز الأسلمي، وأنه صلى عليه.

لا رجم على العبد

لا رجم على العبد العقوبة بالرجم تختص بالحر، أما العبد فإنه لا رجم عليه، وما ذاك إلا أن قتله فيه إذهاب لماليته، وماليته لسيده، فهو مملوك للسيد، والسيد لم يذنب حتى يفوّت عليه ماليته وما يملكه، فلأجل ذلك يقتصر على جلده، فيجلد خمسين جلدة، ويكون الذي يتولى إقامة الحد عليه هو سيده.

فائدة إقامة الحدود

فائدة إقامة الحدود إقامة الحدود في البلاد سبب للأمن والطمأنينة، وقد ورد في بعض الأحاديث: (لحد يقام في الأرض خير من أن يمطروا أربعين صباحاً) ، ومعلوم انتفاعهم من المطر، لكن الفائدة قد تكون دنيوية، وأما إقامة الحد ففيه إظهار أوامر الله، وتطبيق شرعه، والعمل بسنة نبيه، وفيه عقوبة المجرم على جريمته، وزجره وزجر أمثاله عن هذه الجرائم والذنوب الشنيعة، ولا شك أنها مصلحة دينية تتعلق بالعباد، وتتعلق بالبلاد، وتتعلق بالمحارم، فكان فيها هذا الخير، فكلما أقيمت الحدود كان ذلك سبباً للأمن والطمأنينة. وفي هذه الأزمنة كثير من البلاد التي تنتمي للإسلام عطلت فيها الحدود، بل أبيح فيها الزنا إذا كان برضا من الرجل والمرأة، فإذا تراضيا فليس عليهما جناح، ولا يقام عليهما حد، ولو كانت المرأة مزوجة، واختارت خليلاً لها وحبيباً، ولو كان لها أب لا يرضى ما دام أنها رضيت بذلك!! ولا شك أن هذا إباحة للحرام، وتغيير للفطر، ومخالفة للشرائع، وإذهاب للحماس والغيرة، وتعطيل لحدود الله تعالى، وسبب في ظهور الفواحش والمحبة لها، وقد توعد الله على ذلك بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور:19] ومن أعظم الفواحش فاحشة الزنا، وفاحشة اللواط ومقدماتها؛ لأن هذه الفاحشة من أشنع الفواحش، فالذين يحبونها توعدهم الله بقوله: (لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) ، فإذا عرف المسلم حكمة الله تعالى في أوامره ونواهيه، فعليه أن يحرص على تطبيق تلك الأحكام.

شرح حديث: (إن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن امرأة منهم ورجلا زنيا)

شرح حديث: (إن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن امرأة منهم ورجلاً زنيا) قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (إن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا له أن امرأة منهم ورجلاً زنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ فقالوا: نفضحهم، ويجلدون، قال عبد الله بن سلام: كذبتم؛ إن فيها آية الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده فإذا فيها آية الرجم، فقال: صدق يا محمد، فأمر بهما النبي صلى الله عليه وسلم فرجما، قال: فرأيت الرجل يجنأ على المرأة يقيها الحجارة) . يجنأ: ينحني. الرجل الذي وضع يده على آية الرجم هو عبد الله بن صوريا. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو أن رجلاً -أو قال: امرأً- اطلع عليك بغير إذنك فخذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك جناح) ] . هذا الحديث يتعلق بحد الزنا مع الإحصان كالحديث الذي قبله، وقد ذكرنا أن جريمة الزنا من أشنع الجرائم؛ وذلك لما فيها من الاعتداء على حرمات المسلمين، واستحلال ما حرم الله طواعية لشهوة قد توقع صاحبها في الإثم أو في العقوبة أو في القتل، والله سبحانه وتعالى ركب في الإنسان هذه الشهوة إلى الوطء، ثم أباح له النكاح الذي يكون فيه مصالح عديدة، ففيه إعفافه وإعفاف زوجته، وفيه تحصيل الذرية الصالحة ونحو ذلك، وحرم عليه أن يعتدي على نساء غيره، وأن يعتدي على محارم غيره اللاتي يحرمن عليه، وجعل في ذلك هذه العقوبة الزاجرة، وأنزل ذلك في الكتب السماوية، فكتاب التوراة الذي أنزل على موسى اشتمل على آية فيها ذكر أن الزاني يرجم إذا كان محصناً. ولما كثر الزنا في اليهود وفشا فيهم ذكروا أنه زنى رجل من أشرافهم، فلم يقيموا عليه الحد الذي هو الرجم؛ وذلك لكونه شريفاً في قومه، ثم بعد أيام زنى رجل من أطرافهم لم يكن شريفاً ولم يكن له منعة فأرادوا أن يرجموه، فقال أقاربه: لا ترجموه حتى ترجموا فلاناً الذي زنى قبله، فعند ذلك تفكروا وعرفوا أنهم لا يقدرون على أن يسووا بين الشريف والطريف، فعزموا على تغيير هذا الحد أو هذه العقوبة، فاصطلحوا على عقوبة يسمونها: التحميم، وهي أنهم يسودون وجه الزاني ووجه الزانية، ويطوفون بهما على حمار منكسين، أي: ظهره ملاصق لظهرها على الحمار، ويكون هذا إشهاراً لهما وفضيحة، ويجلدونها جلداً خفيفاً أيضاً، فجعلوا ذلك مكان الرجم، وأسقطوا حكم الله به الذي أنزله في كتابه، وهو الرجم حتى يموت. وفي عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان في المدينة بعض من اليهود، فزنا منهم رجل بامرأة وثبت زناهما، عند ذلك قالوا: لماذا لا نأتي محمداً ونسأله، فإن أفتانا بالرجم لم نقبل منه، وإن أفتانا بالجلد والتحميم قبلنا منه، وكان ذلك حجة لنا عند الله، وقلنا: إنه قد أفتانا نبي من الأنبياء؛ فيكون ذلك عذراً لنا عند الله، ففعلوا ذلك. وبعدما جاءوا وسألوه عن حكم من زنا لم يفتهم لأول مرة، بل أراد أن يقيم الحجة عليهم من دينهم ومن شريعتهم، فسألهم: (ماذا تجدون في كتابكم؟) وهي التوراة المنزلة على موسى، ولو كان فيها شيء من التحريف والتغيير، فعند ذلك قالوا: ليس فيها ذكر الرجم، وكان هذا بحضور رجل من اليهود قد أسلم وهو عبد الله بن سلام رضي الله عنه، وقد عرف الحق من أول يوم قدم فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قالوا ذلك وهو حاضر قال: كذبتم؛ إن فيها الرجم؛ لأنه يعرف ما فيها؛ ولأنه كان من علمائهم وأحبارهم، فعند ذلك قال: فائتوا بالتوراة إن كنتم صادقين، فجاءوا بالتوراة، وكانوا يعرفون مكانها، فلما نشرها الذي كان يقرأ -ويقال له: عبد الله بن صوريا - وضع يده على آية الرجم وقرأ ما قبلها وما بعدها، ففطن له عبد الله بن سلام فقال: ارفع يدك، واقرأ هذا الذي تحتها، فلم يكن بد من أن يقرأه، فإذا فيها آية الرجم تلوح، فعند ذلك قال: صدق يا محمد! فيها آية الرجم، ولكن كان عذرنا في تركها كذا وكذا، ولم يكن لنا بد من أن نفعل ذلك. فأنزل الله فيهم من القرآن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنْ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنْ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} [المائدة:41] يعني: التحميم {وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} [المائدة:41] أي: إن أوتيتم الرجم فاحذروا، إلى قوله: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمْ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} [المائدة:43] ، ففضحهم، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أحييت سنة قد أماتوها) ، وأمر بهما فرجما.

كيفية الرجم

كيفية الرجم الرجم هو: أن يوقف الزاني أو يجلس ثم يرجم بحجارة متوسطة تملأ اليد، يضرب بها جسده ورأسه ووجهه وصدره وظهره إلى أن يموت بهذا الرجم، هذا يرجمه من هنا، وهذا يرجمه من هنا إلى أن يموت، وهذا الرجم شرع لأجل أن يتألم جميع بدنه الذي تلذذ بالحرام، فعوقب بأن يتألم هذا الألم؛ وذلك لأنه آثر شهوة عاجلة على ثواب أخروي، فلو أنه قهر نفسه وقمع شهوته، وصبر عليها، وصابر نفسه، وتذكر مآل هذه الشهوة، وأنها تمتع في وقت قصير، وتلذذ في زمن يسير، ثم يكون بعدها عقوبة عاجلة أو عقوبة آجلة، لما أقدم عليها؛ ففيها فضحية نفسه؛ لأنه إذا اتضح ذلك منه فسُيفضح بين الناس، وفيها هذه العقوبة التي هي تأليم جسده حتى يموت، وفيها أيضا ًعقوبة أخروية إذا لم يتب، وهي عقوبة فيها بشاعة وشناعة، وفيها أيضاً شهرة سيئة، وانتشار سمعة سوء، وفضيحة له، وعار عليه، مع أن سبب ذلك تمتع بشهوة يسيرة، ولو تفكر في قول الشاعر: تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها من الحرام ويبقى الإثم والعار تبقى عواقب سوء لا مصير لها لا خير في لذة من بعدها النار لو تفكر في أن هذه اللذة لذة ساعة تفنى ويبقى عارها، ويبقى شنارها، ويبقى إثمها، لو تفكر في أنه يفسد فراش مسلم، ويخبب عليه زوجته، ويدخل عليه ولداً ليس له، لو تفكر أنه يسبب اختلاط أنساب، وأنه يفسد أخلاقاً، ويفرق بين زوجين قد يكون بينهما مودة ورحمة؛ لأنه إذا علم الزوج أن امرأته قد خانته سبب ذلك فراقه لها؛ لما أقدم على ذلك، ولكن هذه المفاسد كلها يغيبها عنه الشيطان في تلك اللحظة التي تغلبه فيها هذه الشهوة البهيمية. وبكل حال هذه عقوبة الزاني إذا كان محصناً، فإنه يُرجم كما سمعنا؛ وذلك لأن الله تعالى قد منَّ عليه بالنكاح الحلال، وقد وفقه لأن تزوج زواجا ًحلالاً فعدل عن الحلال إلى الحرام أو أنه ترك ما أحل الله وهو يقدر عليه وآثر الحرام، فكان جزاؤه هذه العقوبة الشنيعة.

حد الزاني غير المحصن

حد الزاني غير المحصن إذا لم يكن الزاني محصناً -وهو الذي لم يسبق أن تزوج- فعقوبته أخف؛ عقوبته أن يجلد مائة جلدة، ولكن يشدد عليه في الجلد، قال الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2] الرأفة: الرحمة، أي: لا ترحموا الزناة، ولا تخففوا عنهم الجلد، بل شددوا عليهم، وزيدوا في شدته؛ وذلك لتأليم أجسامهم، فهذه الأجسام التي تلذذت في حرام ألجموها بهذا الألم، وبهذا الجلد، وشددوا فيه ليكون ذلك زاجراً لهم عن مقارفة هذه المعصية البشعة الشنيعة، وشددوا عليهم حتى لا يعودوا لمثلها، وحتى ينزجر أيضاً غيرهم، وأمر بأن يعلن جلد الزاني، وأن يكون على مشهد من الناس حتى يشتهر، فيقام هذا الزاني أمام جمع من الناس في المكان الذي تجتمع فيه الجموع الكثيرة، ويشهر أمامهم، ويقال: هذا زانٍ، ثم يجلد سواء كان قائماً أو مضطجعاً، ويزال ما عليه من الثياب الغليظة كفراء أو عباءة غليظة، ويترك عليه ثوب يستره، ثم يجلد هذا الجلد. وله عقوبة أخرى، وهي: التغريب، ففي صحيح مسلم من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم) ، هذا الحديث وضح فيه النبي صلى الله عليه وسلم الآية الكريمة التي في سورة النساء، وهي قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} [النساء:15] فقال: (إن الله قد جعل لهن سبيلاً) ، والسبيل هو: بيان ما يجب عليهن، فالبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، فيجلد مائة ثم ينفى سنة إلى بلاد بعيدة، ويفرق بينه وبين أسرته، بينه وبين أبويه أو إخوته أو أقاربه، ينفى إلى بلاد بعيدة ويكون غريباً حتى يبتعد عن أصدقائه وخلطائه الذين كانوا يوقعونه في هذه الفواحش أو يزينونها له، فربما إذا فارقهم هذه المدة تاب وتغيرت حاله. وذهب بعضهم إلى أن التغريب يحصل في السجن، فيسجن لمدة سنة حتى يتوب.

الجمع بين الجلد والرجم على الزاني المحصن

الجمع بين الجلد والرجم على الزاني المحصن كما في حديث عبادة أنه يجمع عليه بين الجلد والرجم، وقد روي أن علياً رضي الله عنه رفعت إليه امرأة زانية يقال لها شراحة، فجلدها في يوم الخميس مائة جلدة، ثم رجمها في يوم الجمعة، وقال: جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنة رسول الله، يعني: أنه عمل بالآية: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2] ، فبدأ بالجلد، ولما علم أن النبي صلى الله عليه وسلم من سنته الرجم رجمها؛ لكونها قد تزوجت، فذهب إلى هذا بعض العلماء، وهو أن يجمع بين الجلد أولاً ثم الرجم. والمشهور والأرجح أنه يكتفى بالرجم؛ وذلك لأنه اكتفى به صلى الله عليه وسلم في رجم ماعز الأسلمي كما تقدم، وفي رجم الغامدية التي زنت بعدما وضعت حملها، وفي رجم اليهوديين الذين ذكرنا قصتهما، وفي رجم صاحبة العسيف الذي استؤجر لأجل خدمة فزنى بامرأة الرجل، فرجمت ولم تجلد قبل الرجم، فاقتصاره على الرجم يدل على أنه يكتفى بذلك دون أن يكون قبله جلد، والله أعلم.

شرح عمدة الأحكام [69]

شرح عمدة الأحكام [69] من قواعد الشريعة حفظ الأموال لأصحابها، ولهذا حرمت الشريعة أخذ مال المسلم بغير حق، ومن أخذ مالاً بغير حق من حرز وقد بلغ النصاب فهو سارق تقطع يده، والسرقة لها أحكام بينها العلماء.

أحكام السرقة

أحكام السرقة قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [باب حد السرقة: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في مجن قيمته -وفي لفظ: ثمنه- ثلاثة دراهم) . وعن عائشة رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (تقطع اليد في ربع دينار فصاعداً) ] . هذا الباب يتعلق بحد السرقة، والسرقة هي: أخذ المال من حرزه على وجه الاختفاء، ويُسمى الآخذ له لصاً، والمتلصص هو: الذي يسرق الأموال.

أنواع أخذ المال بغير حق

أنواع أخذ المال بغير حق أخذ المال له عدة مسميات: الأول: الغصب، فالذي يغتصب المال ويأخذه بالقوة وبالغلبة وبالقهر يُسمى غاصباً، كأن يقول الإنسان: أعطني كذا من المال وإلا قتلتك، أو يقهره فيأخذ ما معه من نقود أو من أي مال، هذا هو الغاصب، وحده: التعزير، فإذا قُدر عليه فإنه يُعزر، فيرد المال الذي أخذه، ويُعاقب عقوبة تردعه وتردع أمثاله، سواء بجلد أو بحبس أو بتنكيل أو بأخذ مال أو نحو ذلك؛ حتى لا يجرأ أحد على أخذ المال بغير حق، وإذا تكرر ذلك منه جاز تعزيره ولو بأن يقتل، زجراً له ولأمثاله. الثاني: الاختطاف والنهب، وهو أن يهتبل الخاطف غفلة آخر فيختطف ما معه، فإذا كان إنسان عنده مال قد نشره في الأرض ليبيعه مثلاً، فجاء آخر إنسان واختطف منه شيئاً وهرب به، فمثل هذا يُسمى: مختطفاً ومنتهباً، وهذا النهب لا شك أنه ذنب كبير، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن) ، ومتى قدر على هذا المنتهب فإنه يعاقب بما يرتدع به، فيرد المال الذي انتهبه ويُجلد أو يُحبس أو يُعزر أو يغرم مالاً، أو نحو ذلك. الثالث: المختلس، وهو الذي يهتبل غفلة الإنسان الذي عنده مال ويأخذه وهو لا يدري، كأن يدخل إلى دكان -مثلاً- فإذا رأى صاحبه قد صد أخذ منه ثوباً أو نعلاً أو قدحاً أو نقداً أو نحو ذلك بخفية ويخرج كأنه لم يأخذ شيئاً، ولم يتفطن له صاحب المال، فهذا يُسمى: مختلساً، فإذا عُرف أو اعترف أو شُهد عليه أو رآه من شهد عليه فلابد من عقوبته، بأن يعزر بما يرتدع به هو وأمثاله، ويرد المال الذي اختلسه. الرابع: السارق، وهو الذي تقطع يده، قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38] ، وذكر في سورة يوسف في قوله تعالى: {قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [يوسف:75] ، وكانت عقوبة أولاد يعقوب أنهم يسترقّون السارق، فإذا سرق السارق فإن المسروق منه يؤخذ رقيقاً يتصرف فيه كبقية المال.

الحكمة في قطع يد السارق

الحكمة في قطع يد السارق جاء الشرع بقطع يد السارق حفظاً للمال أي: لأجل المحافظة على أموال المسلمين شرع قطع يد من سرق، ومعلوم أن قطعها يشين صاحبها، فإذا قطعت يده فإنه يبقى مشلولاً، ويبقى معيباً ليس له إلا يد واحدة، ولذلك لما رفع بعض السراق إلى بعض الولاة وعزم على قطع يده أنشد يقول: يدي يا أمير المؤمنين أعيذها بعدلك أن تلقى عقاباً يشينها فلا خير في الدنيا ولا في حياتها إذا ما شمال فارقتها يمينها يمثل أنه إذا عاش بلا يمين فإن في عيشته وحياته تعب وبؤس، ولكن الله تعالى شرع العقوبة هذه حفظاً للأموال؛ وذلك لأنه إذا عرف أنه مقابل هذا المال القليل ستقطع يده الثمينة انزجر وارتدع، وخاف على يده، فترك السرقة ولم يتعد، فأمن الناس عند ذلك على أموالهم، فهذا هو السبب وإلا فإن من شرف اليد أن ديتها نصف دية الإنسان، فاليد الواحدة ديتها الآن خمسون ألفاً، ومع ذلك تقطع في ثلاثة دراهم أو نحوها، وما ذاك إلا أنها لما كانت أمينة كانت ثمينة، فلما خانت هانت وصغرت وذلت. ذكروا أن أبا العلاء المعري اعترض على الشرع فقال: كيف تقطع اليد بربع دينار، وديتها خمسمائة دينار من العسجد يعني: من الذهب؟! وأنشد قوله: يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار فردوا عليه وقالوا: عز الأمانة أغلاها وأرخصها ذل الخيانة فافهم حكمة الباري

شروط قطع يد السارق

شروط قطع يد السارق ذكروا للقطع شروطاً لابد منها حتى يلزم القطع: الشرط الأول: تكليف ذلك السارق، والتكليف هو: أن يكون بالغاً عاقلاً ملتزماً، فإذا سرق الصبي فلا قطع عليه؛ لأنه لم يتكامل عقله الذي يزجره عن السرقة، وكذلك إذا سرق المجنون فلا قطع عليه، وأما إذا سرق من مال الحربي فإن المجاهد له أن يأخذ من مال المحاربين ما يقدر عليه، فلا يقطع إذا قدر عليه، وإذا كان السارق كافراً محارباً فإنه يقتل. الشرط الثاني: أن يكون المال محترماً، فإذا كان غير محترم أو لم يكن له قيمة فلا قطع عليه، فإذا سرق خمراً فلا قطع عليه؛ لأنه لا قيمة لها، ومثلها سائر المحرمات كالدخان والقات والنرجيل وما أشبهها مما لا قيمة لها في الشرع، فلا قطع على من سرقها. وكذلك لو سرق آلات الملاهي كالعود والطنبور والطبول وما أشبهها، وكذلك لو سرق ما يجب إتلافه كالصور والأفلام التي فيها صور خليعة، وكتب الزندقة والإلحاد، والمجلات التي فيها خلاعة ومجون، وفيها إلحاد وزندقة، فهذه إذا سرقت فلا قطع على من سرقها؛ لأنه لا قيمة لها شرعاً، ولو أنها مقرة وتباع. الشرط الثالث: بلوغ النصاب، فلابد أن يكون المسروق نصاباً، وقدر النصاب بأنه مقدار ربع دينار أو ثلاثة دراهم، والدينار هو: أربعة أسباع الجنية، وربعه معروف، فربع الدينار هو نصاب السرقة، ومن الدراهم الفضة ثلاثة دراهم، والدرهم: قطعة من الفضة صغيرة، فإذا بلغ المسروق نصاباً أو كانت قيمته نصاباً فإنه يقطع فيه السارق. والمجن الذي قطع فيه النبي صلى الله عليه وسلم ثمنه ثلاثة دراهم، وثلاثة درهم هي ربع دينار؛ لأن صرف الدينار في ذلك الوقت كان اثني عشر درهماً. والمجن هو: الترس الذي يلبسه المقاتل فوق رأسه، يُسمى مجناً ويُسمى مغفراً ويُسمى ترساً؛ لأنه يستر الرأس، ويكون على الرأس وعلى الأذنين ونحوها، وهو من حديد، فله ثمن، وهذا الرجل الذي سرق هذا الترس أو هذا المجن قطع بهذه السرقة فدل على أن هذا نصاب. ومعلوم أن آلات الملاهي ليس لها قيمة في الشرع لا ربع دينار ولا ثلاثة دراهم؛ فلأجل ذلك لا قطع في سرقتها، ولا يغرمها من أتلفها. هكذا الحكم شرعاً. الشرط الرابع: الحرز، فالمسروق لابد أن يكون محرزاً، فإذا أخذه من الشوارع والطرق فلا يُسمى سارقاً، وكذلك إذا وجد الباب مفتوحاً فدخل وأخذ قدحاً أو ثوباً فلا يُسمى سارقاً، وهكذا لو دخل الدكان فأخذ إناءً أو أخذ نعلاً أو شيئاً من المال قيمته نصاب فلا قطع عليه، وما ذاك إلا أنه لا يُسمى سارقاً؛ لأنه لم يسرقه من حرز، ومعلوم أن الأبواب التي تغلق تحرز ما في داخل البيت، فإذا كسر الباب ودخل فهذا قد أخذ من الحرز. ومعلوم أن الأسوار حروز، فإذا صعد مع السور وقفز ودخل الدار فهذا قد هتك الحرز. ومعلوم مثلاً أن الصناديق الكبيرة حروز، فإذا كسر الصندوق وأخذ ما فيه فإنه قد أخذ من الحرز، فيعتبر قد انطبق عليه اسم السارق الذي أخذ من الحرز. وإذا وجد الغنم في زريبة ففتح الباب عليها وأخذ منها فقد أخذ من الحرز، وإذا وجدها مع الراعي فإن الراعي أيضاً هو الحرز، فإذا اهتبل غفلته وأخذ فإنه قد أخذها من الحرز. وإذا وجد مالاً محرزاً بما يحرز به عادة كحجرة أو دار مقفلة أو نحو ذلك، فهتك ذلك الحرز وأخذ فإنه يصدق عليه أنه قد أخذ من الحرز، فيجب قطعه. الشرط الخامس: انتفاء الشبهة: فإذا كان له شبهة في هذا المال فلا قطع عليه، فإذا ادعى أن هذا المال وقف على المساكين، وأنا من المساكين، وكان قوله صحيحاً فلا قطع عليه، وإذا سرق من مال غنيمة وهو من جملة الغانمين قبل أن يقسم فلا قطع عليه؛ وذلك لأن له شبهة، وكذلك لو كان ولده من جملة المقاتلين، وكما إذا سرق من مال له فيه حق كبيت المال، لأن له فيه حقاً، وهو من جملة المستحقين، أو سرق من وقفٍ على فئة هو منهم، كالوقف على الفقراء أو على المساكين أو على هؤلاء المسمين وهو من جملتهم، فلا قطع في مال له فيه شبهة، بل لابد أن تنتفي الشبهة. الشرط السادس: ثبوت السرقة، وتثبت بأحد أمرين: بالبينة، وبالاعتراف، فإذا أقر واعترف بأنه الذي سرق فإنه تقطع يده. وإذا أنكر وجحد، ولكن شهد عليه شاهدان فإنه تقطع يده، ولابد في الشاهدين من العدالة، والعدالة هي: أن يكون الشاهد ذكراً عدلاً موثوقاً مقبولاً خبره، فلا تُقبل شهادة عدو له مثلاً؛ لأنه يطعن فيه ويقول: هذا يحب الإضرار بي، وكذلك لا يشهد عليه فاسق غير مقبول الشهادة عند المسلمين وغير مقبول الشهادة عند الحاكم.

موضع قطع اليد

موضع قطع اليد إذا ثبتت السرقة وتمت الشروط فإنها تقطع يده اليمنى، وتقطع من مفصل الكف، أي: يقتصر على قطع الكف من المفصل، ولا يؤخذ شيء من الذراع. وذكروا أيضاً أنها تعلق حتى ينتشر خبره، فقيل: تعلق في صدره مدة، وقيل: تعلق في خشبة أمام الناس حتى يشتهر أمره. وإذا قطعت فبعد القطع تحسم، والحسم هو: أن تغمس في زيت مغلي حار حتى تنسد مجاري العروق، لئلا يجري دمه فيموت، فهذا الحسم يوقف الدم. وإذا وجد في هذه الأزمنة علاج يوقف الدم غير الزيت المغلي استعمل لإيقاف الدم؛ لأن المطلوب قطع يده، وليس المطلوب إماتته؛ لأنه غالباً لو ترك فسال دمه ولم يتوقف لقضى على حياته، فإذا سال دمه إلى أن ينقضي فسيموت، بخلاف ما إذا حُسم فإنه يتوقف، هذا هو الأصل. ولاشك أن القطع خاص بالسرقة التي ثبتت فيها هذه الشروط وهذه الصفات، أما بقية الأشياء التي ذكرنا فإنه لا قطع فيها، وإنما فيها عقوبة تزجر عن أمثال هذا، ولا شك أن القطع حد شرعي؛ ولأجل ذلك شرع لأجل حفظ الأموال، فإن السارق إذا عرف أن يده ستقطع هانت عليه هذه الأموال التي سيتحصل عليها، ولكن الكثير من الناس لا ينتبهون لعاقبة الأمور، فيقدم وهو يعتقد أنه سيسلم، فيفتضح وتقطع يده، ثم قد لا ينتبه فتراه مرة أخرى يعود ويسرق، فبعد ما قطعت يده الأولى يسرق بيده الأخرى.

حكم من سرق مرة أخرى بعد أن قطعت يده

حكم من سرق مرة أخرى بعد أن قطعت يده إذا سرق السارق للمرة الثانية فإنها تقطع قدمه، فتقطع نصف القدم، ويترك العرقوب وما يحاذي الساق من القدم حتى يطأ عليه. ولو قدر أنه سرق للمرة الثالثة فالصحيح أنه لا تقطع يده؛ لأنه إذا قطعت يده بقي حسيراً لا يستطيع أن يأكل ولا أن يتناول حاجة، وهو بحاجة إلى إحدى يديه ليأكل بها، ويتنظف ويستنجي ويتطهر بها، فإذا قطعت تحسر، فإذا سرق للمرة الثالثة فإنه إما إن يُعزر وإما أن يُحبس إلى أن يتوب، وما روي من قطع يده اليسرى وقطع رجله اليمنى إذا تكرر منه فهذا لعلة عقوبة خاصة بذلك الشخص.

الحكمة من تشريع الحدود وإقامتها

الحكمة من تشريع الحدود وإقامتها قطع يد السارق من حماية الشريعة الإسلامية لمصالح المسلمين، فإنهم بحاجة إلى من يحمي لهم مصالحهم، وهم بحاجة إلى من يحمي لهم أموالهم، فشرع القطع لحماية الأموال. وهم بحاجة إلى من يحمي لهم دماءهم؛ فشرع القصاص حماية للدماء. وهم بحاجة إلى من يحمي لهم أعراضهم وسمعتهم؛ فشرع الجلد الذي هو حد الفرية والقذف حماية للأعراض. وهم بحاجة إلى من يحمي لهم الأنساب؛ فشرع رجم الزاني أو جلده حماية للأنساب؛ لأن الزنا يسبب أن تختلط الأنساب هذا بهذا، فإذا زنى هذا بامرأة هذا وحملت صار ينفق على غير ولده، فينتسب إليه غير ولده، فحماية الأنساب أمر يهتم به المسلمون. كذلك أيضاً لحماية العقول شرع عقوبة تزجر من يتهاون بعقله، وهو حد الشرب؛ لأن الخمر تزيل العقل، فشرعت العقوبة التي تحفظ على المسلم عقله، بجلد من شرب حتى يتوب، وهذا ونحوه دليل على كمال هذه الشريعة.

شرح حديث: (أن قريشا أهمهم شأن المخزومية التي سرقت)

شرح حديث: (أن قريشاً أهمهم شأن المخزومية التي سرقت) قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [وعن عائشة رضي الله عنها: (أن قريشاً أهمهم شأن المخزومية التي سرقت فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه أسامة فقال: أتشفع في حد من حدود الله تعالى؟! ثم قام فاختطب فقال: إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) ، وفي لفظ: (كانت امرأة تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها) ] . هذه قصة وقعت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، امرأة من بني مخزوم سرقت وثبتت عليها السرقة. وبنو مخزوم قبيلة من أشراف قريش، ومن أكابر قريش ومشهوريهم، كانت لهم مكانة وشهرة وشرف في قومهم، ولما ثبتت السرقة على هذه المرأة تحتم أن يقام عليها الحد، وأن يطبق عليها الشرع، وأن تقطع يدها كما تقطع يد غيرها، ولكن أكابر قريش عظم عليهم ذلك، فأهمهم شأنها، وصعب عليهم أن تقطع يدها، حتى قالوا: نفديها يا رسول الله! ولو بعشرة آلاف دينار، نفديها ولو بعشرين، حتى وصلوا إلى أربعين ألف دينار، مع أن الدية في ذلك الوقت هي ألف دينار، ولكنهم قالوا: نفديها بأربعين ألفاً، أي: بأربعين دية؛ وذلك خوفاً عليهم من العار، ومن أن تكون هذه المرأة التي هي من أشرافهم عاراً عليهم. ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يغار على حدود الله وحرماته، ولما ثبتت سرقة هذه المرأة المخزومية، وثبت عليها إقامة الحد؛ عزم على قطع يدها مهما كانت؛ ولو كانت شريفة ولو كانت كبيرة ولو كانت من ذوي قوم لهم منزلة؛ فإن حدود الله يستوي فيها الشريف والضعيف، ويستوي فيها الصغير والكبير، ويستوي فيها الغني والفقير، كلهم على حد سواء؛ وذلك لأن الله تعالى سوى بينهم في عبادته، فكذلك في سائر حقوقه. فلما سمعوا بأنه قد عزم على إقامة الحد عليها، وقطع يدها؛ التمسوا من يشفع لهم في إعفائها وفي ترك قطع يدها وفي قبول الفدية التي هي أربعون ألفاً، فلم يجدوا إلا أسامة، وعرفوا أنه حبّ النبي صلى الله عليه وسلم وابن حبه؛ لأنه كان مولاه صلى الله عليه وسلم، ولما ولاه مرة على جيش وكان صغيراً طعنوا في ولايته وإمارته، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن تطعنوا في ولايته أو في إمارته فقد طعنتم في ولاية أبيه من قبله، وايم الله! إنه لخليق للإمارة، وإنه لمن أحب الناس إلي، وإن هذا لمن أحب الناس إلي بعده) ، فشهد له بأنه يحبه، فصار يقال له: حب النبي، أي: محبوب النبي صلى الله عليه وسلم، يحبه لشهامته، ويحبه لفضله، ويحبه لتقواه، ويحبه لقرابته، ولكونه مولاه، وقد كان أبوه يُسمى زيد بن محمد، ولكنه بعد ما نزل قول الله تعالى: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ} [الأحزاب:5] قال: أنا زيد بن حارثة. والحاصل: أنهم توسلوا بـ أسامة وقالوا له: كلّمه لعله يعفو عنها، اشفع لها لعله يسقط هذا الحد، فلما كلمه غضب صلى الله عليه وسلم حيث إن قريشاً لشرفهم أرادوا ألا يقام هذا الحد عليهم، ويكون هذا إسقاطاً لحد من حدود الله، فغضب وقال: (أتشفع في حد من حدود الله؟!) ، أتطلب تعطيل حد الله الذي أمر به وفرضه في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} [المائدة:38] ؟ فأمر الله بقطع يد السارق في هذه الآية، فلابد من تنفيذ أمر الله، وإلا فالوالي يكون معطلاً لحد من حدود الله، ولا شك أن إقامة حدود الله تعالى عمارة للأرض، كما ورد في حديث: (لحد يقام في الأرض خير من أن يمطروا أربعين صباحاً) أي: أنه إذا أقيم حد في بلد فإن البلد تأمن على وطنها وعلى أنفسها، وكذلك يأمنون من عقاب الله، ويأمنون من تسليط الله الأعداء عليهم أو تسليط اللصوص ونحوهم. إذاً: الحدود أمنة للبلاد؛ لذلك يتأكد إقامتها، ويحرم أن يتوسط أحد في تعطيلها، ولو كان الذي يحد شريفاً، أو أميراً أو وزيراً، أو قرشياً أو نسيباً، أو مهما كانت درجته؛ يسوى في الحدود بين الصغير والكبير، ولهذا ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن الشفاعة في الحدود، ويقول: (إذا بلغت الحدود السلطان فلعن الله الشافع والمشفع) أي: إذا بلغت القاضي أو وصلت إلى الأمير فقد وجبت ووجب تنفيذها، ولا يجوز بعد ذلك الشفاعة فيها، ولا يجوز قبول شفاعة أحد أياً كان، سواء كان والداً أو كبيراً أو صغيراً، ويجب أن ترد شفاعة من شفع في إبطال هذه الحدود، وقد تُوعد بهذا الوعيد وهو اللعن: (لعن الله الشافع والمشفع) ، وهذا وعيد شديد.

إسقاط الحد والعفو عنه قبل بلوغه إلى السلطان

إسقاط الحد والعفو عنه قبل بلوغه إلى السلطان يقول صلى الله عليه سلم: (تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب) ، أي: متى وصلني وجب تنفيذه؛ وذلك لأنه عرف أنه ثبت عنده هذا الحد فلم يمكنه تعطيله، بل يتحتم إقامته، هكذا أخبر عليه الصلاة والسلام، أما قبل أن يرفع إليه فإن أهل الحقوق إذا تنازلوا وأسقطوا حقهم لم يلزمه شيء. ولهذا جاء أن صفوان بن أمية كان نائماً في المسجد، وقد توسد رداءه، فجاءه لص فأخذ الرداء من تحت رأسه، وجعل تحت رأسه لبنة، ولما أخذه شعر به صفوان فاستيقظ، ثم قبض عليه، والرداء يساوي نحو ثلاثين درهماً، أي: أقل من ثلاثة دنانير، فلما قبضه ذهب به حتى أوصله إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر بقطع يده، فقال صفوان: إني قد عفوت عنه، فقال: (هلا قبل أن تأتيني به؟) أي: لماذا لم تسقط الحد عنه قبل أن تأتيني؟ ولماذا لم تعف عنه قبل أن ترفعه إلي؟ أما بعد أن رفعته إلي وعرفت أنا أنه سارق فلابد من قطع يده؛ وذلك لأنه اتصف بالسرقة، فهذا مثال في أنه يتعافى في الحدود قبل أن ترفع إلى السلطان. مثلاً: لو قبضت على سارق في بيتك أو قد خرج بالسرقة ووجدتها عنده، ثم عفوت عنه وطلبت منه أن يرد إليك مالك، أو سرق من جيبك أو من مخبئك نقوداً ثم قبضت عليه وعرفت أنه هو الذي سرق، واعترف بذلك، وعفوت عنه فيما بينك وبينه، ولم ترفع بأمره إلى الحاكم؛ فلا حرج عليك، أما إذا رفعت بأمره فلا يفيد أن تتنازل عنه بعد ذلك؛ لأن حق الله تعالى قد وجب، والسرقة هي حق لله؛ ولأنه حد من حدوده، وفيها حق للآدمي؛ لأنه اعتدى عليك. وأما القذف فإنه حق لآدمي فله أن يسقطه، وأما الزنا فإنه حق لله وذلك لما فيه من انتهاك الحرام، وحق للزوج، وحق للأولياء، ولكن ليس لهم أن يتسامحوا أو يتغاضوا عن مثل هذه الحقوق.

إقامة الحدود لا يفرق فيها بين شريف ولا وضيع

إقامة الحدود لا يفرق فيها بين شريف ولا وضيع النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الشفاعة في الحدود، وأمرهم أن يحرصوا على إقامة الحدود: على رجم الزاني أو جلده، ورجم القاذف، وجلد الشارب للخمر، وكذلك تعزيز المنتهب والمعتدي، أو جلد كل من أتى حداً فيه جلد، فمن زنى وهو غير محصن يجلد، أو قذف يجلد، أو نحو ذلك، ولابد من إقامتها إذا وصلت السلطان، ولا تجوز الشفاعة فيها ولا التعطيل، ولا تجوز الوساطة، ولا يجوز أن يصيروا وسطاء في إبطال حق لله وحد من حدود الله. ولهذا أنكر النبي صلى الله عليه وسلم بشدة على أسامة، ثم قام وخطب وأخبر بأن الأمم الذين قبلنا أهلكهم الله وعاقبهم بأسباب، وكان من تلك الأسباب تعطيل حدود الله، تعطيل حد الزنا، وتعطيل حد السرقة، قال عليه الصلاة والسلام: (إنه إذا سرق فيهم الضعيف قطعوا يده، وإذا سرق فيهم الشريف تركوه) أي: إذا سرق فيهم الشريف تركوه لشرفه وخوفاً من منصبه، سواءً كان ذا منصب أو كان أميراً أو كان وزيراً، أو كان ابن أمير، أو ابن ذي شرف أو نحو ذلك، فلا يقتلونه إن قتل، ولا يقطعونه إن سرق، ولا يرجمونه إن زنى ونحو ذلك، وهذا لا شك أنه تعطيل لحدود الله، فأخبر صلى الله عليه وسلم بأن الله عاقبهم بسبب تساهلهم في هذه الحدود، وإقامتها على الضعفاء دون الأشراف ونحوهم، ثم أقسم صلى الله عليه وسلم فقال: (وايم الله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) وفاطمة ابنته عليه الصلاة والسلام هي سيدة نساء أهل الجنة، وابنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهي البتول، وأم الحسن والحسين، وزوجة علي رضي الله عنه، ولا شك أن لها منزلتها، ومع ذلك -وحاشاها أن تسرق- ضرب مثالاً بها، إذ لم يكن عنده أغلى منها، ولا أقرب منها لكونها ابنته، فيقول: (لو سرقت لقطعت يدها) . هذا هو العدل، وهذه هي المساواة والتسوية بين الناس، ألا يترك أحد لمنزلة ولا لشرف، وعدم التسوية هو الذي أهلك الأمم قبلنا. كذلك أيضاً إقامة الحد في الزنا، ذُكر في التاريخ أنه كان من شريعة اليهود رجم الزاني إذا كان محصناً، وأنه زنى رجل من أشرافهم، ولما زنى تركوا إقامة الحد عليه ورجمه لشرفه، ولشرف قومه، أي: لأنهم أهل ثروة وأهل منصب فلم يرجموه، ولما كان بعد أيام أو بعد أشهر زنى رجل من أطراف الناس ومن ضعفائهم، فعزموا على أن يرجموه، فحال دونه قومه، وقالوا: لا نتركه يرجم حتى ترجموا فلاناً الذي هو ذو شرف، فعند ذلك عزموا على إلغاء هذا الحد الذي هو الرجم وتبديله، فاتفقوا على أنه متى زنى لا يرجم، فكانوا يسودون وجهه، ويطوفون به على حمار، يطوفون بالزاني والزانية منكسين، أي: كل منهما ظهره إلى ظهر الآخر، ولا يجلدون ولا يرجمون، وقالوا: نجعل هذا حداً يستوي فيه الشريف والطريف. وفي عهد النبي صلى الله عليه وسلم زنى يهودي يهودية، فمُر عليه بهما محممين، فقال: (ما هذا؟ قالوا: قد زنيا، قال: ما تجدون في كتابكم؟ قالوا: الجلد والتحميم، وكان عبد الله بن سلام قد عرف ما في كتابهم، وكان من مرشدة اليهود، فقال: كذبتم؛ بل تجدون في كتابكم الرجم، فأمرهم أن يحضروا التوراة فأحضروها، ولما أحضروها قرأ اليهودي ما قبل آية الرجم وما بعدها، وسترها بيده، فقال عبد الله: ارفع يدك، فرفعها فإذا فيها آية الرجم، فقالوا: صدق يا محمد! فيها الرجم، ولكنه كثر -أي: الزنا- في أشرافنا، فخفنا ألا نسوي بين الناس فتركنا الرجم وعدلنا إلى التحميم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أول من أحيا سنة قد أماتوها) . وفي بعض الروايات أنه لما وقع فيهم الزنا وأرادوا أن يقيموا الحد على ذينك الزانيين قالوا: اسألوا محمداً، فإن أفتاكم بالرجم فلا تقبلوا منه، وإن أفتاكم بالجلد فاقبلوا منه، فنزل في ذلك قول الله تعالى: {وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:49] ، وخيره قبل ذلك في قوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمْ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} [المائدة:42-43] . وبكل حال فالرجم والقطع من حدود الله تعالى التي أمر بأن تقام على من اقترف جرماً من هذه الجرائم، حتى تأمن البلاد، وحتى يأمن الناس على أنفسهم، وعلى أموالهم، وحتى يرتدعوا عن فعل هذه الجرائم التي هي محرمة. فإن كانت هذه الجرائم أقيمت مع توبة الفاعل وندمه فإن هذا الحد يمحو عنه أثر الذنب، وإن كان أقيم عليه كرهاً وهو لم يتب، فإنه يعاقب في الدنيا بهذا الحد، ويعاقب في الآخرة على ذلك الذنب.

الخلاف في قطع جاحد العارية

الخلاف في قطع جاحد العارية هذه المرأة المخزومية في أكثر الروايات أنها سرقت، وفي بعض الروايات أنها كانت تستعير المتاع فتجحده، وأنها جاءت إلى قوم وقالت: إن آل فلان أرسلوني لأستعير منكم حلياً ليتجملوا به في عرس لهم، ثم لما أعطوها ذلك الحلي ذهبت به وباعته، فسألوها وقالوا: نحن أعرناك، فقالت: ما أعرتموني، وجحدت ذلك، ثم وجد الحلي عند أولئك الذين اشتروه، فقالوا: نعم اشتريناه من فلانة أي: هذه المخزومية، وكان اسمها فاطمة، فاعترفت بعد ذلك أنها أخذته من أولئك وباعته، وأنه ليس لها، فلما ثبت عليها هذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها. فقيل: إنها ما قطعت إلا بسرقة سرقتها غير هذا المتاع أو غير هذه الحلي، وقيل: إنه سمُي الجحد للعارية سرقة؛ وذلك لأنه أخذ لمال بغير حق. وقد اختلف العلماء في قطع جاحد العارية، فذهب الإمام أحمد إلى أنه تقطع يد من جحد العارية إذا كانت تلك العارية نصاباً أو أكثر من النصاب لهذا الحديث؛ وذلك لأنه لا يمكن التحرز منه؛ فإن جحد العارية يحمل الناس على قطع الإحسان، وعلى قطع المعروف، فإن الإعارة من فعل الخير، فإذا كان الإنسان إذا أعار إنساناً قدراً أو أعاره مشلحاً يتجمل به أو أعاره متاعاً يتمتع به؛ أدى ذلك إلى أنه يجحده، وإذا جحده سلم من الإثم، وسلم من العقوبة، وسلم من إقامة الحد، حتى ولو وجدت عنده؛ فإذا كان هذا كذلك سيتتابع الناس في جحد هذه العواري، فعند ذلك يقل من يعير، وكل من عنده متاع يقول: لا أعيرك؛ أخشى أن تجحدني كما جحد فلان، وكما جحدني فلان، فينقطع الإحسان، وينقطع المعروف، بخلاف ما إذا أقيم الحد على جاحد العارية وقطعت يده فإن الناس يرتدعون فلا يقدم أحد على جحد العارية. هكذا ذهب الإمام أحمد إلى أنه يقطع جاحد العارية، وأما الأئمة الباقون فقالوا: لا يقطع جاحد العارية، وقالوا: إن هذه المخزومية ما قطعت إلا لأنها سرقت، ولم تقطع لجحد العارية، وقالوا: هي جمعت بين الأمرين: بين السرقة وبين جحد العارية، وقالوا: من شروط السرقة، أخذ المال خفية، وأخذه من حرز، وهو أن يكسر الأبواب -مثلاً- والصناديق، ويأتي على حين غفلة فيتسلق الحيطان ويأخذ المال المحرز المحفوظ، فهذا هو السارق حقاً، والذي يستعير لا يُسمى سارقاً، بل يُسمى مستعيراً، فإذا جحد يُسمى جاحداً، كجاحد الدين، وكما لا يقطع المنتهب ولا المختلس ولا الغاصب ونحوه فكذلك لا يقطع جاحد العارية. والمعمول به عندنا أنه يقطع جاحد العارية، وذلك لمشقة التحفظ عنه وعن أمثاله، وبكل حال فإن قطع يد السارق كما ذكرنا حد من حدود الله تعالى يقام حتى يأمن الناس على أموالهم، وحتى لا يعتدي أحد على مال أخيه بغير حق، والله أعلم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

شرح عمدة الأحكام [70]

شرح عمدة الأحكام [70] أكرم الله عز وجل الإنسان بالعقل، وميزه به على سائر الحيوانات، ولهذا حرم الله عز وجل الخمر والمسكرات التي تزيل العقل وتذهبه، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم عقوبة على شارب الخمر، ولعن في الخمر عشرة، وما ذاك إلا لضررها وخبثها.

أحكام شارب الخمر

أحكام شارب الخمر قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [باب حد الخمر: عن أنس بن مالك رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل قد شرب الخمر فجلده بجريدة نحو أربعين) ، قال: وفعله أبو بكر، فلما كان عمر استشار الناس فقال عبد الرحمن بن عوف: (أخف الحدود ثمانون) ، فأمر به عمر. وعن أبي بردة هانئ بن نيار البلوي الأنصاري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يُجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله) ] . هذا الباب في حد الخمر، أي: في عقوبة من شرب الخمر؛ وذلك لأنها من المحرمات، ولابد لمن فعل شيئاً محرماً مجمعاً على تحريمه أن يُعاقب، والعقوبة تكون بالزجر أو تكون بالجلد أو تكون بالحبس أو بالتغريم أو بالقتل إذا لم ينته إلا بالقتل، أو غير ذلك من أنواع العقوبات. وقد تقدم أن عقوبة الزاني الجلد إن كان بكراً والرجم إن كان ثيباً، وعقوبة القذف به الجلد الذي هو ثمانون جلدة كما ذكر في القرآن، وعقوبة شارب الخمر لم تُذكر في القرآن، ولكنها أخذت من السنة، ولم ترد محددة تحديداً ثابتاً ولكنها أخذت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يزجر عن الشيء ويعاقب عليه، ولكنه لا يحدد له عقوبة.

الخلاف في حد شارب الخمر

الخلاف في حد شارب الخمر اختلف في حد الخمر، فقيل: إنه عليه الصلاة والسلام حددها بأربعين، وقيل: إنه لم يحدد، ولكن أمر بجلده نحو الأربعين، والثابت اليقيني أنه لابد من جلده، عقوبة له على ذلك.

مراحل تحريم الخمر

مراحل تحريم الخمر معلوم أن الخمر قد حرمت بعدما كانت تشرب في أول الإسلام، وكانوا في الجاهلية يتفاخرون بشربها، حتى يقول حسان وهو يصف حاله قبل أن يسلم: ونشربها فتتركنا ملوكاً وأسداً لا ينهنهنا اللقاء ولكن أقروا عليها في أول الأمر وفي أول الإسلام لأنهم قد ألفوها، ويصعب عليهم كثيراً أن يتخلوا عنها فجأة ودفعة واحدة، فحرمت بالتدريج شيئاً فشيئاً، فأول ما نزل فيها قول الله تعالى في سورة البقرة: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219] ، وليس في هذه الآية دليل على التحريم البات، ولكن فهم بعضهم تحريمها من أنها إثم؛ والإثم محرم، كما قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف:33] فحرم الإثم في هذه الآية، أي: كل شيء يسبب إثماً، يعني: وزراً وذنباً وحنثاً وسيئة، ووصف الله الإثم بالكبر فقال: (فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ) وقال في نفس الآية: (وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا) . لما نزلت هذه الآية تاب عنها خلق كثير، وقد دعي عمر رضي الله عنه -وكان من أشد الناس فيها- وبشر بنزول هذه الآية فقال: (اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً) ، واستمر أناس يشربونها وقالوا: ما دام أن فيها منافع فإنا سنشربها، فنزلت الآية الثانية في سورة النساء وهي قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43] ، وذلك لأن بعض الصحابة صلى وهو سكران، فخلط في صلاته، وخلط في قراءته، فكان ذلك سبباً للنهي عن أن يأتيها في حالة السكر، ولما نزلت هذه الآية دعي أيضاً عمر فتليت عليه، فقال: (اللهم بين لنا بياناً شافياً) ، ولما نزلت هذه الآية تركها خلق كثير، وبقي أناس يشربونها في الأوقات الطويلة، أي: يشربونها بعد الفجر بحيث يصحوا قبل الظهر، أو يشربونها بعد العشاء بحيث يصحوا قبل الفجر، فأما الأوقات الضيقة فلا يشربونها؛ لأن الله تعالى نهاهم أن يقربوا الصلاة وهم سكارى، وهذا نوع تقديم بين يدي تحريمها. ولما نزلت آية النساء وفيها النهي عن قربان الصلاة حالة السكر تاب عن شربها خلق كثير؛ وذلك لأن هذا تقدمة بين يدي تحريمها، وعلموا أن في هذه مضرة، وقالوا: لا خير في شراب يمنعنا من الصلاة، لا حاجة لنا فيه، فتركوها ولو كانت مشروبة لهم من قبل ولذيذة في نفوسهم. وبعد مدة نزل تحريمها تحريماً صريحاً في آيات في سورة المائدة، وهي قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ} [المائدة:90-91] ، فلما نزلت قال الصحابة رضي الله عنهم: (انتهينا انتهينا) ، فتابوا عنها وأقلعوا.

أوجه تحريم الخمر في آية المائدة

أوجه تحريم الخمر في آية المائدة أخذ العلماء تحريم الخمر من آية المائدة من عشرة أوجه: الوجه الأول: أن الله قرنها بالأنصاب، وهي: الأصنام، ومعلوم أن الأصنام محرم اقتناؤها ومحرم عبادتها، فما قرن بها أعطي حكمها. الوجه الثاني: أن الله جعلها رجساً، والرجس: هو النجس، وهو الشيء المستقذر، ولا شك أن كل نجس ومستقذر فإنه حرام، وإن النفوس تأباه وتبتعد عنه. الوجه الثالث: أن الله أضافها إلى الشيطان وجعلها من أعماله، أي: مما يدعو إليه ومما يزينه، والعاقل لا يأتي شيئاً يحبه الشيطان، فالشيطان إنما يحب للإنسان هلاكه، ويتمنى للإنسان أن يهلك، وأن يضل، وأن يتعب ويبأس، ويحرم ويشقى، فشيء للشيطان فيه عمل ووسيلة علينا أن نبتعد عنه. الوجه الرابع: الأمر في الاجتناب في قوله: (فَاجْتَنِبُوهُ) اجتنبوا يعني: ابتعدوا عنه، أي: صيروا في جانب وهو في جانب، وهذا أبلغ في الزجر؛ وذلك أبلغ من أن يقول: اتركوه، فإنهم إذا تجنبوه ابتعدوا عنه، فأخذوا من هذا أنها محرمة، وكل شيء أمرنا باجتنابه فإنه لا يجوز القرب منه، فضلا ًعن ملابسته، فضلاً عن تعاطيه وشربه. الوجه الخامس: ترتب الفلاح على تركها في قوله: (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) والمفلح: هو السعيد، ولا تحصل السعادة والفلاح إلا باجتناب الخمر والميسر ونحوهما، والفلاح هو صفة أهل الإيمان كما قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1] أي: قد سعدوا، أي: أن من لم يتجنب الخمر والميسر فإنه بعيد من الفلاح، وبعيد أن يصل إلى مرتبة الفلاح، وحري أن يكون من أهل الشقاء والخسارة. الوجه السادس: قوله: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ) أي: أن الشيطان هو الذي يدعو إليها، وهي من عمله، (أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ) فالشيطان يحرص على إيقاع العداوة بين المسلمين، والعداوة هي: أن يحقد كل منهم على الآخر، وأن يعاديه ويقاطعه، وما ذاك إلا أنه إذا سكر فقد يسب أخاه ويسب عمه وخاله، وقد يعتدي فيشج هذا ويضرب هذا؛ لأنه قد فقد العقل الذي يحجزه، فإذا صحا ندم على ما فعل، ولكن بعد أن فعل ما يلام عليه. وذكر في أسباب النزول قصة حمزة رضي الله عنه، وهي: أنه شرب قبل أن تحرم الخمر وسكر، وكان لـ علي رضي الله عنه ناقتان من أشرف النوق وأفضلها، حصل عليهما من غزوة بدر، ولما عزم على أن يذهب مع بعض الطوافين ليأتي بإذخر ليبيعه ويستعين بثمنه في وليمة زواجه بـ فاطمة، وكان حمزة في بيت قريب من تلك الناقتين، فأنشدته امرأة مغنية وهو ثمل فقالت: ألا يا حمز للشرف النواء وهن معقلات بالفناء ضع السكين في اللبات منها وضرجهن حمزة بالدماء فهيجته على أن يأخذ السكين، ويذهب إلى الراحلتين ويجب أسنمتهما -وهما لم يذكيا-، ويبقر بطونهما، ويأخذ من أكبادهما، فلما أتى علي رضي الله عنه وإذا ناقتاه قد فعل بهما هذا الفعل، فهاله ذلك وأحزنه، وأُخبر بأن الذي فعله هو عمه أخو أبيه حمزة سيد الشهداء، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما فعل حمزة، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ودخل على حمزة وهو ثمل لم يصح، فجعل يلومه ويوبخه، فرفع رأسه وقال: وهل أنتم إلا عبيد لأبي؟! قال ذلك لأنه فاقد العقل، وهل يقول ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم عاقل فضلاً عن حمزة؟!! لا شك أنه ما قاله إلا بعدما سكر وذهب عقله. إذاً: فالخمر من أسباب البغضاء والعداوة، ولا شك أن علياً رضي الله عنه لولا أنه عارف أن هذا من فقد العقل لحقد على عمه، ولمقته ولأبغضه، ويحصل هذا كثيراً، فإن جماعة من الصحابة سكروا مرة فتقاتلوا وتضاربوا، فأخذ أحدهم لحي جمل فشج به وجه بعضهم، فكان يحقد عليه، فالشيطان يوقع العداوة بين المسلمين إذا سكروا وفعلوا ما فعلوه من هذه الأشياء التي توجب العداوة بينهم. الوجه السابع: البغضاء التي ذكرها الله مع العداوة، فالشيطان هو الذي يوقعها، فيبغض الإنسان أخاه، ويبغض ابنه أو عمه أو خاله أو ابن عمه؛ لأنه قد اعتدى عليه وهو سكران، وقد ضربه أو قد أتلف ماله أو نحو ذلك. الوجه الثامن: الصد عن ذكر الله في قوله: (وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) ومعلوم أن الإنسان إذا كان ثملاً غائب الفكر لا ينشغل بذكر، ولا ينشغل بدعاء، ولا ينشغل بقراءة، ولا ينشغل بعبادة؛ لأنه فاقد لعقله الذي تميز به، فلأجل ذلك جعل هذا علة في التحريم. الوجه التاسع: أن السكر والميسر ونحوهما مما يشغل عن الصلاة، وذلك أيضاً من أمر الشيطان لقوله تعالى: (وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ) أي: يشغلكم عنها، كما قال بعض المتأخرين: إن جاءه الظهر فالوسطى يؤخرها أو مغرباً فعشاء قط لم يأتِ أي: إذا سكر وقت الظهر فإنه يؤخر العصر أو لا يصليها إلا بعد ما يصحو أو تفوته، وإن سكر بعد المغرب فلا يصحو إلا نصف الليل أو نحوه، فتفوته العشاء، وإن أتاها أتاها وهو غافل، وهو ساهٍ، وإن أتى بها لم يأت بها بقلب حاضر، ولا شك أن هذا من أسباب تحريم الخمر. الوجه العاشر والأخير: قوله: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ) أي: وقد عرفتم أضرارها ألا فانتهوا، لذلك قالوا: (انتهينا انتهينا) فمن هذه الآيات عرف الصحابة أن الخمر قد حرمت.

