شرح عقيدة السلف للصابوني - ناصر العقل

ناصر العقل

[1]

شرح عقيدة السلف أصحاب الحديث [1] لقد اهتم السلف بعلم التوحيد، فألفوا فيه المطولات والمختصرات، وممن كان له اهتمام بذلك الأمر العظيم -الذي هو توحيد الخالق سبحانه- شيخ الإسلام الصابوني في كتابه عقيدة السلف وأصحاب الحديث، فقد قام بجمع أهم مسائل أصول الدين بكلمات مختصرة مع شمول واستيفاء، ووفق منهج السلف في التلقي والاستدلال والتقرير.

نبذة من ترجمة الإمام أبي عثمان الصابوني

نبذة من ترجمة الإمام أبي عثمان الصابوني الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. الصابوني هو: أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن عامر بن عابد الصابوني النيسابوري الحافظ المفسر المحدث الفقيه الواعظ الملقّب بشيخ الإسلام، وأما لفظ (الصابوني) فقد ذكر السمعاني في كتاب (الأنساب) أنه نسبة إلى عمل الصابون، وقال: هو بيت كبير بنيسابور الصابونية، لعل بعض أجدادهم عمل الصابون فعرفوا به، وأما نسبه من جهة أمه فقد ذكر تاج الدين السبكي في طبقات الشافعية الكبرى نقلاً عن عبد الغافر الفارسي في كتابه (السياق في ذيل تاريخ نيسابور) أنه النسيب المعم المخول المدلي من جهة الأمومة إلى الحنفية والفضلية والسيشانية والقرشية والتميمية والمزنية والضبية من الشعب النازلة إلى الشيخ أبي سعد يحيى بن منصور السلمي الزاهد الأكبر على ما هو مشهور من أنسابهم عند جماعة من العارفين بالأنساب؛ لأنه أبو عثمان إسماعيل بن زين البيت ابنة الشيخ أبي سعد الزاهد بن أحمد بن مريم بنت أبي سعد الأكبر الزاهد]. حياته: ولد في بوشنج من نواحي هراة في النصف من جمادى الآخرة، سنة (373هـ). قال عبد الغافر الفارسي: كان أبوه عبد الرحمن أبو نصر من كبار الواعظين بنيسابور ففتك به لأجل التعصب والمذهب وقتل. وإسماعيل بعد حول سبع سنين أقعد بمجلس الوعظ مقام أبيه، وحضر أئمة الوقت مجالسه، وأخذ الإمام أبو الطيب سهل بن محمد الصعلوكي في تربيته وتهيئة أسبابه، وكان يحضر مجالسه ويثني عليه، وكذلك سائر الأئمة كالأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني والأستاذ الإمام أبي بكر بن فورك، وسائر الأئمة كانوا يحضرون مجلس تفسيره، ويتعجبون من كمال ذكائه وعقله وحسن إيراده الكلام عربيه وفارسيه، وحفظه للأحاديث، حتى كبر وبلغ مبلغ الرجال ولم يزل يرتفع شأنه حتى صار إلى ما صار إليه، وهو في جميع أوقاته مشتغل بكثرة العبادات ووظائف الطاعات، بالغ في العفاف والسداد وصيانة النفس، معروف بحسن الصلاة وطول القنوت واستشعار الهيبة حتى كان يُضرب به المثل، ووصفه عبد الغافر بأنه الإمام شيخ الإسلام الخطيب المفسّر المحدث الواعظ، أوحد وقته في طريقته، وعظ المسلمين في مجالس التذكير سبعين سنة، وخطب وصلى في الجامع -يعني: بنيسابور- نحواً من عشرين سنة. وقال: كان أكثر أهل العصر من المشايخ سماعاً وحفظاً ونشراً لمسموعاته وتصنيفاته، وجمعاً وتحريضاً على السماع، وإقامة لمجالس الحديث، سمع الحديث بنيسابور وبسرخس وبهراة وبالشام وبالحجاز وبالجبال، وحدث بكثير من البلاد، وأكثر الناس في السماع منه. وقد ذكر السيوطي والداوودي في كتابيهما (طبقات المفسرين) وأوردا أنه أقام شهراً في تفسير آية، وهذا يدل على سعة علمه في تفسير القرآن الكريم، وكان الصابوني رحمه الله يحترم الحديث ويهتم بالأسانيد. وقد حكى الفقيه أبو سعيد السكري عن بعض من يوثق بقوله من الصالحين أن الصابوني قال: ما رويت خبراً ولا أثراً في المجلس إلا وعندي إسناده، وما دخلت بيت الكتب قط إلا على طهارة، وما رويت الحديث ولا عقدت المجلس ولا قعدت للتدريس إلا على طهارة. ولعل هذا القدر كافٍ في تقديم نبذة عن الصابوني، وأيضاً من أراد أن يستزيد فهذا موجود في الكتاب، خاصة ثناء العلماء عليه؛ لأن هذا يبيّن منزلة الصابوني رحمه الله عند أهل السنة.

أهم ما تميز به كتاب عقيدة السلف أصحاب الحديث

أهم ما تميز به كتاب عقيدة السلف أصحاب الحديث قبل أن نبدأ بقراءة مقطع من الكتاب، أحب أن أشير إلى أهم ما يتميز به هذا الكتاب: هذا الكتاب الذي هو عقيدة السلف للصابوني تميز بالتزام منهج السلف في التأليف والتقرير، فهو من حيث ترتيب مسائل العقيدة التزم منهج السلف بالبدء بمسائل التوحيد العظمى بتقرير الشهادتين، ثم بالصفات وما يجب لله عز وجل، ثم بأصول الدين بحسب ترتيبها حسب الأهمية. كما أنه التزم منهج السلف في الاستدلال، فكان واضح الاستدلال من الكتاب والسنة. وأيضاً تميّز بالاستيفاء والشمول، وقد عرض أكثر أصول الدين عرضاً جيداً ومرتباً، والتزم في ذلك منهج السلف. وأخطاؤه في الاعتقاد هي في جزئيات الاعتقاد وهي قليلة؛ أقول هذا لأنه من المعلوم أنه لا يسلم عالم من خطأ أو مخالفة لرأي جمهور السلف، وهو لم يخالف الإجماع في شيء، ولم يخالف القضايا القطعية، ولم يقع في بدعة بحمد الله، لكنه أحياناً قد يرجّح المرجوح، وقد يميل إلى قول يخالفه فيه أكثر العلماء من السلف، وهذه مسألة بدهية ينبغي أن يعرف كل طالب علم أنها لا بد أن توجد عند كل عالم، لكنها تقل أو تكثر بحسب توفيق الله عز وجل للعالم وتبحّره وإمامته. ثم إنه أيضاً كان سياقه لكثير من مسائل أصول الدين فيه سهولة وبساطة وليس فيه تعقيد، وهو بعيد عن المسائل الكلامية والتعبيرات الفلسفية التي قد يقع فيها أحياناً حتى بعض السلف من غير قصد، فكان أسلوبه سهلاً، والتزامه لألفاظ السلف من أحسن ما رأينا من كتب السلف. ثم إنه تميّز بالإيجاز مع الإسناد، قلّ أن نجد من كتب السلف الشاملة في قضايا العقيدة أن تكون موجزة، فقد تميّز مع وجود الإسناد بالإيجاز، ويعتبر كتابه خلاصة سهلة لأصول السلف يستوعبها طالب العلم المتبحر ويستيفد منها، كما أنه يستفيد منها طالب العلم المبتدئ ولا تصعب عليه. ولو جرد من الأسانيد أيضاً لصار مثل كثير من متون العقيدة السهلة، وأتمنى أن يتصدى أحد الإخوان لاستخلاص قضايا العقيدة من كتاب الصابوني، وتجريدها من التكرار والأسانيد، لمن أراد أن يحفظها أو يقرأها ويدرسها، وأيضاً الأسانيد لها ميزة؛ لأنها تربط القارئ بأعلام السلف وبأعلام الحديث من الرواة، ثم يتبين بالسند مدى صحة كل رواية وكل أثر أو حديث، وهذا مخدوم الآن بحمد الله، فالآن أكثر كتب السلف -ومنها هذا الكتاب- خدم بتحقيق نصوصه، فممكن أن يشار في كل نص يرد إلى ما توصل إليه الباحثون والعلماء من حكمه وقول أهل العلم فيه. وفي البداية يحسن أننا نقرأ الروايات بأسانيدها حتى نتعرف على أشهر رجال الإسناد عند الصابوني.

سند كتاب عقيدة السلف أصحاب الحديث إلى مؤلفه

سند كتاب عقيدة السلف أصحاب الحديث إلى مؤلفه قال رحمه الله تعالى: [أخبرنا قاضي القضاة بدمشق نظام الدين عمر بن إبراهيم بن محمد بن مفلح الصالحي الحنبلي إجازة مشافهة أخبرنا الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد بن المحب المقدسي إجازة إن لم يكن سماعاً، أخبرنا الشيخان: جمال الدين عبد الرحمن بن أحمد بن عمر بن شكر وأبو عبد الله محمد بن المحب عبد الله بن أحمد بن محمد المقدسيان. قال الأول: أخبرنا إسماعيل بن أحمد بن الحسين بن محمد العراقي سماعاً أخبرنا أبو الفتح عبد الله بن أحمد الخرقي إجازة. وقال الثاني: أنبأنا أحمد بن عبد الدائم -رحمه الله-، وأخبرنا المحدث تاج الدين محمد بن الحافظ عماد الدين إسماعيل بن محمد بن بردس البعلي في كتابه، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن الخباز شفاهاً، أخبرنا أحمد بن عبد الدائم إجازة إن لم يكن سماعاً، أنبأنا الحافظ عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي، أنبأنا الخرقي سماعاً، أنبأنا أبو بكر عبد الرحمن بن إسماعيل الصابوني حدثنا والدي شيخ الإسلام أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن فذكره. وأخبرنا قاضي القضاة عز الدين عبد الرحيم بن محمد بن الفرات الحنفي إجازة مشافهة، أنبأنا محمود بن خليفة بن محمد بن خلف المنبجي إجازة أنبأنا الجمال عبد الرحمن بن أحمد بن عمر بن شكر بسنده قال:

سبب تأليف الصابوني كتابه عقيدة السلف أصحاب الحديث

سبب تأليف الصابوني كتابه عقيدة السلف أصحاب الحديث [الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه أجمعين. أما بعد]. بدأ كلام الصابوني الآن بعد ذكر السماعات وذكر أسانيد الكتاب نفسه، وهذه عادة أهل العلم قديماً كانوا يثبتون الروايات والكتب بالإسناد، وهذا أمر طيب، وهو مما يدل على حرصهم على توثيق العلوم، كحرصهم على توثيق الحديث. قال المصنف رحمه الله تعالى: [فإني لما وردت آمد طبرستان وبلاد جيلان متوجهاً إلى بيت الله الحرام وزيارة قبر نبيه محمد صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه الكرام]. مسألة الزيارة من الأمور التي عبّر فيها المؤلف الصابوني رحمه الله بغير منهج السلف؛ لأن قصد المدينة لا ينبغي أن يعبّر عنه بزيارة القبر وإنما يعبّر عنه بزيارة المسجد؛ لأنه من المساجد التي تشد إليها الرحال، لكن أطلق ذلك نظراً إلى أن من يأتي من الآفاق ويزور المسجد لابد أن يسلّم على النبي صلى الله عليه وسلم، ومن المشروع له أن يسلّم على عموم الصحابة كذلك، ويسلّم على أهل المقابر هناك، فبعضهم قد يتجاوز ويعبّر عن السفر إلى زيارة المسجد بزيارة القبر، وربما ذلك من تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن العبارة لا توافق السنة في التعبير العام، ولذلك علّق عليه المحقق تعليقاً جيداً وقال: لعله يقصد السفر إلى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن بعض العلماء يسمون السفر لزيارة المسجد ويصرفون العبارة إلى معنى زيارة القبر؛ لوجود القبر هناك، وهذا فيه لبس، لكن مع ذلك قد يلتمس فيه العذر لمثل الصابوني، وقد يكون يرى خلاف رأي الجمهور، وليس هناك ما يمنع أن يرى خلاف رأي الجمهور، وتكون هذه من أخطائه رحمه الله، لكنها ليست في الأمور التي تخالف القطعيات. ثم قال: إن شيخ الإسلام ذكر أن طائفة من العلماء يسمون السفر للصلاة في المسجد زيارة لقبره صلى الله عليه وسلم، ويقولون: تستحب زيارة قبره أو السفر لزيارة قبره، ومقصودهم بالزيارة هو السفر إلى مسجده، وأن يفعل في مسجده ما يشرع من الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم والدعاء له والثناء عليه. أقول: يحتمل هذا، يحتمل أنهم أحياناً يعبّرون بهذا عن ذلك، تغليباً لحق الرسول صلى الله عليه وسلم بالسلام عليه، لكن لا يقصدون إنشاء السفر الإنشاء البدعي، وإنما إنشاء السفر لزيارة المسجد. قال المصنف رحمه الله تعالى: [سألني إخواني في الدين أن أجمع لهم فصولاً في أصول الدين التي استمسك بها الذين مضوا من أئمة الدين، وعلماء المسلمين، والسلف الصالحين، وهدوا ودعوا الناس إليها في كل حين، ونهوا عمّا يضادها وينافيها جملة المؤمنين المصدقين المتقين، ووالوا في اتباعها وعادوا فيها، وبدّعوا وكفّروا من اعتقد غيرها، وأحرزوا لأنفسهم ولمن دعوهم إليها بركتها وخيرها، وأفضوا إلى ما قدموه من ثواب اعتقادهم لها، واستمساكهم بها، وإرشاد العباد إليها، وحملهم إياهم عليها، فاستخرت الله تعالى وأثبت في هذا الجزء ما تيسر منها على سبيل الاختصار؛ رجاء أن ينتفع به أولو الألباب والأبصار، والله سبحانه يحقق الظن، ويجزل علينا المن بالتوفيق والاستقامة على سبيل الرشد والحق بمنه وفضله]. نقف على هذا المقطع لنبدأ -إن شاء الله- من بداية تقريره لأصول الدين، ونسأل الله التوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

حكم قول: قاضي القضاة

حكم قول: قاضي القضاة Q ما حكم قول المصنف: قاضي القضاة؟ A هذه من العبارات التي يتساهل بها العلماء إذا كان المقصود بها مجرد الثناء، ليس المقصود بها التعظيم الذي يخرج عن الحد الشرعي، وتجدون هذا في كثير مما يكتبه علماء السلف في تراجمهم للأعلام، فـ الذهبي مثلاً وهو من أدق الناس وأحرصهم على تفادي العبارات المبالغ فيها، والعبارات التي لا تجوز شرعاً نجده في مسألة الوصف والثناء -خاصة للأموات- تكون عنده بعض العبارات المبالغ فيها، ولكن ليس قصدهم معاندة الحق، وإنما قصدهم مجرد الثناء لا التعظيم الممنوع، فعلى هذا إذا كان القصد وصف الواقع بالتعبير في قاضي القضاة عن كونه رئيساً للقضاة، أو أكبر القضاة، أو مرجع القضاة أو ما يشبه هذه العبارات فأرجو ألا يكون في ذلك حرج، بمعنى أن نعذر أئمة السلف الذين عبّروا بهذا التعبير، وقصدوا بقاضي القضاة أنه كبيرهم أو رئيسهم أو شيخهم أو مرجعهم أو أكبرهم أو أعلمهم إلى آخره، فهذا مما يصلح التجوز فيه، والله أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

[2]

شرح عقيدة السلف أصحاب الحديث [2] أجمع السلف الصالح على إثبات ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات على الوجه اللائق به في كتابه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، ونفي ما نفاه سبحانه عن نفسه، وما نفاه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالسلف أهل السنة وسط، فهم لا يشبهون الله بخلقه، ولا يعطلونه عن أسمائه وصفاته، بل يثبتونها إثباتاً يليق بجلاله سبحانه من غير تأويل ولا تحريف ولا تشبيه ولا تعطيل.

عقيدة السلف أصحاب الحديث في صفات الله عز وجل

عقيدة السلف أصحاب الحديث في صفات الله عز وجل الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. قال الإمام أبو عثمان الصابوني رحمه الله تعالى: [قلت وبالله التوفيق: أصحاب الحديث -حفظ الله أحياءهم ورحم أمواتهم- يشهدون لله تعالى بالوحدانية]. مما يحسن التنبيه له أن الشيخ دائماً في تعبيره عن أصحاب الحديث هو وغيره من أئمة السلف يقصدون بالسلف أهل السنة والجماعة، وعُبِّر عنهم بأصحاب الحديث لأنهم هم حملة الحديث دراية ورواية، ولأنهم أجدر الناس بالاستمساك بالسنة؛ ولأنهم هم الذين عنوا بسنة النبي صلى الله عليه وسلم من كل وجه بأصولها ومناهجها وقواعدها وتصحيحها وتضعيفها، وكل ما تعنيه الكلمة من حمل الحديث الذي تضمن الدين كله، وأصحاب الحديث لا يخرجهم هذا الوصف عن أن يكونوا أصحاب قرآن، بل أهل السنة والجماعة هم أهل القرآن والسنة، ويعبر عنهم بالفرقة الناجية، والسلف الصالح، والطائفة المنصورة، فمن أوصافهم أنهم أصحاب الحديث، كما أن من أوصافهم أنهم أهل السنة، وأنهم الجماعة، والفرقة الناجية، والطائفة المنصورة، والسلف الصالح ونحو ذلك. فهذه كلها أوصاف حقيقية لأهل السنة والجماعة وليست من الأوصاف المتغايرة، بل كلها تعني أهل الحق والاستقامة أصحاب السنة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [أصحاب الحديث -حفظ الله تعالى أحياءهم ورحم أمواتهم- يشهدون لله تعالى بالوحدانية، وللرسول صلى الله عليه وسلم بالرسالة والنبوة، ويعرفون ربهم عز وجل بصفاته التي نطق بها وحيه وتنزيله، أو شهد له بها رسوله صلى الله عليه وسلم على ما وردت الأخبار الصحاح به، ونقلت العدول الثقات عنه، ويثبتون له جل جلاله ما أثبت لنفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسم، ولا يعتقدون تشبيهاً لصفاته بصفات خلقه، فيقولون: إنه خلق آدم بيديه]. هذه قاعدة عند السلف أجمعوا عليها، وهي: إثبات ما أثبته الله لنفسه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ونفي ما نفاه الله عن نفسه أو نفاه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يعتقدون التشبيه؛ نظراً لأن الإثبات مظنة التشبيه عند قاصري الفهم والفقه، فإن السلف لا يعتقدون التشبيه، ثم ضرب أمثلة لذلك. [فيقولون: إنه خلق آدم بيديه، كما نص سبحانه عليه في قوله عز من قائل: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه بحمل اليدين على النعمتين أو القوتين، تحريف المعتزلة الجهمية أهلكهم الله]. والذين يقولون بهذا الآن هم الأشاعرة والماتريدية، فهم أخذوا هذه المقولة عن الجهمية، ولذلك متأخرو السلف لا يفرقون بين الأشاعرة والماتريدية والجهمية، بل يصفونهم جميعاً بأنهم جهمية، وذلك راجع إلى أنهم أخذوا أصول الجهمية في الصفات وقالوا بها تماماً، حتى إن الأشاعرة لا يثبتون إلا سبع صفات، ومذهبهم هذا قريب جداً بل هو نسخة جديدة لمذهب الجهمية، فالجهمية الذين ثار عليهم السلف وذموهم وحذروا منهم كان هذا مذهبهم: تأويل الصفات؛ لأن الجهمية مرت بمراحل: المرحلة الأولى في القرن الثاني أو أغلب القرن الثاني: كانت تُنكر الصفات إنكاراً بالكلية، لكنها في القرن الثالث ومع كثرة المحاورات بينها وبين السلف، ومع وجود الكتب والآثار والمصنفات التي كتبها أئمة الإسلام لطّفوا المذهب فقالوا بالتأويل، وأول من اشتهر عنه التأويل بشر المريسي، فهذا المريسي أوّل الصفات تأويلاً ولم ينكرها كما أنكرتها الجهمية الأوائل، ومع ذلك عد مذهبه امتداداً للجهمية، وهو جهمي جلد، ولذلك فإن منهجه هذا أخطر على المسلمين من مناهج السابقين؛ فالسابقون الذين ينكرون الأسماء والصفات بالكلية أو ينكرون الصفات كالمعتزلة كان الناس ينفرون من مذاهبهم؛ لأنها مذاهب مصادمة للعقل السليم والفطرة والنصوص مصادمة تامة، لكن حينما جاء هذا الرجل الخبيث بشر المريسي ترك التعطيل الذي هو الإنكار وبدأ يؤوّل، وكتب في ذلك مصنفات في تأويل الصفات، ومر على الصفات في القرآن وعلى الصفات في السنة فكان إما أن يؤوّل وإما أن يرد النصوص، وخاصة الأحاديث، ثم هذا التأويل انتقل من الجهمية إلى بعض المنتسبة للمذاهب مثل ابن شجاع الثلجي الحنفي، فقد أخذ مذهب المريسي وقال به، ونسب مصنفه إلى نفسه، ثم انتقل هذا إلى الأحناف، ثم صار من أصول الأشاعرة والماتريدية بعد ذلك، وأوائل الأشاعرة والماتريدية لم يكونوا يتعرضون للصفات، إلا بعض الصفات الفعلية، فإنهم أنكروا أنها تتعلق بمشيئة الله عز وجل متابعة لـ ابن كلاب، حتى جاء القرن السادس والسابع والثامن فانتقلت أصول الجهمية المتأخرة إلى الأشاعرة والماتريدية، وتولى نشرها وتبناها أولاً أبو المعالي الجويني قبل رجعته إلى مذهب أهل السنة والجماعة، ثم الرازي، والرازي قعّد لها وأسسها كما كان يفعل المريسي

معنى قول السلف: ويجرون اللفظ على الظاهر

معنى قول السلف: ويجرون اللفظ على الظاهر قال رحمه الله تعالى: [وكذلك يقولون في جميع الصفات التي نزل بذكرها القرآن، ووردت بها الأخبار الصحاح من السمع، والبصر، والعين، والوجه، والعلم، والقوة، والقدرة، والعزة، والعظمة، والإرادة، والمشيئة، والقول، والكلام، والرضا، والسخط، والحب والبغض، والفرح، والضحك وغيرها، من غير تشبيه لشيء من ذلك بصفات المربوبين المخلوقين، بل ينتهون فيها إلى ما قاله الله تعالى، وقاله رسوله صلى الله عليه وسلم من غير زيادة عليه، ولا إضافة إليه، ولا تكييف له، ولا تشبيه، ولا تحريف، ولا تبديل، ولا تغيير، ولا إزالة للفظ الخبر عما تعرفه العرب وتضعه عليه بتأويل منكر يستنكر، ويجرونه على الظاهر، ويكلون علمه إلى الله تعالى، ويقرون بأن تأويله لا يعلمه إلا الله، كما أخبر الله عن الراسخين في العلم أنهم يقولونه في قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [آل عمران:7]]. نقف عند هذا، لكن يحسن التعليق على العبارة التي سبقت قبل قليل وهي قوله: (ويجرونه على الظاهر)، هذه العبارة في الحقيقة مزلة عند كثير من الناس الذين لا يفهمون معناها إذ قالها السلف، بمعنى: أنهم يمرّون نصوص الصفات على ظاهرها، ويعنون بذلك الظاهر الذي يفهمه المخاطبون في الجملة؛ لأن الظاهر ممكن أن يصرف على معنيين: المعنى الأول -وهو المقصود في صفات الله عز وجل-: وهو أن الظاهر منها في خطاب الله عز وجل حينما أخبرنا بأسمائه وصفاته كذلك حينما أخبرنا رسوله صلى الله عليه وسلم بأسمائه وصفاته، فإن ظاهر الخبر وظاهر النصوص إثبات ذلك على الحقيقة، فالظاهر هو الحقيقة التي تليق بالله عز وجل، فإذا سمعنا قوله عز وجل: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] فالظاهر من ذلك إثبات اليدين لله عز وجل حقيقة على ما يليق بالله، هذا معنى إجراء النصوص على ظواهرها عند السلف، بمعنى: أننا ما دمنا خوطبنا فالظاهر من الخطاب أو الأمر الذي يظهر من الخطاب أن الله ما خاطبنا إلا بالحقيقة، وقوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] ظاهرها إثبات اليد لله عز وجل على ما يليق بجلاله، فهذا المعنى الظاهر الذي هو الحقائق. وهناك معنى آخر قد يقصد به كلمة الظاهر: وهذا المعنى هو الذي اضطرب فيه كثير ممن أخطئوا فهم أقوال السلف، أو لجئوا إلى هذه العبارة من أجل إثبات تأويلاتهم، فزعموا أن الظاهر هو التشبيه، وزعموا أن قوله عز وجل: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] ظاهره مجرد اللفظ، فعلى هذا لابد أن يصرف إلى معنى آخر، أو أن ظاهره المشابهة، أو الجارحة، أو ما يتوهم الإنسان مما يفهمه من المعاني في عالم الشهادة أن الظاهر هو المعاني التي يدركها الإنسان بحواسّه، فيقولون: ما دمنا فهمنا هذا الظاهر، فإذاً لابد أن يكون للصفة معنى آخر غير الظاهر وهو ما قصدوا به النفي أو التأويل. فإذاً: ليس مقصود السلف الظاهر الذي هو التشبيه، أو الظاهر الذي يتوهمه الإنسان ويقيس به على عالم المخلوقات، إنما الظاهر هو المعنى الحقيقي، وهو بالنسبة لصفات الله إثبات الصفة على ما يليق بجلاله، وهذا يعبّر به السلف كثيراً؛ فيقولون: تجرى على ظاهرها، هذا يترك على ظاهره إلى آخر ما يعبّرون به عن الإثبات إثبات الحقيقة وعدم التكييف، وعدم الكلام في الكيفية، والله أعلم. والسلف يكلون علم الكيفية إلى الله عز وجل لا علم الحقيقة، فالحقيقة لابد أن تثبت، وهذا هو الفارق بين فهم السلف وفهم غيرهم، سواء من المشبّهة أو المعطّلة، هو أن السلف يفهمون من معاني صفات الله الحقيقة، وأولئك ينكرون الحقيقة، هذا هو الفارق، فالسلف يثبتون الحقيقة على ما يليق بجلال الله عز وجل؛ لأن الله ليس كمثله شيء.

الأسئلة

الأسئلة

مدى صحة كون الطيب والمطلب من أسماء الله عز وجل

مدى صحة كون الطيب والمطلب من أسماء الله عز وجل Q هل الطيب والمطّلب من أسماء الله عز وجل؟ A الطيب من أوصاف الله عز وجل وليس من أسمائه، وأما المطّلب فليس من أسماء الله عز وجل.

حكم تقسيم التوحيد إلى أكثر من ثلاثة أقسام

حكم تقسيم التوحيد إلى أكثر من ثلاثة أقسام Q أصناف التوحيد الثلاثة: هل صحيح أن بعض أهل العلم قسّموه إلى أكثر من ذلك؟ A نعم، مسألة التقسيمات هذه أمور اصطلاحية ترجع إلى استقراء المعاني واستقراء الألفاظ، فتوحيد الله عز وجل لا ينقسم، لكن من الناحية العلمية التنظيرية لا شك أننا نجد أنه أقسام فالخبر عن الله عز وجل هو توحيد الأسماء، والخبر عن صفات الله هو توحيد الصفات، والخبر عن أفعال الله هو توحيد الأفعال وما يتعلق بتوحيد الربوبية، أما ما يتعلق بالعبادة لله عز وجل فيسمى توحيد العبادة أو الإلهية، ويمكن تقسيم التوحيد إلى أكثر من ذلك أيضاً إلى خمسة أقسام أو عشرة، هذا ممكن؛ لأنك إذا أخذت مفردات العبادة وجدت أن كلها توحيد، فمثلاً: توحيد التوكل معناه: وحّدت التوكل على الله عز وجل، وهكذا توحيد الإنابة، وتوحيد اليقين، وتوحيد الإحسان، وتوجه الإنسان إلى الله عز وجل، وتوحيد التدبير لله عز وجل، وتوحيد الرزق؛ لأنه لا رازق إلا الله وهكذا، لا يوجد أي مانع، فتقسيم التوحيد تقسيم اصطلاحي علمي فني، يقتضيه الفهم للإنسان، فأي إنسان يستقرئ نصوص التوحيد يجد أنها أنواع فمثلاً: الأشياء التي تتعلق بإثبات الربوبية هذه من الممكن أن تسمى: توحيد الربوبية، والأشياء التي تتعلق بإثبات الإلهية ممكن أن تسمى: توحيد الإلهية، والنصوص التي تتعلق بإثبات الصفات لله عز وجل ممكن أن نسميها: توحيد الصفات، والأسماء ممكن أن نسميها: توحيد الأسماء، وأفعال الله عز وجل ممكن أن نسميها: توحيد الأفعال، وليس في ذلك حرج. لكن الأقسام الرئيسية للتوحيد هي ثلاثة: الربوبية، وهذا واضح جداً. الإلهية، وهذا واضح جداً. الأسماء والصفات، وهذا واضح جداً. ويمكن أيضاً اختصار أنواع التوحيد إلى اثنين: توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية، وتدخل الأسماء والصفات في توحيد الربوبية من وجه وفي توحيد الإلهية من وجه آخر، وأغلب الأسماء والصفات تدخل في توحيد الربوبية.

الفرق بين السلف وأصحاب الحديث

الفرق بين السلف وأصحاب الحديث Q عنون الصابوني رحمه الله كتابه (عقيدة السلف أصحاب الحديث)، فهل هناك فرق بينهما؟ A ليس هناك فرق بين السلف وأصحاب الحديث، لكن من باب توضيح العبارة، والسلف كانوا يطلقونها في ذلك الوقت، وعنوان الصابوني دليل على أن السلف كانوا يعرفون هذه العبارة، بل كان إطلاق السلف وأصحاب الحديث هي الأصل عندهم. فأصحاب الحديث هم أهل السنة، وأهل السنة كلهم أصحاب حديث حتى العوام منهم، وبهذا يفرّق بينهم وبين الفرق المخالفة لأهل السنة، فالشيعة، والخوارج، والقدرية، والمرجئة، والجهمية، والمعتزلة، والمتكلمة والأشاعرة والماتريدية هم خلاف أهل الحديث، فكل الفرق جانب وأهل الحديث جانب آخر، فمخالفوهم لا يسمون أصحاب حديث، ولذلك هم أنفسهم يلمزون أهل الحديث، وهذا مما يعد تزكية ورداً قاطعاً على أهل الأهواء، فأهل الأهواء لا ينتسبون لأهل الحديث كلهم، وليس هناك منهم من ينتسب لأهل الحديث إلا أفراد، وأما فرقة فما أعرف فرقة من الفرق التي اشتهرت في التاريخ تنسب نفسها لأهل الحديث، وهذا من فضل الله عز وجل؛ لئلا يلتبس الأمر على الناس، مع وجود من ينتسب لأهل السنة والجماعة من الأشاعرة، وهذا الأمر فيه واضح.

أفضل المتون العلمية في علم العقيدة والحض على حفظ المنظومات فيها

أفضل المتون العلمية في علم العقيدة والحض على حفظ المنظومات فيها Q ما هي أفضل المتون العلمية في علم العقيدة؟ وما رأيك في حفظ المنظومات؟ A المتون العلمية أشهرها الآن متن الطحاوية، وليس الشرح، ولمعة الاعتقاد، وبعض الكتب التي ألّفها مشايخنا فسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز له متن جيد في العقيدة، والشيخ صالح الفوزان كذلك له متن جيد في العقيدة، والشيخ محمد بن عثيمين له متن جيد في العقيدة وكلها جيدة ومختصرة وليست بالطويلة، وتصلح للحفظ. أما حفظ المنظومات في العقيدة فهو جيد جداً، ومن أحسنها منظومة الشيخ حافظ الحكمي. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

[3]

شرح عقيدة السلف أصحاب الحديث [3] القرآن العظيم كلام الله منه بدأ وإليه يعود، وهو كتابه ووحيه وتنزيله، غير مخلوق؛ لأنه صفة من صفاته سبحانه، ومن اعتقد أن القرآن مخلوق فهو على ضلال مبين، وهو الذي تحفظه الصدور، وتتلوه الألسنة، ويكتب في المصاحف.

عقيدة السلف أصحاب الحديث في القرآن الكريم

عقيدة السلف أصحاب الحديث في القرآن الكريم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أحب أن أنبّه إلى عبارة الشيخ التي كان يستعملها كثيراً ويستعملها السلف في وقته كثيراً أيضاً وهي التعبير عن أهل السنة والجماعة والسلف بكلمة (أهل الحديث)، ولا يقصد أهل الحديث مجرد الرواة أو المحدثين، إنما يقصد أهل الحديث الذين هم أهل السنة والجماعة؛ لأن أهل السنة والجماعة قدوتهم أهل الحديث المستمسكون بالحديث العالمون بالحديث دراية ورواية؛ فينبغي أن يفهم هذا أنه كلما يقول: أهل الحديث، إنما يقصد أهل السنة والجماعة، ولذلك سمى الكتاب: عقيدة السلف أصحاب الحديث، وجعل كلمة (أصحاب الحديث) مرادفة للسلف، وهم أهل السنة والجماعة. قال الإمام أبو عثمان الصابوني رحمه الله تعالى: [ويشهد أهل الحديث ويعتقدون أن القرآن كلام الله، وكتابه، ووحيه، وتنزيله غير مخلوق، ومن قال بخلقه واعتقده فهو كافر عندهم]. ستأتي كثيراً الإشارة إلى كفر من قال بخلق القرآن، وهذا اتفاق عند السلف: أن من قال بأن القرآن مخلوق فقد كفر؛ لأن القضية استبانة بأدلتها، ثم إنها إجماع عند السلف، والعجيب أن هذه المسألة مع مسألة الرؤية من الأمور التي لم يشذ فيها أحد من السلف عن بقيتهم، فكثير من مسائل الأصول قد يكون لبعض الأئمة فيها قول ربما لم يكن عليه السلف إما في جملة القول أو في بعض الجزئيات، إلا هذه المسألة مسألة القول بأن القرآن منزّل من الله غير مخلوق، ومسألة القول بإثبات الرؤية؛ فهذه من المسائل القطعية التي لم يشذ فيها أحد ممن يعتد به، فهي إجماع. كذلك ذكر أن من اعتقد بأن القرآن مخلوق فقد كفر، وهذا حكم لكن لا يعني الحكم على المعيّن بإطلاق، فإن المعيّن الذي يقول بأن القرآن مخلوق نقول: بأنك قلت كفراً، لكن لا نكفّره حتى نعرف أنه عرف الدليل وعرف الحق وعرف وجه الاستدلال، ووجدت في حقه شروط التكفير، وانتفت موانع التكفير فإذا وجدت كُفّر المعيّن، أما ما عدا ذلك فيبقى الحكم عاماً، وربما يقول قائل: إن السلف ما كانوا يقولون بهذا القول في وقتهم، وأقول: نعم، حينما اشتهرت في ذلك الوقت قضية القول بخلق القرآن عند المعتزلة والجهمية وابتلي الناس بها قامت الحجة على الناس؛ لأن السلف أقاموا الحق، وصارت هذه القضية مشهورة في كل مجلس وفي كل مسجد وفي كل مكان وقامت الحجة فيها على الناس جميعاً؛ لأن السلف تكلموا وكتبوا وتحدثوا عند ذلك في المنابر والمناظرات، ولم يعد لأحد حجة في وقتهم، فكان من قال بخلق القرآن حُكم بكفره؛ لأنه قال ضد الحق، أما حين يغفل الناس عن هذه المسائل مثل ما يكون في عصرنا فيحتاج الأمر إلى تأن، فمن قال بأن القرآن مخلوق فهو كافر، لكن إذا حدث من معيّن هذا القول فيجب أن نتثبت من حاله، فقد يكون جاهلاً، فالجاهل يعلّم، وهذا هو الغالب في أكثر الناس، وأكثر الناس لو امتحنته -والامتحان بدعة- ربما يقول الباطل ويظنه هو الحق، فالعامي ما الذي يدريه؟ بل حتى طالب العلم المبتدئ والشاب الناشئ لو سألته ربما يقول الباطل ويظنه هو الحق. فإذاً: لا ينبغي امتحان الناس في هذه المسألة ولا التعجّل في حكم الكفر على المعيّن، لكن الحكم العام على العين والرأس؛ لأنه إجماع ولا يجوز لأحد أن يحيد عن هذا الإجماع.

