شرح صحيح مسلم - حسن أبو الأشبال

حسن أبو الأشبال الزهيري

المقدمة - ترجمة الإمام مسلم بن الحجاج

شرح صحيح مسلم - المقدمة - ترجمة الإمام مسلم بن الحجاج لقد حفظ الله تعالى السنة برجال جمعوا أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وقاموا بتنقيتها وصيانتها من الكذب والوضع، ومنهم الإمام مسلم رحمه الله صاحب الصحيح الذي تلقته الأمة بالقبول، كما تلقت صحيح البخاري، وقد نهج الإمام مسلم في تصنيف صحيحه نهجاً مميزاً حيث قسم فيه الحديث إلى ثلاثة أقسام، ثم قسم رجاله إلى ثلاث طبقات، وبعد أن أتم جمع صحيحه عرضه على شيخه الحافظ الإمام أبي زرعة الرازي رحمهم الله جميعاً.

سبب اختيار صحيح مسلم في هذا الدرس

سبب اختيار صحيح مسلم في هذا الدرس الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد. فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. وبعد: فمرحباً بكم وأهلاً في بداية دروس منهجية في شرح صحيح مسلم. الحقيقة كانت رغبتي تناول الصحيح للإمام البخاري، ولكني استشرت في ذلك شيخي وأستاذي الشيخ محمد بن عبد المقصود فقال: مسلم أخف، فوافقته على رغبته وإن كانت رغبتي في الكتاب الآخر؛ لأني أدرس صحيح مسلم منذ أربع سنوات في الهرم، فكنت أود أن أبدأ بكتاب آخر؛ حتى أحصّل الفائدة لنفسي، كما ورد عن بعض شيوخ العصر أنهم كانوا يقرءون الكتب على التلاميذ لا لأجل التلاميذ ولكن لأجل نفعهم ومصلحتهم، فكنت أود أن أقرأ البخاري، ولكن طلب مني شيخي ولا يسعني مخالفته فوافقته على صحيح مسلم، وربما بلغ الخبر أخانا الشيخ فوزي السعيد خطأ، فسمع البخاري مكان مسلم فقال: صحيح البخاري. على أية حال في كليهما الخير الكثير. هذا أمر. والأمر الثاني: كنت أتصور أن المقبلين على طلب العلم الشرعي أكثر من ذلك، وبناء عليه فقد أعددت العدة للعدد الكبير، فهان الأمر عليّ الآن على اعتبار أن الإمام مسلم حينما صنّف صحيحه كانت له شروط، فقضيت في هذه الشروط وقتاً طويلاً حتى أبيّن المسألة، وإذا كنا سنبدأ في كتاب الصحيح من أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام فينبغي أولاً أن ندرس سيرة الإمام مسلم بن الحجاج صاحب الصحيح، ثم بعد ذلك ندرس كتابه الصحيح حتى يعظم عندنا وفي قلوبنا المصنِّف والمصنَّف كذلك، فإذا استقر الأمر على الاستمرار في هذا الصحيح علمنا سلفاً قيمته وفضله، فيحسن بنا أن نبدأ هذا الدرس بذكر ترجمة الإمام مسلم، ثم نثني بعد ذلك بذكر ترجمة شارحه وهو الإمام النووي عليه رحمة الله؛ لأن الأمر يلزمنا أن ندافع عن الإمام النووي؛ لأن كثيراً من الألسنة التي انطلقت في علماء السلف انطلقت أيضاً في الإمام النووي، وفي الدرس القادم إن شاء الله تعالى سنعلم ما وجِّه إليه من طعون. ونُعان بإذن الله تعالى على الرد عليها. ثم بعد ذلك نشرح منهجنا أو نبيّن المنهج الذي نسير عليه في شرح هذا الكتاب العظيم وهو صحيح مسلم.

ترجمة الإمام مسلم رحمه الله

ترجمة الإمام مسلم رحمه الله

نسبه

نسبه نقول مستعينين بالله عز وجل: الإمام مسلم بن الحجاج صاحب الصحيح هو: أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم بن ورد النيسابوري البلد والموطن والنشأة، القشيري. وقشير: هي قبيلة معروفة من قبائل العرب، يُنسب إليها الإمام ولاءً، هو إمام أهل الحديث في عصره، وأحد الحفّاظ المتقنين الأفذاذ.

مولده

مولده أما مولده فقد اختلف فيه بين سنة (204هـ أو 206هـ) والصحيح هو القول الثاني؛ لأن الإمام قد مات سنة (261هـ) عن (55) عاماً، فهذا يرجّح القول الثاني وهو أن مولده كان سنة (206هـ).

طلبه للعلم وشيوخه

طلبه للعلم وشيوخه أول سماعه للعلم كان سنة (218هـ) أي: كان بعد مولده بـ (12) عاماً، معنى ذلك: أنه بدأ طلب العلم مبكراً، وهدي سلفنا في بداية طلبهم للعلم أنهم كانوا يقبلون على القرآن الكريم أولاً فيحفظونه ويتقنونه إتقاناً جيداً كما قال عبد الله بن مسعود: الحفظ الإتقان. فلما فرغ من هذه المهمة التي هي بمثابة الخطوة والعتبة الأولى في طلب العلم دُفع به بعد ذلك إلى مجالس المحدثين، وكان ذلك في مقتبل عمره سنة (218هـ)، فسمع من يحيى بن يحيى التميمي وهو أكبر شيخ له، روى عنه نسخته عن مالك بن أنس الأصبحي إمام أهل المدينة. وكثير من الناس يُخطئ في هذا الأمر فيظن أن يحيى بن يحيى راوي الموطأ عن الإمام مالك هو الذي يروي عنه الإمام مسلم في الصحيح، ولكن الأمر ليس كذلك، فإن يحيى بن يحيى الذي يروي عن مالك الموطأ إنما هو يحيى بن يحيى الليثي، وأما يحيى بن يحيى الذي يروي عنه مسلم عن مالك في صحيحه فإنما هو يحيى بن يحيى التميمي وليس الليثي فليعلم هذا جيداً؛ لأن كثيراً من المحققين يخطئ في ذلك. فـ يحيى بن يحيى التميمي هو أكبر شيخ للإمام مسلم، وهذا يدلنا أيضاً على أن مسلماً بدأ السماع في سن مبكرة، وحج في سنة (220) هـ وهو أمرد أي: لا لحية له، فسمع بمكة من الإمام القعنبي وهو إمام جليل، وهو كذلك من أجل شيوخ الإمام مسلم. اسمه عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي، فهو أكبر شيخ له كذلك، وسمع بالكوفة من أحمد بن يونس وجماعة، وسمع ببغداد أحمد بن حنبل وعبد الله بن مسلمة وآخرين، وسمع بالري محمد بن مهران وأبا غسان، وسمع بالحجاز سعيد بن منصور وهو إمام عظيم جليل من أئمة الهدى، له مصنف في العلم اسمه سنن سعيد بن منصور، وسمع كذلك أبا مصعب وآخرين، وسمع بمصر عمرو بن سواد المصري وحرملة بن يحيى صاحب الإمام الشافعي رضي الله تبارك وتعالى عنه، وهذا يدل على أن الإمام مسلماً كان واسع الرحلة في أول عمره، والرحلة إنما هي سنة من سنن علمائنا وهديهم، كانوا إذا بدءوا بطلب العلم أخذوا علم أهل بلادهم أولاً، فإذا أتوا عليه وفرغوا منه بدءوا بالتفكير في أن يرحلوا إلى أقرب البلاد ثم أقربها فأقربها، وهذا الذي فعله الإمام مسلم، وكانت له رحلة واسعة إلى بلاد الغرب والشرق حتى حصّل علوماً كثيرة، وجاء بمسموعات وفيرة. وممن سمع منهم الإمام مسلم غير من ذكرنا أيضاً: أحمد بن سعيد الدارمي ولا نستطيع أن نذكر كل الشيوخ الذين روى عنهم الإمام مسلم، إنما نذكر الأئمة العظام خاصة الذين أكثر عنهم مسلم في كتابه الصحيح؛ لأننا لو أردنا أن نتقصى شيوخ الإمام مسلم لما استطعنا، وعلى أية حال من الممكن أن نعد له ثلاثة آلاف شيخ، وكذلك البخاري كان له أكثر من هذا العدد. فالإمام مسلم روى أيضاً عن أحمد بن سعيد الدارمي وابن منيع والحسن بن علي الخلال الإمام، وإسحاق بن منصور الكوسج. وهو تلميذ الإمام أحمد بن حنبل، وكذلك روى عن شيبان بن فروخ وزهير بن حرب وسويد بن سعيد، وزهير بن حرب هذا هو أبو خيثمة النسائي أول شيخ للإمام مسلم في صحيحه، وكذلك روى عن عبد بن حميد صاحب كتاب المنتخب -واسمه عبد الحميد بن حميد - وعبد الله بن أبي شيبة وعثمان ابني أبي شيبة، وعبد الله بن أبي شيبة هو المعروف بـ أبي بكر بن أبي شيبة صاحب المصنف، مصنف ابن أبي شيبة الكبير الضخم، وهو إمام جبل كالجبال الرواسي في العلم. وعمرو الناقد وقتيبة بن سعيد وابن رمح وابن المثنى وهارون الحمال وهناد بن السري صاحب كتاب الزهد، وابن معين إمام الجرح والتعديل صاحب التاريخ، وغيرهم بلغوا (220) رجلاً، أخرج لهم مسلم في صحيحه. وله شيوخ عدة سوى هؤلاء لم يخرّج عنهم في صحيحه، رغم أنهم أئمة كـ علي بن الجعد صاحب الجعديات، لم يخرّج له الإمام مسلم؛ لأنه كان ين

أثر فتنة خلق القرآن وما أدت إليه

أثر فتنة خلق القرآن وما أدت إليه محمد بن يحيى الذهلي هو أول من سمع منه مسلم بنيسابور، وكان شيخاً جليلاً، وكان إمام نيسابور في الحديث، فالإمام مسلم تلميذه وخريجه كذلك، ولكنه لم يرو عنه في صحيحه، حتى قيل: إن الإمام مسلم أخذ عن محمد بن يحيى الذهلي مقدار حِمل بعير من الأحاديث والأسانيد، ولكن حدثت شحناء بين الإمام مسلم وبين شيخه محمد بن يحيى الذهلي، واختلف أهل العلم في سبب هذه الشحناء فقيل: إن علي بن داود حينما نزل نيسابور عقد مجلساً حضره مسلم كما حضره يحيى بن محمد بن يحيى الذهلي، فأُثيرت مسألة، فأراد يحيى الذهلي أن يتكلم في هذه المسألة؛ فقال علي بن داود: اسكت أنت، فغضب لهذا الإحراج، ثم انصرف من المجلس، فأتى إلى أبيه وقال: لقد حدث كذا وكذا. قال: من حضر المسجد؟ قال: مسلم. قال: أولم يذب عنك؟ قال: لا، فغضب محمد بن يحيى الذهلي، وتنكّر بعد ذلك للإمام مسلم، ثم عامله الإمام مسلم بمثل معاملته أيضاً، ولكن هذا سبب لا أظن أنه يؤثر على مثل الإمام الذهلي، كما أنه لا يؤثر على مثل الإمام مسلم. ولعل الراجح في سبب الشحناء بين الإمامين هي الفتنة التي أُثيرت في ذلك الزمان وهي فتنة خلق القرآن الكريم. وأنتم تعلمون أن أول من تعرّض لهذه الفتنة هو الإمام أحمد بن حنبل وصبر فيها، وأيد الله عز وجل الدين بثباته وقيامه على هذا الأمر، وذبّه عن حياض صفات الله عز وجل، فهذه الفتنة كانت هي بمثابة البلاء والاختبار لأهل العلم من المحدثين والفقهاء في صدر الدولة العباسية، حتى أتى بعد ذلك من خلفاء الدولة العباسية من أخمد هذه الفتنة، وعلى أية حال في حياة الإمام البخاري ومسلم كانت هذه الفتنة في أوجها، فتعرّض لها الإمام البخاري في بغداد وفي بخارى وفي نيسابور كذلك، وحينما دخل الإمام البخاري إلى نيسابور كان محمد بن يحيى الذهلي يحث الناس على الخروج لاستقبال الإمام البخاري على مشارف المدينة، حتى خرج الناس وسدوا الطرق احتفاء بالإمام البخاري، ولكن هذا أثّر بعد ذلك على مجلس الإمام محمد بن يحيى الذهلي، وأهل العلم يغار بعضهم من بعض كما تغار التيوس في زرائبها، فدخل في نفسه من الإمام البخاري، حيث أن الناس أقبلوا على البخاري حتى ملأ الناس الشوارع والبيت، وصعدوا السطح الذي كان يسكنه الإمام البخاري، في الوقت الذي انفضوا عن الإمام محمد بن يحيى الذهلي، فوشى به عند السلطان في أمر خلق القرآن، والحق أن كلام الإمام البخاري هو الذي يوافق أهل السنة والجماعة، وانتحل مسلم أيضاً مذهب البخاري في مسألة خلق الأفعال. إن الإمام محمد بن يحيى الذهلي لم يدفعه إلى ذلك سوء اعتقاده في المسألة، إنما الذي دفعه إلى ذلك حنقه وحسده على الإمام البخاري، فلما حدث هذا وأُخرج البخاري من نيسابور بسبب هذه الفتنة أيضاً، كما أُخرج من بغداد وبخارى وغيرها، أقبل الطلاب بعد ذلك على مجلس الذهلي، ولكن الذهلي لم ينس انصراف مسلم عنه وإقباله على البخاري، فقال في المجلس: من قال باللفظ في القرآن فليعتزل مجلسنا، يقصد بذلك الإمام مسلم، ففهمها مسلم وكان معه كراريس وعباءة، فوضع العباءة على كتفه وأخذ كراريسه تحت إبطه وقام من المجلس وانصرف، وما هي إلا دقائق معدودة حتى أرسل له بكل مسموعاته، أي كل ما سمعه من الذهلي أرسله إليه مع حمّال أو قال جمّال، فكان ما أرسله حِمل بعير. يقول الإمام الذهبي معلقاً على هذه الحادثة: فما ضر الذهلي عند الله عز وجل ما فعله مسلم، ولكنه ضر مسلماً، ثم إن الإمام مسلماً في المقابل -الذي لا يخطر على بال- أيضاً امتنع من الرواية عن الإمام البخاري. أي: أن سبب الفتنة التي بينه وبين الذهلي هو الإمام البخاري، ومع هذا يمتنع من الرواية عن الذهلي وعن البخاري في الوقت نفسه. ولذلك الخطيب البغدادي يقول: وإنما كان ذلك لحدة في خُلقه. أي في خلق الإمام مسلم، والإمام البخاري كذلك هو من أجل شيوخ مسلم، ولكنه لم يرو عنه لا في الصحيح ولا في غيره.

تلاميذه ومن رووا عنه

تلاميذه ومن رووا عنه أما الراوون عنه فهم كثرة، زادوا عن الثلاثين ألفاً، ولكنا لا نعد بعض هذا العدد الكثير إنما نعد منهم بعض الأئمة لنرى كيف أخذ هو عن الأئمة، وكيف أخذ عنه الأئمة. فممن أخذ عنه صالح جزرة وهو إمام من أئمة الجرح والتعديل، وكذلك الإمام الترمذي روى عن الإمام مسلم كثيراً، كما روى أيضاً عن الإمام البخاري، فكثيراً ما يقول الإمام الترمذي في صحيحه: سألت محمداً عن فلان، وسألت محمداً عن هذا الحديث، فإذا قال ذلك فإنما هو محمد بن إسماعيل البخاري، وأما مسلم فهو شيخه، وتخرّج عليه الإمام الترمذي، ولكنه لم يرو عنه في جامعه في السنن إلا حديثاً واحداً، هو قوله صلى الله عليه وسلم: (أحصوا هلال شعبان لرمضان) الحديث السابع والثمانون بعد المائة السادسة. وكذلك الذي روى عن الإمام مسلم هو إبراهيم بن محمد بن سفيان العابد الفقيه، وهو الذي روى عنه كتابه الصحيح. إذاً: هذا الكتاب الذي بين يديك وهو الصحيح عن الإمام مسلم من رواية إبراهيم بن محمد بن سفيان العابد الفقيه. وكذلك من الراوين عنه ابن أبي حاتم ابن الإمام وهو إمام كذلك، وأحمد بن سلمة الحافظ - أحمد بن سلمة حافظ نيسابور- وكان قرينه -أي: كان معه في طبقة واحدة، يعني: مثله تماماً في الحفظ والضبط والإتقان والمعاصرة- وقد لزم أحمد بن سلمة الحافظ النيسابوري الإمام مسلم في رحلته إلى البصرة وغيرها. وإمام الأئمة ابن خزيمة صاحب صحيح ابن خزيمة روى عن الإمام مسلم، وهو تلميذه وخرّيجه كذلك، وأبو العباس السراج الإمام، وأبو عوانة الإسفراييني. وغيرهم كثير.

كلام أهل العلم في الإمام مسلم

كلام أهل العلم في الإمام مسلم أما الإمام مسلم فقد حاز مكانة عالية ومنصباً رائعاً عند أهل العلم، فأثنوا عليه بكلمات هي أحلى من العسل، فقال شيخه إسحاق بن منصور الكوسج في حقه: لن نعدم الخير ما أبقاك الله للمسلمين. هذا كلام خرج من الشيخ لتلميذه، فإذا كان الأمر كذلك فما بالكم بالشيخ القائل لهذه المقولة؟ فإن إسحاق بن منصور الكوسج رباه أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، وهاهو يقول هذا الكلام الطيب العذب في الإمام مسلم، وهذا يدلنا على مكانة مسلم عند الأئمة من شيوخه وأساتذته، فإذا كان هذا الإمام بهذه المنزلة عند شيوخه فلا شك أنه لا بد أن يكون أعظم من ذلك عندنا. وقال أيضاً إسحاق بن راهويه وهو شيخه كذلك: أي رجل يكون هذا؟ يعني: يستبشر له بمستقبل باهر مذهل، أي: لو عاش هذا الرجل فإنه سيكون له أمر عظيم. وقال ابن أبي حاتم: كان مسلم ثقة من الحفاظ، كان ابن أبي حاتم وأبوه أبو حاتم يأتون بألفاظ الجرح والتعديل بلطف شديد جداً، فإذا قال أبو حاتم: صدوق فإنما هذا يعني عنده: أنه ثقة؛ وذلك لأن أبا حاتم نفسه قال: مسلم بن الحجاج صدوق، فأنت إذا وقفت على هذه الكلمة فستقول: كيف يكون صدوقاً وهو إمام متقن! فهذه الكلمة عند الإمام أبي حاتم تعني ما فهمت أنت: أنه إمام متقن، ولذلك لا بد من معرفة مصطلحات أهل العلم؛ لأن فيها معرفة كيفية الحكم على الرجال وعلى الرواة وعلى الأحاديث كذلك، فمثلاً الإمام البخاري إذا قال في الراوي: فيه نظر، فهو ضعيف، وإذا قال: ضعيف فلا تحل الرواية عنه؛ لأن خبره منكر. وقال ابن بشار وهو محمد من شيوخ الإمام مسلم أيضاً: حفّاظ الدنيا أربعة -أي في ذلك الزمان-: أبو زرعة بالري، ومسلم بنيسابور، والبخاري ببخارى، والدارمي بسمرقند، فعد من بين حُفّاظ الدنيا في ذلك الزمان مسلماً بنيسابور، وقدّمه على شيخه محمد بن يحيى الذهلي، وربما كان ذلك لاتساع رحلة الإمام مسلم. وهذا أيضاً من بركة الرحلة والحفظ، وقدّمه ابن عقدة على البخاري في روايته عن أهل الشام على جهة الخصوص، وقال: إن البخاري إنما كان يهم أحياناً في روايته عن أهل الشام، وليس كلامه هذا صحيحاً، ولكنه على أية حال قدّم الإمام مسلماً في روايته عن أهل الشام على الإمام البخاري، وكذلك فعل المغاربة، فإنهم قدموا صحيح مسلم على صحيح البخاري، وسنعرف وجه هذا الكلام إن شاء الله تعالى بعد قليل. وأثنى عليه كذلك أبو عبد الله بن الأخرم، وابن الصلاح أثنى عليه خيراً في كتابه على صحيح مسلم الذي سمّاه صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط، قال: كان له في علم الحديث أضراب لا يفضلهم وآخرون يفضلونه، فرفعه الله تبارك وتعالى بكتابه الصحيح هذا إلى مصاف النجوم، وصار إماماً حجة يبدأ به ويعاد في علم الحديث وغيره من العلوم النافعة. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

وفاة الإمام مسلم رحمه الله

وفاة الإمام مسلم رحمه الله وأما وفاة الإمام مسلم فتوفي سنة261هـ كما قلنا عن عمر يناهز (خمسة وخمسين) عاماً. وقيل في سبب وفاته ما جاء عن أحمد بن سلمة رفيقه في رحلته وصاحبه كذلك أنه قال: عُقد لـ مسلم مجلس للمذاكرة، ومجلس المذاكرة يختلف عن مجلس التحديث، فمجلس التحديث هو أن يتهيأ الشيخ للتحديث إما إلقاءً وإما عرضاً، أن يتكلم الشيخ ويلقي ما عنده من أسانيد وأحاديث على الطلاب، وإما أن يكون المجلس عرضاً على الشيخ، أن يتكلم المستملي ويسمع الشيخ ثم يجيز بعد ذلك. أما مجلس المذاكرة فهو مجلس أشبه بالمسامرة والأخذ والرد، فمجلس المذاكرة عُقد للإمام مسلم وذُكر فيه حديث لم يعرفه الإمام مسلم، وكان هذا أيضاً أمراً منكراً عند أهل المجلس، كما أنه منكر عند مسلم كيف يفوته هذا الحديث؟ فانصرف إلى منزله بمجرد أن سمع هذا الحديث الذي لم يعرفه، وأوقد السراج وقال لمن في الدار: لا يدخل أحد منكم عليّ، وهذا فهم طالب العلم، فإنه لا يستطيع التركيز ولا البحث الحقيقي إلا إذا كان في خلوة، فلا يمكن أبداً لطالب العلم أن يعيش في وسط زوجة وأولاد وهذا يصيح وهذا يطلب وهناك شيء من الضجّة. كيف يحصِّل العلم؟ فلا بد أن يكون لك في بيتك غرفة خاصة بك تدخل -بعد أن تقضي مصالح أهلك- وتغلق عليك بابك، ثم تختلي بـ البخاري وتختلي بـ مسلم وبكتب أهل العلم، هذا إذا أردت علماً وأردت تحصيلاً. فدخل مسلم وأوقد السراج وقال لمن بالدار: لا يدخل أحد منكم عليّ، فقيل له: أُهديت إلينا سلة تمر، فقال: قدّموها ولا يدخل أحد منكم عليّ، فقدّموها فصار يأكل تمرة ويبحث: يأكل ويبحث يأكل ويبحث حتى أصبح وقد فني التمر ووجد الحديث. هذه القصة رواها البيهقي والحاكم ثم زاد الحاكم قال: وبلغني أنه منها مات، أي: من سلة التمر. على أية حال منها أو من غيرها فقد مات سنة (261) هـ.

حول صحيح مسلم ومقدمته

حول صحيح مسلم ومقدمته

دوافع مسلم لتصنيف صحيحه

دوافع مسلم لتصنيف صحيحه ما الذي دفع الإمام مسلم إلى أن يصنف هذا الصحيح؟ الدوافع كثيرة جداً للتأليف والتصنيف. منها: أنك تُعجب بموضوع لن تجد من سبقك فتفرده بالبحث وتصنف فيه كتابك. ومنها أنك تُعجب بشخص فتُصنّف في أخلاقه وسلوكه ودينه وعقيدته تصنيفاً. ومنها أن يكون ذلك رداً للجميل، كشخص صنع لك جميلاً ومعروفاً فأردت أن تذكره بالخير، وأن تخلّد ذكره بين الناس فتصنّف في مناقبه كتاباً. ومنها غير ذلك كثير، ولكن أعلاها وأفضلها هو التصنيف لنصرة دين الله عز وجل. ومنها التصنيف لطلب عزيز عليك، شخص يعزك أو تعزه ولا تستطيع أن ترد له قولاً أو طلباً أو أمراً؛ فإذا أمرك أو طلب منك لا يسعك المخالفة، كما فعل الإمام أحمد بن سلمة الحافظ مع الإمام مسلم، فإنه هو الذي طلب منه أن يصنف في الصحيح كتاباً، ذكر هذا الإمام مسلم في مقدمة كتابه، ولكنه لم يسم الذي سأله، وسماه الحافظ البغدادي في كتاب تاريخ بغداد. قال: وهو أحمد بن سلمة حافظ نيسابور، وكذلك الإمام أحمد بن سلمة لمّح تلميحاً بهذا الأمر وأنه كان صاحباً لـ مسلم في أثناء تصنيفه لهذا الكتاب. وشر الدوافع والأهداف للتأليف والتصنيف الاعتداء على شرع الله عز وجل وسب الله كما فُعل في هذا الزمان، فهناك من ألّف ليسب المولى عز وجل، ومن ألّف ليسب الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن ألّف ليسب أزواجه رضي الله تبارك وتعالى عنهن، فلا شك أن هذا شر وكفر محض، والدافع له ما كان مكنوناً في قلبه وفؤاده من نفاق وزندقة وإلحاد، وللأسف أن الناس يجتمعون حول من يرفع هذا اللواء من هنا ومن هناك، ويؤيدونه بالأموال، ويساندونه بجميع المسانيد حتى يستمر في مسيرته المشئومة، ويساعدونه بالأموال الطائلة، وربما طبعوها مجاناً، ليلقوا بها بين الناس وبين ضعاف النفوس والقلوب: {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36] فدين الله عز وجل مهما ناطحه ناطح فلا شك أن الناطح المصاب، فإن الله تعالى يحفظه بحفظه ويرعاه برعايته سبحانه وتعالى. هذه بعض الدوافع التي تدفع المؤلف لأن يؤلف، ولكن ينبغي على من أراد أن يؤلف أو يصنف أو يحقق -ولا أبرئ نفسي- أن يكون الدافع له إلى التأليف تقوى الله عز وجل، وأن يكون الدافع له نصرة دين الله عز وجل؛ لأنه إن كان غير ذلك فلا شك أنه سيحرج بين يدي ربه سبحانه وتعالى يوم القيامة، ثم ليكن همه بعد ذلك في أمر التحقيق والتصنيف مطروحاً لنفع المسلمين، ولنفع دين الله عز وجل.

جهود الإمام مسلم في تصنيف صحيحه

جهود الإمام مسلم في تصنيف صحيحه يقول أحمد بن سلمة: كنت مع مسلم في تأليف صحيحه (15) سنة، انظروا إلى هذا العمر وهذا الزمان الذي ألّف فيه مسلم الصحيح، فهو لم يتعجل كما يتعجل الكثيرون، فإن بعض المطابع تخرج علينا في كل يوم بعشرات بل مئات، ولا أكون مبالغاً إن قلت بآلاف الكتب والمجلات والصحف التي تلقى بين الناس، والناس يقرءون، وربما وجدت هذه الكتب والمصنفات قلوباً خاوية خالية فتمكنت منها، وكثير من القراء يقرءون كتباً لا يعرفون ضررها من مصلحتها ونفعها، فإذا قرأ كتاباً يقول: كيف يرده؟ ولذلك أنت تسمع كثيراً من الطلاب إذا قلت لهم هذا الكتاب فيه خطأ. الصفحة الفلانية أو السطر الفلاني يقول: كيف يكون كتاباً وفيه خطأ؟ وهذا أمر طبيعي؛ لأن الناشرين -إلا من رحم الله- فقدوا التقوى أو قلت عندهم، فجُّل همهم تحصيل المال والشهرة، فهم يدفعون بالكتاب قبل أن يستوي عوده لأجل تحصيل المال، لا يهمهم نشر العلم الصحيح ولا نفع المسلمين ولا غير ذلك. يقول: ألّف هذا الكتاب من (12. 000) حديث، أي: أن مجموع ما في صحيح الإمام مسلم من الأحاديث (12. 000) حديث، هذا بالمكرر، ومعنى المكرر: أنه إذا كان للإمام المصنّف كالإمام مسلم عشرة شيوخ في رواية الحديث الواحد يُعد هذا الحديث عشرة أحاديث، وهو في الحقيقة حديث واحد، ولكن هذا التعداد الكثير إنما هو تعداد على حسب شيوخ الإمام في روايته لهذا الحديث، وهو بغير المكرر لم يبلغ الأربعة آلاف، وكذلك الإمام البخاري. فالإمام مسلم عليه رحمة الله انتقى هذه الأحاديث من بين (300. 000) حديث، وهذا هدي العلماء تحت قاعدة التقميش والتفتيش، والتقميش هو التجميع، ثم التفتيش وهو الانتقاء، فكان الواحد منهم إذا طلب العلم كتب كل شيء يسمعه الغث والسمين، الجيد والرديء، ولكنه إذا انتصب للتدريس انتقى حديثه، وإذا انتصب للتصنيف انتقى حديثه، فالإمام مسلم انتقى (12. 000) حديث من (300. 000) حديث، وكيف لا وقد فعل شيخه أحمد بن حنبل مثل فعله، فقال الإمام أحمد: انتقيت هذا المسند وهو لم يبلغ (30. 000)، وقيل بالمكرر أيضاً: (40. 000) أو (42. 000)، قيل: إنه انتقاها من بين (750. 000) حديث، فهذا هدي العلماء عندما يطلبون العلم، يكتبون كل شيء، فإذا أرادوا أن يصنفوا أو يعلموا غيرهم انتقوا علمهم. قال الإمام مسلم عليه رحمة الله: عرضت كتابي هذا على أبي زرعة، فكل ما أشار عليّ في هذا الكتاب أن له علة وسبباً تركته، وكل ما قال: إنه صحيح وليس له علة فهو الذي أخرجت. هذا الكلام نستطيع أن نستفيد منه أنه ينبغي لطالب العلم أن يكون له شيخ يرجع إليه، فما يقره الشيخ له كان هذا هو الذي يعتمد عليه الطالب، وإذا أنكر منه شيخه شيئاً كان ينبغي للطالب أن يُنكره أيضاً، فالإمام مسلم لم يصنّف كتاباً ثم يذهب سريعاً إلى المطابع ثم ينشره، وإنما كان حرصه أن يخرج العلم الصحيح الذي ليس فيه علة ولا سبب قادح للمسلمين، وبناء على ذلك كان أول شيء فكّر فيه أن يعرض صحيحه على العلماء الأفذاذ، فعرضه على أبي زرعة، فالذي أنكره أبو زرعة في الصحيح أخّره مسلم، والذي استبقاه في الصحيح أبقاه مسلم. قال الإمام مسلم: ولو أن أهل الحديث كتبوا الحديث مئتي سنة فمدارهم على هذا المسند. وهذا نص من الإمام يبيّن لك فائدة الصحيح، كما قال أيضاً من قبله شيخه الإمام أحمد بن حنبل لولده عبد الله: يا بني! احتفظ بهذا المسند، فإنه سيكون للناس إماماً. وكذلك قال ابن الأعرابي عن سنن أبي داود وهو كتاب مخصوص في الأحكام فقط، فهو أعظم مصنّف في الإسلام في باب الأحكام. قال ابن الأعرابي: لو لم يكن في بيتك إلا كتاب الله تعالى الذي فيه كلامه وهذه السنن لكفاك، فهناك كلمات نستشعر منها عظمة المصنَّف. كما أنه ليس في صحيح مسلم من العوالي إلا ما قل، ومع استمرارنا في هذا الدرس سنبيّن ما هو الحديث العالي وما هو الحديث النازل؟ فعوالي الإمام مسلم قليلة، مما جعل الحفاظ يعمدون إلى أحاديث الكتاب، فيخّرجون عليها المستخرجات، والمستخرج هو: أن يعمد إمام إلى أحاديث كتاب من الكتب فيأتي بها بإسناد من غير طريق المصنِّف. فإذا كان الإمام مسلم روى حديثاً عن يحيى بن يحيى التميمي عن مالك فأراد أحد الأئمة أن يعمل لهذا الحديث مستخرجاً أو أن يدخله في مستخرجه فإنه يأتي به من طريق مالك من غير طريق مسلم، ولو كان مداره على رواية مسلم عن يحيى لما سُمّي مستخرجاً. فقلة العوالي في صحيح الإمام مسلم جعلت بعض الأئمة ي

مقدمة الإمام مسلم على الصحيح

مقدمة الإمام مسلم على الصحيح افتتح الإمام مسلم كتابه بمقدمة نفيسة، ولكن ينبغي أن نعرف أولاً أن الإمام حينما صنّف كتابه اشترط شروطاً، وكذلك البخاري فعل، والسؤال الآن: هل المقدمة التي جعلها الإمام مسلم كالباب للدخول إلى صحيحه اشترط فيها مثل ما اشترط في أصل الصحيح؟ A لا، إنما كان شرط مسلم في صحيحه، وأما المقدمة فلها حكم آخر. فالإمام مسلم افتتح كتابه بمقدمة نفيسة ضمّنها فوائد جليلة من تغليظ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أورد في ذلك الآيات والأحاديث التي ترهّب وتوعّد من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنار، والخلود فيها، فهذا باب عظيم لمن أراد أن يتعرف على هيبة الرواية عن النبي عليه الصلاة والسلام بما لم يكن عنده به علم، ثم نهى المرء عن الحديث بكل ما سمع: (كفى بالمرء إثماً أن يحدّث بكل ما سمع)، وعقد له باباً وفصلاً مخصوصاً، ثم استدل لذم الرواية عن الضعفاء والاحتياط في تحملها، فهذه ثلاثة أبواب من أهم أبواب المقدمة. ثم عقد فصلاً لبيان أن الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء في دين الله ما شاء، وذكر فيه أقوال أهل العلم من الصحابة والتابعين وغيرهم، وهو باب جيد فيما استدل به الإمام مسلم من أدلة، فالأصل أن ترجع أنت إلى هذه المقدمة، وكذلك إلى مقدمة الإمام النووي؛ لتدرس هاتين المقدمتين دراسة جيدة واعية متفحصة؛ لأن دراستك لمقدمة أي كتاب هي بمثابة المفتاح الذي يُفتح به مغاليق الكتاب، ولولا أنك تقرأ مقدمة كل كتاب لما استطعت حل كثير من رموز الكتاب، وهذا في أي كتاب فضلاً عن كتب العلم المصنفة المسندة، ولو أننا تناولنا مقدمة الإمام النووي، وكذلك مقدمة الإمام مسلم لقضينا فيها عاماً كاملاً حتى مل الناس، ولكننا نبدأ بأول الصحيح تيمناً حتى لا يمل المستمع والقارئ، فينبغي عليك ألا تركن إلى هذا إذ لا بد أن تدرس المقدمة، فكثيراً ما يقول النووي في أثناء الكتاب وعلى مداره: وهذه المسألة بحثناها وتقدمت في المقدمة وهذه المسألة تحريناها وقد تقدمت في المقدمة، فينبغي لك أن تقرأ المقدمة، ثم تأتي بعد ذلك لنبدأ سوياً في أصل الكتاب.

الحديث المعنعن بين البخاري ومسلم

الحديث المعنعن بين البخاري ومسلم يقول: ثم عقد باباً خاصاً لإثبات صحة الاحتجاج بالحديث المعنعن. والحديث المعنعن هذا هو بيت القصيد بين الإمام البخاري والإمام مسلم، وهذا الباب أهم الأبواب في المقدمة على الإطلاق؛ لأنه محل خلاف عظيم بين السلف والخلف، فالإمام البخاري يقول كما قال شيخه علي بن المديني أيضاً: لا بد أن يثبت لدينا ولو مرة واحدة أن هذا الراوي التقى بشيخه الذي أخذ عنه العلم، فلا يكفي أن يقول: عن فلان، فالذي يثبت لدى البخاري أن هذا التلميذ التقى بذلك الشيخ، وأن يأتي هذا مسنداً، أي: يثبت بالدليل القطعي أن التلميذ التقى بشيخه، ولكن الإمام مسلماً يوافق البخاري في جزئية ويخالفه في أخرى. يقول: هذا في حق المدلّس، إذا كان الراوي مدلساً لا بد أن يثبت لقاؤه بشيخه، بل لا بد أن يثبت لقاؤه به في كل حديث يرويه، فلو أن المدلّس قال: عن فلان عن فلان عن فلان، وعدد شيوخه نتوقف في قبول روايته إن كان من أهل الطبقة الثالثة، والمدلسون خمس طبقات، فإن كان من أهل الطبقة الثالثة توقفنا في قبول حديثه حتى يصرّح بالتحديث، كأن يقول: حدثنا فلان، أو أخبرنا فلان، أو أنبأنا فلان؛ لأن هذه الألفاظ والمصطلحات تعني: حصول التحديث والسماع، أما لو قال: عن فلان، فيُحمل على الانقطاع في أغلب أقوال أهل العلم، فهذه الجزئية وافق فيها الإمام مسلم الإمام البخاري، وخالفه في جزئية أخرى. قال: لو أن الراوي ثقة لم يرم بالتدليس ولم يُتهم به، فما قيمة هذا الشرط وهو ثبوت اللقاء، فالإمام مسلم يقول: تكفي المعاصرة في إثبات اللقاء. والمعاصرة: أن يعيش الشيخ والتلميذ في عصر واحد، وهذا كاف في إثبات اللقاء ما لم يكن التلميذ الراوي مدلساً، وهذا كلام مقبول ومقبول جداً الإمام البخاري يقول: وإن كان ثقة لم يرم بالتدليس لا بد من ثبوت اللقاء، فالخلاف بين البخاري ومسلم في هذه المسألة متعلق بمسألتين: اللقاء، والمعاصرة. فالمعاصرة محل اتفاق بين البخاري ومسلم، إنما الإشكال كله في لزوم ثبوت اللقاء، فـ البخاري يشترط ذلك، وأما مسلم فإني أسمع من الناس من يقول: لا يشترط ذلك! والصحيح أنه يشترط ذلك، وكل ما هنالك أنه قال: إن المعاصرة كافية في إثبات اللقاء ما لم يكن الراوي مدلساً، فكثير من طلبة العلم يردد: الإمام البخاري يشترط ثبوت اللقاء ولا يشترطه مسلم! فقولك: ولا يشترطه مسلم هذا خطأ، والصواب: أن مسلماً يشترط، ولكنه يجعل المعاصرة كافية في إثبات اللقاء بشرط ألا يرمى الراوي بالتدليس، والإمام البخاري يقول: رُمي أو لم يرم لا بد من إثبات اللقاء. فإن قيل: هل البخاري عليه رحمة يشترط ثبوت اللقاء كشرط خاص له في داخل الصحيح، أم أن هذا شرط في أصل الصحة؟ A جمهور أهل العلم يقولون: إن البخاري اشترط هذا الشرط في أصل صحة الحديث، سواء رواه في صحيحه أو في غير صحيحه، وربما نظر الناظر فوجد وترجّح لديه أن هذا الشرط إنما اشترطه البخاري في داخل صحيحه فقط؛ لأنك تجد الإمام الترمذي في جامعه يقول بعد أن يروي حديثاً: وسألت عنه محمداً فقال: صحيح، فإذا نظرت في هذا الحديث فإنك تجده خالياً من شرط البخاري وهو لزوم ثبوت اللقاء. ثم إن الإمام البخاري نفسه يروي في خارج الصحيح من كتبه أحاديث كثيرة ليست على شرطه، قد أجمع أهل العلم على صحتها، فهذا أمر يدلك على أن شرط البخاري إنما كان في داخل صحيحه دون ما عداه، وهذه فائدة لطيفة ينبغي أن تحرص عليها.

منهج الإمام مسلم في ترتيبه لصحيحه

منهج الإمام مسلم في ترتيبه لصحيحه أما عن منهج الإمام مسلم في كتابه صحيح مسلم، فقد قسّم الكتاب إلى ثلاثة أقسام، والطبقات إلى ثلاث طبقات؛ أي أنه قسّم الحديث نفسه إلى ثلاثة أقسام، وقسّم الرواة إلى ثلاث طبقات، وكل طبقة مرتبطة بقسم، فالطبقة الأولى من الرواة مرتبطة بالقسم الأول من الحديث، والطبقة الثانية بالقسم الثاني، والطبقة الثالثة بالقسم الثالث. فهو يروي عن الحفاظ الضابطين المتقنين الأئمة الأعلام القسم الأول، لكن كثيراً من الناس فهم خطأ هذا التقسيم، فقال: إن الإمام مسلماً حين صنّف الصحيح على ثلاث طبقات، جعل الثلث الأول من الكتاب حديث الحفاظ، والثلث الثاني من الكتاب حديث أهل الصدق والأمانة، ثم جعل القسم الثالث رواية المختلف فيهم، وهذا كلام غير صحيح، وأما قولنا: إنه صنّف الأبواب على هذه التقاسيم وهذه الطبقات، فهذا يعني: أنه فعل ذلك في الباب الواحد، يقول مثلاً: باب تحريم الكذب، فيأتي بثلاث روايات: الرواية الأولى من رواية أهل الحفظ والضبط والإتقان من الأئمة الحفاظ، فيكون اعتماد الإمام مسلم على هذه الطبقة وعلى هذا القسم في الاحتجاج بهذه الرواية على صحة الباب. والطبقة الثانية من طبقات الرواة هم من نزلوا عن الطبقة الأولى درجة، ولكنهم لم يخرجوا عن حد الاحتجاج، فهم أهل صدق وهم أهل أمانة وعدل، ولكن كل ما في الأمر أن روايتهم تنزل درجة عن رواية الحفاظ المتقنين أصحاب الطبقة الأولى. فـ مسلم عليه رحمة الله يأتي بأهل هذه الطبقة وهذا القسم استئناساً وتأصيلاً بجوار القسم الأول والطبقة الأولى. وأما الطبقة الثالثة فهم قوم اختلف فيهم أهل العلم بين جرح وتعديل، فـ مسلم عليه رحمة الله حين أورد روايتهم إنما أوردها استئناساً أي: لمجرد أن تكون شاهداً للرواية الأولى والثانية، ولم يوردها تأصيلاً واحتجاجاً، وأنه ليس في الباب غيرها، وإنما قد صح الباب من خلال الطبقة الأولى والقسم الأول، والطبقة الثانية والقسم الثاني، فكونه أوردها أو لم يوردها لا يؤثر ذلك في الحكم العام، فبان لنا بهذا أن الإمام مسلماً قسّم كتابه إلى ثلاثة أقسام كما قسّم الرواية إلى ثلاث طبقات. والإمام مسلم بن الحجاج من أئمة الجرح والتعديل، وما كان للإمام أن يورد حديث من رد هو روايته وخبره، فلا شك أن أهل الطبقة الثالثة إنما هم أقوام اختلف فيهم أهل الجرح والتعديل، وكون مسلم احتج بهم فلا بد أن يكون له قول حسن فيهم، وليس هذا بشرط في أصل الرواية وفي علم الجرح والتعديل، فربما روى إمام الجرح والتعديل عن راو ضعيف، ولا تكون رواية ذلك الإنسان عن ذلك الضعيف توثيقاً له، ولكن إذا كان هذا في داخل الصحيح للإمام مسلم وهو من أئمة هذا الشأن فإنما يكون ذلك تعديلاً له، فهذه فائدة مهمة أيضاً. وادعى الحاكم عليه رحمة الله أن الإمام مسلماً وافته المنية قبل أن يفي بما وعد، فلم يأت إلا بالطبقة الأولى فقط، وتبعه على ذلك تلميذه الإمام البيهقي، ولكن هذا كلام قد رده أهل العلم، منهم القاضي عياض رحمه الله، وبيّن أن مسلماً وفى بهذا التقسيم في صحيحه وهو القول الراجح والصواب.

الدفاع عن الإمام مسلم في إخراجه أحاديث من هم محل نظر عند أهل العلم

الدفاع عن الإمام مسلم في إخراجه أحاديث من هم محل نظر عند أهل العلم أما الرجال الذين أخرج لهم مسلم وهم محل نظر عند أهل العلم، ولا شك أنهم أصحاب الطبقة الثالثة منهم: مطر الوراق وبقية بن الوليد ومحمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي، وعبد الله بن عمر العمري مكبّراً أخو عبيد الله الثقة، والنعمان بن راشد وأحمد بن عبد الرحمن بن وهب ابن أخي عبد الله بن وهب ومحمد بن عبد الله بن عقيل وغيرهم. عاب العائبون على مسلم روايته عن هؤلاء، وهم بين ضعيف ومبتدع ومخلّط وغير ذلك، ولكن هذا ليس بعيب في حق الإمام مسلم، والدفاع عنهم من وجوه: أولاً: أن يكون الراوي ضعيفاً عند غيره ثقة عنده كما قلنا؛ لأنه من أئمة الجرح والتعديل، فإذا كنت أنت ضعيفاً عند غيري ثقة عندي فما الذي يمنعني ويحجبني أن أحتج بكلامك وروايتك؟ ولا يقال في هذه الحال: الجرح مقدّم على التعديل، حيث لم يثبت لدى مسلم الجرح المفسّر الذي يطرح به رواية ذلك الراوي. وأما الدفاع الثاني: أن يكون ذلك واقعاً في المتابعات والشواهد لا في الأصول، أي: أن مسلماً وإن وافق أهل الجرح والتعديل في تضعيف هذا الراوي إلا أننا مع البحث نجد أن الإمام احتج بروايته في المتابعات والشواهد لا في الأصول، أي: أنه احتج به في القسم الثالث. والدفاع الثالث: أن يكون ضعف الضعيف أو اختلاط المختلط حصل له بعد أن أخذ عنه مسلم في زمن استقامته، فلا يقدح ذلك في روايته في الصحيح كـ أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، أي: أن مسلماً حينما رحل إلى مصر أخذ عن أحمد بن عبد الرحمن بن وهب وهو في عنفوان شبابه وقوة ذاكرته، فعندما خرج مسلم من مصر وكبر أحمد بن عبد الرحمن بن وهب اختلط بعد ذلك، وحصل ضعف في عقله، فاختلطت عليه الأسانيد بمتونها، فعيب على مسلم أنه أخذ عن أحمد بن عبد الرحمن بن وهب وقد اختلط، فقال: إنما أخذت عنه قبل الاختلاط، وحينما كنت بمصر لم يكن حدث له الذي حدث وأنا بمصر، فلا بد أن يميّز بين رواية الضعفاء والمختلطين قبل ما حدث لهم من ضعف واختلاط وبعد ما حدث لهم، فإن الرواية عنهم قبل الاختلاط لا شك أنها مستقيمة، وبعد الاختلاط إن تميزت فبها ونعمت، وإن لم تتميز رُدّت. وأما الدفاع الرابع: أن يكون الحديث عالياً بسند ضعيف عند الإمام مسلم، أي: أن الإمام مسلماً عنده حديث بسندين: أحدهما عالٍ والآخر نازل. والعالي إلى النبي عليه الصلاة والسلام: أن يكون بينك وبين النبي عليه الصلاة والسلام أقل في الإسناد العالي مما بينك وبينه في الإسناد النازل في الحديث الواحد. فلو أنني رويت الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام فكان بيني وبينه (25) رجلاً، خير من أن يكون بيني وبينه (30) رجلاً؛ لأنه كلما كان العدد أكثر كان الإسناد أبعد، وهذا الذي نسميه إسناداً نادراً، ولكن حينما أرتفع وأختصر خمسة من الرجال وخمس طبقات من الإسناد، فلا شك أنني أعلو بسندي وأقترب به من المتكلم وهو النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون هذا بالنسبة لي إسناداً عالياً، وكان السلف مولعين بمسألة الإسناد العالي، حتى قيل لأحدهم: ماذا تشتهي؟ قال: بيتاً خالياً وإسناداً عالياً. ومن أعظم أسباب علو الإسناد الرحلة في طلب الحديث، ألا تنظرون إلى ذلك الرجل الذي أتى إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال له: (يا رسول الله! أتانا رسولك فقال: إن الله تعالى قد فرض علينا خمس صلوات في اليوم والليلة آلله أرسلك بهذا؟ قال: نعم، ثم عدد بقية الشرائع) هذا الرجل لم يتقصد اتهام رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما أراد أن يأتي بإسناد عالٍ، فبدلاً من أن يأخذ عن رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة. فلو أن محمداً قال قولاً أبلغني به إبراهيم وأنا بإمكاني أن ألقى محمداً، فقد ذهبت إليه ولقيته وقلت له: أأنت حدثت إبراهيم بكيت وكيت وكيت؟ فقال: نعم، فقلت له: حدثني به فحدثني به، فلو أني رويت هذا الكلام عن إبراهيم عن محمد خير أم عندما أرويه عن محمد مباشرة؟ A عن محمد مباشرة خير، وهذا هو الذي نسميه إسناداً عالياً. فأحياناً يقع للإمام مسلم حديث واحد بإسنادين أحدهما نازل بإسناد صحيح وكل رواته ثقات، والثاني إسناد عال لكن فيه راو ضعيف، ومسلم لولعه بالإسناد العالي يترك الإسناد الصحيح النازل ويأخذ الإسناد العالي الذي فيه ضعف، وليس هذا من باب أنه يفضّل الإسناد العالي وإن كان ضعيفاً، ولكن من باب أن الأمر في كل الأحوال ثابت في الشرع بهذا الدليل وبغيره، فما دام الأمر معلوماً عند أهل الشأن أنه ثابت والأدلة فيه كثيرة فـ مسلم انتقى فائدة وهي علو ال

مميزات صحيح مسلم على صحيح البخاري

مميزات صحيح مسلم على صحيح البخاري لو أردنا أن نعقد موازنة بين صحيح البخاري وصحيح مسلم لذكرنا أولاً المميزات والسمات البارزة التي ترجّح صحيح الإمام مسلم على صحيح البخاري، وبعقد هذه المقارنة بإمكاننا أن نكون قد أحطنا علماً بالكتابين؛ كتاب الصحيح للإمام البخاري وكتاب الصحيح للإمام مسلم.

اعتناء مسلم بالتمييز بين (حدثنا وأخبرنا) وتقييد ذلك على مسالكه

اعتناء مسلم بالتمييز بين (حدثنا وأخبرنا) وتقييد ذلك على مسالكه فالإمام مسلم امتاز عن الإمام البخاري ببعض المميزات: أولها: أن الإمام مسلماً سلك مسلكاً في صحيحه، وهو أنه سلك طريقة طريفة في الاحتياط والإتقان والورع والمعرفة، وذلك مصرّح بكمال ورعه وتمام معرفته وغزارة علومه، وشدة تحقيقه بحفظه لا يهتدي إليها إلا أفراد في الآثار، كاعتنائه بالتمييز بين (حدثنا وأخبرنا)، وتقييد ذلك على مسالكه، فالإمام مسلم يفرّق بين قوله: (حدثنا وأخبرنا) كما يفرّق بين قوله: (حدثنا وحدثني)، فإذا قال الإمام: حدثنا زهير بن حرب فهذا يعني: أنه حدثه في مجلس التحديث، أي: في اجتماع الناس، في هذا المجلس يقول رجل: (حدثنا فلان) ولا يقول: (حدثني فلان)، بل حتى اللغة لا تشهد له بذلك، فإذا قال الراوي: (حدثنا) أي: حدثنا في جمع، وإذا قال: (حدثني)، أي: حدثني وحدي. وكذلك يفرّق بين لفظ: (حدثنا وأخبرنا)، فـ (حدثنا) هو من لفظ الشيخ ما لم يُقيد بخلاف (أخبرنا) فـ (أخبرنا) هو أن يكون الأمر عرضاً على الشيخ، وذلك بأن يقرأ أحد الحضور والشيخ يسمع، ثم يقر هذا الحديث أو هذا الاستملاء، فهذا يقول فيه جمهور أهل العلم: (أخبرنا) ولا يقولون فيه: (حدثنا)، وغيرهم يقول: (حدثنا فلان عرضاً عليه)، فهذا تقييد، ولو كان الأمر مهملاً بلا تقييد لحُمل اللفظ (أخبرنا) على العرض على الشيخ. فكذلك اعتنى مسلم بضبط هذه الألفاظ في متن الحديث أو صفة الراوي أو نسبته أو غير ذلك.

أهمية صحيح مسلم من حيث تتابع رواياته وطرقه في الباب الواحد

أهمية صحيح مسلم من حيث تتابع رواياته وطرقه في الباب الواحد الصفة الثانية التي انفرد بها مسلم عن البخاري: أنه انفرد بكونه أسهل تناولاً، وهذا في الحقيقة هو الذي رجّح أن ندرس صحيح الإمام مسلم، أنه أسهل في التناول. فالإمام مسلم إذا أراد أن يحتج لباب أورد أدلته كما قلنا على التقاسيم والطبقات، وكانت روايته متتابعة في الباب الواحد، فالذي يريد أن يبحث عن حديث أو عن باب عند الإمام مسلم يجد هذا الحديث بكل طرقه التي رواها مسلم في مكان واحد، فلو أنك مثلاً أردت أن تبحث عن حديث: (إنما الأعمال بالنيات) لوجدت أن الإمام مسلماً رواه في كتاب الإمارة في موطن واحد، لكنَّ الإمام البخاري قطّع هذا الحديث ورواه في عدة مواطن، بلغت سبع مواطن في الصحيح، ولا شك أن تقطيع الحديث يُذهب ببهائه، ولكن الإمام البخاري إنما قطّعه لفائدة فقهية، أو نكتة حديثية أو غير ذلك، فهو يورده في سبعة أبواب، فإذا رجعت إلى هذا الحديث لوجدت أن إيراده تحت كل باب فيه فائدة تختلف عن الفائدة التي سبقت. مثال آخر: حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (حق المسلم على المسلم خمس) وفي رواية (ست) لوجدت الإمام البخاري قطّع هذا الحديث أجزاء، كل جزء جعله تحت باب معيّن. والإمام مسلم يورد هذا الحديث بطرقه في مكان واحد، فلا شك أن تقطيع الحديث فيه صعوبة في الحصول عليه بخلاف إيراده في مكان واحد، فإنك إذا وصلت إليه وصلت إلى بغيتك وانتهى الأمر، ولكنك إذا بحثت عن حديث قطّعه الإمام البخاري في الصحيح فربما بلغت إلى موطن واحد وظننت أنه لم يخرجه إلا في هذا الموطن، وإذا بك تخرج من هذا الباب ولم تأخذ بغيتك، ولم تأخذ ما كنت ترجوه عند الإمام البخاري، ثم بعد ذلك نراك تقول: ولم يخرجه الإمام البخاري إلا في الموطن الفلاني، وكنت أظن أنه يخرجه في باب كذا أو باب كذا، أو يستشهد به على كيت وكيت، ولكنه لم يفعل غير أنه أورده في موطن واحد، والحقيقة أن الأمر ليس كما ظننت، وهذا الكلام أقوله قبل أن تظهر مسألة الفهارس والتحذيرات، فأنت عندما تبحث الآن عن حديث رواه البخاري بإمكانك من خلال تحفة الأشراف للإمام المزي أن تصل إلى كل أماكن الحديث من خلال كتاب المعجم المفهرس لألفاظ الحديث، فمن خلال كتب أطراف الأحاديث وأوائل الأحاديث تصل إلى الأماكن والمواطن التي خرجها صاحب الصحيح أو غيره في صحيحه أو في الكتب الأخرى. قال الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب الجزء العاشر صفحة (127): حصل لـ مسلم في كتابه حظ عظيم مفرط لم يحصل لأحد مثله، بحيث إن بعض الناس كان يفضله على صحيح البخاري، وذلك لما اختص به من جمع الطرق وجودة السياق والمحافظة على أداء الألفاظ، كما هي من غير تقطيع ولا رواية بمعنى. بخلاف البخاري فإنه يفرق هذه الدقائق المختلفة في أبواب متفرقة متباعدة وكثير منها يذكرها في غير بابه الذي يسبق إلى الفهم أنه أولى به لدقيقة يفهمها الإمام البخاري نفسه؛ فيصعب على الطالب جمع طرقه وحصول الثقة بجميع ما ذكره البخاري من طرق هذا الحديث، كأن الحديث معلق في مكان وموصول في مكان آخر. يقول النووي: وقد رأيت جماعة من الحفاظ المتأخرين غلطوا في مثل هذا فنفوا رواية البخاري أحاديث هي موجودة في صحيحه في غير مظانها السابقة إلى الفهم.

قلة المعلقات في صحيح مسلم

قلة المعلقات في صحيح مسلم الميزة الثالثة كذلك عند الإمام مسلم على البخاري: أن المعلقات التي في الإمام مسلم قليلة جداً إذا قورنت بالمعلقات عند الإمام البخاري، فالمعلقات كما قال أبو علي الغساني عند الإمام مسلم بلغت (14) موطناً، وأما الموقوفات فهي كثيرة عند مسلم، ولكنها في أعقاب الأحاديث المرفوعة، أي: بعد أن يذكر حديثاً مرفوعاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام يقول: وقال فلان: كذا، وقال أبو هريرة، وقال عبادة، وقال أنس كذا، قوله: (وقال) هذا تعليق، فالمعلقات عند الإمام مسلم أقل بكثير جداً من المعلقات عند الإمام البخاري. والأمة على أية حال تلقت هذين الكتابين بالقبول على الإجمال لا التفصيل، بدليل أن هناك بعض الأئمة كـ الدارقطني وغيره انتقد على البخاري ومسلم بعض الروايات، فتبين أن قبول الأمة لهذين الكتابين إنما هو على سبيل الإجمال لا التفصيل، أي أنها تلقت الكتابين هكذا جملة وقدمتهما على رأس الكتب المصنفة، فهما أصح الكتب المصنفة، ولا نقول: أصح الكتب المصنفة بعد كتاب الله، فكتاب الله غير مصنّف. فالأمة حينما تلقت هذين الكتابين بالقبول اختلف أهل العلم في تقديم البخاري على مسلم، أو مسلم على البخاري على ثلاثة أقوال: منهم من جعل الكتابين سواء: البخاري كـ مسلم ومسلم كـ البخاري. ومنهم من قدّم البخاري وهو الصحيح. ومنهم من قدّم مسلماً.

مميزات صحيح البخاري على صحيح مسلم

مميزات صحيح البخاري على صحيح مسلم

استفادة مسلم من البخاري واعترافه بأنه ليس له نظير في الحديث

استفادة مسلم من البخاري واعترافه بأنه ليس له نظير في الحديث وينبغي تقديم مسلم على البخاري بما ذكرناه من مميزات ميّزت مسلماً عن البخاري، وأما غير ذلك فيرده الواقع والمشاهد، فإن الإمام البخاري لا شك أن صحيحه مقدم على صحيح تلميذه وخريجه الإمام مسلم وذلك من عدة وجوه: صح أن مسلماً كان ممن يستفيد من البخاري ويعترف بأنه ليس له نظير في الحديث، حتى ثبت عنه أنه قال: دعني أقبّل قدميك يا طبيب الحديث! وانظروا إلى هذا الأدب الجم من مسلم للبخاري، ومسلم حينما قال هذا القول كان إماماً، إذ لم يقل هذا القول وهو تلميذ، أو هو يقرأ كتاباً كفقه السنة ثم صار شيخاً، ولكنه قال ذلك في حال كونه إماماً مبجلاً عظيماً قدّمه في ذلك الوقت إسحاق بن راهويه وابن منصور الكوسج وأبو زرعة قدموه ورفعوه، وفي هذا الوقت ثبت أنه قال للبخاري: دعني أُقبّل قدميك، لم يقل له: يديك ولا رأسك، وإنما قال: قدميك يا طبيب الحديث! ومعلوم أن الطبيب إنما يداوي العلل، فقوله: يا طبيب الحديث! أي: يا من ينقّب عن الأحاديث وعن عللها، فيميّز منها الصحيح من السقيم. والإمام الدارقطني يقول: لولا البخاري ما راح مسلم ولا جاء. وحين سُئل بعض أهل العلم عن صحيح الإمام مسلم قال: وما ذاك؟ إنما أخذ مسلم كتاب البخاري فعمل عليه مستخرجه، أي: عمد إلى كتاب البخاري فأتى بأحاديثه من غير طريق البخاري كما قلنا في بيان المستخرج، فهذا لا شك أنه مرجّح لصحيح البخاري على صحيح مسلم، والبخاري أجل من مسلم وأعلم في صناعة الحديث منه، وقد انتخب علمه ولخّص ما ارتضاه وهذّبه في (16) عاماً، ومسلم صنّف صحيحه في (15) عاماً.

سداد وقوة شرط البخاري في صحيحه على شرط مسلم

سداد وقوة شرط البخاري في صحيحه على شرط مسلم المرجّح الثاني سداد وقوة شرط البخاري في صحيحه على شرط مسلم. اتفقنا على صحة الشرطين، لكن يبقى هناك شرط أسد وأقوى، وقد تكلمنا في مسألة اللقاء الذي اختلف فيه البخاري ومسلم وشنع فيه مسلم في مقدمة صحيحه حتى قيل: إنه يقصد البخاري، وقيل: إنه يقصد علي بن المديني، وعلى فرض أنه يقصد مذهباً ولا يقصد شخصاً، فإنه لا شك أن الذي يشرط ثبوت اللقاء بين الراوي وشيخه أقوى ممن اكتفي بمجرد المعاصرة، وإن كنا نقول بصحة شرط الإمام مسلم إلا أننا نقول: إن شرط البخاري أصح وأسد وأقوى وأكثر اطمئناناً للنقل. فما دام هذا الشرط أسد وأقوى فهذا مرجّح يرجّح البخاري على مسلم. فالرجال المتكلم فيهم عند الإمام البخاري أقل من الرجال المتكلَّم فيهم عند الإمام مسلم، وهذا وحده كاف في ترجيح البخاري في الجملة على مسلم؛ لأن النقد الموجه إلى الرجال عند الإمام البخاري أقل من النقد الموجه إلى الرجال عند الإمام مسلم.

البخاري أكثر تمييزا لرواياته من مسلم

البخاري أكثر تمييزاً لرواياته من مسلم وفائدة أخرى: أن الرجال المطعون فيهم عند الإمام البخاري هم شيوخه هو، وأما المطعون فيهم عند الإمام مسلم فليسوا بشيوخه وإنما هم شيوخ شيوخه ومن علا، ومعلوم أن الرجل إن كان يعلم أن شيخه وجّهت إليه التهم فلا شك أنه يتحفّز ويتأهب للرواية عنه وينتقي حديثه، ومعلوم أنك إذا كنت شيخاً لي وأنا أعلم أن حديثك فيه نظر فهذا يدفعني إلى انتقاء حديثي ولا آخذ منه إلا أجوده وأحسنه، فالرجال الذين انتقدوا على الإمام البخاري هم شيوخه، وقد عني بحديثهم، وميّز بين صحيحه وسقيمه فاختار الجيد وترك الرديء. أما الإمام مسلم فلا شك أن الرواة الذين انتقدوا عليه إنما هم شيوخ شيوخه ومن علا؛ ولذلك قل تمييزه بين هذه الروايات، وهذا أيضاً مرجّح يرجّح صحيح البخاري على صحيح مسلم. فـ البخاري يخرّج عن أصحاب الطبقة الثانية، ونحن عرفنا أن عند مسلم طبقات ثلاث. قلنا: الطبقة الأولى: هم أهل الحفظ والإتقان والضبط الثقات الأئمة. والطبقة الثانية: أهل الصدق والأمانة والعدل. فالإمام مسلم يخرّج لأهل الطبقة الأولى والثانية تأصيلاً في الباب، أي: أنه يحتج بروايتهم، وأما الطبقة الثالثة فيأتي بها استئناساً، لا استشهاداً ولا تأصيلاً. أما الإمام البخاري فإنه يروي عن الطبقة الأولى تأصيلاً، وعن الطبقة الثانية استئناساً. فالإمام مسلم يروي عن الطبقة الثانية تأصيلاً، في الوقت الذي يروي عنهم الإمام البخاري استئناساً لا استشهاد، وهذا أيضاً مرجّح من المرجحات.

تميز البخاري بتبويب صحيحه تبويبا يظهر فقهه

تميز البخاري بتبويب صحيحه تبويباً يظهر فقهه من مميزات البخاري على مسلم أن مسلماً رتب كتابه على الأبواب، فهو مزود، أي: أن مسلماً حينما أراد أن يرتب الكتاب الصحيح رتبه على الأبواب، ولكنه لم يبوب، يعني: لم يذكر: باب كذا وكذا، ولكن الذين أتوا من بعده وشرحوا الصحيح هم الذين بوبوا؛ ولذلك مع كثرة شروح الإمام مسلم وكثرة التبويب وكل شارح يبوب حسب ما يتراءى له من فوائد وأحكام صار منها الجيد ومنها الرديء؛ لأنها ليست من صنع الإمام، أما الإمام البخاري فيختلف، إذ هو الذي ذكر تراجم الأبواب، وهو الذي بوّب لأبوابه وكتبه. ولذلك فإن البخاري ليس محدثاً فحسب، وإنما تلحظ أن الإمام البخاري فقيه بمجرد التبويب، ولو أنك نظرت في كتاب الإيمان، أو في كتاب الصلاة، أو في كتاب العتق، أو في كتاب الرق، أو في أي كتاب من الكتب لوجدت أن مجرد عناوين الأبواب دالة على فقه الإمام البخاري، فـ البخاري لم يكن محدثاً فحسب، ولكنه كان فقيهاً إلا أنه غلب عليه الحديث، كما كان الإمام أحمد بن حنبل وهو شيخه كذلك، كان محدثاً عظيماً، وكان فقيهاً كذلك، والإمام الشافعي كان محدثاً، ولكنه غلب عليه الفقه، والإمام أبو حنيفة كان محدثاً وغلب عليه الرأي والفقه، والإمام مالك صاحب الموطأ كان محدثاً وهو أول من صنّف في الصحيح على الإطلاق، ولكنه أيضاً غلب عليه الفقه، وهذا يُرد به على الذين يريدون أن يطعنوا في علمائنا حين يقولون عنهم: المحدثون ليسوا فقهاء، والفقهاء ليسوا محدثين، فأئمتنا كانوا محدثين وفقهاء في الوقت نفسه.

ذكر بعض الكتب الشارحة لصحيح مسلم

ذكر بعض الكتب الشارحة لصحيح مسلم يجدر بنا أن نذكر بعض الكتب التي تناولت صحيح الإمام مسلم بالشرح، ورتبتها على الترتيب الزمني، فأولها: شرح مسلم لـ أبي عبد الله محمد بن إسماعيل الأصبهاني المتوفى سنة (520هـ). والمفهم في شرح الإمام مسلم للإمام عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي المتوفى سنة (529هـ). وكتاب الإيجاز والبيان لشرح خطبة كتاب مسلم مع كتاب الإيمان، وهذا شرح لجزء من الصحيح وهو كتاب الإيمان فقط، لـ ابن الحاج قاضي قرطبة أيضاً. توفي سنة (529هـ). وكتاب شرح مسلم لـ أبي القاسم إسماعيل بن محمد الأصبهاني المتوفى سنة (535هـ)، ولكنه لم يتم. وكتاب المعلم بفوائد مسلم ولم يتم، أيضاً للإمام المازري، وفي أثناء دراستنا لهذا الصحيح سنعلم أن الإمام النووي استفاد من الإمام المازري والإمام القاضي عياض استفادة عظيمة جداً، لدرجة أنه قيل: إن الإمام النووي لم يكن له جهد وفضل في شرح الصحيح، إنما جمع كتاب المازري وكتاب القاضي عياض ونقل منهما، وأكمله القاضي عياض بكتاب سماه إكمال المعلم بفوائد مسلم، وهو عمدة النووي أيضاًَ في الترجيح. وشرح مسلم لـ عماد الدين عبد الرحمن بن عبد العلي المصري المتوفى سنة (624هـ). وكتاب صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط لـ ابن الصلاح المتوفى سنة (643هـ). وكتاب المفصح المفهم والموضح الملهم لمعاني صحيح مسلم لـ أبي عبد الله محمد بن يحيى الأنصاري المتوفى سنة (646هـ). وشرح مسلم لـ سبط بن الجوزي المتوفى سنة (654هـ). وكتاب المفهم في شرح مسلم للإمام القرطبي -وهو كتاب جليل- المتوفى سنة (656هـ). وكتاب المنهاج شرح مسلم بن الحجاج، واسمه شرح الإمام النووي المتوفى سنة (676هـ). وكتاب شرح مسلم للنابلسي المتوفى سنة (734هـ). وكتاب غنية المحتاج في ختم صحيح مسلم بن الحجاج للإمام السخاوي المتوفى سنة (902هـ). وكتاب الديباج على صحيح مسلم بن الحجاج للإمام السيوطي وهو قرين الإمام السخاوي ومات سنة (911هـ). وكتاب شرح مسلم للقاضي زكريا الأنصاري المتوفى سنة (926هـ). وشرح مسلم لـ ملا علي القاري المتوفى سنة (1016هـ). وكتاب شرح مسلم لـ عبد الرءوف المناوي المتوفى سنة (1031هـ). وكتاب السراج الوهاج في كشف مطالب مسلم بن الحجاج لـ صديق حسن خان المتوفى سنة (1307هـ). وكتاب فتح المنعم بشرح صحيح مسلم للدكتور موسى شاهين ياسين من المعاصرين. وهناك جهود أخرى بُذلت في استنباط الدرر والفوائد المتينة في هذا المصنف القيم، والله تعالى يبارك الجهود ويكللها بالتوفيق والسداد. وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

الأسئلة

الأسئلة

حكم حديث الخاطب مع خطيبته

حكم حديث الخاطب مع خطيبته Q هل يجوز أن يتحدث الخاطب مع خطيبته قبل العقد؟ A من حيث الجواز يجوز إذا كان الزواج قائماً، والتحدث مع المرأة الأجنبية إذا أُمنت الفتنة ودعت المصلحة جائز، فكذلك المخطوبة من باب أولى. ولكني سمعت شيخنا الألباني ينهى عن ذلك ويشدد فيه، حتى قال: لا يجوز ولا حتى الاتصال بالهاتف، فلك أن تأخذ بهذا، والله تعالى أعلم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. وصل اللهم على النبي محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

المقدمة - ترجمة الإمام النووي [1]

شرح صحيح مسلم - المقدمة - ترجمة الإمام النووي [1] الإمام النووي من العلماء الذين أعلى الله بهم الحق، ونصر بهم الدين، وقد اجتهد في طلب العلم منذ الصغر، حتى صار من أكابر العلماء، وساعده على ذلك نفس تواقة إلى المعالي، زاهدة في متاع الدنيا الفاني، لا تأخذها في الله لومة لائم.

مقدمة

مقدمة الحمد الله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. تكلمنا في الدرس الماضي عن حياة الإمام مسلم وعن جانب صغير من صحيحه، وعند تناولنا هذا الكتاب العظيم ألا وهو شرح صحيح مسلم للإمام النووي عليه رحمة الله كان لزاماً علينا أن نتعرف على جانبين من حياة شيخ الإسلام الإمام النووي. أما الجانب الأول وهو موضوع درسنا اليوم: الكلام عن سيرته الذاتية، وعن حياته الشخصية من حيث نسبه، وطلبه للعلم، ورحلته، وحياته الاجتماعية، وشيوخه وتلاميذه، ثم جهاده في سبيل الله، وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وهذا جانب عظيم في حياة شيخ الإسلام النووي. وفي الدرس القادم بمشيئة الله تعالى نتعرف على جانب في غاية الأهمية في حياة الإمام وفي حياة غيره من أئمة الإسلام، يخطئ فيه كثير من الناس، ألا وهو عقيدة شيخ الإسلام الإمام النووي، وموقف أهل السنة من عقيدته، بل من زلاته وأخطائه التي وقع فيها في شرحه على الصحيح وفي غيره أيضاً، هل هو من أهل البدع ووافق الحق أحياناً، أم هو من أهل السنة ووافق أهل البدع خطأً؟ كل ذلك سنتعرف عليه في الدرس القادم، ونقعّد القواعد ونؤصل الأصول التي ينبغي مراعاتها عند الحكم على الرجال والأشخاص والكتب بمشيئة الله تعالى.

ترجمة الإمام النووي

ترجمة الإمام النووي

اسمه ونسبه

اسمه ونسبه هو شيخ الإسلام الإمام الحافظ يحيى بن شرف بن مري بن حسن بن حسين بن حزام أبو زكريا محيي الدين النووي الدمشقي الشافعي المذهب، ولكنه كان مجتهداً في المذهب ورأساً فيه، فلم يكن مقلداً لشيخه الإمام الشافعي، بل خالفه في مواطن كثيرة، وهذا شأن المتبع للنبي صلى الله عليه وسلم ولهديه ولسيرته؛ أنه لا يقلد ولا يجوز له أن يقلد ما دام قد بلغ درجة التمييز بين الآراء والتمحيص بينها، ثم يختار لنفسه ولأمته ما يترجّح به الدليل، أما التقليد فإنه لا يجوز إلا في حق العامة فقط، وإذا كان العامي يجوز له هذا فإنه لا يأخذ من تقليده ما يوافق هواه، ولكن عليه أن يسأل أكثر من عالم ثم يأخذ بما تطمئن إليه نفسه إن خلا ذلك عن الهوى وعن المصلحة الشخصية. وقرية (نوى) هي مسقط رأس الإمام النووي، وهي قرية من أعمال دمشق، وكان جده الأعلى -وهو حزام - نزل بها على عادة العرب أنهم كانوا يرحلون ويحطون رحالهم في أماكن ويستقرون بها، فكذلك فعل جده الأعلى حزام، فأقام بها ورزقه الله تعالى ذرية كثيرة.

مولده ونشأته

مولده ونشأته الإمام النووي ولد في عام (631هـ) أي: في أوائل القرن السابع الهجري، وتولى والده الصالح رعايته وتأديبه، ونشأه تنشئة طيبة، فحضه منذ الصغر على طلب العلم حين لاحظ فيه من مخايل النجابة والذكاء والاستعداد الفطري. الشيخ ياسين بن يوسف المراكشي وهو من بلاد المغرب مر بنوى مصادفة ذات مرة فقال: رأيت الشيخ وهو ابن عشر سنين -يقصد الإمام النووي - بنوى والصبيان يُكرهونه على اللعب معهم، وهو يهرب منهم ويبكي لإكراههم، ويقرأ القرآن في تلك الحال، أي: يجري أمامهم وهو طفل عمره (10) سنوات، ويبكي حين يكرهونه على اللعب معهم، وهو يقرأ القرآن على تلك الحال. قال: فوقع في قلبي محبته، وكان قد جعله أبوه في دكان، فجعل لا يشتغل بالبيع والشراء عن القرآن. قال: فأتيت معلمه فوصّيته به وقلت له: إنه يُرجى أن يكون أعلم أهل زمانه وأزهدهم وينتفع الناس به، فقال لي: أمنجّم أنت؟ قلت: لا، وإنما أنطقني الله بذلك، فذُكر ذلك لوالده فحرص عليه إلى أن ختم القرآن وقد ناهز الحلم.

رحلته في طلب العلم

رحلته في طلب العلم وحينما كانت بيئة الإمام النووي بيئة صلاح ولكنها لا تُشبع نهمه في طلب العلم قدم به والده إلى دمشق سنة (649هـ) وكان عمره (19) سنة، وكانت دمشق موئل العلماء، ومنهل الفضلاء، ومهوى أفئدة طلاب العلم، وكان فيها من المدارس التي يُدرّس فيها مختلف أنواع العلوم ما يزيد على (300) مدرسة، ومنذ أن حط رحله فيها التقى بالشيخ عبد الكافي بن عبد الملك الربعي المتوفى سنة (689هـ) وأطلعه على دخيلة نفسه، وما ينويه من طلب العلم، فأخذه وتوجه به إلى حلقة العالم الجليل الشيخ عبد الرحمن بن إبراهيم بن الفركاح المتوفى سنة (690هـ) فقرأ عليه دروساً، وبقي يلازمه مدة، ثم التمس من شيخه هذا مكاناً يأوي إليه ويسكن فيه، فدله على شيخ المدرسة الرواحية، وهذه المدرسة بناها أحد التجار المعروف بـ ابن رواحة في دمشق أيضاً. قال: فدله على شيخ المدرسة الرواحية الإمام الفقيه كمال الدين إسحاق بن أحمد بن عثمان المغربي، فتوجه إليه ولازمه وأخذ عنه وسكن المدرسة الرواحية، وقد ذكر النووي رحمه الله أنه بقي نحو سنتين لا يضع جنباً على الأرض. أي: أنه بقي سنتين لا ينام وإنما يغفو إغفاءة ثم يستيقظ وهو جالس، وهذا فيه همة عالية في طلب العلم، إذا كان هذا الإمام أو غيره ممن كتب الله تعالى لذكرهم البقاء. فقال: ويتبلغ بشيء من القوت اليسير، وحفظ التنبيه في نحو أربعة أشهر ونصف، وهو متن عظيم في الفقه، ثم حفظ ربع العبادات من المهذب في باقي السنة وهو يشرح ويصحح على شيخه كمال المغربي، وقد أُعجب به شيخه أيما إعجاب؛ لما رأى من دأبه وحرصه وانصرافه إلى طلب العلم، فأحبه محبة شديدة وجعله معيد الدرس في حلقته -أي: أن الشيخ إذا فرغ من درسه جعل الإمام النووي يعيده في المدرسة الرواحية- حتى أقبل على طلب العلم بنهم وشغف وجد واستعداد وهمة لا تعرف الكلل والملل، فكان يقرأ كل يوم (11) درساً وقيل: (12) درساً على العلماء شرحاً وتصحيحاً: درسين في الوسيط للغزالي، وثالثاً في المهذّب للشيرازي، ودرساً في الجمع بين الصحيحين للحميدي، وخامساً في صحيح مسلم، ودرساً في إصلاح المنطق لـ ابن السكيت، ودرساً في اللمع لـ ابن جني، ودرساً في أصول الفقه في اللمع للشيرازي أيضاً، والمنتخب للفخر الرازي، ودرساً في أسماء الرجال، ودرساً في أصول الدين -أي: في العقيدة- وكان يُعلّق جميع ما يتعلق بها من شرح مشكل، وإيضاح عبارة، وضبط لغة.

صفاته التي أهلته للطلب ووصاياه لطلاب العلم

صفاته التي أهلته للطلب ووصاياه لطلاب العلم هذا الذي نعده إنما يدلنا على أن الإمام قد حرص على أن يأخذ من كل فن بنصيب، ومن كل علم بحظ وافر، وما كان ينام من الليل إلا أقله: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18]، وإذا غلبه النوم استند إلى الكتب لحظة ثم يفيق وينتبه، وضُرب به المثل في إكبابه على طلب العلم ليلاً ونهاراً، وهجره النوم إلا عن غلبة، وضبط أوقاته بلزوم الدرس أو الكتابة أو المطالعة أو التربي على الشيوخ، حتى إنه إذا مشى في الطريق كان يشتغل في تكرار ما يحفظ -أي: أنه في أثناء سيره لم يكن يضيع الوقت، ولكنه كان يراجع محفوظاته- فإذا وصل إلى الدرس التحم ذكره في الشوارع وقراءته ومراجعته لهذه الدروس بدرسه الذي يُسمعه الطلاب، فما كان يضيع من وقته لحظة واحدة، وهذا شأن الحريص على طلب العلم. وكان قوي المدرك حاضر البديهة تنثال عليه المعاني انثيالاً في وقت الحاجة إليها -كان إذا أراد أن يستشهد بشيء أو يأتي بأدلة لمسألة كانت تنثال انثيالاً وكأنه يقرأ من كتاب- وهذا يدل على قوة القريحة لديه رحمه الله تعالى. وكان يتعمق في المسائل العلمية ولا يكتفي بدراسة ظواهرها ولا يتقلد قول الغير فيها إلا بعد التحقق من صحة دليله وجودة مخرجه. وكان رحمه الله تعالى يتمتع بحافظة قوية مستوعبة أتاحت له السيطرة الفكرية على ما يقرأ بحيث يربط أقصاه بأدناه، وأوله بآخره، وأجزاءه بعضها ببعض. وكان رحمه الله تعالى تتمثل فيه الآداب التي ذكرها في كتابه المجموع في الجزء الأول من المقدمة، ذكر مقدمة في غاية الروعة والمتانة ينبغي أن يتحلى بها طالب العلم، فكان من بين هذه العناصر والنصائح أنه قال: ينبغي للمتعلم أن يقصد بتعليمه وجه الله تعالى، فلا يقصد به رياسة، ولا سمعة، ولا رياء، ولا إشارة بالبنان إليه، ولا عرضاً من أعراض الدنيا من جاه وسلطان ومال وغير ذلك، إنما يقصد به وجه الله تعالى، فمن كان طالباً للعلم فليعلم أن مطلوبه هو أعز وأشرف مطلوب، فليعد أعز العدة له، وأعزها وأفضلها إنما هو تقوى الله عز وجل والإخلاص في طلبه لله دون سواه، فهذا الإمام إنما نبّه وأكد على الإخلاص في طلب العلم في مقدمة تنبيهاته وتوجيهاته من المجموع. ثم ثنى بعد ذلك بقوله: وأن يتحقق بالمحاسن التي ورد الشرع بها وحث عليها، والخلال الحميدة والسير المرضية التي أرسل إليها من التزهد في الدنيا والتقلل منها، وعدم المبالاة بفواتها، والسخاء، والجود، ومكارم الأخلاق، وطلاقة الوجه والبشاشة، وغير ذلك من مكارم الأخلاق. ثم ثلث بقوله: وأن يحذر من الحسد والرياء والإعجاب واحتقار الناس وإن كانوا دونه درجات، وهذا ما نفتقده نحن الآن، فالواحد منا إذا طالع كتاباً واحداً لا يمكن التفاهم معه؛ لأنه يظن أنه قد حاز العلم بحذافيره، لمجرد أنه يقرأ الجزء الأول من فقه السنة يظهر عليه الكبر والعجب والتيه والخيلاء في مشيه وكلامه وجلوسه وقعوده ومعاملته مع الخلق، بل ومعاملته مع الله عز وجل، وذلك لأنه طلب على غير شيخ، ثم لم يعد العدة ولم يتهيأ ولم يتأدب بالآداب التي ينبغي أن يتعلمها أولاً قبل أن يتعلم العلم؛ ولذلك الحسن البصري يقول: نحن في حاجة إلى قليل من الأدب أكثر من حاجتنا إلى كثير من العلم. وقيل للشافعي: كيف شهوتك للأدب؟ قال: والله إني لأسمع بالحرف الواحد منه فأتمنى لو تكون كل جوارحي آذناً حتى تنعم بهذا الحرف. قيل له: كيف طلبك إياه؟ قال: طلب المرأة المضلة ولدها وليس لها غيره. وانظر عندما تكون هناك امرأة ليس لها إلا ولد واحد، وهذا الولد ضل وتاه عنها، تبحث عنه بحث المجنونة عليه، فكذلك كان يفعل الإمام الشافعي، فينبغي قبل أن يطلب الطالب العلم أن يطلب الأدب؛ لأنه إن طلب الأدب أولاً انتفع بالعلم، وإن لم يطلب الأدب أولاً لم ينتفع لا بالعلم ولا بالأدب. ثم يقول: وعليه أن يداوم مراقبة الله تعالى في علانيته وسره، محافظاً على قراءة القرآن والأذكار والدعوات ونوافل الصلوات والصوم وغيرها، معولاً على الله في كل أمره، معتمداً عليه مفوضاً في كل الأحوال أمره إليه. ثم قال: وعليه أن يستمر مجتهداً في الاشتغال بالعلم قراءة وإقراءً، ومطالعة وتعليقاً، ومباحثة ومذاكرة، ولا يستنكف من التعلم ممن هو دونه في سن أو نسب أو دين أو في علم آخر أو غير ذلك. وعليه أن يعتني بالتصنيف إذا تأهل له، أما إذا لم يتأهل له فلا شك أنه يحرم عليه أن يتصدى للتصنيف، وينبغي له أن يحرّض طلابه على الاشتغال في كل وقت، ويطالبهم بحفظ ما يلزم حفظه، وينير أذهانهم بطرح الأسئلة المهمة عليهم. ومن أهم ما يؤمر به ألا يتأذى ممن يقرأ عليه إذا قرأ على غيره؛ لأنك إذا منعت طلابك من أن يسمعوا لغيرك فلا شك أنهم سيتعلمون الجمود؛ لأنه ربما لا تلقي عليهم أنت إلا رأياً واحداً هو الذي تعتنقه وتعتقده، فيخرج الطالب أفقه ضيّق جداً لا يعرف في كل مسألة إلا قولاً واحداً، فلو صدم بالرأي الثاني أو ا

الجانب الخلقي للإمام النووي رحمه الله

الجانب الخلقي للإمام النووي رحمه الله وأما الجانب الخلقي من شخصيته عليه رحمة الله: فقد كان على جانب عظيم من التقوى والإنابة، فهو كما أشرنا منذ نعومة أظفاره كان يستشعر خشية الله فينفر عن اللهو وينصرف عن اللغو، ويملأ فراغه بقراءة القرآن والأعمال الصالحة التي تقربه إلى الله تعالى، وكان رأساً في الزهد قدوة في الورع، يتقلل من الدنيا ويعرض عن مفاتنها ومتعها، ولا يتناول منها إلا ما يقيم أوده، ويعينه على القيام بما هو آخذ بسبيله. قال الإمام الذهبي: ولي الإمام النووي دار الحديث، وكان لا يتناول من معلومها شيئاً، يعني: الجعل الذي كانت تنفقه المدرسة على أبنائها وطلابها وعلمائها لم يكن يتناول منه شيئاً، بل يتقنع بالقليل مما يبعث به إليه أبوه، كان أبوه يبعث إليه بالجرايات -أي: الطعام والشراب الذي يأكله- وكانت أمه ترسل إليه كل عام قميصاً أو قميصين يلبسهما، فما كان يلبس من أحد، ولا يأكل من أحد، وما كان يقبل هدية طالب من الطلاب. وهذه سيرة كثير من أهل العلم السالكين، أنهم ما كانوا يقبلون هدايا تلاميذهم الذين ليس بينهم وبين بعض تبادل هدايا، أي: لو أن طالباً يتبادل مع شيخه الهدايا فلا بأس أن يأخذ منه الشيخ، وأما إذا كانت الهدية مقدمة من التلميذ، وهذا الشيخ لا يعرف التلميذ إلا أنه تلميذه في الحلقة، وليس بينهم من الود ما يسمح له بقبول الهدية فإن الشيخ كان يمتنع عن قبول الهدية التي بهذا الوصف. قال: وكان لا يأخذ من أحد شيئاً، ولا يقبل إلا ممن تحقق دينه ومعرفته، ولا له به علاقة من إقراء وانتفاع به. ويقول أيضاً الإمام الذهبي عنه: كان عديم الميرة -أي: الطعام والشراب- والرفاهية والتنعم، مع التقوى والقناعة والورع الثخين، والمراقبة لله تعالى في السر والعلانية، وترك رعونات النفس من ثياب حسنة، وأكل طيب، وتجمل في هيئة، بل طعامه جلف الخبز بأيسر إدام، ولباسه ثوب خام وشيخنانية لطيفة. هذا ما كان يأخذه لنفسه، ولكنه عند الفتوى وعند شرح الأحاديث يكون له موقف آخر، فإن هذا جانب الورع، والورع لا يُجبر عليه العبد، وإنما يُنصح به مجرد نصيحة، وله بعد ذلك أن يأخذ به أو لا يأخذ كالإحسان تماماً، فإنك لا تستطيع أن تحمل عبداً على الإحسان، ولكنك تستطيع أن تحمله على الإيمان وعلى الإسلام، وإلا فله حكم آخر في الشرع، أما الإحسان فهو المراقبة بينك وبين الله عز وجل، ولا يستطيع أحد أن يحملك عليه إلا الله عز وجل يرزقك إياه، نسأل الله تعالى أن يرزقنا الإحسان والورع! وأما الورع فكان ديدن الإمام النووي عليه رحمة الله تبارك وتعالى، أما عند شرحه للأحاديث فهذا شيء آخر يتعلق بجميع المسلمين، فإنه عند الفتوى والتحقق والإفتاء لا يجوز لي أن أحمل الناس على ما أنا عليه، فكذلك كان الإمام يفعل. قال: ولكنه في باب الفتيا كان ينهج منهج القصد والاعتدال، فقد علّق على حديث عائشة رضي الله عنها المخرّج عند مسلم: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلوى والعسل)، يقول: فيه جواز أكل لذيذ الأطعمة والطيبات من الرزق، وأن ذلك لا ينافي الزهد والمراقبة لا سيما إذا حصل اتفاقاً. أي: إذا لم يحرص عليه العبد، ولكنه قُدّم إليه دون طلب. قال: وكان رحمه الله تعالى يسدي النصح للعظماء والكبار بأسلوب تلمح فيه عزة المؤمن ونزاهة القصد وكمال الشفقة للمنصوح، وله في ذلك مواقف رائعة مدونة في الكتب التي أُلفت في مناقبه تستوجب الإكبار والاعتداد، وتصلح أن تكون مثلاً أعلى للاحتذاء.