بعض الأدلة على تحريم الخمر

بعض الأدلة على تحريم الخمر ورد في تحريم الخمر أدلة كثيرة، منها أنه أمر بإراقتها وإتلافها، ولما حرمت دخل النبي صلى الله عليه وسلم الأسواق ومعه بعض أصحابه معهم السكاكين، فجعلوا يشكون تلك الظروف التي فيها الخمر، ويتركون ما فيها يسيل، فجرت في سكك المدينة على أهلها، وإتلافاً لماليتها؛ لأنها لا قيمة لها ولا ثمن، ولم يراع حتى ظروفها التي هي أوعية لها، بل أتلفها على أهلها. وأخبر أيضاً بأنها أم الخبائث، وأخذ العلماء من ذلك أنها نجسة العين؛ لأن الخبيث محرم، قال تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] ، ولا شك أنها من الخبائث، لما ذكر في الآية من الآثار التي تترتب على فعلها وعلى تعاطيها. ومن الأدلة على تحريمها أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن في الخمر عشرة: (لعن الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومشتريها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه، وآكل ثمنها) ، فلعن هؤلاء العشرة لأنهم تساعدوا على الخمر، على صناعتها، وعلى ترويجها، وعلى العمل فيها، وإن كان الإثم أصلاً هو على الذي يشربها، وأما البقية فإنهم يساعدون عليها، فكما لعن في الربا أربعة: (لعن آكله وموكله وكاتبه وشاهديه) ، فكذلك لعن في الخمر عشرة من الذين يتساعدون فيها. وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بعقوبة شاربها في الآخرة بقوله: (من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة) ؛ وذلك لأن في الجنة خمراً، ولكن ليست كخمر الدنيا، قال الله تعالى: {وَكَأْساً دِهَاقاً * لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا كِذَّاباً} [النبأ:34-35] فخمر الدنيا فيها اللغو وفيها الكذب، وأما خمر الجنة فهي سالمة من ذلك، وقال تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ} [الواقعة:17-19] أي: لا يأتيهم صداع -وهو الغول- أو السكر وذهاب العقل، وهكذا قوله تعالى: {لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ} [الطور:23] أي: فهي سالمة من اللغو ومن الغول الذي هو السكر، فهذه هي خمر الجنة، فمن شرب الخمر في الدنيا حرمها في الجنة. وقد يكون ذلك سبباً في حرمانه من دخول الجنة إذا كان مصراً عليها أو مستحلاً لها، فإنه إذا دخل الجنة أحد لن يحرم شيئاً من ملذاتها ولا من نعيمها، فهذا الذي شربها في الدنيا يمكن أن يحرم من دخول الجنة إلا أن يشاء الله. وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن من أصر على شرب المسكرات كان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال، عصارة أهل النار، وهذا أيضاً يدل على أنه يدخل النار -والعياذ بالله- ويعذب فيها، ويُسقى من هذه العصارة بدل ما نعم نفسه في الدنيا بهذه اللذة وبهذه الحلاوة، فعوقب بأن يسقى من هذه العصارة، عصارة أهل النار، يعني: أوساخهم، وغسالات فروجهم، وغسالات أبدانهم ونحو ذلك، لوا شك أن هذا من أبشع العذاب، فهذا دليل واضح على أنها حرمت تحريماً مؤبداً، وأن متعاطيها متعرض لعقاب الله تعالى. وكذلك يحرم بيعها والتجارة فيها، وعملها، قال صلى الله عليه وسلم: (من باع الخمر فليشقص الخنازير) ، ومعلوم أن الخنزير محرم لخبثه، وقد جعل الذي يبيع الخمر كأنه يشقص الخنازير، والتشقيص هو القصب، أي: فهو مثل القصاب هو الذي يقطع اللحم، يعني: أن هذا البائع للخمر مثل الذي يقطع لحم الخنزير قطعة قطعة ويبيعه، ولحم الخنزير محرم، وبيعه وتشقيصه وتقطيعه محرم أيضاً، وهو نجس نجاسة عينية مثل نجاسة الكلاب ونحوها، فكل هذا دليل على بشاعة هذه الخمرة التي هي أم الخبائث وعقوبتها.

حد شارب الخمر ومقداره

حد شارب الخمر ومقداره عقوبة السكران في الدنيا الجلد؛ وذلك لأنه لما حرمت الخمر كان هناك أناس قد تعلقت نفوسهم بها، وألفوها، وصعب عليهم الانفطام عنها؛ فشربها إنسان منهم فجيء به وهو ثمل سكران، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بجلده، فجلده الحاضرون بالنعال وبالعصي ونحوها نحواً من أربعين جلدة، واستمر على ذلك الحد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم نحو أربعين جلدة، وكذلك أبو بكر كان يجلد شارب الخمر أربعين جلدة. ولما كان عهد عمر رضي الله عنه دخل في الإسلام كثير من أهل البلاد النائية الذين كانوا قد اعتادوا على شرب الخمر، واستماتوا فيها واعتادوها، وتمكنت من نفوسهم سواء كانوا من الفرس في العراق، أو من الروم ونحوهم في الشام، أو من القبط ونحوهم في مصر، أو من أشبههم ممن دخلوا في الإسلام، فكانوا قد اعتادوا هذا الشراب، ودعوا إليه أيضاً بعض العرب وزينوا لهم شربه، فلما جلدوا أربعين جلدة لم تؤثر فيهم هذه الأربعين، ولم تزجرهم عن تعاطي شربها، بل شربها آخرون، ولم يبالوا بالجلد، فاستشار عمر الصحابة لما بلغه كثرة من يشربها في الشام وفي العراق وفي مصر، وفي غيرها من البلاد التي فتحت في عهده، فرأى أن الزيادة في الحد أولى من بقائه على الأربعين؛ لأن الأربعين قد لا تكفي في زجرهم، فاستشار الصحابة رضي الله عنهم، فقال عبد الرحمن بن عوف: (إنه إذا شرب هذى، وإذا هذى افترى، وحد المفتري ثمانون) ، والمفتري: هو القاذف الذي ذكر الله أن حده ثمانون، وقال أيضاً: (أخف الحدود حد القذف ثمانون جلدة، فلا ينقص عن الثمانين) ، فأمر به عمر رضي الله عنه، فكان يجلد الشارب ثمانين جلدة، ويشددون عليه حتى ينزجر بذلك ويرتدع غيره عن أن يفعلوا كفعله، واستمر الأمر على ذلك، فاختلف العلماء: هل هذه الزيادة التي زادها عمر تعتبر حداً؛ لأنه قال: أخف الحدود ثمانون، أو تعتبر تعزيراً؟ أي: هذه الأربعون الزائدة هل تعتبر تعزيراً أم أنها حد؟ يرى كثير منهم أن الحد أربعون؛ لأنه الذي كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأما الزيادة فتستعمل إذا كثر الشرب، فإذا كثر السكر في مدينة أو في بلدة ولم ينزجروا بالأربعين فيزاد فيه إلى الثمانين، وقد تجوز الزيادة إلى المائة أو إلى أكثر حتى يحصل الانزجار والارتداع؛ وذلك لأن هذا تعزير، والتعزير ليس له منتهى وليس له حد، وإنما هو بقدر الحاجة، وبقدر ما تحصل به الكفاية. وقد تصل العقوبة إلى أشد من ذلك، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب الرابعة فاقتلوه) ، فأمر بقتله إذا تكرر منه الشرب ولم يرتدع بهذا الجلد، هذا الحديث يقول بعض العلماء: إنه منسوخ، ويقولون: إنه لم يُعمل به، ولكن صحح كثير من العلماء أنه لم ينسخ، وأنه باقٍ؛ وذلك لكثرة طرقه التي جاء بها، حتى روي عن نحو عشرة من الصحابة رضي الله عنهم رووا هذا الحديث، وبعضهم ممن تأخر في دخول الإسلام، وهو يشتمل على الأمر بقتل الشارب إذا حد ثلاث مرات، فإذا جلد مرة أربعين ثم جلد أربعين ثم جلد أربعين ولم ينزجر وعاد في المرة الرابعة فحده أن يقتل، وأن يسلب حياته هذه التي هي حياة بؤس؛ حيث إنه لم ينزجر ولم يرتدع فلا يردعه إلا القتل والإعدام. هكذا جاء هذا الحديث مما يدل على بشاعة هذه الخمر وشناعتها وشدة العقوبة التي رتبت عليها؛ لأنها أم الخبائث، ولأن التساهل فيها قد يؤدي إلى الشرور والأضرار؛ ولأن الله تعالى ما حرم شيئاً إلا وفيه مضرة، وما حرم على العباد إلا الشيء الذي يضرهم، ولا شك أن الخمر غاية في الضرر؛ وذلك لأن الذي يشربها ويتعاطاها قد يفقد عقله يفقد إحساسه يفقد ميزته التي تميز بها وهي هذا العقل، فالعقل هو ميزة الإنسان العقل هو شرفه العقل هو فضل الله عليه الذي تميز به، فبه يكتسب، وبه يحسن التصرف، وبه يبيع ويشتري، وبه يأخذ ويعطي، وبه يعقل ما يقول، وبه يبتكر ويفكر، وبه يعرف ما ينفعه وما يضره، فالشيء الذي يزيل هذا العقل ويلحق صاحبه بالبهائم، أو أقل حالة من البهائم ينبغي أن يحارب في كل شريعة، وينبغي أن يقضى عليه، ألا وهو هذا المسكر، فإنه بلا شك يزيل ويغطي هذا العقل من الإنسان، فلذلك جاءت الشريعة الإسلامية بالقضاء عليه، وبالزجر عنه، وبالعقوبة عليه. والعقوبة في الآخرة -كما ذكرنا- أن أهله يشربون من عصارة أهل النار، وأنهم يمنعون من لذة أهل الجنة، والعقوبة في الدنيا أنه يقتل إذا تكرر منه تعاطي الخمر أربع مرات ولم ينزجر بالجلد، ولا شك أن هذا دليل على بشاعة هذه الخمر، وشناعتها والعقوبة عليها.

شرح حديث: (لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله)

شرح حديث: (لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله) عن أبي بردة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله) المراد: جلد التأديب، كأن يؤدب الرجل ولده أو يؤدب خادمه أو يؤدب زوجته، أو نحو ذلك، فلا يزيد على عشرة أسواط، يعني: عشر جلدات، أما حدود الله وحقوقه والعقوبة على معاصيه فإنه يجلد فيها الجلد الذي يردعه، فجلد عقوبة تارك الصلاة لا شك أنه يجلد بما ينزجر به، ولو زاد على المائة أو نحوها، وكذلك عقوبة من يبيع المحرم كالذي يتعاطى رباً مثلاً، أو يغش في معاملات أو نحوها يجلد ولو زاد على الخمسين أو السبعين أو نحو ذلك بما يرتدع به، وهكذا عقوبة الظلمة وأهل الغصب وأهل النهب وأهل السلب وقطاع الطرق وما أشبههم يعاقبون بما ينزجرون به، وبما تخف به المعاصي.

شرح عمدة الأحكام [71]

شرح عمدة الأحكام [71] المسلم متقيد بالشرع في كل ما يأتي وما يذر، من أقواله وأفعاله وحركاته وسكناته، فللشرع في كل ذلك أحكام، ومن ذلك الأحكام الشرعية الجارية على ألفاظ لسانه ومنها اليمين، التي رتب الله عليها الكفارة، ونهى عن الكذب فيها وغير ذلك من الأحكام.

أحكام اليمين

أحكام اليمين قال المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب الأيمان والنذور. عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عبد الرحمن بن سمرة! لا تسأل الإمارة؛ فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فكفر عن يمينك وائت الذي هو خير) . وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني والله -إن شاء الله- لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير منها وتحللتها) ] . من الأحكام الكلام على الأيمان وعلى النذور، واليمين هي الحلف، ويُسمى قسماً، وسمي يميناً لأن المتحالفين في الجاهلية كانوا يتقابضون بالأيمان من باب التأكد ومن باب التقوية، فيمسك أحدهما بيمين الآخر ثم يقسم هذا القسم المؤكد، فمن ثمَّ سمي الحلف يميناً، كما ذكر في قول الله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة:225] ، وذكر باسم الحلف في قوله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة:89] ، حيث ذكر الله كفارة اليمين، ثم ذكر أن هذا حلف، وذكر باسم القسم في قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [الأنعام:109] ، وفي قوله: {وَقَاسَمَهُمَا} [الأعراف:21] يعني: حلف لهما. وقد أقسم الله تعالى بالقرآن في عدة مواضع، كقوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} [التكوير:15] ، وقوله: {فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} [الانشقاق:16] ، وقوله: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:1] ، وقوله: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [القيامة:1] ، وكذا قوله: {وَالْفَجْرِ} [الفجر:1] ، وقوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل:1] ، وقوله: {وَالضُّحَى} [الضحى:1] ، وقوله: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:1] ، وقوله: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً} [العاديات:1] ، وقوله: {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً} [المرسلات:1] ، وقوله: {وَالصَّافَّاتِ صَفّاً} [الصافات:1] ، وقوله: {وَالطُّورِ} [الطور:1] ، وقوله: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً} [الذاريات:1] وما أشبهها، فهذه تُسمى أقسام القرآن التي أقسم الله فيها. والله تعالى له أن يقسم من خلقه بما يشاء، وأما المخلوق فليس له أن يقسم إلا بخالقه وبربه، وذلك لأن القسم تعظيم للمقسم به كما سيأتي.

فائدة اليمين

فائدة اليمين اليمين أو القسم يعتبر مؤكداً للكلام، فإذا أقسم على شيء فمعناه تقوية ذلك الشيء وتأكيده والتحقق من وجوده وما أشبه ذلك، فإذا حلف أنه سيأتيك فإن هذا تعهد، وإذا حلف أنه ما ضرب فلاناً فهذا تأكيد لعدم فعله، وإذا حلف أن يعطيك كذا وكذا فإن هذا تقوية؛ لأنه تعهد بإعطائك، وإذا حلف أن فلاناً موجود فإن هذا أقوى من أن يقول: إنه موجود حاضر دون أن يأتي بيمين، وهكذا بقية الأمثلة، فالقسم يؤكد الكلام. ولأجل هذا يستعمل اليمين في الحكومات وفي القضايا، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (البينة على المدعي، واليمين على من أنكر) ، وفي حديث آخر: (قضى باليمين على المدعى عليه) ، واليمين التي هي الحلف جعلها على المنكر أو على المدعى عليه، وذلك لأن فيها نفياً لما ادعي به، فهذا دليل على أن اليمين تؤكد الكلام، فإذا قال: ما عندي لك دين ثم حلف على ذلك فقد تقوى النفي وتقوت براءته من ذلك الحق الذي تتدعيه عليه.

شرح حديث: (يا عبد الرحمن! لا تسأل الإمارة)

شرح حديث: (يا عبد الرحمن! لا تسأل الإمارة) في هذين الحديثين أنه يجوز الحنث والكفارة إذا كان في ذلك خير، فالحديث الأول يقول صلى الله عليه وسلم: (يا عبد الرحمن! لا تسأل الإمارة؛ فإنك إن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها، وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها) ، والمراد بها الولاية على مجموعة والرئاسة عليهم، فالأمير هو الذي يكون والياً على أهل بلد أو والياً وأميراً ورئيساً على قسم أو على جهة أو على أسرة أو قبيلة أو نحو ذلك يرجعون إليه ويطيعونه، ويأمرهم بما يراه صالحاً لهم ونحو ذلك، والإمارة يُختار لها الأكفاء الذين فيهم الأهلية، ويبتعد عن اختيار من ليس كفؤاً لها، والإنسان لا يحرص عليها، وذلك لما فيها من المسئولية، ولما فيها من التعب والعمل الذي يناط بذلك الأمير، ولأن الناس يتعلقون به ويطلبون منه أن يفعل كذا وكذا، فيكون ذلك قدحاً في عدالته إذا اتهم وألصقت به التهم، أو عمل وليس من أهل العمل أو نحو ذلك، فلأجل هذا ينهى عن أن يسألها. أما إذا عين الإنسان أميراً أو رئيساً أو مديراً أو نائباً وهو لم يسأل هذه الولاية وإنما اُختير لها واتُفق على اختياره لكونه كفؤاً فإنه يُعان عليها، يعينه الله ويسدده.

كفارة اليمين

كفارة اليمين ما يتعلق بالإمارة في هذا الحديث ذكر استطراداً، والشاهد من الحديث قوله: (وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فائت الذي هو خير، وكفر عن يمينك) . فالإنسان قد يحلف ويؤكد الحلف، ويكون حلفه على ترك معروف أو على فعل منكر أو نحو ذلك، ثم بعد ذلك يندم على يمينه، ويقول: ليتني ما حلفت. لقد أوقعتني هذه اليمين في حرج. فإذا حلف الإنسان -مثلاً- أن لا يدخل بيت أخيه، أو حلف أن لا يكلم أباه، أو حلف أن لا يعطي المساكين من الصدقات ونحوها، أو لا يعطي هذا المسكين، أو حلف أن لا يصلي بهذا المسجد كراهية لإمامه ولا ذنب له مثلاً، أو حلف أن لا يصل أرحامه، أو حلف أن يعق أباه، أو حلف أن يقطع أقاربه، أو حلف أن لا يأكل عند فلان وإن كان أكلاً عادياً أو نحو ذلك، ثم رجع إلى نفسه فهذا الحلف تارة يكون على مخالفة ومعصية وتارة يكون على أمر عادي، فالأولى له في الحالات كلها أن يفعل الذي هو خير، حتى ولو كان من الأمور العادية، وسيأتي لها أمثلة في النذور إن شاء الله تعالى. وعلى هذا يكفر عن يمينه ويفعل الذي هو خير، وإذا حلف أن يهجر فلاناً ولا يسلم عليه فبقي على هذا الهجران شهراً، وفكر بعد ذلك وقال: أليس هذا ذنباً؟ وأجاب: بلى. إن التهاجر ذنب، فما المخرج وأنا قد حلفت؟ فنقول: المخرج أن تكفر فتطعم عشرة مساكين من أوسط ما تطعم به أهلك، أو تكسوهم، أو تعتق رقبة، فإن لم تجد فتصوم ثلاثة أيام متتابعة، وتفعل الذي هو خير، فسلامك على أخيك خير من هجرانه، وأكلك من طعامه جبراً لنفسه خير من تركك لذلك، وصلتك لأرحامك خير من القطيعة، بل إن القطيعة ذنب. وكذلك عند الحاجة قد يحلف الإنسان وتحمله الحاجة على المخالفة، فجعل الله له كفارة، فقال تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة:89] ، وتعقيد الأيمان يعني تأكيدها وتقويتها، وفي قراءة (عاقدتم الأيمان) يعني: عقدتم اليمين وأكدتموها. وقد عفا الله تعالى عن اللغو، فكثيراً ما يجري على لسانك وأنت في المجلس قولك: لا والله، وبلى والله. وأنت ما عزمت على الحلف، فهذا من اللغو الذي يُعفى عنه، وأما إذا عزمت وجزمت وحلفت أنك ما تركب هذه السيارة، أو أنك ما تعطي ولدك مفاتيحها مثلاً، أو أنه ما يقود بك سيارة، أو أنه لا يدخل عليك طوال حياتك مثلاً، أو حلفت أن تقتل هذا الرجل وأنت ظالم له، أو حلفت أن تقطع يده بغير حق، أو تقطع منه طرفاً، أو حلفت أن لا تقضيه حقه مع أنه مستحق، أو حلفت أن لا تشتري من هذا الدكان بغير ذنب وأنت ستحتاج إلى أن تشتري منه، فمثل هذه الأشياء الأولى بك أن تخالف ما حلفت عليه، وأن تكفر عن يمينك، وأن تفعل الذي هو خير. ومن الدليل عليه أيضاً حديث أبي موسى وقصته في غزوة تبوك، فالأشعريون كانوا أربعة أو خمسة يحبون أن يغزوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهم لا يجدون ما يركبون، ولا يجدون رواحل يرحلون عليها، فأرسلوا واحداً منهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلبون منه أن يحملهم، فعند ذلك جاؤوا إليه وهو غضبان من كثرة من ينازعه وكثرة من يطلبه، ففي حالة طلبهم له وهو غضبان قال: (ما عندي ما أحملكم، ووالله ما أحملكم) صدرت منه هذه اليمين: (والله ما أحملكم) ، فرجعوا يبكون أسفاً على أنه لم يحملهم، وبعد ساعات جاءت إليه عليه الصلاة والسلام رواحل، فقال: (أين أبو موسى الأشعري؟) ، فقيل: إنه رجع. فأرسل إليهم بخمس من الإبل ليركبوها وليرتحلوا عليها ويغزوا معه، فلما جاءتهم قالوا: إنه قد حلف أن لا يحملنا، إنا استغفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينه، والله لا يبارك لنا. فعند ذلك رجعوا إليه وقالوا: إنك قد حلفت أن لا تحملنا ثم حملتنا! فقال: (ما أنا حملتكم، ولكن الله حملكم، إني -والله- لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يميني وتحللتها) أي: فعلت الذي هو خير. فجعل هذا من فعل الخير، فهو حلف أنه لا يحملهم، وكان في غزوهم مصلحة ومنفعة وخير، فحملهم بعد ما حلف أن لا يفعل، وكفر عن يمينه، فهذا ونحوه دليل على أن من حلف أن لا يفعل معروفاً فإن الأولى له أن يفعله. ذكروا أن رجلاً كان له دين على إنسان، فأفلس ذلك المدين وكثر عليه الدين، فقالوا لصاحب الدين: لعلك تنزل وتسقط عنه شيئاً من دينك -أي: من باب التسامح- فحلف وقال: والله لا أسقط منه شيئاً. فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (حلف أن لا يفعل معروفاً) ثم أمره أن يكفر ويسقط عنه بعض الشيء) ، فهذا مثال في أن من حلف أن لا يفعل معروفاً فإن الأولى له أن يفعله ويكفر عن يمينه، ومن حلف أن يفعل منكراً فإن عليه أن يتركه، كما سيأتي. وعلى كل حال فاليمين إذا كان الترك خيراً من الفعل فالإنسان يترك ما حلف عليه، وفي الكفارة محو لذلك الذنب الذي فعله، فإذا كفر الكفارة التامة محي عنه ذلك الحنث، وأما إصراره على ذلك فإنه مذموم، قال تعالى: {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ} [الواقعة:46] يعني: فعل الشيء بدون كفارة. فهناك ثلاثة أشياء: الأول: الحلف على فعل منكر ثم يفعله، فهذا منكر. الثاني: الحلف على ترك معروف ثم يتركه، فهذا أيضاً منكر. الثالث: أن يحلف على فعل شيء ثم يرى أن فعله منكر، فيكفر ويمحو الله عنه اليمين الذي حلف بها.

شرح حديث: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم)

شرح حديث: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم) قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم) ، ولـ مسلم: (فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) ، وفي رواية: قال عمر: (فوالله ما حلفت بها منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنها ذاكراً ولا آثراً) يعني: حاكياً عن غيره أنه حلف بها] . هذا الحديث يتعلق بالحلف، والحلف: هو القسم بالله أو بأسماء الله أو بصفات الله على أمر من الأمور لتأكيده وتقويته. والإنسان إذا أراد أن يؤكد قولاً من الأقوال فإنه يقنع الحاضرين والسامعين بهذا الحلف، فيقول: والله إن الأمر كذا. وبالله إنه لكذا. أو: أحلف بالله لقد قال فلان كذا. أو ما أشبه ذلك.

حكم الحلف بغير الله عز وجل

حكم الحلف بغير الله عز وجل كان أهل الجاهلية يحلفون بما يعظمونه، وكانت آلهتهم في نظرهم عظيمة، فلذلك كانوا يقولون في حلفهم: واللات والعزى. و (اللات) : المعبد الذي في الطائف. (والعزى) : الذي في نخلة بين مكة والطائف. وكلاهما معظم عندهم. فورد النهي عن ذلك، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) ، وذلك لأن الحلف تعظيم للمحلوف به، فالذي تحلف به يكون قدره في قلبك عظيماً، فتعظمه بهذه اليمين. والتعظيم لا يصلح إلا لله تعالى، فلا يجوز لأحد أن يعظم مخلوقاً، ولهذا جاء الأمر بالحلف بالله وحده، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف بالله فليصدق، ومن حُلف له بالله فليرض، ومن لم يرض فليس من الله) ، فأمر الذي يحلف بالله أن يحلف وهو صادق، ونهاه أن يحلف بغير الله أياً كان ذلك المحلوف به. وكان أهل الجاهلية يحلفون بآبائهم، وبقي ذلك عند بعض من أسلم، حتى إن عمر رضي الله عنه -وهو من أذكى الناس وأفطنهم- حلف مرة بعدما أسلم بأبيه، فقال: بأبي إن الأمر كذا وكذا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) ، ولما سمعه عمر رضي الله عنه امتثل ذلك، فتوقف عن هذا منذ أن نهاه، وذلك لأن الصحابة وقافون عند حدود الله، ومتى أمرهم الله بأمر توقفوا عنده، ومتى أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأمر امتثلوه ولم يتجاوزوه، فلذلك يقول عمر (والله ما حلفت بأبي بعد ذلك ذاكراً ولا آثراً. يعني: لا ذاكراً له مبتدئاً له من نفسي، ولا آثراً ناقلاً لكلامي عن غيري. حتى النقل، فلم يقل: إن فلاناً قال: بأبي إن الأمر كذا من شدة امتثاله وتمسكه بما سمعه من الحديث المرفوع تمسكاً زائداً، فلم ينقل عن أحد قوله: بأبي إن الأمر كذا. وما ذاك إلا أنه علم أنه صلى الله عليه وسلم ما نهى عنه إلا وهو حرام لا يجوز. وقد ورد أيضاً ما يدل على أنه من الشرك، قال صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) . فذكر في هذا الحديث أن الحلف بغير الله كفر أو شرك، ولكن إذا قيل: إنه كفر فهو كفر دون كفر، إنما هو كفر جزئي، بمعنى أنه جهل لما أمرنا به من الحلف بالله تعالى، وإذا قيل: إنه شرك فإنه من الشرك الأصغر الذي هو دون الأكبر، ولا يخرج من الملة، ولكن ما دام أن اسمه شرك فإنه لا يغفر إلا بالتوبة، وهو داخل في الآية الكريمة: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48] ، فالذي يموت وهو مصر على نوع من الشرك كالحلف بغير الله يعتبر من الذين لا يغفر شركهم، بل لابد من عقوبتهم على قدر شركهم بما يقدره الله تعالى. وعلى كل حال فإنه ما دام أنه ذنب وما دام أنه وصل إلى تسميته شركاً في هذا الحديث فإنه يدل على كبره وكونه أكبر الكبائر؛ لأن كبائر الذنوب كالزنا والربا ونحوها تحت المشيئة، إن شاء الله تعالى عفا عنها وغفرها لصاحبها، وإن شاء عذبه بقدرها، وأما الشرك ولو كان صغيراً فلابد من عذاب صاحبه في الآخرة بقدر شركه أو قدر ذنبه، فهذا دليل على عظمته. والإنسان عليه أن يكون حذراً، عليه أن يكون تعظيمه لله، فإنه إذا حلف بغير الله فقد عظم ذلك المخلوق به، ودل على أنه أنزل في قلبه ذلك المحلوف به منزلة عظيمة يقدره بها ويرفع مقامه، وهو بهذا رفعه عن قدره، وقد جعله مستحقاً لنوع من التعظيم الذي هو حق الله تعالى. ويدخل في ذلك الحلف الأشخاص والبقع والصفات ونحوها، كل ذلك من الحلف بغير الله. وقد فسر ابن عباس رضي الله عنهما قوله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً} [البقرة:22] فقال: الأنداد: هو الشرك، وهو أخفى في هذه الأمة من دبيب النملة السوداء على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن تقول: والله وحياتك يا فلان. وحياتي. فجعل هذا من الحلف بغير الله ومن الشرك، فمن قال: وحياتك يا فلان. أو: بحياتك يا فلان. أو: بحياتي فإن هذا قد حلف بغير الله، وقد أثبت ابن عباس أنه من الشرك الذي هو خفي، بمعنى أن الناس لا يفطنون له ولا ينتبهون له، وهي كلمات -كما يقولون- تجري على الألسن، فيُتساهل بها، وهي في الحقيقة من الشرك الخفي، فينتبه لها، فإذا قال قائل: وحياتك يا فلان. أو: وحياتك يا فلانة. أو: وحياتي. أو قال: وشرفي. أو: ونسبي. أو نحو ذلك فهذا من الشرك، والذي يحلف بشرفه فإن شرفه لا يستحق أن يعظم بهذا التعظيم، وكذلك لو قال: ونسبي. أو: ومنصبي. أو: مفخري. أو: ومفخر فلان أو ما أشبه ذلك، وكل هذا من الشرك. وهكذا إذا أقسم بالتراب، كأن يقول: بتربة فلان. أو ما أشبه ذلك، أو أقسم بالحرمة، كأن يقول: بحرمة فلان. أو: بحرمة صاحب هذا القبر. أو: بحرمة الولي أو بالقبر الفلاني أو بالشهيد أو بالولي الفلاني أو ما أشبه ذلك، لا شك أن هذا يعتبر تعظيماً لذلك المحلوف به، والذي يحلف به يعتبر كأنه رفعه عن مقامه، فكان بذلك مشركاً، فيتجنب الإنسان الحلف بالمخلوق، ولا يحلف إلا بالخالق سبحانه وتعالى. وإذا قلت: إن الله تعالى أقسم بكثير من المخلوقات؟ نقول: الله تعالى يقسم من خلقه بما يشاء، كما في قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة:75-76] ، ولكن المسلم الذي يلتزم ويوحد الله يجعل إقسامه بالله، فلا يقسم إلا بربه؛ لأن القسم تعظيم، والتعظيم هو من حق الله تعالى على عباده، فحق على العباد أن يكون تعظيمهم لربهم. ومع الأسف نسمع كثيراً لا يقنعون بالحلف بالله حتى يحلف لهم بغير الله، ففي كثير من البلاد التي تنتحل الإسلام وتدعي أن أهلها يعظمون الله ويعظمون القرآن ويؤمنون بالبعث يُحكى لنا عن بعضهم أنه كان له دين عند شخص، فأُحضر عند القاضي وحلف عشرة أيمان أنه ليس له حق لخصمه، فقال خصمه للقاضي: قل له يحلف بتربة الولي فلان. فألزمه القاضي أن يحلف بتربته، فامتنع أن يحلف واعترف بالحق، وقال: إذا حملتوني على أن أحلف بتربة السيد فلان فإنني لا أحلف، بل أقول: إن الحق عندي إذا أكرهتموني. فصارت تربة ذلك السيد الذي يعبدونه ويعظمونه ويسمونه ولياً وسيداً أعظم في قلبه من الخالق سبحانه وتعالى، فيا للعجب!! حلف بالله عدة أيمان وهو كاذب ولم يتجرأ أن يحلف بتربة السيد! فهذا لا شك أنه قد يصل إلى الشرك الأكبر؛ لأنه عظم ذلك السيد وصار في قلبه له وقع مع أنه مخلوق، ولو حلف به وهو صادق لأشرك وصدق عليه أنه مشرك. فالحاصل أن المسلم عليه أن يكون تعظيمه لربه سبحانه، فلا يعظم أي مخلوق بأي نوع من أنواع التعظيم، لا بالحلف ولا غيره، ومتى عرف المسلم أنه تعالى هو المستحق للتعظيم والتوقير فإنه يعرف أنه المستحق لجميع العبادات كلها، فحينئذٍ هو المستحق أن يُدعى وحده ولا يُدعى غيره، وهو المستحق لأن يُرجى وأن يُخاف وأن يُعتمد عليه، وأن يُتوكل عليه، وأن يُستعان به، وأن يُستغاث به، وهكذا جميع أنواع العبادات التي هي خالص حق الله تعالى، فيصرفها لله، ويترك التعلق على مخلوق سوى الله.

حكم الإكثار من الحلف

حكم الإكثار من الحلف معلوم أن الحلف تأكيد للمحلوف به، ولكن قد ذكرنا أنه لا يجوز للإنسان أن يقدم على الحلف وهو شاك في الأمر، ولا وهو كاذب، وإذا حلف هو كاذب على أمر من الأمور لاسيما إذا كان يستحل بحلفه مالاً يأخذه بغير حق فإن ذلك حرام عليه، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من اقطع مال امرئ مسلم بيمين هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان. قالوا: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟! قال: وإن كان قضيباً من أراك) يعني: عود السواك الذي يستاك به، فلو اقتطع باليمين سواكاً فإنه يُعتبر قد اقتطع مالاً بغير حق بيمين هو فيها كاذب، فجمع بين الكذب وبين أخذ ما لا يستحقه من المال ولو كان يسيراً، فاستحق أن يلقى الله تعالى وهو عليه غضبان. كذلك نقول: إن على المسلم أيضاً أن يحترم أسماء الله تعالى، فلا يكثر الحلف مخافة أن يقع في كذب وهو غير متعمد ثم يلام على ذلك، وقد كثر حلف الناس على البيع والشراء، وهو بغير شك يوقعهم في كثير من الفجور أو نحو ذلك، وقد قال الله تعالى: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ} [القلم:10] ، و (حلّاف) صيغة مبالغة، أي: كثير الحلف. فإن الذي يكون كثير الحلف لابد أن يقع في شيء من الكذب. وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم، وذكر منهم رجلاً حلف على سلعة بعد العصر لقد أعطي بها كذا وكذا وهو كاذب، وخص بعد العصر لأنه وقت شريف من أفضل الأزمنة، وخص الحلف مع أنه حلف بالله لأنه حلف على كذب فصدقه الذي حلف له وزاد في ثمن تلك السلعة لأنه حلف، فهذا أخذ ما لا يستحقه وحلف بالله وهو كاذب، وامتهن حرمة الزمان الذي هو وقت شريف وهو بعد العصر، فكان ذلك سبباً لعقوبته بهذه العقوبة، ولذلك نتواصى بأن نحفظ أيماننا، كما يقول الله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة:89] أي: لا تكثروا الحلف فتقعوا في الحنث. وكذلك لا نكثر الحلف بالله، كما يقول الله تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} [البقرة:224] أي: لا تكثروا من الحلف الذي هو مظنة الكذب أو نحو ذلك، وعلى كل حال الكلام على الأيمان معروف، والحمد لله.

شرح حديث: (قال سليمان بن داود عليهما السلام: لأطوفن الليلة)

شرح حديث: (قال سليمان بن داود عليهما السلام: لأطوفن الليلة) قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال سليمان بن داود عليهما السلام: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة تلد كل واحدة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله. فقيل له: قل: إن شاء الله. فلم يقل، فطاف بهن فلم تلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قال: إن شاء الله لم يحنث، وكان ذلك دركاً لحاجته) . قوله: فقيل له: قل: إن شاء الله يعني: قال له الملك. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان، ونزلت: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} [آل عمران:77] ) إلى آخر الآية] . الحديث الأول موضوعه في الاستثناء في اليمين، وأنه ينفع إذا كان الاستثناء متصلاً بأن يقول: إن شاء الله أو إلا ما شاء الله، أو إلا أن يشاء الله ونحو ذلك، فإذا استثنى في يمينه ثم لم يوف بها لم يحنث، وكان ذلك دركاً لحاجته. والقصة صحيحة، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن سليمان بن داود عليه السلام قال: (لأطوفن الليلة على سبعين امرأة) وفي رواية: (على مائة امرأة) ، وذلك لأنه كان له نساء كثير، منهن زوجات ومنهن إماء سريات يملكهن، فالتزم بأنه سوف يطوف على مائة أو على سبعين، أي: يطأهن في تلك الليلة، وأن كل واحدة تلد غلاماً يقاتل في سبيل الله، فقال له الملك: قل: إن شاء الله فنسي ولم يقل، وليس ذلك عصياناً ولا استبداداً، ولكنه نسي أن يقول ذلك أو انشغل، فلما طاف بهن لم تلد منهن ولم تحمل منهن في تلك الليلة إلا واحدة ولدت شق إنسان، أي: نصف إنسان. أي: غير كامل. وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك سببه عدم الاستثناء بقول (إن شاء الله) ، أو (إلا ما شاء الله) . وأثبت العلماء بهذا الحديث وبغيره أن الاستثناء يكون مبرراً لعدم الحنث، وأن من حلف وأقسم وقال: إن شاء الله فلا حنث عليه، ويسمى هذا الاستثناء، قال الله تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلا يَسْتَثْنُونَ} [القلم:17-18] ، فأهل الجنة كان لهم بستان فيه ثمار، فحلفوا في ليلتهم أنهم إذا أصبحوا سوف يصرمون ذلك النخل أو تلك الثمار، ولم يقولوا: إلا أن يشاء الله. ولم يستثنوا، فعاقبهم الله تعالى بقوله: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} [القلم:19-20] أي: احترقت ولم يبق فيها شيء، فأصبحت كأنها مصرومة. حتى إنهم لما رأوها قالوا: ((إِنَّا لَضَالُّونَ)) [القلم:26] أي: ليس هذا بستاننا. ثم اعترفوا أنهم ظالمون، فقالوا: (سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [القلم:29] ، فدل على أنه إذا أقسم الإنسان على شيء أو ذكر شيئاً فإن عليه أن يقول: إلا أن يشاء الله. أو يقول: إن شاء الله. أو نحو ذلك. وإذا كان الأنبياء قد عوقبوا بمثل هذا فغيرهم من باب أولى. وكذلك أيضاً ورد أن قريشاً سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ثلاثة أشياء: عن فرقة ذهبت في الدهر وكان لهم حديث عجيب، وعن الروح، وعن رجل طاف بالمشرق والمغرب. فقالوا: أخبرنا، فإن أخبرتنا فأنت نبي، وإلا فأنت رجل متقول. وأخذوا هذه الأسئلة عن اليهود، فقال لهم: (أخبركم غداً) ، ونسي أن يقول: إن شاء الله. فلم ينزل عليه الملك بالوحي إلا بعد خمسة عشر يوماً، وعاتبه الله تعالى بقوله: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23-24] . فلما قال: (إني آتيكم بها غداً) ولم يقل: إن شاء الله تأخر عليه الوحي، فأفاد بأن على الإنسان أن يحرص على أن يستثني في كلامه، فإذا قال: سأفعل هذا الأمر فليقل: إن شاء الله. وهكذا لو قال: سأسافر إلى البلاد الفلانية غداً. فعليه أن يقول: إن شاء الله. وكذا إذا قال: سأبيع هذا. أو: سأشتري لك كذا وكذا فليقل: إن شاء الله. وهكذا المواعيد ونحوها، فعلى المسلم أن يستثني في المواعيد، فيقول مثلاً: آتيك غداً إن شاء الله. أو: تأتيني إن شاء الله. أو: يأتيني فلان إن شاء الله. وما أشبه ذلك، فهذا الاستثناء يعتبر تبركاً ويعتبر تعليقاً للأمر على مشيئة الله؛ لأنه إذا لم يشأه الله فإنه لا يحصل، قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30] أي: إذا أردتم أمراً فإنه لا يحصل إلا إذا شاءه الله وأرده إرادة كونية قدرية، فعلقوا أموركم المستقبلة على مشيئة الله تعالى.

فائدة الاستثناء في اليمين

فائدة الاستثناء في اليمين أما الاستثناء في الحلف فإذا حلف على أمر مستقبل وقال: والله لآتينك غداً إن شاء الله ثم لم يأتك فإنه لا كفارة عليه، بخلاف ما إذا لم يقل: إن شاء الله. فلو قال: والله لأقضينك دينك غداً. أو: لأبيعنك. أو: لأحضرن لك هذه السلعة غداً ثم لم يحضرها أو لم يعطك فمثل هذا عليه كفارة. والكفارة هي التي ذكرها الله بقوله: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة:89] إلخ، فإذا استثنى فلا كفارة عليه، فهذه هي فائدة الاستثناء. ويمكن أن يخصص بعض الأشياء، فإذا قال مثلاً: بعتك هذا إن شاء الله فقلت: قبلته إن شاء الله. أو قال -مثلاً-: زوجتك موليتي إن شاء الله فقلت: قبلت إن شاء الله فإن ذلك ينعقد ولو كان فيه هذا الاستثناء، وكذلك إذا قال: طلقت امرأتي إن شاء الله فإنها تطلق، وذلك لأن هذا شيء ظاهر، فلا يعلق على مشيئة الله الخفية؛ لأنا لا نعلم مشيئة الله إلا بالأمر الواقع، فإذا رأينا الأمر قد وقع قلنا: هذا قد شاءه الله، شاء الله أن يولد لفلان، وشاء الله أن يموت فلان، وشاء الله أن يشفى، وشاء أن يستغني وما أشبه ذلك، فمشيئة الله تعالى ظاهرة بوقوع الأمور التي شاءها، وإذا رأينا الأمر تخلف قلنا: لم يشأ الله أن يحصل لفلان ولد، ولم يشأ الله أن يستغني فلان، أو أن ينجح في سعيه، أو يربح في بيعه. والاستثناء يؤتى به أيضاً للترك، كما ورد في القرآن، قال الله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ} [الفتح:27] مع أنه وعد محقق، ولكن عُلق بمشيئة الله تعالى للتبرك، وكذلك الاستثناء الذي في دعاء زيارة القبور: (وإنا -إن شاء الله- بكم لاحقون) ، فالاستثناء هنا للتبرك، أو لتخصيص البقعة أو نحو ذلك، وإلا فالموت محقق، وكل الأحياء لاحقون بالأموات.

شرح حديث: (من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم)

شرح حديث: (من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم) أما الحديث الثاني ففيه وعيد على الذي يحلف وهو كاذب، وذلك لأنه لم يعظم أسماء الله ولم يحترمها، ولم يعرف قدر الرب تعالى، ولم يكن في قلبه قدر لربه سبحانه وتعالى، فتهاون باسم الله وحلف وهو كاذب، ومع فجوره وكذبه أخذ مالاً بغير حق، بل أخذه ظلماً بسبب هذه اليمين الكاذبة. وقوله: (من حلف على يمين صبر) سميت يمين صبر كأنه صبر نفسه على هذا الكذب، وقوله: (ليقتطع بها مال امرئ مسلم) يقطع المال أي: يأخذه بغير حق. (لقي الله وهو عليه غضبان) . وذكر الأشعث بن قيس أنه تخاصم هو ورجل من كندة في أرض في حضرموت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للأشعث: (ألك بينة؟ قال: لا. فقال: فلك يمينه -أي: ليس لك إلا أن يحلف-. فقال: إنه رجل فاجر لا يبالي بالكذب ولا يبالي بالحلف. عند ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: من حلف على يمين صبر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان) ، وفي رواية: (من اقتطع مال امرئ مسلم بيمين هو فيها كاذب لقي الله وهو عليه غضبان) ، وأنزل الله في ذلك قوله سبحانه تعالى في سورة آل عمران: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:77] (يشترون بعهد الله) أي: بميثاقه (ثمناً قليلاً) أي: عرضا ًمن الدنيا. فتوعدهم بخمسة أشياء: الأول: (لا خلاق لهم) أي: لا حظ لهم ولا نصيب عند الله تعالى. الثاني: (ولا يكلمهم الله) يعني كلام رضا. الثالث: (ولا ينظر إليهم) أي: نظر رحمة. الرابع: (ولا يزكيهم) أي: يطهرهم ويتوب عليهم. الخامس: (ولهم عذاب أليم) خاتمة الأمر أنهم مستحقون للعذاب، وهذا يؤكد أن المسلم يبتعد عن الحلف الكاذب، أو عن الحلف المشكوك فيه، سواء حصل له به نفع كوجود مال أو نحوه، أو حصل له دفع شر أو ضرر أو ما أشبه ذلك، حتى لا يتهاون بأسماء الله، وحتى لا يأخذ ما لا يستحقه من مال أخيه المسلم بهذه اليمين الفاجرة التي عظم فيها الله تعالى ولم يحترم هذا الاسم؛ لأنه عظمه وهو كاذب فاجر. وقد ذم الله تعالى الفجور، وجعل الفجار مقابلين للأبرار فقال تعالى: {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار:14] ، وقال تعالى: {إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} [المطففين:7] ، فمن الفجور الفجور في الحلف، أي: أن يحلف وهو فاجر، ويدخل في ذلك أيضاً أن يحلف كاذباً عند البيع، وقد ورد أيضاً ذم الذي لا يبيع ولا يشتري إلا بيمينه، أو الذي عرض سلعة بعد العصر فحلف أنه أعطي فيها كذا وكذا وهو كاذب، فجعله النبي صلى الله عليه وسلم مع المعذبين الذين يستحقون العذاب، وما ذاك إلا أنه كذب في حلفه وفجر، ثم مع ذلك ظلم أولئك الذين عرض عليهم تلك السلعة وصدقوه في كذبه وفي حلفه، وأخذ منهم ما لا يستحقه، أي: حلف أن هذه السلعة تساوي مائة وهي لا تساوي إلا ثمانين -مثلاً-، أو حلف أنه باع جلدها بعشرة وهو كاذب، ما باعها إلا بثمانية، أو حلف أنه قد بذل له فيها مائة وهو كاذب، أو ما أشبه ذلك، فيجمع بين الاستهانة بأسماء الله تعالى والكذب وأخذ المال بغير استحقاق، فيدخل فيمن اشترى بآيات الله وبيمينه ثمناً قليلاً؛ لأن المصالح الدنيوية كلها تعتبر ثمناً قليلاً، حتى ولو أثرى، ولو كثر ماله بسبب كثرة الحلف فإن مآله إلى الخسار ومآله إلى الذل، ولو حصل له ما حصل فإن عاقبته أن يعاقبه الله تعالى فيحاسبه على هذا المال الذي اكتسبه بهذه الأيمان الكاذبة.

شرح حديث الأشعث بن قيس: (كان بيني وبين رجل خصومة في بئر، فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)

شرح حديث الأشعث بن قيس: (كان بيني وبين رجل خصومة في بئر، فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن الأشعث بن قيس رضي الله عنه قال: كان بيني وبين رجل خصومة في بئر، فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (شاهداك أو يمينه. قلت: إذاً: يحلف ولا يبالي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان) . وعن ثابت بن الضحاك الأنصاري رضي الله عنه أنه بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف على يمين بملة غير الإسلام كاذباً متعمداً فهو كما قال، ومن قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة، وليس على رجل نذر فيما لا يملك) ، وفي رواية: (ولعنُ المؤمن كقتله) ، وفي رواية: (من ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها لم يزده الله إلا قلة) ] . هذه الأحاديث تتعلق بالأيمان والنذور، فحديث الأشعث فيه هذه القصة والقضية التي حدثت، ومضمونها أنه كان له بئر في حضرموت، فاعتدى عليها حضرمي ومد يده إليها واستولى عليها، فتخاصما عند النبي صلى الله عليه وسلم، الأشعث يدعي أنها ملكه، والحضرمي يدعي أنها في يده وأنه يتصرف فيها، فـ الأشعث هو الخارج والحضرمي هو الداخل، وهو الذي بيده الأرض والبئر، والقاعدة أن على الداخل اليمين وعلى الخارج البينة، فطلب النبي صلى الله عليه وسلم من الأشعث بينة، والبينة شاهدان يشهدان بأن البئر له ولأبيه من قبله، فلم يكن عنده بينة، فلم يكن إلا أن رد النبي صلى الله عليه وسلم على الحضرمي وطلب منه الحلف، فاتهمه الأشعث بأنه لا يبالي، وأنه لا يخاف من مغبة الحلف، وسوف يحلف ويقتطعها ويتملكها. ولكن قبل أن يحلف وعظهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر عاقبة هذا الحلف الكاذب، فذكر أن الذي يحلف على يمين -أي: يحلف؛ لأن الحلف يُسمى يميناً؛ لأنهم كانوا عند التحالف يتقابضون بالأيمان، فلذلك سمي القسم يميناً- هو فيها فاجر، والحالف بالله معظم له وهو مع ذلك كاذب وفاجر في يمينه، وليس له قصد إلا أن يقتطع مال امرئ مسلم بغير حق فإنه يلقى الله تعالى وهو عليه غضبان، ويكتب الله له به غضبه حيث تهاون أولاً باسم الله، وثانياً استعمل الكذب، وثالثاً استحل المال الحرام بغير حق، وذكر أن الله تعالى أنزل في ذلك آية في كتابه في سورة آل عمران: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:77] . وسبب ذلك أنهم اشتروا بآيات الله وبعهده وبأيمانهم ثمناً قليلاً، والثمن القليل هو عرض الدنيا، فإن الدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر، أي: شيء عارض معترض من عرض الدنيا، فمن حلف يميناً كاذباً وأخذ من الدنيا شيئاً فانياً قليلاً مضمحلاً فقد بذل في ذلك دينه ويمينه وتعظيم ربه وصدقه، كل ذلك بذله، فكان في ذلك خاسراً حيث استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.

النذر وأحكامه

النذر وأحكامه أما الحديث الذي بعده فالشاهد منه مثل ما في هذا الحديث، وأن من حلف على يمين ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان، وأوجب الله له بيمينه العذاب، وفي بعض الروايات أنهم قالوا: (وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟! قال: وإن كان قضيباً من أراك) يعني: وإن كان الذي أخذه عوداً من الأراك. يعني: سواكاً. وماذا يفعل وماذا يستفيد من اقتطع سواكاً بيمين هو فيها كاذب؟! إنه يستحق غضب الله تعالى، ويستحق عقوبته، ويستحق العذاب الوبيل الذي ذكره الله تعالى ورتبه في هذه الآية. كذلك في هذا الحديث أيضاً الأمر بالوفاء بالنذور، والنذر: هو أن يلزم الإنسان نفسه شيئاً لم يلزمه شرعاً. أي: يلزم به نفسه وهو غير لازم، فيلزمه الوفاء به، إلا إذا كان النذر في شيء لا يملكه، وفي هذا الحديث يقول: (لا نذر لابن آدم فيما لا يملك) يعني: لا يجوز له أن ينذر شيئاً وهو لا يملكه، ولكن إذا نذره فإن عليه كفارة اليمين. وعرفنا أن النذر هو إلزام الإنسان نفسه ما ليس واجباً عليه شرعاً تعظيما ًللمنذور له، فيقصد بذلك أن يعظم من نذر له، فإن كان نذراً لله تعالى فإنه تعظيم لله، وإن كان نذراً لمخلوق فإنه تعظيم لذلك المخلوق حياً أو ميتاً، وهو عبادة من العبادات وقربة من القربات. وقلنا: إن النذر عبادة لأن الناذر يعظم من نذر له، ولأجل ذلك مدح الله بالوفاء به، قال تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان:7] أي: إذا نذروا أوفوا. وقال تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [البقرة:270] والمعنى: إن الله تعالى عالم بهذه النذور، وسوف يجازي عليها إن كانت نذر طاعة أو نذر معصية. وأمر الله بالوفاء بها في قوله تعالى: {ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج:29] . وكذلك حكى الله تعالى النذر عن الأمم السابقة، فحكى عن أم مريم أنها قالت: {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي} [آل عمران:35] ، وعن مريم أنه قال لها ابنها: {فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنْ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً} [مريم:26] ، فدل على أن النذر مشهور في الأمم قبلنا. وصفة النذر بما لا يملك ابن آدم كأن يقول: لله علي أن أعتق عبد فلان. أو أسبل بيت فلان. فهذا لا تملكه، وكيف تسبل بيته وأنت لا تملكه؟ لأن هذا مما يمتنع عليك، وكذلك يمتنع عليك أن تعتق عبده، فلا تتصرف إلا فيما تملك، وهكذا لو قلت: نذرت أن أضحي بشاة فلان فأنت لا تملكها، والوقف والعتق والأضحية كلها عبادات، ولكن كونك تتصرف فيما لا تملك فهذا لا تقدر عليه. أما إذا كان الإنسان نذر بشيء وهو يملكه فإنه يلزمه الوفاء به، فإذا قال: لله علي أن أعتق عبدي. أو: أن أوقف بيتي. أو: أن أضحي بهذا الكبش -الذي يملكه-. أو: أن أتصدق بهذا الكيس -الذي يملكه- فمثل هذا عبادة يملكها، فيلزمه أن يوفي بهذا النذر؛ لأنه طاعة وقربة، فالصدقات والقربات وما أشبهها من العبادات كلها قربات يتقرب بها إلى الله تعالى. فعلى الناذر أن يوفي بما نذر به.

حكم نذر المعصية

حكم نذر المعصية إذا كان نذر معصية ففيه كفارة، ولا يجوز الوفاء به، سواء أكانت المعصية من الذنوب أم من الشرك، فإذا قال -مثلاً-: إن شفى الله مريضي فعلي أن أشرب خمراً أو أن أزني بكذا فهذا حرام عليه الوفاء به، وعليه كفارة يمين؛ لحديث: (لا نذر في معصية الله، وكفارته كفارة يمين) ، وكذلك إذا كان من الشرك، كالنذور التي يفعلها القبوريون، كأن يقول أحدهم: إن ربحت تجارتي. أو: إن قدم غائبي. أو: إن شفي ولدي فعلي أن أذبح شاة عند قبر السيد فلان. السيد البدوي -مثلاً- أو الحسين أو علي أو نحوهم. والذبح لغير الله شرك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله من ذبح لغير الله) ، فمن نذر به فلا يجوز الوفاء بهذا النذر. وهكذا لو نذر أن يسرج قبراً؛ لأن إسراج القبور أيضاً شرك ومنهي عنه. وهكذا لو نذر وقال: نذرت إن شفيت أو إن ربحت أن أهريق على ذلك القبر زيتاً أو دهناً. أو: أن أطعم من يسدن هذا القبر ويخدمه أو يصلي عنده. أو: أن أبني عليه قبة أو نحو ذلك، فإن هذا من الشرك، ولا يجوز الوفاء به. فالحاصل أن النذر في قوله: (لا نذر لابن آدم فيما لا يملك) هو أن ينذر التصرف في شيء لا يملكه، فلا يصح، ويكون عليه كفارة، وكذا لا يجوز الوفاء بالنذر إذا كان في معصية أو في شرك، وفيه كفارة.