حقيقة القرآن وحكم من زعم أن القرآن مخلوق أو لفظي بالقرآن مخلوق

حقيقة القرآن وحكم من زعم أن القرآن مخلوق أو لفظي بالقرآن مخلوق قال المصنف رحمه الله تعالى: [والقرآن الذي هو كلام الله ووحيه هو الذي نزل به جبريل على الرسول صلى الله عليه وسلم {قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [فصلت:3 - 4]، كما قال عز وجل: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:192 - 195]، وهو الذي بلغه الرسول صلى الله عليه وسلم أمته، كما أمر به في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة:67] فكان الذي بلغهم بأمر الله تعالى كلامه عز وجل، وفيه قال صلى الله عليه وسلم: (أتمنعونني أن أبلّغ كلام ربي؟)، وهو الذي تحفظه الصدور، وتتلوه الألسنة ويكتب في المصاحف، كيفما تُصُرِّفَ بقراءة قارئ، ولَفْظِ لافظ وحفظ حافظ، وحيث تلي، وفي أي موضع قرئ وكتب في مصاحف أهل الإسلام، وألواح صبيانهم وغيرها، كله كلام الله جل جلاله غير مخلوق، فمن زعم أنه مخلوق فهو كافر بالله العظيم. سمعت شيخنا الحاكم أبا عبد الله الحافظ رحمه الله يقول: سمعت أبا الوليد حسان بن محمد يقول: سمعت الإمام أبا بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق، فمن قال: إن القرآن مخلوق، فهو كافر بالله العظيم، لا تقبل شهادته، ولا يعاد إن مرض، ولا يصلى عليه إن مات، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ويستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه. فأما اللفظ بالقرآن فإن الشيخ أبا بكر الإسماعيلي الجرجاني ذكر في رسالته التي صنفها لأهل جيلان: أن من زعم أن لفظه بالقرآن مخلوق يريد به القرآن فقد قال بخلق القرآن]. هذا احتراز جيد، يعني: أن من زعم أن لفظه بالقرآن مخلوق، وقصده القرآن نفسه كما كان يفعل الجهمية حينما اشتد نكير السلف، ورجحت كفة السلف حتى عند السلطان أيام المتوكل وما بعده، فإنه حينما قويت شوكة السلف ضد المخالفين لجأ الجهمية إلى مثل هذه العبارات الموهمة، فبدلاً من أن يقول أحدهم: القرآن مخلوق، يقول: بأن لفظه بالقرآن مخلوق، ويقصد الملفوظ نفسه، وهو كلام الله، فهذا عبارة عن تحايل على القول الباطل وهروب من التصريح بما يصادم قول السلف، فلجأ كثير من الجهمية إلى مثل هذا التعبير، كما أن بعض الناس أيضاً يقول هذا من باب السفسطة ومجرد التفلسف، والسلف كانوا يكرهون هذا في العقيدة ويبدّعون من فعله. إذاً: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، وإن كان قصده حركة لسانه والصوت الذي هو صوته الذي خلقه الله عز وجل، فينبغي أن يبدّع؛ لأن هذا ذريعة إلى حيل الجهمية، وقول على الله بغير علم، وتلبيس على الناس؛ فأغلب الناس يلتبس عليه الأمر، ولا يفرق بين لفظه بالقرآن وبين القرآن نفسه، فلذلك السلف بدّعوا من قال هذا الأمر على القصدين: أما من قصده قول الجهمية فهذا كفر. قال رحمه الله تعالى: [وذكر ابن مهدي الطبري في كتاب (الاعتقاد) الذي صنفه لأهل هذه البلاد: أن مذهب أهل السنة والجماعة القول بأن القرآن كلام الله سبحانه ووحيه وتنزيله وأمره ونهيه غير مخلوق، ومن قال: مخلوق، فهو كافر بالله العظيم، وأن القرآن في صدورنا محفوظ، بألسنتنا مقروء، في مصاحفنا مكتوب، وهو الكلام الذي تكلم الله عز وجل به، ومن قال: إن القرآن بلفظي مخلوق، أو لفظي به مخلوق، فهو جاهل ضال كافر بالله العظيم]. حينما يقول: القرآن بلفظي مخلوق أو لفظي به مخلوق، فهو جاهل ضال كافر بالله العظيم، يعني: بالاحتراز السابق، وهو: أنه أراد بذلك القرآن نفسه الذي هو كلام الله، هذا أمر، الأمر الآخر كما قلت: إن الجزم بكفره بالله العظيم مبني على حال الناس في ذلك الوقت في وقت السلف في القرون السابقة، فكان الناس الأمر عندهم مستبين، والقضية قضية من القضايا الكبرى بين أهل السنة والمخالفين، ويعتبر القول بخلق القرآن هو شعار الجهمية، وهذا أمر بيّن عند العوام وغير العوام، فكان ذلك مقتضى هذا الحكم القاسي؛ لأن الناس قامت عليهم الحجة. قال رحمه الله تعالى: [وإنما ذكرت هذا الفصل بعينه من كتاب ابن مهدي لاستحساني ذلك منه، فإنه اتبع السلف أصحاب الحديث فيما ذكره، مع تبحره في الكلام وتصانيفه الكثيرة فيه وتقدمه وتبرزه عند أهله. أخبرنا أبو عبد الله الحافظ رحمه الله قال: قرأت بخط أبي عمرو المستملي سمعت أبا عثمان سعيد بن إشكاب الساش يقول: سألت إسحاق بن إبراهيم بنيسابور عن اللفظ بالقرآن؟ فقال: لا ينبغي أن يناظر في هذا، القرآن كلام الله غير مخلوق. وذكر أبو جعفر محمد بن جرير الطبري رحمه الله في كتابه (الاعتقاد) الذي صنفه في هذه المسألة، وقال: أما القول في ألفاظ ا

الأسئلة

الأسئلة

بيان ما يترتب على القول بخلق القرآن وقصد القائلين بذلك

بيان ما يترتب على القول بخلق القرآن وقصد القائلين بذلك Q ما الذي يترتب على القول بخلق القرآن؟ وماذا يقصد المعتزلة والجهمية عندما أخذوا بهذا القول؟ A القول بخلق القرآن يؤدي إلى إنكار كلام الله عز وجل، ويؤدي إلى القول بأن الله لم يتكلم، وهذا استنقاص لله عز وجل، فإن الكلام صفة كمال، ثم إنه يؤدي إلى إنكار أفعال الله عز وجل؛ لأن كلام الله من أفعاله، وإنكار أفعال الله عز وجل إنكار لكثير من صفات الكمال، لأن من يفعل أعظم ممن لا يفعل، فالأفعال من صفات الكمال. ولأن القول بخلق القرآن يؤدي إلى ضعف تقديس القرآن؛ لأنه إذا اعتقد المسلم أن هذا القرآن الذي بين يديه مخلوق، لم تعد عنده القداسة كما لو كان يعتقد أن هذا القرآن كلام الله، وهذا فرق يجده كل مسلم في نفسه، ولذلك تجرأ بعض المعتزلة على تحريف كلام الله على أساس أنه مخلوق، حرّفوا بعض الآيات، وتعمد بعضهم التحريف، وبعضهم صرّح بأنه يتمنى لو يحك بعض آيات القرآن من المصحف؛ لأنه لو كان يعتقد أن القرآن كلام الله ما قال هذا القول، ولما استطاع أن يجرؤ عليه. فمن اعتقد من الناس بأن القرآن غير كلام الله ضعف تقديسه عندهم، ثم إنه سيكون هناك أيضاً زعزعة لثقة المسلمين بدينهم؛ لأنهم إذا اعتقدوا أن القرآن كلام البشر أو فعل المخلوق أو كلام المخلوق لم يعد له قوة في أحكامه وأوامره ونواهيه وأخباره، وصار محلاً للشك وللتأويل وغير ذلك، ولذلك الذين قالوا بخلق القرآن هم الذين حرّفوه، وهم الذين أولوه، وهم الذين قالوا فيه الأقوال الشنيعة وصرفوه عن معانيه. أما ماذا يقصد الجهمية والمعتزلة؟ فيقصدون إنكار صفات الله عز وجل الفعلية وما يستتبع ذلك من إنكار بقية الصفات، ثم إنهم لو قالوا: إن القرآن كلام الله لزمهم أن يثبتوا الصفات التي أنكروها، وهم لا يلتزمون بهذا الالتزام وغير ذلك من الأمور التي تتعلق بفلسفتهم في أسماء الله وصفاته وأفعاله، وأعظم من ذلك هو تصورهم الخاطئ عن الله عز وجل، فإن الجهمية والمعتزلة لا يرون أن الله له وجود ذاتي، ولا أنه يفعل ما يشاء، ولا أنه يتكلم، ولا أنه يجيء وينزل، ويرون أن وجود الله وجوداً معنوياً أو عقلياً أو روحياً فقط، فإذا أثبتوا الكلام لزمهم أن يثبتوا لله عز وجل الكمالات والصفات التي ينفونها.

حكم قراءة الأذكار لما يترتب عليها

حكم قراءة الأذكار لما يترتب عليها Q من يقرأ بعض الأدعية المأثورة: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، قد يقرؤها يريد ما يترتب عليها مما ورد، بحفظ الله لصاحبها، هل هذا على الصواب أم لا؟ A نعم لا حرج، لكن ينبغي أن يكون بذلك ممتثلاً لطاعة الله عز وجل وعابداً ومتوجهاً إليه، يتأله لله، ثم بعد ذلك لا يمنع أن يقصد بالتعوذ دفع الشر عنه، بل هذا هو الحكمة من تشريع هذه التعوذات التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم مثل: أعوذ بكلمات الله التامات فالحكمة منها أن يدفع الإنسان بها الشرور والضر، فليس عليه حرج أن يقصد بها حفظ نفسه، فما شرعت إلا لذلك، مع التعبد والتوجه إلى الله عز وجل بذلك.

حكم قول: (مولانا) للرجل

حكم قول: (مولانا) للرجل Q ما الحكم في قول: مولانا، للرجل؟ A ينبغي تجنب الكلمة؛ لأن الله عز وجل هو المولى.

[4]

شرح عقيدة السلف أصحاب الحديث [4] يعتقد السلف أهل الحديث ويشهدون أن الله سبحانه فوق سماواته، مستو على عرشه استواء يليق بجلاله، بخلاف أهل البدع من المؤولة والمعطلة والمفوضة، فأهل الحديث يثبتون ما أثبته الله له من العلو والفوقية والاستواء وغير ذلك مما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم.

عقيدة السلف أصحاب الحديث في استواء الله وعلوه على عرشه

عقيدة السلف أصحاب الحديث في استواء الله وعلوه على عرشه الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. قبل أن نبدأ بالقراءة أحب أن أنبه إلى أن هذا عنوان لمسألة جديدة وهي مسألة العلو والفوقية والاستواء، جمعها الشيخ الصابوني في موضع واحد، وذلك لاقتران هذه الأمور بعضها ببعض، فالاستواء يدل على العلو والفوقية، وكذلك العلو والفوقية تضمنت معنى الاستواء، بمعنى: أن أدلة الاستواء تدل على العلو والفوقية، وكذلك أدلة العلو والفوقية تؤيد أدلة الاستواء فهو هنا يقرر العلو والفوقية والاستواء لما بينهما من الاقتران، ولذلك الذين أولوا الاستواء اضطروا إلى تأويل الفوقية والعلو، وكذلك العكس أيضاً، فالذين أولوا العلو والفوقية اضطروا إلى تأويل الاستواء، وإن كانت مسألة الاستواء هي أول ما بدأ المعطلة فيها، بمعنى: أن تعطيل الاستواء كان قبل الكلام في العلو والفوقية، خاصة عند المتكلمين الذين ورثوا الجهمية والمعتزلة، فإنهم تجرءوا على تأويل الاستواء قبل جرأتهم على إنكار العلو والفوقية لله عز وجل، أي: بذاته سبحانه، وكذلك الجهمية كانت الشرارة الأولى لإنكار العلو عندهم بدأت بإنكار الاستواء، فهي متلازمة؛ لأن من أثبت العلو والفوقية جاز أن يثبت في مبدئه الاستواء ما دام ثبت فيه النص، وكذلك العكس من أثبت الاستواء لله عز وجل كما يليق بجلاله لزمه بالضرورة إثبات العلو والفوقية لله تعالى بذاته. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ويعتقد أهل الحديث ويشهدون أن الله سبحانه فوق سبع سماوات على عرشه كما نطق به كتابه في قوله عز وجل في سورة الأعراف: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54]، وقوله في سورة يونس: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} [يونس:3]، وقوله في سورة الرعد: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الرعد:2]، وقوله في سورة الفرقان: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان:59]، وقوله في سورة السجدة: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [السجدة:4]، وقوله في سورة طه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]]. هنا قرر المصنف أدلة الاستواء أولاً؛ لأنها أدلة قاطعة في إثبات الاستواء لله عز وجل بذاته على ما يليق بجلاله، ثم إنها مستلزمة للدلالة على العلو، وكذلك سيبدأ الآن بعد قليل في المقطع التالي في إثبات أدلة العلو؛ لأنها عاضدة لأدلة الاستواء؛ فأدلة العلو تعضد أدلة الاستواء، بينما أدلة الاستواء تستلزم إثبات العلو. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأخبر الله سبحانه عن فرعون اللعين أنه قال لـ هامان: {ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر:36 - 37]، وإنما قال ذلك لأنه سمع موسى عليه السلام يذكر أن ربه في السماء، ألا ترى إلى قوله: {وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر:37] يعني: في قوله: إن في السماء إلهاً. وعلماء الأمة وأعيان الأئمة من السلف رحمهم الله لم يختلفوا في أن الله تعالى على عرشه، وعرشه فوق سماواته]. أيضاً في كلام فرعون الذي ذكره الله عز وجل وفي محاولته الرقي في السماء فيه دلالة على أن مسألة العلو مسألة فطرية، وأن فرعون نظراً لأنه في الباطن مستيقن ببعض الأمور الفطرية بما فيها علو الله عز وجل، ففرعون طلب من هامان أن يبني له صرحاً، فلو لم يكن عنده شيء من المعرفة الفطرية بأن الله في السماء مع ورود ذلك على لسان موسى لما كلّف نفسه وأخذ هذا الأمر بجد، لكن عنده نزعة فطرية للاعتراف بأنه إن كان هناك إله لموسى فإنه سيكون في السماء، هذه تدل عليها الآية، والله أعلم. قال المصنف رحمه الله تعالى: [يثبتون من ذلك ما أثبته الله تعالى ويؤمنون به، ويصدقون الرب جل جلاله في خبره، ويطلقون ما أطلقه سبحانه وتعالى من استوائه على عرشه، ويمرونه على ظاهره، ويكلون علمه إلى الله]. في هذه العبارات شيء من الترادف وشيء من الخلاف أيضاً؛ لأن هذه العبارات في الحقيقة عبارات موجزة في سطرين لكنها ترمز إلى قواعد، فقوله: (يثبتون من ذلك ما أثبته الله لنفسه)، يعني بذلك: أن الأصل في كل ما ورد عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم في أسماء الله وصفاته وأفعاله إثبات ما أثبته الله لنفسه، ليس للناس في ذلك دخل، وليس لعقول الناس تدخل في هذا الأمر، هذه القاعدة الأولى. القاعدة الثانية: قال: (ويؤمنون به

أنواع العلم بأسماء الله وصفاته وبيان معناها وذكر الأدلة

أنواع العلم بأسماء الله وصفاته وبيان معناها وذكر الأدلة قوله: (ويكلون علمه إلى الله) وعلم أسماء الله وصفاته على نوعين: النوع الأول: إثبات الحقائق كما يليق بجلال الله، فهذا لابد أن يعتقد ولا يفوّض. النوع الثاني وهو الذي قصده الصابوني هنا في قوله: (ويكلون علمه): وهو الكيفيات، ليس المقصود بالعلم الحقيقة هنا، المقصود بالعلم هنا الكيفية، فالسلف يكلون حقيقة أسماء الله وصفاته وأفعاله إلى الله عز وجل، والمراد كيفياتها، أما حقيقتها التي هي معانيها الثابتة فليست محل إشكال ولا توقف؛ لأن الله خاطبنا بها بلسان عربي مبين، والله عز وجل خاطبنا بها لنعتقدها له سبحانه، ولنعتقد له الكمال من خلالها. فمن هنا لابد أن يفهم في هذه العبارة وما يشبهها على ألسنة السلف -وهي كثيرة- أن قولهم: (ويكلون علمه إلى الله) ليس المقصود تفويض الأمر بلا إثبات، وليس المقصود التوقف بلا إثبات، وليس المقصود التأويل، إنما المقصود الكيفيات، فالكيفيات لا يعلمها إلا الله عز وجل، فتكون من باب الأمور الغيبية التي يوكل علمها إلى الله. قال رحمه الله تعالى: [ويقولون: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [آل عمران:7] كما أخبر الله تعالى عن الراسخين في العلم أنهم يقولون ذلك، ورضي منهم فأثنى عليهم به. أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد بن يحيى المزكي حدثنا محمد بن داود بن سليمان الزاهد أخبرني علي بن محمد بن عبيد أبو الحسن الحافظ من أصله العتيق حدثنا أبو يحيى بن كبيسة الوراق حدثنا محمد بن الأشرس الوراق أبو كنانة حدثنا أبو المغيرة الحنفي حدثنا قرة بن خالد عن الحسن عن أمه عن أم سلمة رضي الله عنها في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] قالت: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإقرار به إيمان، والجحود به كفر. وحدثنا أبو الحسن بن إسحاق المدني حدثنا أحمد بن الخضر أبو الحسن الشافعي حدثنا شاذان حدثنا ابن مخلد بن يزيد القهستاني حدثنا جعفر بن ميمون قال: سئل مالك بن أنس عن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] كيف استوى؟ قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا ضالاً، وأَمر به أن يُخرج من مجلسه]. هذه الكلمات تمثل قواعد أيضاً عند السلف، ولا تزال هي القواعد التي يرد بها على المؤولة؛ لأنها محكمة من كل وجه، وهي عصارة فهم السلف لمقتضى النصوص، فهذا التقعيد للإثبات هو خلاصة مقتضى نصوص الشرع الواردة في الكتاب والسنة فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته، وذكرت على عدة وجوه كلها متشابهة ومتقابلة، فالكلام الذي نسب إلى أم سلمة سواء ثبت عنها أو لم يثبت هو قواعد صحيحة ذهبية ميّزت منهج السلف عن غيرهم في هذا الأمر في صفة الاستواء وفي غيرها، فهذه قاعدة تقال في جميع الصفات، فيقال: الاستواء غير مجهول، ويقال: النزول غير مجهول، ويقال: المجيء غير مجهول، ويقال: الغضب لله عز وجل غير مجهول، وهو كما يليق بجلاله، وهكذا بقية الصفات، والكيف غير معقول فالاستواء أو غيره من الصفات يقال: إنه غير مجهول، بمعنى أنه عُلم بخبر الله تعالى وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم أولاً، وثانياً: عُلم بأنه حقيقة لله عز وجل على ما يليق بجلاله، فهو غير مجهول لدى المخاطبين لا سيما أن المخاطب المؤمن إذا سمع كلام الله عز وجل في صفاته أو كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفات الله أثبتها لأول وهلة على الحقيقة، ثم زال عنه التشبيه باستشعار القاعدة الأخرى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، فلابد من استشعار هذا المعنى دائماً، وإثبات الصفة لله عز وجل على الحقيقة؛ لأنا خوطبنا بحقائق نعلمها، لكن الكيفيات المعلومة في المخلوقات منفية عن الله عز وجل، فتثبت الصفات لله عز وجل مع نفي التشبيه والمماثلة. إذاً: فالاستواء غير مجهول، بمعنى: أن له حقيقة، هذه الحقيقة هي بالنسبة للمخلوقات لها معنى ناقص، وبالنسبة لله عز وجل لها معنى كامل، فاستواء الله عز وجل يناسب كماله وهو غير مجهول. وكذلك الكيف غير معقول، بمعنى: أن العقول لا تدرك الكيفيات، وليس بأنه غير معقول لا تؤمن به العقول، بل هنا غير معقول، بمعنى: لا تدركه العقول على جهة الكيفية، وبعض الناس فهمهم غلط، وكثير من المؤولة استندوا إلى هذه المسألة وجعلوها وسيلة للتأويل إلى هذه العبارة، خاصة متأخرة الأشاعرة والماتريدية، ففسروا كلمة (الكيف غير معقول) بأن معنى ذلك أن ظواهر أسماء الله وصفاته غير معقولة، وغير معروفة الحقيقة، أو لا يؤمن بحقائقها، فلجئوا إلى التأويل، أما السلف فمقصودهم بغير

كلام ابن خزيمة فيمن أنكر علو الله عز وجل

كلام ابن خزيمة فيمن أنكر علو الله عز وجل قال المصنف رحمه الله تعالى: [سمعت الحاكم أبا عبد الله الحافظ في كتاب (التاريخ) الذي جمعه لأهل نيسابور، وفي كتابه (معرفة الحديث) اللذين جمعهما ولم يسبق إلى مثلهما، يقول: سمعت أبا جعفر محمد بن صالح بن هانئ يقول: سمعت أبا بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة يقول: من لم يقل بأن الله عز وجل على عرشه قد استوى فوق سبع سماواته، فهو كافر بربه، حلال الدم، يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه، وألقي على بعض المزابل حتى لا يتأذى المسلمون ولا المعاهدون بنتن رائحة جيفته، وكان ماله فيئاً لا يرثه أحد من المسلمين، إذ المسلم لا يرث الكافر، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم) رواه البخاري]. في مثل كلام ابن خزيمة رحمه الله نجد أن السلف أحياناً يلجئون إلى مثل هذه الأساليب القوية الرادعة، لكن ذلك عندهم على شروط وضوابط، يعني: هذا الكلام قد يقول بعض الناس: إنه كلام فيه قوة وفيه قسوة، لكن الصحيح أنه مقتضى الضرورة والحال في ذلك الوقت؛ ففي عهد ابن خزيمة رحمه الله ظهرت بعض نبتات الجهمية والمعتزلة وقويت، ثم إنه كان في وقته بداية ميل للمتكلمين إلى أصول الجهمية؛ فمتكلمة الأشاعرة والماتريدية في عهد ابن خزيمة بدأت مناهجهم تميل إلى مسالك الجهمية والمعتزلة في صفات الله عز وجل، فاضطر إلى مثل هذه العبارات القوية؛ لأن فيها حماية لعقائد الأمة، لاسيما وهو إمام من الأئمة الكبار، فإذا صدر عنهم مثل هذا الكلام -وهم ممن تعتد الأمة بإمامتهم وتعتبرهم قدوة كـ ابن خزيمة في وقته فإنه كان يعتبر إمام المسلمين-، فإن صدور مثل هذا الكلام يعتبر بمثابة البيان الرادع القوي الذي يخوف به أهل الأهواء والبدع، ثم إنه يبين لأهل الغيرة من أهل الحل والعقد أن الأمر يحتاج إلى إجراء يحمي عقيدة الأمة، ثم إنه أيضاً يحصن العوام وأمثال العوام من عقائد الجهمية والمعتزلة ومن سلك سبيلهم بمثل هذه الكلمات القوية الرادعة. ولذلك يصدر هذا الكلام عن إمام لكن لا يمكن أن يصدر مثله عن طويلب علم مبتدئ؛ لأن هذا في الغالب يكون فيه تجاوز للحد من قبل من لم يكن له إمامة في الدين، ولذلك نجد أن الأمة في القرون الثلاثة الفاضلة كانت تمثل مثل هذه الأقوال القوية للسلف في حق رءوس الأهواء وكبارهم، فمثلاً: لما استفحل أمر معبد الجهني في القدر وقفت منه الأمة موقفاً حازماً بولاتها وعلمائها وعوامها، ثم لما ورث غيلان هذه البدعة القدرية وصار يدعو إليها علناً قسا معه السلف قسوة أدت إلى قتله لكف شره، مع أنهم لم يقولوا بكفره، لكن حكموا عليه بمثل حكم ابن خزيمة هنا، فصار حكمهم من أقوى المحصنات للأمة الرادعة لأهل الأهواء من ناحية والحامية لعامة المسلمين من العوام وطلاب العلم من ناحية أخرى؛ لأن الناس إذا سمعوا مثل هذا الكلام عن الأئمة عرفوا أن الأمر شنيع؛ فإذا قيل: إن غيلان قتل من أجل بدعته لا يجرؤ عامي ولا طالب علم أن يفكر باستساغة هذه البدعة مرة أخرى. ثم لما ظهر الجعد بن درهم كذلك وأعلن القول بالتعطيل وحاوره العلماء ولم يجدوا منه استجابة للرجوع إلى الحق حكموا بقتله؛ كفاً لشره وفساده، وكان حكمهم -قبل أن ينفذ عليه الحد الشرعي- فيه واضح، ثم قالوا ذلك في الجهم بن صفوان، ثم قالوا ذلك في عدد من كبار المعتزلة والجهمية، وكما قال الشافعي في حق حفص الفرد، وكما قال غيره في ابن الراوندي وغيره في المريسي ثم لما صار وقت ابن خزيمة بدأت الجهمية والمعتزلة وأفراخ المتكلمين الأوائل تخرج أعناقها ببدعتها، فاضطر ابن خزيمة لمثل هذا الكلام، سواء امتثل كلامه أو لم يمتثل، فهو بمثابة الروادع القوية، ومن هنا نفسر قسوة ابن خزيمة رحمه الله على أهل البدع في ذلك الوقت؛ لأنه كان لابد من مثل هذا الإجراء والعبارات القاسية التي يكون بها الردع وتكون بها الحماية، وكذلك أي إمام تكون له إمامة وقبول عند الأمة قد يحمي الأمة بمثل هذه العبارات وبمثل هذه المواقف القوية، لكن ليس مثل هذا لكل من طلب العلم أو لكل من تصدى لبدعة، فقد ينتكس عليه منهجه، وقد يستفز الخصوم بمثل هذه العبارات إذا استعملها وهو غير مطاع، ولكن يأخذ الأمور على أصولها الشرعية بهدوء وحكمة.

كلام الشافعي واستدلاله بحديث الجارية على علو الله عز وجل

كلام الشافعي واستدلاله بحديث الجارية على علو الله عز وجل قال المصنف رحمه الله تعالى: [وإمامنا أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه احتج في كتابه المبسوط في مسألة إعتاق الرقبة المؤمنة في الكفارة وأن غير المؤمنة لا يصح التكفير بها، بخبر معاوية بن الحكم رضي الله عنه، وأنه أراد أن يعتق الجارية السوداء لكفارة، وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إعتاقه إياها فامتحنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم لها: (من أنا؟ فأشارت إليه وإلى السماء، تعني: أنك رسول الله الذي في السماء، فقال صلى الله عليه وسلم: أعتقها؛ فإنها مؤمنة)، فحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامها وإيمانها لما أقرت بأن ربها في السماء، وعرفت ربها بصفة العلو والفوقية، وإنما احتج الشافعي رحمة الله عليه على المخالفين في قولهم بجواز إعتاق الرقبة الكافرة في الكفارة بهذا الخبر، لاعتقاده أن الله سبحانه فوق خلقه وفوق سبع سماواته على عرشه كما هو معتقد المسلمين من أهل السنة والجماعة سلفهم وخلفهم؛ إذ كان رحمه الله لا يروي خبراً صحيحاً ثم لا يقول به. وقد أخبرنا الحاكم أبو عبد الله رحمه الله قال: أنبأنا الإمام أبو الوليد حسان بن محمد الفقيه قال: حدثنا إبراهيم بن محمود قال: سمعت الربيع بن سليمان يقول: سمعت الشافعي رحمه الله يقول: إذا رأيتموني أقول قولاً وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه فاعلموا أن عقلي قد ذهب. قال الحاكم رحمه الله: سمعت أبا الوليد غير مرة يقول: حدثت عن الزعفراني أن الشافعي رحمه الله روى يوماً حديثاً فقال السائل: يا أبا عبد الله! تقول به؟ قال: تراني في بيعة أو كنيسة؟! ترى علي زي الكفار؟! هو ذا تراني في مسجد المسلمين علي زي المسلمين مستقبل قبلتهم، أروي حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم لا أقول به؟!]. خلاصة هذا الكلام كله هو في مسألة تقرير العلو، وأن مما استدل به على تقرير العلو ما جاء في سؤال الجارية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سألها: أين الله؟ فأشارت إلى السماء، فاعتبر هذا دليل الإيمان، وهذا فيه إثبات علو الله عز وجل علواً ذاتياً وعلواً معنوياً، فالله عز وجل هو العلي بكل معاني العلو: علو القدر وعلو القهر وعلو الذات وعلو الصفات وعلو الأسماء وعلو الأفعال وجميع أنواع العلو.

موجز كلام السلف في أدلة العلو المحكمة والصريحة

موجز كلام السلف في أدلة العلو المحكمة والصريحة الخلاصة: أنه هنا أراد أن يقرر العلو مقترناً بالاستواء والاستواء مقترناً بالعلو وهما متشابهان، وقد ذكر الأئمة أدلة العلو الصريحة ونوجزها الآن؛ لأنه هنا انتهى من مسألة الاستدلال على العلو والعرش، وسيدخل في موضوع جديد نجعله للدرس القادم، لكن أحب أن أوجز كلام السلف في أدلة العلو التي هي محكمة وقوية وذكرها أكثر من واحد من الأئمة، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية في أكثر من موضع، وابن القيم في رده على الجهمية في الصواعق وفي غيره، وكذلك لخص هذا الرد ابن أبي العز في (شرح العقيدة الطحاوية)، فتتلخص أدلة إثبات العلو والاستواء -خاصة العلو الذاتي لله عز وجل- بما يلي: أولاً: التصريح بالفوقية لله عز وجل، فقد ورد التصريح بأن الله فوق عباده، كقوله عز وجل: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18]، وقوله سبحانه وتعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:50]، فهذا تصريح بالفوقية لله عز وجل، وأصحاب التأويل يقولون: إن الفوقية تشعر بالجهة، فيقال لهم: ما الجهة التي تهربون منها؟ سيقولون: الفوق والعلو، فهربوا من إثبات الحق ووقعوا فيما وقعت فيه الفلاسفة الملاحدة الذين ينكرون أن يكون لله وجود ذاتي. وكذلك من أقوى أدلة العلو: ثبوت النزول، سواء نزول الباري عز وجل أو نزول الأشياء منه، فقد أنزل الله القرآن وتنزل الملائكة من عنده، والنزول ثابت بنصوص قطعية، خاصة أحاديث النزول لله عز وجل على ما يليق بجلاله، وخاصة النزول الذي ثبت له في الثلث الأخير من كل ليلة، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا في الثلث الأخير من كل ليلة) ونزوله عز وجل عشية يوم عرفة أو يوم عرفة يباهي بالحجاج ملائكته، فهذا النزول ثبت في مقتضى النص الصحيح الصريح الذي لا يمكن دفعه، ولكن على ما يليق بجلال الله عز وجل، ونحن نعلم قطعاً أن النزول لا يلزم منه إخلاء العرش، ولا يلزم منه ما يلزم عند المخلوقات من نوع الحركة ونوع الانتقال، وإلا فالله عز وجل لابد أن يثبت له ما أثبته لنفسه. فالنزول دليل على إثبات العلو والفوقية، وهو يتضمن معنى الاستواء. ومن ذلك أيضاً: صعود الأشياء إليه، قال عز وجل: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10]، وكذلك رفع الأشياء إليه {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10]، وكقوله عز وجل في حق عيسى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:158] فالرفع لا يكون إلا إلى أعلى، ولا يكون إلا لموجود له وجود ذاتي، وإلا فما معنى الرفع لو كان الوجود لله عز وجل -تعالى عما يزعمون- مجرد وجود ذهني مطلق، كما تقول الجهمية وتابعهم الأشاعرة ومن سلك سبيلهم؛ فإنهم قالوا: إن وجود الله عز وجل مجرد وجود عقلي أو مجرد وجود اعتباري أو علو اعتباري فقط، كما قالوا: إن العلو علو القدر، ولاشك أن لله عز وجل علو القدر على وجه الكمال، وكذلك علو الذات، ولو كان مجرد علو القدر لما كان هناك معنى لكل هذه النصوص التي تصرح بالفوقية والنزول والمجيء والصعود والرفع، لا يكون لها معنى وإنما تكون مجرد ألفاظ لا معنى لها. وكذلك ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في الدعاء إلى الله عز وجل، وتوجه القلوب الفطري إلى الله عز وجل توجه يجده حتى الكافر، بل حتى الحيوان نجده يشخص ببصره إلى العلو وإلى الفوقية، وهذا أمر فطري. أيضاً: سؤال النبي صلى الله عليه وسلم الجارية وغير الجارية بكلمة: أين الله؟ هذا دليل قاطع على أن الله عز وجل له وجود لا يليق إلا أن يكون بالفوق والعلو، وأن وجود الله عز وجل مباين ومفاصل لوجود مخلوقاته، وأنه مستوٍ على عرشه، إضافة إلى أدلة الاستواء وغير ذلك، كل هذه الأمور أدلة صريحة قطعية تثبت لله العلو الذاتي بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله مع علو القدر والقهر وعلو الاعتبار وعلو المعنى، وهذا لا شك فيه. فالسلف حينما يثبتون شيئاً يثبتون لوازمه بالضرورة، فهذه أدلة قاطعة على العلو الذاتي لله عز وجل لا مفك منها، لكن أهل التأويل لا يستطيعون أن يأخذوا بها؛ لأنهم إذا أخذوا بها انهدمت قواعدهم كلها ورجعوا إلى قول أهل السنة، ولو أخذوا بأدلة العلو لزم أن يقولوا بالاستواء، وإذا قالوا بالاستواء لزمهم أن يقولوا بالمجيء والنزول ثم بقية صفات الله عز وجل، وكذلك العكس. إذاً: أهل البدع والتأويل لو أثبتوا أي صفة لزمهم إثبات الباقي، فإن أثبتوا الاستواء لزمهم إثبات العلو والفوقية، وإن أثبتوا العلو والفوقية لزمهم الاستواء، وإذا أثبتوا الجميع لزمهم إثبات المجيء والنزول على ما يليق بجلال الله عز وجل وبقية الصفات، لكن لتسلم قواعدهم الباطلة عمموا الحكم، وهذا مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل الأهواء: (تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه) نفوا شيئاً من الصفات فاضطرهم هذا النفي إلى نفي غيرها، ثم إلى نفي البا

الأسئلة

الأسئلة

الفرق بين الكيف والكيفية

الفرق بين الكيف والكيفية Q هل هناك فرق بين السؤال عن الكيف والسؤال عن الكيفية؟ A لا فرق؛ فالكيفية مشتقة من الكيف، والكيف: هو السؤال عن الحقيقة الذاتية التي يتشكل منها الشيء.

مدى صحة مقالة: (الله على عرشه استوى، وهو في كل مكان بعلمه)

مدى صحة مقالة: (الله على عرشه استوى، وهو في كل مكان بعلمه) Q هل هذه المقالة صحيحة: الله على عرشه استوى، وهو في كل مكان بعلمه؟ A لا حرج، هذا مقتضى النصوص، فالله عز وجل على عرشه استوى وهو بعلمه في كل مكان، يعني: أن الله عز وجل أحاط علمه بكل شيء.

حقيقة العقيدة التي تدرس في الأزهر

حقيقة العقيدة التي تدرس في الأزهر Q سمعنا بأن الأزهر في مصر يدرس عقيدة الأشاعرة ويعتقدونها، فهل هذا صحيح؟ A الذي أعرفه نعم، لا يزال أكثر فروع الأزهر تدرس عقيدة الأشاعرة، لكن ومع ذلك بدأت بعض الكليات والأقسام في الأزهر وفروعه تدرس عقيدة السلف من خلال الطحاوية وغيرها، لكن السمة السائدة هي دراسة مذهب الأشاعرة والماتريدية.

الصفات التي يؤولها الأشاعرة والماتريدية

الصفات التي يؤولها الأشاعرة والماتريدية Q ما هي الصفات التي يؤولونها؟ A يؤولون جميع الصفات ما عدا سبع صفات، والباقي كلها يؤولونها خاصة المتأخرين، وهذا في عموم الأشاعرة، وقد يكون من الأشاعرة من هو أقرب إلى أهل الحديث فيثبت أكثر من سبع صفات، ومنهم من يقول بهذا المبدأ، ومنهم من هو بين ذلك.

أول من قال: (إن الله بائن من خلقه)

أول من قال: (إن الله بائن من خلقه) Q هل لم يسبق ابن المبارك إلى قوله: بائن من خلقه؟ A هذا ليس صحيح، لكن ما اشتهرت الكلمة قبل وقته، يعني: أنها ما استفاضت وأعلنت من قبل إمام من أهل السنة على الملأ، وجعلت من شعارات أهل السنة إلا في وقته، أما قبل ذلك فقد تكلم فيها بعض الأئمة بحذر وبحدود ضيقة، فلم تشتهر، فهو أشهرها؛ لأنه إمام، فنقلها عن الناس بالرواية والإسناد، وتناقلتها وسائل الإعلام في ذلك الوقت، وهم الرواة والكتب التي صنفت.

[5]

شرح عقيدة السلف أصحاب الحديث [5] هناك فروق منهجية في العقيدة وغيرها بين أهل السنة وأهل البدعة يستطيع صاحب الحق أن يميز بها بين البدعة والسنة، فيما يتعلق بعقائد الناس وأقوالهم وأحوالهم وعوائدهم وممارساتهم ومواقفهم، ومما امتاز به أهل السنة أنهم يثبتون صفات الله عز وجل كما أثبتها لنفسه، ومن ذلك صفة النزول والمجيء والإتيان.

ذكر بعض الفروق المنهجية بين أهل السنة وبين أهل البدع في العقيدة

ذكر بعض الفروق المنهجية بين أهل السنة وبين أهل البدع في العقيدة الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فهنا الشيخ الصابوني رحمه الله سيذكر شيئاً من الفروق المنهجية، فبعد ما ذكر مسألة الصفات تفصيلاً، ومسألة كلام الله عز وجل والرؤية، بدأ يشير إلى الفروق المنهجية بين أهل السنة وبين مخالفيهم من أهل البدع، وأهل البدع كما تعلمون مناهجهم واحدة، وإن كانت تختلف طرائقهم ووسائلهم وتعبيراتهم، لكن مناهجهم في تقرير الدين واحدة، وكلها تقوم على الهوى، وهذا مما ينبغي أن يلم به طالب العلم؛ لأن طالب العلم إذا أدرك وعرف مناهج أهل البدع، سواء في تلقي الدين أو في مصادر الدين أو في منهج الاستدلال أو في تقرير العقيدة وبيانها أو في الدفاع أو في المواقف، أو في الحكم على المخالفين أو في الولاء والبراء ونحو ذلك، تميزت له كثير من الأشياء التي تخفى على أكثر الناس، سواء فيما يصدر عن أهل البدع قديماً أو في الحديث، فمن ألم بمناهج أهل الأهواء وفرق بينها وبين المنهج الحق الذي عليه أهل السنة والجماعة، وعرف وجوه التفريق استطاع أن يميز بإذن الله، وأن يملك الميزان الدقيق الذي يميز به بين البدعة والسنة فيما يتعلق بعقائد الناس وأقوالهم وأحوالهم وعوائدهم وممارساتهم ومواقفهم، لاسيما مع كثرة التلبيس في عصرنا هذا من قبل كثير من أصحاب الاتجاهات والحزبيات والشعارات؛ فإن تلبيسهم على الناس كثر، وكثير من طلاب العلم احتار؛ لأنه ما أدرك أو ما عرف الموازين الدقيقة التي قررها السلف بين البدعة والسنة وبين الحق والهدى وبين الحق والباطل وبين الهدى والهوى، فالشيخ هنا سيشير إلى شيء من الفروق في المناهج بين أهل البدع وبين أهل السنة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [والفرق بين أهل السنة وبين أهل البدع أنهم إذا سمعوا خبراً في صفات الرب ردوه أصلاً ولم يقبلوه أو في الظاهر ثم تأولوه بتأويل يقصدون به رفع الخبر من أصله]. في الحقيقة أن الفراغ هنا لا ندري ما هو، لاسيما أنه ربما يكون طويلاً أو كلمة غير واضحة، فمن الصعب أن نتقول على الشيخ، لكن الظاهر من خلال السياق أنه يقصد عبارة (أنهم خضعوا لمفهوم الظاهر) بمعنى: أنهم اعتقدوا الظاهر المبني على قياس الخالق بالمخلوق، وهذه مشكلة أهل الأهواء، ويتبين هذا من خلال تقعيد القاعدة. قال أبو عثمان: (الفرق بين أهل السنة وبين البدعة أنهم -أي: أهل البدع- إذا سمعوا خبراً في صفات الرب ردوه أصلاً)، هذا منهج الجهمية والمعتزلة إذا وردهم النص من الكتاب والسنة في الصفات التي تنافي أصولهم ردوا النص، فالجهمية لا تتورع عن رد النصوص، وكذلك المعتزلة لا تتورع عن رد الأحاديث، وقد لا ترد القرآن، ولكن تتأول القرآن. وهنا يشير إلى مذهب الفئة الثانية، وهم أهل الكلام والكثير من المعتزلة، والساقط هنا يشير إلى أنهم أخضعوا الفهم الظاهر للنصوص لأوهامهم وعقولهم، والله أعلم ما هو الساقط، لكن الذي أراده هنا وفسره أن أهل الأهواء إذا ما ردوا النصوص فإنهم اعتقدوا لها ظاهراً بحسب ما علموه من واقع المخلوقات، فإذا وردهم الخبر في إثبات اليد لله عز وجل اعتقدوا الظاهر وهو التشبيه، ثم أرادوا أن ينفروا مما اعتقدوه فوقعوا في التأويل، فهو يريد أن يقرر الأصل الثاني لأهل البدع، فالأصل الأول الرد، والأصل الثاني هو التأويل، والمنهج الأول رد النصوص، والمنهج الثاني هو التأويل، فالتأويل هو منهج الأشاعرة والماتريدية ومن سلك سبيلهم. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ثم تأولوه بتأويل يقصدون به رفع الخبر من أصله، وإبطال عقولهم وآراؤهم فيه، ويعلمون حقاً يقيناً أن ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى ما قاله]. يبدو لي أن المعنى الذي يريده الشيخ من كلمة (وإبطال) هو إبطال الحقيقة الواردة في النص، أي: حقيقة الصفة الواردة في النص، وتقديم ما تتوهمه عقولهم وآراؤهم فيه، أو تقديم أحكام عقولهم وآرائهم في هذا، والعقول والآراء لا تحكم بالغيب، لكن حكموها فلما حكموها وقعوا في الضلالة، فأشار هنا إلى أنهم حكموا عقولهم، هذا ظاهر مراده، فتكون هذه قاعدة ثالثة من مناهج أهل الأهواء: المنهج الأول: رد النصوص. والمنهج الثاني: تأويل النصوص. والمنهج الثالث: إبطال دلالات النصوص وتحكيم العقول فيها. والعقول مسكينة؛ فعقل الإنسان ما أدرك نفسه، فأي عاقل من العقلاء مهما أوتي من الذكاء وقوة العقل لو قيل له: صف لنا عقلك، وكيف يعمل عقلك؟ لما استطاع، لكن هم حملوا العقول ما لا تطيق وستخاصمهم يوم القيامة. ويحتمل أن العبارة الساقطة صرفها إلى منهج السلف، وكأنه يريد أن يذكر أن السلف لا يحكمون عقولهم، هذا وارد، بمعنى: أنه انتهى من تقرير أقوال أهل البدع وذكر أنهم يحكمون عقولهم، وأن السلف لا يحكمون عقولهم؛ لأن السقط طويل فيما يظهر من كلام المحقق، فإنه قال: إنه بياض مقداره صفحة. ثم أشار إلى منهج السلف بأنهم لا يحكمون العقل ولا يدخلون عقولهم، فعلى هذا نقول: إن الشيخ بدأ في تقرير منهج السلف فيما بعد في قوله:

قصة الجعد بن درهم مع وهب بن منبه

قصة الجعد بن درهم مع وهب بن منبه قال المصنف رحمه الله تعالى: [وروى يونس بن عبد الصمد بن معقل عن أبيه أن الجعد بن درهم قدم على وهب بن منبه يسأله عن صفات الله تعالى، فقال: ويلك يا جعد! بعض المسألة؛ إني لأظنك من الهالكين، يا جعد! لو لم يخبرنا الله في كتابه أن له يداً وعيناً ووجهاً لما قلنا ذلك، فاتق الله! ثم لم يلبث جعد أن قتل وصلب]. وهب بن منبه رحمه الله تفرس في الجعد أنه صاحب هوى، وأن هواه سيلقيه إلى مثل هذه الضلالة، وهذا النص عن وهب نقل كثيراً، وهو كما تعلمون من الآثار المشهورة، وقد قرر فيه عقيدة أو منهج السلف ومنهج المخالفين في وقت واحد، فأما منهج السلف فهو إثبات ما أثبته الله لنفسه وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم دون تردد ودون تأويل ولا تحريف ولا تمثيل، لذلك قال: (ويلك يا جعد! بعض المسألة؛ إني لأظنك من الهالكين، لو لم يخبرنا الله عز وجل في كتابه أن له يداً وعيناً ووجهاً لما قلنا ذلك)، فهو بهذا يقرر منهجاً من مناهج السلف، وهو إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم يقرر بالعكس منهجاً من مناهج أهل الأهواء وهو عدم اليقين فيما أثبته الله تعالى لنفسه وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، وعدم اليقين يتمثل في هذه الحادثة وفي هذا الأثر أولاً بالسؤال عن صفة الله، فلا يسأل عن صفات الله وهو يعلم أنها غيب وهو يعلم أن الله عز وجل لا تحيط به الأهواء ولا تدركه العقول لا يسأل عنها إلا مشكك أو مبطل أو صاحب هوى أو مريض القلب، وإلا فلمَ يسأل، فلذلك قال له وهب: (ويلك يا جعد! بعض المسألة)، يعني: اقصر عن السؤال، ولا تسأل عن مثل هذا السؤال. ثم قال: (إني لأظنك من الهالكين)؛ لأنه يعرف أن من مناهج أهل الأهواء إثارة مثل هذه الأسئلة؛ فإن كان تشكيكاً فهو مرض، والمرض إذا لم يوفق صاحبه لعلاجه تمادى به حتى يصبح من الأمراض المستعصية التي تؤدي إلى الهوى، وإذا كان على سبيل التعنت وسبيل الإحراج فهو كذلك هوى، وقد يكون على سبيل التلقي عن الآخرين وهو الغالب، بمعنى: أن الجعد تلقى مثل هذه الإشكالات عن فلاسفة الصابئة وعن فلاسفة اليهود وفلاسفة النصارى وعن الفرق والملل الذين كان يعايشهم، وقد ذكر أهل العلم في سيرته أنه طاف بعض المناطق التي يوجد فيها فلاسفة، ويوجد فيها بعض الفئات من أهل الكتاب الذين عندهم إشهار لهذه البدع فيما بينهم، فعايشهم وخالطهم فوجد عندهم هذا الشك؛ فلذلك سأل هذا السؤال، فتفرس فيه وهب بن منبه أنه من الهالكين، بمعنى: أنه سلك طريق الهالكين، وأخذ عنهم، ولذلك وقع في قلبه البدعة فأثار السؤال من باب الإشهار لهذه البدعة، فربما ما استطاع أن يعطل أو يؤول لكنه سأل، وهذه طريقة أهل البدع في بدايتهم يثيرون الإشكالات والأسئلة التي تقرر مذاهبهم؛ لأنهم لا يجرءون على تقريرها من أول وهلة، ومع ذلك بعد وفاة وهب بن منبه -بل وربما قبلها- ظهرت حقيقة الجعد التي تفرسها أو توسمها وهب حيث أعلن التعطيل، ثم لما أنكر بعض صفات الله عز وجل وبعض أفعاله مثل الخلة والتكليم، لما ظهر ذلك منه تصدى له السلف وناظروه وأقاموا عليه الحجة، وأمروه أن يكف عن إفساد العوام وطلاب العلم، فلم يكف، فناظروه مرة أخرى وثالثة ورابعة؛ ناظروه بالقرآن والسنة والحجة العقلية فلم يرتدع، فرأوا ضرورة قتله؛ لكف فساده عن الأمة، فقتل. وقصته مع خالد بن عبد الله القسري معروفة كما سيذكر المؤلف رحمه الله بعد قليل. المهم أن في هذا تقريراً لمنهج السلف في أصل إثبات الصفات، وكشفاً لمنهج المخالفين في الصفات الذي يبدأ بالتشكيك وإثارة الإشكالات والتعطيل والإلحاد في أسماء الله وصفاته. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وخطب خالد بن عبد الله القسري يوم الأضحى بالبصرة فقال في آخر خطبته: انصرفوا إلى منازلكم وضحوا، بارك الله لكم في ضحاياكم؛ فإني مضحٍ اليوم بـ الجعد بن درهم؛ فإنه يقول: لم يتخذ الله إبراهيم خليلاً ولم يكلم موسى تكليماً سبحانه وتعالى عما يقوله الجعد علواً كبيراً، ونزل عن المنبر فذبحه بيده، وأمر بصلبه].