منهج الإمام النووي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومحاربة البدع

منهج الإمام النووي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومحاربة البدع والإمام النووي عليه رحمة الله تبارك وتعالى كان شديد الإنكار والتنكر للبدع وأهلها، ولا يحابي في ذلك أحداً كائناً من كان، رائده في ذلك الإخلاص في طلب الحقيقة، فقد قال في الأذكار: اعلم أن الصواب المختار ما كان عليه السلف رضي الله عنهم: السكوت في حال السير مع الجنازة؛ لأنه في عهد الإمام النووي كانوا يصيحون ويكبّرون ويهللون خلف الجنازة، فالإمام النووي كان حرباً على البدع وأهلها، فلما رأى ذلك أنكره. قال: فلا يرفع صوتاً بقراءة ولا ذكر ولا غير ذلك، والحكمة فيه ظاهرة، وهي أنه أسكن لخاطره وأجمع لفكره فيما يتعلق بالجنازة، وهو المطلوب في هذا الحال، هذا هو الحق. ثم يقول: ولا تغترن بكثرة من يخالفه- أي: يخالف هذا-فقد قال أبو علي الفضيل بن عياض رضي الله عنه ما معناه: الزم طرق الهدى ولا يضرك قلة السالكين. عليك بالذين اتبعوا كتاب الله وسنة رسوله، وإن كان القائم على ذلك قلة من الناس وقلة من الخلق، فإن الحق لا يُعرف بكثرة الأتباع إنما يُعرف بصدق الاتباع. قال: وإياك وطرق الضلالة، ولا تغتر بكثرة الهالكين، وأما ما يفعله الجهلة من القراءة على الجنازة بدمشق وغيرها من القراءة بالتمطيط وإخراج الكلام عن موضوعه فقد أوضحت قبحه وغلظ تحريمه. وهو أيضاً موجود في بلادنا هذه، وكثيراً ما نسمع في الجنازات: لا إله إلا الله، وغير ذلك من الصيحات التي تعلو بين الفينة والفينة، فلا شك أن هذا كله من البدع، فحرام بإجماع العلماء. ثم يقول: وقد أوضحت قبحه وغلظ تحريمه، وقسط من تمكن من إنكاره فلم ينكره في كتاب آداب القراء، والله المستعان. الإمام النووي له مؤلفات عظيمة جداً ألف في كل فن وفي كل علم، والله عز وجل قد كتب القبول لمؤلفاته ومصنفاته، وهذا القبول الذي كتبه الله تعالى لمصنفات الإمام في الأرض إنما هو بفضل الله أولاً ثم بإخلاص الإمام؛ ولذلك الإمام مالك عليه رحمة الله تبارك وتعالى حينما صنّف كتاب الموطأ قام الناس في المدينة كلهم يصنفون موطآت، وذلك حينما طلب الخليفة من الإمام مالك أن يؤلف كتاباً، ويوطئه توطئة، ويمهّده تمهيداً لأهل الإسلام حتى يوزعه في الأمصار، فقام كل الناس يقولون: نسارع فلعل موطآتنا تكون أحسن من موطأ الإمام مالك، فلما قيل للإمام مالك: إن الموطآت قد كثرت بالمدينة، قرأ قول الله عز وجل: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد:17]. قال: إن الله تعالى يذهب بهذه الموطآت ويبقي ما أريد به وجهه. فهل تسمعون الآن عن موطأ غير موطأ الإمام مالك؟ فهناك موطآت كثيرة ومطبوعة ولكن لم يُكتب لها القبول والشهرة والانتفاع بها عند الناس إلا موطأ الإمام مالك.

مواجهة الإمام النووي للسلاطين ومناصحته لهم بالرسائل

مواجهة الإمام النووي للسلاطين ومناصحته لهم بالرسائل

رسالة النووي للسلطان يطالب الإشفاق على رعيته

رسالة النووي للسلطان يطالب الإشفاق على رعيته قال ابن العطار رحمه الله تعالى: وكان مواجهاً للملوك والجبابرة بالإنكار، لا تأخذه في الله لومة لائم، وكان إذا عجز عن مواجهة كتب الرسائل، ويتوصل إلى إبلاغها، فمما كتبه وأرسلني في السعي فيه وهو يتضمن العدل في الرعية وإزالة المكس عنهم، وكتب معه في ذلك شيخنا شيخ الإسلام أبو محمد عبد الرحمن بن الشيخ أبى عمرو، وشيخ الحنابلة وشيخنا العلامة قدوة الوقت أبو محمد عبد السلام بن على بن سر الزواوي شيخ المالكية، وشيخنا العلامة قدوة الوقت ذو العلوم أبو بكر بن محمد بن أحمد السويسي المالكي، وشيخنا العارف القدوة أبو إسحاق إبراهيم بن الشيخ العارف ولي الله عبد الله بن الأرمني، وشيخنا المفتى أبو حامد محمد بن العلامة أبى الفضائل عبد الكريم بن الجرستاني خطيب دمشق وابن خطيبها، وجماعة آخرون ووضعها في ورقة، وهذه صورتها: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله يحيى النووي: سلام الله ورحمته بركاته، على المولى المحسن، ملك الأمراء، بدر الدين، أدام الله الكريم له الخيرات، وتولاه بالحسنات، وبلغه من خيرات الآخرة والأولى كل آماله، وبارك له في جميع أحواله، وننهي إلى العلوم الشريفة أن أهل الشام في هذه السنة في ضيق عيش، وضعف حال، بسبب قلة الأمطار، وغلاء الأسعار، وقلة الغلات والنبات، وهلاك المواشي وغير ذلك، وأنتم تعلمون أنه تجب الشفقة على الرعية والسلطان ونصيحته في مصلحته ومصلحتهم، فإن الدين النصيحة، وقد كتب خدمة الشرع الناصحون للسلطان المحبون له كتاباً يذكره النظر في أحوال رعيته، والرفق بهم، وليس فيه ضرر، بل نصيحة محضة، وشفقة تامة، وذكرى لأولي الألباب، والمسئول من الأمير أيده الله تقديمه إلى السلطان، أدام الله له الخيرات، ويتكلم عليه من الإشارة بالرفق بالرعية بما يجده مدخراً له عند الله: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:30]، وهذا الكتاب الذي أرسل به العلماء إلى الأمير أمانة ونصيحة للسلطان أعز الله أنصاره والمسلمين كلهم في الدنيا والآخرة، فيجب عليكم إيصاله للسلطان أعز الله أنصاره، وأنتم مسئولون عن هذه الأمانة ولا عذر لكم في التأخير عنها، ولا حجة لكم في التقصير فيها عند الله تعالى، وتسألون عنها: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89]. {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37]. وأنتم -بحمد الله- تحبون الخير، وتحرصون عليه، وتسارعون إليه، وهذا من أهم الخيرات وأفضل الطاعات، وقد أهلتم له، وساقه الله إليكم، وهو فضل من الله ونحن خائفون أن يزداد الأمر شدة إن لم يحصل النظر في الرفق بهم. قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201] وقال الله تعالى: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة:215] والجماعة الكاتبون منتظرون ثمرة هذا، بما إذا فعلتموه وجدتموه عند الله {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فلما وصلت الورقتان إليه أوقف عليها السلطان، فرد جوابهما رداً عنيفاً مؤلماً، فتكدرت خواطر الجماعة الكاتبين وغيرهم. فكتب رحمه الله جواباً لذلك A بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وسلم. من عبد الله يحيى النووي، يُنهي أن خدمة الشرع كانوا كتبوا ما بلغ السلطان أعز الله أنصاره، فجاء الجواب بالإنكار والتوبيخ والتهديد، وفهمنا منه أن الجهاد ذكر في الجواب على خلاف حكم الشرع، وقد أوجب الله إيضاح الأحكام عند الحاجة إليها، فقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187] فوجب علينا حينئذ بيانه وحرم علينا السكوت، قال الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:91]. وذكر في الجواب أن الجهاد ليس مختصاًً بالأجناد، وهذا أمر لم ندع

رسالة النووي إلى السلطان في التلطف بالرعية وعدم انتزاع أملاكهم

رسالة النووي إلى السلطان في التلطف بالرعية وعدم انتزاع أملاكهم ومما كتبه أيضاً الإمام النووي إلى السلطان حينما حارب التتار وأزالهم عن البلاد، إذ ذهب السلطان إلى دمشق فقال له وكيل بيت المال في دمشق: إن هذه الأملاك ومعظم الأراضي التي تحت أيدي الناس إنما هي ملك للدولة، وهي وقف عليها، وأما هؤلاء الناس فقد استولوا عليها استيلاء، فأمر السلطان بأن تُحاط هذه الأملاك وتنتزع من هؤلاء الناس، ولا يأخذ أحد منهم ما يدّعيه إلا إذا أثبت ذلك بمكتوب وبأوراق، فحينما فعل ذلك السلطان وأصدر أوامره كتب إليه الإمام النووي مرة ثالثة. قال: الحمد لله رب العالمين. قال الله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]، وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187]، وقال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2]. وقد أوجب الله على المكلفين نصيحة السلطان أعز الله أنصاره، ونصيحة عامة المسلمين، ففي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟! قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم). ومن نصيحة السلطان -وفقه الله لطاعته وتولاه بكرامته- أن يُنهى إليه الأحكام إذا جرت على خلاف قواعد الإسلام، أو على غير ما قرره الشرع، فأنت قد أمرت بنزع هذه الأراضي ممن وضعوا أيديهم عليها، وهذا بخلاف حكم الإسلام، فحينما كان ذلك ونحن نعلم محبتك لشرع الله وجب علينا أن ننصحك وأن نبين لك حكم ما فعلت. قال: قال الله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر:88]، وفي الحديث: (إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم). أي: بدعاء ضعفائكم لا بذواتهم وأشخاصهم كما هو مقرر في عقيدة أهل السنة. قال: وقال صلى الله عليه وسلم: (من كشف عن مسلم كربة من كرب الدنيا كشف الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه)، وقال صلى الله عليه وسلم: (اللهم من ولي من أمر المسلمين شيئاً فرفق بهم فارفق به، ومن شق عليهم فاشقق عليه)، وقال صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن المقسطين على منابر من نور على يمين الرحمن، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا). وقد أنعم الله علينا وعلى سائر المسلمين بالسلطان أعز الله أنصاره، فقد أقامه لنصرة الدين والذب عن المسلمين. السلطان بيبرس كان محباً للدين ولشرع الله عز وجل، وكان محباً للسنة وللعلماء، وكان يقربهم إليه. قال: وأذل به الأعداء من جميع الطوائف، وفتح عليه الفتوحات المشهورة في المدة اليسيرة، وأوقع الرعب منه في قلوب أعداء الدين وسائر الماردين، ومهّد له البلاد والعباد وقمع أهل الزيغ والفساد، وأمده بالإعانة واللطف والسعادة، فلله الحمد على هذه النعم المتظاهرة والخيرات المتكاثرة، ونسأل الله الكريم دوامها له وللمسلمين وزيادتها في خير وعافية آمين. قال: لقد أوجب الله شكر نعمه، ووعد الزيادة للشاكرين، فقال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7]. ولقد لحق المسلمين بسبب هذه الحيطة التي أنت عملتها على أملاكهم أنواع من الضرر لا يمكن التعبير عنها، وطُلب منهم إثبات ما لم يلزمهم. أي: أنهم يقدمون الأوراق والمستندات، وهذا أمر لم يلزمهم به الشرع، فهذه الحيطة لا تحل عند أحد من علماء المسلمين، بل من في يده شيء فهو ملكه لا يحل الاعتراض عليه ولا يكلف بإثباته. قال: وقد اشتهر من سيرة السلطان أنه يحب العمل بالشرع ويوصي نوابه فهو أولى من عمل به، أي أنك إذا كنت أنت توصي بالالتزام بالشرع فأولى بك أن تكون أول العاملين به، والمسئول إطلاق الناس من هذه الحيطة، والإفراج عن جميعهم فأطلقهم أطلقك الله من كل مكروه، فهم ضعفة وفيهم الأيتام والأرامل والمساكين والضعفة والصالحون، وبهم ننصر ونغاث ونُرزق، وهم سكان الشام المبارك جيران الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وسكان ديارهم، فلهم حرمات من جهات متعددة، فأطلقهم أطلقك الله تعالى. ولو رأى السلطان ما يلحق الناس من الشدائد -يعني: لو أنك نزلت إلى واقع الناس وإلى الشوارع ونظرت إلى حال الناس- لاشتد حزنه عليهم، وأطلقهم في الحال ولم يؤخرهم، ولكن لا تنهى الأمور إليه على وجهها، أي لا تبلغه أحوال الرعية كما ينبغي؛ لأن في الطريق عقبات كثيرة تحول وتحجب بين إيصال الواقع وحقيقة الرعية إلى الراعي والمسئول. فبالله أغث المسلمين يغثك الله، وارفق بهم يرفق الله بك، وعجّل لهم الإفراج قبل وقوع الأمطار، وتلف غلاتهم فإن أكثرهم ورثوا

رسالة النووي إلى السلطان في شأن الفقهاء حين منعهم من التنقل بين المدارس والمساجد

رسالة النووي إلى السلطان في شأن الفقهاء حين منعهم من التنقل بين المدارس والمساجد ومما كتبه: رسالة تتعلق بالمكوس والحوادث الباطلة، وكتب كذلك رسالة بالأمراء والخيل، وأبطل الله تعالى ذلك على يد من يشاء من عباده في دولة السعيد بن الظاهر رحمهم الله تعالى. وكتب رسائله إلى السلطان في شأن الفقهاء، حينما رُسم بأن الفقيه لا يكون منزّلاً في أكثر من مدرسة واحدة، وكانت المدارس في دمشق (300) مدرسة، فكان العالم الواحد يتنقل في عدة مدارس وتُجرى عليه الجرايات من كل مدرسة ينزل فيها، فحسد أحد الفقهاء هذا الوضع فوشى بهم إلى السلطان أنه لا ينبغي على الفقيه أن يبرح مدرسة واحدة، كل واحد يظل في مسجده ولا يخرج، فقال السلطان: لا ينتقل أحد من أهل العلم في مدرسة إلى مدرسة غيرها، ومن كان لديه شيء فلينقلها في مسجده أو مدرسته، إنما كونه ينتقل إلى مسجد آخر فهذا من الأمور المحرمة رسمياً وليس شرعاً، فلما رأى ذلك الإمام النووي كتب كتاباً. قال: بسم الله الرحمن الرحيم. خدمة الشرع ينهون أن الله تعالى أمرنا بالتعاون على البر والتقوى، ونصيحة ولاة الأمور وعامة المسلمين، وأخذ على العلماء العهد بتبليغ أحكام الدين ومناصحة المسلمين، وحث على تعظيم حرماته وإعظام شعائر الدين وإكرام العلماء وطلابهم، وقد بلغ الفقهاء بأنه رُسم في حقهم بأن يغيروا عن وظائفهم، ويقطعوا عن بعض مدارسهم، فتنكست بذلك أحوالهم، وتضرروا بهذا التضييق عليهم، وهم محتاجون ولهم عيال وفيهم الصالحون والمشتغلون بالعلوم، وإن كان فيهم أفراد لا يلتحقون بمراتب غيرهم، فهم منتسبون إلى العلم ومشاركون فيه، ولا يخفى مراتب أهل العلم وفضلهم وثناء الله تعالى عليهم، وبيان مزيتهم على غيرهم، وأنهم ورثة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وأن الملائكة عليهم السلام تضع أجنحتها لهم، ويستغفر لهم كل شيء حتى الحيتان. واللائق بالجناب العالي -أي بالسلطان- إكرام هذه الطائفة من العلماء وطلاب العلم، والإحسان إليهم ومعاضدتهم، ودفع المكروهات عنهم، والنظر في أحوالهم بما فيه الرفق بهم، فقد ثبت في صحيح مسلم: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به). وروى أبو عيسى الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أنه كان يقول لطلبة العلم: مرحباً بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن رجالاً يأتونكم يتفقهون في الدين، فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيراً). والمسئول ألا يُغير على هذه الطائفة شيء، وتستجلب دعوتهم لهذه الدولة القاهرة، وقد ثبت في صحيح البخاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟). وقد أحاطت العلوم بما أجاب به الوزير نظام الملك حين أنكر عليه السلطان ترك الأموال الكثيرة في جهة طلبة العلم، فقال: أقمت لك بها جنداً لا ترد سهامهم بالأسحار؛ فاستصوب فعله وساعده عليه. والله الكريم يوفق الجنابة دائماً لمرضاته، والمسارعة إلى طاعته. والحمد لله رب العالمين.

رسالة النووي إلى ابن النجار في سعيه لدى السلطان بما يضر بعامة المسلمين

رسالة النووي إلى ابن النجار في سعيه لدى السلطان بما يضر بعامة المسلمين وله كذلك رسائل كثيرة في كليات تتعلق بالمسلمين وجزئيات، وفي إحياء سنن نيرات، وفي إماتة البدع المظلمات، وله كلام طويل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مواجهاً به أهل المراتب العاليات. وقد كتب رسالة إلى من كان يسعى في إحداث أمور باطلة على المسلمين، جديرة بأن يتأملها كل داعية إلى الله؛ ليعلم حرص العلماء على العامة، وغضبتهم عندما تنتهك حرمات الله تعالى. ابن العطار وهو تلميذه يقول: كنت يوماً بين يديه لتصحيح درس عليه في مختصر علوم الحديث الأصغر، فلما فرغت منه قال لي: رأيت الليلة في المنام كأني كنت سابحاً في بحر، وكأني خرجت منه إلى شاطئه، وإذا أنا بشخص قد غرق فيه، وقد تعلق بخشبة على وجهه لحظة ثم غرق، قلت: يا سيدي! أأنت علمت الشخص من هو؟ قال: نعم. قلت: من هو؟ قال: ابن النجار. قلت: فما أوّلته؟ -أي: ما تأويل هذه الرؤيا؟ - قال: يظهر قليلاً ثم يخفى خفاء لا ظهور بعده، أي: يظهر ببدعته وبنكده قليلاً فيعكّر صفو البلاد، ثم يكتب الله تعالى له الإزالة والخفاء فلا يظهر بعدها مع نفاق في قلبه. هذه هي الرؤيا. يقول: وكان من قصة المذكور ابن النجار أنه سعى في إحداث أمور على المسلمين باطلة، فقام الشيخ قدّس الله روحه مع جماعة من العلماء فأزالوها بإذن الله تعالى، ونصر الله الحق وأهله، فغضب لذلك ابن النجار لكراهيته لمصلحة المسلمين ونصيحة الدين، وبعث إلى النووي يهدده ويقول: أنت الذي تحزّب العلماء عليّ، فكتب إليه النووي قدّس الله روحه كتاباً هذا صورته. قال: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين. من يحيى النووي. اعلم أيها المقصر في التأهب لمعاده! التارك مصلحة نفسه في تهيئة جهاده له وزاده، أني كنت لا أعلم كراهتك لنصرة الدين، ونصيحة السلطان والمسلمين؛ حملاً مني لك على ما هو شأن المؤمنين من إحسان الظن بجميع الموحدين، وربما كنت أسمع في بعض الأحيان من يذكرك بغش المسلمين؛ فأُنكر عليه بلساني وبقلبي؛ لأنها غيبة لا أعلم صحتها، ولم أزل على هذا الحال إلى هذه الأيام، فجرى ما جرى من قول قائل للسلطان وفّقه الله لكريم الخيرات: إن هذه البساتين يحل انتزاعها من أهلها عند بعض العلماء. إذاً: علمنا أن سبب فعل السلطان أنه لم يفعل ذلك بهواه، وإنما حينما أفتاه علماء السلطة بأن هذه البساتين يحل له ردها في مذهب بعض العلماء من السلف، فحينما رأى ذلك السلطان وأن بعض العلماء السالكين قالوا بجواز ذلك وبحله؛ فعله، وهو في هذه الحال لا يقدم على حرام ولا على مكروه، وإنما أخذ بفتوى بعض من أهل العلم. قال: إن هذه البساتين يحل انتزاعها من أهلها عند بعض العلماء. فالإمام النووي رد عليه بقوله: وهذا من الافتراء الصريح والكذب القبيح، فوجب عليّ وعلى جميع من علم هذا من العلماء أن يبيّن بطلان هذه المقالة ودحض هذه الشناعة، وأنها خلاف إجماع المسلمين. إذاً: المسألة فيها إجماع بالمنع، فلا يجوز للسلطان أن ينتزع أرضاً من أحد رعيته إلا أن يشتريها منه أو يكافئه عليها، حتى يرضى صاحبها. قال: وأنه لا يقول بها أحد من أئمة الدين. أي: هذه الفتوى التي قلتها والتي أبلغتها للسلطان لم يقل بها أحد من أئمة الدين. قال: وأن ينهوا ذلك إلى سلطان المسلمين، وأنا أكلفكم أن تبلغوا هذا إلى السلطان، فإنه يجب على الناس نصيحته؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة). وإمام المسلمين في هذا العصر هو السلطان وفقه الله تعالى لطاعته وتولاه بكرامته، وقد شاع بين الخواص والعوام أن السلطان كثير الاعتناء بالشرع، ومحافظ على العمل به، وأنه بنى المدرسة لطوائف العلماء، ورتّب القضاة من المذاهب الأربعة، وأمر بالجلوس في دار العدل لإقامة الشرع، وغير ذلك مما هو معروف من اعتناء السلطان أعز الله أنصاره بالشرع، وأنه إذا طلب طالب منه العمل بالشرع أمر بذلك ولم يخالفه، فلما افترى هذا القائل في أمر البساتين ما افتراه ودلّس على السلطان، وأظهر أن انتزاعها من يد مُلّاكها جائز عند بعض العلماء، وغش السلطان في ذلك، وبلغ ذلك علماء البلد؛ وجب عليهم نصيحة السلطان، وتبيين الأمر له على وجهه الصحيح، وأن هذا خلاف إجماع المسلمين، فإنه يجب عليهم نصيحة الدين والسلطان وعامة المسلمين. فوفقهم الله تعالى للاتفاق على كتب كتاب يتضمن ما ذكرته على جهة النصيحة للدين والسلطان والمسلمين، ولم يذكروا فيه أحداً بعينه بل قالوا: من زعم جواز انتزاعها فقد كذب. أي أنه لم يقل له: يا ابن النجار! أنت كذاب، وأنت مفتر! إنما قال: من زعم لك أن انتزاعها جائز من يد مُلّاكها فقد كذب. قال: وكتب علماء المذاهب الأربعة خطوطهم بذلك؛ لِما يجب عليهم من النصيحة المذكورة، واتفقوا على تبليغها ولي الأمر، أدام الله نعمه عليه لتنصحوه وتبينوا حكم الشرع له. ثم بلّغني جماعات متكاثرات في أوقات مختلفات حصل لي العلم بقولهم: أنك كرهت س

الأسئلة

الأسئلة

الجمع بين الحديثين أولى من القول بنسخ أحدهما بالآخر

الجمع بين الحديثين أولى من القول بنسخ أحدهما بالآخر Q إذا تعارض حديثان في الظاهر كحديث العدوى مع حديث: (لا يورد ممرض على مصح) هل أحدهما ينسخ الآخر أم يجب الجمع بين الحديثين وكيف ذلك؟ A الجواب باختصار أن الجمع واجب ما دام ممكناً؛ لأن إعمال الدليلين خير من رد أحدهما، والحقيقة الإمام النووي ترجم له كثير من أهل العلم، منهم السخاوي ترجم ترجمة حافلة له، فسماها حياة الإمام النووي، فكل كتاب صُنّف حول الإمام النووي وطُبع في هذه الأيام نُقلت نقولات عظيمة في ترجمته، والإمام الذهبي كذلك يتكلم في كتاب العبر عن النووي كلاماً لطيفاً.

حكم إعمال الحديث الضعيف في باب فضائل الأعمال

حكم إعمال الحديث الضعيف في باب فضائل الأعمال Q جاء في كتاب تيسير مصطلح الحديث للشيخ محمود الطحان في باب الحديث: أنه يحذّر من إعمال الأحاديث الضعيفة في باب فضائل الأعمال؟ A هذه المسألة الحقيقة محل خلاف بين أهل العلم، ففريق منهم يجوز العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال، والآخرون -وهو الصحيح- لا يجوّزون ذلك، بل ولا يمكن إعمال الحديث الضعيف في شيء من الدين، لا في الأحكام، ولا في العقائد، ولا في فضائل الأعمال، ولا في الترغيب والترهيب وغير ذلك، وهذا ما نعتقده ونعمل به بإذن الله تعالى. أما قوله هنا: أن الإمام أحمد بن حنبل وعبد الرحمن بن مهدي إنما كانوا يشددون في أحاديث الأحكام وفي الفضائل، فهذا له فقه خاص بمصطلح الحديث الضعيف عند الإمام أحمد وعبد الرحمن بن مهدي، فإنهم كانوا يعدون الحديث الحسن لغيره من باب الضعيف. وهذا لا شك أمر متعلق بدروس المصطلح.

المقدمة - ترجمة الإمام النووي [2]

شرح صحيح مسلم - المقدمة - ترجمة الإمام النووي [2] كان الإمام النووي رحمه الله تعالى على منهج أهل السنة والجماعة، وكان يتحرى الحق ويحرص عليه، وإن جانبه في بعض الأحيان، وكان ديدنه صيانة جناب الدين، ولو لم يصب ذلك في بعض الأمور، وكون النووي عالماً من علماء الأمة فله حق على كل مسلم أن يذب عن عرضه، ويدفع التهم والطعن في عقيدته.

عقيدة الإمام النووي

عقيدة الإمام النووي الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. في الدرس الماضي تناولنا الإمام النووي من حيث سيرته الذاتية وحياته العلمية، وأرجأنا في الدرس الماضي الكلام عن عقيدة الإمام النووي إلى هذا الوقت الذي نحياه ونعيشه.

اختلاف أقوال العلماء في عقيدة الإمام النووي رحمه الله

اختلاف أقوال العلماء في عقيدة الإمام النووي رحمه الله فنقول مستعينين بالله عز وجل في عقيدة الإمام النووي: إن العلماء وأهل العلم اختلفوا فيها، فاضطرب المترجمون للإمام النووي قديماً وحديثاً، فمنهم من نسبه للعقيدة السلفية، ومنهم من نسبه إلى عقيدة الخلفية، وهي عقيدة الأشاعرة. وأريد أن أنبه بادئ ذي بدءٍ أن الدراسات الأكاديمية في هذه البلاد وفي كثير من بلدان المسلمين يعدون عقيدة الأشعريين وعقيدة الماتريدية أتباع المنصور الماتريدي هي عقيدة أهل السنة والجماعة، وهذا الكلام فيه تخبيط وخلط وخطأ عظيم وفاحش، أما عقيدة أهل السنة والجماعة فهي ما كان عليه الصحابة رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، والتابعون كذلك والأئمة المتبوعون باعتبار كلام خفيف للإمام أبي حنيفة عليه رحمة الله تبارك وتعالى. فعقيدة الأشاعرة والماتريدية ليست هي عقيدة أهل السنة والجماعة، وإلا فالأزهر في هذا البلد، والدراسات الأكاديمية والإسلامية واللغوية في الجامعات كجامعة القاهرة وعين شمس يعدون العقيدة الأشعرية والعقيدة الماتريدية هي عقيدة أهل السنة، فأريد أن أنبه على هذه المسألة قبل أن ننطلق في الكلام على عقيدة السلف وعقيدة الخلف. فالإمام النووي عليه رحمة الله تبارك وتعالى حينما وقع فيما وقع فيه من تأويل وصرف النصوص عن ظاهرها، نسبه كثير من المتقدمين والمتأخرين إلى العقيدة السلفية تارة وإلى العقيدة الخلفية -وهي عقيدة الأشعرية والماتريدية- تارة أخرى، ولكن الإمام الذهبي يقول في كتاب تاريخ الإسلام في ترجمة الإمام النووي: إن مذهبه في الصفات السمعية السكوت، أي: كان يذهب إلى السكوت في الصفات السمعية وإمرارها كما جاءت، وربما تأول قليلاً في شرح مسلم، أي ربما تعرض لتأويل الصفات في شرح مسلم. والسخاوي عليه رحمة الله نقل في ترجمته، وتعقبه بقوله: كذا قال. أي: الإمام الذهبي، والتأويل كثير في كلامه، أي: ليس قليلاً وإنما هو كثير. ونقل السخاوي قبل ذلك عن بعض مترجميه أنه وصفه بأنه أشعري. هذا وصف صريح وصحيح بأنه أشعري، فقال في صفحة (36): وصرّح اليافعي والتاج السبكي رحمهم الله تعالى أنه أشعري. وقال السبكي في طبقات الشافعية الكبرى: شيخ الإسلام، أستاذ المتأخرين، وحجة الله على اللاحقين، والداعي إلى سبيل السالفين. فالذي يقرأ هذه المقولة يتصور أن الإمام النووي إنما كان يسلك مسلك السلف، ولكن هذا القول الذي قاله هو الإمام السبكي، والإمام السبكي أشعري كذلك. فكل مذهب يعد نفسه أنه هو مذهب السلف، فالأشاعرة يقولون: نحن سلفيون، والماتريدية يقولون: نحن سلفيون. فكل يدّعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر لهم بذاك فهذا كلام من الإمام السبكي إذا قاله في حق الإمام النووي، فإنما ينسبه إلى الأشعرية. وقال: وله الزهد والقناعة، ومتابعة السالفين من أهل السنة والجماعة. هكذا يقول عن الأشعريين أنهم أهل السنة والجماعة، وكما اضطرب الأقدمون أيضاً في نسبة الإمام النووي إلى أي العقائد، فكذلك اضطرب المحققون والمطلعون والباحثون المعاصرون، فمنهم من وصفه بأنه كان سلفياً في اعتقاده، لكنه يؤول أحياناً إذا دعت الضرورة إلى ذلك. ومنهم من وصفه بأنه له أغلاط في الصفات، سلك مسلك المؤولين وأخطأ في ذلك، فلا يقتدى به في ذلك، بل الواجب التمسك بقول أهل السنة، وهو إثبات الأسماء والصفات الواردة في الكتاب العزيز، والسنة الصحيحة المطهرة، والإيمان بذلك على الوجه اللائق بالله عز وجل من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل؛ عملاً بقوله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، وما جاء في الآيات والأحاديث كثير يثبت عقيدة السلف. ومنهم من قال عنه: لا يصح اعتباره أشعرياً، أي: الادعاء بأنه أشعري كلام يحتاج إلى دليل وبرهان، ولا يصح اعتباره كذلك وإنما يقال: وافق الأشاعرة في أشياء، فليس من وافق أهل البدعة في أشياء يقال: إنه مبتدع، وهذا أصل لا بد من معرفته، فالذي يوافق من أهل السنة والجماعة أهل البدع لا يقال عنه: مبتدع، وإنما يقال: إن الأصل فيه الاستقامة، ولكنه زل في مسألة كذا وكذا، ووافق فيها أهل البدع. أما إذا كان من أهل البدع أصلاً فوافق أهل الحق فلا يقال بهذه الموافقة: إنه من أهل الحق، ولكن يقال: إنه من أهل الباطل، ولكنه وافق أهل الحق في مسألة كذا وكذا، هذا أصل لا بد من معرفته. فالذي يوافق أهل الحق وهو من أهل البدع لا تخرجه موافقته لأهل الحق في هذه المسائل عن بدعيته، فكذلك أهل الحق إذا وافقوا أهل البدع لا تخرجهم هذه الموافقة لأهل البدع عن الحق الذي هم تمسكوا به من بداية الأمر، بل الحق مسلكهم وعقيدتهم. فالإمام ا

التأصيلات التي ينبني عليها بيان عقيدة الإمام النووي

التأصيلات التي ينبني عليها بيان عقيدة الإمام النووي والحقيقة أن التأويل وارد في كلامه كثيراً، وخاصة في شرحه لصحيح مسلم، ولكن هناك معالم ينبغي ضبطها وسردها لبيان عقيدة الإمام النووي عليه رحمة الله تبارك وتعالى.

الإمام النووي ليس له كتاب مستقل في العقيدة

الإمام النووي ليس له كتاب مستقل في العقيدة فهذه القواعد وهذه التأصيلات: أولها: لا نعلم كتاباً مستقلاً للإمام النووي تكلم فيه عن العقيدة حتى يتضح المقال في عقيدته. ليس هناك كتاب أفرده شيخ الإسلام النووي لإثبات عقيدته وبيانها؛ حكم من خلال هذا الكتاب بأنه أشعري أو سلفي، فليس له إلا مجرد الكلام على الأحاديث التي وردت في صحيح الإمام مسلم في كتاب الإيمان وغيره، فهي التي يؤخذ منها كلام الإمام النووي في العقيدة، وعليها مدار كلام المتقدمين والمتأخرين في عقيدة الإمام عليه رحمة الله. وهناك كتاب في العقيدة نُسب إلى الإمام النووي، وأما نسبته إليه ففيها نظر كبير، هذا الكتاب اسمه: المقاصد في بيان ما يجب معرفته من الدين من العقيدة والعبادة وأصول التصوف، فهذا الكتاب يُنسب زوراً وبهتاناً إلى الإمام النووي.

كلام النووي على الصفات منقول من شراح صحيح مسلم الذين سبقوه

كلام النووي على الصفات منقول من شراح صحيح مسلم الذين سبقوه التأصيل الثاني: أن سائر كلام النووي على الصفات منقول من شُرّاح صحيح مسلم الذين سبقوه، وخاصة من كلام عياض، وشيخه أبي عبد الله المازري. عياض لا شك أنه كان أشعري العقيدة، وكذلك شيخه الإمام أبو عبد الله المازري، فالإمام النووي عليه رحمة الله حينما جمع ما جمع في شرح هذا الصحيح اعتمد جُل اعتماده على النقل من كلام عياض وكلام الإمام أبي عبد الله المازري، وكلاهما أشعري العقيدة، فكان الإمام ينقل كلامهما دون تمحيص ولا تحقيق ولا تدقيق.

تأويل الإمام النووي بعض الصفات تنزيها لله

تأويل الإمام النووي بعض الصفات تنزيهاً لله وأما التأصيل والقاعدة الثالثة: أوّل النووي بعض الصفات ولا سيما الفعلية منها تنزيهاً لله عن ظاهرها، وخشية تشبيهه بخلقه، ووصفه بالتجسيم، والذين سلكوا هذا المسلك خرجوا من التشبيه والتجسيم فوقعوا في التعطيل، وهذا الذي وقع فيه الإمام النووي أيضاً، ولو أثبتوا ظواهر النصوص على حقيقتها على مذهب السلف لنجوا، أثبتوها بالمعنى المعلوم والكيف المجهول الذي يليق بجلال الله عز وجل كما هو الكلام المنسوب إلى الإمام مالك، وهو في الحقيقة كلام أم سلمة رضي الله عنها أم المؤمنين قالت: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة، ثم من بعدها تبنى هذه المقولة ربيعة الرأي، وهو إمام الرأي في المدينة، ثم بعد ذلك أخذها الإمام مالك واشتهرت عنه، حينما سئل عن قول الله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] قال: الاستواء معلوم. إذاً: السلف لا يفوضون العلم، ولا يفوضون المعنى، إنما يفوضون الكيف؛ لأنه قال: الاستواء معلوم، فالعرب يعرفون ما معنى الاستواء، (استوى) عند العرب بمعنى: (علا وارتفع) فلا يقال: استوى بمعنى: استولى، والاستيلاء هذا هو كلام المتأخرين من الأشاعرة وغيرهم، والاستيلاء يلزم منه المناهضة والمدافعة والمبارزة حتى يستولي أحد المتبارزين على الآخر، وحتى يهزمه وينتصر عليه، هذا كلام المتأخرين، وأما كلام السالفين من الصحابة وغيرهم: أن الاستواء بمعنى: الارتفاع والعلو، فهذا هو معنى قول أم سلمة: الاستواء معلوم، أي: معلوم عند العرب بمعنى: علا وارتفع، وعند الخلف بمعنى آخر وهو غير مراد لنا. قالت: والكيف مجهول، أي: كيفية استواء الرب سبحانه وتعالى على العرش هذه مجهولة لنا، وقد ناقشت أحد الأساتذة الكبار في الجامعات فقال: الاستواء مجهول، والكيف مجهول، قلت: لقد أتيت بطامة لم يأت بها حتى الخلف، ثم استطردنا في الكلام فقال: الكيف مجهول، فقلت له: على من؟ قال: على الله، قلت: كيف يخفى على الله عز وجل استواؤه؟ فقال: هكذا الكلام الصحيح للقاضي عبد الجبار وغيرهم. قلت: لا، فالقاضي عبد الجبار يقول: الاستواء بمعنى: الاستيلاء، وأما أنت فإنما تنفي هذا عن القاضي عبد الجبار وغيره، وإثبات هذا الكلام للقاضي لا شك أنه افتراء عليه. فكان عاقبتي أن طُردت من الجامعة، ووصى بي الذين يقفون على البوابة أن يراقبوني ويخرجوني، فجزاه الله خيراً، وربنا يهديه.

إفصاح الإمام النووي بأن التأويل يستساغ إذا دعت الحاجة إليه

إفصاح الإمام النووي بأن التأويل يستساغ إذا دعت الحاجة إليه التأصيل الرابع: أفصح النووي في مقدمته في كتاب المجموع -وهو من أعظم وأجل كتب الإمام النووي في الفقه، وهو أصل في مراجع كتب الفقه في المذهب الشافعي- أن التأويل يستساغ إذا دعت الحاجة إليه، وهذا على أي حال درب من دروب الاجتهاد عند الأئمة، وإن كنا لا نوافق عليه، ولكنه على أية حال موجود وله ظل عند أهل العلم، خاصة ممن كانت العقيدة عندهم غير ثابتة ثبوت الجبال الرواسي، فكانوا يلجئون للتأويل أحياناً لرد بدعة على مبتدع، وهذا الذي فعله الإمام النووي. قال الإمام في المجموع: اختلفوا في آيات الصفات وأخبارها هل يخاض فيها بالتأويل أم لا؟ فقال قائلون: تتأول على ما يليق بالله عز وجل، وهذا أشهر المذهبين للمتكلمين. وأما اصطلاح المتكلمين فله موال طويل جداً، لكن هذا اللفظ أطلقه المتأخرون على علماء في العقيدة أو المصنفات في العقائد وقالوا: سموهم المتكلمين أي: بمعنى المتكلمين في الأصول لا في الفروع. وقال آخرون: لا تتأول، بل يمسك عن الكلام في معناها، ويوكل علمها إلى الله تعالى. قوله: (ويوكل علمها) هذا كلام لا شك أنه خطأ، لكن يوكل كيفيتها إلى لله عز وجل، أما يوكل علمها فهذا هو تفويض العلم وتفويض المعنى الذي قال به الخلف دون السلف. ثم قال: ويعتقد مع ذلك تنزيه الله تعالى وانتفاء صفات الحادث عنه، فيقال مثلاً: نؤمن بأن الرحمن على العرش استوى، ولا نعلم حقيقة معنى ذلك. قوله: (ولا نعلم حقيقة معنى ذلك). هذا كلام خطأ، وإنما الصواب: ولا نعلم كيفية ذلك، أما معنى ذلك وعلم ذلك فإننا نعلمه، فقوله: (الاستواء معلوم) يرد هذا الكلام من أصله. وهذه طريقة السلف أو جماهيرهم، وهي أسلم، إذ لا يطالب الإنسان بالخوض في ذلك، فإذا اعتقد التنزيه فلا حاجة إلى الخوض في ذلك والمخاطرة فيما لا ضرورة إليه، أو لا حاجة إليه، فإن دعت الحاجة إلى التأويل لرد مبتدع ونحوه تأولوا حينئذ، وعلى هذا يحمل ما جاء عن العلماء في هذا. والله أعلم. هذا كلام الإمام النووي، ويفهم منه على سبيل الإجمال دون التفصيل أنه ينسب تفويض المعنى إلى السنة، وهذا كلام غير صحيح، وإنما الذي يُنسب إلى السلف وهو الحق الذي لا مراء فيه تفويض الكلام.

قول الإمام النووي في تفويض الصفات

قول الإمام النووي في تفويض الصفات يبقى التأصيل الخامس وهو: أنه يظهر من كلام الإمام النووي السابق أنه يرى تفويض المعنى، وهذا لا شك مذهب الخلف، وهذا ما صرّح به في كثير من المواطن في شرحه على الصحيح. وخلاصة القول وصفوته أن الإمام النووي انطلق فيما صار إليه في الأسماء والصفات من وجوه مختلفة في فهم النص، أدى إلى القول بالتفويض أو التأويل، وخاصة في الصفات الخبرية كالنزول والفرح والغضب والضحك والإتيان والمجيء ونحو هذا.

اشتغال النووي بعلم الحديث ودفاعه عن عقيدة السلف

اشتغال النووي بعلم الحديث ودفاعه عن عقيدة السلف فاشتغال النووي بعلم الحديث وبُعده عن علم الكلام جعله يوافق أهل السنة والجماعة في مسائل كثيرة جداً من مسائل العقيدة، السر في ذلك بركة اشتغاله بعلم الحديث؛ لأن الذي يشتغل بعلم الحديث لا بد أن يتعرض لأقوال الشُرّاح، ومعظم أهل الحديث إنما كانوا على نهج أهل السنة والجماعة إلا ما ندر. قال: مثل دفاعه عن عقيدة السلف في مسألة خلق الله لأفعال العباد، وإثبات رؤية الله عز وجل يوم القيامة، ودفاعه عن عقيدة السلف في حقيقة الإيمان وزيادته ونقصانه، والاستثناء فيه، وكلامه على حكم مرتكب الكبيرة وكلامه في النبوات عامة، وكذا في السمعيات، ودفاعه عن مذهب أهل السنة في الإمامة والصحابة والتفضيل بينهم. الإمام النووي دافع ونافح عن هذه المسائل أيما دفاع وأيما منافحة، فهذه المسائل بين أهل السنة وبين أهل البدع فيها خلاف عظيم وهوّة شاسعة على جهة الخصوص، فكون الإمام النووي يتبنى مذهب أهل السنة والجماعة في هذا وينافح ويدافع عنه ضد المعتزلة، بل وضد الأشاعرة أنفسهم الذين يُنسب إليهم الإمام النووي إنه ليدل دلالة واضحة على أن الإمام النووي لم يكن أشعرياً ولا معتزلياً، وقد تضمنت هذه التقريرات ردوداً على أهل الزيغ والضلال، وصرّح الإمام النووي بأسماء كثير من الطوائف المبتدعة والملل المنحرفة، مثل: الشيعة والرافضة والمعتزلة والخوارج والجهمية والمرجئة والكرّامية وغيرهم. ونستطيع أن نقرر هنا باطمئنان أن هذا الشرح ساهم في الدعوة إلى عقيدة السلف الصالح في هذه الأمور، وهو شرح الإمام النووي، وذلك من خلال الرد على من تجنبها من أهل الكلام، ومن سلك مسلكهم معتمداً على ما قرره السابقون في مصنفاتهم المعتبرة في العقيدة وغيرها. ومن الجدير بالذكر هنا أن شيخ الإسلام ابن تيمية حينما قرر ميل أبي حامد الغزالي إلى الفلسفة لكنه أظهرها في قالب التصوف والعبارات الإسلامية قال: وقد حكي عنه من القول بمذاهب الباطنية ما يوجد تصديق ذلك في كتبه، ورد عليه أبو عبد الله المازري في كتاب أفرده، إلى أن قال: ورد عليه الشيخ أبو البيان والشيخ أبو عمرو بن الصلاح وحذّر من كلامه في ذلك هو وأبو زكريا النووي وغيرهما. فكون النووي يحذر من كلام أبي حامد الغزالي في مسألة الصفات أو مسائل العقيدة على سبيل الإجمال، فلا شك أنه يرتضيه، فالذي يختلق كلاماً يلزمه أن ينافح عنه لا أن يرده وأن يسب أو يذم قائله، وهذا الذي فعله الإمام النووي أنه رد على الغزالي وأبطل قوله، مما يؤيد ويساعد ويشجّع على أن الإمام النووي إنما كان من أهل السنة والجماعة لا من أهل البدعة، وأقصى ما يقال: إنه وافق أهل البدع، أو وافق الأشاعرة والخلف في بعض المسائل عن اجتهاد منه وتأويل، فنسأل الله تعالى أن يغفر له، وأن يتجاوز عن سيئاته. ولا يفوتنا بهذا الصدد إلى أن نشير إلى أن الإمام النووي خالف الأشاعرة مخالفة صريحة في مسألة أول واجب على المكلف، ونصر فيها مذهب السلف فقال في المجموع الجزء الأول في بداية الكلام صفحة (24) أو (25): وأما أصل واجب الإسلام وما يتعلق بالعقائد فيكفي فيه التصديق بكل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم. يعني: التصديق على سبيل الإجمال، أي: تصديق العوام للنبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الإجمال دون التفصيل، فهذا الذي قاله الإمام النووي. قال: أول ما يلزم المسلم أن يصدق بكل ما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا التصديق إنما يعتقده اعتقاداً جازماً سليماً من كل شك، ولا يتعين على من حصل له هذا تعلم أدلة المتكلمين، أي: ليس فرض عين على كل مسلم أن يتعلم أدلة المتكلمين. والمتكلمون إنما هم المتأخرون. قال: هذا هو الصحيح الذي أطبق عليه السلف والفقهاء والمحققون من المتكلمين من أصحابنا وغيرهم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطالب أحداً بشيء سوى ما ذكرناه، وكذلك الخلفاء الراشدون ومن سواهم من الصحابة فمن بعدهم من الصدر الأول، بل الصواب للعوام وجماهير المتفقهين والفقهاء الكف عن الخوض في دقائق الكلام مخافة من اختلال يتطرق إلى عقائدهم يصعب عليهم إخراجه، بل الصواب لهم الاقتصار على ما ذكرناه من الاكتفاء بالتصديق الجازم، وقد نص على هذه الجملة جماعات من حذاق أصحابنا الشافعية وغيرهم، وقد بالغ إمامنا الشافعي رحمه الله تعالى في تحريم الاشتغال بعلم الكلام أشد مبالغة، وأطنب في تحريمه، وتغليظ العقوبة لمتعاطيه، وتقبيح فعله، وتعظيم الإثم فيه، فقال: لئن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك خير من أن يلقاه بشيء من الكلام. وألفاظه بهذا المعنى كثيرة.

سبب الاشتباه في نسبة الإمام النووي إلى الأشاعرة

سبب الاشتباه في نسبة الإمام النووي إلى الأشاعرة ذكرنا أن الإمام النووي كان مضطرباً في مسائل العقيدة، خاصة مسألة الصفات فما سر هذا الاضطراب؟ قال: سبب الاشتباه في نسبة الإمام النووي إلى الأشاعرة أو أهل السنة أنه قد وافق الأشاعرة من خلال النقل عن مصنفاتهم كما ثبت نقله عن الإمام أبي عبد الله المازري وتلميذه عياض، فلما نقل عنهم وسكت عن هذا النقل قال الأشاعرة: هو أشعري من هذه الزاوية، أنه اعتمد كلام عياض والشيخ أبي عبد الله المازري وسكت عنه مما يدل على رضاه به. فهذه حجة الذين ينسبون الإمام النووي إلى الأشاعرة، وأما أهل السنة والجماعة فإنهم ببركة اشتغال الإمام النووي بالحديث ومنافحته عن عقيدة أهل السنة والجماعة في مسائل كثيرة نسبوه إلى عقيدة السلف، ورحم الله تعالى شيخ الإسلام ابن تيمية أنه قال: وقل طائفة من المتأخرين إلا وقع في كلامهم نوع غلط؛ لكثرة ما وقع من شبه أهل البدع. ولهذا يوجد في كثير من المصنفات في أصول الفقه وأصول الدين والزهد والتفسير والحديث من يذكر في الأصل العظيم عدة أقوال، والأصل فيها أنها قول واحد، فتجد الواحد منهم وهو إمام كبير فحل يذكر في هذا الأصل العظيم الذي لا ينبغي أن يُذكر فيه إلا كلام واحد عدة أقوال، ومع هذه الأقوال الكثيرة لا يذكر القول الصحيح. ثم يقول: لعدم علمه به لا لكراهيته لِما عليه الرسول صلى الله عليه وسلم. فالإمام النووي من الأفاضل الأبرار، بل من العلماء الأحبار، ولكن لم يوفق لمتابعة منهج أهل الآثار في بعض المسائل العقدية الواردة في بعض الأخبار. عفا الله عنا وعنه بمنه وكرمه، وجعلنا وإياه من أهل الجنة وأبعدنا عن النار إنه عزيز غفار.

المسائل التي خالف فيها الإمام النووي أهل السنة والجماعة

المسائل التي خالف فيها الإمام النووي أهل السنة والجماعة منها: التبرك بآثار الصالحين، من المعلوم إجماع أهل السنة والجماعة على جواز بل على استحباب التبرُّك بآثار النبي عليه الصلاة والسلام على جهة الخصوص؛ لأنه مقطوع بصلاحه وتقواه، فالإمام النووي خالف في ذلك وقاس على النبي صلى الله عليه وسلم كل رجل صالح من الأمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهذا كلام خالف فيه جمهور أهل السنة. وعلى أية حال تبقى هذه المسألة محل خلاف بين العلماء، ولكن الراجح فيها: عدم قياس الصالحين على النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه لا يعلم الغيب إلا الله. فالراجح في هذه المسألة عدم جواز التبرك بآثار الصالحين، وهذه المسألة لو أخذناها على الإمام النووي فإنما ينبغي أن نأخذها على كثير من الإخوة السلفيين في هذه الأوقات، فكثير من الإخوة يقول لك: أعطني قميصك يا أخي! هذا بركة منك! أو دعني أشرب سؤرك هذا بركة منك! أو أنا وضعت قدمي مكان قدمك اقتفاء لأثرك وتبركاً بك! فهذا الكلام كله هو الكلام الذي أنكره السلف في مسألة التبرُّك، فأنت تقول أيها المسلم: أتمنى أن أحصل على كوفية أو عمامة أو قميص أو حذاء من أحذية الشيخ الفلاني أو الرجل العلاني. فهذه بركة منه! ومن الممكن أن تعتقد في والدك الصلاح، فتحجز آثاره بعد موته ثم لا تتصرف فيها عشرات الأعوام من باب التبرك بآثار الوالد، وبآثار الشيخ، وبآثار الزعيم وهلم جراً، فكل هذا مما أنكره كثير من السلف. وإذا كنا نعيب الآن على بعض أهل العلم أنهم تبنوا جواز التبرك بآثار الصالحين فإن كثيراً ممن يعيبون على الشيخ فلان أو الشيخ علان هذا الأمر إنما هم واقعون فيه. ومما خالف فيه الإمام النووي أيضاً عقيدة أهل السنة: ذكره للتأويل في صفة الغضب والرضا والسخط والكراهية، ورؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء، وذكر تأويله صفة النور وقوله: إن السلف يؤولون المعنى، وكذلك تأويله للصورة، وذكر تأويله الصورة والإتيان، وتأويله الضحك، وتجويزه قراءة القرآن على القبور، وتأويله الحب والبغض، وتأويله علو الله عز وجل، وتأويله النزول، وتأويله اليد، وشد الرحال إلى قبور الصالحين والمواضع الفاضلة أجازه الإمام النووي، وذكر تأويله دنو الله وقربه. وكذلك تكلم بكلام يخالف أهل السنة والجماعة في مصير أولاد المشركين في الآخرة. وتأويله الضحك، وكلامه في الخضر وما يتعلق به من المسائل، وكلامه في حرمة المشايخ من التبجيل والتعظيم الزائد، وذكر تأويله الأصبع، وقوله: إن الصفات من باب المتشابه أو من باب المجاز، وتأويله النفس، وذكر تأويله الفرح وسماع الأموات، وذكر تأويله الساق وغير ذلك من المسائل التي ينبغي أن توضح، وهذا ما يفتح الله عز وجل به علينا في أثناء الشرح إن كنا سنتعرض لشرح الإمام النووي على صحيح مسلم.

الأسباب التي أدت إلى وقوع الإمام النووي في مخالفة أهل السنة في بعض مسائل العقائد

الأسباب التي أدت إلى وقوع الإمام النووي في مخالفة أهل السنة في بعض مسائل العقائد أما الأسباب التي أدت إلى وقوع الإمام النووي في هذه الأخطاء فهي كثيرة: منها: أنه سار في شرحه في مسائل الصفات على نهج المازري، وكذلك على نهج القاضي عياض، وهذا الذي قلناه وصرّحنا به في درسنا، والإمام النووي لم يكن محققاً في باب العقائد؛ وذلك لانشغاله بالحديث وانشغاله بالفقه، فلم يكن بلغ مبلغاً متيناً في مسائل العقيدة أو كما يقولون: في أبواب الكلام أو مسائل الكلام. ذكرت مقولة في كتاب المهمات. قال: اعلم أن الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله حينما تأهل للنظر والتحصيل. أي أنه لم يتأهل بعد، ولكنه رأى من المسارعة إلى الخيرات أن جعل ما يحصله ويقف عليه تصنيفاً ينتفع به الناظر فيه، فجعل تصنفيه تحصيلاً، وتحصيله تصنيفاً. أي: أنه يعيب على الإمام النووي أنه بادر وسارع إلى الكتابة وإلى التصنيف والتأليف قبل أن يتأهل، خاصة في هذا العلم. وقد كتب الإمام النووي في الفقه وشرح كتب الصحيح كـ البخاري ولم يتمه، وكذلك صحيح مسلم وأتمه، وكان لزاماً عليه أن يتعرض لبعض المسائل العقدية خاصة في كتب الإيمان والتوحيد، وأن يتعرض إلى الاعتصام بالكتاب والسنة، فإنه تعرض لكثير من المسائل التي خالف فيها المبتدعة أهل السنة والجماعة. فقال: الإمام النووي لم يكن تأهل بعد للكتابة في هذه المسائل؛ فاستعجل وصنّف وكتب في هذا الباب ولمّا يتأهل بعد، فهذا الذي أوقعه فيما أوقعه فيه من شر، ومن مخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة. هذا كلام نستفيد منه أن المرء ينبغي عليه ألا يتعرض لهذا الأمر إلا بعد أن يتأهل لما يكتب ويصنّف، وكذلك إذا تأهل ينبغي عليه ألا يخرج إلى الناس بما عنده من علم وكتابة إلا بعد أن يجيزه الشيوخ، ورحم الله تعالى الإمام مالكاً حيث قال: ما جلست في مجلسي هذا -أي: مجلس الإفتاء- إلا بعد أن أجازني سبعون عالماً من أهل المدينة، بخلاف ما نحن عليه الآن، فإن هناك آلافاً من الإخوة يقولون لأخ مثلهم: أنت شيخ وأنت عالم وأنت محقق وأنت مدقق، وهذا بخلاف ما كان عليه أهل السنة سابقاً، فإنما كان يجيز العلماء التلاميذ، وأما الآن فإن التلاميذ يجيزون بعضهم البعض. قال: وأما الرافعي فإنه سلك مسلك الطريقة العالية -أي: المحمودة- فلم يتصدر للتأليف إلا بعد كمال انتهائه، أي: بعد تحصيله للعلم، وكذا ابن الرفعة رحمة الله عليهما. السبب الثالث هو: أن الإمام النووي عليه رحمة الله ولد في عصر قريب عهد بانتشار مذهب الأشاعرة، ومن المعلوم أن ظهور أي مذهب يجعل له الغلبة على عقول الناس خاصة إذا تبناه الحُكّام. فإن مذهب المعتزلة مثلاً حينما ظهر أقنع به أصحابه دولة بني العباس، فكان هذا سبباً لظهور مذهب الاعتزال، وأثر ذلك على أصحاب الحق كالإمام أحمد بن حنبل وغيره من علماء السنة، فعانوا ما عانوه، وقاسوا ما قاسوه بسبب نصرة الحكام لهذا المذهب، وفي هذا الزمان مذهب التصوف ومذهب التشيُّع كذلك منتشر لا أقول بسبب التبني، وإنما محمي عند الطلب إلى حد ما، فإنهم يقولون: احرسوا مولد السيدة زينب، احرسوا مولد الحسين، احرسوا مولد السيد البدوي، حتى يأتي هذه الموالد الملايين -فاجتماع هذه الملايين لا شك أن فيه فتناً عظيمة لعوام الناس ورعاء الناس وسقطهم. فكذلك مذهب الأشاعرة انتشر وفاح وذاع في عصر ولد فيه الإمام النووي وطلب فيه العلم، مما كان له التأثير العظيم على كثير من علماء ذلك الزمان، منهم عياض وأبو عبد الله المازري، ونحن نعلم أن الإمام النووي تأثر بهما أيما تأثر في شروحه وفي كلامه وفي عقيدته، بخلاف تلميذه ابن العطار فقد كان متأخراً عنه في السن، وتأثر بالإمام النووي تأثيراً عظيماً، حتى كان يقال عن ابن العطار: هذا مختصر النووي، أو هذا النووي الصغير. فالإمام ابن العطار تأثر بشيخه الإمام النووي، ولكنه تهيأ للإمام ابن العطار ما لم يتهيأ لشيخه الإمام النووي؛ وذلك لأن جُل شيوخ الإمام النووي من الأشاعرة فتأثر بهم، وهذا التأثر طبيعي، والإنسان جزء من مجتمعه، يتأثر ويؤثر، أما ابن العطار فقد تهيأ له من الشيوخ والعلماء ما لم يتهيأ لشيخه الإمام النووي، فقد تهيأ للإمام ابن العطار ابن تيمية عليه رحمة الله وكفى به، ولا أقول: إنه أدرك ابن تيمية، ولكني أقول: إنه تأثر به وبتلاميذه، منهم الإمام الذهبي، فقد كان الإمام الذهبي أخاً لـ ابن العطا

قواعد ينبغي أن يحرص عليها المرء في حكمه على أمر من الأمور

قواعد ينبغي أن يحرص عليها المرء في حكمه على أمر من الأمور وحتى نخلص إلى بيان موقفنا من تأويلات الإمام النووي والحافظ ابن حجر وغيرهما لا بد من تقعيد وتأصيل، وهذه القواعد وهذه الأصول كثيرة جداً ومردها إلى خمسة أصول لو علمناها لن نقع إن شاء الله فيما يقع فيه كثير من الناس، وخاصة الإخوة السلفيون الذين يطلقون ألسنتهم بغير علم، ولا خوف من الله عز وجل في كثير ممن تثار حولهم شبهة، وربما لا أصل لها ولا دليل عليها، ولكنها إشاعة قيلت فتلقفها كثير من الإخوة، ثم نشروها، وقديماً قالوا: لا تكون إشاعة عند المصريين إلا ولها ظل. أي: أن الإشاعة تكون أولاً ولا حقيقة لها، ثم يكون قدر الله عز وجل الكوني أن هذا الأمر لا بد أن يكون؛ وذلك لانتشاره وذيوعه عند الإخوة المصريين، ما دامت الإشاعة قامت فلا بد أن يكون هناك حقيقة لها حتى وإن لم يكن لها حقيقة في الأصل.

الخوف من الله عز وجل عند الكلام في الآخرين

الخوف من الله عز وجل عند الكلام في الآخرين فأما القاعدة الأولى التي ينبغي أن يحرص عليها المرء في حكمه على الرجال والأشخاص، وعلى الكتب والمصنفات، وعلى الجماعات، وعلى الأمم وغير ذلك هي: الخوف من الله عز وجل عند الكلام في الآخرين. حرّم الله عز وجل الغيبة في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال في كتابه: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات:12]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة عنه: (أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ذكرك أخاك بما يكره. قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته) أي: ظلمته وجرت عليه، والنبي صلى الله عليه وسلم حرّم ذلك في حجة الوداع كما ورد في حديث جابر بن عبد الله الأنصاري، وحديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا -أي: يوم عرفة- في شهركم هذا -أي: شهر ذي الحجة- في بلدكم هذا -أي: في بلد الله الحرام مكة المكرمة- قال: ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد). بل جاءت الأحاديث ببيان أشد مما سبق، فجعلت الخوض في عرض المؤمن أشد من أن ينكح الرجل أمه كما ورد في حديث البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الربا اثنان وسبعون باباً أدناها مثل إتيان الرجل أمه، وإن أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه) أي: أن تطلق لسانك في عرض أخيك. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره، ومن مات وعليه دين فليس بالدينار والدرهم ولكن بالحسنات والسيئات، ومن خاصم في باطل وهو يعلمه لم يزل في سخط الله حتى ينزع، ومن قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال وليس بخارج). وعن ابن عمر أيضاً رضي الله عنهما مرفوعاً قال: (يا معشر من أسلم بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه! لا تؤذوا المسلمين، ولا تعيروهم ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من تتبع عورة أخيه المسلم تتبّع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته). فهذه النصوص -في الحقيقة- كلها تدل دلالة واضحة على أنه ينبغي عليك أن تحرص على أن تراقب الله عز وجل في أقوالك وأفعالك، خاصة في التي لها تعلق بغيرك من بني البشر.

حسن الظن بالمسلم

حسن الظن بالمسلم والقاعدة الثانية التي ينبغي أن يضعها العبد نصب عينيه عند الكلام في الآخرين: هي حسن الظن بالمسلم، أي: تقديم حسن الظن على سوء الظن، وقديماً قال الإمام محمد بن سيرين: احمل أخاك على أحسن الوجوه، حتى إن لم تجد له مساغاً فقل: لعل له عذراً، فإن لم تجد عذراً قط فقل: لعل له عذراً لا أعلمه. وهذا لا شك باب عظيم من أبواب تقديم حسن الظن بالمسلمين. فالأصل في هذه القاعدة -وهي تقديم حسن الظن بالمسلمين- قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12] أي: إن بعض هذا الكثير إثم، فمن أساء الظن بإخوانه فلا شك أنه قدّم هنا سوء الظن في إخوانه. وهناك حديث ضعيف جداً، بل قيل: إنه موضوع بلفظ: (سوء الظن عصمة) نعم. وإن كان هذا حديثاً لا يثبت ولا يصح إلا أنه كلام صحيح المعنى مع الأعداء والمنافقين، فسوء الظن بهم عصمة من شرورهم وفتنتهم، أما في المسلمين فالأصل حسن الظن بهم. وأمر المسلم في الأصل قائم على الستر وحسن الظن؛ ولذلك أمر الله عز وجل المؤمنين بحسن الظن عند سماعهم لقدح في إخوانهم المسلمين، بل وشدد النكير على من تكلم بما سمع من قدح في إخوانه دون تثبت ولا روية.

الكلام في الناس بعلم وعدل وإنصاف

الكلام في الناس بعلم وعدل وإنصاف القاعدة الثالثة هي: الكلام في أعراض الناس ينبغي أن يكون بعلم وعدل وإنصاف، والأصل في هذه القاعدة قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة:8]، وقال الله تعالى: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الأعراف:85] ونحو ذلك من الآيات. الإمام ابن جرير الطبري عليه رحمة الله يقول في تفسير هذه الآية: يعني بذلك جل ثناؤه: يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله محمد! ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام لله شهداء بالعدل في أوليائكم وأعدائكم، ولا تجوروا في أحكامكم وأفعالكم فتتجاوزوا ما حددت لكم في أعدائكم لعداوتهم لكم، ولا تقصّروا فيما حددت لكم من أحكام وحدود في أوليائكم لولايتهم لكم، ولكن انتهوا فيه إلى حدي واعملوا فيه بأمري. فكأن الله عز وجل يوجه المؤمنين إلى أن يقوموا بالعدل والإنصاف والحكمة سواء مع الكفار أو مع المسلمين، وأما قوله: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8]، فإنه يقول: ولا يحملنكم عداوة قوم على ألا تعدلوا في حكمكم عليهم وفي رأيكم فيهم، فتجوروا عليهم من أجل ما بينكم من العداوات، ولكن الزموا العدل والإنصاف. وشيخ الإسلام ابن تيمية يقول: والكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل، قوله: (بعلم) أي: بتثبت وروية وبيان قبل أن تنطلق الألسنة، لا بجهل وظلم كحال أهل البدع. ولذلك أهل البدع يقولون: إن أهل السنة والجماعة أرحم لنا من رحمة بعضنا البعض؛ لأن أهل البدع أهل ظلم وجور وطغيان وبغي، حتى على بعضهم البعض إذا انفردوا، وأما أهل الإسلام وأهل السنة والجماعة فإنما بعثهم الله تعالى رحمة للخلق جميعاً، كما بعث الأنبياء رحمة للخلق جميعاً؛ لأن أهل السنة والجماعة إنما هم امتداد للدعوة وللرسالة التي أرسل الله بها الأنبياء والمرسلين من نوح عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء. قال الذهبي رحمه الله تعالى في ترجمة الفضيل بن عياض: إذا كان مثل كبراء السابقين قد تكلم فيهم الروافض والخوارج، ومثل الفضيل يتكلم فيه! فمن الذي يسلم من ألسنة الناس؟ لكن إذا ثبتت إمامة الرجل وفضله، لم يضره ما قيل فيه، وإنما الكلام في العلماء مفتقر إلى وزن بالعدل والورع. ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلام نفيس جداً يتضح فيه منهج أهل السنة والجماعة في النقد والحكم على الآخرين، ولا ريب أن من اجتهد في طلب الحق والدين من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخطأ في بعض ذلك فالله تعالى يغفر له خطأه. فالذي يجتهد وينوي أن يصل إلى حقيقة الأمر، وإلى مرضاة الله عز وجل، ومرضاة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكنه يخطئ الطريق ويصل إلى نتيجة غير مرضية عند الله عز وجل وعند رسوله، فلا شك أن هذا مجتهد مأجور إن كان من علماء الاجتهاد، فمثل هذا غداً يغفر الله له، فليس من طلب الحق فأخطأه كمن تحرى الباطل فأصابه. وهذا كلام ينبغي أن يُحفظ: (ليس من تحرى الحق فأخطأه كمن تحرى الباطل فأصابه) فإن الثاني من أهل البدع والأول من أهل الحق، وإن خالف الحق فيما اجتهد فيه. ومن خلال النصوص السابقة نعلم أنه لا يجوز للإنسان أن يتكلم في غيره إن احتاج إلى ذلك من جهة الشرع إلا بعلم وعدل وإنصاف، فالله تعالى يقول: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36] ومن تكلم في غيره بظلم وزور فقد خالف قول الله عز وجل: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8] والمقصود بالعدل في وصف الآخرين: هو العدل في ذكر المساوئ والمحاسن، فإذا ذكرت مساوئه فلا تنس محاسنه وفضائله والموازنة بينهما. وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون) فإن أخطأ المرء وتاب فلا تذكر له خطأه وتنسى توبته؛ لأن التوبة تجب ما كان قبلها، والإسلام يجب ما كان قبله، والهجرة تجبُّ ما كان قبلها، والحج يجب ما كان قبله أليست كل هذه مكفّرات؟ فالتوبة مكفّرة، فلا أحد يسلم من الخطأ، فلا ينبغي أن تُدفن محاسن المرء لخطئه، كما أن الماء إذا بلغ القلتين لم يحمل خبثاً. ولذلك ينبغي للمسلم إذا وصف غيره ألا يغفل عن المحاسن لوجود بعض المساوئ، كما لا ينبغي أن يدفن المحاسن ويذكر المساوئ لوجود عداوة أو بغضاء بينه وبين من يصفه، فالله عز وجل قد أدّبنا بأحسن أدب وأكمله؛ فقال سبحانه: {وَلا تَبْخَسُوا ال

العبرة بكثرة الفضائل

العبرة بكثرة الفضائل أما القاعدة الرابعة التي ينبغي أن يلتزمها العبد في الحكم على الآخرين فإنها: العبرة بكثرة الفضائل. وهذا كلام في مجمله: أن كل إنسان له خير وشر، فإن غلب خيره على شره غُفر له شره، وإن غلب شره على خيره دل على فساد نيته وسوء طويته، فلا شك أن من غلب شره كان الأصل فيه الشر، فإنه لا يُغفر له ذلك، وأما إذا غلب خيره على شره فإنه من أهل الصلاح وأهل السنة، يتمنون له ويرجون الله عز وجل أن يغفر له هذا الذي وقع فيه من باطل وشر. يقول ابن رجب الحنبلي رحمه الله: والمنصف من اغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه. وكلمة ابن رجب هي بمثابة المنهج الصحيح في الحكم على الشخص، ومنهج السلف هو اعتبار الغالب على المرء من الصواب والخطأ، والنظر إليه بعين الإنصاف. والإمام الذهبي يقول: ونحب السنة وأهلها، ونحب العالم على ما فيه من الاتباع والصفات الحميدة، ولا نحب ما ابتدع فيه بتأويل سائغ، وإنما العبرة بكثرة المحاسن. وقال أبو الحسن الصفار: سمعت أبا سهل الصعلوكي، وسئل عن تفسير أبي بكر القفال؟ فقال: قدّسه من وجه، ودنسه من وجه. فلو نحن سألناك مثلاً عن تفسير الفخر الرازي قلنا لك: الفخر الرازي معتزلي، فما بالك بتفسيره؟ تقول: لن نقبله، بل إن الرازي يلف في خرقة ويلقى في الجحيم؛ لأنه معتزلي. انظر إلى هذا الرجل قال: قدّسه من وجه ودنّسه من وجه، أي: أنه ذكر فضله أولاً، وما أصاب فيه أولاً، ثم ذكر بعد ذلك مساوئه، فقال: قدّسه من وجه ودنّسه من وجه، أي: دنسه من جهة نصره للاعتزال. الذهبي يقول: والكمال عزيز، وإنما يُمدح العالم بكثرة ما له من الفضائل، فلا تُدفن المحاسن لورطة، ولعله رجع عنها، وقد يغفر الله له لاستفراغه الوسع في طلب الحق. ولا قوة إلا بالله. فالإمام الذهبي له أسلوب في سير أعلام النبلاء أو في التاريخ الكبير في الكلام عن العلماء المبتدعين بالذات من أهل البدع والزيغ والضلال، كـ ابن عربي مثلاً، فـ ابن عربي لا يحتمل إنسان منا أن يقرأ كلامه، لكن الذهبي في التاريخ الكبير يقول: نحن نبغضه ولا نحبه، ونخالفه ولا نوافقه، ولكن لعله تاب قبل أن يموت. وأنا أقول هذا القول أيضاً في أبي حامد الغزالي، فإن أول قراءتك كتاب جزء الاعتقاد وإحياء علوم الدين: تقول: هذا الكلام لا يقوله إلا إنسان كافر، ولكن لو نظرت إلى كلام النقاد المحققين لوجدت الأمر فيه عجلة وسرعة، فهناك أعذار كثيرة جداً قد قدّمها العلماء المحققون في أمثال أبي حامد وابن عربي وغيرهم، فهناك أئمة كبار عظام في مذاهبهم قد تكلم عنهم الذهبي بكلام، فتجد، لو ذُكر لك ابن عربي تقول: ذلك الغبي، ذلك الكافر، فنحن نعلم أنه مبتدع، لكن على أية حال هو من أهل الذكاء ومن أهل العلم، وإنما خالف عقيدة أهل السنة، والله عز وجل يتولى الناس برحمته وفضله. وقال الإمام الذهبي في ترجمة ابن حزم: وصنّف في ذلك -أي: في نفي القياس- كتباً كثيرة وناظر عليه، وبسط لسانه وقلمه، ولم يتأدب مع الأئمة في الخطاب، بل فجج العبارة، وسب وجدع، فكان جزاؤه من جنس فعله، بحيث إنه أعرض عن تصانيفة جماعة من الأئمة، وهجروها ونفروا منها، وأُحرقت كتبه في وقت، واعتنى بها آخرون من العلماء، وفتشوها انتقاداً واستفادة، وأخذاً ومؤاخذة، ورأوا فيها الدر الثمين ممزوجاً في الرصف بالخرز المهين، فتارة يطربون، وتارة يعجبون، ومن تفرده يهزءون. وفي الجملة فالكمال عزيز، ويحسن النظم والنثر. وفيه دين وخير؛ لأنا رأينا شيخاً أمسك ابن حزم وقال فيه كلاماً لا يجرؤ أن يقوله في البابا. قال: وفيه دين وخير، ومقاصد جميلة، ومصنفاته مفيدة، وقد زهد في الرئاسة، ولزم منزله مكباً على العلم، فلا نغلو فيه، ولا نجفو عنه، وقد أثنى عليه قبلنا الكبار. الإمام ابن حزم إذا قرأت مصنفاته وكانت لك معه معاناة وقراءة وطول بحث في كتبه لأقسمت غير حانث أنه ما صنّف كتبه إلا لأجل إثبات أنه ما من مسألة في دين الله عز وجل إلى وعليها دليل، وهذا شرف يكفيه، أنه يدلك على أنه ما من مسألة في عقيدتك ولا مسلكك ولا أخلاقك ولا زهدك ولا ورعك ولا فقهك إلا وعليها دليل من كلام الله عز وجل، أو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، أو من كلام الصحابة المجمع عليهم.

التفريق بين من يبتغي الحق ويخطئه وبين من يبتغي الباطل ويصيبه

التفريق بين من يبتغي الحق ويخطئه وبين من يبتغي الباطل ويصيبه وننتقل إلى القاعدة الخامسة التي ينبغي أيضاً أن يلتزمها العبد في الحكم على الآخرين، فهي: معاملة من أخطأ في طلب الحق، كيف نتعامل مع من طلب الحق فأخطأ فيه؟ إن واقعنا العملي يوضح لنا أن الذي يبتغي الحق ويخطئ فيه كالذي يبتغي الشر ويصيبه، وهذا هو منهجنا وحياتنا العملية، لكن السلف كانوا على غير ذلك تماماً، فإن من تحرى الحق وأخطأ فيه ليس كمن تحرى الباطل فأصابه، يقول الله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286]، فالله عز وجل قد علّم المؤمنين من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعوه بهذا الدعاء، علّمهم وأدّبهم كيف يدعون ربهم، وكأنه قال: قولوا: ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، أي: لا تأخذنا بذنبنا إذا كان هذا الذنب مبعثه الخطأ والنسيان، وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تجاوز لأمتي عمّا حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل). وثبت عن ابن ماجه وابن حبان وغيرهما من حديث أم الدرداء وغيرها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)، وفي رواية أم الدرداء: (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان والاستكراه)، وهذا معنى قوله عز وجل: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة:286] إلى آخر الآيات، وفي صحيح مسلم ومسند الإمام أحمد من حديث أبي هريرة ومن حديث ابن عباس أن الله عز وجل قال عند كل دعاء من هذا: قد فعلت، أو قال: نعم. {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}، قال: قد فعلت، ((رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا))، قال: قد فعلت، ((رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ))، قال: قد فعلت، {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:286]، قال: قد فعلت، وفي رواية عند مسلم قال: نعم. فهذا يدل على أن الله عز وجل يغفر المعاصي إن صدرت عن خطأ أو عن نسيان وجهل. ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ولا ريب أن من اجتهد في طلب الحق من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم وأخطأ في بعض ذلك، فالله يغفر له ذلك تحقيقاً للدعاء الذي استجابه الله عز وجل لنبيه وللمؤمنين: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286]. ثم يقول: فإن اجتهد الإنسان في طلب الحق من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخطأ في ذلك؛ فهو مغفور له بنص الآية السابقة، كما أنه إذا استفرغ العالم وسعه في طلبه للحق من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخطأ في بعض مسائل الاعتقاد فإنه لا يبدّع ولا يهجر من أجل خطئه، وإن كان يقال: إن قوله قول مبتدع، ومن هنا تعلم أنه لا تلازم بين البدعة وبين فاعلها؛ لأنه قد يفعل المرء فعلاً هو من أفعال أهل البدع، ولكنه لا يدري ولا يعلم أن هذا الفعل أو هذا القول هو من أفعال المبتدعة أو أقوالهم. فالذي يقول مقولة أهل البدع، أو يفعل فعل أهل البدع لا يبدّع ولا يُهجر إلا بتحقق الشروط وانتفاء الموانع من قيام الحجة عليه، وتبليغ العلم إليه، وانتفاء الجهالة، وانتفاء الإكراه وغير ذلك مما يمكن أن يتصور أنه ما وقع فيما وقع فيه إلا نتيجة الجهل مثلاً أو نتيجة الإكراه وغير ذلك، أو النسيان أو الخطأ أو التأويل، فربما وقع هذا من باب التأويل. والتأويل عند العلماء له أيضاً شروط وأحكام لعلنا نتعرض لها في أثناء شرحنا للصحيح. قال: فكما أن القول الكفر لا يلزم منه أن يكون صاحبه كافراً، فكذلك لا يلزم أن يكون قائل البدعة مبتدعاً. يعني: ربما يتلفظ المرء بقولة هي قولة كفر، لكن هذا لا يلزم منه أن يكون القائل كافراً، إلا إذا تحققت الشروط وانتفت الموانع، ولو أننا كلما أخطأ الإمام في اجتهاده خطأ مغفوراً له فيه، لاستفراغ الوسع في طلبه للحق ومن مصادره الصحيحة قمنا عليه وبدّعناه وهجرناه لما سلم لنا كثير من العلماء. ولو أن كل إنسان أخطأ رُد كله، لكان أول المردودين أنت. وقال الشاعر: من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط وأما من أخذ دينه من غير جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخذ دينه من طريقة أهل الكلام، من طريقة المتصوفة، أو من المعتزلة أو الأشاعرة، أو الماتريدية، وغير ذلك من المذاهب والفرق الضالة، فلا شك أنه يأخذ دينه من غير جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، فمن فعل ذلك فهذا مبتدع في مصدره وفي قوله ومعتقده. يقول الإمام

قد يبرع أحدهم في مسألة معينة ولا يبرع في مسألة أخرى

قد يبرع أحدهم في مسألة معينة ولا يبرع في مسألة أخرى وأما القاعدة السادسة وهي آخر القواعد: فقد يبرع أحدهم في مسألة معينة ولا يبرع في مسألة أخرى، يبرع أحد العلماء في علم دون علم آخر، فيفيد هنا ولا يفيد هناك، فيصيب هنا ويخطئ هناك، وهذا ما قررناه في منهج الإمام النووي، فإنه برع في مسألة الفقه ومسألة الحديث، ولكنه لم يبرع في مسألة الكلام في العقيدة ولا في مسائل الأصول. فقال: فقد يبرع أحدهم في العلم، والآخر في الجهاد، والآخر في الدعوة وهكذا. يقول الإمام الذهبي: والكتابة مسلمة لـ ابن البواب كما أن أقرأ الأمة أبي بن كعب، وأقضاهم علي، وأفرضهم -أي: أعلمهم بالفرائض- زيد بن ثابت، وأعلمهم بالتأويل -أي: التفسير- ابن عباس، وأمينهم -أمين هذه الأمة- أبو عبيدة، وعابرهم محمد بن سيرين -أي: الذي يعبر الرؤيا ويفسّرها- وأصدقهم لهجة أبو ذر، وفقيه الأمة مالك، ومحدثهم أحمد بن حنبل، ولغويهم أبو عبيد، وشاعرهم أبو تمام، وعابدهم الفضيل بن عياض، وحافظهم سفيان الثوري، وأخباريهم الواقدي، وزاهدهم معروف الكرخي، ونحويهم سيبويه، وعروضيهم الخليل، وخطيبهم ابن نباتة، ومنشئهم القاضي الفاضل، وفارسهم خالد بن الوليد رحم الله تعالى الجميع ورضي عنهم. فينبغي في هذا الأصل أن يعنون ويبوّب بباب يجب إعطاء كل ذي حق حقه، فهذه هي القواعد التي ينبغي أن يشار إليها، وأن يرجع إليها في الحكم على الآخرين.