وجوب الوفاء بالنذر إذا كان في طاعة

وجوب الوفاء بالنذر إذا كان في طاعة ويلزم الوفاء به إذا كان في طاعة وعبادة، كأن يقول: إن شفى الله مريضي فلله علي أن أصوم شهراً، أو عشراً، أو: أن أتصدق بمائة، أو بألف. أو: أن أقوم هذا الليلة تهجداً. أو: أن أختم في هذا الشهر ثلاث ختمات، فهذه عبادات وقربات، فيلزم الوفاء بها، وأما إذا كان النذر ليس عبادة وليس معصية وإنما هو عادة من العادات فهو مخير، إلا أن يكون فيه إسراف فإنه يكره الوفاء به وعليه الكفارة، فإذا قال: إن ربحت أو إن شفيت أو إن نجحت فعلي أن أشتري -مثلاً- ثوباً بمائتين أو بخمسمائة. فلباس الثوب عادة ليس عبادة، أو قال -مثلاً-: عليّ أن أطعم زملائي وأصدقائي طعام كذا وكذا. فهذا أيضاً من العادات ليس من العبادات، وهكذا إذا نذر أن: إذا شفيت أن لا آكل إلا كذا وكذا من الطعام، أو كذا من اللحم، أو أن لا آكل الطعام إلا بلحم سمك، أو بلحم طير أو نحو ذلك، فهذا أيضاً من العادات وليس من العبادات، فيخير بين الوفاء به وبين الكفارة، فإن كان عليه مشقة أو أنه يكلف نفسه ويحمله على الاستدانة، أو فيه إسراف كما لو حلف -مثلاً- أن يذبح عشرين جملاً لأهل هذا البلد أو مائة شاة مع أنه لا يجد من يأكلها وستذهب فساداً فإذا نذر أن يذبح ذلك فمثل هذا إسراف يكفر عن نذره ولا يذبحها، أو يقتصر على ذبح بعضها الذي يستفاد منه.

حكم اللعن

حكم اللعن في حديث ثابت بن الضحاك جمل استطرادية، منها قوله صلى الله عليه وسلم: (لعن المؤمن كقتله) ، وهذا وعيد شديد على اللعن، وذلك لأن اللعن دعاء بالإبعاد من رحمة الله، وقد وردت أدلة كثيرة في النهي عن اللعن، وعن التلاعن الذي هو الدعاء به، فقال صلى الله عليه وسلم: (ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء) يعني: لا تكون هذا الصفات من صفات المؤمن. وورد في حديث آخر: (إن اللعانين لا يكونون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة) ، وورد في حديث أن اللاعن إذا لعن ترفع اللعنة إلى السماء فتغلق دونها أبواب السماء، فتهبط إلى الأرض فتغلق دونها أبواب الأرض، فتذهب يميناً وشمالاً فلا تجد مساغاً، فتذهب إلى الذي لُعن، فإن كان مستحقاً لها وإلا رجعت إلى قائلها، فيصير اللاعن كأنه لعن نفسه. كذلك يجب على المسلم أن لا يلعن من لا يستحق، أما لعن المستحق فقد ورد في القرآن في أدلة كثيرة، كقوله تعالى: {فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران:61] ، وقوله: {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18] ، وقوله: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [ص:78] ، ونحو ذلك، وكذلك الأحاديث الكثيرة، كقوله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله المحلِل والمحلَل له) ، وقوله: (لعن الله آكل الربا وموكله) ، وقوله: (لعن الله الراشي والمرتشي) ، وما أشبه ذلك. والإنسان قد يستعمل اللعن ويسهل عليه فيقع في هذا الوعيد: (لعن المؤمن كقتله) .

حكم قتل النفس

حكم قتل النفس وفي هذا الحديث أيضاً جملة أخرى استطرادية أيضاً؛ لأنه حديث جامع، وهي قوله: (من قتل نفسه بشيء عذب به) وقتل النفس هو الذي يُسمى الانتحار، وقد وردت أدلة في تعذيب من قتل نفسه، منها الحديث الذي في صحيح مسلم، قال صلى الله عليه وسلم: (من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في نار جهنم خالداً مخلدا ًفيها أبداً) (وجأ نفسه) أي: طعن نفسه حتى قتلها. وكذلك قوله: (من تحسى سماً -يعني: التهمه- فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تردى من شاهق -يعني: من جبل- فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً) وذلك بلا شك تهديد ووعيد؛ لأن الإنسان لا يملك نفسه؛ فنفسه ملك لربه سبحانه، فلا يجوز أن يتساهل في أن يقتل نفسه بسبب من الأسباب. والشاهد من الحديث ذكر اليمين، وذكر النذر كما ذكرنا، والله أعلم.

شرح عمدة الأحكام [72]

شرح عمدة الأحكام [72] النذر أنواع، منها ما يجب الوفاء به، ومنها ما يحرم الوفاء به وفيه الكفارة، وهو في الجملة مكروه، وإنما يستخرج به من مال البخيل، وفي النذر أحكام كثيرة بينها أهل العلم رحمهم الله.

شرح حديث: (فأوف بنذرك)

شرح حديث: (فأوف بنذرك) قال المؤلف رحمه الله: [باب النذر. عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قلت: (يا رسول الله! إني كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة -وفي رواية: يوماً في المسجد الحرام- فقال: فأوف بنذرك) . وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه نهى عن النذر، وقال: إن النذر لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل) ] . هذه الأحاديث تتعلق بالنذر، وهو إلزام المكلف نفسه ما لم يجب عليه شرعاً، وتارة يكون بلفظ النذر، كأن يقول: نذرت كذا وكذا. وتارة يقول: لله علي نذر أن أفعل كذا وكذا. وأحياناً لا يذكر كلمة النذر، ولكن يقول: علي أن أفعل كذا وكذا. أو ألزم نفسي بأن علي كذا، أو ما أشبه ذلك. وقد يكون معلقاً بشرط في المستقبل، كأن يقول -مثلاً-: إن رزقني الله ولداًَ ذكراً فعلي أن أحج ماشياً -مثلاً-، أو أن أتصدق بألف. وكذلك لو قال: إن شفى الله مريضي فعلي أن أتصدق بكذا، أو أصلي لله كذا وكذا، أو أصوم كذا وكذا. والآن عندنا مثال لذلك، وهو حديث عمر قال: (إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام. فقال: أوف بنذرك) ، والظاهر أن عمر نذر نذراً مطلقاً بأن قال: عليّ أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام. ويمكن أنه نذر نذراً معلقاً بقوله: إن نصر الله نبيه فعلي. أو: إن فتح الله علينا مكة فعلي أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام أو يوماً في المسجد الحرام. فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالوفاء، وذلك لأنه نذر طاعة، فالاعتكاف طاعة وعبادة فيوفي به من نذره، ودليل وجوب الوفاء بالنذر إذا كان طاعة قوله صلى الله عليه وسلم: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه) ، وفي حديث آخر قال عليه السلام: (لا نذر في معصية الله، وكفارته كفارة يمين) ، فنذر الطاعة مثل نذر الاعتكاف، إذا نذر أن يعتكف يوماً سواءً نذراً مطلقاً كأن يقول: لله علي أن أعتكف في هذا المسجد يوماً، أو لله علي أن أعتكف في المسجد الحرام، أو في المسجد النبوي، أو في المسجد الأقصى يوماً. أو: كان نذراً معلقاً كأن يقول: إن قدم غائبي. إن شفي مريضي. إن ربحت تجارتي. إن نجح ابني أو نحو ذلك فلله عليّ أن أعتكف في المسجد الحرام أو في هذا المسجد أو نحو ذلك. فيلزمه الوفاء إذا تحقق الشرط، فإذا وجد ما شرطه من الربح أو الشفاء أو القدوم أو ما أشبهه فيلزمه الوفاء به لهذا الحديث: (من نذر أن يطيع الله فليطعه) ، ولقوله لـ عمر: (أوف بنذرك) .

خلاف العلماء في الوفاء بنذر الاعتكاف

خلاف العلماء في الوفاء بنذر الاعتكاف إذا كان النذر اعتكافاً فقد اختلف فيه هل يجب الوفاء به أو لا؟ فالجمهور على أنه واجب، والحنفية قالوا: لا يجب وإنما يستحب. وذلك لأنهم لا يوجبون إلا ما جنسه واجب بأصل الشرع، وليس من الاعتكاف شيء واجب في أصل الشرع، هكذا عللوا، ويقولون: إذا نذر أن يصوم فيلزمه؛ لأن هناك صياماً واجباً كرمضان، وإذا نذر أن يصلي صلاة ركعتين أو أربعاً أو نحو ذلك فإن عليه أن يوفي به؛ لأن هناك صلاة واجبة كالصلوات الخمس، وإذا نذر حجاً أو عمرة فإن عليه الوفاء به، وذلك لأن هناك حجاً وعمرة واجبة، وكذلك لو نذر صدقة أو نفقة في سبيل الله أو أي عمل صالح فإنه يوفي به، وذلك لأن هذا جنسه واجب بأصل الشرع، وأما جمهور الأمة والأئمة فإنهم يرون وجوب الوفاء بالاعتكاف لهذا الحديث: (أوف بنذرك) .

حكم نذر المعصية

حكم نذر المعصية إذا كان النذر نذر معصية كفّر وترك الوفاء، ففي حديث ثابت بن الضحاك قال: نذر رجل أن ينحر إبلاً ببوانة، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (هل فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا. قال: هل فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا. قال: أوف بنذرك؛ فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم) ، فإذا كان النذر نذر معصية لم يجز الوفاء به وكان عليه الكفارة؛ لحديث: (لا نذر في معصية الله، وكفارته كفارة يمين) ، فإذا قال مثلاً: إن نجاني الله من هذا العدو فعلي أو فإني ألزم نفسي مثلاً أن أشرب خمراً. أو: أن أزني بفلانة مثلاً. أو: أن أسرق أو أنتهب. أو: أقتل فلاناً المسلم. فهذا نذر معصية يحرم عليه الوفاء به، ويكفر كفارة يمين. ومثله النذور التي يفعلها القبوريون، فكثيراً ما يقول أحدهم: إذا شفي مريضي فعلي للسيد الفاني صاحب القبر الفلاني أن أسرج قبرة ليلة أو ليالي. أو: أن أهريق على قبره سمناً. أو: أن أذبح عند قبره شاة أو بقرة. أو: أن أعتكف عند قبره ليلة أو ليالي. أوك أن أصلي عند القبر الفلاني كذا وكذا صلاة. ولا شك أن هذا كله نذر معصية يحرم الوفاء به، فنذر المعصية لا يجوز الوفاء به وأما نذر الطاعة فإنه يجب الوفاء به إذا قال: أن أصلي لله. أو: أن أنفق في سبيل الله أو ما أشبه ذلك.

شرح حديث: (إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل

شرح حديث: (إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل قوله صلى الله عليه وسلم في النذر: (إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل) يراد بهذا نذر النفقة بالمال أو نحوه، فالبخيل لا يخرج المال إلا إذا نذره وألزم به نفسه، وقد يعتقد أن النذر يؤثر في الأمور المستقبلة، وهذا خطأ، فالنذر لا يغير شيئاً من الأمور المستقبلة المقدرة، فالذي يعتقد أنه يؤثر فاعتقاده خاطئ، ونذكر لذلك أمثلة حتى يتضح المراد، فالذي يعتقد أن الله لا يشفي مريضة إلا إذا نذر أن يتصدق بألف فيقول: إن شفى الله مريضي فلله علي أن أتصدق بألف هل النذر سبب شفاء المريض؟ الله تعالى قدر له الشفاء، سواء نذرت أو لم تنذر، وكذلك إذا قال: إن ربحت تجارتي فلله علي أن أتصدق بألف. كأنه بخيل، ما ينوي أن يتصدق إلا إذا أربح الله تجارته، فتجارتك قد قدر الله لها ما قدر، إما خسراناً وإما ربحاً، ليس خسرانها بسبب عدم النذر، وليس ربحها بسبب النذر، فالنذر لا يغير شيئاً من قدر الله. وكذلك لو قال -مثلاً-: إن قدم ولدي سالماً من هذا الغزو -مثلاً- أو من هذا السفر الذي فيه خطر فلله علي أن أتصدق بألف أو نحو ذلك، أو أن أنحر شاة، أو عشرين شاة. فهل نذرك بهذه الصدقة أو بهذه الذبائح هو الذي سبب أن ولدك يقدم سالماً؟ فالله قد قدر لك ما قدره، قدر أنه يقدم أو لا يقدم، وكتب ذلك، فليس النذر هو الذي سبب لك هذا، فالنذر لا يغير من قدر الله شيئاً، النذر لا يأتي بخير، وهذا بخيل لا يتصدق إلا بعد أن تحقق له نذره، لا يتصدق إلا إذا نجح ولده، ولا يتصدق إلا إذا شفي مريضه، ولا يتصدق إلا إذا قدم غائبه، أو إذا ربحت تجارته أو ما أشبه ذلك، فعرف بذلك أن النذر لا يغير شيئاً من أمر الله ولا من قضاء الله وقدره، وإنما يستخرج به من البخيل. والواجب عليك أن تتصدق إذا كنت عازماً، سواء نجحت أو لم تنجح، سواء ربحت أو لم تربح، أن تعزم على الصدقات سواء شفي مريضك أو لم يشف، تعزم على الصدقة وكذلك على غير الصدقة إذا كان النذر عملاً صالحاً كصيام مثلاً، فنقول: ما يخطر لك الصيام إلا إذا نجحت مثلاً أو إذا ربحت؟! عليك أن تتقرب إلى الله بالصيام، وما تخطر لك الصلاة أو الحج أو العمرة إلا إذا حصل لك مقصودك هذا؟! هذا لا ينبغي، عليك أن تأتي بالقربات وبالأعمال الصالحة سواء حصل لك مقصدك ومطلبك أو لم يحصل، عليك أن تتقرب بالصدقات، وأن تتقرب بالحج والعمرة، وأن تتقرب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد وما أشبه ذلك، وأن تتقرب بالصلوات وما أشبهها، سواء حصل لك مقصودك أو لم يحصل، سواء ربحت أو لم تربح، سواء نجحت أو لم تنجح، سواء قدم غائبك أو لم يقدم، شفي أو لم يشف، عليك أن تشكر الله وأن تتقرب إليه بهذه العبادات، فإن ذلك هو شأن المؤمن التقي الذي يعبد الله على كل حال، في عسره وفي يسره، وفي رخائه وفي شدته، وهذه هي حقيقة العبودية لله تعالى.

شرح حديث: (لتمش ولتركب)

شرح حديث: (لتمش ولتركب) قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله الحرام حافية، فأمرتني أن أستفتي لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستفتيته فقال: (لتمش ولتركب) . عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: استفتى سعد بن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم في نذر كان على أمه توفيت قبل أن تقضيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فاقضه عنها) . وعن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله! إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك) ] . هذه الأحاديث تتعلق بالنذور، والنذر هو إلزام الإنسان المكلف نفسه ما لا يلزمه شرعاً، سواء من العبادات أو من العادات أو من المحرمات، فمثال العادات أن يقول: لله علي أن أصوم شهراً، أو أتصدق بمائة. ومثال العادات أن يقول: لله علي أن أشتري ثوباً جديداً. أو: أن لا ألبس خلقاً. أو: أن أسكن داراً فارهة. أو نحو ذلك، ومثال المحرمات كأن يقول: لله عليه أن أشرب خمراً. أو: أن أقتل مسلماً. أو نحو ذلك. فمن نذر طاعة فعليه الوفاء؛ لقول الله تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج:29] ، ومن نذر معصية فعليه الكفارة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا نذر في معصية الله، وكفارته كفارة يمين) ، ومن نذر مباحاً فله الخيار إن شاء وفى به وإن شاء كفّر.

حكم من نذر نذرا فيه مشقة عليه

حكم من نذر نذراً فيه مشقة عليه من نذر نذراً فيه مشقة وليس فيه طاعة فعليه كفارة، ودليله حديث أبي إسرائيل الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم قائماً في الشمس، فسأل فقالوا: إنه نذر أن يقوم ولا يجلس، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم، ولما كان هذا ليس فيه عبادة إلا الصوم قال: (مروه أن يجلس ويستظل ويتكلم ويتم صومه) ، فالصوم عبادة فأمره أن يتمه، وأما تعذيب نفسه بالوقوف قائماً أو عدم الاستظلال أو بترك الكلام فهذا ليس فيه طاعة، فنهاه أن يفي به، والصحيح أن عليه الكفارة، لقوله في الحديث: (لا نذر في معصية الله، وكفارته كفارة يمين) . وكذلك أخت عقبة نذرت أن تحج ماشية، وفي بعض الروايات حافية، أن تحج من المدينة إلى مكة على قدميها ولا تلبس نعلاً، ولا شك أن في هذا تعذيباً للنفس لكونها تسير هذه المدة الطويلة دون أن تركب ودون أن تنتعل فتعذب نفسها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (لتمش ولتركب) ، لكن معلوم أن المشي للطاعة عبادة، ولذلك قال تعالى: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس:12] فالمشي إلى المساجد عبادة، والمشي إلى أماكن الطاعات عبادة، والمشي في الجهاد عبادة، وورد أن بعضاً من الغزاة في عهد الصحابة كانوا سائرين في خراسان متوجهين إلى بعض البلاد الأفغانية غزاة، فحدث بعض الصحابة بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من اغبرت قدماه في سبيل الله لم تمسه النار) ، فلما سمعوا بذلك نزلوا عن رواحلهم، وصاروا يمشون في تلك الأرض التي فيها غبار حتى يغبروا أقدامهم لكونهم غزاة في سبيل الله، وامتثلوا هذا الأمر، فأفاد بأن المشي طاعة وعبادة، لكن إذا كان فيه تعذيب للنفس فالله تعالى رحيم بعباده، وليس لأحد أن يكلف نفسه فوق طاقتها، وأن يشق عليها بعبادة يعجز عنها، ولذلك لو نذر عبادة فيها مشقة أمر بأن يفعل منها قدر ما يستطيع، أو أن يكفر إذا لم يقصد العبادة وإنما قصد الامتناع، وكثير من الناس في هذه الأزمنة ينذر أحدهم صيام شهر، ولكنه نذر معلق، ويقصد بذلك منع نفسه، أو ينذر صيام سنة، أو ينذر نحر جزور، أو نحر عشر من الإبل، ولكن لم يقصد الطاعة، وإنما قصد منع نفسه، مثل إنسان مبتلى بشرب الدخان فعاهد الله وقال: لله علي إن عدت أشربه أن أصوم سنة. ما قصد العبادة، ومع ذلك لم يصبر ورجع إليه -والعياذ بالله-، فهل يصوم سنة؟ لا شك أن في ذلك مشقة، مع أنه ورد النهي عن صوم الدهر، فمثل هذا يكفر كفارة يمين؛ لأنه ما قصد إلا منع نفسه من هذا الدخان أو نحوه، وكذلك من نذر نذراً ليس فيه طاعة أو فيه بعض من طاعة وبعض من معصية فيفعل ما يستطيعه، فنذر أخت عقبة فيه طاعة وهو المشي، وفيه مشقة وهو عدم الانتعال، وفيه أيضاً مشقة وهو تعذيب النفس لطول المسير في عشرة أيام، وربما كانوا يسيرون في اليوم ثنتي عشرة ساعة متواصلة، فكان في ذلك تعذيب للنفس، فلذلك قال في بعض الروايات: (إن الله لا يصنع بتعذيب أختك نفسها شيئاً، مرها فلتمش ولتركب) يعني: تمشي بقدر نشاطها ثم تركب إذا تعبت وعجزت {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:286] .

شرح حديث: (فاقضه عنها)

شرح حديث: (فاقضه عنها) حديث سعد ذكر فيه أن أمه ماتت وعليها نذر صيام شهر، فأمره أن يصوم عنها، وثبت أيضاً في حديث آخر أن امرأة قالت: (يا رسول الله! إن أمي ركبت البحر فنذرت إن نجاها الله أن تصوم شهراً، ثم إنها ماتت ولم تصم. فقال صلى الله عليه وسلم: أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؛ اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء) ، فأمرها بأن تصوم عنها وتقضي عنها، فمن مات وعليه صيام نذر فإنه يصام عنه، وقد تقدم في كتاب الصيام قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) ، وحمله بعض العلماء على صيام النذر؛ لأنه الذي ورد في حديث تلك المرأة الخثعمية، وقال بعضهم: إنه عام في صيام الفرض وفي صيام النذر، فصيام النذر دليله حديث سعد بن عبادة هذا، ماتت أمه وهو حي، وذكر أن عليها صيام نذر، وأنها لم تقضه، وكذلك حديث الخثعمية ماتت أمها وعليها صيام شهر نذرته، فأمرها أن تقضيه، فأفاد بأن صيام النذر يقضى عن الميت، وشبهه النبي صلى الله عليه وسلم بالدين الذي في ذمة الميت يقضيه ورثته، ولو لم يخلف مالاً يتبرعون بقضاء دين والدهم أو والدتهم، وكذلك الصيام، إن تبرع أحد أن يصومه فإنه يجزيه، ولكن إذا تعذر ذلك أو لم يكن هناك ورثة يستعدون للصيام عن ميتهم فلابد من الإطعام عن كل يوم مسكيناً نصف صاع من البر أو نحوه، ويجوز أن يقضيه أكثر من واحد، فيجوز إذا كان له -مثلاً- أربعة أولاد وعليه صيام عشرين يوماً أن يصوم كل منهم خمسة أيام، ويجزئ ذلك عنه، ويجزئ أيضاً أن يصوم الأبعد مع وجود الأقرب، مثلاً: تصوم عنه أخته مع وجود بنته أو ابنه، وتصوم عنه خالته مع وجود أمه مثلاً، فيصوم عنه البعيد ولو كان هناك من هو أقرب منه، ما دام أنه تبرع بالصيام عن متوفى، فهذا في الصوم عمن مات وعليه صيام نذر، وأما إذا كان النذر غير صيام كنذر الصلاة فلم يأت دليل على أنه يصلي عنه، لكن إن نذر اعتكافاً أو حجاً أو طوافاً فقال: لله علي أن أحج حجتين. أو: أن أعتمر عمرة أو عمرتين ولم يقدر أن يفعل ذلك حتى مات فإن ورثته يقضون عنه أو يوكلون من يحج أو يعتمر أو يطوف عنه ولو بأجرة، وكذلك الاعتكاف يعتكف عنه أحد ورثته، وكذلك الصدقة يتصدقون عنه من ماله، فإذا نذر أن يتصدق بمائة فلم يفعل فإنها تكون ديناً في ذمته تقضى من تركته، فإن لم يكن له تركة قضاها أحد ورثته أو أحد أقاربه، وكذا لو تبرع عنه أجنبي.

شرح حديث كعب: (أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك)

شرح حديث كعب: (أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك) قصة كعب بن مالك قيل: إنها نذر. وقيل: إنها ليست بنذر وإنما هي توبة. وهو خبر أخبر به عن نفسه، وذلك لأنه لما تاب الله عليه بعد تخلفه عن غزوة تبوك ونزل قول الله تعالى: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة:118] إلى قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119] التزم بقوله: إن الله إنما أنجاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدث إلا بحديث صدق. فالتزم بذلك وقال: ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإني لأرجو أن يحفظني الله في بقية حياتي. ثم أراد أن ينخلع من ماله ويجعله كله صدقة رجاء أن تقبل توبته، فقال: (إن من توبتي أن أنخلع من مالي كله صدقة إلى الله ورسوله) وجعل هذا توبة، فبعض العلماء يقول: إن هذا نذر، نذر أن يتصدق بكل ماله. وبعضهم يقول: هذا ليس بنذر، وإنما هو التزام أو عهد أو توبة أو نحو ذلك، فلا يكون نذراً حتى يوفي بالنذر. وإذا قلنا: إنه نذر فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن في الوفاء به شيء من المشقة، بقوله: (أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك) قال: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر. وكأنه كان له أملاك في المدينة فتصدق بها، تصدق بملكه الذي في المدينة من أرض ونحوها، وأمسك أرضاً له في خيبر جاءته لما قسمت أرض خيبر، فجعل هذا توبة له. وفي بعض الروايات أنه قال: (يكفيك الثلث) ، فاستدلوا به على أن من نذر أن يتصدق بجميع ماله اكتفى بالثلث؛ فإن سعد بن أبي وقاص لما مرض في حجة الوداع قال: (يا رسول الله! إنه لا يرثني إلا ابنة، وإني ذو مال، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا. قال: فالشطر؟ قال: لا. قال: فالثلث؟ قال: الثلث والثلث كثير) التزم أن يتصدق بثلثيه فاكتفى بثلثه، فأفاد أنه يكفيه الثلث إن كان نذراً على ما في هذا الحديث.

شرح عمدة الأحكام [73]

شرح عمدة الأحكام [73] ما قامت السماوات والأرض إلا بالعدل، ولا يستقيم حال الناس إلا بالعدل، فهم في حاجة إلى قضاة يعدلون بينهم، ويفصلون في منازعاتهم، وفي القضاء أحكام وقواعد وآداب لا بد للقاضي أن يلتزمها في حكمه بين الناس.

القضاء

القضاء قال المصنف رحمه الله: [باب القضاء: عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) وفي لفظ: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) . وعن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: (يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني إلا ما أخذت من ماله بغير علمه، فهل علي في ذلك من جناح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك) ] .

أهمية القضاء بين الناس

أهمية القضاء بين الناس بعدما أورد المؤلف الأحاديث التي تتعلق بالحدود والعقوبات والمعاصي والأيمان والنذور ذكر باب القضاء، وهو الحكم بين الناس فيما يختلفون فيه؛ وذلك لأنه من ضروريات الحياة، فالواقع أن الناس يحصل من بعضهم اعتداء وظلم وأخذ لغير ما يستحقه، وادعاءات منها ما هو حق ومنها ما هو باطل، فكان لابد أن يكون هناك من يفصل بينهم، ويحسم النزاع الذي يوجد فيما بينهم، ويكون هذا الذي يفصله هو القاضي الذي يحكم بين الناس، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يتولى القضاء في حياته، عندما يختلف اثنان ويتنازعان يترافعان إليه، فيقضي بينهما، ويخبر بمن عليه الحق، ويأمره بأداء الحق الذي عليه، وهكذا الخلفاء بعده، وكان قد أرسل عليه الصلاة والسلام إلى بعض الجهات من يقضي بين الناس، فأرسل معاذاً إلى اليمن، وأمره أن يقضي بين الناس، وأرسل علياً أيضاً إلى جهة أخرى من اليمن، وأمره أن يقضي بينهم فيما يختلفون فيه، وعلمه شيئاً مما يقضي به، فثبت عنه أنه قال: (إذا سمعت كلام الخصم فلا تقضي حتى تسمع كلام الآخر، فإنك تعرف كيف تقضي) ، قال علي: فما زلت قاضياً، وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأقضاكم علي، وأفرضكم زيد) إلخ الحديث، فجعل علياً ممن له معرفة بالقضاء، وجرت له مسائل قضى فيها بين الناس، ووافقه عليها أهل زمانه. القضاء في الأصل هو الفصل فيما يختلف فيه الناس، قال الله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص:26] والحكم بين الناس هو القضاء بينهم بالحق الذي أنزله الله. ويقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء:58] أي: إذا قضيتم بينهم فالتمسوا الحق والعدل، فهذا هو المراد بالقضاء، وقد اشترطوا للقضاء شروطاً، واشترطوا في القاضي صفات لابد أن تتوافر فيه، وهي مذكورة في كتب الأحكام وكتب الفقه، لابد أن تتوافر تلك الشروط فيه حتى يتمكن من القضاء، وإذا تخلفت أو تخلف بعضها اختلت أهليته للقضاء. وعلى كل حال الأحاديث التي فيها تعليم القضاء ليس فيها شيء متفق عليه بين البخاري ومسلم، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (البينة على المدعي، واليمين على من أنكر) ، ومثل قوله: (كيف تقضي؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي) ، وهو حديث معاذ، وغيرها من الأحاديث التي لم تثبت على شرط الشيخين، فلذلك لم يذكرها المؤلف صاحب العمدة.

يجب على القاضي تحري السنة

يجب على القاضي تحري السنة في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) ، وفي رواية لـ مسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) . هذا حديث جامع يعتمد في إثبات السنن وفي رد البدع، فيعتمد في أن القاضي عليه أن يتحرى السنة، وعليه أن يعمل بها، وعليه أن يعمل بما ورد منها، وأن يتجنب القضاء الذي يتبع فيه الهوى، ويتجنب أن يحكم بين الناس برأيه، ويتجنب أن يجور في الحكم، وأن يظلم هذا لهذا، فإن هذا كله خلاف ما أمر الله به، وخلاف ما عليه أمر الله وأمر رسوله، ولا شك أن هذا الحديث جاء في بيان الشريعة، وهو أن شريعة الله سبحانه قد بلغها النبي صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بالأحكام، وفيما يتعلق بالآداب وبالحلال والحرام، وبالسنن وبالواجبات وما أشبهها. هذا الحديث (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد) فيه إثبات السنن ورد البدع، وأن كل من عمل عملاً مضافاً إلى الشريعة لا أصل له بالدين فإنه مردود، سواء كان تغييراً في العبادة، أو بزيادة فيها، أو شرعية عبادة أخرى، ويدخل في ذلك الإضافات التي يضيفها المبتدعة سواء في أذكار أو في أدعية أو ما أشبه ذلك.

اجتهاد القاضي بما لا يخالف الكتاب والسنة

اجتهاد القاضي بما لا يخالف الكتاب والسنة إن القضاء من أمر الله ومن أمر رسوله، وعلى القاضي أن يتقيد بكتاب الله، فإذا جاءه أمر في كتاب الله قضى به، وإذا لم يجد فإنه يتقيد بسنة رسول الله، فإذا لم يجد اجتهد، فإذا قضى مخالفاً لأمر الله فقضاؤه مردود ولو كان من كان، كما لو أمر بمنكر أو نهى عن معروف أو قضى للظالم وظلم بعض الناس، وقضى على هذا بأنه ظالم مع أنه مظلوم، وقضى على هذا بأنه مظلوم مع أنه ظالم، وحكمه يرد إذا ثبت أنه مخالف لعين الصواب، فيقال: هذا مردود؛ لأنه عمل ليس عليه أمر الله ولا أمر رسوله، فاستدلوا بذلك على نقض حكم الحاكم الذي خالف فيه الصواب، ولو كان من كان؛ وذلك لأن الحاكم بشر، وحكمه يصدر عن اجتهاد، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن نفسه بأنه لا يعلم الغيب، وإنما يجتهد بحسب ما يصل إليه إدراكه وفهمه فقال: (إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض؛ فأقضي له بنحو مما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار فليأخذها أو ليدعها) ، يعض بذلك المتخاصمين اللذين اختلفا، هذا يقول: الحق معي، وهذا يقول: الحق معي، فإذا كان أحدهما يعلم أنه كاذب وأنه ظالم فإن حكم الحاكم لا يبرر موقفه، ولا يحل له ما كان حراماً، يقول الله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} [البقرة:188] يعني: إلى القضاة {لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:188] فإذا غلط القاضي وحكم لك بشيء من حق أخيك -ولو شيئاً يسيراً شبراً من الأرض أو درهماً أو جزءاً يسيراً من المال- فلا تأخذه وأنت تعلم أنك كاذب لا تستحقه، والقاضي متى تبين له خطأ نفسه فإن عليه الرجوع، والقضاة الآخرون إذا علموا جور هذا القاضي وعرفوا أنه مخطئ في حكمه؛ لم يجز إبقاؤه على هذا، بل يرد حكمه، فيقال: حكمك مردود ولو كنت من كنت.

شرح حديث: (خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك)

شرح حديث: (خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك) من القضايا التي قضى فيها النبي صلى الله عليه وسلم هذه القصة مع امرأة أبي سفيان، فقد ذكرت له أن أبا سفيان بخيل وشحيح، لا يعطيها كامل حقها من النفقة، فاستأذنت أن تأخذ من ماله -وهو لا يدري- نفقتها ولأولادها، ما يكفيها لإطعامهم ولكسوتهم ولفرشهم وحاجاتهم، فرخص لها النبي صلى الله عليه وسلم في أن تأخذ بالمعروف، يعني: لا تأخذ زيادة على ما تستحقه، وإنما تأخذ الذي تستحقه دون الزيادة، حتى لا يكون عليها جناح فقال: (خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف) ، واختلف العلماء: هل هذا قضاء أو فتيا؛ لأنه لم يحضر الخصم الثاني الذي هو أبو سفيان؟ فالذين قالوا: إنه قضاء قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم عرف صدقها؛ لأنه يعرف أبا سفيان واتصافه بالإمساك وقلة الإنفاق، وكأن ذلك أمر مشهور عنه، فقضى لها وقال: خذي من ماله قدر الكفاية، فجعلوا هذه القضية دعوى ادعتها هند على أبي سفيان فقضى لها، ومعروف أنه واجب عليه نفقتها ونفقة عيالها بحكم الزوجية، فهي زوجته، والمرأة ينفق عليها زوجها، لقول الله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:233] ، فمعلوم أنه يلزمه نفقتها، وإذا كان يلزمه، وقد عرف بالبخل؛ فقد حكم لها بأن تأخذ حقها، هكذا قال الذين ادعوا أنه حكم وقضية. وقال آخرون: ليس هو حكم، وإنما هو فتيا؛ وذلك لأنه في غيبة أبي سفيان، وهو عليه الصلاة والسلام قال: (إذا سمعت كلام خصم فلا تقضي له حتى تسمع كلام الخصم الثاني) أو كما قال، فنهى القاضي أن يحكم لأحد الخصمين قبل أن يحضر الخصم الثاني، فربما يكون عند الخصم الثاني حجج قوية تبرر موقفه، وتبين عذره، فلا يسمع من أحد خصميه بل يسمع منهما معاً، فقالوا: إنه فتيا، وأيضاً فقد أفتاها بقوله: (إن أعطاك ما يكفيك وإلا فخذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف) فجعل هذا لها كأنه يقول: أفتي بأنه يلزمه النفقة، وأن المرأة لها الحق في أن تأخذ نفقتها من مال زوجها إذا أمسك نفقتها ونفقة ولدها، أي: بما يكفيهم، هذا دليل من يقول: إنها فتيا، وليست حكماً وقضاءً.

وجوب نفقة الزوج على زوجته وأولاده

وجوب نفقة الزوج على زوجته وأولاده من الأبواب التي تذكر في كتب الفقه باب النفقة، ويذكرون أن الزوج يلزمه أن ينفق على زوجته، وأن ينفق على أولاده نفقة تكفيهم، وأنه مطالب بذلك؛ وذلك لأنه إنما يجمع المال ويكتسبه لأجل أن ينفق عليهم، فيطعمهم ويكسوهم، ويعطيهم ما يكفيهم، ويكنهم ويسكنهم، ويقضي لهم الحاجات، فكل ذلك متعلق بوالدهم، والمرأة متعلق حقها بزوجها؛ وذلك لأنه أخذها من أبويها، واستباح نكاحها، وحل له وطؤها، فأصبحت في حوزته، وفي حجره، وتحت إمرته، وتحت تصرفه، لا تقدر أن تتكسب إلا بإذنه، ولا تقدر أن تخرج من بيته إلا بإذنه، فأصبح لها حق عليه، وأصبحت هي تشتغل في بيته وتخدمه وتخدم ولده، وتربي له أولاده، فلابد أن ينفق عليها، وأن يعطيها ما يكفيها مقابل تمكينها له من الاستمتاع بها، ومن قضاء وطره، فلابد أن ينفق عليها، وأن يعطيها حقها، وهذا مجمع عليه. وقد ذكر العلماء أن الناس ثلاثة أقسام: غني ومتوسط وفقير، وأن الغني ينفق على أهله من أفضل النفقة وأعلاها، النفقة المعتادة من البر ومن الأرز مثلاً، وكذلك من الأطعمة المعتادة من اللحوم ومن الفواكه وما أشبه ذلك على عادة أهل بلده، والتوسع في ذلك قد نهي عنه. وأما المتوسط فإنه يقتصد في النفقة، فينفق من أوسط الطعام في البلد، فلا يتكلف شراء الغالي ورفيع الثمن، سواء من الطعام كالبر والأرز، أو من اللحوم، بل يأخذ من الوسط. وأما الفقير فإنه يأخذ من أرخص الأطعمة؛ وذلك لفقره، ولأنه لو أنفق زيادة على ذلك لاحتاج إلى الاستدانة؛ ولذلك يؤمر بأن ينفق على أهله من أرخص الأطعمة، وألا يشتري الأشياء التي ليست ضرورية، بل يقتصر على الخبز مثلاً أو على الأرز دون أن يتكلف بشراء اللحوم، وبشراء الفواكه، وبشراء الخضار وما أشبه ذلك. وهكذا أيضاً في الكسوة، فكسوة الغني الثري أن يشتري لأولاده ولزوجته كسوة في كل سنة مرة أو مرتين، وتكون من أرفع الأقمشة وأحسنها وأضمنها، والمتوسط من متوسطها، والفقير من أرخصها. وهكذا في سائر الأمتعة التي يحتاج إليها، وهذا كله داخل في قوله: (خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف) أي: لا تأخذ زيادة، فإذا كان هو من الأغنياء فالمعروف هو نفقة الأغنياء، وإذا كان من المتوسطين فالمعروف نفقة أمثاله من المتوسطين سواء في الغذاء أو في الكسوة أو في الفرش أو في الأواني أو ما أشبه ذلك. وبهذا يعلم أن الشريعة تكلفت ببيان كل ما يحتاج إليه، فبينت أمور النفقة، وتدخل الفقهاء في أمور الناس، وذكروا كيفية إنفاق المنفق من كثير أو من قليل، ومع ذلك كله فإنهم نهوا عن الإسراف وعن الإفساد وعن التبذير الذي فيه إتلاف للمال في غير فائدة، ولو أثرى الإنسان وامتلك مئات الألوف أو ألوف الألوف فلا يجوز له أن يفسد الأموال لا في الأطعمة ولا في الأكسية ولا في الأواني ونحوها، بل يمسك المال ولا يسرف فيه ولا يفسده، ويصرفه في وجوهه التي يؤجر عليها، فإنه سوف يجد من يتقبله من الفقراء، وسوف يجد مشاريع خيرية ينفق فيها ويصرف فيها هذا الزائد الذي ليس بحاجة إليه، وبذلك يخرج من قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ} [النساء:5] ، ومن قوله: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء:27] .

شرح حديث: (إنما أنا بشر، فلعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض)

شرح حديث: (إنما أنا بشر، فلعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض) قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن أم سلمة رضي الله عنها (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع جلبة خصم بباب حجرته، فخرج إليهم فقال: إنما أنا بشر، وإنما يأتيني الخصم، فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليحملها أو يذرها) . وعن عبد الرحمن بن أبي بكرة رضي الله عنه قال: كتب أبي -وكتبت له إلى ابنه عبد الله بن أبي بكرة وهو قاض بسجستان- لا تحكم بين اثنين وأنت غضبان، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان) وفي رواية: (لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان) ] . حديث أم سلمة يتعلق بقضاء القاضي بحسب ما ظهر له، وفي هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم سمع جلبة خصم، أي: خصوم سمعهم يختصمون ببابه، وكانت خصومتهم في مواريث بينهم قد اندرست، واشتبه عليهم حق هذا بهذا، فاختلفوا، وكل منهم يدعي أنه أولى وأن الحق له، فترافعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقبل أن يحكم بينهم أو أن يسمع كلامهم وعظهم بهذه الموعظة: أولاً: أخبرهم أنه بشر، والله تعالى قد وصفه بذلك، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} [الكهف:110] أي: أنا إنسان مثلكم، لست ملكاً، ولست خلقاً آخر، قال الله تعالى عنه: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً} [الإسراء:93] اختص بأن ينزل عليه الوحي من الله تعالى، وأما علم الغيب فلا يعلمه، كما قال الله عنه: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ} [الأعراف:188] فأخبر بأنه بشر، والبشر لا يعلم من الغيب إلا ما أطلعه الله عليه، فهو يأتي عليه ما يأتي على البشر، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه سها مرة في صلاته، ولما انصرف قال: (إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني) . ثانياً: أخبرهم أنه يحكم بما يسمع، وأن بعضهم قد يكون أقوى حجة وأبلغ من الآخر، وهذا شيء مشاهد، فإن الخصمين قد يكون أحدهما قوي البيان، بليغ اللسان، كثير الكلام، كلامه يفصل الأشياء، ويبين ما لم يكن بيناً واضحاً، ويظهر الأمور، حتى يوهم من يسمعه أن الحق باطل، وأن الباطل حق، ويسحر من سمعه، ويخدعه، ولعل هذا ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن من البيان لسحراً) يعني: بعض الناس أعطاهم الله لسناً وقوة بيان، فقد يظهر الحق في صورة باطل، والباطل في صورة حق، فيتوهم من يسمعه أن الحق معه، وأنه صادق.

على القاضي ألا يتعجل في البت في القضية

على القاضي ألا يتعجل في البت في القضية قوله: (إن بعضكم قد يكون ألحن من حجته من بعض) يعني: أقوى وأقدر على إظهار حجته، بينما يكون الآخر عيياً ضعيف اللسان، لا يقدر على بيان حجته، وقد يكون الصواب معه، فينقلب الحق عليه، وينقلب الباطل حقاً، والحق باطلاً، فيتوهم القاضي أن هذا هو الصادق، وأن هذا ليس بصادق؛ ولأجل ذلك فإن على القاضي أن يتأنى، وألا يأخذ الكلام على عواهنه، وألا يصدق من يقول بمجرد القول والكلمة، بل عليه التأني والتثبت إلى أن يتضح له الحق، ويظهر له جلياً. وكأنه صلى الله عليه وسلم ينبه القضاة على ألا يعجلوا في البت في القضية حتى يسمعوا كل ما له صلة بهذه القضية، وألا يصدقوا من كان بليغاً في المقال، ومن كان كثير الكلام، حتى يتبين صدقه وأحقية ما قال، ويأخذ أيضاً ما لدى الطرف الثاني، ويتثبت في ذلك، فيعرف القاضي بعد ذلك كيف يقضي، وقد ذكرنا أن علياً رضي الله عنه كان أقضى الصحابة كما روي أنه قال: (وأقضاكم علي) ، وأنه قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعت كلام الخصم فلا تقضي له حتى تسمع كلام الثاني، فإنك ستعرف كيف تقضي) ، قال علي: فما زلت قاضياً.

حكم القاضي بحسب الظاهر

حكم القاضي بحسب الظاهر في هذا الحديث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحكم بما يظهر له، وأن بعض الخصمين قد يكون كاذباً، ويعلم كذب نفسه، ويعلم أنه طلب ما ليس له، وأنه اعتدى على حق غيره، إما أنه جحد حقاً عليه لخصمه، وإما أنه عرف تعديه على ملك غيره، وأخذه ما لا يستحقه، وأخذه من ملك لا حق له فيه، أو نحو ذلك، فلا شك أنه إذا عرف ذلك، ثم تقدم إلى القاضي وأراد أن يأخذ بقدر ما يدعيه، فإنه ظالم سواء أتى بشهود زور كذبوا في شهادتهم أو حلف يميناً فاجرة يعرف فجوره فيها، أو أكثر من القول ومن التظلم ومن إظهار الصدق وأنه صادق وأن الصواب معه؛ حتى يوهم من يسمعه أنه مظلوم، وأنه صادق في قوله، فيحكم له القاضي بمجرد قوله، وهو في الحقيقة ظالم وليس بمظلوم، وهو يعلم من نفسه ذلك؛ فلا يحل له ما أخذ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار، فليأخذها أو ليدعها) . هكذا وعظ هذين الخصمين، وأخبر بأنك -أيها الخصم الذي تعرف ظلمك وتعرف عدوانك- إذا كنت عارفاً بأن هذا لا يحل لك، وكنت تعرف أنك معتدٍ بحجتك، معتدٍ في قضيتك، وأن أخاك وخصمك مظلوم معتدى عليه وعلى حقه، فكيف مع ذلك تقدم على هذا؟ إن هذا الذي أخذته ولو استمتعت به في الدنيا؛ فإنه سيكون وبالاً عليك، وستعذب به عذاباً وبيلاً، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من اقتطع مال أخيه بيمين هو فيها كاذب لقي الله وهو عليه غضبان، قيل: يا رسول الله! وإن كان شيئاً يسيراً؟ قال: وإن كان قضيباً من أراك) يعني: عود سواك قدر ما يقبضه القابض، ما قيمة هذا العود السواك؟! إذا حلف أنه له وهو ليس له لقي الله وهو عليه غضبان، والله تعالى إذا غضب على عبده فلا يقوم لغضبه شيء.

على القضاة نصح الخصوم

على القضاة نصح الخصوم من واجب القضاة أن ينصحوا الخصوم، ويجب على الخصم ألا يقدم على خصومة وهو يعلم أنه لا حق له في هذه الدعوى التي يدعيها في مال أخيه، بل يعلم أنه معتدٍ ظالم خاطئ في تقدمه بهذه الدعوى، وقد حرم النبي صلى الله عليه وسلم الاعتداء على الحق، حتى قال: (من اغتصب شبراً من الأرض طوقه من سبع أراضين) شبراً من الأرض إذا أخذه بغير حقه جعل طوقاً في عنقه يوم القيامة، فماذا يفعل؟ وهل يستطيع أن يحمله من سبع أراضين؟ جاء في بعض الروايات: (خسف به إلى سبع أراضين) ، وهذا فيه التخويف من اغتصاب الأرض، وكذلك اغتصاب الأموال الأخرى، فإنه يأتي بها وهو يحملها كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى ظهره بعير له رغاء) يعني: قد أخذه بغير حقه، (يقول: يا محمد يا محمد! فأقول: لا أملك لك شيئاً، قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته بقرة لها خوار، لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته شاة لها يعار -يعني: ثغار- لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته رقاع تخفق -يعني: الأكسية ونحوها- قد أخذها بغير حق) ، وهكذا بقية الأموال المغصوبة يأتي بها الظالم يوم القيامة، فالقاضي عليه أن يذكر الخصوم، وأن يبين لهم قبل أن يحكم بأنك أيها الظالم تعرف ظلمك، وتعرف اعتداءك، وتعلم أنه لا حق لك في هذا، ولكن حملك عليه الجشع، وحملك عليه التعدي، فلا حق لك فيه، فترفق وارفق بنفسك، فإن هذا الذي تأخذه تأتي به يوم القيامة، وتعذب به ويكون قطعة من النار، ولو حكم به القاضي فحكم القاضي إنما هو على الظاهر؛ لأنه لا يعلم بواطن الأمور، فلا يصير الحكم حلالاً، قال الله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} [البقرة:188] أي: ترفعوها إلى الحكام ثم تستدلوا بحكم الحاكم أنه حلال، حكم الحاكم لا يغيرها، ولا يجعل الحرام حلالاً، بل هو حرام عليك ولو حكم به عشرون قاضياً، فهو لا يزال حراماً، فحق أخيك المسلم الذي أخذته عدواناً وظلماً لا يصيره حكم الحاكم حلالاً.

شرح حديث: (لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان)

شرح حديث: (لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان) حديث أبي بكرة فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحكم الحاكم بين اثنين وهو غضبان) ، وهذا تأديب من النبي صلى الله عليه وسلم للقضاة، وكأنه أراد أن القاضي يحكم في حالة قد اطمأن فيها قلبه، وقد ارتاح فيها بدنه، ولا يحكم إلا بعد التروي، وبعد التعقل، وبعد تتبع الحجج، وبعد التفقه فيها، وبعد النظر، وبعد البحث، وبعد معرفة صحة أو بطلان ما يدعيه وما يقوله كل منهما، وهذا لا يحصل إذا حكم وهو غضبان، والغضب قد يكون بسبب أحدهما، فقد يتكلم عليه أحدهما ويقول له مثلاً: أنت جائر، أو أنت خصم، أو أنت تحكم بالهوى، أو نحو ذلك، فيغضب من هذه الكلمة، فإذا أغضبه فلا يحق له أن يوقع به؛ وذلك لأن الخصمين دائماً كل منهما يوجه سباباً وكلاماً بذيئاً على خصمه، فلا يستنكر هذا. وهكذا إذا رأى أحد الخصمين من القاضي إقبالاً على أحد الخصمين؛ فقد يتهمه بأنه يميل معه، فيلقي له كلمة، فالقاضي الذي يسمع مثل هذه الكلمة لا يعيرها اهتماماً، وإذا غضب فعليه أن يتوقف عن القضاء، ولا يحكم في تلك الحال، حتى يهدأ ويذهب عنه الغضب؛ لأنه إذا حكم وهو غضبان فربما ظهر في قضائه ميل نحو الخصم الذي أغضبه أو سبه أو عابه أو قدح في عدالته، فيكون ذلك ظلماً وجوراً، وهذا لا يجوز في الشرع.

ما يلحق بالغضب المانع من حكم القاضي

ما يلحق بالغضب المانع من حكم القاضي قال العلماء: إن الغضب كمثال، ويلحق به كل حالة يكون القاضي فيها ضجراً، فلا يحكم حتى يذهب عنه ذلك الضجر، فإذا جاءه أمر يغمه فلا يقضي وهو مغموم، وإذا اهتم لأمر من الأمور فلا يقضي حتى يزول عنه ذلك الهم، وإذا أتاه ما يحزنه على أمر قد فات من مرض أو موت أو نحو ذلك فلا يقضي حتى يذهب عنه ذلك الحزن، وكذلك لا يقضي في حالة جهد شديد وتعب مضني، ولا يقضي في حالة مرض شديد، ولا يقضي وهو جائع، ولا يقضي وهو ضمآن، ولا يقضي وهو ناعس أو بحاجة إلى راحة، ولا يقضي وهو مهموم بأمر من الأمور، لا يقضي في حالة شدة برد أو في حالة شدة حر أو نحو ذلك؛ لماذا؟ لأن هذه الأشياء تمنعه من التأمل في القضية، ومن التعقل في أطرافها، ومن تتبع الأطراف، وتتبع القضايا، وعرضها على فكره وعقله، فيكون في هذا التسرع ما يسبب خطأه، ويسبب وقوع الغلط في قضائه، فيندم بعد ما يفوت الأوان، فإرشاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى عدم القضاء في حالة الغضب يلحق به كل ما يقلق القاضي ويضجره حتى لا يعجل في القضية، ولا يقدم عليها إلا بعد تتبع أطرافها، وهذه إرشادات نبوية لئلا يقع ظلم أو حيف أو اعتداء على بعض الخصوم، فيقع القاضي في الظلم ويتسبب في أخذ الحق من مستحقه.

شرح حديث: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟)

شرح حديث: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟) قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثاً؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس، فقال: ألا وقول الزور وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت) . وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه) ] . هذان حديثان يتعلقان بالقضاء، فالحديث الأول يتعلق بشهادة الزور وقول الزور، والحديث الثاني يتعلق بكيفية القضاء، كيف يقضي القاضي بين اثنين إذا تنازعا؟ فأما الحديث الأول فأخبر أن شهادة الزور من أكبر الكبائر، يقول: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس وقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قالوا: ليته سكت) ! الكبائر هي الذنوب الكبيرة التي تحتاج إلى التوبة، فمنها ما لا يغفر إلا بالتوبة كالشرك، ومنها ما يكون تحت المشيئة كالكبائر التي دون الشرك.

الشرك أكبر الكبائر

الشرك أكبر الكبائر قوله: (ألا أنبئكم) يعني: ألا أخبركم بأكبر الكبائر؟ وقد عرفوا أن الذنوب فيها كبائر وفيها صغائر، وأن الكبائر منها كبير ومنها أكبر، فكأنه أراد أن يخبرهم بالأكبر من الكبائر، فلما قالوا: بلى، ابتدأ بإخبارهم فقال: (الإشراك بالله) ، ولا شك أن الشرك بالله هو أكبر الكبائر؛ وذلك لأنه يوجب الخلود في النار إن كان شركاً أكبر، أو يسبب دخولها إن كان أصغر، يقول الله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة:72] وغير ذلك من الآيات، والمراد بالشرك هنا أن تجعل العبادة بين الله وبين غيره، أن يجعل أحد العبادة أو بعضها مشتركةً بين الخالق وبين بعض المخلوقين، فيشرّك المخلوق في حق الخالق، ويجعل المخلوق شريكاً لله، فيدعو الله ويدعو غيره، ويخاف الله ويخاف غيره، ويحب الله ويحب غيره، وما أشبه ذلك، وهو الذي ذكره ابن القيم في قوله: والشرك فاحذره فشرك ظاهر ذا القسم ليس بقابل الغفران وهو اتخاذ الند للرحمن أياً كان من حجر ومن إنسان يدعوه أو يرجوه ثم يخافه ويحبه كمحبة الديان فهذا الشرك أكبر الكبائر.

عقوق الوالدين

عقوق الوالدين قوله: (وعقوق الوالدين) ، الوالدان لهما حق كبير على أولادهما، فالإحسان إليهما يقرن بالتوحيد، وعقوقهما يقرن بالشرك، وكثيراً ما ذكر الله تعالى حق الوالدين بعد حقه كما في قوله: {أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان:14] ، وفي قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [النساء:36] ، وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [البقرة:83] (لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ) هذا التوحيد، (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) هذا هو البر، فأعظم الحسنات التوحيد ثم البر، وأعظم السيئات الشرك ثم العقوق، والعقوق مشتق من العق وهو القطع، والعاق كأنه قطع الصلة بينه وبين أبويه، فبدل الإحسان أساء إليهما، وبدل البر عقهما، وبدل أداء حقوقهما جحد فضلهما. ولا شك أن للوالدين حقاً كبيراً على أولادهما؛ ولذلك قال تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء:23-24] وهذا تعليم من الله تعالى بكيفية البر، والتأفيف أقل ما يتصور من القول السيء، فعرف بذلك أن عقوق الوالدين من أكبر الكبائر، والأحاديث في ذم العقوق كثيرة معروفة.