اعتقاد السلف أصحاب الحديث في نزول الرب سبحانه

اعتقاد السلف أصحاب الحديث في نزول الرب سبحانه أكمل المصنف رحمه الله الكلام على صفة الاستواء، وقرر بعض الأصول المنهجية التي خالف فيها أهل الأهواء أهل السنة، ثم عاد إلى تقرير الصفات تفصيلاً، ومن الصفات التي سيقررها صفة نزول الرب سبحانه وتعالى، وهذه الصفة ثبتت بأحاديث صحاح لا يمكن دفعها، وهي من الصفات الثابتة لله عز وجل على ما يليق بجلاله دون تحكم في كيفيتها أو في لوازمها التي ربما توهم التشبيه، فالكيفية واللوازم التي توهم التشبيه يجب على المسلم ألا يعتقدها، وألا يقف عندها. وهنا أنبه على مسألة نبهت عليها كثيراً وهي: أن كل صفة فعلية أحياناً قد يشتبه أمرها على بعض الناس خاصة غير المختصين، فيحسن الإشارة إلى أن أي سامع لخطاب الله عز وجل وخطاب رسوله صلى الله عليه وسلم ولخبر الله وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بأمور الغيب، وعلى رأسها أسماء الله وصفاته وأفعاله، إذا سمع شيئاً من ذلك مثل النزول قد يتوهم في خاطره أشياء، ويتخيل خيالات لا ينفك العاقل عن هذه الخيالات، فما الموقف من هذا الخيال؟ أقول: إن الخيال لا يستطيع الإنسان أن ينفك منه؛ لأن الخيالات هي الأمور التي تقرب معنى الحقائق، لكن يجب أن يعتقد السامع أنما يتخيله في حقيقة النزول ليس هو ما عليه الله عز وجل؛ لأن الله سبحانه أحد صمد، ليس كمثله شيء. فإذاً: ما تتوهمه وتتخيله عندما تسمع الصفات فاعلم أنه قطعاً ليس حقيقة الصفة، سواء كانت صفة ذاتية أو صفة فعلية، والصفة الذاتية مثل: اليد والعين، والصفة الفعلية مثل: النزول والمجيء، فهي صفات تثبت لله عز وجل على ما يليق بجلاله مع الجزم بأن هذا الفعل ليس كفعل المخلوقين، فالنزول ليس كنزول المخلوقين، ولا تلزم فيه اللوازم المعهودة في الأشياء المخلوقة. وذلك لما نسي أهل الأهواء هذه القاعدة، قاعدة: أن ما نتصوره ونتوهمه ليس هو حقيقة في صفة الرب -أي: ليس هو كيفية صفة الرب- وقعوا في التشبيه، يعني: وضعوا للنزول كيفيات في أذهانهم فلما وضعوها اعتقدوها، فلما اعتقدوها عرفوا أن اعتقادها باطل، فأرادوا أن يفروا منها ففروا إلى أمر أشنع وهو التعطيل والتأويل، مع أن القاعدة: أن أسماء الله وصفاته وأفعاله حقيقة على ما يليق بجلال الله سبحانه، والله ما خاطبنا بها ولا خاطبنا بها رسوله صلى الله عليه وسلم إلا لأنها حقائق، لكنها حقائق تختلف عن حقائق ما نعهده في المخلوقات. إذاً: فالنزول يثبت لله عز وجل ثبوتاً قطعياً حقيقة على ما يليق بجلال الله سبحانه، مع نفي ما نتوهمه من التشبيه أو التكييف أو الهيئة أو الشكل أو اللوازم، إلا اللوازم التي تعتبر حقاً؛ لأن اللوازم نوعان: لوازم باطلة، وهي الكيفيات، ولوازم حق، وهي التي تستلزمها الصفات، فمن اللوازم الحق في مثل صفة النزول أن نعلم أن من لوازم نزول الله عز وجل: نزول رحمته؛ لأن الله عز وجل ينزل رحمة بالعباد، ولذلك يأمرهم بأن يدعوه، لكن ليس النزول هو الرحمة، إنما الرحمة لازم من لوازم النزل، وكما نقول في اليد: من لوازم إثبات اليد: الكرم لله عز وجل، ومن لوازم إثبات اليد: القوة، ومن لوازم إثبات اليد: القدرة، ومن لوازم إثبات اليد: الخلق، فهذه لوازم حق وكمال لله عز وجل، لكن لا نعدل بها عن أصل الصفة. وكذلك النزول؛ نعلم أنه بنزول الله عز وجل تثبت رحمته ويثبت أمره وأيضاً قد تنزل ملائكته إلى آخره، هذه أمور تتعلق بلوازم الصفة، لكن لا نكتفي باللوازم عن إثبات الصفة، ولا يقال في الصفة: إنها تقصر على لازمها، بل هذا هو منهج أهل الأهواء. إذاً: امتاز منهج السلف أنهم يثبتون الصفات بما في ذلك صفة النزول وكذلك الاستواء حقيقة لله عز وجل على ما يليق بجلاله مع إثبات اللوازم التي تقتضي الكمال لله سبحانه في هذه الصفات، أما ما نتوهمه ونتخيله فيجب ألا نعتقده، والانفكاك عن الخيال صعب؛ لأن كثيراً من ألفاظ الصفات لا يستطيع المسلم أن تثبت في ذهنه معانيها إلا بتخيله، لكن يجب ألا يعتقد الخيال، وأن يعرف أن الخيال أوهام في نفسه، وهو أمور وأمثال تقرب للحقيقة، والله أعلم.

معنى قول السلف في الصفات: (أمروها كما جاءت)

معنى قول السلف في الصفات: (أمروها كما جاءت) قال المصنف رحمه الله تعالى: [ويثبت أصحاب الحديث نزول الرب سبحانه وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا من غير تشبيه له بنزول المخلوقين، ولا تمثيل ولا تكييف، بل يثبتون ما أثبته رسول الله صلى الله عليه وسلم وينتهون فيه إليه ويمرون الخبر الصحيح الوارد بذكره على ظاهره، ويكلون علمه إلى الله]. وهذه قاعدة، لكنها قاعدة تحتاج إلى تفسير، ومن قواعد السلف ومناهجهم: أنهم يمرون الخبر كما جاء، والخبر هو ما جاء في القرآن وما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأول هذه الأخبار وأعظمها وأجلها وأكملها الأخبار عن الله عز وجل، والأخبار عن ذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله. فالخبر الصحيح إذا ثبت عن الله تعالى يذكر على ظاهره، ومعنى يذكر على ظاهره بأن ظاهره حقيقة لا أن ظاهره ما نتوهمه من التشبيه، ولذلك خلط كثير من الناس في تقرير هذه القاعدة، ووقع عندهم شيء من الخلط، وبعضهم نفاها عن السلف، وبعضهم أثبتها من باب التعيير للسلف أنهم يقصدون بالظاهر التشبيه، فأهل الكلام نقدوا قول السلف في هذه القاعدة، وقالوا: إن عقيدة السلف إثبات الظاهر، ويقصدون بإثبات الظاهر التشبيه والتجسيم، وهذا خطأ، فالسلف حينما أثبتوا ظاهر ألفاظ النصوص يقصدون الحقيقة لا يقصدون الظاهر الذي هو الكيفية أو التشبيه، وكذلك العكس: هناك من تردد في إثبات هذه القاعدة عن السلف؛ ظناً منه أنه يلزم من إثباته إثبات التشبيه، مع أن الصحيح أن السلف قالوا بها، وقالوا: إن ألفاظ نصوص الصفات تثبت على ظاهرها، ويقصدون بالظاهر الحقيقة اللائقة بالله عز وجل، أي: أن ألفاظ أسماء الله وصفاته الواردة في النصوص هي حق على حقيقتها، وهذا هو ظاهرها، أما الظاهر الذي هو التكييف فلا شك أنه منفي بالنصوص القاطعة، مثل قوله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11].

معنى قول السلف: (يكلون علمه إلى الله)

معنى قول السلف: (يكلون علمه إلى الله) هنا قاعدة جديدة وهي قوله: (يكلون علمه إلى الله)، وهذه أيضاً التبست على بعض الناس، وظن أنهم يكلون حقيقته، وهذا خطأ، وهو قول المتكلمين الذين زعموا أن قول السلف: إننا نكل علمه إلى الله، معناه: أننا نكل الحقيقة إلى الله، وليس كذلك، بل الحقيقة ثابتة؛ لأن الله ما كلمنا إلا بالحق وكلامه حق وكلام رسوله حق. فليس المقصود أن السلف يكلون علمه إلى الله يعني: يكلون حقيقته، وإنما المقصود بأنهم يكلون علم الكيفية إلى الله، فالتكييف هذا هو الذي يوكل إلى الله؛ لأنه ليس بمقدور العقول أن تعرفه. فإذاً: قوله: (ويكلون علمه إلى الله) ينصرف إلى معنيين: أحدهما الحق، والثاني: باطل، أما أن يكلوا علمه، يعني: كيفيته، فنعم، هذا هو الحق، فالسلف يكلون علم ألفاظ الصفات، أي: كيفيتها إلى الله عز وجل، والمعنى الثاني باطل وهو ما يقوله أهل الأهواء بأن معنى قوله: (يكلون علمه) أي: يكلون حقيقته فلا يثبتون الحقيقة إلا بتأويل أو تعطيل، وهذا باطل.

عقيدة السلف أصحاب الحديث في صفة المجيء والإتيان

عقيدة السلف أصحاب الحديث في صفة المجيء والإتيان قال المصنف رحمه الله تعالى: [وكذلك يثبتون ما أنزله الله عز اسمه في كتابه من ذكر المجيء والإتيان المذكورين في قوله عز وجل: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} [البقرة:210] وقوله عز اسمه: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22]]. هذا استمرار لتقرير الصفات الفعلية، فبعدما ذكر النزول ذكر المجيء والإتيان، والمجيء والإتيان هما بمعنى واحد، وردت نصوصهما ومعانيها مترادفة، وكذلك يقال في المجيء ما يقال في الإتيان؛ فإن الله عز وجل يجيء يوم القيامة كما يليق بجلاله، ومجيئه ليس محكوماً بنوع مجيء المخلوقين أو تحرك المخلوقات، فالله عز وجل أعظم وأجل من أن يكون مجيئه كمجيء المخلوقات، بل هو حقيقة لله عز وجل على ما يليق بجلاله وتثبت لوازمه، فمن لوازم مجيء الله مجيء رحمته، ومن لوازم مجيء الله يوم القيامة أنه يفصل بين عباده، ومن لوازم المجيء أنه يجيء ومعه الملائكة كما ورد في نصوص أخرى، وكل ذلك يثبت على حقيقته على ما يليق بجلال الله من غير تحكم بالكيفية ومن غير تعطيل ولا تأويل، فلا يقال في المجيء: مجيء رحمته أو مجيء أمره أو نحو ذلك مما عدل به المتأولون أو المؤولة عن الحق، إلى أمور أحياناً تعتبر من باب اللوازم وأحياناً من تخيلاتهم وتخرصاتهم على كلام الله وعلى كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، فقالوا على الله بغير علم. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقرأت في رسالة الشيخ: أبي بكر الإسماعيلي إلى أهل جيلان: أن الله سبحانه ينزل إلى السماء الدنيا على ما صح به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال عز وجل: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة:210]، وقال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22]، ونؤمن بذلك كله على ما جاء بلا كيف، فلو شاء الله سبحانه أن يبين لنا كيفية ذلك فعل فانتهينا إلى ما أحكمه، وكففنا عن الذي يتشابه، إن كنا قد أمرنا به في قوله عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [آل عمران:7]]. هنا أيضاً قرر قواعد جديدة من قواعد السلف ومناهج المخالفين، فأولاً: هنا في مسألة الإشارة إلى النزول قال: (ونؤمن بذلك كله على ما جاء بلا كيف) يعني: كما جاء عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا فيه إشارة إلى أن السلف يلتزمون ألفاظ الشرع في أسماء الله وصفاته وأفعاله وجميع الأمور الغيبية، ويلتزمون ألفاظ الشرع كما ساقه الله عز وجل وذكره وكما نطق به الرسول صلى الله عليه وسلم وذكره، وهذه قاعدة عظيمة سلمت بها مناهج السلف وعقائدهم، وسلموا لله عز وجل وأذعنوا ولم يقعوا فيما وقع فيه غيرهم من التخرص على الله، فآمنوا بما جاء عن الله كما جاء بنصه. ولذلك تجدون السلف في تقرير العقائد يلتزمون نصوص الشرع، لكن أحياناً في الشرح والبيان قد يأتون بالمرادفات، وقد يأتون ببعض الألفاظ التي تبين، وما استجد عند الناس من مصطلحات هذا من باب التوسع في الإخبار عند الشرح والبيان، أما في التقرير فإنهم يلتزمون ألفاظ الشرع، وعكس ذلك أهل الأهواء، فأهل الأهواء لا يلتزمون ألفاظ الشرع، بل العجيب أن أهل الأهواء من مناهجهم أنهم ينكرون ما ثبت في الكتاب والسنة من ألفاظ الشرع في أسماء الله وصفاته وتقرير العقيدة، ينكرونه ويتحفظون عليه ويترددون في إثباته بالتعطيل والتأويل، في حين أنهم يجسرون ويجرءون على إثبات ما لم يثبته الله لنفسه، بل أغلب ما أثبتوه لله مما لم يثبت في الكتاب والسنة، وقالوا: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه ولا مباين ولا في جهة، وزعموا أنهم ينزهون الله وهم تكلموا على الله بغير علم وقالوا بأشياء لم تثبت في الكتاب والسنة، وإنما هي من أوهامهم وخيالاتهم، وجحدوا ما ثبت في الكتاب والسنة، وهذه عقوبة من الله عز وجل، فوكلهم الله إلى عقولهم فردتهم عقولهم إلى ما لم يثبت، وسبق لنا الإشارة إلى مذهب الماتريدية كأنموذج؛ فالماتريدية أثبتوا لله عز وجل سبع صفات وأولوا الباقي، ثم مع هذا أثبتوا صفة ثامنة لم ترد لا في الكتاب ولا في السنة وليس لها وجه من العقل، يعني: ما ثبت عن الله أنكروه وأولوه ولم يكتفوا بذلك، بل جاءوا بصفات لم تثبت في الكتاب والسنة. فإذاً: أهل الأهواء خالفوا هذه القاعدة تماماً، فمن منهج السلف تقرير العقيدة بألفاظ الشرع خاصة في أسماء الله وصفاته وأفعاله، والسل

الأسئلة

الأسئلة

مدى صحة ما اتهم به خالد القسري من الزندقة

مدى صحة ما اتهم به خالد القسري من الزندقة Q ما مدى صحة ما اتهم به خالد بن عبد الله القسري من الزندقة؟ A أولاً: قبل إجابتي على هذا السؤال أحب أن أشير إلى مسألة تتعلق بالتاريخ الذي كتب: الأمر الأول: التاريخ الذي سطر لا أصل له، ليس فيه أسانيد. والأمر الثاني: أن الذين كتبوا التاريخ أغلبهم من أهل الأهواء. والأمر الثالث: الذين كتبوا التاريخ من أهل السنة كـ ابن جرير الطبري وابن كثير نقلوا عن الإخباريين من أهل الأهواء وتركوا العهدة على الرواة. إذاً: فروايات التاريخ تالفة إلا ما جاء بإسناد صحيح، وهذا قليل، وما جاء بإسناد صحيح من روايات التاريخ فيدخل في باب الآثار، وما عدا ذلك فالتاريخ لا أصل له، ومن ترهات المؤرخين ومن مجازفات الإخباريين وكذبهم أنهم قالوا في بعض الناس قولاً لا يصح، وقد بالغوا فيما حكوه عن خالد بن عبد الله القسري مبالغة شديدة؛ لأنه ضدهم، فأغلب الإخباريين الذين كتبوا التاريخ هم من النوع الذين قتل خالد بن عبد الله أسلافهم وقتل أجناسهم، وما داموا لا يتقون الله ولا يخافونه وهم أصحاب أهواء وشيوخهم هم الذين قتلهم خالد بن عبد الله القسري من الطبيعي أن يكتبوا خلافه أو ضده. ثانياً: خالد بن عبد الله القسري نسب إليه بعض الظلم وهذا -والله أعلم- أنه كان فيه شيء من القسوة والظلم، لكن لا يعني وجود القسوة والظلم فيه أنه ليس بصاحب عقيدة أو صاحب قوة في الحق، بل كثير من الأقوياء في الحق يكون عندهم شيء من الظلم، وكثير من الظلمة يكون عندهم شيء من القوة في الحق. ولذلك أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى مثل هذا بقوله: (إن الله لينصر هذا الدين بالرجل الفاجر)، لاسيما صاحب السلطان والسيف، وصاحب السلطان والسيف أحياناً قد يعمل ما لا يدركه الناس أو يجرؤ على ما لا يجرؤ عليه غيره، وقد تأخذه الحمية ويأخذه مقامه إلى تجاوز الحد في الأمر الشرعي، وقد قتل زنادقة كثيرين حتى سمي قصاب الزنادقة، والسلف مدحوه في ذلك، والسلف لا يتفقون على أمر فيه نظر، فهم مدحوه بأنه قصاب الزنادقة. فأقول: إن الذين قتلهم خالد بن عبد الله القسري كان قتلهم كلهم صادراً عن رأي العلماء وعن أمرهم بما فيهم الجعد بن درهم صاحب هذه القصة، وقد قتله خالد بن عبد الله القسري استجابة لأمر العلماء الذين رأوا ضرورة قتله؛ لأنه مفسد في الأرض. وقصة القسري مع الجعد صحيحة مستفيضة.

[6]

شرح عقيدة السلف أصحاب الحديث [6] نزول الرب سبحانه وتعالى إلى السماء الدنيا من أفعاله سبحانه، وهو من أفعال الكمال، وعقيدة السلف أهل الحديث إثبات صفة النزول وغيرها إثباتاً يليق بجلاله سبحانه، من غير تحريف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تأويل، فينبغي على المسلم أن يلتزم منهج السلف في العقيدة وغيرها؛ حتى يسلم من الوقوع فيما وقع فيه أهل البدع.

موقف السلف أصحاب الحديث ممن سأل عن كيفية صفات الله عز وجل من النزول وغيره

موقف السلف أصحاب الحديث ممن سأل عن كيفية صفات الله عز وجل من النزول وغيره الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. قال المصنف رحمه الله تعالى: [أخبرنا أبو بكر بن زكريا الشيباني سمعت: أبا حامد بن الشرقي يقول: سمعت أحمد السلمي وأبا داود الخفاف يقولان: سمعنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي يقول: قال لي الأمير عبد الله بن طاهر: يا أبا يعقوب هذا الحديث الذي ترويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا). كيف ينزل؟ قال: قلت: أعز الله الأمير، لا يقال لأمر الرب: كيف؟ إنما ينزل بلا كيف. حدثنا أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم العدل حدثنا محبوب بن عبد الرحمن القاضي حدثني جدي أبو بكر محمد بن أحمد بن محبوب حدثنا أحمد بن حمويه حدثنا أبو عبد الرحمن العباسي حدثنا محمد بن سلام قال: سألت عبد الله بن المبارك عن نزول ليلة النصف من شعبان، فقال عبد الله: يا ضعيف! ليلة النصف؟! في كل ليلة ينزل، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن كيف ينزل؟ أليس يخلو ذلك المكان منه؟ فقال عبد الله: ينزل كيف شاء. وفي رواية أخرى لهذه الحكاية: أن عبد الله بن المبارك قال للرجل: إذا جاءك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخضع له]. في هذا وأمثاله أذكر بعض الوقفات والعبر أوجزها بما يأتي: أولاً: السلف رحمهم الله قبل ظهور الجهمية والمعتزلة لم يكن أحد منهم يسأل عن مثل هذه الأسئلة إطلاقاً لا من عامة الناس ولا من طلاب العلم، ولا حتى من أهل الأهواء الذين قد يكون في قلوبهم مرض لكنهم لا يجرءون، ما كان أحد يجرؤ أن يسأل عن شيء في صفات الله عز وجل إطلاقاً في القرن الأول كله، وقد يقال: إن هناك بعض نوازع الأسئلة كانت في القرن الأول لكنها ليست مذاهب، وإنما كانت أسئلة ساذجة، وكانت فيها نوع من الحذر والتحفظ، كما أنها أيضاً لم تكن ذات تأثير على الناس، بمعنى: أنه أثر عن بعض الخوارج أنهم كانوا يسألون أسئلة غير لائقة بالله عز وجل، لكن الناس كانوا يعرفون أن ذلك راجع إلى فساد مذهبهم، ولم يكن هذا يروج عند الناس ولا يسأله طالب علم ولا حتى عامي على الفطرة، ما يسأله إلا إنسان بلي ببدعة معينة كبدع الخوارج، والخوارج أهل خصام وجدل يخاصمون حتى في الله عز وجل. فأقول: لم يكن في القرن الأول إلا مثل هذه الومضات البسيطة، ولم تكن هناك مذاهب ولا مناهج، أما في القرن الثاني فصارت أسئلة عن هذه الأمور، وإن كان العلماء قاوموها بشدة، فأئمة السلف: الإمام مالك وعبد الله بن المبارك وغيرهم كانوا يقامونها، حتى الإمام أبو حنيفة من الأوائل الذين ظهرت على وقتهم هذه الأسئلة كانوا يجابهون أهلها بقوة وعنف، لكن ومع ذلك ظهرت على أساس أنها مناهج لأهل الأهواء، فكانوا يسألون عن أمور الغيب عموماً، وعن بعض صفات الله عز وجل على وجه الخصوص، وهذه السمة سمة خطيرة في الناس إذا وجدت فهي تدل على ضعف الإيمان، وعلى تمكن البدعة وعلى فساد المناهج في الدين. ولذلك ينبغي أن يعوّد الناس وطلاب العلم خاصة على تعظيم الله عز وجل وتوقيره بعدم إثارة الأسئلة، إلا في الحالات النادرة التي لا يجد الإنسان فيها محيصاً من السؤال، كأن يتردد الأمر ويحيك في نفسه ويخشى على نفسه أن يكون ذلك نوعاً من التفكير أو الوسواس الذي يسيطر عليه، فإذا وصل الأمر إلى هذا الحد فليسأل أهل العلم بسؤال لا يعلن ويكون بأدب وفيه تعظيم لله عز وجل وإجلال. كذلك مما ينبغي أن يستفاد من مثل هذا الأثر أنه ما كان ينبغي لطلاب العلم أن يجهلوا مثل هذه الأمور، وهذا عكس ما يفهمه بعض الناس، فبعض الناس قد يقول: إن الخوض في مثل هذه المسائل والإكثار منها لا ينبغي، وأقول: لا ينبغي عند عامة الناس، لكن طلاب العلم المتخصصين في دروس العقيدة ليس عليهم حرج أن يفصلوا ويخوضوا في هذه الأمور؛ لأنها أمور قالها الناس، والأمور التي قالها الناس لابد من الكلام فيها بوجه الحق لحماية من لم يبتل بها أولاً، وللرد على من ابتلي بها ثانياً، حتى وإن كان التعرض لمثل هذه الأمور قد يكون قليلاً، مع أنه ليس بقليل. وطلاب العلم يتعرضون الآن لزخم عنيف من الأفكار التي تتعلق بتأويل صفات الله عز وجل، وفي الآونة الأخيرة ظهرت كتب وانتشرت مقالات، وبدأ أصحاب التأويل يجرءون على الحديث فيها بيننا، فلابد أن نحصن طلاب العلم بخاصة في هذه الأمور، وأيضاً بالأخص الذين يدرسون دروس العقيدة فليس عليهم حرج أن يدرسوا مثل هذه الأمور، وإن كان فيها أحياناً افتراضات قد لا تليق، أو أمور يكون فيها شيء من الحرج مثل السؤال عن النزول. النقطة الأخيرة: أنه ينبغي أن نعوّد أنفسنا ونعوّد غيرنا ممن لنا عليهم ولاية معنى تعظيم الله عز

ذكر أدلة إثبات صفة النزول لله عز وجل إلى السماء الدنيا

ذكر أدلة إثبات صفة النزول لله عز وجل إلى السماء الدنيا قال المصنف رحمه الله تعالى: [وخبر نزول الرب كل ليلة إلى سماء الدنيا خبر متفق على صحته مخرج في الصحيحين من طريق مالك بن أنس عن الزهري عن الأغر وأبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنهم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ينزل ربنا تبارك وتعالى في كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ ومن يسألني فأعطيه؟ ومن يستغفرني فأغفر له؟). ولهذا الحديث طرق إلى أبي هريرة]. فيما يتعلق بمسألة النزول أحب أن أنبه على أمرين: الأمر الأول: ما يتعلق بوقت النزول، فقد وردت نصوص كثيرة ذكرت أو تفاوتت في وقت النزول، من هذه النصوص ما يشير إلى أن وقت النزول حين يمضي ثلث الليل. ومنها: ما يشير إلى أن وقت النزول من نصف الليل. ومنها: ما يشير إلى أن وقت النزول الثلث الأوسط الذي يبدأ من النصف حتى يبقى سدس الليل. ومنها: ما يشير إلى أن النزول إلى الثلث الأخير إلى طلوع الفجر، وهذه الأدلة ليس بينها تعارض، فهذا يدل على تنوع نزول الرب عز وجل، وتنوع النزول بحسب والله أعلم أقدار الليالي والمناسبات الفاضلة وغيرها، وقد يكون النزول أحياناً يشمل الليل كله، وقد يكون يشمل نصف الليل، وقد يشمل شيئاً من النهار، كما ورد في نزول الرب عز وجل عشية عرفة بين النهار والليل، وقد ورد أيضاً أن الله عز وجل ينزل مطلقاً في يوم عرفة. فالمهم أن هذه النصوص ليس بينها تعارض، إنما هي دلالة على أن نزول الرب عز وجل يتفاوت بحسب الأحوال، وأن ذلك راجع إلى مشيئته سبحانه، فلا تعارض بين هذه النصوص. الأمر الثاني: أن النزول من أفعال الرب تبارك وتعالى، وهو من أفعال الكمال، ويجب على المسلم أن يضبط نفسه سواء في هذه الصفة أو في غيرها، لكن نحن نتكلم عن صفة النزول، فعليه أن يضبط نفسه بألا يتوهم للنزول أوهاماً ولوازم، وسبق أن أشرت إلى أن المسلم لابد أن يتصور ويتخيل خيالات كلما ترد إليه ألفاظ الشرع بما فيها ألفاظ النزول، لكن هذه الخيالات لا تعدو مخ الإنسان الضعيف المحدود، وليست هي الحقيقة عن الله عز وجل؛ لأن حقيقة نزول الرب سبحانه لا يمكن أن تصل إليها العقول ولا تدركها الأوهام، ولا يمكن أن تعرف بحدود، ولا يمكن أن تشبه بأي نوع من الأنواع المعهودة عند الناس في عالم الشهادة، ولا تقاس بالمقاييس العلمية. فإذاً: لابد أن نعتقد النزول لله عز وجل على ما يليق بجلاله، وأن ذلك كمال، وأنه من أفعاله سبحانه التي تليق به، وما يتصوره الإنسان من الأوهام والتصورات والخيالات فهو منفي عن الله قطعاً؛ لأن الله عز وجل ليس كمثله شيء، والحديث عن اللوازم لا ينبغي حقيقة، بل أرى أنه من الإثم، فالحديث عن اللوازم مثل الكلام عن الإخلاء والكلام عن الإملاء أو الملء أو نحو ذلك مما أشار إليه بعض السلف في الآثار هذا حكاية ما قاله الناس، ولعل للسلف عذراً، وهو بيان أن هذه الأمور باطلة، كما أن الله عز وجل رد على الذين زعموا أن لله صاحبة وأن لله ولداً، هذه أمور شنيعة يستشنعها الإنسان بفطرته، ومع ذلك ذكرها الله في القرآن؛ لأنها عقائد لقوم موجودين بين الناس ويدعون إليها، فكذلك السلف قد يعذرون في ذكر هذه الأمور؛ لأنها عقائد لبعض الناس، وصاروا يدعون إليها، ومن ذلك الإخلاء وما يترتب عليه أو ما يقال حوله، لكن المسلم ما دام في عافية ولم يسمع من أحد شيئاً وليس ممن يواجه هذه الأمور، الأولى له ألا يتحدث في هذه الأمور ولا يتكلم عنها إلا عند تقرير العلم عند الضرورة.

الأسئلة

الأسئلة

الفرق بين الصفات الذاتية والصفات الفعلية وإمكان الجمع بينهما

الفرق بين الصفات الذاتية والصفات الفعلية وإمكان الجمع بينهما Q ما الفرق بين الصفات الذاتية والصفات الفعلية؟ وهل يمكن الجمع؟ A بعض الصفات تجتمع، والصفات الذاتية: هي الصفات التي تتعلق بذات الباري عز وجل، مثل: اليد، والوجه، والعين، والقدم؛ لأنها متعلقة بالذات، أما الصفات الفعلية: فهي أفعاله سبحانه، مثل: النزول، والمجيء، والضحك، والرضا، والغضب، هذه أفعال، وهي تثبت لله عز وجل على ما يليق بجلاله، وقد يكون من الصفات ما هو فعلي وذاتي كصفة الكلام، فصفة الكلام ذاتية؛ لأن الله متكلم منذ الأزل وقادر على الكلام، والكلام كمال يوصف الله به، وصفة الكلام فعلية؛ لأن الله يتكلم متى شاء، والله سبحانه كلم آدم وكلم موسى وكلم محمداً صلى الله عليه وسلم في المعراج، وتكلم بالقرآن، ويتكلم يوم القيامة وينادي العباد بصوت يسمعه من قرب كما يسمعه من بعد، هذا كلام يعتبر فعلاً من أفعال الله عز وجل، وكلامه أيضاً من حيث الأصل هو من الصفات الذاتية.

حكم وصف المعين بالشرك

حكم وصف المعين بالشرك Q القول بأنه لا يحكم على أحد بالشرك حتى يستفصل عن حاله والقوائم الموجبة لوصفه بالشرك، قد يقال على ذلك: إنه لا يمكن وصف أحد بالشرك، فما الضابط في هذه المسألة؟ A لا نقول: لا يمكن وصف أحد بالشرك، فالمشركون الذين يطوفون بالقبور إذا كانت هذه عادتهم أنهم يطوفون بها تعبداً فالأصل فيهم الشرك، يعني: أن القبورية الذين يرتادون القبور ويطوفون بها هؤلاء مشركون، هذا هو الأصل فيهم، لكن أنا أقصد الإنسان الطارئ، ولذلك أنا فرقت بين الذين يطوفون بالقبور من أهل البيئات الذين وجدت فيهم القبورية وبين غيرهم؛ فهؤلاء وقعوا في البدعة عمداً وقلدوا فيها واتبعوا غيرهم وحكمهم حكم المتبعين فلا فرق بينهم وبين من أسس هذا الشركيات. وقبل كان الناس ليس عندهم وسيلة للسفر السهل والوصول إلى تلك المناطق والانتقال من بيئة إلى بيئة، وإنما كان الناس يرحلون من بلاد إلى بلاد بصعوبة، وكانوا قلة، أما الآن فيذهب إلى تلك البلاد التي فيها مقابر وطواف بالقبور مئات من الناس وآلاف وينتقلون من بيئات نقية طاهرة لا تعرف البدعيات إلى تلك البيئات مباشرة، وقد يكون بعضهم لا يعرف ما الذي يجري، وقد يجهل هذه الأمور، أما الذين الأصل عندهم البدعة والذين استمرءوا هذه البدع وعاشوا بينها فهؤلاء لهم حكم آخر، لكن مع ذلك الحكم المعين يحتاج إلى وضع الضوابط الشرعية. والله أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

[7]

شرح عقيدة السلف أصحاب الحديث [7] من صفات الله تعالى الثابتة له بالأدلة الصحيحة صفة النزول إلى سماء الدنيا، وقد وردت الأدلة بوصف النزول بعدة أحوال، فثبت وصفه بأنه ينزل في الثلث الأول من الليل، وينزل في نصف الليل، وينزل في الثلث الأخير من الليل، وينزل عشية عرفة، فهو سبحانه وتعالى ينزل على أحد هذه الأوجه كما يليق به سبحانه وتعالى.

ذكر بعض أدلة إثبات صفة النزول لله عز وجل إلى السماء الدنيا

ذكر بعض أدلة إثبات صفة النزول لله عز وجل إلى السماء الدنيا الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ولهذا الحديث -أي: حديث النزول- طرق إلى أبي هريرة: رواه الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا مضى نصف الليل أو ثلثاه ينزل الله إلى السماء الدنيا فيقول: هل من سائل فيعطى؟ هل من داعٍ فيستجاب له؟ هل من مستغفر فيغفر له؟ حتى ينفجر الصبح)، وفي رواية سعيد بن مرجانة عن أبي هريرة زيادة في آخره وهي: (ثم يبسط يديه فيقول: من يقرض غير عدوم ولا ظلوم). وفي رواية أبي حازم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينزل إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الأخير فينادي: هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ فلا يبقى شيء فيه الروح إلا علم به، إلا الثقلان: الجن والإنس، قال: وذلك حين تصيح الديوك، وتنهق الحمير، وتنبح الكلاب)، وفي رواية موسى بن عقبة عن إسحاق بن يحيى عن عبادة بن الصامت زيادات حسنة]. جاء في هذا الحديث زيادة: (وذلك حين تصيح الديوك) والحقيقة أن الزيادة هذه فيها غرابة، والمحقق قال: لم أجد تخريجاً له، لاسيما أن في آخر الحديث قال: (وذلك حين) وهذا يظهر أنه إدراج من أحد الرواة والله أعلم، لاسيما أنه فيه ما يعارض النصوص (وذلك حين تصيح الديوك)، والديوك تصيح حين ترى الملائكة خاصة في بعض أوقات الصياح، أما نهيق الحمير فمرتبط برؤية الشيطان، فالنص أو المتن هذا فيه نكارة وغرابة، وأقترح لو أن أحد الإخوان يتولى البحث عن هذا الإدراج لعله يجد فيه زيادة إيضاح في بعض كتب الحديث أو الآثار. وكما قلت: المحقق قال: لم أجد تخريجاً له، لكن مع ذلك مجال البحث واسع. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهي التي أخبرنا بها أبو يعلى حمزة بن عبد العزيز المهلبي قال: أنبانا عبد الله بن محمد الرازي قال: أنبأنا أبو عثمان محمد بن عثمان بن أبي سويد قال: حدثنا عبد الرحمن -يعني: ابن المبارك - قال: حدثنا فضيل بن سليمان عن موسى بن عقبة عن إسحاق بن يحيى عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ينزل الله تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير، فيقول: ألا عبد من عبادي يدعوني فأستجيب له؟ ألا ظالم لنفسه يدعوني فأغفر له؟ ألا مقتر عليه رزقه فيدعوني فأرزقه؟ ألا مظلوم يذكرني فأنصره؟ ألا عانٍ يدعوني فأكفه؟ قال: فيكون كذلك إلى أن يطلع الصبح ويعلو على كرسيه)]. أيضاً: عبارة (ويعلو على كرسيه) فيها غرابة، وتحتاج إلى من يتصدر لبحثها. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وفي رواية أبي الزبير عن جابر من طريق مرزوق أبي بكر الذي خرجه محمد بن إسحاق بن خزيمة مختصرة. ومن طريق أيوب عن أبي الزبير عن جابر الذي خرجه الحسن بن سفيان في مسنده. ومن طريق هشام الدستوائي عن أبي الزبير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن عشية عرفة ينزل الله فيه إلى السماء الدنيا فيباهي بأهل الأرض أهل السماء ويقول: انظروا إلى عبادي شعثاً غبراً ضاحين جاءوا من كل فج عميق؛ يرجون رحمتي ولم يروا عذابي، فلم ير يوم أكثر عتيقاً من النار من يوم عرفة). وروى هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير عن هلال بن أبي ميمونة عن عطاء بن يسار عن رفاعة الجهني حدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مضى ثلث الليل أو شطر الليل أو ثلثاه ينزل الله إلى السماء الدنيا فيقول: لا أسأل عن عبادي غيري، من يستغفرني فأغفر له؟ من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ حتى ينفجر الصبح)]. هذا الحديث من الأحاديث التي جمعت بين ألفاظ الأحاديث الأخرى، وكما قلت: إنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وصف النزول بعدة أحوال، ثبت وصفه بأنه في الثلث الأخير وأنه في الثلث الأول وأنه في نصف الليل، ومن سياق الأحاديث يبدو أن ذلك راجع إلى نوع النزول، وأن نزول الرب تبارك وتعالى أحياناً يحدث على هذا الوجه، أي: من ثلث الليل الأول، وأحياناً يحدث على الوجه الآخر، أي: من نصف الليل، وأحياناً يحدث على الوجه الثالث، وهو: الثلث الأخير من الليل، وأحياناً يحدث عشية، كما في يوم عرفة،

[8]

شرح عقيدة السلف أصحاب الحديث [8] لقد أفاض السلف الصالح في ذكر النصوص الثابتة الدالة على نزول الرب سبحانه وتعالى إلى السماء الدنيا كل ليلة، وبينوا أن ذلك النزول نزول يليق بجلال الله سبحانه، لا يشبه نزول المخلوقين، فيجب على المسلم التسليم والابتعاد عن تحريف النصوص أو ردها، وفي إثبات هذه النصوص ومعرفة معانيها وتفويض كيفيتها فوائد عظيمة؛ كرضا الله عز وجل، واغتنام الأوقات الفاضلة بالتقرب إليه سبحانه وقت تنزله، ودعاؤه وغير ذلك.