القول الفصل في الإمام النووي

القول الفصل في الإمام النووي إذا علمنا هذا فينبغي أن نرجع إلى خاتمة درسنا في هذه الليلة وهو ما موقفنا من الإمام النووي؟ بعد هذه القواعد وهذه الأصول، وهذه الأعذار التي يجب أن تلتمس من حسن الظن، والخوف من الله عز وجل، ما عقيدتنا؟ وما هو القول الفصل في الإمام النووي عليه رحمة الله تبارك وتعالى. على أية حال الإمام النووي لا يحتاج منا إلى مدح وثناء، فما من إنسان ترجم له إلا ومدحه وأثنى عليه خيراً، وكتب الله عز وجل له القبول في مصنفاته؛ فانتشرت في حياته في ربوع الأرض شرقاً وغرباً، فهو لا يحتاج منا إلى مدح، ومن نحن حتى نمدحه؟ ولكن في هذا المقام لا بد أن ننبه إلى مسألة عظيمة من المسائل المهمة: وهي أن الله عز وجل قد أيد هذا الدين برجال ذبّوا عنه في مختلف الميادين في الجهاد والدعوة والعلم وإن كانوا قد انحرفوا قليلاً أو كثيراً عن مسلك ومعتقد أهل السنة. فأضرب لذلك مثالاً بالإمام أبي بكر البيهقي عليه رحمة الله، ذلك المحدّث الفقيه الجليل. فقيل في حق البيهقي: إن الشافعي عليه رحمة الله له فضل على كل من تشفّع -يعني: الإمام الشافعي فضله وختمه واضح على كل من اتبع مذهبه- إلا الإمام البيهقي؛ لأنه هو الذي نشر ونصر مذهب الإمام الشافعي في الفقه والحديث، وصنّف فيه المصنفات العظيمة جداً، كما صنّف ابن عبد البر في مذهب الإمام مالك، وكما صنّف السرخسي في مذهب الإمام أبي حنيفة، وكما صنّف ابن قدامة وغيره في مذهب الإمام أحمد بن حنبل، فهؤلاء طلاب وتلاميذ لهؤلاء الأئمة العظام إنما هم الذين نشروا مذاهبهم. هذا الإمام البيهقي أيضاً كان فيه بعض انحراف عن عقيدة أهل السنة، وكذلك ابن عساكر الذي صنّف مصنفات لا يمكن لمن سبقه ولا لمن أتى من بعده أن يصنّف مثلها، وكفاه شرفاً وفخراً وفضلاً أنه صنّف كتاب التاريخ، ولو طُبع هذا الكتاب طبعة كاملة لبلغ مائتي مجلد أو أكثر من ذلك. وكذلك العز بن عبد السلام، ومعلوم جرأته وشجاعته في الحق، والتزامه السنة ومذهب المحدثين إلا أنه كان أيضاً يخالف إلى مذهب الأشاعرة في كثير من الأحيان، ولنا أسوة بسلفنا الصالح والأئمة، فإنهم رووا عن الكثير من المبتدعة أحاديث؛ لعلمهم أنهم أصحاب عدل وإنصاف وصدق وأمانة، ونجتنب التشهير والتطويل. قال: فإن هذا ليس من منهج السلف وإنما نكتفي ببيان بدعته وردها إذا تعرضنا لها، أي إذلالنا واحترامنا لأهل العلم الذين انحرفوا عن منهج السلف أحياناً لا يحملنا على أن نقبل كل ما أتوا به، وإنما من نصيحتنا لهؤلاء ومن نصيحتنا لديننا ولعلمنا ولمن يتعلم منا أن نأخذ ما وافقوا فيه الحق وأن نرد ما خالفوا فيه الحق، وهذا كله في حق العالم إذا لم تغلب عليه البدع والأهواء، وعلمنا منه حرصه على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وتحري الحق من الكتاب والسنة، إلا أنه لم يصبه بشبهة ما أو غير ذلك، وهكذا يكون الأمر مع النووي. إذاً: الإمام النووي كان يتحرى الحق، ولكنه كان يجانبه أحياناً، فلا يأتي أحد فيقول: الإمام النووي أشعري أو الإمام النووي من أهل البدع، والحافظ ابن حجر من أهل البدع، فوالله لقد بلغني أن شخصاً يقول: إن المجلد الأخير من فتح الباري ينبغي أن يحرق أو يلقى في المزابل، وأنا أتصور أنه من حقي الآن أن أقول: إنه فلان من الناس، ولكني أتوقف في هذا وإن كان قد بلغني هذا القول عن ذلك القائل بالخبر المتواتر، ولكني أتورع عن نسبة هذا القول إليه الآن والحذر منه؛ لكوني لم أسمعه شخصياً، فالمقولة التي قيلت في الإمام ابن حجر بسبب موافقته أحياناً للأشعرية عن خطأ أو تأويل مقولة فيها فظاظة وجهالة وسوء خلق وسوء أدب مع علمائنا الأفاضل الكبار العظام. ويكفي الحافظ ابن حجر كتاب الفتح إن لم يكن له غيره، فإنه والله منَّ الله عليه، وفتح عليه وعلى هذه الأمة، ولن يتناول أحد صحيح البخاري بالشرح والبيان والتفصيل بمثل ما تناوله الحافظ ابن حجر، فعلى الجميع رحمة الله تبارك وتعالى. ونختم بكلام لـ شيخ الإسلام نفيس غاية النفاسة، ذكر فيه الحكم على العالم المتأول الذي من عادته وديدنه الوقوف عند الحق، ولكن لم يصبه في بعض الأمور. قال: وليس لأحد أن يتبع زلات العلماء بل ولا رخص الفقهاء، يعني: إذا كان لا ينبغي لك أن تتبع رخص الفقهاء، فمن باب أولى لا ينبغي لك أن تتبع الزلات، وهي السقطات التي خالفت الحق مخالفة صريحة، ويعجبني رسالة صُنّفت بعنوان: (زجر السفهاء عن تتبع رخص الفقهاء)، وسموه سفيهاً، وما أكثر السفهاء في هذا الزمان، تجد من يستفتيك في مسألة فتقول له: مكروه أو حرام، ف

كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها - نعيم الجنة وصفة أهلها [1]

شرح صحيح مسلم - كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها - نعيم الجنة وصفة أهلها [1] الفقراء والضعفاء والمساكين من المؤمنين هم أهل الجنة، وكل مؤمن لا يشرك بالله شيئاً، ولأهل الجنة فيها أن ينعموا فلا يبأسوا أبداً، وأن يشبوا فلا يهرموا أبداً، وأول زمرة يدخلون الجنة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم هم المهاجرون الأولون، ومن أمة محمد سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فينبغي للمسلم أن يدعو الله تعالى أن يجعله من أهلها الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

سؤال الله الجنة والاستعاذة من النار

سؤال الله الجنة والاستعاذة من النار إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أما بعد: فلا زال الكلام موصولاً عن الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ما من مسلم يسأل الله تعالى الجنة ثلاثاً إلا قالت الجنة: اللهم أدخله الجنة، وقالت النار: اللهم أجره مني)، فإننا نسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يدخلنا الجنة، اللهم أدخلنا الجنة، اللهم أدخلنا الجنة، اللهم أدخلنا الجنة، وأن يجيرنا من النار، اللهم أجرنا من النار، اللهم أجرنا من النار، اللهم أجرنا من النار، وهذه شفاعة للعبد المؤمن إذا قدم السبب، ومعلوم أن الاعتماد على السبب شرك بالله عز وجل، وترك الأسباب قدح في التوحيد، ولو أنك اعتمدت أن هذا الطعام هو الذي يشبعك فهذا شرك بالله؛ لأن الطعام ما هو إلا سبب، وكذلك المرأة أنت تزوجتها التماساً للولد ولا يلزم من ذلك وجود الولد، فكم من رجل تزوج لينجب وليكون له الولد ولم يأت الولد، ولكنه التمس السبب وأدى ما عليه، وكذلك المرء إذا عطش شرب ومع هذا هو يشرب ثم يشرب ثم يشرب ولا يشعر بالري؛ لأن الله لم يروه. فكونك تأتي بالسبب هذا أمر واجب، أما أن تعتمد عليه وتعتقد أن هذا السبب هو الموصل للغرض بغير مراد الله عز وجل ومشيئته فهذا شرك بالله عز وجل، فالاعتماد على الأسباب والتوكل عليها، والظن أن لها تأثيراً فعالاً بطبيعتها كما قال عليه الصلاة والسلام: (ماء زمزم لما شرب له)، وقال: (ماء زمزم طعام طعم، وشفاء سقم)، يعني: من شربه ليطعم ويشبع كان ذلك، ومن شربه ليشفى من علته كان ذلك، فمن تصور أن هذا الماء يقوم بهذا الدور بطبيعته بغير إرادة الله له وأمر الله له فلا شك أن هذا باب من أبواب الشرك، فالاعتماد على الأسباب شرك بالله، وترك الأسباب قدح في التوحيد. فمثلاً: لا أحد يقول في هذا الوقت: الله قادر على أن يرزقني الولد من غير زواج، أليس كذلك؟ يقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:20]، ومن كمال قدرته سبحانه وتعالى أنه خلق آدم من غير أب ولا أم، وخلق حواء من ضلع آدم، وخلق عيسى من غير أب؛ وهذا يعني أنك تترك الأسباب، والله تعالى قدر ذلك لحكمة عظيمة علمها من علمها وجهلها من جهلها، وهذا لا يعني أن تترك أنت الأسباب، وتقول: الله تعالى قادر على أن يطعمني ويسقيني وأنا لا آكل ولا أطعم، نعم. الله تعالى قادر على أن يجعلك ممتلئاً دائماً بغير طعام ولا شراب، لكن القادر على ذلك هو الذي أمرك أن تأكل وأن تشرب التماساً للسبب، وأنت بإمكانك أن تأكل ولا تشبع، وتشرب ولا تروى إلا أن يطعمك الله ويسقيك الله عز وجل. فكذلك من أسباب دخول الجنة: أن من سأل الله الجنة ثلاثاً، واستعاذ من النار ثلاثاً كانتا له شفيعاً، الجنة تقول: (اللهم أدخله الجنة)، والنار تقول: (اللهم أجره مني). ولذلك روى أنس مرفوعاً، أي: من قوله عليه الصلاة والسلام، وموقوفاً: أي: من قول الصحابي، ومقطوعاً من قول التابعي فمن دونه. والمرفوع: من الرفعة وعلو الشأن، أي: من قول النبي صلى الله عليه وسلم، أما إذا كان أدون من ذلك وأقل من ذلك فنقول عنه: أثر، والأثر مما جاء عن الصحابة. وحديث أنس المرفوع هو: (من سأل الله الجنة ثلاث مرات قالت الجنة: اللهم أدخله الجنة، ومن استجار من النار ثلاثاً قالت النار: اللهم أجره مني)، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه هو نفس المعنى لكن بلفظ آخر، فقد جاء عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (احتجت الجنة والنار) يعني: اختلفتا، وتحاجتا، كل منهما قدمت حجتها، وقدمت ما لديها من أقوال، (فقالت النار: يدخلني الجبارون والمتكبرون)، وهم أهل النار وسكانها أعاذنا الله منها، (وقالت الجنة: يدخلني الفقراء، والضعفاء، والمساكين)، غالب أهل الجنة، كما أن غالب أهل النار الجبارون والمتكبرون، (فقال للنار -أي: الله عز وجل قال للنار- أنت عذابي أعذب بك من شئت، وقال الله تعالى للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من شئت)، فالنار هي عذاب الله تعالى، والجنة هي رحمة الله تعالى ونعمته لبعض عباده، وهذا الحديث في الصحيحين.

أهل الجنة وأهل النار

أهل الجنة وأهل النار وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كنت على باب الجنة -أي: وقفت على باب الجنة- فإذا عامة من يدخلها الفقراء والمساكين)، الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء من المؤمنين والموحدين بنصف يوم وهو خمسمائة عام، وإنما يحبس الأغنياء للحساب: من أين اكتسبت؟ وفيما أنفقت؟ والحديث كذلك في الصحيحين. [وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أخبركم بأهل الجنة؟ -التقدير: قالوا: بلى- قال: هم الضعفاء والمساكين)]، ولا يعني ذلك أن الأقوياء الأفذاذ لا يدخلون الجنة، وإنما المقصود: أن الضعفاء يدخلون الجنة أولاً، فهم أول ثلة وزمرة يدخلون الجنة، فالجنة هي دار الأتقياء، وأهل الإيمان والإسلام منهم القوي والضعيف، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير)، وسمى النبي صلى الله عليه وسلم ما عند القوي والضعيف خيراً أي من الإيمان، قال: (وفي كل)، أي: في القوي والضعيف من الإيمان خير، فالجنة لأهل الإيمان كما قال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده لا يدخل الجنة نفس منفوسة إلا نفس مسلمة)، وفي رواية: (مؤمنة)، وهذا قد ذكرناه في الدرس الماضي. [وقال عليه الصلاة والسلام: (ألا أدلكم على أهل الجنة)] وكلمة (ألا أدلكم) من أساليب التشويق في اللغة العربية وهي بمعنى: ألا أخبركم، ألا أنبئكم، ألا أحبوكم، فلابد أن هذا الأسلوب إنما يسترعي انتباه الناس، بحيث تكون حواسهم كلها مجتمعة لسماع ما يدلهم عليه المخبر بذلك [قال عليه الصلاة والسلام: (ألا أدلكم على أهل الجنة -والتقدير: بلى يا رسول الله- قال: كل ضعيف متضعف)] والضعيف بمعنى: المتذلل، الخاضع لله عز وجل لا لأحد من العباد، إنما لله عز وجل، فالمرء عنوان إسلامه واستسلامه لله عز وجل أن يضع هامته وهي أعلى شيء فيه في الطين والوحل سجوداً لله عز وجل، وهذا دليل الذل والخضوع والقرب من الله عز وجل، فإذا كان هذا من المسلم لله عز وجل، فهذا عنوان صدق إيمانه، وإخلاصه لله عز وجل. أما من أبى أن يسجد كما أبى المشركون، لما قرأ النبي عليه الصلاة والسلام سورة النجم فسجد المشركون وسجد المسلمون، إذعاناً لله عز وجل، أما المؤمنون فلهم وجه في سجودهم، والمشركون لهم وجه آخر لا يدخلهم هذا الوجه في الإيمان والإسلام، ولكنهم ذهلوا تماماً لما سمعوا هذه الآيات العظيمة فسجدوا لما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم قد سجد، إلا واحداً أبى أن يسجد، وأخذ كفاً من حصى فوضعه عند جبهته فأذله الله عز وجل، فعنوان الذل والخضوع لله عز وجل والتضعف أن يسجد المرء لله عز وجل وأن يجعل هامته -التي هي شرفه، وأعلى شيء فيه- في الطين، والوحل، والتراب لله عز وجل. [قال: (ألا أدلكم على أهل الجنة، كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره)] إن عامة الناس خير من كثير ممن يشار إليهم بالبنان، فلو أتينا برجل علم من أعلام الناس، وأتينا بهذا الخادم الذي يخدم المسجد الذي لا أعرف اسمه، وأنا أظن أنه أقرب إلى الله عز وجل من ملء الأرض مثلي، وأنا أطلب منه الدعاء في الذهاب والمجيء؛ لعلمي أنه ضعيف متضعف ربما لو أقسم على الله لأبره. وكان معنا في بلاد الشام رجل لا يترك طاعة إلا وله فيها سبق عظيم لكن لا يؤبه له، وأحياناً يكون الإنسان بينه وبين ربه عمار والناس لا ينتبهون إليه، حتى لا نعقد قلوبنا على أن أعلام الناس هم الذين يعلمون الناس، أو الواسطة بين الخلق وبين العباد، فربما ينفعك من عامة الناس ما لا ينفعك من أعلامهم. كان هذا الأخ ضعيفاً متضعفاً، وكان في الغالب إذا ذهب إلى أخ أو شيخ أو غير ذلك أغلق الباب في وجهه، وكنت إذا وقعت في ضائقة والله لا أجد باباً مفتوحاً إلا باب هذا الأخ، فإذا ذهبت إليه فلا أغادره إلا وقد انكشفت عني الغمة، فكنت أقول دائماً إذا لقيته: (رب عبد مدفوع بالأبواب، أشعث أغبر، لو أقسم على الله لأبره)، ولا زلت أعتقد هذا في الأخ لفرط تقواه وصلاحه، والله تعالى حسيبه. فالنبي عليه الصلاة والسلام دائماً يحذرنا من الاستهانة بالمعروف وإن قل، ويحذرنا كذلك من الوقوع في المعصية وإن دقت، فالطاعة مهما قلت فهي من أعظم أسباب الفشل والرجوع إلى القهقرى والاستهانة بسلاح العدو، والاستهانة بما عند العدو، حتى وإن لم يكن على شيء فينبغي احترام كونه عدواً، ومن احترامه إعداد العدة له مهما بلغ في الضعف، فلابد أن أظن أنه في قمة القوة والنشاط والمواجهة حينئذ إذا لقيته نجحت معه في هذا اللقاء. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ سراقة رضي الله عنه: (ألا أخبرك بأهل الجنة وأهل النار؟ قال: قلت: بلى يا رسول الله، قال: أما أهل الجنة فالضعفاء المغلوبون) أي: المظلومون، (وأما أهل النار فكل جعظري، جواظ، مستكبر)، الجعظ

النبي أول من يقرع باب الجنة وأمته أول الأمم دخولا الجنة

النبي أول من يقرع باب الجنة وأمته أول الأمم دخولاً الجنة [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، ونحن أول من يدخل الجنة)]، (نحن الآخرون) أي: نحن آخر أمة في الأمم، وإن كنا أسبق الأمم يوم القيامة، قال: (نحن الآخرون الأولون)، الآخرون في الأمم الأولون يوم القيامة، أول الأمم تحاسب، وأول الأمم تدخل الجنة، وكل الأمم تدخل من بعد أمة النبي محمد عليه الصلاة والسلام، ولا يدخل الجنة قط أحد قبل نبينا عليه الصلاة والسلام، وهو أول من يقرع باب الجنة. [وقال عليه الصلاة والسلام: (أنا أول من يقرع باب الجنة)، يعني: يدق باب الجنة، (فيقول الخازن -أي: خازن الجنة- من أنت؟ فأقول: أنا محمد، فيقول: بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك)]، أي: أمرت ألا أفتح الباب قط لأحد إلا لك أولاً ثم يأتي الناس من بعدك، والنبي عليه الصلاة والسلام إذا دخل الجنة دخلها أتباعه من أمته صلى الله عليه وسلم. وعن أنس رضي الله عنه قال: (أنا أول من يأخذ بحلقة باب الجنة فأقعقعها) أي: فأحركها، وهذا الحديث يشهد له أحاديث كثيرة.

شرح حديث: (لا تؤذي امرأة زوجها إلا قالت زوجته من الحور العين)

شرح حديث: (لا تؤذي امرأة زوجها إلا قالت زوجته من الحور العين) وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين: لا تؤذيه قاتلك الله، فإنما هو عندك دخيل، يوشك أن يفارقك إلينا)، هذه بشارة عظيمة جداً لأهل الإيمان والإسلام، ولأهل التوحيد ممن يدخل الجنة بإذن الله، وعامة أهل الإسلام يتزوجون من الحور العين اثنتين، أما الشهداء فيتزوجون اثنتين وسبعين حورية، فالشهيد له منزلة خاصة. وزوجة المؤمن إذا دخلت الجنة فإنه يتزوجها، فإن كان يبغضها فإن الله تعالى قال: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} [الأعراف:43]، أما لو دخلت هي الجنة وهو لم يدخل فإن الله تعالى يخلق لها زوجاً. قال عليه الصلاة والسلام: (لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين) يعني: غضباً لزوجها الذي سيكون في الآخرة. (لا تؤذيه قاتلك الله، فإنما هو عندك دخيل يوشك أن يفارقك إلينا)، يعني: هو ضيف يوشك أن يرحل بأن يموت فيأتي إلينا فيتنعم بنعيم الجنة وإن كان في القبر، كما جاء في حديث البراء رضي الله عنه في الحديث الطويل: (وإذا كان من أهل الجنة قيل: افرشوا له فرشاً من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، فيأتيه من ريحها وطيبها، ونعيمها)، ويتمتع بالنظر إليها، خلافاً لمن كان من أهل النار. وكثير من الزوجات ينسين هذا، ويعتبرن إيذاء الزوج أمراً يسيراً، بل هو أمر يحول بينها وبين الجنة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (واطلعت في النار فإذا عامة أهلها النساء، فقامت إليه امرأة جزلة - أي: عاقلة- وقالت: يا رسول الله! ولم؟ قال: لأنهن يكفرن، قالت: أيكفرن بالله؟ قال: إنما يكفرن العشير)، ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا فقال: (يحسن إليكن الرجل الدهر كله فإذا بدا منه شيء -أي: في يوم من الأيام- قلتن: ما رأينا خيراً قط)، فبسبب هذه الكلمة تدخل المرأة النار وتستوجب لنفسها النار، وقد كان بإمكانها أن تسكت، أما إذا كانت ترد على زوجها الكلمة بالكلمة، والصاع بالصاع، والحجة بالحجة، فهذا بلاء عظيم جداً، كأنها تقذف بنفسها في النار، وأنا أعرف كثيرات من طالبات العلم -وللأسف الشديد- كأن طلب العلم صار للنساء بلاء عظيماً وشراً مستطيراً، تظن المرأة أنها بطلبها للعلم صارت مثل الزوج وربما فاقت عليه، فلو كان لا يحفظ القرآن وهي تحفظه تظن في نفسها أنها أفضل منه، فربما أنها تحفظ القرآن والقرآن يلعنها بالليل والنهار إذا أساءت عشرة زوجها، ولا ينفعها حفظها للقرآن حينئذ. وأذكر أن امرأة في الإسكندرية في أواخر الثمانينيات لما خطبها أخ فاضل من أهل العلم ومن طلبة العلم وقد طلب الحديث على يد الشيخ الألباني رحمه الله، وكان من أئمة الحديث في ذلك الوقت بالشام، فلما رجع إلى الإسكندرية وخطب امرأة قرأت عليه فتح الباري من أوله إلى آخره في فترة العقد وهو ثلاثة عشر مجلداً، وكانت نبيهة جداً، فظنت أنها بلغت من العلم مبلغاً عظيماً، وهذا على أية حال شأن الجاهل، إذا تعلم شيئاً ظن أنه تعلم كل شيء، ولذلك يقول الخليل بن أحمد إمام اللغة صاحب كتاب العين: العلم ثلاثة أشبار، إذا بلغ الطالب الشبر الأول ظن أنه عالم، وإذا بلغ الشبر الثاني علم أنه لم يعلم شيئاً، وإذا بلغ الشبر الثالث علم أنه أجهل الناس. إذاً: المتكبر هو الذي حصل على قدر يسير من العلم وظن أنه قد حاز العلم كله، وهو لا يزال على العتبة الأولى، بل ربما لم يثبت عليها، فتجد منه الغرور، والعجب، والكبر، والتعدي على أهل العلم من الكبار والمشايخ، تجد مساوئ الأخلاق في ابتداء الطلب، ولذلك يقول الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]. قيل للشعبي: كيف حالك أيها العالم؟ قال: لست بعالم، إنما العالم من يخشى الله، أي: العالم حقيقة هو الذي يخشى الله، والذي يخشى الله لابد أنه يؤدي حقوق الله وحقوق العباد، أما عبد يأخذ الكتاب تحت إبطه، ويظن أنه أعلم الناس، فيضرب هذا، ويشتم ذاك، ويسب هذا، ويملأ الدنيا ضجيجاً وصياحاً، فهذا ليس بآدمي أصلاً، ولا يصح أن يكون إنساناً سوياً أو محترماً فضلاً عن أن يكون طالب علم. هذه المرأة الاسكندرانية لما بلغت هذا المبلغ على يد زوجها قالت له قبل البناء: الذي يغلب على ظني أنك لا تستحق زوجة مثلي، إنما الذي يستحقني فلان، وذكرت له عالماً كبيراً، فلما اتصل بي تلفونياً قلت له: لو أن هذه الكلمة قيلت لي ما ترددت قط في طلاقها ولو كان لي منها مائة ولد، فطلقها؛ لأن هذه المرأة قد أظهرت وأبدت غروراً، وكبراً وعجباً من أول الأمر. امرأة أخرى تعلمت أصول الفقه، فإذا قال لها زوجها: اعملي كوب شاي، تقول له: هذا مستحب أم واجب؟! ما هذه الخيبة؟! هل صار طلب العلم بلاءً أم ماذا؟ أنمنع النساء من طلب العلم؟ النبي عليه الصل

نعيم أهل الجنة فيها

نعيم أهل الجنة فيها قال: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه، وأبي سعيد الخدري سعد بن مالك بن سنان المدني أنهما سمعا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (في قول الله تعالى: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:43]، قال: نودوا أن صحوا فلا تسقموا أبداً)، أي: أنتم في صحة وعافية ليس بعدها مرض، (واخلدوا فلا تموتوا أبداًَ، وانعموا فلا تبأسوا أبداً)]. وعن ابن عباس في قول الله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} [الدخان:51] قال: في خلود دائم، ونعيم ليس فيه شخوص -أي: انزعاج- قد أمنوا العذاب، ورضوا بالثواب، واطمأنت بهم الدار، في جوار الرحمن تبارك وتعالى، {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ} [الدخان:55] أي: أمنوا من الموت، والأسقام، والأوجاع، والأمراض، والتخم، لا يذوقون فيها طعم الموت، حياتهم كلها نعيم أبدي، سرمدي، دائم لا انقطاع له. وعن الضحاك رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} [الدخان:51] قال: أمنوا الموت فلا يموتون أبداً، ولا يهرمون أبداً، ولا يكبرون عن هذا السن. وفي الأثر: أن أهل الجنة يدخلون على سن عيسى بن مريم ثلاث وثلاثين لا يزيدون عليها؛ لأن الجنة والنار ليستا بحساب الأيام والليالي، ولا الصباح المساء؛ لأنه لا شمس ولا قمر ولا شيء من هذا، فلا يقال هناك أيام. وأهل الجنة لا يعرون أبداً، ولا يجوعون أبداً، ولا يكبرون أبداً، ولا يسقمون أبداً، فهذا هو المقام الأمين في قوله {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} [الدخان:51]. وعن جابر رضي الله عنه قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لما سئل: أينام أهل الجنة؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: النوم أخو الموت، وأهل الجنة لا يموتون)، إذاً: لا نوم في الجنة، والأمور كلها تتبدل، فلا يحتاج أحد أن يستريح قليلاً؛ لأنه لا يحتاج لهذه الراحة ابتداء، ولا يفكر فيها. وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله عز وجل لمن يشاء من ملائكته: ائتوهم فحيوهم) الله تعالى يأمر الملائكة أن يأتوا أهل الجنة فيحيوهم ويسلموا عليهم، (فتقول الملائكة -أي: المقربون: نحن الذين ألهمنا التسبيح والذكر كما ألهمنا النفس، فيكف تأمرنا أن نذهب إلى هؤلاء ونسلم عليهم، كأنهم أرادوا أن يقولوا ذلك- قال: فتقول الملائكة: نحن سكان سمائك وجيرتك من خلقك، أفتأمرنا أن نأتي هؤلاء فنسلم عليهم؟ قال: إنهم كانوا عباداً يعبدونني، ولا يشركون بي شيئاً)، وهذا من إخلاص توحيد الله عز وجل، وإخلاص العبادة لله، ونبذ الشرك، وهذا أعظم سبب لدخول الجنة. والله تعالى له من الملائكة خدم للمؤمنين في الجنة، قال: (فتأتيهم عند ذلك -أي: الملائكة- فيدخلون عليهم من كل باب: سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار).

أول زمرة تدخل الجنة من أمة محمد وذكر السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب

أول زمرة تدخل الجنة من أمة محمد وذكر السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب وعن عبد الله بن عمرو قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أتعلم أول زمرة تدخل الجنة من أمتي؟ قال: الله ورسوله أعلم، فقال: المهاجرون هم الذي يدخلون الجنة أولاً، يأتون يوم القيامة إلى باب الجنة ويستفتحون فتقول لهم الخزنة: أوقد حوسبتم؟) أي: هل قد حاسبكم الله عز وجل، (فيقولون: بأي شيء نحاسب، وإنما كانت أسيافنا على عواتقنا في سبيل الله حتى متنا على ذلك؟ فيفتح لهم الخازن فيقيلون فيها أربعين عاماً قبل أن يدخلها الناس)، أي: يمكثون في الجنة أربعين عاماً قبل أن يدخلها بقية أهلها. وأنتم تعلمون أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (يدخل الجنة سبعون ألفاً بغير حساب ولا سابقة عذاب مع كل واحد منهم سبعون ألفاً) فهم سبعون ألفاً في سبعين ألفاً، قال: (وهم الذين لا يتطيرون، ولا يسترقون، وعلى ربهم يتوكلون، قال رجل من أصحابه عليه الصلاة والسلام: ادع الله أن أكون منهم، قال: أنت منهم، فقام آخر فقال: ادع الله أن أكون منهم، قال: سبقك بها عكاشة)، ولا يفهم من الحديث أن السائل الثاني ليس منهم؛ لأن الجواب ليس فيه سرد لهم، وإنما الجواب يفهم منه: عدم فتح الباب لكل من أراد أن يسأل هذا السؤال، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام علم حذيفة أسماء المنافقين، وأنتم تعلمون أنه لا يدخل الجنة منافق، وعمر رضي الله عنه من المبشرين بالجنة، ولذلك قال عمر لـ حذيفة: يا حذيفة! أسماني لك رسول الله في المنافقين؟ قال: لا يا أمير المؤمنين، ولا أزكي أحداً بعدك، يعني: لا تفتح علي هذا الباب يا أمير المؤمنين؛ لأنك لو فتحته فربما أتى المنافق فسأل عن نفسه فلا يسعني إلا الجواب، فحينئذ تكون الفتنة، فاعتذر إليه حين أجابه عن نفسه، ثم أغلق الباب. وكذلك النبي عليه الصلاة والسلام، لما سأله عكاشة: ادع الله أن أكون منهم يا رسول الله! قال: أنت منهم، فقام آخر فقال: وأنا أدع الله لي أن أكون منهم، قال: سبقك بها عكاشة، لأنه يمكن أن يقوم من المنافقين من يسأله، لأنه إذا كان جريئاً على الله، فكيف لا يكون جريئاً على النبي عليه الصلاة والسلام؟! فأراد النبي أن يغلق باب الشر وباب الفتنة. أما بيان العلامات لهؤلاء الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عقاب فهي: أنهم: (لا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون) وهناك رواية عند البخاري وهي شاذة: (الذي لا يرقون ولا يسترقون) وهذا غير صحيح، إنما الرواية الصحيحة: (هم الذين لا يتطيرون)، والعرب كانت تتشاءم بالطير، فكان من قتل له قتيل مثلاً أو أراد أن يسافر أتى بالحمام ورماه في الهواء وقال: إذا ذهب يميناً ثأرت للقتيل، وإذا ذهب شمالاً لا أثأر، أو إذا ذهب الطير يميناً أسافر وإذا ذهب يساراً لا أسافر وغير ذلك، وهذا من التشاؤم، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لو كان الشؤم في شيء لكان في ثلاث: المرأة، والفرس، والدار)، وفي رواية: (المرأة، والمركب، والدار)، و (لو) حرف امتناع لامتناع، يعني: الأصل أنه لا شؤم في الإسلام البتة، ولا حتى في المرأة، ولا في الفرس أو الدابة، ولا في الدار، فلا شؤم في الإسلام، وهذا نص كلامه قال: (لو كان الشؤم في شيء) يعني: لو صح أن هناك شيئاً اسمه شؤم مشروع لكان في هذه الثلاث، لكن ليس هناك شيء اسمه شؤم فلا يصح للمرء أن يتشاءم. قال النبي عليه الصلاة والسلام لـ عبد الله بن عمرو رضي الله عنه: (أتعلم أول زمرة تدخل الجنة من أمتي؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، فقال: المهاجرون، يأتون يوم القيامة إلى باب الجنة ويستفتحون، فتقول لهم الخزنة: أوقد حوسبتم؟ فيقولون: بأي شيء نحاسب، وإنما كانت أسيافنا على عواتقنا في سبيل الله عز وجل حتى متنا على ذلك).

ذكر شيء من أوصاف الجنة وما أعد الله فيها للمؤمنين

ذكر شيء من أوصاف الجنة وما أعد الله فيها للمؤمنين وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجنة كيف هي؟) يعني: صفها لنا، (قال: من يدخل الجنة يحيا فيها لا يموت)، يعني: يحيا حياة أبدية دائمة لا موت فيها، كما في الحديث الآخر: (خلق الله الجنة والنار، وجعل لكل قسماً، وقال: يا أهل الجنة خلود بلا موت، ويا أهل النار خلود بلا موت). قال: (من يدخل الجنة يحيا لا يموت، وينعم فيها لا يبأس، لا تبلى ثيابه -يعني: لا تتسخ- ولا يفنى شبابه، قيل: يا رسول الله! كيف بناؤها؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: لبنة من ذهب ولبنة من فضة) يعني: طوبة من ذهب وطوبة من فضة، (ملاطها مسك أذفر)، الملاط الذي هو بمثابة الأسمنت الذي يعمل على تماسك اللبنات: (وحصباؤها اللؤلؤ، والياقوت، وترابها الزعفران). وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: (لما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: إلى اليمن- قال: يا أيها الناس إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم، واعلموا أن المرد إلى الجنة أو إلى النار خلود بلا موت)، أي: في الجنة والنار خلود بلا موت، (وإقامة لا ظعن)، أي: لا سير منها. وقال له عليه الصلاة والسلام: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب -يعني: يهوداً ونصارى- فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أجابوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم زكاة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم) حتى عدد له بقية شرائع الإسلام، وهذا يدل على أهمية ترتيب الأهم فالأهم، وأولويات الدعوة إلى الله عز وجل. ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث أبي هريرة وغيره في الصحيحين: (الإسلام بضع وستون)، وفي رواية: (بضع وسبعون شعبة، أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)، فبين النبي عليه الصلاة والسلام أن الإيمان أو الإسلام شعب. وعن مجاهد بن جبر المكي الإمام الكبير تلميذ ابن عباس رضي الله عنه قال: في قول الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر:34]، قال: حزن الموت، أمنوا أن يموتوا بعد ذلك. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال: النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله بنى جنات عدن بيده)، الجنات متعددة منها: جنة عدن، وقيل: عدن جنات كثيرة، فإما أنها ذكرت بجنات على سبيل التعظيم والتشريف، وإما أنها درجات كثيرة أو جنات متعددة. فقوله: (إن الله بنى جنات عدن بيده)، هذه خاصية لها كما خلق الله عز وجل آدم بيده، وكتب التوراة لموسى بيده، وهذه ثلاث مخلوقات باشر الله تبارك وتعالى خلقها بيده تشريفاً لها، ثم قال: (وبناها لبنة من ذهب، ولبنة من فضة، وجعل ملاطها المسك الأذفر -أو الإذفر- وترابها الزعفران، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت). وفي الجنة نعيم أعظم من هذا كله وهو النظر إلى وجه الله الكريم في كل أسبوع مرة وهو يوم الجمعة، الذي يسمى في الآخرة: يوم المزيد، أي: يزداد فيه المؤمنون بهاءً وحسناً وجمالاً؛ بسبب النظر إلى وجه الله الكريم. قال: (ثم قال الله لها: تكلمي، فقالت: قد أفلح المؤمنون، ثم عددت صفات المؤمنين، فقالت الملائكة: طوبى لك منزل الملوك) إذاً: الملك الحقيقي هو من حرص على دخول الجنة؛ لأن الجنة منزل الملوك. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (جنتان من ذهب، وجنتان من فضة)، فجنات الفردوس أربع: جنتان بناؤهما من الذهب، وجنتان بناؤهما من الفضة، وكذا بالنسبة للحلي والأواني، والتراب، والحصباء وغير ذلك. وعن أبي موسى رضي الله عنه في قول الله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] قال: جنتان من ذهب للسابقين، وجنتان من فضة للتابعين، أي: للتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم -أي: أهل هذه الجنات- وبين أن ينظروا إلى ربهم عز وجل إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنات عدن). وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (جنتان من ذهب للمقربين) أو قال: (للسابقين، وجنتان من ورق) الورق بكسر الراء هي الفضة، (لأصحاب اليمين). وفي الصحيحين من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يحشر الناس يوم

الأسئلة

الأسئلة

معنى كفت الثوب في الصلاة وحكم تشمير الكم فيها

معنى كفت الثوب في الصلاة وحكم تشمير الكم فيها Q ما معنى (أمرت ألا أكف ثوباً في الصلاة)؟ وهل يجوز تشمير الكم في الصلاة؟ A الحديث في الصحيحين: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كفت الشعر والثوب)، وفي رواية: (عن عقص الشعر في الصلاة)، والكفت: هو الجمع والضم، وأنتم تعلمون سنة النبي عليه الصلاة والسلام في شعره أنه كان يطيله حتى يبلغ منكبيه، فإذا كان ذلك من المسلم فإنه إذا طال على هذا النحو فكلما أراد أن يركع أو أن يسجد جمع شعره وطرحه في الخلف حتى يتسنى له أن يسجد على الأرض وأن يباشر الأرض بجبهته، فنهى النبي عليه الصلاة والسلام عن ذلك، وكما جاء النهي في الثوب جاء في الكم وفي الإزار، كلما هم المرء أن يركع أو يسجد جمع ثوبه بين فخذيه أو كفت بمعنى: جمع وضم إزاره أو بنطلونه وكذلك الكم، فنهى النبي عليه الصلاة والسلام عن ذلك، فهذا معنى كفت الشعر والثوب والنهي عنه، وبالإجماع هذا النهي نهي تنزيه أي: كراهة تنزيهية، ومن خالف ذلك لا حرمة عليه.

حكم العمل بالقرعة عند الهم بأي أمر من الأمور

حكم العمل بالقرعة عند الهم بأي أمر من الأمور Q هل يجوز للمرء أن يعمل القرعة، أي: يأخذ ورقة ويكتب فيها: أفعل ولا أفعل ثم يقوم بالسحب، فهل هذا من الشؤم؟ A يعني: واحد في هذا الوقت يريد أن يسافر الإسكندرية وهو متردد ماذا يصنع؟ فيقول: سأكتب ورقتين، ورقة منهما مكتوب عليها أسافر، والورقة الأخرى لا أسافر، ثم يبدأ عملية السحب على المكشوف، فإذا طلعت ورقة لا تسافر لن يسافر، وإذا طلعت سافر فإنه يسافر، هذا من الشؤم، وهذا من طيرة الجاهلية، هو لم يستقسم بالأزلام من غير يمين، لكن أنا أدلك على ما هو خير لك من هذا، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كان هذا الأمر) مثلاً: سفري إلى الإسكندرية، أو زواجي من فلانة، أو الموضوع الفلاني أو العلاني (خيراً لي في ديني، ومعاشي، ومعادي، وعاقبة أمري آجله وعاجله، فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كان هذا الأمر -ويسميه- شراً لي في ديني، ومعاشي، وعاقبة أمري آجله وعاجله فاصرفه عني واصرفني عنه، ثم اقدر لي الخير حيث كان ورضني به)، وهذا يسمى بدعاء الاستخارة، فالمرء إذا هم بأمر من أموره وهو لا يدري وجه الخير والشر فيه فيصلي ركعتين، أو يدعو بعد النوافل المطلقة أو الراتبة، يدعو بعد نافلة أو بعد سنة العشاء، أو سنة المغرب، أو بعد ركعتين من الليل، أو في أي وقت، ولا بأس أن تتكلف أن تصلي ركعتين إذا كان الأمر يستحق ذلك ولو كان ذلك في وقت الكراهة؛ لأن النهي عن الصلاة في وقت الكراهة محمول على مطلق النوافل، أما صلاة لها سبب -وهذا مذهب الشافعي - فلا بأس في ذلك وهو الذي نرجحه دائماً. وكان الصحابة رضي الله عنهم يبالغون جداً في الاستخارة، حتى ورد أنهم كانوا يستخيرون الله تعالى في شراك نعالهم، في أقل أمورهم وأحوالهم كانوا يستخيرون الله عز وجل، واعلم أن الاستخارة لا أمارات ولا علامات لها؛ فالحديث لم يبين أن الطريق لقبول الأمر ورده أن ترى ذلك في المنام، أو أن ينشرح لذلك صدرك أو لم ينشرح، أو تجد نوراً في قلبك أم لا، كل هذا الكلام من اختراع الناس، وإنما أنت تقول: (إن كان هذا الأمر خيراً لي في ديني ومعاشي فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه)، فمثلاً: أنا أريد أن أتزوج بنت فلان، فاستخرت الله قبل أن أذهب وبعده، وقبل أن أرى وبعد ذلك، فلا أقول بعد ذلك: أنا لن أذهب إلى هذا الرجل ولن أمشي في الموضوع إلا لما أرى رؤيا، بل أذهب ولو قدر الله لي وقد سبق في علمه أن هذا الزواج خير لي فسييسره، وإذا كان ربنا لم يرد ذلك فسيجعل الأمر غير ميسر ويجعل الباب مقفلاً.

معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (لو كان الشؤم في شيء)

معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (لو كان الشؤم في شيء) Q ما معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (لو كان الشؤم في شيء لكان في ثلاث: المرأة، والدار، والدابة)؟ A لا شؤم قط في الإسلام ولا حتى في هذه الثلاث، والمعنى: لو كان هناك شؤم فهو في هذه الثلاث، لأن المرء في الغالب يتشاءم بها، فلما كان معظم حال الناس أنهم يتشاءمون بالمرأة والدار والفرس، ذكر ذلك النبي عليه الصلاة والسلام.

حكم الغناء

حكم الغناء Q ما حكم الغناء؟ علماً أنني تناظرت مع أحد طلبة جامعة الأزهر حول ذلك. A كنت أتمنى أنني لم أقرأ السؤال ما دام الحوار مع طالب أزهري يذهب إلى حل الخمر، والميسر، والخنزير، والغناء، مع أن الأدلة من الكتاب والسنة أمام عينيه، فطلبة ومشايخ وأساتذة الأزهر لا يكادون يحرمون شيئاً، ها أنتم تعرفون أكبر طربوش لا يحرم أي شيء، وطوال عمره لم يقل على شيء حرام أنه حرام، بل كل شيء عنده حلال، حتى إن الربا عنده حلال وغير ذلك. والذي أقل منه وأدنى منه في المرتبة والمنزلة الأصل أنه لا يحرم شيئاً، فهو أستاذ كبير جداً، ورئيس قسم العقيدة، لما ذهبت معه في مدينة ناصر رأيته ومعه السيجارة وهو لابس للشورت، فهو لم يأخذ بحديث النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: (الفخذ عورة)، ولم يأخذ بحديث النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه) ولم يسمع حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (كل مسكر ومفتر حرام)، والسجائر تفتر، وهو يقول: أنا لن أهدأ إلا لما أشرب السيجارة، العوام الذين يشربون السجائر يقرون بأن السجائر حرام، والذين يسمعون الأغاني والموسيقى يعلمون أنهما حرام، وكثير من مشايخ الأزهر إلا من رحم الله لا يذهب إلى حرمة شيء من ذلك، أقسم بالله العظيم أن منهم من ينازع في الوسكي والشنبانيا، ويقول: لابد أن يكون مكتوباً عليها (خمراً)، وسكي وشنبانيا هذه ليست خمراً! ويتعنت في ذلك، ومثله كمثل رجل في رابعة النهار ينظر إلى الشمس ويقول: أين الشمس؟ نقول له: هذه هي الشمس، فيقول: ما الدليل على أن هذه شمس؟ هذا قمر، فلا يستطيع أحد أن يعطيه دليلاً أن هذه هي الشمس لأنه إنسان فقد عقله تماماً. والنبي عليه الصلاة والسلام كما أورد ذلك البخاري معلقاً بصيغة الجزم قال: (يأتي زمان على أمتي يستحلون الحر، والحرير، والخمر، والمعازف)، وكلمة (يستحلون) معناها: أن هذه الأمور ليست حلالاً وإنما هي حرام، و (الحر) هو الزنا، (والحرير) محرم للرجال دون النساء، (والخمر): يسمونها بغير اسمها من أجل أن يهربوا من حرمتها، (والمعازف) هي آلات اللهو والطرب. كان عبد الله بن عمر رضي الله عنه إذا ذهب إلى واد أو قرية أو بلد أخذ معه مولاه نافعاً، وكان إذا سمع غناء وضع أصبعيه في أذنيه حتى إذا عبر هذا الموطن قال: يا نافع أتسمع شيئاً؟ فإن قال: لا، أخرج أصبعيه؛ لأن الغناء مزمار الشيطان، والموسيقى مزمار الشيطان كذلك، وبعض الأخوات أو الإخوة يقرءون في الكتب التي اعتنت بتربية الأطفال وكتبها أهل الغرب ومنها النافع ومنها الضار، ولكنهم يأخذون منها النافع والضار على السواء، وكثيراً ما ينصح الأطباء الغربيين ومن لا دين لهم ولا خلاق لهم بسماع الموسيقى الهادئة من أجل أن يهدأ الطفل، والطفل سيظل يتعود على هذه الموسيقى إلى أن يصبح كبيراً، ومن شب على شيء شاب عليه، والطفل على ما عودته، إن عودته الطاعة اعتاد الطاعة، وإن عودته المعصية اعتاد المعصية، وفي هذا الوقت عندما تقول لواحد: بالله عليك السجائر التي تشربها حلال أم حرام؟ يقول لك: والله أنا عارف أنها حرام، وادع لي يا شيخ أن الله يخلصني منها، فأنا محتاج إليها، لا أستطيع تركها، لأنها تركت أثراً عظيماً جداً في الدم والمخ والعظم واللحم فلا يقوى على ذلك، وأنا مقدر هذا الرد، لكن على أية حال هذا لا يكون إلا من إنسان ضعيف العزيمة، وإلا فالصحابة رضي الله عنهم قد شربوا الخمر إلى أمخاخهم، ولما نزل تحريم الخمر امتنعوا جميعاً، والفارق الذي بيننا وبينهم فارق إيماني، فهم لما تربوا على العقيدة الصحيحة وأتاهم تعظيم الله عز وجل، وتعظيم أمره ونهيه، فلما أتاهم النهي عن الخمر انتهوا عن الخمر، وكذا النهي عن الزنا انتهوا عن الزنا، والنهي عن وأد البنات أحياء انتهوا، وغير ذلك من الفظائع والعظائم التي كان يفعلها أهل الجاهلية. فالغناء حرام؛ لقول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [لقمان:6] يقول ابن مسعود: أقسم بالله، أقسم بالله، أقسم بالله أن لهو الحديث هو الغناء، هل نصدق علماء الأزهر كلهم أم ابن مسعود؟ يأتي هناك في المقابل شبهات وهي: (أن أبا بكر رضي الله عنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيته بعد أن رجع من غزوة خيبر، فوجد جاريتين تغنيان، فقال: أمزمار الشيطان في بيت رسول الله؟ وغضب، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا)، وفي رواية عند أبي داود (دخل عمر على النبي عليه الصلاة والسلام وعنده جاريتان تغنيان وليستا بمغنيتين) ولذلك العلماء يقولون: الغناء حلال بشر

حكم لبس الذهب المحلق

حكم لبس الذهب المحلق Q ما حكم الذهب المحلق؟ A الذهب المحلق حلال، وهذا مذهب عامة أهل العلم من أمة لا إله إلا الله، وذهب خلاف ذلك شيخنا العلامة الألباني عليه رحمة الله، وقال بحرمة الذهب المحلق للنساء، واستشهد بأحاديث لم تخف على عامة الأمة وإنما علموها ورووها ولم يفهموا منها ما فهم الشيخ الألباني رحمه الله. والأحاديث التي احتج بها الشيخ الألباني حملها علماء الأمة على منع الزكاة، ومنها: (أن امرأة جاءت إلى النبي عليه الصلاة والسلام ومعها ابنتها وفي يدها سواران من ذهب، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أتؤدين زكاة هذا؟ قالت: لا، قال: أتحبين أن تسوري بسوارين من نار يوم القيامة؟ فخلعتهما وألقتهما في حجر النبي عليه الصلاة والسلام)، ولو كان الذهب المحلق حراماً لقال لها: اخلعيهما فإنهما حرام لا يحل لك، ولكنه قال لها أولاً: (أتؤدين زكاة هذا؟) فلو قالت: نعم، لما تكلم بعد ذلك النبي عليه الصلاة والسلام.

حكم لبس الثوب الأحمر

حكم لبس الثوب الأحمر Q ما حكم لبس الثوب الذي لونه أحمر؟ وما الدليل؟ A جاء في سنن أبي داود وعند أحمد في المسند: (نهى النبي عليه الصلاة والسلام الرجل أن يلبس اللبس الأحمر أو الثوب الأحمر)، مع أنه عليه الصلاة والسلام كما قال عبد الله بن عمر: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وقد لبس ثوباً أحمر مخططاً)، فالنهي محمول على الأحمر الخالص الذي لا شية فيه، ولا علامة فيه، ولا خطوط، ولا مربعات، ولا سرهات، ولا سيور، يعني الأحمر المصمت، فمن لبس جلابية حمراء مخططة أو فنيلة حمراء مخططة فلا بأس بذلك ولا حرمة في ذلك. ولا تدخل النساء في هذا النهي.

لمن تكون المرأة المؤمنة إذا دخلت الجنة وقد تزوجت في الدنيا أكثر من زوج

لمن تكون المرأة المؤمنة إذا دخلت الجنة وقد تزوجت في الدنيا أكثر من زوج Q إذا تزوجت المرأة اثنين أو أكثر ودخلوا جميعاً الجنة، فهي زوجة من منهم؟ A زوجة أحب واحد من الثلاثة إليها، وإذا تزوج الرجل أربعاً أو أكثر من ذلك، بشرط ألا يكن أكثر من أربع نساء في وقت واحد، فإنه يتزوج أحب النساء إليه، أو يتزوجهن جميعاً.

حكم العمليات الاستشهادية في فلسطين

حكم العمليات الاستشهادية في فلسطين Q بالنسبة لعملية تفجير النفس التي يقوم بها الإخوة الفلسطينيون، وذلك لقتل المدنيين اليهود اختلف علماء السنة فيها، فمنهم من قال: إنها عملية انتحارية وصاحبها منتحر، ومنهم من قال: إنها عملية استشهادية وصاحبها مجاهد في سبيل الله، فماذا ترجح لديكم؟ A الذي يترجح لدي أنها عملية استشهادية وليست انتحارية، فالمنتحر لا ينتحر إلا وهو يائس من رحمة الله عز وجل، والذي يستشهد في فلسطين ليس يائساً من رحمة الله، وإنما يفعل ذلك نصرة للدين، ودفعاً للعدو، فلابد أن يراعى هذا الفارق، وقد حدث في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من حادث. لكن على أية حال أنا أعد محاضرة الآن في هذا الباب وسنلقيها بإذن الله تعالى في مؤتمر القدس في مسجد (العز بالله) الذي سينعقد في يوم 24/ 8 (في مؤتمر عن القدس)، وسيحاضر فيه سيادة اللواء أحمد عبد الوهاب رئيس مجلس إدارة مسجد العزيز، والدكتور جمال عبد الهادي، والدكتور علي السالوس، والدكتور عبد الوهاب النصيري أستاذ كبير جداً وتخصصه: الرد على اليهود، وهو الذي عمل موسوعة عن اليهود في خمسة عشر مجلداً، فهو قنبلة علمية إذا انفجرت يكون عوضنا على الله، وهو حليق ويلبس بدلة لكنه أستاذ خبير، وليس هو شيخاً، وستستفيدون منه إن شاء الله أكثر من الشيوخ بإذن الله تعالى؛ لأن ربنا يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، وهو من أهل الذكر في القضية، وسيحاضر فيها شيخنا وأستاذنا محمد عبد المقصود، والشيخ محمد حسان، والشيخ سيد عربي، والأستاذ كامل الشريف الذي هو رئيس وزراء الأردن الأسبق، سيحاضر معنا إن شاء الله. وسيكون المؤتمر لمدة ثمانية أيام من الجمعة 24/ 8 إلى الجمعة الأخرى 31/ 8، ما بين المغرب والعشاء.

حكم تداخل صلاة قضاء الحاجة مع صلاة النافلة

حكم تداخل صلاة قضاء الحاجة مع صلاة النافلة Q هل يجوز صلاة قضاء الحاجة مع صلاة النوافل؟ A نعم يجوز؛ لأن أهل العلم على جواز تداخل النيات في النوافل دون الفروض. ويجوز أن يدعو بتفريج حاجته.

نصيحة لمن يفزع من النوم دائما

نصيحة لمن يفزع من النوم دائماً Q امرأة شاهدت على الإنترنت بعض الجماعات التي في تايوان والتي تقوم بأكل الأطفال الصغار بعد الطهي، ومنذ ذلك الوقت تفزع في نومها، فماذا تفعل؟ A لا حول ولا قوة إلا بالله، وإنا لله وإنا إليه راجعون، على أية حال إجابتي على سؤال السائلة: أنه ينبغي عليها أن تعتصم بكتاب الله عز وجل وبسنة النبي عليه الصلاة والسلام، وتكثر من قراءتها للأذكار من الكتاب والسنة قبل نومها.

حكم حضور الحائض لدروس العلم في المسجد ومسها للمصحف

حكم حضور الحائض لدروس العلم في المسجد ومسها للمصحف Q هل يجوز للمرأة الحائض حضور دروس العلم في المساجد، وهل يجوز لها القراءة من المصحف بمس أو بدون مس؟ A هذه المسألة اختلف فيها أهل العلم اختلافاً بيناً، وجمهور الفقهاء على حرمة ذلك، ولا دليل صحيح في هذا الباب، فيبقى عندنا الأصل وهو جواز أن تدخل الحائض المسجد وتمكث فيه، وجواز أن تمس المصحف بيدها وتقرأ فيه، إذا كانت تسأل عن الجواز، أما إذا كانت تسأل عن الأفضل، فالأفضل بلا شك ألا يعبد المرء ربه إلا وهو كامل الطهارة.

مسألة في الرضاع

مسألة في الرضاع Q امرأة لها بنتان، وامرأة أخرى لها ولدان، والمرأة التي لها بنتان أرضعت ولداً من الولدين، فهل يجوز للولد الآخر الذي لم يرضع أن يتزوج من إحدى البنتين؟ A يجوز؛ لأنه لم يجتمع معه على الثدي، فالولد الآخر الذي لم يرضع يجوز له أن يتزوج أياً من البنتين التي رضعت مع أخيه أو التي لم ترضع.

حكم التسبيح بالسبحة

حكم التسبيح بالسبحة Q ما حكم التسبيح بالسبحة، وقد قرأت في أحد الكتب أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه رأى امرأة تمسك سبحة فأخذها فقطعها، ثم ضربها بقدمه وقال لها: والله لقد ابتدعتم في الدين بدعة ما فعلها أصحاب محمد، فهل هذا صحيح؟ A هذا ليس صحيحاً أبداً، أن عبد الله بن مسعود يأخذ السبحة من المرأة ويقطعها ويضرب المرأة على ذلك. أما حكم التسبيح بالمسبحة فالأصل الجواز؛ لأنه لم يرد فيها نهي ابتداء، وقد ورد إباحة ذلك بفعل أبي هريرة، وسلمان الفارسي، وأبي الدرداء رضي الله عنهم، وقد أورد حديثهم الإمام الطبراني في كتاب الدعاء، أنهم كانوا يسبحون على الحصى، وأصل السبحة عبارة عن حصى، حتى قيل لـ أبي هريرة: أتسبح على المسبحة؟ قال: وما يمنعني من ذلك؟ أي: أين النهي الوارد في ذلك؟ وقال النبي عليه الصلاة والسلام لـ أم سلمة: (اعقدن التسبيح على الأنامل فإنهن مستنطقات)، فالأولوية في التسبيح أن يكون على الأصابع اليمنى، ثم على المسبحة، فكلاهما جائز، لكن الأولى أن يكون التسبيح على الأنامل، والشيخ الألباني عليه رحمة الله قد ذهب إلى بدعية التسبيح على المسبحة، ثم رجع عن هذا الحكم وقال بالجواز بعد ذلك لما طبع الدعاء للطبراني واطلع على هذه النصوص رجع عن فتواه. وإذا كان هذا المباح قد صار علماً على أهل البدع، أو كانت المسبحة علامة على أهل البدع من أهل الانحراف كالصوفية وغيرهم فيستحب تركها، أما إذا كانت واجبة فأنا أعمل بها وإن فعلها اليهود، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (خالفوا اليهود والنصارى) أو (خالفوا أهل الكتاب وخالفوا المشركين أطلقوا لحاكم فإنهم لا يفعلون ذلك)، فمن قال أن شنوده مطلق للحيته، فما دام أن القضية قضية المخالفة فأنا سأحلق من أجل مخالفته، فنقول: إطلاق اللحية هذا هو الواجب علينا، وهو الذي وافقنا ولسنا نحن الذين وافقناه، ثم إن هذا من شعائر ديننا. فأهل العلم إذا تبين لهم الحق والصواب رجعوا إليهما، أما الذين ليسوا من أهل العلم فإنهم يستمرون في جهلهم.

حكم الصلاة بين السواري

حكم الصلاة بين السواري Q هل يوجد نهي عن الصلاة بين السواري؟ A النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن الصلاة بين السواري، والسواري هي الأعمدة، فلا يجوز الصلاة بينها إلا للضرورة، والعلة انقطاع الصف، ولا يجوز قطع الصف إلا لعلة ازدحام، أو للضرورة أو غير ذلك. والدليل على ذلك حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (دخل النبي عليه الصلاة والسلام وعثمان بن طلحة وأسامة بن زيد الكعبة، فصلى النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه، فلما خرجوا قلت لـ أسامة بن زيد: ماذا فعلتم؟ قال: صلينا، قلت: هل صلى رسول الله؟ قال: نعم، قلت: أين صلى؟ قال: إلى الاسطوانة)، والمقصود بالاسطوانة هي العمود أو السارية، وهي مبنية بالطوب وليس بالخرسان. والنبي عليه الصلاة والسلام اتخذ الدابة سترة، واتخذ عائشة رضي الله عنها سترة، واتخذ السرير سترة، واتخذ العنزة سترة، والعنزة: هي عصاً كمؤخرة الرحل، وهي عصا تتخذ عند قتب الجمل أو البعير يعلق عليها البضائع والمحمولات وغير ذلك، فالنبي عليه الصلاة والسلام صلى إلى هذه العنزة بعدما غرزها في الأرض، واتخذها سترة له، ولذلك العلماء يقولون: السترة لابد أن تكون على قدر العنزة، أي: قدر شبر، ولا يعتبر الفارق بين السجادتين سترة، أو معه خيزرانة يلقيها أمامه ويعترضها، كل هذا لا يبيح للمار أن يمر من أمامها؛ لأن السترة لابد أن تكون مرتفعة قدر شبر عن الأرض؛ لأن أقل الوارد من النصوص في حق السترة مؤخرة الرحل واسمها العنزة. وحديث: (صلى النبي عليه الصلاة والسلام إلى عنزة)، ومن التصحيف في الفهم أن رجلاً من بلدة اسمها عنزة، وعنزة وعنيزة في السعودية، فهما قريتان متجاورتان وهما في القصيم، فهذا الرجل الذي من عنزة تفاخر على أصحابه وقال لهم: نحن قوم لنا شرف، قالوا له: وما هو هذا الشرف؟ قال: لقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم إلينا، فقد ظن أن العنزة في الحديث هي البلد التي هو منها، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يصل إلا إلى قبلة المسلمين المعروفة.

كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها - نعيم الجنة وصفة أهلها [2]

شرح صحيح مسلم - كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها - نعيم الجنة وصفة أهلها [2] لقد وصف الله الجنة لعباده المؤمنين ليزدادوا شوقاً إليها، وعملاً لها، فهي لبنة من فضة ولبنة من ذهب، وترابها الزعفران، وملاطها المسك الأذفر، وما بين مصراعي كل باب من أبوابها كما بين مكة وهجر، أو مسيرة أربعين عاماً، ولها من الأبواب ثمانية، تفتح في كل يوم خميس وإثنين. وللجنة رائحة طيبة يجدها المؤمن من مسيرة خمسمائة عام، وفيها عينان نضاختان بالمسك والعنبر إلى غير ذلك من النعيم المقيم للمؤمنين الصادقين.

وصف الجنة

وصف الجنة

ذكر بناء الجنة وترابها

ذكر بناء الجنة وترابها الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد، وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أما بعد: إن الدعوة إلى الله عز وجل تسير في طريقين: طريق العلم أو التأصيل العلمي، وطريق الوعظ، والوعظ يلزم عامة الناس، وأما العلم فيلزم خاصة الناس، وعلى أية حال التأصيل العلمي هو الذي يربي الشخصية العلمية المسلمة الواعية الفاهمة، وأما الوعظ فسرعان ما يزول أثره من القلوب، بل ربما في مجلس الوعظ نفسه يزول الأثر، فكثير من الناس يسمع درس الوعظ أو الخطبة أو غير ذلك ثم على باب المسجد ينفض ثوبه كأنه يقول: هذه بضاعتكم ردت إليكم، وقد جربنا مراراً أن كثيراً من المستمعين أو الحاضرين يسمع الخطبة أو الدرس أو غير ذلك ثم يخرج فإذا سألته عما سمع كأنه لا يعرف شيئاً، غير أنه تأثر من هذا الدرس حتى إن هذا الدرس أبكاه، لكن لو سألته: كيف بكيت؟ ولمَ بكيت؟ فإنه لا يدري. وقد سمعنا علماءنا ومشايخنا يقولون: لو أن المرء تعلم في كل يوم من أيام حياته مسألة واحدة من مسائل العلم لكان بعد عدة أعوام عالماً، أو قد تربى على التأصيل العلمي، وهذه بلا شك حقيقة ينبغي التنبه لها. إننا وإن كنا نتكلم عن الجنة والنار فإننا نتكلم عنهما من باب الوعظ، وإلا كان ينبغي أن نبكي منذ زمن طويل مضى، وإنما نتكلم عن مسائل علمية متعلقة بالجنة والنار، ومسائل اعتقادية متعلقة بالجنة والنار، فلو قلنا الآن: تربة الجنة مما تتكون؟ فهذه مسألة علمية، وليست مسألة وعظية، فهناك فرق بين أن أقول لك: (الجنة لبنة من ذهب، ولبنة من فضة، وملاطها المسك الأذفر، وترابها الزعفران)، فأنت تلتذ بهذا الكلام وتحصل عندك اللذة، وفرق بين أن تأخذ هذا الكلام وتستقبله على أنه عقيدة، وأن الجنة وما فيها يختلف عن الدنيا وما فيها، فتكون إنساناً واعياً وحافظاً أن بناء الجنة ليس كبناء الدنيا، وأن ملاط الجنة ليس كملاط الدنيا، وأن تربة الجنة ليست كتربة الدنيا، وإنما ترابها الزعفران، فيتكون لديك تصور مبدئي عن بناء الجنة، وعما فيها من نعيم، وأن ما فيها من نعيم وإن وافق في الاسم نعيم الدنيا؛ فالحقيقة مختلفة، فهذه مسألة علمية وليست مسألة وعظية. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أبو ذر رضي الله عنه يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أدخلت الجنة) فالمسألة العلمية: أن النبي عليه الصلاة والسلام دخل الجنة، ولا يحل لنا أن نسأل كيف دخلها؟ وأين هي حتى يدخلها؟ لأن هذه من مسائل الغيب، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه قد دخل الجنة، وأنه اطلع في النار، ولا يصح أن نقول: دخل النبي صلى الله عليه وسلم النار، وربما أحد الوعاظ يخطأ في نقل ذلك، ويقول: دخل النبي صلى الله عليه وسلم النار فرأى من فيها وما فيها، ودخل الجنة ورأى ما فيها ومن فيها وهكذا. لكن التقرير العلمي والتأصيل أن يقول: دخل النبي صلى الله عليه وسلم الجنة فرأى ما فيها، ومما رأى كيت وكيت وكيت، ونقل إلينا كيت وكيت وكيت، حتى قال لـ بلال: (يا بلال إني أدخلت الجنة فسمعت خشخشتك، فبم سبقتني إليها؟)، فهذا تأصيل علمي ينبغي أن يكون معلوم لدى طالب العلم، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أدخلت الجنة، فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ -والجنابذ: هي القباب، أي: فإذا فيها قباب عالية من اللؤلؤ- وإذا ترابها المسك)، فهذا في باب ذكر تربة الجنة. وعن أبي سعيد رضي الله عنه: (أن ابن صياد سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن تربة الجنة)، وابن صياد هذا قيل إنه الدجال، وقيل غيره، وسيأتي معنا بإذن الله تعالى في كتاب الفتن. قال النبي عليه الصلاة والسلام لـ ابن صياد لما سأله عن تربة الجنة: (درمكة بيضاء) يعني: الدقيق الأبيض (مسك خالص). وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (علي بأعداء الله) يعني: بهم اليهود، فالنبي عليه الصلاة والسلام يسمي اليهود: أعداء الله، فليسوا أعداء المؤمنين فحسب وإنما هم كذلك أعداء الله. قال: (علي بأعداء الله؛ فإني سائلهم عن تربة الجنة، وإنها درمكة)، فيخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه قبل أن يسأل اليهود، وهل اليهود يعرفون الجنة وما فيها؟ نعم يعرفونها؛ لأنه ما من نبي إلا أرسل بالحث على الجنة، وما يقرب إليها من قول أو عمل، والتحذير من النار، والتنفير عنها، وما يقرب إليها من قول أو عمل، ولا بد أن يدل أمته على الجنة، وعلى النار، على ما في هذه من نعيم، وعلى ما في هذه من شر وعذاب أليم. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (علي بأعداء الله؛ فإني سائلهم عن تربة الجنة)، ولابد أن تعلموا أنت

عدد أبواب الجنة

عدد أبواب الجنة إن معرفة عدد أبواب الجنة من مسائل الاعتقاد؛ لأنها متعلقة بالغيب، فلا يأتي أحد يقول: أبواب الجنة ليس لها نهاية، وأبواب النار أيضاً ليس لها نهاية؛ لأن العلم الشرعي يقول: إن أبواب الجنة ثمانية، وأبواب النار سبعة، انتهت القضية هكذا، وهذا يدل على أن رحمة الله واسعة، وقد سبقت غضبه، فقد جعل أبواب الجنة أزيد من أبواب النار بباب، وهذا الباب ليس بالأمر الهين، وإنما هذا الباب (ما بين مصراعيه كما بين مكة وهجر). أي: أحد قوائم الباب الواحد من أبواب الجنة كما بين مكة وهجر -وهي البحرين- وكما في رواية أخرى: (ما بين مكة وهجر، أو ما بين مكة وبصرى)، وبصرى: قرية بالشام، وكانت محل هرقل في ذلك الزمان. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما من رجل يتوضأ فيسبغ الوضوء -أي: فيتقن الوضوء ويحسنه- ثم يقول عند فراغه من وضوئه: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية). وكلمة (الثمانية): استيعاب وشمول، بمعنى أنه لا باب للجنة بعد هذه الثمانية، وأبواب الجنة لا تقل عن هذه الثمانية. ثم قال: [(فيدخل من أيها شاء)، وهناك أحاديث كثيرة جاءت في ذكر بيان أن أبواب الجنة ثمانية. وقال عليه الصلاة والسلام في حديث ابن مسعود: (للجنة ثمانية أبواب). وفي حديث عتبة بن عبد السلمي رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من مسلم يتوفى له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث)، والتقدير: ما من مسلم ومسلمة يموت لهما ثلاثة من الولد، (لم يبلغوا الحنث): أي لم يبلغوا الإثم والمحاسبة، والتكليف، يعني: ماتوا قبل أن يبلغوا الحلم، وقبل أن يجري عليهم القلم، (إلا تلقوه من أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء). فلو أن ولدك مات في هذا السن فهو من أهل الجنة، وهذا من مسائل الإجماع عند أهل العلم: أن أبناء المسلمين إذا ماتوا قبل أن يبلغوا الحلم، وقبل أن يجري عليهم القلم -وهو سن التكليف، والمحاسبة، والجزاء، والثواب، والعقاب- فإنهم يدخلون الجنة، ولا خلاف بين أهل العلم في ذلك؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام سئل عن أبناء المسلمين الذين ماتوا قبل أن يبلغوا الحنث فقال: (هم في الجنة))، وسئل عن أطفال المشركين فقال أولاً: (الله أعلم بما كانوا عاملين)، ثم سئل بعد ذلك صلى الله عليه وسلم عن أطفال المشركين -أي الذين ماتوا صغاراً- فقال: (هم في الجنة)، واختلف أهل العلم في مصير أطفال المشركين، فمنهم من قال: يحبسون ويمتحنون، فإن نجحوا فيه واجتازوه فإنهم يدخلون الجنة، وإلا فلا، وهذا القول بعيد ولا دليل عليه، والفريق الثاني: توقف، والفريق الثالث قال: هم في النار مع آبائهم، وأرجح الأقوال: أنهم في الجنة. قال عليه الصلاة والسلام: (ما من مسلم يتوفى له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا تلقوه -أي: يوم القيامة- يدخل من أيها شاء). وقال عليه الصلاة والسلام في حديث عتبة بن عبد السلمي: (للجنة ثمانية أبواب، ولجهنم سبعة أبواب). وقال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر، أو هجر ومكة). وقال ابن المبارك: أو كما بين مكة وبصرى، وبصرى: قرية في الشام كما قلنا، وأما هجر فهي البحرين المعروفة الآن. وعن خالد بن عمير العدوي قال: خطبنا عتبة بن غزوان فقال في خطبته: وإن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين عاماً. فتصور أنك تمشي على عتبة الباب ما بين فكه الأيمن والأيسر أربعين عاماً، [(وليأتين عليها يوم وما منها باب إلا وهو كظيظ من الزحام) يعني: مساحة ما بين المصراعين مسيرة أربعين عاماً، ومع هذا سيكون مزدحماً جداً للداخلين، وهذه بشارة خير بإذن الله تعالى.

ذكر اليوم الذي تفتح فيه أبواب الجنة

ذكر اليوم الذي تفتح فيه أبواب الجنة أما الأيام التي تفتح فيها أبواب الجنة فقد روي عن النبي عليه الصلاة والسلام بسند حسن أنه قال: (إن للجنة ثمانية أبواب، سبعة منها مغلقة، وباب منها هو باب التوبة مفتوح حتى تطلع الشمس من مغربها، وهو باب التائبين). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (تفتح أبواب الجنة في كل يوم اثنين وخميس) وهو حديث صحيح، وفي رواية بزيادة: (فيغفر فيها لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً، إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا)، وليس معنى ذلك أن هذين الأخوين شقيقان؛ لأن الأخوة هي أخوة الإيمان والإسلام، وهي قبل أخوة النسب. قوله: (تفتح أبواب الجنة في كل يوم اثنين وخميس)، إلا للمشرك فإنه لا ينالها قط، وكذا من كان بينهما خصومة وشحناء فإنهما يحرمان من هذا الخير وهذا الفضل حتى يصطلحا. وليس يعني ذلك أن الإنسان يحرص على الصلح حتى ولو كان ذلك الصراع أو الشحناء بينه -وهو من أهل السنة- وبين أهل البدع أو أهل الفجور أو غير ذلك، فقد بوب الإمام البخاري في صحيحه في قصة الثلاثة الذين خلفوا قال: باب جواز الهجر خمسين يوماً، وهي المدة التي نزل فيها توبة التائبين الثلاثة الذين تخلفوا رضي الله عنهم، فإذا كان القطع، والمنع، والهجر في الله عز وجل فإنه ممتد حتى يرجع الظالم الباغي المعتدي عن ظلمه وبغيه واعتدائه وإن طال ذلك إلى أعوام وأعوام.

ذكر حلق أبواب الجنة

ذكر حلق أبواب الجنة قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أنا أول من يأخذ بحلقة باب الجنة ولا فخر -يعني: أول من يدفعها- حتى تقعقع) يعني: يحدث لها صوت، كما قال: (فآخذ بحلقة باب الجنة فأقعقعها)، والحديث صحيح.

ذكر حجبة الجنة وخزانها

ذكر حجبة الجنة وخزانها عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أنفق زوجين من ماله ابتدرته حجبة الجنة). قوله: (من أنفق زوجين) أي: فرسين، أو بعيرين، أو خزانتين من ماله، المهم أنه ينفق زوجين من المال، وكذلك الولد، وانظر إلى تصور الجهاد في نظر الأمة الآن، أوفي نظر كثير من الأمة الآن، فالجهاد عندهم خسارة، وتدمير، وتشريد، وتقتيل، وإراقة للدماء، ولا يرون في الجهاد أي فضل البتة، وينظرون إليه على أنه شر مستطير، فيقبلون الهوان والذل، وأن يعيشوا تحت أقدام اليهود والنصارى، ولا يقبلون أن يضحوا بأبنائهم وشبابهم في سبيل الله عز وجل. إن المجاهد عند الله له ما ليس لأحد، ولا يفوق الشهيد عند الله أحد إلا الأنبياء والمرسلون، وأما أن نعتبر أن الجهاد في سبيل الله خسارة في العدد والأرواح وغير ذلك، فهذا تصور في قمة الباطل، والسفه والغفلة عن شرع الله عز وجل. قوله: (ابتدرته حجبة الجنة) يعني: تصور أنك تقول لابنك: يا ابني البس لأمتك وانطلق إلى الجهاد في سبيل الله، ويا ليت لا ترجع أيضاً، فهذا شيء عجيب جداً، وقد كان السلف رضي الله عنهم يفعلون ذلك، وكانت المرأة لا أقول الرجل إذا أرسلت ولدها وأتاها آت بعد انتهاء الغزو تقول: أأتيت مبشراً ومهنئاً، أم أتيت بخبر؟ فإذا قال: ما البشرى من الخبر؟ قالت: الخبر أن تخبرنا أنه قادم، والبشرى أن تخبرنا: أنه قتل في سبيل الله، فتصور المرأة تفرق بين الخبر والبشرى، وهي لا تريد الخبر وإنما تريد البشرى! فحينئذ ينبغي للأمة أن تغير مفاهيمها وإلا فستزداد ذلاً، وهواناً، وانكساراً، وتعلو نعال اليهود على هاماتها، فلابد من التضحية، والفداء، وأنه لا سبيل قط إلى عز هذه الأمة بعد ذلها، ولا إلى رفعتها بعد خستها إلا بالجهاد في سبيل الله أبداً. وقال عليه الصلاة والسلام: (وما من مسلمين يموت بينهما ثلاثة من أولادهما لم يبلغوا الحنث إلا غفر الله لهم)، وفي رواية: (ما من مسلم ينفق من كل مال له زوجين في سبيل الله إلا استقبلته حجبة الجنة كلهم يدعونه إلى ما عنده) أي: كلهم يقول: تعال عندي. وعن أبي ذر رضي الله عنه مرفوعاً: (ما من مسلم ينفق من ماله زوجين في سبيل الله إلا دعته حجبة الجنة: ألا هلم، ألا هلم) أي: تعال عندي. وقد جاء من تفسير الزوجين: إن كانوا رجالاً فرجلان، وإن كانت خيلاً ففرسان، وإذا كانت إبلاً فبعيران، حتى عد أصناف المال كلها. وعند البخاري قال: (من أنفق زوجين من أي شيء من الأشياء)، فليحرص كل واحد منا أنه ينفق نوعين دائماً. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أنفق زوجين من ماله في سبيل الله عز وجل دعته حجبة الجنة، يقولون: أي فل، أي فل) يعني: يا فلان، فكلمة أي فل: ترخيم لكلمة يا فلان، فينادون عليه بالترخيم والتفخيم (أي فل! هلم هذا خير) يعني: تعال عندي فالذي عندي خير. (قال أبو بكر: يا رسول الله! هذا الذي لا توى عليه) والتوى: هي الحسرة، والندامة، والخسارة. فـ أبو بكر لما سمع هذا من النبي عليه الصلاة والسلام أن الجنة نفسها تناديه وتقول له: (تعال هذا خير، قال: والله يا رسول الله ليس على هذا ندامة)، أي: ليس على من أنفق زوجين ندامة. فقال: (أما إني أرجو أن تدعوك حجبة الجنة كلها يا أبا بكر) يعني: إني لأرجو أن كل حجبة الجنة يدعونك فتدخل من جميع الأبواب. وعن أبي هريرة مرفوعاً: (من أنفق زوجين من شيء من الأشياء في سبيل الله دعي من أبواب الجنة يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، فقال أبو بكر: ما على هذا الذي يدعى من تلك الأبواب من ضرورة؟). يعني: يا رسول الله! هل ممكن أحد يدعى من الأبواب كلها؛ لأنه صاحب صلاة، وصيام، وجهاد وغير ذلك، فهل يمكن أن يدعى من جميع الأبواب؟ (فقال النبي عليه الصلاة والسلام: نعم، وإني لأرجو أن تدعى يا أبا بكر منها جميعاً)، وهذا الحديث عند البخاري.

رائحة الجنة

رائحة الجنة والجنة لها رائحة طيبة كأطيب ما تكون الرائحة، ويوجد أثر هذه الرائحة من مسيرة خمسمائة عام، وقيل: من مسيرة مائة عام، وقيل: أقل من ذلك، وقيل: أكثر من ذلك، والروايات كلها صحيحة، فكأن ريح الجنة يشمها من كان من أهلها على حسب عمله، وعلى حسب درجته، فمنهم من يشم رائحة الجنة على مسيرة خمسمائة عام، ومنهم من يشم رائحتها على مسيرة مائة عام، وأربعين عاماً، وغير ذلك والروايات كلها صحيحة، فإذا صحت الروايات وجب العمل بها جميعاً، وهو خير من رد بعضها، أو الحكم عليها بالشذوذ أو النكارة وغير ذلك. والنبي عليه الصلاة والسلام قد ذكر في رواية عن المتبرجات، وعن السلطان الظالم: (أنهما لا يشمان رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا، -وفي رواية-: من مسيرة خمسمائة عام). واحد يقول: نحن في هذا الوقت لا نشم رائحة الجنة، وما يدريك أن غيرك قد شمها منذ خمسمائة عام، وأن الله قد حرمك هذه الرائحة. وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من قتل معاهداً بغير حق لم يرح رائحة الجنة)، والمعاهد هو الذي عقد عهداً بينه وبين المسلمين، يعني: الذي بينه وبين المسلمين عهد أو هدنة، أو ميثاق أو شيء من هذا، ولو أنزلنا هذا الكلام على الواقع قلنا: الدولة في مجموعها تأذن لغير المسلمين أن يدخلوا في هذه البلاد، فكوني أنا ضابط مثلاً في المطار ومخول من قبل السلطان أن أصك جواز القادم من بلاد الكفر لمدة خمسة عشر يوماً إقامة في البلد عندي، فهذا إذن وعهد، وميثاق، فلا يجوز لي أن أتعرض له بالقتل أو الضرب أو التشريد أو غير ذلك بعد أن أذنت له بالدخول، فلو تعرضت له لكان عقابي هذا الحديث (من قتل معاهداً بغير حق لم يرح رائحة الجنة، وإنه ليوجد ريحها من مسيرة أربعين عاماً). وهذا من الزجر والوعيد الشديد، ومن المعلوم والمقطوع به شرعاً أن الأموال، والأعراض شيء واحد، فمن استحل الأموال استحل الأعراض، ومن استحل الأعراض استحل الأموال. وقد وجه إلي وأنا في أمريكا سؤال يقول السائل: أنا أعمل في المحل الفلاني، وأسرق نسبة عظيمة جداً من المال استحلالاً. فقلت له: لو أن امرأة صاحب المحل أتت المحل هل تستحل أنت عرضها -لأن العلماء لم يفرقوا بين العرض وبين المال- والذي يستحل هذا يستحل ذلك؟ فقال: نعم وما المانع في ذلك، قلت: الذي يستحل المال يجب عليه أن يستحل العرض؛ لأنهما متفقان، ومبرمان في عقد واحد. فأموال الكفار، ودماء وأعراض الكفار لا تكون حلالاً إلا إذا رفعت راية الجهاد بين معسكر الإيمان والكفر، هذا في النزال العام، وفي النزال الخاص لا يجوز التعرض بالأذى في المال، والنفس للكفار المعاهدين إلا إذا بغوا ونقضوا العهد، فحينئذ إما أن ينذرهم الإمام -أي: السلطان- أن يخرجوا من البلد، أو يعتذروا عما بدر منهم، ويردوا المظالم إلى أهلها من المسلمين، وإما أن يقع النزال الخاص في داخل البلد، وأحكام أهل الذمة كثيرة جداً لكني أردت بالمناسبة أقول: إن للجنة ريحاً وهذه الريح الطيبة، الزكية، يشمها المؤمن، لكن هناك حوائل وموانع من شم هذه الريح، منها: التعرض للمعاهد بالأذى في نفسه، وماله، وعرضه كما في الحديث: (من قتل معاهداً بغير حق)، وهذا قيد واستثناء فمن قتله بحق فإنه لا تنطبق عليه العقوبة، وأما بغير حق فتنطبق عليه العقوبة، وهذا كلام الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام. وقال عليه الصلاة والسلام: (من ادعى إلى غير أبيه لم يجد رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة مائة عام). ومعنى: (من ادعى إلى غير أبيه) يعني: نسب نفسه إلى غير أبيه، قال تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب:5]، وهذه الآية نزلت ناسخة للتبني الذي كان معروفاً في الجاهلية، والنبي عليه الصلاة والسلام قد تبنى زيد بن حارثة، أما ولده أسامة، فليس داخلاً في التبني، وإنما كان مولى للنبي عليه الصلاة والسلام، وأما زيد فكان ابن محمد عليه الصلاة والسلام بالتبني، حتى كان الناس يقولون: زيد بن محمد، حتى نزل قول الله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب:5]، يعني: انسبوهم لآبائهم ما داموا معروفين، وإن لم يكونوا معروفين: {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [الأحزاب:5]، فيكون هذا أخانا في الله، وليس لقيطاً، هو مسلم موحد، فيكون أخانا في الله، وتنتهي القضية هكذا.

الحرج المترتب على تبني اللقطاء

الحرج المترتب على تبني اللقطاء وبعض الناس يتمنى الولد؛ لأنه لم يخلف، فيأخذ له طفلاً من اللقطاء، ويربيه وينسبه إليه، فهذا حرام منهي عنه، وفيه حرج كبير جداً من عدة أوجه: الوجه الأول: أن هذا الولد لو كبر وبلغ فسيطلع على امرأتك، وهذا حرام؛ لأن هذه المرأة أجنبية عنه. الأمر الثاني: أنك لو نسبته إليك لكان مشاركاً في الميراث، فلو أنك مت أو ماتت زوجتك فلابد أن يرثها، وهذا ميراث بغير حق. والأعجب من ذلك أن رجلاً تبنى ولداً وفتاة، والولد أحب الفتاة على أعظم ما يحب الرجل المرأة، فأراد أن يتزوجها لأنه يعلم أنها ليست أخته، ويعلم القصة كلها من أنهما منسوبان إليه زوراً وبهتاناً، فطلب أن يتزوج هذه البنت، فاعترض المتبني وقال: هي أختك، لمجرد النسب، ولو بالباطل والزور، فتزوجها الولد رغماً عنه بغير ولاية ولا شهود إلا المأذون الذي عقد، ثم ذهب الرجل ورفع قضية في المحكمة، وحكمت المحكمة بالتفريق بين الرجل وامرأته، وهذا ظلم، وهذا من المفاسد العظيمة جداً المبنية على مخالفة شرع عز وجل. قوله: (فمن ادعى إلى غير أبيه لم يجد رائحة الجنة) يعني: من نسب إلى غير أبيه وهو يعلم أن هذا ليس أباً له، أما إذا كان لا يعلم فلا حرج على من تبناه، والإسلام قد نهى عن التبني. وكذلك المرأة تنسب نفسها للرجل، فهذا بلاء عظيم جداً، ومن الأخلاقيات الأوربية: أن تسمى فلانة فلان؛ على اسم زوجها. وكذلك الذي يتبرأ من ولده، فلو أن رجلاً مثلاً يضرب ابنه؛ لأنه غضبان منه ومن حركاته وتصرفاته، ويقول له: أنت لست ابني ولا أعرفك، فهذا الكلام شرعاً غير منضبط، لكن هذا الكلام مما جرت به العادة، وجرى به اللسان، ولا يقصد المتكلم حقيقة الكلام، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أفلح وأبيه إن صدق)، فهو من باب جريان عادة العرب، أو ألسنة العرب بالكلام دون القصد لعقد اليمين.

معنى قوله تعالى: (فيهما عينان نضاختان)

معنى قوله تعالى: (فيهما عينان نضاختان) وعن أنس بن مالك رضي الله عنه في قول الله تعالى: {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} [الرحمن:66]، قال: نضاختان بالمسك والعنبر على دور الجنة، كما تضخ السماء المطر على دور أهل الدنيا. ومعلوم أن كل ما في الدنيا لا يتوافق مع ما في الجنة إلا في الأسماء فقط، والحقيقة مختلفة، والماهية متباينة تماماً، فلا نسبة قط بين ما في الجنة وما في الدنيا أبداً: لا في المنظر، ولا في الجمال، ولا في الحلاوة، ولا في الطعم، فكل ذلك مختلف. {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} [الرحمن:66] أي: تضخ المسك والعنبر على بيوت الجنة، وعلى قصور الجنة، مثل السماء لما تضخ علينا المطر في الدنيا. وعن ابن عباس قال: نضاختان بالخير، والبركة، وبالمسك، والكافور.

صفة أرض الجنة

صفة أرض الجنة عن مجاهد قال: أرض الجنة من ورق -أي: من فضة- وترابها مسك، وأصول شجرها ذهب وفضة، وأفنانها -وهي الأغصان- لؤلؤ، وزبرجد، وياقوت، والثمر تحت ذلك، فمن أكل قائماً لم يؤذه، ومن أكل جالساً لم يؤذه، ومن أكل مضطجعاً لم يؤذه، {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا} [الإنسان:14]، يعني: مهدت وعبدت للآكلين، نزل الغصن إليك وأنت نائم، وأنت مضطجع، وأنت قائم، وأنت قاعد، فينزل عليك الغصن إذا اشتهيت حتى يكون بين يديك، فتأكل منه ما شئت.