شهادة الزور

شهادة الزور قوله: (وكان متكئاً فجلس) ، لما تكلم بأول الكلام كان متكئاً على جدار أو نحوه، ولأهمية ما سيذكره استوى جالساً متربعاً، وأخذ يكرر قوله: (ألا وشهادة الزور، ألا وقول الزور) ، ومع تكراره أشفقوا عليه، ورأوا أنه قد تأثر من الانفعال فقالوا: ليته يسكت أي: قد شق على نفسه بهذا التأثر، وتمنوا أن يسكت من شدة تكراره، ومن شده تأثره، ولا شك أنه لا يتأثر إلا من شيء له أهمية، فهو دليل على أن قول الزور وشهادة الزور من أكبر الكبائر؛ ولذا أشفق على أمته أن يقعوا في قول الزور أو في شهادة الزور. والزور هو الكذب، والتزوير معروف وهو التدليس والكذب في أمر من الأمور، يقال: زور فلان على فلان يعني: كذب عليه، وكتب عنه أنه قال: كذا، أو قلد كتابته أو نحو ذلك؛ حتى يظلمه، ويطلق الزور على كل من كذب على غيره، ولا شك أنه يعم الكذب على الله تعالى وعلى رسله، فإنه من أكبر الكبائر، وقد قرنه الله تعالى بالشرك في آية أخرى في سورة الحج، يقول تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج:30] اجتنبوا الرجس أي: الشرك، والزور هو الكذب، ومدح الذين يتجنبونه بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان:72] قيل: لا يحضرونه وقيل: لا يشهدون به، وبكل حال فهذا دليل على عظم الكلمة. وشهادة الزور هي الشهادة عند القاضي كذباً وزوراً وإثماً، جعلها النبي عليه الصلاة والسلام من أكبر الكبائر، وما ذاك إلا لأنه يترتب عليها مظالم، فإن القاضي يبني على شهادة الشاهدين، فيحكم بما شهدا به، ومتى كانا كاذبين تحملا ذلك الإثم، فإذا اقتطع من هذا حقاً بموجب شاهدين كاذبين فهما الظالمان وهما الآثمان، وعليهما جرم ذلك الظلم، لا على القاضي؛ لأنه بنى على شهادة غيره، ولهذا روي عن شريح -وقد كان قاضياً لـ علي ولمن بعده- أنه أوصى بعض القضاة بقوله: إن القضاء جمرة فاجعل بينك وبينها عودين يقيانك منها، فسئل: ما هما العودان اللذان تأخذ بهما الجمرة؟ فقال: الشاهدان، فهما اللذان يقبضان هذه الجمرة، فإذا كنت تريد أن تقضي فكأنك تقطع جمرة من هذا لهذا، فلا تمسها، ولكن دع الذي يمسها غيرك، وهما الشاهدان، فإذا كانا كاذبين فهما الآثمان. وقد وردت الأدلة في ذم شاهد الزور، حتى روي في بعض السنن: (لا تزول قدما شاهد الزور حتى يستوجب النار) ، أو (حتى يوجب الله له النار) أي: بموجب شهادته كأنه لما اقتطع بهذه الشهادة حقاً لمسلم عاقبه الله بهذا العذاب، وهو استحقاقه لعذاب النار وبئس القرار. وقد تساهل الناس في هذه الأزمنة بشهادة الزور، فصاروا يشهدون حمية، يشهد أحدهم حمية لقريبة أو تعصباً أو نحو ذلك، ويشهد بعضهم لمصلحة كأن يبذل له المشهود له مالاً حتى يشهد له، فيأخذ مالاً دنياً دانياً مقابل أن يبيع دينه، ويستوجب عذاب الله، وشر الناس من ظلم الناس للناس، لا ينتفع بهذا بل ينفع غيره ويضر نفسه، فلو فكر في أنه يوصم بأنه كاذب، ويوصم بأنه آثم، ويوصم بأنه مزور، وهذه صمات كبيرة، وهي بعض ما يستحقه، فيشتهر بعد ذلك أنه شاهد زور، ويجب أن يشهر أمره إذا علم أنه شاهد زور، وذهب بعض العلماء إلى أنه يطاف به في الأسواق وفي الطرق، ويشهر ويقال: هذا شاهد الزور، هذا شاهد الزور؛ حتى يتجنبه الناس ويعرفون كذبه، وأنه قد تعمد الكذب، فيرتدع الناس حتى لا يشهدوا مثل شهادته مخافة الفضيحة، وكذلك يعرفونه فلا يقبلون قوله، ولا يقبلون معاملته، فيبوء بعد ذلك بالذل والهوان. يجب أن يتثبت الإنسان فلا يشهد إلا بما استيقنه، روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لرجل: (ترى الشمس؟ قال: نعم، قال: على مثلها فاشهد أو دع) أي: لا تشهد إلا على شيء تتيقنه كما تتيقن أن هذه هي الشمس إذا طلعت، فلا تشهد وأنت شاك أو متوهم، لا تشهد بما لا تعلم، وحكى الله عن إخوة يوسف أنهم قالوا: {وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ} [يوسف:81] ، فذكروا أن شهادتهم إنما هي بما وصلت إليه معرفتهم، وبما رأوه دون أن يعلموا حقائق الأمور، فالشاهد يشهد بما ظهر له، فإن كان متيقناً أقدم، وإلا أحجم.

شرح حديث: (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال دماء قوم وأموالهم)

شرح حديث: (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال دماء قوم وأموالهم) حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال دماء قوم وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه) هذه رواية الصحيحين، ورواية أهل السنن: (البينة على المدعي، واليمين على من أنكر) ، ويعتبر هذا الحديث من جوامع الكلم حيث إنه بيّن كيف يقضي القاضي؛ وذلك لأنه كثرت الدعاوي، فيوجد من يدعي وهو كاذب ظلماً وبهتاناً، فلو أعطي بدعواه لادعى أن هذا قتل أباه، ويريد قتله، أو أن هذا انتهب ماله، أو أن هذا ظلمه، أو أن هذا ضربه وهو كاذب؛ حتى يحصل على مالٍ أو يحصل على ديةٍ أو يحصل على شفاء نفسه؛ فيكثر الظلم، ويعطى من لا يستحق غير ما يستحق. بين عليه الصلاة والسلام أن على المدعى عليه اليمين: (اليمين على المدعى عليه) ، والمدعى عليه هو الذي إذا ترك سكت، وهو الذي يحب أنه يخلى سبيله، جاءه إنسان وقال: أنت يا هذا عندك لي حق، عندك لي دين، أو ظلمتني، أو أخذت مالي، أو اقتطعت أرضي، أو سفكت دمي، أو قطعت طرفي، أو قتلت ابني، أو هدمت جداري، أو قلعت شجرتي، أو صدمت سيارتي، أو نحو ذلك؛ فأنكر، وقال: ليس هو أنا، ما فعلت شيئاً من ذلك، لست أنا خصمك، وليس عندي لك حق، فالمدعي المطالب هو المبتدئ، والمدعى عليه يريد الهروب، ويريد السلامة، ينكر ذلك، وينكر أن يكون عنده شيء، ويحب أن يترك ويخلى سبيله، فلما كان جانبه أقوى -لأن الأصل البراءة- جعلت اليمين عليه، فإن اليمين تكون مع من جانبه أقوى، فيقال له: إما أن تثبت ببينة وشاهدي عدل أن هذا ظلمك وأخذ حقك وإما أن يحلف خصمك، وتبرأ منه، وقد وقع ذلك في حديث الأشعث بن قيس الكندي لما تخاصم هو ورجل من كندة في أرض، فقال: إنه اعتدى على أرضي، فقال الكندي الآخر: إنها أرضي ورثتها من أبي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للأشعث: (ألك بينة؟ قال: لا، قال: فلك يمينه، فقال: إذاً يحلف ويأخذ أرضي) ، وفي رواية قال: (إنه رجل فاجر لا يبالي بالكذب، فقال: ليس لك إلا يمينه) ، ثم إنه عليه السلام أخبر بشدة عذاب من حلف كاذباً، فقال: (من حلف يمين صبر وهو كاذب ليقتطع مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان) ، ونزلت في ذلك الآية الكريمة في سورة آل عمران: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} [آل عمران:77] يعني: حظاً دنيوياً عاجلاً {أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:77] انظروا كيف توعد الله من حلف وهو كاذب، فعلى الشاهد أن يتثبت في شهادته، والحالف لابد أن يتثبت في حلفه، مخافة أن يأخذ بيمينه ما لا يحل له، ومخافة أن تنزل به عقوبة إذا حلف وهو كاذب، وبالأخص إذا حلف على أمر ماضٍ وهو يعلم أنه كاذب فيه، وهذه تسمى اليمين الغموس، فإنه يوشك أن يعاقبه الله عاجلاً، وقد ورد في بعض الآثار: (إن اليمين الكاذبة تدع الديار بلاقع) يعني: من حلفوا وهم كاذبون يسلط الله عليهم الآفات والمصائب والموت، ذكر ابن عباس أن رجلاً من قريش في الجاهلية قتله رجل من العرب، فطلبوا ديته فقالوا: ما قتلناه، فقالوا: يحلف منكم خمسون، فأحد الخمسين دفع ناقتين وقال: اعفوني من اليمين، والثاني من الخمسين أعفوه لأنه صهر لقريش، وثمانية وأربعون حلفوا وقالوا: ما قتلناه، فما دارت السنة وفيهم عين تطرف، هكذا في صحيح البخاري عن ابن عباس، فلذلك يتوقى من الحلف كاذباً كما يتوقى من الشهادة كاذباً.

شرح عمدة الأحكام [74]

شرح عمدة الأحكام [74] الحلال بين والحرام بين، ومن جملة ذلك المطعومات من أنواع اللحوم، فمنها ما هو بين الحلية، ومنها ما هو بين الحرمة، ومنه ما هو موضع اشتباه واختلاف بين العلماء رحمهم الله، ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه.

شرح حديث: (إن الحلال بين وإن الحرام بين)

شرح حديث: (إن الحلال بين وإن الحرام بين) قال المصنف رحمه الله: [كتاب الأطعمة: عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول -وأهوى النعمان بأصبعيه إلى أذنيه-: (إن الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) . وعن أنس رضي الله عنه قال: أنفجنا أرنباً بمر الظهران، فسعى القوم فلغبوا وأدركتها فأخذتها، فأتيت بها أبا طلحة فذبحها، وبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بوركها أو فخذها فقبله] . تحل الأطعمة سواء من اللحوم أو من النباتات، وقد تقدم حكم المعاملات من البيع والشراء، والتجارة، وتنمية الأموال، وبعض المكاسب، والإيجارات وما أشبهها، وتقدم متى تكون حلالاً، ومتى تحرم ويكون فيها غش أو ربا أو غرر أو خداع، أو نحو ذلك، وأما هنا فأرادوا بيان الأطعمة التي أحلها الله والتي حرمها، فيذكرون في هذا الكتاب ما يباح من المأكولات ومن الأشربة وما أشبهها. الله تعالى أحل الأطعمة التي لا ضرر فيها، وحرم ما فيه ضرر؛ لأن الله خلق هذه الأرض وخلق ما فيها مسخراً لمنفعة البشر كما في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} [البقرة:29] (لَكُمْ) أي: مسخراً لكم، لكن إذا كان فيه ضرر فإنه ينتفع به في غير الأكل. فجميع ما على وجه الأرض كله خلق لأجل الإنسان، لكن كثيراً من هذه المخلوقات خلقها الله تعالى لتكون آية ودلالة وعبرة على قدرة الخالق تعالى، وليعتبر بها العقل، ويعتبر بها الإنسان، ولا نتوسع في هذا فالباب طويل، ولكن نعود فنقول: المأكولات التي أحلها الله تعالى هي الطيبات، قال تعالى: {كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً} [البقرة:168] ، وقال: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:57] ، وقال تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] ، وهذا النبات الذي ينبت في الأرض منه ما هو غذاء للإنسان كالحبوب والثمار التي لا ضرر فيها، ومنه ما هو غذاء للدواب، يقول تعالى: {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} [طه:54] ، ويقول تعالى: {وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} [النحل:10] أي: ترعون دوابكم السائمة التي هي راعية بأفواهها (تسيمون) أي: ترعون. ولا شك أن الطيبات معلومة بالطبع، وبفكر الإنسان، وبعقله، فيرجع فيها إلى أهل الخبرة وأهل المعرفة، فمعلوم أن أكل السموم والأشياء الضارة محرمة لكونها ليست طيبة، ولكنها ضارة وخبيثة، ومعلوم أن أكل السباع وأكل الدواب الصغيرة كالبعوض والحشرات الصغيرة من المستخبثات، فلا تدخل في الطيبات، فإذاً: يبقى ما هو من الطيبات على أصله، وهذا ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (الحلال بين والحرام بين) فإن الطيبات بينة واضحة، والخبائث بينة واضحة، فالنفس تستخبث الجيف، وتستخبث النجاسات والقاذورات، وتنفر منها، ولو لم تكن عندها معرفة بتفاصيل الشريعة، وكذلك تستخبث الحشرات، يستقبح الإنسان أن يأكل الذباب أو يأكل الذر أو يأكل النمل، أو يأكل السوس من الدود، أو يأكل الحشرات الأخرى كالبعوض، والنحل، والزنابير، وكذلك العظاية وسام أبرص والوزغ والسحلية، ولا شك أن نفسه تتقزز أن يأكل من هذه الأشياء، فعرف بذلك أنها خبيثة، فهي من الحرام البين. وكذلك يعرف أن أنواع الخبز الذي يصنع من البر أو من الأرز ونحوه من الطيبات، وأنه طعام طيب، وكذلك اللحوم الطيبة المذكاة يعرف أنها طيبة، وكذلك الصيد الذي يقتل ويصاد من الظباء وما أشبهها يعرف أنها من الطيبات؛ فلذلك قال: (الحلال بين) ، وهو هذه الطيبات التي أحلها الله (والحرام بين) ، وهي الخبائث، والخبائث هي كل شيء ضار بالبدن أو ضار بالعقل، فالضار بالبدن مثل أكل الجيف وأكل لحم الخنزير؛ لأنه يتغذى بالنجاسات والأقذار ونحوها، فهذه لا شك أنها ضارة بالبدن، وتسبب ضرراً في تغذية البدن ونحوه، ولا تؤكل إلا عند الضرورة وخوف الموت، فقد أباحها الله عند الضرورة في قوله: {فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:3] . وأما الطيبات فإنه يعرفها بفكره، ويعرفها بعقله، ويميز بين ما هو ضار وما هو نافع. وكذلك أيضاً يعرف أن من الطيبات الأشربة المباحة من الألبان والمياه وما حلي بعسل أو نحوه يعرف أنها من الأشربة الطيبة، وإذا كانت تضر بالعقل كالخمور ونحوها فإنها من الخبائث؛ لأنها ضارة بالعقل؛ ولأجل ذلك تسمى الخمر أم الخبائث، ومثلها ما هو ضار بالبدن كهذا الدخان الذي هو التنباك، فلا شك أنه من الخبائث؛ لأنه لا يسمن ولا يغني من جوع، ولأنه يضر بالبدن، ويعرف ذلك الذين حللوه، فهو من الحرام البين. وهكذا كل المباحات هي بينة لمن وفقه الله ورزقه معرفة وعقلاً، أما الذين زين لهم الشيطان الحرام، فاستحسنوا القبيح واستقبحوا الحسن، فهؤلاء لا عبرة بهم، فالذين يستحسنون أكل لحم الخنازير ويقولون: إنها دواب من جملة الدواب التي على الأرض، وهي داخلة في قوله: (لَكُمْ) ، ف A أنها لما كانت خبيثة تتغذى بالنجاسات ونحوها دخلت في الخبائث، والذين يستحسنون الخمور ويسمونها: أشربة روحية نسوا أنها تزيل العقول، وأنها تلحق أهلها بالمجانين، ولا شك أنها محرمة لأجل هذه العلة، والذين يستحسنون شرب الدخان ويقولون: لا ضرر فيه، نسوا أنه لا نفع فيه البتة، وفيه أضرار كثيرة يعرفها من قرأ في تحاليله، وإذا كان فيه ضرر وليس فيه نفع فهو خسران مبين، فيه خسارة بعض المال، وإحراق له في غير منفعة بل في مضرة. إذاً: هناك من تنعكس فطرته، وتنقلب معرفته، فيرى الحلال حراماً، ويرى الحرام حلالاً، ويخيل إليه ما هو قبيح حسناً، فمثل هذا لا عبرة به، بل العبرة بأهل العقول الذكية، ثم يرجع في ذلك إلى ما شرعه الله، وإلى ما وضحه فيقال: إن الله تعالى قد بين ما هو حلال وما هو حرام بياناً واضحاً كافياً، فيرجع إلى بيانه، فحرم الخمر، وحرم كل ما هو ضار بالبدن، وحرم الخبائث بقوله: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] ، وحرم كل ما يضر بالدين أو يقدح فيه من الأشياء التي تضره، فحرم المعاملات الربوية والغش في المعاملات والغصب والسرقة وأخذ المال بغير حق والنهب والظلم وما أشبه ذلك؛ لأن في ذلك أخذ لما لا يستحقه المسلم، فدل ذلك كله على أن الحلال بين، وأن الحرام بين؛ ببيان الله تعالى وبيان رسله عليهم الصلاة والسلام.

ترك المشتبهات

ترك المشتبهات قوله: (وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس) ، وفي رواية: (وبينهما مشبهات) ، هذه المشبهات قد تشتبه على بعض الناس إما في وجه الكسب، وإما في وجه المدخل، وإما من حيث الأصل، فتشتبه على الناس، فتتعارض فيها الأدلة أو الأقيسة، أو لا يوجد فيها دليل، ولها شبه بهذا، ولها شبه بهذا، فتلحق بما هو أقرب لها. فمن الدواب ما اختلف في حله وفي حرمته، فاختلفوا في لحم الخيل هل هو حلال أو حرام؟ فذهبت الحنفية إلى أنها حرام وألحقوها بالحمر، وذهب الجمهور إلى أنها حلال، واستدلوا بما ورد فيها من الأحاديث، مثل حديث أن النبي عليه الصلاة والسلام (حرم الحمر الأهلية، وأذن في لحوم الخيل) . واختلفوا في أكل الفيل هل من هو الدواب المباحة أم لا؟ والجمهور على أنه حرام لأنه ذو ناب واختلفوا في أكل الزرافة، وأكثرهم على أنها حلال لأنها أشبه ببهيمة الأنعام. واختلفوا في أكل الضب، والجمهور على أنه حلال، وإن وردت فيه بعض الأدلة التي تدل على كراهته. واختلفوا في أكل الجراد، والجمهور على أنه حلال؛ لأن العرب تستطيبه، ولما ورد من الأحاديث في إباحة أكله. واختلفوا في أكل الدلدل ويسمى النيص وأكثرهم على أنه ملحق بما تستخبثه العرب، ولكن إذا غلب على الظن أن هذا الشيء مختلف فيه، وأن النفس تميل إلى النفرة منه؛ فإن الإنسان يترك الشيء المشتبة. أما الضبع فهو ملحق بما يأكل الجيف، وله ناب، ويفترس، فلأجل ذلك قال الجمهور: هو حرام، وجعلها بعضهم من المستثنى، وأباحها لأجل ما ورد فيها من الأحاديث، ولكن الورع ترك المشتبهات. وأما الأرنب ففيها هذا الحديث الذي في الصحيحين، يقول أنس: أنفجنا أرنباً بمر الظهران، فسعى القوم فلغبوا، يعني: تعبوا، فأدركتها فأخذتها، فأتيت بها أبا طلحة فذبحها وبعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم بوركها فقبله، فدل على أنها من المباح؛ لأنهم سعوا في أثرها، فدل على أنها مباحة الأكل، وقال بعضهم: إنها تحيض؛ ولأجل ذلك لا تباح، ولكن لا دليل على كراهتها. وعلى كل حال فالإنسان إذا اطمأنت نفسه إلى شيء فإنه من المباح، وإذا نفرت نفسه من هذا الشيء فيتركه حتى يقوم عنده دليل على حرمته أو على إباحته بناء على الأصل. وأما المعاملات فقد تقدم أن الكثير من المكاسب قد يكون فيه اشتباه على الإنسان، يشتبه عليه هذا المكسب، أو هذه المعاملة هل هي من المباح أم لا؟ فيشتبه عليه هذا المال الذي جاءه من هذه الجهة هل هو حلال أو حرام؟ فيدخل في قوله: (وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس) ، وإذا اشتبه عليك هذا الأمر، وتقززت نفسك منه، فإن الأولى الصبر عنه؛ ولأجل ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (البر ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك) ، وقال قبل ذلك: (استفت قلبك) يعني: انظر إلى هذا الشيء؛ هل تجد أن نفسك ترتاح لهذه المعاملة أم تجد أن نفسك تكرهها وتتوقف فيها؟ هذا من جهة، ولكن قد يكون بعض الناس معهم شيء من التساهل، فيتوسعون في المكاسب ويأخذون أموالاً بغير حق باسم أجرة أو باسم جعالة؛ وإن كانت لم تطب بها نفس الذي بذلها، أو أنه لا يستحقها لسبب من الأسباب، فإذا لم يكن لها جهة شرعية فما أحسن التورع، والبعد عنها، والسلامة من مآثمها؛ حتى يطيب مأكل الإنسان؛ لأن الأكل إذا كان طيباً كان البدن طيباً، وسلم من العذاب، وإذا تغذى البدن على حرام كان البدن آثماً أو نجساً، وفي بعض الأحاديث: (كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به) . فعلى المسلم أن يكون متنزهاً عن الآثام، وأن يكون متحرياً للصواب، وأن يكون ورعاً عما ليس بحلال واضح الحلية، وهذا معنى قوله: (من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام) ، فالشبهات هي هذه الأمور المشتبهة التي تأتيك، يأتيك هذا المال باسم مساعدة، وقد يكون قصد صاحبه أن يعطيك لأجل أن تشفع له، أو لأجل أن تقربه، أو لأجل أن تزيد له في سعر، أو أن تنقص له في ثمن، أو ما أشبه ذلك، ولا تطيب به نفس صاحبه، فيكون حراماً أو يكون مشتبهاً، فإذا توقيت هذه الأمور المشتبهة واقتصرت على ما هو حلال نجوت إن شاء الله من الحرام، واستبرأت لدينك، واستبرأت لعرضك، وأما من توسع في هذه المشتبهات فإنه يجره ذلك إلى الوقوع في الحرام؛ ولأجل ذلك قال: (من وقع في الشبهات وقع في الحرام) ؛ لأنها مع كثرتها لابد أن يكون فيها شيء حرام ولو كان قليلاً، ولو درهم من ربا أو شبيه بربا، أو شبيه برشوة، أو شبيه بغرر، أو شبيه بمال لم تطب نفس صاحبه، ولكن بذله قهرياً أو ما أشبه ذلك، فلا شك أنه والحال هذه يعتبر من المشتبه أو من الحرام. وإذا وقع في كثير من المشتبهات وقع في الحرام ولا بد، ومثل له النبي عليه السلام بقوله: (كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه) ، الحمى هي الأرض التي يحميها ملك من الملوك أو نحوه، فإذا جاء راعٍ بغنمه ورعى حولها فقد يغفل عنها فتدخل غنمه في ذلك الحمى، فيمسكه الحماة الذين يحمونها، ويعذبونه ويعاقبونه على دخوله، فهكذا الذي يقرب من الحرام لا يأمن أن يقع في الحرام.

شرح حديث: (نحرنا على عهد رسول الله فرسا فأكلناه)

شرح حديث: (نحرنا على عهد رسول الله فرساً فأكلناه) قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: (نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرساً فأكلناه) ، وفي رواية: (ونحن بالمدينة) . وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية، وأذن في لحوم الخيل) ، ولـ مسلم وحده قال: (أكلنا زمن خيبر الخيل وحمر الوحش، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحمار الأهلي) . وعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: (أصابتنا مجاعة ليالي خيبر، فلما كان يوم خيبر وقعنا في الحمر الأهلية، فانتحرناها فلما غلت بها القدور نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن أكفئوا القدور، ولا تأكلوا من لحوم الحمر شيئاً) ] . هذه الأحاديث تتعلق بالحلال والحرام من بهيمة الأنعام ومن الدواب ونحوها، وقد عرف أن الأصل في بهيمة الأنعام الحلّ وجواز الأكل، إلا ما ورد الشرع بالنهي عنه وتحريم أكله، فلا خلاف في أكل الإبل والبقر والغنم ضأناً أو معزاً؛ لأن الله سماها حلالاً، وسماها بهيمة الأنعام في قوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:1] ، ويراد بها البهائم التي ذللت وسخرت للإنسان، وقال الله تعالى عن الإبل: {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس:72] ، وذكر الله تعالى الغنم والبقر في قوله: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنْ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنْ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} [الأنعام:143] ، وقال: {وَمِنْ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنْ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ أَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمْ الأُنثَيَيْنِ} [الأنعام:144] ، وبقي هناك دواب سخرها الله تعالى أيضاً للإنسان كالخيل ذكرها في قوله: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل:8] ، وذكرها من الزينة في قوله قوله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ} [آل عمران:14] ، وذكرها في قوله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال:60] ونحو ذلك. فهذه الخيل مما سخرها الله تعالى للإنسان؛ ليركبها، وليحمل عليها، وليقاتل عليها، وللسباق ولغير ذلك، وفيها أيضاً زينة، وإذا كانت كذلك فإنها مباحة حلال الأكل؛ لأنها من جملة ما يسره الله وسخره للإنسان، فلا مانع من إباحة أكل لحمها بعد ذبحها وتذكيتها؛ لأنها من الطيبات، وتتغذى بالطيبات، والناس يتفاخرون بها ويحبونها، حتى مدحوها بقصائد كثيرة، يقول بعضهم: أحبوا الخيل واصطبروا عليها فإن العز فيها والجمال إذا ما الخيل ضيعها أناس ربطناها فأشركت العيال نقاسمها المعيشة كل يوم وتكسبنا المهابة والجمال وكانوا يفتخرون باقتنائها، فهي من الزينة التي سخرها الله وجعلها من زينة الدنيا؛ فلأجل ذلك رخص في أكلها، ففي حديث أسماء قالت: (نحرنا فرساً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلناه) ، ومعلوم أنه عليه الصلاة والسلام علم بذلك وأقره؛ لأن أسماء هي بنت أبي بكر، وهي أخت عائشة، وزوجها هو الزبير الذي هو ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان له خيل، فتلك الفرس يغلب على الظن أنها من خيل الزبير، ولابد أنه أطعم منها النبي صلى الله عليه وسلم، أو أن أسماء أطعمت عائشة، وعائشة أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم، فلا بد أنه أقر أكلها، وأنه أباحه، فهي من جملة الطيبات التي أباحها الله بقوله: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:57] ، وقوله: {كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون:51] . وقد ذهب بعض العلماء كالحنفية إلى تحريم أكلها، وألحقوها بالحمر، وقالوا: إن الله ما ذكر فيها إلا أنها زينة في قوله: {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل:8] ، فدل على أنها غير مأكولة، ولو كانت مما يؤكل لذكر النعمة بالأكل كما ذكرها في الإبل بقوله: {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس:72] ، ولو كانت مما يؤكل لشرعت في الهدي، وجاز أن تذبح في الأضاحي، وفي جبران المناسك ونحو ذلك، ولم يعملوا بهذا الحديث مع أنه في الصحيح، ومع كونها من الطيبات، ولم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن أكل لحمها، فهذه التعليلات لا تنفي الأكل؛ وذلك لأن الآية إنما ذكرت الأغلب، فالأغلب أن الناس يقتنونها للزينة وللفخر وللقتال عليها؛ ولأجل ذلك يرفعون في أثمانها، ويحبونها، ويغالون في اقتنائها، وفي اقتناء نسلها ونحو ذلك، وإذا كانت حلالاً فجميع ما ينتج منها حلال، فلبنها حلال يشرب إذا كان فيها لبن كما يشرب لبن البقر والغنم ونحوها، ولحمها حلال، وكذلك ينتفع بجلودها كما ينتفع بجلود غيرها من بهيمة الأنعام، وما أشبه ذلك.

تحريم أكل الحمر والبغال

تحريم أكل الحمر والبغال الحمر والبغال كانت حلالاً في أول الإسلام، ثم حرمت في سنة سبع، واستقر الأمر على تحريم هذا الحمار الأهلي، والمراد بالحمر الأهلية الحمر التي تركب وينتفع بها في الركوب وفي الحمل عليها ونحو ذلك، والحمار الأهلي ينتفع به في الركوب، وذلك لأنه يصبر على الركوب، وقد يكون سيره أسرع من سير الإبل أو قريباً منها، وإن كان لا يحمل عليه الأثقال الكبار، ولا يركب إلى البلاد البعيدة؛ لكونه لا يحمل شيئاً كثيراً غير الراكب ونحوه، ولكن هو مما سخره الله للركوب كما في قوله: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل:8] ، ولكن ورد ذم صوته: {إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:19] وفي هذا ذم له من هذا الوجه، وورد أيضاً ذمه في آية أخرى في قوله: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة:5] فالحمار معروف أنه لا يستفيد من حمل الأسفار يعني: من حمل الكتب، فجعله مثلاً للذين {حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} [الجمعة:5] وهذا يفهم منه أنه مذموم؛ فلأجل هذا ورد تحريم أكل الحمر الأهلية، وذلك أنهم لما كانوا في غزوة خيبر في أول سنة سبع من الهجرة، وحاصروا خيبر، كأنه أصاب بعضهم جوع، فلم يجدوا أقرب من هذه الحمر فذبحوها، سواء كانت ملكاً لهم أو غنيمة مما غنموه من دواب أهل خيبر، فذبحوها ونصبوا القدور في ليلة مظلمة، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم: (ما هذه القدور؟ أو قال: على أي شيء توقد هذه القدور؟ قالوا: على لحم الحمر الإنسية، فقال: أهريقوها واكسروها -من باب الغضب- قالوا: أونهريقها ونغسلها؟ قال: أو ذاك) ، ومشى هو وبعض صحابته، وأخذوا يهرقون تلك اللحوم التي في القدور، وأخذ يدوسها في التراب ويتربها ونادى في تلك الليال: (إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية فإنها رجس) ، وفي رواية: (ركس) ، وتكاثرت الأحاديث في أنه صلى الله عليه وسلم نهى في تلك الليالي عن لحوم الحمر الأهلية، ولو كانت من بهيمة الأنعام، ولو كانت مما يركب ويعلف، لكن لم يذكر العلة، ولعله قذارتها، فإنها قد تتغذى بالنجاسات، فقد تأكل العذرة والنجاسات وتتغذى بها، وإن كان ذلك ليس أغلبياً؛ لأنها في الأصل تأكل من النباتات ونحوها. فبكل حال جاءت هذه الأحاديث صريحة بالنهي عنها، وعمل بها جمهور الأمة، وقالوا: إنها محرمة الأكل لهذه الأحاديث، فلا تؤكل وإنما ينتفع بها، واتفقوا على طهارة عرقها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يركب الحمار الأهلي، ويردف عليه، وكان يركبه بدون وقاية، ولا شك أنه قد يعرق وهو عليه، ولم يكن يغسل ثيابه من عرق الحمار، فدل على طهارة عرقه، وكذلك طهارة سؤره، فإذا شرب من ماء فلا بأس أن يشرب منه أو يتوضأ من سؤره إذا عرف أنه لم يأكل نجاسة، فهو من الطاهرات إلا أنه سمى لحمه رجساً في قوله: (فإنها رجس) ، والرجس هو النجس الذي وصف الله به بعض المحرمات كقوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة:90] فكذلك جعل لحوم الحمر الأهلية رجساً فعمل بذلك أغلب الأئمة، وذهب بعض الصحابة -كما روي عن ابن عباس - وبعض الأئمة -وهو رواية عن الشافعي - أنه يباح أكلها كبهيمة الأنعام، وجعلوا النهي عنها خاصاً، وقالوا: إنما نهى عنها في خيبر؛ لأنها كانت حمولة الناس، وخاف أنهم إذا ذبحوها لم يبق لهم ما يحملون عليه أو ما يركبونه، ولكن هذا لا يوافق ما ذكر من قوله: (فإنها رجس) ، وعلى هذا؛ فالقول المعتمد لأئمة المسلمين أنها محرمة الأكل، وأنه لا ينتفع بلحمها لا أكلاً ولا انتفاعاً، وأن لبنها أيضاً نجس، حيث إنها نجسة -يعني: لحمها- فكذلك لبنها، وشحمها، وما يؤخذ منها بعد موتها، كل ذلك منهي عنه بموجب هذه الأحاديث.

شرح حديث: (لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه)

شرح حديث: (لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه) قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (دخلت مع خالد بن الوليد على رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت ميمونة، فأتي بضب محنوذ، فأهوى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فقال بعض النسوة اللاتي في بيت ميمونة: أخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يريد أن يأكل، فقلت: تأكله هو ضب؟ فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده، فقلت: أحرام هو يا رسول الله؟ قال: لا، ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه، قال خالد: فاجتررته فأكلته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر) قال رضي الله عنه: المحنوذ: المشوي بالرضف، وهي الحجارة المحماة. وعن عبد الله بن أبي أوفى قال: (غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد) . وعن زهدم بن مضرب الجرمي قال: كنا عند أبي موسى فدعا بمائدة عليها لحم دجاج، فدخل رجل من بني تيم الله أحمر شبيه بالموالي فقال: هلم فلتأكل، فتلكأ، فقال له: هلم فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل منه] . هذه الأحاديث تتعلق ببعض الأطعمة، وسياقها يدل على أنها في اللحوم التي قد يشك فيها، فالحديث الأول في حكم أكل الضب، وهو حيوان معروف، وصورته كصورة الوزغ أو السحلية أو سام أبرص أو الورل، ولكن استثني فأبيح، وقد ورد فيه أحاديث كثيرة، ومنها ما يدل على كراهته، ومنها ما يدل على إباحته، فمنها هذا الحديث، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على ميمونة وهي إحدى أمهات المؤمنين، ودخل معه خالد بن الوليد وهي خالته، فقدم إليه هذا اللحم، وإذا هو لحم ضب محنوذ، يعني: مشوي على الرضف، وهي حجارة محماة، فأهوى بيده ليأكل، فأخبروه بما يريد أن يأكل حتى يعرف حكم ذلك الطعام الذي يأكله هل هو مباح أم مكروه أم حرام؟ ولم يكن عندهم علم بحكم هذا الحيوان الذي هو الضب، فلما أخبروه بأنه الضب تورع عنه ورفع يده، فسألوه: أحرم هو؟ فقال: (لا، ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه) ، وكأنه تورع عنه لأنه لم يتعود أكله في أول عمره، وكأنه في ذلك الوقت لم يكن كثيراً حول مكة، وإن كان يوجد بكثرة حول المدينة وحول القرى الأخرى، ولكن لأنه لم يعتاده في أول عمره كرهته نفسه فتورع عنه، فهذا هو السبب في كونه لم يأكله. ولكن اجتذبه خالد بن الوليد فأكله والنبي صلى الله عليه وسلم ينظر، واستدلوا بإقراره على أنه مباح، فإنه لا يقر على ما هو مكروه أو ما هو حرام، ودل على أن تركه له إنما هو لأن نفسه تقززت وتوقفت عن أكل شيء لم يكن اعتاده ولا تعودت نفسه على استساغته. وبكل حال فهو دليل على إباحة لحم الضب، فهو من الطيبات؛ وذلك لأنه يأكل من الأعشاب التي تنبت في البراري، فهو من جملة الدواب التي تأكل منها كالظباء والوعول وما أشبهها التي هي من الطيبات، وهو لا يأكل الجيف، ولا يأكل الأقذار ونحوها. وورد في بعض الروايات أنه قال: (لا أحله ولا أحرمه) يعني: لا آكله ولا تستطيبه نفسي، ولكن لا أحرمه، والصحيح الرواية التي فيها: (لا آكله ولا أحرمه) يعني: لا تقبله نفسي، ولا أنهى غيري، ومع كثرة الأحاديث التي فيه؛ فإن الذين لم يألفوه ولم يعرفوه في بلادهم ينكرون أكله، وتنفر منه نفوسهم، فكثير من أهل البلاد النائية ما عرفوه، وإذا رأوه فإن نفوسهم تتوقف عن أكله، وتكرهه، وقد كرهه بعضهم لوجود رائحة فيمن أكله، فإنه يؤثر رائحة فيمن أكله، ولكن ليست تلك الرائحة رائحة كريهة، وإنما هي رائحة واضحة تبين أنه أكل شيئاً من لحم الضب، وهذا لا يبرر كراهيته، فهو من المباحات.

شرح حديث: (غزونا مع رسول الله سبع غزوات نأكل الجراد)

شرح حديث: (غزونا مع رسول الله سبع غزوات نأكل الجراد) قوله: (غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد) ، الجراد معروف، وهو هذه الحشرات الصغيرة التي تطير، وتوجد بكثرة في بعض الأوقات، وهي شبيهة ببعض الأشياء المحرمة كالزنابير والدبر وغيره، ولكن لها خاصية في أنها تأكل الأعشاب ونحوها وتتغذى بالنبات وما أشبهه، فلا إثم في أكلها، وأيضاً فهي مما يسلطها الله على بعض الناس، فتكثر فتأكل الثمار وتتسلط على الزروع وعلى البساتين، وإذا سلطها الله تعالى على قوم تكون من جملة العذاب الذي يرسله الله، وقد ذكر الله تعالى أنها من جملة ما أرسل على آل فرعون، فقال الله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ} [الأعراف:133] يعني: سلط الله عليهم هذه الأشياء، فسلط عليهم الجراد فأكل ثمارهم، وأكل أشجارهم، عذاب من الله لا يقدرون على رده؛ وذلك لكثرته وعدم استطاعة مقاومته إذا سلط، وما يؤخذ منه أو يصاد لا ينقصه، فالناس يصطادون منه شيئاً كثيراً، ثم بعد ذلك إذا أصبحوا وذهب إلى البلاد الأخرى وجدوه كأنه لم ينقص، فيصيدون منه، ثم في الصباح يطير ويذهب إلى قرية أخرى، فيجدونه كأنه لم ينقص، وهكذا ليس له نهاية إلا إذا سلط الله عليه ما شاء. إذاً: هذا الجراد من جملة ما يسلطه الله على عباده، ولما كان من جملة الطيبات، وأكله من الأشجار ونحوها؛ أبيح أكله، وجعل من الدواب التي لا تحتاج إلى تذكية، ففي الحديث: (أحلت لنا ميتتان ودمان: فأما الميتتان فالجراد والحوت، وأما الدمان فالكبد والطحال) ، فتباح ميتته، وإذا وجد ميتاً أبيح طبخه أو شيه، وكذلك إن صيد وهو حي فإنه لا يحتاج إلى ذبح، بل يشوى أو يطبخ وهو حي، ويحل أكله بعد ذلك، وما ذاك إلا لأنه ليس فيه دم إذا ذبح، وما يسيل منه لا يسمى دماً، وإنما يسيل منه شيء وهو حي شبه لعابه، فلا يسمى دماً، والميتة حرمت لأنها إذا ماتت تحجر الدم في عروقها وأفسد لحمها، بخلاف الجراد فإنه ليس فيه دم، فلذلك يباح أكله بعد ما يطبخ ولو لم يذبح. المصنف ذكر هذا الحديث لأن فيه خلافاً، وكثير من أهل البلاد الإسلامية ينكرون أكله؛ وذلك لأنهم لم يتعودوه، ولم يألفوه، لأنه غريب في بلادهم، أو أنه يأتيهم أحياناً، ولم يتعودوا اصطياده وطبخه، فلذلك يكون من جملة المكروه نفسياً، ولكن لما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أكله، ولما ثبت أنه أباحه وإن لم يذك، وثبت أن الصحابة أكلوه؛ دل ذلك على أنه من جملة المباحات ومن جملة الطيبات، فهو غذاء يغني عن الطعام ويغني عن اللحوم، وقد يتلذذ بأكله، ويتفكه به، فلا كراهة فيه، ولكن لا يلزم كل أحد أن يأكله، إنما يأكله من اشتهاه، ولكن لا يعيبه أحد ولا يحرمه.

شرح حديث: (رأيت رسول الله يأكل الدجاج)

شرح حديث: (رأيت رسول الله يأكل الدجاج) الحديث الذي بعده يتعلق بأكل لحم الدجاج، وفيه هذه القصة، وهي أن أبا موسى رضي الله عنه قدم إليه طعام وعليه لحم دجاج، وعنده رجل من بني تيم، فتلكأ لما دعي لأكله، فأخبر أبو موسى بأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يأكله، ولكن ذلك التيمي اعتذر بأنه رآه يأكل شيئاً فكرهه، وفي بعض الروايات فسر بأنه رآه يأكل النجاسات، فكرهته نفسه، وامتنع من أكله. وبكل حال الدجاج المعروف من جملة ما ذلل للإنسان، فهو من الدواب التي لا تنفر من الناس، بل تألف الناس، وتكون في البيوت، وهي لا تطير كما يطير غيرها من الطيور؛ ولهذا يقول بعضهم: كذا دجاج البيوت لهن ريش ولكن لا يطرن مع الحمامة فهي ولو كانت لها أجنحة لكن ليست مما ينفر من الناس ويذهب، بل تألف البيوت، وتتوالد عند الناس، ثم إذا أراد أهلها الذين يملكونها أن يأكلوها أمسكوها وذبحوها، وأكلوا لحمها، وأكلوا أيضاً من بيضها، فهي من جملة ما سخر للإنسان. وهذا الدجاج غذاء كثير من الناس، وقد لا يستغني عنه غالباً أهل بيت إلا ما شاء الله، فهو من جملة الأطعمة الحلال المباحة، لكن قد يقال: إنه أحياناً يتغذى بالنجاسة، فيأكل النجاسات، ولعله سبب كون ذلك التيمي كرهه، وهو قد يتغذى أحياناً بالنجاسات، إذا وجد العذرة أو نحوها من النجاسات يأكل منها، وحينئذ يكون له حكم الجلالة، والجلالة هي التي تأكل العذرة أي: النجاسات ورجيع الآدمي، وقد وردت أحاديث في النهي عن أكلها ما دام عرف ذلك عنها حتى تطهر، فقالوا: إذا كانت الناقة أو الجمل أو البقر جلالة -يعني: تأكل من النجاسات- فإنها تحبس، قيل: أربعين يوماً، وقيل: سبعة أيام، وتطعم طعاماً طيباً من النبات أو الشعير أو نحوه إلى أن يطيب لحمها، ويذهب عنها ذلك الغذاء الخبيث. أما إذا كانت من الغنم فقالوا: يكفي حبسها سبعة أيام حتى ينظف بطنها، ويزول ما فيها من ذلك الغذاء النجس، وأما إذا كانت من الدجاج فإنها تحبس ثلاثة أيام، وتطعم من الحبوب التي تتقوت بها غالباً كالبر ونحوه حتى يطيب لحمها أو يطيب غذاؤها، فيكتفى بحبسها ثلاثة أيام. وذهب كثير من العلماء إلى أنه لا يجوز أكلها حتى ينبت لها لحم غير ذلك اللحم أو يتغير، وفي هذا شيء من التشديد، وعلى كل حال يقول العلماء: إن هذا النجاسة التي أكلتها ولو أنها أثرت في بدنها وفي لحمها ولكن تأثيرها قليل، فاللحم موجود، وآثار ذلك الغذاء يرى في عروقها وفي أمعائها، ولكن بعد ما تحبس وتطعم الطعام الطيب يزول ذلك الأثر. ومعروف أن الدجاج في هذه الأزمنة قد تطعم طعاماً نجساً، الدواجن الموجودة الآن التي يبيعها أهلها يذكرون أنهم يغذونها بأغذية مستوردة قد يكون فيها شيء من النجاسات، يأخذون الدم أو غيره ويخلطونه بأشياء، ثم يجعلونه غذاء لهذه الطيور كالحمام والأوز والدجاج وما أشبهها حتى تتغذى به، لكن ذهب بعض العلماء إلى أنه طاهر؛ وذلك لأنه تحال، وقالوا: إن النجاسة تطهر بالاستحالة، وما دام أنه عقم وأدخل في مصانع وأزيل أثر ذلك القذر الذي فيه؛ فلا مانع من التغذي به، وإن كان الأفضل أن أهل الدواجن لا يغذونه إلا من الشيء الذي يتحققون طهارته وبعده عن النجاسة. وبكل حال هذه أحاديث تدل على بعض ما يباح من الأطعمة، والأصل فيها أنها حلال، وقد عرفنا أن الطيور والحيوانات الأصل فيها الحل إلا ما استثني، فاستثنوا الدواب والطيور التي تأكل الجيف كالسباع والرخم والنسور والغراب والعقاب وما أشبهه، واستثنوا ما له مخلب، وغالباً أن الذي له مخلب يأكل الجيف كالصقر والبازي وما أشبه ذلك، واستثنوا ما تستخبثه العرب ولا تستطيبه، واستثنوا الحشرات، واستثنوا ما أمر بقتله كالفواسق أو ما نهي عن قتله كالنملة والنحلة والهدهد والصرد، وما بقي فالأصل فيه الإباحة.

شرح حديث: (إذا أكل أحدكم طعاما فلا يمسح يده حتى يلعقها)

شرح حديث: (إذا أكل أحدكم طعاماً فلا يمسح يده حتى يلعقها) قال المصنف رحمه الله: [عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أكل أحدكم طعاماً فلا يمسح يده حتى يلعقها أو يلعقها) ] . قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أكل أحدكم طعاماً فلا يمسح يده حتى يَلعقها أو يُلعقها) يعني: إذا أكل بيده، وكان في يده بعد الأكل بقية من ذلك الطعام فإن عليه أن يلعق يده أي: أصابعه وكفه الذي عليه بقايا ذلك الطعام، أو يُلعقها أي: يعطيها ولده أو خادمه يمصها وينظفها قبل أن يمسحها، وكانت عادتهم الأكل بالأيدي دون الأكل بملعقة ونحوها؛ وذلك لأن اليد هي التي جعلها الله آلة العمل، ومن العمل الأكل، فقد أعطى الله الإنسان هذه الجوارح، ومن جملتها الأيدي، وأمره وأباح له أن يعمل بها ما ينفعه.

آداب الأكل

آداب الأكل معلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أمته العادات كما علمهم العبادات، وتلك العادات مع النية الصالحة يثاب العبد عليها إذا امتثل أمر الله وأمر رسوله، ولو كانت من العادات الطبعية، فقد علمهم صلى الله عليه وسلم كيفية التخلي؛ حتى عاب ذلك اليهود وقالوا: علمكم كل شيء حتى الخراءة! ولا شك أن من أهم ما يعلمهم آداب الأكل والشرب، فقد حثهم على الآداب في الأكل وفي الشرب، فقال صلى الله عليه وسلم: (إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، وإذا شرب فليشرب بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله) ، فهذا تعليم منه صلى الله عليه وسلم بالشرب باليد اليمنى، وهي مشتقة من اليُمن الذي هو الخير والبركة، فأمرهم بأن يأكلوا ويشربوا بها حتى يبتعدوا عن مشابهة الشيطان. وأمرهم أن يقتصدوا في الأكل ولا يسرفوا، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما ملأ ابن آدم وعاء شر من بطن، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان ولابد فاعلاً فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه) ، وهذا تعليم منه صلى الله عليه وسلم على الاقتصاد في الأكل وعدم الإسراف، وقد نهى الله تعالى عن الإسراف فقال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31] لما أباح الأكل أمر أن يكون باقتصاد بلا إسراف، فهذه تعليمات من الله تعالى ورسوله. كذلك كان صلى الله عليه وسلم يعلمهم كيفية الأكل، فكان يأمرهم إذا كانوا جماعة أن يأكلوا من أطراف الصحفة، وقال لربيبه لما رأى يده تطيش في الصحفة: (يا غلام! سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك) ، فأمره بأن يبدأ باسم الله، وأن يأكل بيده اليمنى دون اليسرى، وأن يأكل مما يليه، وامتثل ذلك الغلام فقال: فما زالت تلك طعمتي، أي: ما زلت على ذلك لا أتجاوز ما يليني، أي: يأكل مما يليه. وكذلك أيضاً حث على حفظ الطعام، فإن الطعام له بركة وله فائدة، فقال: (كلوا من أطراف الصحفة، وذروا ذروتها) أي: إذا كانوا يأكلون من صحفة، فليأكلوا من أطرافها وليتركوا وسطها، فإن الرحمة تنزل وسطها، وهذه تعليمات بكيفية الأكل إذا كانوا مجموعة متحلقين على صحفة أو على قدح يأكلون منه، فيأكل كل منهم مما يليه، ويتركون وسطها حتى يصلوا إليه. وكذلك أيضاً ثبت أنه أمر بأخذ اللقمة إذا سقطت، فقال صلى الله عليه وسلم: (إذا سقطت لقمة أحدكم فليأخذها وليمط ما فيها من الأذى وليأكلها، ولا يدعها للشيطان) ، وكانت عادتهم أنهم يجلسون على التراب، وقد يرفع أحدهم لقمة إلى فمه، فتسقط على التراب فيتقذرها، فأمره أن يرفع تلك اللقمة، وأن يزيل التراب الذي علق بها ويأكلها، وأخبر بأنه إذا تركها فإنه يتركها للشيطان، والشيطان معلوم أنه يحرص على تقليل بركة الطعام، وعلى نزعها منه، والإنسان لا يفرح بالشيء الذي يحبه الشيطان، ولا يكون عوناً للشيطان، بل يؤمر بمخالفته وبكل شيء يضره، فلا تدع اللقمة التي سقطت منك، بل ارفعها وكلها بعدما تنظفها، هذا وهي ساقطة على تراب، فإذا سقطت على سفرة، أو على خوان، أو على بساط، أو سماط نظيف؛ فمن المعلوم أنها لا تتلوث بتراب، ولا تتلوث بغبار غالباً، حيث إن البسط والفرش تنظف في الغالب يومياً أو نحو ذلك، وكذلك الخوان والسماط إذا سقطت عليه فمعلوم أنها لا تتلوث. إذاً: فأنت مأمور بأن تأخذ وتأكل ما تساقط من اللقيمات أو من هذه الحبات التي تتساقط منك، ولا تدعها للشيطان كما أمرك بذلك النبي عليه الصلاة والسلام. وهكذا أيضاً أمر بلعق الأصابع والصحفة وقال: (فإنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة) ، فإذا انتهيت من الأكل أو انتهيتم وأنتم مجموعة، وفرغت الصحفة أو الصحن أو القدح الذي فيه الطعام، فإن السنة أن تلعق الصحفة بالأصابع، ثم تعلق وتمتص ما علق منها بأصابعك، وعلل بذلك بقوله: (فإنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة) . وفي هذا الحديث: أمر بلعق الأصابع، حتى قال: (يَلعقها أو يُلعقها) أي: يَلعقها بنفسه أو يُلعقها غيره قبل أن يمسحها، ويلعق الصحفة قبل أن يغسلها، وكانوا يقتصرون على المسح، فلا يغسلون أيديهم بعد الأكل، وإنما يقتصرون على المسح بخرقة أو منديل أو نحو ذلك، فيمسحون أثر الأكل من اليد، ومعلوم أن الغسل لاسيما بصابون أو نحوه أبلغ في إزالة أثر الأكل، ونحن نقول: لا مانع من الغسل بالصابون ونحوه لإزالة أثرها، وقد ورد الأمر بغسل اليدين قبل الطعام، والأمر أيضاً بتنظيفهما بعده، ويقول بعض الحكماء: اغسل يديك قبل تناول الطعام وبعده، فغسلها قبله أمنة من الجذام، وغسلها بعده أمنة من الهوام، أي: أنك إذا نظفتها وزال ما فيها من الدسم أمنت من أن تعلق بها الهوام التي تأتي على رائحة الدسم، فربما لسعته هامة أو نحوها، فذلك أمنة، وهي من السنة، يعني: التنظيف، وإن زال ذلك الأثر بالمسح فإنه يكتفى به. ولاشك أن هذه التعليمات من النبي صلى الله عليه وسلم هي حث لأمته على حفظ هذا الطعام، وعلى عدم إضاعته، وذلك لأن الطعام هو قوت البدن، وهو القوت الرئيسي الذي ينمو وينبت به هذا البدن، فأمر بحفظه والمحافظة عليه وعدم إفساده، وعدم تبذيره وتبديده، وعدم إضاعته بأي نوع من أنواع الإضاعة؛ وذلك احتراماً له، لأنه فضل الله وعطاؤه، وهو الذي يسر أسبابه، يسر لك السبب الذي تحصل منه على هذا الغذاء، وتتغذى به، وتسد به جوعتك، وينمو وينبت به جسدك، وتبقى به حياتك، فالله تعالى هو الذي سهله ويسره، وهو الذي يسهل كيفية التغذية به.

النهي عن إضاعة الطعام والإسراف فيه

النهي عن إضاعة الطعام والإسراف فيه على كل حال، هذا الحديث ونحوه دليل على أنه يشرع للمسلم ألا يسرف في إضاعة الطعام، ولا في إفساده بأي نوع من أنواع الإفساد؛ وذلك احتراماً لهذا الطعام، ولهذه النعمة التي أنعم الله بها على العبد؛ مخافة أن يتمناه عند فقده، وليتذكر أن هناك من يتمنى كسرة الخبز التي يلقيها الكثير من الناس أو لقمة اللحم التي لا يعبأ بها، فقد كان عليه الصلاة والسلام يحض على حفظ كل ما يتصل بالطعام، ذكر ابن القيم رحمه الله أنه صلى الله عليه وسلم رأى مرة كسرة خبز سقطت على الأرض فرفعها وقال: (يا عائشة! أحسني جوار نعم الله، فقل أن تنفر من قوم فتعود إليهم) ، ونعم الله من أجلها الطعام والمآكل ونحوها، فأمرها بأن تحسن جوار نعم الله، وأخبر أن إلقاءها على الأرض ولو كانت يابسة إهانة لها، واستهانة بقدرها، وسبب في نفورها، وعلامة على عدم شكرها، والنعم إذا شكرت قرت، وإذا كفرت فرت، فعلى المسلم أن يراعي ما أمر الله تعالى بمراعاته وأمر بحفظه. كان النبي صلى الله عليه وسلم يعيش عيشة قلة، بحيث إنه كان يبقى شهراً أو شهرين لا يوقد في بيته نار، إنما قوته الأسودان: التمر والماء، وأحياناً يأتيهم شيء من اللبن، تقول عائشة: إلا أن نؤتى باللحيم، يعني: يأتيهم أحد بقطعة لحم أو نحوه، وكان عليه الصلاة والسلام لا يدع شيئاً من آثار الطعام يفسد أبداً، بل يأكل منه ويعطي غيره، أو يأكل بقية ما أكله غيره، ولا يتحاشى مما أكل منه غيره، ذكرت عائشة أنها كانت تشرب من اللبن في القدح، ثم تناوله صلى الله عليه وسلم فيشرب منه، ويضع فمه في الموضع الذي وضعت فيه فمها، ولا يتحاشى ويقول: إناء شرب فيه غيري لا أشرب فيه، بل يشرب فيه ولو كان قد شرب فيه غيره، وذكر أبو هريرة أنه وجد عند النبي صلى الله عليه وسلم قدحاً فيه لبن، فأمره أن يأتي بأهل الصفة، فلما أتى بهم أمره أن يسقيهم واحداً بعد واحد، وكل واحد شرب من ذلك القدح حاجته، حتى انتهوا ورووا، ثم أمر أبا هريرة أن يشرب، ثم شرب صلى الله عليه وسلم الفضلة، ولم يقل: هذا القدح قد شرب من حافته عشرة، فلا أقبله إلا بعد غسله وبعد تنظيفه، بل يشرب من موضع شربهم، ولا يتحاشى شيئاً من ذلك، ولا يحتاج إلى غسله، وكان إذا أهدي لهم عظم عليه لحم ينهسه بأسنانه يعني: يتعرقه ويأخذه بأسنانه، قالت عائشة: كنت أتعرق اللحم من العظم ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم بعدما آكل منه، فيضع أسنانه في مكان موضع أسنانها، ويتعرق منه ولا يتركه وعليه شيء مما يمكن أن تناله الأسنان، وكل ذلك حرص منه على عدم إفساد الطعام، وحرص منه على أن يكون المسلم محافظاً على نعم الله تعالى، وتحذير من إضاعتها، وعدم شكرها، وعدم حفظها؛ لأنه يخشى أنها تنفر أو يكون ذلك كفراً. الكثير من الناس في هذه الأزمنة يفسدون أنواعاً من الطعام، ولا يبالي أحدهم بما أفسد منه، وربما تشاهد اللحوم وأنواع الفواكه وأنواع المأكولات تلقى في القمامات ونحوها، ولا شك أن هذا يخاف منه أن يكون كفراناً للنعم، ذكرنا هذا بمناسبة أنه صلى الله عليه وسلم أمر بلعق الأصابع، وقال: (إذا فرغ أحدكم من الطعام فلا يمسح يده حتى يَلعقها أو يُلعقها) ، مع أنه لا يعلق بالأصابع غالباً إلا دسم أو آثار قليلة من الطعام أو نحو ذلك، فإذا غسلها وعليها هذا الدسم، أو عليها هذا الطعام، ربما اختلط الطعام مع الأوساخ، وربما ذهب مع مجاري الفضلات، ومجاري الأوساخ والقاذورات، فيكون ذلك إفساداً لهذه النعمة، وعدم اعتراف بها، أما إذا أعطاها من يُلعقها حتى ولو بهيمة فإن ذلك يكون حفظاً لها، فإذا بقي على الخوان شيء من حبات الطعام، فإياك أن تلقيه في القمامات ونحوها، فستجد من يأكله ولو من الطيور ولو من القطط ونحوها التي تمتص العظام ونحوها، ولو من الدواب، ولو حتى من الذر والنمل التي تأكل ما عليها، وهذا أهون من أن تلقيها فتداس بالأرجل وتمتهن وتفسد، ويكون ذلك إفساداً لها، وعدم شكر لها، هذا في بقية الطعام الذي على العظم ونحوه، فبطريق أولى لا يجوز إفساد الأكل الكثير، وإلقاؤه وعدم إعطائه لمن يستحقه، وهناك بلا شك -كما تعرفون- بلاد كثيرة تشكو من الجوع وتشكو الفقر، يتمنون الخبزة التي نراها كثيراً في القمامات، ويتمنون التفاحة أو نحوها التي نراها تلقى وتفسد، وكذلك في هذه البلاد من يتمنى أكلة أو بعض أكلة، وهم في أطراف البلاد أو في البيوت القديمة، وهناك جمعيات يتلقون بقية الأكل وتعطى لهؤلاء حتى لا تفسد، ويفرقونها على من يعرفونه مستحقاً، فيتقبلها ويفرح بها.