من أدلة إثبات صفة النزول لله عز وجل إلى السماء الدنيا والرد على من أولها

من أدلة إثبات صفة النزول لله عز وجل إلى السماء الدنيا والرد على من أولها الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [عن أبي مسلم الأغر قال: أشهد على أبي سعيد وأبي هريرة أنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يمهل حتى إذا كان ثلث الليل هبط إلى هذه السماء، ثم أمر بأبواب السماء ففتحت، فقال: هل من سائل فأعطيه؟ هل من داعٍ فأجيبه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من مضطر أكشف عنه ضره؟ هل من مستغيث أغيثه؟ فلا يزال ذلك مكانه حتى يطلع الفجر في كل ليلة من الدنيا). وعن أبي إسحاق عن الأغر أنه شهد على أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما أنهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا كان ثلث الليل نزل تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا، فقال: ألا هل من مستغفر يغفر له؟ هل من سائل يعطى سؤله؟ ألا هل من تائب يتاب عليه؟). وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ينزل الله تعالى في كل ليلة إلى السماء الدنيا، فيقول: أنا الملك، أنا الملك، ثلاثاً، من يسألني فأعطيه؟ من يدعوني فأستجيب له؟ من يستغفرني فأغفر له؟ فلا يزال كذلك حتى يطلع الفجر). سمعت الأستاذ أبا منصور على إثر هذا الحديث الذي أملاه علينا يقول: سئل أبو حنيفة عنه فقال: ينزل بلا كيف، وقال بعضهم: ينزل نزولاً يليق بالربوبية بلا كيف، من غير أن يكون نزوله مثل نزول الخلق، بالتخلي والتملي]. بدأ بالتخلي والتملي، فالتخلي التخلية، والتملي المل، بمعنى: ما يلزم من نزول الخلق أو نزول المخلوقات لا يلزم في حق الله عز وجل؛ لأنه سبحانه ليس كمثله شيء، وله الكمال المطلق. قال المصنف رحمه الله تعالى: [لأنه جل جلاله منزه عن أن تكون صفاته مثل صفات الخلق، كما كان منزهاً أن تكون ذاته مثل ذوات الخلق، فمجيئه وإتيانه ونزوله على حسب ما يليق بصفاته، من غير تشبيه وكيف]. لو عمل أهل التعطيل والتأويل بهذه القواعد لسلموا مما وقعوا فيه من معارضة كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ولسلموا مما وقعوا فيه من الاشتباه والتشكيك، وما وقعوا فيه من الحيدة عن الحق والوقوع فيما نهى الله عنه وما نهى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك لو أنهم اعتقدوا مثل هذه الأمور وأثبتوها على ما يليق بجلال الله، فهي ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعضها ثبتت في القرآن والسنة قطعاً، فما دامت ثبتت فلا داعي للتمحل بتأويلها؛ لأن من اعتقد هذه الأمور على ما يليق بجلال الله، واعتقد أن الله له الكمال المطلق، وأنه سبحانه لا تكون هذه الأمور في حقه كما هي في حق المخلوقات، وأن أفعاله لائقة بجلاله، وهي ثابتة بكلام رسوله صلى الله عليه وسلم الذي بين عن الله وهو أعرف الناس بربه، لو عرفوا هذه القواعد والتزموها لما وقعوا في التأويل، لكن اشتبهت عليهم الأمور بتفريطهم في هذه الأمور، فلما اشتبهت صار عندهم شيء من القلق والفزع؛ لأن الاشتباه هو الذي استقر في أذهانهم، والتشبيه هو الذي اعتقدوه، فلما اعتقدوه واستقر في قلوبهم، وما وفقوا وسددوا للعمل بمقتضى القواعد الأخرى، لجئوا إلى التعطيل وإلى التأويل. فالجهمية والفلاسفة وغلاة الصوفية والباطنية ومن سلك سبيلهم هؤلاء لجئوا إلى التعطيل، يعني: إنكار أن تكون هذه أسماء وأفعال وصفات لله عز وجل، فقالوا: إنها مجرد ألفاظ أريد بها معان فسروها كما أرادوا. وأهل الكلام متأخرة الأشاعرة والماتريدية لجئوا إلى التأويل، وهو صرف معاني هذه الألفاظ إلى معان متوهمة؛ لأنهم لما توهموا التشبيه اضطروا لأن يصرفوا ألفاظ كلام الله عز وجل، فمثلاً: لفظ (النزول) لما اعتقدوا التشبيه حادوا به عن المعنى الحق إلى معنى آخر لجئوا إليه بتوهماتهم، والمعاني التي لجئوا إليها صارت أشد إضراراً بعقيدة المسلمين من إضرار المعطلة؛ لأن المعطلة أمرهم بين؛ فهم ينكرون، والإنكار بين يعرفه كل ذي فطرة وكل ذي عقل، لكن التأويل أمره ملبس، فلذلك التبست عقائدهم على كثير من عامة المسلمين فاعتقدوها، وقالوا عن النزول بأنه نزول الأمر أو نزول الملائكة أو نزول الرحمة إلى آخره، مع أن نزول الملائكة حق ونزول الأمر حق ونزول الرحمة حق، لكن للباري عز وجل نزوله الذي يليق بجلاله، هذا أمر وذاك أمر آخر. وقولهم: المقصود بالنزول والمجيء نزول الملائكة، ونزول الأمر، ترد عليهم آيات أخرى ونصوص أخرى تبين نزول الرب، كقوله عز وجل: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22]، فمن هنا أحكمت آيات الله عز وجل بحيث لا يتناولها التأويل، لكنهم اشتبهت عليهم لمرض قلوبهم، ومريض القلب يحجب عن الحق، خاصة إذا حاد عن مذهب السلف؛ لأن مذهب السلف موجود وبين، فمن انتحل غيره ابتلي بأن يعمى عن الحق، ولذلك ثبت أن مؤولة النزول

ذكر سبب إفاضة السلف في نقل النصوص الواردة في نزول الرب إلى السماء الدنيا كل ليلة وفائدة ذلك

ذكر سبب إفاضة السلف في نقل النصوص الواردة في نزول الرب إلى السماء الدنيا كل ليلة وفائدة ذلك قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال الإمام أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة في كتاب (التوحيد) الذي صنفه وسمعته من حافده أبي طاهر رحمه الله تعالى]. حافده يعني: حفيده. قال رحمه الله تعالى: [باب ذكر أخبار ثابتة السند رواها علماء الحجاز والعراق في نزول الرب إلى السماء الدنيا كل ليلة، من غير صفة كيفية النزول مع إثبات النزول. فنشهد شهادة مقر بلسانه مصدق بقلبه مستيقن بما في هذه الأخبار من ذكر النزول من غير أن نصف الكيفية؛ لأن نبينا صلى الله عليه وسلم لم يصف لنا كيفية نزول خالقنا إلى السماء الدنيا، وأعلمنا أنه ينزل، والله عز وجل ولى نبيه صلى الله عليه وسلم بيان ما بالمسلمين إليه الحاجة من أمر دينهم، فنحن مصدقون بما في هذه الأخبار من ذلك النزول، غير متكلفين للنزول بصفة الكيفية، إذ النبي صلى الله عليه وسلم لم يصف كيفية النزول. وعن مخرمة بن بكير عن أبيه قال: سمعت محمد بن المنكدر يزعم أنه سمع أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: نعم اليوم يوم ينزل الله تعالى فيه إلى السماء الدنيا، قالوا: وأي يوم؟ قالت: يوم عرفة. وروت عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ينزل الله تعالى في النصف من شعبان إلى السماء الدنيا ليلاً إلى آخر النهار من الغد، فيعتق من النار بعدد شعر معز بني كلب، ويكتب الحاج، وينزل أرزاق السنة، ولا يترك أحداً إلا غفر له إلا مشركاً أو قاطع رحم أو عاقاً أو مشاحناً)]. أول الحديث ورد بأسانيد صحيحة، أما آخره فالله أعلم أنه لم يثبت بأسانيد صحيحة، ومسألة نزول الله عز وجل ليلة النصف من شعبان هذه ثابتة، والغالب أن أحاديثها صحيحة، لكن ينبغي أن نتنبه إلى أنه لم يرد النص في تخصيص هذه الليلة بشيء من العبادات، يعني: لا شك أنها ليلة ورد أن الله عز وجل ينزل فيها، ولها خصوصية من هذا الوجه، وعلى هذا فالله أعلم أن من تحرى قيامها لا على جهة أن قيامه أمر به شرعاً، لكن لأنه تحرى نزول الرب عز وجل فهذا لا حرج فيه، بشرط ألا يسمي هذه صلاة معينة، ولا أن يقصد بها أن هذه عبادة سنوية لابد أن تكون من فرائض الدين أو سننه الملزمة، ولا أن يضع لهذه الليلة خصائص أخرى من احتفال أو عناية بأعمال معينة، كأن يخصصها بعمرة أو يخصصها بشيء لقصد أن ذلك مشروع، فإنه لم يشرع لهذه الليلة أعمال، والصحابة والتابعون ومن تبعهم رووا هذا الحديث، ولم يذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم خصص لها أعمالاً، مثلها مثل شهر رجب، فشهر رجب شهر فاضل، وهو من أشهر الله الحرم، وقد يكون هذا الفضل ينعكس على أعمال المسلمين في الخير، لكن لا يعني: أنه يتخصص فيه أعمال معينة بذاتها أو عبادات معينة بذاتها كما يقولون في الصلاة الرجبية، وكما يقولون في الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج، كل هذه بدع. فالناس يخلطون بين المشروع وبين غير المشروع، وبين ما ثبت فيه النص وما لم يثبت فيه النص، فقد ثبت النص بأن ليلة النصف من شعبان لها خصوصية نزول الرب تبارك وتعالى، وفي هذا إشارة إلى أن من قامها فلا حرج عليه، لكن لا يتعبد بذلك، بمعنى: أن يعتقد أنه من فرائض الدين أو من الأمور التي يلزم بها الناس أو يدعو إليها أو يضع لها صفة معينة أو اسم معين أو احتفال معين. والله أعلم. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن عطاء بن يسار قال: حدثني رفاعة بن عرابة الجهني قال: (صدرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، فجعلوا يستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يأذن لهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما بال شق الشجرة الذي يلي النبي صلى الله عليه وسلم أبغض إليكم من الآخر؟ فلا ترى من القوم إلا باكياً، قال: يقول أبو بكر الصديق: إن الذي يستأذنك بعدها لسفيه، فقام النبي صلى الله عليه وسلم، فحمد الله وأثنى عليه، وكان إذا حلف قال: والذي نفسي بيده أشهد عند الله ما منكم من أحد يؤمن بالله واليوم الآخر، ثم يسدد إلا سلك به في الجنة، ولقد وعدني ربي أن يدخل من أمتي الجنة سبعين ألفاً بغير حساب ولا عذاب، وإني لأرجو ألا تدخلوها حتى تتبوءوا ومن صلح من أزواجكم وذرياتكم مساكنكم في الجنة، ثم قال صلى الله عليه وسلم: إذا مضى شطر الليل -أو قال: ثلثاه- ينزل الله إلى السماء الدنيا، ثم يقول: لا أسأل عن عبادي غيري، من ذا الذي يسألني فأعطيه؟ من ذا الذي يدعوني فأجيبه؟ من ذا الذي يستغفرني فأغفر له؟ حتى ينفجر الصبح) هذا لفظ حديث الوليد. قال شيخ الإسلام: قلت: فلما صح خبر النزول عن الرسول صلى الله عليه وسلم أقر به أهل السنة، وقبلوا الخبر، وأثبتوا النزول على ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يعتقدوا تشبيهاً له بنزول خلقه، ولم يبحثوا عن كيفيته؛ إذ لا سبيل إليها بحال، وعلموا وتحققوا واعتقدوا أن صفات الله سبحانه لا تشبه صفات الخلق، كما أن ذاته لا تشبه

الأسئلة

الأسئلة

المقصود بالتخلي والتملي

المقصود بالتخلي والتملي Q ما المقصود بقوله: (التخلي والتملي)؟ A المقصود بالتخلي: ألا يتصور أن الله عز وجل يخلي مكاناً، والتملي ألا نتصور أن الله عز وجل يملأ مكاناً دون مكان؛ لأن هذه من التصورات، وخيالاتنا الطفولية لا تليق بالله عز وجل، ولا ينبغي أن نحكم بها على صفات الله.

[9]

شرح عقيدة السلف أصحاب الحديث [9] كان موقف السلف حازماً مع من يشكك في ثوابت الدين، أو يحاول المساس بها؛ ولذا لم تظهر البدع في عهدهم كفرق لها مناهجها ودعاتها، وإنما ظهر أفراد دعوا إلى أمور تخالف الدين فكان السلف لهم بالمرصاد، فمنهم من قتل، ومنهم من أدب وعزر، ومنهم من اقتصر على هجره ونبذه وتحذير الناس من مجالسته ومخالطته، كل ذلك حماية لجناب التوحيد.

الرد على من أنكر أو أول صفة مجيء الله عز وجل وإتيانه

الرد على من أنكر أو أول صفة مجيء الله عز وجل وإتيانه قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال أبو عبد الله -أعني: ابن أبي حفص -: هذا عبد الله بن عثمان -وهو عبدان شيخ مرو- يقول: سمعت محمد بن الحسن الشيباني يقول: قال حماد بن أبي حنيفة: قلنا لهؤلاء: أرأيتم قول الله عز وجل: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22] وقوله عز وجل: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} [البقرة:210]؟ وهل يجيء الملك صفاً صفاً؟ قالوا: أما الملائكة فيجيئون صفاً صفاً، وأما الرب تعالى فإنا لا ندري ما عنى بذاك، ولا ندري كيفية جيئته. فقلنا لهم: إنا لم نكلفكم أن تعلموا كيف جيئته، ولكنا نكلفكم أن تؤمنوا بمجيئه، أرأيتم من أنكر أن الملك لا يجيء صفاً صفاً ما هو عندكم؟ قالوا: كافر مكذب، قلنا: فكذلك من أنكر أن الله سبحانه لا يجيء فهو كافر مكذب]. هذه من أساليب السلف في الرد، وهي أساليب تميزت بالوضوح والإيجاز مع قوة الحجة والبعد عن التكلف، وهي حجة عقلية، هذه الحجة العقلية جمعت بين الاستدلال الشرعي والعقلي، فهي حجة كافية لمن أراد أن يقف على الحق، ولو تأملتم ما فيها من معاني ملزمة لوجدتم أنها كافية، لكن غالب أهل الأهواء تقوم أهواؤهم على المراء والجدل والانتصار للنفس والرأي، وإلا فهي أدلة شرعية عقلية فطرية فيها البساطة والوضوح واليسر، بعيدة عن التعقيد وعن التفلسف أو إثارة الإشكالات والمراء والجدل. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال الفضيل بن عياض: إذا قال لك الجهمي: أنا لا أؤمن برب يزول عن مكانه، فقل أنت: أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء]. كذلك هذه من الحج السهلة القوية الفطرية التي لا تحتاج إلى مزيد تكلف، والذي يريد الحق يتبين له الكلام أو الحق من مثل هذا الكلام الموجز البين المبسط الواضح الذي يفهمه صغار طلاب العلم فضلاً عن كباره.

موقف السلف من أخبار الصفات

موقف السلف من أخبار الصفات قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن جرير بن عبد الله في الرؤية، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنكم تنظرون إلى ربكم كما تنظرون إلى القمر ليلة البدر)، فقال له رجل في مجلسه: يا أبا خالد! ما معنى هذا الحديث؟ فغضب وحرد، وقال: ما أشبهك بـ صبيغ! وأحوجك إلى مثل ما فعل به! ويلك! ومن يدري كيف هذا؟ ومن يجوز له أن يجاوز هذا القول الذي جاء به الحديث، أو يتكلم فيه بشيء من تلقاء نفسه إلا من سفه نفسه واستخف بدينه، إذا سمعتم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعوه، ولا تبتدعوا فيه، فإنكم إن اتبعتموه ولم تماروا فيه سلمتم، وإن لم تفعلوا هلكتم. وقصة صبيغ الذي قال يزيد بن هارون للسائل: ما أشبهك بـ صبيغ وأحوجك إلى مثل ما فعل به! هي: ما رواه يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب: (أن صبيغاً التميمي أتى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين! أخبرني عن {الذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} [الذاريات:1]، قال: هي الرياح، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته، قال: فأخبرني عن {الْحَامِلاتِ وِقْرًا} [الذاريات:2]، قال: هي السحاب، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته، قال: فأخبرني عن {الْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} [الذاريات:4] قال: الملائكة، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته، قال: فأخبرني عن {الْجَارِيَاتِ يُسْرًا} [الذاريات:3] قال: هي السفن، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته، قال: ثم أمر به فضرب مائة سوط، ثم جعله في بيت حتى إذا برأ دعا به، ثم ضربه مائة سوط أخرى، ثم حمله على قتب، وكتب إلى أبي موسى الأشعري: أن حرم عليه مجالسة الناس، فلم يزل كذلك حتى أتى أبا موسى الأشعري، فحلف له بالأيمان المغلظة ما يجد في نفسه مما كان يجده شيئاً، فكتب إلى عمر بخبره، فكتب إليه: ما إخاله إلا قد صدق، خل بينه وبين مجالسة الناس)]. مثل هذا الإجراء من عمر رضي الله عنه أفاد الأمة وأدب الناس دهراً طويلاً، ولذلك تأخر القول بالقدر، مع أنه من النزعات التي تحدث في الأمم قبل غيرها، خاصة ضعاف العقول وضعاف الدين فإنهم ينزعون إلى التشكيك في القدر، ودخول المفسدين في الديانات من خلال القدر عادة يبدأ مبكراً، لكن هذا الموقف الحازم من عمر رضي الله عنه وما سبقه من تهديده لـ بطريق في الشام ونحو هذه الأمور التي كان عمر يدافع بها عن العقيدة هذا أجّل القول في القدر إلى ما بعد منتصف القرن الأول الهجري. ثم إن هذه القصة وردت في سياقات كثيرة ولها أسانيد بعضها صحيح، وفي هذه القصة أن صبيغاً كان يسأل، ومجرد السؤال ليس فيه عيب، لكن كان صبيغ يثير هذه الإشكالات عند الجهال، وكان يكرر هذا الكلام بين الجهلة، كما جاء في سياق آخر في القصة، وكان ينهاه أهل العلم ولا ينتهي، ويثير هذه المسائل وغير هذه المسائل، والأمور الغيبية وأمور القدر كان يثير منها أشياء على سبيل المراء والجدل والتعنت والتعالي والغرور، فمحاورة عمر رضي الله عنه معه كانت أنموذجاً لما كان يحدث، وإلا لو كان جاء ليستفهم من عمر كما يستفهم طلاب العلم لما أدبه عمر على هذا النحو، لكن عمر رضي الله عنه عرف ما كان يحدث منه في أكثر من موقع وأكثر من مقام، كما هو معروف في القصة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وروى حماد بن زيد عن قطن بن كعب سمعت رجلاً من بني عجل يقال له: فلان -خلته ابن زرعة - يحدث عن أبيه قال: رأيت صبيغ بن عسل بالبصرة كأنه بعير أجرب، يجيء إلى الحلق، فكلما جلس إلى قوم لا يعرفونه ناداهم أهل الحلقة الأخرى: عزمة أمير المؤمنين. وروى حماد بن زيد أيضاً عن يزيد بن أبي حازم عن سليمان بن يسار: أن رجلاً من بني تميم يقال له: صبيغ قدم المدينة، فكانت عنده كتب، فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فبلغ ذلك عمر، فبعث إليه، وقد أعد له عراجين النخل، فلما دخل عليه جلس، فقال: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صبيغ، قال: وأنا عبد الله عمر، ثم أهوى إليه فجعل يضربه بتلك العراجين، فما زال يضربه حتى شجه، فجعل الدم يسيل على وجهه، فقال: حسبك يا أمير المؤمنين، فقد والله ذهب الذي كنت أجد في رأسي]. هنا أحب أن نقف على بعض الفوائد: الفائدة الأولى: فيما يتعلق بمنهج السلف في الهجر

الأسئلة

الأسئلة

شروط المحبة في الله وضوابطها

شروط المحبة في الله وضوابطها Q هل للمحبة في الله شروط؟ A المحبة في الله أهم ضابط لها أن يكون المحبوب من أولياء الله ومن المتقين الصالحين، وألا يكون للمحبة أغراض أخرى أو دوافع أخرى عاطفية أو دنيوية أو غيرها.

الغلو بين الرافضة والصوفية

الغلو بين الرافضة والصوفية Q ما هو الفرق بين غلو الرافضة وغلو الصوفية؟ A لا فرق بين غلو الرافضة وغلو الصوفية إلا في الشكليات، وفي المصطلحات فقط، أما المؤدى العقدي فلا فرق بين غلو الصوفية وغلو الرافضة.

حكم ذبائح الدروز والنصيريين

حكم ذبائح الدروز والنصيريين Q ما حكم ذبائح الدروز والنصيريين؟ A الدروز والنصيريون ومن كان على شاكلتهم لا تؤكل ذبائحهم، فإذا جزمت بأن ما في أيديهم أو ما يبيعونه من الطعام من ذبحهم فلا يجوز أكله أبداً بحال. والله أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

[10]

شرح عقيدة السلف أصحاب الحديث [10] من سمات أهل البدع أنهم يتكلمون في أسماء الله وصفاته بما ليس له أصل في الشرع، ولا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون؛ بل تجدهم يخوضون في دين الله بغير علم ولا هدى ولا صراط مستقيم، فوقعوا فيما وقعوا فيه من الزيغ والضلال والانحراف والشرك، وهذا مما جعل أئمة السلف يضعون قواعد عامة متينة في التعامل مع النصوص الشرعية، بحيث تحفظ على الناس عقائدهم ودينهم.

أهم سمات أهل البدع عند مالك بن أنس وغيره من السلف

أهم سمات أهل البدع عند مالك بن أنس وغيره من السلف الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. قال الإمام الصابوني رحمه الله تعالى: [حدثنا أشهب بن عبد العزيز سمعت مالك بن أنس يقول: إياكم والبدع، قيل: يا أبا عبد الله! وما البدع؟ قال: أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته وكلامه وعلمه وقدرته، لا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون]. مثل هذا الكلام كثير عن السلف، وهو ذكر وصف أهل البدع ببعض أصولهم، وهذه راجعة إلى المختلف، فأحياناً يفسرون الشيء بجزئه، ولا يقصدون إخراج أنواع البدع الأخرى وأهلها، وإنما يقصدون القاسم المشترك، أو السمة العامة، وهذا كثير عند السلف، وقد خلط بسبب عدم فهمه كثير من الناس، وزعموا تحديد معان معينة على قول معين. وفي هذا الكلام ذكر أهم سمات أهل البدع في نظر مالك بن أنس: السمة الأولى: الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته، وهذه سمة عامة في عموم أهل البدع لا يخرج منها إلا النادر القليل، والنادر لا حكم له. فمن السمات العامة لأهل البدع والأوصاف العامة: أنهم يتكلمون في أسماء الله وصفاته وأفعاله بما ليس له أصل في الشرع. السمة الثانية: أن هذا يندرج تحته ما دونه، ولذلك في الحقيقة هذا من فقه السلف؛ فإنهم أحياناً يذكرون البدعة بأعلى معانيها أو بأعلى صورها؛ لأنه يدخل بالمفهوم الضروري فيها ما دونها، فإذا كان من تكلم في ذات الله وأسمائه وصفاته يعتبر مبتدعاً، فكذلك من تكلم فيما دونها من أمور الدين، وهذا هو أعظم ما تكلموا فيه، وما تحته يندرج في مفهوم أهل البدع، وعلى هذا كل من تكلم في الدين -سواء في الأسماء والصفات أو في القدر أو في الصحابة أو في سائر أصول الدين- فهو مبتدع. السمة الثالثة: أنهم لا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون، وهذا عام في جميع مقالات أهل البدع، فجميع مقالات أهل البدع تحكمها هذه القاعدة، أي: أن أهل البدع ما سكتوا عما سكت عنه الصحابة، ولو سكتوا عما سكت عنه الصحابة لما وقعوا في البدع، سواء كانت بدعاً اعتقادية أو علمية أو عملية، والسكوت يعني: الترك، سواء ترك بالقول أو ترك بالاعتقاد أو ترك بالفعل، فلو تركوا ما لا يعنيهم وتركوا ما لم يتقرر في الشرع لما وقعوا في البدع.

مذهب السلف أصحاب الحديث في أهل الأهواء والبدع وتحذيرهم منهم ومن بدعهم

مذهب السلف أصحاب الحديث في أهل الأهواء والبدع وتحذيرهم منهم ومن بدعهم قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال الشافعي رحمه الله: لأن يلقى الله العبدُ بكل ذنب ما خلا الشرك أحب إلي من يلقاه بشيء من الأهواء]. وهذا أيضاً قاسم أو مفهوم عام عند السلف؛ فإنهم يعتقدون أن المعاصي أسهل من البدع، وذلك لأمور: أولاً: لأن البدع غالباً تكون من مرض القلوب المرض المزمن؛ لأن الشهوات مرض عارض، أما الشبهات والأهواء فهي مرض متأصل؛ لأن الشهوة يندفع إليها الإنسان برغبة عارضة، أما الشبهة والبدعة فهي مرض القلوب، ولأنها -أي: البدعة- انحراف عن الحق بالعمد، ولذلك كان السلف لا يسمون العالم المجتهد إذا وقع في بدعة مبتدعاً، وإنما يسمون فعله زلة؛ نظراً لأنه لا يتعمد، فالعالم الذي له قدر في الدين وجلالة ورسوخ في العلم مثل الإمام أبي حنيفة ومثل قتادة بن دعامة السدسي ومثل الحاكم النسيابوري ومثل عبد الرزاق ومثل ابن أبي رواد ونحو هؤلاء الذين نسبت إليهم بدع وقالوا ببدع فعلاً العلماء سموها زلات، وقالوا: رمي أحياناً ببدعة، أو رمي بالقدر أو نحو ذلك؛ لأنهم يعرفون أن هؤلاء الأئمة ما كان قصدهم الهوى. إذاً: فالأهواء أعظم من الذنوب؛ لأن صاحبها في الغالب لا يقع فيها إلا عن عمد أو تقليد بتقصير؛ لأنه قد يكون المبتدع عامياً، لكنه قصر، فبسبب جهله وإعراضه عن دين الله عز وجل وإعراضه عن منهج السلف قلد غيره، والتقليد مذموم في حد ذاته، حتى في الأحكام، إنما الممدوح الاتباع. ثانياً: أن صاحب الهوى في الغالب يظن أنه على حق، ومن هنا يقل أن يتوب، وأما أصحاب الشهوات والفجور والمعاصي فيعرفون أنهم مخالفون، ولذلك تؤنبهم ضمائرهم، ولهم أمل أن يتوبوا، لكن صاحب البدعة حتى لو حدثت عليه الكوارث يصر على بدعته، ولذلك نجد أن الكوارث والمصائب تتسبب -بإذن الله- في توبة العصاة، بينما الكوارث والمصائب تتسبب في تمادي أهل البدع في بدعهم، ولذلك قال بعض السلف: قلّ أن يتوب صاحب بدعة من بدعته. لا يقصد أن الله لا يتوب عليه، بل يقصد أنه قل أن يوفق للتوبة؛ لأنه مصر على الهوى، ومصر على البدعة، فيبتليه الله عز وجل ويحجب عنه الحق، فتكون من باب العقوبة العاجلة على أصحاب الهوى. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وسأل رجل عمر بن عبد العزيز عن شيء من الأهواء، فقال: الزم دين الصبي في الكتاب، والأعرابي، واله عما سوى ذلك]. هذه أيضاً قاعدة عظيمة يجب أن نستفيد منها وأن نجعلها منهجاً في تعليمنا الدين، وفي تقويمنا للناس وفي رعايتنا لمن حولنا من الأطفال والكبار والصغار والعوام، وهي أن الفطرة التي عليها الأطفال والعوام خير للناس ولأصحابها بكثير من الأهواء مهما كانت مبررة ومقننة، ومهما كانت تحمل شعار العلم؛ وذلك لأن دين الصبي في الكتاب والأعرابي يتميز أولاً بأنه على الفطرة والبراءة الأصلية، ومن كان على الفطرة والبراءة الأصلية فالله عز وجل يتولاه ويعذره بجهله ولا يقع في الأمور الكبار في الغالب؛ لأنه على الفطرة والبراءة الأصلية، فهذا أقرب وأحرى بأن يوفق ويسدد ويعان، ويعصمه الله عز وجل باعتصامه بالفطرة والبراءة الأصلية. هذا أمر. والأمر الثاني: أن دين الصبي ودين الأعرابي بعيد عن التكلف وعن الخوض فيما لا يعنيه، ويقصد بذلك العوام أيضاً، فدين الصبي والأعرابي هو ما عليه عموم المسلمين عموم العوام، سواء كانوا عامة أو كانوا صبياناً أو كانوا أعراباً أو نحو ذلك، فهذه الفئات من الناس على السلامة الأصلية؛ لأنهم بعيدون عن الجدال في الدين، وعن التكلف وعن الخوض فيما لا علم لهم به، بل يتورعون عن ذلك، ولذلك نجد -وهذا تأملته كثيراً وأرجو أن تتأملوه معي- أن أكثر العوام الآن أكثر تورعاً من بعض طلاب العلم في الوقوع في المشتبهات الفكرية والعقدية وغيرها، فأكثر العوام عندهم تورع وحساسية فطرية جيدة، وأتمنى لو يبقون عليها، وإن كان قد كثرت الآن المؤثرات والمفسدات للفطرة، لكن مع ذلك لا يزال عموم عوامنا الذين لم يخالطوا أهل الجرب عندهم هذا الحس الصافي؛ والنفور من البدع، كالنفور من المعاصي عندهم، ولذلك يستنكرون بعض المصطلحات وبعض الشعارات والانتماءات والمفاهيم التي سادت بين بعض الشباب، فتجد العوام يستنكرونها، ولا يستوعبونها، وتجد عندهم شيئاً من الحساسية منها، ليس ذلك فقط لجهلهم، وإنما لبقائهم على الفطرة، وهذا معنى قوله: الزم دين الصبي. كذلك يتميز دين الصبي والأعرابي والعامي في الغالب بالتسليم، فتجد رغم أنه قد يرتكب بعض الأشياء، وقد يتكلم أحياناً بكلام فيه مجازفة، لكن ليس هذا عن تأصيل، بل غالب الصبيان والأعراب والعوام على التسليم لله عز وجل والتسليم للرسول صلى الله عليه وسلم، ويوقرون ويعظمون كل ما يصدر عن الله، ويوقرون ويعظمون كل ما يصدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هنا يوقرون أهل العلم إذا وثقوا فيهم. ومن هنا أيضاً أحب أن أنبه على خطأ بعض المجتهدين هداهم الله، الذين يحاولون أن يظهروا نقد العلماء أمام ا

مذهب السلف أصحاب الحديث في نصوص الصفات

مذهب السلف أصحاب الحديث في نصوص الصفات قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال سفيان بن عيينة: كل ما وصف الله به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عنه]. هذه أيضاً قاعدة، ويقصد بتفسيره تلاوته، بمعنى: أن كل ما وصف الله به نفسه في كتابه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم في ذاته وأسمائه وأفعاله وصفاته فتفسيره تلاوته، بمعنى: أنه حق، وليس تلاوته على معنى أنها عبارات جوفاء، بل تلاوته بمعنى أنه كلام الله، فيتلى لأنه حق على حقيقته، ولا نبحث عما وراء الألفاظ إذا كان البحث عما وراء الألفاظ يشكل، ولا نتعمق إلا بقدر ما تدركه مداركنا أو مدارك الناس، فبعض الناس لا يفهم من اللفظ إلا مجرد معناه المعنى المباشر، وبعض الناس قد يفهم المنطوق وما رآه من مفهوم. فإذاً: ما وصف الله به نفسه تفسيره تلاوته، بمعنى: ألا يتعدى نطقه، وهذا يعتبر قاعدة في منع التأويل؛ لأنه إذا أول لم يكن تفسيره تلاوته، بل تكون تلاوته لها شكل، ومعناه له شكل آخر، وكذلك السكوت عنه، يعني: ليس المراد السكوت عن تحقيقه أو اعتقاده، لكن السكوت عن التنقيب والبحث فيما لا علم للإنسان به. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال الوليد بن مسلم: سألت الأوزاعي وسفيان ومالك بن أنس عن هذه الأحاديث في الصفات والرؤية فقالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف. قال الإمام الزهري إمام الأئمة في عصره وعين علماء الأمة في وقته: على الله البيان، وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم البلاغ، وعلينا التسليم]. أيضاً هذه من قواعد السلف العظيمة، أما قوله: (أمروها كما جاءت بلا كيف) فالمقصود: أنها تمر كما جاءت على استصحاب الأصول، وقوله: (كما جاءت) أي: أنها جاءت على أنها حق وصدق، وأنها تعني معاني الكمال لله عز وجل، هذا معنى (كما جاءت)، وليس كما جاءت حروفاً فقط جوفاء، لذلك بعض المؤولة وبعض المفوضة فهموا من (كما جاءت) أنه ليس لها معانٍ؛ وهذا غلط عظيم؛ لأنها جاءت تعبر عن الكمال لله عز وجل، والكمال لله حقيقة، إذاً: هي ألفاظ تتضمن حقيقة، ومعنى: (أمروها كما جاءت) يعني: لا تؤولها، وليس بمعنى: لا تعتقدوا حقيقتها، وهذا هو المعنى المباشر الذي يدركه الإنسان بفطرته وحسه وبالمعنى اللغوي المباشر، فأمروها كما جاءت يعني: أنها جاءت لإحقاق الحق، جاءت على أنها بلسان عربي مبين، جاءت على أنها كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، جاءت على أنها تحكي العقيدة السليمة؛ هكذا جاءت، جاءت على أنها لا تحتاج إلى تأويل متكلف، ولا تحتاج إلى أن نصرفها عن معانيها إلى معانٍ متوهمة ومظنونة. وكذلك نمرها بلا كيف؛ لأنها جاءت بلا تكييف، فلا داعي لأن نكيفها، وهذا هو المعنى الصحيح، لذلك أجد أن بعض طلاب العلم يتحرز أحياناً من هذه العبارة ويقول: هذه العبارة تؤيد المفوضة، وأقول: ليس بصحيح أبداً، بل هذا نوع من تعبير السلف الصحيح السليم، كما أنا نقول: إنها حق على حقيقتها -أي: ألفاظ كلام الله عز وجل- كذلك نقول: تمر أيضاً كما جاءت، فلا داعي أن يتردد طلاب العلم في هذه العبارة؛ لأنها أثرت عن كثير من السلف، وكونها اتخذت ذريعة للتفويض فهذا لا يعني أنها لا تفسر تفسيراً صحيحاً، أو أننا نتهرب من إثباتها واعتقاد حقيقتها، فهي كلمة جيدة وقاعدة عظيمة. وكذلك قوله: (على الله البيان، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم)، كذلك هذه تتضمن قواعد عظيمة جداً، وتعتبر من القواعد المثبتة للسنة في بداية نوازع الفرق والأهواء والبدع في وقت الزهري، ففي وقت الزهري ظهرت فرق كثيرة منها: القدرية، ومنها: المرجئة، ومنها: أوائل الجهمية وأوائل المعتزلة؛ لأن الزهري توفي سنة (125هـ) فـ الزهري توفي في بداية ظهور الفرق، فكان كلامه هذا عبارة عن تقعيد عظيم لقواعد ذهبية، لو جمعت هذه القواعد مع بعض قواعد السلف في كتاب مستقل ونظمت ورتبت وبوبت لكانت كافية عن التكلف في البحث عن أصول الرد عن أهل الأهواء. يقول: (على الله البيان)، معناه: أن الله عز وجل بين، بمعنى: أن كلامه بين في أسمائه وصفاته وأفعاله، وفي جميع قواعد الشرع، بين لا يحتاج إلى تأويل بين لا يحتاج إلى تفويض بين لا يحتاج إلى توقف بين لا يحتاج إلى تكييف. وقوله: (وعلى الرسول البلاغ) معناه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغ كما أمره ربه، فلذلك يجب على المسلم ألا يستشكل من ألفاظ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم كما استشكل أهل البدع، فأهل البدع الآن لا يطيقون أحاديث الصفات، وهذا قدح في بيان النبي صلى الله عليه وسلم، فنراهم إلى اليوم كثير منهم لا يطيق ذكر أحاديث الصفات خاصة؛ لأنهم يرون أنها تعني التجسيم وتعني التشبيه، وأن سياقها وذكرها فيه حرج، وكما قال الرازي مقعداً لهم: إن الرواة رووا بالمعنى فلذلك قالوا: ما لم يقله النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه شبهات كبار هوادم للدين، بل هذه معاول، والنبي صلى الله عليه

[11]

شرح عقيدة السلف أصحاب الحديث [11] لقد أورد علماء الإسلام مناهج الأخلاق وغيرها من الأعمال في كتب العقائد؛ لأنها من العقيدة وداخلة فيها، فالإيمان قول وعمل، والجوانب العملية التطبيقية في العقائد أهم من الجوانب الإيمانية المعرفية؛ لعدم الاختلاف فيها في الغالب، فقد يقر ويعترف بها المسلم والمنافق، لكن المحك هو العمل.