ذكر نهار الجنة ونورها وسرج أهل الجنة

ذكر نهار الجنة ونورها وسرج أهل الجنة الجنة ليس فيها نهار وليل وبكرة وعشياً؛ لأنه ليس فيها شمس ولا قمر، ولكن الله عز وجل لما ذكر البكرة والعشي في القرآن، وكذلك ذكرها النبي عليه الصلاة والسلام؛ إنما ذلك من باب تقريب الفكرة إلى الأذهان، أي: قدر ما يكون بين الإبكار والعشي في الدنيا، لكن في الحقيقة ليس في الجنة شمس ولا قمر، وبالتالي لا ظلمة فيها مطلقاً؛ لأن ذلك لازم عن خفاء الشمس. فعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو أن ما يقل ظفر مما في الجنة بدا لتزخرفت له ما بين خوافق السماوات والأرض) يعني: أقل من الظفر لو بدا وظهر في الجنة لظهر النور الخفاق في السماوات والأرض، قال: (ولو أن رجلاً من أهل الجنة اطلع فبدا سواره لطمس ضوءه ضوء الشمس كما تطمس الشمس ضوء النجوم). وعن محمد بن كعب القرظي قال: (رؤي في الجنة كهيئة البرق فقيل: ما هذا؟ قال: رجل من أهل عليين تحول من غرفة إلى غرفة). في الحديث: (هي قناديل معلقة بالعرش تضيء لأهل الجنة، لا يطفأ نورها، ولا يقصر عنها أبصارهم من النظر)، وهو حديث ضعيف. قلنا من قبل: إن أهل الجنة لا ينامون؛ لأن النوم أخو الموت. ذكر بكر الجنة وعشيها: عن الضحاك قال في قوله تعالى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:62]، (ولهم رزقهم فيها): أي في الجنة {بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:62] يعني: على قدر ما كانوا يأكلون في الصباح وفي المساء. قال: جعل الله تعالى لأهل الجنة ساعات تدور كما تدور أيام الدنيا في غير شمس، ولا قمر، ولا ليل ولانهار إلا نور الآخرة، وجعل فيها البكرة، والمقيل، والعشي؛ لأن البكرة والمقيل والعشي ألذ ما يكون للناس في الدنيا، فجعل الله تعالى لهم مثلها في الجنة وزيادة، فأراد الله تعالى أن يشهي أولياءه ويلذذهم بالرزق ليأتيهم غدوة وعشية. وعن ابن عباس قال: ليس في الجنة بكرة ولا عشي، ولكن يؤتون بالنعيم على مقادير ذلك بالليل والنهار في الدنيا. يعني: لو أن الإنسان ينتظر المساء حتى يأتي وقت الطعام، فإذا قدم له التذ به، وإنسان يقوم بعد صلاة الصبح يريد أن يفطر؛ فإذا قدم له الطعام والحليب وغير ذلك اشتهاه والتذ به، فكذلك أهل الجنة بغير قياس. وعن قتادة في قوله تعالى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:62]، قال: لهم رزقهم فيها كل ساعة. والساعة في لغة الشرع: هي المدة من الزمان، أي: ليست ستين دقيقة. قال: والبكرة والعشي ساعاتان من الساعات ليس ثم ليل -يعني ليس هناك ليل- وإنما هو ضوء ونور. وعن مجاهد في نفس الآية قال: ليس فيها بكرة ولا عشي، ولكنهم يؤتون به على ما يحبون من البكرة والعشي.

ذكر عدد درجات الجنة

ذكر عدد درجات الجنة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة مائة درجة، أعدها الله للمجاهدين في سبيله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض). ودرجات الجنة مائة درجة، وبعض أهل العلم قال: لا يعلم درجات الجنة إلا الله، وهذا القول استنباطاً من قوله عليه الصلاة والسلام: (يقال لتالي القرآن وقارئه: اقرأ وارق ورتل؛ فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها)، فقال: درجات الجنة بعدد آيات القرآن الكريم؛ لأن ظاهر الحديث يقول هكذا، وبالتالي ليست درجات الجنة معلومة، لأن آيات القرآن الكريم محل نزاع بين أهل العلم، فمنهم من يعد الآيتين آية واحدة، ومنهم من يعد الآيتين آيتين، وهذا أمر مقارب. وهل المقصود أنه يقرأ آخر ختمة له، أم أن ذلك في حياته كلها، فإذا فرغ من القرآن بدأ القرآن مرة أخرى، فعدت له درجات، ولا تزال في مزيد وارتفاع؟ هذا محل نزاع بين أهل العلم. فالذي يقول: درجات الجنة غير معروفة، فقوله هذا من جهة المفهوم لا المنطوق، وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول لقارئ القرآن: (اقرأ، وارتق، ورتل، فإن منزلتك عند آخر آية)، فهو فهم من النص ألا نهاية لدرجات الجنة، وأنه لا يعلمها إلا الله، وهذا هو مفهوم. وأما قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن في الجنة مائة درجة، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض)، فهذا منطوق، والمنطوق هو ما جاء في الكتاب أو السنة، والمنطوق مقدم على المفهوم، لكنه عليه الصلاة والسلام قال: (أعدها الله للمجاهدين في سبيله)، فدل هذا القيد على أن الأصل في درجات الجنة أنها مائة درجة بغير زيادة ولا نقصان، وأنها للمجاهدين من باب التشريف، وأن لهم في كل درجة من درجات الجنة، فدرجات الجنة لا تزيد على العدد المذكور. هذا كلام أهل العلم من أهل الأصول فيما يتعلق بالقضية المتنازع فيها، والتي يحكمها المنطوق والمفهوم، فلو تعارض المنطوق مع المفهوم قدم المنطوق واعتمدنا عليه. وقال عليه الصلاة والسلام: (إن الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين مسيرة مائة عام)، وفي رواية قال: (كما بين السماء والأرض).

ذكر أسنان أهل الجنة وميلادهم وقامتهم

ذكر أسنان أهل الجنة وميلادهم وقامتهم أسنان: جمع سن وهو العمر، فالذي يدخل الجنة يكون في سن ثلاث وثلاثين سنة، فمن مات قبل سن ثلاث وثلاثين -كمن كان طفلاً صغيراً- فإنه سيدخل الجنة وعمره ثلاث وثلاثون سنة، وهؤلاء الأطفال حول أبويهم. وما المانع أن الطفل يأخذ بيد أبويه وعمره ثلاث وثلاثون سنة إذاً، وسيكون أبوه أيضاً في نفس السن، فإذا كان آدم عليه السلام سيكون في هذا السن؛ فكذلك غيره، والسقط يدخل الجنة على سن ثلاث وثلاثين سنة. والسقط هو ما نفخ فيه الروح. وهذه المسألة محل نزاع، هل نفخ الروح بعد أربعة أشهر أم بعد أربعين يوماً؟ والذي يترجح لدي من أقوال أهل العلم كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك)، وكما في رواية صحيحة عند مسلم في الصحيح (إن أحدكم يخلق في بطن أمه نطفة، ثم يكون ذلك مثل ذلك علقة، ثم يكون ذلك مثل ذلك مضغة، ثم يرسل إليه ملك) إلى آخر الحديث والذي يترجح لدي أن الروح تنفخ بعد الأربعين يوماً لا بعد مائة وعشرين يوماً. والسقط لا يصلى عليه، والصلاة عليه مستحبة وليست واجبة، ولا يوجد فيها خلاف. والله تعالى قد أعطى القدرة لأهل الجنة أن يعرفوا أملاكهم، وقصورهم، وزوجاتهم، فيدخلون عليها مباشرة، ويعرفون أملاكهم بالجنة أكثر من معرفتهم بيوتهم في الدنيا، دون أن يعتدوا على أملاك أحد، أو أن يعتدي عليهم أحد. قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يدخل أهل الجنة الجنة جرداً، مرداً، بيضاً، جعاداً، مكحلين، أبناء ثلاث وثلاثين، على خلق آدم طول ستين ذراعاً، في عرض سبعة أذرع). ومعنى (جرداً) أي: لا شعر في أبدانهم، (مرداً): أي لا شعر في لحاهم، والغلام الأمرد: هو الذي لا شعر في لحيته، والأجرد: الذي لا شعر في بدنه كله، فيدخل أهل الجنة الجنة جرداً، لا شعر في أبدانهم، ولا شعر في لحاهم. قال: (بيضاً) وهو احتراز من السواد، (جعاداً) أي: أصحاب الشعر المجعد، وفيه إشارة إلى أن معظم أهل الجنة من العرب. قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يدخل أهل الجنة الجنة جرداً، مرداً، بيضاً، جعاداً) يعني: شعرهم مجعد، وهذه صفة مدح، خلافاً للعجم الذين شعرهم سايح وهو ليس لائقاً للرجال، وأخيراً لما اكتشفوا أن الجعودة أفضل من النعومة في هذا الوقت ذهبوا إلى الكوافير من أجل تجعيد شعورهم. قال: (أبناء ثلاث وثلاثين)، يعني: يدخلون الجنة جرداً، مرداً، بيضاً، جعاداً، أبناء ثلاث وثلاثين، وهذا نص قاطع أنه لا يوجد أحد سيدخل الجنة إلا وعمره ثلاث وثلاثون سنة. (على خلق آدم) أي: على صورة آدم أنه في السماء (ستين ذراعاً، في عرض سبعة أذرع)، والحديث صحيح. وفي رواية: (يبعث الناس يوم القيامة في صورة آدم جرداً، مرداً، مكحلين، أبناء ثلاث وثلاثين، ثم يؤتى بهم بشجرة بالجنة -يعني: يذهبون إلى شجرة في الجنة- فيكسون منها، لا تبلى ثيابهم، ولا يفنى شبابهم). وعن المقداد بن معدي كرب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يحشر الناس يوم القيامة ما بين السقط إلى الشيخ الفاني) يعني: ابتداء من السقط حتى الشيخ الهرم الفاني: أي: الكبير الذي أفنى عمره وطال، فيحشرون جميعاً وهم: (أبناء ثلاث وثلاثين سنة). قال: (المؤمنون منهم في خلق آدم عليه السلام، وقلب أيوب، وحسن يوسف عليه السلام، مرد مكحلون، ذوي أفانين)، يعني: شعورهم كاللمة، أو الجمة قد بلغت أكتافهم.

صفة رجال أهل الجنة

صفة رجال أهل الجنة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: والذي أنزل الكتاب على محمد، إن أهل الجنة ليزدادون جمالاً وحسناً، كما يزدادون في الدنيا قباحة وهرماً. أي: وكبراً في السن، فهم يزدادون في الجنة جمالاً وحسناً، فالمرء يزداد جمالاً حتى تخبره امرأته من الحور العين في حالة رؤية المولى عز وجل، حينما يقتبسون من نوره سبحانه وتعالى. وعن داود بن عامر بن سعد -وهو ابن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه- قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لو أن رجلاً من أهل الجنة اطلع فبدا سواره لطمس ضوءه ضوء الشمس كما تطمس الشمس ضوء النجوم). وعن أبي أمامة رضي الله عنه مرفوعاً قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (مسورون بالذهب والفضة، مكللون بالدر) أي: عليهم أكاليل من در، والإكليل: هو ما احتف بالشيء من جانبه، قال: (عليهم أكاليل من در وياقوت متواصلة، عليهم تاج كتاج الملوك، شباب جرد، مكحلون)، فهذه صفات رجال أهل الجنة.

اشتهاء الولد في الجنة

اشتهاء الولد في الجنة وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل من أهل الجنة ليولد له كما يشتهي، فيكون حمله، وفصاله، وشبابه في ساعة واحدة)، وهذا شيء عجيب. قوله: (كما يشتهي): أي: كما يحلم، فإذا اشتهى الولد أتاه الولد في لحظة واحدة، وفي برهة من الزمان، فيكون حمله، وفصاله، وكل هذا في لحظة واحدة، لكن القضية أنه لا يشتهي ذلك أبداً، لأن هذا أمر يتنافى مع ملذات ونعيم الجنة. وابن القيم يقول: كيف يشتهي الرجل في الجنة الولد؟! وإذا اشتهاه أتاه في ساعة واحدة، وبعضهم قال: إن إسناد الحديث صحيح وأخشى أن يكون منكراً. يقصد أن المتن فيه نكارة؛ لأن هذا شيء غير معلوم عند أهل العلم، فرد عليه أكثر من واحد، ومنهم ابن القيم فقال: الحديث صحيح، لكن الأمر محمول على أنه لو اشتهى مع أنه لن يشتهي. كما قال عليه الصلاة والسلام: (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها؛ من عظم حقه عليها)، لكنه لم يأمر بذلك، ولو كان له أن يأمر لأمر بذلك، لكنه لم يأمر، وليس هذا له عليه الصلاة والسلام؛ لأن الله منعه أن يأمرنا بذلك. وقال عليه الصلاة والسلام: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء، أو عند كل صلاة)، فهو صلى الله عليه وسلم لم يأمر بذلك إلا أمر استحباب، لا وجوب، وأنتم تعلمون أن استعمال السواك ليس واجباً وإنما هو سنة ومستحب، وغير ذلك من الروايات.

ذكر ما يستقبلون به من الكرامات عند مصيرهم إلى الجنة ودخولها

ذكر ما يستقبلون به من الكرامات عند مصيرهم إلى الجنة ودخولها ورد حديث عن علي بن أبي طالب، وهو حديث موقوف في حكم المرفوع؛ لأنه من أمور الغيب التي لا تعلم إلا من الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام، قال: (يساق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً -أي: أفواجاً ودفعات- حتى إذا أتوا إلى باب من أبوابها وجدوا عنده شجرة يخرج من تحت ساقها عينان تجريان، فعمدوا إلى إحداهما -أي: ذهبوا إلى أحدهما- كأنما أمروا فشربوا منها، فأذهبت ما في بطونهم من قذر، وأذى أو بأس، ثم عمدوا إلى الأخرى) أي: ذهبوا إلى العين الثانية: (فتطهروا منها، فجرت عليهم أبشارهم بنضرة النعيم، فلم يغيروا ولم تغير أبشارهم بعدها أبداً، ولم تشعث أشعارهم، كأنما دهنوا بالدهان). يعني: تطيبوا بالعطر (ثم انتهوا إلى خزنة الجنة) أي: ذهبوا إلى خزنة الجنة، (فقالوا: سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين، ثم تلقاهم أو تلقتهم الولدان يطيفون بهم كما يطيف ولدان أهل الدنيا بالحميم -أي: بالأقارب الأحماء- يقدم من غيبته يقولون له: أبشر بما أعد الله لك من الكرامة، ثم ينطلق غلام من بين أولئك الولدان إلى بعض أزواجه من الحور العين) يعني: الولد الصغير يذهب سريعاً إلى الحور العين (يقول لهن: قد جاء فلان باسمه الذي كان يدعى به في الدنيا). ومعلوم أن المرء يدعى يوم القيامة باسم أبيه؛ والعوام يظنون أن الواحد ينادى عليه يوم القيامة باسم أمه، وهذا غلط، وهذه مسألة اعتقادية، فالمرء ينادى باسمه واسم أبيه، حتى وإن نسب إلى غير أبيه، يعني: وإن كان ولد زنا، فإنه يدعى باسمه واسم أبيه الحقيقي صاحب الماء. فالغلام يذهب إلى زوجته من الحور العين ويقول لها: زوجك أتى، قال: (فيقول: قد جاء فلان باسمه الذي كان يدعى به في الدنيا، فيقولون -أي: الحور العين-: أنت رأيته؟ فيقول: أنا رأيته، وهو ذا يأتي، فيستخف إحداهن الفرح) يعني: الفرح يأخذ الواحدة منهن أخذاً لا تستطيع أن تصبر، تريد أن ترى زوجها وحبيبها، (حتى تقوم على أسكفة الباب) يعني: حتى تقف على عتبة القصر، (فإذا انتهى إلى منزله نظر إلى أساس بنيانه) أي: إذا ذهب إلى بيته في الجنة نظر إلى الأساس الذي بني منه هذا البيت، قال: (فإذا جندل اللؤلؤ، فوقه مرج أخضر، وأصفر، وأحمر من كل لون، ثم رفع رأسه إلى سقفه فإذا مثل البرق، فلولا أن الله تعالى قدره لألم أن يذهب بصره) يعني: لولا أن ربنا كاتب له البقاء لذهب بصره من فرط فرحته، وذهول ما ينظر إليه. (فإذا نظر إلى أساس بنيانه فإذا جندل اللؤلؤ فوقه مرج أخضر، وأصفر، وأحمر من كل لون، ثم رفع رأسه إلى سقفه فإذا مثل البرق، فلولا أن الله تعالى قدره لألم أن يذهب بصره، ثم طأطأ رأسه فنظر إلى أزواجه، وأكواب موضوعة، ونمارق مصفوفة، وزرابي مبثوثة، فنظر إلى تلك النعمة، ثم اتكأ فقال: الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، ثم ينادي مناد: تحيون فلا تموتون أبداً، وتقيمون فلا تظعنون أبداً، وتصحون فلا تمرضون) هكذا الحديث في ذكر الكرامة التي يقابل بها أهل الجنة.

رضوان الله على أهل الجنة

رضوان الله على أهل الجنة وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله تعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا، وسعديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك؟ فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك، أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً)، فأعظم نعيم الجنة بعد رؤية المولى عز وجل هو الرضوان الذي يحل عليهم. (إذا دخل أهل الجنة الجنة قال الله تعالى: هل تشتهون شيئاً فأزيدكموه؟ قالوا: يا ربنا وهل بقي شيء إلا وقد نلناه؟ فيقول: نعم؛ رضائي، فلا أسخط عليكم أبداً). وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (يقول الله تعالى لأهل الجنة: سلوني، فيقولون: نسألك الرضا، فيقول: رضاي أحلكم داري، وأنالكم كرامتي، ثم يقول: سلوني، فيقولون بأجمعهم: نسألك الرضا، فيشهد لهم على الرضا، ثم يقول: سلوني، فيسألونه حتى تنتهي عند كل عبد منيته، ثم يعقبها عليهم: ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر). أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها - في الجنة شجرة يسير الراكب فيها مائة عام

شرح صحيح مسلم - كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها - في الجنة شجرة يسير الراكب فيها مائة عام الجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وقد جاءت الآيات والأحاديث بذكر ما في الجنة من النعيم المقيم، والخيرات الحسان، ترغيباً للمؤمنين في طلبها، ودفعاً لهم إلى التشمير لها، والفوز بدخولها والمقام بها، فهي سلعة الله الغالية.

الجنة وصفة نعيمها وأهلها

الجنة وصفة نعيمها وأهلها بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أما بعد: (كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها).

شرح حديث: (حفت الجنة بالمكاره)

شرح حديث: (حفت الجنة بالمكاره) قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب -وهو المعروف المشهور بـ القعنبي نسبة إلى جده- حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت وحميد - وهو ثابت بن أسلم البناني البصري سيد من سادات التابعين، وحميد هو ابن أبي حميد الطويل مشهور بذلك- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حفت الجنة بالمكاره)]. وفي رواية: (حجبت)، فـ: البخاري روى هذا الحديث بروايتين: الرواية الأولى: (حفت)، وقد وافقه فيها مسلم، ثم انفرد البخاري برواية أخرى وهي: (حجبت)، وكلاهما بمعنى. قال: [(حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات)]. قال الإمام النووي عليه رحمة الله: وهذا من بديع الكلام وفصيحه التي أوتيها صلى الله عليه وسلم من التمثيل الحسن، أي: أنه يمثل الشيء بالمثال الحسن الذي يقرب المعنى والمفهوم من الأذهان، ومعنى هذا الحديث: لا يوصل إلى الجنة إلا بارتكاب المكاره، ولا يوصل إلى النار إلا بارتكاب الشهوات، فبين أن الجنة لا يصل إليها من يصل إلا بارتكاب المكاره، ولا شك أن هذه المكاره في باب العبادات والطاعات، والجنة والنار محجوبتان بالمكاره والشهوات، فمن هتك الحجاب وصل إلى المحجوب، فمن هتك حجاب المكاره في العبادات والطاعات وصل إلى الجنة، ومن هتك حجاب المحارم وصل إلى النار. فأما المكاره فيدخل فيها الاجتهاد في العبادات، والمواظبة عليها، والصبر على مشاقها، وكظم الغيظ، والعفو، والحلم، والصدقة، والإحسان إلى المسيء، والصبر عن الشهوات ونحو ذلك، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (وإسباغ الوضوء على المكاره)، فمن المكاره الوضوء بالماء البارد في اليوم البارد، وخاصة لو خرجت من تحت لحافك في صلاة الفجر فهذا شيء النفس تأباه وترفضه؛ لأن النفس بطبيعتها تميل إلى الراحة، وإلى ما يحلو لها، وإلى ما تشتهيه، ففي هذه الليالي الباردة لا شك أن النفس تركن إلى الدفء وإلى الغطاء، فكونك تلجمها وتكرهها على أن تقوم فتتوضأ ثم تقف لله عز وجل فتصلي وتقرأ القرآن وغير ذلك، وتفوت على نفسك ساعات طويلة من النوم والراحة، فلا شك أن هذا أمر فيه تأديب وتربية للنفس، وقد سميت هذه الأمور بالمكاره لأنك تكره نفسك على طاعة الله عز وجل، وتكرهها كذلك على اجتناب محارم الله عز وجل. فالستار الذي بينك وبين الجنة هو مكاره الطاعات والعبادات، فمن هتك هذا الستر وتغلب على نفسه وصل إلى الجنة، والنار محجوبة عنك بستار المحارم والشهوات المحرمة، فإذا ما هتكت هذا الستر دخلت النار، وإذا ما أقمته، وابتعدت عنه، وانتهيت عنه، فلا شك أنك ستنجو من النار بإذن الله تعالى، فهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات). أما الشهوات التي حفت بها النار، فالظاهر أنها شهوات محرمة كالخمر، والزنا، والنظر إلى الأجنبية بشهوة، والغيبة، والنميمة، واستعمال الملاهي، والمعازف، والموسيقى، وسائر المحرمات، كل هذا يمثل ستاراً قوياً يؤدي بك إلى النار أو ينجيك من النار، فإذا هتكت هذا الستر التي هي الشهوات المحرمة دخلت النار وإلا فلا. وأما الشهوات المباحة فلا تدخل في هذا؛ فشهوة النكاح شهوة مباحة وهي نفس الشهوة عند من اشتهى الزنا، لكنه إن أطلق العنان لنفسه بالزنا دخل النار، وإن أطلقت العنان لنفسك بالشهوة المباحة الحلال فلا حرج عليك في ذلك، وإن كان هناك كراهة في الإسراف والغلو في المباحات حتى لا تؤدي بك إلى الحرام، فيكره الإكثار منها مخافة أن تجر إلى المحرم، أو تقسي القلب أو تشغل عن الطاعات، أو تحوج صاحبها إلى الاعتناء بتحصيل الدنيا للترف فيها وغير ذلك. فلو أن شخصاً كل همه أن يحصل الدنيا، ومع ذلك هو يجتنب المحرمات، وربما يبتعد عن المكروهات كذلك، لكنه مشغسول بتحصيل المباحات، والتحسينات، والكماليات، فلا شك أن هذا كله يؤدي به إلى ضعف الديانة في قلبه، وبالتالي ينصرف همه وتنصرف همته إلى تحصيل الدنيا، وأنتم تعلمون أن النبي عليه الصلاة والسلام ما جاء ليحصل الدنيا، ولم يأمر بها، وإنما لتحصيل الآخرة، والله تعالى يقول: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64]، أي: لهي الحياة الحقيقية لو كانوا يعلمون.

شرح حديث: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت)

شرح حديث: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت) قال: [وحدثني زهير بن حرب -وهو أبو خيثمة النسائي نزيل بغداد- قال: حدثنا شبابة -وشبابة هو ابن سوار المدائني، أصله من خراسان لكنه نزل مدينة المدائن الفارسية التي هي الآن معروفة بهذا الاسم في إيران- حدثني ورقاء -وهو ابن عمر اليشكري أبو بشر الكوفي نزيل المدائن- عن أبي الزناد -وهو عبد الله بن ذكوان المدني القرشي أبو عبد الرحمن - عن الأعرج -وهو عبد الرحمن بن هرمز المدني - عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل الحديث السابق. حدثنا سعيد بن عمرو الأشعثي، وزهير بن حرب قال زهير: حدثنا، وقال سعيد: أخبرنا]. ولا يزال أهل العلم يفرقون بين حدثنا وأخبرنا؛ لأن حدثنا لا تستخدم إلا في السماع من لفظ الشيخ، أما أخبرنا فتستخدم في ذلك وتستخدم في الإجازة، فلما كان الفرق بين هذا وذاك عند المحدثين ميز الإمام مسلم بين هذا وذاك. قال: [أما زهير فقال: حدثنا، وأما سعيد فقال: أخبرنا سفيان عن أبي الزناد -وسفيان عن أبي الزناد هو سفيان بن عيينة - عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله عز وجل: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)]. قوله: (أعددت لعبادي الصالحين): هذا وصف للعباد بأنهم صالحون، وأنهم لا يدخلون الجنة إلا إذا كانوا على هذه الصفة. قوله: (ما لا عين رأت): نفى الله عز وجل في هذا الكلام أن تكون عين في الدنيا رأت نعيماً يشابه أو يماثل نعيم الجنة، فمهما وقعت عينك على نعيم الدنيا فالجنة أعظم من ذلك. قوله: (ولا أذن سمعت): لأن المرء ربما يسمع عن نعيم، أو يسمع بشيء لا يتصوره، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (ليس الخبر كالمعاينة) أو: (ليس المخبر كالمعاين)، فبلا شك أن الإنسان يسمع أحياناً أخباراً لا يصدقها؛ لأنها في سمعه أو في بصره أمور مستحيلة، بعيدة المنال، فهو ربما يبادر إلى تكذيب الخبر لأن الخبر أكبر من تصوره، فما بالكم لو دخل الجنة ورأى فيها أدنى النعيم الذي هو أعظم من كل نعيم الدنيا؟ قال: [(أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، مصداق ذلك في كتاب الله تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17])]، وفي بعض تفاسير المحدثين من الصحابة والتابعين: جزاءً بما كانوا يصومون؛ لأن الصوم عبادة خفية بين العبد وربه، فقابلهم الله تعالى بجنس عملهم وهو الإخلاص في الصوم وكافأهم بمزيد عطائه في الجنة بما لا يمكن أن يخطر لهم على بال، فقال: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:17]، أي: مما تقر به أعينهم حين النظر إليه، {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17] أي: جزاء بما كانوا يخلصون لله تعالى في العبادة. قال: [وحدثني هارون بن سعيد الأيلي، حدثنا ابن وهب -وهو عبد الله بن وهب المصري - حدثني مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله عز وجل: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ذخراً)]. (ذخراً) أي: ذخراً لهم جزاء ما كانوا يعملون في الدنيا من الأعمال الصالحة؛ لأنه قال: (أعددت لعبادي الصالحين)، إذاً: هم كانوا يعملون الصالحات، ولعل في هذا إشارة إلى مراتب الناس عند الله عز وجل يوم القيامة، فالصالحون أعد الله لهم هذا النعيم الذي لم تره عين، ولم تسمع به أذن، ولم يخطر على قلب أحد أبداً، وهذا جزاء صلاحهم، وهل هناك قسم من الناس في الجنة لا يرى هذا النعيم الخاص بهؤلاء الصالحين؟ ربما يكون ذلك، وهؤلاء هم الذين عفا الله عنهم، وهم أصحاب الكبائر والصغائر الذين دخلوا في رحمة الله وفي مشيئة الله عز وجل، فربما ينالهم من الخير والمرتبة في الجنة أقل من مرتبة هؤلاء الصالحين، وبالتالي لا يتنعمون بهذا النعيم العظيم في الجنة، بل يتنعمون بنعيم هو دون ذلك في المرتبة، وأنتم تعلمون أن الجنة مراتب ومنازل، كما أن النار -أعاذنا الله وإياكم منها- دركات سفلى. إذاً: قوله: (ذخراً) أي: ذخراً لهم على ما قدموا من أعمال صالحة. قال: [(بل

باب إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها

باب إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها (الباب الأول: إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها). إن في الجنة شجرة: أي واحدة، يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها: أي لا ينتهي منها. قال: [حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا ليث، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه - أبي سعيد المقبري - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة)]. تصور لو أن شجرة في الدنيا يسير الراكب الجواد المسرع المضمر فيها لمدة ربع ساعة، لابد أن هذه الشجرة يعبدها الناس من دون الله عز وجل، وتأتي لها الوفود من شرق الأرض وغربها، للنظر إليها والتبرك بها، وعدوها من المعجزات، وهو يسير في ظلها ربع ساعة فقط، فما بالك أن تسير في ظل شجرة مائة عام وأنت راكب جواد مسرع قوي متين، ثم لا تقطعها بعد ذلك ولا تفرغ من المشي في ظلها. قال: [حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا المغيرة - وهو ابن عبد الرحمن الحزامي - عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله وزاد: (لا يقطعها). حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي -وهو المعروف ابن راهويه - أخبرنا المخزومي -وهو المغيرة بن سلمة أبو هشام البصري - حدثنا وهيب -وهو وهيب بن خالد بن عجلان الباهلي مولاهم البصري -عن أبي حازم، عن سهل بن سعد - أبو حازم هو سلمة بن دينار - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها)، قال أبو حازم -أي: سلمة -: فحدثت به النعمان بن أبي عياش الزرقي فقال: حدثني أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر السريع مائة عام ما يقطعها)]. وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه زيادة على ما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وهو بيان أن هذا السير للراكب الجواد المضمر السريع، والتضمير كما قال أصحاب اللغة، وأصحاب غريب الحديث: هو أن تأتي بفرس وتعلفها علفاً كثيراً حتى تأكل ويظهر لحمها وتسمن حتى تصير عظيمة، منتفخة من فرط سمنها، ثم لا تعلف بعد ذلك إلا قوتاً، ومعنى قوتاً: على قدر حاجتها، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً)، أي: على مقدار طعامهم وشرابهم في كل يوم بغير زيادة، وفيه بيان لما كان عليه النبي من زهد هو وأهل بيته عليه الصلاة والسلام. فالإنسان يضع أمام الدابة أو الفرس طعاماً عظيماً جداً فيلتهمه ويأكله بشراهة حتى يسمن، ثم بعد ذلك يمنع عنه الطعام ولا يقدم له إلا شيئاً يسيراً، بحيث إنه لا يشبع كما كان يشبع من قبل حتى يترهل لحمه ثم ينزل ذلك كله عرقاً، إذا منعت عنه الطعام نزل ذلك السمن والدهون بعد ذلك عرقاً، خاصة لو أنك جللت هذا الفرس ووضعت عليه الأحمال التي تجعل بدنه يزداد حرارة فيصفو ما في بدنه من دهن ويشتد لحمه ويكون قوياً، وهذه صورة من صور دواب العرب، والعرب يعلمون التضمير ويعرفونه، فهو يقول: إن الراكب لهذا الجواد المضمر السريع يمشي في ظل هذه الشجرة مائة عام وهو مسرع يعدو ولا يتوقف مائة عام ومع هذا لا يقطعها. ثم يقول العلماء: المراد بظلها كنفها وذراها، والإمام النووي رحمه الله مال مع من مال إلى أن الظل هنا هو الكنف، ولم يفسر الظل على ظاهره، فهو لم يتوقف عند ظاهر النص، وإنما اضطر إلى التأويل، قال: لو قلنا بالظل فيلزمنا أن نقول بالشمس، ومعلوم أن الجنة: {لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا} [الإنسان:13]، فإذا قلنا أن الراكب المسرع يسير في ظل الشجرة فيلزم من ذلك وجود شمس أو كهرباء، ولا يوجد في الجنة لا شمس ولا كهرباء؛ لأنها منيرة بنور وجه الله العظيم، فحينئذ اضطر أهل العلم أن يقولوا: أن ظل الشجرة ليس على ظاهره، وإنما المقصود بالظل الكنف والذرى، أي: أنه يمشي في ذراها وفي كنفها أو تحتها وتحت أغصانها، هذا هو المقصود بالظل وليس الظل على حقيقته، وهذا التأويل سائغ ومقبول، وليس كل تأويل مذموم ومردود، والله عز وجل يقول: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ} [النحل:98]، و (قرأ) فعل ماض، وظاهر النص أن الاستعاذة في آخر القراءة، لكن التأويل السائغ: إذا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ بالله، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا دخل أحدكم الكنيف فليقل: باسم الله)، وفي رواية: (

باب إحلال الرضوان على أهل الجنة

باب إحلال الرضوان على أهل الجنة (باب إحلال الرضوان -أي: إنزاله على أهل الجنة- فلا يسخط عليهم أبداً). قال: [حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن سهم، حدثنا عبد الله بن المبارك -إمام خرسان بل هو إمام الدنيا في زمانه- أخبرنا مالك بن أنس -الإمام الفقيه صاحب المذهب- وحدثني هارون بن سعيد الأيلي واللفظ له -أي: ليس هذا لفظ ابن سهم وإنما هو لفظ الأيلي - حدثنا عبد الله بن وهب، حدثني مالك]. إذاً عبد الله بن وهب، وعبد الله بن مبارك كلاهما يروي هذا الحديث عن مالك بن أنس. [عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يقول)]. إذاً: الله تعالى يتكلم متى شاء، وكيف شاء، بأي كلام شاء، ولفظ (يقول) فعل مضارع يفيد الاستمرار، فكلام الله تعالى لا ينفد ولا ينتهي. [(إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك)]. أي: طاعة لك واستجابة بعد استجابة، ونحن بين يديك تأمرنا بما شئت. [(والخير في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك؟ فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا رب، وأي شيء أفضل من ذلك؟)]. أي: مما أعطيتنا مما لم تره عين، ولم تسمع به أذن، ولم يخطر على قلب بشر، أي شيء بعد ذلك تميل إليه نفوسنا وتتمنى إلى النظر إليه أعيننا. [(فيقول الله عز وجل: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً)]. ولا شك أن هذا من أعظم النعيم في الجنة وهو إحلال الرضوان؛ لأنه رضوان لا سخط بعده أبداً، (أحل عليكم رضواني) أي: رضائي عنكم فلا أسخط، ولا أبغض، ولا أكره أحداً منكم بعده أبداً.

باب ترائي أهل الجنة أهل الغرف

باب ترائي أهل الجنة أهل الغرف قال رحمه الله تعالى: [باب ترائي أهل الجنة أهل الغرف]. يعني: من كانوا في ساحة الجنة ينظرون إلى أصحاب الغرف العليا ويرونهم، ومعلوم أن في الجنة غرفاً يرى داخلها كما يرى خارجها. وقوله: (باب ترائي) أي: ثبوت الرؤية بين عموم أهل الجنة وبين أصحاب الغرف كما يرى الكوكب في السماء، يعني: كما أنك تنظر هكذا إلى السماء فترى الكوكب الدري المضيء اللامع في وسط السماء، فكذلك وأنت تسير في الجنة لو نظرت فوقك لرأيت أصحاب الغرف تماماً كما لو أنك نظرت الآن إلى السماء فرأيت القمر أو البدر، أو النجم، فكذلك ترى وتتيقن أنك قد رأيته، وهذا شيء عجيب جداً لا يمكن أن يصدقه أحد؛ لأن المرء إذا سار في الشارع الآن ونظر في أول بلكونة ربما لا يتأكد ممن نظر إليه واختلط عليه نظره، أمحمد هذا الذي في البلكونة أم أحمد أم إبراهيم أم سيد أم زيد أم عزيز؟ ولكن هذا الاختلاط وهذا الشك والريب لا يخطر لك قط على بال في الجنة، فإنك إذا نظرت إلى أصحاب الغرف من فوق عرفتهم كما تعرف أن هذا هو القمر، لا تشك في أنه القمر وأن بجوار القمر نجماً، لا تشك في أنه نجم ولا يمكن أن يكون النجم قمراً في يوم من الأيام، هكذا يرى أصحاب الجنة أصحاب الغرف. قال: [حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا يعقوب وهو ابن عبد الرحمن القاري عن أبي حازم، عن سهل بن سعد؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أهل الجنة ليتراءون الغرفة في الجنة كما تراءون الكوكب في السماء) -وهذا تشبيه للرؤية بالرؤية- قال: -أي أبو حازم - فحدثت بذلك النعمان بن أبي عياش فقال: سمعت أبا سعيد الخدري رضي الله عنه يقول: (كما تراءون الكوكب الدري في الأفق الشرقي أو الغربي)]. أي: في الناحية الشرقية أو الغربية، والدري هو مسمى بذلك لشدة بياضه ولمعانه، والدر معروف أنه أرفع وأثمن الجواهر، وكذلك الكوكب الذي يظهر في الأفق الشرقي أو الغربي. قال: [وحدثناه إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا المخزومي -وهو المغيرة بن سلمة كما اتفقنا- حدثنا وهيب -وهو ابن خالد بن عجلان البصري كما اتفقنا- عن أبي حازم بالإسنادين جميعاً نحو حديث يعقوب] أي: ابن عبد الرحمن القاري. قال: [حدثني عبد الله بن جعفر بن يحيى بن خالد، حدثنا معن، حدثنا مالك]. ومعن هو معن بن عيسى، أثبت رواة البصرة عن مالك، وأثبت تلاميذه معن بن عيسى الأشجاعي أبو يحيى المدني القزاز. قال: [وحدثنا هارون بن سعيد الأيلي -واللفظ له- حدثنا عبد الله بن وهب، أخبرني مالك بن أنس، عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم -كأن هؤلاء في صحن الجنة ينظرون إلى أصحاب الغرف من فوقهم- كما تتراءون الكوكب الدري الغابر)]. أي: الذاهب الماشي الذي تدلى إلى الغروب، أي: الذي أوشك أن ينزل إلى جهة الغرب، وفي الرواية الأولى: (في الأفق الشرقي أو الغربي)، فإما أن يكون صاعداً من الشرق أو نازلاً إلى الغرب، فأنتم ترونهم على هذه الشاكلة أو على هذا النحو. قال: [(كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب)]. وأصح الرواية: (في الأفق)، وليس: (من الأفق) وهي رواية البخاري. قال: [(لتفاضل ما بينهم)]. يعني: يريد أن يثبت أن أهل الجنة جميعاً لا يكونون في منزلة واحدة بل في منازل متعددة، فإذا كان الله تعالى قد أعد للشهداء مائة درجة، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فقد أعد الله تعالى لهم من الدرجات في الجنة مائة درجة؛ لأن الشهداء ليسوا على منزلة واحدة، فهذا صالح وشهيد، وهذا عاصٍ وشهيد، بمعنى: أنه هذا يفعل المعاصي ولكنه مات في القتال رفعاً لراية التوحيد فهو شهيد؛ لكنه لا يستوي مع من كانت حياته قبل الشهادة كلها صلاحاً وطاعة، فهذا في درجة وذاك في درجة أخرى، وقس على ذلك التفاضل بين الناس، وهذا الحديث يثبت أن الناس في الإيمان والإسلام متفاوتون. قال: [(قالوا: يا رسول الله! تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال: بلى والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين)]. معلوم أنه لا أحد يدخل الجنة إلا إذا آمن بالله وصدق المرسلين، فكل من يدخل الجنة لابد أنه قد آمن بالله وصدق المرسلين، لكن الناس في التصديق وفي الإيمان متفاوتون، فبعض من يدخل الجنة ويكون له فيها من حظ تلك الغرف م

باب فيمن يود رؤية النبي عليه الصلاة والسلام بأهله وماله

باب فيمن يود رؤية النبي عليه الصلاة والسلام بأهله وماله (باب فيمن يود رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بأهله وماله). يعني: الإنسان يتمنى أن يرى النبي عليه الصلاة والسلام ولو كان ثمن ذلك أن يفقد أهله وماله، وهذه منزلة عظيمة جداً كلنا يدعيها، ومعظمنا كاذب فيها، كلنا يقول هذا بلسانه، لكن عند العمل والمحك كل منا لن يقدم ماله وأهله على رؤية النبي عليه الصلاة والسلام بل على رؤية الله عز وجل يوم القيامة، أكثر ما يزعم الناس زعماً وحقيقة ذلك لا تظهر إلا عند المحك، النبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث سفيان بن عبد الله لما سأله: (قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك، قال: قل آمنت بالله ثم استقم)، ومعظم الأمة اليوم يقولون: آمنا بالله، وقلوبنا عامرة بالإيمان بالله، وبالإسلام والتوحيد، لكنهم عند العمل ترى عجباً، أعمالاً تخالف الأقوال، ولكنها توافق حقيقة ما في القلب؛ لأن القلب لو امتلأ بوازع الإيمان لنهاك هذا الوازع عن اقتراف الكبائر بل والصغائر، لكن المرء سرعان ما يبادر كذباً بذكر محبة الله تعالى ومحبة رسوله، وتقديم محاب الله ومحاب رسوله على محابه ولكنه حين المحك تظهر الحقيقة. والمؤمن لا يقدم على الله ورسوله وشرعه أحداً مهما كان، وأعظم الناس حقاً عليك الوالدان، ومع هذا نهانا الشرع أن نطيعهما فيما حرمه الله عز وجل، وناهيك بعد الوالدين عن كل إنسان بعد ذلك أنت صاحب حق عليه، فالوالدان لهم حق عليك وليس لأحد من الناس بعد ذلك له حق عليك، بل أنت حقك على الناس من زوجة وولد، فالكل مطلوب منه أن يطيعك، وأنت مطلوب أن تطيع الوالدين في غير معصية الله عز وجل، قال عليه الصلاة والسلام (لا طاعة إلا في المعروف)، وفي رواية: (لا طاعة -أي: للوالدين- في معصية الله عز وجل). قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من أشد أمتي لي حباً ناس يكونون بعدي يود أحدهم لو رآني بأهله وماله)]. قوله: (من أشد أمتي لي حباً) ولم يقل: أشد أمتي، وإنما ذكر (من) التي تفيد التبعيض، يعني: فئة من المسلمين من أمتي يكونون من بعدي أشد حباً لي ويتمنون أنهم لو رأوني وأن يكون ثمن ذلك ومقابله فقدان الأهل والولد، أو فقدان الأهل والمال، والأهل يعني الزوجة والأولاد.

باب في سوق الجنة وما ينالون فيها من النعيم والجمال

باب في سوق الجنة وما ينالون فيها من النعيم والجمال (باب في سوق الجنة وما ينالون فيها من النعيم والجمال). السوق: هو مجمع الناس، حتى لا تقيسه أنت بسوق الدنيا سوق الخضار أو غيره، فمعنى كلمة السوق هو الذي يساق الناس إليه، أو يسوقون أنفسهم إلى هذا المكان فيجتمعون فيه. قال: [حدثنا أبو عثمان -وهو سعيد بن عبد الجبار البصري - حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت -وهو ابن أسلم البناني - عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن في الجنة لسوقاً)]. يعني: في الجنة سوق كما أن في الدنيا سوقاً، وهذا تشبيه للوجود بالوجود، كما أن الدنيا فيها أسواق موجودة فكذلك الجنة فيها سوق موجود، ولا يلزم من ذلك المماثلة والمشابهة من كل وجه. قال: [(إن في الجنة لسوقاً يأتونها كل جمعة)]. ومعنى: يأتونها كل جمعة أي: في مقدار كل جمعة يأتونها الناس ويجتمعون فيها، فلا يجتمعون في يوم معين، وكلمة اليوم تطلق على النهار، وكلمة الليل تطلق على الليل، واليوم لا يشبه الليل والنهار وإنما هو مختص بالنهار فحسب، وفي مصنفات أهل العلم ذكروا بعض عناوين للكتب مثل: أذكار اليوم والليلة، وأعمال اليوم والليلة، فاليوم يطلق على النهار، وأنتم تعلمون أن الجنة لا شمس فيها، ولا زمهرير، ولا ليل، ولا نهار، وبالتالي لا يوم فيها، ولا ليل، وحينئذ نقول: يقدر الوقت بأسبوع يجتمع الناس في هذا السوق في الجنة. قال: [(فتهب ريح الشمال)]. وريح الشمال هي ريح كانت تأتي من جهة الشام على أهل المدينة محملة بالأمطار، وكان أهل المدينة يحبونها، وينتظرونها في فصولها المؤقتة لها كما تنتظر المرأة وليدها، وهي ريح طيبة، وخيرة، تسمى ريح الشمال، أو الريح الشموأل أو الشمأل أو الشمل، هكذا يسميها العرب. قال: [(فتهب ريح الشمال فتحثو في وجوههم وثيابهم)]. وطينة الجنة، وأرض الجنة، وحصباؤها من زعفران ومسك، فهذه الرياح تأتي من شمال الجنة فتأخذها من أرض الجنة على وجوه هؤلاء الناس. قال: [(فيزدادون حسناً وجمالاً، فيرجعون إلى أهليهم -أي: نسائهم- وقد ازدادوا حسناً وجمالاً، فيقول لهم أهلوهم: والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً -يعني: أول ما خرجتم من هنا ورجعتم مرة أخرى ازددتم حسناً وجمالاً، فيرد الرجال على النساء- فيقولون: وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً)]. وفي هذا دليل أن هذه الرياح تعم جميع أهل الجنة من كانوا في الخيام والغرف، ومن كانوا في سوق الجنة.

باب أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر وصفاتهم وأزواجهم

باب أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر وصفاتهم وأزواجهم (باب أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر وصفاتهم وأزواجهم). وهذا تشبيه للصورة بالصورة، وليس للذات بالذات؛ لأن الإنسان لا يمكن أن يكون قمراً والقمر لا يمكن أن يكون إنساناً، ولكنه تشبيه لصورة الرجل بصورة القمر، ويمكن أن تنظر في هذا الوقت لرجل دميم الخلقة لكنك تريد أن تمدحه وتقول: إن وجهك كالقمر، مع أنه لا يساوي أدنى نجم، لكنه على أية حال من باب الكذب لإدخال السرور والأنس على قلب الممدوح، والنبي عليه الصلاة والسلام أجاز الكذب على الزوجة، كأن تقول لها: أنت جميلة وهي ذميمة، عملك طيب وصالح، وعملها دون ذلك، وهذا من باب الملاطفة والمؤانسة وحسن العشرة، ويوم القيامة أول زمرة تدخل الجنة تكون صورتهم في الوضاءة، والإشراق، والبهجة، والحسن، والجمال كما لو كانوا على صورة القمر، فهذا تمثيل، وهذا من التمثيل المباح الحلال، تمثيل لصورة هؤلاء في الحسن والجمال والوضاءة والإشراق بصورة القمر، وفائدة التمثيل تقريب المعنى، فأول زمرة تدخل الجنة يوم القيامة تكون صورتهم على صورة القمر ليلة البدر. قال: [حدثنا عمرو الناقد، ويعقوب بن إبراهيم الدورقي جميعاً عن ابن علية -وهو إسماعيل - واللفظ لـ يعقوب قالا: حدثنا إسماعيل بن علية أخبرنا أيوب -وهو ابن أبي تميمة السختياني - عن محمد -وهو ابن سيرين - قال: إما تفاخروا وإما تذاكروا: الرجال في الجنة أكثر أم النساء؟]. يعني: ذكرنا كلاماً على سبيل المفاخرة أو المذاكرة، وهذا الكلام دار بين الرجال والنساء. مثلما تكون جالساً مع امرأتك تقول لها: الرجال في الجنة أكثر أم النساء؟ إما أن تكون تطرح هذا السؤال من باب الوصول إلى الحقيقة العلمية أو الحقيقة الإيمانية، وإما أن تكون تبكتها وتعتبها وتقول لها: أريد أن أعرف هل الرجال في الجنة أكثر أم النساء؟ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (واطلعت في النار فوجدت أكثر أهلها النساء)، فأنت تسألها ذلك من باب التبكيت والتعتيب، تقول لها: لما اطلع النبي وجد أكثر أهلها النساء؛ لأنهن ينكرن حسن العشرة، وهذا يؤدي بها إلى النار، فأنت أتيت بها وقمت تلف من بعيد؛ لأنك لا تجرؤ أن تدخل مباشرة في الموضوع بل تلف من بعيد وتأتي بحيثيات حتى تذكرها واحدة بواحدة. [قال: إما تفاخروا وإما تذاكروا الرجال في الجنة أكثر أم النساء؟ فقال أبو هريرة أولم يقل أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: (إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والتي تليها على أضوأ كوكب دري في السماء، لكل امرئ منهم زوجتان اثنتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم، وما في الجنة أعزب)]. قوله: (يرى مخ السوق)، لما ترى إلى العظم ترى المخ الذي في الساق، يعني: ترى هذا الدهن الذي في داخل الساق من بعد العظم. وقوله: (وما في الجنة أعزب) لا يوجد أحد في الجنة أعزب كلهم متزوجون، ولكل من دخل الجنة من الرجال اثنتان من الحور العين، فضلاً عن أحب نسائه إليه في الدنيا، ولو كان متزوجاً واحدة فهي زوجته إن دخلت الجنة، وإن كنت تبغضها في الدنيا فإن الله يقول: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} [الأعراف:43]، فستكون ساعتها إنسانة محببة جداً إلى قلبك، والذي فات مات، وإن حاولت أن تتذكره لا يمكنك ذلك؛ لأن الله تعالى يحول بينك وبينه، كما يحول بينك وبين ما قد جرى بينك وبينها من مشاكل في العام الماضي أنت لا تذكرها الآن إنما أنت تذكر ما بينك وبينها الآن وتنسى ما قد مضى، فإذا كان يوم القيامة فإن الله تعالى ينسيك ما كان بينك وبينها من شحناء أو بغضاء. وعلى أية حال هذه الشحناء والبغضاء سنة من سنن الله الكونية في الكون، حتى لا يتصور إنسان أنه وصل إلى مرحلة لا يمكن معها الصبر، نعم، قد يصل الرجل مع امرأته إلى هذه المرحلة ولا يكون هناك علاج إلا الطلاق، وآخر الدواء الكي، والأصل في الزوجية القيام والديمومة والاستمرار، والطلاق استثناء ولضرورة، ومن زعم أن الطلاق مباح بغير ضرورة وبغير حاجة ولا عذر، فلا شك أنه قد خالف ما اتفقت عليه كلمة الأمة، أي: كلمة علماء المسلمين. قال: (وما في الجنة أعزب) والأعزب هو من لا زوجة له، والأفصح: وما في الجنة عزب.

تعداد الرجال والنساء في الجنة

تعداد الرجال والنساء في الجنة قال: [حدثنا ابن أبي عمر -وهو محمد بن يحيى - حدثنا سفيان عن أيوب عن ابن سيرين قال: اختصم الرجال والنساء -أي: اختلفا وتجادلا- أيهما في الجنة أكثر؟ فسألوا أبا هريرة فقال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: (إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر والتي تليها على أضوأ كوكب- يعني: على صورة أفضل كوكب دري في السماء- لكل امرئ منهم زوجتان اثنتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم، وما في الجنة أعزب)]. وهذا يفيد أن النساء أكثر من الرجال، وإن كن من الحور العين فإنهن نساء، فإن لكل واحد من أهل الجنة زوجتين من الحور العين، ومع ذلك يتزوج امرأته أو أحب النساء إليه، ولكل شهيد اثنتان وسبعون حورية، ونجمع بين هذا الحديث وبين قوله عليه الصلاة والسلام: (اطلعت في النار فوجدت أكثر أهلها النساء، فقامت امرأة جزلة -يعني: عاقلة- وقالت يا رسول الله بم؟ -أي: بما استحقت النساء دخول النار؟ - قال: لأنهن يكفرن، قالت: أيكفرن بالله؟ قال: لا، يكفرن الإحسان ويكفرن العشير، يحسن إليها الرجل الدهر كله -أي: طوال حياته الزوجية معها- فإذا بدا منه شيء قالت: والله ما رأيت منك خيراً قط)، فهذا كفران العشير، أي: تكفر حسن العشرة معه لأول تافهة تقع من الرجل. والشاهد هنا أنه قال: (اطلعت في النار فوجدت أكثر أهلها النساء). والجواب الأول: لا يمنع أن يكون أكثر أهل الجنة النساء وأن يكون أكثر أهل النار النساء؛ لأنه لا تعارض، بل النص يفيد أن أكثر أهل الجنة نساء، وأكثر أهل النار أيضاً نساء، وهذا يدل على كثرة النساء خاصة في آخر الزمان، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا تقوم الساعة حتى يكون لكل خمسين امرأة قيم واحد)، وفي هذا نص صريح على كثرة النساء على الرجال خاصة في آخر الزمان، وكثرة الملاحم والفتن، وظهور القتال، خاصة بعد الملحمة الكبرى المرتقبة والمنتظرة بين المعسكرين معسكر الإيمان ومعسكر الكفر، والتي ينتظرها العالم كله الآن، فحينئذ أنتم تعلمون أن الحرب إنما تأكل الرجال دون النساء، ولعل من الملاحظ أن مقدمة هذه الحرب الختامية للعالم كله بدأت بغزو العراق للكويت، وإتيان الروم والأمريكان إلى بلاد العرب، وكان من ثمرة هذا القتال أن مات جل الجيش العراقي وكثير من الرجال والأطفال الذكور في شوارع بغداد وغيرها من مدن العراق، مما أسفر عن كثرة النساء على الرجال، أنا أقول هذا الكلام لأستشهد به على أن الحروب إنما تأكل الرجال وتسبب كثرة في النساء، فإذا قامت الحرب العالمية الثالثة، أو الحرب الختامية، أو ما سمتها النصوص بالملحمة الكبرى، أو ما يسميه اليهود والنصارى بمعركة هرمجدون، فإن الأمر حينئذ يعم الرقعة كلها وبالتالي تكثر النساء في كل بقعة من بقاع الأرض إلا موطنين هما بمنأى عن هذه الحرب وعن الملحمة الكبرى، وهي الدول الباردة جداً، والدول الحارة جداً. يقول بعض أهل العلم: إن هذه الدول الباردة جداً التي لا تشارك في هذه الحرب هي الدول الإسكندنافية، والدول الحارة جداً هي جنوب أفريقيا وأقرب بلاد أفريقيا إلى خط الاستواء، وليس هذا مبحثنا وإنما المبحث أن الحرب تأكل الرجال وتبقي النساء وبالتالي تكثر. ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تقوم الساعة حتى يكون لكل خمسين امرأة قيم واحد): هذا لا يعني أبداً أن الواحد له أن يتزوج بخمسين امرأة، وإنما النسبة في تعداد العالم في آخر الزمان أنه من واحد إلى خمسين، الرجل يعادله في العدد خمسون امرأة. وقوله: (إن أول زمرة تدخل الجنة)، هذا الحديث لا يتكلم عن كل أهل الجنة وإنما يتكلم عن أول زمرة وثاني زمرة، فأول زمرة يدخلون على صورة القمر ليلة البدر، والزمرة الثانية التي تليهم: تدخل على أضوأ كوكب دري في السماء. قال: (لكل امرئ منهم زوجتان اثنتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم، وما في الجنة أعزب). قال القاضي في هذا الحديث: (أن النساء أكثر أهل الجنة)، وفي الحديث الآخر: (أنهن أكثر أهل النار): فيخرج من مجموع هذين الحديثين أن النساء أكثر ولد آدم، وكلما دعاك أخ لعقيقة يقول لك: سميت ابنتي فاطمة، زينب، عائشة، مريم، وهذه الحقيقة علامة تدل على قرب الساعة، كل الإخوة يعقون بشاة واحدة إلا ما ندر، قال: وهذا كله بالآدميات، وإلا فقد جاء أن الواحد من أهل الجنة له من الحور العدد الكثير. قال: [وحدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا عبد الواحد -وهو ابن زياد البصري - عن عمارة بن القعقاع، حدثنا أبو زرعة قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أول من يدخل الجنة)، وفي الرواية الثانية: (إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين يلونهم على أشد كوكب دري في الأر

الأسئلة

الأسئلة

حكم صلاة التسابيح

حكم صلاة التسابيح Q ما صحت حديث صلاة التسابيح؟ A هو في الحقيقة محل نزاع بين أهل العلم، كثير من المحدثين ضعفوا هذا الحديث وبالتالي عدوه من المنكرات الشنيعة جداً، والشيخ الألباني وبعض المعاصرين من المحدثين صحح أو حسن هذا الحديث، فإذا كان الأمر محل نزاع بين المحدثين، فلك أن تأخذ بهذا أو ذاك.

حكم المشاركة في مسابقة القرآن الكريم وأخذ الجوائز من البنك الإسلامي

حكم المشاركة في مسابقة القرآن الكريم وأخذ الجوائز من البنك الإسلامي Q بنك التسليف الإسلامي يقوم بعمل مسابقة في القرآن الكريم، فما حكم الاشتراك في هذه المسابقة، وحكم الجوائز التي تعطى للفائزين؟ A حلال، هذا من الأعمال الصالحة.

حكم الحلي إذا كانت على شكل تمثال أو صورة

حكم الحلي إذا كانت على شكل تمثال أو صورة Q ما حكم الأساور التي على شكل ثعبان، أو التي عليها شكل حيوانات صغيرة، وهل تدخل في حكم التماثيل فهي حرام حينئذ أم لا؟ A هي حرام، هذه الأساور أو السبائك الذهبية التي على شكل حيوانات بلا شك أنها صور، وأنتم تعلمون أن الصورة محرمة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إذا قطع الرأس فلا صورة)، فعلى المرأة أن تتخلص من هذا الذهب أو تقطع رأس التمثال الذي في الحلية، ولا أظن أنها تقطع رأسها أبداً، فعليها أن تتخلص من الذهب.

حكم من مات وعليه صيام بسبب المرض

حكم من مات وعليه صيام بسبب المرض Q كان معي أخت ماتت بعد رمضان بأربعة أيام ولم تصم في هذا الشهر؛ لأنها مريضة فهل يجوز أن أصوم عنها؟ A نعم يجوز أن تصومي، ويجوز أن تفدي، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) فإذا شئتي أن تصومي فهو أفضل لموافقة ظاهر النص، وإذا عجزت عن الصيام فلا بأس أن تطعمي عن كل يوم مسكيناً، وإذا كان هناك من أولياء هذه الميتة من يشاركك الصيام فلا بأس، وإن اشترك الصوم في يوم واحد؛ وهذه المسألة محل نزاع: إذا كان على الميت عشرة أيام وله عشرة أولاد مثلاً فاختار كل واحد منهم أن يصوم يوماً، فهل كل واحد منهم يصوم يوماً بعد أخيه أم يجزئهم أن يصوموا جميعاً يوماً واحداً؟ هذه المسألة محل نزاع، والراجح أنه يجزئهم أن يصوموا ولو كان الصوم وقع في يوم واحد.

حكم زواج الرجل بامرأة رضعت مع أخيه

حكم زواج الرجل بامرأة رضعت مع أخيه Q هل يجوز أن يتزوج رجل من امرأة رضعت مع أخيه؟ A نعم؛ لأنها أخت أخيه وليست أختاً له.

المقصود باليوم والليلة في توقيت مسح الخف

المقصود باليوم والليلة في توقيت مسح الخف Q المسح على الخف هل المقصود به أربعاً وعشرين ساعة أم خمس صلوات؟ A لا، المقصود به خمس صلوات؛ لأن الأربع والعشرين ساعة لم تكن عمراً معلوماً في الزمان الأول، وإنما المسح على الخف يبدأ حسابه يوماً وليلة -كما في الحديث- منذ أول مسحة.

حكم من وجد نجاسة في ملابسه بعد الانتهاء من الصلاة

حكم من وجد نجاسة في ملابسه بعد الانتهاء من الصلاة Q من وجد نجاسة وهي أثر غائط في ملابسه، فهل يعيد الصلاة السابقة أم ماذا يفعل؟ A ينظر هل هذا الأثر جرم أم أثر، والمعلوم أن كلمة أثر هي تمثل مكان النجاسة بعد الغسل، كما أن المرأة الحائض تغسل ثوبها ويبقى فيه أثر الدم، يعني: لون الدم، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (اغسليه ولا يضرك أثره)، فإذا كان في ثوب هذا الأخ الفاضل غائط فغسله ولكنه بقي أثره أي: لون هذا الغائط، فلا يضره، وأما إذا كان يقصد أنه انتبه وفوجئ بغائط على ثوبه بعد الصلاة، فمن أهل العلم من قال: يعيد الصلاة من أول نومة نامها ثم قام منها، ومنهم من قال: يعيد الصلاة الحالية أي: التي أداها في الوقت، والذي يترجح لدي أنه لا يعيد إلا الصلاة التي في الوقت، وإن كان جنباً يعيد من أول نومة قام منها، فلو أنه قام من النوم في الظهيرة وصلى المغرب والعصر والعشاء، ثم أدرك الجنابة، فغلبة الظن أنه أجنب في نومه، فيعيد من بعد النوم، وهذا لا يضر؛ لأن من شروط صحة الصلاة طهارة الثوب، وأنت صليت بنجاسة لكن إعادتك لهذه الصلاة يلزمك خلع هذا النجس والصلاة بدونه؛ لأن هذا لا ينقض الوضوء وإنما ينقض الصلاة.

حكم سرقة التيار الكهربائي

حكم سرقة التيار الكهربائي Q هل يجوز سرقة التيار الكهربائي، حيث إن الفاتورة كبيرة جداً؟ A إذا كانت السرقة جائزة فإن سرقة التيار الكهربائي جائزة، والمال العام على مدار التاريخ لم يستحله إلا الخوارج، ومن أخص خصائص المال العام العصمة، وعندما تقرأ في السياسة الشرعية تجد أن المال العام أهم ما يميزه عن بقية الأموال العصمة، مع أن أموال الغير معصومة أيضاً، لكن الأموال العامة أعظم عصمة من المال الخاص. والكهرباء من الأموال العامة، ولو قلت لي: أن سرقة الكهرباء جائزة فستكون كل الأموال العامة التي سرقتها جائزة، وليس هناك عاقل يقول بهذا، لكن على أية حال إذا جوزت لك أن تسرق الكهرباء سأجوز لك أن تسرق المياه، والمجاري، وغير ذلك من الأموال العامة، وهذا بلا شك لا يقول به إلا إنسان قد فقد عقله تماماً. فسرقة الكهرباء لها مفاسد من شقين: الشق الشرعي: أنك أتيت بكهرباء من داخل العداد من جارك أو من أي مكان، فهذا سرقة ولو تستحل ذلك. والشق الآخر: لو أتى المفتش فستكون أنت قد سرقت رغم أنك موصل من عداد، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا ضرر ولا ضرار)، فلابد أن تنظر بنظرتين، النظرة الأولى: مشروعية العلم، والنظرة الثانية: إلحاق الضرر من جراء هذا العمل.

حكم المسابقات التلفزيونية التي تجرى عن طريق التلفون

حكم المسابقات التلفزيونية التي تجرى عن طريق التلفون Q ما حكم الاشتراك في المسابقات التلفزيونية عن طريق التلفون، حيث يسأل سؤالين من الأسئلة العامة في جيم أو غيره ويحتمل أن تكسب مبلغاً مالياً كبيراً، وقد كثرت هذه المسابقات هذه الأيام؟ A لقد سألني أحد الإخوة هذه الأسئلة لأنه معد هذه البرامج في التلفزيون، وأنا لم أفهم منه الصورة جيداً.

حكم القراءة من المصحف في صلاة الفريضة

حكم القراءة من المصحف في صلاة الفريضة Q هل القراءة من المصحف في صلاة الفريضة تبطل الصلاة؟ A لا تبطلها، ولكن على أية حال هي بدعة، أما صلاة المصلي في النافلة وهو حامل للمصحف فهذا جائز للإمام والمنفرد، وقد اتخذت عائشة رضي الله عنها إماماً في صلاة التراويح يقرأ من المصحف، أما المأمومون وهذه الصورة التي نراها في شهر رمضان كل واحد يصلي خلف الإمام ويحمل مصحفاً فهذه صورة غير جائزة، وقد تجرأ ابن حزم رحمه الله على بطلان صلاة من صلى مأموماً حاملاً للمصحف، ولم يجز ذلك أحد من أهل العلم إلا للإمام في النافلة والمنفرد، أما الفريضة فيصلي المصلي ولو بآية واحدة معه، ولا يتصور أن مسلماً ليس معه آية من كتاب الله.

الحكم على حديث: (أحيطوا أعمالكم بالكتمان)

الحكم على حديث: (أحيطوا أعمالكم بالكتمان) Q ما صحة حديث: (أحيطوا أعمالكم بالكتمان)؟ A الحديث ليس هكذا، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (استعينوا على إنجاح حوائجكم بالكتمان) وهو ضعيف. أما (استعينوا على قضاء حوائجكم) فهذا نص صحيح، والمعنى واحد.

حكم الصلاة على شهيد المعركة

حكم الصلاة على شهيد المعركة Q ما حكم الحديث الذي يثبت الصلاة على شهيد المعركة، والحديث الآخر الذي لا يثبت الصلاة على شهيد المعركة، وكيف نوفق بينهما ونزيل اللبس من عقولنا وجزاكم الله خيراً؟ A صلاة الجنازة على الشهيد مستحبة وليست واجبة، وأنتم تعلمون أن صلاة الجنائز فرض كفاية، وهي حق واجب لكل مسلم، إلا الشهيد، والطفل الصبي الذي لم يبلغ.

كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها - في سوق الجنة

شرح صحيح مسلم - كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها - في سوق الجنة أهل الجنة في نعيم دائم سرمدي لا ينقطع، نعيم لا يدانيه نعيم ولا يقاربه، ومن ذلك أن في الجنة سوقاً يأتيها أهل الجنة كل جمعة، فيرون الله تعالى، ويزدادون حسناً ونوراً وجمالاً، وأول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، لكل امرئ منهم زوجتان، وللمؤمن خيمة من لؤلؤة مجوفة، طولها ستون ميلاً في السماء، ولأهل الجنة فيها مجامر من الألوة، رشحهم المسك، لا يمرضون، ولا يهرمون، ولا يفنى نعيمهم، فلله ما أعظمه من نعيم!

باب في سوق الجنة

باب في سوق الجنة الحمد لله رب العالمين، ونصلي ونسلم على محمد وآله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فهذا هو الدرس الثاني من كتاب الجنة ونعيمها من صحيح مسلم. قال: (باب في سوق الجنة). الجنة فيها سوق، وهذا السوق يعقد في كل أسبوع مرة، وإذا قلنا: في كل أسبوع فلا بد أن يوم الجمعة هو يوم ضمن سبعة أيام، وليس في الجنة ليل ولا نهار، وليس فيها أيام، وليس فيها شمس ولا قمر، إنما الجنة نعيم دائم، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قرب لنا الأمر فقال: [(إن في الجنة لسوقاً)] أي: يعقد في كل أسبوع مرة، أي: فيما يعدل كل أسبوع من أسابيع الدنيا مرة، هذا اليوم يسمى يوم المزيد، ويعقد فيما يعادل في الدنيا يوم الجمعة، وفيها يطلع الله عز وجل على عباده من أهل الجنة ليروا وجهه الكريم، فإذا رأوا وجه الله تعالى ازدادوا حسناً، ونوراً، وبهاء، وجمالاً، فيرجعون إلى أزواجهم، فيلحظ أزواجهم ذلك فيهم، فيقولون: والله ما ازددتم بعدنا إلا حسناً، وجمالاً، وكمالاً، فيقول الأزواج لزوجاتهم: وأنتن والله ما ازددتن بعد أن فارقناكن إلا حسناً وجمالاً؛ لأن أهل الجنة جميعاً يرون الله عز وجل في هذا اليوم الذي يسمى بيوم المزيد، أي: يزاد في نورهم، وبهائهم، وحسنهم. قال: [قال أنس بن مالك رضي الله عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة لسوقاً)]. وسمي سوقاً لاجتماع الناس فيه؛ لأنه لا يقال للمكان سوقاً إلا إذا اجتمع فيه الناس، لأن الناس يساقون إليه لقضاء حوائجهم. قال: (يأتونها كل جمعة، فتهب ريح الشمال)]. بفتح الشين لا بكسرها، وهي الريح التي يسميها العرب: ريح الشمأل، أو الشموأل، أو ريح دبر القبلة، أو ريح شامية تأتي من جهة الشام، وكانت العرب تحب أن تأتي الرياح من قبل الشام؛ لأنها تأتي بالخير، وتأتي بالمطر. قال: [(فتحثو في وجوههم وثيابهم -أي: تحمل في طياتها الخير حتى تجعله في وجوههم وثيابهم- فيزدادون حسناً وجمالاً -أي: فيزداد أهل الجنة حسناً وجمالاً- فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسناً وجمالاً، فيقول لهم أهلوهم -أي النساء-: والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً، فيقولون: وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً)]. هذه الريح أحياناً يسميها العرب: الريح المثيرة، أي: المحركة؛ لأنها تثير في وجوههم وثيابهم ما تثيره من مسك أرض الجنة، فيزدادون بذلك حسناً وجمالاً.

باب أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر وصفاتهم وأزواجهم

باب أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر وصفاتهم وأزواجهم قال: (باب أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر وصفاتهم، وأزواجهم). قال: [عن محمد بن سيرين]. وهو إمام من أئمة التابعين، وسيد من ساداتهم، إمام من أئمة البصرة، يروي عن أبي هريرة رضي الله عنه، لكنه هنا يروي فيقول: (إما تفاخروا وإما تذاكروا). يعني: الصحابة رضي الله عنهم اجتمعوا فتكلموا في أمر الجنة والنار، وتكلموا في أمر الرجال والنساء أيهما أكثر في الدنيا وفي الآخرة، وفي الجنة وفي النار؟ فقال: إما تفاخروا وإما تذاكروا، يعني: اجتمع الرجال والنساء، وصارت بينهم مناظرة، هذه المناظرة إما على سبيل التذكرة، أو المفاخرة: [الرجال في الجنة أكثر أم النساء؟]. هذا موطن المناظرة: الرجال في الجنة أكثر أم النساء؟ [فقال أبو هريرة: أولم يقل أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: (إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والتي تليها على أضوأ كوكب دري في السماء، لكل امرئ منهم -أي: ممن يدخل الجنة- زوجتان اثنتان)]. أي: من الحور العين، فلو أن كل واحد دخل الجنة له زوجتان اثنتان، فأيهم يكون أكثر الرجال أم النساء؟ مع ملاحظة أنه ليس في الجنة عزوبة، كل من دخلها تزوج فيها، ويزيد الله تعالى ما يشاء لبعض عباده، حتى يبلغ حظ الشهيد من الحور العين اثنتين وسبعين امرأة من الحور العين، فأيهما أكثر في الجنة الرجال أم النساء؟ النساء أكثر؛ لأن النساء على الأقل ضعف عدد الرجال الذين دخلوا الجنة؛ لأن لكل واحد منهم زوجتين، مع أن بعض من يدخل الجنة يزيد الله تعالى له من الحور العين، فلابد أن النساء أكثر أهل الجنة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (دخلت الجنة فإذا عامة أهلها الفقراء والمساكين)، وقال: (واطلعت في النار فإذا عامة أهلها النساء، فقالت امرأة جزلة -عاقلة-: يا رسول الله ولم؟ قال: لأنهن يكفرن. قالت: يا رسول الله! أيكفرن بالله؟ قال: لا، يكفرن الإحسان، ويكفرن العشير)؛ أي: عشرة الزوج، ثم بين النبي عليه الصلاة والسلام ذلك فقال: (يحسن إليكن الرجل الدهر كله فإذا بدا منه شيء قلتن: والله ما رأينا منك خيراً قط) فهذا هو كفران العشير. وقال عليه الصلاة والسلام: (ما رأيت أذهب للب الرجل الحازم منكن)، الرجل الحازم العاقل أحياناً يغضب ويثور ويفلت منه الزمام بسبب امرأة، وهو في أصله إنسان حازم، عاقل، لكنه يفقد ذلك حينما تغضبه امرأته. والشاهد من هذا الحديث: أنه عليه الصلاة والسلام قال: (واطلعت في النار فوجدت أكثر أهلها النساء)، إذاً: أكثر أهل النار النساء، وأكثر أهل الجنة النساء، وهذا يفيدنا نسبة وتناسب أن النساء في بني آدم أكثر من الرجال، ومن أشراط الساعة كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام فقال: (لا تقوم الساعة حتى يقل الرجال ويكثر النساء، حتى يكون لكل خمسين امرأة قيم واحد)؛ يعني: رجل واحد، ولا يعني هذا حل أن يتزوج رجل بخمسين، إنما نسبة وتناسب بين الرجال والنساء واحد إلى خمسين، فالرجل يقابله خمسون من النساء، ولا يعني هذا صحة نكاح الخمسين إنما هو دليل على أن الأمر قبل قيام الساعة هو كثرة النساء وقلة الرجال؛ بسبب الجهاد، والغزوات، وغيرها التي تكون في آخر الزمان. قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر)، أول دفعة تدخل الجنة وجوهها كالقمر ليلة البدر، أي: في ليلة التمام والكمال، فهذه وجوه الناس وصفاتهم الذين يدخلون الجنة لأول وهلة، ثم يعقبهم زمرة أخرى يكونون على هيئة أضوأ كوكب في السماء بعد القمر، وأنور كوكب، وهو ما يسميه الفلكيون بالكوكب الدري، وأنتم تعلمون أن الدر هو أعظم الجواهر، ولذلك سميت الدرر درراً لأنها ثمينة، غالية مضيئة، تشبيهاً بأعظم كوكب في السماء بعد القمر في ليلة البدر والتمام، وهو الكوكب الدري، فهذه هي صورة القوم الذين يدخلون ثانياً بعد الزمرة الأولى. قال: (لكل امرئ منهم زوجتان اثنتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم) أي: ما داخل السوق والقدم يراه المرء، تصور أنك ترى العظام الداخلية في قدم الحورية من الصفاء والنقاء، ينظر الرجل إلى امرأته فيرى مخ ساقها من وراء اللحم، كما ينظر في خدها فيرى صورته في خدها، وترى صورتها في خده من الصفاء والنقاء، وهذا يدل على أن أهل الجنة على أكمل هيئة وأتم صورة، وأن الناس إذا دخلوا الجنة كانوا على غير هيئتهم في الدنيا، الصغير يكبر، والشيخ الهرم يصغر حتى يكونوا جميعاً في سن واحد: {عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة:37]، ومعنى (أَتْرَابًا): أي في سن واحد. قال: (وما في الجنة أعزب)، كل من دخلها تزوج، سواء كان متزوجاً في الدنيا أو ليس متزوجاً، لابد لكل من دخل الجنة أن يكون عنده من الأزواج الحور العين اثنتان، ويكون عنده كذلك من نساء الدنيا أحب النساء إليه من زوجاته، فلو أن واحداً

باب في صفات الجنة وأهلها وتسبيحهم فيها بكرة وعشيا

باب في صفات الجنة وأهلها وتسبيحهم فيها بكرة وعشياً قال: (باب في صفات الجنة وأهلها وتسبيحهم فيها بكرة وعشياً). قال عليه الصلاة والسلام: (أنهم يلهمون التسبيح، والتحميد، والتكبير، كما يلهمون النفس) وسيأتي معنا، لكنهم على أية حال يلهمون ذلك بكرة وعشياً، وقد اتفقنا أنه ليس في الجنة بكرة وعشي، وإنما مقدار البكور والعشي. قال: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أول زمرة تلج الجنة صورهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصقون فيها، ولا يمتخطون، ولا يتغوطون فيها، آنيتهم وأمشاطهم من الذهب والفضة)]. مع أن آنية الذهب والفضة حرام علينا في الدنيا، ولكن الله تعالى أباحه لنا في الآخرة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إن الذي يأكل في صفائح الذهب والفضة فكأنما يجرجر في بطنه نار جهنم)، وهذا لمن أكل بهما في الدنيا، أما في الآخرة فإن الله تعالى أحل لنا ما كان حراماً علينا، فلباسنا الحرير والديباج، وهذا كان محرماً على الرجال، وأباحه الله تعالى، والله تعالى حرم علينا الخمر وأباحه لنا في الآخرة، ولكن خمر الآخرة ليس كخمر الدنيا من الإسكار وذهاب العقل وغير ذلك، بل هو شراب لذيذ سماه الله تعالى خمراً، ليكافئ عباده الذين امتنعوا عن شرب الخمر في الدنيا بخمر في الآخرة، لكن هيهات هيهات بين خمر الدنيا وخمر الآخرة. قال: [(ومجامرهم من الألوة، ورشحهم المسك، ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ ساقهما من وراء اللحم من الحسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب واحد يسبحون الله بكرة وعشياً)]. في الدرس الماضي لما ذكرنا أن الجنة درجات عديدة، لعل ذلك اختلط على بعض السامعين بأبواب الجنة وقال: بل درجات الجنة ثمان، والصواب أن أبواب الجنة ثمانية، أما درجات الجنة فكثيرة متعددة لا يعلمها إلا الله. كما أنه لا يصح أن يقال: إن درجات الجنة على عدد آيات القرآن الكريم، كما أن أهل العلم اختلفوا في عدد آيات القرآن الكريم، فأحياناً تجد الآية عند قارئ آية، وتجدها عند قارئ آخر آيتين. قال: (لا اختلاف بينهم ولا تباغض) أي: لا حسد، ولا تباغض، ولا اختلاف، ولا مناحرة، ولا مناظرة، كل هذا في الدنيا أما في الآخرة فلا. ثم إنه كذلك قد اختلط على الأخ قول الأنصاري لما بكى عند النبي عليه الصلاة والسلام فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما يبكيك؟ قال: يا رسول الله! تذكرت الموت، وعلمت أن الموت يفرق بيني وبينك؛ لأنك في الجنة في منزلة هي أعلى من منزلتي، فأنا لا أراك في الجنة، فنزل قول الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69]، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الأنصاري: أبشر)، يعني ستراني لأنك تحبني فأنت معي. وقوله: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء:69]، وهم أهل الطاعة لله وطاعة الرسول مع: {النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69]، قال النبي صلى الله عليه وسلم له: (أبشر) يعني: أنت معي في الجنة، وحديث: الذي سأل عن الساعة فقال له: (وما أعددت لها؟ قال: يا رسول الله! والله ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صيام، ولكني أحب الله ورسوله، قال: أنت مع من أحببت)، فالله تعالى يجعل لأهل المراتب الدنيا في الجنة نظرة إلى من فوقهم كما يجعل لمن فوقهم نظرة إليهم، وهذا أمر مقرر في عقيدة أهل السنة والجماعة: أن من فوق يرى من تحت وأن من تحت يرى من فوق. وفي الجنة لا اختلاط كما هو مشاهد في الدنيا، فالله عز وجل ينزع من نفس المؤمن شهوة التطلع إلى عورات الآخرين، كما أن الشهوة تنزع من الخلق في أرض المحشر، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (يحشر الناس حفاة، عراة، غرلاً)، أي: في أرض المحشر، أي: على هيئتهم قبل الختان والخفض، أي: قطع القطعة الزائدة من فرج المرأة وذكر الرجل، فإن كل شيء يرد إلى صاحبه حتى الأظافر، والشعر، كل شيء أخذ منك يرد إليك، حتى هذه القطعة من اللحم الصغيرة التي أخذت من عضوك إذا كنت ذكراً أو أنثى ترد إليك وتحشر عرياناً حافياً على هذا النحو، (فقالت عائشة: يا رسول الله! ينظر بعضهم إلى بعض؟! قال: يا عائشة! الأمر حينذاك أشد من هذا)، يعني: لا يخطر ببال أحد قط أن ينظر إلى عورة أحد. وهذا مشاهد، فلو نزل بك غم أو وصلك خبر مفزع أو أصابك هم، انصرفت شهوتك تماماً، والمتزوجون يعلمون ذلك، ولو أنك في قمة شهوتك ثم طرق الباب انصرفت شهوتك، والمتزوج يعلم ذلك، وكلنا يعلم ذلك من نفسه ومن حاله، فإذا كان هذا مجرد طارق أتى ليطرق بشر يخبرك أو بنبأ عظيم بوفاة عزيز، أو بنكبة نزلت، أو ي

باب في دوام نعيم أهل الجنة

باب في دوام نعيم أهل الجنة قال: (باب في دوام نعيم أهل الجنة). كما هو دوام عذاب أهل النار، وهذا دليل لمعتقد أهل السنة والجماعة: أن الجنة والنار مخلوقتان الآن لا تفنيان ولا تبيدان، (يا أهل الجنة خلود بلا موت، ويا أهل النار خلود بلا موت). [قال أبو هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يدخل الجنة ينعم لا يبأس -أي: لا يرى بؤساً قط إنما يتمرغ ويتقلب في نعيم الله عز وجل- لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه)، وفي رواية: (ولا يفنى سنه)]. فليس في الجنة حساب كحساب الدنيا؛ لأن أهل الجنة على سن واحدة سيظلون كذلك فلن يصغروا ولن يكبروا، سيبقى سنك هذا باستمرار وشكلك وصورتك على نسق واحد بغير زيادة ولا نقصان، لو طال مكثك في الجنة ولابد أن يطول فلا يطرأ عليه أدنى تغير أبداً، وفي هذا الوقت لو أن الواحد منا طال عمره كل يوم وهو بصورة وشكل، وهيئة وشكل، وأخلاق وشكل، وغير ذلك. أما أهل الجنة فليسوا كذلك، يدخلون الجنة على سن واحدة وأخلاق واحدة ثم لا يتبدلون ولا يتغيرون، يمكثون هكذا باستمرار، قال: (من يدخل الجنة ينعم لا يبأس، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه) أي: لا يكبر يظل في سن واحدة، كما أن ثيابه التي يلبسها لا تبلى ولا تفنى. قال: [وعن أبي سعيد، وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ينادي مناد: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً)]. أي: أن تعيشوا أصحاء بغير مرض، إذاً: الذي يدخل الجنة لا يمرض قط، بل يدخل صحيحاً، قوياً، فتياً، لا يصيبه الهرم، ولا كبر السن. [(وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا -أي: حياة أبدية سرمدية، ليس بعدها موت- وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً -أي: تكونون شباباً فلا يصيبكم الهرم- وإن لكم أن تنعموا فلا تبتئسوا أبداً -أي: لا يصيبكم البؤس- فذلك قول الله عز وجل: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:43])]. هذه هي الجنة، وهذه هي صفات الجنة.

باب في صفة خيام الجنة

باب في صفة خيام الجنة قال: (في صفة خيام الجنة). الجنة فيها خيام؛ لكن الخيام من لؤلؤ، وكل خيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة، طولها في السماء ستون ميلاً، وعرضها ستون ميلاً في الأرض، والميل يساوي كيلو واحد وسبعة من عشرة، أو واحد وأقل من سبعة من عشرة. ولو قلنا أن هذا هو الميل الذي ذكره الرسول عليه الصلاة والسلام هو ما يقدر بميل الدنيا فنقول: إن طول الخيمة الواحدة ستة وتسعون كيلو أو حوالي مائة كيلو، وعرضها مائة كيلو. فتصور أن تكون أنت في خيمة طولها في السماء مائة كيلو وعرضها في الأرض مائة كيلو، والله تعالى يجعل لك أهلاً في كل زاوية من زوايا هذه الخيمة، يجعل لك واحدة من الحور العين هنا، والثانية هناك في آخر الخيمة من الناحية الثانية، وواحدة في الشمال، وواحدة في الجنوب، إذا ذهبت إلى هذه فلا تراها الأخرى، وإذا ذهبت إلى الأخرى فلا تراها الأولى، مع أنهم لو رأوا بعضهم بعضاً فلن يكون بينهم ما يكون بين الضرائر في الدنيا، ومع هذا فإن الواحد يتنقل بين أهله لا يراه الآخرون. تصور خيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة يبلغ طولها ستون ميلاً وعرضها ستون ميلاً، ولا يمكن لأحد قط أن يتخيل ذلك ولا أن يتصوره، فالمرء يحتاج في الجنة إلى مركب ليسير في خيمته في داخلها إلا أن يحمله الله عز وجل على ما شاء مما خلق. قال: [قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة -يعني: مفرغة من الداخل- طولها ستون ميلاً، للمؤمن فيها أهلون -جمع أهل- يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضاً)]. يعني: هؤلاء لا يرون هؤلاء. وقال: [(في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة عرضها ستون ميلاً)]. في الرواية الأولى: طولها ستون ميلاً، وهنا: عرضها ستون ميلاً، ولا منافاة بين الحديثين؛ للدلالة أن الطول كالعرض، الطول في السماء، والعرض في الأرض. قال: [(في كل زاوية منها أهل ما يرون الآخرين، يطوف عليهم المؤمن)]. وهذا حظ المؤمن وزيادة، أما ما في الجنة من أنهار فقد قال أبو هريرة رضي الله عنه: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (سيحان، وجيحان، والفرات، والنيل، كل من أنهار الجنة). أما الفرات فليس هو الفرات المعروف بأرض العراق، وإنما هو نهر يفصل بين الشام وبين جزيرة العرب، وأما سيحان وجيحان فهما نهران في أرض الأرمن بقرب الشام، وليس هما سيحون وجيون اللذان بأرض خراسان، هذه الأنهار الأربعة: سيحان، وجيحان بأرض الأرمن قرب الشام، والفرات الذي هو بين الشام وجزيرة العرب، والنيل الذي هو بأرض مصر، هي من أنهار الجنة. واختلف العلماء في معنى أن هذه الأنهار من أنهار الجنة، فقيل: كون هذه الأنهار من أنهار الجنة أي أن ماء الجنة يصب فيها، وهذا أظهر الوجهين، وأن أصل هذه الأنهار ينزل فيه الماء من الجنة، ولذلك قال الإمام النووي: وأنها من أنهار الجنة على ظاهره، يعني ينبغي أن نعتقد أن هذه الأنهار هي من أنهار الجنة، لكن كيف أنها من أنهار الجنة؟ قال: باعتقاد أن مادة هذه الأنهار من الجنة، والجنة مخلوقة موجودة اليوم عند أهل السنة والجماعة، وقد ذكر مسلم في كتاب الإيمان في حديث الإسراء أن الفرات والنيل من الجنة، يعني: أصل خروج النيل والفرات من الجنة، وقد أورد البخاري في صحيحه حديثاً: (إن النيل والفرات أصلهما عند سدرة المنتهى فوق السماء السابعة)، فينبغي أن نؤمن بذلك ونسلم ولا نقول: كيف؟ ولماذا؟ والتأويل الثاني: أن الإيمان عم أهل هذه البلاد، فقد عم أهل الشام ومصر والجزيرة العربية، أي: أن الإيمان عم أهل هذه الأنهار وبلادها أو الأجسام المتغذية بها، فهي صائرة إلى الجنة، أو مآلها إلى الجنة، ولكن هذا تأويل بعيد، فأهل مصر الآن يهود، ونصارى، ومسلمون، وهم يتغذون بماء النيل، وماء النيل من ماء الجنة، أو النيل من أنهار الجنة، وليس المعنى أن من شرب من النيل دخل الجنة، أو من تغذى بدنه من ماء النيل دخل الجنة، بل كثير ممن يتنعم بنعيم الله عز وجل من النيل وغيره إنما هو على الإلحاد، والعلمنة، والزندقة، والفسق، والفجور وغير ذلك فلا يلزم منه أن كل من شرب من نهر النيل دخل الجنة، كما هو معروف عند الناس أن الذي يشرب من النيل يرجع له، فنقول: إذا كان من أهل الإيمان مرحباً به، أو غير ذلك فلا مرحباً به.