شرح عمدة الأحكام [75]

شرح عمدة الأحكام [75] علم الله أن الإنسان يحتاج إلى اصطياد الحيوانات والطيور فأحل له منها ما هو طيب، وحرم عليه منها ما هو خبيث، والصيد جائز سواء اصطاده الإنسان بشبكة أو بسهم، أو بجارح من الجوارح المعلمة، وقد بين أهل العلم أحكام الصيد من أدلة الكتاب والسنة.

شرح حديث: (إنا بأرض قوم أهل كتاب، أفنأكل في آنيتهم؟)

شرح حديث: (إنا بأرض قوم أهل كتاب، أفنأكل في آنيتهم؟) قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [باب الصيد: عن أبي ثعلبة الخشني قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! إنا بأرض قوم أهل كتاب، أفنأكل في آنيتهم؟ وفي أرض صيد، أصيد بقوسي، وبكلبي الذي ليس بمعلم، وبكلبي المعلم، فما يصلح لي؟ قال: أما ما ذكرت -يعني: من آنية أهل الكتاب- فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها، فإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها، وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله عليه فكل، وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله عليه فكل، وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فكل) ] . مما أحله الله تعالى الصيد الحلال، قال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة:4] ، والجوارح هي التي تعلم ويصاد بها، فمن الجوارح الكلاب المعلمة، ومن الجوارح الطيور المعلمة، وقد اشترط الله تعالى فيها التعليم: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ} [المائدة:4] فيعلم الكلب أو نحوه كيفية، الإرسال وكيفية الإمساك، وكذلك الطير الذي يصاد به كالباز والشاهين والباشق والصقر ونحوها من الطيور التي تعلم وترسل فتصيد، فأباح الله تعالى هذا الاصطياد، وأباح أكل هذا الصيد. والأمر في قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة:2] أمر إباحة، ومنع من الصيد في حالة الإحرام فقال: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:95] ، وقال: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} [المائدة:96] ، فدل على أنه إذا لم يكن هناك إحرام فإن الصيد حلال، وكذلك يحرم الاصطياد داخل الحرم؛ لأن مكة وما حولها حرم لا ينفر صيدها، يعني: لا يصطاد ولا يطرد، أما بقية البلاد غير الحرمين فإنه يجوز أن يصيد فيه غير المحرم.

حكم استعمال آنية الكفار

حكم استعمال آنية الكفار هذا الحديث عن أبي ثعلبة جرثوم بن ناشر الخشني رضي الله عنه، ذكر أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم سؤالين: سؤال يتعلق بآنية الكفار، وسؤال يتعلق بالصيد، فأما آنية أهل الكتاب فذكر أنهم يحتاجون لها، فما حكم الطبخ والأكل والشرب فيها؟ وكأنه توقف فيها لأن أهل الكتاب الذين هم النصارى أو اليهود كانوا يستحلون الخمر، فيشربون في آنيتهم الخمور، فتكون تلك الآنية قد تلوثت بهذا الشراب المحرم، وكانوا يطبخون في قدورهم الميتة، ويطبخون فيها لحم الخنزير، وهو محرم، فتكون تلك القدور بعد الطبخ فيها شيء من آثار ذلك المطبوخ، فما حكم طبخنا فيها، أو شربنا فيها، هل ذلك جائز أم لا؟ فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يتركها إذا وجد غيرها، يعني: إذا وجدتم آنية غير آنية الكفار فلا تأكلوا ولا تشربوا فيها؛ مخافة أن يكون فيها شيء من أثر نجاسة، وقد يكون ذلك لأجل ألا يكون لهم منة على المؤمن، فيكون ذلك سبباً لمحبتهم ومودتهم، وموالاتهم وتقريبهم، بل لا تأخذوا منهم شيئاً وأنتم تجدونه عند غيرهم، فإذا لم تجدوا غير تلك الآنية فإن لكم رخصة في أن تأكلوا أو تشربوا أو تطبخوا فيها، ولكن بعد التطهير، بعدما تغسلها بالماء وتنظفها حتى يزول ما يخاف أن يكون فيها من آثار النجاسة، هذا جواب السؤال الأول.

حل الصيد

حل الصيد السؤال الثاني عن الصيد، فذكر أن الصيد يكون بالرمي، ويكون بالكلب، والكلب قد يكون معلماً وقد يكون غير معلم، ويلحق بالكلب الجوارح التي ذكرها الله تعالى في القرآن: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ} [المائدة:4] فالطيور المعلمة تسمى جوارح؛ لأنها تجرح الصيد إذا صادته، فأباح الله تعالى صيد الطيور المعلمة، وأباح أيضاً صيد الكلاب المعلمة، فقوله تعالى: {مُكَلِّبِينَ} [المائدة:4] يعني: متخذين هذه الكلاب تعلمونهن مما علمكم الله. إذاً: الصيد بالكلب المعلم حلال، بشرط أن يكون معلماً، ومتى يكون معلَّماً؟ المعلَّم هو الذي إذا أرسل استرسل، وإذا زجر انزجر، وإذا أمسك لم يأكل، هذا حد المعلم. علم الله أن الإنسان قد يحتاج إلى الاصطياد من هذه الدواب المباحة المنتشرة في الأرض، وهذه الدواب منها ما هو حلال، ومنها ما هو حرام، وللحرام علامات يعرف بها، ويتميز بها الحلال من الحرام، فمنها ما يكون بالغذاء، ومنها ما يكون بوصف اتصف به، والدواب المباحة قد سبق ذكر بعضها، فتقدم أن الضب أكل على مائدة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو من الصيد، وذكر أن الصحابة أنفجوا أرنباً، وأمسكها أنس وذبحها أبو طلحة، وأرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بوركها وفخذها فقبله، فدل على أنها من الصيد، وتقدم في الحج ذكر حمار الوحش، وأنه من الصيد، وهو دابة أكبر من الوعل أو قريب منه، أو هو نوع من الوعول، فهو من الصيد، وكذا الظباء، والوعول، والإيل، والأروى، هذه كلها من أنواع الصيد، ومن أنواع الصيد المتوحش ما يعيش في البراري كالوبر واليربوع، وما يلحق به، فهذه من أنواع الصيود التي تعيش في البراري، وتتقوت من القوت الحلال، فترعى من الرعي الذي ينبت في الأرض، وتشرب إذا وردت ماء أو تعيش بدون ماء. كذلك أيضاً أباح الله الكثير من الطيور المباحة، فالحمام بأنواعه من الطيور الحلال، وكذلك الحجل من الطيور المباحة، وهكذا الحبارى من الطيور المباحة؛ وذلك لأن قوتها وغذاءها حلال من الطيب، وأما الأشياء المستقذرة فإنها محرمة، حرم النبي صلى الله عليه وسلم (كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير) ، فحرم ذوات المخالب، فالصقر ولو كان مما يعلم فإنه حرام لأنه ذو مخلب، وكذلك العقاب، والغراب، والباشق، والعقاب، والرخم، والنسور التي تأكل الجيف والقاذورات، فهذه ليست من الصيد، بل هي من المحرمات؛ لأنها تتغذى بالجيف وتأكلها وتأكل الأقذار، بخلاف الصيد الذي يتغذى بالأعشاب، أو الطيور التي تتغذى بالحبوب وبالأعشاب كالحمام ونحوها فهذه من الطيبات. فعرفنا بذلك الفرق بين ما هو حلال من الطيور وما هو حرام، وكذلك الوحوش، فذوات الأنياب حرام كالذئب والنمر والأسد والدب وما أشبهه، وأيضاً ما يأكل الجيف كالكلاب بأنواعها، فهذه كلها محرم أكلها ولو كانت أليفة، فليست من الصيد الذي أباحه الله في قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة:2] ، وفي قوله: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} [المائدة:96] ، وفي قوله: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة:4] ، وإنما المراد ما أمسكت من الصيد الحلال، فهذا الصيد يقتنصه المقتنصون؛ لأنه طعام لذيذ ولحم شهي كسائر اللحوم، والله تعالى أباح اللحوم الطيبة، فأباح بهيمة الأنعام، أباح لحم الإبل والبقر والغنم بأنواعها، وتقدم أن لحم الخيل أيضاً مباح؛ لأنه من الطيبات، وكذلك لحوم الأسماك ودواب البحر لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة:96] ، وتقدم أيضاً إباحة أكل الجراد، وهو من اللحوم المباحة وإن تقذره بعض من لم يألفه. وهذه الصيود جعل الله لها ما تتحصن به، فمنها ما يتحصن عن الاصطياد بجناحيه فيطير حتى يحرز نفسه وينجو بنفسه عن أن يدركه من يطلبه، فالحمام وما أشبهه من الحجلات والعصافير بأنواعها تتحصن وتتحرز بأجنحتها بأن تطير حتى تؤمن نفسها، والظباء ونحوها جعل الله لها حصناً بشدة السعي، فهي تسعى سعياً شديداً حتى لا يدركها الإنسان ولا يدركها إلا جارح قوي سابق من الكلاب ونحوها، ولاشك أن هذه كلها جعل الله لها سلاحاً تتوقى به حتى تحصن نفسها، ولكن إذا غلبها الإنسان بأن اصطادها بشبكة أو اصطادها بجارح أو اصطادها بسهم رماها به؛ فهي من الطيبات التي أحلها الله، وجعل أكلها من نعمه التي أنعم بها على عباده، فيأكلها المصطاد سواء أكل تفكه وتلذذ وتنعم وإن لم يكن جائعاً، وإن كان اللحم موجوداً، أو أكل غذاء، فهناك من ليس لهم كسب وليس لهم غذاء إلا الاصطياد، ليس لهم حرفة ولا صنعة، وليس لهم مورد إلا أن يصطادوا، وكان إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام صياداً، ما كان له حرفة إلا أنه يذهب فيصيد بالنبل، يعني: يرمي السهام فيصيد من الطيور المباحة ومن الوحوش المباحة ونحوها، فيكون ذلك غذاء له ولأولاده، ونسمع أن كثيراً من الناس ما كان لهم غذاء إلا ما يصطادونه مما أباحه الله تعالى من هذه الصيود التي امتن الله بإحلالها في قوله تعالى: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ} [المائدة:4] .

حكم الصيد بالكلب

حكم الصيد بالكلب أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا أمسك عليك الكلب فإما أن يكون الكلب معلماً وإما أن يكون غير معلم، وقد عرفت أن المعلم هو الذي إذا أرسل استرسل، وإذا زجر انزجر، وإذا أمسك لم يأكل على صاحبه، بل أمسك على صاحبه ولم يأكل من الصيد، هذا هو الكلب المعلم، وورد أنه صلى الله عليه وسلم قال: (فإن أكل فلا تأكل، فإني أخاف أنه إنما أمسك على نفسه) يعني: لم يمسك لك، وإنما أمسك لنفسه، فعلامة المعلم أنه يمسك الأرنب -مثلاً- بأنيابه حتى يأتي إلى صاحبه فيقبضها، فإن وجدها ميتة فهي حلال وإلا ذكاها، ويذكيها بكل حال. واختلفوا إذا قتلها الكلب، عادة أنه إذا أمسكها فإنه يمسكها بأنيابه، وقد يكون صاحبه بعيداً، فلا يدركه إلا وقد ماتت في فمه، فالأكثرون على أنها تؤكل لعموم قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة:4] ، ولكن بشرط أن تسمي عند الإرسال، فإذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله بأن تقول: باسم الله، والله أكبر؛ فإذا أمسك عليك فكل حتى ولو قتل بعضِّه أو بتحامله على ذلك الصيد حتى مات بثقله فالصحيح أنه يباح، وذلك لكونه داخلاً فيما أباحه الله: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة:4] ، والحديث لم يفصل في الكلب المعلم، بل قال: (إذا أرسلت كلبك المعلم فكل) ، ولم يقل: إن وجدته حياً، بل أطلق ذلك بشرط ذكر اسم الله تعالى، فالكلب المعلم إذا قتل فإن قتله حلال بشرط التسمية عند الإرسال، ولو لم يجرح، ولكن إذا وجدت الصيد حياً فلا بد من ذبحه وتذكيته؛ حتى يخرج الدم، وإذا وجدته قد مات فلا بد من قطع رأسه وحلقومه ولو لم يخرج منه دم حتى تتحقق التذكية ظاهراً، فهذا حكم صيد الكلب المعلم. أما الكلب غير المعلم من سائر الكلاب إذا استرسل وأمسك، ووجدت الصيد في فمه قد مات فلا تأكل؛ وذلك لأنه أمسك لنفسه، وإن وجدت الصيد حياً لم يمت وذكيته فإنه مباح، ويدخل في قوله تعالى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة:3] ، والتذكية هي أن تذبحه من حلقه حتى تقطع الحلقوم والمريء والوريدين، حتى يخرج الدم المتحجر في بدنه، أباح الله المذكى بقوله: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة:3] ، وأباحه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بقوله: (فأدركت ذكاته فكل) ، فأما إذا لم يكن معلماً وقتل فلا تأكل، وكذلك إذا أكل، فإذا وجدت الكلب قد أكل من الصيد سواء كان معلماً أو غير معلم فلا تأكل، فإنه أمسك على نفسه أي: اصطاد لنفسه ولم يصطد لصاحبه؛ لأن الله تعالى يقول: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة:4] يعني: أمسكن لكم، فأما إذا أكل فإنه لم يمسك عليك، وإنما أمسك على نفسه.

حكم الصيد بالطيور الجارحة

حكم الصيد بالطيور الجارحة الطيور الجارحة كالصقر والباز والشاهين والباشق ونحوها من الجوارح، الأصل أنها تجرح؛ وذلك لأن صيدها يكون بمخالبها، فهي تجرح الأرنب مثلاً بمخلبها حتى تفري ظهرها وتشق جلدها، وكذلك الحبارى تضربها بمخالبها في ظهرها حتى تمزق ظهرها وأجنحتها، فهذا لا شك أنه جرح، وأنه تحل به هذه الصيود، ولكن الطيور الجوارح الغالب أنها تأكل مما صادته؛ لأجل ذلك يجوز أكل ما بقي، فلو وجدت الصقر قد أكل من الصيد فلا مانع من أن تأكل ما بقي، أما إذا وجدته حياً فلابد من تذكيته، فإن وجدته قد مات فهو حلال سواء أكل منه الجارح أو لم يأكل، هذا حكم صيد الجوارح.

حكم الصيد بالسهام والرصاص والحجر

حكم الصيد بالسهام والرصاص والحجر يجوز الصيد بالسهام، فالسهم هو الذي يرمى به، وقديماً كان السهم يتخذ من الأعواد، يبرى عود من أعواد السلم ويكون محدداً، ثم يرمى به في القوس، وإذا كانت الرمية شديدة فإنه يخرق الصيد، كما في قوله: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) يعني: يضرب الظبي من جانب ويخرج من جانب، يسبق الفرث والدم، فالأصل أن هذا السهم يخرق، ويصيب غالباً بحده فيقتل، فهذا دليل على أنه حلال، فإذا وجدت السهم قد خرق الجلد وخرق اللحم وماتت الرمية فإنها حلال بشرط أن تسمي عند الرمي، ومثله الرصاص الموجود الآن في البندقية، فإنه محدد، وهو يخرق الرمية وينفذ فيها، لذلك يقول بعضهم: وما ببندق الرصاص صيد فإنه مباح فحله استفيد أفتى به والدنا الأواه وانعقد الإجماع من فتواه فالحاصل أنه يحل أكل ما صيد بهذا الرصاص ونحوه، أما ما صيد بالحجر أو صيد بالعصا أو صيد بالسهم ولكن أصابه بعرضه، فلا يؤكل، بل يدخل في الموقوذة التي ذكر الله أنها من المحرمات، وهي التي تضرب حتى تموت، ولا تنجرح بالضرب، فإذا رميت عصفوراً مثلاً بحجر، وذلك الحجر كبير فشدخه ولم يجرحه ومات فلا تأكل، فإن وجدته قد جرحه فأسال منه الدم فكل إذا سميت عند الرمي، وهكذا إذا رميته بعصا وأصابته العصا بحدها وبرأسها فنفذت فيه وجرحته فإنه حلال إذا سميت عند الرمي، وأما إذا أصابته بعرضها فمات فإنه من الموقوذة فلا يؤكل، هذا ما يتعلق بالصيد بالقوس.

شرح حديث: (إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل)

شرح حديث: (إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل) قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن همام بن الحارث عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله! إني أرسل الكلاب المعلمة فيمسكن علي وأذكر اسم الله، فقال: (إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل ما أمسك عليك، قلت: وإن قتلن؟ قال: وإن قتلن، ما لم يشركها كلب ليس منها، قلت له: فإني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب؟ فقال: إذا رميت بالمعراض فخرق فكل، وإن أصابه بعرضه فلا تأكله) ، وحديث الشعبي عن عدي نحوه، وفيه: (إلا أن يأكل الكلب، فإن أكل فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه، وإن خالطها كلب من غيرها فلا تأكل، فإنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره) ، وفيه: (إذا أرسلت كلبك المكلب فاذكر اسم الله، فإن أمسك عليك فأدركته حياً فاذبحه، وإن أدركته قد قتله ولم يأكل منه فكله، فإن أخذ الكلب ذكاته) ، وفيه أيضاً: (إذا رميت بسهمك فاذكر اسم الله عليه) ، وفيه: (وإن غاب عنك يوماً أو يومين -وفي رواية:- اليومين والثلاثة فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل إن شئت، وإن وجدته غريقاً في الماء فلا تأكل، فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك) ] . في هذا تعليم من النبي صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن الصيد، والصيد هو اقتناص حيوان متوحش طبعاً غير مقدور عليه، واصطياده بواسطة الكلاب، أو بواسطة السهام، أو بواسطة المعراض، وقد أباح الله تعالى جنس ذلك بقوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة:2] ، وحرم ذلك في حالة الإحرام بقوله: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} [المائدة:96] وأفاد أنهم إذا لم يكونوا حرماً فإنه مباح لهم هذا الاصطياد، وقد عرفنا أن المراد بالصيد ما يمكن اقتناصه من الدواب المتوحشة التي يباح أكلها، وهي معروفة ومشهورة، وقد جعل الله سلاحها الذي تتوقى به مختلفاً، فمنها ما سلاحه الأجنحة بحيث يطير حتى ينجو بنفسه، وقد جعل الله بطبعها الهروب من الإنسان، فقد عرفت أنه إذا أمسكها ذبحها وأكلها، فإذا رأته هربت، فإن كانت ذات أجنحة نفرت وطارت لتنجوا بنفسها، وإن كانت من غير الطير سعت بجهدها حتى تنجو بنفسها، ومنها ما يتحصن في رءوس الجبال كالوعول ونحوها، ومنها ما يتحصن بحفر في الأرض كالضب ونحوه، فهذه الدواب وهذه الصيود أباح الله تعالى اصطيادها واقتناصها، فهي تعيش في البراري وتتوالد كما قدر الله، وتأكل من نبات الأرض، ومما تجده مما يناسبها، ويمسكها الإنسان فيأكل مما أحله الله منها، ويتجنب ما ليس بمباح مما ليس من الطيبات. وقد ذكر الله تعالى الاصطياد بالكلاب فقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة:4] ، والجوارح تكون من الطير كالصقر أو البازي أو الشاهين أو الباشق، وغيرها من الطيور التي تجرح الصيد بمخالبها، ومن الجوارح الكلاب المعلمة، ولهذا قال: {مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ} [المائدة:4] أي: متخذين لهذه الكلاب المعلمة، فقد عرف أن الكلب لا يجوز اقتناؤه إلا إذا كان محتاجاً إليه، وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من اقتنى كلباً نقص من أجره كل يوم قيراط إلا كلب صيد أو حرث أو ماشية) كلب الصيد الذي يعدو ويصيد، وكلب الماشية الذي يحفظها ويحرسها من الذئاب والسباع، وكلب الحرث الذي يحرس الحرث؛ لأن أهله قد ينامون ويغيبون، فالكلب يكون حوله حتى لا تأتيه المواشي لتأكل من ذلك الزرع ونحوه، وكذلك يحرسه من اللصوص ونحوهم، فيجوز اتخاذها للحراسة لمثل هذه الأشياء، وأما ما عداها فلا يجوز اقتناؤها. على كل حال، الكلب المعلم صيده حلال؛ لقول الله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة:4] ، فاشترط أن يكون معلماً لقوله: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} [المائدة:4] ، وقد ذكرنا أن المعلم هو الذي إذا أرسل استرسل، وإذا زجر انزجر، وإذا أمسك لم يأكل؛ فهذا هو الذي درب وعلم، يعلمه أهله أنهم إذا رأوا الصيد فإنهم يشيرون إليه، ويدعونه باسمه، ثم إنه يعدوا خلف ذلك الصيد، وإذا رأوه مثلاً متثاقلاً زجروه فانزجر وازداد في العدو، وإذا أمسك وأكل ضربوه فلم يعد، وليس تعبيرهم بالكلام وإنما بالفعل، فيدربونه على أنه يمسك ولا يأكل، وإذا أمسك وأكل ضربوه مرة فلم يعد يأكل، فهذا هو الكلب المعلم.

شروط الصيد بالكلب المعلم وبالسهم ونحوه

شروط الصيد بالكلب المعلم وبالسهم ونحوه في هذه الأحاديث تعليمات لحل الصيد بالكلب المعلم، وكذلك حل الصيد بالسهم وما أشبهه: أولاً: أنه إذا أرسله فإنه يسمي؛ لقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة:4] ، فيذكر اسم الله بقوله: باسم الله، أو باسم الله والله أكبر، على هيئة ما يقوله عند ذبح الحيوان المباح. ثانياً: أن الكلب يمسك الصيد حتى يأتيه صاحبه، ثم يتسلمه منه، ويمسكه بفمه أو بيديه ويتثاقل عليه. ثالثاً: يجوز الصيد لو قتله الكلب، فتسميتك وإرسالك للكلب يعتبر ذكاة، والكلب قد يعض الأرنب حتى تموت، أو يكسر أضلاعها، وقد يتأخر صاحبه فلا يأتي إليه إلا وقد مات، فيكون إمساكه لها تذكية له، وقد ذكر بعضهم خلافاً فيما إذا قتله الكلب بثقله، فـ ابن كثير رحمه الله تكلم على المسألة في أول تفسير سورة المائدة في تفسير قوله تعالى: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة:4] ، وهي الآية الرابعة من السورة، وكأنه يميل إلى أنه لا يؤكل إذا قتله بثقله، ولكن ظاهر الحديث أنه يؤكل؛ لقوله في هذا الحديث: (وإن قتل) يعني: وإن قتل الكلب فَكُلْ. والدليل عليه أنه قال: (وإن وجدت مع كلبك كلباً آخر أو كلاباً فلا تأكل، فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره) ، فدل على أنه إذا سمى على كلبه وقتل فإنه يأكله، وإذا لم يسم فلا يأكل، وإذا وجد مع كلبه كلباً آخر ولم يسم وقد قتل فإنه لا يأكل؛ مخافة أن تكون الكلاب اجتمعت عليه فقتلته، ولا يدرى أيها قتله، هل المسمى عليه أو الذي لم يسم عليه؟ والدليل أيضاً أنه قال: (فأدركت ذكاته) ، فإذا وجدت الصيد لم يزل حياً، لم تزل الأرنب أو اليربوع أو الحبارى أو نحوها فيها حياة، فإنك تذبحه بالسكين؛ وذلك لأنك إذا تركته حتى يموت فقد فرطت، ومثل ذلك القتل بالسهم.

الصيد بالوسائل المباحة

الصيد بالوسائل المباحة امتن الله سبحانه على عباده بالصيد، وجعله من المباحات، ولما ذكر المحرمات في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة:3] إلخ الآية، ذكر ما أحل لهم بقوله: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة:4] أي: وصيد ما علمتم من الجوارح مكلبين {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} [المائدة:4] فأفاد بأن مما أحله الله تعالى، وجعله من الطيبات، هذه الظباء والوعول -والوعل الأنثى هي الأروى، والكبير من الوعول هو التيتل- وحمر الوحش، وبقر الوحش، وغنم الوحش -وهي دواب تشبه الضأن، وهي أنواع من الوعول- وكذلك ما يشبهها مما هو حلال طيب داخل في قوله: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة:5] ، واصطيادها وإمساكها للإنسان فيه طرق ومسالك يسلكها، ويتوصل بها إلى إمساكها بأية وسيلة، لكن لابد أن تكون تلك الوسيلة مباحة، ونسمع أن كثيراً يأتون إلى الضب وهو في جحره فيوقدون عليه حتى ربما احترق في جحره من الدخان ومات في جحره، فمثل هذا تعذيب لا يجوز؛ وذلك لأن تعذيب الحيوان بالإحراق إفساد له، وتعذيب له بغير حق، أما صب الماء في جحره إلى أن يشعر بالماء ثم يخرج لئلا يغرق فهذا جائز، وكثيراً ما يحصل خروج الأضب من جحورها بواسطة نزول السيل ودخوله في جحورها، فعند ذلك تخرج، فيلحق بذلك إذا صب في جحره من الماء حتى يخرج، وأما ما يفعله بعضهم من إيقاد عليه، أو عمل من الأعمال الجديدة كإحراقه بالسيارات أو نحوها فنرى أن ذلك من التعذيب ومن الأذى. أما الصيد بالمعراض، فالمعراض: هو العصا التي ليست بمحددة، ولكن قد يكون رأسها يخرق، فإذا رمى صيداً ولو صغيراً -كعصفور أو حمّرة أو حمامة أو نحو ذلك- بهذا المعراض فإن كان المعراض قتله بثقله فلا يحل، وهو داخل في الموقوذة التي هي من جملة المحرمات، والموقوذة: هي التي تضرب إلى أن تموت، تضرب بعصا أو بحجارة إلى أن تموت دون أن تذكى -أي: تذبح- فلو استعصت شاة أو ناقة أو ثور لم يجز قتله بالمثقل، فلا يجوز أن يضرب بالحجارة أو بالعصي إلى أن يموت، لكن يجوز رميه بالسهام إذا نفر وهرب، ففي حديث رافع بن خديج: أنهم كانوا في سفر فندّ بعير -يعني: هرب-، ولما هرب رماه رجل بسهم فأثبته، فذلك السهم الذي رماه به خرق جلده وخرق بدنه وجوفه، فسقط ذلك البعير من آثار ذلك السهم، فأباح النبي صلى الله عليه وسلم أكله، وقال: (إن لهذه الدواب أوابد كأوابد الوحش، فما ندّ منها فافعلوا به هكذا) ، أما كونه يضرب بعصي إلى أن يموت فإن هذا وقيذ، وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم ما قتل بالمعراض بالوقيذ، فإذا رميت بالعصا صيداً طائراً أو حيواناً كيربوع أو أرنب أو ضب فقتله بالثقل فلا تأكله، وكذلك لو رماه بحجر ثقيل فشدخه ولم يجرحه، فمات من آثار الحجر، فإنه يلحق بالوقيذ فلا يحل أكله، ولو سمى عليه؛ وذلك لعدم الجرح فيه، ولا يلحق بالكلاب لأن الله أباح الصيد بها بقوله: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة:4] ، فلا يدخل المعراض في إمساك الجوارح ونحوها. والسهام هي النبال، تكون محددة رءوسها، تقطع من شجر العضاة، ثم تحدد حتى تكون كرأس السكين، فإذا رموا بالسهم توجه إلى الرمية وطعنها؛ لأنه يقع على حده، فينفذ في الرمية؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في صفة الخوارج: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) أي: من المرمي كالظبي ونحوه، فهذا السهم قد يقتل، فتأتي إلى الصيد وقد قتله ذلك السهم سواءً كان ظبياً أو حماماً أو حبارى أياً كان، فإذا وجدته قد قتله وأنت قد سميت عند الرمي فإنه مباح وحلال أكله، أما إذا أدركته حياً فلا بد من ذكاته؛ لأنك قدرت على الذكاة فلابد أن تذبحه، ولا يجوز تركه والحال هذه بدون ذكاة، ومن فعل ذلك فإنه يعتبر مفرطاً، وكذلك لا يجوز تجاوزه وهو حي، فإذا رميته وأدركته وهو حي فلا تتجاوزه وتذهب لغيره، بل عليك أن تذكيه، فإن تركته حتى مات اعتبرت مفرطاً فلا تأكل، ويذكر أن بعض الصيادين إذا طردوا الظباء ونحوها رموا واحداً وأثبتوه فسقط، ثم واصلوا السير ليرموا الثاني، فيرجعون إلى الأول وقد مات، ومن العلماء من أفتى بأكله لأنه مات من أثر السهم، ومنهم من قال: لا يؤكل ما دام أنهم قدروا على ذكاته وتجاوزوه، ولعلهم إذا عرفوا أن السهم لا يقتله في تلك الحال، بل يبقى ساعة أو نصف ساعة؛ ففرطوا ولم يذبحوه فإنه لا يؤكل، وأما إذا عرفوا أن الصيد لن يبقى إلا ثواني -كما لو أصابه السهم في رأسه أو نحره- ففي هذه الحال لهم أن يأكلوا منه وإن تجاوزوه بلا تذكية حتى مات. وإباحة الصيد من نعم الله تعالى، حيث إن الإنسان يشتاق إلى مثل هذه الصيود التي فيها منفعة، وفيها لذة، ولو كان اللحم متوافراً.

حكم الصيد إذا وجد ميتا بعد يوم وفيه أثر سهم الصائد

حكم الصيد إذا وجد ميتاً بعد يوم وفيه أثر سهم الصائد ذكر النبي عليه الصلاة والسلام أنك إذا وجدت الصيد وقد مات من أثر سهمك، ولم تر فيه أثراً غير أثر سهمك، ولو بعد يوم أو نصف يوم؛ فلك أن تأكله، لكن إن وجدته قد أنتن فإن الأولى عدم أكله؛ وذلك لتغيره، وذكر أنك لو وجدته قد سقط في ماء فلا تأكل؛ لأنك لا تدري هل مات بسبب سهمك أو بسبب سقوطه في الماء؟ ومثل ذلك أيضاً لو سقط من شاهق، فلو رميته وهو في رأس جبل فتدحرج من رأس الجبل وسقط في الأرض، فأدركته وقد مات، فالأصل أنه ما مات من السهم، وإنما مات من تدحرجه، حيث ضربته هذه الحجارة، أو سقط من أعلى جبل، ومن شدة سقوطه على الأرض مات، فيكون موته ليس بسبب السهم، ولكن بسبب السقوط، فأفاد أنه إذا تعاون على موته مبيح وغير مبيح غلب غير المبيح احتياطاً؛ حتى لا يأكل المرء إلا ما هو حلال ليس في حله شبهة، ففي هذه التعليمات الاحتياط من النبي صلى الله عليه وسلم في تعليم أمته لما يحل لهم وما لا يحل لهم، كما أمر بالاحتياط في الأمور المشتبهة بقوله: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه) .

شرح حديث: (من اقتنى كلبا إلا كلب صيد أو ماشية)

شرح حديث: (من اقتنى كلباً إلا كلب صيد أو ماشية) قال المصنف رحمه الله: [عن سالم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من اقتنى كلباً إلا كلب صيد أو ماشية فإنه ينقص من أجره كل يوم قيراطان) ، قال سالم: وكان أبو هريرة يقول: أو كلب حرث، وكان صاحب حرث. وعن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة من تهامة، فأصاب الناس جوع، فأصابوا إبلاً وغنماً وكان النبي صلى الله عليه وسلم في أخريات القوم، فعجلوا وذبحوا، ونصبوا القدور، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقدور فأكفئت، ثم قسم فعدل عشرة من الغنم ببعير، فند منها بعير، فطلبوه فأعياهم، وكان في القوم خيل يسيرة، فأهوى رجل منهم بسهم فحبسه الله، فقال: (إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش، فما غلبكم منها فاصنعوا به هكذا، قال: قلت: يا رسول الله! إنا لاقوا العدو غداً، وليست معنا مدىً أفنذبح بالقصب؟ قال: ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه، فكلوه ليس السن والظفر، وسأحدثكم عن ذلك، أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة) ] . أورد المؤلف الحديث الأول للدلالة على جواز اقتناء كلب الصيد الذي يقتنص به، وقد دل عليه أيضاً القرآن في قول الله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة:4] مكلبين، يعني: متخذي كلاب صيد تعلمونهن مما علمكم الله، فالكلب معروف بشدة السعي، وبشدة العدو، ومن آثار اشتداده في السير وفي العدو يدرك ما يدركه من الصيد، فقد يدرك بعض الظباء، وقد يدرك الأرنب ونحوه؛ فلأجل ذلك فإن كلاب الصيد مما يجوز اقتناؤه للصيد، وهذا هو وجه الاستشهاد بهذا الحديث.

تحريم اقتناء الكلاب التي لا يحتاج إليها

تحريم اقتناء الكلاب التي لا يحتاج إليها هذا الحديث فيه تحريم اقتناء الكلاب التي لا ينتفع بها ولا يحتاج إليها، وبيان أن الذي يقتنيها (ينقص من أجره كل يوم قيراطان) يعني: ينقص من ثواب عباداته، ثواب صلاته وثواب صدقاته وثواب تلاوته وثواب حسناته، ينقص منه كل يوم قيراط، والقيراط جزء من الثواب والأجر، والله أعلم بمقداره، ولا شك أن هذا دليل على تحريم اقتناء الكلاب لغير حاجة. وقد ورد في الكلاب الأمر بقتلها أولاً؛ وذلك بسبب أن الملائكة لا تدخل البيت الذي فيه الكلب، فذكروا أن جبريل عليه السلام وعد النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيه، فتأخر عليه، ولما أبطأ عنه خرج النبي صلى الله عليه وسلم من البيت فنزل عليه جبريل فقال: ما منعني أن أدخل البيت إلا أن فيه جرو كلب، وكان هناك جرو كلب تحت السرير لأحد أولاد فاطمة عليها السلام، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بقتل الكلاب؛ لقول جبريل: إنا لا ندخل بيتاً فيه كلب، فصاروا يقتلونها، ولكن بعد ذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها، وقال: (ما لكم ولهذه الكلاب؟ فإنها أمة من الأمم) ، فهذه الكلاب تتوالد كما يشاء الله، وتعيش على ما يسقط من الناس، وتأكل جيفاً، وتأكل أنتاناً، وتأكل لحوماً، والله تعالى هو الذي تكفل برزقها وبرزق غيرها، وهي داخلة في قوله تعالى: {وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} [العنكبوت:60] فلأجل ذلك لا يجوز قتلها ما لم تكن مؤذية معتدية، أما إذا كانت مؤذية كالكلب العقور فقد أذن بقتله حتى في مكة، وحتى في حالة الإحرام؛ وذلك لضرره واعتدائه بعدوه على الناس، وشق ثيابهم، وعضهم وجرحهم، وهو معنى تسميته كلباً عقوراً، وأما بقية الكلاب فلا يعتدى عليها، ولا تقتل، ولكن لا تقتنى لغير حاجة، لماذا؟ أولاً: لأن الكلب نجس العين، لو غسل ثم غسل لم يطهر، فهو نجس العين، ونجاسته لا تزول أبداً؛ ولأجل ذلك أمر بغسل الإناء الذي ولغ فيه سبعاً إحداهن بالتراب أو الثامنة كما تقدم، وهذا دليل على نجاسته. ثانياً: أنه يمنع دخول الملائكة، فلا تدخل الملائكة البيت الذي فيه كلب، ولعل ذلك لنجاسته العينية، والملائكة إنما تدخل الأماكن النظيفة السالمة من الأقذار ومن النجاسات ومن المحرمات ونحوها. ثالثاً: أن فيه ترويع للناس، فالذي يقتنيه ويدخله في بيته كأنه يروع من دخل بيته أو من أتى إليه؛ فلأجل ذلك باء بهذا الإثم. رابعاً: الأصل أنه لا حاجة إليه إذا لم يكن فيه منفعة.

ما رخص في اقتنائه من الكلاب

ما رخص في اقتنائه من الكلاب رخص في ثلاثة أنواع من الكلاب: الأول: كلب الصيد، وهو الذي يعدو ويصيد الصيد الحلال، وذكرنا أنه يعدو إليه ويطرده حتى يدركه، فقد أباح الله ذلك بقوله: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة:4] ، ومعروف أنه يعدو حتى يدرك الأرنب أو اليربوع أو الوبر، ثم يمسكه على صاحبه حتى يأتيه صاحبه ويستلمه ويذكيه إن وجده حياً. الثاني: كلب الماشية، المواشي هي الغنم، ولا شك أنها بحاجة إلى حراستها من السباع، ومعلوم أن أهلها في الليل قد يغلبهم النوم، وقد تأتي السباع في حالة نومهم فتفترس ما تقدر عليه من أغنامهم؛ فلأجل ذلك أبيح لهم أن يتخذوا الكلاب التي تحرس أغنامهم، وتطرد عنها هذه السباع، فيعلمونهن الحراسة، والكلب فيه خفة في نومه، وكذلك الذئاب كما يقول بعضهم في الذئب: ينام بإحدى مقلتيه ويتقي بأخرى الأعادي فهو يقضان نائم فالكلب أيضاً سريع الانتباه، ينتبه بأدنى حركة، فإذا أحس بأن السبع قد وصل إلى الأغنام ونحوها انتبه وطرده، وعادته أنه يخدشه ويخمشه إلى أن يطرده، وقد ينتبه الأهالي، ويجتمعون على طرده، وبكل حال أبيح أن يتخذ لحراسة الغنم وما أشبهها، فإن الغنم ليس لها القدرة على مقاومة السبع، هذا هو الذي حفظه عبد الله بن عمر، حفظ كلب الصيد وكلب الماشية، وأبو هريرة رضي الله عنه كان صاحب حرث، فحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أو كلب حرث) ، ولعله سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ لأن الإنسان يهتم بالأشياء التي له فيها مصلحة، فلما كان له حرث اهتم وبحث وسأل حتى حفظ أنه استثنى أيضاً كلب الحرث، فإذا كان عند الإنسان حرث كزرع أو نحوه يحتاج إلى ما يحرسه من الغنم التي تعيث فيه وتفسده؛ فإن له أن يتخذ كلباً، والكلب إذا أحس بأن هناك أبقاراً أو أغناماً جاءت لتأكل من هذا الزرع أو نحوه انتبه وطردها.

شرح حديث: (إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش)

شرح حديث: (إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش) الحديث الثاني فيه مسائل: المسألة الأولى: ما فعله الصحابة رضي الله عنهم قبل أن يدركهم النبي صلى الله عليه وسلم، حيث كانوا في غزوة، وأصابتهم مجاعة، فحصلوا على غنيمة غنموها من بعض المشركين، وكانت الغنيمة إبلاً وغنماً، ولما حصلوا على هذه الغنيمة -وكان قد اشتد بهم الجوع- تعجل بعضهم فذبحوا بعضاً من الغنم، ونصبوا القدور، ووضعوا فيها شيئاً من اللحم قبل أن يأتيهم النبي صلى الله عليه وسلم، ولما لحق بهم -وكانت القدور تفور باللحم- أمر بها فأكفئت، وكأنه غضب عليهم لما تعجلوا؛ وذلك لأنها لا تزال مشتركة، فالذين تسرعوا قد يكونون أخذوا شيئاً من حق غيرهم، فلا يحق لهم أن يتصرفوا إلا فيما يملكونه، ويملكون التصرف فيه، وكيف أمر بتلك القدور فأكفئت؟ لعله لم يكن فيها لحم، أو كان فيها لحم ولكنه اعتبره كالنهبة، وفي بعض الروايات أنه قال: (إن النهبة ليست أحل من الميتة) ، فالميتة حرام، فاعتبر هذا نهباً، بمعنى أنه شبه نهب، حيث إن جميع الغنيمة للغانمين بعد أن يخرج منه الخمس الذي هو لبيت المال، ثم يفرق الباقي على الغانمين الذين حضروها، فلهم أربعة أخماس الغنيمة، وتسوى سهامهم فيها، إلا أنه يزاد للفارس على الراجل، للراجل سهم، وللفارس ثلاثة. والحاصل أنه رأى أن هذا تسرع، وأخذ لما لا يملكونه، فأمر بالقدور فأكفئت، وبعضها يفور باللحم، وجعل هذا عقوبة لهم على تسرعهم، فدل على أنه لا يجوز التصرف بالغنيمة قبل أن تقسم؛ لأنها مملوكة لجميع الغانمين، ولأن كلاً منهم له حق فيها، ولأن الذي يأخذ منها يعتبر أخذه نهباً، أو يعتبر غلولاً، فكأنه غل يعني: أخذ شيئاً من غير أن يستحقه، وقد توعد الله على الغلول فقال تعالى: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:161] ، فهذا هو السبب في كونه أتلف هذه اللحوم على أهلها، وأتلف ماءهم الذي كانوا يطبخون فيه لحماً ليأكلوه، فجعل ذلك عقوبة لهم على هذا التسرع، حتى لا يتسرعوا بعد ذلك، هذه المسألة الأولى.

كيفية التسوية في قسم الإبل مع الغنم

كيفية التسوية في قسم الإبل مع الغنم المسألة الثانية، هي القسم: فلما وصل إليهم قسم الإبل والغنم التي غنموها، فجعل البعير عن عشر من الغنم، أي: جعل قيمة البعير الواحد من الإبل ذكراً أو أنثى يساوي عشراً من الغنم، ولعل ذلك كان في وقت كثرت فيه الغنم ورخصت، وتنافس الناس في اقتناء الإبل، وفي محبتها، وفي رفع قيمتها، ولما قسم أعطى كلاً قسمه، فحصر الصحابة الغانمين، وجعل للعشرة بعيراً بينهم، أو جعل لهم عشراً من الغنم يقتسمونها، أو نحو ذلك، والحاصل أنه قسمها، وهذا يدل على أن أمير السرية أو الجيش يقسم الغنيمة بينهم، وينظر قيمة الغنم في قيمة الإبل، فيسوي بينهم في القسم، فإن كانت الغنم رفيعة القيمة كما في هذه الأزمنة، والإبل رخيصة القيمة، فإنه يسوي بينهما فيجعل مثلاً السبع عن بعير، أو الخمس عن بعير، أو نحو ذلك بحسب اختلاف قيمة الغنم من سمن وهزال، وصغر وكبر، وكذلك قيمة الإبل، وفيه دليل على أنه لابد أن تقسم الغنيمة بالسوية بين الغانمين، فيعطى كل ما يستحقه.

حكم حبس البعير الناد

حكم حبس البعير الناد المسألة الثالثة: أنهم لما قسموا ند بعير، يعني: هرب وشرد، فتبعوه، ولحقوه بالخيل، وعجزوا عن أن يدركوه، فرماه بعضهم بسهم فحبسه، يعني: بغته ذلك السهم فسقط، فجاءوا إليه فنحروه، وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على هذا، وأخبر أن لهذه الدواب أوابد كأوابد الوحش، فما ند منها فإنه يفعل به هكذا، والأوابد هي الأشياء الغريبة أو التي تسبب الابتعاد عن الناس والتغرب عنهم، والتوحش منهم، يعني: أن هذه الدواب التي ملكها الله للإنسان وسخرها لهم كما قال تعالى: {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ} [يس:72] بعض منها قد يكون شروداً يهرب من الناس وينفر منهم، فلا يدرك إلا بقوة، فهم سعوا في طلبه فعجزوا عنه حتى بالخيل، ولم يجدوا بداً إلا أن يرموه، يقول: ما ند منها وهرب فلكم أن تفعلوا به هكذا، بمعنى أن ترموه إلى أن يحتبس، هكذا ورد في هذا الحديث، وإذا رمى بعيراً أو شيئاً مما شرد، ومات بسبب ذلك السهم، فإنه يعتبر كالصيد المتوحش، وقد تقدم أن الصيد إذا مات بسبب الرمية فإنه مباح أكله.

جواز الذبح بالقصب والحجارة الحادة ونحوهما

جواز الذبح بالقصب والحجارة الحادة ونحوهما المسألة الرابعة: سأل الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا له: إنا لاقوا العدو غداً، وليس معنا مدى، أفنذبح بالقصب؟ المدى هي السكاكين، يعني: أخبروه بأنهم سيلقون العدو غداً، وهم بحاجة إلى أن ينحروا ويذبحوا مما غنموه من الإبل ومن الغنم للأكل، فهم غنموا ويحتاجون إلى تذكية ما يذبحونه للأكل، فكيف يذبحونه ويذكونه وليس معهم المدى؟ وهل يذبحون بغيرها؟ وكان معهم القصب، وهو قصب الزروع، قد يكون في القصبة طرف محدد، إذا شقت نصفين صار طرفها محدداً، وإذا أجري على حلق الشاة يجرحها، ويقطع الجلد واللحم، فيتخذ منه ما يقوم مقام السكاكين، فأباح ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبر بأنه يجوز أن يذبح بكل ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه، أنهره يعني: أساله وأجراه، فكل آلة إذا ذبحت بها جرى الدم إلى أن يسيل فإنه يباح الذبح بها إلا ما استثني.

شروط الذكاة

شروط الذكاة ذكر العلماء شروط الذكاة، وهي أربعة: الشرط الأول: أهلية الذابح، وهو أن يكون مسلماً، أو ذمياً متمسكاً بالكتاب الذي أنزل عليه؛ وذلك لأن من شرع أهل الكتاب أنها لا تباح الميتة، وأنه لابد من ذبحها ذبحاً شرعياً بقطع الودجين مع المريء والحلقوم، هذا من دينهم، وهو أيضاً من دين الإسلام، فإذا كان الذابح أهلاً مسلماً أو ذمياً، أبيح ذبحه الشرعي. الشرط الثاني: قطع الودجين مع المريء والحلقوم، فلابد من قطعها في أي مذبوح، حتى ولو طيراً أو بعيراً أو شاة أو بقرة، كل ما يذكى، والحلقوم هو مجرى النفس، والمريء مجرى الطعام، والودجان عرقان إلى جانب الحلقوم يجري معهما الدم، وإذا قطعا وفي المذبوح حياة فإنه يخرج الدم منهما خروجاً مندفعاً منسفحاً، حتى يخرج الدم كله من عروق الذبيحة، فهذا شرط من شروط حلها، قطع الودجين مع الحلقوم والمريء. الشرط الثالث: التسمية لقوله في هذا الحديث: (ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل) ، فلابد أن يسمي عند الذبح، وقد ذكر الله التسمية في قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة:4] فلابد أن يقول: باسم الله، أو باسم الله والله أكبر، والتكبير سنة، والتسمية واجبة، ويدعو في الأضحية بما ورد كما سيأتي، أما في التذكية فيقتصر على التسمية والتكبير، وإذا لم يذكر اسم الله تعالى، فإن كان تركها عمداً فلا تحل، قال الله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام:121] أي: مما ذبح ولم يذكر عليه اسم الله تعالى، سواءً ترك التسمية عمداً أو ذكر عليه اسم المسيح أو اسم صنم أو غير ذلك. كذلك يقول تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:118] ، {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:119] ، أما إذا ترك التسمية جاهلاً وهو من المسلمين أو تركها ناسياً فإنه معذور، والصحيح أنها تباح ذبيحة من كان مسلماً ونسي التسمية، وأما إذا تعمد تركها فلا تباح. ونلاحظ أن كثيراً من الذين يذبحون في المجازر يكونون جهلة بالأحكام، ولكن ينبغي أن يحضرهم أهل المعرفة، فإذا وكلته أن يذبح لك شاة أو يذبح لك دجاجاً وأنت عنده، وعرفت أنه منشغل أو جاهل بالحكم؛ فعليك أن تسمي أنت عند ذبحه، أو تأمره وتكلفه بأن يسمي عند ذبح كل مذبوح ولو طيراً صغيراً أو نحوه. الحاصل أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل) يعني: أي شيء أنهر الدم يعني: أساله، وقد ثبت أن شاة كانت مع غنم لبعض الصحابة فأدركها الموت، وكانت ترعاها جارية له، فكسرت حجراً وذبحتها بذلك الحجر، فأباح لهم النبي صلى الله عليه وسلم أكلها، مع أنها ما ذبحت بحديد، وإنما ذبحت بحجر، ولكنه مما أنهر الدم وأساله. الشرط الرابع من شروط الذكاة: الآلة التي يذبح بها، وقد قال في هذا الحديث: (كل ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل، ليس السن والظفر، أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة) فأمرهم بأن يذبحوا بكل شيء يسيل الدم إلا الظفر، فلو كان ظفر إنسان محدداً فذبح به طيراً لم يحل الذبح بهذا الظفر، وقد علل بأنه مدى الحبشة، يعني: سكاكينهم التي يذبحون بها، وكان الحبشة في ذلك الوقت نصارى، ومع ذلك كانوا يخالفون شريعتهم ويخالفون دينهم، ففيه النهي عن التشبه بهم، ويعم ذلك التشبه بهم وبالنصارى ونحوهم في كل شيء من اختصاصاتهم. ولا يجوز أيضاً أن يذبح بسنه أو بأسنانه، فلا يجوز مثلاً أن يعض الشاة بأسنانه أو يعض الدجاجة بأسنانه حتى يقطع حنجرتها أو يقطع مريئها أو نحو ذلك، لا يجوز الذبح بالسن، وعلل النهي في هذا الحديث بأنه عظم، فكأنه يقول: العظم لا يذبح به، ولو كان محدداً، يعني: لو لم يجد إلا عظم مذكاة مثلاً، ولكن له طرف محدد، فليس له أن يذبح به، ولعل السبب أنه من جملة ما يؤخذ من هذه الدواب فكأنه يذبحها بجزء منها. إذاً: عرفنا أن شروط الذكاة أربعة: الأول: أهلية الذابح بأن يكون مسلماً أو ذمياً عاملاً بكتابه. الثاني: ذكر اسم الله تعالى عند الذبح. الثالث: قطع الحلقوم والمريء والودجين. الرابع: الآلة التي يذبح بها، وهو ألا يذبح بسن ولا بظفر.

شرح عمدة الأحكام [76]

شرح عمدة الأحكام [76] الأضاحي من شعائر الإسلام المشهورة، ومن أعظم القربات المبرورة، وفيها فضائل متعددة، وفوائد متكاثرة، والأضحية تكون ببهيمة الأنعام، ولها شروط لابد من توافرها لإجزائها، وقد بين الفقهاء رحمهم الله أحكامها.

شرح حديث: (ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين)

شرح حديث: (ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين) قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [باب الأضاحي: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين، ذبحهما بيده وسمى وكبر، ووضع رجله على صفاحهما) ، قال رضي الله عنه: الأملح: الأغبر، وهو الذي فيه سواد وبياض] . أكثر الفقهاء يذكرون باب الأضاحي بعد الحج؛ وذلك لأنها مناسك، فيقولون: باب الأضاحي والهدايا والعقيقة؛ لأنها ذبائح تعتبر عبادة وقربة وطاعة، فكان الأنسب أن تذكر مع المناسك، ولأن الهدي ما يتقرب به إلى الله تعالى بمكة بعد المناسك في يوم النحر، بما يذبحون لله تعالى من القرابين، ومن الهدايا، فيناسب أن تذكر مع الهدي، ولكن كثير من العلماء -متقدمين ومتأخرين- ذكروا الأضاحي مع الأطعمة؛ لأن الأطعمة غالباً تكون من بهيمة الأنعام، يعني: الأطعمة التي في أكلها خلاف أو ليس في أكلها خلاف، فيذكرون المباح من الصيد ومن الوحش وما ليس بمباح، ثم يذكرون أحكام الصيد وطريقة الاصطياد، ومتى يحل ومتى لا يحل، ثم يذكرون الذكاة، وكيف يحل المذكى ومتى لا يحل، وبيان التذكية التي يباح بها المذكى، ثم يذكرون باب الأضاحي لمناسبتها.