النصوص والآثار الموضحة بأن مناهج الأخلاق وغيرها من الأعمال من العقيدة

النصوص والآثار الموضحة بأن مناهج الأخلاق وغيرها من الأعمال من العقيدة الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن بعض السلف: قدم الإسلام لا يثبت إلا على قنطرة التسليم. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن هذا الدين بدأ غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء، قيل: يا رسول الله، ومن الغرباء؟ قال: الذين يحيون سنتي من بعدي، ويعلمونها عباد الله). وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: المتبع للسنة كالقابض على الجمر، وهو اليوم عندي أفضل من ضرب السيف في سبيل الله. وعن مسروق قال: دخلنا على عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقال: يا أيها الناس! من علم شيئاً فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم: الله أعلم، قال عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86]. وعن محمد بن كعب القرظي قال: (دخلت على عمر بن عبد العزيز، فجعلت أنظر إليه نظراً شديداً، فقال: إنك لتنظر إلي نظراً ما كنت تنظره إلي وأنا بالمدينة، فقلت: لتعجبي، فقال: وممَ تعجب؟ قال: قلت: لما حال من لونك، ونحل من جسمك، ونفى من شعرك، قال: كيف ولو رأيتني بعد ثلاثة في قبري، وقد سالت حدقتاي على وجنتي، وسال منخراي في فمي صديداً؟ كنت لي أشد نكرة، حدثني حديثاً كنت حدثتنيه عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قلت: حدثني عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن لكل شيء شرفاً، وأشرف المجالس ما استقبل به القبلة، لا تصلوا خلف نائم ولا محدث، واقتلوا الحية والعقرب وإن كنتم في صلاتكم، ولا تستروا الجدر بالثياب، ومن نظر في كتاب أخيه بغير إذنه فإنما ينظر في النار، ألا أنبئكم بشراركم؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: الذي يجلد عبده، ويمنع رفده، وينزل وحده، أفلا أنبئكم بشر من ذلك؟ الذي يبغض الناس، ويبغضونه، أفلا أنبئكم بشر من ذلك؟ الذي لا يقيل عثرة ولا يقبل معذرة ولا يغفر ذنباً، أولا أنبئكم بشر من ذلك؟ الذي لا يرجى خيره، ولا يؤمن شره، من أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يد غيره، ومن أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله، إن عيسى عليه السلام قام في قومه فقال: يا بني إسرائيل! لا تكلموا بالحكمة عند الجهال فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم، ولا تظلموا، ولا تكافئوا ظالماً، فيبطل فضلكم عند ربكم، الأمور ثلاثة: أمر بين رشده فاتبعوه، وأمر بين غيه فاجتنبوه، وأمر اختلف فيه فكلوه لله عز وجل)]. في هذه الآثار وما تخللها أيضاً من عظات ونصائح يتبين لنا جانب من جوانب مناهج السلف كثيراً ما يوردونه في كتب الآثار وكتب السنن وكتب العقائد، حتى إن بعض الناس قد يقول: لماذا يوردون هذه الجزئيات والأحكام في باب العقائد؟ وهي في جميع كتب السنة المطولة إلا النادر، مثل كتب اللالكائي وكتب الصابوني وكتب ابن بطة وابن خزيمة وغيرهم من أئمة السلف، نجد أن هؤلاء في الكتب المطولة يسمونها كتب العقائد والآثار والسنن يوردون مثل هذه المعاني، وهي متفرقة كما ترون من خلال سياقها هنا، لكن يجمعها جانب منهجي إذا عرفناه أرجعنا كل جزئية إلى أصولها، هذا الجانب المنهجي هو أن السلف يرون أن مسألة السلوك والآداب وأساليب التعامل مع الناس ومع الآخرين، أو أساليب التعامل مع الأشياء أنها من مناهج الدين، بصرف النظر عن جزئياتها التي يختلف عليها، فقواعد الآداب من مناهج الدين، وقواعد السلوك من مناهج الدين، وقواعد التعامل مع الآخرين؛ والتعامل مع الأشياء، والتعامل مع الأمور ومع الأحداث كلها من مناهج الدين، وكذلك جانب الموعظة والرقائق والزهديات من مناهج الدين، وجانب أسس الأخلاق -وهو أهم هذه الأمور- أيضاً من مناهج الدين، فلذلك كانوا يوردون هذه الأمور على سبيل الاستشهاد بما ترجع إليه أصولها، ولذلك ورد في آخر أثر عمر بن عبد العزيز وما أورده له أيضاً زائره -وهو محمد بن كعب القرظي - بعض القضايا المنهجية التي فيها إشارة إلى ما ذكرته. فمن ذلك: الاستفادة من الحكم التي وردت وأثرت عن بني إسرائيل، سواء نسبت إلى التوراة والإنجيل أو إلى غيرهما، وهذه خاضعة للقاعدة التي نبه عليها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)، وأنهم لا يصدّقون ولا يكذّبون؛ لأنه قد يرد عنهم بعض الأشياء التي تعتبر من المناهج العامة في الدين، أو المناهج العامة في الأخلاق والسلوكيات، لكنها لا تؤخذ تشريعاً، إنما تؤخذ كمناهج؛ لأن مناهج الأنبياء متفقة؛ لأن المناهج داخلة في باب العقائد، فمثلاً: لا يعقل أن يك

الأسئلة

الأسئلة

حكم المخالف لما ثبت بالكتاب والسنة

حكم المخالف لما ثبت بالكتاب والسنة Q المخالف لما ثبت بالكتاب والسنة أيكون كافراً أو يكون فاسقاً أو يكون عاصياً؟ A المخالفة تختلف من حال إلى حال ومن شخص إلى شخص، فإذا كانت المخالفة للثابت في الكتاب والسنة ينبني عليها اعتقاد فاسد فهي كفر، لكن لا يلزم أن يحكم بكفر قائلها حتى يتثبت من حاله، فقد يكون جاهلاً وقد يكون متأولاً، أما من خالف الكتاب والسنة مخالفة عملية لا تعتبر مضادة للكتاب السنة، مع الإقرار بأخذ الحق، كأن يؤمر بأمر ويتركه دون الفرائض، أو ينهى عن شيء ويفعله من صغائر الذنوب وكبائرها فهذا فاسق ومرتكب كبيرة إذا كان الأمر من الكبائر، ويسمى عاصياً، فإن كلمة (عاصي) تنطبق على الأمرين، وليست من الألفاظ والأسماء والأحكام الحدية، لكن الغالب أن المعاصي تطلق على الكبائر والصغائر لا على الكفريات، هذا هو الغالب، وعلى هذا العاصي هو المسلم الذي يقع في الكبائر أو في الصغائر، فعلى أي حال هذه من الألفاظ التي لا نستطيع أن نحكم على أصحابها إلا بالتثبت من حالهم، فالمخالف إن خالف معلوماً من الدين بالضرورة أو قطعيات الكتاب والسنة بعد إقامة الحجة فهذا كفر، أما إذا كان خالف مع عدم قيام الحجة أو مع وجود المعاذير له أو احتمال المعاذير له فلا يحكم بكفره، وإن كان قوله أو فعله كفراً.

[12]

شرح عقيدة السلف أصحاب الحديث [12] الإيمان باليوم الآخر وبالبعث بعد الموت يوم القيامة وما يقع منه من أركان الإيمان، فيجب الإيمان بكل ذلك على حقيقته كما وصفه الله تعالى من غير تعطيل ولا تأويل، كما يجب الإيمان بالحوض والميزان والرؤية والجنة والنار كما وردت بها النصوص.

عقيدة السلف أصحاب الحديث في البعث بعد الموت

عقيدة السلف أصحاب الحديث في البعث بعد الموت الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ويؤمن أهل الدين والسنة بالبعث بعد الموت يوم القيامة، وبكل ما أخبر الله سبحانه من أهوال ذلك اليوم الحق، واختلاف أحوال العباد فيه، والخلق فيما يرونه ويلقونه هنالك في ذلك اليوم الهائل من أخذ الكتب بالأيمان والشمائل، والإجابة عن المسائل، إلى سائر الزلازل والبلابل الموعودة في ذلك اليوم العظيم، والمقام الهائل من الصراط والميزان، ونشر الصحف التي فيها مثاقيل الذر من الخير والشر وغيرها]. يحسن الإشارة في هذا المقطع الذي ذكر فيه بعض أحوال القيامة إلى أنه يقصد بذلك الإيمان بهذه الأمور على حقيقتها، وأنها حق كما وصفها الله عز وجل؛ لأن هناك طوائف من أهل الافتراق في هذه الأمة يقرون بهذه الأمور، لكنهم يتأولونها على غير حقيقتها، فيئول الأمر إلى التعطيل والإلحاد، فيؤولون الصراط بالعدل، وقد يؤولون الميزان كذلك أيضاً بالعدل، وقد يؤولون أيضاً الحوض على غير معنى حسي، ويؤولون الكوثر على غير معنى حسي وهكذا يؤولون كثيراً من مشاهد القيامة بأمور وأحوال معنوية، وهذه نزعة فلسفية نبعت عن مذاهب الفلاسفة التي تنكر ما جاء به الأنبياء أصلاً، لكن بعض الفلاسفة الإسلاميين الذين أخذوا من مناهج بعض الفرق أرادوا التلفيق بين أصول الفلاسفة وبين ما جاء به الأنبياء، فزعموا أنهم يؤمنون بأحوال القيامة التي ذكرها الشارح وغيرها، وأنها حق، لكنهم زعموا أنها أمور معنوية تحدث للأرواح لا للأجساد، وأنها ليس فيها حسيات، أو أنها أمور تحكي أحوالاً معنوية قلبية، أو أحوالاً تحدث للروح، أو أنها وعيد جاء للردع، ووعد جاء للترغيب دون أن تكون لها حقائق. فالشاهد: أن هذه الأمور كثير من الناس قد يقر بها، لكنهم يتأولونها على غير حقيقتها، فيتميز منهج أهل السنة والجماعة بالإيمان بأحوال القيامة على حقيقتها، وأنها حق كما وصفها الله عز وجل، لكنها غائبة عنا من حيث الكيفيات، وإن كانت قد تتشابه في معانيها وألفاظها وحقائقها المجملة مع ما نحسه في الدنيا، لكنها مع ذلك تختلف اختلافاً كبيراً واختلافاً كثيراً بنص القرآن والسنة. وما يحدث للناس يحدث لأرواحهم وأجسامهم، سواء من النعيم أو العذاب أو مما يدركونه ويحسونه ويتجاوزونه من المشاهد والأحوال، كل ذلك أمور حق على حقيقتها ليست أمثالاً تضرب ولا خيالات، وليست ترمز إلى مجرد معان وغير ذلك مما أولها به المتأولون.

عقيدة السلف أصحاب الحديث في الشفاعة

عقيدة السلف أصحاب الحديث في الشفاعة قال المصنف رحمه الله تعالى: [ويؤمن أهل الدين والسنة بشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لمذنبي أهل التوحيد ومرتكبي الكبائر، كما ورد به الخبر الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم]. الشيخ هنا جعل مذنبي أهل التوحيد صنفاً ومرتكبي الكبائر صنفاً، وربما يقصد عطف الخاص على العام، لكنه أيضاً ربما يقصد المغايرة؛ لأن بعض أهل العلم قالوا: إن صاحب الذنوب قد يستحق العذاب وإن لم تكن كبائر، لكن الصحيح والمحقق أن الذنوب الصغائر التي قد يعذب بها من يموت عليها هي الصغائر التي لا تعقبها توبة ويستمر عليه الإنسان، ولذلك من قواعد كثير من السلف أن الصغائر إذا تكاثرت تكون كبائر، والصغائر إذا أصر عليها أصحابها تكون كبائر، فعلى هذا يكون مرجع العبارتين واحداً، وهو أن المقصود به: مذنبي أهل التوحيد الذين أصروا على الذنوب وماتوا بدون توبة، وهذا نوع من أنواع الكبائر. وهذه الشفاعة التي سيستدل لها هي جزء من شفاعات النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن شفاعاته صلى الله عليه وسلم التي ثبتت بالنصوص كثيرة، أوصلها بعضهم إلى ثمانٍ، والثابت منها ست. هذا الذي لا شك فيه. قال المصنف رحمه الله تعالى: [عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي). وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيرت بين الشفاعة وبين أن يدخل شطر أمتي الجنة فاخترت الشفاعة؛ لأنها أعم وأكفى، أترونها للمؤمنين المتقين؟ لا، ولكنها للمذنبين المتلوثين الخطائين). وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (يا رسول الله! من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ فقال: لقد ظننت ألا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك؛ لما رأيت من حرصك على الحديث: إن أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله، خالصاً من قبل نفسه).

عقيدة السلف أصحاب الحديث في الحوض والكوثر والرؤية

عقيدة السلف أصحاب الحديث في الحوض والكوثر والرؤية ويؤمنون بالحوض والكوثر، وإدخال فريق من الموحدين الجنة بغير حساب، ومحاسبة فريق منهم حساباً يسيراً، وإدخالهم الجنة بغير سوء يمسهم وعذاب يلحقهم، وإدخال فريق من مذنبيهم النار، ثم إعتاقهم أو إخراجهم منها، وإلحاقهم بإخوانهم الذين سبقوهم إلى الجنة، ولا يخلدون في النار. فأما الكفار فإنهم يخلدون فيها، ولا يخرجون منها أبداً، ولا يترك الله فيها من عصاة أهل الإيمان أحداً. ويشهد أهل السنة أن المؤمنين يرون ربهم تبارك وتعالى بأبصارهم، وينظرون إليه على ما ورد به الخبر الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (إنكم ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر)، والتشبيه وقع للرؤية بالرؤية، لا للمرئي بالمرئي، والأخبار الواردة في الرؤية مخرجة في كتاب (الانتصار) بطرقها]. قوله: (والتشبيه للرؤية بالرؤية) يقصد في الوضوح والجزم والتحقق، شبّه الله عز وجل رؤية المؤمنين له سبحانه -نسأل الله أن يجعلنا جميعاً منهم- يوم القيامة في الجنة برؤية الناس المبصرين للشمس والقمر وهما طالعتان بارزتان بوضوحهما وعدم إمكان الإنكار لمن يرى، ولذلك قال في الحديث الآخر: (لا تضامون) أي: لا أحد يستطيع أن ينكر عليكم فيضيمكم؛ لأن الإنسان لو كان يرى الشمس وعنده واحد آخر وقال له: هذه الشمس طالعة ثم قال له: تكذب، يكون بذلك ضامه وظلمه، ويكون هذا من أشد الظلم، فهذا مما يدل على حقيقة رؤية المؤمنين لربهم، لا يضامون، ولا أحد يستطيع أن ينكر رؤيتهم، ومن أنكر فهو المكابر الكافر المعاند، نسأل الله السلامة. الشاهد أنه قال: (والتشبيه للرؤية بالرؤية)، في الوضوح والجزم واليقين وعدم مجال الإنكار فيها أو عدم اللبس، لا المرئي للمرئي، بمعنى: أننا فعلاً لا نشبه الله عز وجل بهذين المخلوقين الشمس والقمر، والله عز وجل ليس كمثله شيء. والرؤية هنا التي جزم بها أهل الحق هي الرؤية التي تواترت بها النصوص، وهي الرؤية التي تكون للمؤمنين في الجنة، لكن هناك نوع من أنواع الرؤية اختلف فيه، وهو رؤية الناس لربهم في المحشر. ثبت في النصوص الشرعية أن الناس يرون ربهم، لكن ما حقيقة هذه الرؤية؟ الله أعلم؛ لأنه ما ورد أنها بصرية جزماً، ومن هنا وقع الاختلاف في حقيقتها لا في وقوعها، أما وقوعها فليس محل خلاف. كذلك رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في المعراج، هل هي رؤية عينية أو قلبية؟ والراجح أنها رؤية قلبية، لكنها خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم تميّز بها، وأيضاً لها معان وحقائق تليق بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله قوى قلبه على مثل ذلك. وتقييد الرؤية بيوم القيامة جيد، وهو مقتضى النصوص؛ لأن هناك من يدّعي أنه يرى ربه في الدنيا، والآن غلاة الصوفية وغلاة العُبّاد وبعض الفلاسفة وبعض أشباه المجانين المهسترين من بعض المفكرين والعقلانيين وغيرهم يدّعون أنهم يرون ربهم، بل زعم بعضهم أنه يرى ربه مباشرة أو يتحد بربه، حتى إن بعضهم يصل به الأمر إلى الانتحار، ويصل إلى هذه الحقيقة بدعوى أنه يرى ربه في الدنيا، كما حصل من التلمساني -فيما أظن- وبعض العُبّاد الجهلة، فهناك من يدّعي أنه يرى ربه في الدنيا، وهذه الدعوى باطلة لا شك بالإجماع، ومن ادعى أنه يرى ربه في الدنيا فقد أعظم على الله الفرية، كما قالت عائشة رضي الله عنها، فـ العفيف التلمساني انتحر آخر أمره، أراد أن يتحد بربه وأن يراه؛ لأنه استحوذت عليه الشياطين، فلما عجز انتحر.

عقيدة السلف أصحاب الحديث في الجنة والنار

عقيدة السلف أصحاب الحديث في الجنة والنار قال المصنف رحمه الله تعالى: [ويشهد أهل السنة أن الجنة والنار مخلوقتان، وأنهما باقيتان لا تفنيان أبداً، وأن أهل الجنة لا يخرجون منها أبداً، وكذلك أهل النار الذين هم أهلها خلقوا لها لا يخرجون أبداً، ويؤمر بالموت فيذبح على سور بين الجنة والنار، وأن المنادي ينادي يومئذ: (يا أهل الجنة خلود ولا موت، ويا أهل النار خلود ولا موت) على ما ورد به الخبر الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم]. أيضاً هذه من قواعد السلف المتفق عليها، وهي أن أهل النار الخُلّص -نسأل الله العافية- من الخالدين فيها، وأن أهل الجنة والذين مآلهم إلى الجنة حتى ممن يطهّرون في النار -نسأل الله أن يجعلنا من أهل الجنة- مخلدين فيها أيضاً، وما نسب إلى بعض أهل العلم من أن النار تفنى وينقطع عذابها، فهذه في الحقيقة شبهة، وليست مفسرة تفسيراً بيناً يجعلنا نجزم بأنهم خرجوا عن هذه القاعدة، وما نسب إلى شيخ الإسلام ابن تيمية من أنه يقول بهذا القول فعند التحقيق يثبت أنه لم يصح أنه يقول به، وغاية ما انتهى إليه بحثه أنه سرد أقوال القائلين بهذا القول وذكر أدلتهم، ولم يعلق عليها بشيء في ذلك الموضع، فطبعت في كتاب مستقل محقق، لكن شيخ الإسلام في عموم مقالاته وآرائه ومواقفه التي رد بها على الآخرين يؤكد مذهب أهل السنة والجماعة في خلود أهل النار الخُلّص فيها، نسأل الله السلامة، فعلى هذا لا ينبغي أن ينسب لـ شيخ الإسلام غير هذا القول، وكما قلت وأكرر: إنه فعلاً ذكر الأقوال، وذكر قولاً نسبه إلى بعض السلف لكنه قولاً مجملاً، وفي الحقيقة عند التحقيق تجد أن القول مضطرب ليس بواضح، ولكل واحد فيه تأوّل، فقول من قال بأن النار ينقطع عذابها، وأنه ينتهي عذاب أهل النار، نسبه إلى طائفة من السلف وذكر أدلتهم واستطرد في هذا استطراداً يظن القارئ بأنه يؤيده وهو لا يؤيده، لكن هذا من تمكنه في البحث رحمه الله، وقد استقرأ أقوال الناس حتى سردها في صفحات طويلة. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

معنى كلمة (أهل السنة والجماعة)

معنى كلمة (أهل السنة والجماعة) Q ما معنى كلمة (أهل السنة والجماعة)؟ A كلمة أهل السنة والجماعة من الكلمات البرّاقة التي تحلو لكثير ممن يريد أن يجلب الناس إليها، لكن السنة والجماعة هي سلوك ومنهج وعمل، وهي أيضاً دين وعلم، وهي علم وعمل، وهي قدوة واهتداء واقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وبصحابته، فمن كان على ذلك فهو من أهل السنة والجماعة، ومن لم يكن على ذلك فلا يكون من أهل السنة وإن ادعى هذا، لكن تحسن الإشارة إلى أن بعض الفرق تدّعي أنها أهل السنة والجماعة لا سيما الأشاعرة والماتريدية، فإنهم يدّعون أنهم أهل السنة والجماعة، وهذه الدعوى تحتاج إلى شيء من التفصيل، فالأشاعرة والماتريدية أصناف، فهناك الأشاعرة والماتريدية أصحاب الأصول الكلامية وهم أغلب الأشاعرة، وهؤلاء ليسوا على منهج أهل السنة والجماعة في أغلب أمور العقيدة، وإن وافقوا أهل السنة والجماعة في الأحكام والإيمان والصحابة وبعض القضايا والقواعد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكثير من أصول الفقه، لكن العبرة بالاعتقاد، فهم في الاعتقاد يخالفون أهل السنة والجماعة، وهم من الفرق التي خرجت عن منهج أهل السنة والجماعة، ولذلك سموا أشاعرة وماتريدية، والسلف كانوا يقولون: من انتسب إلى غير الإسلام والسنة فلينتسب إلى أي دين شاء، فهم أشاعرة وماتريدية، ولو قيل لهم: لستم أشاعرة ولا ماتريدية لغضبوا، وهؤلاء هم غالب الأشاعرة أهل الكلام. وهناك من ينتسب إلى الأشاعرة من أهل الحديث وأهل الفقه ومن بعض العُبّاد والنُسّاك وغيرهم، وقد لا يكون على مذهب الأشاعرة، قد يكون من أهل السنة، فهذا سني لكن قد يُخطّأ إذا لم يكن صاحب بدعة، أو يبدّع في انتسابه للأشاعرة فقط، وعلى هذا فدعوى الأشاعرة أنهم أهل السنة والجماعة دعوى تحتاج إلى نظر، وليست مسلّمة لهم، وكما قلت: إن الناس إذا اختلفوا في شيء يتحاكمون إلى الكتاب والسنة، ومن كان على نهج السلف فهو من أهل السنة والجماعة وإن لم يكن كذلك، فما خالف فيه يخرج عن أهل السنة والجماعة، وما وافق فيه أهل السنة والجماعة يُنسب في هذه الجزئية إلى أهل السنة، يقال: إنه في كذا على مذهب أهل السنة.

[13]

شرح عقيدة السلف أصحاب الحديث [13] الإيمان عند أهل السنة والجماعة قول وعمل يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ومن أعظم معاني الإيمان التي يزيد بها: تسليم القلب لله تعالى والإذعان له، وكذلك التقوى واليقين والمحبة والرجاء والتوكل عليه وغير ذلك، إضافة إلى الأعمال الظاهرة التي تدل عليها.

عقيدة السلف أصحاب الحديث في الإيمان

عقيدة السلف أصحاب الحديث في الإيمان الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ومن مذهب أهل الحديث أن الإيمان قول وعمل ومعرفة، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية]. هذه قاعدة عظيمة من قواعد السلف التي خالف فيها المرجئة، وخالفت فيها كثير من الفرق؛ لأن هذه المسألة خالفت فيها المرجئة الأولى مرجئة الفقهاء، وخالفت فيها أيضاً الأشاعرة والماتريدية وكثير من الفرق الكلامية، وتسمى هذه المسألة: مسألة حقيقة الإيمان، أو تعريف الإيمان، أو دخول الأعمال في مسمى الإيمان كل هذه المسميات راجعة إلى معنى واحد وهو: أن الإيمان عند السلف تصديق القلب، وقول اللسان، وعمل الجوارح. وقوله: (إن الإيمان قول وعمل)، هذا أصل مقولة السلف. قال: (ومعرفة)، يقصد بالمعرفة التفصيل والعلم. وقوله: (يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية) أما المقصود بالطاعة فمطلق الطاعة لله عز وجل وليست فقط الطاعة الظاهرة، ويدخل في الطاعة الأعمال القلبية، وهي تسليم القلب وإذعانه لله عز وجل، هذا أعظم معاني الإيمان التي يزيد بها الإيمان، تسليم القلب لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، والمراد الإسلام بمفهومه الشامل، وكذلك التقوى يزيد بها الإيمان، واليقين يزيد به الإيمان، والمحبة لله عز وجل، والخوف والرجاء، والحمد لله والشكر والذكر هذه الأمور إضافة إلى الأعمال التي تدل عليها كلها يزيد بها الإيمان؛ لأن بعض الناس يفهم من معنى الطاعة الطاعة الظاهرة، بينما المقصود بالطاعة أولاً ما يقر في القلب، وما يشتمل عليه القلب من المعاني العظيمة من عبادة الله عز وجل وحبه والتوكل عليه ورجائه إلى آخره، وهي التي ينبثق عنها العمل، فهذه كلها تزيد وتنقص، فالإنسان قد يضعف إيمانه في قلبه، ويظهر ذلك على أعماله. إذاً: الزيادة والنقصان شاملة للمعاني القلبية وشاملة للأعمال؛ لأن بعض الناس يفهم أن الزيادة والنقصان في الأعمال فقط، بل قد يوجد إنسان قد تكون له ظروف فتكون أعماله الظاهرة مناسبة وجيدة، لكن قد يكون في قلبه ضعف، فهذا ينقص إيمانه فيما بينه وبين ربه وإن لم نعلم ذلك ظاهراً، ولذلك ثبت في النصوص أنه قد يكون من عباد الله الأخيار الذين لا يُعرف لهم أعمال ظاهرة قد يكون في مقامه عند الله عز وجل أعظم ممن نرى صلاحه ونشهد له جميعاً بالصلاح، قد يكون أعظم عند الله عز وجل ولا ندري؛ لأنه قد يكون في قلبه من الإجلال والتعظيم والتقوى والصلاح والاستقامة والاستعانة والرجاء والخوف والتوكل وغيره ما لا نعلمه، وقد يكون عنده من سلامة الصدر وغير ذلك مما هي من أعظم الأعمال ما يجعله من أعظم الناس وأزيدهم إيماناً. إذاً: زيادة الإيمان ونقصانه مرتبطة بالأمرين: بأعمال القلب، وبأعمال الجوارح، وهذا هو الفارق بين فهم السلف وفهم المرجئة ومن سلك سبيلهم فالمرجئة ومن سلك سبيلهم يجعلون التصديق لا يزيد ولا ينقص، ولا يدخلون الأعمال في مسمى الإيمان، وإن كان بعضهم كمرجئة الفقهاء الأوائل كـ أبي حنيفة رحمه الله وشيخه حمّاد بن أبي سليمان وغيرهم ممن جاء بعدهم وقبلهم يعظّمون الأعمال، بمعنى: أنهم يعظّمون الواجبات ويستشنعون ترك الواجبات وفعل المعاصي، لكنهم مع ذلك أخطئوا في القضية العقدية في مفهوم الإيمان، لكن ومع ذلك فإن المرجئة المتأخرين قصروا في الأعمال واشتهر عنهم التقصير، وهذه نتيجة لازمة؛ لأن السلف حينما ظهر الإرجاء خافوا من هذه النتيجة وحصل ما خافوا منه؛ فإنهم خافوا من أن يؤدي الإرجاء إلى التساهل والإعراض عن دين الله عز وجل، وكانوا يصرّحون بذلك، رغم أن مرجئة الفقهاء لم يظهر منهم التقصير إنما ظهر التقصير من مرجئة الجهمية، لكن ومع ذلك خافوا من الإرجاء كله، ووقع ما خافوا منه، ولذلك أصرّوا على إثبات هذا التعريف الذي سمّوه حقيقة الإيمان وسمّوه تعريف الإيمان، ويدخلون الأعمال في مسمى الإيمان، وهو أن الإيمان قول وعمل، القول يشمل قول اللسان وقول القلب، والعمل يشمل عمل القلب وعمل اللسان، وأحياناً يُعرّف بمعنى من معانيه الثلاثة التي سبقت الإشارة إليها، وهي التصديق والقول والعمل. والمعرفة هي تصديق القلب، ولذلك عند التفصيل يشار إلى المعرفة، لكن عند الإجمال تكون المعرفة بمعنى التصديق، وإن كانت كلمة (معرفة) يتفاداها السلف، يعني: لا ينبغي لطالب العلم أن يستعملها، لكن نحن نعلم أن الصابوني رحمه الله استعملها بعقل، فنحملها على المحمل الحسن وإلا لا ينبغي التعبير بالمعرفة؛ لأن المعرفة مجرد الكسب العلمي، قد يكون بتصديق وقد يكون بلا تصديق، ولذلك كان من سمات الجهمية التي ذّموا بها أنهم يسمون الإيمان المعرفة فقط، ويسمّون تقبّل الوحي وطلب العلم معرفة فقط، وهذا خطأ شرعاً؛ لأن المعرفة لا تعني التسليم والإذعان، بينما التصديق فيه معنى التسليم والإذعان؛ لأن من صدّق أذعن، وإن لم يلزم ذلك في بعض الجزئيات، لكن في المعنى العام تصديق الله عز وجل وتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم يلزم منه التسليم والإذ

الأسئلة

الأسئلة

زيادة الإيمان بالإخبات والخوف والتعظيم لله عز وجل

زيادة الإيمان بالإخبات والخوف والتعظيم لله عز وجل Q هل تزيد الحسنات للمسلم بشعوره بالإخبات والخوف والتعظيم لله عز وجل؟ ولو كان يحس به المسلم في بعض الأوقات أكثر من الأخرى فهل تزاد له الحسنة أكثر من تلك الأوقات؟ A نعم هذه من أعظم معاني ما يزيد الحسنات، فالمسلم إذا شعر بشيء من الخوف من الله عز وجل ورجاء الله والتعظيم لله وتوقيره في القلب لا شك أن هذا يزيد به الإيمان، وزيادة الإيمان ليست مجرد معنى علمي، بل زيادة الإيمان بإذن الله وكما وعد الله عز وجل تعني زيادة الحسنات، فكل ما يستقر في قلب المؤمن من التقوى والتوكل والخشية لله عز وجل والتعظيم لله فإنه يؤجر على ذلك، وتكون له بذلك الحسنات العظيمة إن شاء الله كما وعد الله. ولا شك أنه كلما ازدادت هذه المعاني في القلب ازدادت إن شاء الله حسنات المسلم، وكلما ضعفت ضعفت حسناته، كالأعمال الظاهرة تماماً، بل إن زيادة الحسنات في المعاني القلبية أعظم من معانيها الظاهرة؛ لأن الظاهرة قد يدخلها شيء مما يراه الناس، بينما المعاني القلبية من زيادة التقوى والإخبات والخضوع والتعظيم لله عز وجل التي بين العبد وبين ربه خالصة، فالغالب -والله أعلم- على مقتضى قواعد الشرع أنها تكون أعظم حسنات وأعظم أجراً. ونسأل الله أن يزيد إيماننا وأن يوفقنا للصالحات، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

[14]

شرح عقيدة السلف أصحاب الحديث [14] يعتقد أهل السنة والجماعة أن الإيمان لا يزول بالكلية بارتكاب الذنوب والمعاصي غير المخرجة من الملة، بل يبقى أصل الإيمان ومطلق الإيمان، بخلاف المرجئة والمعتزلة القائلين بزوال أصل الإيمان بارتكاب المعاصي والذنوب، وكذلك يعتقد أهل السنة أن الذنوب تنقص الإيمان وتضعفه، بخلاف أهل الإرجاء الذين يقولون: لا تضر مع الإيمان معصية، وأن إيمان الواحد منهم كإيمان جبريل وميكائيل. وهذا ضلال وانحراف عن الحق.

عقيدة السلف أصحاب الحديث في حقيقة الإيمان باعتبار زيادته ونقصانه أو زواله

عقيدة السلف أصحاب الحديث في حقيقة الإيمان باعتبار زيادته ونقصانه أو زواله الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [قال سفيان بن عيينة رحمه الله: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، فقال له أخوه إبراهيم بن عيينة: يا أبا محمد تقول: ينقص؟ فقال: اسكت يا صبي! بلى ينقص حتى لا يبقى منه شيء]. وهذا يعني أنه لا يزول بالكلية، وقوله: (لا يبقى منه شيء) يقصد: المعنى الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله في الحديث الصحيح: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، واختلف أهل العلم في معنى زوال الإيمان هنا، أي: نفي الإيمان عن الشخص هل هو زوال أصله بالكلية، أو زوال مقتضى الإيمان، أو زوال الأثر، أو المقصود بأن الإيمان قد يرتفع ويعود؟ ولكل قول دليله. فالذين قالوا: بأنه يبقى أصله، قالوا: إن هذه الأحاديث التي فيها معنى أن الإيمان يزول، كقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) فهذه أحاديث وعيد، وهو قصد كمال الإيمان، وقصد مقتضى الإيمان. والذين قالوا: إنه يزول بالكلية ويعود، استدلوا بمثل قول النبي صلى الله عليه وسلم أنه في آخر الزمان: (يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً) فقالوا: إن الإنسان إذا عرض له عارض يقتضي كفره قد لا يبقى هذا العارض، فيكون كفراً غير مخرج من الملة، كذلك زوال الإيمان هنا لا يخرجه من الملة، فيبقى عنده أصل الإيمان ويزول مقتضاه، وهذا هو الأقرب؛ لأنه لو وقع في الردة لترتب على ذلك أحكام كثيرة، من طلاق لزوجته، ومن أمور كثيرة تحتاج لتجديد التوبة، وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. فإذا نظرنا إلى عموم النصوص فإنا نجد أن مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) هي من أحاديث الوعيد، وأنه يعني بذلك الإيمان المطلوب من العبد، أما أصل الإيمان ومبدؤه فهو باقٍ، فعلى هذا يكون المقصود هنا -والله أعلم- أنه لا يبقى منه شيء من مقتضياته ولوازمه، لكن لا يزول أصلاً. وأما النفاق فهو لون آخر، فالنفاق الخالص يكون صاحبه خالياً من الإيمان، حتى من أصل الإيمان، أما النفاق غير الخالص -وهو وجود خصلة أو خصال النفاق- فهذه تنقص الإيمان، وقد يقال بأن هذا لا يكون مؤمناً حين يفعل هذا الفعل، لكن لا يعني خروجه من الملة؛ لأن مسألة نفي الإيمان أو نفي الإسلام أو الحكم بالكفر لا تعني دائماً الخروج من الملة مطلقاً، ويبقى خيط من بقاء أصل الإيمان عند الإنسان وهو مقتضى الفطرة ومقتضى الأصل عند هذا الإنسان الذي لم يرد عندنا ما نجزم به من خروجه من مقتضاه، ومثل هذا نصوص كثيرة فيها نفي الإيمان، أو نفي الإسلام، أو نفي أن يكون من الأمة، أو أن يكون ممن ينتسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال في أشياء كثيرة: (ليس منا)، وقال: (من غشنا ليس منا)، وقال: من فعل كذا فقد كفر، وذكر خصالاً في الأمة فعلها كفر، فهذه نصوص وهناك نصوص أخرى تقتضي أنه لا يخرج المسلم من الإسلام أو من الإيمان بالكلية إلى الردة إلا بما يخرجه بالكلية أو بقاطع من القواطع التي تخرجه من الملة، فإذا جمعنا بين هذه النصوص نجد أن المقصود هنا نفي الكمال، ونفي المقتضى، ونفي اللوازم، ونفي الأثر، ومثله نفي الإيمان عمن يعمل كبيرة؛ لأنا نعلم قطعاً أن الكبيرة لا تخرج الإنسان من الملة، ومثل هذه الكبائر: الزنا، والسرقة وغيرهما. فإذا كنا نعلم قطعاً أن الزنا والسرقة لا يخرجان الإنسان من الملة، وأنه يبقى مسلماً بمقتضى أحاديث ونصوص كثيرة متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلابد أن نجمع بين النصوص فنقول: هنا قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) ممكن أن يرتفع عنه مقتضى الإيمان تلك اللحظة، لكن يبقى الأصل وتبقى الجذوة الأساسية ثم تعود، فالفترة التي لا اعتبار لها في فعل ما ينافي الإيمان فترة ليست تبقى عند الإنسان، ولو بقيت فقد يخرج من الملة، فمثلاً: لو استحل إنسان الزنا استحلالاً ولم يفعله فإنه قد يخرج من الملة، لكن هذا الفعل وغيره لا يقتضي -والله أعلم- الردة، وما لم يقتض الردة لا نحكم بالمعنى الأشد فيه، بل نحمله على معنى الوعيد، وعلى معنى زوال المقتضى، وزوال اللازم، وزوال الأثر ونحو ذلك. أما حلاوة الإيمان المطلقة فلا تكون إلا بالكمال، لكن الشعور بحلاوة الإيمان قد يتجزأ، فالإنسان قد يجد حلاوة الإيمان في عمل من أعمال الخير، حتى وإن كان عنده قصور في الأمور الأخرى، وهذا أمر معلوم، والإنسان قد يجد حلاوة الإيمان في بعض أعمال الطاعات التي يعملها وإن قصر أو أذنب في أمور أخرى، لكن من تكاثرت ذنوبه قد يفقد حلاوة الإيمان، ومن كان الأغلب عليه الاستقامة والصلاح قد يجد كمال حلاوة الإيمان، والله أعلم.

رد السلف على أهل الإرجاء

رد السلف على أهل الإرجاء قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال الوليد بن مسلم: سمعت الأوزاعي ومالكاً وسعيد بن عبد العزيز يُنكرون على من يقول: إقرار بلا عمل، ويقولون: لا إيمان إلا بعمل. قلت: فمن كانت طاعاته وحسناته أكثر فإنه أكمل إيماناً ممن كان قليل الطاعة كثير المعصية والغفلة والإضاعة. وقال أحمد بن سعيد الرباطي: قال لي عبد الله بن طاهر: يا أحمد إنكم تبغضون هؤلاء القوم جهلاً، وأنا أبغضهم عن معرفة، إن أول أمرهم: أنهم لا يرون للسلطان طاعة، والثاني: أنه ليس للإيمان عندهم قدر، والله لا أستجيز أن أقول: إيماني كإيمان يحيى بن يحيى، ولا كإيمان أحمد بن حنبل، وهم يقولون: إيماننا كإيمان جبريل وميكائيل]. هذا لازم قول المرجئة، وقد تفهم أنت فهماً خاطئاً بأنه يلزم من كلامه كذا، لكن لا يلزم ما دام يمكن أن يفسر كلامه، أما العقيدة التي تستمر وينظر فيها الناس ويواجهها السلف ويواجهون أصحابها ويناظرون فيها، فإن اللازم يلزم فيه حتى لو لم يلتزمه صاحبه، ولذلك بدّعوا كل من قال بالإرجاء حتى وإن فهم الإرجاء فهماً يخالف فهم المرجئة؛ لأنه يعد مبتدعاً بمجرد تعلقه بالإرجاء، وهذه مسألة مهمة جداً يجب أن نفهمها فيما يتعلق بأفعال الناس وأقوالهم. فنأخذ المرجئة مثالاً: إذا كان الإنسان على مذهب المرجئة، أو قال ببعض أقوال المرجئة، أو انتسب للمرجئة انتساب تمذهب ففي كل هذه الأحوال نعده مبتدعاً، ومع ذلك قد يفسّر الإرجاء بتفسير يخالف المرجئة، لكن كونه وقع في رفع الشعار فقد ابتدع، لكن بدعته أخف، والدليل على هذا أن أئمة السلف أنكروا على أبي حنيفة تعلقه بالإرجاء، مع أنه لم يلتزم ما التزمته المرجئة المتأخرة من التساهل بالأعمال، بل العكس فقد كان أبو حنيفة ومن حوله من الأئمة في ذلك الوقت الذين يقولون بالإرجاء كانوا يعظّمون الأعمال، وكان عندهم من الزهد، والورع، والاستقامة، والحرص على الفرائض، وعدم التفريط، والبعد عن المعاصي، ما يجعلنا نجعلهم كسائر أئمة السلف، بل ربما يفوق بعضهم بعض الآخرين، لكن اللازم يلزمهم اعتقاداً وعلماً بأن هذا لازم المذهب، لا سيما أنه مذهب مقنن ومقرر، له مناهج وأصول وبقي في الناس، فعلى هذا نقول: إن من لازم قول المرجئة، سواء التزمه بعضهم كما صرحوا، أو لم يلتزم كما نفى بعضهم، أنه ما داموا قالوا بأن الإيمان هو التصديق، فيلزم من قولهم هذا أن الناس على حد سواء في إيمانهم، سواء من كان أعظم إيماناً كالملائكة والنبيين والصدّيقين والصالحين، أو من كان أضعف إيماناً كأصحاب المعاصي والفجور؛ لأنهم كلهم صدّقوا، والتصديق في حد ذاته لا يزيد ولا ينقص، إنما قد يزيد اليقين، وبعضهم يخرج اليقين عن مقتضى التصديق، فعلى هذا يعتبر من لوازم قولهم أنه ليس للإيمان عندهم قدر؛ لأنهم قالوا: إيمان أحمد بن حنبل كإيمان جبريل وميكائيل. والمرجئة في عهد السلف كانوا أكثر إيماناً وأكثر التزاماً لعمل الصالحات والبعد عن المحرمات، لكنهم تأولوا، لكن جاء من بعدهم من المرجئة المتأخرين فصدقت فيهم فراسة السلف، فإن أمرهم أدى إلى الإعراض عن الدين، وفعلاً المرجئة الآن من أكثر الناس إعراضاً عن الدين، وإن كانوا يتفاوتون. وأما كونهم لا يرون للسلطان طاعة، ففي الحقيقة هذه مسألة تخفى على كثير من طلاب العلم، وهي مسألة مهمة جداً فيما يتعلق بمناهج أهل الأهواء، فمن السمات والمناهج والأصول المشتركة عند جميع أهل الأهواء أنهم كلهم لا يرون للسلطان طاعة، كالمرجئة، والقدرية، والجهمية، والمعتزلة، وأهل الكلام المتأخرين، وخاصة أهل الكلام بالذات، أما من انتسب للكلام كبعض الأشاعرة والماتريدية فقد يقولون بقول السلف في مسألة السلطان، لكن من أصول مذاهبهم أنهم يرون الخروج على السلطان وعدم طاعة السلطان، كذلك من قبلهم الخوارج والسبئية الرافضة ومن سلك سبيلهم كلهم لا يرون للسلطان طاعة، وهذا مبدأ عام عند جميع الفرق إلا النادر، والنادر لا حكم له؛ فلذلك كان بعض السلف يسمون كل أهل الأهواء -أياً كانت شعاراتهم- خوارج، حتى لو لم يكونوا خوارج خلّص، مثل تسميتهم كل من أنكر كلام الله بأنه جهمي، وتسميتهم كل من أنكر الرؤية بأنه جهمي، وقد يكون هذا المنِكر لا يعرف الجهمية ولا يدري ما الجهمية. فالشاهد: أن من سمات المرجئة قديماً وحديثاً أنهم لا يرون للسلطان طاعة، بمعنى: أنهم يرون الخروج ويستجيزونه، ويخالفون السلف مخالفة جزئية أو كلية في مسألة التعامل مع السلطان. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال إسحاق بن إبراهيم الحنظلي: قدم ابن المبارك الري فقام إليه رجل من العُبّاد -الظن به أنه يذهب مذهب الخوارج- فقال له: يا أبا عبد الرحمن! ما تقول فيمن يزني ويسرق ويشرب الخمر؟ قال: لا أخرجه من الإيمان، فقال: يا أبا عبد الرحمن!