باب يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير

باب يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير قال: (باب يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير). الفؤاد: هو لب القلب، وقيل: هو القلب نفسه، وقيل: هو غشاء القلب، وقيل غير ذلك، ولكن على أية حال المعنى المتبادر إلى الذهن أنه القلب. والمعلوم أن أهل الجنة هم أهل الخوف من الله عز وجل، وهم أهل الرجاء، وأهل التوكل على الله عز وجل، قلوبهم رقيقة، والقلب يرق وقد يقسو حتى يكون أقسى من الحجارة، مع أنه قطعة لحم، ولما دخل وفد اليمن على النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتاكم أهل اليمن أرق الناس أفئدة، وألينهم قلوباً، الإيمان يمان، والحكمة يمانية) إلى آخر الحديث في أوصاف أهل اليمن، والشاهد منه: (هم أرق الناس أفئدة وألينهم قلوباً)، إذاً: القلب يلين ويرق. والله تعالى يقول: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، فكلما ازداد العبد علماً ازداد لله خشية، وتوكلاً، ورجاء، ومهابة، وإجلالاً، فكذلك هؤلاء الفئة يدخلون الجنة قلوبهم أرق من قلوب وأفئدة الطير، والمعلوم إذا كان المعنى الخوف من الله فإن الطير معروفة بأنها أشد المخلوقات خوفاً، فإذا ذهب طفل إلى جمهرة عظيمة من الطير طارت كلها؛ خوفاً من هذا الطفل، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير) أي: في رقتها وخفتها وتوكلها على الله عز وجل. [وقال أبو هريرة رضي الله عنه: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (خلق الله عز وجل آدم على صورته)]. أي: على هيئته التي خلقه الله عز وجل عليها بغير تغيير ولا تطوير، أي: من طور إلى طور ومن مرحلة إلى مرحلة، لما خلق الله تعالى آدم من قبضة قبضها من تراب الأرض جعل طوله في أول الخلق ستين ذراعاً، ومات آدم وطوله ستون ذراعاً، فلم يمر بهذه الأطوار التي يمر بها ذريته. قال: [(طوله ستون ذراعاً، فلما خلقه قال: اذهب فسلم على أولئك النفر من الملائكة -إذاً: الملائكة أسبق في الخلق من آدم وذريته- وهم جلوس فاستمع ما يجيبونك -أي: اسمع يا آدم الإجابة على كلامك- فإنها تحيتك، وتحية ذريتك من بعدك، قال: فذهب فقال: السلام عليكم)]. فآدم لما سلم قال: السلام عليكم، ولك أن تقول: سلام عليكم كما قال إبراهيم عليه السلام، فكلها تحية أهل الإسلام، أما صباح الخير، ومساء الخير، وغير ذلك من الأوصاف فإنها من تحيات غير المسلمين، وقد أهدر النبي عليه الصلاة والسلام كل ما يمكن أن يتشبه به المسلم بغيره، من الأخلاق، والملبس، والمطعم، والمركب وغير ذلك؛ حتى تكون للمسلم شخصية متميزة عن شخصية غيره من بقية الخلق حتى في السلام. ومن المسخ في بلاد الكفار، وإن شئت فقل: في بلادنا كذلك، لكنها ظاهرة بادية في بلاد الكفار: أن الإخوة الملتحين في أمريكا وأوربا لا يسلمون على بعضهم البعض بتحية الإسلام، وإنما يسلمون بتحية أهل بلادهم، وهذه التحية لا ثواب فيها، والنبي عليه الصلاة والسلام لما دخل عليه داخل فقال: (السلام عليكم، قال: عشراً -أي: عشر حسنات-، فلما زاد رجل آخر: ورحمة الله، قال: عشرون، فلما زاد آخر: وبركاته قال: ثلاثون، قالوا: يا رسول الله ما هذا؟) فبين أن كل واحد له من الثواب على قدر ما زاد في السلام، فأكمل التحية هي: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وقد صحح الشيخ الألباني عليه رحمة الله: أن الراد لهذه التحية لو أراد أن يزيد فيها حسناً فيقول: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ومغفرته؛ حتى يكون قد أتى برد هو أحسن مما سمع. الشاهد هنا: أن الله عز وجل أمر آدم أن يذهب فيسلم على الملائكة، ففهم آدم عليه السلام أو أن الله علمه ذلك أن يقول: السلام عليكم، فهذا يدل على أن هذه تحية أهل الإسلام منذ أن خلق الله آدم. قال: [(فقالوا: السلام عليك ورحمة الله، فزادوه ورحمة الله، قال: فكل من يدخل الجنة على صورة آدم، طوله ستون ذراعاً، فلم يزل الخلق ينقص بعده حتى الآن)]. فالخلق لا يزالون في نقصان إلى قيام الساعة. ثم بدأ الإمام مسلم بعد كتاب الجنة في سرد الروايات عن النار وما فيها من عذاب أعاذنا الله وإياكم من عذابها، ثم يعقد مقارنة بين الجنة والنار في بعض الأحاديث، يحسن بنا أن نذكر الروايات، أو أن نتلو الروايات التي أوردها الحافظ أبو نعيم الأصفهاني في كتاب ذكر الجنة. قال رحمه الله تعالى: الحمد لله المشكور على ما أعطى، والمجاب إلى ما دعا، والمرغوب فيما رغب فيه ومنى، أعطانا التوحيد بتعرفه إلينا، وهدانا إلى طاعته بتوفيقه لنا، ورغبنا في كرامته وجنته بعد أن حلاها لنا ورغبنا فيها، فهو السلام، وداره دار السلام -وهي الجنة-، لمن سارع إلى طاعته، وسابق إلى مرضاته، ليحظى بدخول داره التي يأمن فيها من الآفات، ويسلم فيها من العاهات، التي من دخلها أمن من البوار، وسلم من الدمار، وحظي بجوار المنعم الجبار، قال الله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَب

نعت الجنة

نعت الجنة عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: (ألا هل من مشمر للجنة؟ فإنه لا خطر لها -أي: لا عوض لها ولا مثيل لها من المخاطرة- هي ورب الكعبة نور يتلألأ، وريحانة تهتز، ونهر مطرد -أي: مستمر دائم- وقصر مشيد، وفاكهة كثيرة نضيجة -يعني: ناضجة- وزوجة حسناء جميلة لا تموت، في خلود -أي: خلود دائم بلا موت- وحلل كثيرة، في مقام آبد، في رحبة -أي: في سعة- ونضرة، وحسن، وجمال، ونعمة دار عالية؟). ولما سمع الصحابة هذا الوصف قالوا: (يا رسول الله! نحن المشمرون لها -أي: نحن مستعدون- قال: قولوا: إن شاء الله)، ثم ذكر الجهاد وحض عليه النبي صلى الله عليه وسلم، كان يشوقهم إلى الجنة، وهو يريد أن يقول لهم: هذا ثمن الجهاد.

الجهاد ثمن الجنة

الجهاد ثمن الجنة قال عليه الصلاة والسلام: (ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة)، فلا بد أن تدفع لها مهراً وثمناً، وثمنها ومهرها أن تجاهد في سبيل الله عز وجل، ولما شوقهم إلى ذلك قالوا: (نحن المشمرون يا رسول الله فأمرنا، قال: الجهاد)، وما أحوج الأمة الآن إلى الجهاد، ومن تصور أن العز يكمن في غير الجهاد فقد أخطأ، العز مع الأعداء لا يكون إلا بالسيف والسنان، والعز مع أهل البدع لا يكون إلا بالقرآن والبيان وبالحجة، أما أهل الكفر والجحود فلا سلام معهم قط، والله العظيم لا يوجد شيء مع اليهود اسمه سلام، إذا كنا في معادلة بين تكذيب الساسة، وتكذيب الله عز وجل، فنكذب الساسة، لا يوجد شيء اسمه سلام نهائياً، اليهود لا يقرعهم إلا عصا من نار ومن حديد، أما سلام فلا، وإلا فنحن نسمع عن السلام منذ نعومة أظفارنا وما رأينا في يوم قط سلاماً، بل كله دعاوى وأكاذيب باطلة. والنبي عليه الصلاة والسلام لما شوق أصحابه إلى الجنة قالوا: نحن مستعدون ونحن مشمرون، قال: (عليكم بالجهاد). والناس الآن ينظرون إلى الجهاد على أنه سفك للدماء، وخراب للديار، وتضييع للأموال، وهدم وتكسير في البنيان، ولا ينظرون إليه أنه سبب في النعيم السرمدي الأبدي في جنة الخلد، وهذا في المآل، وأما في الدنيا فهو العز والسؤدد، واليهود لا تفزعهم هذه المليارات من أعداد المسلمين أبداً، إنما يفزعهم لحية واحدة يلقونها على ساحل البحر المتوسط، تفزعهم وتقض مضجعهم؛ حتى لو كانت هذه اللحية لحية أضعف إنسان من المسلمين، فما بالك إذا كانت هذه اللحية قوية كلحية عمر بن الخطاب أو أبي بكر الصديق أو صلاح الدين الأيوبي؟! هم يعلمون جيداً أن العدو الأوحد إنما يكمن فيما أسموه هم بالأصوليين، أو بالرجعيين، أو بالوهابيين، أو بالإرهابيين، أو غير ذلك، وما هذه الحرب الضروس إلا منبتها أوامر يهودية، ولذلك مهما بلغ عدد المسلمين فإن هذا أمر لا يفزعهم، كما قال ذاك الكلب الهالك مناحيم بيغن لما دخل مدرسة من مدارس المسلمين فأبى المدرس أن يسلم عليه، وقال له المدرس: موعدنا معكم غداً في حرب ينتصر فيها الإسلام، ويهزم فيها الكفر، كما قال عليه الصلاة والسلام: (لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود فيقول الحجر والشجر: يا مسلم تعال! خلفي يهودي فاقتله)، قال مناحيم بيغن: لا يكون ذلك إلا في يوم يكون فيكم من يتمسك بدينه ويكون فينا من يفرط في دينه، يعني: مناحم بيغن فاهم الرسالة جيداً، لكن للأسف الشديد المسلمون لا يفهمون شيئاً من ذلك.

الحث على طلب الجنة والهروب من النار

الحث على طلب الجنة والهروب من النار قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما رأيت مثل الجنة، نام طالبها، ولا رأيت مثل النار نام هاربها)، قوله: (ما رأيت مثل الجنة نام طالبها) يعني: قصر في طلبها، (وما رأيت مثل النار نام هاربها) يعني: الذي يهرب من النار ينبغي أن يعمل لذلك، والذي يطلب الجنة ينبغي أن يعمل لها، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (عجباً لمن يطلب الجنة ولا يأتي لها بمهرها، ويهرب من النار بزعمه وهو يقع فيما يؤدي إليها)، وقال في رواية أخرى: (يا قوم! اطلبوا الجنة جهدكم، واهربوا من النار جهدكم، فإن الجنة لا ينام طالبها، وإن النار لا ينام هاربها). وقال: (إنما يدخل الجنة من يرجوها، وينجو من النار من يخافها). وقال عليه الصلاة والسلام في حديث أنس بن مالك: (يؤتى بأشد المؤمنين ضراً في الدنيا) أي: أبأس واحد في الدنيا من أهل الإيمان يؤتى به، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل)، وربما يكون العبد طائعاً لله عز وجل ويبتلى، وهذا البلاء أو الابتلاء على مرتبتين: إما أن تكون صاحب معصية فينزل عليك البلاء حتى يمحو الله عز وجل هذه الخطايا والسيئات، والإنسان عبد مذنب، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كل بني آدم خطاء)، وهذا لفظ عموم (وخير الخطائين التوابون) إذاً: افرض أنك عبد أخطأت ولم تدركك التوبة أولم تتب، فينزل عليك البلاء فيكون هذا البلاء كفارة لذنوبك. ولذلك يقول الرسول عليه الصلاة والسلام كما في رواية الترمذي من حديث أنس: (وإن الله تعالى يصب البلاء على عبده صباً حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة)، فالبلاء له قيمة عظيمة جداً، البلاء من الأدواء، والأسقام، والعلل، والأمراض، والهموم، والغموم، وغير ذلك مما يصيب العبد، فإن ذلك يصيبه لمصلحته، وإن العبد يجزع، ويفزع، ويغضب إذا نزل به بلاء، وربما تسخط القدر وسأل الله تعالى: لماذا يا رب تعمل بي ذلك؟ وهذا كفر واعتراض على الله تعالى في أقداره، وأقدار الله تعالى كلها رحمة وخير وبركة، فينبغي إذا نزل بالعبد الضر أن يؤمن بذلك، وأن يرضى به، كما يقول العلماء: الصبر على البلاء قضية كل مسلم، والرضى بالبلاء لا يكون إلا من العباد، تصور بلاءً ينزل عليك وتصبر عليه هذا هو الواجب عليك، وهذا عمل الكبار من أهل الطاعة من الأئمة والعلماء وغيرهم. قال: (يؤتى بأشد المؤمنين ضراً -أي: يوم القيامة- فيغمس في الجنة غمسة ثم يقال له: هل رأيت ضراً قط؟ فيقول: لا يا رب، ويؤتى بأنعم أهل الدنيا -أي: من أهل الكفر- ويغمس في النار غمسة واحدة، ثم يقال له: هل رأيت نعيماً قط؟ فيقول: لا يا رب). إذاً: هذا الحديث عند الإمام مسلم أمر مطمئن جداً للقلب، فمهما نزل بك من ضر فاعلم أن ما عند الله خير لك وأبقى، فتصور لما ينزل بك من الضر ما نزل ثم يؤتى بك يوم القيامة فتغمس في الجنة غمسة، تنسى كل بلاء، تنساه تماماً حتى يكون السائل لك هو الله عز وجل فيقول لك: (عبدي هل رأيت بؤساً قط) أي: في حياتك، فتقول: لا والله.

كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها - أول زمرة تدخل الجنة في صورة القمر

شرح صحيح مسلم - كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها - أول زمرة تدخل الجنة في صورة القمر لقد جاءت الأحاديث الشريفة تصف لنا الجنة وما فيها من النعيم المقيم؛ لتحثنا على الجد والعمل لطلبها، وقد جاء فيها: أن أول زمرة تلج الجنة صورهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصقون فيها ولا يتمخطون ولا يتغوطون، آنيتهم من الذهب والفضة، ومجامرهم من الألوة، ولكل واحد من أهل الجنة زوجتان يُرى مخ ساقها من وراء اللحم، قلوبهم كقلب رجل واحد، فهم في نعيم دائم لا ينقطع.

باب في صفات الجنة وأهلها وتسبيحهم فيها بكرة وعشيا

باب في صفات الجنة وأهلها وتسبيحهم فيها بكرة وعشيا بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، أما بعد:

شرح حديث: (أول زمرة تلج الجنة)

شرح حديث: (أول زمرة تلج الجنة) قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن رافع، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها: وأنتم تعلمون أن هذا السياق الإسنادي إنما ينظم إلى ما تسمى بصحيفة همام بن منبه عن أبي هريرة. قال همام: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: كيت وكيت وكيت مائة واثنين وأربعين حديثاً، جمعها الإمام أحمد في مسنده، في المجلد الثاني من مسند أبي هريرة، فذكر أحاديث منها: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أول زمرة تلج الجنة)]. وكلمة (تلج) بمعنى: تدخل. ولكن الولوج فيه معنى زائد على الدخول، كأنه الدخول بقوة، ولذلك: (أتى رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام فاستأذن قال: أألج يا رسول الله؟) يعني أأدخل يا رسول الله؟ (فقال النبي عليه الصلاة والسلام لـ أنس: اذهب فعلمه كيف يستأذن. فخرج إليه أنس فقال: إذا أردت الاستئذان فقل: أأدخل ولا تقل أألج؟). فكأن الله عز وجل كافأ عباده المؤمنين الذين يدخلون الجنة أنهم يدخلونها دخولاً قوياً، فالولوج يناسب الجنة ولا يناسب الدنيا، ولذلك أنكر النبي عليه الصلاة والسلام على من أراد أن يلج في بيته، وأثبت أن دخول الجنة هو دخول وزيادة، والزيادة هي الولوج. قال: [(أول زمرة)] أي: أول عصابة، ومجموعة، وفوج يدخلون الجنة [(صورهم على صورة القمر ليلة البدر)] وهذا لا يلزم المماثلة والمشابهة في الصورة من جميع الوجوه. فقولك: فلان مثل فلان، لا يلزم أنه مثله في الطول، والعرض، واللون، ولون العينين، وطول اللحية، ولون اللحية، وفي الأخلاق، والهدي، والسمت، لا يلزم أن يكون كذلك، وإنما تقول: محمد كأحمد. أي: في الأدب. محمد كإبراهيم. أي: في حسن الخلق. محمد كزيد. أي: في الطول. محمد كإبراهيم في العرض. لا يلزم أن تكون المماثلة من كل زاوية وناحية، إنما يقال: فلان كفلان في بعض الشبه، وفي بعض الصفة، ولا يلزم أن تكون المماثلة في كل الصفات، فهكذا النبي عليه الصلاة والسلام شبه أول زمرة تدخل الجنة: (أنها على صورة القمر ليلة البدر)، وتسميته للقمر ليلة البدر يعني: في شدة وضاءته وجماله وحسنه وتمامه، فهذه الزمرة التي تدخل الجنة تكون صورهم كصورة القمر لا أنهم أقمار، فلا يكون الإنسان قمراً كما لا يكون القمر إنساناً، لكنه شبه الداخل أولاً إلى الجنة بأن صورته كصورة القمر، وفي الحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام: (كان إذا سر من شيء تهلل وجهه كأنه القمر ليلة البدر). وفي الحقيقة ليس هو كالقمر في ليلة البدر، وإنما هذا تشبيه في أحد الأوصاف، كان إذا ضحك، وتبسم، وتهلل وجهه يفرح الإنسان الناظر إليه أكثر من فرحه أو كفرحه إذا نظر إلى القمر ليلة البدر. ثم قال: [(لا يبصقون فيها)]. والبصق هو التفل. وهذا يدل على ذم هذه الصفة في الدنيا، إذا سرت في الطريق فرأيت رجلاً يبصق على الأرض فلابد أنك تتأذى منه. ثم قال: [(ولا يمتخطون)]. أي: من النخامة، والنخاعة، وأنتم تعلمون: (أن النبي رأى رجلاً يتنخم في قبالة المسجد، وكان إمام قومه فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لا يصلين لكم -أي: لا يؤمكم بعد ذلك- فلما أتى ليؤم الناس منعوه وقالوا: إن رسول الله منعك أن تصلي بنا إماماً، فذهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: أمنعتني يا رسول الله أن أصلي بالقوم؟ قال: نعم؛ لأنك آذيت الله ورسوله بالنخامة في المسجد). وفي الحديث: (وجد النبي عليه الصلاة والسلام نخامة في جدار المسجد أو في قبالته فحكها عليه الصلاة والسلام). وفي هذا دليل على تواضعه ومراقبته لحرمة بيوت الله عز وجل. وقال: (إذا وجد أحدكم النخامة فليدلكها بقدمه). أي: إذا كانت طرية. وفي قول له: (إذا وجد أحدكم النخامة في المسجد فليحكها بأظفره). وهذا إذا كانت يابسة جافة. قال: [(لا يبصقون فيها، ولا يمتخطون، ولا يتغوطون فيها)]. ومع هذا النعيم الذي يأكلونه ويتلذذون ويتنعمون به في كل وقت وحين لا تنقطع لهم لذة ومع هذا فهم لا يتغوطون، ولا يبولون، ولا يمتخطون، ولا يتفلون. قال: [(آنيتهم، وأمشاطهم من الذهب والفضة)]. أي: الأواني التي يأكلون فيها، والملاعق التي يأكلون بها من الذهب والفضة، ومن أكل في هذه الأواني في الدنيا لابد وأنه سيحرم منها في الآخرة، والجزاء من جنس العمل، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الذي يأكل في آنية الذهب والفضة كأنما يجرجر في بطنه نار جهنم) أي: من أكل بهما في الدنيا كأنه

شرح حديث: (إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يتفلون)

شرح حديث: (إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يتفلون) قال: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم -واللفظ لـ عثمان - قال عثمان: حدثنا، وقال إسحاق -وهو ابن إبراهيم المعروف بأنه: ابن راهوية - أخبرنا جرير عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون)]. إذاً: في الجنة أكل وشرب. وبعض الناس يقول: نعيم الجنة نعيم معنوي، وهذا خبل وجنون؛ لأن النعيم المعنوي لا يؤكل ولا يشرب، والنعيم المعنوي هو كما أن لو أن واحداً الآن دخل إلينا وألقى إلينا خبراً جميلاً سررنا به، هذا بلا شك يحدث عندنا لذة سماع الأخبار الطيبة والمبشرات، فلا شك أنه قد حصل اللذة بسماع الأخبار فهذه لذة معنوية وليست محسوسة مادية، ولذلك نعيم الجنة حسي ومعنوي، وهذا مذهب أهل الحق أهل السنة والجماعة أن نعيم الجنة حسي ومعنوي، ورؤية الله عز وجل في الجنة في يوم المزيد الذي تسميه بعض النصوص أنه يوم الجمعة نعيم معنوي، والرؤية حقيقة لله عز وجل، لكن إذا أثبتت النصوص أننا نأكل في الجنة ونشرب فكيف نأكل معنوياً ونشرب معنوياً؟! لابد أن نأكل شيئاً محسوساً، وفي الجنة لو أن واحداً في يده رمانة أو تفاحة فأكل نصفها واشتهى قبل إتمام النصف الثاني نوعاً آخر من الفاكهة لتحول النصف الذي في يده الذي لم يؤكل بعد من التفاح رماناً؛ لأنه اشتهى الرمان، وهذا شيء عجيب، الواحد منا إذا اشتهى شيء في الدنيا أتى منه بكيلو باثنين كيلو، وإذا اشتهى شيئاً آخر لا يقربه حتى يمر على الشيء الأول يوم يومين أسبوع أسبوعين على حسب حالته، لكن في الجنة إذا كان في يدك مانجو مثلاً فأنت أكلت منه حتى شبعت فتمنيت لو أكلت رماناً فما تبقى في يدك من مانجو يتحول إلى رمان في يدك، فنعيم الجنة لا يمكن أن يقاس عليه نعيم الدنيا، كما قال ابن عباس: ليس من تشابه بين نعيم الجنة ونعيم الدنيا إلا في الأسماء. هذا اسمه رمان وهذا رمان، ولكن شتان ما بين طعم هذا وطعم ذاك، وبين حقيقة هذا وحقيقة ذاك. قال: [(إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يتفلون، ولا يبولون، ولا يتغوطون، ولا يمتخطون. قالوا: فما بال الطعام؟)]. يعني: سؤال يحتاج إلى جواب، أنت يا رسول الله الآن تقول: هم يأكلون ويشربون، لكنهم لا يتغوطون ولا يبولون، إذاً: الطعام هذا أين يذهب؟ قال: [(قال: جشاء)]. والجشاء هو الريح الذي يخرج من الفم مع الصوت عند الشبع، فهذا اسمه الجشاء، وهذا في الدنيا عيب، وفي الآخرة ليس عيباً؛ لأن هذه الوسيلة التي يتخلص بها من دخل الجنة من بقية طعامه، أو هذه أحد الوسائل للتخلص من الطعام. وجاء في حديث آخر: (فتجرع أو تكرع رجلاً بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام وقال: إليك عنا يا فلان فإنما الجشاء من الشبع). [(قال: جشاء، ورشح كرشح المسك، يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس)]-وفي رواية قال: (كرشح المسك) -.

شرح حديث: (يأكل أهل الجنة فيها ويشربون)

شرح حديث: (يأكل أهل الجنة فيها ويشربون) قال: [وحدثني الحسن بن علي الحلواني]. الحلواني وليس الحَلواني. أي: من حلوان، وهي قرية في العراق اسمها حلوان؛ لأن حلوان المشهورة عند المقرئين هي حلوان المعروفة، لكن هناك قرية أعظم منها وأشهر قبل أن يكون في مصر حلوان كانت في العراق، وكانت نهضة لأهل العلم في زمن من الأزمنة، فـ الحسن بن علي الحلواني، وحجاج بن الشاعر كلاهما يرويان عن أبي عاصم النبيل. [قال الحلواني: حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج] وهو عبد الملك بن عبد العزيز الأموي كان إماماً في العلم، ولكنه مدلس، والمدلس إذا صرح بالسماع أخذنا حديثه وإلا فلا، فهذا ابن جريج يقول: أخبرني أبو الزبير. وأبو الزبير يقول: أخبرني، وأخبرني من صيغ السماع أو من الصيغ التي تفيد السماع. إذا قال المدلس: أخبرني، أو أنبأني، أو حدثني، أو سمعنا، أو حدثنا، أو أنبأنا، فكل هذا الألفاظ تدل على أنه قد سمع بنفسه، فإذا قال مدلس شيئاً من هذه الصيغ أمنا بذلك تدليسه، واحتملنا حديثه، وكذلك أبو الزبير المكي محمد بن مسلم بن تدرس هو مدلس، ولكنه قال: أنه سمع جابر بن عبد الله، فنأمن بذلك من تدليس ابن جريج ومن تدليس أبي الزبير. [عن جابر قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يأكل أهل الجنة فيها، ويشربون، ولا يتغوطون، ولا يمتخطون، ولا يبولون، ولكن طعامهم ذاك جشاء كرشح المسك، يلهمون التسبيح والحمد -أي: والتحميد- كما يلهمون أو تلهمون النفس)]. يقول الإمام النووي: (مذهب أهل السنة وعامة المسلمين أن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون، ويتنعمون بذلك وبغيره من ملاذ وأنواع نعيمها تنعماً دائماً لا آخر له ولا انقطاع أبداً)، وأهل الجنة إذا دخلوا الجنة لا يموتون فيها، فالجنة نعيمها دائم لا ينقطع وبين أيديهم وفي متناولهم في كل وقت وحين، وهم لا يموتون فيها أبداً. إذاً: نعيمهم دائم دواماً لا نهاية له، ولا انقطاع له. قال: (وإن تنعمهم بذلك على هيئة تنعم أهل الدنيا) يعني: هم يتنعمون في الجنة كما كانوا يتنعمون في الدنيا. يعني: هو يريد أن يمعن إمعاناً في إحقاق مذهب أهل الحق من أهل السنة أنهم يأكلون أكلاً حقيقاً ويشربون شرباً حقيقاً كما كانوا يأكلون ويشربون في الدنيا إلا ما بين الدنيا والآخرة من التفاضل في اللذة والنفاسة. (النبي عليه الصلاة والسلام في ليلة كسوف القمر لما صلى بأصحابه فتأخر صلى الله عليه وسلم حتى كاد أن يصل إلى الصف الأول ثم تقدم عليه الصلاة والسلام ومد يده ثم وضعها على صدره واستمر في القراءة، قالوا: يا رسول الله! ما بالك فعلت شيئاً لم نكن نعهده عليك؟ قال: رأيت الجنة والنار رأي العين، وإن إبليس أتى بشهاب من نار وأراد أن يشوش علي صلاتي فتأخرت، فلما ذهب تجلت لي الجنة فتقدمت حتى كدت أقطف منها عنقوداً -ولما مد يده كاد يقطف منها عنقوداً -: ولو أني فعلت ما شبعتم منه إلى يوم القيامة) يعني: من هذا العنقود فقط فإن البشر يستمرون يأكلون منه إلى يوم القيامة لا يشبعون من جماله وحلاوته. أنت في هذا الوقت لو وضع أمامك قليل من العنب لابد أن بركة يوسف والي ستحل في هذا الطبق من كيماويات وغير ذلك، فلا شك أنك تأكل شيئاً يسيراً ثم ترفع يدك وتقول: كفاية سم، مع أنه في الأصل عنب وهو في الظاهر لذة، لكنه سم في العنب، وقس على العنب كل أنواع الثمار، والفواكه، والخضروات، حتى القمح إذا كنا إلى يومنا هذا نزرع القمح، والذي ذلنا هو أننا لا نزرع القمح. قال: (وإن تنعم الجنة بذلك على هيئة تنعم أهل الدنيا إلا ما بينهما من التفاضل في اللذة والنفاسة التي لا يشارك نعيم الدنيا إلا في التسمية وأصل الهيئة). يعني: هذا تفاح وهذا تفاح، لكن شتان بينهما، وهذا عنب وهذا عنب، لكن شتان بينهما، وشتان ما بين الطعم والمذاق واللذة وإن اتفقا في الهيئة والشكل والاسم، فليس بين نعيم الجنة ونعيم الدنيا من شبه ومماثلة إلا في الاسم والهيئة، أما في الجوهر فيختلف تماماً. وأهل الجنة لا يبولون، ولا يتغوطون، ولا يمتخطون، ولا يبصقون، وقد دلت دلائل القرآن والسنة في هذه الأحاديث التي ذكرها مسلم وغيره أن نعيم الجنة دائم لا انقطاع له أبداً، لن يكون أحد في الجنة بخيلاً، لا توجد هذه الأشياء التي هي في الدنيا، ودناءة الأنفس أيضاً لن يكون لها أصل في الجنة، وعلى آية حال ما من شيء يطلبه العبد من ربه إلا وهو بين يديه بإذن الله تعالى.

باب في دوام نعيم أهل الجنة

باب في دوام نعيم أهل الجنة (الباب الثامن: في دوام نعيم أهل الجنة). يعني: استمرار النعيم وعدم انقطاعه. (وقول الله تعالى: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:43]). الباء هنا في قوله (بِمَا): باء السببية. أي: بسبب ما كنتم تعملون دخلتم الجنة؛ ومعلوم أن دخول الجنة بفضل الله عز وجل ورحمته، ولو أراد الله تعالى أن يعذب الطائع لعذبه وهو غير ظالم له، ولو أراد أن ينجي الظالم من النار وأن يدخله الجنة لفعل لذلك بحكمته وعدله سبحانه وتعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]. فهذا باب عظيم من أبواب القدر، فإذا كان يوم القيامة فإن نعيم الآخرة لا ينقطع، بل هو دائم ديمومة لا انقطاع لها ولا انتهاء لها، وينادى على الناس يوم القيامة أن هذه الجنة التي أورثتموها ودخلتموها إنما هي بسبب أعمالكم. إذاً: الأعمال سبب وليست هي التي يركن إليها، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (كل الجنة يدخلون الجنة إلا من أبى قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى). وقال عليه الصلاة والسلام: (لا يدخل أحد الجنة بعمله). أي: لا يدخل أحدكم الجنة ابتداءً بعمله وإنما برحمة الله. (قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل). إذاً: دخول الجنة برحمة الله، ودخول النار بعدل الله، لا يظلم الله تعالى الناس شيئاً: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} [يونس:44].

شرح حديث: (من يدخل الجنة ينعم لا يبأس)

شرح حديث: (من يدخل الجنة ينعم لا يبأس) قال: [حدثني زهير بن حرب قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت بن أسلم البناني البصري، عن أبي رافع، عن أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يدخل الجنة ينعم لا يبأس)] (ينعم): أي: يتلذذ، وتحصل له اللذة والنعيم. (لا يبأس) أي: من البؤس، والهم، والغم. أنتم تعلمون أن الدنيا دار هم وبلاء، هذا الهم والبلاء يصيب المؤمن والكافر، ويصيب العاصي والطائع، ويصيب الجميع، فليس من أحد في الدنيا إلا ويصيبه الهم والغم عظمت ثروته أو قلت، كثر أولاده أو لا ولد له، كثرت زوجاته أو لا زوجة له، صغيراً كان أو كبيراً، أنثى أم ذكراً، عبداً أم حراً، الكل قد أصابه الهم والغم في حياته الدنيا، وإن تظاهر بالسعادة فعنده ما عنده، والبيوت ما أغلقت إلا على براكين من نار، هذا الأبواب التي جعلت على مداخل البيوت والشقق أغلقت على براكين كادت أن تنفجر، وهذا شأن الدنيا، فمهما نزل بعبد الضر والبلاء فلابد له من فرج؛ لأنه لا يملك الفرج إلا الله، لكن ينبغي على هذا العبد الذي نزل به الضر والهم أن يلجأ، وأن يتضرع إلى الله عز وجل، وأن ينتهز الأوقات التي تجاب فيها الدعوات وتصعد إلى رب الأرض والسماوات، والله تعالى ينزل إلى السماء الدنيا من عليائه سبحانه وتعالى نزولاً يليق بجلاله، فيقول لعباده في الثلث الأخير من الليل: ألا هل من داع فأجيبه؟ الله تعالى هو الذي يجيب الدعوات، فلم تضن على نفسك بأن تقوم لله تعالى في وقت أنت على يقين أنه يقبل منك الدعاء، ثم تذهب لتشكو إلى فلان أو علان، وأولى بك أن تشكو لربك الذي يملك تفريج الهم، وكشف الضر، المهم أن تقوم له في الوقت المحدد من آخر الليل فتصلي ركعتين، أو أربع ركعات، أو ست، أو ثمان أو إحدى عشرة ركعة ثم تجلس بعد ذلك تسبح: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18]. قال الإمام الحسن البصري: كانوا يصلون من منتصف الليل إلى وقت السحر فإذا كان السحر جلسوا ورفعوا أكف الضراعة إلى الله عز وجل يسألونه حاجاتهم، هذا الوقت الذي يجدر بنا جميعاً أن ننتصب لله تعالى فيه بالليل، وأن يطلب الواحد منا ولو دعوة واحدة من ربه في كل ليلة. ولو تعددت حاجاتك عند الله وكانت كثيرة، فالله تعالى بيده مفاتيح الأرض والسماوات، يملك كل شيء، فهو يملك العباد وما يملكون، وهو الذي يملك قلوب العباد، وكثير من الناس بينه وبين إخوانه منازعات، وهو يتصور أو يعتقد أن هذه المنازعات لا حل لها البتة، ولا يمكن أن تنكشف، وهذا سوء ظن بالله تعالى، فلو أنه دعا الله عز وجل في ليلة أن يفرج كربه لكان لزاماً أن تفرج الكروب، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما بال أحدكم يستعجل الإجابة حتى يدع الدعاء). يستعجل الإجابة يقول: يا رب! دعوت ولم تستجب لي. وكم من امرأة كانت تحت رجل فكانت سر تعاسته، فلما طلقها وتزوجت رجلاً آخر كانت قمة السعادة بينهما، والعكس بالعكس، فينبغي أن يسلم المرء أمره كله لله تعالى يفعل فيه ما يشاء، فالله تبارك وتعالى يعلم الخير والشر سبحانه وتعالى، وهو الذي يعلم ذلك. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا هم أحدكم بالأمر). يعني: إذا دخل في نفس أحدكم شيء يريد أن يصنعه. والصحابة رضي الله عنهم كانوا يستخيرون الله تعالى في شراك نعالهم، وهذا من التسليم لقدر الله تعالى وقضائه، قال للصحابة: (إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب اللهم إن كان هذا الأمر -ويسميه- خيراً لي في ديني، ومعاشي، وعاقبة أمري آجله وعاجله، فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كان هذا الأمر -ويسميه- شراً لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري آجله وعاجله فاصرفه عني). أي: فاصرفه عني يا رب بعلمك. إذا كنت تعلم في الأزل أن هذا تعس وبؤس اصرفه عني. (واصرفني عنه، ثم اقدر لي الخير حيث كان). ومعنى: (اللهم إنه كنت تعلم) أي: أنك تعلم، مثل قول ربنا: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1]، و (قد) هنا تفيد التحقيق، مع أن (قد) قد تأتي للشك. وعلماء اللغة يسمون هذا: الحرف الزائد أو الكلام الزائد، ومعناه أن الجملة تستقيم بغيره لا أن في كلام الله حرفاً زائداً لا قيمة له حاشا لله. (فاللهم إن كنت تعلم): أي اللهم إن كان سبق في علمك الأزلي الذي علمته وكتبته في اللوح المحفوظ قبل أن تخلق الخلق بخمسين ألف سنة أن كذا وكذا تكون فيه سعادتي فيسره لي، وهذا ليس على سبيل الشك وإنما على سبيل التحقيق. قال: (من يدخل الجنة ينعم لا يب

شرح حديث أبي سعيد وأبي هريرة في نعيم الجنة: (إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا)

شرح حديث أبي سعيد وأبي هريرة في نعيم الجنة: (إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً) [وقال أبو إسحاق: أن الأغر حدثه عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ينادى مناد: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً)]. أي: فلا يصيبك سقِم أو سقَم. الذي يدخل الجنة يكون صحيحاً، فتياً، قوياً، لا يمرض أبداً، فليس في الجنة مرض؛ لأن المرض ضعف وهزال في البدن، وهذا يتنافى مع النعيم واللذة في الجنة، فلا مرض في الجنة أبداً بل الصحة والعافية الدائمة السرمدية الأبدية التي لا نهاية لها. قال: [(وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً)]. أي: حياة لا نهاية لها: (يا أهل الجنة خلود بلا موت، ويا أهل النار خلود بلا موت). قال: [(وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا)]. أي: ستظلوا طول عمركم شباب، لا يصيبكم كبر السن. قال: [(وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا، فذلك قوله عز وجل: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:43])].

باب في صفة خيام الجنة وما للمؤمن فيها من الأهلين

باب في صفة خيام الجنة وما للمؤمن فيها من الأهلين (الباب التاسع: في صفة خيام الجنة وما للمؤمن فيها من الأهلين). الجنة فيها خيام، لكن ليست كخيام العرب، فنعيم الجنة لا يشابه نعيم الدنيا إلا في الاسم، هذه اسمها خيمة وهذه خيمة. ولا وجه للمقارنة. والمؤمن له زوجة، وأولاد، وأصدقاء، والله لئن دخلنا الجنة واشتهى أحد منكم أن يلقى أخاه الذي يعرفه في مسجد الرحمة والله ليقابلنه، وهذا كان يصلي معي، ويصوم معي، ويعينني على الطاعة، وأعينه على الطاعة، فيا رب أريد أن أراه، اشتقت إليه، يكون فوراً من غير قيام حتى لو كان هذا في آخر الجنة وأنا في أولها أو العكس، بمجرد أن أشتهي لقاءه أكون أمامه.

شرح حديث: (إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة)

شرح حديث: (إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة) قال: [حدثنا سعيد بن منصور، عن أبي قدامة الحارث بن عبيد، عن أبي عمران الجوني، عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس، عن أبيه]. الذي هو أبو موسى الأشعري عبد الله بن قيس. [عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة)]. خيمة الجنة من لؤلؤة. أي: درة ياقوتة واحدة. مجوفة. يعني: فارغة من الداخل. وفي رواية: (مجوبة). ولا أدري هو تصحيف أو نص آخر وإذا كان نصاً فالمعنى واحد. ومعنى مجوبة: أي: مثقوبة يعني: لها باب، حتى يدخل إليها من أراد أن يدخل من الأهل والأصحاب، فكونها مجوبة أو مجوفة المعنى واحد، ولكنها من لؤلؤة. قال: [(طولها ستون ميلاً)]. أي: طولها في السماء ستون ميلاً، وهذا لا يمكن أن تجد خيمة في الدنيا بالشكل هذا، والميل حوالي اثنين كيلو إلا ربع تقريباً، فتصور أن لؤلؤة الجنة طولها في السماء حوالي مائة كيلو في السماء، وهذا من فضل الله عز وجل، لو اشتهى أن يطير فيها طار. قال: [(للمؤمن فيها أهلون)]. أهلون: جمع أهل، والأهل هم الزوجة. وأهلون يدل على التعدد بغير تنغيص، ولا وضع السم في الطعام، ولا تكييف، لا يوجد هذا الكلام تماماً. ألم يقل الله: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} [الأعراف:43]، لن يكون هناك غل، لا هذه ستغضب من هذه ولا هذه ستغضب من هذه، سيكون منتهى الود والألفة، والله هو الذي جعل أصل خلقهم على الحب والود والوفاء، لا توجد امرأة ستغير من الأخرى، وإذا دخل على إحدى زوجاته لا تراه زوجاته الأخريات ولا يسمعن منه خبراً من سعة الخيمة. قال: [(يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضاً)]. يعني: يذهب إلى هذه، وإذا ترك هذه لا تراه الأخرى. وهذا فيه سلوى للذي يريد أن يتزوج الثانية ولا يستطيع أن يتزوج لأنه خائف، وهذا توحيد الخائفين، قال تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء:3].

شرح حديث: (في الجنة خيمة من لؤلؤة)

شرح حديث: (في الجنة خيمة من لؤلؤة) قال: [وحدثنا أبو غسان المسمعي حدثنا أبو عبد الصمد حدثنا أبو عمران الجوني، عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة عرضها ستون ميلاً)]. الرواية الأولى: طولها (60) ميلاً. والرواية الثانية: عرضها (60) ميلاً. والجمع بين الروايتين: أن طول الخيمة (60) ميلاً في السماء وعرضها على الأرض (60) ميلاً أيضاً. إذاً: الخيمة مربعة فهي (60×60). قال: [(في كل زاوية منها أهل، ما يرون الآخرين، يطوف عليهم المؤمن)]. يعني: لا يوجد واحدة ترى الأخرى، ولو رأتها لا توجد مشكلة. قال: [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا همام، عن أبي عمران الجوني، عن أبي بكر بن أبي موسى بن قيس الأشعري، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الخيمة درة -والدرة بمعنى اللؤلؤة- طولها في السماء ستون ميلاً في كل زاوية منها أهل للمؤمن لا يراهم الآخرون)].

باب ما في الدنيا من أنهار الجنة

باب ما في الدنيا من أنهار الجنة (الباب العاشر: ما في الدنيا من أنهار الجنة). باب إثبات أن بعض أنهار الدنيا هي أنهار الجنة، أو أن أصل مائها من الجنة. قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو أسامة، وعبد الله بن نمير، وعلي بن مسهر، عن عبيد الله بن عمر، (ح) وحدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، حدثنا محمد بن بشر العبدي، حدثنا عبيد الله بن عمر العمري، عن خبيب -أي: ابن عبد الرحمن - عن حفص بن عاصم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سيحان، وجيحان، والفرات، والنيل، كل من أنهار الجنة)]. أي: كل نهر من هؤلاء من أنهار الجنة، وسيحان، وجيحان ليسا سيحون وجيحون، والنيل في مصر، والفرات في العراق يفصل بين أرض الشام وأرض الحجاز. أولاً: نتعرف على هذه الأنهار وطبيعتها، ثم نتطرق بعد ذلك كيف أن هذه الأنهار من أنهار الجنة. قال النووي: (أعلم أن سيحان وجيحان -وهما النهران الأولان- غير سيحون وجيحون، فأما سيحان وجيحان المذكوران في هذا الحديث اللذان هما من أنهار الجنة هما في بلاد الأرمن). وبلاد الأرمن قرب الشام، وليست بلاد الأرمن بلاد الشام وإنما هي قريبة من الشام. قال: (فجيحان هو المعروف الآن بنهر المصيصة، وسيحان نهر إذنة، وهما نهران عظيمان جداً أكبرهما جيحان). قال: (أما قول الجوهري في صحاحه: جيحان نهر بالشام. فغلط). يعني: أخطأ في ذلك؛ لأنه قال أن جيحان نهر بالشام. قال: (أو أنه أراد المجاز) يعني: أنه ببلاد الأرمن وهي قريبة من بلاد الشام فسماها الشام مجازاً فإذا كان يقصد ذلك وإلا فلا. قال: (قال الحازمي: سيحان نهر عند المصيصة، قال: وهو غير سيحون). يعني: سيحون شيء وسيحان شيء آخر. قال: (وقال صاحب نهاية الغريب: سيحان وجيحان نهران بالعواصم عند المصيصة وطرسوس، واتفقوا كلهم على أن جيحون وراء خراسان عند بلخ، واتفقوا على أنه غير جيحان، وكذلك سيحون غير سيحان. وأما قول القاضي عياض: هذه الأنهار الأربعة أكبر أنهار بلاد الإسلام، فالنيل بمصر، والفرات بالعراق، وسيحان وجيحان ويقال سيحون وجيحون ببلاد خراسان ففي كلامه إنكار). الإمام النووي يقول أن القاضي أخطأ في ذلك؛ لأنه جعل سيحان وجيحان هما سيحون وجيحون، وهذا خطأ كما قلنا من قبل، وأنه قال: الفرات بالعراق وليس بالعراق فنقم عليه ذلك، كما أنه قال: أنهما -أي: سيحان وجيحان- في بلاد خرسان. قال: (وأما سيحان وجيحان فهما ببلاد الأرمن بقرب الشام). فهذه أخطاء ردها النووي على القاضي عياض. قال: (وأما كون هذه الأنهار من ماء الجنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وإنها من ماء الجنة). أي: هذه الأنهار من ماء الجنة). أي: معنى أن هذه الأنهار من ماء الجنة. (ففيه تأويلان ذكرهما القاضي عياض. أحدهما: أن الإيمان عم بلادها). والإيمان سبب لدخول الجنة، وهذا تأويل بعيد أن الإيمان عم بلادها. قال: (أو أن الأجسام المضتغذية بمائها صائرة إلى الجنة). فهذه البلاد يعيش فيها اليهود، ويعيش فيها النصارى ويشربون ويتغذون من مائها فكيف يدخلون الجنة؟ وإنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، واليهود والنصارى لا حظ لهم في الجنة، ولا حظ في الجنة إلا لمن آمن ووحد. فحينئذ يكون هذا تأويل مردود؛ لأنه بعيد جداً. قال: (والثاني وهو الأصح: أنها على ظاهرها). أي: أن هذا الحديث على ظاهره لا يحتاج إلى تأويل. (ولها مادة من الجنة) أي: لهذه الأنهار مدد من السماء، لا يعلمه إلا الله، خاصة وقد جاء في روايات سبقت وشرحناها تفصيلاً وأثبتنا أن لهذه الأنهار مدد من الجنة، وأنتم تعلمون أن الجنة والنار مخلوقتان الآن، وأن النبي عليه الصلاة والسلام دخل الجنة فرأى فيها كيت وكيت وكيت، وذكرنا هذه المرئيات، واطلع على النار فوجد أكثر أهلها النساء، فالجنة والنار مخلوقتان الآن قائمتان الآن لا يدري أحد مكانهما، وهذا يفوض علمه إلى الله عز وجل، فحينئذ يجب أن نعتقد أن هذه الأنهار إنما أصلها وأصل منبتها من الجنة، وأنها تستمد ماءها من الجنة، فإذا أرادوا أن يضحكوا علينا بعد ذلك ويقولون: إن هذا النيل يستمد ماءه من بحيرة ناصر سنقول: إن النيل وبحيرة ناصر يستمدان الماء من الجنة، وإذا كان هذا الماء الذي بين أيدينا هو ماء أصله من الجنة، فعيب علينا أن نلوثه بالقاذورات والفضلات وآثار التغوط وأكثر من ذلك، وعيب علينا أن نسمح لغير بلاد المسلمين أن يلوث هذه المياه بالكيماويات والسموم وغير ذلك حتى صرنا أفقر بلاد العالم في الماء، مع كثرته ووفرته لكن ماء النيل بين أيدينا ونخشى أن نستعمله ونقول: لابد من تكريره أولاً، وهناك منظر يؤذي قلوب الموحدين: أن ترى على كل مكان من النه

باب: يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير

باب: يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير (الباب الحادي عشر: يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير). إما أن يكون المراد بذلك: الرقة والخفة، وإما أن يكون المراد بذلك: الخوف والفزع. ويؤيد المعنى الأول قول النبي عليه الصلاة والسلام لما رأى أهل اليمن: (أتاكم أهل اليمن هم أرق الناس أفئدة وألين الناس قلوباً). ومعلوم أن قلب المؤمن مثل قلب الكافر في نفس اللون، ونفس القوام، لكن المراد معنوي فقد تعظ الناس بالجنة والنار وتذكر لهم الوعيد الشديد فربما انفطر وانصدع قلب المؤمن لأول وهلة، وربما لا ينصدع قلب الكافر حتى آخر لحظة، والقلوب منها القلب القاسي، والقلب اللين، والقلب الرطب بذكر الله، والقلب القاسي ببعده عن الله عز وجل وبعده عن ذكر الله، فالقلوب أنواع، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (القلوب أربعة). قال عليه الصلاة والسلام: [(يدخل الجنة أقوام أفئدتهم)]. والفؤاد هو لب القلب [(مثل أفئدة الطير)]. فإما أن يكون المقصود بذلك الرقة واللين كما قال صلى الله عليه وسلم: (أتاكم أهل اليمن هم أرق الناس أفئدة وألين الناس قلوباً، الفقه يمان، والإيمان يمان والحكمة يمانية). فالنبي عليه الصلاة والسلام يثني على أهل اليمن، وهم أهل لهذا الثناء، وأحق بهذا الثناء، وقد عرفهم النبي عليه الصلاة والسلام حق المعرفة، ولا تزال هذه الصفات يتمتع بها الشعب اليمني إلى يومنا هذا، تجدهم أقرب الناس إليك، وأحن الناس عليك، وألطف الناس محادثة، وأطوع الناس عند النقاش، وأأدب الناس عند الخلاف، هذه حقيقة صفات الشعب اليمني إلى يومنا هذا، كما أن النبي عليه الصلاة والسلام مدح الأنصار، وبلاد الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار، وهذا المدح تجده فيهم إلى الآن، وأهل مكة تجد فيهم القسوة، والغلظة، والجفاء، والعنجهية، والكبر، والغطرسة، وقلة الأدب، إلا من رحم الله عز وجل! وإما أن يكون المعنى المراد مثل أفئدة الطير في الخوف والهيبة؛ لأن الطير أفزع الخلق، تجد الحمامة في عز النوم وأول ما تسمع صوتاً غريباً ولو من بعيد تصير في أعالي السماء، قد فزعت وخافت. وكأنه أراد أن يقول: لا يدخل الجنة إلا من حقق كمال الخوف والرجاء لله عز وجل. وأنتم تعلمون أن الخوف والرجاء جناحا المؤمن في السير إلى ربه، فلا يغلب الخوف على الرجاء ولا يغلب الرجاء على الخوف وإنما هما جناحان يسيران في مسار واحد في الحياة الدنيا. وأما في حال الصحة فقد قال بعض أهل العلم بجواز تغليب باب الخوف حتى يزيد الخائف من العمل؛ ولذلك: (لما قرأت عائشة رضي الله عنها: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60]، قالت: يا رسول الله! أهذا الزاني الذي يزني، والقاتل الذي يقتل، والسارق الذي يسرق؟ قال: لا يا ابنة الصديق، إنما هؤلاء أقوام أتوا بصلاة وصيام وزكاة يخافون ألا يتقبل منهم). أي: فيحملهم خوفهم هذا على المزيد من العمل، فالخوف المشروع هو الخوف الذي يجعل الخائف يزداد من الطاعات، أما الخوف الذي يؤدي إلى الإياس والقنوط من رحمة الله فليس هذا هو الخوف المشروع، إنما هذا خوف على غير مذهب أهل الحق وعلى غير مذهب أهل السنة والجماعة. والرجاء كذلك يكون بعد العمل، فالمؤمن يصلي ويرجو الله تعالى أن يتقبل منه ذلك، ويصوم ويرجو الله تعالى أن يتقبل منه ذلك، ويفعل الطاعات وينتهي عن المعاصي ويرجو الله تعالى أن يثبته على الإيمان بعد العمل بعد بذل الوسع وإفراغ الجهد في مرضات الله تعالى، فهو يرجو ربه أن يتقبل منه ذلك، وأن يعفو عن السيئات والهفوات. لكن رجاء لا عمل معه لا ينفع، والذي لا يصلي ويزعم أنه متكل على رحمة الله ليس بصادق مع نفسه إذ كيف سيرحمه الله عز وجل وهو الذي أعرض عن شرعه ودينه؟ وقد سمع الوعيد والتهديد في القرآن والسنة ولم يحرك فيه ساكناً، فكيف يعفو عنه الله عز وجل؟ ولو شاء الله أن يعفو عنه لعفا، لكن هناك أحكام شرعية ينبغي أن تتمسك بها حتى تكون أهلاً لرحمة الله عز وجل، فبعض الناس يتصور أن الرجاء أن يدع العمل، ويعتقد أن رجاءه ينفعه. كلا وألف كلا، لا ينفعه ذلك، وليس هذا باب الكلام عن الخوف والرجاء. ويمكن أن يحمل قوله: (مثل أفئدة الطير): أي في التوكل على الله عز وجل، خاصة في الرزق والأجل، ولذلك ضمن الله لعباده الأرزاق والآجال، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن روح القدس) أي: جبريل (نفث في روعي) أي: حدثني سراً. (أن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها). أي: يا محمد اعلم في نفسك، وأخبر أمتك أن أحداً لن يموت حتى يأخذ رزقه كاملاً بغير نقصان، والمطلوب هو (فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، واعلموا أن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته). أي: ما عليك إلا أن تطيع الله، ولا أقل من أن تكون كالعصفور، والحمام، وال

شرح حديث: (خلق الله تعالى آدم على صورته)

شرح حديث: (خلق الله تعالى آدم على صورته) قال: [حدثنا محمد بن رافع، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن همام، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (خلق الله عز وجل تعالى آدم على صورته)]. الضمير في قوله: (صورته) يعود على آدم، وهو أقرب اسم مذكور مفرد للضمير فيعود عليه الضمير. خلق الله آدم على صورته. أي: على صورة آدم. وبعض أهل العلم أنكر هذا التأويل فقال: وليس في هذا بلاغة ولا فصاحة، والنبي صلى الله عليه وسلم هو أبلغ الخلق وأفصح الخلق، فلا يتصور أن يكون التقدير هكذا خلق الله آدم على صورة آدم، وحملوا الضمير على الرحمن الذي قد جاء في حديث آخر: (خلق الله آدم على صورة الرحمن). وهذا أرجح القولين عندي، لكن لا يلزم من ذلك أن تكون صورة الله تعالى هي نفس صورة الرجل من خلقه، فيكون المعنى: كما أن الله تعالى له ذات وصورة لا يعلم كيفيتها إلا هو سبحانه وتعالى، فكذلك آدم لما خلق كان له صورة. فيكون التقدير: خلق الله آدم على صورة كما أن الله تعالى على صورة، ولا يلزم من المماثلة بين الاسمين أو الوصفين المماثلة من كل وجه، بل يحكم هذا وذاك قول الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]. أي: ليس كمثله شيء لا في الذات ولا في الصفات، وكما أن نعيم الجنة لا يتفق مع نعيم الدنيا إلا في الاسم فقط، ولا يلزم منه المماثلة والمشابهة كما قلنا من قبل، فكذلك لله تعالى صورة، ولا بد؛ لأنه ذات علية سبحانه وتعالى، وكل ذات لها أوصاف؛ ولذلك وصف نفسه بأوصاف، ووصفه رسوله عليه الصلاة والسلام بأوصاف، وسمى الله تعالى نفسه بأسماء، وسماه رسوله بأسماء، فنتوقف عند حد ثبوت الأسماء والصفات الثابتة في الكتاب والسنة لله عز وجل من غير خوض في الكيفية. وهذا مذهب أهل الحق لا نفوض في المعنى، ولا نفوض في العلم وإنما نفوض الكيفية، فالله تعالى له صورة؛ لأنه أخبر أن له صورة، ونمسك عن ماهية هذه الصورة وكيفيتها، وآدم له صورة ولا يلزم المماثلة والمشابهة من إثبات الصورة لله وإثبات الصورة لآدم. نكتفي بهذا القدر، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً

كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها - شدة حر نار جهنم وبعد قعرها

شرح صحيح مسلم - كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها - شدة حر نار جهنم وبعد قعرها خلق الله النار للكفار من خلقه، والعاصين من عباده، ووعدها بملئها منهم، وقد جاء الأمر بالتعوذ منها ومن حرها وأهوالها، والتي لا يعرف مقدارها إلا الله سبحانه وتعالى، وقد جعلها الله على دركات لكل دركة من دركاتها ناسها، حتى يصل آخرهم إلى دركها الأسفل.

باب في شدة حر نار جهنم وبعد قعرها وما تأخذ من المعذبين

باب في شدة حر نار جهنم وبعد قعرها وما تأخذ من المعذبين إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، أما بعد: فمع الباب الثاني عشر من كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها: (باب في شدة حر نار جهنم) أعاذنا الله وإياكم منها (وبعد قعرها، وما تأخذ من المعذبين).

شرح حديث: (يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام)

شرح حديث: (يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام) قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عمر بن حفص بن غياث، قال: حدثنا أبي عن العلاء بن خالد الكاهلي، عن شقيق وهو شقيق بن سلمة الكوفي، أبو وائل، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بجهنم يومئذ -أي يوم القيامة- لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها)]. قوله: (يؤتى بجهنم): هذا يدل على أن جهنم تغدو وتجيء، وأنها تجيء حتى تلتهم أهلها الذين أعدوا لها، وخلقوا لها، وكذلك الجنة، كما قال الله تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الشعراء:90]. أي: وقربت الجنة، فالجنة تقرب من أهلها حتى يدخلوا فيها، والنار كذلك يقربون منها حتى يدخلوا فيها، وفي الغالب أن كلمة (يقرب) تكون في موضع الإكرام، فالإكرام يقرب للضيف، ولذلك فإن من السنة أن يقرب الطعام إلى الضيف ولا يوضع في مكان ثم يدعى الضيف أن ينتقل إليه، ولذلك فإن إبراهيم عليه الصلاة والسلام قرب لأضيافه عجلاً حنيذاً للأكل منه. (يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام). والزمام هو الشيء الذي يتحكم فيه الساحب. (كل زمام يجره سبعون ألف ملك). هذا يدل على عظم النار وسعتها وشدتها، سبعون ألف ملك في سبعين ألف ملك، والناتج سيكون عدداً هائلاً، وإنما ذلك لعظمها وشدتها.

شرح حديث: (ناركم هذه التي يوقد ابن آدم جزء من سبعين)

شرح حديث: (ناركم هذه التي يوقد ابن آدم جزء من سبعين) قال: [حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا المغيرة بن عبد الرحمن الحزامي، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ناركم هذه -أي: نار الدنيا- التي يوقد ابن آدم جزء من سبعين جزءاً من حر جهنم)]. أي: هذه النار التي يوقدها ابن آدم هي جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم. يعني: أن نار الدنيا تضرب في سبعين، ويصح أن تكون هذه النار هي نار جهنم، وقد سمعت بعض مشايخنا يقول: هذا الجزء من النار الذي يوقده ابن آدم هو مجموع ما أوقده ابن آدم من لدن آدم إلى قيام الساعة. أي: هذه النار كلها التي بالمصانع الحربية، والحديد، والصلب، والإسمنت وغير ذلك مما يوقده الناس من النار لطعامهم وشرابهم لو اجتمعت منذ أن خلق الله النار حتى يوم القيامة فمجموع هذه النار يمثل في نار جهنم جزءاً من سبعين جزءاً، ولعمري لو كانت هذه النار كعود الكبريت لكفت، ولكن هذه النار أعدها الله عز وجل للكفار الذين يستحقون ذلك وزيادة. قال: [(قالوا: والله إن كانت لكافية)]. الصحابة لما سمعوا ذلك قالوا: والله لو أن النار التي أعدت للآخرة مثل نار الدنيا لكانت كافية. [قال: (فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً، كلها مثل حرها)]. أي: كل جزء منها مثل حر نار الدنيا التي يوقدها ابن آدم. قال: [حدثنا محمد بن رافع، حدثنا عبد الرزاق]. وهو عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليمني كان إماماً جليلاً، وهو شيخ اليمن في زمانه، لم يكن أحد يتقدم عليه، واليمن منذ أن دخلت في الإسلام إلى يومنا هذا لا يبرز فيها في كل قرن أو في كل مدة من الزمان إلا واحداً، لا يبرز فيها اثنان في آن واحد إلا نادراً جداً كما برز الصنعاني والشوكاني، إنما في كل قرن من القرون أو مدة من الزمان يبرز فيها واحد فقط، وأول البارزين فيها أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، ثم أبو هريرة وكلاهما من اليمن، وأنتم تعلمون أن إسلام أبي هريرة كان متأخراً، فقد أسلم بعد رجوع النبي عليه الصلاة والسلام من غزوة خيبر، ولازم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث سنوات وبضعة أشهر على ملء بطنه، فهو القائل رضي الله عنه: أما المهاجرون فقد شغلتهم تجارتهم، وأما الأنصار فقد شغلهم حرثهم وزراعتهم، وأما أنا فلزمت النبي صلى الله عليه وسلم على ملء بطني أو قال: على شبع بطني. فحصل من العلم ما لم يحصله الأكابر، وما لم يحصله من تقدم عليه كـ أبي بكر وعمر وغيرهما، ولذلك لعلكم تعلمون الإفكة والشبهة التي حرص أعداء الإسلام أن يوجهوها إلى الإسلام بالطعن في أبي هريرة؛ لأنه أعظم الصحابة على الإطلاق رواية إلا ما كان من عبد الله بن عمرو بن العاص. قال أبو هريرة: وإني لأكثر الناس رواية، وحفظاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب. أي: عبد الله بن عمرو كان كاتباً، وأبو هريرة كان أمياً لا يكتب، وكان عنده من الذاكرة الشيء العجيب جداً؛ ولذلك دعاه بعض ملوك بني أمية في المدينة أن يحدثه بأحاديث، فحدثه بأربعمائة حديث، وكان الخادم يكتب من خلف الستار، وبعد عامين استدعاه، وقال: أتذكر شيئاً مما حدثتني به آنفاً؟ أي: منذ عامين. فقال: نعم. والخادم يراجع ما كان قد كتبه منذ عامين من خلف الستار، فلما قص عليه أبو هريرة ما كان قد أسمعه آنفاً خرج الخادم وقال: والله يا أمير المؤمنين ما قدم ولا أخر، ولا حذف، إنما حدث بها من أولها إلى آخرها بنفس الترتيب. أبو هريرة أعجوبة الزمان في الحفظ، وابن عباس أقل منه حفظاً، ومع هذا كان ابن عباس يسمع القصيدة مكونة من ألف بيت شعراً فإذا قيل لـ ابن عباس أحفظتها؟ يقول: نعم. فيقول الشاعر: كلا وألف كلا. فيقول ابن عباس متحدياً: أتحب أن تسمعها مني من أولها إلى آخرها أم من آخرها إلى أولها؟ وهذا شيء عجيب، والسلف رضي الله عنهم كانت ذاكرتهم قوية. وأبو هريرة رضي الله عنه لما أتى مسلماً إلى النبي عليه الصلاة والسلام وأعلن إسلامه قال النبي عليه الصلاة والسلام: (هل لك حاجة يا أبا هريرة؟ قال: نعم يا رسول الله! أن تدعو لأمي أن تسلم فإن أبغض الناس إليها أنت، فدعا لها النبي عليه الصلاة والسلام فأسلمت، قال: هل لك حاجة يا أبا هريرة؟ قال: يا رسول الله! ادع الله لي، فدعا له بالخير والبركة والنماء). وفي مجلس ما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من يبسط رداءه فأدعو له فلا ينسى من العلم شيئاً. قال

شرح حديث: (كنا مع رسول الله إذ سمع وجبة)

شرح حديث: (كنا مع رسول الله إذ سمع وجبة) [حدثنا يحيى بن أيوب، حدثنا خلف بن خليفة، حدثنا يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة]. هناك في طبقة التابعين اثنان كل واحد منهما يكنى بـ أبي حازم أحدهما يروي عن أبي هريرة والثاني: يروي عن سهل بن سعد الساعدي. أما الذي يروي عن سهل بن سعد فهو سلمة بن دينار، والذي يروي عن أبي هريرة هو سلمان مولى عزة. [قال أبو هريرة (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع وجبة)]. وجبة: سقطة، كأن شيئاً سقط من السماء، فأحدث دوياً وزلزالاً. [(فقال النبي عليه الصلاة والسلام: تدرون ما هذا؟ قال: قلنا: الله ورسوله أعلم)]. هكذا أدب الصحابة رضي الله عنهم حتى وإن كانوا يعلمون، كانوا دائماً يردون العلم إلى الله ورسوله، وهذا في حياة الرسول، وإلا فمن الخطأ في الاعتقاد: ما يتعاطاه الناس فيما بينهم: أنك تسمع الرجل الآن يقول: الله ورسوله أعلم. والصواب أن يقول: الله أعلم. أما (الله ورسوله) فهذا في زمان الرسول وفي حياة الرسول عليه الصلاة والسلام. والنبي عليه الصلاة والسلام يسأل معاذ بن جبل: (يا معاذ أتدري ما حق الله على العبيد؟ قال: الله ورسوله أعلم). وهو يعلم. أم كيف أسلم؟ فقضية الإيمان والتوحيد كانت عندهم قضية محسومة معروفة. ويسألهم في عرفة: (أتدرون في أي يوم أنتم، في أي شهر أنتم، في أي بلد أنتم؟ وهم يقولون: الله ورسوله أعلم). وهذا من الأدب. أما الآن لو أن شيخاً سأل سؤالاً، أو رجلاً من أهل العلم سأل سؤالاً وحوله عشرة من الطلاب لسمعت اثنا عشرة إجابة. ولو أن واحداً سأل سؤالاً، لأجاب كل واحد من الواقفين بإجابة أو إجابتين، ولا يزال الشيخ بعد لم يتكلم. أهذا أدب؟! أهذه أخلاق؟! كان الواحد منهم إذا سئل وجبر على السؤال لا يتكلم، ويزعم أنه لا يعرف شيئاً ولا يحسن شيئاً، أما الآن فتجد الطالب جاهلاً وراسباً في الإعدادية، ومع هذا لا يفلت منه سؤال وكلها إجابات بالهوى، وبالرأي، وبالذوق، والوزن، أما في التأصيل العلمي فليس عنده شيء، ومع هذا فهو جريء: (أجرأ الناس على الله أجهلهم بالله) ولو أن المرء تعلم العلم وتعلم معه الأدب لهرب دائماً من موطن المسئولية. وهذا ابن أبي ليلي كان يقول: أدركت مائة وعشرين من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام كلهم كان إذا سئل في مسألة ود أن أخاه كفاه، وإذا سئل في حديث ود أن أخاه كفاه، فكان الداخل يدخل فيسأل الأول، فيحيله إلى الثاني، والثاني إلى الثالث، حتى يسأل المائة وأكثر من ذلك فيرجع بها إلى المسئول الأول، فلا يجد بداً إلا أن يتكلم فيتكلم حينئذ. وكذلك الذي نقوله في الإفتاء والتدريس نقوله في القضاء، وفي الفصل في الخصومات والمنازعات، هذا سفيان الثوري إمام الحديث، وإمام الفقه في الكوفة حمله الوالي أن يتولى القضاء فاحتال حيلة ليخرج من ذلك. وفي هذا الوقت لما يقولون: هناك منصب قضاء، نريد من يتولى قاضي المحكمة الجنوبية في الجيزة، فستحصل الرشوات بمئات الآلاف، ودعايات وإعلانات بمئات الآلاف وغير ذلك من المخالفات الشرعية، وكل ذلك ليجلس على مكان يحكم فيه بغير ما أنزل الله، وهذا بلاء آخر، والأصل فيه أنه هو البلاء الأول. أما سفيان الثوري لما أرغم على قبول القضاء أنزل اللعاب من فمه لكي يقال أنه لا يصلح لذلك، وأنه معتوه. ففهم الوالي ذلك فقال له: مهما عملت فلابد وأن تكون قاضياً. فقال: دعني أستخير ربي وأنظر في أمري. قال: لك ذلك. سترجع إلينا ثانية يا سفيان؟ قال: نعم. فخرج سفيان بدون حذاء ثم رجع مرة أخرى إلى مجلس الوالي، فأخذ نعله وانصرف. فقال أحد العلماء الحاضرين: يا أيها الولي لا يرجع سفيان. قال: لقد وعدنا أنه سيرجع. قال: لقد ترك حذاءه ورجع فأخذه. فهذا هو ما قصده سفيان. وإننا في هذا الوقت لو عرضنا أفعالنا وأقوالنا على أفعال السلف وأقوالهم، لوجدنا اختلافاً كبيراً، الواحد لما يعرض أقوله وأعماله على أقوال وأعمال السلف يجد نفسه صفراً، ويوقن بالهلاك ويوقن بالنار لولا رحمة العزيز الغفار سبحانه وتعالى. قال: [(كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع وجبة)]. أي: سقطة. [(فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تدرون ما هذا؟ قال: قلنا الله ورسوله أعلم. قال: هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين خريفاً، فهو يهوي في النار إلى الآن حتى انتهى إلى قعرها)]. أي: حجر ألقي في نار جهنم منذ سبعين عاماً فهو يهوي في النار إلى الآن، وهذا يدل على بعد قعر جهنم، ولذلك فإن المنافقين الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر لو سمعوا هذا وعلموا

شرح حديث: (إن منهم من تأخذه النار إلى كعبيه)

شرح حديث: (إن منهم من تأخذه النار إلى كعبيه) قال: [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا يونس بن محمد، حدثنا شيبان بن عبد الرحمن -وهو النحوي - قال: قال قتادة: سمعت أبا نضرة يحدث عن سمرة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن منهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه إلى حجزته، ومنهم من تأخذه إلى عنقه)]. قتادة مدلس، والمدلس إذا قال: قال فلان، أو عن فلان فلا يؤمن منه التدليس، والتدليس من أخطر العلل، التي يمكن أن تصيب الإسناد، وهناك علل تصيب الراوي، وعلل تصيب الإسناد نفسه، وهناك علل إذا اجتمعت في الراوي أو انفردت فيه أصابت الراوي نفسه، وقد يكون الراوي ثقة، لكنه يأتي بعلة تصيب الإسناد مثل التدليس، فالتدليس هذا من العلل التي تصيب الإسناد ولا تصيب الرواة؛ لأن الراوي يكون ثقة ومدلساً. وتدليس الإسناد: هو أن يقول الراوي: قال فلان أو عن فلان، ولا يقول: حدثنا، ولا أخبرنا، ولا أنبأنا. لا يأتي بصيغة تفيد السماع، وإنما يأتي بصيغة تحتمل السماع كقال، وعن، وهو يقصد أن فلاناً قال هذا، لكنه لم يلق فلاناً الذي قال هذا الحديث، ولم يسمع منه هذا الحديث وإنما قال: قال فلان؛ حتى يوهم السامع أنه قد سمع وليس كذلك، وهذا تزييف، والراوي يروي عمن لقيه وسمع منه، ولكنه في هذا الإسناد بالذات روى عنه ما لم يسمع عنه بصيغة تحتمل السماع. إياك أن تقول: (بصيغة تفيد السماع)، فـ (قال، وعن)، توهم ولا تفيد، فتوهم الناس أنك قد سمعت منه وليس الأمر كذلك، هذا نوع من أنواع التدليس. النوع الثاني: اسمه تدليس التسوية، يأتي الراوي الثقة المشهور بنوع معين من التدليس اسمه تدليس التسوية. قال: [يحدث عن سمرة أنه سمع نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن منهم من تأخذه النار إلى كعبيه)] يعني: منهم من تصله النار إلى الكعبين. قال: [(ومنهم من تأخذه إلى حجزته)]. وفي رواية: (إلى حقويه). والحجز أو الحقو هو مقعد الإزار والسراويل من البدن، وهو العظمة الناتئة في الجنبين، اسمه الحجز، أو الحجاز الذي يحجز ما بين أسفل البدن وأعلاه، فالنار تبلغ العبد إلى هذا المبلغ، أو تبلغ إلى كعبيه، أو ركبتيه. قال: [(ومنهم من تأخذه إلى عنقه)]. يعني: تبلغه النار إلى العنق، وهذا في موقف الحشر والحساب، وذلك العرق قبل دخول النار، يوم يخرج الناس من الأجداث سراعاً إلى أرض المحشر وتدنو الشمس من الرءوس حتى تكون منهم على قدر ميل. قال الراوي: إما أن يكون الميل هو ميل الأرض -أي: المسافة- وإما أن يكون الميل هو المرود الذي تكتحل به المرأة. فهذا يسمى ميلاً في اللغة. يوم تدنو الشمس من الرءوس فيكون الناس في عرقهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يبلغه العرق إلى كعبيه، ومنهم إلى ركبتيه، ومنهم إلى حقويه، ومنهم إلى عنقه حتى يلجمه العرق إلجاماً كل هؤلاء في موقف واحد، وفي أرض واحدة هي أرض المحشر، فانظروا إلى عظيم صنع الله عز وجل وعظيم قدرة الله تعالى، أنك تقف في العرق إلى كعبيك ومن بجوارك يلجمه العرق إلجاماً، لا يبغي عرقه عليك، ولا يبغي عرقك عليه، كل واحد في عرق على قدر عمله هو، وإذا كان العرق هذا ماء يسيل، فالله عز وجل يركب فيه القدرة ويأمره بأن لا يسيل، فيمتثل، والعرق مخلوق ولا بأس أن يركب الله تعالى فيه تمييزاً ليتلقى الأمر ويعمل به في ذلك الوقت، وفي هذا الوقت ليس هناك مخلوق يخالف الأمر أو يرتكب النهي، ولذلك لما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يأتي الناس إلى ربهم يوم القيامة حفاة عراة غرلاً). والغرل هو الذي لم يؤخذ من عضوه هذه القطعة الزائدة التي تسمى الختان أو الخفض عند النساء، كل إنسان يرجع إلى ربه كاملاً حتى هذا الجزء الدقيق الذي يختن من البدن يرجع إليه ويأتي إلى ربه كما خلقه أولاً، حينئذ قالت عائشة: (يأتون عراة ينظر بعضهم إلى سوأة بعض! قال: يا عائشة الأمر أشد من ذلك). يعني: لا يمكن لأحد أن يفكر فيما تخافين منه. لا يمكن أن يخطر ببال أحد. إذا كان المرء في هذه الدنيا لو نزلت عليه مصيبة أو أصابه مرض لا يجامع، ولا يأكل، ولا يشرب، وتصبح حياته كلها مقلوبة، فكيف بمن يقابل الملك الجبار الذي ينتقم من الجبابرة والظلمة؟ لو يعلم الظالم ما عند الله من العذاب لتمنى أن يكون تحت الأرض وليس فوقها.

شرح حديث: (ومنهم من تأخذه النار إلى ترقوته)

شرح حديث: (ومنهم من تأخذه النار إلى ترقوته) قال: [حدثني عمرو بن زرارة، أخبرنا عبد الوهاب -يعني ابن عطاء - عن سعيد، عن قتادة]. إذا كان الراوي غير منسوب ومسمى فقط هكذا (سعيد) عن قتادة فاعلم أنه سعيد بن أبي عروبة البصري. إذا كان في الإسناد البصري سعيد عن قتادة فهو سعيد بن أبي عروبة البصري فهو أروى الناس وألزم الناس لـ قتادة. وإذا ذكر قتادة وعنه سعيد فإنما هو أبو عروبة وقتادة هو ابن دعامة السدوسي البصري، والعرب كانوا يتسمون من وحي البيئة، فمنهم من كان يسمى بأسماء الحيوانات، والطيور، والنباتات والأشجار، فالدعامة هي الأصل التي هي الخرسانة، تقول: هذه دعامة البيت. قال: [سمعت أبا نضرة يحدث عن سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (منهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه النار إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه النار إلى حجزته، ومنهم من تأخذه النار إلى ترقوته)]. الترقوة هي العظمة بين ثغرة النحر والعاتق. وهي هذه العظمة التي بجوار الرقبة كما في الرواية الأولى: (ومنهم من تأخذه النار إلى عنقه) والعنق هو الرقبة. [حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار، قالا: حدثنا روح -وهو روح بن عبادة - حدثنا سعيد بهذا الإسناد]. أي: بنفس السياق الأول، وهو سعيد، عن قتادة، عن أبي نضرة، عن سمرة. [وجعل مكان حجزته: حقويه] حَقويه أو حِقويه في الرواية صحيح.

باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء

باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء (الباب السادس عشر: باب النار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء). النار يدخلها الجبارون المتكبرون، والجنة يدخلها الضعفاء، والضعف له معان كثيرة سنتعرض لها إن شاء الله.

شرح حديث أبي هريرة في احتجاج النار والجنة

شرح حديث أبي هريرة في احتجاج النار والجنة قال: [حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (احتجت النار والجنة)]. احتجت: يعني: تخاصمتا، كل واحدة تكلمت بما عندها. [(احتجت النار والجنة فقالت هذه -أي النار-: يدخلني الجبارون والمتكبرون. وقالت هذه -أي الجنة- يدخلني الضعفاء والمساكين، فقال الله عز وجل لهذه -أي للنار-: أنت عذابي، أعذب بك من أشاء)]. وربما قال: (أصيب بك من أشاء)] والإصابة تكون في الخير والشر. [(وقال لهذه -أي للجنة-: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء، ولكل واحدة منكما ملؤها)]. (ولكل واحدة منكما). أي: الجنة والنار. (ملؤها) يعني: لابد أن تمتلئ الجنة والنار، فقد خلق الله تعالى الجنة والنار وجعل لك منهما قسماً وقال: (يا أهل النار خلود بلا موت، ويا أهل الجنة خلود بلا موت). قال: [وحدثني محمد بن رافع حدثنا شبابة -وهو ابن سوار - حدثني ورقاء -وهو اليشكري، كما أن شبابة يشكري كذلك- عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تحاجت النار والجنة، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين)] يعني: يدخلني الجبارون والمتكبرون. [(وقالت الجنة: فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وعجزهم؟ فقال الله للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي. وقال للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منكم ملؤها)]. يعني: لابد أن تمتلئان. [(فأما النار فلا تمتلئ فيضع قدمه عليها فتقول: قط قط)] أي: قد امتلأت كفى، حسبي. [(فهنالك تمتلئ، ويزوى بعضها إلى بعض)] يعني: ينظم بعضها إلى بعض حتى تمتلئ تماماً على من فيها وبمن فيها.

كلام النووي في شرح حديث احتجاج الجنة والنار

كلام النووي في شرح حديث احتجاج الجنة والنار قال الإمام النووي: قوله صلى الله عليه وسلم: (تحاجت النار والجنة) إلى آخره. هذا الحديث على ظاهره، وأن الله جعل في النار والجنة تمييزاً تدركان به فتحاجتا، ولا يلزم من هذا أن يكون ذلك التمييز فيهما دائماً). والجنة والنار الأصل أنهما ليستا عاقلتين، لم يكن لهما إدراك ولا تمييز ولا عقل، ومع هذا تخاصمت الجنة مع النار، وهذا يدل على أن الله تعالى يجعل في موقف هذه الخصومة إدراكاً وتمييزاً للجنة والنار حتى يتكلمان، فتقول الجنة: إنما يدخلني الضعفاء والمساكين، والعجزة، والسقط من الناس. ويجعل الله للنار إدراكاً حتى تتكلم، وهذا ليس بعزيز على الله. وأنتم تعلمون أنه قد تكلمت الجمادات والحيوانات والطيور والسباع منذ الأزل، منذ بداية الخلق إلى يومنا هذا كرامة من الله عز وجل لبعض عباده، كما تكلم الطير والهوام والحشرات والدواب، حتى الريح تكلمت لسليمان عليه الصلاة والسلام، وتكلمت الجمادات للنبي عليه الصلاة والسلام حتى تكلم البعير الذي لا يتكلم، واشتكى صاحبه إلى النبي عليه الصلاة والسلام. فحينئذ لا بأس أن يركب الله عز وجل إدراكاً وتمييزاً حتى تحصل المحاجة أو المناظرة بين الجنة والنار وليس هذا ببعيد على الله، فالله تعالى على كل شيء قدير. قال: (وقوله صلى الله عليه وسلم: (وقالت الجنة: فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وعجزهم؟). أما (سقطهم) فهم الضعفاء المتحقرون منهم. الذين لا يأبه لهم الناس كالعامل والخادم، فقد يكون الخادم عند الله أشرف وأفضل من المدير العام بصلاته وصيامه، وزكاته، وحسن خلقه، وأثقل شيء يوضع في الميزان هو حسن الخلق، فمثلاً: المدير العام متغطرس، متكبر، لا يصلي، ولا يصوم، ولا يزكي، ولا يحج، معه عامل يمسح له المكتب يصلي ويصوم، ويزكي ويحج، ولديه حسن الخلق، فهو أفضل عند الله من المدير العام، ولذلك سأل النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه عن رجل شريف في القوم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما تعدون هذا عندكم؟ قالوا: يا رسول الله إنه لحري إذا نكح أن ينكح، وإذا تكلم أن يسمع، وإذا دخل أن يقام له. فمر آخر، فقال: ما تقولون في هذا؟ قالوا: يا رسول الله إنه لحري إذا نكح ألا ينكح، وإذا تكلم ألا يسمع، وإذا دخل لا يأبه له. قال: والله لهذا خير من ملئ الأرض من ذاك). يعني: الذي ترونه ضعيفاً متضعفاً مسكيناً وليست له قيمة في المجتمع، هذا عند الله في الميزان أثقل من ملء الأرض ممن أثنيتم عليه خيراً، فالموازين الشرعية تختلف عن موازين العباد. قال: (فالسقط: هم الضعفاء والمتحقرون منهم. والعجز: جمع عاجز. أي: العاجزون عن طلب الدنيا، والتمكن فيها، والثروة والشوكة). يعني: ليس هو لواء، ولا عميد، ولا عقيد، ولا غني، فهو إنسان ضعيف فقير، لا قيمة له في المجتمع في نظر الناس، فهذا هو العاجز. أي عجز عن طلب الدنيا والتمكن فيها، والثروة والشوكة، وفي رواية قال: (وغرتهم). وهم أصحاب الحاجة، والفاقة، والجوع، وفي راوية: (الغرث) وهو: الجوع. وغرتهم: هم البله الغافلون، جمع أبله غافل، وهم الذين ليس بهم فتك وحذق في أمور الدنيا، والذي يطلب الدنيا ويكون حاذقاً فتقاً فيها على حساب دينه أعد الله له النار، وهو نحو الحديث الآخر: (أكثر أهل الجنة البله). ولكنه حديث ضعيف. قال: (وقال القاضي: معناه أن سواد الناس وعامتهم من أهل الإيمان الذين لا يفطنون، فتدخل عليهم الفتنة أو البدعة وهم ثابتو الإيمان، وصحيحوا العقائد، وهم أكثر المؤمنين، وهم أكثر أهل الجنة). والمعتزلة هؤلاء أهل كلام وفلسفة، وما أضل المعتزلة إلا ترجمة كتب اليونان من اليونانية إلى العربية في زمن المأمون. يعني: كانت الترجمة هذه سلاح ذو حدين أعظمها الضلال؛ ولذلك لما ترجمت هذه الكتب إلى العربية تأثر كثير من المسلمين بفكر اليونانيين فبدءوا يحكمون عقولهم في الشرع حتى قدموا العقل على النقل فضلوا، ولابد أن يضل الإنسان الذي تخلق بهذا الخلق، ولذلك لما حار كثير منهم في طلب الحق وهو على فراش موته قال: أبرء إلى الله من كل ما قلت، وأرجع إلى دين العجائز. وذلك لأنه قدم عقله على الشرع، فكان يختار من العبادة ما يزكي له هذا المبدأ وهذا الأصل؛ لأنه ترك الشرع وراء ظهره، فتمنى وهو على فراش الموت أنه لم يترك الشرع، وهذا هو الفخر الرازي إمام كبير يقول وهو على فراش الموت: أبرء إلى الله من كل قول أو فعل عملته أو فعلته مخالف للسنة وأرجع إلى دين العجائز. يعني: يا ليتني على عقيدة أمي وجدتي وأبي الذين لم يكن لهم شيء في العلم، ولا يعرفون أي شيء عن هذه الأشياء. وأنتم تعلمون أن التلفزيون دمر عقائد العجائز، وعقائد الفلاحين، وعقائد الصعايدة، وعقائد طلاب العلم. قال: (وهم أكثر أهل الجنة، وأكثر المؤمنين. وأما العارفون، والعلماء العاملون والصالحون المتعبدون فهم قليلون وهم أصحاب الدرجات) فعامة أهل الجنة هم عامة المؤمنين، وأ

شرح حديث: (فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الجبار فيها رجله)

شرح حديث: (فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الجبار فيها رجله) قال: [حدثنا محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تحاجت الجنة والنار فقالت النار أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وغرتهم)]، أي: أصحاب الحاجة أو البله. [(قال الله للجنة: إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء. وقال للنار: إنما أنت عذابي، أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منكما ملؤها. فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله تبارك وتعالى رجله، فتقول: قط، قط، فهنالك تمتلئ، ويزوى بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله من خلقه أحداً، وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقاًَ)]. قوله عليه الصلاة والسلام: (فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الجبار فيها رجله) جاء في في رواية: (قدمه) وفيه إثبات القدم والرجل لله سبحانه. وقوله: (وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقاً). أي: يخلق خلقاً جديداً لم يسبق بخلق من قبل. والفوائد التي في هذا النص ما يلي: أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أثبت لربه أن رجلاً، وأن له قدماً، وقد استنكف كثير من أهل العلم أن يؤمنوا بهذا على ظاهره وقالوا: إثبات الرجل والقدم لله تعالى تعني الجارحة، والله تعالى منزه عن الجوارح، والموصوف بها هم الخلق، وإذا أثبتنا الرجل على الحقيقة لله فإنما نقول: إن الله تعالى شبيه بخلقه حاشا لله تعالى. والأصل الأصيل عند أهل السنة والجماعة في باب الاعتقاد، وفي باب الصفات على جهة الخصوص: أنهم يثبتون لله تعالى ما أثبته لنفسه في كتابه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته على المعنى اللائق بالله تعالى من غير تمثيل، ولا تكييف، ولا تعطيل، ولا تأويل. هذا هو معتقد أهل السنة والجماعة، وهو المعتقد الحق وكل من اعتقد في صفات الله تعالى غير ذلك فهو من الفرق الهالكة الضالة. والله تعالى له ذات، ولا يجوز لأحد قط أن يخالف في ذلك. وقال بعض الثنوية: الله تعالى ليس ذاتاً وإنما هو نور. وإنما نقول: إن من أسماء الله تعالى النور، وإذا كنا قد اتفقنا أن الله تعالى ذاتاً فليس هناك ذات مطلقاً إلا ولها صفات، فمن من الناس يستطيع أن يصرف ذات الله؟ A لا أحد، فهذان أمران لا ثالث لهما، أنا لا أستطيع أن أصف شيئاً إلا رأيته أو رأيت له مثيلاً. فهل رأى أحد ربه؟ A لا. الثاني: هل أحد يشبه الله ويماثله ويكافئه؟ الجواب: لا. إذاً: لا يستطيع أحد أن يصف الله تعالى، وإنما يجب على كل أحد أن يثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه من صفات وأسماء على المعنى اللائق بالله تعالى، فإذا كانت هذه الذات تختلف بالضرورة والوجوب اللازم على ذوات المخلوقين، وإذا كانت ذوات المخلوقين مختلفة، فلي ذات وأنت لك ذات، لكني أبيض وأنت أسمر، أنت أطول وأنا أقصر، أنت متين وأنا نحيف، فهذه اختلافات في ذوات المخلوقين، فكيف بالخالق سبحانه وتعالى، وكيف بصفات الخالق، فلابد أن نقول: إن لله تعالى صفات تختلف عن صفات المخلوقين، فأنا لي رجل، وللمولى سبحانه رجل، لأنه ورسوله عليه الصلاة والسلام أثبتا ذلك. إذاً: لابد أن أسلم أن للمولى عز وجل رجل وأن لي رجلاً، لكن شتان ما بين رجل الرحمن ورجلي، ما بين رجل الخالق ورجل المخلوق، لأن الصفات فرع عن الذات، فإذا كانت الذات مختلفة فلابد أن تختلف الصفات، فأقول: الله تعالى له رجل تختلف عن أرجل المخلوقين، له رجل تليق بعظمته وجلاله وكبريائه سبحانه وتعالى. ثم هل ثبت في نص أن لله تعالى رجلين، أو ثلاثة، أو أربعة أو واحدة؟ هل ثبت نص في ذكر رجلين لله تعالى أم واحدة؟ أنا لا أستطيع تصور الكلام هذا، فالخالق لا يقاس بالمخلوق، وهذا ممتنع في الأذهان أن تنزل صورة الرحمن على صورتك، فإثبات الرجل لله تعالى كما أثبتها لنفسه، هذا هو منتهى الكمال لله عز وجل، والمخلوق الذي له رجل واحدة يكون فيه عجز ونقص وعيب، لكن إثبات هذه الرجل الذي أثبتها لنفسه وأثبتها له رسوله عليه الصلاة والسلام هذا منتهى الكمال لله عز وجل. والله تعالى له عينان كما جاء ذلك في القرآن الكريم وفي السنة النبوية، فلا يصح في الأذهان أن أتصور أن الله تعالى له عينان كعيني وهما في نفس الموضع من الوجه كما أن عيني في نفس الموضع من الوجه، والذي يصح مني أن أثبت أن لله تعالى عينين وتنتهي قضيتي عند هذا الحد، لا أقول: المقصود بهما الرعاية والإحاطة، والمحافظة على العباد، والقيام على شئونهم، فهذا تأويل النص وخروج به عن ظاهره. وإن شئت فقل: هذا ما يسميه العلماء بالتعطيل. أي: تعطيل الذات عن الصفات. والله عز وجل أثبت لنفسه الوجه، فلا يستطيع أحد أن يثبت أن لله تعالى أنفاً، فهذا إجرام في حق الله تعالى؛ لأنه لم يثبته لنفسه، ولم يثبته له نبيه عليه الصلاة والسلام. إذاً: في النهاية لابد أن أخرج بنتيجة وهي: أن

كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها - النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء

شرح صحيح مسلم - كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها - النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء يجب الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عن الجنة والنار، من أنهما مخلوقتان وموجودتان الآن، ومحاجتهما في صفات من يدخلهما، وأن الله سبحانه قد أخذ على نفسه عهداً بأن لكل منهما ملأها، وغير ذلك من الأخبار التي وردت في سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.

باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء

باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة. أما بعد: فمع الباب الثالث عشر من كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، وهو بعنوان: (النار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء).

شرح حديث: (احتجت النار والجنة)

شرح حديث: (احتجت النار والجنة) قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا ابن أبي عمر -وهو محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني نزيل مكة- قال: حدثنا سفيان -وهو ابن عيينة - عن أبي الزناد عن الأعرج]. وأبو الزناد هو عبد الله بن ذكوان المدني، والأعرج: هو عبد الرحمن بن هرمز المدني كذلك. [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (احتجت النار والجنة)]. أي: صار بين النار والجنة خصومة أو نزاع أو محاجة. [(فقالت هذه-أي النار-: يدخلني الجبارون والمتكبرون)]. فمن أوصاف أهل النار أنهم جبارون: {كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [هود:59]، والمتكبرون: هم الذين يغمطون الناس ويردون الحقوق. أي: يجحدونها ولا يقرون بها. [(وقالت هذه -أي الجنة- يدخلني الضعفاء والمساكين. فقال الله عز وجل لهذه -أي: للنار-: أنت عذابي أعذب بك من أشاء، وربما قال: أصيب بك من أشاء، وقال لهذه -أي: للجنة-: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء، ولكل واحدة منكما ملؤها)]. لأن الله تعالى أخذ على نفسه عهداً أن يملأ الجنة، وأن يملأ النار، أعاذنا ألله وإياكم من النار! قال: [وحدثنا محمد بن رافع حدثنا شبابة -وهو ابن سوار المدائني - حدثني ورقاء -وهو المدائني كذلك- عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تحاجت النار والجنة، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين. وقالت الجنة: فمالي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وعجزهم؟ فقال الله للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي. وقال للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منكما ملؤها، فأما النار فلا تمتلئ، فيضع قدمه عليها فتقول: قط قط)]. يعني: كفى، وحسبي. [(فهنالك تمتلئ ويزوى بعضها إلى بعض)]. يزوى. يعني: ينزوي وينضم ويجتمع بعضها على بعض إذا وضع الجبار تبارك وتعالى قدمه فيها. قال: [حدثنا عبد الله بن عون الهلالي حدثنا أبو سفيان -وهو محمد بن حميد - عن معمر بن راشد البصري عن أيوب بن أبي تميمة السختياني البصري عن ابن سيرين]. وابن سيرين عند الإطلاق هو محمد، وإلا فهناك أنس بن سيرين وهو أخو محمد، والراوي إذا حدث عنه يقول: حدثنا أنس بن سيرين. [عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (احتجت الجنة والنار). واقتص الحديث بمعنى حديث أبي الزناد. حدثنا محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام بن منبِه -أو منبه- قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم]. وهذا الأحاديث التي يرويها همام عن أبي هريرة تسمى عند المحدثين: بصحيفة همام عن أبي هريرة أوردها الإمام أحمد في المجلد الثاني من مسنده، وهي تقريباً حوالي مائة واثنين وأربعين حديثاً. يقول فيها همام: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول الله. [فذكر أحاديث منها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تحاجت الجنة والنار فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين. وقالت الجنة: فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وغرتهم -وفي رواية وغَرسهم أو غرسهم- وقال الله للجنة: إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء، وقال للنار: إنما أنت عذابي، أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منكما ملؤها، فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله تبارك وتعالى رجله)]. وفي الرواية الأولى: (حتى يضع الجبار قدمه). [(فتقول: قط، قط، فهنالك تمتلئ، ويزوى بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله من خلقه أحداً، وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقاًَ)]. إذاً: القضية التي أريد أن أؤكد عليها وهي أنه إذا أدخل أهل النار النار وأهل الجنة الجنة يبقى في الجنة مكان، ويبقى في النار مكان، ولذلك في الحديث: (فإذا دخل أهل النار النار، قالت النار: هل من مزيد). الله تعالى يسألها: {هَلِ امْتَلأْتِ} [ق:30]، وتقول: {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:30]. أو ملك عن الله تعالى يسألها، {هَلِ امْتَلأْتِ} [ق:30]، وهي دائماً تقول: {

ذكر الخلق الذين ينشئهم الله للجنة

ذكر الخلق الذين ينشئهم الله للجنة وفي الحديث عدة مسائل: المسألة الأولى: أن هؤلاء الذين أنشأهم الله عز وجل دخلوا الجنة ولم يعملوا خيراً قط، بل ولم يعملوا شراً قط، ليس لهم من الأعمال ما يؤهلهم إلى النار أو إلى الجنة، وهذه مسألة متقررة لدى أهل السنة والجماعة: أن الله تبارك وتعالى إذا عذب من لا يستحق العذاب في نظر الناس فهو يعذبه غير ظالم له؛ لأنه تعالى أعلم به من خلقه، وإذا أدخله الجنة لا يعني ذلك أنه قد استوجب الجنة ببعض العمل، ولكن دخول الجنة متوقف ابتداءً على فضل الله تعالى ورحمته، والعمل ما هو إلا سبب قد أمرنا به أمراً ونهياً، إتياناً وتركاً، لكننا لو عبدنا الله تعالى طيلة حياتنا فإننا لا نستحق بهذه العبادة تلك الجنة، وإنما يتحنن الله عز وجل على عباده الذين أطاعوه في الأمر والنهي بأن يدخلهم الجنة، ورتب على ذلك سبباً وهو طاعتهم لله عز وجل في الدنيا، فالعمل ما هو إلا سبب، لكن لو تخلف السبب فالأمر متعلق بمشيئة الله تعالى، إن شاء عذب وإن شاء غفر، فهؤلاء الخلق أنشأهم الله تعالى لأول مرة، وبغير عمل عملوه أدخلهم الجنة حتى امتلأت. وأطفال المسلمين الذين ماتوا قبل أن يبلغوا الحلم وأن يجري عليهم القلم يدخلون الجنة بغير نزاع بين أهل العلم، إنما وقع النزاع في أطفال المشركين، والراجح من مذهب أهل السنة والجماعة: أن أطفال المشركين إذا ماتوا قبل البلوغ دخلوا الجنة كذلك لأنهم أطفال، وربما بلغ الواحد منهم الخامسة، والسادسة، والسابعة وزيادة عن ذلك، وربما أتى من الأعمال التي تتناسب مع هذه الأعمار وهي أعمال شر وسوء، لكن الله تعالى يعفو عنها ويجعلها كأن لم تكن ويدخله الجنة إذا مات قبل البلوغ، فليس بغريب أن ينشئ الله تعالى خلقاً جديداً في اللحظة فيملأ بهم الجنة. قوله: (وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقاً). أي: يبتدئ لها خلقاً جديداً، ينشئهم ويخلقهم لأول مرة لم يعملوا خيراً قط. إذاً: دخول الجنة ليس متعلقاً بالثواب والعمل، إنما الثواب والعمل سبب لدخول الجنة، أما تخلف السبب عن المسبب فهذا أمر كلنا يعرفه، الواحد منا أحياناً يأكل ولا يشبع مع أن المقرر في الأذهان أن من أكل شبع، والواحد منا يتزوج لينجب ولا ينجب، فقد حصل السبب ولكن لم تحصل النتيجة، والواحد منا يذاكر لينجح وربما ذاكر وفي نهاية العام لم ينجح، مع أنه قد اتخذ السبب، فلا يلزم دائماً ربط الأسباب بالمسببات، لكن الله تعبدنا باتخاذ الأسباب، فلا يحل لأحدنا أن يمتنع من طعامه وشرابه ويقول: الله تعالى يطعمني ويسقيني، لا يحل له ذلك، كما أنه لا يحل له أن يتكاسل عن الجد والاجتهاد طول العام ويقول: إذا أراد الله تعالى النجاح لي وفقني إليه في آخر العام. وكذلك لا يحل لأحدنا أن يقول: أنا لا أتزوج النساء؛ لأن الله إذا شاء أن يرزقني الولد بغير زواج ولا نكاح فعل. نحن نعتقد أن كل ذلك في مقدور الله عز وجل كما أنشأ عيسى بن مريم من أمه بغير أب، وكما أنشأ آدم بغير أب ولا أم، وكما أنشأ حواء من جنب آدم، فكل ذلك في مقدور الله تعالى، لكن هذه نواميس كونية الله عز وجل قدرها لأمور معينة، ومعجزات تجري على أيدي هؤلاء، هذا فيما يتعلق بالنسبة للجنة.

معنى قوله: (قالت الجنة فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس)

معنى قوله: (قالت الجنة فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس) المسألة الثانية: (قالت الجنة: فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وعجزهم). أما السقط: فهم الضعفاء والمحتقرون منهم، والبسطاء الذين لو نظر إليهم لزهد فيهم. والعجز: جمع عاجز أي العاجزون عن طلب الدنيا، والتمكن فيها، والثروة والشوكة. والغرت: معناه: أهل الحاجة والفاقة والجوع؛ لأن الغرت بمعنى الجوع. وغرتهم: أي البله الغافلون الذين ليس فيهم فتك وحذق في أمور الدنيا وهو نحو الحديث الآخر: (أكثر أهل الجنة البله). قال: (قال القاضي عياض: معناه: سواد الناس وعامتهم من أهل الإيمان الذين لا يفطنون للسنة فتدخل عليهم الفتنة أو البدعة أو غيرهما وهم ثابتو الإيمان، صحيحو العقائد، وهم أكثر المؤمنون، وهم أكثر أهل الجنة. وأما العارفون، والعلماء العاملون والصالحون المتعبدون فهم قليلون وهم أصحاب الدرجات). وفي الحديث: (أهل الجنة كل ضعيف متضعف) وهو الخاضع لله تعالى، المذل نفسه له سبحانه وتعالى وهو ضد المتجبر المستكبر.

إثبات صفة القدم لله سبحانه

إثبات صفة القدم لله سبحانه المسألة الثالثة: (حتى يضع الجبار قدمه فيها). وهذه من صفات الله عز وجل، مسألة القدم أو الرجل صفة ذاتية لله عز وجل، وإثبات الرجل والقدم لله عز وجل من صفات ذاته، ومنهج أهل السنة والجماعة في صفات المولى عز وجل ليس إقراراً فقط، إنما إيمان جازم يكون باللسان والجنان والجوارح. وتعريف الإيمان: هو قول وعمل يزيد وينقص، قول باللسان، وعمل بالأركان، وكذا اعتقاد بالجنان، فلا أقول إقرار مع إمرار، أو إقرار وإمرار، وإنما اعتقاد وإمرار. ومعنى هذا: أنني أعتقد أن الرجل ثابتة لله عز وجل على الوجه اللائق به سبحانه وتعالى، ولا أخوض في كيفية الرجل، كيف هي؟ هل لها أصابع؟ هل لها أظافر؟ أعوذ بالله! فلا نعلم كيفيتها، ولا يعلم كيفيتها إلا الله عز وجل. إذاً: أثبت النص عندي أن لله رجلاً، فيتوقف إيماني بهذه الرجل عند ثبوتها على المعنى اللائق لله تعالى، فلا أتعرض لها بالرد والإبطال، ولا أقول: ليس لله رجل؛ لأنه لو كان له رجل للزم أن تكون هذه الرجل جارحة، وإذا كانت جارحة فهي تشبه أرجل المخلوقين، هذا ضلال، كما أنه لا يصح لي أن أثبت الرجل لكني أؤولها وأصرفها عن ظاهرها. أقول: نعم إن لله تعالى رجل لكنها بمعنى القدرة، فأنا أثبت الصفة لكني أولتها، فهناك من يعطل الصفات، وهناك من يصرفها عن ظاهرها، وهناك من ينكرها وينفيها تماماً، وهناك على المقابل من يثبتها ويشبهها ويمثلها بصفات المخلوقين، وكلا الفريقين ضلا في هذا الباب ضلالاً عظيماً، أما موقف أهل السنة والجماعة من صفات الله تعالى صفات أفعاله وذاته فهو: الإيمان بها وإمرارها كما جاءت دون خوض في كيفيتها، فنثبت الرجل لله تعالى على المعنى والكيفية اللائقة به سبحانه وتعالى، هو أعلم بنفسه وذاته وأسمائه وصفاته. لكن المطلوب مني أن أومن بهذه الصفة، وألا أتوقف عندها للخوض فيها ومعرفة كيفيتها. وكثير من أهل العلم وهم جمهور المتكلمين من الأشاعرة والفلاسفة لم يهنأ لأصل ذلك فقالوا: المراد بالقدم: المتقدم. قالوا: ومعناه شائع في اللغة. ومعناه: حتى يضع الجبار فيها من قدمه إليها. وهذا التكلف حتى يهربوا من إثبات الصفة، ففسروا القدم بمعنى المتقدم، وهذا بلا شك ضلال بعيد. والتأويل الثاني: أن المراد قدم بعض المخلوقين فيعود الضمير في قدمه إلى ذلك المخلوق المعلوم حتى يضع الجبار فيها قدمه. أي: قدم بعض خلقه. والتأويل الثالث: أنه يحتمل أن في المخلوقات ما يسمى بهذه التسمية. يعني: يمكن واحد من الخلق اسمه (قدمه) وهذا التأويل تأويل تافه. فقالوا: (حتى يضع الجبار فيها قدمه). أي: حتى يضع الجبار عبداً من عباده اسمه (قدمه). وقالوا: ويجوز أن يراد بالرجل الجماعة من الناس، لأن أهل العربية يقولون لمجموعة من الناس: رجل مثل: العصابة وغير ذلك فإنه يطلق على العصابة أيضاً رجل. قالوا: المقصود بالرجل هنا العصابة من الناس، ويجوز أن يراد بالرجل الجماعة من الناس، كما يقال: رجل من جراد. أي: قطعة منه. قال القاضي: (أظهر التأويلات أنهم قوم استحقوها وخلقوا لها). قالوا: ولا بد من صرفه عن ظاهره، لقيام الدليل القطعي العقلي على استحالة الجارحة على الله تعالى. ونحن معكم أنه تستحيل الجارحة على الله عز وجل، بمعنى أن الله تعالى لا توصف أوصافه بالجوارح، فالمخلوق صاحب جوارح، فهذه يدي جارحة، وعيني جارحة، وأذني جارحة، وأعضائي كلها جوارح، فلا يمكن أبداً أن نسمي صفات الله عز وجل بالجوارح، وإلا صرنا إلى التشبيه، وهذا بلا شك كفر وضلال. فيقولون: لما قام الدليل القطعي العقلي على استحالة الجارحة على الله تعالى كان لابد من صرف الرجل، ومن صرف القدم. ونرد عليهم: إذا كنتم تذهبون هذا المذهب فهل تؤمنون أن لله تعالى ذاتاً؟ لابد أنهم سيقولون: له ذات. والمخلوق ذات، وأنتم تقولون أن لله تعالى ذاتاً، فلابد أن تصرفوا ذات الله عز وجل لأنكم صرفتم الأوصاف، لأنه ما من ذات إلا وهي موصوفة بأوصاف، فإذا كنتم صرفتم هذه الأوصاف فيلزمكم أن تصرفوا الذات، وأنتم تعلمون أن صرف الذات يساوي العدم. فإن قالوا: الله تعالى عدم كفروا. وإن قالوا: أنه ذات فيلزم من ذلك أن ذاته متصفة بصفة، فلا يلزم على مذهب القاضي عياض -وكان أشعرياً جلداً- تأويل صفات المولى عز وجل وتركها عن ظاهرها؛ لاستحالة الجارحة على الله. نعم يستحيل على الله تعالى أن يوصف بالجوارح، لكننا نقول: نثبت له الصفات ونؤمن بها كما جاءت، ونمرها ولا نخوض فيها بتأويل ولا بكيفية.

شرح حديث: (لا تزال جهنم تقول: هل من مزيد)

شرح حديث: (لا تزال جهنم تقول: هل من مزيد) قال: [حدثنا عبد بن حميد، حدثنا يونس بن محمد، حدثنا شيبان عن قتادة، حدثنا أنس بن مالك أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال جهنم تقول: هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة تبارك وتعالى قدمه فتقول: قط قط وعزتك، ويزوى بعضها إلى بعض). وحدثنا محمد بن عبد الله الرازي، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء في قوله عز وجل: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:30]، فأخبرنا -أي: عبد الوهاب بن عطاء - عن سعيد -وهو ابن أبي عروبة البصري - عن قتادة عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد، حتى يضع رب العزة قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط قط، بعزتك وكرمك، ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقاً فيسكنهم فضل الجنة)].

شرح حديث: (يبقى من الجنة ما شاء الله)

شرح حديث: (يبقى من الجنة ما شاء الله) قال: [حدثنا زهير بن حرب - أبو خيثمة النسائي نزيل بغداد- حدثنا عفان -وهو ابن مسلم الصفار - حدثنا حماد بن سلمة البصري أخبرنا ثابت -وهو ابن أسلم البناني - قال: سمعت أنساً يقول عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يبقى من الجنة ما شاء الله أن يبقى)]. يعني: يفضل في الجنة فضلة ثم ينشئ الله تعالى لها خلقاً مما يشاء، وهذا يدل على عظم الجنة، إذا كان أدنى أهل الجنة منزلة من كان له في الجنة مثل الدنيا وعشرة أمثالها، فكيف بأعظمهم منزلة؟ قرأت أن قرية اكتشفوها لا تعلم شيئاً قط عن الرسل ولا الرسالات، ولا يوجد أحد يفهمهم نهائياً، ويتكلمون بلغتهم التي تعارفوا فيما بينهم عليها لا يعلمون شيئاً مطلقاً، ولما قرأنا هذا البحث قلنا: سبحان الله! هذا يدل على عظم قول الله تعال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، فهؤلاء لم يبعث إليهم رسول بمعنى: أنه لم تصلهم دعوة الرسل وهم يوم القيامة في عافية، إلا ما قد عملوه وغلب على ظنهم أنه شر، فهم يحاسبون على أنهم يعرفون أن هذا شر وقد فعلوه.

شرح حديث: (يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح)

شرح حديث: (يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح) قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب وتقاربا في اللفظ قالا: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش]. أبو معاوية هو محمد بن خازم الضرير، والأعمش هو سليمان بن مهران الكوفي. [عن أبي صالح]. وهو السمان عبد الله بن ذكوان المدني. [عن أبي سعيد]-وهو الخدري، واسمه سعد بن مالك بن سنان المدني - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح)]. أملح يعني: مليح. وزيادة في الملاحة، فالأملح أحسن من المليح، مثل فلان حسن والثاني أحسن، فلان فاضل والثاني أفضل منه. وقد سمعت درساً في عقيقة لأحد الشيوخ وهو يقول: ليس هناك دليل قط على أن الخروف الذي يذبح أو الشاة التي تذبح لابد أن تكون قرناء ومن قال بذلك فقد ابتدع في دين الله ما ليس منه، وفي الحقيقة (النبي عليه الصلاة والسلام عق عن الحسن والحسين كبشين أملحين). فكلمة أملح توقف عندها العلماء، والكبش المليح هو الكبش النفيس، الجميل، ذو القيمة، فمثلاً: عمر أفضل من زيد في ذكائه، وفي منظره، وفي مخبره، وفي الطول، وفي العرض، وفي لون العينين، وفي لون البشرة، وتاجر الأغنام والمواشي يفضل الخروف الأقرن؛ لأن سنه أنسب من سن الآخر، ولحمه طيب، وغيره لم يكن كذلك. وصائغ الفضة أو الذهب يعرف أن هذه السبيكة مضروبة، وأنها جيدة، أو غير ذلك، ولكنه عرف ذلك إما بلسان العرب أو أحوالهم ومقاييسهم التي يتوارثها الأجيال جيلاً بعد جيل إلى يومنا هذا وإلى قيام الساعة، فالعرب عرفت الملاحة من حيثيات متعددة، فيعدون الخروف الأقرن أفضل من غير الأقرن، فالعرب تعد الملاحة بالقرن، وهو ليس شرطاً في العقيقة، ولكنه مستحب. يعني: يستحب أن تكون العقيقة والأضحية بخروف أقرن، ولو كانت بأنثى جاز، ولو من الماعز كانت ذكراً أو أنثى جاز؛ لأنهما من فصيلة واحدة، والعرب يطلقون لفظ الشاة على المعز والضأن. وأما كون الدليل لم يذكر في أنه أقرن ربما يكون كذلك، لكننا لا نرد أن الملاحة بالقرن؛ لأن العرب قد عدوا الملاحة في القرن، بدليل أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (يجاء بالموت على صورة كبش أملح). ولو لم يكن لدى السامعين معنى الملاحة لقالوا: يا رسول الله! ما المقصود بالأملح؟ لكنه خاطبهم بذلك لأنهم يعرفون الملاحة من غيرها. قال: (فيوقف بين الجنة والنار). أي: يؤتى بالموت على صورة كبش، والموت عرض من الأعراض، والأعراض كلها مخلوقة، ولذلك قال الله تعالى: {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [الملك:2]، فالحياة عرض وهي مخلوقة، والموت عرض وهو مخلوق كذلك، بخلاف من قال: إن الموت عدم يقابل الحياة. وهذا كلام الفلاسفة ولا قيمة له في الشرع، فيجاء بالموت الذي هو عرض في صورة المحسوس الذي هو الكبش الأملح. [(حتى يوقف بين الجنة والنار، ثم يقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون، ويقال: نعم هذا الموت)]. يشرئبون. أي: يطيلون أعناقهم ينظرون إليه حتى يعرفونه ويقولون: نعم نعرفه، هذا هو الموت. قال: [(ويقال: يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون، ويقال: نعم هذا الموت)]. إذاً: أهل الجنة يعرفون الموت، وأهل النار يعرفون الموت. قال: [(فيأمر به فيذبح)]. يؤمر بهذا الكبش الأملح بأن يذبح بين الجنة والنار، وهو يكون آخر من يذبح، لأنه علامة وأمارة على انتهاء أسطورة الموت، فلا موت بعد موت هذا الكبش. قال: [(ثم يقال: يا أهل الجنة، خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [مريم:39] وأشار بيده إلى الدنيا)]. أي: كلنا في هذه الدنيا في غفلة عظيمة عن العمل الصالح، وعن تقوى الله عز وجل، وعن البر والصلة وغير ذلك فنحن في غفلة عظيمة، سنندم عليها في يوم يسمى يوم الحسرة. وفي الحديث: (إذا أدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار قيل: يا أهل الجنة). ثم ذكر الحديث فذلك قوله عز وجل: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [مريم:39]، ولم يقل ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشار بيده إلى الدنيا.

شرح حديث: (يدخل الله أهل الجنة الجنة ثم يقوم مؤذن)

شرح حديث: (يدخل الله أهل الجنة الجنة ثم يقوم مؤذن) قال: [حدثنا زهير بن حرب، والحسن بن علي الحلواني، وعبد بن حميد قال عبد: أخبرني، وقال الآخران: حدثنا يعقوب -وهو ابن إبراهيم بن سعد المدني - حدثنا أبي عن صالح وهو ابن كيسان، حدثنا نافع أن عبد الله قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يدخل الله أهل الجنة الجنة، ويدخل أهل النار النار، ثم يقوم مؤذن بينهم)]. المؤذن بمعنى المنادي. [(فيقول: يا أهل الجنة لا موت، ويا أهل النار لا موت). أي: كل خالد فيما هو فيه. طبعاً نحن نعتقد أن من دخل النار من عصاة الموحدين خرج منها يوماً ما حتماً ولابد، وهذا الحديث موضعه بعد آخر رجل يخرج من النار من الموحدين ويدخل الجنة.

شرح حديث: (إذا صار أهل الجنة إلى الجنة)

شرح حديث: (إذا صار أهل الجنة إلى الجنة) قال: [حدثني هارون بن سعيد الأيلي وحرملة بن يحيى قالا: حدثنا ابن وهب -وهو عبد الله - حدثني عمر بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب؛ أن أباه حدثه عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صار أهل الجنة إلى الجنة، وصار أهل النار إلى النار أتي بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار، ثم يذبح، ثم ينادي مناد: يا أهل الجنة! لا موت، ويا أهل النار لا موت، فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حزناً إلى حزنهم)].

شرح حديث: (ضرس الكافر أو ناب الكافر مثل أحد)

شرح حديث: (ضرس الكافر أو ناب الكافر مثل أحد) قال: [حدثني سريج بن يونس، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن الحسن بن صالح، عن هارون بن سعد، عن أبي حازم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ضرس الكافر أو ناب الكافر مثل أحد، وغلظ جلده مسيرة ثلاث)]. أي: ثلاث ليال، أو ثلاثة أيام. وهذا يدل على عظم النار، كما أننا قلنا عن عظم الجنة: إذا كان حظ أدنى الناس فيها عشرة أمثال الدنيا، فما بالك بنصيب الأنبياء، والصديقين والشهداء والرفقاء؟! وكذلك النار عظيمة جداً، وعميقة جداً، ومحرقة جداً، ضرس الكافر الواحد فيها كجبل أحد، فما بالك بأضراسه بل وأسنانه وقواطعه، وإذا كان غلظ جلده مسيرة ثلاثة أيام، فما بالكم بجوارح الكافر كلها كم ستكون؟ وما بالكم بجميع الكفار والمنافقين أين يكونون وكيف يكونون في هذه النار العظيمة الذي جعل الله: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة:24]؟

شرح حديث: (ما بين منكبي الكافر في النار مسيرة ثلاثة أيام)

شرح حديث: (ما بين منكبي الكافر في النار مسيرة ثلاثة أيام) قال: [حدثنا أبو كريب وأحمد بن عمر الوكيعي قالا: حدثنا ابن الفضيل عن أبيه، عن أبي حازم عن أبي هريرة يرفعه]. ومعنى يرفعه أي: يقول فيه قال النبي عليه الصلاة والسلام. [(ما بين منكبي الكافر في النار مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع)]. قوله: (ما بين منكبي الكافر). أي: من الكتف إلى صفحة العنق يسمى منكباً، مسيرة ثلاثة أيام للراكب الجواد المسرع.

شرح حديث: (ألا أخبركم بأهل الجنة كل ضعيف متضعف)

شرح حديث: (ألا أخبركم بأهل الجنة كل ضعيف متضعف) قوله عليه الصلاة والسلام: [(ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف)]. والمتضعف -بالفتح والكسر- معناه: من يستضعفه الناس ويحتقرونه ويتجبرون عليه لضعف حاله في الدنيا. يقال: تضعفه واستضعفه. أما المتضعف فمعناه: المتواضع المتذلل المنكسر لله عز وجل. قال: (قال القاضي عياض: وقد يكون الضعف هنا رقة القلوب ولينها، وإخباتها للإيمان، والمراد أن أغلب أهل الجنة هؤلاء، كما أن معظم أهل النار هم القسم الآخر). قوله: [(مدفوع بالأبواب)]. يعني: يأتي إليك من أجل أنه رجل فقير فتقوم بطرده من الباب؛ لأنه لا يتناسب مع حشمة الأغنياء ووجاهتهم، مع أن هؤلاء هم أتباع الأنبياء، وهم ناصرو الأنبياء، وهم أهل الإيمان حقاً، ولا يعني ذلك أن الأغنياء ليسوا من أهل الإيمان، لكن الغالب على الفقراء والضعفاء والمساكين أنهم أهل الإيمان، والغالب أن أهل الغنى يصرفهم غناهم عن الله عز وجل، وصاحب الملايين في هذا الوقت لا يمكن نراه في هذا المسجد، لأنه قد شغلته أمواله عن الحضور والتذلل والانكسار، فإذا شغلته يوماً بعد يوم وعاماً بعد عام نسي بركة هذه المجالس، ولم يتذوق حلاوتها، فكان بعيداً أو هو يبعد شيئاً فشيئاً عن حلاوة الإيمان، ولا ننفي عنه الإيمان والإسلام، وإنما نقول: إنه فقد حلاوة الإيمان، والمؤمن لا يتذوق حلاوة الإيمان إلا بطلب العلم الشرعي، وسماع كلام الله وكلام الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا الغني قد صرفه غناه عن سماع كلام الله، وإن كان مؤمناً لكن الفارق جوهري بين تذوق المؤمن المطيع لحلاوة الإيمان، وتذوق العاصي لحلاوة الإيمان. قوله: (كل ضعيف متضعف) أي: متذلل منكسر لله عز وجل، لا يشمخ بأنفه إلى السماء، ويمن على الله عز وجل: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17]، فكل واحد منا محتاج إلى مراجعة ووقفة مع الذات من أول لحظة في حياته حتى يقدم على الله تبارك وتعالى. قوله: (لو أقسم على الله لأبره). معناه: لو حلف يميناً طمعاً في كرم الله تعالى بإبراره لأبره. وقيل: لو دعاه لأجابه. يقال: أبررت قسمه وبررته. والأول هو المشهور. قوله: [(وأما أهل النار: فكل عتل جواظ مستكبر)]. أما العتل: فهو الجافي الشديد الخصومة في الباطل، وهذا يحدث معنا كثيراً جداً، الواحد لما يأتي يعد أوصاف أهل النار يجد كل الأوصاف متوفرة فيه، فهو يعرف الحق ويجادل، ويماحك، ويخاصم، وهو في نفس الوقت يعلم أنه على الباطل، فكيف يكون هذا من أهل الجنة الداخلين أولاً مع الداخلين؟ ومعنى (كل عتل) أي: كل جاف شديد الخصومة في الباطل. وقيل الجافي: هو الفظ الغليظ. وأما الجواظ: فهو الجموع المنوع. وقيل: الجواظ هو كثير اللحم المختال في مشيته. أي: المستكبر في مشيته. وقيل: هو القصير البطين. أي: صاحب كرش. وقيل: هو الفاخر، أي: الذي يفخر بنفسه على الخلق. وأما الزنيم: فهو الدعي في النسب، رجل انتسب إلى قوم وهو يعلم أنه ليس منهم، وشبه بزنمة الشاة. وأما المتكبر والمستكبر: فهو صاحب الكبر، وهو بطر الحق وغمط الناس. أي: رد الحق وظلم الناس. [قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ألا أخبركم بأهل الجنة! كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار كل جواظ زنيم متكبر). وفي رواية: (كل عتل جواظ مستكبر). وفي رواية في وصف أهل الجنة: (رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره)]. يعني: ربما يكون هناك من شعره أشعث من ينظر إليه لا يعبأ به ولا يحترمه ولا يقدره، وإذا طرق عليه بابه ينهره ويزجره ويطرده من الباب، وهذا الذي تراه على هذه الصفة وتلك الهيئة منزلته عند الله عظيمة بحيث أنه لو دعا الله لأجابه، فلم تدفعه؟ فلو دعا عليك لأجابه الله عز وجل. أما من قال أن الشعث هم البله، يلزمه أن يقول أن هؤلاء المجانين هم ممن ينطبق عليهم قوله: (أشعث) لكن الأشعث هو كل ضعيف يستضعفه الناس، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام لما مر عليه رجل: (ما تقولون في هذا؟ قالوا: يا رسول الله! إنه لجدير إذا تكلم أن يسمع، وإذا نكح أن ينكح). يعني: الناس كلها تتمنى أن تزوج هذا، وأن تتكلم معه لشرفه، وبعض الناس لا يزال محتفظاً بصورة قد تصورها أيام الشقاوة مع الرئيس الفلاني، أو الأمير الفلاني، أو اللاعب الفلاني، أو الراقصة الفلانية، فهو لا يزال يذكر ماضيه ويفتخر به، مع أنه أولى به أن يطمسه تماماً، وألا يذكره، لكنه على أية حال يرى أن هذا فخر، ولو كان قد التقط تلك الصورة مع رجل ضعيف متذلل منكسر لا يسمع به الناس، يخلو بربه في الليل فيكسب من نوره سبحانه، لقال: تلك الصورة ليس لها قيمة ويتمنى ألا أحد يراها، مع أنها شرف.

شرح حديث: (إلام يجلد أحدكم امرأته)

شرح حديث: (إلام يجلد أحدكم امرأته) [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وأبو كريب قالا: حدثنا ابن نمير عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن أبي زمعة -كنيته أبو زمعة - قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم -: ({إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا} [الشمس:12]. انبعث فيها رجل عزيز عارم منيع في رهطه مثل أبي زمعة)]. النبي صلى الله عليه وسلم يذكر أن الذي قتل الناقة كان رجلاً عارماً منيعاً في قومه وهو رجل عزيز في أهله مثل أبي زمعة، النبي صلى الله عليه وسلم يشبه أبا زمعة بهذا الشقي الذي انبعث فقتل الناقة، فالشقي الذي انبعث فقتل ناقة صالح كان عارماً عزيزاً منيعاً ذو مكانة ووجاهة في قومه مثل أبي زمعة، وليس معنى ذلك أنه شبه أبا زمعة بذلك الشقي. [ثم ذكر النساء فوعظ فيهن ثم قال: (إلام يجلد أحدكم امرأته)]. يعني: لماذا يجلد أحدكم امرأته؟ قال: [(جلد الأمة). وفي رواية: (جلد العبد، ولعله يضاجعها من آخر يومه). ثم وعظهم في ضحكهم من الضرطة فقال: (إلام يضحك أحدكم مما يفعل)]. قوله في هذا الحديث: (إلام يجلد أحدكم امرأته؟) يعني: لماذا يضربها كما يضرب أحدكم عبده أو أمته؟ فلعله يحتاجها في الليل للجماع والفراش، فإذا احتاجها وقد ضربها بالنهار فكيف يطلبها في الفراش؟! فالذي يفعل ذلك أشبه بالحيوانات، بل الحيوانات أفضل منه، فالحيوان إذا أراد الوقوع في أنثى وكان بينهما من الخلاف والمشاجرة والرفض وغير ذلك هو يعرف أنه لا يمكن مع هذا الجو المكهرب أن ينال مراده، ولذلك هو لا يطلبها، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يجلدها جلد العبد والأمة ثم يطلبها في الليل). وهذا شيء بعيد جداً حتى نفسياً، أمر لا يمكن تحصيله، ومن حصله مع هذا الجو لابد أنه قد فقد كل إحساسه. ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إلام يضحك أحدكم مما يفعل) أي: من الضرطة. وهي: خروج الهواء من الدبر بصوت، فإذا فعل الواحد شيئاً من ذلك أو فعل في حضرة قوم كان له من التعليقات الباردة السخيفة بالقول أو الفعل، وهذا في الحقيقة من سوء الأدب، والمطلوب أن الواحد إذا سمع شيئاً من ذلك من صاحبه أن يتغافل عنه، ويعتبر أن ذلك شيء لم يكن، ويزعم أنه لم يسمع شيئاً؛ حتى وإن سئل يجيب بأنه لم يسمع شيئاً، وهذا من الخلق الكريم، وصاحب الخلق الكريم لا يتوقف عند هذه التفاهات، وقد يخيل إليه أنه سمع شيئاً حتى يعلق تلك التعليقات السخيفة الباردة، وفي النهاية يتبين أن صاحبه لم يفعل شيئاً. وفي إيطاليا سنة (87م) علمت أن من صفات هذا الشعب أنهم يفعلون ذلك بغير أدنى حرج في المواصلات العامة، وفي الشوارع والطرقات وفي كل مكان رجالاً ونساءً بدون أن يعلق واحد منهم شيئاً على الآخر، والمصريون كذلك تعلموها منهم، مع أننا لنا أخلاق وآداب تختلف عنهم، ينبغي أن نتأدب بها، ولا ينبغي أن نتكلف هذا الفعل تكلفاً ونتعمده من أجل أن نثبت للناس أننا إيطاليون.

شرح حديث: (رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار)

شرح حديث: (رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار) قال: [حدثني زهير بن حرب حدثني جرير عن سهيل -وهو سهيل بن أبي صالح السمان - عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف أبا بني كعب هؤلاء يجر قصبه في النار)]. النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن الله قد أطلعه على النار ورأى أهلها، وقد دخل الجنة ورأى أهلها، وهذا أمر مستقر، فإنه دخل الجنة ورأى فيها كيت وكيت وكيت، وأخبر بما رأى عليه الصلاة والسلام، واطلع على النار ورأى فيها كيت وكيت وكيت، ورأى فيها عمرو بن لحي يجر أمعاءه؛ لأنه أول من أمر أهل مكة بعبادة الأصنام، فهو الذي جلب الأصنام من الشام ووضعها حول الكعبة، وأمر أهل مكة بعبادة هذه الأصنام من دون الله عز وجل، فـ عمرو بن لحي هو زعيم الشرك، وسيد المشركين، رآه النبي عليه الصلاة والسلام في النار يجر أمعاءه ويدور فيها كما يدور الحمار حول الرحى. [وعن ابن شهاب قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: إن البحيرة هي التي يمنع درها للطواغيت]. البحيرة التي ذكرها الله تعالى في القرآن هي التي يمنع درها -أي: لبنها- للطواغيت. وهي تلك الأصنام فلا يحلبها أحد من الناس، وإنما هي وقف لهذه الأصنام. [وأما السائبة: فهي التي تنطلق بغير قيد لتأخذ مرعاها، وهي التي كانوا يسيبونها لآلهتهم فلا يحمل عليها شيء]. يعني: السائبة التي ليس لها ضرع ولا لبن لا يحمل عليها شيء بل هي وقف لهذه الأصنام، وصاحبة اللبن لا يستفيد بلبنها أحد، وإنما لبنها متروك لتلك الأصنام وهذه الأوثان، فهو أول من شرع هذا الشرك وهذا الكفر. [قال ابن المسيب: قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار وكان أول من سيب السيوب).

شرح حديث: (صنفان من أهل النار لم أرهما)

شرح حديث: (صنفان من أهل النار لم أرهما) قال: [حدثني زهير بن حرب حدثنا جرير عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صنفان من أهل النار لم أرهما)]. أي: هذان الصنفان من أهل النار لم يكونا في زمانه. قال: [(قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس)]. ولا يلزم أن هذه السياط كأذناب البقر، المهم أنها كناية عن ظلم العباد. قوله: (يضربون بها الناس). أي: بغير حجة ولا برهان ولا ذنب اقترفوه، ولذلك يقول الإمام النووي: (هذا الحديث من معجزات النبوة، فقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم، فأما أصحاب السياط فهم غلمان والي الشرطة). هؤلاء الظلمة الذين يضربون الناس ويعذبون الناس بغير ذنب ارتكبوه، ولا جريرة اقترفوها. قال: [(ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة)]. والبخت هي الإبل. قال: [(لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها)]. والحكم النهائي أن هذان الصنفان لا يدخلان الجنة، ولا يشمان رائحتها. قال: [(وإن ريحها ليوجد من مكان كذا وكذا)، وفي رواية: (من مسيرة خمسمائة عام)]. أما معنى الكاسيات العاريات ففيه أقوال لأهل العلم، أحدها: كاسيات من نعمة الله، عاريات من شكرها. والثاني: كاسيات من الثياب، عاريات من فعل الخير، والاهتمام لآخرتهن، والاعتناء بالطاعة. الثالث: يكشفن شيئاً من أبدانهن إظهاراً لجمالهن، فهن كاسيات في الحقيقة عاريات. والرابع: يلبسن ثياباً رقيقة تصف ما تحتها، فهن كاسيات عاريات في المعنى. وأما: (مائلات مميلات) فقيل: الميل هو الانحراف، والزيغ، فهن زائغات عن طاعة الله تعالى، وما يلزمهن من حفظ الفروج وغيرها، ومميلات أي يعلمن غيرهن مثل فعلهن. وقيل: مائلات أي: متبخترات في مشيتهن، مميلات لأكتافهن. وقيل: مائلات يتمشطن المشطة الميل وهي مشطة البغايا، معروفة لهن. مميلات: يمشطن غيرهن تلك المشطة. وقيل: مائلات إلى الرجال، مميلات لهم بما يبدين من زينتهن وغيرها. وأما قوله: (رءوسهن كأسنمة البخت) فمعناه: يعظمن رءوسهن بالخمر والعمائم، يعني: المرأة تضع عمامة على رأسها، والعمامة هي كل ما يعم الرأس عن الرجل والمرأة كالخمار تماماً، فهن يعممن رءوسهن بالخمر والعمائم مما يلف على الرأس حتى تشبه أسنمة الإبل، وهذا هو المشهور في التمثيل. ويجوز أن يكون معناه: يطمحن إلى الرجال ولا يغضضن أبصارهن عنهم، ولا ينكسن رءوسهن. واختار القاضي أن المائلات: تمشط المشطة الميلاء وهي ظفر الغدائر، وشدها إلى فوق، وجمعها في وسط الرأس، فتصير كأسنمة البخت، فتجعل شعرها كبة فوق رأسها. ومراد التشبيه بأسنمة البخت إنما هو لارتفاع الغدائر أو الظفائر فوق رءوسهن، وجمع عقائصهن وتكسرها بما يظفرنه حتى تميل إلى ناحية من نواحي الرأس كما تميل سنام البعير، يقال: ناقة ميلاء إذا كان سنامها يميل إلى أحد شقيها. فقد كفر بالله عز وجل واستحق الخلود في النار، فهو لا يشم رائحة الجنة أبداً ويخلد في النار، لأنه استحل ما حرم الله عز وجل بعد قيام الحجة عليه، وإذا فعل ذلك متأولاً، أو بجهل، أو بعلم أنها معصية ووقع فيها مع اعتقاده الجازم أنه عاص ويقر بذلك، فيكون معنى لا يدخلن الجنة: أي: أولاً مع الداخلين، يعني: لا يدخلن في أول الأفواج التي تدخل الجنة، ولكنهم يدخلون بعد تطهيرهم من أرجاسهم وأدناسهم في نار جهنم.

شرح حديث: (يوشك إن طالت بك مدة أن ترى قوما في أيديهم مثل أذناب البقر)

شرح حديث: (يوشك إن طالت بك مدة أن ترى قوماً في أيديهم مثل أذناب البقر) قال: [حدثنا ابن نمير حدثنا زيد -يعني: ابن حباب - حدثنا أفلح بن سعيد حدثنا عبد الله بن رافع مولى أم سلمة قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول صلى الله عليه وسلم: (يوشك إن طالت بك مدة)]. النبي صلى الله عليه وسلم يقول لـ أبي هريرة يوشك يا أبا هريرة إن طال بك زمانك أو طال بك العمر. قال: [(أن ترى قوماً في أيديهم مثل أذناب البقر يغدون في غضب الله ويروحون في سخط الله)]. يعني: في الصباح والمساء، لا تفارقهم اللعنة، ولا يفارقهم الغضب والسخط، وهو غضب الله عز وجل وسخطه عليهم؛ لأنهم يظلمون العباد، ويحاربون العباد، ويقتلون العباد، ويضربون العباد بغير حجة ولا برهان، بل قامت الحجة والبراهين على أن هؤلاء مظلومون وهم أصحاب حق وأصحاب دعوة صحيحة، ومع ذلك يضربون ويعذبون، ويسحلون، ويصعقون، ويظلمهم الظالمون بغير حجة ولا برهان، فهؤلاء جزاؤهم عند الله أنهم يغدون في غضب الله، ويروحون في سخط من الله عز وجل. [حدثنا عبيد الله بن سعيد، وأبو بكر بن نافع، وعبد بن حميد، قالوا: حدثنا أبو عامر العقدي، حدثنا أفلح بن سعيد، حدثنا عبد الله بن رافع - مولى أم سلمة - قال: سمعت أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن طالت بك مدة، أوشكت أن ترى قوماً يغدون في سخط الله، ويروحون في لعنته)]. واللعن والطرد يكونان من رحمة الله تعالى. قال: [(في أيديهم مثل أذناب البقر)]. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

الأسئلة

الأسئلة

عذاب الشيطان في جهنم بالنار

عذاب الشيطان في جهنم بالنار Q كيف يعذب الشيطان في النار وهو من النار؟ A ابن آدم يعذب بطين وقد خلق منها، لو أخذنا في هذا الوقت حجراً نستطيع أن نهشم به رأسك وعظمك، فكيف تعذب أنت بهذا الحجر والحجر من طين وأنت قد خلقت من طين؟ إذا كان الذي خلق من طين يعذب بالطين فكذلك الذي خلق من النار يعذب بالنار.

حكم الاستعانة بالجن في علاج السحر

حكم الاستعانة بالجن في علاج السحر Q ما حكم الاستعانة بالجن في علاج السحر والصرع وغير ذلك؟ A هذا أمر لا يجوز.

حكم من أفطر يوم عرفة لعذر شرعي

حكم من أفطر يوم عرفة لعذر شرعي Q امرأة مسلمة مقيمة بمصر جاءها الحيض في يوم عرفة، فهل يضيع عليها أجر صيام هذا اليوم، وماذا تفعل بعد أن تطهر؟ A لا يلزمها أن تعيد هذا اليوم، وإذا كانت بدأت الصيام فجاءها الحيض في أثناء النهار، أو لم تبدأ بالمرة ولكنها عقدت النية أنها إن طهرت صامت فلها أجر ذلك اليوم بإذن الله تعالى.

حكم قضاء الصلوات المفروضة لمن تركها شهورا وسنين عديدة

حكم قضاء الصلوات المفروضة لمن تركها شهوراً وسنين عديدة Q رجل كان تاركاً للصلاة ثم التزم، فهل يقضي الصلاة التي فاتته قبل أن يلتزم؟ A هذا مذهب جماهير العلماء، والمذهب الحق الذي أراه حقاً هو أن تارك الصلاة يلزمه التوبة، والتوبة تجب ما كان قبلها، وإنما يكثر من النوافل والصدقات إذا كان من أصحاب المال وغير ذلك، أما أن يعيد مع كل فرض فرضاً، أو فرضين أو ثلاثة فهذا وإن كان كلام جماهير العلماء لكن ليس عليه أي دليل.

المكان الذي يحرم منه من كان دون الميقات

المكان الذي يحرم منه من كان دون الميقات Q كنت مقيماً هذا العام في جدة قبل الحج بعشرين يوماً، وقمت بهذه المدة بأعمال العمرة وذهبت إلى الميقات، لأنني نويت التمتع، ثم في ليلة الثامن من ذي الحجة قمت بالمبيت بالحرم المكي وفي صبيحة يوم الثامن أحرمت من الحرم وذهبت إلى منى، فهل علي شيء من أجل أنني لم أحرم من جدة؟ A ليس عليك شيء، وإحرامك صحيح؛ لأنه من كانوا من دون المواقيت فإنهم يحرمون من أماكنهم حتى أهل مكة يحرمون من مكة.

حكم تشمير البنطلون وهو تحت القميص

حكم تشمير البنطلون وهو تحت القميص Q ما حكم تشمير البنطلون وهو لا يظهر تحت القميص؟ A لا حرج عليك فيه؛ لأن النهي فيه نهي تنزيه، وإذا كان فالأولى أن تقطع هذه الزيادة.

نصيحة في ترك مجاورة النصارى والحذر من سحرهم

نصيحة في ترك مجاورة النصارى والحذر من سحرهم Q في البيت الذي أسكن فيه يوجد اثنان من النصارى، ومنذ فترة ظنت زوجتي أنهم قد يعملون لنا أعمالاً، وسبب هذا الظن أن زوجة أحدهم قد طلبت من زوجتي قطعة ملابس أطفال، ولكن زوجتي رفضت، فبم تنصحنا؟ A أنصحك في الحقيقة إما أن ترحل عن هذا المكان، وإما أن تقطع علاقتك بهم أبداً، فهم أهل سحر وأذى، وفي الحقيقة الكنيسة في هذا الزمان لها من أعمال السحر ما لم يكن لها قبل ذلك، حتى صار القساوسة أهل تخصص في مسألة السحر والحسد وغير ذلك.

حكم دفع الرشوة للحصول على وظيفة حكومية

حكم دفع الرشوة للحصول على وظيفة حكومية Q دفعت رشوة في حصولي على عمل تابع للحكومة، وعلمت أن ذلك ذنب، فماذا أعمل الآن مع العلم أنني سأستلم العمل في وقت قريب؟ A خلاص أنت دفعت، الذي يسأل -يا إخواني- على الشيء يسأل قبل العمل لا بعد العمل، أما وقد دفعت لا قيمة للسؤال حينئذ، لكني أنصح من لم يدفع ألا يدفع.

كيفية ذبح الكبش بين الجنة والنار

كيفية ذبح الكبش بين الجنة والنار Q من سيذبح الكبش الذي هو الموت بين الجنة والنار؟ A يقول الله تعالى له مت فيموت.

حكم الصلاة في مسجد به قبر، وحكم زيارة النساء للقبور

حكم الصلاة في مسجد به قبر، وحكم زيارة النساء للقبور Q ما صحة القراءة على الميت في القبر، وما هو الوارد في زيارة النساء للقبور، وهل يجوز الصلاة في مسجد به قبر؟ A الذي يطمئن إليه قلبي أنه لا تجوز الصلاة في مسجد به قبر، فمن صلى في مسجد به قبر يعيد الصلاة إذا كانت في الوقت. أما الوارد عموماً في زيارة القبور فهو الدعاء، والذكر والموعظة، قال عليه الصلاة والسلام: (كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكركم الآخرة)، فهذه فائدة الزيارة. وزيارة النساء مكروهة أو هي جائزة مع الكراهة، لحديث أم عطية الأنصارية في الصحيحين أنها قالت: (نهانا النبي عليه الصلاة والسلام عن زيارة القبور ولم يعزم علينا)، أي: ولم يؤكد النهي؛ فتبين الجواز. وأخذنا الكراهة من نهيه الأول الذي لم يؤكده: (نهانا عن زيارة القبور ولم يعزم) أي: ولم يؤكد على هذا النهي، ولو أكده لقلنا بالحرمة، ولكنه لم يؤكد فنقول بالكراهة مع الجواز. والنبي عليه الصلاة والسلام كان إذا زار القبور قال: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين، أنتم السابقون ونحن إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لنا ولهم) ويستمر بالدعاء لأهل القبور جميعاً. وقالت عائشة رضي الله عنها كما في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبيت عندي فانسل من فراشه فأتبعته حتى جاء على البقيع ورفع يديه يدعو لأهل البقيع، فلما أراد أن ينفتل) يعني: لما أنزل يديه وأراد أن يرجع، (أسرعت الرجوع إلى بيتي، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم علي في حجرتي فلما رآني قال: أتظنين أن يحيف الله عليك ورسوله؟ قالت: ثم لهزني لهزة أوجعتني. وقال: إن ربي أمرني أن أذهب إلى البقيع فأدعو لأهل البقيع). هذا هو الشاهد: (إن ربي أمرني أن أذهب إلى البقيع فأدعو لهم)، قال تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103]، فدعاء النبي صلى الله عليه وسلم ليس كدعاء الغير، ونحن مأمورون بما أمر به النبي عليه الصلاة والسلام.

كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها - باب النهي عن سب الدهر

شرح صحيح مسلم - كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها - باب النهي عن سب الدهر لقد اختص الله عز وجل هذه الأمة بالعقيدة الإسلامية الصافية، وحرص الشارع الحكيم على وقاية هذه العقيدة من كل ما يشوبها أو يدنس صفاءها ونقاءها، فحذر من أي فعل أو قول يمكن أن يقدح فيها، ومن ذلك نهيه عن بعض الألفاظ وتحذيره منها، وهي ألفاظ كثيراً ما تدور على ألسنة الناس دون أن يلقوا لها بالاً، معتقدين عدم تأثيرها في عقيدتهم، أو قدحها في توحيدهم.

باب النهي عن سب الدهر

باب النهي عن سب الدهر الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أما بعد: فمع الجزء الخامس عشر، وهو الذي يبدأ بكتاب الألفاظ من الأدب وغيرها، والمؤلف هنا لم يتكلم عن كل الآداب الإسلامية، وإنما تكلم عن بعض المسائل والمواضيع الأدبية التي ينبغي أن يتحلى بها المسلم فقال رحمه الله تعالى: (باب: النهي عن سب الدهر) وهو الباب الأول في كتاب الألفاظ من الأدب.

شرح حديث: (يسب ابن آدم الدهر وأنا الدهر)

شرح حديث: (يسب ابن آدم الدهر وأنا الدهر) قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثني أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن سرح وحرملة بن يحيى -وكلاهما مصريان- قالا: أخبرنا ابن وهب -وهو مصري كذلك، واسمه عبد الله بن وهب القاضي المصري الكبير المعروف- قال: حدثني يونس عن ابن شهاب] يونس إذا كان بين ابن وهب وابن شهاب الزهري فإنما هو يونس بن يزيد الأيلي لا غيره. [قال ابن شهاب: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن]. وأبوه هو عبد الرحمن بن عوف الزهري الصحابي المعروف، وولده اسمه أبو سلمة، وإن كان الاسم هذا كنية، فهو ممن عرف بأن اسمه كنيته، اسمه أبو سلمة وكنيته كذلك. [قال: قال أبو هريرة رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله عز وجل: يسب ابن آدم الدهر وأنا الدهر بيدي الليل والنهار)]. وهذا حديث قدسي. قال: [وحدثناه إسحاق بن إبراهيم -وهو المعروف بـ الحنظلي إسحاق بن راهويه - وابن أبي عمر -وهو محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني نزيل مكة، وتلميذ ابن عيينة - واللفظ لـ ابن أبي عمر قال إسحاق: أخبرنا، وقال ابن أبي عمر: حدثنا سفيان]. إذا حدث ابن أبي عمر عن سفيان فهو سفيان بن عيينة؛ لأننا قلنا: إن ابن أبي عمر عدني نزيل مكة. يعني: هو من عدن ولكنه نزل مكة واستقر بها، ولازم بها سفيان عشرين عاماً. قال: [قال: حدثنا سفيان عن الزهري عن ابن المسيَّب]. أو ابن المسيِّب كلاهما صحيح، وابن المسيب هو سعيد بن المسيب المدني، وهو زوج ابنة أبي هريرة رضي الله عنه. قال: [يحدث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله عز وجل: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر)]. وسبب الإيذاء: هو أن ابن آدم يسب الزمن والأيام، وكلاهما الدهر، [(قال: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار)]. وبعض المحدثين أنكر أن يكون الدهر مرفوعاً، وقالوا: الصواب أن يكون منصوباً. أي: وأنا الدهرَ: ولكن الصواب من مذهب جماهير المحدثين وجل اللغويين أنه بالرفع الدهرُ.

شرح حديث: (يؤذيني ابن آدم يقول: يا خيبة الدهر)

شرح حديث: (يؤذيني ابن آدم يقول: يا خيبة الدهر) [وحدثني عبد بن حميد قال: أخبرنا عبد الرزاق]. وهو ابن همام الصنعاني اليمني. [قال: أخبرنا معمر]. ومعمر هو ابن راشد البصري الصنعاني. يعني: هو من أهل البصرة، ولكنه نزل صنعاء اليمن فاستقر بها وتزوج منها وبقي فيها. [عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: يؤذيني ابن آدم يقول: يا خيبة الدهر)]. وسبب الإيذاء هنا هو نوع آخر من أنواع السب [(فلا يقولن أحدكم: يا خيبة الدهر؛ فإني أنا الدهر أقلب ليله ونهاره)]. أقلب: يعني: أُبدِّل بين ليله ونهاره، أو أجعل الخلائق في الليل والنهار يتقلبون، فالوضيع يصير شريفاً والشريف يصير وضيعاً، والغني يصير فقيراً، والفقير يصير غنياً، والمريض يصير صحيحاً، والصحيح يصير مريضاً، وغير ذلك، وهذا نوع من أنواع التقليب الذي يقع في الدهر. أي: في الزمن. [(قال الله عز وجل: أقلب ليله ونهاره، فإذا شئت قبضتهما)]. أي: أقمت الساعة. [وحدثنا قتيبة قال: حدثنا المغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد]. وأبو الزناد هو عبد الله بن ذكوان، وكنيته أبو عبد الرحمن، أما أبو الزناد فهو لقب له. [عن الأعرج]. وهو عبد الرحمن بن هرمز الأعرج المدني. [عن أبي هريرة رضي الله عنه]. وهو على الراجح عبد الرحمن بن صخر الدوسي. [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقولن أحدكم: يا خيبة الدهر؛ فإن الله هو الدهر).

شرح حديث أبي هريرة في النهي عن سب الدهر

شرح حديث أبي هريرة في النهي عن سب الدهر وحدثني زهير بن حرب]. وهو أبو خيثمة النسائي. [قال: حدثنا جرير]. وهو ابن عبد الحميد الضبي الكوفي. [عن هشام عن ابن سيرين]. الذي يروي عن ابن سيرين هو هشام بن حسان الأزدي، وهشام بن عروة يروي كذلك عن ابن سيرين، لكنه هنا هشام بن حسان عن ابن سيرين، وإن كان هشام بن حسان في مرتبة الصدق والأمانة ولم يرتق إلى مرتبة الثقة أو الحافظ، إلا أنه من أثبت الناس في ابن سيرين. [قال هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا تسبوا الدهر)]. وهذا حديث نبوي، وليس حديثاً قدسياً. [قال: (لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر)]. هذا نهي من النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن الله هو الدهر. وفي الرواية الأولى: (قال الله عز وجل: لا يقولن أحدكم: يا خيبة الدهر؛ فإن الله هو الدهر). وعند أحمد من حديث أبي هريرة كذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا تسبوا الدهر؛ فإن الله عز وجل قال: أنا الدهر، الأيام والليالي لي أجددها وأبليها). أي: ملك لي وهي بيدي. أجددها وأبليها. يعني: تجديدها بالليل بعد النهار والنهار بعد الليل، وهذا بيد الله عز وجل ومن صنعه وخلقه، فليس أحد يملك ذلك إلا الله. ومعنى أبليها. يعني: أفنيها وأنهيها. ثم قال عليه الصلاة والسلام: (وآتي بملوك بعد ملوك) وهذا بقية الحديث. أي: يذهب ملوك ويأتي من بعدهم ملوك آخرون إلى قيام الساعة.

تأويل حديث: (فإن الله عز وجل قال: أنا الدهر)

تأويل حديث: (فإن الله عز وجل قال: أنا الدهر) والقول بأن الدهر من أسماء الله عز وجل يرده الإجماع المنعقد سلفاً وخلفاً أن الدهر ليس من أسماء الله عز وجل وإذا كان الإجماع على هذا النحو، ولم يأت لا في زمن الصحابة ولا من بعدهم أن من أسماء الله تبارك وتعالى الدهر، فلابد من تأويل هذا الحديث. وأما تأويله في رواية: (إن الله هو الدهر) فقد قال العلماء: وإطلاق الدهر هنا من باب المجاز؛ وسببه أن العرب كان من شأنها أن تسب الدهر عند النوازل والحوادث والمصائب النازلة بها من موت أو هرم أو تلف مال أو غير ذلك، فيقولون: يا خيبة الدهر. يعني: يسبون الدهر. وأنتم تعلمون أن الدهر هو الأيام والليالي، وهو الأعصر والأزمان، وهذه الأعصر والأزمان لا تفعل شيئاً في هذه المصائب، وليست سبباً في نزول المصائب، بل المصائب مخلوقة لله عز وجل، والشر مخلوق لله عز وجل، وكذلك الأيام والليالي مخلوقة لله عز وجل، والأيام والليالي ليس لها دخل في نزول المصائب والنوازل والحوادث، ولكن العرب كانت تتشاءم من يوم تقع فيه نازلة أو مصيبة، فيطلقون ألسنتهم بسب الدهر ولعنه، فيقولون: يا خيبة الدهر ونحو هذا من ألفاظ سب الدهر، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر). أي: فإن الله هو الذي خلق الدهر. أي: لا تسبوا فاعل النوازل؛ لأن الليل والنهار ليسا بفاعلين للنوازل، وإنما فاعل النوازل وخالقها هو رب الليل والنهار وهو رب الدهر، فإذا سببتم الدهر ولعنتموه فكأنكم تسبون خالق النوازل وخالق الدهر وخالق الحوادث وخالق الليل والنهار، وهذا هو الذي نهى عنه عليه الصلاة والسلام، فإنكم إذا سببتم فاعلها وقع السب على الله تعالى؛ لأنه هو فاعلها ومنزلها، وأما الدهر الذي هو الزمان فلا فعل له، بل هو مخلوق من جملة خلق الله تعالى. والمعنى: فإن الله هو الذي فعل النوازل وأوجدها وخلقها وأحدثها؛ وهي مما يقع في الكون، والله هو الخالق لجميع الكائنات والنوازل والحوادث. وهذا الكلام قاله الإمام المنذري ووافقه الشيخ الألباني كذلك في الصحيحة.

باب كراهة تسمية العنب كرما

باب كراهة تسمية العنب كرماً قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: كراهة تسمية العنب كرماً]. الكرْم والكرَم شيء واحد، والعرب كانت تطلق على العنب كرَم أو كرْم، على عادتهم في اتخاذ الخمر من العنب، فإذا شربوها سكروا، وإذا سكروا جادوا بها في مجالسهم، وأنتم تعلمون أن هذه المجالس باقية إلى الآن، حتى إن السكارى الآن يقولون: إن فلاناً هذا كريم جداً. فإذا جئت تنظر في حال فلان هذا تجده رئيسهم في السكر، فيقولون: فلان أكرم واحد فينا. يعني: هو الذي يُشرب الجالسين، يشتري خمراً ويوزعه على أصحابه كلهم. يعني: هو يسقي الجميع، فسمي كريماً؛ لأنه يجود بالخمر على غيره. فكذلك العرب كانت تفعل في جاهليتها، فلهذا يسمون العنب كرماً؛ لإظهار إكرام فاعله، فمن جاد بالشرب والسكر والخمر على غيره سمي عندهم كريماً. ورغم أن هذا اللفظ يحمل معنى طيباً محموداً إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم كره أن يُطلق هذا اللفظ المحمود على ما هو مذموم أصلاً في الشرع، فقال: (لا تقولوا للعنب كرماً، بل أولى الناس بهذا الاسم العبد المسلم أو الرجل المسلم أو قلب المؤمن)، فإنه أولى بهذا الاسم من هذا السكير العربيد؛ لأن قلب المؤمن حي بنور الإيمان، لا يقارف هذه المعاصي ولا يشرب الخمر، فهو أولى بكرمه وتعففه عن المعاصي وعن هذه الأوحال ممن اقترفها. قال: [حدثنا حجاج بن الشاعر حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن أيوب]. معمر بن راشد عن أيوب بن أبي تميمة السختياني وهو كيسان. قال: [عن ابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يسب أحدكم الدهر فإن الله هو الدهر، ولا يقولن أحدكم للعنب: الكرم؛ فإن الكرم الرجل المسلم)]. أي: فإن الكريم هو الرجل المسلم. حدثنا عمرو الناقد وابن أبي عمر قالا: حدثنا سفيان]. وهو: سفيان بن عيينة. [عن الزهري عن سعيد]. وهو: سعيد بن المسيب. [عن أبي هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا تقولوا كرماً فإن الكرم قلب المؤمن). حدثنا زهير بن حرب حدثنا جرير -وهو جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي - عن هشام عن ابن سيرين - هشام عن ابن سيرين هو هشام بن حسان الأزدي - عن أبي هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا تسموا العنب الكرم فإن الكرم الرجل المسلم). وحدثنا زهير بن حرب -وهو أبو خيثمة النسائي نزيل بغداد- حدثنا علي بن حفص - المدائني أبو الحسن البغدادي - حدثنا ورقاء -وهو ابن عمر اليشكري نزيل المدائن وهو كوفي أبو بشر - عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يقولن أحدكم الكرم، فإنما الكرم قلب المؤمن). وحدثنا ابن رافع -وهو محمد - قال: حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن همام قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام بأحاديث. منها هذا الحديث من صحيفة همام عن أبي هريرة، أخرجها الإمام أحمد بن حنبل في الجزء الثاني من المسند وهي حوالي مائة واثنين وأربعين حديثاً. [قال: (لا يقولن أحدكم للعنب الكرم، إنما الكرم الرجل المسلم). حدثنا علي بن خشرم أخبرنا عيسى بن يونس -وهو ابن أبي إسحاق السبيعي - عن شعبة عن سماك بن حرب عن علقمة بن وائل -وهو ابن وائل بن حجر الحضرمي الكوفي، قيل: إن علقمة لم يسمع من أبيه، ولكن جاء عند الترمذي: أن علقمة قال: سمعت أبي. فالذي يقول: إن علقمة لم يسمع من أبيه يرد عليه تصريح علقمة بأنه سمع من أبيه. [عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا تقولوا الكرم، ولكن قولوا: الحبْلة أو الحبَلة)]. إما بإسكان الباء أو بفتحها. [(لا تقولوا للعنب: الكرم، ولكن قولوا: الحبَلة، أو الحبْلة يعني: العنب)، يعني: قولوا له: عنباً أو حبلة، فهذا لا بأس به. قال: [وحدثنيه زهير بن حرب حدثنا عثمان بن عمر -وهو ابن فارس العبدي

بيان العلة من النهي عن تسمية العنب كرما

بيان العلة من النهي عن تسمية العنب كرماً إذاً: العنب يسمى إما عنباً أو حبلة، ولا نسميه كرماً؛ لأن هذا الاسم فيه كراهة شديدة جداً، قال ابن الجوزي: إنما نهي عن هذا؛ لأن العرب كانوا يسمونها كرماً، لما يدّعون من إحداثها في قلوب شاربيها من الكرم، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تسميتها بما تمدح به لتأكيد ذمها وتحريمها، وليعلم أن ما في قلب المؤمن من نور الإيمان أولى بذلك الاسم الذي هو الكرم. يقول الحافظ الإمام النووي: كانت العرب تطلق لفظة الكرم على شجر العنب، وعلى العنب، وعلى الخمر المتخذة من العنب؛ سموها كرماً لكونها متخذة منه، ولأنها تحمل على الكرم؛ لأن أصحاب المعاصي كانوا يجلسون مع بعضهم البعض يشربون الخمر، ويحب أحدهم أن يكون أحسن من الموجودين، فيوزع الخمر على الحاضرين؛ لأجل أن يكون صاحب الكرم والجود والسخاء والبذل، ولذلك حتى الذين يدخنون، فإن البخيل لديهم هو الذي لم يعط سيجارة أما ما لو أعطاها لأحد المدمنين فسيكون هو الكريم، فالكرْم تحمل على الكرم والسخاء، فكره الشرع إطلاق هذه اللفظة على العنب وعلى شجر العنب؛ لأن العرب إذا سمعوا بعد الإسلام لفظة الكرم التي تحمل على الكرم والبذل والسخاء ربما تذكروا بها الخمر، فهيجت نفوسهم إليها، فوقعوا فيها أو قاربوا ذلك، واستشرفتها نفوسهم، ولكن سموا العنب عنباً أو حبلة. والشراب المتخذ منه يسمى خمراً؛ لأن وقع كلمة خمر على أذنك ليس كوقع كلمة كرم أو كريم، فهذه لها معنى وهذه لها معنى آخر، فالخمر وقعها على الأذن مذمومة، والكرم وقعها على الأذن ممدوحة. أما قوله: إنما يستحق هذا الاسم الرجل المسلم أو قلب المؤمن؛ لأن الكرْم مشتق من الكرَم بفتح الراء، وقد قال الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] ولم يقل: أشربكم للخمر أو أشربكم للكرم، فسمى قلب المؤمن كرماً؛ لما فيه من الإيمان والهدى والنور والتقوى والصفات المستحقة لهذا الاسم. قال أهل اللغة: يقال: رجل كرم، وامرأة كرم، ورجلان كرم، ورجال كرم، وامرأتان كرم، ونسوة كرم كله بفتح الراء وإسكانها كرَم وكرْم بمعنى كريم وكريمان وكرام وكريمات، فهذا وصف للمصدر كضيف وعدل، والله تعالى أعلم.

باب حكم إطلاق لفظة العبد والأمة والمولى والسيد

باب حكم إطلاق لفظة العبد والأمة والمولى والسيد قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: حكم إطلاق لفظة العبد والأمة والمولى والسيد] والحكم إما أن يكون جائزاً أو مكروهاً أو مستحباً أو مندوباً، وهذه الألفاظ موجودة في كتب الفقه أو كتب الحديث، مصحوبة بالأدلة والنصوص، لكن الكلام هنا ليس على أصل اللفظة. وبالنظر إلى العنوان: (باب حكم إطلاق) تجد أن معناه: حكم الإكثار من استعمال هذه المصطلحات. إذاً: هو يتكلم عن حكم استعمال هذه المصطلحات بصفة مستمرة حتى تكون هي الشائعة، فالعبد له حقوق في الإسلام وعليه واجبات، والسيد والمولى والأمة كذلك، وكل هذه المصطلحات، لابد أنك ستجد أبواباً كاملة تتعلق بأحكام كل من المولى والعبد والأمة والسيد. وإطلاق لفظة (السيد) مباحة، لكنها تكره في بعض الأحيان، أما لفظة المولى فالأصل فيها الجواز، لكنها مكروهة أحياناً، وكذا لفظة الأمة أو العبد هي ألفاظ جائزة في الشرع ولكن في دائرة ضيقة، والتوسع في إطلاق هذه المصطلحات مكروه. إذا: الأصل في حكم إطلاق هذه الألفاظ هو الجواز، وقد وردت في نصوص كثيرة من الكتاب والسنة:

شرح الأحاديث في النهي عن قول: عبدي وأمتي

شرح الأحاديث في النهي عن قول: عبدي وأمتي قال: [حدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة وابن حجر]. وابن حجر هو علي بن حجر السعدي. قالوا: حدثنا إسماعيل بن جعفر المدني عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة]. والعلاء هو ابن عبد الرحمن بن يعقوب الحرقي. [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقولن أحدكم: عبدي وأمتي، كلكم عبيد الله)]. وهذا النهي موجه للسيد. أي: إذا اشتريت عبداً من السوق أو غنمت عبداً من غزوة فإن هذا لا يعني أنه عبد وأنت حر، فأنت في حقيقة أمرك عبد كهذا العبد ولكن لله عز وجل، فهو عبد بالنسبة للسيد، والحر ليس عبداً بل هو غلام وفتى، أما السيد فهو رب العبد وسيده ومالكه، ولكن في حقيقة الأمر فإن المالك الحقيقي للسيد والعبد هو الله عز وجل، والعبودية لا تكون إلا لله عز وجل، ولذلك يكره أن يقول السيد: (هذا عبدي)؛ لأن لفظ العبودية خاص بالله عز وجل، وإن أجاز الشرع للسيد أن يقول عبدي؛ فإن هذا ليس على سبيل الدوام، وإنما أجاز له أن يقول عبدي أحياناً؛ للتفريق بينه وبين الحر، وللتفريق بينه وبين السيد، لا أن يطلق السيد لسانه بلفظ عبدي عبدي عبدي، ولكن ليقل: غلامي، فتاي -من الفتى- أما عبدي فإنها لا تقال إلا استثناءً، وأما الاعتياد عليها فمكروه؛ لأنها تشعر بأن هذا السيد رب حقيقي، وفيه نوع ألوهية وليس الأمر كذلك، بل العبودية كلها مصروفة لله عز وجل سواء من الحر أو من السيد. [(لا يقولن أحدكم: عبدي وأمتي كلكم عبيد الله، وكل نسائكم إماء الله، ولكن ليقل غلامي وفتاي وفتاتي)]. إذا كان عبداً فليقل: غلامي، وإذا كانت أمة فليقل: جاريتي وفتاتي. [وحدثني زهير بن حرب حدثنا جرير عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يقولن أحدكم: عبدي فكلكم عبيد الله، ولكن ليقل: فتاي، ولا يقل العبد: ربي)]. وهنا نهي موجه للسيد أن يقول: عبدي؛ لأن العلة أن الكل عبيد لله عز وجل، والكلمة مشعرة بصرف شيء من العبودية لهذا السيد، وليس الأمر كذلك. وكذلك وجَّه الأمر للعبد ألا يقول لسيده: (ربي)، وإن كان الرب بمعنى القيم، وهذا السيد قيم بشئون عبده وفتاه وغلامه. ولا بأس أبداً أن تقول: رب البيت، فأنت إذا كنت متزوجاً وعندك زوجة وأولاد وغير ذلك فأنت رب البيت، فكلمة الرب بالألف واللام غير مضافة مخصوصة بالله عز وجل، فلابد من صرف الذهن إلى أنه الرب تبارك وتعالى، أما إذا نويت أن تطلق هذا اللفظ على غير الله عز وجل، فينبغي لك أن تأتي بأمرين: الأمر الأول: تجريده من التعريف أي: من الألف واللام، فلا تقل (الرب) ولكن (ربَ). الأمر الثاني: إضافته. فتقول: رب البيت، ورب السيارة وغير ذلك. قال: [(ولا يقل العبد: ربي، ولكن ليقل سيدي). قال: [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالا: حدثنا أبو معاوية]. أبو معاوية هو محمد بن خازم الضرير، وأبو كريب هو محمد بن العلاء الهمداني الكوفي. [وحدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا وكيع]. وهو ابن الجراح العتكي. [كلاهما عن الأعمش]. وهما وكيع ومحمد بن خازم الضرير أبو معاوية. [والأعمش]. هو سليمان بن مهران الكوفي. [بهذا الإسناد، وفي حديثهما: (ولا يقل العبد لسيده: مولاي)]. وفي الحقيقة لم يوافق أحد الأعمش في هذه الرواية، ولذلك قال الإمام النووي: اختلف الرواة عن الأعمش في ذكر هذه اللفظة، فلم يذكرها آخرون، وحذفها أصح. والصحيح أنه لا بأس أن يقول العبد لسيده: يا مولاي، وكأن الأعمش أخطأ في هذه اللفظة. [وفي حديث أبي معاوية قال: (فإن مولاكم الله عز وجل).

شرح حديث: (لا يقل أحدكم: اسق ربك)

شرح حديث: (لا يقل أحدكم: اسق ربك) وحدثنا محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يقل أحدكم: اسق ربك، أطعم ربك، وضئ ربك)]. لأن معنى الرب تشعر بنوع من الربوبية، والربوبية مطلقة لله عز وجل لا يجوز صرفها إلى غيره سبحانه، ولذلك فإن هذا الحديث مشعر بأن لفظ (رب) وإن كان في أصله جائزاً إلا أن تكراره وشيوعه أمر مكروه، ولذلك قال: (لا يقل أحدكم: اسق ربك، أطعم ربك، وضئ ربك)، فهذه الألفاظ فيها غضاضة. ولو قال له: أطعم سيدك، اسق سيدك، وضئ سيدك، فلا بأس فهي ألفاظ محتملة، ولكن وضع لفظ (الرب) مكان (السيد) تمجه الأذن ولا تألفه. [قال: (ولا يقل أحدكم: ربي، وليقل: سيدي ومولاي، ولا يقل أحدكم: عبدي وأمتي، وليقل: فتاي وفتاتي وغلامي)]. إذاً: هذه الألفاظ كلها في أصلها جائزة، لكن الإكثار منها وشيوعها أمر فيه كراهة.