فضيلة الأضحية وفوائدها

فضيلة الأضحية وفوائدها الأضاحي جمع أضحيّة أو أضحية أو ضحية، وهي الذبيحة التي تذبح في يوم عيد الأضحى، وبها سمي العيد، فالعيد الذي هو اليوم العاشر من شهر ذي الحجة يسمى عيد الأضحى، ويسمى يوم النحر؛ لأنه ينحر فيه من الهدي ومن الأضاحي ما يتيسر للمسلمين، ينحرونه ويذبحونه في ذلك اليوم قربة إلى الله تعالى، فالذين بمكة يتقربون بذبحها والصدقة بثمنها، والذين في خارج مكة يشاركونهم في هذه الذبائح، ويتصدقون منها، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذه الأضاحي؟ فقال: (سنة أبينا إبراهيم، قالوا: فما لنا فيها؟ قال: بكل شعرة حسنة) ، أو كما قال، فتبين بهذا أن فيها أجراً كبيراً، وأن الذي يقدمها ويجود بها يثاب عليها هذا الأجر، بكل شعرة حسنة، ومقدار الشعر لا يحصيه إلا الله، وكذلك ذكر أنها سنة أبينا إبراهيم، ويريد بذلك قول الله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:107] وذلك أن الله تعالى ابتلاه أن يذبح ولده إسماعيل، حيث رأى في المنام أنه يذبحه، قال تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات:102] ، وهذه القصة قيل: إنها كانت بمكة؛ وذلك لأن إسماعيل قد تركه أبوه مع أمه هاجر في مكة، فترعرع إسماعيل، وكان إبراهيم يجيء إليهم كل سنة، فلما بلغ معه السعي رأى في المنام وهو في المسجد الحرام قائلاً يقول: إن الله يأمرك أن تذبح ولدك إسماعيل، فانتبه وعرف أنها من الله، وليست من وساوس الشيطان، فأخبر ولده بذلك، وتوجه إلى منى ليكون الذبح فيها، فلما أضجعه واستسلم إسماعيل للذبح، عند ذلك ناداه الله تعالى: {يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:104-105] ، ثم جاءه الملك بكبش، فذبحه فكاكاً لولده، ثم استمر إبراهيم عليه السلام على ذبح هذه الأضحية، وأحياها النبي صلى الله عليه وسلم، فكان في كل سنة يذبح أضحية مما تيسر، وفي هذا الحديث أنه كان يضحي بكبشين أملحين أقرنين، وفي رواية: موجوئين، والكبش هو ذكر الضأن، وفي بعض الروايات أنه يقول في أحدهما: (اللهم تقبل عن محمد وآل محمد، ويقول في الثاني: اللهم تقبل عن أمة محمد أو عمن لم يضح من أمة محمد) ، فيجعله قربة لله تعالى، وقد ذكر الله تعالى أن الهدي يكون من بهيمة الأنعام في قوله تعالى: {لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ} [المائدة:2] فالمراد بالهدي ما يهدى إلى الله تعالى من بهيمة الأنعام، وكذلك في قوله تعالى: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95] فالصدقة بلحم الهدي سنة، يقول علي رضي الله عنه: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه، وأن أقسم لحومها وجلودها وجلالها على المساكين، وألا أعطي في جزارتها شيئا ًمنها) ، فأخذ من هذا أن الأضحية صدقة وقربة لما يلي: أولاً: أنها إحياء لسنة أبينا إبراهيم الذي استمر على ذلك، فهي سنة إبراهيمية. ثانياً: أنها سنة محمد صلى الله عليه وسلم، فقد استمر عليها طوال ما كان بالمدينة، فكان يضحي كل سنة بكبشين أو بكبش إذا لم يتيسر غيره، فيطعمون ويتصدقون ويأكلون، فهي قربة وصدقة. ثالثاً: أن فيها أجراً كبيراً، حيث إن فيها هذا الثواب وهذه الحسنات التي ذكرت في هذه الأحاديث. رابعاً: ما فيها من التوسعة على المسلمين وعلى المساكين، وبالأخص في البلاد الفقيرة، فإنها تقع موقعاً، حيث إنهم يتلذذون بأكل هذا اللحم الطيب، ويكون غذاء لهم، وينتفعون به، وقد ينتفعون أيضاً بجلدها أو بصوفها أو نحو ذلك، ففيها أجر. والأضحية سنة مؤكدة، وقد ذهب بعض العلماء إلى أنها واجبة على من كان عنده قدرة أو سعة، واستدلوا بما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا) ، ولا شك أن في هذا دليلاً على آكديتها.

أنواع الأضاحي

أنواع الأضاحي الأضاحي تكون من الأنعام الثمانية التي ذكرها الله في سورة الأنعام: {مِنْ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ} [الأنعام:143] يعني: ذكر وأنثى، {وَمِنْ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} [الأنعام:143] يعني: ذكر وأنثى، {وَمِنْ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنْ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ} [الأنعام:144] فمن الضأن الكبش والنعجة، ومن المعز التيس والعنز، ومن الإبل الناقة والجمل، ومن البقر الثور والبقرة، هذه هي الأصناف الثمانية، فلا يضحى بالدجاج، ولا يضحى بالظباء، ولا بالصيد، ولا بالسمك ونحو ذلك؛ لأنها ليست من بهيمة الأنعام التي تهدى إلى الله تعالى، وليست من البهائم التي سخرت للإنسان.

شروط الأضحية

شروط الأضحية لابد أن تكون الضحية بما يجزئ، فلا تجزئ الصغيرة التي لم تبلغ سناً ينتفع بها، وحدد ذلك في الإبل بخمس سنين، فإذا تمت السنة الخامسة فهي ناقة أو بعير يضحى به، وتجزئ البقر إذا بلغت السنتين، والمعز إذا بلغت سنة، والضأن إذا بلغت نصف سنة، هكذا حددت أسنانها. ولابد أن تكون سليمة من العيوب الضارة التي تنقص قيمتها، أو تفسد لحمها، فكل عيب ظاهر يختل به اللحم، يفسد أو يكره ولا يقبل؛ فإنه يتجنب ذبحها أضحية، وكذلك العيوب التي تنقص القيمة نقصاً ظاهراً، وهي معروفة.

كيفية توزيع الأضحية

كيفية توزيع الأضحية ورد في كيفية توزيعها أنهم يأكلون ويتصدقون، والأصل هو الصدقة؛ وذلك لأنها صدقة أخرجها الإنسان وتقرب بها إلى الله تعالى، فيتلمس لها من يتقبلها من المسلمين الضعفاء وذوي الحاجات، وهم موجودون بكثرة غالباً في كل بلاد، ولو أن يتكلف فيحمل لحمها في سيارته، ويطوف حتى يجد الفقراء في أماكنهم، سواء في المدن، أو في أطراف المدن، أو في القرى، أو في غيرها، فإنهم يفرحون بذلك، ويجعلونه قوتاً وغذاءً لهم، وما ذاك إلا لأنها من الصدقات، فلابد أن تعطى لأهل الصدقات الذين قال الله عنهم: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271] فمصرف الصدقات أصلاً للفقراء، ومن الصدقات هذه الذبائح التي هي الأضاحي. وإذا أكل منها فلا بأس، فله أن يأكل، وله أن يهدي لأقاربه، أو لجيرانه، أو أصدقائه، ونحو ذلك، وقد ورد في بعض الأحاديث أنهم يأكلون ويهدون ويتصدقون أثلاثاً، وإن زاد في الصدقة على الثلث أو زاد في الهدية فله ذلك، ولكن لابد من الصدقة.

حكم بيع شيء من الأضحية وحكم الاشتراك فيها

حكم بيع شيء من الأضحية وحكم الاشتراك فيها لا يجوز بيع الأضحية، ولا بيع شيء من لحمها، ولا بيع جلدها، بل ينتفع بجلدها بعد دبغه أو يتصدق به؛ وذلك لأنها بجميع ما يتعلق بها صدقة لله تعالى، واختيار الضأن أفضل كما في هذا الحديث، فالأكثر أنه صلى الله عليه وسلم كان يضحي بالضأن، فقوله: (بكبشين) الكبش هو ذكر الضأن، وقوله: (أقرنين) يعني: لهما قرنان، أي: لكل واحد منهما قرنان في رأسه، وهذا معروف، وإن كان أصل هذا في المعز، ولكن يوجد من الضأن ما له قرون، وقوله: (أملحين) الأملح هو الذي فيه سواد وبياض، إما أن يغلب عليه أحدهما أو يكونا متساويين، ولكن لعل هذا من باب المصادفة، فيجزئ أي لون، فلو كان كله أسود، أو كله أبيض، أو فيه نقط بيضاء أو سوداء؛ أجزأ ذلك بلا كراهة. وفي بعض الروايات: (أنهما موجوءان) واستدلوا به على أنه يجوز الأضحية بالخصي الذي رضت خصيتاه؛ وذلك لأنه يطيب لحمه كما يذكر أهل الخبرة، والوجاء هو رض عروق الخصيتين دون قطع، فيرضون عروقها حتى لا ينزوا على النعاج، وحتى يطيب لحمه، فهذا هو الأفضل. وإذا ذبح من غير الضأن أجزأ، ومعلوم أنها تتفاوت القيم، فيسن أن يختار السمين، أو النفيس، ورفيع القيمة؛ لأن ذلك أدل على جوده، وعلى سخائه، وعلى سخاوة نفسه، وكونها طابت بهذا المال الذي بذله في سبيل الله، بدون أن يمن به أو يبخل به. ويجوز الاشتراك في الأضحية فالشاة الواحدة -التي هي الواحدة من الغنم- تكفي عن أهل بيت إذا كان مأكلهم ومجمعهم واحداً، ومطبخهم واحداً، ولو كانوا كثيرين، فيجعلها عنه وعن أهل بيته، وأما البقرة والبدنة فإنها تجزئ عن سبعة، وفي حديث أن البدنة تجزئ عن عشرة، ولكن لعل ذلك في باب القسمة، وأما في باب الأضحية فالظاهر أنها تكون عن سبعة.

حكم الأضحية عن الميت

حكم الأضحية عن الميت الأصل في الأضحية أنها عن الأحياء، فالإنسان يضحي عنه وعن أهل بيته وعن أقاربه الأحياء، ولكنها جائزة عن الأموات؛ وذلك لأنها صدقة من الصدقات، فإذا ضحى عن أبويه شاتين، عن أبيه واحدة وعن أمة واحدة، أو عن إخوته الأموات، أو عن أعمامه أو أقاربه الذين قد ماتوا؛ نفعهم ذلك، وحصل له أجر بذلك؛ لأنها صدقة، فيصل أجرها إلى الأموات، وقد ورد في الحديث قول رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن أمي ماتت، وأظنها لو تكلمت تصدقت، أفأتصدق عنها؟ قال: نعم) ، فمن الصدقة ذبح الأضحية، فينوي أجرها لأقاربه الأموات، كما يجوز للحي أن يوصي بضحية أو أضاحي يجعل ثوابها لأقاربه، ولهم الأجر في ذلك. وإذا قل نفعها أو قل الانتفاع بها فالأولى ألا يسرف فيها، بل يقتصر على ما يجزئ أو على ما يضحي به عامة الناس دون الإسراف، فإذا كان هناك وقف في أضاحي، وهذا الوقف مثلاً غلته عشرة آلاف كل سنة أو عشرون ألفاً فلا يقول: أشتري أضاحي بثمانية آلاف، أو بعشرة آلاف أو نحو ذلك، بل يضحي بما يضحي به الناس، فإذا اشتريت ضحية بخمسمائة أو بستمائة أو بسبعمائة كفت، والبقية تصدق بها على الفقراء والمعوزين، تصدق بها في غير وقت كثرة اللحوم، فلو أنه اشترى بالبقية لحماً في رمضان وتصدق به، أو في أي شهر من السنة؛ لأثيب على ذلك، وكذلك لو تصدق به دراهم أو طعاماً على المستضعفين والمستحقين لقبل منه ذلك إن شاء الله، فمن الإسراف أن يشتري ضحية من وصية بخمسة آلاف أو بسبعة آلاف أو نحو ذلك، ويصرفها جميعاً في هذه الأضحية، فهذه الأضحية التي بخمسة آلاف أو نحوها تقوم مقامها ضحية بخمسمائة ويكتفى بها، ويتصدق بالباقي في وجوه الخير، حتى ينتفع الميت بأجر مستمر، وذلك من أجر مؤقت منقطع.

شرح عمدة الأحكام [77]

شرح عمدة الأحكام [77] الخمر هي أم الخبائث ومفتاح كل شر، فمن رحمة الله بعباده أن حرمها عليهم؛ حفظاً لعقولهم وأديانهم وأموالهم وأعراضهم وأنفسهم، ومن شرب الخمر فقد وجب إقامة الحد عليه، إذا توفرت الشروط وانتفت الموانع، وقد بين ذلك أهل العلم رحمهم الله.

تحريم الخمر

تحريم الخمر [كتاب الأشربة: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن عمر قال على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما بعد: أيها الناس! إنه نزل تحريم الخمر، وهي من خمسة: من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير، والخمر ما خامر العقل. ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عهد إلينا فيهن عهداً ننتهي إليه: الجد والكلالة وأبواب من أبواب الربا. وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن البتع فقال: (كل شراب أسكر فهو حرام) ، البتع: نبيذ العسل. وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: بلغ عمر أن فلاناً باع خمراً، فقال: قاتل الله فلاناً، ألم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قاتل الله اليهود! حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها) جملوها: أذابوها] .

جناية الخمر على العقل

جناية الخمر على العقل هذه الأحاديث تتعلق بالخمر، ذكر عمر رضي الله عنه أن الخمر ما خامر العقل، أي: غطاه وأغلقه، وأصل التخمير هو التغطية، ومنه قوله في الحديث: (خمروا الإناء وأوكوا السقاء) ، خمروه: غطوه، ومنه تسمية الخمار، وهو غطاء المرأة التي تغطي به رأسها ووجهها، وهو مذكور في قوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] ، فالخمر اسم لما يغطي العقل ويخالطه ويفسده. حرم الله تعالى الخمر، وكانت -عندما حرمت- تصنع في المدينة من خمسة أشياء كما قال عمر، يصنعها بعضهم من التمر، وبعضهم من العنب، وبعضهم من العسل، وبعضهم من الحنطة، وبعضهم من الشعير، يؤخذ من هذه الخمسة خمر، يعني: يطبخ حتى يتخمر ويشرب، ويكون له حلاوة، وتلك الحلاوة تخامر العقل فتغطيه، فيصل إلى حالة شبه غيبوبة بحيث لا يدري ما يقوله ولا ما يفعله. حرم الله تعالى الخمر؛ لأنها تسلب العاقل عقله، وما ذاك إلا أن ميزة الإنسان عقله، الله تعالى كلف الإنسان لكونه ذا عقل يفهم ما يقول، ويعقل ما يتكلم به وما يسمعه، ويميز بين الأشياء، فيعرف النافع والضار، ويعرف المصالح والمفاسد، ويميز بين ما له وما عليه، فكان في ذلك ميزة له وفضيلة، ورفعة له وشرف، والناس يتفاوتون في هذه العقول، ولكن يجتمع البشر في أن لكل منهم عقلاً يناسبه، وإذا سلب هذا العقل فإن ذلك الذي سلب عقله تسقط عنه التكاليف، ويلحق بغير المكلفين، ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاثة: وذكر منهم: المجنون حتى يفيق) ، المجنون هو مسلوب العقل. ولما كانت هذه هي منزلة العقل كانت الجناية عليه أعظم الجنايات، فلأجل ذلك لو ضرب إنسان فذهب عقله، فإن فيه الدية كاملة كدية القتل، وهذا دليل على أهمية هذا العقل، ولما كان كذلك حرمت هذه الخمر التي تجني على العقل فتذهبه؛ فحرمت حتى لا يتمادى الإنسان بما يجني به على نفسه، وذلك لأنه إذا سكر فإنه تقع منه المخالفات التي تنافي ما يفعله العقلاء، وللسكارى قديماً وحديثاً حكايات عجيبة في أفعالهم، حتى ذكروا أن بعضهم دخل وهو سكران فعاتبته أمه وهي تسجر تنوراً، فألقاها في التنور حتى احترقت وهو ينظر، وذلك لأنه في تلك الحال ليس معه عقل يميز به، فانظر ماذا حصل منه! وذكروا أن رجلاً استدعته امرأة ليفجر بها، وكان عفيفاً ولكنها أحضرت له كأس خمرٍ، فلما شربها وزال عقله وقع منه الزنا، ووقع منه أكثر من ذلك بسبب أنه فقد العقل الذي كان يميز به بين ما ينفعه وما يضره، فصارت الخمر مفتاحاً لهذه الشرور ولهذه المعاصي، فحرمت لأجل ذلك.

الآيات التي نزلت في تحريم الخمر

الآيات التي نزلت في تحريم الخمر نزل في تحريم الخمر أولاً: قول الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219] ، ذهب بعضهم إلى أن هذه الآية هي التي حرمت الخمر، وذلك لأن الله وصفها بالإثم، ومعلوم أن الإثم محرم، قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ} [الأعراف:33] ، أخبر بأن الإثم محرم كما أن الفواحش محرمة، الفواحش منها الزنا ومنها اللواط ومنها فعل القبائح، فكذلك الإثم محرم، ولا شك أن الخمر والميسر فيهما إثم كبير. إذاً: هذه الآية دالة على أن الخمر محرم لما فيها من إثم كبير. ثم نزل فيها قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43] ، ولما نزلت هذه الآية تركها كثير من الصحابة وقالوا: لا خير في شيء يحرمنا من الصلاة، وبعضهم كان يشربها في الأوقات الطويلة كبعد الفجر وبعد العشاء، بحيث يفيق قبل أن يأتي وقت الصلاة، وهذا دليل على أنهم عرفوا شناعتها وبشاعتها، ولما نزلت الآيات في سورة البقرة في الربا حرم النبي صلى الله عليه وسلم التجارة في الخمر، فكان ذلك مقدمة لتحريم الخمر تحريماً باتاً. ثم نزل في سورة المائدة قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90] ، ذكر بعض العلماء أنها دلت على تحريم الخمر من عشرة أوجه: الأول: أن الله قرنها بالأصنام والأزلام وهي محرمة. الثاني: أنه وصفها بأنها (رجس) ، والرجس هو النجس، وكل شيء نجس فإنه محرم. الثالث: أنه أضافها إلى الشيطان (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) ، وكل شيء من عمل الشيطان فلا شك أنه محرم؛ لأن الشيطان لا يأتي إلا بما يفسد الإنسان، وبما يبعده عن ربه. الرابع: أن الله أمر بالاجتناب لها (فَاجْتَنِبُوهُ) ، والاجتناب هو الابتعاد، يعني: ابتعدوا عنها بعداً شديداً، وهو أبلغ من قوله: (اتركوها) فإن الاجتناب أن تكون في جانب وهي في جانب بعيد. الخامس: تعليق الفلاح على تركها (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) دل على أن من لم يتركها فهو بعيد من الفلاح. ثم ذكر السادس بقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} [المائدة:91] ، فالشيء الذي يوقع العداوة بين المسلمين ويوقع البغضاء لا شك أنه حرام. العداوة هي كون بعضهم يعادي بعضاً ويقاطعه، والبغضاء وقوع البغض، ولعل سبب ذلك أنه إذا سكر فإنه قد يهلك المال، وقد يضرب من عنده، كما فعل حمزة قبل تحريم الخمر، لما اعتدى على شارفين لـ علي فنحرهما، وجب أسنمتهما وهما حيان، فكان في ذلك إفساد لهذا المال. فالخمر توقع العداوة بين الأخوين بهذه الأسباب التي يفعلها وهو سكران ثمل، وكذلك يوقع البغضاء، فهاتان مفسدتان هما الخصلة السادسة والسابعة. ثم ذكر الثامنة والتاسعة في قوله: {وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ} [المائدة:91] فهاتان خصلتان تدلان على أن الشيطان حريص على كل ما يصد عن ذكر الله عموماً، وعن الصلاة خصوصاً، وذلك لأن مجالس أهلها غالباً مجالس لهو، ومجالس فساد، ليس فيها علم ولا ذكر ولا دعاء ولا فائدة، وإنما هي قيل وقال، أو سباب وهجاء وفساد، وقمار ولعب، ونحو ذلك، ينشغلون بها عن ذكر الله تعالى. كذلك انشغالهم عن الصلاة، لا شك أن انشغالهم عن الصلاة أعظم من انشغالهم عن غيرها؛ وذلك لأنهم إذا سكروا متى يأتون إلى الصلاة؟ إذا شربها في الظهر ضيع الصلاة الوسطى وهي العصر، وإذا شربها بعد المغرب ضيع صلاة العشاء، وإذا أتاها لم يأتها بقلب حاضر، بل يأتها وهو موسوس ثمل لا يدري ما يقول. إذاً: لا شك أن هذا من الشيطان حيث أوقعهم فيها حتى صدهم عن الصلاة. وختم الآية بقوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ} [المائدة:91] ، وهذه هي الخصلة العاشرة، يقول بعض السلف: لما نزلت هذه الآية قال الصحابة: انتهينا انتهينا.

الأحاديث الواردة في تحريم الخمر

الأحاديث الواردة في تحريم الخمر نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر لما فيها من مفاسد، وشدد في النهي عنها فقال: (من شرب الخمر في الدنيا لم يشرب منها في الآخرة) ، فالله تعالى ذكر أن في الجنة خمراً لذيذاً، وهذا الشراب اللذيذ نفى الله عنه ما يكون في خمر الدنيا، فقال تعالى: {وَكَأْساً دِهَاقاً * لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا كِذَّاباً} [النبأ:34-35] أي: ليس كخمر الدنيا الذي هو مملوء باللغو والكذب، وقال تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} [الواقعة:17-18] ، الكأس هنا هو الخمر وهو من معين، أي: صاف، سالم مما في خمر الدنيا {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ} [الواقعة:19] الغول هو ما يغتال العقل، وكذلك ينزفه، فمن شربها في الدنيا حرم شرابها في الجنة. كذلك ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أخبر بأن من شربها وكرر شربها كان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال، وهي عصارة أهل النار، وهذا دليل على أنه لابد لمن كررها وأدمن عليها أن يدخل في النار والعياذ بالله، وأن يكون ذلك سبباً في حرمانه من الجنة. ولما كان أمرها كذلك حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالغ في تحريمها، حتى لعنها ولعن فيها عشرة، كما ورد أنه صلى الله عليه وسلم: (لعن الخمر وبائعها ومشتريها، وعاصرها ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إليه، وآكل ثمنها) يعني: أنه لعن كل من ساهم فيها. وبكل حال فالأدلة كثيرة في أن هذه الأشربة المحرمة إنما حرمت لضررها الذي يحصل منها: ضرر على العقول، وضرر على المجتمعات، والحكايات عن أهل الخمر في هذه الأزمنة أشهر من أن تذكر، كم حصل من الحوادث بسبب أن بعض الذين يقودون السيارات سكران، فيقع منه حوادث يذهب في ضحيتها نفوس بريئة وأموال محترمة، وما ذاك إلا لأنه تعاطى هذا الشراب فأذهب عقله، فدخل في هذه الطرق وهو على هذه الحال، ولم يشعر بما أمامه لفقد عقله الذي يميز به، فحصل منه هذا الاصطدام وهذه الحوادث الشنيعة البشعة، ولا شك أن هذا دليل على بشاعتها وشناعتها.

كل مسكر فهو خمر

كل مسكر فهو خمر قال عمر رضي الله عنه: (الخمر كل ما خامر العقل) أي: كل ما غطاه وأزال الشعور فإنه يسمى خمراً، وليس خاصاً بما صنع من العنب، بل كل شيء يخامر العقل. وقد: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شراب يقال له: المزر؟ فسأل: هل هو مسكر؟ فقيل: نعم، فقال: كل مسكر حرام) ، و (نهى عن كل مسكر أسكر عن الصلاة) ، وقال: (ما أسكر كثيره فقليله حرام) ، وقال: (ما أسكر منه الفرق، فملء الكف منه حرام) ، فلو قدر أنه لا يسكر حتى يشرب فرقاً، والفرق ثلاثة آصع، وإن كان ذلك نادراً، فإنه لا يجوز أن يشرب من هذا ولو جرعة واحدة، ما دام أن كثيره يسكر فقليله حرام، أي: فهو خمر. وكذلك تصريحه بقوله: (كل مسكر خمر) أي: سواء من العنب أو من التمر أو من الزبيب أو من العسل أو من الشعير أو من الحنطة، أو من الأشربة الجديدة التي تخمر إلى أن تبلغ حد الإسكار، أو نحو ذلك. والنبيذ: أصله أن ينبذ تمر في ماء، فإذا طبخ حتى ينعقد أصبح خمراً، وكذلك الزبيب والعنب إذا طبخ حتى ينعقد أصبح خمراً، وهكذا كل ما يلحق بمثل هذا. فإذا كانت الخمر محرمة فإن ثمنها حرام كما في أثر عمر أنه لما سمع أن رجلاً باع الخمر، فعاتبه وأخبره بأن الله حرمها وحرم ثمنها، حتى ولو باعها على يهود أو نصارى أو مشركين يستحلون شربها، فلا يحل له ثمنها، كما أنه لا يجوز ثمن الميتة وثمن الأصنام وثمن الأشياء المحرمة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا حرم الله شيئاً حرم ثمنه) .

شرح عمدة الأحكام [78]

شرح عمدة الأحكام [78] الأصل في الألبسة الإباحة، وقد نهى الشرع عن بعض الألبسة للرجال لحكمة، وقد بين أهل العلم أحكام الألبسة وما يحرم منها وما يجوز وما يكره.

تحريم الحرير على الرجال

تحريم الحرير على الرجال قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [كتاب اللباس: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تلبسوا الحرير، فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة) . وعن حذيفة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة) ] . هذا كتاب اللباس، وهذا الكتاب جعله في عمدة الأحكام من أحاديث خير الأنام بعد كتاب الأطعمة؛ وذلك لأن الجميع مما يحتاج إليه، ولأن اللباس من جملة ما أنعم الله به ومنّ به على المسلمين، بل على الأمة جميعاً، قال الله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً} [الأعراف:26] ، فقسم اللباس إلى قسمين: قسم يستر به الإنسان العورة والسوءة، وقسم يكون رياشاً، يعني: جمالاً وزينة، وكلها مما أنعم الله به وامتن به على العباد، وإن كان ذلك من جملة ما ينسجونه ويعملونه، ولكن هو الذي أخرج لهم الأصل الذي هو مادة هذه الأكسية وهذه الألبسة، فهو الذي امتن عليهم بهذا الشجر الذي يخرج منه هذا القطن ونحوه، وامتن عليهم أيضاً بهذه الأنعام التي ينسجون منها هذه الأصواف وهذه الأكسية ونحوها، وامتن عليهم بالمواد التي يصنعون وينسجون منها هذه الأكسية. الأصل في اللباس أنه على الإباحة، وأن الإنسان يلبس ما تيسر له، لكن وردت الشريعة بمنع اللباس لبعض الأنسجة ولبعض الأكسية، وأنها لا يجوز لبسها، وعلل ذلك بعلل، ومن جملتها لبس الحرير للرجال، وفي هذا الحديث النهي الصريح من النبي صلى الله عليه وسلم أن يلبس الرجال الحرير، ويخبر بأن من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة. الحرير معروف أنه لباس يؤخذ من نسيج دود القز، هذا الدود دود صغير يتوالد ويكون مما يتولد منه هذا النسيج الذي ينسجه حتى يجعل له أماكن يكتن بها ويختفي فيها ويخفي فيها نفسه وبيضه وبذره، ومن المعروف أن العنكبوت له أيضاً نسج، وإن كان نسيج العنكبوت ليس مثل دود القز، بل أوهى لقوله تعالى: {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:41] ، فكما أن العنكبوت تنسج ولها نسيج، فكذلك دود القز، فيؤخذ من نسيج دود القز هذا النسيج ويعمل منه هذا الحرير، وإذا نسج هذا الحرير فإنه لرقته ولنعومته وملوسته يكون ملبساً منعماً يفتخر به من يلبسه، وينعم به، فلذلك جاءت الأحاديث بالنهي عنه للرجال لما فيه من النعومة، وأبيح للنساء لحاجة النساء إلى الجمال، وإلى الزينة، فهذا هو السر في النهي عنه. تكاثرت الأحاديث في نهي الرجال عن لبس الحرير، وورد الإذن فيه في بعض الأماكن والأحوال، ففي حديث آخر أن بعض الصحابة اشتكوا حكة في أجسادهم، ولم يناسبهم إلا الحرير، فرخص لهم في لبس الحرير؛ لأجل تلك الحكة، فأخذوا من ذلك أنه يجوز للعذر، كحكة وجرب ونحوه، وورد أيضاً الرخصة في الشيء اليسير منه، ومثلوا بسجف الفراء، الفرو المعروف قد تحتاج حافاته إلى أن تخاط بقطع من الحرير، وكذلك إذا كانت الرقعة التي يرقع بها الثوب يسيرة من الحرير قدر أربع أصابع أو أقل، وكذلك إذا كان الحرير ليس ظاهراً وإنما هو أسلاك خفية وهو ما يسمى بالسداء، إذا لم يكن ظاهراً. في هذه الأزمنة يوجد بعض الأكسية تسمى حريراً، ولكنها ليست حريراً أصلياً، وإنما هي حرير صناعي كسائر الصناعات التي قلدت بها الأكسية الأصلية، فإذا وجدت هذه الأكسية ولم تكن حريراً أصلاً، وإنما هي صناعة مقلدة لذلك الحرير الأصلي؛ فالأصل فيها الإباحة، لأن النهي إنما ورد في الحرير الذي هو من نسج دود القز ونحوه. أما بقية الحديث فذكر فيه أن من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، الله تعالى قد ذكر ثواب أهل الجنة في قوله تعالى: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج:23] ، فجعل هذا اللباس الرقيق الناعم هو لباس وكسوة أهل الجنة، ومن تعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه، فمن تعجل هذا اللباس الذي هو الحرير، وأخذه في الدنيا كان من عقوبته أن يحرمه في الآخرة، وفي ذلك وعيد شديد: فقيل: إن المراد أنه يحرم دخول الجنة، وذلك لأن من دخل الجنة فإنه يتنعم بنعيمها، ولا يحرم شيء من لذاتها التي يتمتع بها أهلها، فإذا لم يلبسه دل على أنه ليس من أهل الجنة. وقيل: إنه وإن دخل الجنة فإنه يكون في موضع لا يلبس أهله -أي: أو أهل ذلك المكان- من لباس أهل الجنة الذي أعد لهم، بل يلبسون غيره مما يتنعمون به أو يتجملون به.

تحريم استعمال أواني الذهب والفضة

تحريم استعمال أواني الذهب والفضة يحرم استعمال أواني الذهب والفضة، لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تأكلوا في آنية الذهب والفضة، ولا تشربوا في صحافهما، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة) ، وأراد بذلك النهي الأكيد عن استعمال هذه الأواني التي صنعت من الذهب أو من الفضة؛ استعمالها في الطبخ فيها أو الأكل فيها. والصحاف هي التي توضع فيها الأطعمة، الأكل فيها كصحفة أو الاستعمال لها في شرب أو طهارة أو نحو ذلك، سواء كانت مما صنع من الذهب أو مما صنع من الفضة، وذلك لأن في ذلك كسر لقلوب الفقراء، إذا رأوا هؤلاء الأثرياء يشربون ويأكلون في أوان من ذهب أو من فضة، وهم يعوزهم لقمة العيش، ويعوزهم ستر العورة، ولا يجدون ذلك إلا قليلاً، وهؤلاء قد زادوا إلى هذا الحد؛ كان في ذلك كسر لقلوب الفقراء، والمسلم مأمور بأن يساوي إخوته، ولا يستعمل ما يضرهم، ولا ما يسيء إليهم، فهذا من الأسباب. أو أن في ذلك إسرافاً، فإنه ما دام أن هناك ما يقوم مقامها من أواني النحاس والصفر، وأواني الحديد، وأواني المعادن الأخرى، فلا حاجة إلى أن تستعمل هذه الأواني بأي نوع من أنواع الاستعمال. ولا شك أن هذا هو الأقرب، أن العلة في ذلك ما فيها من الإسراف، والبذخ، والغرور، والمباهاة، والفخر والافتخار بأنه يتمتع بكذا وكذا، ويعم كذلك أيضاً كل إسراف في استعمال شيء من الآلات التي فيها أو في ثمنها ارتفاع زائد، وإفساد للمال؛ وذلك لأنه يوجد من هو بحاجة إلى هذا المال الزائد. وعلى كل حال علل في هذا الحديث بقوله: (فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة) أي: أن استعمال هذه الأواني لأهل فارس والروم واليهود والنصارى والمشركين ومن شابههم، يتمتعون بها في الدنيا ويحرمون منها في الآخرة، وأنتم أيها المؤمنون الذين ستدخلون الجنة، وتتنعمون بها، وتلبسون ما تشاءون من الثياب والنعيم، وتأكلون فيما تشاءون من هذه الصحاف ونحوها. ورد في بعض الأحاديث: أن الله تعالى خلق الجنة مائة درجة، يعني: مائة دور من الأدوار، درجة منها من ذهب آنيتها وأوانيها، وأبنيتها، وبلاطها، وكل ما فيها، ودرجة أخرى من فضة آنيتها، وفرشها، وبلاطها، وأبنيتها، ودرجة ثالثة من اللؤلؤ آنيتها وكل ما فيها، وبقية الدرجات فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فالمؤمن يطلب ذلك الثواب، ويترك ما يكون سبباً في حرمانه من هذا الثواب.

من أحكام اللباس

من أحكام اللباس قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (ما رأيت من ذي لمة في حلة حمراء أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، له شعر يضرب إلى منكبيه، بعيد ما بين المنكبين، ليس بالقصير ولا بالطويل) . وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع: أمرنا بعيادة المريض، واتباع الجنازة، وتشميت العاطس، وإبرار القسم أو المقسم، ونصر المظلوم، وإجابة الداعي، وإفشاء السلام؛ ونهانا عن تختم بالذهب، وعن الشرب بالفضة، وعن المياثر، وعن القسّي، وعن لبس الحرير، والإستبرق، والديباج) . وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اصطنع خاتماً من ذهب، فكان يجعل فصه في باطن كفه إذا لبسه، فصنع الناس كذلك، ثم إنه جلس على المنبر، فنزعه فقال: إني كنت ألبس هذا الخاتم، وأجعل فصه من داخل، فرمى به ثم قال: والله لا ألبسه أبداً، فنبذ الناس خواتيمهم) ، وفي لفظ: (جعله في يده اليمنى) ] . هذه أحاديث تتعلق باللباس، واللباس منه ما هو كسوة تعم البدن؛ كالثياب والقمص والأردية والأكسية، ويعم ما يكون على جزء من البدن كالعمائم والقلانس، ويعم أيضاً الأحذية والخواتيم والحلي، وذلك لأن الجميع يسمى لباساً، فيقال: لبس الخاتم، وخلع الخاتم أو نزعه، ويقال: لبس النعل أو الخف أو الجورب، وخلعه، فالجميع من اللباس، فيحتاج المسلم إلى أن يعرف ما يكون منه جائزاً وما ليس بجائز. معلوم أن الأصل في الأكسية أنها مباحة، وأن الله تعالى أباح كل ما يستر العورة أو يلبس على البدن، سواء للزينة أو للستر والتغطية، أو للجمال، لكن ورد الشرع بالتنبيه على منع بعض الأشياء لعلة فيها محددة، وتحديد ذلك البعض الذي نهي عنه ليكون المسلم على بصيرة من دينه، فلا يتعاطى الشيء الذي ورد النهي عنه، مع العلم بأن الله لا يحرم إلا ما فيه ضرر، ولا يحرم الشيء الذي فيه منفعة، أو الذي يمكن أن يكون مفيداً، فإذا كان فيه مضرة راجحة على منفعته فإن الله يحرمه، وقد تكون العلة التي حرم لأجلها خفية، فالمسلم يرضى ويسلم.

حكم لبس اللباس الأحمر

حكم لبس اللباس الأحمر الحديث الأول فيه صفة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه ليس بالطويل ولا بالقصير، يعني: في صفة قامته، وأنه بعيد ما بين الكتفين، يعني: في صفة ذاته أو جسده، لكن الشاهد منه أنه رآه وقد ارتدى حلة حمراء، وهذا مما يستدل به على جواز اللباس الأحمر، ولكن قد وردت أدلة أخرى في النهي عن اللباس الأحمر، ففي حديث البراء الذي بعده أن من جملة المناهي السبع: المياثر، وهي أكسية وأردية حمر، فلعل تلك الحلة التي كان لبسها ليست حمراء فاقعة خالصة الحمرة، وإنما فيها خلط حمرة أو أسلاك حمراء، فالأصل أنها بيضاء أو أنها في الأصل ملونة أو حمرتها ليست خالصة، فلذلك لبسها، ولا يمكن أن ينهى عن الأردية أو الأكسية الحمر الخالصة ومع ذلك يلبس ما هو أحمر، فلا يمكن أن ينهى عن شيء ويفعله. وبكل حال فإنه يجوز لباس الأحمر الذي ليس بخالص، ومثله في هذه الأزمنة هذه العمائم الحمر التي يرتديها الأغلب من الناس، فالأصل أنها بيضاء، ولكن فيها أخلاط مداخلة لها جعلت ظاهرها أو الغالب عليها اللون الأحمر، فيرتديها الرجال، ولا محذور في ذلك، فهي يمكن أن تكون مثل تلك الحلة التي ارتداها النبي صلى الله عليه وسلم.

حكم لبس اللباس الأسود

حكم لبس اللباس الأسود ثبت: (أنه صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعليه عمامة سوداء) ، والعمامة ما يعم الرأس، أي: ما يجعل على الرأس، فاستدل بذلك على أنه يجوز لباس الأسود أحياناً، سواء كان على جزء من البدن أو على أكثر البدن إذا كان ذلك لمصلحة، وهذا دليل على جواز لباس ما هو أسود؛ سواء كان سواده خالصاً أو مخلوطاً.

حق المسلم على المسلم

حق المسلم على المسلم حديث البراء فيه: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع) ، فالأمر فيه هل هو أمر وجوب أو أمر إرشاد أو أمر استحباب؟ الصحيح أنه أمر استحباب، يعني: أمرنا أن نفعل هذه الأشياء وأكد في أمرها وإن لم يصل إلى الوجوب؛ وذلك لأن هذه السبع هي من حقوق المسلمين بعضهم على بعض، فمثلاً: إجابة الداعي؛ إذا دعاك أخوك إلى طعام كوليمة أو نحو ذلك فحق عليك أن تجيبه، ولكن لا يكون ذلك واجباً، فقد يكون لك عذر، وقد تكون مسبوقاً بدعوة أخرى أو نحو ذلك، فهذا دليل على أن الإجابة ليست فرضاً واجباً، ولكنها من حقوق المسلمين بعضهم على بعض. كذلك الأمر بتشميت العاطس لا شك أنه من حقوق المسلمين، وإن لم يجب على كل أحد، إنما الحاضرون إذا سمعوه يعطس ويحمد الله تعالى يشمتونه بقولهم: يرحمك الله، وهذا أيضاً من حقوق المسلمين بعضهم على بعض. كذلك الأمر ببدء السلام أو برد السلام هو من حقوق المسلمين لقول الله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86] ، فإن هذا من الحقوق المتبادلة بين المسلمين، والتي تسبب المحبة والمودة بينهم، لقوله عليه السلام: (ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم: أفشوا السلام بينكم) . كذلك عيادة المريض هي من حقوق المسلمين؛ وذلك لأن المريض قد حبسه المرض عن إخوته وأصدقائه، وأقعده، وجلس في بيته أو على فراشه، فكان حقاً عليهم أن يعودوه ليطمئنوه وليسلوه وليحثوه على الصبر، وليعرف بذلك المحبة والمودة في قلوبهم، ويعرف من هو صادق المحبة من غيرها، فعند ذلك تثبت الأخوة بين المسلمين، وكذلك أهله وأصدقاؤه وأولاده إذا رأوا إخوته وأصدقاءه يعودونه عرفوا بذلك محبتهم ومودتهم. كذلك اتباع الجنائز من حقوق المسلمين؛ وذلك لأن هذا الميت الذي كان أخاً لك وصديقاً أتاه أجله ووافاه الموت، ونقل إلى القبر، فكان من حقه عليك أن تشيعه، وأن تتبع جنازته، وأن تحضر الصلاة عليه، وتحضر دفنه، وتدعو له، وتسلم على أقاربه، وتسليهم، وهذا أيضاً من حقوق المسلمين بعضهم على بعض. كذلك نصر المظلوم من حقوق المسلمين بعضهم على بعض، إذا رأيت مظلوماً عرفت أنه معتدى عليه، فمن حقه عليك أن تنصره بقدر ما تستطيع، لقوله صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) ، فالمظلوم تنصره وترد عنه الظلم، والظالم تردعه عن الظلم وتحجزه عنه، وذلك نصرك إياه. فهذه الحقوق لا شك أنها مما يدعو إليه الإسلام ويرغب فيه، ولا شك أنه ما أمر بذلك إلا لما فيه من المصلحة، وما فيه مما يسبب الألفة بين المسلمين.

من اللباس المنهي عنه

من اللباس المنهي عنه ولا شك أن المناهي السبع التي نهى عنها أغلبها من الأكسية ومن الألبسة، ومنها الشرب في آنية الذهب، والأكل في صحاف الذهب أو الفضة، ولا شك أنه محرم، وقد وردت أدلة تؤكد التحريم، والنهي هنا يكون للتحريم؛ لأنه ورد قوله صلى الله عليه وسلم (الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم) ، فهذا الوعيد دل على أنه يحرم استعمال آنية الذهب والفضة. وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لا تأكلوا في آنية الذهب والفضة ولا تشربوا في صحافهما، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة) .

تحريم القسي والمياثر

تحريم القسي والمياثر القسّي: نوع من الحرير، وكذلك الديباج، وهو نوع من الحرير، فالقسي ما فيه خطوط ملونة. والحرير قد ورد أنه حرام على الرجال، ومباح في حق النساء؛ لحاجة النساء إلى التجمل دون الرجال، فكان ممنوعاً أن يلبسه الرجال، والأدلة دلت على التحريم، كقوله صلى الله عليه وسلم في الذهب والحرير: (هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثهم) يعني: الذهب والحرير حرام على الذكور وحلال للإناث للتجمل كما قلنا، فلباس الديباج ولباس القسي واستعماله يعتبر حراماً في حق الرجال؛ لأنه من جملة الحرير. وكذلك المياثر: وهي مثل الأقبية، أو مثل الفراء، إلا أنها مبطنة بحرير، والأغلب أنها تكون حمر، فنهى عنها لما فيها من الإسراف، ولأن فيها حريراً فلأجل ذلك دخلت في التحريم، فإن النهي عن الحرير كله لأجل أن فيه إسرافاً أو تنعماً أو تلذذاً، أو تشبهاً بالنساء، أو نحو ذلك.

تحريم التختم بالذهب على الرجال وجوازه من الفضة

تحريم التختم بالذهب على الرجال وجوازه من الفضة ورد في أحاديث كثيرة النهي عن التختم بالذهب في حق الرجال، فقد سمعنا هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم صنع له خاتم من ذهب، ولبسه وجعل فصه في داخل كفه، ولبسه في اليد اليمنى، ولما رأى الناس توسعوا في ذلك نزع ذلك الخاتم والناس ينظرون وقال: (والله لا ألبسه أبداً) ، فعند ذلك نزع الناس خواتيمهم، ووردت أدلة تدل على حرمة لبس الرجال خواتيم الذهب، وأبيح لهم أن يلبسوا خواتيم الفضة. الخاتم كما هو معروف يلبس في الإصبع، والأصل أنه مباح أن يتخذ الرجل خاتماً من فضة كما ورد في بعض الأحاديث، وأنه صلى الله عليه وسلم كان له خاتم مكتوب عليه اسمه: محمد رسول الله، وأنه كان أحياناً يلبسه في البنصر من اليد اليمنى، وأحياناً في اليد اليسرى، يلبسه في هذه وفي هذه. وأما خاتم الذهب فقد ورد ما يدل على تحريمه، وأنه صلى الله عليه وسلم رأى مرة رجلاً في يده خاتم من ذهب فنزعه، وقال: (يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيضعها في يده) ، فنزعه فألقاه، ولما قيل للرجل: خذ خاتمك فانتفع به، فقال: لا والله لا آخذه وقد ألقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا شك أن هذا دليل على المبادرة، وعلى الامتثال، وأن الصحابة إذا أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر بادروا به ولم يراجعوا فيه. فالحاصل أنه لما نزع خاتم الذهب وقال: (والله لا ألبسه) نزع الناس خواتيمهم مبادرة، وتعهدوا بأنهم أيضاً لا يلبسون ولا يتحلون الذهب، وبقي الذهب محرماً في حق الرجال سواء الخواتيم في الأصابع، أو الحلي في غير الأصابع. ولا يجوز ما تجدد من الذهب الذي يكون في النظارة مثلاً، يعني: ما تمسك به، وكذلك الساعة لا يجوز أن تكون من الذهب ولو بطلي بعض المواضع إلا في حق النساء، وذلك لأن فيه استعمالاً لهذا الذهب، وقد سمعنا قوله: (إنه حرام على ذكور أمتي حل لإناثهم) ، فينتبه المسلم ويتجنب ما نهى الله تعالى عنه حتى يكون من المتبعين المطيعين.

شرح عمدة الأحكام [79]

شرح عمدة الأحكام [79] الجهاد في سبيل الله هو ذروة سنام الدين، وغايته إعلاء كلمة الله، وفضائله كثيرة، وأحكامه عديدة، وقد بينها أهل العلم رحمهم الله تعالى.

أحكام الجهاد

أحكام الجهاد قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [كتاب الجهاد: عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -في بعض أيامه التي لقي فيها العدو- انتظر حتى إذا زالت الشمس قام فيهم فقال: يا أيها الناس! لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم، وانصرنا عليهم) . وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها) ] .

تعريف الجهاد

تعريف الجهاد هذه الأحاديث تتعلق بالجهاد، والجهاد: مشتق من الجهد الذي هو بذل الوسع، وهو أقصى ما عند الإنسان، والمراد به: قتال الكفار، وقتالهم يكون لأجل كفرهم ولأجل عنادهم، وقد شرع على مراحل، إلى أن أنزل الله الآية التي تُسمى آية السيف في سورة التوبة وهي قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5] ونحوها من الآيات.

سبب شرعية الجهاد

سبب شرعية الجهاد النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته الجهاد والقتال، وكان يقاتل كل من بلغته الدعوة، ولكنه لا يقاتلهم إلا بعد أن يدعوهم، وكان يأمر من بعثه للقتال أن يبدأ بالدعوة، ففي حديث بريدة قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول لكل أمير: (إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال: ادعهم إلى الإسلام، فإن أبوا فاسألهم الجزية، فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم) ، يخيرهم بين هذه الثلاث: إما أن تسلموا، وإما أن تبذلوا الجزية، وإما أن تستعدوا للقتال، ولا يبدأ بالقتال أولاً إلا إذا عرف أن الدعوة قد بلغتهم، وأنهم أصروا وعاندوا، فحينئذٍ يقاتلهم. بعض المعاصرين ظنوا أن القتال لا يكون إلا دفاعاً، وأن المسلمين لا يقاتلون الكفار إلا لدفع شرهم، وهذا ظن خاطئ، بل الكفار يقاتلون لكفرهم، فما داموا كفاراً فإنا نقاتلهم إلا أن يبذلوا الجزية أو يسلموا، لقول الله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ} [التوبة:123] ، وقوله تعالى: {جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73] ، وقوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] ، والآيات كثيرة، وفيها أن الله أمر بقتال المشركين عموماً لشركهم ولكفرهم، وسمى كفرهم فتنة فقال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39] هذا هو سبب شرعية القتال؛ إذ لم يكن قتال الكفار لأجل الولاية، ولا لأجل السيطرة، ولا لأجل الانتقام منهم، ولا لأجل التولي على أموالهم، ولا على نسائهم وأولادهم استعباداً واسترقاقاً، ولكن قتالهم لأجل أن يدخلوا في الإسلام، ولأجل أن يذل الكفر وأهله، وأن ينتصر الإسلام وأهله، هذا هو السبب في قتالهم؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) ، فهكذا كان المسلمون من عهد الصحابة رضي الله عنهم مع نبيهم يقاتلون لأجل إعلاء كلمة الله، ولأجل إذلال الكفر وكلمته، ولأجل أن تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى. فإذا وجد هذا القتال فإنه قتال في سبيل الله، أما القتال لأجل الولاية والسلطة والسيطرة، ولأجل التغلب على من اعتدى عليه، فإن مثل هؤلاء لا يبالون بمن قاتلوا، ولذا فهم يقاتلون المسلمين، ويقاتلون الكفار، ويقاتلون النصارى، وليس لهم رغبة في نصر الإسلام، وإنما رغبتهم أن يكون لهم سلطة، وأن يكون لهم ولاية، وأن تعم ولايتهم وتكبر دولتهم، وهذا ليس قتالاً في سبيل الله، ولا يُشجع أهله، بل يقال لهم: أخلصوا نيتكم، وقاتلوا من كفر بالله، ولا تقاتلوا من آمن بالله، إنما قاتلوا الكفار لأجل كفرهم أياً كان نوع الكفر.

شرح حديث: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أيامه التي لقي فيها العدو)

شرح حديث: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أيامه التي لقي فيها العدو) حديث عبد الله بن أبي أوفى فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أيامه التي لقي فيها العدو انتظر حتى زالت الشمس. في هذه الفقرة الأولى أنه صلى الله عليه وسلم كان يحب أن يكون القتال في آخر النهار؛ وذلك إذا هبت الرياح، وخفت الحرارة، ونزل النصر، هكذا كان يحب أن يكون ابتداء القتال بعد زوال الشمس، وفي هذا الحديث أنه أخر القتال حتى زالت الشمس، وقبل أن تزول أو قرب زوالها خطب أصحابه بهذه الخطبة، وذكر فيها هذه الجمل: أولها قوله: (لا تتمنوا لقاء العدو) ؛ وذلك لأنكم لا تثقون من أنفسكم بالقوة، ولا بالصلابة، فقد تتمنون لقاء العدو فتفشلون، وتذهب ريحكم وتتنازعون، ويحصل بينكم خلل، فينتصر العدو عليكم، فلا تتمنوا لقاء العدو؛ وذلك لأنه فتنة وضرر، هذه هي الجملة الأولى. أما الجملة الثانية فهي قوله: (فإذا لقيتموه فاصبروا) ، هذه وصية بالصبر، وقد أوصى الله تعالى به، كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال:45] (فئة) يعني: طائفة من المشركين (فاثبتوا) أي: اصبروا، ومن الصبر الاستعداد، والتأهب، وأخذ الحذر، ومقابلة العدو بقوة وبشجاعة، والاستعداد للقتال يكون بكل ما أوتي الإنسان من قوة، فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:45-46] كل هذا توجيه من الله لمقابلة العدو، وذلك بالثبات، وهو الصبر لقوله: (فَاثْبُتُوا) ، ولقوله: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ} [آل عمران:200] ، وفي هذا الحديث قال: (إذا لقيتموهم فاصبروا) . أما الجملة الثالثة فهي قوله: (واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف) ، قال ذلك ترغيباً لهم في الصبر تحت أشعة السيوف، وكان القتال في ذلك الزمان غالباً بالسيف، فكانوا إذا تقابلوا فإنهم يسلون سيوفهم، ثم يتقاتلون مع عدوهم، قال الله تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} [محمد:4] فضرب الرقاب يعني: بالسيوف. وكانوا حين يسلون السيوف يكون لها شعاع، ويكون لها أيضاً ظلال، والذين يقاتلون هذا في ظل سيف هذا وهذا في ظل سيف هذا، فكأنه يقول: ما دمتم في حومة الوغى، وما دمتم في هذه المعركة، وما دمتم مقابلين لهؤلاء الأعداء، فإنكم تمثلون أنفسكم أنكم قد تبوأتم منزلاً من الجنة، فالجنة تحت أقدامكم، وأنتم في ظلها، فقوله: (الجنة تحت ظلال السيوف) هذا للترغيب لهم في الصبر والثبات على القتال. أما دعاؤه في هذا الحديث فإنه دعاء بالنصر والثبات، فتوسل إلى الله تعالى بهذه الصفات، ثم سأله ما قصده، فتوسل بقوله: (اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم) ، وكان إذا دعا بهذا الدعاء رجي قبوله، ورؤي أثره، فيسن أيضاً لمن تقابل في القتال ووقف في الجبهات أن يبدأ بهذا الدعاء: (الله منزل الكتاب) ، يعني: جنس الكتب، وآخر ما نزل هو هذا الكتاب المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم (القرآن) . (ومجري السحاب) يعني: مسير هذا السحاب، فإنه آية من آيات الله، فهو الذي خلق هذا السحاب، وهو الذي يجريه ويسيره كما يشاء، وهو من آياته العجيبة في خلقه. (وهازم الأحزاب) الأحزاب هم: المتحزبون ضد الإسلام الذين كانوا يتحزبون ويجتمعون ليقاتلوا المسلمين، فالله تعالى هو الذي يهزمهم كما هزم الأحزاب وزلزلهم في وقعة الأحزاب كما في قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب:9] . والحاصل: أن هذا فيه الأمر بالصبر، وفيه شرعية وسنية الدعاء في مقابلة العدو، فإذا دعا المسلم بمثل هذا وهو صادق رجي بذلك أن يستجيب الله دعوته، وأن يُهزم العدو، وأن يُمكن المسلمين من رقابهم، وأن يسير المسلمون في آثارهم حتى يتمكنوا من الاستيلاء عليهم.

شرح حديث: (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها)

شرح حديث: (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها) قوله صلى الله عليه وسلم: (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها) ، قد تكاثرت الآيات والأحاديث في فضل الرباط، منها ما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} [آل عمران:200] ، وفي هذا الحديث: (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها) ، وفسر الرباط بأنه ملازمة السبل المخوفة التي يأتي منها العدو، وكان المرابطون عادة يقفون في الثغر الذي يُخاف أن الأعداء يأتون منه، فيبيتون المسلمين على غرة وغفلة، فهؤلاء الذين يلزمون هذا الثغر كأنهم فدائيون؛ لأنهم متعرضون للقتل؛ ومتعرضون لأن يفجأهم العدو فيحصل بينهم قتال وهم أعداد قلة، فقد يكونون أربعين أو مائة أو نحو ذلك، والعدو يأتيهم بغتة بقوات عديدة، وبجيوش متكاثرة، فيحصل أنه يتغلب عليهم، ولكن هؤلاء المرابطون كأنهم إذا أحسوا بالعدو وبحركته، وعلموا أنه قد أقبل بجيوشه أرسلوا من ينبه جيوش المسلمين التي في بقية الأمكنة بأن العدو قد جاءكم فاستعدوا له، واذهبوا وقابلوه قبل أن يقابلكم، وقبل أن يدخل في بلادكم ويتمكن، فهذه فائدة هؤلاء المرابطين. وقد فسر الرباط الذي في هذه الآية: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} [آل عمران:200] بأنه ربط النفس على طاعة الله تعالى، ومن ذلك المرابطة على أداء الصلوات، والمحافظة عليها، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أدلكم على ما يرفع الله به الدرجات، ويكفر به الخطايا؟ قالوا: بلى، يا رسول الله! قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط) ، هكذا عد هذه الخصال من الرباط، وعدها مما يرفع الله به الدرجات ويكفر به الخطايا، وإذا قلت: كيف كانت هذه رباطاً؟ فنقول: لأن هذا المسلم قد ربط نفسه على طاعة الله وأوثقها، والتزم بأن يحافظ على الصلوات، ويتردد إلى المساجد، ويكثر الخطوات نحوها، ويسبغ الوضوء على شدته، وينتظر الصلوات، فكلما صلى صلاة انتظر ما بعدها، فأصبح من المرابطين، فيحظى بهذا الأجر المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم: (رباط يوم في سبيل الله) وإن كان الحديث جاء في فضل المرابطة التي هي ملازمة الثغور. ولا شك أيضاً أن من انتظم في سلك الجهاد، وغزا في سبيل الله، وتقابل مع الأعداء، وثبت في الصفوف، وصبر عند المجابهة والمقابلة، وعرَّض نفسه لقذائف الأعداء ولسهامهم وللقتل؛ أنه يُعد من المرابطين، وأي خصلة أكبر من كونه عرض نفسه أمام سهام الأعداء، وأمام قذائفهم، وخاطر بها، ولكنه يرجو ما عند الله تعالى. والثواب الذي رتب على هذا هو قوله: (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها) ، وقد ورد أيضاً في حديث آخر أن تمام الرباط أربعون يوماً، يعني: أن الذي يرابط في الثغر إذا أتم أربعين يوماً فقد أدى ما عليه، فعلى أمير الجيش أن يبدله بغيره؛ لأنه قد أدى جزئاً كبيراً من الصبر والمصابرة. وفي هذا الحديث يرغب صلى الله عليه وسلم في الأعمال الخيرية، فيقول: (موضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها) ، فمن حصل له من الجنة موضع السوط فذلك الموضع خير من الدنيا وما فيها، والسوط هو: العود الذي كانوا يضربون به، العصا التي يضرب بها، والسوط موضعه قدر ذراع أو ذراعين. ثم يقول: (لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها) ، الغدوة هي: المسير أول النهار، والروحة هي: المسير آخر النهار، فكأنه يقول: الغازي إذا سار في سبيل الله من أول النهار إلى وسط النهار فالمسيرة هذه أجره فيها أكبر من أن تحصل له الدنيا وما عليها، وكذلك لو سار من وسط النهار إلى آخر النهار روحة فهي خير له من الدنيا وما عليها، فتبين بذلك فضيلة هذه الأعمال، فبمثل هذا الحديث ونحوه يرغب المسلم في أن ينتظم في الجهاد، وأن يجاهد في سبيل الله، ومعلوم أنه ما دام أن هناك عدواً كافراً، وما دام أن هناك من يقاتل المسلمين، وهناك من يفتك بالإسلام وبأهله؛ فإن الإسلام يحث الأفراد على أن يغزوا في سبيل الله؛ فيقاتلوا من كفر بالله؛ حتى يذل الكفر وأهله، وينتصر الإسلام والمسلمون.