لا يكفر أحد من المسلمين بكل ذنب

لا يكفر أحد من المسلمين بكل ذنب قال رحمه الله تعالى: [ويعتقد أهل السنة أن المؤمن وإن أذنب ذنوباً كثيرة صغائر وكبائر فإنه لا يكفر بها، وإن خرج من الدنيا غير تائب منها ومات على التوحيد والإخلاص فإن أمره إلى الله عز وجل، إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة يوم القيامة سالماً غانماً، غير مبتلى بالنار ولا معاقب على ما ارتكبه واكتسبه، ثم استصحبه إلى يوم القيامة من الآثام والأوزار، وإن شاء عاقبه وعذبه مدة بعذاب النار، وإذا عذبه لم يخلده فيها، بل أعتقه وأخرجه منها إلى نعيم دار القرار]. وعلى هذا تكون عموم الذنوب ثلاثة أصناف: الصنف الأول: الشرك بالله عز وجل، يعني: الشرك الخالص شرك العبادة، فهذا لا يغفره الله عز وجل، وصاحبه مخلّد في النار، نسأل الله العافية، ويدخل فيه الشرك بالله؛ لأن بعض الناس يفهم من الشرك فقط عبادة الأصنام أو عبادة الأوثان أو دعاء غير الله عز وجل، نعم هذه أبرز مظاهر الشرك بالله الشرك العظيم، لكن من الشرك العظيم: الإلحاد بدين الله عز وجل، ومن الشرك: عدم طاعة الرسل، ومن الشرك: النفاق الخالص فالنفاق الخالص شرك أيضاً وصاحبه مخلد في النار، نسأل الله العافية. إذاً: فالمنافقون الخلّص والملاحدة وعُبّاد الأصنام ومن سلك سبيلهم ومن كان على نحوهم كل هؤلاء يعدون من المشركين، وكذلك يدخل غيرهم ممن دخل في الشرك وإن انتسب لغير المشركين، فمثلاً: اليهود الآن مشركون، لأنهم قالوا: عزير ابن الله، وعبدوا مع الله غيره، والنصارى مشركون؛ لأنهم زعموا أن الله ثالث ثلاثة، وزعموا بأن عيسى ابن الله! تعالى الله عما يزعمون ونحو ذلك، فأعطوا البشر خصائص الإلهية فهم مشركون، حتى لو زعموا أنهم يعبدون الله ولا يعبدون غيره. والشرك يكون في الاعتقاد والعمل، ويكون في العمل فقط، ويكون بالاعتقاد فقط، والتمييز بين الاعتقاد والعمل ليس عندنا عليه أدلة قاطعة؛ لأن الإنسان إذا ظهر منه شيء يحكم بشركه ما لم يأت عارض آخر. فالشاهد: أن الصنف الأول من الأعمال هو الشرك، سواء من المشركين الخلّص أو ممن وقع في الشرك ولو ادعى الإسلام، فمن وقع في الشرك الخالص فعمله يخرجه من الملة ويكون من أهل النار المخلّدين. الصنف الثاني: الكبائر، والمقصود بها هنا الكبائر التي تحدث من المسلم، وإلا فكبائر المشركين وكبائر الكفار لا تعادل شيئاً أمام كفرهم الأصلي، فنحن نتحدث عن الكبائر من المسلمين، فالكبائر من المسلم إذا حدثت هذه حكمها أولاً: أنه إذا تاب منها في الدنيا تاب الله عز وجل عليه، والأصل عندنا أنه تاب، فإذا تاب المسلم من الكبيرة تاب الله عليه، وأصبح كمن لا ذنب له، بل من فضل الله وكرمه ومنّه أن الله يبدّل سيئاته حسنات، وإذا لم يتب وكان مصراً على كبيرته فيبقى التفصيل في أحواله في الآخرة، فإنه مات فاسقاً وعاصياً لكنه مسلم، فيوم القيامة ورد في النصوص أن أهل الكبائر على نوعين: منهم من يغفر الله له فيدخل الجنة بفضل الله ورحمته ومنِّه، ومنهم من يستوجب النار بكبيرته، لكنه لا يخلّد فيها، فيخرج منها بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وبشفاعات أخرى وبرحمة الله عز وجل وفضله، وليس هناك قسيم ثالث في مسألة أهل الكبائر، فمنهم من يغفر الله له، ومنهم من يُعذّب، ومن يُعذّب لا يخلد في النار. الصنف الثالث من الذنوب: الصغائر، فالصغائر تكفّرها الأعمال الصالحة، ويكفّرها الاستغفار، والصدقات، وتكفّرها أعمال البر، وتكفرها التوبة المطلقة، وإن لم تكن توبة معينة، إلا أن الصغائر إذا تكاثرت تصبح كبائر؛ لأن الإكثار من الصغائر مبارزة لله عز وجل، لذلك قال كثير من السلف: إن الإصرار على الصغيرة كبيرة؛ لأنه مبارزة، فالإصرار كأنه ذنب وزيادة، فهو فيه عناد للشرع، وفيه إعراض عن ذكر الله وأمره، وفيه إعراض عن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكثير من أهل العلم وكثير من السلف يعتبر الإصرار على الصغيرة كبيرة، فيدخل في مفهوم الكبائر. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وكان شيخنا سهل بن محمد رحمه الله يقول: المؤمن المذنب وإن عُذِّب بالنار فإنه لا يلقى فيها إلقاء الكفار، ولا يبقى فيها بقاء الكفار، ولا يشقى فيها شقاء الكفار. ومعنى ذلك: أن الكافر يسحب على وجهه إلى النار، ويُلقى فيها منكوساً في السلاسل والأغلال والأنكال الثقال، والمؤمن المذنب إذا ابتلي بالنار فإنه يدخل النار كما يدخل المجرم في الدنيا السجن على الرجل من غير إلقاء وتنكيس. ومعنى قوله: (لا يلقى في النار إلقاء الكفار) أن الكافر يُحرق بدنه كله، وكلما نضج جلده بُدّل جلداً غيره؛ ليذوق العذاب، كما بينه الله في كتابه في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56]. وأما المؤمنون فلا تلفح وجوههم النار، ولا تحرق أعضاء السجود منهم، إذ حرم الله على النار أعضاء سجوده. ومعنى قوله: (لا يبقى في النار بقاء الكفار): أن الكافر يُخلّد فيها و

الأسئلة

الأسئلة

معنى قول ابن المبارك: (ولو علمت أني قبلت مني حسنة لشهدت أني في الجنة)

معنى قول ابن المبارك: (ولو علمت أني قبلت مني حسنة لشهدت أني في الجنة) Q ما مقصود ابن المبارك بقوله: ولو علمت أني قُبلت مني حسنة لشهدت أني في الجنة؟ A قصده: لو أني ضمنت أن الحسنة مقبولة فمن الطبيعي أن جميع الحسنات تكون مقبولة، ومن ضمن قبول الحسنات ضمن الجنة، فلا يجزم أحد بأن عمله قُبل، فهو ضرب مثلاً بالحسنة، وهو يقصد جنس الحسنة، وليس مفرد الحسنة، وكأنه يقول: لو علمت أن حسناتي مقبولة لضمنت الجنة؛ لكن من يعلم أنها مقبولة؟ لأن الحسنة قد تُقبل وقد لا تُقبل، وعدم قبولها إما لعارض أو لذنب آخر أو إلى آخره. فيبدو لي أنه يقصد جنس الحسنات هنا، وضرب مثلاً بحسنة؛ لأنه إذا وجد مبدأ قبول حسنة وجد أصلاً مبدأ قبول الحسنات جميعاً، هذا القصد، وهذا يرجع إلى الأصل والمبدأ ولا يرجع إلى المثال، فالأصل القبول؛ لأنه إذا ضمن أنه قبلت منه حسنة فكأنه جاء بمبدأ أن الحسنات مقبولة مطلقاً، هذا معناها، وإذا قُبلت الحسنة الواحدة مطلقاً فمن الطبيعي أن جميع الحسنات عند صاحب هذا المبدأ تكون مقبولة مطلقاً، كما يقول الجهم، فعلى هذا كأنه يقول: أنا ضامن الجنة؛ لأن الحسنات يذهبن السيئات، فالحسنات حاكمة على السيئات، والخير مهيمن على الشر، والرحمة أسبق من العذاب، هكذا أصل المبدأ، لكن المسألة راجعة إلى أمور غيبية، فالإنسان يعمل الحسنات يرجو من الله عز وجل القبول، والقبول ليس بمضمون. فإذاً: قصد الأئمة بهذا الكلام هو أصل المبدأ مبدأ قبول الحسنة، وإذا قُبلت الحسنة قُبلت غيرها، وإذا قُبلت غيرها محيت السيئات وهكذا، لكن ليست مضمونة. فـ ابن المبارك يقصد الرد على الذين يقولون: لا تضر مع الإيمان معصية، والحسنة جزء من الإيمان، فهؤلاء يلغون اعتبار المعاصي؛ لأنهم يرون أن الإيمان هو التصديق في القلب، وأن القلب إذا صدّق لا يضره مع ذلك ذنب، فدائماً السلف يمثّلون الشيء بجزئه؛ نظراً لأن الناس كانت أذهانهم ومداركهم في ذلك الوقت واضحة وصافية، فكانوا يعبّرون عن الشيء بمثاله، ويعبّرون عن الشيء بجزئه، ويرمزون إلى الشيء بمجرد الرمز والباقي يكون معروفاً، فهذا الأمر مترتب على لوازمه، فإن السلف الذين قالوا -سواء من الصحابة أو غيرهم-: لو ضمنا الحسنة لضمنا الجنة، أو عبروا بأي عبارة قصدهم بهذا أصل المبدأ، وكأنهم يقولون للمرجئ: ما دمت تقول: إنه لا يضر مع الطاعة معصية ولا مع الإيمان معصية فهذا يعني: أن الحسنة الواحدة إذا قبلت ضمنا الجنة؛ لأن المعاصي لا اعتبار لها، والحسنة لا تحدث إلا بإيمان، فإذا وجد أصل الإيمان -ما دام أنه لا اعتبار للمعاصي- فكأن الإنسان بالحسنة الواحدة ضمن الجنة، وهذا التزمه بعض المرجئة كمرجئة الجهمية، وبعض المرجئة لم يلتزموها، لكن هو من لوازم القول، فهذا على سبيل التمثيل للإشارة إلى الأصول التي عليها المرجئة لا للمبدأ الذي عليه أهل السنة والجماعة.

معنى أثر عمر: (لو أعلم أن الله قبل مني حسنة لدعوت الله أن يقبضني)

معنى أثر عمر: (لو أعلم أن الله قبل مني حسنة لدعوت الله أن يقبضني) Q ما معنى ما روي عن عمر رضي الله عنه من قوله: لو أعلم أن الله قبِل مني حسنة لدعوت الله أن يقبضني؛ لأنه إنما يتقبل الله من المتقين؟ A يقصد على مبدأ المرجئة ليس على الأصل الذي عند أهل السنة، فأهل السنة يقولون: قد تُقبل من الإنسان الحسنات، لكنها لا تعني نجاته بالضرورة، فقد تكون سيئاته أكثر من حسناته، والمرجئة لا يقولون هذا، فكأنه يقول: على مبدئكم أيها المرجئة! لو ضمنت أنها قُبلت مني الحسنات لضمنت الجنة. وظهر لي أن قصده مبدأ الحسنات ليس الحسنة الواحدة، والحسنات بمجموعها، فما دام أن القصد المبدأ فيصبح الأمر مفسّراً على هذا؛ لأن القصد هو الرد على المرجئة، فنستصحب الحال ولا نخرج عن المقام الذي كان هو مبرر الكلام.

[15]

شرح عقيدة السلف أصحاب الحديث [15] تارك الصلاة عمداً جاحداً لها يكفر بالاتفاق، والخلاف فيمن تركها كسلاً وتهاوناً، وعامة السلف على كفر تارك الصلاة عموماً. أما ما يتعلق بأفعال العباد فيعتقد أهل السنة أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى فهو شاءها وقدرها، لكنه سبحانه أقدر العباد عليها -أي: الأفعال الاختيارية- خلافاً للقدرية وغيرهم، فإنهم يقولون: إن العبد يخلق فعله. وهذا انحراف وضلال؛ لأنهم أثبتوا خالقين، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.

حكم تارك الصلاة

حكم تارك الصلاة الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. قال المصنف رحمه الله تعالى: [واختلف أهل الحديث في ترك المسلم صلاة الفرض متعمداً، فكفّره بذلك أحمد بن حنبل وجماعة من علماء السلف رحمهم الله، وأخرجوه به من الإسلام؛ للخبر الصحيح: (بين العبد والشرك ترك الصلاة، فمن ترك الصلاة فقد كفر). وذهب الشافعي وأصحابه وجماعة من علماء السلف رحمة الله عليهم أجمعين إلى أنه لا يكفر ما دام معتقداً لوجوبها، وإنما يستوجب القتل كما يستوجبه المرتد عن الإسلام، وتأولوا الخبر: من ترك الصلاة جاحداً، كما أخبر سبحانه عن يوسف عليه السلام أنه قال: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [يوسف:37]، ولم يك تلبس بكفر فارقه، ولكن تركه جاحداً له]. مسألة كفر تارك الصلاة على أنواع: النوع الأول: من ترك الصلاة كسلاً وتهاوناً، فهذا فيه نزاع وخلاف بين أهل العلم، فبعضهم قال بأنه يكفر؛ بناءً على ظاهر الحديث، ولأن الصحابة رضي الله عنهم شددوا على أمر الصلاة، حتى قالوا: ليس شيء من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة، أو أنهم ما كانوا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة، وهذا نقل لقول جميعهم في الجملة، وبعضهم قال: إن من تركها كسلاً يكون كفره كفر معصية، وإن استوجب القتل عند بعضهم فإنما استوجبه تعزيراً، وبعضهم استثنى من تارك الصلاة كسلاً من داوم على تركها حتى وإن كان كسلاً، وقالوا: من داوم على تركها كسلاً دائماً فإنه يكفر كفراً مخرجاً من الملة، حتى وإن لم يجحد وجوبها. فعند السلف قول قوي في أن من استمر وداوم على الإعراض عن الصلاة فإنه يكفر كفراً مخرجاً من الملة، أما من تركها كسلاً، بمعنى: أنه يصلي أحياناً ويترك أحياناً، فهذا هو الذي فيه الخلاف، وأما من تركها عمداً فإن كان عن جحد لوجوبها فهذا كافر باتفاق الأئمة قديماً وحديثاً، من تركها عمداً جاحداً لوجوبها فلا شك أنه يخرج من الملة؛ لأنه جحد معلوماً من الدين بالضرورة، وجحد ركناً من أركان الإسلام، وحكمه حكم المعرض عن الدين بالكلية، أما من تركها عمداً مع الإقرار بوجوبها فالقول الراجح أنه أيضاً يكفر كفراً مخرجاً من الملة؛ لأنه تعمد، بمعنى: أنه داوم على تركها عمداً، ويدخل فيمن تركها كسلاً على وجه الدوام؛ لأن المداومة على الترك لا تسمى كسلاً في الحقيقة، وإن كان ظاهرها الكسل، لكن المداومة على الترك تشبه العمد أو هو نوع من العمد. فعلى هذا يتداخل القول الأول هذا مع القول الثاني فيمن تركها عمداً غير جاحد لوجوبها، بمعنى أنه فرّط عن عمد ولم يكن مجرد تثاقل أو مجرد كسل أو تفريط أو نحو ذلك، إنما تعمد تركها مع تهيؤ الفرص له، ومع الاستعداد لوجود الأسباب الموجبة لإقامة الصلاة وغير ذلك. فعلى هذا يكون الراجح من هذه الأقوال: أن من ترك الصلاة كسلاً باستمرار فهو نوع من العمد، بمعنى: أن من داوم على تركها لا يؤديها فالظاهر -وهو رأي جمهور السلف والذي تقتضيه النصوص- أنه يعتبر كافراً كفراً مخرجاً من الملة، أما من تركها كسلاً -بمعنى: أنه أحياناً يفعل وأحياناً يترك- فهذا هو محل الخلاف، ومع ذلك كثير من أئمة الدين يرجّحون أنه يكفر كفراً مخرجاً من الملة، لكن يبقى الكلام محل نزاع، وليس هو الإجماع عند السلف ولا حتى قول الأكثر. أما العمد والاستمرار على تركها عمداً والجحد أيضاً فلا شك أنه باتفاق يكون مخرجاً من الملة. وفي حال ترك الصلاة سنة أو سنتين أو أشهر طويلة يكون ارتد، وكونه صلى مرة أخرى هذا محل خلاف، هل مجرد إقامة الصلاة تعتبر دخولاً في الإسلام أو لابد أن ينطق بالشهادتين إلى آخره؟ هذا راجع إلى معنى كلام أهل العلم في تجديد الإسلام، وإلا فمن داوم على تركها فلابد أن يجدد إسلامه من جديد، بمعنى: أنه مرتد، لكن هل بعودته إلى الصلاة يعتبر رجع إلى الإسلام؟ هذه المسألة محل خلاف والله أعلم. فالمهم أن المداومة هي الاستمرار على ترك الصلاة وقتاً طويلاً، أما من يصلي مثلاً غالباً ويترك أحياناً كسلاً، فهذا محل خلاف، والخلاف فيه قوي، وكثير من المحققين من أهل العلم قديماً وحديثاً من الصحابة والتابعين وأئمة السلف إلى يومنا هذا من أئمة الدين نجد أن كثيراً منهم يرجّحون أن من تركها ولو تهاوناً وكسلاً يعتبر مرتداً خارجاً من الملة إذا كانت هذه ظاهرة عنده، بمعنى: أنه يترك أحياناً ويصلي أحياناً، فهذا متلاعب بالصلاة. والمتهاون القول الراجح أنه مرتد. وأما ترك الصلاة في المسجد دائماً فهو كبيرة من كبائر الذنوب، يعني: إذا كان يصلي منفرداً في بيته ويترك الصلاة في الجماعة فهذا مرتكب لكبيرة من كبائر الذنوب، ولا يعد خارجاً من الملة، وليس بكافر، لكنه مرتكب لكبيرة من كبائر الذنوب، وأما صلاة الجماعة بأهله فليست هي الجماعة المقصودة، وإنما المقصودة هي جماعة المسجد. والمؤلف أحياناً يرجّح، أما هنا فساق الأقوال وتركها؛ لأن المسأل

عقيدة السلف أصحاب الحديث في أفعال العباد

عقيدة السلف أصحاب الحديث في أفعال العباد قال المصنف رحمه الله تعالى: [ومن قول أهل السنة والجماعة في أكساب العباد أنها مخلوقة لله تعالى، لا يمترون فيه، ولا يعدون من أهل الهدى ودين الحق من ينكر هذا القول وينفيه]. هذه المسألة راجعة إلى القول في مقادير العباد بما فيها أكساب العباد، وأكساب العباد جزء من مقاديره، والمقصود بأكساب العباد أفعالهم التي يفعلونها؛ فإنها تسمى أكساباً؛ لأنهم يفعلونها بما أعطاهم الله عز وجل من القدرة والإرادة. وهذه المسألة في الحقيقة من دقائق مسائل القدر التي خاض فيها المتكلمون خوضاً موّهوا فيه على كثير من الناس ولبّسوا فيه، وخرجوا عن قول السلف، وأدخلوا فيها مسألة الكسب، أي: أفعال العباد، فأهل السنة والجماعة يقولون: إن أفعال المكلفين المختارين الاختيارية هي مخلوقة لله عز وجل، فالله عز وجل علم أفعال العباد وكتبها وشاءها وقدرها سبحانه في سابق علمه، ثم إنه هو الخالق لها، لكنه أقدرهم عليها، فعلى هذا يكون محل الخلاف هو أفعال العباد الاختيارية التي تحدث من طرف المكلفين، وعلى هذا تخرج أفعال العباد غير الاختيارية؛ لأنها بإجماع لا تكون إلا تحت إرادة الله الكونية، ولا تسمى أفعالاً لهم، لكنها تحدث فيهم، فحركة القلب وحركة الدم وجميع الحركات التي تسمى عند الناس اللاإرادية في الإنسان هذه داخلة في تقدير الله الكوني، وليست هي محل الخلاف، محل الخلاف هو أفعال العباد الاختيارية من المكلفين الذين عندهم تمييز وعقل، وإلا فأفعال الأطفال وأفعال المجانين وأفعال المخرّفين وأفعال غير المميزين لا تدخل في الخلاف، وإنما حصل الخلاف هنا في أفعال العباد المكلّفين الذين عندهم قدرة، وفيما يدخل تحت نطاق قدرتهم، هذا هو محل الخلاف، وهذا يسمى أكساب العباد أو كسب العباد، فأهل السنة والجماعة قالوا بالحق الذي تقتضيه النصوص، وردوا متشابه النصوص في هذه الأمور إلى المحكم، فأيقنوا بموجب قطعيات النصوص أن الله عز وجل هو المقدر لأفعال العباد الاختيارية، وأنه خالقها، وأنه سبحانه علمها وكتبها وشاءها ثم خلقها، وأن ذلك لا يتنافى مع إقدارهم عليها، فإن الله عز وجل أقدرهم على فعل هذه الأمور، ولأنه عز وجل هو علّام الغيوب وهو عليم بذات الصدور علم ما العباد فاعلون، وقدّر مقاديرهم. والخلاف في هذا كثير، لكن أهم من خالفهم متكلمة الأشاعرة والماتريدية، خاصة الأشاعرة فإنهم قالوا: إن أفعال العباد قدرها الله عز وجل بناء على عزمهم على الفعل، فإن الله لم يُوجد عندهم القدرة على كسب الأفعال إلا حين الفعل، ولم يخلق لهم القدرة لا قبل ولا بعد الفعل، ولم يكن عندهم استعداد ولا مقدرة على الفعل لا قبل ولا بعد، فلذلك صار عندهم نوع من الجبر، والشيخ هنا لم يكن يقصد الرد على هذا الصنف، لكن أنا أشرت إليه؛ لأن الأشاعرة هم الذين يستعملون كلمة الكسب والأكساب؛ فإنهم يرون أن أفعال العباد ليست من مقدورهم مع أنا نعلم أن الله عز وجل جعل أفعال العباد من خلقه، لكنه جعلها من مقدور العباد، فقالوا: إنها ليست من مقدورهم، بمعنى: أنه لم توجد عندهم القدرة على الأفعال لا قبل الأفعال ولا بعدها، إنما القدرة يصنعها الله عز وجل ويخلقها أثناء عزم الإنسان على الفعل، ويسمون هذا الكسب، لكن الذين أشار إليهم الشيخ هنا هم القدرية الخالصة، والتي تمثلت بالمعتزلة الذين زعموا أن أفعال العباد ليست من خلق الله عز وجل ولا من تقديره، إنما قالوا: إن الله عز وجل أوجد عندهم عموم القدرة، لكن مفردات الأفعال ليست من خلق الله، فهم يزعمون أن الله عز وجل جعل القدرة الكامنة هي الخالقة للفعل، أي: أنه أعطى الإنسان قدرة كامنة فيه، وهذه القدرة هي المتسببة في الفعل، وكثير منهم لم يصرّحوا بأن الإنسان خالق أفعاله، لكن هذا من لوازم قولهم؛ لأنهم قالوا: مقادير أفعال العباد الاختيارية ليست من تقدير الله، ولم يقدرها الله عز وجل، حتى إن بعضهم نفى العلم وقال بأن الله لم يعلمها حتى حدثت، لكن لما صودموا بقوة إنكار السلف قالوا: إنه علمها، فبقوا في الكتابة فبعضهم أنكر الكتابة وبعضهم تأولها وبعضهم أثبتها. أيضاً ربما بعضهم أثبت المشيئة العامة لكنه نفى الخلق، وقال بأن الإنسان مقدر أفعاله، وأن الإنسان موجد أفعاله، فعلى هذا المعتزلة يرون أن أفعال العباد ليست مخلوقة لله عز وجل، ويزعمون أن ذلك لا يليق في حق الله عز وجل؛ لأنهم عندهم شبهة وهي أنهم يقولون بأنه لا يليق بأن الله عز وجل يخلق أفعال العباد ثم يحاسبهم عليها، خاصة أفعال الشر، فإذاً: بزعمهم لابد أن يكون العباد هم الموجدون لأفعالهم وهم المقدرون لها، وهذا القول هو الذي انتهت إليه المعتزلة؛ ولذلك ألزموا بأن يقولوا بأن هناك خالقاً مع الله عز وجل، فقيل لهم: إذا لم تكن أفعال العباد من تقدير الله عز وجل فلابد أن تكون من تقدير مقدر مع الله حتماً، وأنه يحدث في ملك الله ما لا يشاؤه ولا يريده، فلذلك ألزموا بأن يقولوا بأن الإنسان خالق أفعاله، ومنهم من التزم ذلك أو صرّح بأن الإنسان خالق أفعاله، لكن جمهور المعتزلة يتورعون عن أن يقولوا بأن الإنسا

عقيدة السلف أصحاب الحديث في مسألة الهداية والإضلال

عقيدة السلف أصحاب الحديث في مسألة الهداية والإضلال قال المصنف رحمه الله تعالى: [ويشهدون أن الله تعالى يهدي من يشاء لدينه، ويضل من يشاء عنه، لا حجة لمن أضله الله عليه، ولا عذر له لديه، قال الله عز وجل: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149]، وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة:13] الآية، وقال: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} [الأعراف:179] الآية. سبحانه وتعالى خلق الخلق بلا حاجة إليهم، فجعلهم فرقتين: فريقاً للنعيم فضلاً، وفريقاً للجحيم عدلاً، وجعل منهم غوياً ورشيداً، وشقياً وسعيداً، وقريباً من رحمته وبعيداً، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54]، قال عز وجل: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأعراف:29 - 30]، وقال: {أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} [الأعراف:37]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: هو ما سبق لهم من السعادة والشقاوة]. في هذا المقطع بعض المسائل تحتاج إلى وقفة: الأولى: مسألة الهداية والإضلال، وهذه مسألة في الحقيقة كثيراً ما يخوض فيها الناس، وهي من الأمور التي انبثقت أو خرجت منها شبهات القدرية الأولى والقدرية الثانية، المعلوم من نصوص الشرع القاطعة وما أجمع عليه السلف وهو مقتضى العقل السليم والفطرة، أولاً بأن الله عز وجل له الحكم وله الأمر، وأنه لا راد لقضائه سبحانه، ولا معقّب لحكمه، وأنه يفعل في خلقه ما يشاء، فلو جعل جميع خلقه من الهداة لكان له ذلك ولا راد لقضائه ولا معقّب لحكمه، ولو جعلهم كلهم إلى غير هذا المصير لكان الله عز وجل له ذلك؛ لأن الله له الملك وله الأمر ويفعل في ملكه ما يشاء، هذه قاعدة مجملة إذا استشعرها الإنسان استراح من أن يخوض في دقائق الأمور، هذا أمر. الأمر الآخر: أن مسألة الهداية والإضلال مبنية على علم الله السابق في ماذا سيفعل العباد، والله عز وجل حينما قدّر على طائفة من عباده الشقاوة قدرها لأنه عالم بأنهم سيسلكون طريق الشقاوة اختياراً لا قسراً؛ لأن الله عز وجل أعطاهم الاستعداد وأوجد عندهم القدرة وبيّن لهم الطريق، فليس لأحد حجة، فمن هنا كانت كتابة السعادة والهداية والضلال والسعادة والشقاوة مبنية على علم الله السابق عن العباد أنهم فاعلون، ثم بعد ذلك حينما جعل فريقاً للنعيم -نسأل الله أن يجعلنا جميعاً منهم- هذا فضل منه سبحانه، وحينما جعل فريقاً للجحيم هذا مقتضى عدله، وبعض الناس قد لا يفرّق بين العبارتين، أو لا يفهم ما معناها، وقد قلنا بأن الذين أنعم الله عليهم أنعم الله عليهم بفضله سبحانه ورحمته؛ لأن أعمال العباد مهما بلغت من الكمال لا تكافئ شيئاً من نعم الله عز وجل، فلو أن إنساناً كان أكثر المعمّرين عمراً وقضى جميع عمره في أكمل عبادة يريدها الله عز وجل، فإنه لا يبلغ بذلك مجازاة أو مكافأة نعمة الله عليه؛ بل إن عمله للصالحات هو بتوفيق الله. إذاً: ليس هناك شيء يكافئ نعمة الله عز وجل، وأي عمل يعمله الإنسان لا يكافئ نعمة الله، فنعمة الله عز وجل على العبد أولاً بوجوده، ثم بتوفيقه له، وتيسير الأمر له، وتهيئة الوسائل العقلية والجوارح والاستعدادات والنبوات والكتب والتوفيق والفطرة والعقل السليم، تهيئة هذه الأمور للعبد ليطيع الله بها، هذه نعمة من الله، ولو لم يهيئها الله للعبد فلا يمكن أن يعبد الله أو يوفق، ثم نعمة التوفيق هي بحد ذاتها نعمة لا يكافئها من العبد عمل أبداً، فعلى هذا تكون هداية من هداه الله عز وجل والإنعام على من أنعم الله عليه، والحكم بالسعادة والجنة على طائفة من عباده هذا من فضل الله عز وجل، ليس بعمل العبد. المسألة الأخرى: كونه عز وجل كتب الشقاوة على طائفة من عباده هذا عدل منه، بمعنى: أنه كتبها عليهم بعملهم، ولم تكن الشقاوة مبنية إلا على علم الله عن هؤلاء العباد أنهم سيعصون ويكفرون، ومن هنا كتب الله عليهم الشقاوة. وهذا راجع إلى معنى التوفيق والهداية، ومعنى عدم التوفيق الإضلال والشقاوة ومترتباتها، ونحن نعلم يقيناً بمقتضى النصوص والفطرة السليمة والعقل الذي يعقل به الإنسان أن الله عز وجل حينما خلق البشر ما تركهم سدى، ولا تركهم عبثاً، فأوجد عندهم الاستعداد الذاتي بمعرفة الخير وعمله، ومعرفة الشر وتركه، ثم أرسل الرسل وأنزل الكتب، وبيّن للعبد طريق الخير ويسّره لهم وأقدرهم عليه، ورغّبهم فيه وأمرهم به، ثم رتّب عليه الثواب، وهذه حوافز واضحات، ثم بعد ذلك أيضاً خلق الش

عقيدة السلف أصحاب الحديث في الخير والشر

عقيدة السلف أصحاب الحديث في الخير والشر قال المصنف رحمه الله تعالى: [ويشهد أهل السنة ويعتقدون أن الخير والشر والنفع والضر بقضاء الله وقدره، لا مرد لها ولا محيص ولا محيد عنها، ولا يصيب المرء إلا ما كتبه له ربه، ولو جهد الخلق أن ينفعوا المرء بما لم يكتبه الله له لم يقدروا عليه، ولو جهدوا أن يضروه بما لم يقضه الله لم يقدروا، على ما ورد به خبر عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقال الله عز وجل: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس:107] الآية. ومن مذهب أهل السنة وطريقتهم مع قولهم بأن الخير والشر من الله وبقضائه، أنه لا يضاف إلى الله تعالى ما يتوهم منه نقص على الانفراد، فلا يقال: يا خالق القردة والخنازير والخنافس والجعلان، وإن كان لا مخلوق إلا والرب خالقه، وفي ذلك ورد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعاء الاستفتاح: (تباركت وتعاليت، والشر ليس إليك)، ومعناه والله أعلم: والشر ليس مما يضاف إليك إفراداً وقصداً، حتى يقال لك في المناداة: يا خالق الشر! ويا مقدر الشر، وإن كان هو الخالق والمقدر لها جميعاً، لذلك أضاف الخضر عليه السلام إرادة العيب إلى نفسه، فقال فيما أخبر الله عنه في قوله: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79]، ولما ذكر الخير والبر والرحمة أضاف إرادتها إلى الله عز وجل فقال: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الكهف:82]، ولذلك قال مخبراً عن إبراهيم عليه السلام أنه قال: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80]، فأضاف المرض إلى نفسه والشفاء إلى ربه وإن كان الجميع منه جل جلاله]. لعل مما يوضح هذا أن نقول: إن الله عز وجل خالق كل شيء، وهو مقدر كل شيء، وكل شيء بقدره، الخير والشر وكل شيء من خلقه، لكن لا تنسب إليه مفردات خلق الشر؛ لأن أصل خلق الخير والشر حكمة من الله عز وجل، فما دام خلق الشر لحكمة فلا يضاف الشر إليه مباشرة، إنما إلى حكمته، فمن هنا يتبين معنى كلام الشيخ هنا، فالله عز وجل خلق الشر لحكمة، والله عز وجل يقول: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35]، الفتنة التي يبتلي بها العباد يتبين من ينجح ومن لا ينجح في مثل هذا الابتلاء، فما دام خلق الشر ابتلاءً فالابتلاء جاء لحكمة من الله عز وجل للعباد، فعلى هذا يكون أصل جميع الخلق الخير والشر لحكمة، فمن هنا يلتغي إضافة مفردات الشر إلى الله عز وجل؛ لأن خلق الشر راجع إلى حكمته سبحانه.

عقيدة السلف أصحاب الحديث في مشيئة الله

عقيدة السلف أصحاب الحديث في مشيئة الله قال المصنف رحمه الله تعالى: [ومن مذهب أهل السنة والجماعة أن الله عز وجل مريد لجميع أعمال العباد خيرها وشرها، لم يؤمن أحد إلا بمشيئته، ولم يكفر أحد إلا بمشيئته، ولو شاء لجعل الناس أمة واحدة، ولو شاء ألا يعصى ما خلق إبليس، فَكُفْر الكافرين وإيمان المؤمنين بقضائه سبحانه وتعالى وقدره وإرادته ومشيئته، أراد كل ذلك وشاءه وقضاه، ويرضى الإيمان والطاعة، ويسخط الكفر والمعصية، قال الله عز وجل: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر:7]].

الأسئلة

الأسئلة

حقيقة التشاؤم من المرأة والدابة والمسكن

حقيقة التشاؤم من المرأة والدابة والمسكن Q ثبت في الصحيح قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (الطيرة شرك)، وجاء في حديث سهل بن سعد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن كان الشؤم في شيء ففي المرأة والفرس والمسكن)، رواه البخاري ومسلم، فهل التشاؤم من الطيرة؟ وكيف الجمع بين هذين الحديثين؟ وهل يقاس على الفرس اليوم وسائل النقل الحديثة؟ A هذا سؤال جيد ومهم وفيه نوع من التفصيل، لكن أجمل الجواب بما يلي: أولاً: الطيرة شرك، والطيرة المقصود بها التشاؤم من شيء لم يرد في الشرع بأنه مشئوم، والمقصود بالطيرة هنا: التشاؤم الذي يؤدي إلى ترك الشيء أو الإحجام عن العمل أو الترك لا مجرد الاشمئزاز، فمن الطبيعي أن نشمئز من ذكر الشيطان أو من عمل الشيطان أعاذنا الله من الشيطان ومن أعماله ومن الطبيعي أن نشمئز من الكفر وذكر الكفر ومن الكافرين والكفار، فالاشمئزاز والكراهية للشر وأهله هذا من الإيمان ليس من التشاؤم، إنما التشاؤم هو ما يؤدي إلى إحجام الإنسان عن فعل الأسباب أو عن الإقدام على الأشياء، سواء كان إحجاماً قلبياً أو إحجاماً عملياً، فإذا أدى أي شيء من الأعمال إلى أن يترك الإنسان بدون سبب شرعي وإنما لمجرد أن سمع كلمة أو رأى شيئاً لا يعجبه أو خطر له خاطر فأعرض عن العمل، فهذا يعتبر من باب التشاؤم، وهو نوع من الطيرة. إذاً: فالطيرة هي التطير الذي يؤدي إلى ترك الشيء أو فعله من غير أمر شرعي. وقوله: (شرك) هذا يدخل فيه جميع أنواع الشرك بما فيه الشرك الأكبر، فإذا كان التطير أدى إلى اعتقاد أن هذا الذي سبب ترك الفعل يضر من دون الله عز وجل، كما يتشاءم المشركون بما يدور حول أصنامهم تشاؤماً يؤدي إلى أن يعتقدوا أن هذا المتشائم منه يفعل من دون تقدير الله، فهذا شرك أكبر، لكن غالب صور التطير من الشرك الأصغر، وهو مجرد كراهية الشيء أدت إلى الإحجام خوفاً من أن تكون نتيجة الفعل غير حميدة أو نتيجة الإقدام غير حميدة، فهذا في الحقيقة نقص في الإيمان وشرك دون شرك، ويعتبر من كبائر الذنوب، وهو أغلب ما يقع عند الناس غير المشركين عند عموم المسلمين عن ضعف إيمان، وعن قلة فقه، وعن نوع من الجهل، فهذا شرك دون شرك، وهو الظاهر في عموم أكثر الطيرة التي تحدث عند الناس، ما عدا الذين يشركون أصلاً. أما التشاؤم في هذه الأمور الثلاثة فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا يقاس عليها غيرها إلا ما كان في حكمها، ويظهر لي والله أعلم أن السيارة في حكم المركوب الحمار والجمل والفرس. وأيضاً التطير لا يعني بدون سبب هنا، يعني: الخبر في أن الشؤم يكون في ثلاث لا يفتح باباً للتشاؤم، إنما يعني: أن الإنسان إذا وجد أذى من أحد هذه الثلاث فليتخلص منه، ولا يجوز لأحد أن يعتقد ابتداءً أن المرأة مشئومة، هذا حرام، أو يعتقد ابتداءً أن الفرس مشئوم. أو يعتقد ابتداء أن المسكن مشئوم، لكن هذه الأمور في الغالب أنها تدور عليها حياة الإنسان أو منافع الإنسان الضرورية، ومنافع الإنسان الضرورية أكثر ما تدور حول هذه الأمور الثلاثة، فمن هنا إذا وجد المسلم أذى كبيراً من هذه الأمور فلا مانع أنه يتخلص منه، فهذا يعتبر نوعاً من الشؤم، لكنه والله أعلم شؤم لغوي لا الشؤم الذي ليس له مبرر أو ليس له مقدمات، فهذه الأمور الثلاثة: المرأة والدابة والسكن الغالب أنه يحدث التشاؤم في بعض حالات أو من بعض أفراد من هذه الأمور، فقد تحدث أمور تنكد على الإنسان فيعد هذا من المعنى العام للتشاؤم لا المعنى الخاص المقصود بالتطير، ففيما يظهر لي أن الشؤم في هذه الأمور لون والتطير لون آخر، وأعود وأقول: إن هذه الأمور الثلاثة إذا واجه الإنسان منها أشياء تبرر التخلص منها فقد يسمى هذا شؤماً، لكن ليس تطيراً، ومع ذلك ليست هذه قاعدة؛ لأن كثيراً من الناس ما يواجه من عسر ومشاكل من هذه الأمور الثلاثة أحياناً يكون بسبب ذنوبه، وأحياناً بسبب تفريطه في الأوراد والأسباب الشرعية.

الجمع بين حديث: (كلتا يديه يمين) وبين حديث: (يقبض السماوات بيمينه والأرض بشماله)

الجمع بين حديث: (كلتا يديه يمين) وبين حديث: (يقبض السماوات بيمينه والأرض بشماله) Q ما هو الجمع بين قوله: (كلتا يديه يمين) وقوله: (يقبض السماوات بيمينه والأرض بشماله)؟ A هذه أجاب عليها أهل العلم بأن المقصود بالشمال اليد الأخرى وليس المقصود بالشمال المعنى المعهود، وإنما هو تعبير عن اليد الأخرى، فهو تجاوز في التعبير.