العلة من النهي عن إطلاق لفظة العبد والأمة والسيد

العلة من النهي عن إطلاق لفظة العبد والأمة والسيد قال العلماء: مقصود الأحاديث -أي: مقصود أحاديث الباب التي ذكرناها- أمران: أحدهما: نهي المملوك أن يقول لسيده (ربي)؛ لأن الربوبية لا تكون إلا لله تعالى؛ لأن الرب هو المالك أو القائم بالشيء، ولا تكون حقيقة هذا إلا لله تعالى، ولذلك سمي رباً، وسمي قيوماً؛ لأنه هو القائم على شئون خلقه. فإن قيل: فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام في أشراط الساعة: (أن تلد الأمة ربتها أو ربها)، كما قلنا: إن كلمة (ربتها) مضافة إلى الهاء، وكذلك مجردة عن الألف واللام والنهي عن (الرب). A من وجهين: أحدهما: أن هذا الحديث لبيان الجواز. يعني: أن لفظ الرب ليس محرماً، ولكن استعماله وإشاعته فيه كراهة، ويبقى الأصل الجواز، ولذلك جاء في بعض الأحاديث النهي، وجاء في بعضها الإباحة، والأحاديث والآيات التي ورد فيها ذكر الرب جاءت لبيان الجواز، وأن النهي الذي ورد في بعض النصوص للأدب وكراهة التنزيه لا للتحريم. يعني: تأدباً. ونضرب لذلك بلفظة (الهن)، فالهن من أسماء الدبر، وهو من الأسماء الستة، فكلمة (هن) ألطف من كلمة (دبر)، وكذلك (السه) اسم من أسماء الدبر، كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (العين وكاء السه، فإذا نام العبد فليتوضأ). أي: أن العين حارسة على نقض الوضوء، كلما كان الرجل مستيقظاً فهو يعرف تماماً إذا كان متوضئاً أو فاقداً له، لكنه إذا نام فإنه لا يعرف ذلك. ولو قلت لأحد الطلبة في السنوات الأولى: جاء أخوك، ورأيت أخاك، ومررت بأخيك، فإنه سيفهم هذه العبارات. أما لو قلت: (جاء هنوك) أو (رأيت هناك)، أو (مررت بهنيك)، فإن الطلبة سيسألون عن معنى ذلك، ولهذا لم يفرضوا على الطلبة في هذه المستويات هذا الاسم السادس من الأسماء الستة، ولم يقرر إلا في الجامعات. فقوله صلى الله عليه وسلم: (أن تلد الأمة ربتها أو ربها) فيه جواز إطلاق هذا اللفظ، والأولى غيره، كما يجوز إطلاق لفظ الدبر، لكن أولى منه (الاست) و (السه) و (الهن)؛ لأن هذه ألفاظ لها وقع أطيب من وقع الدبر على المسامع. الجواب الثاني: أن المراد: النهي عن الإكثار من استعمال هذه اللفظة واتخاذها عادة شائعة ولم ينه عن إطلاقها في نادر الأحوال، واختار القاضي هذا الجواب. إذاً: النهي عن إطلاق هذه الكلمة وإشاعتها حتى تكون عادة، أما لو استعملت في أحوال نادرة فلا بأس بذلك. ولا نهي في قول المملوك: (سيدي)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (ليقل: سيدي)؛ لأن لفظة السيد غير مختصة بالله تعالى اختصاص الرب، فإن كلمة الرب ألصق بالله عز وجل من كلمة (سيد)، وقد ورد في النص أن الله هو السيد، كما في حديث: (لا تقولوا للمنافق سيد؛ فإن الله هو السيد) وهو حديث صحيح، لكن هذا النص ليس مشهوراًً كشهرة النهي عن إطلاق لفظ الرب، أو ليس من أسماء الله عز وجل أنه السيد، بل ولا من صفاته، وإنما هو من باب صفات المعاني الواسعة، مثل الستار والمنعم وغير ذلك، فكلها صفات لله عز وجل من جهة المعنى لا من جهة النص، فالمنعم ليس من أسماء الله عز وجل، وليس من صفات الله عز وجل المنصوصة على أنها من صفاته سبحانه، وإنما المنعم صفة معنى لله عز وجل وصفات المعاني بابها واسع؛ لأن المنعم الحقيقي على الخلق هو الله عز وجل ولا خلاف في ذلك. قال: [ولا نهي في قول المملوك سيدي لقوله صلى الله عليه وسلم: (ليقل: سيدي)؛ لأن لفظة السيد غير مختصة بالله تعالى اختصاص الرب، ولا مستعملة فيه كاستعمالها، فلو قلت: رب، فإن ذهن المستمع ينصرف لله عز وجل، بخلاف لفظة: سيد، فلا ينصرف ذهنه لله عز وجل. إذاً: استعمال كلمة رب في جنب الله عز وجل أكثر شيوعاً من استعمال كلمة سيد، ولذلك يجوز للعبد أن يقول: سيدي، والدليل على ذلك الرجل المجوسي الذي أتى إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقد أطلق شاربه حتى دخل في فمه وحلق لحيته، وكان مبعوثاً من أحد أمراء كسرى، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى هيئته: (من أمرك بهذا؟) أي: من الذي قال لك أن تطيل شاربك وتحلق لحيتك؟ (قال: أمرني ربي) يقصد سيده: (فقال عليه الصلاة والسلام: وأنا أمرني ربي أن أطلق لحيتي، وأن أحف شاربي). إذاً: شتان ما بين رب هذا المبعوث ورب محمد عليه الصلاة والسلام! قال: [حتى نقل القاضي عن مالك أنه كره الدعاء بسيدي، ولم يأت تسمية الله تعالى بالسيد في القرآن ولا في حديث متواتر، بل ورد في حديث آحاد: (لا تقولوا للمنافق سيد فإن الله هو السيد). والنبي صلى الله عليه وسلم أجاز إطلاق لفظ سيد على المخلوقين، فقال: (إن ابني هذا سيد وسيصلح الله تعالى به بين فئتين عظيمتين). وقال عليه الصلاة والسلام للأنصار: (قوموا إلى سيدكم) يعني: سعد بن معاذ. وفي الحديث الآخر: (اسمعوا ما يقول سيدكم) يعني: سعد بن عبادة

باب كراهة قول الإنسان: (خبثت نفسي)

باب كراهة قول الإنسان: (خبثت نفسي) قال المصنف رحمه الله تعالى: (باب: كراهة قول الإنسان: خبثت نفسي). أو أن يقول: إن نفسي خبيثة! فهذا اللفظ أنت منهي عنه إما لنفسك أو لغيرك، فلا تقل: هذا فلان خبيث، أو نفسه خبيثة، أو خبثت نفسي، أو خبثت نفس فلان فكل هذه من الألفاظ التي نهى عنها الشارع، ولكن قل: لقست نفسي أو لقست نفس فلان، والأولى ألا تتهم؛ لأن هذا ربما يعد من السباب أو الغيبة أو غير ذلك، ولكن إذا أردت أن تعبر بالخبث فقل: لقست نفسي، ولا تقل خبثت نفسي، وإن كانت الكلمتان تؤديان معنى واحد، فلقست بمعنى خبثت؛ واللقس في اللغة: هو الخبث، ولكن الشارع أراد أن ينزه عباده عن صريح الألفاظ المذمومة، فعندما تقول لفلان: أنت خبيث؛ فإنه يفهمها ويتأذى بها، لكنك لو قلت له: لقست نفسك. فسيقول لك: وما معنى ذلك؟ وسيبحث عنها في لسان العرب -مثلاً- فيبحث في حرف اللام والقاف والسين، ويبحث في آخر حرف في الكلمة الثلاثية وهو السين، وبعد ذلك بحرف اللام ثم القاف بين اللام والسين. قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا سفيان بن عيينة وحدثنا أبو كريب محمد بن العلاء -وهو الهمداني الكوفي - حدثنا أبو أسامة -وهو حماد بن أسامة -كلاهما عن هشام عن أبيه -أي: حماد بن أسامة وابن عيينة يرويان عن هشام بن عروة عن أبيه عروة بن الزبير - عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يقولن أحدكم: خبثت نفسي، ولكن ليقل: لقست نفسي). وهذا حديث أبي كريب، أما حديث أبي بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه قال نفس الحديث ولم يذكر (لكن). وحدثنا أبو كريب حدثنا أبو معاوية -وهو محمد بن خازم الضرير - وحدثني أبو الطاهر وحرملة قالا: أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقل أحدكم: خبثت نفسي، وليقل: لقست نفسي)]. ومعنى لقست: غثت. من الغثاء. أي: ضاقت. فإن قيل: فقد قال صلى الله عليه وسلم في الذي ينام عن صلاة الصبح في وقتها: (فأصبح خبيث النفس كسلان) بخلاف طيب النفس النشيط، فكيف نجمع بين هذا الحديث وبين قوله: (لا يقل أحدكم: خبثت نفسي)؟ ف A أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن صفة غيره، وهو شخص مبهم وليس معلوم الحال، فلا يمتنع إطلاق هذا اللفظ عليه ما دام مجهولاً، ومادام قد وقع في أمر مذموم وهو ترك صلاة الفجر. والله تعالى أعلم. وهذه الآداب التي ذكرناها إنما تتعلق بحقوق المسلم على المسلم، أو بحق المسلم على نفسه، وقد ورد لفظ الخبث في الروايات الكثيرة عن اليهود والنصارى والمشركين، فاليهود وصفهم بذلك إمامهم وسيدهم في ذلك الوقت عبد الله بن سلام فقال: (يا رسول الله! سلهم عني فإنهم قوم بهت) وفي رواية: (فإنهم قوم خبث)، وليست الحجة في قول عبد الله بن سلام، وإنما الحجة في إقرار النبي عليه الصلاة والسلام لهذا القول لما سمعه ولم ينكر عليه.

باب استعمال المسك وأنه أطيب الطيب

باب استعمال المسك وأنه أطيب الطيب قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: استعمال المسك وأنه أطيب الطيب]. الطيب أنواع متعددة جداً بلغت مئات الأصناف، والمسك هو أطيب الطيب، ويكره رد الريحان والطيب، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا ترد: الوسادة، والدهن، واللبن) والدهن هو العطر، والوسادة هي المخدة، عندما يعطيك شخص مخدة أو مسند أو شيء تجلس عليه أو تركن عليه يستحب لك قبول هذا العرض، وكذلك اللبن، والفلاحون يعرفون بالفطرة أن اللبن لا يرد، والشرع أيدهم في ذلك من باب الاستحباب لا من باب الوجوب، وكذلك الطيب قبوله مستحب في الشرع ورده ليس بحرام، وإنما هو مكروه كراهة تنزيه، أما رده لعلة فلا يكره. قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة -وهو حماد بن أسامة - عن شعبة قال: حدثني خليد بن جعفر -وهو ابن طريف الحنفي البصري أبو سليمان - عن أبي نضرة -وهو المنذر بن مالك بن قطعة العبدي - عن أبي سعيد الخدري - سعد بن مالك بن سنان - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كانت امرأة من بني إسرائيل قصيرة تمشي بين امرأتين طويلتين)]. طبعاً هذه مذمة، واحدة طولها مترين من هنا والأخرى طولها مترين من هنا وهذه طولها مائة وأربعين أو مائة وثلاثين سنتيمتر، أي: أن عيبها ظاهر بشدة، ولو أنها مشت بمفردها فالأمر يستساغ، لكن امرأة قصيرة بين امرأتين طويلتين، كأنها تنادي على نفسها بالعيب. قال: [(فلما علمت ذلك من نفسها، اتخذت رجلين من خشب)]. وما أكثر نساء اليوم اللاتي يتخذن الكعب العالي من أجل أن تبدو طويلة، ولذلك عندما تخلع المرأة هذه الجزمة أو الصندل تحس أنها نزلت من على سلم. قال: [(فاتخذت رجلين من خشب، وخاتماً من ذهب مغلق مطبق، ثم حشته مسكاً وهو أطيب الطيب)]. يعني: تزينت بالطول وبالرائحة. قال: [(فمرت بين المرأتين فلم يعرفوها)]. لأنهم يعرفون أنها قصيرة وليست صاحبة عطر. [(فقالت بيدها هكذا)]. يعني: أنا مثلكن وأحسن منكن. قال: [حدثني عمرو الناقد حدثنا يزيد بن هارون عن شعبة عن خليد بن جعفر والمستمر]. المستمر -هو ابن الريان الزهراني الإيادي أبو عبد الله البصري -قالا: سمعنا أبا نضرة يحدث عن أبي سعيد الخدري: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر امرأة من بني إسرائيل حشت خاتمها مسكاً والمسك أطيب الطيب)]. يريد هنا أن يبين من هذه القصة: أن المسك هو أطيب الطيب، بل هو أحب الطيب إلى النبي عليه الصلاة والسلام. [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب كلاهما عن المقرئ -وهو أبو عبد الرحمن عبد الله بن يزيد المقرئ - قال أبو بكر: حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ عن سعيد بن أبي أيوب حدثني عبيد الله بن أبي جعفر عن عبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من عرض عليه ريحان فلا يرده)]. الريحان يطلق على جميع أنواع الطيب؛ لما له من رائحة [(فإنه خفيف المحمل طيب الريح)]. يعني: خفيف الحمل ليس بثقيل. قال: [ومن حديث مخرمة عن أبيه عن نافع قال: (كان ابن عمر إذا استجمر استجمر بالألوة)]. (كان ابن عمر إذا استجمر) يعني: أشعل الجمار. وهذا لا يزال الآن يستخدم في بلاد العرب، فكان عبد الله بن عمر إذا أراد أن يطيب المكان أو نفسه أو الضيفان استجمر بالألوة، وهو ما يسمى الآن بالعود. قال: [(غير مطراة)]. يعني: استجمر بالعود ولم يخلطه بشيء. فقوله: (غير مطراة) أي: غير مخلوط. قال: [(وكافور)]. يعني: كان مرة يستخدم الألوة الذي هو العود الصافي غير مخلوط، ومرة يخلطه بكافور. [ثم قال: (هكذا كان يستجمر رسول الله صلى الله عليه وسلم)]. وفي أحاديث الباب: بيان أن المسك أطيب الطيب وأفضله، وأنه طاهر يجوز استعماله في البدن والثوب، ويجوز بيعه وهذا كله مجمع عليه إلا ما جاء عن الشيعة فهو باطل، ويرد عليهم بإجماع المسلمين والأحاديث الصحيحة في استعمال النبي صلى الله عليه وسلم المسك واستعمال أصحابه كذلك له، وهو مستثنى من القاعدة المعروفة: (أن ما أبين من حي فهو ميت)، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (هو أطيب الطيب)، والشيعة قالوا: المسك خبيث، وحرموه؛ لأن المسك يؤخذ من دم الغزال، والحقيقة أنه

الأسئلة

الأسئلة

حكم ارتداء النساء لبعض أنواع الملابس كـ (الاسترتش) وغيرها

حكم ارتداء النساء لبعض أنواع الملابس كـ (الاسترتش) وغيرها Q هل يجوز ارتداء (الاسترتش) و (المينوجب) في المسجد؛ لأن بعض الأخوات يرتدين هذه الملابس في المسجد وفي صالات الأفراح، وأقرب هذه الأفراح هو الذي حضرته أنت في مسجد الحرمين بشارع خط مصر القديمة؟ A هذه الملابس لا بأس أن تلبسها المرأة سواء في الداخل أو في الخارج، لكن إذا لبسته في الخارج لا يجوز لها أن تظهر هذه الملابس، بل تلبس عليها العباءة أو فستان طويل أو غير ذلك.

حكم ذكاة الجنين إذا خرج حيا بعد ذبح أمه

حكم ذكاة الجنين إذا خرج حياً بعد ذبح أمه Q قوله عليه الصلاة والسلام: (ذكاة الجنين ذكاة أمه). ما حكم الجنين إذا نزل حياً؟ A لو نزل حياً فإنه يذبح.

بيان ما تدرك به الركعة

بيان ما تدرك به الركعة Q هل يكون إدراك الركعة بإدراك الركوع؟ A نعم. يتم إدراك الركعة بإدراك الركوع حتى على مذهب القائلين بوجوب قراءة الفاتحة، فمن أدرك الركوع فقد أدرك الركعة وإن فات محل قراءة الفاتحة.

حكم من أصابته نجاسة وهو يصلي

حكم من أصابته نجاسة وهو يصلي Q طفل تبول على ثياب أمه وهي تصلي، فهل تقطع الصلاة أم تتمها؟ A تقطعها وتغسل ملابسها.

حكم من جامع زوجته في دبرها

حكم من جامع زوجته في دبرها Q رجل جامع زوجته في دبرها، فماذا عليه للتكفير عن ذنبه؟ A أولاً: لابد أن تعلم أن هذا من الكبائر، وإتيان المرأة في الدبر من الكبائر، وأنه فعل قوم لوط، وأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لعن الله من أتى امرأة في دبرها). فهذا الذنب يستوجب التوبة؛ لأنه كبيرة من الكبائر، فيجب عليك أن تتوب إلى الله عز وجل، وإن كانت امرأتك قد رضت بذلك فالتوبة في حقها لازمة كذلك، وعليكما أن تكثرا من النوافل حتى تقتربا من الله كما ابتعدتما عنه فلا كفارة إلا ذلك، أما الجماع في الحيض فكفارته دينار أو نصف دينار، هذه كفارة من أتى امرأته في الحيض؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من جامع امرأته وهي حائض فليتصدق بدينار). وفي رواية: (بنصف دينار) والدينار من الذهب، ويقدر بحوالي مائة وستين جنيهاً بالعملة المصرية.

حكم الإكثار من لفظ (سيدنا) عند ذكر الصحابة رضوان الله عليهم

حكم الإكثار من لفظ (سيدنا) عند ذكر الصحابة رضوان الله عليهم Q هل من الأفضل حين نتكلم عن الصحابة أن نقدم قبل ذكر أسمائهم لفظ (السيد)، مثل: سيدنا عمر، أو سيدنا أبو هريرة علماً بأن هذا يكون من باب التأدب معهم وتوقيرهم، فهل هذا جائز أم لا؟ A هو جائز، لكن الإكثار منه ليس من هدي السلف؛ لأننا لم نسمع أن أحداً من التابعين كان يداوم على ذلك، فالمداومة عليه ليست من السنة، ولا من هدي السلف، وإن كانوا جميعاً في حقيقة أمرهم أسياد لمن أتوا بعدهم، ولكن المداومة على ذلك ليس من نهجهم ولا من نهج التابعين ولا أتباع التابعين ولا الأئمة المتبوعين.

حكم العمل في شركات التبغ

حكم العمل في شركات التبغ Q ما حكم العمل في شركات الدخان؟ A العمل في شركات الدخان حرام.

كتاب الصيام - فضل شهر رمضان

شرح صحيح مسلم - كتاب الصيام - فضل شهر رمضان شهر رمضان شهر عظيم، فضله الله تعالى على سائر الشهور؛ فهو شهر القرآن، وشهر الرحمة، وشهر المغفرة، وشهر العتق من النيران، وفيه تفتح أبواب الجنان، وتغلق أبواب النيران، وتصفد الشياطين، ويقبل الناس فيه على طاعة الله عز وجل، وهو شهر الصدقات، والإحسان إلى الفقراء والمساكين وذوي الحاجات، وفيه ليلة هي خير من ألف شهر، وفضائله كثيرة، وهذا فضل من الله تعالى ورحمة بهذه الأمة.

معنى الصيام لغة وشرعا

معنى الصيام لغة وشرعاً إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده رسوله. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. مع كتاب جديد وهو كتاب الصيام، أما لفظ (كتاب) فقد شرحناه مراراً، وهو الذي يضم عدة مسائل متشابهة، أو يخدم قضية واحدة، كما لو قلنا: كتاب الزكاة، كتاب الصيام، كتاب الحج، فكل كتاب من هذه الكتب إنما يتكلم عن الموضوع العام الذي خط لأجله، فكل مسألة من هذه المسائل التي تندرج تحت هذا الكتاب إنما تخدم قضية واحدة وهي قضية الزكاة، أو قضية الحج، أو قضية النكاح، أو الصلاة أو غيرها. إذاً: فمعنى كتاب أنه الذي يضم عدة مسائل متشابهة في داخله، كما لو قلت: كتيبة، فالكتيبة هي التي تضم عدة أفراد ومعدات متشابهة، فالذي في كتيبة المشاة غير الذي في كتيبة المدرعات، فالمدرعات إنما تضم عدة معدات وأفراد، وتهتم بجانب من الجوانب يختلف عن غيره، وكما تقول: كتابة، فلو أنك أخذت ورقة فيها كلام لقلت فيها كتابة، فالكتابة هي التي ضمت عدة أحرف، فكونت كلمة أدت معنىً معيناً، فإذا قلنا: كتاب الصيام، فقد بدأنا في كتاب عام يتكلم في فرعيات موضوع واحد وهو موضوع الصيام. وأما الأبواب فهي تلك الأبواب المختلفة التي عالج كل باب منها فرعاً معيناً من فروع هذا الكتاب. فالباب: هو ما يدخل منه إلى غيره. وأما الصيام فمعناه في اللغة: الإمساك، ولذلك لا يشترط أن يكون الإمساك عن الطعام والشراب، بل يمكن أن يكون الإمساك عن الكلام؛ لأنك إذا أمسكت عن أي شيء فأنت صائم، ولذلك قالت مريم عليها السلام: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} [مريم:26]، فهي نذرت لله إمساكاً عن الكلام، وتعبدت إلى الله عز وجل بهذا الإمساك، فالصيام في اللغة يطلق على الإمساك: الإمساك عن الكلام، عن الطعام، عن الشراب، عن الشهوة. أما الإمساك في الشرع: فإنه الإمساك عن الطعام والشراب والشهوة في وقت معين من شخص معين بنية. ويكون هذا الإمساك من شخص معين وهو المسلم؛ لأن الصيام من غيره لا يصح ولا يقبل، فمهما صام اليهود ومهما صام النصارى، فإن دينهم وشرعهم منسوخ، وإن الله تبارك وتعالى لا يقبل من أحد ديناً إلا دين الإسلام، فمهما صام غير المسلم فإنه لا يقبل منه، ولذلك الصيام واجب في حق المسلم البالغ القادر المقيم. من شخص معين، في وقت معين معلوم، وهو من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.

حكم النية في صيام الفرض والنفل

حكم النية في صيام الفرض والنفل الركن الأعظم في هذا الصيام: النية؛ لأن النية هي التي تحدد عبادة العازم، سواء كانت هذه العبادة فرضاً أم نفلاً، سواء كانت عادة أو عبادة، ولذلك لو امتنع رجل عن الطعام والشراب لا بنية العبادة وإنما بنية الانتحار هل يقبل منه هذا الصوم؟ هو قد امتنع وأمسك عن الطعام والشراب، ولكنه لم يتقرب بهذا الامتناع وهذا الإمساك وهذا الصيام إلى الله عز وجل، وإنما أراد أن ينتحر وأن يموت من شدة الجوع، وأمسك عن الطعام والشراب حتى هلك، فهل يعد هذا عند الله أو عند الناس صائماً؟ لا؛ لأنه لم ينو بهذا الإمساك وجه الله عز وجل، مثل من أراد أن يعمل إضراباً، فقال: أنا مضرب عن الطعام والشراب إلى أن تعملوا لي كيت وكيت وكيت، فقيل له: لن نفعل، واستمر هو في صومه وفي إضرابه عن الطعام والشراب حتى مات. لغة يقال له: ممسك؛ لأن الإمساك هو: الامتناع، وقد امتنع بالفعل، يعني: صام، لكن لا نقول أبداً: إن هذا الرجل الذي امتنع عن الطعام والشراب مضرب صائم، لا يمكن أن يصح هذا في الاصطلاح الشرعي وإن كان صحيحاً من جهة اللغة؛ لأن الاصطلاح الشرعي تلزم فيه النية، وهي نية القربة ونية العبادة، وهذا لم يفعل ذلك بنية القربة ولا العبادة، وإنما فعلها لأجل مصلحته الشخصية أو تحقيق غرضه الذاتي. النية في صوم الفرض لازمة من الليل، بخلاف النية في صوم النفل؛ ولذلك أجمع العلماء على وجوب إرفاق النية في الفرض، ولا فرض غير شهر رمضان، فتكون من أول شهر رمضان. واختلفوا في وجوب تجدد هذه النية في كل ليلة من ليالي الشهر، فمنهم من قال: إنما يكفي نية واحدة للشهر كله، ومنهم من قال: لا بد من تجديد النية في كل ليلة من طلوع الفجر لليوم الذي بعد هذه الليلة، والذي يترجح لدي أن النية الواحدة في أول الشهر كافية في إتمام هذا الشهر بهذه النية، إلا أن يحدث حدث، فالنية تكفيك في أول الشهر، ما إن تسمع أن رمضان سيدخل غداً تفرح وتسعد وتنعقد نيتك على صيام هذا الشهر من أوله إلى آخره، وهذه النية كافية ولا يلزم تجددها في كل ليلة، ولكن قد يطرأ على هذا الناوي وهذا الصائم ما يعكر عليه هذه النية، كأن يطرأ عليه سفر، والسنة في السفر الإفطار، ومن كان يقدر أن يصوم في سفره فهو مخير بين الإفطار والصوم؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم سافروا وغزوا مع النبي عليه الصلاة والسلام، فمنهم من صام ومنهم من أفطر، لا يعيب أحدهما على الآخر. أما قوله عليه الصلاة والسلام: (ليس من البر الصوم في السفر) فهذا لغير القادر، لما وجد النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه يصبون الماء على رجل قال: (ما باله؟ قالوا: يا رسول الله! إنه صائم، فقال: ليس من البر الصيام في السفر)؛ لأنه غير قادر على الصيام فكاد أن يهلك، ولكنه أصر على أن يصوم مع عدم قدرته، بل النبي عليه الصلاة والسلام نفسه صام هو وعبد الله بن رواحة في أثناء السفر. فأقول: إن السفر علة قاطعة للنية، والصيام ليس مفروضاً ولا واجباً إلا على المقيم، فإذا سافر المرء جاز له أن يفطر، فإذا أفطر انقطعت نيته التي عقدها في أول الشهر، فإذا رفعت هذه العلة وهي علة السفر يلزمه أن يجدد النية مرة أخرى، من أجل ذلك نقول: إن النية تلزمك مرة واحدة إذا كانت الظروف مواتية ومستقرة من أول الشهر إلى آخره دون انقطاع، لكن إذا انقطعت هذه النية بأحد الأعذار الشرعية كالسفر وكالمرض، كشخص في أثناء الشهر مرض مرضاً عجز معه عن مواصلة الصوم فأفطر، وفطره قربة لله عز وجل، فنيته قد انقطعت، فإذا شفي من علته وزال عذر المرض وأراد أن يصوم مرة أخرى فإنه يلزمه تجديد النية مرة أخرى. أما النافلة من الصيام فإن النية لا تلزم الصائم من الليل، وإنما بإمكانه أن يعقد النية ولو في أثناء النهار قبل الزوال، والدليل أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا دخل بيته وقدم إليه الطعام أكل، وإذا اعتذر إليه بأنه لا يوجد طعام قال: إني صائم، وسيأتي هذا معنا بإذن الله تعالى.

باب فضل شهر رمضان

باب فضل شهر رمضان قال المصنف رحمه الله: [باب فضل شهر رمضان]. إن لرمضان فضلاً وللصيام فضلاً آخر، فهو هنا يتكلم عن فضل شهر رمضان، وفضائله كثيرة لا تكاد تحصى. فذكر الإمام مسلم تحت هذا الباب الذي بوبه النووي عليه رحمة الله بعض فضائل شهر رمضان، فهذا الشهر فضائله متعددة وكثيرة، ولكن الإمام مسلماً عليه رحمة الله لم يقع إليه على شرطه إلا بضعة أحاديث في هذا الموضوع.

شرح حديث: (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار)

شرح حديث: (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار) قال: [حدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة وابن حجر قالوا: حدثنا إسماعيل، وهو ابن جعفر]. الإمام مسلم سمع من الثلاثة جميعاً قالوا: حدثنا إسماعيل، فلما كان إسماعيل في هذه الطبقة كثيرين، خشي الإمام مسلم عليه رحمة الله أن يختلط إسماعيل بن جعفر بغيره، فقال: وهو ابن جعفر؛ تمييزاً له عن غيره. قال: [عن أبي سهيل عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين)]. قوله: (إذا جاء رمضان) هذا يدل على جواز إطلاق هذا الاسم على الشهر دون أن تقول: شهر رمضان، وبعض أهل العلم كرهوا أن يقال: رمضان هكذا بغير إضافة، قالوا: ولا يصح إلا أن يقال: شهر رمضان. والصواب الذي أيدته الأدلة: أن إطلاق رمضان على الشهر دون إضافة أمر صحيح، وإنما القول بعدم جواز ذلك غير صحيح؛ لأنه اتكأ على دليل ضعيف، وهذا الدليل الضعيف هو أن رمضان اسم من أسماء الله عز وجل، فإذا قلت: إذا جاء رمضان، يعني: إذا جاء الله عز وجل، فقالوا: مخافة أن يقترن هذا الشهر بالخالق؛ لأن الشهر اسمه رمضان، والله عز وجل من أسمائه رمضان، ولذلك كرهوا أن يقال في الشهر: رمضان، دون أن تقول: شهر رمضان، لكن الدليل الذي قضى بأن من أسماء الله عز وجل رمضان دليل ضعيف جداً، وأسماء الله عز وجل توقيفية لا يجوز فيها الاتكال على دليل غير صحيح؛ لأن الدليل الضعيف لا يعمل به في أرجح أقوال أهل العلم في فضائل الأعمال فضلاً عن الأحكام، فضلاً عن العقيدة، فضلاً عن الباب الذي هو بيت القصيد في الاعتقاد في أسماء الله تعالى وصفاته، فإذا سقطت حجة هذا الفريق القائل بأن من أسماء الله تعالى رمضان، فيبقى لنا أصل الجواز، هذا من جهة الحجة العقلية، وأما من جهة النقل فالنبي عليه الصلاة والسلام هو أعلم الناس بربه، وهو الذي قال: (إذا جاء رمضان)، ولم يقل: إذا جاء شهر رمضان. قوله: (فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين). أما فتح أبواب الجنة وإغلاق أبواب النار فهو من رحمة الله عز وجل وفضله لهذه الأمة، فلما كثرت طاعة المسلمين وإقبالهم على الله عز وجل في هذا الشهر بادر الله عز وجل بفتح أبواب الجنة، ولذلك لم يقل النبي عليه الصلاة والسلام: فُتِحَت أبواب الجنة وهو الفتح الطبيعي، وإنما قال: (فُتِّحَتْ) وهي صيغة مبالغة في فتح هذه الأبواب، أي: كل باب يفتح على مصراعيه، ومصراع الباب الواحد من أبواب الجنة كما بين المشرق والمغرب. فهذه الأبواب تفتح عن آخرها استقبالاً لأهل الله عز وجل، للصائمين والقائمين والذاكرين والتالين وغير ذلك من أقسام الطاعة. ومن مزيد فضله عز وجل على هذه الأمة أن يغلق أبواب النيران في هذا الشهر العظيم، يعني: توصد تمام الإيصاد، وتغلق تمام الإغلاق.

أسباب ارتكاب الناس للمعاصي في رمضان رغم تقييد الشياطين فيه

أسباب ارتكاب الناس للمعاصي في رمضان رغم تقييد الشياطين فيه هناك إشكال يدور في رءوس كثير من الناس من قوله عليه الصلاة والسلام: (وصفدت الشياطين)، يعني: سلسلت وقيدت وربطت، فالشبهة عند الناس: رؤيتهم لسائر أنواع المعاصي والذنوب في رمضان، فيقولون: إذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين)، فإذا كانت الشياطين هي المصدر لهذه الذنوب والمعاصي والآثام، وأن الله تعالى صفدها وأغلها وربطها فمع ذلك نرى هذه المعاصي؟ قبل أن نبدأ لابد أن يعتقد المسلم بقلبه أن النبي عليه الصلاة والسلام لما أخبرنا بهذا الخبر كان صادقاً، وهذه الشبهة محلها عندي لا عند النبي عليه الصلاة والسلام، فلا نرد على النبي قوله، ولا نشك في خبر الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام، فإذا صح وحاك في نفسي معنى هذا الكلام، فإنما شفاء العي السؤال. لكن كثيراً من الجهال في هذا الزمان إذا لم يستقم النص مع عقله القاصر يبادر بتكذيب الله عز وجل، ويبادر بتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا ليس هو المنهج العلمي الصحيح عند السلف، وإنما المنهج العلمي الصحيح عند السلف هو التلقي وسؤال العلماء عما لا يعلمونه، أما مبادرتهم بالتكذيب والجحود والإنكار وغير ذلك، فهذا ليس مذهباً صحيحاً لطلب العلم، وإنما إذا أشكل عليك أمر فيجب عليك أن تسأل فيه حتى تعلمه. أما كون الله عز وجل قد صفد الشياطين وغلها وسلسلها فما بالنا نرى هذه المعاصي؟ فهناك عدة أجوبة: الجواب الأول: أن المردة وهم العتاة من الشياطين هم الذين يسلسلون ويصفدون ويغلون في شهر رمضان، دون غيرهم من سائر الشياطين. الجواب الثاني: أن المعاصي ليس مصدرها فقط الشياطين، وإنما لها مصادر أخرى وهي: النفس الأمارة بالسوء، والهوى أي: اتباع الهوى، والغفلة وغير ذلك من الأسباب الباعثة والحاضة على ارتكاب الذنوب والآفات والمعاصي. الجواب الثالث في أسباب وقوع المعاصي: أن الله عز وجل إذا كان قدر وقوع هذه المعاصي في شهر رمضان ومصدرها الشياطين؛ فإنما قوله عليه الصلاة والسلام: (وصفدت الشياطين) إنما أراد أن يبين أن معظم المعاصي التي تقع في غير رمضان لا تقع في رمضان، ولذلك لو نظرنا مثلاً: إلى الزناة أو إلى السارقين أو إلى قطاع الطرق وأصحاب هذه الكبائر تجد الواحد منهم يقول في شهر شعبان: هيا بنا نخرج ونعمل المعاصي والذنوب وغير ذلك، فيقول: نعملها قبل أن يهجم علينا رمضان! فيقول له قائل: وما المضرة في رمضان؟ فيقول: لا، إن رمضان له فضله، يعني: حتى قاطع الطريق يعلم أن رمضان له حرمة، فالذي يشرب سجائر وحشيشاً وخمراً وغيرها من البلايا يكثر منه قبل رمضان؛ من أجل أن يكون عنده رصيد يكفيه طوال رمضان، وإن أحب ارتكاب المعصية يجعلها في ليل رمضان، مع أن الأصل أن العاصي لله عز وجل يستوي أن تقع المعصية في رمضان أو في غيره، في ليل رمضان أو في نهاره. وإذا أتيت إلى شخص مدمن على السجائر تجده يشعل سيجارة بعد سيجارة بعد سيجارة بعد سيجارة يشرب في النهار عشرين أو ثلاثين سيجارة، فتأتي لتنصحه بعدم التدخين، فيقول لك: لا أستطيع أن أمتنع عنها، إنني أشرب سجائر وأنا ابن عشر سنوات، والآن أنا ابن سبعين أو ثمانين سنة لا أستطيع تركها، وقد جربت وفشلت مراراً، وهذا الشخص في رمضان لا يحتاج إلى وصاية تراه يمتنع مباشرة عن التدخين في نهار رمضان، وبالتالي يقول: لا أستطيع أن أتركها ساعة في غير رمضان، لكن في نهار رمضان يتركها ساعات؛ لأن الوازع الإيماني في قلبه دفعه إلى لزوم الطاعة في الوقت الذي أمر الله عز وجل فيه بطاعته، لكن في الليل يعود إلى شرب هذا الخبيث. كذلك الذي لا يملك شهوته أمام هذا البهرج النسوي يستطيع أن يكبح جماحه في نهار رمضان، وإن فكر في الزنا ليلاً، أريد أن أقول لك: إن المعاصي عند أصحابها مرفوضة في رمضان. إذاً: الجواب الثالث في تفسير قوله عليه الصلاة والسلام: (وصفدت الشياطين) أي: قلت المعاصي وحُجِّمت لا أنها انعدمت بالكلية؛ لأن هذا نتيجة تصفيد الشياطين وقلة إغوائهم وغوايتهم لأصحاب المعاصي.

شرح حديث: (إذا كان رمضان فتحت أبواب الرحمة وغلقت أبواب جهنم)

شرح حديث: (إذا كان رمضان فتحت أبواب الرحمة وغلقت أبواب جهنم) قال: [وحدثني حرملة بن يحيى التجيبي المصري أخبرنا ابن وهب أخبرنا يونس عن ابن شهاب]. إذا جاء بين ابن وهب وابن شهاب الزهري يونس فإنما هو يونس بن يزيد الأيلي. قال: [عن ابن أبي أنس أن أباه حدثه أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان رمضان)]. (كان) بمعنى: صار كائناً وموجوداً، وهو بمعنى الرواية الأولى: (إذا جاء رمضان). أي: إذا جاء رمضان وصار كائناً. قال: [(فتحت أبواب الرحمة)]، وفي الرواية الأولى: (فتحت أبواب الجنة) وما الرحمة إلا ثمرة من ثمار الجنة. قال: [(وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين)] أما كيفية سلسلة الشياطين فلا يعلمها إلا الله عز وجل. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حضر رمضان قال: قد جاءكم شهر مبارك) يعني: كله بركة. ثم قال: (افترض عليكم صيامه)، أي: فرض الله عز وجل علينا صيام هذا الشهر، إلا من كان صاحب عذر. ثم قال: (تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر -هي ليلة القدر، وهي أفضل عند الله عز وجل من ألف شهر- من حرم خيرها فقد حرم)، أي: من حرم خير هذه الليلة -وهي ليلة القدر- فهو المحروم حقاً، وهذا الحديث صحيح لغيره. وعن عرفجة قال: (كنت عند عتبة بن فرقد وهو يحدث عن رمضان، قال: فدخل علينا رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه عتبة هابه واستعظمه فسكت الرجل -أي: فسكت عتبة - قال: فحدث عن رمضان -أي: فحدث هذا الرجل عن رمضان- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول)، إذاً: هذا الرجل الذي لم يذكر اسمه في هذه الرواية صحابي؛ لأنه قال: سمعت رسول الله عليه الصلاة والسلام، والصحابي لا تضر جهالة عينه؛ لأن الصحابة كلهم عدول، ولذلك عدم ذكر اسم الصحابي في الرواية لا يؤثر على الصحة ألبتة. قال: (فحدث هذا الرجل عن رمضان، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول في رمضان -أي: يقول في حق رمضان وفي فضل رمضان- تغلق أبواب النار، وتفتح أبواب الجنة، وتصفد الشياطين). أنا أريد أن أؤكد على معنى (تصفيد الشياطين)؛ لأنني سمعت سنة (1990م) أحد المشايخ على منبر الجمعة يقول: هذا الحديث وإن كان متفقاً عليه إلا أنه منكر جداً عندي، ونكارته في إثبات الوضاعين لهذه الجملة: (وتصفد الشياطين)؛ فإذا كانت الشياطين تصفد في رمضان فما بالنا نرى المعاصي؟ ثم قال: والواقع يشهد على تكذيب هذا الجزء من الحديث. أقول: للأسف الشديد إن الذي قال هذا الكلام هو رجل منسوب إلى العلم، ويتكلم بألسنتنا، ويدين بديننا، ويصعد المنابر ويعظ الناس. فلما فرغ من خطبته قلت: يا عبد الله! أما يجدر بك أن تسأل أهل العلم إذ لم تعرف، فإنما شفاء العي السؤال؟ قال: أنت العليم؟ قلت: هذا لا يضرني، إنما الذي يضرك أن تهجم على النبي عليه الصلاة والسلام بعد مماته، لو أنك في مجلس النبي عليه الصلاة والسلام وقال هذا الكلام أكنت تجرؤ أن ترد عليه؟ قال: لا، لو قال ذلك ما كنت أجرؤ على الرد عليه، قلت: بلى والله قد قاله، وهذا الكلام ثابت في الصحيحين وغيرهما، فإذا به يهجم على الصحيحين وعلى أصحاب الصحيحين، فقلت: يكفي، لا يحاسبك الله عز وجل على ما تقول؛ لأنك مجنون، والقلم مرفوع عنك، ثم تركته. قال صلى الله عليه وسلم: (تغلق أبواب النار، وتفتح أبواب الجنة، وتصفد فيه الشياطين، قال: وينادي فيه ملك: يا باغي الخير أبشر، -وفي رواية-: أقبل) يعني: يا مريداً لفعل الخير أقبل، فإن هذا هو موسم الطاعة، مع أنك مأمور بالطاعة في كل وقت وحين، ولكن هذا الموسم المتعارف عليه الذي هو منحة الله عز وجل لعباده. ثم قال: (ويا باغي الشر أقصر)، يعني: ارجع عن شرك؛ مخافة أن تقبض في هذا الشهر الذي هو محل الطاعة وأنت على هذا الشر وهذه المعصية. قال: (ويا باغي الشر أقصر، حتى ينقضي رمضان)، يعني: تصور أن الله عز وجل يسخر لك ملكاً ينادي عليك من أول يوم في رمضان إلى آخر يوم: يا باغي الخير أقبل وأبشر، ويا باغي الشر أقصر، من أول رمضان إلى أن تسمع أن غداً العيد، وقد يسأل امرؤ نفسه، فيقول: من أنا حتى يسخر الله عز وجل لي هذا الملك ينادي عليّ شهراً كاملاً، وأنا أحياناً أعصي الله وأحياناً أعرض وأجهل وغير ذلك؟ لو عرفت من أنت لكنت طائعاً، إذا كنت طائعاً لله عز وجل فأنت خير من هذا الملك الذي ينادي عليك، ولذلك اختلف أهل العلم عليهم جميعاً رحمة الله عز وجل أيهما أفضل: الملائكة أو البشر؟ ولقد حقق ش

الأسئلة

الأسئلة

الحكم على حديث: (أتدرون من اليهودي من أمتي من سمع الأذان ولم يأت)

الحكم على حديث: (أتدرون من اليهودي من أمتي من سمع الأذان ولم يأت) Q ما صحة هذا الحديث: (أتدرون من اليهودي من أمتي؟ قالوا: أفي أمتك يهود يا رسول الله؟ قال: اليهودي من أمتي من سمع الأذان ولم يأت)؟ A لو صح هذا الحديث لكان أقوى حجة لمن يقول: إن الجماعة واجبة، والذين يقولون بوجوب صلاة الجماعة لم يجرءوا على أن يحتجوا بهذا الحديث؛ لأنه موضوع ومختلق ومصنوع غير صحيح، لم يقله النبي عليه الصلاة والسلام، ولم نسمع به.

حكم أخذ الأجرة على الإمامة والخطابة

حكم أخذ الأجرة على الإمامة والخطابة Q أنا شاب في حاجة شديدة إلى المال، وقد عرض علي خادم أحد المساجد أن أتولى إمامة هذا المسجد في الخمس الصلوات مع خطبة الجمعة، مقابل مرتب أو مكافأة شهرية، فهل المرتب حلال أم حرام، مع العلم بأنني في حاجة إلى هذا المال ولا أعمل أي عمل آخر، أفتونا أثابكم الله؟ A أخذ الأجرة على العلم جائز بشروط، فإذا اختلت هذه الشروط فالحكم يدور بين الحرمة والكراهة. الشرط الأول: ألا يكون عندك ما يغنيك، وقد تحقق هذا الشرط فيك، أن تكون فقيراً وفي حاجة شديدة إلى المال، وإذا كان عندك ما يغنيك فيحرم أو يكره لك أخذ الأجرة على قال الله وقال رسوله. الشرط الثاني: أن يكون أخذك لهذه الأجرة بنية التفرغ لتعليم الناس، وإخراجهم من ظلمات الجهالة إلى دين الله، لا شك أنك لا تأخذ هذه الأجرة مقابل العلم أو ثمناً للعلم؛ لأن العلم أعظم من كل ثمن، وإنما تأخذ الأجرة؛ لأنك حبست نفسك على تعليم الناس، ولولا ذلك لسلكت الأرض يميناً ويساراً لتحصيل معاشك. الشرط الثالث: أن يتعين عليك هذا العلم، بحيث يكون في حقك واجباً لا مهرب منه، إذا لم تقم به أنت لا يقوم به أحد غيرك، وبالتالي يأثم الجميع، أضرب لذلك مثلاً: هب أنك في قرية أو في نجع، وهذا المكان بعيد عن أهل العلم وليس فيه إلا أنت مؤهل لأن تعلم الناس الكتاب والسنة، وأن تعلمهم أمور دينهم، وأن تفتيهم فيما ينزل بهم، فإنك كل يوم يأتيك عشرات: الذي طلق، والذي تزوج، والذي ضربه، والذي خبطه، فهؤلاء الناس يريدون من يفهمهم ويعلمهم ويوعيهم، فإذا قلت: لا، أنا ليس لي علاقة بكم، أنا صحيح رجل عالم، ولكن ليس لي علاقة بكم؛ لأنني مشغول بمعاشي، أنا أخرج الصبح وأرجع نصف الليل، فليس عندي استعداد أن يأتي شخص بعد نصف الليل ويقول: والله إنني طلقت أنا تزوجت أنا قتلت أنا عملت، لكن اذهبوا إلى غيري فليس لي دخل في هذا، نقول: لا، واجب على أهل القرية أن ينفقوا على هذا العالم، وأن يفرغوه تماماً لهذه الأمة العظيمة، ولذلك يقول الله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122]، ففي هذه الحالة لو أن هذا العالم منعته ظروفه المعيشية من أن يتصدر لتعليم الناس ويفتي؛ فله أن يقول لأهل القرية: أنفقوا علي وعلى أولادي قدر الكفاف، وقدر الحاجة وقدر الضرورة. الشرط الرابع: ألا يشترط أجراً معيناً لهذا العلم. وبالمناسبة أذكر من حوالي عشر سنوات أو أقل أن شخصاً جاء ليؤم قوماً في أحد المساجد، فلما انتهى الشهر انتظر يريد نوالاً وأجرة من الناس على إمامته فلم يعطه أحد، وفي الأسبوع الثاني جاء إلى المسجد فلم يصعد على المنبر يوم الجمعة، فقالوا له: هذه الخمسين جنيهاً أجرة الشهر الماضي، والخمسين جنيهاً أجرة هذا الشهر سنجمعها لك فيما بعد، فقال: لن أصعد إلا بمائة جنيه، فقالوا له: اصعد ونحن نعطيك، قال: أبداً ادفعوا المائة أولاً، فما عملتم بي قبل ذلك كفيل بأنني أخشى أنني أهضم في كل مرة، والله العظيم لن أصعد المنبر حتى تدفعوا المائة جنيه. أقول: لو لم يكن هذا حراماً فهو من أعظم الأمور المخلة بالمروءة، كان عليه أن يصعد المنبر ويخطب ولا يشترط مبلغاً معيناً، بدلاً من أن يضيع صلاة الجمعة على الناس. إذاً: هذا الفعل وإن لم يكن حراماً فهو من أعظم الأمور خسة وإخلالاً بالمروءة. أدلة أخذ الأجرة على التعليم أو على التفرغ للولايات العامة: الدليل الأول: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه هو أول خليفة للمؤمنين في الإسلام، كان يأخذ على الخلافة -وهي أعظم الأمور العامة في الإسلام- أجراً من بيت المال، وكان يعمل بالتجارة في زمن النبوة وقبل زمن البعثة، فلما تولى الخلافة اقتطعوا له مبلغاً من بيت المال، وذلك عندما لقيه عمر بن الخطاب في الطريق فقال: إلى أين يا خليفة رسول الله؟ قال: إلى السوق لأكتسب، قال: ألا تشغلك الإمارة والخلافة عن هذا؟ قال: وهل أضيع أولادي؟ قال: إنا سنجعل لك ثلاثمائة درهم من بيت المال، قال أبو بكر: لا تكفيني، وانتبه إلى قوله: لا تكفيني، هو لم يقل: لا تغنيني، يعني: هو يريد أن يأكل الكفاف، قال: لا تكفيني، وأنتم تعلمون أن أبا بكر الذي يقول هذا الكلام هو الذي قدم جميع ماله لله عز وجل ولرسوله عليه الصلاة والسلام، لكنه في موقف الضياع لا يضيع أولاده؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول) فإعالة هؤلاء في حق أبي بكر واجبة، فلم يتحرج أبو بكر أو يخزى أن يقول مثلاً: ثلاثمائة لا تكفيني؛ لأنه يعلم أنه سوف يضيع أولاده. إذاً: ما الفرق بين أبي بكر الصديق رضي الله عنه الذي يأخذ هذا الراتب من بيت المال؛ ليطعم به هو وأهل بيته، وبين هذا الذي يعلم الناس ويلقي لهم دروساً، ويخطب بهم الجمعات، وي

حكم التوظيف بشهادة جاءت عن طريق الغش

حكم التوظيف بشهادة جاءت عن طريق الغش Q موظف تقدم للوظيفة التي يعمل بها بشهادة الإعدادية العامة، وأثناء عمله حصل على شهادة الثانوية العامة، ولكنه غش في الامتحان، فهل يجوز تقديم هذه الشهادة إلى الجهة التي يعمل بها، مع اعتبار أنه ربما يرتفع مرتبه بسببها؟ A الذي أراه من أقوال أهل العلم الحرمة، والشيخ ابن عثيمين قال بحرمة الراتب الذي هو نتاج شهادة جاءت من غش في الامتحان، وهذه البلية عمت وطمت، لكن ينبغي أن يفرق في هذا بين طالب مجتهد في طلبه للعلم، وطالب آخر على العكس من ذلك غير مجتهد في ذلك، ولا يخطر على باله، فالطالب الأول يريد فقط أن يفتح عليه أحد ولو بكلمة، مثل الذي يحفظ قصيدة شعرية مطلوبة منه في الامتحان، والقصيدة كلها يستطيع قولها، لكن أول كلمة في أول بيت أغلقت عليه تماماً، هو حافظ حفظاً جيداً، لكن يريد من يفتح عليه بكلمة واحدة، ثم يقرؤها، فهذا لا يسوى بينه وبين الطالب الذي لم يحفظ القصيدة قط، ويريد أن يغش بالغصب، وإذا لم يغش فسوف يعمل كيت وكيت بالمراقبين. أما الأول فالفتح عليه أمر مشروع، وأما الثاني فلا يعمل معه ذلك إلا من باب الغش. واعلم أنه لا يمكن لمثل هذا الطالب الذي يغش أن ينجح في حياته أبداً، ولا أن يكون من الأوائل، ولا حتى من غير الأوائل؛ لأن الطالب الذكي الذي بذل كل وسعه يفتح الله عز وجل عليه، بما لا يفتح الله عز وجل به على رجل لا يعلم من العلم شيئاً.

كتاب الصيام - الصائم يدعى لطعام فيقول إني صائم

شرح صحيح مسلم - كتاب الصيام - الصائم يدعى لطعام فيقول إني صائم صيام التطوع من فضائل الأعمال، وهو من الأعمال التي جعل الله عز وجل أجرها وثوابها مما يتعلق به، مثله في ذلك مثل صيام الفريضة، إلا أن الصائم تطوعاً يحق له قطع صيامه متى ما أراد، فإن دعي إلى وليمة جاز له الإجابة وقطع الصيام جبراً لخاطر الداعي، كما يجوز له استحداث نية للصيام من النهار، كل هذا من تيسير الشارع للناس في عباداتهم.

باب الصائم يدعى لطعام فليقل: إني صائم

باب الصائم يدعى لطعام فليقل: إني صائم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: قال المصنف رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا دعي أحدكم إلى طعام وهو صائم فليقل: إني صائم)] هذا كلام عام في صيام الفرض وصيام الواجب وصيام النافلة، ربما دعاك غير مسلم في رمضان لتناول الطعام، فجوابك أن تقول: إني صائم، وربما دعاك مسلم صاحب عذر في ترك الصيام وهو لا يذكر أنه في صيام أو أنه في رمضان، فجوابك أن تقول: إني صائم. أما في صيام النافلة لو قال لك أحد الناس: تفضل للطعام عندنا، فقل: إني صائم. يقول الإمام النووي رحمه الله: (قوله: (فليقل: إني صائم) محمول على أنه يقول له اعتذاراً له وإعلاماً بحاله) يعني: يعتذر إليه عن سبب تخلفه عن قبول الدعوة أو الإقبال على الطعام بإظهار حاله، وذلك بأن يقول: أنا صائم، وليس هذا من الرياء، إلا أن ينوي الصائم بصيامه رياءً، وقلَّ أن ينوي صائم بصيامه رياء، فإن سمح له ولم يطالبه بالحضور سقط عنه الحضور، يعني: إذا دعاك إنسان يوم الإثنين أو يوم الخميس على الغداء وأنت تصوم هذين اليومين، فإما أن تقول له: أنا في هذا اليوم صائم، فإن أذن لك في عدم الحضور فقد سقط عنك وجوب الدعوة، وإن لم يسمح لك وجب في حقك الحضور، ولا يجب في حقك الطعام؛ لأنه يكفيك في حضرة الطعام أن تقول: إني صائم. أما إجابة الدعوة فواجبة، فليس هناك تلازم بين الحضور وأكل الطعام، بل يمكن أن تحضر ولا تطعم، وإنما يكون الواجب في حقك أمرين: الأمر الأول: أن تظهر حالك وتقول: إني صائم. الأمر الثاني: أن تدعو لصاحب الطعام، كما قال عليه الصلاة والسلام: (فإن أكلت وإلا فصل) والصلاة هنا بمعنى الدعاء، أي: الدعاء لصاحب الطعام. والأفضل للصائم إذا دعي إلى طعام إن كان يشق على صاحب الطعام صومه أن يفطر، وإلا فلا. يقول النووي رحمه الله: (إن كان يشق على صاحب الطعام صومه استحب له الفطر، وإلا فلا). يعني: إذا لم يكن مشقة على صاحب الطعام، ولا أن هذا الأمر يحزنه، لا بأس أن تستمر في صيامك هذا إذا كان صوم تطوع، فإن كان صوماً واجباً يحرم الفطر، كما لو كنت تصوم نذراً أو كفارة أو تقضي قضاءً من رمضان، أما في حال صوم التطوع فيجوز الفطر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن المتنفل في الصيام قال: (المتطوع أمير نفسه) يعني: المتنفل في الصيام لو بدأ ونوى الصيام من أول اليوم فإن له أن يفطر في الضحى، أو في الظهر، أو حتى في العصر، أو قبيل المغرب؛ لأنه أمير نفسه، لكن الأفضل والمستحب -لا الواجب- في حقه أن يكمل صومه ما دام قد شرع فيه، لكن لو أفطر فليس عليه شيء. وفي هذا الحديث: أنه لا بأس بإظهار نوافل العبادة من الصلاة والصيام وغيرهما إذا دعت إليه حاجة، والمستحب إخفاؤها إذا لم تكن هناك حاجة ولا ضرورة تدعو وتلح إلى إظهارها. كذلك لا تترك الأعمال العبادية خشية الرياء، فلا يقل قائل: أنا لن أصلي في المسجد وإنما سأصلي في البيت، هل يستقيم هذا؟ لا، لا يستقيم؛ لأن الله تعالى أمره بحضور الجماعة، والنبي عليه الصلاة والسلام أمره بحضور الجماعة، فهذا الباب لا يدخله رياء، وإن دخله رياء عند بعض الأشخاص فتجب المجاهدة في حقهم لدفع هذا الرياء، أما أن يتخلف عما أمره الله عز وجل به احتجاجاً بالرياء، فإن هذا أمر لا يستقيم. وفي هذا الحديث: الإشارة إلى حسن المعاشرة، وإصلاح ذات البين، وتأليف القلوب، وحسن الاعتذار عند سببه، هذا كلام مأخوذ من اعتذار الرجل عند صاحب الطعام بعدم الأكل بسبب الصيام، وهذا عذر في الغالب مقبول عند الناس، بخلاف ما لو قلت: أنا لا أريد الطعام، أو اعتذرت عن تناول الطعام ولم تبد سبباً، ربما يوسوس الشيطان لصاحب الطعام بأن هذا الضيف يأنف أن يأكل من طعامه، خاصة لو كان هذا الضيف غنياً وصاحب الطعام فقيراً، فربما حاك في نفس هذا الفقير صاحب الطعام أن هذا الغني يتعفف ويتأفف أن يأكل من طعام الفقير، فتحدث المفسدة، وتتغير القلوب، ولذلك من حسن العشرة إبداء السبب وإبداء العذر بين يدي صاحب العذر.

باب حفظ اللسان للصائم

باب حفظ اللسان للصائم قال المصنف رحمه الله: [باب حفظ اللسان للصائم]. ذكر ابن أبي شيبة وكذا عبد الرزاق في مصنفيهما باباً وهو: باب من رأى أن الغيبة تفطر، وباب آخر: باب من سب أو شتم أو رفث أو فسق أو جهل فلا صوم له. أي: فلا صوم له ألبتة، وليس فلا صوم له كامل الثواب. وهذه المسألة كانت عند السلف محل حساسية شديدة جداً، يعني: أن الصائم لا يرفث ولا يفسق ولا يجهل ولا يصخب ولا يسخر، وفي إحدى الروايات وهي شاذة وتصحيف: ولا يجهل، أي: لا يتكلم بكلام يجهل فيه ويسب الآخرين، فإن فعل فلا صيام له ألبتة، والراجح أن صيامه صحيح وهو مذهب أكثر العلماء مع قلة الثواب؛ لأن هذه المعاصي تؤثر على حصول ثواب هذا الصيام كاملاً. كما ذهب كثير من أهل العلم -وخاصة في هذا الزمان- إلى أن الذي يفسق ويرفث في الحج لا حج له، وقد حججت مع شيخ من أكابر علماء المغرب، فكان إذا رأى رجلاً يشرب سيجارة يذهب إليه ويقول له: حجك باطل، وكان إذا سمع رجلاً يسب أو يجهل أو يصخب أو يصيح بكلام فاحش بذيء يذهب إليه ويقول له: حجك باطل، فقلت له: ولم تبطل هذا الحج؟ قال: لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (فإن حج فلا يرفث ولا يفسق ولا يصخب)، والله تعالى يقول: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197]، فحمل النهي في الآية وفي الحديث على الفساد والبطلان. يعني: لو حصل هذا الفسوق وهذا الرفث والجدال في الحج فإنه يبطل الحج. هذا مذهب في غاية الشذوذ، والصواب: أن حجه صحيح ما دام قد استكمل الأركان والشروط، ولكن ثوابه محل نزاع، فلا شك أنه لا يستوي الذي التزم الكلام الطيب وابتعد عن الفاحش والبذيء والفسوق والجهالة وغيرها، مع الذي أتى بكل هذه المعاصي والمنكرات، لا يستويان عند الله عز وجل، وهذا هو الذي يستقيم مع مذهب السلف رضي الله تبارك وتعالى عنهم أجمعين. قال: [حدثني زهير بن حرب حدثنا سفيان بن عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رواية قال: (إذا أصبح أحدكم يوماً صائماً فلا يرفث، ولا يجهل، فإن امرؤ شاتمه أو قاتله فليقل: إني صائم، إني صائم)]. قوله: (فلا يرفث) الرفث هو أن يتكلم بكلام فاحش بذيء؛ ولذلك نفى النبي عليه الصلاة والسلام عن نفسه الفحش والتفحش؛ لأن هذا خلق ذميم، والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين تحلوا بمكارم الأخلاق، وتخلوا عن مساوئ الأخلاق، والفحش والرفث والفسوق والجهل، كل هذا استعاذ منه النبي عليه الصلاة والسلام، بل استعاذ منه جميع الأنبياء. وقوله: (ولا يجهل) الجهل قريب من الرفث، وهو خلاف الحكمة، وخلاف الصواب من القول والفعل. وقوله: (فإن امرؤ شاتمه) (شاتمه) أي: سبه. وقوله: (أو قاتله) أي: دفعه أو ضربه. وقوله: (فليقل: إني صائم، إني صائم) يقولها بصوت مسموع أو بصوت خافت، والأفضل أن يجمع بين الاثنين، لأن المرء لو أسمع الشاتم والساب الجاهل ذلك، فكأنه يقول له: ما يمنعني عنك إلا أني صائم، والله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أمراني ألا أدفع مقاتلتك بمقاتلة، وألا أدفع شتمك بشتم، وإنما أمراني أن أصبر وأحتسب، وأقول: إني صائم. وهذا الفعل والكلام الجميل يشهد له القرآن والسنة، بل يشهد له واقع الناس، تصور لو أن امرأً شتمك فصبرت عليه وسكت ودعوت له، فإنه لو كان ناراً مشتعلة لا بد وأنه سينطفئ؛ لأنك قابلت الإساءة بالإحسان، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان، ولو أنك دفعت شر الشرير بالخير والعفو والصفح لانقلب لك صديقاً حميماً، ولو دفعته بمثل ما بدأك به لاشتعلت الخصومة، حتى كادت أن تهلك الأرواح والأبدان. قال النووي رحمه الله: (واعلم أن نهي الصائم عن الرفث والجهل والمخاصمة والمشاتمة ليس مختصاً به، بل كل أحد مثله في أصل النهي). يعني: ليس معنى ذلك أنك إذا كنت صائماً فلا يجوز لك أن ترفث ولا تفسق إلا بعد أن تفطر، لا، وهناك ناس في أثناء الصيام يجاهدون أنفسهم في النهار على مضض وأول ما يفطر ينطلق في الخصومة والسباب وغير ذلك، هذا غير صحيح، فهذا الرجل هل استفاد فعلاً من الصيام؟ لا؛ لأن الله تعالى حرم الفحش والفسوق والجدال والخصومة والمقاتلة على صائم وغير صائم، ولكن حرمة هذه المساوئ الأخلاقية في حق المسلم حال الصيام آكد، وإن كانت حرام في كل الأحوال.

باب فضل الصيام

باب فضل الصيام قال: [باب فضل الصيام.

شرح حديث أبي هريرة: (كل عمل ابن آدم له إلا الصيام)

شرح حديث أبي هريرة: (كل عمل ابن آدم له إلا الصيام) حدثني حرملة بن يحيى التجيبي المصري - وهو من دمياط - قال: أخبرنا ابن وهب -وهو من أهل القاهرة - أخبرني يونس - وهو ابن يزيد الأيلي - عن ابن شهاب الزهري قال: أخبرني سعيد بن المسيب أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام هو لي وأنا أجزي به)]. نقول: هل الصلاة والزكاة والحج كل هذه ليست لله؟ بلى، إذاً: فلم خص الله عز وجل عبادة الصيام بنسبتها إليه دون غيرها من سائر العبادات؟ لأن الصيام يحتاج إلى إخلاص أكثر من أي عبادة أخرى، ولذلك الرياء في الصيام لا يفعله إلا المجان والفساق، أما المسلم المتخلق بأخلاق الإسلام، فإنه لا يمكن أن يصدر منه رياء في الصيام. فالصيام يقل فيه الرياء ويزداد فيه الإخلاص، ولذلك نسبه الله عز وجل إليه نسبة تشريف. وقيل: نسبة الصيام إلى الله عز وجل نسبة مجاز واستعارة. فقوله: (هو لي وأنا أجزي به) يعني: لما كان الصيام بهذه المثابة من الإخلاص فإن الله تعالى خزن جزاءه وأخفاه حتى عن الملائكة المقربين، حتى عن الكتبة الذين يكتبون الثواب والعقاب، خزنه وأخفاه عنهم وتولى هو سبحانه بنفسه جزاء الصائمين. يقول النبي عليه الصلاة والسلام: [(فوالذي نفس محمد بيده! لخلفة -وفي رواية: لخلوف- فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)] والخلوف: هي الرائحة الكريهة التي تخرج من فم الإنسان بسبب الصيام خاصة بعد العصر، والحقيقة أن هذه الرائحة لا تخرج من الفم، وإنما تخرج من المعدة؛ لخلوها من الطعام، فمهما حاولت أن تزيل هذه الرائحة من فمك لا تزول؛ لأن منبعها المعدة والبطن، وليست هي صادرة عن الفم. فهذه الرائحة عند الله عز وجل يوم القيامة أطيب من ريح المسك، ولما كان المسك هو أفضل الطيب وهو أحب الطيب إلى النبي عليه الصلاة والسلام ضرب به المثل، وغالب طيب العرب المسك، ومادته هي أحسن المواد، وهي تفوق جميع مواد العطور، فلما كان المسك بهذه المثابة ضرب النبي عليه الصلاة والسلام به المثل الذي يعرفه العرب ويستطيبونه. إذاً: هذه الرائحة التي تنبعث من فم الصائم وتتأففون منها هي عند الله يوم القيامة أطيب من ريح المسك، جزاءً وفاقاً؛ لما عملوه في الدنيا، لما صبروا وامتنعوا طاعة لله عز وجل عن الطعام والشراب والشهوة أنتج هذا الامتناع وهذا الحبس هذه الرائحة، فلما تأفف منه الناس في الدنيا أقبل أهل المحشر عليه في الآخرة يشمون رائحته الطيبة الزكية التي تخرج منه، جزاء طاعته في الدنيا.

شرح حديث: (الصيام جنة)

شرح حديث: (الصيام جنة) قال: [حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب - القعنبي - وقتيبة بن سعيد قالا: حدثنا المغيرة - الحزامي - عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصيام جنة)] (جنة) أي: سترة ووقاية ومانع من الرفث والآثام والمعاصي، كما أنه كذلك مانع من النار. وهذا معلوم حتى عند عامة الناس، لكن أحياناً يكون الفقه نقمة عند إنسان لا دين عنده ولا أخلاق، هو طالب علم وحافظ للعلم، لكن ما عنده دين ولا أخلاق، فتجد مثل هذا يقول: السرقة لا تؤثر على صحة الصيام. يقول: الذي يسرق صومه صحيح مع إثم السرقة، كالذي يصلي في ثوب مسروق صلاته صحيحة، لكنه آثم بلبسه الثوب المسروق، والذي يصلي في أرض مغصوبة وهو يعلم أنها مغصوبة، والنبي صلى الله عليه وسلم حرم الصلاة في الأرض المغصوبة، وحرم بناء المساجد في الأرض المغصوبة؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، لكن لو صلى إنسان فيها هل صلاته صحيحة أم باطلة؟ صحيحة، لكن مع الإثم. نقول لهذا: لو أتيت إلى واحد من عامة الناس ممن يسرق وقلت له في رمضان: لماذا لا تسرق في رمضان؟ لقال لك: نحن في الصيام، وهذا طالب العلم أجاز السرقة في نهار رمضان. كذلك تجد العامي يترك الصلاة في غير رمضان، فإذا دخل رمضان يقول لك: أنا أصوم وأصلي، يعني: لو أنت قلت له: الجمهور على أن تارك الصلاة غير كافر، وأن عبادته الأخرى مقبولة لما قبل منك ذلك، هو عنده إما أن يصلي ويصوم أو لا يصلي ولا يصوم، لابد من الأمرين معاً، هذا فقه العوام وهذا علم العوام، فأحياناً يكون عند العوام علم لم يبلغه طلاب العلم. إذاً: الصيام يكون بمثابة السترة في الدنيا بينك وبين المعاصي والذنوب، وفي الآخرة بينك وبين دخول النار. فالصيام عبادة واحدة فرضها الله عز وجل فيها إسعاد البشرية في الدنيا والآخرة، فما بالك بجميع الفرائض وجميع الواجبات وجميع النوافل التي إذا فعلها عبد أحبه الله عز وجل، كما في الحديث القدسي: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ورجله التي يمشي بها، ويده التي يبطش بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه) كل هذا من أجل النوافل، وفي بداية الحديث: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل)، وقد جمع هذا الحديث بين فائدة الفرائض وفائدة النوافل، فأحب الأعمال التي يتقرب بها العبد إلى مولاه أداء ما افترض الله عز وجل عليه، لكنه إذا زاد في النوافل وحافظ عليها وواظب عليها -وخير العمل أدومه وإن قل- فإن هذا يوصلك إلى حب الله عز وجل، والله تبارك وتعالى يجعلك من المقربين.

شرح حديث: (للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه)

شرح حديث: (للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه) قال: [وحدثني محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج أخبرني عطاء عن أبي صالح الزيات أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث يومئذ ولا يسخب -وهو بمعنى يصخب-، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده! لخلوف فم الصائم أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك، وللصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه)] فرح لأن الله عز وجل كافأه بعد هذا الحرمان في النهار بإطعام وري بدخول المغرب، ففرح بأنه حصل ما كان ممنوعاً، أو يفرح بأن الله تعالى أتم له صيام هذا اليوم؛ لأن الذي يقوي على الطاعة هو الله عز وجل، ولذلك الإنسان لو عجز عن إتمام الصيام في يوم من الأيام وما أطاقه أو سبب له ضرراً، فإن أفطر بعد الظهر أو بعد العصر يحزن حزناً شديداً لضياع هذا اليوم، مع أنه ما ضاع وهو صاحب عذر، ولذلك لا تجد رجلاً قد أفطر بعذر في رمضان يفرح بدخول المغرب، مثل هذا لا فرحة له، ولذلك المرأة الحائض حينما يجتمع زوجها وأبناؤها على الطعام عند أذان المغرب، تجد الرجل وأبناءه في منتهى الفرح والسرور بدخول المغرب، أما الزوجة فلا تفرح بذلك؛ لأنها لم تحصل على ما حصل عليه الزوج والأولاد من طاعة بالنهار. كذلك تفرح أيها المسلم إذا تمت طاعتك من غير أي كدر يكدرها، أو عكر يعكر عليها، بخلاف الذي يسب ويشتم ويصخب ويجادل ويفسق وغير ذلك، فهو يشعر في داخل نفسه أنه مجرد إنسان قد امتنع عن الطعام والشراب والجماع، والله عز وجل لا حاجة له في صيام هذا الصائم؛ لأنه لم يفد الفائدة المرجوة من صيامه، لأن غاية هذا الصيام أنه يهذب النفوس، ويرقق القلوب، ويقرب الصائم إلى مولاه، باجتناب جميع الذنوب والمعاصي، لا بالامتناع فقط عن الطعام والشراب والجماع: (فرب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش)، ورب صائم ليس له حظ في الصيام، إلا أنه عذب نفسه بالامتناع عن الطعام والشراب والجماع.

بلوغ تقوى الله هو ثمرة الصيام

بلوغ تقوى الله هو ثمرة الصيام والغرض الأسمى من الصيام هو بلوغ التقوى، كما قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]. إذاً: ثمرة الصيام هي أن تبلغ العبد منتهى وكمال تقوى الله عز وجل، ومعلوم أن السباب والشتام واللعان والفاسق والمقاتل لإخوانه لا يحصل التقوى، فهذا يعني أنه قد عذب نفسه، ولا بد أن يعذب نفسه حتى يسقط عنه فرض الصيام، لكن هل له عند الله تعالى ثواب؟ A ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش. فقوله: (وللصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه)، يعني: له فرحتان: فرحة في الدنيا، وفرحة في الآخرة، أما فرحة الدنيا فهي بإتمام نعمة الله عز وجل عليه، وأنه أتم اليوم والشهر، وختم له بعيد يفطر فيه ويسعد فيه ويهنأ ويلعب ويلهو لهواً مباحاً في ليله ونهاره، جزاء طاعته التي أقام عليها طيلة الشهر، وأما في الآخرة فإن الله تعالى يكافئه المكافأة التي وعد بها، قال: (إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به) فإذا تولى الكريم سبحانه وتعالى الجزاء والهدية والعطية، فاعلم أنها لا منتهى لها. فتصور لو أن ملكاً من ملوك الدنيا قال لعامله: كافئ فلاناً فإنه قد خدمنا، فإن مكافأة هذا العامل محدودة ولا شك، لكن لو قال العامل لهذا الملك: هل أكافئ فلاناً؟ فقال له الملك: لا، دعه، فأنا سأكافئه، فكيف ستكون الفرحة لدى هذا العامل الذي عمل وخدم هذا الملك قبل أن يقبض الهدية؟ فرحة عظيمة، وقلَّ أن يكون هناك ملك من ملوك الدنيا بخيلاً؛ لأن البخل يتنافى مع الأبهات ومع الملك، وهو في النهاية لا يدفع من جيبه، إنما يدفع من خزينة الدولة، فتصور لو أن ملكاً من ملوك الدنيا كافأ رجلاً من شعبه، فلا بد أن تكون هذه المكافأة عظيمة جداً، وإلا لا يستقيم أبداً أن يقول ملك: أنا أكافئك، ثم يعطيه عشرة جنيهات، فمن حق هذا المهدى إليه أن يردها، ويقول: لا، أنت ملك، ولا تعطيني على قدر عملي، وإنما تعطيني على قدر مكانك ومنزلتك، والعشرة الجنيهات لا تليق بك، فقد يقول له الملك: خذ خزينة البلد كلها. إذاً: فقوله: (وإذا لقي ربه فرح بصومه) لأن الملك سبحانه وتعالى هو الذي يجازيه ويكافئه، فلا بد أن تكون هذه المكافأة عظيمة جداً؛ لأنها من الكريم سبحانه وتعالى.

شرح حديث: (كل عمل ابن آدم له يضاعف، الحسنة عشر أمثالها)

شرح حديث: (كل عمل ابن آدم له يضاعف، الحسنة عشر أمثالها) قال: [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية - وهو محمد بن خازم الضرير - ووكيع عن الأعمش. (ح) وحدثنا زهير بن حرب حدثنا جرير - وهو ابن عبد الحميد الضبي - عن الأعمش. (ح) وحدثنا أبو سعيد الأشج واللفظ له حدثنا وكيع جميعاً عن الأعمش، عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل عمل ابن آدم له يضاعف، الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله عز وجل: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به)] يعني: أن عمل ابن آدم الذي أخلص فيه لله هو لله، والصيام فوق ذلك وزيادة على ذلك، فلما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بجزاء من توضأ ومن صلى في جماعة، وجزاء من حج، وجزاء من زكى، وجزاء من تصدق، فكل هذه الأعمال ثوابها بيّن مذكور في الأدلة، مع أنها عبادات وفرائض، لكن لما كان الصيام فوق ذلك وأحسن من ذلك، قال الله عز وجل: (إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به)، وذلك أن الصيام قد توافر فيه الإخلاص لله عز وجل. ثم قال الله تعالى: [(يدع شهوته وطعامه من أجلي)]. أي: مخلصاً لي، أما إن كان لم يتوافر في الصيام الإخلاص فلا شك أن عمله هذا لا ثواب له فيه. والطعام إذا ذكر بغير شراب يشمل الشراب، كما أن الشراب إذا ذكر بغير طعام يشمل الطعام، كالإسلام والإيمان، وكالمسكين والفقير، إذا ذكر أحدهما شمل معه الآخر، وإذا ذكرا جميعاً كان لكل واحد مدلول، ولذلك تجد في كتب الفقه: باب الأشربة، فتجده يتكلم فيه عن الأطعمة أيضاً، وأحياناً يقول: باب الأطعمة، أو كتاب الأطعمة ويتكلم فيه عن الأشربة؛ لأن إفراد الواحد يشمل معه الثاني، لكن لو قال: كتاب الأطعمة وبعده كتاب الأشربة فإنه يكون قد خص الأطعمة بباب أو بكتاب والأشربة بباب أو كتاب آخر. فقوله هنا: (يدع شهوته وطعامه من أجلي) الشهوة هي الجماع وما شابهه، والذي يشبه الجماع هو الاستمناء، وهذا بإجماع الأمة، فإذا استمنى الرجل أو استمنت المرأة انطفأت شهوته وانطفأت شهوتها، فالاستمناء شهوة وهو داخل في هذا الحديث. ومذهب جماهير العلماء سلفاً وخلفاً أن من استمنى في نهار رمضان وجب عليه القضاء، ومنهم من قال: القضاء والكفارة، والكفارة هي إطعام مسكين قدر على الصوم أو لم يقدر. أما شيخنا الألباني رحمه الله رحمة واسعة فقد خالف الأمة في مثل هذا، فقال: الاستمناء لا يفطر، ولا يفطر إلا الجماع. وهو رحمه الله مأجور في هذا الاجتهاد أجراً واحداً لا اثنين، ولا يجوز متابعة الشيخ على هذه الفتوى. قال: [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا محمد بن فضيل عن أبي سنان] وهو ضرار بن مرة، والكنية أفضل من الاسم؛ لأن ضراراً ومرة من الأسامي المكروهة، ضرار من الضرر ومرة من المرارة، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يغير الأسماء القبيحة، لكن هذا من أتباع التابعين. قال: [عن أبي صالح عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل يقول: إن الصوم لي وأنا أجزي به، إن للصائم فرحتين: إذا أفطر فرح، وإذا لقي الله فرح، والذي نفس محمد بيده! لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)].

شرح حديث: (إن في الجنة بابا يقال له: الريان)

شرح حديث: (إن في الجنة باباً يقال له: الريان) قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا خالد بن مخلد - وهو القطواني - عن سليمان بن بلال حدثني أبو حازم -وهو سلمة بن دينار - عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة باباً يقال له: الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة)]، لما كان الجزاء من جنس العمل كافأ الله عز وجل الذين عانوا الظمأ والعطش في الدنيا، بأن سمى بابهم الذي يدخلون منه خاصة -ولا يدخل معهم أحد-: باب الريان، وهو من الري الذي هو ضد العطش؛ لأن الصائم إنما يصبر على العطش أكثر من صبره على الجوع؛ ولذلك الذي يقوم متأخراً قبيل الفجر يكون همه أن يشرب الماء، لأن الماء لا يعوض، أما الطعام فيمكن الصبر عليه، ولذلك تجد الكثير ممن يمتنع عن الطعام من باب العلاج، كما فعل شيخنا الألباني رحمه الله، لم يطعم طعاماً قط مدة سبعة وعشرين يوماً، لم يطعم فيها شيئاً، وإنما كان يشرب سوائل وعصائر وغير ذلك، وكان ذلك لعلة في بطنه، حتى أجرى التحاليل والأشعات الطبية، فكانت النتيجة أنه برئ من مرضه تماماً، فلما أخبر بهذه النتيجة أقبل على الطعام والشراب. وكان شيخنا عليه رحمة الله يأكل كثيراً، حتى كانت بنته أم عبد الله تحمل من أمامه الطعام حملاً فكان يغضب، فمرة دعانا زوج ابنته نظام سكجها، زوج بنت الشيخ أم عبد الله، وهي أحب بناته إليه وأكبرهن، فوضعت لنا الطعام وما أشهاه! ووضعت طعاماً منفرداً على مائدة أخرى لأبيها، فأول ما دخل الشيخ ونظر في الطعام قال: يد الله مع الجماعة، وذكر أحاديث البركة إذا اجتمعوا على الطعام، فـ نظام قال له: مهما حاولت ستأكل لوحدك، قال: والله إذا أنفذتم كلامكم فلآكلن هذا الطعام ثم لا أدخل هذا البيت ثانية، فأكل معنا الشيخ وأكل ثم أكل ثم أكل، وابنته تصرخ بالداخل وتطرق الباب، فدخل إليها زوجها نظام فصاحت في وجهه وقالت: أنت تعلم أن الطعام يضره، والشيخ إذا أكل لا يستطيع أن يمنع نفسه، فقال: والله رفض الشيخ أن يقوم عن المائدة، لكن بعد الفراغ من الطعام سيدخل عليك فقولي له ما شئت. كذلك الإمام النسائي كان أكولاً، ورد في ترجمة الإمام النسائي صاحب السنن أنه كان يأكل كل يوم ديكاً من ديوك زمانه، لكن كان إذا نودي للجهاد رأيت النسائي في الصف الأول. وكذلك شيخنا الألباني عليه رحمة الله ما كان يسمع بمكان فيه بدعة إلا ويكون أول الحاضرين للدفاع والذب عن سنة النبي عليه الصلاة والسلام، فكثرة طعامه لا تعيبه، ولكن ذكرنا هذا من باب الطرفة، ومعرفة بعض أحوال الشيخ عليه رحمة الله. قال: [(يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل معهم أحد غيرهم)] يعني: هذا الباب خاص بالصائمين فقط، لا يدخله إلا الصائمون، فمن حافظ على صيام الفرائض والنوافل، وكان من عادته ومن دأبه الصيام، فهذا جزاؤه وثوابه، وهذه كرامة يمنحها الله عز وجل عبده الطائع، في الدنيا بالذكر الجميل والثناء الحسن عند الناس، وفي الآخرة بالثواب العظيم والكرامة منه سبحانه. كذلك من يحافظ على صلاة الجماعة تبجله وتعظمه الناس؛ لأنه قبل النداء يكون في المسجد. كذلك من يقوم الليل يظهر أثر ذلك عليه، فالتوفيق للطاعة نعمة ومنحة من الله عز وجل، ولذلك كان هناك رجل من المحدثين في الزمن الأول يقول: حدثنا فلان، قال: حدثنا فلان، قال: حدثنا فلان عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال، ثم انتظر حتى يكتب الطلاب السند، فدخل رجل من شأنه ودأبه قيام الليل، فقال المحدث: من صام بالنهار ظهر نوره بالليل. فكتب الطلاب: من صام بالنهار ظهر نوره بالليل. فظنوا أن هذا حديث؛ لأنه أملاهم الإسناد ووقف عند قال النبي عليه الصلاة والسلام، وسكت حتى يكتبوا الإسناد، فلما دخل هذا الرجل قال هذا القول عنه، فظن الطلاب أن هذا هو حديث النبي عليه الصلاة والسلام، وليس كذلك، فوقعوا في هذه المخالفة. قال: [(يقال لهم: أين الصائمون؟)] أي: في المحشر، والقائل إما أن يكلف الله تعالى ملائكته بالنداء على الصائمين، وإما أن الله تعالى هو الذي يتولى النداء بنفسه. قال: [(أين الصائمون؟ فيدخلون من هذا الباب، فإذا دخل آخرهم أغلق فلم يدخل منه أحد)]. لما قال النبي عليه الصلاة والسلام: إن في الجنة باباً يدخل منه المصلون، وإن في الجنة باباً يدخل منه أهل الزكاة، وإن في الجنة باباً يدخل منه الصائمون، وعدد الطاعات، فقال أبو بكر الصديق: (يا رسول الله! هل على رجل من بأس أن يدخل من جميع هذه الأبواب؟) يعني: هل من مانع أن يدخل رجل واحد من جميع هذه الأبواب؟ قال: (لا، ليس هناك بأس، وأنت منهم يا أبا بكر). فـ أ

باب فضل الصيام في سبيل الله لمن يطيقه بلا ضرر ولا تفويت حق

باب فضل الصيام في سبيل الله لمن يطيقه بلا ضرر ولا تفويت حق قال: [باب فضل الصيام في سبيل الله لمن يطيقه بلا ضرر ولا تفويت حق] قوله: (سبيل الله) عند الإطلاق هو الجهاد، فالصيام في الجهاد له فضل عظيم جداً، فكون المجاهد يموت صائماً يكون قد جمع خيراً إلى خير وفضلاً إلى فضل، لكن هذا مشروط بإطاقة الصوم، وعدم إلحاق الضرر بالصائم، ولا تفويت حق واجب في الجهاد؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما رأى قوماً قد ظللوا قال: ما بال هؤلاء؟ قالوا: هؤلاء الصائمون، قال: ليس من البر الصوم في السفر وهذا السفر كان سفراً في غزوة من الغزوات، وقال: (ذهب المفطرون بالأجر) فالأصل ألا يفوت عليك الصيام حقاً واجباً للجهاد، أو يلحق بك الضرر، وأن تطيقه بلا كبير مشقة. قال: [عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من عبد يصوم يوماً في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً)] يعني: الله تبارك وتعالى يباعد بين العبد وبين النار سبعين عاماً؛ بسبب صيام يوم واحد في سبيل الله عز وجل. يقول النووي رحمه الله: (فيه فضيلة الصيام في سبيل الله، وهو محمول على من لا يتضرر به، ولا يفوت به حقاً، ولا يختل به قتاله ولا غيره من مهمات غزوه).

باب جواز صوم النافلة بنية من النهار قبل الزوال وجواز فطر الصائم نفلا من غير عذر

باب جواز صوم النافلة بنية من النهار قبل الزوال وجواز فطر الصائم نفلاً من غير عذر قال: [باب جواز صوم النافلة بنية من النهار قبل الزوال، وجواز فطر الصائم نفلاً من غير عذر] يعني: باب جواز عقد نية الصيام في أثناء النهار ما لم يدخل وقت الزوال، ووقت الزوال هو وقت ميل الشمس إلى جهة الغروب، يعني: وقت الظهر، فيجوز لمن أراد أن يصوم نافلة وإن أصبح من نومه ينوي الإفطار ولكنه لم يأكل ولم يشرب حتى دخل وقت الظهيرة، فله أن ينوي إكمال يومه بصيام نافلة، أما صيام الفرض فإنه يلزم فيه عقد النية وتبييتها من الليل، وهذه من الفروق بين صيام الفريضة وصيام النافلة، صيام النافلة يمكن فيه عقد النية حتى الزوال، أما صيام الفريضة فيلزم فيه عقد النية من الليل. وقوله: (وجواز فطر الصائم نفلاً من غير عذر) يعني: يجوز لمن كان يصوم نافلة أن يفطر بلا عذر، والأولى استحباب إتمام هذا الصيام، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يفعل خلاف الأولى لبيان الجواز، وسنرى أدلة ذلك معنا الآن.

شرح الأحاديث الواردة في عقد النبي لصوم النافلة في النهار ثم قطعه بدون عذر

شرح الأحاديث الواردة في عقد النبي لصوم النافلة في النهار ثم قطعه بدون عذر قال: [حدثنا أبو كامل فضيل بن حسين حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا طلحة بن يحيى بن عبيد الله حدثتني عائشة بنت طلحة -هي عمة طلحة - عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم: يا عائشة! هل عندكم شيء؟ قالت: فقلت: يا رسول الله! ما عندنا شيء)] أي: ليس عندنا طعام، وهذا يبين ما كان عليه الصلاة والسلام من زهادة وقلة في مطعمه ومشربه. قال: [(قال: فإني صائم -يعني: غير نيته في أثناء النهار- قالت: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهديت لنا هدية، أو جاءنا زور)] يعني: جاءنا زوار، ومن شأن الزائر أنه يحمل معه هدية؛ لأنهم يعلمون حال بيوت النبي عليه الصلاة والسلام، فكانوا يهدون له الحيس وهو التمر المخلوط بلبن وأقط، أو يهدون إليه ذراعاً من شاة؛ لأنهم يعلمون أنه يحب الذراع، أو يهدون إليه أي طعام، وأحياناً كانوا يهدون إليه الحلوى؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان يحب الحلوى ويأكلها بالبطيخ، كما جاء عند البخاري (أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يأكل الحلوى بالبطيخ ويقول: حر هذا يطفئه برد ذاك) يعني: حر الحلوى يطفئه برد البطيخ. قال: [(قالت: فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: يا رسول الله! أهديت لنا هدية أو جاءنا زور وقد خبأت لك شيئاً، قال: ما هو؟ قلت: حيس، قال: هاتيه، فجئت به فأكل ثم قال: قد كنت أصبحت صائماً، لكني أفطرت الآن) بعد أن قال: (إني صائم) ليس هناك عذر ومع ذلك أكل، ومع أنه قد عقد نية الصيام وقال: (إني صائم)، وكان الأولى أن يتم صومه، ولكنه خالف الأولى لبيان الجواز، وأن الصائم المتطوع أمير نفسه، لكن هل يلزمه إعادة صيام هذا اليوم؟ على خلاف بين أهل العلم، منهم من قال: يلزمه، ومنهم من قال: لا يلزمه، والذي قال: لا يلزمه. رأيه أرجح من غيره. قال: [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع عن طلحة عن عمته عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وعن أبيها قالت: (دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: هل عندكم شيء؟ فقلنا: لا، قال: فإني إذاً صائم، ثم أتانا يوماً آخر، فقلنا: يا رسول الله! أهدي لنا حيس، فقال: أرينيه، فلقد أصبحت صائماً، فأكل)] هذه الحادثة واحدة، ولا يضرك قولها: (يوماً آخر)؛ لأنه أفطر بعد أن كان صام في ذلك اليوم بالذات.

كلام النووي في عقد صيام النافلة في النهار وقطعه دون عذر

كلام النووي في عقد صيام النافلة في النهار وقطعه دون عذر قال النووي رحمه الله: (وفي هذا الحديث دليل لمذهب الجمهور أن صوم النافلة يجوز بنية في النهار قبل زوال الشمس، ويتأوله الآخرون على أن سؤاله صلى الله عليه وسلم: هل عندكم شيء؟ لكونه ضعف عن الصوم، وكان نواه من الليل، فأراد الفطر للضعف، وهذا تأويل فاسد وتكلف بعيد. وفي الرواية الثانية التصريح بالدلالة لمذهب الشافعي وموافقيه في أن صوم النافلة يجوز قطعه، والأكل في أثناء النهار ويبطل الصوم؛ لأنه نفل، فهو إلى خيرة الإنسان في الابتداء) يعني: أنت مخير في الابتداء أن تبدأ الصيام أو لا تبدأ، فإذا كنت مخيراً في الابتداء فكذلك هذا الخيار ثابت في الدوام. قال: (وممن قال بهذا جماعة من الصحابة وأحمد وإسحاق وآخرون، ولكنهم كلهم والشافعي معهم متفقون على استحباب إتمامه) يعني: ليس واجباً؛ لأن أصل الصوم فيه ليس واجباً، فكيف يأتي إتمام اليوم وجوباً مع أنه لم يبدأ بالوجوب. قال: (وقال ابن عبد البر: أجمعوا على أن لا قضاء على من أفطره بعذر) يعني: الذي أفطر في صيام النافلة بعذر لا قضاء عليه، وهذا محل إجماع. قال: (أما إذا كان بغير عذر فقد وقع الخلاف، والراجح أنه لا قضاء عليه كذلك).