فضل الجهاد في سبيل الله، وبيان أجر المجاهد

فضل الجهاد في سبيل الله، وبيان أجر المجاهد

شرح حديث: (انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي)

شرح حديث: (انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي) قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (انتدب الله -ولـ مسلم: تضمن الله- لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي، وإيمان بي، وتصديق برسلي، فهو علي ضامن أن أدخله الجنة، أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة) ، ولـ مسلم: (مَثل المجاهد في سبيل الله -والله أعلم بمن جاهد في سبيله- كمثل الصائم القائم، وتوكل الله للمجاهد في سبيل الله إن توفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه سالماً مع أجر أو غنيمة) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مكلوم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة وكلمه يدمى، اللون: لون الدم، والريح: ريح المسك) ] . هذه الأحاديث في فضل الجهاد في سبيل الله، وقد ذكرنا أن الجهاد هو قتال الكفار، وأنه يستدعى غالباً خروجاً من البلاد، وسفراً طويلاً أو قصيراً، ويستدعي تزوداً بالمال، ثم يستدعي مقابلة الكفار، والتصدي لهم، ويستدعي الاستعداد للموت وللقتل؛ حيث إن المقاتل ينصب نفسه أمام العدو فإما أن يَقتل وإما أن يُقتل، فهو قادم على ذلك، وكأنه قد فدى نفسه، وكأنه قد عزم على أن يخوض هذه المعركة ليحصل ما حصل، وأغلى شيء عنده نفسه وقد بذلها لله تعالى، فلا جرم أن كان أجره كبيراً كما قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً} [التوبة:111] فلذلك حاز المجاهد في سبيل الله على هذا الفضل. قوله في هذا الحديث: (انتدب الله) وفي رواية: (تضمن الله) وفي رواية: (توكل الله) أي: أنه وعد وعداً صادقاً، وهو لا يخلف وعده، فمن خرج في سبيل الله للجهاد في سبيله فإنه لا يعدم إحدى الحسنيين: إما الجنة إذا قتل شهيداً، وإما أن يرجعه إلى أهله بما نال من أجر أو غنيمة، فالأجر يحصل له مقابل ما حصل عليه من التعب والنصب. وقد ورد أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما عليها) ، والغدوة هي: السير أول النهار، والروحة هي: السير آخر النهار، أي: من سار نصف نهار غازياً، فإن مسيره هذا خير له من أن تحصل له الدنيا بحذافيرها، وكذلك من راح، يعني: من سار آخر النهار، وهذا دليل على أنه يحصل على أجر. وورد في حديث آخر: (من اغبرت قدماه في سبيل الله لم تمسه النار) أو كما في الحديث، ولما سمع جمع من المجاهدين هذا الحديث نزلوا عن رواحلهم، وساروا على أقدامهم يريدون أن تغبر أقدامهم؛ حيث إنهم قصدوا بذلك الغزو في سبيل الله حتى لا تمسهم النار، وهذا دليل على فضل الجهاد في سبيل الله. وقوله: (تضمن الله لمن خرج في سبيله -والله أعلم بمن يجاهد في سبيله- إن توفاه أن يدخله الجنة، أو يرجعه إلى أهله بما نال من أجر أو غنيمة) ، لا شك أنه إذا توفي وهو خارج في هذا السبيل أن أجره كبير؛ وذلك لأنه خرج للجهاد في سبيل الله، فيكون على أجر، فإن سار كتب له مسيره، وإن قال كتب له مقيله، وإن بات كتب له مبيته، وكذلك مقابلته للأعداء ونحو ذلك تكتب له حسنات، وكذلك أيضاً قد ورد أنه يكتب له أجر على كل أوقاته التي عملها، لكن يقول في هذا الحديث: (والله أعلم بمن يجاهد في سبيله) يعني: ليس كل من خرج يصير مجاهداً، فقد ثبت في الصحيح أن رجلاً قال: (يا رسول الله! الرجل يقاتل حمية، ويقاتل رياء، ويقاتل للمغنم، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) ، فالذي يقاتل حمية لقبيلة على قبيلة، أو يقاتل عصبية لدولة على دولة، أو لفئة على فئة ولا يقاتل هؤلاء لأنهم كفار، وإنما يقاتلهم ليتغلب عليهم، أو ليستولي على بلادهم، أو يقاتلهم لأجل المغنم الذي يحصل عليه من جراء هذا القتال ومن آثاره، أو يقاتلهم ليُرى مكانه أو نحو ذلك؛ فهذا ليس من المجاهدين في سبيل الله، إنما الذي يجاهد في سبيل الله هو الذي قصده نصر الإسلام، ونصر دين الله تعالى، ويستحضر قوله تعالى: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7] ، وقوله: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} [التوبة:40] فالنصر نصر لله ولرسوله ولدينه، فهذا هو الذي يجاهد في سبيل الله، لذلك قال: (والله أعلم بمن يجاهد في سبيله) . وبكل حال ضمن الله له أنه إذا مات أن يدخله الجنة، بل قد أخبر الله تعالى أن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون. يقول في هذا الحديث: (إن توفاه أن يدخله الجنة) ، وقد ورد في القرآن أن الذين قتلوا في سبيل الله {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تعلق في شجر الجنة، تأوي إلى قناديل معلقة في الجنة، وتبقى هكذا حتى ترد إلى أجسادها، فهذا صفة الحياة التي ذكر الله تعالى عنهم: {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران:169-170] . ولا شك أن المجاهدين في سبيل الله يتعرضون للموت، ويتعرضون للجراح، وقد يتعرضون للإذلال أو الاستيلاء أو الأسر، أو العذاب من المشركين، ولكن تحملهم كل ذلك لإظهار الإسلام ونصره، وإعلاء كلمة الله تعالى؛ فلأجل ذلك عظم أجرهم، وكثر ثوابهم على هذا القصد، وكانوا يعرضون أنفسهم لذلك. روي أن عبد الله بن المبارك رحمه الله كان من جملة الذين يغزون في سبيل الله، وكان هناك علماء بمكة يتعبدون ويتقربون بأنواع العبادة، فأرسل ابن المبارك إلى الفضيل بن عياض أبياتاً يخبره فيها بعمل المجاهدين، يقول فيها: يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب ولقد أتانا من مقال نبينا قول صحيح صادق لا يكذب لا يستوي غبار خيل الله في أنف امرئ ودخان نار تلهب هذا كتاب الله ينطق بيننا ليس الشهيد بميت لا يكذب فوصف فيه حالتهم، وكأنه يقول: أيها العباد! إنكم تتعبدون في الحرمين، وإنكم تتطيبون بأنواع الطيب، وأنواع العبير، وأما نحن فنتطيب بالغبار الذي ينالنا في سبيل الله، وإن هذا الغبار سبب مما نتطلبه، فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا يجتمع غبار خيل الله ودخان نار في جوف امرئ) ، فهذا ما نطلبه، وهذا ونحوه من جملة ما يرغبهم في الجهاد في سبيل الله.

معنى قوله: (ما من مكلوم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة وكلمه يدمى)

معنى قوله: (ما من مكلوم يُكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة وكلمه يدمى) قوله صلى الله عليه وسلم: (ما من مكلوم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة وكلمه يدمى، اللون لون دم، والريح ريح المسك) الكلم هو: الجرح، والكلوم هي الجروح، يعني: أن المجاهد في سبيل الله إذا أصابه جرح، أو أصابته شجة، وخرج منه دم فإن ذلك الدم ولو التأم، وذلك الجرح ولو برئ في الدنيا، ولو سلم من آثاره؛ فإنه يوم القيامة يرى أثره عليه مثل لون الدم، ولكن ريحه ريح المسك، فيُعرف أن هذا ممن جرح في سبيل الله، ولا يحصل له ألم، فإذا كان الجرح -مثلاً- في ذراعه يُرى يثعب منه هذا اللون الذي لونه لون دم، ولكن لا يؤلمه، ولا يحس به، بل يجد رائحته رائحة عبقة طيبة، ويجدها أيضاً غيره، وهذه ميزة وعلامة له، وكذلك لو كانت الشجة في رأسه أو في وجهه، أو في موضع من مواضع جسده، وكذلك لو كثرت هذه الشجاج أو هذه الجروح فإنها كلها تأتي ولونها لون دم تثعب، بمعنى: أنها يخرج منها هذا السائل دون أن يكون له ألم، هذا من فضل الجهاد في سبيل الله، فإذا كان هذا في الجرح الواحد فكيف بمن جرح جروحاً كثيرة؟! وإذا كان هذا في جرح فكيف بمن قطع أحد أطرافه؟! فإذا قطعت يده، أو فقئت عينه، أو قطعت إصبع من أصابع يديه أو رجليه، أو نحو ذلك فإن أجره يكون أكثر، وإذا كان هذا في فقد عضو أو جرح أو نحو ذلك فأعظم من ذلك أن يفقد نفسه، يعني: أن يُستشهد في سبيل الله، فإنه والحال هذه أعظم أجراً وأكثر ثواباً. ويدخل في ذلك أيضاً نفقته، أي: ما ينفقه الرجل في سبيل الله، ويجهز به الغزاة في سبيل الله، فإنه ورد في الحديث: (من جهز غازياً فقد غزا، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا) ، فأصبح هذا الغزو الذي هو جهاد في سبيل الله يكون جهاداً بالنفس، وجهاداً بالمال، وتجهيزاً للغزاة، وخلفاً لهم في أهليهم بخير، وكل ذلك دليل على سعة فضل الله تعالى، وكثرة جوده على عباده.

شرح حديث: (غدوة في سبيل الله أو روحة خير مما طلعت عليه الشمس)

شرح حديث: (غدوة في سبيل الله أو روحة خير مما طلعت عليه الشمس) قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (غدوة في سبيل الله أو روحة خير مما طلعت عليه الشمس وغربت) أخرجه مسلم. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله ليعه وسلم: (غدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها) أخرجه البخاري. وعن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين -وذكر قصة- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه، قالها ثلاثاً) . وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم عين من المشركين -وهو في سفر- فجلس عند أصحابه يتحدث، ثم انفتل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اطلبوه واقتلوه، فقتلته، فنفلني سلبه) ، وفي رواية فقال: (من قتل الرجل؟ فقالوا ابن الأكوع، فقال: له سلبه أجمع) ] . في هذه الأحاديث فضل الخروج في سبيل الله للجهاد، وفيها بعض أحكام الجهاد التي لها صلة بالقتال في سبيل الله، فالحديث الأول: (غدوة في سبيل الله أو روحة خير مما طلعت عليه الشمس) ، وفي الحديث الثاني: (غدوة في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها) ، والمعنى واحد، والغدوة: المسير من أول النهار يعني: من طلوع الشمس إلى نصف النهار، هذا يُسمى: غدواً، كما في قوله تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} [آل عمران:121] ، فالغدو هو: المسير أول النهار، والروحة: المسير آخر النهار، أي: من زوال الشمس إلى غروب الشمس، هذا يُسمى رواحاً، ويُسمى المسير فيه روحة، وقد كانوا يسافرون للقتال في سبيل الله، فكانوا يقطعون ليالي وأياماً في السير على أقدامهم، أو على خيولهم، أو على إبلهم؛ لأجل الغزو، ولأجل الإتيان إلى المشركين حتى يقاتلوهم في عقر دارهم، فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنكم إذا سرتم نصف يوم في سبيل الله فأجره خير لكم من أن تحصل لكم الدنيا بحذافيرها، ومن أن يحصل لكم ما تطلع عليه الشمس أو تغرب؛ وما ذاك إلا أن هذا ولو كان مسيراً وسفراً عادياً، ولكنكم سافرتموه لأجل القتال في سبيل الله، ولأجل نصرة دين الله، ولأجل قتال من كفر بالله، ولو لم تبدءوا بالقتال، ولو كنتم تسيرون من بلادكم، متوجهين إلى بلادهم، فكل يوم أو نصف يوم تسيرونه ثوابه خير لكم من أن تحصل لكم الدنيا وما فيها، ولا شك أن هذا دليل على أهمية السير في سبيل الله الذي هو الغزو. وقد كانوا يسيرون شهراً متوجهين إلى البلاد التي فيها الكفار، فإذا ساروا -مثلاً- من المدينة إلى الشام لا يقطعونها إلا في خمسة وعشرين يوماً أو ثلاثين يوماً، حتى يصلوا إلى بلاد المشركين، فكل نهار فيه غدوة وروحة خير لهم من الدنيا وما فيها. ومعلوم أن القصد هو وصولهم إلى البلاد الكفرية، وصمودهم أمام المشركين، وقتالهم لهم، وتوجههم نحوهم، وبدؤهم بالقتال، وصبرهم أمام العدو، هذا هو المقصود؛ إذ ليس السير إلا وسيلة من الوسائل، فإذا كان السير الذي هو وسيلة من الوسائل فيه هذا الأجر وهذا الثواب فلا شك أن ما سواه -وهو الصمود للقتال، والبدء به، والصبر عليه، وتعريض النفس للقتل، وكذلك تعريض المال للسلب وللنهب- أكثر أجراً وأعظم ثواباً، وما ذاك إلا أنه هو المقصد، فالوسيلة هذا فضلها، والمقصد هذا فضله وأجره أكثر وأعظم.

شرح حديث: (من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه)

شرح حديث: (من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه) قصة حديث أبي قتادة كانت في غزوة حنين، وهي التي كانت بعد فتح مكة؛ وذلك لأن هوازن وثقيفاً كانوا قبائل قوية، وكان لهم منعة، وكان عندهم بأس، وكانوا مناوئين للإسلام، فلما أسلم أهل مكة امتنعت الطائف وقبائل ثقيف وهوازن عن الإسلام، واجتمعوا في حنين، واستعدوا ليقاتلوا محمداً صلى الله عليه وسلم ومن معه، فخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ومعه الذين جاءوا معه لفتح مكة وهم عشرة آلاف، ومعهم ألفان من الطلقاء الذين أسلموا بمكة، فصاروا اثني عشر ألفاً، فتقابلوا مع ثقيف وهوازن في حنين، ولما تقابلوا بدأت ثقيف القتال، وكانوا رماة، وكان معهم سهام كثيرة، وكان من آثارها أن انهزم بعض المسلمين لشدة الرمي، ولشدة إصابتهم بالسهام التي أشبهت الوابل، فلما انهزموا بقي منهم بقية، فرأى أبو قتادة رجلاً من المسلمين قد استولى عليه مشرك من المشركين، وأمسكه يرد أن يقتله، فجاء أبو قتادة إلى ذلك المشرك من خلفه فطعنه حتى أرداه قتيلاً، يقول: ولكنه قبل أن يموت ضمني ضمةً شديدةً حتى وجدت رائحة الموت ثم مات. وفي هذه القصة أنه صلى الله عليه وسلم بعدما انهزم المشركون ورجع المسلمون وقتل من قتل من هؤلاء وهؤلاء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قتل قتيلا ً له عليه بينة فله سلبه) ، ويعني بالسلب: ما كان معه من سلاحه ولباسه وما كان يحمله، حتى ولو كانت نقوداً ثمينة أو نحوها، وأبو قتادة ما أخذ سلب ذلك الكافر الذي قتله، بل تركه، وأخذه أحد المسلمين، ولما سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو قتادة: من يشهد لي؟ يعني: من يشهد لي بالقتيل الذي قتلته، ولم يشاركني في قتله أحد؟ فقال: (ما شأنك؟) قال: رجل قتلته وكان من أمره كذا وكذا، فقال أحد المسلمين: صدق وسلبه عندي، فمره يسمح لي به، فقال أبو بكر: لا يعمد إلى أَسَد من أُسْد الله يقاتل في سبيل الله فيعطيك سلبه، فأعطاه سلبه، فاشترى به مخرفاً، يعني: نخلاً، يقول: فإنه لأول مالٍ تأثلته في الإسلام.

شرح حديث: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم عين من المشركين)

شرح حديث: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم عينٌ من المشركين) قصة سلمة بن الأكوع فيها أنهم كانوا في غزوة، ولعلها غزوة حنين، فجاءهم عين من المشركين، والعين هو: الجاسوس، أي: أنه أرسل ليتجسس على المسلمين، وينظر قوتهم، وينظر مكانتهم ومجتمعهم، ثم يذهب إلى الكفار ويخبرهم بما مع المسلمين، فيقول لهم: تجدونهم في المكان الفلاني، وعندهم من القوة كذا، وأعدوا لهم كذا وكذا، فهذا الجاسوس جعل ينظر ويتأمل في أحوال المسمين، وكأنه رأى فيهم ضعفاً، ثم إنه لما عرفهم رجع وركب ناقته، ففطن له النبي صلى الله عليه وسلم، وعرف أنه أرسل من المشركين للتجسس، فأمرهم بأن يقتلوه، وكان قد ركب ناقته وأسرع السير، ولم يقدر الصحابة على أن يدركوه، وكان سلمة بن الأكوع شديد السعي، فسعى في أثره على قدميه، ثم إنه سعى حتى وصل إلى قرب رجلي الناقة، ثم اشتد بالسيف حتى وصل إلى قوائمها، ثم تقدم حتى مسك بخطامها، وتمسك به إلى أن قوي عليها، ثم بركت الناقة لما أنه اجتذبها بقوته، ولما بركت عمد إلى ذلك الجاسوس فقتله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قتله؟ فقالوا: ابن الأكوع، فقال: له سلبه أجمع) .

حكم السلب

حكم السلب أخذ من هاتين القصتين أن من قتل أحداً من المشركين فإنه يستحق سلبه، ولا يدخل ذلك في الغنيمة، بل يكون ذلك له تشجيعاً، حيث إنه يصمد أمام المشركين، ويعرض نفسه للقتل، ويستعد للقتال، حتى إن بعض الصحابة قد قتل عدداً من المشركين، ذكروا أن أبا طلحة الأنصاري قتل في غزوة حنين نحو عشرين قتيلاً، وانفرد بأسلابهم تشجيعاً له، فيأخذ القاتل سلب القتيل، ويدخل في السلب سلاحه الذي يقاتل به، كسيف أو رمح أو نبل أو قوس أو خنجر، وغير ذلك، ويدخل في السلب درعه إذا كان عليه درع قد ارتداه ليقي به السلاح، ويدخل في ذلك الخوذة، وهي: المجن الذي يلبس على الرأس، ويدخل في ذلك بقية الألبسة التي يلبسها كجبة أو قميص أو ما أشبه ذلك، وإذا كان معه شيء من النفقة دخل أيضاً، فإذا وجدوا معه نقوداً أو نحوها فإنها تدخل في سلبه، فيأخذ القاتل ذلك كله تشجيعاً له. وكذلك أيضاً دابته التي يقاتل عليها، فهي على الصحيح له، فإذا كان الكافر يقاتل على فرس أو على ناقة أو نحوها فإنه يأخذه ذلك المسلم الذي قتله من باب التشجيع له، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك تشجيعاً لمن يقتل مشركاً في المعركة، أما إذا قتله في غير المعركة فإن ذلك يكون في الأصل من الغنيمة التي تقسم على الغانمين. أما بقية المغنم فإن الكفار إذا انهزموا وتركوا أمتعتهم وأزودتهم، وتركوا مكانهم الذي كانوا يجتمعون فيه، وتركوا ما فيه فإن هذا من الغنيمة التي تُغنم، وكذلك أيضاً إذا فتحوا بلاداً، وأخذوا ما فيها من الأموال، فإن هذه من الغنائم التي أباحها الله تعالى لهذه الأمة في قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً} [الأنفال:69] فأباح الله لهذه الأمة غنائم المشركين، فما يأخذونه من الغنائم التي ينهزم عنها المشركون ويتركونها فإنها تُقسم بين الغانمين، لكن بعدما يخرج منها الخمس الذي ذكره الله بقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال:41] يعني: أن الخمس يقسم بين هؤلاء، وأربعة الأخماس الباقية تقسم على الذين اشتركوا في الوقعة. وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قسم يعطي من قاتل على فرس ثلاثة أسهم -سهماً له وسهمين لفرسه-، وأما الذي يقاتل على قدميه فليس له إلا سهم واحد، سهم للراجل وثلاثة أسهم للفارس، وما ذاك إلا أن الفارس أشد نكاية؛ حيث إنه يخوض المعركة، ويجول بفرسه، ويصمد أمام المشركين، ويدرك المنهزمين، ويجول فيهم، ويكثر فعله، ويكثر تأثيره في إضعاف قوة المشركين، فكان من تشجيعه أن أُعطي ثلاثة أسهم، ومع ذلك فإن الأصل أن المسلمين ما كانوا يقاتلون لأجل السلب، ولا يقاتلون لأجل المغنم، ولكنهم كانوا يقاتلون لوجه الله، يقاتلون لتكون كلمة الله هي العليا، ودينه هو الظاهر، يقاتلون المشركين الذين يصدون عن سبيل الله، والذين يقاتلون أولياء الله، والذين يعادون المسلمين، وينصبون لهم العداوة، فالمسلمون إذا قاتلوهم يقصدون بذلك إذلال الكفر، وإهانة الكافرين، وتحقيرهم، وإعزاز الدين، ونصرة الله ورسوله، كما أمرهم الله بقوله: {كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ} [الصف:14] ، وقوله: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7] هذه هي نيتهم التي يثيبهم الله تعالى عليها، ومع ذلك فلهم هذا الأجر. وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تضمن الله لمن خرج في سبيلي لا يخرجه إلا قتال في سبيلي إن مات أن أدخله الجنة، أو أرده إلى بلده بما نال من أجر أو غنيمة) ، فبشره أنه إذا قتل فإن له الجنة، وإذا رجع فإن له الأجر أو يحوز مع الأجر المغنم الذي يغنمه المسلمون من بلاد المشركين، وهذا من الترغيب في الجهاد، والترغيب فيه ترغيب دنيوي وأخروي، ولكن ينبغي أن يكون الترغيب الأخروي هو المقصد الأعلى.

شرح حديث: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى نجد)

شرح حديث: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى نجد) قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى نجد، فخرجت فيها، فأصبنا إبلاً وغنماً، فبلغت سهماننا اثني عشر بعيراً، ونفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيراً بعيراً) . وعنه رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جمع الله الأولين والآخرين يرفع لكل غادر لواء، فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان) ] . حديث ابن عمر فيه قصة هذه السرية التي أرسلها النبي صلى الله عليه وسلم إلى نجد، والتي غنمت هذه الغنائم من إبل وغنم والسرية: قطعة من الجيش، تنطلق منه إلى بعض الأعداء الذين ليسوا في طريق الجيش، فتغير عليهم وتقتل منهم وتغنم، وترجع إلى الجيش، فيمكن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة من غزواته، إما في غزوة حنين أو في غيرها من الغزوات، كان متوجهاً إلى جهة، فذُكر له أن بعض المشركين في أحد جوانب البلاد، فاختار لها سرية؛ لأنهم قليل لا يستحقون أن يذهب إليهم الجيش كله، والجيش قد يكون -مثلاً- عشرة آلاف وهم لا يحتاجون إلا إلى مائتين أو ثلاثمائة أو أربعمائة فارس أو راجل، فأرسل تلك السرية، وفيها عبد الله بن عمر، فذهب رضي الله عنه معهم فقاتلوا أولئك المشركين، وأصابوا هذه الغنائم، وهي غنائم كثيرة، كانت أغناماً وإبلاً، فجاءوا بها يسوقونها، فقسمها النبي صلى الله عليه وسلم بين الجميع، أي: بين الجيش والسرية، ولم يجعلها للسرية وحدها؛ وذلك لأن السرية تتقوى بالجيش، والجيش يتقوى بها، فإذا غنمت السرية فإن الجيش يشاركها فيما غنمت، وإذا غنم الجيش بعد السرية شيئاً فإن السرية تشاركه فيما غنم؛ لأنهم جميعاً غزاة في جهة واحدة، فهم سواء فيما غنموه، إلا أن أصحاب السرية ينفلون؛ وذلك لأنها تتعرض للخطر، ولأنها غالباً تسير ليلها وتكمن نهارها، ويصيبها شيء من التعب والكلل والملل والمشقة، فلذلك يُحتاج إلى تنشيطها بأن تُنفل شيئاً مما غنمت. وذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفل في ذهابه الربع بعد الخمس، وفي رجعته الثلث بعد الخمس، ومعنى ذلك أنه إذا كان خارجاً في بدايته يعني: في خروجه من المدينة متوجهاً إلى العدو، وأرسل سرية يغيرون من هنا أو من هناك، قال لهم: اذهبوا إلى البئر الفلانية أو إلى البلد الفلانية، وإذا غنمتم شيئاً فأخرجوا منه الخمس، وخذوا الربع لكم، والباقي بيننا وبينكم، فهذا الربع الذي يأخذونه يُسمى نفلاً، أي: زيادة، وكذلك إذا انتهوا ورجعوا إلى بلادهم، فمعلوم أنهم في ذلك الوقت يكونون مشتاقين إلى أهليهم، وقد يكون معهم شيء من التعب والملل والكسل؛ فلأجل ذلك هم بحاجة إلى أن يُزاد لهم، فإذا بعثهم يقول لهم: أغيروا على القوم الفلانيين، على بني فلان أو على أهل البلد الفلانية، وإذا غنمتم فلكم الثلث بعد الخمس، والباقي بيننا وبينكم، هكذا كان ينفل. فهذه السرية التي فيها ابن عمر غنموا غنائم كثيرة، ولما قسمت أخرج منها الخمس الذي هو سهم لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، وبعد إخراج الخمس أخرج الربع لهذه السرية وحدها، وبعد ذلك قسم الباقي على الغانمين الذين غنموا، وعلى الجيش الذين هم قوة الغانمين، فبلغت سهمانهم اثني عشر بعيراً، هذا سهمانهم عموماً، كل منهم له اثنا عشر بعيراً. وأما النفل فلكل واحد منهم بعير، والبعير: اسم للواحد من الإبل، فالناقة تُسمى بعيراً، والجمل يُسمى بعيراً، فأعطى كل واحد اثني عشر من الإبل من الذكور والإناث، هكذا قسمت، وذكر بعض الذين شرحوا الحديث أنها سرية لم يخرج فيها النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما أرسلهم قبل نجد، وأنهم غنموا، وأن الغنائم صارت لهم إلا الخمس، وأن هذا النفل كان من الخمس، يعني: أعطوا من الخمس بقدرهم، فكان لكل منهم بعير زيادة على سهمه. وبكل حال: فهذا الحديث دليل على جواز النفل، ودليل على جواز إرسال السرايا. كان النبي صلى الله عليه وسلم تارة يرسل السرايا من المدينة يقاتلون ثم يرجعون، ويُسمون سرية؛ لأنهم يسيرون ليلاً طويلاً حتى يصلوا إلى قرب العدو، فيقاتلون ثم يغنمون ويرجعون. وتارة يفصل قطعة من الجيش ويرسلهم، ويسمون أيضاً: سرية، فالسرية تقع على قطعة من الجيش أو مجموعة يخرجون من البلد، يغيرون على الأعداء فيقاتلونهم حتى يغنموا منهم ما يغنموا، ولا شك أن هذا دليل على حرص النبي صلى الله عليه وسلم على إرسال المقاتلين إلى بلاد المشركين؛ حتى يطهر البلاد وينقيها من المشركين، ويُظِهر الإسلام، وما زال كذلك حتى أظهر الله الإسلام ونصره، ودان الناس بدين الله سبحانه وتعالى، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، ومع ذلك لم يكن قصده ولا قصد صحابته ما يحصل لهم من هذا المغنم، ولكن كان قصدهم الأساسي هو القتال في سبيل الله، أي: قتال المشركين حتى يدخلوا في الإسلام؛ وذلك لأن المشركين إذا هزموا وسلبوا أموالهم وذراريهم شعروا بذل وبضعف، وشعروا بأن الإسلام هو القوي، وأن المسلمين دائماً هم المنتصرون، فيكون ذلك سبباً في إقبالهم على الإسلام، وديانتهم به، ودخولهم فيه، كما حصل ذلك لكثير من المشركين الذين هزموا، ثم بعد ذلك دخلوا في الإسلام ودانوا به، كما حصل لقبيلة هوازن الذين قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم وهزمهم، ثم حصل أنهم بعد ذلك رجعوا إلى الإسلام.

شرح حديث: (إذا جمع الله الأولين والآخرين يرفع لكل غادر لواء)

شرح حديث: (إذا جمع الله الأولين والآخرين يرفع لكل غادر لواء) حديث: (يرفع لكل غادر لواء يوم القيامة، ويقال: هذه غدرة فلان بن فلان) أورد المؤلف هذا الحديث لبيان أن الأمان يجب الوفاء به، وكذلك العهد، وكذلك الذمة، كل ذلك يجب الوفاء به، ويحرم الغدر والخيانة وترك الوفاء بما التزمه المسلم. وصورة ذلك: أن يطلب بعض الكفار الأمان، فيقولون: نطلب الأمان، أو نطلب الهدنة والصلح، أو نطلب أن نتعاهد على ألا يقاتل بعضنا بعضاً مدة شهر أو سنة أو سنوات، حتى نستجم، ونريح أنفسنا، ويلتقي بعضنا ببعض، ونجول في الأرض، ونتقلب فيها لما نحتاجه، ثم بعد ذلك إذا انقضت نعود إلى ما كنا عليه من القتال حتى ينتصر من ينصره الله، وكما كان في عمرة الحديبية حين اصطلح النبي صلى الله عليه وسلم مع قريش على المعاهدة، فتعاهدوا على وضع الحرب عشر سنين، فلا يقاتل بعضهم بعضاً، وقُصد بذلك أن يأمن الناس على أموالهم وعلى دمائهم، وأن يتمكن الدعاة من الدعوة إلى التوحيد، فالتزم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا العهد ووفى به، ولكن قريشاً لم يوفوا بما عاهدوا عليه، بل نقضوا العهد؛ وذلك لأن خزاعة كانوا قد دخلوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وبنو بكر دخلوا في عهد قريش، فوقع أن بني بكر غدروا، وأمدتهم قريش بالمال وبالرجال وقاتلوا خزاعة، وكان هذا هو النقض الذي نقضوا به العهد، فأرسلت خزاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخبرونه بأن قريشاً قد نقضوا الميثاق ونقضوا العهد، فغزاهم النبي صلى الله عليه وسلم في سنة ثمان، وحصل فتح مكة، فكفار قريش هم الذين نقضوا العهد، أما النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون فما نقضوا العهد؛ لأنه يحث دائماً على الوفاء بالعهد، والله تعالى يحث على ذلك كقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل:91] ، وكقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً} [الإسراء:34] ، وكقوله تعالى: {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} [الأنعام:152] ، فإذا قال الإنسان: أعاهد الله أنني لا أخونكم، ولا أفشي أسراركم، ولا أطلع عليها أحداً من الأضداد، ولا أتكلم فيكم؛ فله ذلك، وكان لزاماً عليه الوفاء بهذا العهد وعدم نقضه. فإذا نقضه وخان فإن هذه الخيانة وهذا النقض خصلة مذمومة، بل هي من خصال النفاق، كما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أربع من كنَّ فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتمن خان، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر، وإذا حدث كذب) ، فذكر من جملتها الغدر، فقوله: (إذا عاهد) يعني: كذب في عهده ولم يوف به، فالغادر هو الذي ينقض العهد، فيؤمن إنساناً، فإذا أمنه بعد ذلك قتله، ويعتبر هذا مما يعاقب الله عليه، فيرفع للغادر لواء يوم القيامة يعرف به، يقال: هذه غدرة فلان بن فلان؛ لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يحافظ على الوفاء بالعهد، وينهى عن الكذب وعن الغدر. وأما ما يحتج به بعضهم من أن الحرب خدعة، فإن هذا لا يصلح دليلاً؛ لأن قوله: (الحرب خدعة) بمعنى: أنك تخدعهم إذا رأيتهم مجتمعين، وأتيتهم على أنك ليس بينك وبينهم عهد ولا ذمة ولا أمان، فتأتيهم كأنك مسالم أو نحو ذلك، وأنت تقصد بذلك قتالهم، أو تأتيهم وهم غافلون ونحو ذلك، كما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون، فهذا من الحرب الذي قال فيه: (الحرب خدعة) ، ولا يصلح أن يكون فيه نقض للعهد، ولا الخيانة، ولا نقض الأمان ونحو ذلك، بل هذه الثلاثة: العهد، والأمان، والذمة، يجب الوفاء بها، ولا يجوز نقضها بحال مع كافر أو مع مسلم.

شرح حديث: (أن امرأة وجدت في بعض مغازي النبي صلى الله عليه وسلم مقتولة)

شرح حديث: (أن امرأة وجدت في بعض مغازي النبي صلى الله عليه وسلم مقتولة) قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعنه رضي الله عنهما (أن امرأة وجدت في بعض مغازي النبي صلى الله عليه وسلم مقتولة فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم قتل النساء والصبيان) . وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن عبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام شكيا القمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة لهما، فرخص لهم في قميص الحرير، فرأيته عليهما) ] . هذان الحاديثان من الأحاديث التي تتعلق بالجهاد، فالحديث الأول في النهي عن قتل النساء والصبيان في الحروب، والحديث الثاني في الرخصة في لباس الحرير في الحروب عند الحاجة إليه، وقد وردت أحاديث أخرى كثيرة في النهي عن قتل النساء والصبيان، وفي هذا الحديث: أنه وجدت امرأة مقتولة، ولما وجدها المجاهدون وقفوا عندها، كأنهم استنكروا قتلها، أو كأنهم ينظرون إلى خلقتها، فأدركهم النبي صلى الله عليه وسلم وهم صافون حولها، فلما رآها أنكر قتلها، ونهى بعد ذلك أن يقتل في الحرب امرأة، لكن في بعض الروايات أنه قال: (ما كانت هذه لتقاتل) ، فعلل النهي عن قتلها بكونها ليست من المقاتلين، وهذه عادة النساء سابقاً أنهن لا يدخلن المعارك، ولا يأخذن الأسلحة، ولا يقاتلن، وإنما تبقى النساء مع الصبيان ومع الأمتعة، ويبقين خلف الرجال، أو يبقين في مساكنهن، ويغلقن على أنفسهن، هكذا كان الأمر المعتاد، فالأصل عدم قتل النساء والصبيان. ومعلوم أيضاً أن الصبي الذي هو دون البلوغ ليس أهلاً للقتال، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا استولى على المقاتلين وعلى الذراري نظر في الصبيان: فمن وجده قد أنبت الشعر حول الفرج قتله؛ لأنه من الرجال، ومن وجده لم يحصل منه الإنبات لم يقتله، وجعله مع الذرية، فإذا استولى المسلمون على النساء فإنهن سبي يستحلونهن ويقسمونهن بينهم، يعني: كإماء يملكونهن بالاستيلاء عليهن، وكذلك الصبيان، يملكونهم أيضاً، ويكونون غنيمة للمسلمين، فيستخدمون الصبيان، ويتبادلونهم في الملكية، ويكونون عبيداً مملوكين لهم، هذا هو السبب في عدم قتل النساء والصبيان في الحروب. لكن إذا قدر أن المرأة دخلت المعركة، وأخذت من السلاح ما تقاتل به، فإذا لم يكن بد من كف شرها إلا القتل فإنها تقتل دفعاً لضررها، ومعلوم أنه في هذه الأزمنة أصبحت نساء الكفار كرجالهم، ومما عابوا به المسلمين حرجهم على المرأة، ومنعها أن تخوض المعركة، وأن تقاتل مع أولادها وأحفادها، ومع إخوانها وأولاد إخوانها؛ فألزموها أن تتعلم القتال، وأن تتعلم استخدام الأسلحة، وإذا حصلت معركة مع عدو استوى الرجال والنساء في خوض تلك المعركة، ففي هذه الحال إذا حصل القتال بين مسلمين وكفار، ومع الكفار نساء، فإن القتال يكون عاماً لكل من يقاتل من رجل أو امرأة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علل النهي بقوله: (ما كانت هذه لتقاتل) ، فإذا وجد أنها قاتلت فلا مانع من أن تقتل، وقتلها هنا يكون كفاً لشرها؛ لتوليها من القتال ما يتولاه الرجال. فأما إذا لم تخض المعركة، وإنما كانت مع الذراري ومع النساء في مؤخرات الجيش، أو في محل المعركة، أو في مكان القوم الذي تحجروا لأنفسهم، فإنها لا تقتل، بل تبقى على ما كانت عليه، حتى إذا استولى المسلمون عليهم أخذوها كسائر السبي، أو فادوا بها كما يفادون بالأسرى ونحوهم. ويستثنى من ذلك إذا بيت المسلمون عدوهم في داخل دورهم، وكانت الدور -مثلاً- مظلمة، ولا يميزون صغيراً وكبيراً، ولا يميزون ذكراً وأنثى، فإنهم في هذه الحال يقتلون من تمكنوا منه، ومن وجدوه من صغير وكبير يقتلوه؛ لأنهم يريدون بذلك الاستيلاء على المشركين واستضعافهم وإذلالهم وإهانتهم، فإذا بيتوهم فإنهم يقتلون من تمكنوا منه؛ ولذلك لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن القوم يبيتون فيقتل بعض النساء والذرية قال: (هم منهم) يعني: أنهم من آبائهم، ولهم حكم آبائهم، وما ذاك إلا أن قتالهم هاهنا هو لأجل أن يُستولى عليهم، ولأجل أن يحصل من قتلهم الإذلال والإطاحة بهم، والاستيلاء على بلادهم، وذلك يحصل بأن يقتل من تمكن من قتله من ذكر أو أنثى.

شرح حديث: (أن عبد الرحمن والزبير شكيا القمل إلى رسول الله في غزوة لهما)

شرح حديث: (أن عبد الرحمن والزبير شكيا القمل إلى رسول الله في غزوة لهما) الحديث الثاني يتعلق بلبس الحرير للعذر، ففي غزوة من الغزوات طال الأمر، واشتد الحر، وطالت الغيبة، وكان بعض الصحابة كـ الزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف ممن اعتادوا النظافة، واعتادوا الثياب اللينة، فلما طالت غيبتهم مع ثياب خشنة وعرق، ومع طول مسافة، وبعد عهد بالاغتسال وبالنظافة؛ تولد القمل في الثياب وفي الجلد؛ فآذاهما القمل، وآذتهما حكته، فاشتكيا إلى النبي صلى الله عليه وسلم القمل الذي تولد من الوسخ، والذي تولد من الثياب الدنسة الخشنة، فلما لم يكن هناك علاج يخففان به هذه الحكة، رخص لهما في ثياب الحرير، يقول الراوي: (فرأيت عليهما قميص الحرير في تلك الغزوة) . فأخذ العلماء أنه يرخص في لبس ثياب الحرير عند شدة الحاجة إليها، ومن جملة ذلك الحكة والقمل، ويكون ذلك عند طول العهد بالنظافة ونحوه. ومعروف أن القمل يتولد في الثياب وفي البدن بسبب بعد العهد بالنظافة، وتكاثر الأوساخ في البدن وفي الثياب خاصة، إذا بعد العهد بتنظيفها وغسلها وإزالة الأوساخ عنها، فإذا تعاهد الإنسان بدنه يومياً أو كل يومين أو كل أسبوع مرة أو مرتين بأن يغسل بدنه وأن يغسل ثيابه وينظفها فإنه والحال هذه لا يتوالد معه القمل الذي يتوالد من الوسخ كما ذكرنا، وكذلك إذا كانت ثيابه نظيفة ولينة الملمس كثياب الحرير لا يتولد فيها هذا القمل غالباً. ورخص لهما النبي صلى الله عليه وسلم في ثياب الحرير لرقتها وليونتها ونعومتها، وكونها تكون مكافئة ومكافحة لتولد هذه الحكة وهذا القمل، هذا هو السبب، فإذا وجدت مشقة حصلت الرخصة، وإلا فإن الحرير حرام على الرجال، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة) وإنما رخص فيه للنساء، وقال في الذهب والحرير: (هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثهم) فصرح بأنهما محرمان على الرجال. وقد ذكر الله أنها لباس أهل الجنة؛ يقول تعالى: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج:23] ، فإذا كان لباسهم الحرير في الجنة فإن الذي يطلب الجنة في الدنيا يتقلل من الأسباب التي تمنع من دخولها، ومن جملة ذلك ألا يفعل الأشياء التي إن فعلها منع منها في الآخرة، كما صرح في هذا الحديث، وحديث: (من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة) ، فكذلك من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، يعني: يعاقب بألا يدخل الجنة التي لباس أهلها حرير. وسبب منع الرجال من لباس الحرير في الدنيا: أنه لباس أهل الترف، وأهل البذخ والكبر والرفاهية والتنعم، ولباس الذين يعتبرون الدنيا ملذة ونعيماً، وهذه الرتبة إذا حصلت فإن الذي تحصل له يكون من أهل الدنيا أصلاً، ولا يشتغل بالآخرة، بل يكون حظه منها هو الانكباب والإقبال على الشهوات وأسبابها، وهذا هو السبب في منع الرجال من لباس الحرير، ومن التحلي بالذهب في الدنيا. وإذا كان كذلك فإنه يرخص فيه للعذر كما في هذه الحالة، والرخصة خاصة بالحرب، فإذا كان الإنسان غازياً، وطالت به الغيبة لطول الغزو، ولم يجد مكاناً أو بلداً يتنظف فيه، ويغير لباسه وكسوته أو ينظفه أو نحو ذلك، وحصلت له هذه الحكة من آثار هذا القمل؛ ففي هذه الحالة تحصل له الرخصة، وأما إذا وجد رخصة غير هذه بأن وجد ثياباً نظيفة أو وجد ما ينظف به بدنه ويزيل عنه الوسخ فلا تعمه الرخصة التي رخصت لهما. وقد ذكرنا أنهما رضي الله عنهما كانا ممن اعتاد النظافة، واعتاد الثياب الرقيقة، ولما طالت بهما المدة تغيرت الحال عليهما، فكثرت الحكة فيهما، ولم يذكر أن غيرهما حصل له هذا الأمر؛ وذلك لأن غيرهما كانوا قد اعتادوا الثياب الدنسة ونحوها، ولا تؤثر الحكة على من اعتاده ذلك، والله أعلم.

شرح حديث: (أجرى النبي صلى الله عليه وسلم ما ضمر من الخيل)

شرح حديث: (أجرى النبي صلى الله عليه وسلم ما ضمر من الخيل) قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (أجرى النبي صلى الله عليه وسلم ما ضمر من الخيل من الحفياء إلى ثنية الوداع، وأجرى ما لم يُضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق) ، قال ابن عمر: وكنت فيمن أجرى. قال سفيان: من الحفياء إلى ثنية الوداع خمسة أميال أو ستة، ومن ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق ميل. وعنه رضي الله عنهما قال: (عُرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني في المقاتلة، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني) ] . الحديث الأول يتعلق بالمسابقة، فالسباق على الخيل سنة لهذا الحديث؛ وذلك لأن فيه: أولاً: تجرأة على ركوب الخيل واعتياده، والثبات والمجاراة عليها. ثانياً: تجربة الخيل، ومعرفة السابق منها وما ليس بسابق، وسبب ذلك: أن القتال كان على هذه الخيل؛ فالقتال الذي كانوا يقاتلون به أعداء الإسلام غالباً كانوا يركبون فيه الخيل، وقد يركبون الإبل، قال تعالى: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} [الحشر:6] ، فالركاب هي: الإبل، فدل على أنهم يوجفون دائماً أو كثيراً على الخيل أو على الركاب التي هي الإبل. ثالثاً: أن الخيل تحتاج إلى تعويد وتمرين على السباق، وأنها تختلف باختلاف أحوالها، فمنها المضمر ومنها غير المضمر؛ لذلك فرق بينهما في هذه المسابقة، فأمر بأن تجري الخيل المضمرة مسافةً طويلة، والخيل غير المضمرة مسافةً قصيرة. والمضمرة هي: خيولٌ تُعلَّف مدة ستة أشهر أو سنة ويزاد في علفها، وتعطى أنواع العلف الذي تقوى به حتى تسمن وتقوى ويكثر لحمها ويقوى عظمها، ثم إذا أرادوا السباق عليها جوعوها ثلاثة أيام أو يومين لا يعطونها شيئاً حتى تضمر ويخف ما في بطنها، فيكون عظمها قد صلب وقوي، وجسمها قوي أيضاً، وبطنها صار خفيفاً، فإذا أرادوا السباق في ذلك اليوم كانت قد ضمرت وخفت، فيطعمونها طعاماً قليلاً بقدر ما تتمسك به قوتها، ثم بعد ذلك يجرونها، فيجتمع فيها قوة البدن والسِّمن، وخفة البطون والجسم، فيكون سيرها أسرع. وحيث إن الله تعالى ذكر الخيل بقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60] ، فأمر بإعداد الخيول وبتهيئتها لتكون إرهاباً للأعداء وتخويفاً لهم؛ حتى إذا علموا أن عند المسلمين قوة ومنعة كان ذلك سبباً في هيبتهم وفي خوفهم؛ حتى لا يطمعوا في شيء من بلاد المسلمين أو من أموالهم أو ردهم عن دينهم أو نحو ذلك، بل يخافونهم، وإذا عزموا على قتالهم كان المسلمون قد استعدوا وقد تهيئوا، وقد أعدوا لهم العدة، فيكون مع المسلمين قوة ونجدة واستعداد لرد كيد الأعداء ولإذلالهم وإهانتهم. فهذا هو السبب في الأمر بإعداد الخيل، في قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال:60] . ولا شك أن من جملة إعداد وتهيئة الخيول الدخول إلى الميادين؛ وذلك بمعرفة الأسبق منها، وبمعرفة السابق والقوي وغير ذلك، وهذا هو السبب في أنه صلى الله عليه وسلم أجرى هذه الخيل، أمر كل فارس أن يركب على فرسٍ، ويدخلوا المسابقة، وإذا أطلقوها فإنها تسير سيراً سريعاً، وتسعى سعياً شديداً إلى أن تصل إلى نهاية المدى الذي حُدد لها. فجعل للخيل التي أضمرت من الحفياء إلى ثنية الوداع، وهذه أمكنة معروفة بالمدينة، وحددها الراوي بأنها خمسة أميال، وهذا يدل على أنها مسافة طويلة. والميل يساوي قريباً من ألف وسبعمائة، وهذه مسافة طويلة، ولكن الخيول المضمرة خفيفة الجري، وسريعة العدو، وشديدة الأبدان، ولا تألم ولا تتعب، فلذلك لو سارت خمس ساعات سعياً شديداً لن تتعب في الغالب. وأما الخيل التي لم تضمر فإنها تتعب بسرعة، لذلك جعل لها ميلاً واحداً، فجعلها تجري من الثنية إلى مسجد بني زريق نحو ميل أو قريباً من الميل، أي ألف وسبعمائة متر، وهذا لا شك أنه رفق بها؛ لكونها تتعب بسرعة؛ لأنها ممتلئة البطون، وثقيلة الجري، ولكونها لم تتعود على الجري.

الأشياء التي يكون فيها السباق

الأشياء التي يكون فيها السباق السباق على الخيل من السنة، بل قد يستحق صاحب الفرس السابق جائزة تشجيعاً له على ذلك، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا سبق إلا في نصلٍ أو خف أو حافر) ، والسبق هو: الجُعل الذي يبذل لمن سبق، فالجائزة التي تبذل للسابق تُسمى سبقاً، يعني: أجرةً وجائزة له تشجيعاً له على سبقه. فجعل السبق يختص بهذه الثلاثة: السباق على الإبل، والسباق على الخيل، والسباق بالسهام التي هي الرمي، فالسباق بالرمي كأن ينصبون -مثلاً- هدفاً ثم يرمونه بسهامهم، فمن أصابه فله الجائزة، والذي يخطئ ليس له شيء، وهذا يجعلهم يعودون أنفسهم على الرمي. وقد وردت الأحاديث في الأمر به، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] قال: (ألا إن القوة الرمي) . ويدخل في ذلك الرمي بالأسلحة الجديدة، كالرصاص المعروف الآن، وكل ما يلحق به مما فيه تعلمٌ للقتال على هذه الأسلحة فإنه داخلٌ في قوله: (ألا إن القوة الرمي) فيدخل فيه الرمي بالرصاص المعروف، والرمي بالمدافع ونحوها، والرمي بالقاذفات وما أشبهها، ولا شك أن ذلك كله يعتبر من الرمي، فيصح السباق عليه، ويصح أن ينصب هدفٌ، وأن يرميه الذين يريدون التعلم، ومن أصابه في أول مرة أخذ الجائزة. كذلك أيضاً السباق على الإبل؛ وذلك لأن الإبل من جملة ما يطلب عليه العدو، فيصح أن يُسابق عليها، وقد كانوا يتسابقون على الإبل، ينظر أيها أشد جرياً وعَدَواً، حتى تدرك من هرب، أو تنجو بمن هرب، أي: تدرك المطلوب، وتفوت الطالب. وكذلك أيضاً الخيل. فالحاصل: أن هذه الثلاثة هي التي تصح فيها الجوائز، وأما المسابقة على الأقدام فهي جائزة أيضاً، فقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها قالت: (سابقت النبي صلى الله عليه وسلم فسبقته، فلما غشيني اللحم سابقته فسبقني، وقال: هذه بتلك) ، فالمسابقة على الأقدام جائزة؛ وما ذاك إلا أن فيها تمريناً على شدة العدو والجري، والإنسان إذا عود نفسه سرعة السير وسرعة المشي وسرعة العدو كان ذلك مما يسبب قوته إذا هرب من عدوٍ، فقد تضطره الظروف أحياناً إلى أن يهرب إذا كان مطلوباً أو يطلب من هرب، فينجو ممن يطلبه، ويدرك من طلبه. فيصح السباق على الأقدام، ولكن لا يصح بعوض. كذلك يصح السباق على السفن وعلى الزوارق، ولكن إذا كان في بعض الأمور التي يسابق عليها شيءٌ من المخاطرة والمهاترة والإلقاء باليد إلى التهلكة والتعرض للأخطار فلا يجوز ذلك، كالمسابقة على السيارات أو الدبابات وما أشبهها،لما فيه من التعرض للأخطار؛ لأنه قد يكون من آثار السرعة حوادث انقلاب، أو حوادث اصطدام، أو نحو ذلك. وبكل حالٍ فهذا الحديث دليلٌ على جواز المسابقة على هذه الأشياء، وإذا جازت المسابقة جاز جنسها، وجاز كل شيء فيه تشجيع على القتال، وفيه حث على إعداد القوة لمواجهة المشركين بكل ما يستطاع. وعلى هذا نقول: إن على الإنسان أن يهيئ نفسه، فالنبي صلى الله عليه وسلم حث أصحابه على أن يتهيئوا لتعلم الرمي، وأن يتهيئوا لركوب الخيل، وأن يتعلموا ركوب الخيل والجري عليها، ولما شكا إليه بعض أصحابه -وهو جرير بن عبد الله البجلي - أنه لا يثبت على الخيل دعا له وقال: (اللهم ثبته) ، فكان بعد ذلك يثبت عليها، فدعا له بالثبات عليها، وحثهم على أن يتعلموا ركوبها، وأن يتعلموا الثبات والجري عليها؛ لأن في ذلك تقوية وتمريناً لهم على القتال ونحوه. ونقول أيضاً: علينا أن نتعلم الرمي بالأسلحة الجديدة التي يُقاتَل بها العدو في هذه الأزمنة، وما ذاك إلا أن فيها استعداداً للعدو الذي قد يأتي فجأة وبغتة، فإذا كان الإنسان لا يستطيع أن يقاتل، ولم يتعلم القتال والرمي ولا الجري، ولم يتعلم استخدام الأسلحة الثقيلة أو الخفيفة، ولم يتدرب على شيء من ذلك؛ أصبح كلاً على المجتمع، ولم يستفد المجتمع منه بشيء، بخلاف ما إذا كان قد درب نفسه وعودها على الثبات، وعلى الرمي، وعلى الكر والفر، وعلى الأسلحة الجديدة ونحوها، وعرف كيف تُستعمل، وعرف كيفية إصلاحها، وعرف كيف يصيب بها، فكل ذلك بلا شك من جملة ما أُمرنا به بقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [الأنفال:60] ، فكل شيءٍ تستطيعه في القضاء على الأعداء فإنك تفعله، وبذلك نستطيع أن نذل كل عدوٍ، لكن إذا أصلحنا علاقتنا مع الله تعالى، فهو الذي ينصر من استنصره، وهو الذي ينزل النصر على من ثبته، ولكن مع ذلك لابد من فعل سبب ليكون هذا السبب مقوياً أو مثبتاً للإنسان على الخير.

شرح حديث ابن عمر: (عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد)

شرح حديث ابن عمر: (عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد) قال ابن عمر: (عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني) ، وفي بعض الروايات: (رآني قد بلغت فأجازني في القتال) . وكانت غزوة أحد في آخر سنة ثلاث للهجرة، وكان سن ابن عمر حين ذلك في أول الرابعة عشرة، وأما غزوة الخندق فكانت في أول سنة خمس للهجرة، وسنه حين ذلك في آخر الخامسة عشرة، أو أنه قد بدأ في السادسة عشرة. ففي المرة الأولى رآه صغيراً فلم يأذن له أن يدخل الميدان، ولا أن يخوض المعركة، ولا أن يقف في جبهات القتال؛ لأنه لا يزال صغيراً، والصغير قد لا يثبت، أو قد ينهزم، أو قد يسبب انهزاماً أو ضعفاً، فهذا هو السبب، والله أعلم.