الكلام في تعليق عمل الإنسان بالأسباب

الكلام في تعليق عمل الإنسان بالأسباب Q هل هناك قدر معلق إن عمل الإنسان بالسبب كان، وإن لم يعمل لم يكن؟ A أما معلق استئنافاً فلا، وأما معلق قدراً فنعم، فقد يكون معلقاً قدراً، بمعنى: أن الله عز وجل جعل تقديره السابق على ما سيفعله الإنسان، لكن التعليق لا يعني أن الله عز وجل بدا له شيء، أو أنه لا يعلم ما سيفعل العباد، فالتعليق هنا لا يعني إلا فيما يظهر للعباد، أما فيما كتبه الله عز وجل فليس هناك أمور تعلق، بمعنى: أن الله عز وجل جعل التخيير فيما يبدو للعباد، كحديث زيادة العمر لمن يصل رحمه، وكحديث: (إن الدعاء والقضاء يلتقيان بين السماء والأرض فيعتلجان، فيغلب الدعاء القضاء)، هذا فيما يتعلق بما يظهر للعباد، أما في تقدير الله السابق فلا شك أن الله عز وجل قدر ما يكون عليه العبد، قدره سابقاً، إنما لحكمته عز وجل قد يظهر للعباد بعض الأمور التي تعلق بأشياء معلقة فيما يتعلق بدائرة المعلوم، أما دائرة الغير فلا شك أن الله عز وجل قدر جميع المقادير، والله أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

[16]

شرح عقيدة السلف أصحاب الحديث [16] يعتقد أهل السنة أن عواقب العباد مبهمة، فهم لا يحكمون لواحد بعينه أنه من أهل الجنة، إلا ما جاء فيه النص بعينه، ولكن الأصل في عموم المسلمين أنهم من أهل الجنة، وكذلك لا يحكمون لواحد بعينه أنه من أهل النار إلا ما جاء فيه النص بعنيه، لكن الأصل في عموم الكافرين أنهم من أهل النار، وكذلك انعقد الإجماع على فضل الصحابة وعدالتهم، وأنهم حملوا الأمانة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم خير البشر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينبغي معادات من يسبهم ويطعن فيهم وهم أولى بالطعن منهم.

عقيدة السلف أصحاب الحديث في عواقب العباد

عقيدة السلف أصحاب الحديث في عواقب العباد الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ويعتقد ويشهد أصحاب الحديث أن عواقب العباد مبهمة، لا يدري أحد بما يختم له، ولا يحكمون لواحد بعينه أنه من أهل الجنة، ولا يحكمون على أحد بعينه أنه من أهل النار؛ لأن ذلك مغيب عنهم، لا يعرفون على ما يموت عليه الإنسان، ولذلك يقولون: إنا مؤمنون إن شاء الله، أي: من المؤمنين الذين يختم لهم بخير إن شاء الله. ويشهدون لمن مات على الإسلام أن عاقبته الجنة؛ فإن الذين سبق القضاء عليهم من الله يعذبون بالنار مدة لذنوبهم التي اكتسبوها ولم يتوبوا منها، فإنهم يردون أخيراً إلى الجنة ولا يبقى أحد في النار من المسلمين فضلاً من الله ومنة]. هذه المسألة تحتاج إلى شيء من التقعيد والإيضاح، وذلك أنه قد يظهر من كلام المؤلف رحمه الله شيء من عدم الوضوح، فالقاعدة أن أهل السنة أهل الحق بمقتضى ما ورد في الكتاب والسنة، لا يحكمون لواحد بعينه أنه من أهل الجنة، ولا يحكمون على أحد بعينه أنه من أهل النار، وربما يظهر شيء من الالتباس مع القاعدة الثانية وهي قوله: (ويشهدون لمن مات على الإسلام أن عاقبته الجنة)، فقد يقال: كيف نقول: لا يحكم لواحد بعينه أنه من أهل الجنة، ثم نقول: نشهد لمن مات على الإسلام بأن عاقبته الجنة؟ وأقول: إنه فرّق -كما ذكر السلف وهو مقتضى النصوص- بين الشهادة العامة لأصناف الناس وبين الشهادة الخاصة للمعين، فإذا كان القصد الجنس فنحن نشهد، وإذا كان القصد الفرد، فنحن لا نجزم، والمقصود بالجنس بأننا نشهد جزماً بأن مصير الكفار الذين يموتون على الكفر إلى النار، لا نتردد في ذلك؛ لأن ذلك حكم الله الذي لا تبديل له، فإن الله عز وجل حكم على الكفار بأنهم إلى النار، وهذا يشمل الذين ما آمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين الخلص والملاحدة والمرتدين، كل هؤلاء لا شك أنهم من أهل النار بلا تردد، ونجزم بأنهم من أهل النار، هذا الكلام عن الجنس وعلى النوع لا على الفرد المعين. كذلك العكس نقول: إن الأصل في المسلمين أنهم من أهل الجنة، ونشهد بذلك على جنس المسلمين، فمن يموت مسلماً فهو من أهل الجنة قطعاً سواء دخل الجنة لأول وهلة أو كان من أهل الكبائر، إذا لم يَرِدِ الله له المغفرة وعذب بالنار فإنه يدخل بعد ذلك الجنة. هذه القاعدة نجزم بها؛ لأن المقصود بها جنس الكفار والمقصود بها جنس المسلمين أو عموم الكفار وعموم المسلمين أو نوع الكفار ونوع المسلمين. فإذاً: هذا فيما يتعلق بالشهادة العامة، أما القاعدة الثانية فهي تتعلق بالفرد بالمعين، فالإنسان إن مات مسلماً نرجو له الجنة وندعو له بذلك، لكن لا نجزم قطعاً إلا لمن ورد النص بحقه سواء كان نوعاً أو فرداً، فمثلاً: نجزم بأن الأنبياء كلهم من ذكروا ومن لم يذكروا لنا من أهل الجنة، وكذلك من ورد ذكرهم في القرآن والسنة بأسمائهم أو أوصافهم نجزم بأنهم من أهل الجنة؛ لأنه ورد ذلك في الكتاب، أما المسلم المعين إذا لم يرد نص في حقه فنحن نرجو له ولا نجزم يقيناً بحيث نعتقد ذلك اعتقاداً نقسم عليه؛ لأن هذا أمر غيبي لا نعلمه؛ ولأننا لا نعلم بما ختم له؛ ولأن الأمور راجعة إلى حكم الله وقضائه، فالله عز وجل لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه ولا أحد يتألى عليه ولا أحد يتعالى عليه سبحانه، فلا ندري بما ختم الله لهذا الإنسان بعينه، لكننا نرجو له، فتبقى الشهادة هنا بمعنى العموم. وكذلك الكافر، نحن نجزم بأن جنس الكفار إذا ماتوا كفاراً فإنهم من أهل النار قطعاً، لكن الكافر بعينه فلان بن فلان إذا مات على الكفر فنحن يظهر لنا أنه كافر، ونحكم حكماً عاماً لكن لا نجزم بأن هذا الشخص بعينه من أهل النار قطعاً؛ لأن هذا تأل على الله، ولأن مصائر العباد بيد الله عز وجل، ولا ندري بما ختم له، لا ندري فربما ختم له بالإسلام بخاتمة السعادة، وربما أسلم في آخر لحظة فيما بينه وبين ربه قبل الغرغرة، وربما أحدث توبة ولم نعلم بها ففاجأه الموت، فعلى هذا يبقى الاحتمال وارداً ولو واحد بالمليون، وما دام الاحتمال موجوداً فلا نجزم، ثم إن الجزم هو تأل على الله عز وجل، والله عز وجل نهانا أن نتألى عليه. إذاً: أعود فأقول: إن قول السلف بأنا لا نحكم على واحد بعينه، يعني: الفرد بعينه فلان بن فلان إذا مات على الإسلام لا نجزم بأنه من أهل الجنة قطعاً، لكن نرجو له وإذا مات على الكفر لا نجزم بأنه من أهل النار قطعاً لكن نخشى عليه، أما جنس المسلمين فلاشك إن شاء الله أن مصيرهم إلى الجنة، وأما جنس الكفار الخلص فلاشك أن مصيرهم إلى النار. وإذا سُمع إنسان ينطق بالشهادة عند الموت فهذه تعتبر علامة من علامات السعادة؛ ولا يجزم بها، لأن مسألة النفاق واردة إلى آخر لحظة، والله عز وجل قد يحول بين المرء وقلبه، فقد يشهد بلسانه وقلبه في وادٍ آخر، والله أعلم بحال العباد، فما دام وجد الاحتمال سقط الاستدلال. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ومن مات والعياذ بالله على الكفر فم

المبشرون بالجنة وصفاتهم

المبشرون بالجنة وصفاتهم قال رحمه الله تعالى: [فأما الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه بأعيانهم بأنهم من أهل الجنة، فإن أصحاب الحديث يشهدون لهم بذلك، تصديقاً منهم للرسول صلى الله عليه وسلم فيما ذكره ووعده لهم، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يشهد لهم بها إلا بعد أن عرف ذلك، والله تعالى أطلع رسوله صلى الله عليه وسلم على ما شاء من غيبه، وبيان ذلك في قوله عز وجل: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:26 - 27]، وقد بشر صلى الله عليه وسلم عشرة من أصحابه بالجنة، وهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد وسعيد وأبو عبيدة بن الجراح، وكذلك قال لـ ثابت بن قيس بن شماس: (إنه من أهل الجنة. قال أنس بن مالك: فلقد كان يمشي بين أظهرنا ونحن نقول: إنه من أهل الجنة)]. مسألة الشهادة لأحد بالجنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتت لأناس كثيرين من الصحابة رضي الله عنهم، ومن غير الصحابة ممن ماتوا قبل الإسلام ممن كانوا من أتباع الأنبياء، فثبتت شهادة النبي صلى الله عليه وسلم لأناس غير العشرة، فذكر العشرة لا يعني حصر الشهادة عليهم كما فهم بعض الناس؛ وإنما أطلق عليهم العشرة لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرهم بتعداد في حديث واحد، ولا يعني حصر الشهادة بهم أنها ليست لسواهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم شهد لأفراد وشهد لأنواع من الناس، كأهل بيعة الرضوان وبيعة الشجرة، وأيضاً النبي صلى الله عليه وسلم شهد لأناس بأفرادهم كما هو معروف، وقد بشر بنته فاطمة رضي الله عنها وبشر كل زوجاته بالجنة، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم كذلك عن بلال وأخبر عن عدد من الصحابة بأنهم من أهل الجنة، وخبره صدق بأمور ثابتة، لكن هؤلاء العشرة سردهم النبي صلى الله عليه وسلم سرداً، وهذا كما ذكر مثلاً: أن علامات الساعة عشر، مع أن علامات الساعة أكثر من عشر، فالعشر إما لأن لها امتيازاً أو أنه ذكرها على سبيل الخبر، ولا يعني: حصر الخبر عليها. إذاً: فحينما نقول: العشرة المبشرون بالجنة، لا يعني: أنهم هم وحدهم الذين بشروا، إنما لأنه جاء ذكرهم على سبيل التعداد وصرح النبي صلى الله عليه وسلم بعددهم وبأشخاصهم دون أن يحصر البشارة عليهم.

عقيدة السلف أصحاب الحديث في بيان أفضل الصحابة وخلافتهم وبيان فضلهم في الجملة

عقيدة السلف أصحاب الحديث في بيان أفضل الصحابة وخلافتهم وبيان فضلهم في الجملة قال المصنف رحمه الله تعالى: [ويشهدون ويعتقدون أن أفضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، وأنهم هم الخلفاء الراشدون الذين ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم خلافتهم بقوله -فيما رواه سعيد بن جمهان عن سفينة -: (الخلافة بعدي ثلاثون سنة)، وبعد انقضاء أيامهم عاد الأمر إلى الملك العضوض على ما أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. ويثبت أصحاب الحديث خلافة أبي بكر رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم باختيار الصحابة واتفاقهم عليه، وقولهم قاطبة: رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا فرضيناه لدنيانا، يعني: أنه استخلفه في إقامة الصلوات المفروضات بالناس أيام مرضه، وهي الدين، فرضيناه خليفة للرسول صلى الله عليه وسلم علينا في أمور دنيانا. وقولهم: قدمك رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن ذا الذي يؤخرك؟ وأرادوا أنه صلى الله عليه وسلم قدمك في الصلاة بنا أيام مرضه فصلينا وراءك بأمره، فمن ذا الذي يؤخرك بعد تقديمه إياك؟ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلم في شأن أبي بكر في حال حياته بما يبين للصحابة أنه أحق الناس بالخلافة بعده، فلذلك اتفقوا عليه واجتمعوا فانتفعوا بمكانه والله! وارتفعوا به وارتفقوا، حتى قال أبو هريرة رضي الله عنه: والله الذي لا إله إلا هو! لولا أن أبا بكر استخلف لما عبد الله، ولما قيل له: مه يا أبا هريرة؟! قام بحجة صحة قوله، فصدقوه فيه وأقروا به. ثم خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه باستخلاف أبي بكر رضي الله عنه إياه، واتفاق الصحابة عليه بعده، وإنجاز الله سبحانه -بمكانه في إعلاء الإسلام وإعظام شأنه- وعده. ثم خلافة عثمان رضي الله عنه بإجماع أهل الشورى، وإجماع الأصحاب كافة، ورضاهم به حتى جعل الأمر إليه. ثم خلافة علي رضي الله عنه ببيعة الصحابة إياه، عرفه ورآه كل منهم رضي الله عنهم أحق الخلق وأولاهم في ذلك الوقت بالخلافة، ولم يستجيزوا عصيانه وخلافه. فكان هؤلاء الأربعة الخلفاء الراشدين الذين نصر الله بهم الدين، وقهر وقسر بمكانهم الملحدين، وقوى بمكانهم الإسلام، ورفع في أيامهم للحق الأعلام، ونور بضيائهم ونورهم وبهائهم الظلام، وحقق بخلافتهم وعده السابق في قوله عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أمناً} [النور:55] الآية، وفي قوله: {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29]، فمن أحبهم وتولاهم، ودعا لهم، ورعى حقهم، وعرف فضلهم فاز في الفائزين، ومن أبغضهم وسبهم، ونسبهم إلى ما تنسبهم الروافض والخوارج -لعنهم الله- فقد هلك في الهالكين. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تسبوا أصحابي فمن سبهم فعليه لعنة الله)، وقال: (من أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن سبهم فعليه لعنة الله)]. خلاصة ما سبق أن الإجماع انعقد عند المسلمين على فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جملة، وأنهم ثقات عدول، وأنهم حملوا الأمانة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقاموا الدين، وأنهم خير البشر بعد الأنبياء في جملتهم، وأن حبهم دين، وأن اتباعهم هو الحق؛ لأنهم الجماعة الذين جعل الله اتباعهم هو السنة ومخالفتهم هي الفرقة والضلال والشذوذ، وأن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على هذا المعنى لما نقلوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما فهموه من الكتاب والسنة، ثم أجمع على ذلك من جاء بعدهم من التابعين وتابعيهم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، فكان هذا إجماعاً، ثم يزداد الإجماع عمقاً وقوة في حقوق بعض الصحابة، فالعشرة المبشرون بالجنة أجمع الصحابة أنهم من أهل الجنة، ثم أجمعوا بعد ذلك على فضلهم؛ لأن من لوازم قول النبي صلى الله عليه وسلم وتزكيته لهم بأنهم من أهل الجنة أنهم أفضل. ثم أجمعوا بعد ذلك أيضاً على حقوق الخلفاء الراشدين الأربعة، فكان إجماعاً من جميع الوجوه، ونحن نعرف أن الإجماع بمعناه الحقيقي الشرعي لا ينبني إلا على نصوص سواء كان بنص أو بمجموعة نصوص، اجتمع أهل الحق الذين جعلهم الله عز وجل يمثلون سبيل المؤمنين على ذلك، فكان ذلك إجماعاً. وعلى هذا فإن من صور الإجماع المتفق عليها هذه الصور: عدالة الصحابة، والشهادة لمن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، وبيان حقوق الخلفاء الراشدين الأربعة وأنهم أفضل ا

الأسئلة

الأسئلة

الرد على من يقول: (إن صاحب الكبيرة مخلد في النار)

الرد على من يقول: (إن صاحب الكبيرة مخلد في النار) Q كيف الرد على المرجئة الذين يقولون: إن صاحب الكبيرة مخلد في النار؟ A ليس هذا قول المرجئة، والذين يقولون: صاحب الكبيرة مخلد في النار، يستدلون بقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء:93]، والذين يقولون بهذا هم الخوارج والمعتزلة، فالصواب أن نقول: كيف الرد على الخوارج والمعتزلة؟ وهم يستدلون بمثل هذه الآية. وفيما يتعلق بالاستدلال بالنصوص هناك قاعدة مهمة جداً وهي: أن النصوص لابد أن يفسر بعضها بعضاً، فنحن عندنا أدلة تفيد أن مرتكب الكبيرة تحت مشيئة الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه إذا مات على كبيرته، وأنه إن عذبه يخرج من النار بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وبغير شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، كما دلت على ذلك قطعيات النصوص المتواترة، ومن ذلك القاتل، فالقاتل مرتكب كبيرة، والآية التي فيه من باب الوعيد، والوعيد راجع إلى مشيئة الله، هذا شيء. الشيء الآخر: أن كثيراً من أهل العلم قالوا: إن الخلود لا يعني دائماً الأبدية إلا إذا دلت قرائن وأدلة أخرى؛ فليس كل ما يدل على الخلود يدل على الأبدية، ثم إن الوعيد غير الوعد، الوعد نعلم جزماً أن الله عز وجل لا يخلف الميعاد، لكن الوعيد تهديد، والله عز وجل رحمته سبقت عذابه، ولطفه بعباده هو المقدم وكذلك تيسيره للعباد ورحمته بهم هي الأصل، فإن الله عز وجل قد يتوعد العبد ثم يغفر له، وهذا مقتضى الكرم والكمال لله سبحانه، ألا ترون -ولله المثل الأعلى- أن الإنسان لو توعد غيره وهو قادر على أن يفعل الوعيد، ثم فجأة سمح وعفا ألا يعتبر هذا كرماً؟ فإذا كان قادراً ثم عفا فهذا كمال، ولله المثل الأعلى وهو أولى بالكمال، وكل كمال اتصف به المخلوق فالخالق سبحانه أولى به. إذاً: لابد من تفسير مثل هذا النص بالنصوص الأخرى، ولذلك من قواعد السلف رد نصوص الوعيد إلى نصوص الوعد، وكذلك نصوص الوعد إلى نصوص الوعيد، فمن أخذ بالوعد وحده فهو مرجئ، ومن أخذ بنصوص الوعيد وحده فهو على منهج الخوارج كما ذكر السلف.

القول في تكفير عموم الرافضة

القول في تكفير عموم الرافضة Q هل هناك من أهل العلم من لم يكفر الرافضة؟ A هذا السؤال فيه غموض، وقد يلتمس العذر لعوامهم والجهلة. والسلف لم يكونوا يتكلمون عن العوام والجهلة، والحقيقة أن هذه الأمور وقع فيها الخوض عند المتأخرين، وإلا فقد كان المعروف عند الناس عموماً وعند طلاب العلم على وجه الخصوص أن الأحكام دائماً تنبني على رءوس أهل البدع وشيوخهم، وتنبني على أصولهم وقواعدهم وعلى عقائدهم، ولا تنبني على أفراد ولا على العوام، فالحكم على الشيء بما اشتهر به وبما عليه أصوله، فالأصول سواء كانت أشخاصاً أو مذاهب هي التي عليها الحكم، فلا يكفر أصحاب ملة كلهم لمجرد أنه يرى من عوامهم شيء من الجهل بعقائدهم، ومن فعل ذلك فهذا ما عرف القاعدة، فالقاعدة: هي أن الحكم على كل شيء يكون على أصوله وعلى مؤسسيه، أما الأفراد فلاشك أن السلف كانوا يفصلون في مسألة العوام والأتباع.

مدى صحة قول: (كل خلافة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي خلافة إسلامية)

مدى صحة قول: (كل خلافة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي خلافة إسلامية) Q ذكر شيخ الإسلام عن الإمام أحمد رحمهما الله بأنه قال: كل خلافة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي خلافة إسلامية صحيحة. فهل هذا القول يكون عاماً حتى في العصور المتأخرة عن عصر الصحابة؟ A ما فهمت أنا المقصود بالكلام، والشأن هو في ثبوت هذا عن الإمام أحمد، ثم إذا ثبت ما معنى قوله: كل خلافة في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فهي خلافة إسلامية صحيحة؟ كذلك قوله: خلافة إسلامية صحيحة، فيها نظر، والعبارة ليست من عبارات الإمام أحمد. وعلى أي حال ربما يقصد الإمام أحمد الأمر الذي وقع عن الخلفاء الراشدين؛ فإنهم كانوا في المدينة، ومع ذلك يبقى هذا الكلام ليس نصاً شرعياً.

حكم تفضيل علي على عثمان رضي الله عنهما

حكم تفضيل علي على عثمان رضي الله عنهما Q هل يضلل من فضل علياً على عثمان في الفضل والخلافة؟ A تفضيل علي على عثمان بدعة؛ لأن الذي استقر عليه مذهب السلف والأئمة هو تفضيل عثمان على علي، إلا النادر منهم. فالسلف اتفقوا على تفضيل عثمان على علي، وما أثر عن بعض السلف من أنهم فضلوا علياً على عثمان فقد تراجعوا عنه، مع أنهم قلة، إلا ما أثر عن الحاكم النيسابوري أنه يفضل علياً على عثمان، لكن هذا قليل، وكذلك عبد الرزاق بن همام كان يفضل علياً على عثمان، لكن هذه آراء قليلة بمثابة زلات لبعض أهل العلم، وقعت الشبهة في أذهانهم، وإلا فإنه بعد استقراء النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم واستنفاذ الرواية وجمعها تبين قطعاً عند السلف أن الخلفاء الأربعة ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الإمامة: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، هذا ما عليه الجمهور، وعلى هذا يعتبر عقيدة، ومن خالفه فهو مبتدع، فإن كان هذا عن شبهة من عالم فتعتبر زلة من العالم ولا يبدع بها، وإن كان ممن ليس من أهل العلم الذين يعذرون بعلمهم فلاشك أن هذا بدعة. هذا خلاصة ما استقر عليه السلف: أن تفضيل علي على عثمان بدعة، والله أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

[17]

شرح عقيدة السلف أصحاب الحديث [17] يعتقد أهل السنة جواز الصلاة خلف كل إمام مسلم براً كان أو فاجراً، وكذلك جهاد الكفرة مع الأئمة سواء كانوا عادلين أو ظالمين جائرين، ويرون الدعاء للأئمة بالصلاح والتوفيق، ولا يرون الخروج عليهم بالسيف، لما في ذلك من تحقيق الجماعة والأمن للأمة، ويرون الكف عما شجر بين الصحابة، وتطهير الألسنة عن ذكر ما يتضمن عيباً أو تنقصاً منهم رضي الله عنهم وأرضاهم.

عقيدة السلف أصحاب الحديث في الصلاة خلف البر والفاجر والجهاد معهم

عقيدة السلف أصحاب الحديث في الصلاة خلف البر والفاجر والجهاد معهم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ويرى أصحاب الحديث الجمعة والعيدين وغيرهما من الصلوات خلف كل إمام مسلم براً كان أو فاجراً]. كما هو معلوم أن الشيخ وأئمة السلف جميعاً يقصدون بأصحاب الحديث أهل السنة والجماعة. وأصحاب الحديث يرون إقامة صلاة الجمعة بشروطها وضوابطها في كل مكان، وليس فقط في الأمصار التي حددتها بعض الفرق أو بعض الفقهاء، ففي جميع أمصار المسلمين تقام صلاة الجماعة وكذلك العيدين وجميع الصلوات الخمس خلف كل إمام مسلم، سواء كان الإمام الأكبر الخليفة، أو ولاته الذين يتولون الصلاة في كل مكان، أو من ولوا وعينوا في المساجد من قبل الولاة والدولة. فالأصل صحة الصلاة معه براً كان أو فاجراً، لكن الصلاة خلف الوالي أوجب من الصلاة خلف غيره، بمعنى أنه قد يشرع لجماعة المسجد ألا يقدموا من كان فيه فجور إذا لم يكن هو الإمام الأعظم أو الوالي، بمعنى: أنه إذا كان ليس هو الإمام الوالي أو الإمام الأعظم أو الخليفة أو من كان له ولاية عامة، فإنه لا ينبغي أن يتقدم إن كان فاجراً، ومع ذلك إذا تقدم فقد تصح صلاته، أما إذا كان والياً والناس لا يستطيعون أن يزيحوه عن الإمامة فتنبغي الصلاة خلفه؛ درءاً للفتنة والفرقة والفساد، وإن كان فيه فجور أو ظلم، فقد كان السلف يصلون وراء الحجاج، وهكذا بعض الصحابة كانوا يصلون خلفه رغم أنه ظالم. فإذاً: شروط الإمامة ومواصفات الإمام يجب العمل بها عند الاختيار، أما عند الاضطرار -بمعنى: أن يكون الإمام له الولاية- فهنا لا ينبغي للمسلمين أن يشقوا عصا الطاعة، ولا يتركوا الصلاة خلف هذا الإمام، بل يصلوا حتى وإن كان فيه فجور وظلم، وصلاته إن شاء الله صحيحة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ويرون جهاد الكفرة معهم وإن كانوا جورة فجرة، ويرون الدعاء لهم بالإصلاح والتوفيق والصلاح، ولا يرون الخروج عليهم بالسيف، وإن رأوا منهم العدول عن العدل إلى الجور والحيف]. وكذلك يرون الصبر على الأثرة منهم، وكل هذه الأمور راجعة إلى أحاديث صحيحة جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهي من وصاياه العظيمة التي أوصى بها هذه الأمة؛ فقد أوصاهم بالصلاة خلف كل إمام مسلم براً كان أو فاجراً، والجهاد مع أئمة المسلمين أبراراً كانوا أو فجاراً، والدعاء لهم بالصلاح والتوفيق والهداية والدعاء لهم علناً وسراً، فالدعاء لهم مشروع، بل هو من مراعاة مصالح المسلمين العظمى ومن تطبيق السنن التي أوصى النبي صلى الله عليه وسلم الأمة بها. وذلك كله راجع إلى قاعدة عظمى جامعة: وهي الصبر على الولاة والصلاة خلفهم وإن كان عندهم فجور، والجهاد والدعاء لهم وغير ذلك من الأمور، وعدم جواز الخروج عليهم أو إثارة الفتنة أو الفرقة عليهم، كل ذلك راجع إلى قاعدة عظيمة من قواعد الدين، تنظمها النصوص الكثيرة التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم، والنصوص إذا تكاثرت وكانت تتعلق بمصلحة عظمى من مصالح الأمة صارت من ضمن العقائد التي يجب التزامها، فالسلف رحمهم الله جعلوا هذا من ضمن العقائد التي تميز منهج أهل السنة والجماعة، ومن منهج السلف الصالح الحديث عن مناهج المخالفين، فكل هذه الأمور التي ذكرها راجعة إلى قاعدة عظيمة: وهي أن الجماعة وتحقيق الأمن ودرء الفتن والفرقة والشذوذ من مقاصد الدين العظمى. أولاً: تحقيق الجماعة بكل معانيها، أي: الاجتماع وعدم الفرقة؛ وذلك مقصد عظيم من مقاصد الشرع، وهذا المقصد نجد أن النصوص تشعر المسلمين -بل توجب عليهم- بأن لا مساومة فيه، ولذلك ورد في الحديث الصحيح أن من جاء يفرق جمع المسلمين فيجب قتله براً كان أو فاجراً، بل يجب قتله كائناً من كان، كما ورد في مسلم وغيره، وفي قوله: (كائناً من كان) إشارة إلى أنه حتى لو كان عالماً زل أو أخطأ، أو كان من أهل التقى والصلاح إذا كان عمله يؤدي إلى الفرقة بين المسلمين فهذا الأمر لا مساومة فيه. إذاً: هذه المعاني جاءت لتحقيق الجماعة. ثانياً: تحقيق الأمن للأمة، والأمن لا مساومة فيه أيضاً؛ لأنه لا يمكن أن يستقيم الدين وتقام الصلوات وشعائر الإسلام والحدود، ولا يمكن أن يأمن الناس على دينهم ودنياهم إلا بالأمن، فنظراً إلى أن ترك الصلاة خلف الأئمة وترك الجهاد معهم وترك الدعاء لهم والخروج عليهم أو إثارة الفتنة ضدهم كلها تؤدي إلى الإخلال بالأمن، فلذلك اعتبرها الشرع، كما ورد في الآيات والأحاديث أن الإخلال بالأمن من الأمور العظمى التي لا مساومة فيها. كذلك درء الفتن أيضاً ودرء المفاسد العظمى على الأمة ودرء الفرقة والشذوذ أيضاً من مقاصد الشريعة، فهذه كلها من مقاصد الدين العظمى ومصالح الأمة الكبرى التي لا يجوز لأحد من المسلمين أن يساوم عليها، ولذلك جاء التأكيد في هذه المعاني، فيجب عدم اتخاذ الفجور أو الظلم ذريعة لخرق هذه القواعد، والأدلة على هذا صريحة كما هو معلوم.

عقيدة السلف أصحاب الحديث فيما شجر بين الصحابة

عقيدة السلف أصحاب الحديث فيما شجر بين الصحابة قال المصنف رحمه الله تعالى: [ويرون قتال الفئة الباغية حتى ترجع إلى طاعة الإمام العدل. ويرون الكف عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتطهير الألسنة عن ذكر ما يتضمن عيباً لهم ونقصاً فيهم، ويرون الترحم على جميعهم والموالاة لكافتهم، وكذلك يرون تعظيم قدر أزواجه رضي الله عنهن، والدعاء لهن، ومعرفة فضلهن والإقرار بأنهن أمهات المؤمنين]. الترضي عن الصحابة رضي الله عنهم والكف عما شجر بينهم والمولاة لهم، وكذلك تعظيم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ومعرفة قدرهن، كل هذه الأصول مبنية على نصوص قطعية، وعلى إجماع السلف أيضاً، فالصحابة رضي الله عنهم زكاهم الله عز وجل ورضي عنهم، والنبي صلى الله عليه وسلم رضي عنهم وتوفي وهو عنهم راضٍ، وأوصى الأمة بحقوقهم، ونهى عن سبهم وعن القدح فيهم، فإذاً التزام هذه الأمور -أي: حقوق الصحابة- أصل من أصول الدين؛ لأنها من وصايا النبي صلى الله عليه وسلم، فهي جزء من الدين وليست مجرد رأي، والسلف عندما يقولون: نرى كذا ونرى كذا فإنهم يعنون بذلك استخلاص هذه القواعد من النصوص، وليس عند السلف شيء يعتقد إلا ويستند على نص صحيح، وما من شيء من أصول السلف، سواء كان من الأمور الاعتقادية العلمية أو العملية، يرونه ويتفقون عليه إلا ويكون له دليل من النص، إما مجموعة نصوص وهو الغالب، أو من نص قاطع، أو قاعدة شرعية استنتجت من عدة نصوص، فعلى هذا فهذه الأمور ليست مجرد رأي مقابل الآراء الأخرى، إنما هي الدين الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ويجب على المسلم أن يدين بهذه الأمور. فهذه القواعد والمناهج استخلصت من عموم النصوص، ولو سردت جميع النصوص لاحتيج إلى مجلدات، فالسلف اعتادوا أنهم يلخصون العقيدة على هذا المنهج من مجموع النصوص الثابتة.

عقيدة السلف أصحاب الحديث في أن دخول الجنة برحمة الله تعالى وفضله

عقيدة السلف أصحاب الحديث في أن دخول الجنة برحمة الله تعالى وفضله قال المصنف رحمه الله تعالى: [ويعتقدون ويشهدون أن أحداً لا تجب له الجنة وإن كان عمله حسناً وطريقه مرتضى إلا أن يتفضل الله عليه، فيوجبها له بمنه وفضله؛ إذ عمل الخير الذي عمله لم يتيسر له إلا بتيسير الله عز اسمه، فلو لم ييسره له ولو لم يهده لم يهتد له أبداً، قال الله عز وجل: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور:21] وقال مخبراً عن أهل الجنة: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43] وفي آيات سواهما]. معنى هذا أن أهل السنة يرون أنه لا أحد يستحق الجنة على الله عز وجل بمجرد عمله، بل بفضل الله ومنه وكرمه؛ لأن دلالة المسلم الموفق على العمل الذي يدخله الجنة إنما هي بتوفيق الله، فلا فضل له بعمله إنما يستحق الإنسان الجنة بفضل الله ورحمته، ولا تجب له استحقاقاً -أي: وجوباً- على الله، أو أنه ضمن ذلك بعمله.

عقيدة السلف أصحاب الحديث في آجال العباد

عقيدة السلف أصحاب الحديث في آجال العباد قال المصنف رحمه الله تعالى: [ويعتقدون ويشهدون أن الله عز وجل أجل لكل مخلوق أجلاً، وأن نفساً لن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً، وإذا انقضى أجل المرء فليس إلا الموت، وليس له منه فوت، قال الله عز وجل: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34]، وقال: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا} [آل عمران:145]. ويشهدون أن من مات أو قتل فقد انقضى أجله]. في هذا رد على طوائف من المعتزلة وبعض القدرية الذين زعموا أن المقتول مات قبل أجله الذي قدره الله له، وهذا راجع إلى فلسفة خبيثة عند القدرية عموماً وبعض طوائف المعتزلة الذين قالوا هذا القول، زعموا فيها أن الشر والمكروه -بما فيه القتل- ليس من تقدير الله، وليس من خلق الله، بل هو من فعل القاتل استقلالاً دون أن يكون لله عز وجل في ذلك سابق تقدير، وذلك راجع إلى فلسفة في الشر، فهم يرون الشر ومنه القتل ليس من تقدير الله، وأنه من فعل الإنسان استقلالاً عن تقدير الله وعن خلقه، فمن هنا زعموا أن هذا الإنسان الذي قتل قتل دون أن يقدر له القتل، فكأنه سبق ما قدره الله من موت هذا المخلوق، أي: أن فعل القاتل سبق تقدير الله، وهذا لاشك أنه باطل مبني على فلسفة معقدة وهي فلسفة القدرية. قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال الله عز وجل: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران:154]، وقال: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78]].

ابتلاء الله عز وجل العباد بالشياطين ووسوستهم

ابتلاء الله عز وجل العباد بالشياطين ووسوستهم قال رحمه الله تعالى: [ويعتقدون أن الله سبحانه خلق الشياطين يوسوسون للآدميين، ويقصدون استزلالهم، ويترصدون لهم، قال الله عز وجل: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121]. وأن الله يسلطهم على من يشاء، ويعصم من كيدهم ومكرهم من يشاء، قال الله عز وجل: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} [الإسراء:64 - 65]. وقال: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} [النحل:99 - 100] الآية]. مسألة تسليط الشيطان وأن الله عز وجل ابتلى به العباد فجعله موسوساً، وجعله فتنة للخلق إلى يوم القيامة هذه من الأمور المحققة شرعاً، ولابد من التنويه عنها والإشارة إليها دائماً؛ لأن أكثر الذين يتحدثون عن انحراف البشر الآن، وحتى عن انحراف المسلمين وما عندهم من معاصٍ وفجور وتقصير في حق الله عز وجل وإعراض عن دين الله عز وجل، كثير من الذين يعالجون هذه القضايا حتى ممن ينتسبون للعلم الشرعي، يغفلون عن هذا، خاصة أصحاب الدراسات الاجتماعية والنفسية وغير ذلك، وينسون هذه القضية وهي قضية أن الله عز وجل ابتلى العباد بالشيطان ووساوس الشيطان، فتجدهم يتكلفون في كثير من أسباب الغواية والضلال والانحراف والفساد وغير ذلك، وينسون هذه القضية قضية تسليط الشيطان على بني آدم، وأنه يجري من ابن آدم مجرى الدم، وأن له سلطاناً على الذين يتولون الذين يغفلون عن ذكر الله عز وجل، وأن أعظم أسباب الانحراف هو كيد الشيطان. أقول: ينبغي التنويه عن هذه المسألة والإشارة إليها والتنبيه عليها من الذين يتولون هذه الأمور من الوعاظ والدارسين، وأيضاً من المختصين في علاج المشكلات الاجتماعية والحسبة وغيرها، فكثير من الذين يتناولون هذه القضية يحتاجون إلى تنبيه الناس إلى أن مكائد الشيطان عظيمة، وأن الشيطان يخالط الأفراد، ويخالط الأسر في بيوتها، ويخالط الناس في مجالسهم إذا لم يذكروا الله عز وجل وغفلوا عن الأسباب الشرعية التي تطرد الشيطان، هذه مسألة التنبيه عليها مهم جداً؛ لأن الناس غفلوا عن هذه الحقيقة.

عقيدة السلف أصحاب الحديث في السحر والسحرة

عقيدة السلف أصحاب الحديث في السحر والسحرة قال المصنف رحمه الله تعالى: [ويشهدون أن في الدنيا سحراً وسحرة، إلا أنهم لا يضرون أحداً إلا بإذن الله عز وجل، قال الله عز وجل: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:102]، ومن سحر منهم واستعمل السحر واعتقد أنه يضر أو ينفع بغير إذن الله تعالى فقد كفر]. معنى هذا أن حقيقة السحر قد تنفع أو تضر لكن بإذن الله عز وجل، فالسحر قد يكون فيه نفع وقد يكون فيه ضرر أيضاً، لكن هذا النفع والضرر من باب المحرم، وقد يكون من باب الشرك، وهو أيضاً من تقدير الله عز وجل وليس من استقلالية السحرة أو الشياطين، فالله عز وجل إذا قدر على بعض العباد الشر فقد يكون من خلال السحر أو فعل السحرة، فالسحر له حقيقة وله تأثير، لكن تأثيره بإذن الله عز وجل وابتلاء بالعباد. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وإذا وصف ما يكفر به استتيب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه]. إذا وصف الساحر أشياء شركية أو كفرية كأن يطلب الذبح لغير الله عز وجل أو الذبح من غير تسمية، أو يطلب الدعاء لغير الله، أو يطلب شيئاً مما يوجب الردة كالاستهزاء بدين الله عز وجل، أو الاستهزاء بالقرآن، أو الإساءة إلى القرآن أو نحو ذلك فهذا كفر، وهذا يحدث كثيراً من السحرة، يحدث منهم أن يطلبوا من الجهلة الذين يرتادونهم شيئاً مما يقتضي الردة والكفر، وكثير من الجهال يظنون أن هذا من مقتضيات العلاج العادي، أو أنه علاج ليس فيه شركيات، وأغلب العوام وأشباه العوام لا يعرفون ولا يميزون، لاسيما وأن السحرة يلبسون على الجهلة، فكثير من السحرة الآن مثلاً إذا أراد أن يقوم بعمل يعمله يتلو على من عنده آيات من القرآن ويستغفر، ويأتي بأشياء من الموهمات والأوراد والذكر ويحوقل، ثم يصطاد المسلم الجاهل الغر بالسحر وبالشرك، وقد نُقِل لنا هذا كثيراً عن السحرة الموجودين الآن، فالواحد منهم يخلط الحق بالباطل ويلبس، وقد يتظاهر بأنه صالح، وأنه يستعين بالله عز وجل، ثم يوقع هؤلاء الأغرار المساكين في الشركيات. فالمهم أنه إذا طلب شيئاً شركياً أو ادعاء الغيب أو نحو ذلك فهذا كفر. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وإذا وصف ما ليس بكفر أو تكلم بما لا يفهم نهي عنه، فإن عاد عزر]. كأن يطلب أشياء غريبة أو يستعمل أرقاماً، أو يستعمل تمتمات وكلمات غير مفهومة، أو يلبس على الناس بأحوال غامضة كأن يستعمل الغرف المظلمة أو الإضاءة غير الطبيعية، أو يستعمل الخرق وغيرها يعني: أيُّ أمر لا يعرف له وجه شرعي ولا وجه معتاد فهذا نوع من الشعوذة، قد لا تصل إلى حد الردة والكفر، لكنها شعوذة ومن كبائر الذنوب، ومع ذلك فالغالب أنها لا تكون إلا من خلال من يستعمل الكفريات، وحتى لا نجعل هذه تبرئة لمن يستعملونها مطلقاً نقول: قد تكون وسيلة إلى استعمال كفريات من حيث يشعر الإنسان أو لا يشعر. فالمهم أن استعمال هذه الطلاسم والألغاز والعبارات غير المفهومة والطلبات غير المفسرة والأدوية التي لا تجري العادة بأن لها نفعاً هذا كله يدخل في الشعوذة والدجل، وهو مما لا يفهم، وأغلبه من كبائر الذنوب أو الكفر. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وإن قال: السحر ليس بحرام، وأنا أعتقد إباحته، وجب قتله؛ لأنه استباح ما أجمع المسلمون على تحريمه].