حكم حمل السلاح على المسلمين

حكم حمل السلاح على المسلمين قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حمل علينا السلاح فليس منا) . وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياءً أي ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) ] . قوله صلى الله عليه وسلم: (من حمل علينا السلاح فليس منا) ، هذا من أحاديث الوعيد التي تُجرى على ظاهرها؛ ليكون ذلك أبلغ في الزجر، ولا شك أن المراد بحمل السلاح على المسلمين: حمله للقتال أي: من همَّ بقتال المسلمين أو أراد قتال المسلمين وتولى ذلك وفعله. وقد تكاثرت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في حثه على ائتلاف المسلمين، ونهييه عن اختلافهم، ونهييه عن قتال بعضهم بعضاً، وإن كان قد أخبر بأنه سيقع في هذه الأمة قتال وشجار فيما بينهم، ولكنه مع ذلك كان دائماً ينهاهم عن هذا التقاتل، ويأمرهم بالائتلاف، ويحذرهم من أن يقاتل بعضهم بعضاً، ففي خطبته صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع -التي هي آخر مجمع كبير اجتمع وتكلم فيه- حفظ عنه أنه قال فيها: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) ، فجعلهم إذا فعلوا ذلك في حكم الكفار، أي: لا تفعلوا ما هو كفر، أو ما هو من عمل الكفار من كونكم تتقاتلون ويقتل بعضكم بعضاً، ويضرب بعضكم رقاب بعض، فإن ذلك لا شك من أعمال الكفار، وإن لم نحكم بكفر من فعله مطلقاً. وكذلك في تلك الخطبة حث صلى الله عليه وسلم على البعد عما يؤذي كل مسلم، فألقى عليهم سؤالاً، فقال: (أي شهر هذا؟ فقالوا: الشهر الحرام) وفي رواية أنه قال: (أليس شهر ذي الحجة؟ أي يوم هذا؟ فسكتوا، فقال: أليس يوم الحج الأكبر؟ أليس يوم النحر؟ أي بلدٍ هذا؟ فسكتوا، فقال: أليس بلد الله الحرام؟ ثم قال: إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا) . فلا شك أن هذا كله تحريض وحث على الأخوة فيما بين المسلمين، ونهيٌ لهم عن أن يعتدي أحدٌ على المسلمين بأخذ مالٍ، أو سفك دمٍ، أو انتهاك عرض، أو نحو ذلك مما يكون ضرره على المسلمين عموماً. وكذلك أيضاً ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: يا رسول الله! هذا القاتل فما بال المقتول؟ فقال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه) ، وهذا أيضاً من أحاديث الوعيد. ومع ذلك فإن المسلمين عليهم أن يحترموا كل المسلمين، ولا يجوز لهم أن يحملوا عليهم السلاح، ولا أن يستحلوا دماءهم، ولا أن يستحلوا محارمهم، ولا أن يستحلوا أموالهم، فلا تُسفك الدماء ولا تنهب الأموال ولا تنتهك الأعراض، ولا تستحل المحارم، حتى يكونوا بذلك إخوةً مسلمين كما أمرهم الله بقوله: {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران:103] ، وبقوله: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10] ، والأحاديث التي تحث على الأخوة وتحذر من التقاطع كثيرة، ومن هذه الأحاديث التي تحذر المسلم من أن يقاطع إخوته قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تقاطعوا، لا تهاجروا، لا تدابروا، ولا تحاسدوا، ولا تنافسوا) ، وأحاديث كثيرةٌ جاءت في حث المسلمين على أن يكونوا إخوة. ثم إذا كانوا إخوةً فإنهم يكونون يداً واحدةً على أعدائهم، ويكونون جميعاً من أولياء الله إذا فعلوا ما أُمروا به وتركوا ما نُهوا عنه، وأطاعوا الله ورسوله، وامتثلوا أمره؛ فمن كانوا كذلك فهم من المسلمين، لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين. ولا شك أن هذا يعم: حمل السلاح على أفراد المسلمين، وعلى جماعاتهم، وعلى أئمتهم وولاة أمورهم، كل ذلك يعمهم قوله: (من حمل علينا السلاح فليس منا) ، فالفرد من أفراد الناس إذا سل سيفه وأخذ يقاتل، أو أخذ بندقيته وصار يقاتل، أو همَّ بالقتال وأشهر سلاحه وأعلنه أمام الناس، وهدفه أن يقاتل هؤلاء المسلمين أو يخوفهم دخل في حكم هذا الحديث: (من حمل علينا السلاح) ، لأن هذا الحديث فيه توعد بمجرد الحمل. كذلك أيضاً إذا أراد أن يقاتل جماعة أو فئةً أو طائفة أو دولةً أو أهل بلدةٍ، كأن اجتمعت مجموعة، وكان معهم قوةٌ، ومعهم عدةٌ وأسلحة، وأرادوا أن يقاتلوا أهل بلدة أخرى، أو يقاتلوا أهل دولة أخرى، أو يقاتلوا قبيلة أخرى، وليس ذلك إلا لإرادة التجبر والتكبر عليهم، دخلوا في ذلك؛ بسبب أنهم قد حملوا السلاح على مسلمين من أهل الإسلام الصحيح، فيكونون بذلك متوعدَين بهذا الوعيد: (فليس منا) . وكذلك لو كان لهم منعة وقوة وعدة وذخائر ونزعوا يدهم من طاعة ولاة الأمور، وأرادوا أن يقاتلوا ولاة الأمر أو يقاتلوا من تحت ولاية الوالي ونحو ذلك؛ فيدخلون في هذا الحديث، ويصيرون ممن حمل السلاح على المسلمين، فيكونون بذلك قد توعدوا بهذا الوعيد الشديد: (من حمل علينا السلاح فليس منا) . وهكذا إذا حملوا السلاح على المسلم، الذي هو متمسك بالإسلام وبالعقيدة وبالتوحيد وطاردوه لأجل إسلامه، أو لأجل تمسكه، أو لأجل عقيدته، أو لأجل ديانته، فإذا طاردوه، وحمل عليه السلاح وتبعه بالسلاح واحد أو عددٌ دخلوا في هذا الوعيد: (من حمل علينا السلاح فليس منا) . وهكذا أيضاً يدخل في ذلك أفرادٌ وجماعات إذا كانوا يقطعون الطرق، ويقصدون بذلك أخذ الأموال، كأن يقفون في طرق الناس، فإذا مر بهم من يظنون أن معه مالاً أو معه محارم أشهروا السلاح عليه، وقالوا: أعطنا ما معك من المال، أو خلِ بيننا وبين محارمك لنفعل فيهن الفاحشة وإلا قتلناك، فإذا شهروا السلاح عليه فلا شك أن ذلك أيضاً داخل في هذا الحديث: (من حمل علينا السلاح فليس منا) . وهكذا يدخل في ذلك البغاة الذين يكون لهم شبهة، ويكون لهم قوةٌ، ويخرجون عن طاعة الإمام كالحرورية الخوارج الذين يقتلون أهل الإسلام ويتركون أهل المعاصي والكفر، فهؤلاء داخلون في هذا الحديث؛ حيث إنهم حملوا السلاح على المسلمين فقط، وتركوا غير المسلمين. ففي هذا وعيد شديد لكل من حمل السلاح على فرد أو على جماعة، سواء كان ذلك الحامل معه غيره أو كان وحده، وسواء كان قصده أن يستبد بالأمر أو قصده أن يذل ويهين المسلمين لأجل إسلامهم وعقيدتهم، أو قصده أن يذل كل متدين وكل عبدٍ صالح، حتى يظهر الفسق ويعلو، ويذل أهل الإيمان وينقمعوا في زعمه، ويتهمهم بما يتهمهم به من الإرهاب أو نزع يد الطاعة، أو ما أشبه ذلك، ولو سماهم بما سماهم فلا شك أن هذا داخل في هذا الوعيد.

حكم قتال الكفار المتسمين باسم الإسلام

حكم قتال الكفار المتسمين باسم الإسلام ولا يدخل في ذلك من ليس من المسلمين، ممن يتسمون بمسلمين، ولكن ليسوا بمسلمين، إذ ليس معهم من الإسلام إلا مجرد التسمي دون حقيقته، فإن هؤلاء لا يصلح أن يُسموا مسلمين، فالحديث ورد في الوعيد على حمل السلاح على المسلمين وحدهم، لا على من حمله على غيرهم، فإذا كان هؤلاء الذين تقاتلهم من المشركين الذين ظهر شركهم كأن كانوا ممن يعبدون القبور، أو يعبدون الصالحين، أو يعبدون غير الله، ويدعون غير الله عند الشدائد والملمات، ويهتفون بأسماء المخلوقات، ويدعونهم من دون الله تعالى، ويسمون ذلك توسلاً أو استشفاعاً، أو نحو ذلك، فهؤلاء يُقاتَلون ولو تسموا بأنهم مسلمون، كما قاتلهم الأئمة، ومنهم أئمة الدعوة، ومعهم أوائل أمراء هذه الدولة، فلقد قاتلوا في سبيل الله أناساً معهم اسم الإسلام، وليس معهم حقيقته، فلا يقال: إن محمد بن عبد الوهاب ومن معه حملوا السلاح على المسلمين، فإن هذا ليس بصحيح، وما ذُكر من أنهم فعلوا ذلك فليس له صحة، وكذلك ما ذكر من أنهم يكفرون كل من على وجه الأرض ليس له صحة، كما قال بعضهم: إن الشيخ محمداً يعم المسلمين جميعهم بالكفر، فنقول: هذا ليس بصحيح، وقد عابهم بهذا بعض أعدائهم حيث يقول في قصيدة له: وإنما تجاريك في سفك الدماء ليس بالقصد وتكفير أهل الأرض لست أقوله ولكن يقال: لم يتجار في سفك دماء المسلمين، وإنما في سفك دماء المشركين الذين شركهم صريح واضح، فإذا عُرف أن هذه الطائفة من المشركين الذين يدعون غير الله تعالى فلن ينفعهم تشهدهم، ولن ينفعهم انتسابهم إلى الإسلام ما دام أنهم يخالفونه مخالفةً صريحة. ولا شك أنه يلحق بهم كل من حُكم بكفرهم، فإذا قُوتلوا فقتالهم قتالٌ في سبيل الله، وليس قتالاً لأجل منصب أو نحو ذلك، كقتال المحاربين وقتال البغاة، وقتال قطاع الطريق، وقتال المتعصبين ونحوهم، وإنما الذين يقاتلون المشركين لأجل شركهم فهؤلاء يقاتلون في سبيل الله.

شرح حديث: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)

شرح حديث: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) ، لا شك أن الذي يقاتل لإعلاء كلمة الله، ولنشر الإسلام ولإظهار الدين، ولإظهار محاسنه، فهو في سبيل الله، وأما الذي يقاتل حميةً لقومه، كأن يقول: أقاتل حتى أحمي قومي من الذل، فهذا ليس له أجر ولو كانوا مسلمين؛ لأنه لم يقاتل لإعلاء الدين. وكذلك الذي يقاتل تعصباً لطائفة على طائفة ليس له أجر القتال في سبيل الله، وكذلك الذي يقاتل رياءً ليُرى مكانه؛ حتى يمدحه الناس بأنه من أهل النجدة، ومن أهل الشجاعة، ومن أهل الجرأة، وأنه مقدامٌ وأنه إلخ، فهذا أيضاً ليس له أجر على قتاله؛ حيث إنه ما أراد بذلك الدار الآخرة. وكذلك الذي يقاتل لأجل أن يحصل على جزء من الغنيمة من المال الذي يحصل عليه المجاهدون، فهذا أيضاً أجره ما يحصل له وما يظفر به من هذه الغنيمة، بخلاف الذي يقاتل لأجل أن يعلى الإسلام، ويظهر دين الله، وتعلو كلمة الله، ويذل الكفر وأهله، ويضطهد الكفر والكافرون، ويزول عن المسلمين ما هم فيه من الذل والهوان، والضعف والاضطهاد. فمثل هؤلاء إذا قاتلوا هذا القتال فإن الله تعالى يثيبهم وينصرهم ويرفع معنوياتهم ويعزهم، وقد وعد الله تعالى بذلك بقوله: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7] ، فهؤلاء حقاً هم الذين نصروا الله، وهم الذين ينصرهم الله.

شرح عمدة الأحكام [80]

شرح عمدة الأحكام [80] رغبت الشريعة في عتق الرقيق، وفتحت أبواباً كثيرة لتحريرهم، ومن تلك الأبواب: النذور، والكفارات، والكتابة، والترغيب في عتقهم ابتغاء وجه الله، وأحكام العتق كثيرة قد بينها الفقهاء رحمهم الله.

أحكام الرق والعتق

أحكام الرق والعتق قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [كتاب العتق. عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أعتق شركاً له في عبدٍ فكان له مالٌ يبلغ ثمن العبد قُوم عليه قيمة عدلٍ فأعطى شركاءه حصصهم، وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق منه ما عتق) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أعتق شقصاً له من مملوك فعليه خلاصه كله من ماله، فإن لم يكن له مالٌ قوم المملوك قيمة عدل، ثم استسعي العبد غير مشقوق عليه) ] .

تعريف الرق وبيان سببه

تعريف الرق وبيان سببه العتق: تحرير الرقاب، وإزالة الرق عنها، والرق: عجزٌ حكمي يقوم بالإنسان سببه الكفر، أي: أن الكفار لما خرجوا من العبودية لله تعالى، وصاروا يعبدون غيره؛ سلط الله المسلمين عليهم، فاستولوا عليهم بالقتال، فلما استولوا عليهم ملكوا رقابهم، وجعلوهم أرقاء لهم، يتصرفون فيهم كما يتصرفون في سائر أموالهم، فيكون الرقيق مملوكاً لمن استولى عليه، يملك منافعه، ويسخره فيما يريد، ويملك كسبه، ويملك أمره ونهيه، ولا يجوز له أن يتصرف إلا بإذن سيده الذي يملكه، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما عبدٍ تزوج بغير إذن مواليه فهو عاهر) أي: زانٍ حيث إنه ليس له أن يزوج نفسه، ولو كان آدمياً وبشراً سوياً عاقلاً؛ وذلك لأن سيده يملك عليه منافعه، فليس له أن يتصرف بشيء يشغله عن استخدام سيده له، فسيده يستخدمه سواءً في خدمة نفسه، أو في حرثه، أو في ماشيته، أو في تجارته، أو في صناعته، أو إذا استغنى عنه مكنه من التكسب وجعل كسبه له، بشرط أن يكون كسبه من حلال، فدل على أن هذا مما ملكه الإسلام لهؤلاء. هذا هو أصل الرق، ولما كان هذا أصله؛ فإن الرقيق الذي يملكه المسلمون وهو كافر ثم يسلم بعد ذلك يبقى بعد إسلامه مملوكاً؛ لأن هذا الذي ملكه قد يكون بذل فيه واشتراه بماله، ولما اشتراه بماله وأسلم بعد ذلك، فإسلامه لا يسقط حق الآدمي؛ لأن حقوق الآدميين مبنية على المشاحاة والمضايقة، ولهذا يبقى ملكه ورقه بيد سيده بعد الإسلام. ولكن الشرع الشريف جاء بالترغيب في الإعتاق بوجوهٍ متعددة: أولاً: جعل العتق من الكفارات؛ حيث جعل الله في كفارة القتل الخطأ تحرير رقبةٍ مؤمنة، وكذلك جعل في كفارة الظهار في قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة:3] ، وكذلك في كفارة اليمين في قوله: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة:89] يعني: عتقها حتى تكون حرةً لتكون كفارة لهذا الذنب الذي اقترفه، وذلك دليلٌ على أن العتق فيه أجر كبير؛ حيث إنه يكفر قتل النفس، ويكفر الظهار الذي هو منكر من القول والزور، ويكفر الأيمان والنذور. والشرع عندما جعله من المكفرات يهدف إلى تحرير الرقاب حتى يزول عنها الرق؛ وذلك لأنه إذا أصبح حراً صار مكلفاً بما يكلف به الأحرار، فيجب عليه الجهاد إذا تعين، ويجب عليه الحج، وتجب عليه صلاة الجمعة، وصلاة العيد، وقد كانت ساقطة عنه عندما كان مملوكاً؛ لأن فعلها قد يفوت على سيده بعض المنافع، ونحو ذلك مما لا يجب عليه إذا كان رقيقاً، فالشرع يتشوف إلى إزالة الرق؛ حيث جعل الكفارات بالعتق الذي هو التحرير. ثانياً: ورد في الحديث: (من مثل بعبده فقد عتق عليه) ، (من مثل به) أي: من قطع منه إصبعاً أو جرحه في وجهه مثلاً، أو ضربه وأساء إليه، فكفارة ذلك أن يعتقه جزاءً له على اعتدائه على هذا المملوك. وفي بعض الأحاديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً من أصحابه وهو يضرب عبداً له، فقال: اعلم أبا مسعود! أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام، فقال أبو مسعود: هو حرٌ لوجه الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو لم تفعل للفحتك النار، أو لمستك النار) أي: جعل ضربه له ذنباً، وجعل كفارته كونه حرره وأزال الرق عنه، مما يدل على أن الشرع يتشوف لإزالة الرق عن الرقاب. ثالثاً: ورد أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أعتق شقصاً له في عبدٍ فإن عليه أن يخلص ذلك العبد) ، ولو كان لا يملك إلا سدسه أو عشره، فإذا أعتق ذلك الجزء كلف وقيل له: عليك أن تشتري بقية العبد من مالكه وتعتقه، ولا تجعله مبعضاً حتى لا يتضرر؛ لأنه إذا كان بعضه حراً وبعضه مملوكاً تضرر بذلك، فهذا دليلٌ على تشوف الشرع إلى إزالة الرق عن الرقاب، والحرص على أن تبقى محررةً حتى يتمكن الحر مما يتمكن منه سائر المكلفين. رابعاً: ورد الثواب والأجر الكبير في فضل العتق، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما رجل أعتق عبداً مسلماً أعتق الله بكل عضو منه عضواً منه من النار، حتى فرجه بفرجه) أي: أنك إذا أعتقت هذا العبد الذي كان مملوكاً فإنك تستحق أن يعتقك الله بسبب تحريرك له، فينجيك من النار، فيعتق الله بكل عضو من المعتق عضواً من معتقه. وهذا تعظيم في فضل العتق، وهناك أحاديث كثيرة تدل على فضل العتق، وفضل إزالة الرق عن الرقاب وفضل أفضلها، ففي الحديثٍ أنه: (سئل صلى الله عليه وسلم عن أفضل الرقاب عتقاً؟ فقال: أنفسها وأغلاها ثمناً) أي: من أراد أن يكون الأجر له أكثر فإنه يعتق من هو أكثر ثمناً، ومن هو أكثر نفعاً. واستحبوا العتق إذا كان ذلك العتيق يقدر على أن يغني نفسه، وأن يقوم بشأنه، وأما إذا كان لا يقوم بشأنه ولا يغني نفسه فإن الأولى له أن يبقى رقيقاً عند سيده حتى يتكفل به، وحتى يقوم بأمره وينفق عليه، ويطعمه ويكسوه، ونحو ذلك؛ لأن عتقه قد يصير وبالاً عليه؛ حيث إنه لا منفعة فيه، ولا خير فيه لنفسه. وعلى كل حال نعرف بذلك أنه كما أن الله تعالى أباح الرق فقد رغَّب في العتق، وجعل فيه ثواباً جزيلاً؛ حتى يزول هذا الرق أو يخف أمره. وأما سببه فهو: أن الكفار عبيدٌ للشيطان، ولما كانوا عبيداً للشيطان في حالة كفرهم استولى عليهم المسلمون، فجعلوهم عبيداً لهم، فقالوا: بدل ما أنتم عبيدٌ للشيطان عبودية معنوية نجعلكم عبيداً لنا -أرقاء- عبوديةً ظاهرةً جلية، فتصيرون في ملكيتنا، وتحت تصرفنا.

مشروعية الرق

مشروعية الرق الأصل في الرق أنهم كانوا إذا قاتلوا المشركين واستولوا على ذراريهم، واستولوا على نسائهم، ملكوا الذراري والنساء، وسموا ذلك سبياً، فيقال: سبينا منهم كذا وكذا امرأةً، وكذا وكذا صبياً، ونحو ذلك. ومن ذلك قصة بني قريظة، لما نقضوا العهد، وتعاونوا مع قريش وغطفان الذين جاءوا أحزاباً، فلما انصرفت الأحزاب حاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم، وحكم فيهم سعد بن معاذ: أن تقتل المقاتلة، وتسبى النساء والذرية، فكانوا يقتلون الرجال البالغين، وكانوا ينظرون من أنبت الشعر منهم فهو دليل على بلوغه فيقتل، ومن لم ينبت خلي سبيله، وجعل مع السبي، فصاروا سبياً، أي: مماليك. وكذلك لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم خيبر قتل من قتل منهم، واستولى على النساء وعلى الذرية، وأصبحوا مماليك، وكان من جملتهم صفية التي اصطفاها لنفسه وتزوجها، وجعل عتقها صداقاً لها، فأصبحت من أمهات المؤمنين. ومن ذلك أيضاً قصة بني المصطلق لما أغار عليهم وهم غارون، فقتل من قتل منهم، وهرب رجالهم، واستولى على أموالهم وعلى نسائهم وذراريهم وأصبحوا مماليك، وكان من جملتهم جويرية بنت الحارث التي كانت في سهم بعض الأنصار، فكاتبته؛ لأنها كانت بنتاً لسيد بني المصطلق، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تستعينه بكتابتها، فدفع عنها ثمنها وتزوجها، ولما تزوجها أعتق المسلمون جميع بني المصطلق وقالوا: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعتق بسببها مائة بيتٍ. فهذه أمثلةٌ من الكفار الذي كان صلى الله عليه وسلم يقاتلهم ويسبيهم، وهذا دليل على أنه كان يسبي حتى العرب؛ لأن بني المصطلق من العرب، ومع ذلك سباهم واستباح ذراريهم. ومن ذلك أيضاً قصة هوازن: لما أنهم تقاتلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حنين ثم انهزموا، استولى على أموالهم وعلى ذراريهم وعلى نسائهم، فقسم صلى الله عليه وسلم الأموال، وقسم النساء والذرية بين الغانمين، ولكن بعد مدةٍ جاء أهل هوازن مسلمين وقالوا: رد علينا ما أخذت، فخيرهم وقال لهم: اختاروا إما السبي وإما المال، فاختاروا السبي -الذي هو النساء والذرية- فرده صلى الله عليه وسلم عليهم.

بيان الوقت الذي انقطع فيه الرق وسبب ذلك

بيان الوقت الذي انقطع فيه الرق وسبب ذلك لما بدأ الصحابة في قتال فارس والروم، وفي قتال البربر والترك ونحوهم كثر السبي عند المسلمين، وكثر الرق، وصاروا يسترقون كثيراً حتى أصبح في كل بيت عددٌ من الأرقاء المملوكين، ولذلك تجد بعض الفقهاء يضربون المثل كثيراً بالرق وبشراء الرقيق وما أشبه ذلك مما يدل على كثرته، ولم يزل الرق موجوداً إلى سنة ست وثمانين من القرن الرابع عشر، ثم رأت الحكومة أن الجهاد منقطع منذ زمن طويل، وأن هؤلاء المماليك يغلب أنهم منتهبون من البلاد التي تلي بلاد العرب من أفريقيا ونحوها، فرأى الملك رحمه الله أن يُحرروا كلهم، وأن يُمنع الاسترقاق إلا أن يحصل قتالٌ شرعي فيما بعد، فإذا حصل فيه سبيٌ وكان سبياً صحيحاً فإنه يعود الرق إلى ما كان عليه.

أحكام المبعض

أحكام المبعض حديثا الباب يظهر أن بينهما شيئاً من الاختلاف، فإن في حديث ابن عمر أن العبد يبقى مبعضاً، وفي حديث أبي هريرة أنه يستسعى. وصورة حديث ابن عمر: إن كان العبد بين زيد وعمرو نصفين، فأعتق زيدٌ نصفه، وبقي نصف عمرو، فنقول لزيد: أنت أضررت بهذا العبد الذي جعلت نصفه حراً، ونصفه رقيقاً، ولأنك أنت السبب في ذلك فعليك أن تشتري النصف الباقي وتعتقه، وتعطي شريكك قيمة ذلك النصف، وأما قيمته فتعرض على أهل المعرفة، ويقال لهم: كم قيمة نصف هذا العبد؟ فيقومون قيمة عدل لا وكس ولا شطط، ولا زيادة ولا نقصان، فإذا قوم وعرف قدره قلنا لزيدٍ: عليك أن تدفع لعمرو نصف ثمن العبد حتى يعتق العبد، ويكون كله عتيقاً بسببك، وأنت الذي تحوز الأجر، وأنت الذي يكون لك ولاء هذا العبد؛ فإن الولاء لمن أعتق. فإذا قال: أنا فقير وليس عندي ما أستطيع أن أشتري به النصف الثاني -سواء كان الباقي نصفاً أو أكثر من النصف أو أقل من النصف- فماذا نفعل بهذا العبد الذي أصبح بعضه حراً وبعضه عبداً؟! في حديث ابن عمر أنه يبقى مبعضاً، وعلى هذا يخدم عند عمرو يوماً، ويخدم لنفسه يوماً، ويقال له: لك يوم تتكسب فيه وتنفق به على نفسك، ولك -يا عمرو- يوم يخدمك فيه، ويشتغل عندك، ويكون كسبه لك، والمبعض مذكورٌ في كتب الفقه كثيراً، وكيف يُعامل، وكيف يُعمل معه. هذا هو مقتضى حديث ابن عمر أنه يبقى مبعضاً، يشتغل عند هذا يوماً ويشتغل لنفسه يوماً، فإذا كان ما أعتق إلا ربعه، فيشتغل عند سيده ثلاثة أيام، واليوم الرابع يشتغل لنفسه، ويكون حر التصرف فيه، أو يتفقان على مدة، كأن يقول: تشتغل عندي شهراً، وتشتغل لنفسك ثلاثة أشهر، أو تشتغل عندي ثلاثة أشهر ولنفسك شهراً، أي: بقدر ما فيه من الحرية. وذكروا ذلك حتى في المواريث، فقالوا: المبعض يرث ويُورث ويحجب بقدر ما فيه من الحرية، هذا ما يدل عليه حديث ابن عمر. أما حديث أبي هريرة فذكر أنه يُستسعى العبد غير مشقوق عليه أي: إذا لم يستطع الذي أعتق نصفه أن يحرره فإنه يُستسعى، ومعنى يُستسعى يقال له: اكتسب لنفسك أعمالاً؛ واشتر نفسك بمنزلة المكاتب الذي يشتري نفسه من سيده بمالٍ مؤجلٍ، ثم يدفع كل شهرٍ أو كل سنة قسطاً حتى يحرر نفسه، ولعل هذا فيما إذا كان قادراً على أن يتكسب، ولا نلزمه بذلك، وهذا هو الجمع بينهما: أنه يستسعى إذا كان معه قدرة على التكسب حتى يخلص نفسه، فإذا لم يستطع التكسب فلا يجبر على الاستسعاء والتكسب، بل يبقى مبعضاً، والله أعلم.

شرح عمدة الأحكام [81]

شرح عمدة الأحكام [81] إن الشريعة الإسلامية جاءت بكل ما يحفظ للإنسان كرامته وآدميته، فبالرغم من جواز الرق في الإسلام إلا أنه قيده بقيود تضمن حق الرقيق، وعلاوة على ذلك فقد رغب في إعتاق الرقيق بصور مختلفة، ومن هذه الصور التدبير، وصفته أن يعلق عتق رقبة المملوك على موت مالكه، وفي هذا منفعة للمالك في حياته ومنفعة له بعد مماته بنيل أجر العتق، إضافة إلى المنفعة التي ينالها المملوك بنيل حريته.

أحكام بيع المدبر

أحكام بيع المدبر قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [باب بيع المُدَبَّر: وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (دَبَّر رجل من الأنصار غلاماً له) . وفي لفظ: (بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً من أصحابه أعتق غلاماً له عن دُبُر لم يكن له مال غيره، فباعه بثمانمائة درهم، ثم أرسل بثمنه إليه) ] . هذا باب بيع المُدَبَّر، والمدبر هو: أن يعلق العتق على الموت بأن يقول: إذا مت فهذا العبد حر بعد موتي، أو أعتقته بعد موتي، فيسمى مدبراً؛ لأن هذا المالك دبَّر حياته، يعني: انتفع بالعبد واستخدمه في حياته، وحصل له أجر العتق بعد مماته، فجمع بين كونه دبر حياته ودبر مماته. وعليه فيبقى العبد في ملك سيده، فإذا مات السيد أعتق العبد، ويكون عتقه من رأس المال؛ وذلك لأنه جعل عتقه معلقاً، والمعلق إذا وُجد الشرط الذي عُلق عليه حصل العتق سواءً كان التعليق بأجل أو كان التعليق بصفة، فلو قال مثلاً: إذا بلغ هذا العبد ستين سنة فقد أعتقته، فإنه يعتق بمجرد بلوغه، ولو لم يقل: أنت حر، وإذا قال مثلاً: إذا وُلِد لهذا العبد ثلاثة أو عشرة أولاد فإنه حر أو فإنه عتيق، فمتى تم أولاده ذكوراً وإناثاً عشرةً أعتق، ولو لم يعتقهم وذلك لوجود الشرط، وكذلك لو قال: إذا خدمتني -مثلاً- بعمل كذا بغرس كذا وكذا نخلة، أو بخياطة كذا وكذا ثوباً، أو بعمل كذا وكذا نعلاً، أو ما أشبه ذلك فأنت حر، فيعتبر هذا أيضاً تعليقاً على صفة، فكذلك إذا قال: إذا متُّ فأنت حر، فهذا تعليق للعتق على صفة وهي موت السيد، وكذلك إذا قال: إذا جاء رمضان فأنت حر، أو إذا شفيت من المرض فعبدي حر، أو إذا قدم ولدي الغائب أو وجدت دابتي الضالة فعبدي فلان حر أو فهو عتيق، فإذا حصلت هذه الصفة حصل العتق؛ لأنه علق العتق عليها. فعُرف بذلك أن العتق يكون له أسباب، فمن جملتها هذا السبب الذي هو تعليق العتق على الموت، الذي يسمى التدبير، ومنها الكتابة، وهي مذكورة في القرآن في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرَاً وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33] وذلك بأن يشتري العبد نفسه بمال مؤجل، ويقسط هذا المال على أقساط محددة شهرية أو سنوية، فإذا أداها كلها أعتق، فلو كانت قيمته -مثلاً- خمسة آلاف واشترى نفسه بعشرة آلاف يؤدي كل سنة ألفاً، فإذا أدى العشرة آلاف أعتق، ويسمى هذا مكاتباً. كذلك أم الولد وهي التي يستولدها سيدها بأن يطأها فتلد له ولداً قد تبين فيه خلق الإنسان يعني: تلد ولداً حياً أو ميتاً، بشرط أن يكون قد تبين فيه خلق الإنسان إذا ولد ميتاً، فإنها تعتق بعد موته وتخرج من رأس المال، كالمدبر الذي يعتق أيضاً من رأس المال.

جواز بيع المدبر

جواز بيع المدبَّر هذا الحديث دليل على جواز بيع المدبر، فإن هذا الرجل من الأنصار ليس له مال إلا هذا العبد، وكان قد أعتقه عن دبر، وذات يوم احتاج فعلم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فدعا بالغلام وعرضه للبيع فاشتراه نعيم بن عبد الله بن النحَّام بثمانمائة درهم، فدفعها إلى ذلك الأنصاري وقال: (ابدأ بنفسك فتصدق عليها) يعني: أنت أحق بأن يُتَصَدَّق عليك، فانتفع بهذا المال، وأنفق منه على من تحت يدك من الفقراء ونحوهم من الأولاد المحتاجين، فإنهم أولى بأن تنفق عليهم. وبهذا استدلوا على أن التدبير لا يخرج العبد من الملكية حيث يجوز بيعه، وإذا باعه بطل التدبير، والذي يشتريه يتملكه؛ لأنه اشتراه على أنه عبد، فيبقى مملوكاً له، ولا يعتق لا بموت الأول ولا بموت الثاني، أي: لا بموت المدبر الذي دبره، ولا بموت الذي اشتراه؛ لأنه انتقل من ملك ذلك الذي دبره، فزالت حريته المعلقة وبقي رقيقاً. لكن لو قُدِّر أن الذي دبره اشتراه مرة ثانية أو وُهب له فعادت إليه ملكيته، فإن صفة التدبير تعود إليه، فلو أن هذا الأنصاري أخذ ثمنه ثمانمائة درهم وأنفق منها ما أنفق، ثم وجد عبده يُباع فاشتراه بمائة أو بمائتين فإنه يعود إليه التدبير، بمعنى: أنه إذا مات الأنصاري أعتق عبده، وكذلك لو أن نعيم بن النحام وهبه للأنصاري فقال: وهبتك هذا العبد الذي اشتريته منك -أو اشتريته بواسطة النبي صلى الله عليه وسلم- ورددته عليك، فإنه يعود إليه وصف التدبير بحيث إذا مات الأنصاري أعتق العبد من رأس المال.

عدم جواز بيع أم الولد

عدم جواز بيع أم الولد أم الولد لا يجوز بيعها، وهذا هو القول الصحيح؛ وذلك لأنه تعلق عتقها بوجود ذلك الولد أو أولئك الأولاد، فأصبح ولدها مالكاً لجزء منها، ومن ملك بعض أو كل قريبه عتق عليه، وهذا مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، ومما يدل على أن الشرع يتشوف للعتق. فأم الولد مملوكة لسيدها، وقد ولدت منه ولداً واحداً أو عدداً من الأولاد، فإذا مات مالكها فإن ولدها يكون قد ملك جزءاً من أمه فتُعتق، والصحيح: أنها تعتق من مال الوالد، أي: من رأس المال، وهناك من يقول: تعتق من نصيب أولادها من الإرث، فيحررونها من نصيبهم، ولكن الصحيح أنها تعتق من رأس المال، حتى لو كان ولدها ميتاً؛ وأنه قد انعقد عتقها بوجود هذا الولد الذي ملك جزءاً من أمه. وقد ثبت في الحديث عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه) يعني: إذا أعتق أباه أو أعتق أمه أو أعتق جده أو جدته فقد جازاهم على حضانتهم وعلى تربيتهم له. وأخبر أيضاً في حديث آخر بقوله صلى الله عليه وسلم: (من ملك ذا رحم محرم عتق عليه) ويراد بالرحم: كل من لو كان أنثى لحرمت عليه، فإذا ملكته فإنه يعتق عليك بمجرد الشراء، أو بمجرد الملكية، كأن تكون ملكته بإرث، أو ملكته بشراء، أو بهبة، أو بغنيمة، أو نحو ذلك فإنه يعتق عليك وويدخل في ذلك الأصول: كالأم والجدات كلهن، وكذلك الأب والجد، والجد أبو الأم، والأجداد من كل جهة، ويدخل في ذلك الفروع: كالأبناء والبنات وأولادهم ذكوراً وإناثاً وإن نزلوا، ويدخل في ذلك الإخوة وبنوهم وإن نزلوا، ويدخل في ذلك الأعمام والأخوال، ولا يدخل ابن العم وابن الخال في ذلك؛ لأنهما ليسا من المحارم.

الحض على عتق الرقبة المؤمنة من خصائص الشريعة الإسلامية

الحض على عتق الرقبة المؤمنة من خصائص الشريعة الإسلامية يتشوف الشرع إلى تحرير الرقاب، وإزالة الرق عنها، سيما بعد أن تؤمن وتدخل في الإيمان، ولأجل ذلك اشترط الله في عتق الرقبة من كفارة القتل أن تكون الرقبة مؤمنة، قال سبحانه: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنَاً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92] واشترط الله ذلك تشجيعاً للمؤمن عندما اختار الإيمان ودخل فيه فإن الله تعالى رغب في إعتاقه وإزالة الرق عنه، فكفارة القتل نص الله فيها على أنها لابد أن تكون مؤمنة، وأُلحق بها على وجه القياس كفارة الظهار وكفارة الأيمان وكفارة الوطء في نهار رمضان، حيث يشترط العلماء فيها أن تكون الرقبة مؤمنة. والحاصل: أن هذا ونحوه دليل على أن الشرع كما أباح الرق فإنه جعل هناك أسباباً كثيرة ترغب في تحرير هذه الرقبة التي وقع عليها الرق، حتى تتفرغ لعبادة الله، وتقوم بأداء حقوقه. وكذلك رغَّب المملوك في العمل لله، والعمل لسيده، قال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة يؤتَون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بكتابه ثم آمن بهذا القرآن فإنه يؤتى أجره مرتين، ومملوك أدى حق الله وحق سيده -حق الله هو العبادات، وحق سيده هو الخدمة- فإنه يؤتى أجره مرتين، ورجل كان له جارية فعلمها وأدبها ثم أعتقها وتزوجها يؤتى أجره مرتين) . وهذا ونحوه دليل على أن الإسلام لما أباح الرق أمر بمعاملة الأرقاء المعاملة الحسنة، ونهى عن معاملتهم بالشدة والتضييق والأذى، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن هؤلاء المماليك إخوان لنا، وفي حديث أبي ذر أنه سابَّ رجلاً فعيَّره بأمه التي هي مملوكة وقال: يا ابن السوداء! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أعيرته بأمه، إنك امرؤ فيك جاهلية، هم إخوانكم خَوَلُكم -يعني: خدم لكم- جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يطعم، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما لا يطيقون، فإن كلفتموهم فأعينوهم) فكان بعد ذلك أبو ذر رضي الله عنه يستوي في الكسوة هو وغلامه، فإذا لبس حلة ألبس غلامه حلة، وإذا لبس رداءً ألبس غلامه مثله، وكان يُجلسه إلى جانبه إذا أكل فيأكل هو وإياه سواءً، وما ذاك إلا حرصاً منه على العمل بهذا الحديث. ولما رغَّب النبي صلى الله عليه وسلم في العتق كان من جملة ما رغَّب فيه كون الولاء لذلك المعتق لقوله: (الولاء لمن أعتق) وأخبر بأن ذلك العتيق يُلحق بقبيلة المعتِق فيصير منهم، لقوله صلى الله عليه وسلم: (مولى القوم منهم) . وقوله: (الولاء لمن أعتق) فيه ترغيب للسيد في أن يعتق غلامه؛ لأنه إذا عرف بأنه إذا أعتقه أصبح ولياً له، وأصبح كأنه من قبيلته، وأصبح معدوداً في أسرته وفي قبيلته، كان ذلك مما يرغِّبه في إعتاقه له. ولهذا يعرف العلماء الولاء فيقولون: الولاء عصوبة سببها نعمة المعتق على عتيقه بالعتق، فيرثه هو وعصبته المتعصبون بأنفسهم لا بغيرهم، ولا مع غيرهم. ويعرف آخرون الولاء بأنه: لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب ولا يورث، أي: أن مولاك الذي اعتقته يصير مثل ابن عمك، فيواليك وينصرك ويؤازرك ويقوم معك فكأنه أحد أقاربك، ويصبح من الأسرة ومن القبيلة التي أنت منها، وذلك لأنك مننتَ عليه بهذا العتق، فيصبح كأنه واحد من قبيلتك، هذا معنى كون الولاء لمن أعتق. وبكل حال فإن هذه الترغيبات دليل على أن الشرع جاء بكل ما يوافق العقول وما يناسبها، وأنه ليس فيه ما يرميه به أعداؤه من أنه يمكن الإنسان من بيع أخيه الإنسان كما تباع البهيمة، ومن تحكمه فيه، ونحو ذلك مما يقولونه ليشوهوا به صورة الإسلام ما دام أن هذا أصل الرق وهذا منتهاه.

الأسئلة

الأسئلة

حكم شهادة المرء للتعريف بأشخاص لا يعرفهم

حكم شهادة المرء للتعريف بأشخاص لا يعرفهم Q فضيلة الشيخ، شهدت مع أحد الناس في الأحوال المدنية لإخراج هوية له وأنا لا أعرفه، فما حكم هذه الشهادة، مع العلم أنه يكثر في المحاكم شهادة أناس لآخرين من غير أن يعرف بعضهم بعضاً لاستخراج صك وكالة أو غيرها من الأمور التي لابد فيها من شاهدَين؟ A قد يُتسامح في مثل ذلك إذا عرفتَ صدقه، ورأيت -مثلاً- هويته أو بطاقة الأحوال الشخصية الخاصة به، وعرفت من سيماه أنه لا يتعمد كذباً، وعرفت أن مثل هذه الشهادات لا يترتب عليها ظلم لأحد، أو أخذ مال من هذا لهذا، وإنما هي استخراج ملكية أو بطاقة شخصية أو حفيظة نفوس أو ما أشبه ذلك، فكل ذلك لا بأس به؛ ولكن بعد أن تتثبت أنه من أهل الصدق.

منع الأبناء من الذهاب إلى المسجد خشية اختلاطهم برفقة سيئة

منع الأبناء من الذهاب إلى المسجد خشية اختلاطهم برفقة سيئة Q هذه امرأة تقول: إن لها صبيين صغيرين، الأول: عمره ثلاث عشرة سنة، والثاني: عمره ثمان سنوات، وهما يخرجان إلى الصلاة؛ ولكن أثناء ذهابهما وإيابهما من المسجد يختلطان ببعض أبناء الحي، فيتعلمان منهم بعض الحركات والعبارات البذيئة ونحو ذلك، تقول: فهل أدعهما يخرجان إلى المسجد أو الأولى أن أجعلهما يصليان في البيت، علماً بأن والدهما متوفى، وليس هناك من يراقبهما؟ A ما داما في هذه السن فينبغي المحافظة عليهما؛ ولكن يكون ذلك بالتربية والتنشئة والتعليم، وليس ذلك بحبسهما في المنزل، وعليها وعلى جيرانها الصالحين أن يراعوهما ويراقبوهما، وأن يحفظوهما من خلطاء السوء الذين يفسدون أو يلقنون العبارات السيئة، أو يهمزون ويعيبون أو يدعون إلى شر وفساد، أو يوقعونهما في مفسدة كشرب دخان أو ما أشبه ذلك، فإذا تحققوا من ذلك فلا يضرهما إن شاء الله الذهاب إلى المساجد.

ترتيب آيات القرآن توقيفي وترتيب سوره اجتهادي

ترتيب آيات القرآن توقيفي وترتيب سوره اجتهادي Q هل ترتيب سور القرآن الكريم وآياته كما هو في المصحف الآن توقيفي عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ A ترتيب السور اجتهادي، وأما ترتيب الآيات فلا شك أنه توقيفي، فمثلاً سورة البقرة من أولها إلى آخرها هكذا كانت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد حفظها الصحابة عنه على هذا، كما في حديث حذيفة أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ سورة البقرة، ولا شك أنها على هذا الترتيب، ثم قرأ بعدها سورة النساء، ولا شك أنها على هذا الترتيب، ثم قرأ بعدها سورة آل عمران، ولا شك أنها على هذا الترتيب، وكذلك قرأ ابن مسعود من أول سورة النساء إلى قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} [النساء:41] ولا شك أنها على هذا الترتيب، وهكذا بقية السور. فالآيات ترتيبها توقيفي، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزلت آية قال لأصحابه: (اجعلوها في موضع كذا من سورة كذا) فتُجعل في موضعها. وأما السور فقد رُوي أن بعض الصحابة كانوا يقدمون بعض السور على بعض؛ ولكن اتفقت كلمتهم على ترتيبها على هذا الترتيب الموجود، ولو كان عن طريق الاجتهاد. وآخرون يقولون: إنه لابد أن يكون عندهم تعليم من النبي صلى الله عليه وسلم بترتيب السور.

صفة الطهارة لمن يخرج منه دم يسير لإصابته بالبواسير

صفة الطهارة لمن يخرج منه دم يسير لإصابته بالبواسير Q رجل أصيب بمرض البواسير ويخرج منه دم يسير، هل حكمه حكم من به سلس البول؟ A نعم؛ لأنه لا يتحكم فيه ولا يقدر على إمساكه، فإذا علم أنه مستمر الخروج ولا يتوقف فهو كصاحب سلس البول، ويتوضأ لكل صلاة بعد دخول وقتها.

حكم زواج الرجل من امرأة رضع إخوته من أمها

حكم زواج الرجل من امرأة رضع إخوته من أمها Q امرأة أرضعت ثلاثة من أولاد أخي زوجها، ولديها بنت، ويريد أحد أولاد أخي زوجها أن يتزوجها، مع العلم بأن هذا الشخص لم ترضعه المرأة، بل هو سوى الثلاثة الذين أرضعتهم، فهل تحل هذه الفتاة لابن عمها؟ A تحل له، ولا يضره رضاع إخوته إذا كان هو لم يرضع من أم هذه الجارية، والجارية ما رضعت من أمه، إنما إخوته رضعوا من أمها، فإخوته يصيرون إخوة لها، وأما هو فلا تعمه الأخوة، وهو لم يرتضع.

التحذير من التهاون في رفع الطعام المتساقط بين يدي آكله

التحذير من التهاون في رفع الطعام المتساقط بين يدي آكله Q ما حكم ما يحصل عند كثير من الناس على موائدهم من إسقاط كثير من الطعام على الأرض عند الأكل، وخاصةً في الولائم؟ وهل يدخل ذلك في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن سقطت لقمته أن يُبعد الأذى منها ويأكلها ولا يدعها للشيطان؟ وهل ننكر ذلك عليهم؟ A لا شك أن هذا داخل في الوعيد، وأنه مما يُنتبه له ومما يُنكر، ومثل هذا يحصل كثيراً وبالأخص من الشباب أو الصغار الذي لا يبالون بما يقع على السماط ونحوه من اللحوم والأكل دون أن يأكلوها، فيتساقط منهم شيء كثير بحيث لو جُمع لكان غذاءً لعدة أشخاص، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سقطت لقمة أحدكم فليأخذها وليُمط ما فيها من الأذى -وظاهره أنها تقع على التراب فيعلق بها- وليأكلها ولا يدعها للشيطان) وكذلك كان يأمر بلعق الصحفة التي يكون فيها الطعام، ويأمر بلعق الأصابع، ويقول: (إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة) فيُنتبه لمثل هذا.

حكم أكل لحوم البغال

حكم أكل لحوم البغال Q إذا كانت الحُمُر محرمة والخيل مباحة فما حكم البغال التي هي خليط بين الحُمُر والخيل؟ A الحكم فيها بالحرمة تغليباً لجانب التحريم؛ لأن كل شيء متولد من حلال وحرام فإنه يغلب فيه جانب التحريم لحديث: (من اتقى الشبهات) لأنه مشتبه، فالبغل متولد من الحمار والخيل، ولما كان أحد أبويه حلالاً والآخر حراماً غلَّبنا فيه جانب الحرام.

الاعتقاد بأن الجن تخاف الذئاب، وحكم إحضاره بين يدي الراقي

الاعتقاد بأن الجن تخاف الذئاب، وحكم إحضاره بين يدي الراقي Q هناك بعض القراء الذي يرقون الناس، يضعون في مكان القراءة أو قريباً منه ذئباً، ويزعمون أنه يخيف الجن، ويعتقدون ذلك، فهل هذا العمل جائز شرعاً؟ A ما أذكر في ذلك شيئاً أو دليلاً واضحاً؛ ولكن إذا كان قد جُرِّب فالأمر تبع للتجربة، وأما القراء المشهورون فما أذكر أنهم جربوا شيئاً من ذلك. وعلى كل حال فالاقتصار على قراءة القرآن وقراءة الأدعية النبوية فيه الكفاية إن شاء الله.

أحكام الجمع والقصر في الصلاة لا تبدأ إلا بعد الشروع في السفر

أحكام الجمع والقصر في الصلاة لا تبدأ إلا بعد الشروع في السفر Q إنسان نوى السفر ودخل عليه وقت صلاة الظهر وهو ما زال داخل المدينة لم يشرع في السفر، هل يجوز له جمع الظهر والعصر معاً أم أنه ينتظر حتى يشرع في السفر؟ A ينتظر حتى يشرع؛ لأنه ما دام في البلد فلا يجوز له القصر، ولا يُشرع له القصر إلَّا إذا فارق البلاد العامرة، وما دام أنه دخل عليه وقت الظهر وهو في البلد فإنها تجب عليه كاملة، ولا يجوز له قصرها، إنما يجوز القصر بعدما يخرج، فما دام أنها وجبت عليه ودخل الوقت وسمع المؤذن فلابد أن يصليها أربعاً، سواء قبل الخروج أو بعده.

لا استفتاح في صلاة الجنازة

لا استفتاح في صلاة الجنازة Q هل يستفتح لصلاة الجنازة بدعاء الاستفتاح؟ A ليس فيها استفتاح، إنما بعد الاستعاذة والبسملة يقرأ الفاتحة.

حكم استقبال جدار الحمام إذا كان بين القبلة وبين المصلي

حكم استقبال جدار الحمام إذا كان بين القبلة وبين المصلي Q ما حكم الصلاة في الغرف التي قبلتها جدار الحمام، بحيث يصلي المصلي في موضع ويكون أمامه جدار حمام؟ A إذا كان دونها حواجز منيعة فلا مانع، يعني: ما دام أن بين المصلي وبين دورات المياه حواجز من حيطان فلا مانع حتى لو كانت بينه وبين القبلة، كما أنه لا مانع من أن يصلي فوق البيَّارات التي قد صُب فوقها صبات مغطية لها ومحكمة لها، وبينه وبينها فُرُش وحواجز، فمثل هذا لا مانع من الصلاة فوقها إن شاء الله.

حكم لبس القبعة (البرنيطة) للوقاية من الشمس

حكم لبس القبعة (البرنيطة) للوقاية من الشمس Q ما حكم لبس القبعة التي تكون على هيئة (البرنيطة) وذلك للوقاية من الشمس؟ وهل لبسها يعد تشبُّهاً؟ A الظاهر أنها من العادات، وأنها من الأغطية التي تُلبس عادةً، فإذا كان فيها منفعة مثل أنها تقي من الشمس فلا مانع من لبسها، ولا يكون فيه تشبه، وإذا لم يكن له قصد في لبسها إلا التشبه أو الشهرة أو التزيّن فيُنهى عنها لهذا القصد.

زكاة المال إذا كان عند معسر أو مماطل

زكاة المال إذا كان عند معسر أو مماطل Q لدي بعض المال أدنته لبعض الأشخاص، ومنهم الفقير الذي لا يستطيع السداد، ومنهم الغني المماطل الذي لا أمل في رده للمال، هل تجب علي في هذه الأموال زكاة؟ A الدين الذي في ذمة من هو قادر على الوفاء يُزكَّى؛ لأنه بمنزلة الأمانة عنده، ويقدر صاحبه أن يأخذه ويتحصل عليه متى طلبه، وأما الدَّين الذي عند معسر أو مماطل ولو كان غنياً، فإن صاحبه لا يقدر على الحصول عليه ولو طالبه ثم طالبه، قد يدعي الإعسار ويدعي العُدْم ويدعي الفقر، فمثل هذا المال كالمعدوم، فلا زكاة عليه إلا إذا قبضه، واختُلف في زكاته بعد القبض، فقيل: يزكي عن السنوات كلها إلى ألَّا يبقى إلَّا أقل من النصاب؛ ولكن هذا فيه شيء من الضرر، والأقرب أنه يزكيه عن السنة الواحدة ولو بقي عشرات السنين.

حكم الجمع والقصر في حق من فعل ذلك في مطار بلده

حكم الجمع والقصر في حق من فعل ذلك في مطار بلده Q شخص كان يريد السفر فذهب إلى المطار ثم بعد أن نوى في نفسه الجمع بين المغرب والعشاء وجد معه متسع من الوقت لأداء صلاة العشاء، فما الحكم؟ وهل لعقد نية الجمع أثر في صلاته؟ A نرى أن مطار الرياض تابع للرياض وأنه لا يجوز له -والحال هذه- أن يجمع بين المغرب والعشاء ولا أن يقصر حتى يفارق البلد، وما دام في المطار فإنه في حكم المقيم؛ لأنه تابع للبلد.

حكم أكل اللحوم المستوردة التي يشك في صحة ذبحها على الطريقة الإسلامية

حكم أكل اللحوم المستوردة التي يشك في صحة ذبحها على الطريقة الإسلامية Q يأتينا دجاج مستورد مكتوب عليه: ذُبح على الطريقة الإسلامية، وهو من بلاد كافرة، ومن هذه البلاد من لا يذبح على هذه الطريقة على الحقيقة كما نقل إلينا، فهل يجوز أكله أم لا؟ A ننصح بعدم أكله، وإن كنا لا نجزم بحرمته؛ لكن القرائن ترجح أنه لم يُذبح ذبحاً شرعياً؛ لأن القصد من الذبح قطع الحلقوم والمريء حتى يخرج الدم، وحتى يصفو اللحم إذا خرج ذلك الدم منه، والغالب أن أولئك الذين يبيعونه يحرصون على أنه لا يخرج دمه؛ لأنه يأتيهم بهذا الدم زيادة ثمن، يعني: الدجاجة إذا وُزنت ودمها فيها زاد وزنها، ولو قيراطاً أو أقل قليلاً؛ ولكن يجتمع من ذلك الشيء الكثير؛ لأنهم إذا باعوا مثلاً مائة ألف أو ألف ألف دجاجة، وكان في كل دجاجة زيادة وزن بمقدار جرامين أو نحوهما بهذا الدم، حصل لهم مبالغ كثيرة بهذا الدم، يعني: يزيد في وزنها، فهم -فيما سمعنا- يحرصون على ألَّا يخرج دمها، وسمعنا أنهم يغمسونها وهي حية في ماء حار حتى ينضج جلدها ثم بعد ذلك تموت، وإذا ماتت مرت على ماكينة تضربها حتى يتساقط الريش، وماكينة أخرى تقطع الرأس، ومثل هذا دليل على أنها ماتت ولم يقطع الرأس إلَّا بعدما ماتت. فأنا أنصح بالاقتصار على الدجاج الوطني الذي تُحُقِّق إن شاء الله أنه قد صُفِّي دمه، وأن هؤلاء الذين يقولون: إنها ذبحت على الطريقة الإسلامية مشكوك فيهم؛ لكن بعضهم كما ذكروا أنه يرسل من يتأكد من ذبحها فيتأكدون تأكداً واضحاً كما ذكر عن (شركة المنَّجِّم) أنه يرسل إلى هناك من يذبح أو يشرف على الذبح، وإذا تؤكد ذلك فلا مانع من الأكل إن شاء الله.

حكم القول: إن من السنة عدم أكل الضب

حكم القول: إن من السنة عدم أكل الضب Q هل يقال: إن من السنة عدم أكل الضب؟ A لا يقال ذلك، ما دام أن النبي صلى الله عليه وسلم أقره وأُكل على مائدته، وما دام أنه من الطيبات، إنما كرهه لأن نفسه لا تطمئن إلى شيء لم تتعود عليه.

حكم أكل لحم اليربوع

حكم أكل لحم اليربوع Q هل يجوز أكل الحيوان الذي يشبه شكله الفأر؛ ولكنه يأكل النباتات مثل العلف، ولعل المقصود به هو اليربوع؟ A لا مانع من أكله، فاليربوع دابة معروفة يحتفر في البر ويتوالد، وهو مما تستطيبه العرب، وقد أباحوه، وذكروا فيه فدية إذا قتله المحرم، مما يدل على أنه من الصيد، وكذلك أيضاً جعلوه من الطيبات ولو كان شبيهاً بالفأر؛ لكن الفأر ورد أنه نجس، ومفسد وجُعلت الفأرة من الخمس الفواسق، وأُمر بقتلها في الحل والحرم، فدل على تحريمها، وأما اليربوع فلا مانع من أكله.

حكم قتل الجراد

حكم قتل الجراد Q ورد حديث عند الطبراني وصححه الألباني قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تقتلوا الجراد فإنه جند الله الأعظم!) فما رأيكم؟ A لا أدري ما مدى صحة هذا الحديث فهو مشكوك فيه! والنبي صلى الله عليه وسلم قد أقر الصحابة على صيده وعلى أكله في الحديث الذي في الصحيحين عن أبي أوفى قال: (غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد) .

§1/1