الأحكام والعبادات وعلاقتها بالعقيدة

الأحكام والعبادات وعلاقتها بالعقيدة قال رحمه الله تعالى: [ويحرم أصحاب الحديث المسكر من الأشربة المتخذة من العنب أو الزبيب أو التمر أو العسل أو الذرة أو غير ذلك مما يسكر، يحرمون قليله وكثيره، ويجتنبونه، ويوجبون به الحد. ويرون المسارعة إلى أداء الصلوات وإقامتها في أوائل الأوقات أفضل من تأخيرها إلى آخر الأوقات. ويوجبون قراءة فاتحة الكتاب خلف الإمام، ويأمرون بإتمام الركوع والسجود حتماً واجباً، ويعدون إتمام الركوع والسجود بالطمأنينة فيهما، والارتفاع من الركوع والانتصاب منه والطمأنينة فيه، وكذلك الارتفاع من السجود، والجلوس بين السجدتين مطمئنين فيه من أركان الصلاة التي لا تصح إلا بها]. كل هذه الأمور التي ذكرها المصنف تدخل في الأحكام والعبادات، وأحياناً يذكر بعض السلف ومنهم الصابوني هنا بعض الأشياء الاجتهادية التي يرجحها على مذهبه، فمثلاً: قوله: (يوجبون قراءة فاتحة الكتاب خلف الإمام) هذا قول من أقوال الشافعية وليس هو القول الراجح عند جمهور أهل الحديث، وإن كان محل خلاف، لكن أقصد أنه لا يدخل في باب الأمور التي يتميز بها أهل السنة عن غيرهم، بل هو من الخلافيات عند أهل السنة. أما مسألة إتمام الركوع والطمأنينة فلاشك أنه رأي جمهور أهل السنة، بل اتفاق أهل السنة والجماعة، وهذا فيه إشارة إلى بعض المذاهب التي تساهلت بالأمر، حتى إنها جعلت بعض أعمال الصلاة تؤدى بلا طمأنينة، خاصة بعض الأحناف؛ فإن بعضهم لا يكادون يقيمون الرفع من الركوع، وبعضهم لا يقيم الجلوس بين السجدتين، وكذلك الرافضة، لكن الرافضة هذا ليس بغريب عليهم فكثير من الأحكام يخالفون فيها المسلمين، إنما يستغرب من مثل الأحناف وهم من مذاهب أهل السنة الفقهية، أن يكون منهم عدم الطمأنينة في مثل هذا الركن العظيم من أركان الصلاة، فمن هنا أشار الشيخ إلى مثل هذا الأمر مع أنه من باب الأحكام؛ لكن ذكره لأن هناك من قال به وخلافه شاذ، ولذلك هذه قاعدة عند السلف: أن كل من خالف في أمر من أمور الأحكام شذ فيه عن جمهور السلف يعد خلافه عقدياً، مثل ما جاء في مسألة المسح على الخفين، فإنهم ذكروها في باب العقائد؛ لأن الرافضة أنكرت ذلك، فجاءوا بها في باب العقائد؛ لأن القول بعدمها ترك للدليل، ومن ترك الدليل فقد اختلت عقيدته. فبعض الأمور تكون خلافية كما قلت، ويكون هذا هو رأي المؤلف، وبعد أن انتهى من الأحكام والعبادات سيتكلم عن الآداب.

آداب أهل الحديث

آداب أهل الحديث قال المصنف رحمه الله تعالى: [ويعدون إتمام الركوع والسجود بالطمأنينة فيهما والارتفاع من الركوع والانتصاب منه والطمأنينة فيه، وكذلك الارتفاع من السجود والجلوس بين السجدتين مطمئنين فيه من أركان الصلاة التي لا تصح إلا بها. ويتواصون بقيام الليل للصلاة بعد المنام، وبصلة الأرحام، وإفشاء السلام، وإطعام الطعام، والرحمة على الفقراء والمساكين والأيتام، والاهتمام بأمور المسلمين، والتعفف في المأكل والمشرب والمنكح والملبس، والسعي في الخيرات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والبدار إلى فعل الخيرات أجمع، واتقاء سوء عاقبة الطمع، ويتواصون بالحق والصبر، ويتحابون في الدين ويتباغضون فيه، ويتقون الجدال في الله والخصومات فيه، ويجانبون أهل البدع والضلالات، ويعادون أصحاب الأهواء والجهالات. ويقتدون بالنبي صلى الله عليه وسلم وبأصحابه الذين هم كالنجوم بأيهم اقتدوا اهتدوا، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله فيهم، ويقتدون بالسلف الصالحين من أئمة الدين وعلماء المسلمين، ويتمسكون بما كانوا به متمسكين من الدين المتين والحق المبين، ويبغضون أهل البدع الذين أحدثوا في الدين ما ليس منه، ولا يحبونهم ولا يصحبونهم، ولا يسمعون كلامهم، ولا يجالسونهم، ولا يجادلونهم في الدين، ولا يناظرونهم ويرون صون آذانهم عن سماع أباطيلهم التي إذا مرت بالآذان وقرّت في القلوب ضرت، وجرت إليها من الوساوس والخطرات الفاسدة ما جرت، وفيه أنزل الله عز وجل قوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام:68]]. ذكر الشيخ جملة من الآداب والأخلاق التي هي من أصول أهل السنة والجماعة، وفي ذلك الإشارة إلى عدة أمور، منها: أن مسألة الآداب والأخلاق ليست مفصولة عن العقائد كما يظن بعض الناس، وليست في درجة دون العقائد؛ فإن العقيدة عند السلف تتمثل بأقوال وأعمال ومناهج، يعني: لابد من منهج في الاعتقاد ومنهج في التعامل ولا ينفك التعامل عن الاعتقاد. ولذلك نجد أن بعض الفرق التي ضلت خاصة التي تنطعت في الدين، كالخوارج ومن سلك سبيلهم، نجد أن أعظم ضلالاتهم وأكثر انحرافاتهم عن منهج السلف في التعامل أدى بهم هذا إلى الانحراف عن المناهج العلمية فيما بعد، فصار منهجهم في التعامل مع الآخرين وفي التعامل مع المخالفين وفي التعامل مع بقية المسلمين فيه شدة وتنطع. فمنهج التعامل منهج مهم جداً عند السلف بجزئياته وكلياته، ويرون أنه فعلاً هو الثمرة للاعتقاد وللعقيدة، ومن هنا كان السلف في كتبهم في الآثار وفي العقيدة يؤكدون على هذا المعنى، ويذكرون أهم جوانب التعامل في صلة الأرحام وإطعام الطعام والرحمة على الفقراء والمساكين والأيتام والاهتمام بأمور المسلمين. وهذا فيه إشارة إلى خطأ أولئك الذين يزعمون أنهم يسعهم عدم الإسهام مع المسلمين في أعمال البر والخير، وأن الواحد ينزوي ويقول: ما لي وما للناس، وهذا في الحقيقة ليس هو منهج السلف، فالمسلم يجاهد ويصبر ويثابر ويحرص على مصالح المسلمين، ولا يلزم أن يكون عمله فقط في مجال الدعوة الخالصة بمفهوم المعاصرين فقط، بل ينبغي أن يتوسع في مفهوم الدعوة، فيساهم في أعمال البر وفي المؤسسات الخيرية، وفي الإسهام في نفع المجتمع في مؤسساته وفي المراكز العلمية وغيرها، وحتى في الجهود الفردية كل ذلك من أبواب البر التي تعتبر من المناهج الأصلية والكبرى عند السلف، فلابد من الاهتمام بأمور المسلمين، والأقربون أولى بالمعروف وأولى بالاهتمام. فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصول الدين الكبرى التي يغفل عنها كثير من الناس، حتى ظن بعض المسلمين اليوم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمر موكول على هيئات أو جهات معينة. نعم، الهيئات تقوم بما يخص الدولة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن فيما يتعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الأفراد في بيوتهم وفي بيئاتهم وفي مجالات عملهم بما يستطيعونه ويملكونه، وبما يتماشى مع قواعد الشرع، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هذا لا يعذر به أحد، فمن هنا لا يجوز لأحد أن يقعد، وليعلم أن من منهج السلف إقامة هذه الشعيرة، وكذلك البدار إلى فعل الخيرات، واتقاء الطمع. ويتواصون بالحق والصبر عليه، والصبر في كل شيء لابد منه، ولا يمكن أن ينتفع المسلمون بشيء من أعمالهم إلا بالصبر. ثم ذكر التحاب في الله والتباغض فيه، ثم ذكر اتقاء الجدل في الله، والمقصود من هذا: أن الأصل عند السلف أنهم لا يلجئون للجدل إلا اضطراراً، فالعلم والتعليم هذا أمر مطلوب، ولا يمكن أن يقوم الدين إلا بالعلم والتعليم والتفقه بما في ديننا، لكن الجدال والخصومات والمراء لا تجوز إلا اضطراراً؛ فإن الجدال والمراء من سمات أهل البدع والضلالات. ثم قال: (ويعادون أصحاب الأهواء والجهالات) يعني: يعادونهم بقدر ما عندهم من الضلالات، فقد يكونون من المسلمين، فيكون لهم من الولاء بقدر ما فيهم من الخير والإسلام، وعلي

الأسئلة

الأسئلة

حكم استتابة الساحر

حكم استتابة الساحر Q ما حكم استتابة الساحر؟ A استتابة الساحر محل خلاف بين أهل العلم، وقد فرقوا بين الساحر الذي يعم فساده، وبين الساحر الذي لم يظهر فساده، فقالوا: إن الساحر الذي لم يظهر فساده ولم يعم شره يستتاب، وإن الساحر الذي يعم شره ويظهر فساده يقتل لأجل كف الفساد وردع أمثاله، لكن ومع ذلك فالقول بالاستتابة قول وجيه؛ لأنه إذا قبض عليه متلبساً بذنبه في جريمة السحر فيستتاب، بمعنى أن يقال له: إن ما عملته شرك وردة وكفر فيجب أن تتوب إلى الله عز وجل، فإذا قال: أتوب إلى الله، ولم يمارس هذا العمل مرة أخرى ولم يرجع إليه، فذلك مطلوب شرعاً، فالاستتابة هي إعلان التوبة وظهور ذلك على عمله والكف عما كان عليه.

حكم استخدام المسلمين للجن في الأمور المباحة

حكم استخدام المسلمين للجن في الأمور المباحة Q هل يجوز استخدام المسلمين للجن في أمور مباحة أو مشروعة؟ A استخدام الجن لأمر عارض دون تبييت وقصد قد يكون مباحاً بشروطه وضوابطه الدقيقة، لكن الاستخدام المطلق أو المبيت المقصود، أو الاستخدام الذي يتم باتفاق بين الإنس والجن هذا من الاستمتاع الذي حرمه الله عز وجل، ولذلك ينبغي الحذر من هذه الظاهرة التي بدأت عند الرقاة والقراء، فاستخدام الجن إن جاء عارض دون قصد، أو جاءت له مناسبة فلا حرج فيه، بشرط ألا يتم بعقد أو عهد بين الإنسي والجني، وألا يكون هناك شروط أو مقايضات بين الجني والإنسي. فإذاً: الاستعانة العارضة لا حرج فيها، كما كان يفعل كثير من السلف، وكثر هذا عن شيخ الإسلام ابن تيمية، فلا بأس باستعانة عارضة تأتي بدون أن يقصدها الإنسي، أما ما يحدث عند الرقاة الآن من الاستعانة الدائمة بالجن واستحضارهم عند الحاجة، وأخذ العهود والشروط عليهم، وتقييدهم بعقود معينة ومقايضات فهذا من البدع، ومما نهى الله عنه ونهى عنه السلف نهياً شديداً.

حكم سحر التخييل

حكم سحر التخييل Q ما حكم سحر التخييل وما يفعله البعض من طعن نفسه بالسكين والمشي على النار ونحو ذلك مما يلبس به؟ A هناك فرق بين السحر وبين التخييل، وبعض الأعمال التي يعملها بعض الدجالين تكون أعمالاً طبيعية، لكنها تكون بالمران أو باستعمال مواد كيميائية ونحوها، فيظن الناس أنها قمار أو أنها سحر، وبعضها فعلاً سحر، يعني: يسيطر فيها السحر على خيال الإنسان بحيث يرى ما لم يكن، أو يتصور ما لا يحدث أو غير ذلك، فهذا نوع من السحر، لكن كله دجل، وحكمه واحد، فمن استعمل الأمور العلمية الطبيعية للتمويه على الناس، أو من استعمل السحر كله يدخل في الباب العام للسحر، فالقمار والدجل والشعوذة كلها حرام، فالذي يطعن نفسه بالسكين ويمشي على النار إما أنه يستعمل السحر والتخييل، أو أنه فعلاً يفعل ذلك بأمور تعود عليها، فالجسم إذا تعود على شيء قد يعمل ما يشبه الخوارق.

العلاقة بين العقيدة والأخلاق

العلاقة بين العقيدة والأخلاق Q ذكرت أن الآداب لا تنفصل عن العقائد، وهذا ما خالف فيه أصحاب الأهواء، ولكن نجد أن بعض هؤلاء المبتدعة يلبسون على العوام بحسن الخلق؟ A حسن الخلق أمر فطري في البشر عموماً، لكن المقصود أن المسلم يجب عليه أن يحسن الخلق تعبداً لله عز وجل وحسبة، وأن يجعل هذا من أصول دينه وركائز منهج السلف ويدين بذلك. والأمر الآخر أنه ينبغي أن يكون أسبق من غيره إلى حسن الأخلاق، فحسن الخلق عند الكافر قد يكون جبلياً وقد يكون لمصلحة وهو الغالب، وكذلك بعض الفساق والفجار وبعض أهل الأهواء قد يكون عندهم شيء من حسن الخلق؛ لأن حسن الخلق بصوره الكثيرة قد يكون من النزعات الإنسانية، لكن احتساب ذلك عند الله عز وجل والتدين به والمسابقة إليه والمسارعة هذا أمر زائد ينبغي أن يتحلى به المسلم.

الفرق بين المجانبة والهجر في التعامل مع أهل البدع

الفرق بين المجانبة والهجر في التعامل مع أهل البدع Q ما الفرق في التعامل مع أهل البدع بين المجانبة والهجر؟ A الهجر ربما يكون أعلى درجات المجانبة، فالهجر: المقاطعة الكاملة، والمجانبة الإعراض، ومع ذلك بينهما شيء من التداخل والتشابه، لكن يظهر لي أن معنى المجانبة معنى عام، يعني: مجانبة كتبهم وأقوالهم ومجالسهم وآرائهم إلى آخره، يعني: المسلم يجعل كل ما عليه أهل الأهواء على جنب، ويعرض إعراضاً عاماً، أما الهجر فهو المقاطعة الكاملة. فإذاً: الهجر نوع من المجانبة، والمجانبة بمعنى أشمل. والله أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

[18]

شرح عقيدة السلف أصحاب الحديث [18] لأهل البدع سمات وعلامات يتميزون بها، من أبرزها: أنهم يلمزون أهل السنة وأهل الحديث ويعادونهم، وهذه سمة عامة في كل طوائف أهل البدع، وإلا فلكل طائفة علامة تختص بها، فالقدرية يسمون أهل السنة جبرية، والجهمية يسمون أهل السنة مشبهة وحشوية، والرافضة يسمون أهل السنة نابتة وناصبة، ويجمعهم بغضهم لأهل السنة حملة الدين؛ لأن ما جاء في الدين يخالف ما هم عليه من البدع والأهواء.

علامات أهل البدع

علامات أهل البدع الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعلامات البدع على أهلها ظاهرة بادية، وأظهر آياتهم وعلاماتهم: شدة معاداتهم لحملة أخبار النبي صلى الله عليه وسلم، واحتقارهم لهم، وتسميتهم إياهم: حشوية وجهلة وظاهرية ومشبهة، اعتقاداً منهم في أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها بمعزل عن العلم، وأن العلم ما يلقيه الشيطان إليهم من نتائج عقولهم الفاسدة ووساوس صدورهم المظلمة، وهواجس قلوبهم الخالية عن الخير وحججهم العاطلة، بل شبههم الداحضة الباطلة: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:23]، {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18]]. قصد المؤلف بهذا سمة من سمات أهل البدع، وعلامة من أبرز علاماتهم في كل زمان ومكان، وهذه السمة مشتركة عند جميع أهل الأهواء، والتي تتمثل فيما ذكره الشيخ من عداوتهم لأهل السنة والجماعة، ومن لمزهم لأهل الحق وأئمة الهدى، وترتبت الثانية على الأولى، لما عادوا أهل السنة لمزوهم وعيروهم؛ وسبب ذلك هو مخالفتهم للسنة، فإن أهل السنة رووا وقالوا واعتقدوا ما يخالف ما عليه أهل البدع، فعاداهم أهل البدع لذلك. وذكر الشيخ أنهم عادوا أهل السنة؛ لأنهم حملة أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقصد بذلك أن أهل البدع في منشأ عداوتهم لأهل السنة إنما عادوهم؛ لأنهم اعتقدوا الحق في صفات الله عز وجل، فأثبتوها كما أثبتها الله لنفسه، وأهل الأهواء ينكرون الصفات أو يؤولونها، ونتج عن هذا المنهج وذاك أن أهل السنة حشدوا النصوص الثابتة في القرآن والسنة التي تدل على إثبات الصفات، ورووا الأحاديث، وصاروا هم حملة أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما صادمت هذه الأحاديث أصول أهل الأهواء والبدع ردوها، فلما ردوها أيضاً طعنوا في رواتها، وأبغضوهم لذلك واحتقروهم وسموهم بهذه الأسماء، مثل: حشوية، وهذه العبارة أول ما أطلقت أطلقت من قبل المعتزلة الذين أطلقوها على طائفة من متأخري الصحابة، وعلى أئمة التابعين والسلف عموماً وعلى رواة الحديث على وجه الخصوص، وقصدوا بهذا أن علم السلف حشو لا قيمة له، بما في ذلك رواية الأحاديث في الصفات، وقصدوا بهذا أيضاً أن السلف أشبه بالرعاع الذين لا يستحقون أن يكونوا في مقدمة المجالس، إنما يجب بزعمهم أن يؤخروا إلى حشو المجالس، أي: مؤخرة الحلق والمجالس، وهذا فيه احتقار للسلف وفيه لمز وتعيير، فسموهم: حشوية؛ لأنهم احتقروهم، وكذلك وصفوهم بالجهل، وقالوا بأنهم جهلة؛ لأنهم زعموا أن من الجهل رواية هذه النصوص التي تثبت الصفات، أو من الجهل إثبات الصفات أيضاً؛ لأنهم زعموا أنه لابد من التأويل، وأن من لم يؤول فهو جاهل، وهذا من التلبيس، فنحن نعلم أن نصوص الصفات من أمور الغيب، ولا سبيل لتأويلها، فإثباتها هو العلم وتأويلها هو الجهل، لكن أهل البدع قلبوا المسألة، فجعلوا إثبات الصفات هو الجهل، والخوض فيها والتعطيل والإنكار هو العلم، ولذلك وصفوا السلف بأنهم جهلة، ووصفوهم أيضاً بأنهم ظاهرية، ويقصدون بأن من لم يؤول على مناهجهم الباطنية الفلسفية فقد أخذ بالظاهر، ونحن نعلم أن نصوص الغيب بما فيها نصوص الصفات قال السلف بأنها تجرى على ظاهرها، يعني: يعتقد بأن لها معاني على الحقيقة التي تليق بالله عز وجل، وهذا هو ظاهر النصوص، وهذا هو الاعتقاد الحق، لكن أهل البدع لما ساءهم اعتقاد هذا الظاهر وخالف أصولهم عيروا أهله، هذا من جانب. من جانب آخر أيضاً: أهل البدع يكذبون على السلف، ويزعمون أنهم في اعتقادهم للصفات إنما أخذوا بظواهر النصوص التي مقتضاها التشبيه، وهذا فيه ظلم للسلف وفيه كذب عليهم، فالسلف حينما أثبتوا ظواهر النصوص في الصفات وغيرها أثبتوا الحقائق والمعاني، ولم يثبتوا التشبيه، بل نفوا التشبيه، لكن أهل البدع يزعمون أن كل من أثبت الظواهر فهو مشبه، وهم حكموا بما لم يلزم، فسموا أهل السنة ظاهرية، وكذلك سموهم: مشبهة أيضاً، فهم يزعمون أن أهل السنة حينما أثبتوا الصفات شبهوا الله بخلقه، وهذا غلط، فأهل السنة قاعدتهم واضحة، وهي أنهم يثبتون لله ما أثبته لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم كما ورد في النصوص، مع نفي التشبيه، على قاعدة: أن الله ليس كمثله شيء. وتعيير أهل السنة ولمزهم بهذه الألقاب راجع إلى اعتقادهم في أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها بمعزل عن العلم -كما قال الشيخ- هذا هو رأي أهل البدع في النصوص الشرعية؛ لأنهم زعموا أن ظاهرها لا يدل على علم، وأنه لابد من التكلف لاستنتاج العلم الذي فيها، وأن العلم ما يلقيه الشيطان إليهم من نتائج عقولهم الفاسدة، ووساوس صدورهم المظلمة، وهواجس قلوبهم الخالية عن الخير وشبههم الداحضة الباطلة؛ لأنهم في الحقيقة ليس عندهم حجج، إنما عندهم شبه. ثم ذكر بسنده قول أحمد بن سنان القطان الواسطي: [ليس

علامات القدرية

علامات القدرية ذكر علامات الفرق وأبرز علامات الفرق، وهناك علامات عامة للفرق ذكرها من قبل، ومنها موقفهم من أهل السنة وأهلها؛ وأنهم كلهم يبغضون ما لا يوافق أهواءهم من الأحاديث، ويبغضون أهل السنة، ويبغضون رواة الحديث وطلاب العلم الشرعي الذين يروون ما لا يهوون، وهذه قاعدة عامة عند أهل الأهواء، لكن هناك سمات تخص كل فرقة، فمثلاً: علامة القدرية: أنهم يعيرون أهل السنة بأنهم مجبرة، والمقصود بهذا: أن القدرية يزعمون أن الله عز وجل لم يقدر كل شيء، وأن الله لم يقدر بعض أفعال العباد، فعلى هذا هم يعتقدون بأن من قال: إن الله مقدر لأفعال العباد كلها فإنه قال: بأن الإنسان مجبور؛ لأنهم يرون أن قول أهل السنة بأن الله عز وجل قدر على العبد كل شيء أن هذا نوع من الجبر؛ فلذلك سموا من أثبت القدر بأنه مجبر، فهم يزعمون أن الله لم يقدر أفعال العباد، وعلى هذا فإنا إذا قلنا: بأن الله مقدر لأفعال العباد، فهذا هو الحق، لكنه عندهم جبر؛ يعني: أن الإنسان مجبور على ما لا يريد وما لا يقصد، وهذا خطأ، فإن الله عز وجل جبل العباد ولم يجبرهم.

علامة الجهمية

علامة الجهمية كذلك علامة الجهمية أنهم يسمون أهل السنة: مشبهة، والمقصود بالجهمية نفاة الأسماء والصفات. ووصف الجهمية وصف عام لكل من أنكر شيئاً من الأسماء والصفات، سواء أنكر الأسماء كلها مع الصفات، أو أنكر الأسماء دون الصفات، أو من أنكر بعض الصفات وأثبت بعضاً، هؤلاء كلهم يسمون الجهمية، وكلهم يسمون من أثبت شيئاً مما يخالف أصولهم مشبهاً، فعلى هذا الجهمية يسمون أهل السنة: مشبهة؛ لأن أهل السنة يثبتون الصفات، وهم -أي: الجهمية- يعتقدون أن إثبات الصفات تشبيهاً.

علامة الرافضة

علامة الرافضة علامات الرافضة تسميتهم أهل الأثر: نابتة وناصبة، والرافضة يعيرون أهل السنة والجماعة بألقاب كثيرة، ومنها هذه الألقاب. أما قولهم نابتة: فيقصدون بالنابتة الأحداث الرعاع الهمج الطفيلية؛ لأن النابتة هي النبتة الطفيلية التي تنبت وهي لا قيمة لها وتؤذي الأشجار الأصلية، فهم يزعمون أن أهل السنة طفيليون، وأنهم أحداث رعاع، فسموهم: نابتة. وكذلك من علامات الرافضة أنهم يسمون أهل السنة نواصب؛ لأنهم يعتقدون أن من لم يقدس آل البيت، ومن لم يعتقد فيهم الإلهية، ومن لم يغل فيهم فقد ناصبهم العداء، وإلا فأهل السنة ليسوا ناصبة، أهل السنة يوالون آل بيت رسوله صلى الله عليه وسلم ويعتقدون الولاء لهم، ويصلون ويسلمون عليهم، ويعطونهم حقهم واعتبارهم، لكن الرافضة لا يكفيهم القول المعتدل، إنما يريدون من أهل السنة أن يقدسوا أهل البيت كما قدستهم الرافضة، وأن يعطوهم مقامات الألوهية، ومقامات القداسة، وهذا ما لا يجوز شرعاً، فلذلك من لم يعتقد مثل الرافضة في آل البيت يسمونه: ناصبياً، يعني: أنه نصب العداء لآل البيت. وكذلك كل فئة تلقب أهل السنة بما تزعم أنه عندها هو الحق، ولذلك فإن هذه الألقاب كما ذكر الشيخ في آخر الدرس لا تصيب أهل السنة، فإنهم في الحقيقة -بحمد الله- ليسوا مشبهة، بل هم مثبتة، وليسوا جبرية؛ لأنهم يقولون بالقدر كما ورد في الكتاب والسنة، وليسوا نابتة ولا ناصبة ولا حشوية ولا إلى آخره، وأن ما عيرهم به خصومهم لا ينطبق عليهم، فتعيير أهل البدع لأهل السنة لا ينطبق على أهل السنة؛ لأنهم ليسوا في الواقع على ما عيروهم به، وكل عيب وصف أعداء أهل السنة أهل السنة به فهم منه برآء، بل يكون العكس هو الصحيح. وتعيير أهل السنة أتباع النبي صلى الله عليه وسلم من قبل أهل الأهواء هو مثل تعيير المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم عيروه بمذمم عكس محمد، وهو في الحقيقة محمد فعلاً عند الله وعند خلقه، فصار تعييرهم له لا ينطبق عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في حقيقة الأمر وباعتراف عقلاء المشركين محمد ومحمود وليس بمذموم، فكان تسميتهم له هذه التسمية المقلوبة لم تنطبق عليهم، فكذلك تعيير أعداء السنة لأهل السنة لا ينطبق عليهم ولا يصيبهم، بل يكون من لهو القول ومن القول الفاسد. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

[19]

شرح عقيدة السلف أصحاب الحديث [19] لأهل السنة سمات وعلامات يتميزون بها عن غيرهم، من أبرزها التسليم التام لما ورد في الكتاب والسنة، والعمل بهما وفق مراد الله تعالى ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، وكذلك حبهم لأئمة السنة وعلمائها وأنصارها وأوليائها، وبغضهم لأئمة البدع، وتحذير الناس منهم ومن بدعهم، ومدافعتهم وإذلالهم وإخزاؤهم وهجرهم ومقاطعتهم ونبذهم، حتى يكونوا عبرة لمن يعتبر.

علامات أهل السنة

علامات أهل السنة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وإحدى علامات أهل السنة: حبهم لأئمة السنة وعلمائها وأنصارها وأوليائها، وبغضهم لأئمة البدع الذين يدعون إلى النار، ويدلون أصحابهم على دار البوار، وقد زين الله سبحانه قلوب أهل السنة ونورها بحب علماء السنة؛ فضلاً منه جل جلاله ومنة]. هذه قاعدة ذكرها المؤلف قبل في المقاطع السابقة، وذكر أيضاً مقابلها: (وهو أن من علامات أهل البدع بغض أهل السنة والجماعة)، أقول: وينضاف إلى هذا أنه ما من أحد من أهل الأهواء تعرض لأحد أئمة السنة الأحياء أو الأموات فيما يتعلق بإمامته في الدين أو لمزه بأمر يتعلق بالسنة التي كان عليها، أو طعن في منهجه، أو طعن في دينه وذمته في أمر يتعلق بمصالح الدين والأمة، إلا ويصاب بفتنة، ويفضحه الله أمام الخلائق، نسأل الله العافية، وفي عصرنا هذا وقعت وقائع تأملتها، ووجدت أن هناك من تجرءوا على بعض أئمة الهدى المعاصرين الأحياء والأموات، وكانت جرأتهم عن هوى -والله أعلم بحالهم، لكن فيما يظهر-، وكانت هذه الجرأة تتعلق بمناهج الدين، فلمزوهم وقالوا فيهم قولاً لا يليق بمسلم أن يقوله، وطعنوا في ذممهم وفي مناهجهم في أمر يتعلق بمصالح المسلمين، فوجدت هؤلاء الذين لمزوا أهل العلم والفضل وأئمة الدين أصيبوا بفتنة، نسأل الله العافية. قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال أحمد بن سلمة: قرأ علينا أبو رجاء قتيبة بن سعيد كتاب الإيمان له، فكان في آخره: فإذا رأيت الرجل يحب سفيان الثوري ومالك بن أنس والأوزاعي وشعبة وابن المبارك وأبا الأحوص وشريكاً ووكيعاً ويحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي، فاعلم أنه صاحب سنة. قال أحمد بن سلمة رحمه الله: فألحقت بخطي تحته: ويحيى بن يحيى وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، فلما انتهى إلى هذا الموضع نظر إلينا -أهل نيسابور- وقال: هؤلاء القوم يتعصبون لـ يحيى بن يحيى، فقلنا له: يا أبا رجاء ما يحيى بن يحيى؟ قال: رجل صالح إمام المسلمين، وإسحاق بن إبراهيم إمام، وأحمد بن حنبل أكبر ممن سميتهم كلهم. وأنا ألحقت بهؤلاء الذين ذكرهم قتيبة رحمه الله أن من أحبهم فهو صاحب سنة من أئمة أهل الحديث الذين بهم يقتدون وبهديهم يهتدون، ومن جملتهم ومتبعيهم وشيعتهم أنفسهم يعدون، وفي اتباعهم آثارهم يجدون، جماعة آخرين منهم: محمد بن إدريس الشافعي المطلبي الإمام المقدم والسيد المعظم، العظيم المنة على أهل الإسلام والسنة، الموفق الملقن الملهم المسدد، الذي عمل في دين الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم من النصر لهما والذب عنهما ما لم يعمله أحد من علماء عصره ومن بعدهم، ومنهم الذين كانوا قبل الشافعي رحمه الله، كـ سعيد بن جبير والزهري والشعبي والتيمي ومن بعدهم، كـ الليث بن سعد والأوزاعي والثوري وسفيان بن عيينة الهلالي وحماد بن سلمة وحماد بن زيد ويونس بن عبيد وأيوب السختياني وابن عون ونظرائهم، ومن بعدهم مثل: يزيد بن هارون وعبد الرزاق وجرير بن عبد الحميد، ومن بعدهم مثل: محمد بن يحيى الذهلي ومحمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج القشيري وأبي داود السجستاني وأبي زرعة الرازي وأبي حاتم وابنه، ومحمد بن مسلم بن وارة ومحمد بن أسلم الطوسي وعثمان بن سعيد الدارمي ومحمد بن إسحاق بن خزيمة الذي كان يدعى: إمام الأئمة، ولعمري كان إمام الأئمة في عصره ووقته، وأبي يعقوب إسحاق بن إسماعيل البستي، وجدي من قبل أبي أبي سعيد يحيى بن منصور الزاهد الهروي وعدي بن حمدويه الصابوني، وولديه سيفي السنة: أبي عبد الله الصابوني وأبي عبد الرحمن الصابوني وغيرهم من أئمة السنة الذين كانوا متمسكين بها ناصرين لها داعين إليها دالين عليها]. هؤلاء نماذج لأئمة السنة، وأئمة السنة لا يحص

منهج أهل السنة تجاه أهل الأهواء

منهج أهل السنة تجاه أهل الأهواء قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهذه الجمل التي أثبتها في هذا الجزء كانت معتقد جميعهم، لم يخالف فيها بعضهم بعضاً، بل أجمعوا عليها كلها، واتفقوا مع ذلك على القول بقهر أهل البدع وإذلالهم وإخزائهم وإبعادهم وإقصائهم والتباعد منهم ومن مصاحبتهم ومعاشرتهم، والتقرب إلى الله عز وجل بمجانبتهم ومهاجرتهم]. هذه العبارات تمثل منهج أهل السنة تجاه أهل الأهواء، أو في معاملة أهل الأهواء، والشيخ لم يرتبها ترتيباً علمياً، وربما بدأ بالأخف قبل الأغلظ، أو أنه خلط بين هذه المسائل. فأول درجات المنهج في التعامل مع أهل الأهواء: بغضهم وبغض بدعهم، وهذا أمر لا يعذر به أحد من أهل السنة؛ لأن البغض قلبي، أقول: أول درجات التعامل مع أهل الأهواء وأهل البدع البغض لما هم فيه من البدع والأهواء، وهذا يسع جميع أهل السنة؛ لأن البغض أمر قلبي لا يستطيع أحد أن يمنع أحداً منه، والتقرب إلى الله عز وجل بمجانبتهم كذلك، والتقرب بالمجانبة القلبية هذا أمر أيضاً يستطيعه كل مسلم وكل صاحب سنة. أما بقية الأمور فتختلف باختلاف أحوال الناس حسب الزمان والمكان والظرف والقدرة والاستطاعة، وحسب المصلحة ودرء المفسدة. أما المصاحبة والمعاشرة فالأصل أن كل صاحب سنة يستطيع ألا يصاحب صاحب بدعة ويعاشره، إلا في حالات نادرة قد تستثنى عند الضرورة. أما ما يتعلق بالقهر والإذلال والإخزاء والإبعاد والإقصاء والتباعد الجسماني، وكذلك ما يترتب على هذا من الهجر، وأيضاً ما يملكه ولي الأمر أو أهل الحل والعقد من التأديب والضرب والحبس ونحو ذلك، فهذه أمور تكون بحسب المصلحة ودرء المفسدة، وتكون مشروطة بحسب الإمكان والقوة والقدرة، وما لا يترتب على ذلك فتنة. إذاً: منهج التعامل مع أهل الأهواء ممكن أن نقسمه إلى ثلاث درجات: الدرجة الأولى: البغض القلبي، وهذا يملكه كل مسلم وكل صاحب سنة. والدرجة الثانية: ترك المصاحبة والمجالسة، وهذه يملكها أغلب أهل السنة؛ فأغلب أهل السنة يملكون ترك مصاحبة أهل البدع والأهواء. والدرجة الثالثة: التعزير بأنواعه، وهذه غالباً لا يملكها إلا أهل الولاية والقوة وأهل الحل والعقد، ومن له سلطة أو ولاية، وهذه مشروطة أيضاً بقدير المصلحة ودرء المفسدة.

عقيدة الإمام أبي عثمان الصابوني ونصيحته لإخوانه أهل السنة

عقيدة الإمام أبي عثمان الصابوني ونصيحته لإخوانه أهل السنة قال المصنف رحمه الله: [وأنا بفضل الله عز وجل متبع لآثارهم مستضيء بأنوارهم، ناصح لإخواني وأصحابي ألا يزلقوا عن منارهم، ولا يتبعوا غير أقوالهم، ولا يشتغلوا بهذه المحدثات من البدع التي اشتهرت فيما بين المسلمين وظهرت وانتشرت، ولو جرت واحدة منها على لسان واحد في عصر أولئك الأئمة لهجروه وبدعوه، ولكذبوه وأصابوه بكل سوء ومكروه]. الشيخ الصابوني هنا يقصد ما حدث في وقته مما لم يحدث في وقت السابقين. والشيخ عاش بين القرن الرابع والخامس، وشاهد في وقته كثيراً من البدع: بدع المتصوفة، وبدع الفلاسفة، وبدع الباطنية، وبدع غلاة المتكلمين الذين أنكروا أسماء الله وصفاته، وتكلموا في ذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله بما لم يتكلم به حتى الجهمية الأوائل، وتجرءوا بأن يظهروا مصطلحاتهم وأعمالهم البدعية الظاهرة بألسنتهم وبأعمالهم وأقوالهم وأفعالهم وعلاقاتهم، مثل: وحدة الوجود، والاتحاد والحلول، ومثل دعوى الكشف والذوق، ومثل: التعطيل المعلن، ومثل: القول بأن للشريعة ظاهراً وباطناً وغير ذلك مما حدث في وقت الصابوني ولم يكن في عهد الذين سبقوه في القرن الثاني والثالث. فيقول: إن هذه المحدثات التي في وقته ظهرت وانتشرت، وإنها لو جرت في عهد السلف لوقفوا منها موقفاً أحزم مما وقفه المعاصرون له. نعم. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولا يغرن إخواني حفظهم الله كثرة أهل البدع ووفور عددهم، فإن ذلك من أمارات اقتراب الساعة، إذ الرسول المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن من علامات الساعة واقترابها أن يقل العلم ويكثر الجهل) والعلم هو السنة والجهل هو البدعة. ومن تمسك اليوم بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعمل بها واستقام عليها، ودعا إليها كان أجره أوفر وأكثر من أجر من جرى على هذه الجملة في أوائل الإسلام والملة، إذ الرسول المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (له أجر خمسين، فقيل: خمسين منهم؟ قال: بل منكم)؛ وإنما قال صلى الله عليه وسلم ذلك لمن يعمل بسنته عند فساد أمته. وجدت في كتاب الشيخ الإمام جدي أبي عبد الله محمد بن عدي بن حمدويه الصابوني رحمه الله: أنبأنا أبو العباس الحسن بن سفيان النسوي أن العباس بن صبيح حدثهم: حدثنا عبد الجبار بن مظاهر حدثني معمر بن راشد سمعت ابن شهاب الزهري يقول: تعليم سنة أفضل من عبادة مائتي سنة. وقال عمرو بن محمد كان أبو معاوية الضرير يحدث هارون الرشيد فحدثه بحديث أبي هريرة رضي الله عنه: (احتج آدم وموسى)، فقال عيسى بن جعفر: كيف هذا وبين آدم وموسى ما بينهما؟ قال: فوثب به هارون وقال: يحدثك عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وتعارضه بكيف؟ قال: فما زال يقول حتى سكن عنه. هكذا ينبغي للمرء أن يعظم أخبار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويقابلها بالقبول والتسليم والتصديق، وينكر أشد الإنكار على من يسلك فيها غير هذا الطريق الذي سلكه هارون الرشيد رحمه الله مع من اعترض على الخبر الصحيح الذي سمعه بكيف؛ على طريق الإنكار والاستبعاد له، ولم يتلقه بالقبول كما يجب أن يتلقى جميع ما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم]. هذه الحقيقة خاتمة جيدة ومناسبة وكثيراً ما نجد أن المؤلفين من السلف قديماً وحديثاً يتحرون في خواتيم أقوالهم ومحاضراتهم وكتبهم ما يناسب المقام، فالشيخ الصابوني رحمه الله هنا ختم عقيدته هذه التي سرد فيها مناهج السلف وأصولهم وقواعدهم ومناهجهم وذكر أئمتهم ختمها بخاتمة مناسبة؛ كأنه يقول فيها: هذه عقيدة السلف التي ندين الله بها المأخوذة من أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم، والتي ينبغي أن يكون المسلم مسلماً بها؛ لأن العقيدة تنبني على التسليم، بل الدين كله ينبني على القبول والتسليم والتصديق، وأنه لا يجوز لمسلم أن يتردد ولا أن يشك ولا أن يكون عنده ريب أو عنده شيء من التحرج في إثبات هذه العقيدة، بل يسلم كمال التسليم. فكما بدأ كلامه بضرورة التسليم أيضاً ختم كلامه بضرورة التسليم، وأن مبنى العقيدة على التسليم لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم. قال المصنف رحمه الله تعالى: [جعلنا الله سبحانه من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ويتمسكون في دنياهم مدة محياهم بالكتاب والسنة، وجنبنا الأهواء المضلة والآراء المضمحلة، والأسواء المذلة، فضلاً منه ومنة. وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم]. وبهذا ينتهي هذا الكتاب القيم، ونحمد الله على التمام، ونسأل الله تعالى التوفيق والسداد والرشاد، وأن يجعلنا من الهداة المهتدين المستمسكين بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبسبيل المؤمنين.

الأسئلة

الأسئلة

الدفاع عن هارون الرشيد

الدفاع عن هارون الرشيد Q لو وضحت القول الصحيح في هارون الرشيد؟ A ما أدري ما المقصود، لكن ربما يشير السائل إلى ما أشاعه الشعوبية وأهل الأهواء وأهل البدع من الطعن في هارون الرشيد وأنه كان صاحب فجور كما يزعمون، وأنه كان صاحب تمتع في الدنيا وإسراف إلى آخره، فأقول: هذا من كذب الرافضة وكذب أهل الأهواء، فأهل الأهواء كلهم يبغضون هارون الرشيد؛ لأنه كان حازماً قوياً في نصر الحق والسنة، وكان إماماً عادلاً معروفاً بعدله وقوته وحزمه ودينه وصدقه، ولذلك لم تظهر الجهمية في وقته، ولم تستطع الظهور لا هي ولا غيرها من أهل الأهواء والبدع، أما من عداه فهو ممن ملئت به كتب التاريخ من الأقوال عنه من أنه كان يفعل ويفعل ويجزل العطاء إلى آخره، هذا أمر إن صح بعضه فإنما هو من الأمور التي لا تعد من الكبائر أو تخرجه من مقتضى السنة، لكن غالبها لا يصح. والله أعلم. ونسأل الله للجميع التوفيق والسداد والرشاد. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

§1/1