باب أكل الناسي وشربه وجماعه وأن ذلك كله لا يفطر

باب أكل الناسي وشربه وجماعه وأن ذلك كله لا يفطر قال: [باب أكل الناسي وشربه وجماعه وأن ذلك كله لا يفطر. وحدثني عمرو بن محمد الناقد حدثنا إسماعيل بن إبراهيم -وهو ابن علية - عن هشام القردوسي عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه؛ فإنما أطعمه الله وسقاه)] ورد في الحديث الماضي: (يدع طعامه وشرابه وشهوته لأجلي) فالصيام: هو الامتناع عن الطعام والشراب والجماع. إذا أكل ناسياً صح صومه، وإذا شرب ناسياً صح صومه، وإذا جامع ناسياً صح صومه، وهذا مذهب الجمهور، لكن من جامع ناسياً هذه لا تكون إلا في أوائل رمضان، يحدث فيها ويقع فيها الخطأ كثيراً جداً. تجد شيخاً محترماً يمشي في أول يوم من رمضان في الشارع وهو يأكل ويشرب، كان لي أخ من الإخوة الأفاضل الطيبين يعني شيخ كبير، وكنت في يوم مضطراً لأن أكلفه بأن يأتي بأولادي من المدرسة، فذهب لإحضارهم، وكان أولادي قد اشتروا بمصروفهم بعض المكسرات وركبوا معه في الباص فناولوه الكيس، فقال لهم: لا لا، كلوه أنتم، فقالوا: والله إنك ستأخذ منه، فأخذه وجعل يأكل منه من الجيزة إلى أن قطع مسافة كبيرة، ثم تذكر أن هذا أول يوم في رمضان وكان قد نسي ذلك تماماً، فيقول: أدركت بعد ذلك نظر الناس إلي شزراً في الباص وعلى الطريق، يقول: وقعت في حرج وخجل شديد جداً، وكنت أريد أن أبحث عن الناس الذين رأوني وأقول لهم: عذري كان كيت وكيت، فهذا يقع، فالذي يجعله يقع في الطعام والشراب يقع أحياناً في الجماع، أو نحن سنفترض هذا الفرض إذا جامع ناسياً ما حكم صومه؟ هذا الذي نأخذه. يقول النووي رحمه الله: (في هذا الحديث دلالة لمذهب الأكثرين أن الصائم إذا أكل أو شرب أو جامع ناسياً لا يفطر) يعني: مذهب الجمهور أن الصائم إذا أكل أو شرب أو جامع ناسياً لا يفطر، وممن قال بهذا الشافعي وأبو حنيفة وداود وآخرون. وقال ربيعة ومالك: يفسد صومه وعليه القضاء دون الكفارة -يفسد صومه بالطعام والشراب والجماع- مع أن الحديث قاض بأنه إذا أكل أو شرب ناسياً فلا شيء عليه، وصيامه صحيح، وليتم صومه). أما قوله: (فليتم صومه) فهو: يدل على أن صيامه صحيح. وقوله: (فإنما أطعمه الله وسقاه) يعني: هذه منحة من الله عز وجل له. قال: (وقال عطاء والأوزاعي والليث: يجب القضاء في الجماع دون الأكل، وقال أحمد: يجب في الجماع القضاء ولا كفارة، ولا شيء في الأكل والشرب). والذي نرجحه: أن من أكل أو شرب أو جامع ناسياً لا شيء عليه، وصيامه صحيح ويتمه، فإنما هي منحة من الله عز وجل له، وهذا يكون في صيام الفرض وصيام النافلة على السواء. أما من نام وحلم أنه جامع امرأته فهذا لا شيء عليه ألبتة، وما عليه إلا أن يغتسل وصيامه صحيح. في الباب الرابع والثلاثين بيان صيام النبي عليه الصلاة والسلام في غير رمضان، واستحباب ألا يخلي شهراً من صومه. استحباب فينبغي ألا يمر عليك شهر إلا وتجعل فيه لنفسك حظاً من الصيام، كأن تصوم ثلاثة أيام في الشهر، الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، وكذلك يوم الإثنين والخميس، بحيث أن لا يخرج عنك الشهر بلا إحداث طاعة الصيام فيه، كما أنك لا تخلو في هذا الشهر من طاعة الصلاة وطاعة الزكاة ووجوه البر، فلا بأس أن تجمع مع هذه الطاعات عبادة الصوم. فالنبي عليه الصلاة والسلام بين استحباب صيام الإثنين والخميس، والثلاثة الأيام من كل شهر، وكان يصوم أكثر شهر شعبان، وقد ثبت أنه ما أتم صيام شهر قط إلا شهر رمضان صلوات ربي وسلامه عليه.

باب استحباب صوم ستة أيام من شوال إتباعا لرمضان

باب استحباب صوم ستة أيام من شوال إتباعاً لرمضان قال: [باب استحباب صوم ستة أيام من شوال إتباعاً لرمضان. حدثنا يحيى بن أيوب - الغافقي - وقتيبة بن سعيد وعلي بن حجر جميعاً عن إسماعيل - ابن جعفر - قال ابن أيوب: حدثنا إسماعيل بن جعفر أخبرني سعد بن سعيد بن قيس عن عمر بن ثابت بن الحارث الخزرجي عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر)] فسر أهل العلم الدهر في هذا الحديث بأنه العام أو السنة، وأن السنة اثنا عشر شهراً، وأن الحسنة بعشر أمثالها كما هو مستقر معلوم، وإذا كانت الحسنة بعشر أمثالها، فصيام شهر رمضان بثلاثين حسنة في عشرة بثلاثمائة حسنة وبثلاثمائة يوم، يبقى من العام ستون يوماً، وصيام ستة أيام من شوال بست حسنات في عشرة بستين حسنة، فالذي يصوم رمضان ويتبعه بست من شوال كأنه صام ستاً وثلاثين يوماً في عشرة بثلاثمائة وستين حسنة على ثلاثمائة وستين يوماً، وهو عدد أيام السنة بالشهور العربية. فقوله: (من صام رمضان ثم أتبعه بست من شوال كأنما صام الدهر). أي: فكأنما صام العام كله، وقد أدى زكاة الصيام في كل يوم من أيام السنة.

كلام النووي في صيام الست من شوال

كلام النووي في صيام الست من شوال قال النووي رحمه الله: (في هذا الحديث دلالة صريحة لمذهب الشافعية وموافقيهم في استحباب صوم هذه الست، وقال مالك وأبو حنيفة: يكره ذلك). من العلماء من قال: صيام هذه الستة حرام. وابن الجوزي عليه رحمة الله في كتابه العظيم (التحقيق لمسائل الخلاف بين أهل العلم) ذكر ثمانية أقوال لأهل العلم في حكم صيام ست من شوال، فذكر منها: أنه جائز، وذكر منها: أنه مستحب، وذكر منها: أنه واجب، وذكر منها: أنه مباح، وذكر منها: أنه مكروه، وذكر منها: أنه حرام. ومن ذهب إلى كراهته وحرمته إنما قال ذلك مخافة المواظبة عليها؛ لأجل ألا يظن الناس أن صيام هذه الستة واجب، وهذا وإن كان بعيداً لكن على أية حال له وجه، والاجتهاد فيه سائغ، وإن كان العمل على خلافه عند جماهير العلماء، وهذا الحديث قاض بالرد على جميع من خالف ذلك، وأن صيام هذه الستة أمر مستحب، خاصة بعد أن استقرت السنة واستقرت الأحكام الشرعية. قال: (قال مالك في الموطأ: ما رأيت أحداً من أهل العلم يصومها) يعني: الست من شوال، لكن بعض السنن تركها كثير جداً من الصحابة مثل: سنة الاعتكاف، لما تأتي تبحث عن أسماء الصحابة الذين حققوا هذه السنة تجدهم قلة في جنب أعداد الصحابة الغفيرة، فهم تركوها إما لانشغالهم، أو لمخالفتهم المواظبة على هذه السنة؛ فيظن الناس أو من لا علم له بأن الاعتكاف واجب، فكذلك صيام هذه الستة. قال: (قال مالك: ما رأيت أحداً من أهل العلم يصومها، فيكره لئلا يظن وجوبه. ودليل الشافعي وموافقيه هذا الحديث الصحيح الصريح، وإذا ثبتت -هذه قاعدة من قواعد أهل السنة والجماعة- السنة لا تترك لترك بعض الناس أو أكثرهم أو كلهم لها) يعني: أن السنة قاضية على الناس، والناس لا يقضون على السنة، حتى لو أن الصحابة كلهم تواطئوا على ترك العمل بحديث فلا يوافقون على ذلك، هذا على فرض أن هذا حدث، ولا يحدث؛ لأن الإجماع الذي لا خلاف عليه هو إجماع الصحابة، والصحابة لا يجمعون على باطل قط، والأمة في مجموعها في كل زمان وفي كل عصر معصومة من الإجماع على الباطل أو من الوقوع في الباطل، لكن قد يقع عالم في الباطل، واثنان، وثلاثة، وعشرة، فإذا زلت قدم عالم في باطل أو تكلم بكلام خالف فيه الدليل، تجد عشرات بل مئات العلماء في أمة لا إله إلا الله في شرق الأرض وغربها يردون عليه باطله وخطأه الذي أخطأ فيه، بهذا يظهر الحق للأمة، والأمة في مجموعها معصومة أن تقع في الباطل، وإذا كانت كذلك فالعصمة أقرب إلى الصحابة من غيرهم؛ لقرب عهدهم بنزول الوحي، وفهمهم لكلام الرب تبارك وتعالى، وأنه نزل بلغتهم، وأنهم أعلم الناس بكلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم. فقوله: (وإذا ثبتت السنة لا تترك لترك بعض الناس أو أكثرهم أو كلهم لها) يعني: أن الفيصل هنا والرجوع للدليل لا للناس. كذلك إذا كان الدليل يحتاج إلى إعمال فكر وبذل جهد لاستنباط الفوائد واستخراج النكت منه، فلا شك أن اجتهاد العلماء أولى من اجتهاد غيرهم، يعني: لما يجيء شيخ الإسلام ابن تيمية فيجتهد في حديث وأنا أجتهد في حديث فلا شك وبلا توقف أن اجتهاد شيخ الإسلام ابن تيمية أولى من اجتهاد غيره؛ لأن عقله أرجح وعلمه أتم، وعنده ملكة في الاستنباط أكثر من غيره، وهو صاحب جد واجتهاد وغير ذلك، فإذا ترك بعض الناس العمل بالدليل الصحيح الصريح، وجب على المسلمين ترك كلام من خالف الدليل والعمل بالدليل. قال: (قال الشافعي: والأفضل أن تصام الستة متوالية عقب يوم الفطر) لكن تفريقها جائز؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من شوال) و (من) هنا تبعيضية تفيد التجزئة.

كتاب الصيام - بيان أن لكل بلد رؤيتهم وأن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر

شرح صحيح مسلم - كتاب الصيام - بيان أن لكل بلد رؤيتهم وأن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر العبرة في دخول الشهر القمري رؤية الهلال لا الحساب الفلكي، لكن يستأنس بالحساب الفلكي، واعتماد الرؤية هو الموافق للنصوص الشرعية، ويترتب على ذلك أن لكل بلد رؤيتهم، فمتى اختلفت المطالع، وتباعدت المسافات بين البلدان، فكل بلد له رؤية خاصة به، لكن إذا تقاربت المسافات بين البلدان واتحدت المطالع فرؤية إحدى البلدان لازمة لجميع البلدان المجاورة لها المتحدة معها في المطلع.

الأقوال في رؤية الهلال في بلد دون بلد

الأقوال في رؤية الهلال في بلد دون بلد إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فمع الباب الخامس من كتاب الصيام في صحيح مسلم، وهو باب في غاية الأهمية، والذي سبقه باب هام جداً، وهو هل العبرة في دخول الشهر على الحساب الفلكي المحدث أم أنه على الرؤية العينية؟ ذكرنا هناك أن الاعتماد إنما هو على الرؤية العينية؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) لا على الحساب الفلكي، إنما هذا أمر محدث. والحساب الفلكي لا بأس أن نستأنس به، بحيث يكون في المرتبة الثانية بعد مرتبة الرؤية بالعين، أما أن يكون الاعتماد عليه وترك الرؤية بالعين فهذا ترك لشيء من سنة النبي عليه الصلاة والسلام. أما رؤية الهلال في بلد هل تلزم جميع البلاد، أو تلزم بعض البلاد دون بعضها، أو تلزم البلد الذي رؤي فيه الهلال فحسب؟ هذه ثلاثة مذاهب في هذه المسألة. فبعضهم يقول: إذا رئي الهلال في بلد لزم الأخذ به في جميع بلاد المسلمين. وبعضهم يقول: بل يلزم فقط القطر الذي رئي فيه دون غيره، وهو ما يعبر عنه بأسلوب آخر: أن كل قطر اشترك في الليل والنهار ولو كان بينهم اختلاف يسير، فإن رؤية الهلال في إحدى بلدان هذا القطر تلزم جميع القطر دون غيره، يعني: نحن الآن في مصر والشام والعراق والأردن والسعودية وغيرها من البلاد المجاورة والمحيطة التي على خط واحد من خط الاستواء، فالنهار عندنا جميعاً واحد، والليل عندنا جميعاً واحد، وإن كانت هناك فروق يسيرة نصف ساعة ربع ساعة فهذا أمر لا يضر، فكلنا نشترك في الليل والنهار، ليلنا واحد ونهارنا واحد. أما لو نظرت إلى بلاد أوروبا مثلاً أو أقصى المغرب العربي، أو بلاد أمريكا لوجدت أن الليل هنا نهار هناك، والنهار هناك ليل هنا، فهل يلزم من كان في أمريكا رؤية الهلال هنا في مصر؟ A لا، لا يلزمه. وهذا أحد المذاهب وهو أقواها في المسألة؛ لأن الهلال ربما يظهر الآن في هذه اللحظة التي نحن فيها، وهذه اللحظة هي هناك بدء النهار في أمريكا، فلو قلنا لهم: ظهر الهلال عندنا لقالوا: لقد صلينا الفجر وشربنا الشاي ولم تنعقد نيتنا، فليلكم هو عندنا نهار، فهل يصح أن نلزمهم برؤية الهلال عندنا؟ لا، لا يصح، ولذلك هذا الرأي الثاني هو أرجح الأقوال في المسألة. الرأي الثالث: أن كل أهل بلد رأوا الهلال فإنما هذه الرؤية تلزمهم دون غيرهم، الخلاف هنا كيف نحدد هذا البلد؟ هل هي بهذه المسميات والمصطلحات التي وضعها المستعمرون والأجانب؟ يعني: هل رؤية أهل مصر تلزم أهل ليبيا أم لا تلزمهم؟ إذا قلنا بأن رؤية أهل مصر لا تلزم رؤية أهل ليبيا، فكيف نحدد المسافة والحدود بين البلدين، هل هي بأقصى البلاد من جهة الشمال لمصر ومن جهة الجنوب لليبيا؟ لو أن رجلاً ليبياً وآخر مصرياً بينهما جدار، وهو الذي يفصل حدود مصر عن حدود ليبيا، فإذا رأى المصري الهلال هل تلزم هذه الرؤية صاحبه الليبي الذي بينه وبينه ربما (10سم) أو (15سم)، أم لليبي أن يقول له: أنت رؤيتك لا تلزمني؛ لأني ليبي وأنت مصري؟ هذه أمور هي أدعى لتفرق الأمة وتمزق وحدتها، والذي يترجح لدي في القضية: أن رؤيتنا تلزم جميع البلاد التي تشترك معنا في الليل والنهار، ولا تلزم غيرهم من أصحاب الأقطار البعيدة الذين يختلفون معنا في أصل الليل والنهار، لا في بعض الليل والنهار، فإذا زادوا عنا ساعة أو قلوا عنا ساعة فإن رؤيتهم تلزمنا ورؤيتنا تلزمهم كذلك.

باب بيان أن لكل بلد رؤيتهم وأنهم إذا رأوا الهلال ببلد لا يثبت حكمه لما بعد عنهم

باب بيان أن لكل بلد رؤيتهم وأنهم إذا رأوا الهلال ببلد لا يثبت حكمه لما بعد عنهم قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب بيان أن لكل بلد رؤيتهم، وأنهم إذا رأوا الهلال ببلد لا يثبت حكمه لما بعد عنهم] قوله: (وأنهم إذا رأوا الهلال ببلد لا يثبت حكمه لما بعد عنهم) أي: البلد البعيد عنهم لا يلزم برؤيتهم. قال: [حدثنا يحيى بن يحيى ويحيى بن أيوب وقتيبة وعلي بن حجر قال يحيى: أخبرنا وقال الآخرون: حدثنا إسماعيل وهو ابن جعفر عن محمد وهو ابن أبي حرملة عن كريب: (أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام، قال: فقدمت الشام فقضيت حاجتها، واستهل علي رمضان -يعني: دخل علي رمضان- وأنا بالشام، فرأيت الهلال ليلة الجمعة -يعني: كريب رأى الهلال بالشام ليلة الجمعة- ثم قدمت المدينة في آخر الشهر -أي: في آخر شهر رمضان- فسألني عبد الله بن عباس رضي الله عنهما -أي: سأله عن أحوال معاوية وأحوال أهل الشام- ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ -أي: متى رأيتم الهلال بالشام- فقلت: رأيناه ليلة الجمعة، فقال: أنت رأيته؟ فقلت: نعم، ورآه الناس -يعني: لست أنا فقط الذي رأيته، وإنما رآه معي بقية الناس أو بعض الناس- وصاموا وصام معاوية)] أي: صاموا بصيام الأمير، لما صام معاوية صام الناس واعتمدوا رؤية كريب وغيره من الناس. قال: [(فقال ابن عباس: لكنا رأيناه ليلة السبت)] يعني: نحن هنا بالمدينة أو بمكة رأيناه ليلة السبت، وأهل الشام رأوه ليلة الجمعة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (صوموا لرؤيته) فضمير الجمع في قوله: (صوموا) هل هو موجه إلى جميع المسلمين في أنحاء الأرض، أم موجه إلى أهل كل قطر، أم موجه إلى أهل كل بلد، أم موجه إلى كل فرد على حدة؟ أما القول الأخير فمردود وباطل؛ لأنه لا يتصور أن النبي عليه الصلاة والسلام يلزم كل رجل في أمته أن يرى الهلال، وأنه إذا لم ير الهلال لا يصوم، هذا أمر باطل، وإن كان بعض أهل العلم قال به، لكن ضمير الجمع هنا في قوله: (صوموا) موجه لأهل هذه الأقوال الثلاثة التي ذكرناها آنفاً. قال: [(لكنا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه)] هذا كلام ابن عباس، يعني: رؤيتكم لهلال رمضان ليلة الجمعة في الشام أمر لا يجعلنا نعتمده ونحن بالمدينة أو مكة؛ لأن ابن عباس اعتبر أن بلده لها رؤية خاصة، وأن الشام لها رؤية خاصة. إذاً: مذهب ابن عباس هو أن لكل أهل بلد رؤية تخصهم، مع أن حديث كريب مع ابن عباس ربما لا يخدم الواقع الذي يمر به المسلمون الآن؛ لأن ابن عباس رضي الله عنهما ما أخبر ببدء رمضان في الشام إلا في نهاية شهر رمضان، أما الهلال الآن لو ظهر في أقصى البلاد فسيصل خبره سريعاً بواسطة الهاتف، بالمذياع، بالتلفزيون، بالإنترنت، بأي وسيلة من هذه الوسائل المتقدمة المتطورة تستطيع أن تعرف في لحظة أن الهلال ظهر في بلاد المشرق أو في بلاد المغرب، أو في بلاد آسيا أو إفريقيا أو غيرها من البلدان. قال: [(فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه -أي: إذا رأيناه قبل تمام الشهر ثلاثين صمنا تسعاً وعشرين فقط، وإذا لم نره أكملنا العدة ثلاثين يوماً- فقلت: أولا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟)] يعني: ألا تكتفي يا ابن عباس برؤية معاوية والناس للهلال، وأن الناس هناك قد صاموا مع معاوية. قال: [(فقال ابن عباس: لا، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم)]. ابن عباس رد على كريب وقال له: لا، لا نعتمد رؤيتكم ولا صيامكم؛ لأن هذا ليس باباً من أبواب الرواية، وإنما هو باب من أبواب الشهادة، وبين الرواية والشهادة فروق: منها: أن الشهادة ترد إذا لم يكتمل نصاب هذه الشهادة، ومذهب ابن عباس أن دخول الشهر إنما يثبت بشاهدين لا بواحد، ولذلك رد شهادة كريب لا رؤيته. وقول ابن عباس: (لا، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم) ابن عباس لم يذكر هذا الأمر الذي أمر به النبي عليه الصلاة والسلام، ولذلك اختلف فيه أهل العلم، فقالوا: إنما اكتفى ابن عباس بنقل أصل الأمر الذي أمر به النبي عليه الصلاة والسلام، وقال: (هكذا أمرنا) أي: أمر بفحوى كلام ابن عباس؛ لأن ابن عباس لم ينقل نص الأمر عن النبي عليه الصلاة والسلام. وقال بعضهم: بل عنى ابن عباس رضي الله عنهما بقوله: (هك

حكم الهلال إذا رؤي في بلد يختلفون عن غيرهم في الليل والنهار

حكم الهلال إذا رؤي في بلد يختلفون عن غيرهم في الليل والنهار يقول الإمام النووي رحمه الله: (حديث كريب وابن عباس ظاهر الدلالة للترجمة، يعني: أن لكل بلد رؤيتهم، وأنهم إذا رأوا الهلال ببلد لا يثبت حكمه لما بعد عنهم) وأنا أؤكد على قوله: (لما بعد عنهم)؛ لأن المذهب الراجح الذي يترجح لدينا: هو أن أهل بلد إذا رأوا الهلال لا يثبت حكمه لمن اختلفوا معهم في الليل والنهار. قال: (والصحيح عند أصحابنا -أي: عند الشافعية- أن الرؤية لا تعم الناس) يعني: المذهب الراجح عند الشافعية أن الرؤية لا تعم الناس، بل تختص بمن قرب. إذاً: ما هو حد القرب والبعد؟ هو الاشتراك في الليل والنهار، أن نكون جميعاً على خط متقارب من خط الاستواء، فلو نحن رأينا الهلال مثلاً في مصر فهل يلزم البلدان المجاورة لمصر العمل بهذه الرؤية؟ لقد انطبع في أذهان الناس أنهم يتوجهون في بداية شهر رمضان إلى بلاد الحجاز ويعتمدون رؤيتهم، و Q لم الحجاز بالذات؟ الحجاز ما هي إلا بلد من بلدان المسلمين، هي كمصر وليبيا والجزائر وتونس والعراق والأردن وسوريا وغيرها من البلدان، فإذا سمعت خبراً من سورية يقول: قد رأينا الهلال هل تعتمد هذه الرؤية؟ لا تعتمدها؛ لأنك اعتدت على أن ترتبط في عبادتك ببلد معين، وأنا أقول: إن رؤية أهل هذه البلاد التي ذكرتها والتي لم أذكرها ممن قرب من البلدان تلزم جميع البلدان، والأسبقية لمن سبق. تكلمنا عن الحساب الفلكي وقلنا: إنه يستأنس به ولا يعتمد عليه، وفي السعودية ينظرون في الحساب الفلكي، لكنهم لا يعتمدونه أصلاً، والحكومة السعودية تمنح جائزة لمن رأى الهلال عشرة آلاف ريال في كل شهر، وهذا حدا ببعض الناس أن يسارعوا إلى الإعلان بأنهم قد رأوا الهلال وهم في الحقيقة لم يروه، ولذلك ثبت عدة مرات في الأعوام المتأخرة أن بدء رمضان كان في السعودية على غير حقيقته، وهذا ليس مطعناً عاماً في أهل البلاد، وإنما مطعن فيمن م يتق الله عز وجل. فالأصل في هذا الأمر أنه يتم بلا جائزة وبلا منحة، وجائزته عند ربه. لكن الذي أريد أن أنبه عليه لو أن أحداً رأى الهلال في مصر فإنه يلزم جميع البلاد، وإن لم يره أهل الحجاز، ولو ظهر الهلال ورئي رؤيا العين في سوريا وفي بغداد من رجل ثقة أمين عدل فإنه يلزم جميع أهل القطر، فإننا نعنى ونهتم في كل شهر ببدايته ونهايته على كل خبر يأتينا عن ثقة من أي بلد من هذه البلاد، ولكن لا نعتمد الاعتماد الكلي على بلاد الحجاز.

توجيه الإمام النووي لحديث ابن عباس مع كريب في رؤية الهلال

توجيه الإمام النووي لحديث ابن عباس مع كريب في رؤية الهلال قوله: (فقلت: نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية) إلى آخره. يقول النووي: (والصحيح عند أصحابنا أن الرؤية لا تعم الناس، بل تختص بمن قرب على مسافة لا تقصر فيها الصلاة). دعك من هذه الجزئية. ثم قال: (وقيل: إن اتفق المطلع -أي: قربهم من خط الاستواء- لزمهم رؤية واحدة. وقيل: إن اتفق الإقليم وإلا فلا. وقال بعض الشافعية: تعم الرؤية في موضع جميع أهل الأرض) يعني: الذي يرى في أي قرية من القرى على وجه الأرض هذه الرؤية تلزم جميع المسلمين على وجه الأرض، وهذا رأي فاسد. ثم يقول النووي: (نقول: إنما لم يعمل ابن عباس بخبر كريب؛ لأنه شهادة، فلا تثبت بواحد، لكن ظاهر حديثه أنه لم يرده لهذا؛ وإنما رده لأن الرؤية لم يثبت حكمها في حق البعيد) يعني: على افتراض أن ابن عباس قَبِل كلام كريب ولكنه لم يعمل به؛ لأن بلاد الشام بلاد بعيدة جداً عنهم بينهم وبينها شهر، فرؤيتهم لا تلزمهم؛ لأن لهم رؤية تخصهم. والحقيقة هذه المسألة فيها أبحاث كثيرة جداً وصنفت فيها فوق عشر رسائل رأيتها، ومدارها على هذه الآراء الثلاثة، وأرجح هذه الآراء -وهو الذي يهمنا- أن رؤية أي بلد من بلاد المسلمين المجاورة التي تشترك في الليل والنهار تلزم جميع البلاد، بشرط أن تكون رؤية عين، لقوله صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته) أي: رؤية العين هذه، إما بالعين المجردة وإما بالمكبرات والعدسات والأجهزة الحديثة. أما الحساب الفلكي في البدء والنهاية للشهر فهذا يستأنس به ولا يعتمد عليه، لكن الفرق بيننا وبين أمريكا أنهم يختلفون عنا عشر ساعات، وأقصى غرب أمريكا يختلف معنا في أربع عشرة ساعة، فهل يقال: إنهم يشتركون معنا في الليل والنهار؟ لا يقال ذلك؛ لأنهم يختلفون معنا في الأصل، أصل الليل عندنا نهار عندهم، والعكس بالعكس، فلا يقال: إنهم متفقون معنا قط، والذي يختلف معنا في خمس ساعات أو أربع ساعات لا بد أن مواقيت الصلاة تختلف بيننا وبينهم كذلك. وأنا ذهبت إلى بلد في أمريكا في أقصى الجنوب النهار عندهم دوماً أربع ساعات فقط، والليل عشرون ساعة، والعكس في أقصى شمال أمريكا يكون النهار عشرين ساعة، والليل أربع ساعات، فكانوا يسألوننا: كيف نحسب صلاتنا؟ قلنا: قدروا لها قدرها. فتصور أن أهل أقصى الجنوب كانوا يصلون الصلوات الخمس في خلال أربع ساعات، واتصلوا بالشيخ ابن باز رحمه الله والشيخ الألباني رحمه الله والشيخ ابن عثيمين رحمه الله، فالجميع اتفقوا على أن أهل هذه البلاد يقدرون للصلاة قدرها: ما بين الصبح إلى الظهر أكثر مما بين الظهر إلى العصر، وما بين الظهر إلى العصر هو نفس الذي بين العصر والمغرب، وبين المغرب والعشاء شيء يسير، فقدروا لها قدرها، فكانوا يقدرون بالساعات إلا الصبح والمغرب هذه بالشروق وهذا بالغروب.

باب بيان أنه لا اعتبار بكبر الهلال وصغره وأن الله تعالى أمده للرؤية فإن غم فليكمل ثلاثون

باب بيان أنه لا اعتبار بكبر الهلال وصغره وأن الله تعالى أمده للرؤية فإن غم فليكمل ثلاثون

شرح حديث: (إن الله أمده للرؤية فهو لليلة رأيتموه)

شرح حديث: (إن الله أمده للرؤية فهو لليلة رأيتموه) قال: [باب بيان أنه لا اعتبار بكبر الهلال وصغره، وأن الله تعالى أمده للرؤية، فإن غم فليكمل ثلاثون. حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا محمد بن فضيل عن حصين عن عمرو بن مرة عن أبي البختري - وهو سعيد بن فيروز الطائي - قال: (خرجنا للعمرة، فلما نزلنا ببطن نخلة قال: تراءينا الهلال -أي: تكلفنا رؤية الهلال في موضعه وفي مخرجه الذي يخرج منه عادة- فقال بعض القوم: هو ابن ثلاث، وقال بعض القوم: هو ابن ليلتين، قال: فلقينا ابن عباس فقلنا: إنا رأينا الهلال، فقال بعض القوم: هو ابن ثلاث، وقال بعض القوم: هو ابن ليلتين. فقال: أي ليلة رأيتموه؟ قال: فقلنا: ليلة كذا وكذا، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله أمده للرؤية فهو لليلة رأيتموه)]، ومعناه: أنه أطال مدة هذا الهلال حتى رأيتموه، كما قال الله تعالى: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ} [الأعراف:202] قرئ من وجهين أي: يطيلون لهم، فإن الله سبحانه وتعالى أطال هذا الهلال حتى رآه الناس. فنكون مع رؤية من رآه حتى وإن زاد الشهر وإن نقص، فلو أنك بنفسك رأيت الهلال هنا فبدأت الصوم، والحجاز بدءوا بعدك بيوم، فذهبت لتعتمر، فرأوا هم الهلال في التاسع والعشرين أو رأوه في الثلاثين، فإما أن تزيد يوماً أو أن تنقص يوماً، فإن كان نقصاً فيلزمك أن تعيد يوماً بعد العيد. لكن لا بد أن تعرف أن كثيراً من مسائل الفقه محل اختلاف بين أهل العلم، فيها الراجح، وفيها المرجوح، وفيها الباطل المردود، أما الباطل المردود فلم يقل به أحد من العلماء الأجلاء الكبار الذين يعتمد عليهم، أما الراجح والمرجوح فلا بد أن تعلم أن الخلاف له أول وله نهاية، أحد هذه الآراء في قمة هذه المسائل، وأحد هذه الآراء في أدنى المسائل، ولا أستطيع أن أرد هذا الرأي الذي هو أنزل الآراء؛ لأن الدليل يشهد له أحياناً، وبين الأعلى والأسفل آراء أخرى، ولذلك لما يحصل شيء عندك تسأل وتقول: أنا أريد أن أعلم حكم الدين في هذه القضية، فيجيبك العالم ويقول: حكم الدين في هذه القضية كيت وكيت وكيت. فتقول له: هل هناك أحد قال بغير هذا القول؟ أنت بنفسك تبحث عن قول آخر يوافق ما أنت عليه، فإذا وجدته في أقوال أهل العلم تشبثت به؛ لأنه يوافق ما في نفسك.

شرح حديث: (إن الله أمده لرؤيته، فإن أغمي عليكم فأكملوا العدة)

شرح حديث: (إن الله أمده لرؤيته، فإن أغمي عليكم فأكملوا العدة) قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا غندر عن شعبة وحدثنا ابن المثنى وابن بشار قالا: حدثنا محمد بن جعفر أخبرنا شعبة عن عمرو بن مرة قال: سمعت أبا البختري قال: (أهللنا رمضان ونحن بذات عرق)] ذات عرق هي ميقات أهل العراق، ومن أتى من جهة العراق يريد حجاً أو عمرة فليحرم من هذا الميقات المكاني. وميقات أهل اليمن يلملم. وميقات أهل مصر رابغ أو الجحفة. وميقات أهل المدينة أبيار علي، التي هي ذو الحليفة. بعد أن ذكر النبي عليه الصلاة والسلام هذه المواقيت المكانية قال: (هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن) يعني: هذه المواقيت لأهلها إذا مروا بها، ولمن أتى عليها من غير أهلها، فأنا عندما أكون في المدينة وأريد أن أعتمر فهل أرجع إلى رابغ خمسمائة أو ستمائة كيلو، أو أمر على ميقات أهل المدينة وهو ذو الحليفة وأحرم منه؟ أحرم من ذي الحليفة. قال: [(أهللنا رمضان ونحن بذات عرق، فأرسلنا رجلاً إلى ابن عباس رضي الله عنهما يسأله، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله قد أمده لرؤيته، فإن أغمي عليكم فأكملوا العدة)]. أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يبين مسألة اعتقادية: وهي هل يمكن أن يظهر الهلال ويختفي دون أن يراه أحد من المسلمين؟ لا، غير ممكن؛ لأن هذا يتنافى مع رحمة الله عز وجل بخلقه، ولذلك من رحمته وفضله أن يمد الهلال مداً، بمعنى: أنه يبقيه حتى يراه الناس، فإن خفي على قوم ظهر لآخرين, وإن خفي على واحد ظهر لآخر، وهذا هو مد الله عز وجل للهلال. فقوله: (إن الله قد أمده حتى ترونه) يعني: أن الله تعالى قد أبقاه في السماء ظاهراً واضحاً، فإن خفي على بلد ظهر لآخر فمثلاً: بين العراق والأردن ألف كيلو، فلو اعتبرت أن العراق بلد والأردن بلد، وأن أهل كل بلد من هذين البلدين لا يلزم برؤية البلد الآخر؛ لبعد المسافة، فعندنا هنا بين القاهرة وبين أسوان ألف كيلو، نفس المسافة التي بين العراق والأردن، فهل يمكن أن يقال: إن لأسوان رؤية خاصة بها، والقاهرة رؤية خاصة بها؟ لا، بل الرؤية كما تلزم أسوان التي تبعد عن القاهرة ألف كيلو تلزم كذلك الأردن التي تبعد عن العراق أيضاً ألف كيلو. أما قوله: (فإن أغمي عليكم). لا يمكن أن تصيب الغمة جميع المسلمين في شرق الأرض وغربها؛ لأن الهلال ربما حال بيننا وبين رؤيته غمامة أو غياية في السماء في مصر، هذه الغمامة ليست موجودة في الحجاز، وليست موجودة باليمن، ولا بالسودان، ولا بالعراق، ولا بالأردن؛ لأنه لا يعقل أن الغمامة ستحجب الهلال أو الشمس أو القمر عن العالمين بحيث لا يراهما أحد من الخلق، لا يمكن؛ لأن هذا يتنافى مع فضل الله وحكمته ورحمته، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يطمئننا فقال: (إن الله قد أمده لرؤيته) يعني: سترونه في مطلع كل شهر ولا بد، وهذا أمر حتمي، وهذه المسألة لا بد أن تكون من عقيدتك: أن الهلال يغم على قوم أو قرية أو بلد أو دولة ويظهر لغيرها، المهم أنه سيظهر وسيراه الناس، وإن خفي على البعض. قوله: (فأكملوا العدة) أي: الواجب الشرعي على المسلمين أن يكملوا العدة ثلاثين، عدة شعبان إذا كان في بدء رمضان، وعدة رمضان إذا كان ظهور العيد.

باب بيان معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (شهرا عيد لا ينقصان)

باب بيان معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (شهرا عيد لا ينقصان) قال: [باب بيان معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (شهرا عيد لا ينقصان)] يعني: شهر رمضان الذي ينتهي بالعيد، وشهر ذي الحجة الذي فيه العيد. فالمتبادر إلى الذهن أن معنى قوله: (شهرا عيد لا ينقصان) أنهما يكونان ثلاثين يوماً، والإمام مسلم أتى بهذا الحديث في هذا الموطن بالذات حتى يبين المعنى الصحيح لهذا الحديث؛ لأن هذا الحديث لو سمعته في أي مكان غير درس العلم لقلت: قوله: (لا ينقصان) يعني: هما على التمام ثلاثون يوماً باستمرار وباطراد. إذاً: ما معنى قوله: (شهرا عيد لا ينقصان)؟ أي: لا ينقصان في الثواب والأجر، وهذا أرجح الأقوال في هذا الحديث. يعني: لو أتى رمضان تسعة وعشرين يوماً فأجره كما لو كان ثلاثين يوماً. وكما أن في شهر رمضان من الفضائل والمناقب والمنح الربانية ما ليس في غيره من الشهور، فكذلك شهر ذي الحجة فيه يوم عرفة الذي يكفر ذنوب سنة مضت وسنة لاحقة، إن لم يكن فيه إلا هذا اليوم لكفى، ولذلك اختلف أهل العلم في أفضل الأيام بين رمضان وذي الحجة. أنتم تعلمون الأحاديث التي وردت في بيان فضل العشر الأوائل من ذي الحجة، وهي في الصحيحين وفي غيرهما، كما لا يخفى عليكم فضل العشر الأواخر من رمضان، والأحاديث التي أتت ووردت في فضل هذه الأيام في الصحيحين وغيرهما، فهل العشر الأواخر من رمضان أفضل، أم العشر الأوائل من ذي الحجة؟ اختلف أهل العلم، وأرجح الأقوال في هذا هو قول شيخ الإسلام ابن تيمية: أن أيام ذي الحجة أفضل؛ لأن ذا الحجة يمتاز بأن عرفة في النهار والنحر في النهار، ويوم النحر هو اليوم المتمم للعشر، والنحر في النهار، ولا بأس أن يكون في الليل، لكن العادة أن الحجاج وغير الحجاج ينحرون في النهار دون الليل، فالنحر إنما يتم فيه، والنحر عبادة عظيمة. أما ليالي رمضان فامتازت على ليالي ذي الحجة؛ لأن فيها ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وهي حوالي ثلاث وثمانين سنة وأربعة شهور. قال الإمام النووي: (قوله عليه الصلاة والسلام: (شهرا عيد لا ينقصان: رمضان، وذو الحجة) الأصح أن معناه: لا ينقص أجرهما والثواب المرتب عليهما وإن نقص عددهما)، يعني: وإن نقص عدد رمضان إلى تسعة وعشرين وكذلك شهر ذي الحجة، فإن الثواب يكون كاملاً لمن تعبد إلى الله عز وجل في هذين الشهرين. ثم قال: (وقيل: معناه: لا ينقصان جميعاً في سنة واحدة غالباً) يعني: إذا جاء رمضان تسعة وعشرين يوماً فلا يمكن أن يأتي معه ذو الحجة في نفس السنة تسعة وعشرين يوماً، لا بد أن يكون ثلاثين يوماً، أما أن ينقصا في سنة واحدة فلا، لا بد أن يكون أحدهما أتم من الآخر، وهذا رأي وإن كان وجيهاً إلا أن الأول أقوى منه. ثم قال: (وقيل: لا ينقص ثواب ذي الحجة عن ثواب رمضان؛ لأن فيه المناسك، وهو قول ضعيف، قاله الخطابي، والأول هو الصواب المعتمد. ومعناه: أن قوله عليه الصلاة والسلام: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه). وقوله عليه الصلاة والسلام: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) وغير ذلك. فكل هذه الفضائل تحصل سواء تم عدد رمضان أم نقص، وكذلك في شهر ذي الحجة، والله تعالى أعلم).

باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر وغير ذلك

باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر وغير ذلك قال: [باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر، وأن له الأكل وغيره حتى يطلع الفجر] يعني: له الحق في أن يطعم ويشرب ويجامع ويأتي ما هو حرام على الصائم قبل طلوع الفجر، أما إذا طلع الفجر فالطعام والشراب والشهوة حرام عليه، وأن الصيام لا يجب إلا بطلوع الفجر.

شرح الأحاديث في معنى الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر

شرح الأحاديث في معنى الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر قال: [وبيان صفة الفجر الذي تتعلق به الأحكام من الدخول في الصوم، ودخول وقت صلاة الصبح وغير ذلك. حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الله بن إدريس عن حصين عن الشعبي عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: (لما نزلت: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187])] أظن أن هذه الزيادة (من الفجر) ليست في هذا الموضع بالذات من الحديث؛ لأن قوله سبحانه وتعالى: {مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187] نزلت وحدها، يعني: هذا الحرف فقط نزل وحده، لما أخطأ عدي بن حاتم وغيره من الصحابة، وأول الخيط الأبيض والخيط الأسود بتأويلات غير سليمة وغير سديدة، أنزل الله تبارك وتعالى قوله: {مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187] أما حين نزلت: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} [البقرة:187]، فكانوا يأخذون هذا النص على ظاهره، فهذا عدي بن حاتم نفسه هو صحابي كبير جاء بخيط أبيض وخيط أسود ووضعه تحت المخدة، وظل يأكل ويشرب حتى طلع الفجر، فلما بلغ ذلك النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن وسادك لعريض) يعني: ستظل تأكل إلى حد الشروق. فلما كان ذلك من عدي بن حاتم وبعض الصحابة رضي الله عنهم، أنزل الله تبارك وتعالى قوله: {مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187]، فعلموا أن الخيط الأبيض هو النهار، والخيط الأسود هو الليل، والفرق بين الخيط الأبيض الذي هو النهار، والخيط الأسود الذي هو الليل هو طلوع الفجر. ثم قال: [(قال له عدي بن حاتم -أي: قال للرسول عليه الصلاة والسلام-: يا رسول الله! إني أجعل تحت وسادتي عقالين: عقالاً أبيض وعقالاً أسود، أعرف الليل من النهار)] العقال: هو الحبل أو الذي يضعه بعض العرب هذه الأيام على الغترة أو الشماغ. فقوله: (أعرف الليل من النهار) يعني: أعرف أن الفجر دخل، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن وسادك لعريض) يعني: سيبقى ليلك طويلاً جداً ما سينتهي. قال: [(إنما هو سواد الليل وبياض النهار)] يعني: المقصود ومراد الرب تبارك وتعالى بقوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} [البقرة:187] يعني: حتى يخرج النهار وينشق من الليل وهو الفجر الصادق. قال: [حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري حدثنا فضيل بن سليمان حدثنا أبو حازم حدثنا سهل بن سعد قال: (لما نزلت هذه الآية: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} [البقرة:187] قال: كان الرجل يأخذ خيطاً أبيض وخيطاً أسود فيأكل حتى يستبينهما)] يعني: لا يزال يأكل حتى يتبين له الخيط الأبيض من الأسود، ولم يكن عندهم كهرباء، ويمكن يأكل إلى حد الشروق. قال: [(حتى أنزل الله عز وجل: {مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187] فبين ذلك)] أي: بين أن المراد بالخيط الأبيض النهار، والخيط الأسود الليل. قال: [حدثنا محمد بن سهل التميمي وأبو بكر بن إسحاق قالا: حدثنا ابن أبي مريم أخبرنا أبو غسان حدثني أبو حازم عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: (لما نزلت هذه الآية: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} [البقرة:187] قال: فكان الرجل إذا أراد الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأسود والخيط الأبيض، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رئيهما -يعني: الاطلاع عليهما ومعرفة ألوانهما- فأنزل الله بعد ذلك: {مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187] فعلموا أنما يعني بذلك الليل والنهار)]. يعني: الربط ليس له أي علاقة في القضية، ولكنهم اجتهدوا فأخطئوا، وهذا يدل على أن الصحابة رضي الله عنهم غير معصومين، إنما المعصومون هم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

شرح حديث: (إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم)

شرح حديث: (إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم) قال: [حدثنا يحيى بن يحيى ومحمد بن رمح قالا: أخبرنا الليث. (ح) وحدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا تأذين ابن أم مكتوم)]، هذا يدلنا على أن للفجر أذانين، وإذا كان المسجد صغيراً لا بأس أن يقوم بالأذانين واحد، ولا بأس من اتخاذ أكثر من مؤذن في وقت واحد في المسجد الواحد إذا كان الأذان في أحد نواحيه لا يسمع من كان في النواحي الأخرى، فحين يتوجه المؤذن شمالاً بغير مكبر الصوت ويؤذن ولا يسمع من كان في الناحية الأخرى فلا بأس باتخاذ مؤذن آخر، وقد اتخذ عمر بن عبد العزيز وعبد الملك بن مروان وغيرهما من الخلفاء والأمراء مؤذنين فأكثر للمسجد الواحد، لكن لا يقيم في المسجد إلا واحد؛ لأن الجماعة واحدة حينئذ. أما النداء فشأنه إخبار الناس وإعلامهم بدخول وقت الصلاة، فلا بد أن يتم هذا الإعلان، فإذا أعلنت أنا في الناحية الغربية، وبقي من كان في جميع النواحي لم يسمع؛ فلا بأس من اتخاذ مؤذن. أما الآن فقد أغنانا عن اتخاذ عدة مؤذنين للمسجد الواحد هذه المكبرات الصوتية، فإن المؤذن الواحد يكفي؛ لأن العلة التي لأجلها شرع الأذان قد بلغت الناس، وهو أنهم جميعاً قد سمعوا النداء في كل واد وفي كل مكان وفي كل ناحية، فقامت عليهم الحجة بالإتيان إلى المسجد. فقوله: (إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا تأذين ابن أم مكتوم) هذا يدلنا على أن في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤذن له في الفجر مؤذنان: بلال، وابن أم مكتوم. أما بلال فكان يؤذن قبل طلوع الفجر الصادق، وأما ابن أم مكتوم فكان يؤذن بعد طلوع الفجر الصادق، أي: في أول الوقت. ونحن نقول: الفجر الصادق؛ لأن هناك فجراً كاذباً وفجراً صادقاً، والعرب كانوا في ذلك الوقت ولا يزال الناس الآن في البوادي والصحاري يميزون ويعرفون أوقاتهم بالنجوم، ويعرفون أوقاتهم بمطلع القمر، ويعرفون الفجر الصادق من الكاذب وغير ذلك، لكن نحن بيننا إفرنج وأفندية، وبالتالي لا نعرف أن نميز الأوقات بالنجوم وغيرها؛ لأننا لم نتعود أن نعرف أيامنا وليالينا وطرقنا عن طريق هذه النجوم وهذه المجرات التي أجراها الله تبارك وتعالى لنا. هناك فجران: فجر مستطيل في السماء من فوق إلى تحت، ترى خطاً أبيض ينزل من فوق إلى تحت بنفس الخط المستطيل، وهذا الخط سرعان ما يتلاشى ويظهر خط آخر معترضاً من الشمال إلى اليمين، أو من اليمين إلى الشمال. إذاً: نحن عندنا خطان: الخط الأول: خط رأسي في السماء، من فوق إلى تحت، فسرعان ما يتلاشى هذا الخط. الخط الثاني: خط عرضي، يأتي بالعرض وليس بالطول. الخط الأول يغلب عليه الحمرة، والخط الثاني يغلب عليه البياض، وبلال كان يؤذن عند ظهور الخط الأول، وهو الفجر الكاذب، أما الفجر الصادق فهو الخط الثاني الذي يأتي بالعرض، وعند بداية ظهور هذا الخط كان يؤذن ابن أم مكتوم، وهنا يحرم الطعام والشراب والجماع. وفي أذان بلال يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ليرجع قائمكم وينبه نائمكم) أي: ليستيقظ النائم ويستعد للصلاة، وإذا كان مستيقظاً يصلي أو غير ذلك؛ خشية دخول الفجر، كذلك لو أردت أن تستعد للصيام أو تنوي أو غير ذلك فقدامك مدة وفترة تستطيع فيها أن تقضي حاجتك. قال: [حدثني حرملة بن يحيى أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم). حدثنا ابن نمير - محمد - حدثنا أبي - عبد الله بن نمير - حدثنا عبيد الله وهو - ابن عمر العمري - عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنان: بلال، وابن أم مكتوم الأعمى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم، قال: ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا)] يعني: ينزل بلال ويطلع ابن أم مكتوم. المؤذنون قديماً كانوا يؤذنون من المئذنة، والمئذنة هي غرفة صغيرة تبنى ع

شرح حديث: (لا يمنعن أحدا منكم أذان بلال من سحوره فإنه يؤذن بليل)

شرح حديث: (لا يمنعن أحداً منكم أذان بلال من سحوره فإنه يؤذن بليل) قال: [حدثنا زهير بن حرب حدثنا إسماعيل بن إبراهيم - وهو المعروف بـ ابن علية - عن سليمان التيمي عن أبي عثمان - وهو النهدي - عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يمنعن أحداً منكم أذان بلال -أو قال: نداء بلال - من سحوره، فإنه يؤذن بليل -أو قال: ينادي بليل-)] يعني: إذا سمعتم أذان بلال فكلوا واشربوا كما تريدون؛ لأن بلالاً يؤذن قبل الوقت، فمن كان يصلي فيعجل في الانتهاء من صلاته وقضاء وتره، ومن كان نائماً فأمامه فرصة أنه يقوم ويتوضأ ويستعد، ومن كان مستيقظاً ويظن أنه بقي وقت طويل على الفجر فليعلم أن الوقت قد ضاق، فليعجل بالسحور. قال: [(ليرجع قائمكم)] يعني: إذا كان أحدكم قائماً في صلاة الليل فليعجل بانتهاء هذه الصلاة. قال: [(ويوقظ نائمكم، وقال: ليس أن يقول هكذا وهكذا، وصوب يده ورفعها)] (صوب يده) أي: خفضها. وقوله عليه الصلاة والسلام: (ليس أن يقول هكذا وهكذا) يعني: ليس هو الفجر الذي ترونه في السماء من فوق إلى تحت، فإذا رأيتم الخط المستطيل في السماء من فوق إلى تحت فليس هو الفجر. قال: [(حتى يقول هكذا وفرج بين أصبعيه)] يعني: فرق بينهما. قال: [حدثنا ابن نمير حدثنا أبو خالد الأحمر عن سليمان التيمي بهذا الإسناد، غير أنه قال: (إن الفجر ليس الذي يقول هكذا، وجمع أصابعه ثم نكسها إلى الأرض، ولكن الذي يقول هكذا، ووضع المسبحة على المسبحة)] المسبحة: هي السبابة، وسميت بالسبابة؛ لأن العرب كانوا يسبون بها، الذي يريد أن يشتم أحداً يؤشر له بسبابته، ويسبح بها أيضاً، فسميت هذه الإصبع التي تلي الإبهام المسبحة والسبابة؛ لأن التسبيح والسب يكونان بها. قال: [(إن الفجر ليس الذي يقول هكذا، وجمع أصابعه ثم نكسها في الأرض، ولكن الذي يقول هكذا، ووضع المسبحة على المسبحة ومد يده)] يعني: ليس الفجر الصادق هو الذي يستطيل في السماء وإنما هو الذي يأتي بالعرض. فقوله: (ووضع المسبحة على المسبحة ومد يديه) هنا يبين التكييف الشرعي لمعرفة الفجر الصادق. قال: [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا معتمر بن سليمان وحدثنا إسحاق بن إبراهيم - وهو المعروف بـ ابن راهويه - أخبرنا جرير - وهو ابن عبد الحميد الضبي - والمعتمر بن سليمان كلاهما عن سليمان التيمي بهذا الإسناد، وانتهى حديث المعتمر عند قوله: (ينبه نائمكم ويرجع قائمكم). وقال إسحاق: قال جرير في حديثه: (وليس أن يقول هكذا ولكن يقول هكذا -يعني الفجر- هو المعترض وليس بالمستطيل)] يعني: الفجر الصادق هو الفجر المعترض وليس هو الفجر المستطيل. قال: [حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا عبد الوارث - وهو ابن سعيد البصري - عن عبد الله بن سوادة القشيري حدثني والدي - الذي هو سوادة - أنه سمع سمرة بن جندب يقول: سمعت محمداً صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يغرن أحدكم نداء بلال من السحور، ولا هذا البياض حتى يستطير)]. قوله: (ولا هذا البياض) يعني: ولا هذا الخط المستطيل حتى يستطير ويأتي بالعرض. والعرب تطلق على الأبيض أحمر والأحمر أبيض؛ ولذلك كانت عائشة رضي الله عنها بيضاء، وأطلق عليها في عدة أحاديث بعضها حسن ومعظمها ضعيف بأنها الحميراء، فالعرب تطلق لفظ الأحمر على البياض. قال: [وحدثنا زهير بن حرب حدثنا إسماعيل بن علية حدثني عبد الله بن سوادة عن أبيه عن سمرة قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يغرنكم أذان بلال -يعني: لا تهتموا بأذان بلال من جهة الحل والحرمة؛ لأن أذان بلال لا يمنع الطعام ولا الجماع ولا الشراب- ولا هذا البياض، حتى يستطير هكذا)] أي: يعترض في كبد السماء. قال: [وحدثنا أبو الربيع الزهراني حدثنا حماد - يعني ابن زيد - عن عبد الله بن سوادة عن أبيه عن سمرة قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال -أي: لا يمنعنكم أذان بلال أن تتسحروا- ولا بياض الأفق المستطيل هكذا، حتى يستطير هكذا) وحكاه حماد بيديه، يعني: معترضاً] وهذا الذي

كلام الإمام النووي في حديث: (إن بلالا يؤذن بليل)

كلام الإمام النووي في حديث: (إن بلالاً يؤذن بليل) قال: [باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر، وأن له الأكل وغيره حتى يطلع الفجر] يعني: له الحق في أن يطعم ويشرب ويجامع ويأتي ما هو حرام على الصائم قبل طلوع الفجر، أما إذا طلع الفجر فالطعام والشراب والشهوة حرام عليه، وأن الصيام لا يجب إلا بطلوع الفجر.

حكم الأكل والشرب بعد الأذان الأول، وجواز أذان الأعمى

حكم الأكل والشرب بعد الأذان الأول، وجواز أذان الأعمى قال الإمام النووي في شرحه لحديث: (إن بلالاً يؤذن بليل): (قوله: (إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى تسمعوا تأذين ابن أم مكتوم) فيه جواز الأذان بالصبح قبل طلوع الفجر. وفيه جواز الأكل والشرب والجماع وسائر الأشياء حتى يطلع الفجر. وفيه جواز أذان الأعمى. لأن المؤذن يشهد على نفسه أن الفجر قد دخل، وبالنسبة للناس والعامة يخبرهم بأن الفجر قد دخل، فالأذان شهادة وخبر في الوقت نفسه. قال: (قال الشافعية: هو جائز) يعني: أذان الأعمى جائز، كذلك إمارة الأعمى جائزة، يعني الإمارة الصغرى، أما الإمارة الكبرى فلا يجوز أن يكون الخليفة أعمى. قال: (قال الشافعية: أذان الأعمى جائز، فإن كان معه بصير كـ ابن أم مكتوم مع بلال فلا كراهة فيه) لأن بعض أهل العلم كره أذان الأعمى خاصة في الفجر؛ لأن الأعمى لا يرى؛ ولذلك كره بعض أهل العلم أذان الأعمى خاصة في صلاة الفجر؛ لأن أذان الفجر عندهم متعلق برؤية الخط المستطير المعترض ولا يراه الأعمى، فربما أذن قبله، أو ربما أذن بعده فأوقع الناس في حرج، ولكن لو كان معه بصير، كـ بلال مع ابن أم مكتوم فلا كراهة في ذلك، وإن لم يكن معه بصير كره؛ للخوف من غلطه.

استحباب الأذانين في الصبح

استحباب الأذانين في الصبح قال: (وفي هذا الحديث استحباب أذانين في الصبح) هذا في رمضان وغيره، وهذه المسألة أثيرت هنا في هذا النص وفي هذا الدليل لتعلق الصوم به، وإلا فهناك أدلة أخرى شهدت بأن الفجر كان يؤذن له اثنان من المؤذنين أحدهما قبل الفجر، والآخر بعد طلوع الفجر. وهناك مشكلة في صلاة الفجر في مساجد الأوقاف، تجدهم يقيمون الصلاة بعد عشر دقائق، أو بعد ربع ساعة من الأذان، وأذانهم للفجر قبل الوقت، يعني: في أثناء الفجر الكاذب، وهناك أبحاث كثيرة نزلت وكتبت وصنفت تبين هذا الكلام من علماء بالشرع ومن علماء بالفلك، والمسألة هذه ليست حديثة، بل هي قديمة جداً، فأنا قرأت رسالة للشيخ أحمد شاكر عليه رحمة الله، وقد مات منذ أربعين سنة وزيادة، وهو من جلة علماء الأزهر، يقول: إن الصلاة في مسجد الحسين وفي غيره التي تؤدى قبل ميعادها الحقيقي بنصف ساعة، ليس خمس دقائق أو عشر دقائق، وهذه الرسالة اسمها (رسالة الأشهر العربية)، إذا أردتم أن ترجعوا لها فارجعوا لها، وله كتاب اسمه: مقالات الشيخ أحمد شاكر وهذه المقالة أيضاً في داخل هذا الكتاب فاقرءوها. فالإخوة الحريصون على أداء الصلاة في أوقاتها يؤخرون في مساجدهم الصلاة إلى ثلث ساعة أو خمس وعشرين دقيقة أو نصف ساعة، بخلاف المساجد التي ربما نزل المؤذن من أعلى السطح وقد فاتته ركعة أو ركعتين، فهذا فيه حرج شديد جداً؛ لأن الصلاة مبناها على الاحتياط، والاحتياط في أداء الصلاة بالتأخير، وأقل ما يقال في استحباب تأخير صلاة الفجر: إنه من باب الاحتياط؛ لأننا إذا أخرناه عن وقته لم نخرج عن الوقت، فضلاً عن أننا نكون على يقين بدخول الوقت، والذين يقولون بجواز الصلاة قبل وقتنا الذي نصلي فيه بعشر دقائق أو بربع ساعة هل يختلفون معنا في أننا نؤدي الصلاة في وقتها؟ لا، وهل نختلف نحن معهم في أنهم يؤدون الصلاة في غير وقتها أو في وقتها؟ نعم، نختلف معهم، فإذا كانت القضية فيها اتفاق وافتراق فيصير الاتفاق أولى من الافتراق، فيجب عليهم أن يصيروا إلى ما نحن عليه، وأن يؤخروا الصلاة عن الوقت الذي يصلون فيه؛ لأن هذا هو وقت الاحتياط، بل هذا هو وقت اليقين أننا نصلي في وقت الفجر الصادق، يعني: الذي يصلي بعد الأذان بعشر دقائق ربما يصلي في الوقت وربما لا يصلي في الوقت، أما الذي يصلي بعد نصف ساعة من الوقت فلا بد وأنه يصلي في الوقت. وسمعت شيخنا الألباني وقد سئل: أنا أصلي في مسجد بجواري يقيم الصلاة قبل وقتها؟ والشيخ الألباني من مذهبه عدم صلاة الفجر إلا بعد مرور نصف ساعة من الأذان الذي تسمعه بالإذاعة، ولا بأس أن تصلي السنة ركعتي الفجر بعد خمس وعشرين دقيقة من الأذان. وهذا السائل سأل وقال: أنا أسكن بجوار مسجد كذا، وهو يصلي بأمر الحكومة ويقدم الصلاة؟ فقال الشيخ: صل معهم وعدها من صلاة الليل، ثم انطلق إلى أهلك وصل بهم الفرض. الأصل أنه يناط التصحيح بإمام المسجد ويبين المسألة أو يعتزل. وأنا سألت الشيخ عليه رحمة الله، قلت له: وما قيمة هذه الصلاة، إذا كان قد صلى في الليل إحدى عشرة ركعة وأوتر وانتهت صلاته؟ قال: حتى لا تحدث الفتنة، فيلزمه صلاة الفجر في البيت بعد صلاتها مع الناس مخافة الفتنة فقط، لكن ليس بواجب عليك، لكنك لو تعودت التخلف عن صلاة الفجر فسيسأل الناس: لماذا يتخلف فلان عن صلاة الفجر؟ وستجد المحتسبين والمتبرعين يتهمونك في دينك، صحيح، وهذا شر من الذي لم يذهب إلى المسجد قط. وأنا لما قرأت قديماً رسالة الشيخ أحمد شاكر ورسالة عبد الملك علي الكليب، في أن الفجر يكون بعد نصف ساعة، كنت أنبه الإخوة وأقول لهم: هذا الفجر فجر باطل، ونحن لا يلزمنا الصلاة معهم، والصلاة معهم باطلة، فأشرت عليهم أننا نصلي الفجر جماعة في المسجد بعد أن يمضي الناس، لكن الناس كانوا يتأخرون في المسجد بعد تأديتهم لصلاة الفجر، فكنا نروح والناس موجودون، فلما تكرر هذا منا قالوا: لماذا أنتم تتأخرون، وتأتون في وقت معين بعد صلاة الجماعة؟ فذكرنا لهم الحكاية كيت وكيت وكيت وكيت، وقلنا لهم: أنتم تركتم وأنتم ستذهبون إلى النار، فحصلت فتنة في المسجد من ضرب وشجار، ونحن في ذلك الوقت نعتبر أنفسنا مجاهدين ومظهرين للشريعة وغير ذلك، وما كان منا إلا أن حرمنا ومنعنا من دخول المسجد نهائياً، لا في الوقت ولا في غير الوقت. قال: (وفيه اعتماد صوت المؤذن) يعني: لو سمعت صوت المؤذن فاعتمد عليه في الطعام والشراب والنكاح. وفي هذا الحديث دليل لجواز الأكل بعد النية، يعني: لو تسحرت الساعة الواحدة بالليل وعقدت نيتي على الصيام، ثم سمعت أذان المؤذن الأول فبدا لي أن آكل، فيجوز لي أن آكل حتى بعد عقد النية بالصيام، ما دام الفجر الصادق لم يطلع، بخلاف صيام أهل الكتاب، فصيام أهل الكتاب بعد انعقاد النية يحرم الطعام والشراب، لكن عليك أن تجدد نيتك ولا يضرك هذا.

كتاب الصيام - نسخ قوله تعالى: (وعلى الذين يطيقونه فدية)

شرح صحيح مسلم - كتاب الصيام - نسخ قوله تعالى: (وعلى الذين يطيقونه فدية) اختلف الصحابة ومن بعدهم في قوله تعالى: (وعلى الذين يطيقونه فدية) هل هي منسوخة بقوله: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه)؟ فمنهم من قال بالنسخ، ومنهم من قال بالتخصيص، وأنه لا يصار إلى النسخ مع إمكان الجمع بين الآيتين، ووجه الجمع: أن من شهد رمضان يجب عليه صومه، إلا الذين لا يطيقونه ولا يقوون على صيامه لعجز ومرض وسفر، أو مرضع أو حامل يشق عليها الصوم، فإن زال العذر فعليهم القضاء، أو الإطعام لمن لم يطق الصوم لكبر أو لمرض لا يرجى برؤه.

باب نسخ قوله تعالى: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) بقوله: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه)

باب نسخ قوله تعالى: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) بقوله: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. هذا هو الباب الخامس والعشرون من كتاب الصيام، ولم تكن الدراسة بالترتيب؛ لأننا آثرنا أن نتناول الأبواب التي تخص صيام الفريضة، أما صيام النوافل فسنعود إليه إن شاء الله تعالى بعد رمضان. قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب بيان نسخ قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184] بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185]. حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا بكر - يعني ابن مضر - عن عمرو بن الحارث عن بكير - ابن عبد الله الأشج - عن يزيد مولى سلمة عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: (لما نزلت هذه الآية: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184] كان من أراد أن يفطر ويفتدي، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها)] والتي بعدها: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185]، في أول الأمر كان من يجد شيئاً ولو يسيراً من المشقة في الصيام فله أن يفطر ويفتدي عن هذا اليوم بإطعام مسكين، فعلى هذا يترجح لدينا أن قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} [البقرة:184] يعني: يقدرون على صيامه، ولكنهم يجدون في الصوم مشقة عظيمة أن يفطروا ويفدوا، وهذا التأويل هو تأويل سلمة بن الأكوع وغيره من الصحابة، والمذهب عند أهل العلم أن من روى حديثاً عن النبي عليه الصلاة والسلام وفسره فتفسيره أولى من تفسير غيره، لأن الراوي أدرى وأعلم بمراد النبي عليه الصلاة والسلام من هذا الحديث، أما معنى الآية: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة:184] أي: يطيقون صيام شهر رمضان. {فِدْيَةٌ} [البقرة:184] فغير مستقيم؛ لأن الذي يفطر هو الذي يفدي لا الذي صام وأطاق الصيام، فإما أن تكون الآية: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة:184] أي: يعجزون تماماً عن صيامه، وإما على الذين يطيقونه بمشقة عظيمة جداً، فالله عز وجل شرع لهم الفطر في مقابل الفدية، هذا في أول الأمر، ولكن حكم هذه المسألة نسخ بقول الله عز وجل: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185]. وستأتي الروايات معنا في البيان أن الصيام في أول الأمر كان لمن أراد، لكن الذي لا يصوم عليه أن يفدي. قال: [حدثني عمرو بن سواد العامري أخبرنا عبد الله بن وهب أخبرنا عمرو بن الحارث عن بكير بن عبد الله الأشج عن يزيد مولى سلمة بن الأكوع عن مولاه سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أنه قال: (كنا في رمضان)] وقوله: (كنا في رمضان) ليبين أن هذه الآية إنما هي متعلقة بصيام الفرض لا بصيام التطوع. قال: [(كنا في رمضان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من شاء صام، ومن شاء أفطر فافتدى بطعام مسكين)] يعني: حدث هذا في العهد النبوي، فلو حدث بعد العهد النبوي لقلنا بأن الأمر فيه نزاع أو فيه خلاف، فإذا نسب الأمر الشرعي لزمن النبوة ارتفع الخلاف؛ لأن الحاكم والآمر والناهي فيه هو النبي عليه الصلاة والسلام، إذاً فلا نزاع معه، فحكمه هو الحكم، وقضاؤه هو القضاء المبرم صلى الله عليه وسلم. فقوله: (على عهد النبي عليه الصلاة والسلام) يعني: في عهد النبوة. وقوله: (من شاء صام) أي: في رمضان وفي حضرة النبي عليه الصلاة والسلام. وقوله: (ومن شاء أفطر فافتدى بإطعام مسكين) يعني: كان الصيام في أول الأمر لمن يريد، والذي لا يريد أن يصوم عليه الفدية، والفدية إطعام مسكين واحد في كل يوم. ثم قال: [(حتى أنزلت هذه الآية: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185])] يعني: كانت المسألة اختيارية إلى أن نزل قول الله عز وجل: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] أي: فمن حضر منكم شهر رمضان ومن أدركه وهو حي مكلف عاقل فليصمه، وهذا أمر، والأمر في الكتاب والسنة يدل على الوجوب. إذاً: صيام شهر رمضان حين نزول قول الله عز وجل: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [الب

ذكر الإمام النووي لأقوال العلماء في قوله تعالى: (وعلى الذين يطيقونه فدية)

ذكر الإمام النووي لأقوال العلماء في قوله تعالى: (وعلى الذين يطيقونه فدية) قال النووي عليه رحمة الله عند هذا الحديث: (قال القاضي عياض: اختلف السلف في الأولى -أي: في الآية الأولى- هل هي محكمة أو مخصوصة أو منسوخة؟) (هل هي محكمة) بمعنى: أنها لا تحتمل إلا مذهباً واحداً، أو هي مخصوصة من عموم قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185]، هذا كلام عام لكل الناس إلا المريض والعاجز، وبالتالي فتصير هذه الآية مخصوصة من عموم، أم أنها منسوخة؟ وإذا كانت منسوخة فهل كلها منسوخة أم بعضها منسوخ والبعض الآخر غير منسوخ؟ ونحن نعلم أن المحكم غير المتشابه وغير المخصوص وغير المنسوخ، فالمنسوخ هو حكم سبق في الإسلام عليه العمل، ثم أتى أمر آخر بعد ذلك وأبطل العمل بالدليل الأول، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (وإني أنهاكم عن زيارة القبور). فتبين بهذا الحديث أن زيارة القبور إما محرمة أو مكروهة حسب النهي، هل هو للتحريم أو للكراهة؟ ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إلا إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها؛ فإنها تذكر الآخرة) فقوله عليه الصلاة والسلام: (ألا فزوروها فإنها تذكر الآخرة) ناسخ لقوله: (وإني أنهاكم عن زيارة القبور). كان الحكم أولاً في زيارة القبور النهي المطلق للرجال والنساء على السواء، سواء كان النهي للتحريم أو للكراهة، ثم رخص النبي عليه الصلاة والسلام بعد ذلك في زيارة القبور وبين العلة من ذلك، وأن الزيارة للقبور تذكر الزائر آخرته وتذكره ربه، فهنا الصيام كان أولاً اختيارياً، حتى نزل قول الله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] فقوله ((فَلْيَصُمْهُ)) أمر مؤكد بالفاء واللام، يعني: لا خيار له. لكن هذه الآية ألا يمكن أن تكون مخصوصة؟ كما هو معلوم أنه لا يصار إلى النسخ إلا إذا استحال الجمع بين الدليلين والعمل بهما معاً، فهل أرد دليلاً بدليل، وأبطل عمل دليل بدليل آخر، أم أتأول للدليلين وأعمل بهما معاً؟ يقول العلماء: الإعمال خير من الإهمال، يعني: أن تعمل بالدليلين معاً خير من أن تعمل بواحد وترد الآخر. إذاً: يمكن أن أقول: إن قول الله عز وجل: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة:184] أي: يجدون مشقة في الصيام. {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184] غير منسوخ، أما قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] فأقول: هذا كلام عام، والآية الأولى مخصوصة من هذا العموم، يعني: كما تقول أنت لولدك: حذار أن تأخذ من جيبي مائة جنيه إلا جنيهاً واحداً، فلو أنك توقفت عند تحذيرك الأول قبل الاستثناء: حذار أن تأخذ من جيبي مائة جنيه لشمل الجنيه الواحد أيضاً من باب أولى، لكن قوله: (إلا جنيهاً) هذا استثناء من المائة، فمعنى ذلك: أنه يجوز لك أن تأخذ جنيهاً ولا يجوز لك أن تأخذ أكثر من ذلك، فهذا استثناء وخصوص من عموم النهي، فلك أن تقول في قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] ليصم جميع من حضر رمضان، إلا الذين لا يطيقونه ولا يقوون عليه إلا بمشقة وبذل الطاقة والجهد المضني فلهم أن يفطروا؛ لأن هذا الجهد المضني إما أن يكون عن عجز وشيخوخة وكبر سن ومرض وسفر، فكل هؤلاء رخص لهم الشارع بأدلة أخرى تخصهم بالفطر، وعليهم الفدية. فالله عز وجل رخص لمن كان على سفر أن يفطر، ومن كان مريضاً، ومن كان عاجزاً عن الصيام لكبر سن، لشيخوخة، لمرض، لحمل، لرضاع، لولادة لغير ذلك من الأعذار المشروعة أن يفطر، وهذا هو قول عبد الله بن عمر وابن عباس وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم، فهؤلاء قالوا: نحن نخالف سلمة بن الأكوع، وسلمة بن الأكوع رغم مكانته العظيمة جداً بين أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام إلا أنه ليس في الفقه كـ عبد الله بن عباس وكـ عبد الله بن عمر فهما أفقه منه، وكذلك خالفه أبو هريرة رضي الله عنه، مع أن أبا هريرة لم يسلم إلا قبل موت النبي عليه الصلاة والسلام بأربع سنوات فقط، أو ثلاث سنوات وسبعة أشهر، إلا أن أبا هريرة حصل له الحظ العظيم جداً من العلم والفقه، وشاع اسمه وانتشر علمه في الآفاق وفي الأقطار؛ لأن أبا هريرة مكث في المدينة حتى احتاج الناس إلى علمه، وتصدر بأمر الولاة والأمراء في دولة بني أمية للإفتاء والتدريس والتحديث وغير ذلك. فهذا أبو هريرة رضي الله عنه يخالف سلمة بن الأكوع، وكذلك عبد الله بن عمر مع جلالته وإمامته يخالف سلمة بن الأكوع، وناهيك عن مخالفة ابن عباس رضي الله عنه الذي دعا له النبي عليه الصلاة والسلام بالفقه والتأويل، قال: (

باب قضاء رمضان في شعبان

باب قضاء رمضان في شعبان قال: [باب قضاء رمضان في شعبان] يعني: من فاته رمضان أو شيء من رمضان متى يقضيه؟ هل يلزمه القضاء على الفور والتو بمجرد أن ينتهي رمضان، أم على التراخي؟ مذهب الجمهور أن قضاء الأيام التي أفطرها المسلم في رمضان تجب على التراخي؛ بدليل أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي عليه الصلاة والسلام كانت تقضي ما فاتها من رمضان في شعبان. قال: [حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس حدثنا زهير - وهو ابن معاوية بن حديج - حدثني يحيى بن سعيد - وهو الأنصاري - عن أبي سلمة -وهو ابن عبد الرحمن بن عوف قال: سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: (كان يكون علي الصوم من رمضان، فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان، الشغل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو برسول الله صلى الله عليه وسلم)] يعني: يمنعني انشغالي وخدمتي، ويعني: تجهيزها نفسها وتعرضها للنبي عليه الصلاة والسلام لعله يريدها أو يرغبها أو يواقعها، فالذي كان يمنعها أن تقضي ما فاتها من رمضان هو انشغالها بخدمة النبي عليه الصلاة والسلام. وربما أرادها النبي عليه الصلاة والسلام فقالت له: إني صائمة، فأصابه من ذلك ضيق أو شيء من هذا، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تصوم نافلة وزوجها شاهد إلا بإذنه) يعني: أن المرأة لا تصوم صيام التطوع إلا بعد إذن زوجها. انظر عظمة الإسلام، كيف رتب هذا الحق العظيم جداً على المرأة للرجل، وهو ألا تصوم التطوع -والصوم عبادة وهو حق لله عز وجل- إلا إذا استأذنت زوجها وهو عبد من العباد، يعني: هذا الحق لله عز وجل، والله تعالى ونبيه عليه الصلاة والسلام شرعا ألا تصوم المرأة وألا تتعبد إلى الله بهذه العبادة إلا بعد إذن زوجها. أي عظمة تبلغ هذا في أي ملة أو في أي دين ألا تصوم المرأة إلا بعد إذنك أنت أيها الزوج؛ لأن حقك ورغبتك في وقاع المرأة وجماعها في النهار أعظم من أن تتقرب هي بهذا الحق وبهذا الصيام إلى الله عز وجل، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، لكنه لا سجود لأحد في الإسلام) أي: لا سجود لأحد إلا لله عز وجل، ولكن لو كان هناك سجود لكان أولى الناس بالسجود أن تسجد المرأة لزوجها، ثم يبين النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (لعظم حقه عليها). فلا بد أن تعلم كل امرأة أن حق زوجها عليها مقدم على حق أبيها وأمها وجميع محارمها، بل ومقدم على حقوق جميع الخلق إلا النبي عليه الصلاة والسلام، فإذا تعارض حق الزوج مع حق الرسول عليه الصلاة والسلام، قدم حق الرسول عليه الصلاة والسلام. إذاً: حق الزوج مقدم، فإذا أمر الرجل امرأته بأمر وأمرها أبوها بأمر، فليقدم أمر الزوج، إلا أن تكون المرأة في بيت أبيها قبل العقد أو بعده قبل البناء، فيقدم أمر أبيها على أمر زوجها. قال: [حدثنا إسحاق بن إبراهيم - وهو المعروف بـ ابن راهويه المروزي أبو محمد - أخبرنا بشر بن عمر الزهراني حدثني سليمان بن بلال حدثنا يحيى بن سعيد بهذا الإسناد غير أنه قال: (وذلك لمكان رسول الله)] يعني بدلاً من قولها: (وذلك الشغل برسول الله) قالت: (وذلك لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم). قال: [وحدثنيه محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق] وهو ابن همام الصنعاني اليمني إمام اليمن في زمانه، وهو شيخ أحمد بن حنبل وشيخ علي بن المديني، وهو شيخ المشايخ من أئمة الدين وعلماء الجرح والتعديل. وكان أحمد بن حنبل يعرف قدر عبد الرزاق؛ لأن عبد الرزاق كان علماً، والله عز وجل يبث في هذه الأمة أعلاماً، يبلغون في فنونهم درجة الإمامة دون أن يحصلوا على شهادات، أو يتخرجوا من مدارس تمنحهم هذه الشهادات وهذه الإمامات، فالشيخ الألباني عليه رحمة الله خلف آلاف الطلاب والعلماء، لكن لم يبلغ واحد منهم درجة الإمامة كما بلغ الشيخ الألباني، يعني: أنت الآن عندما تسمع هذا الحديث صححه فلان وفلان وفلان، وتعد عشرين ثلاثين خمسين واحداً وكلهم من تلاميذ الشيخ الألباني وعلماء، فهؤلاء كلهم لا يأتون عند (صححه الألباني)؛ لأن الله تعالى غرس في قلبك إمامة هذا الرجل، فهذا في علمه وفنه وبابه إمام، وهذا لا يمنع أن تكون هذه الإمامة موجودة في غيره، ولكن لم تتهيأ قلوب الخلق لتقبل إمامة فلان وإنما تقبلت إمامة رجل آخر، وكذلك الذي يقال في شيخنا الألباني يقال في الشيخ ابن باز، والشيخ

أقوال العلماء في قضاء الصوم الواجب على الفور أو التراخي

أقوال العلماء في قضاء الصوم الواجب على الفور أو التراخي ومذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وجماهير السلف والخلف: أن قضاء رمضان في حق من أفطر بعذر كحيض وسفر يجب على التراخي وتستحب المبادرة به، بخلاف داود قال: تجب المبادرة به في أول يوم من بعد العيد، وهذه الأحاديث ترد عليه. والقول بعدم وجوب المبادرة بصوم القضاء؛ لأن الوقت موسع، كما لو أن شخصاً فاتته جماعة الإمام في صلاة المغرب، وبين المغرب والعشاء ساعة ونصف، فهل يلزمه لزوماً شرعياً أكيداً أن يصلي في أول الوقت؟ لا يلزمه؛ لأنه لا زال الوقت موسعاً، لكن لو افترضنا أن صلاة المغرب هذه يستغرق المصلي فيها عشر دقائق، ولم يبق من الوقت إلا عشر دقائق فهنا ضاق الوقت، وفي هذه الحالة تجب عليه صلاة المغرب على الفور؛ لأن الوقت ضيق، وإنما تجب الصلاة عليه على التراخي في أول الوقت، لكن يستحب المبادرة. وهذه مسألة أخرى تتعلق بالوقت الموسع والوقت المضيق، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله: لو قام رجل لصلاة الفجر متأخراً، ولم يبق بينه وبين طلوع الشمس إلا مقدار وقت لا يسمح له إلا بأحد أمرين: أن يغتسل فيخرج الوقت، أو يتيمم ويصلي ويدرك الوقت، ماذا يعمل؟ تعرض العلماء لمسائل في غاية الدقة، وتكلم ابن تيمية في هذه المسألة، يقول: في المسألة مذاهب، ولكل مذهب أدلته، ثم يعدد أربعة مذاهب في المسألة، ويذكر دليل كل مذهب، ثم يقول: والراجح عندي كيت بدليل كيت، يعني: أتى بمذهب خامس في المسألة، وذكر أدلة أخرى خفيت على أصحاب المذاهب الأربعة، وهذا شيء عجيب، كان ابن تيمية أمة وحده، لو أن الله تعالى ما خلق من علماء الأمة غير ابن تيمية وابن القيم لكفى، مع أن ابن تيمية في ميزان أحمد بن حنبل لا شيء، وابن تيمية وابن القيم في ميزان الشافعي لا شيء، لكن أنا أقول لك: لو لم يخلق الله تعالى إلا هذين الاثنين وبهذه المكانة والمنزلة من العلم لكفيا الأمة علماً واجتهاداً وإفتاءً وتدريساً إلى يوم القيامة، فما بالك والأمة غنية وثرية بعلمائها وطلاب علمها إلى يوم القيامة في كل زمان ومكان. فـ ابن تيمية عليه رحمة الله يقول: يتيمم ويصلي حتى لا يخرج الوقت. ولكن يبقى نزاع: هل يعيد هذه الصلاة بعد طلوع الشمس أم لا يعيدها بعد الاغتسال؟ فشيخ الإسلام ابن تيمية رجح أنه يتيمم ويصلي مع وجود الماء؛ لأن الذي منعه من استعمال الماء هو ضيق الوقت، لكن رجح ابن تيمية أيضاً أن يعيد الصلاة بعد الغسل بعد طلوع الشمس، وصلاته بالتيمم كان لإدراك الوقت، والحصول على الأجر. لكن لو كان التيمم من أجل صلاة الجماعة فلا تلزم الجماعة حينئذ، بل يلزمه الغسل والصلاة منفرداً. إذاً: يستحب المبادرة بقضاء صوم رمضان، فمذهب الجمهور أنه ليس واجباً عليه، لكن يستحب المبادرة به للاحتياط. يقول رحمه الله: (فإن أخره - أي: فإن أخر الصوم - فالصحيح عند المحققين من الفقهاء وأهل الأصول: أنه يجب العزم على فعله) يعني: لو فاتتني صلاة المغرب مع الإمام وإن كان الوقت موسعاً معي، لكن يلزمني واجب آخر هو العزم على الصلاة، فيفرقون بين إتيان الصلاة والعزم عليها، فلو أنك حين أذن للمغرب توضأت وانطلقت إلى المسجد لتصلي مع الإمام فهذا إتيان للصلاة وليس عزماً عليها، لكن لو فاتته الجماعة، ففواتها ليس عذراً في عدم العزم عليها، فمن عزم وعقد قلبه على أن يصلي هذا الفرض الذي فاته فأدركه الموت لا يعد من تاركي الصلاة، فعزمك هذا يغني عنك بين يدي الله عز وجل. ثم يقول رحمه الله تعالى: (وأجمعوا أنه لو مات قبل خروج شعبان لزمه الفدية في تركه عن كل يوم مد من الطعام، فأما من أفطر في رمضان بعذر، ثم اتصل عجزه فلم يتمكن من الصوم حتى مات، فلا صوم عليه) يعني: لو مرض شخص ومات قبل شعبان، فهذا الرجل إما أن يكون عازماً على الصيام من بعد رمضان الماضي أو غير عازم، فإن كان عازماً فلا إثم عليه؛ لأن وجوب القضاء عليه على التراخي، والشرع أذن له في أن يصوم على التراخي، يصوم في ربيع، أو في صفر، أو في رجب، أو في شعبان، أذن له الشرع في ذلك، فإذا أذن له الشرع أن يقضي ما عليه على التراخي، وعزم على أن يقضي ما فاته في رمضان في شعبان، لكنه مات قبل شعبان، فهل يعد مفرطاً في فرض من فروض الله عز وجل؟ لا، لا يعد مفرطاً.

قضاء أيام رمضان لا يشترط فيه التتابع

قضاء أيام رمضان لا يشترط فيه التتابع والذي عليه صيام رمضان هل يجب أن يقضيه على التتابع، أم أن التفريق يجزئه؟ فمثلاً: فاتتني خمسة أيام من رمضان حيث كنت مسافراً فيها، فهل يلزمني أن أصوم هذه الأيام الخمسة على الفور أم هي على التراخي؟ هي على التراخي، فإذا كانت على التراخي فهل يلزمني أن أتابع بين هذه الأيام مثلما كنت أصومها في رمضان خمسة أيام مع بعض، أو يمكن تفرقة هذه الأيام؟ نقول صيام القضاء في الفريضة وصيام التطوع لا يلزم منه التتابع، بل التفريق يجزئ، وقوله عليه الصلاة والسلام: (من صام رمضان ثم أتبعه بست من شوال) هل يلزم صيام الست على التتابع؟ لا يلزم، وهذا مذهب الجمهور، وإن كان بعض أهل العلم يقول بوجوب ذلك على التتابع، والراجح هو مذهب الجمهور.

حكم إفراد الجمعة والسبت بصيام

حكم إفراد الجمعة والسبت بصيام أما مسألة صيام الجمعة وحده فمكروه، وصيام السبت وحده أيضاً مكروه؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن إفراد الجمعة بصيام، ونهى عن إفراد السبت بصيام، فقال: (لا تصوموا الجمعة إلا أن تصوموا معه يوماً قبله أو يوماً بعده). وقال عليه الصلاة والسلام: (لا تصوموا السبت إلا فيما افترض عليكم)، والحديث صححه شيخنا الألباني، وذهب إلى تحريم صيام السبت مطلقاً إلا في رمضان، وهذا المذهب قد خالف فيه شيخنا علماء الأمة، ولذلك لا نقول به، ومذهب الأمة وإجماعها عصمة، ونحن مع الأمة.

باب قضاء الصوم عن الميت

باب قضاء الصوم عن الميت قال: [باب قضاء الصوم عن الميت] يعني: إذا مات ميت هل يصام عنه؟ هذه المسألة محل نزاع بين العلماء، منهم من قال: يصام عنه الواجب ولا يصام عنه الفريضة، يعني: لو مات شخص وعليه صيام نذر، مع أن النذر مكروه في الإسلام، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه). وقال: (إنما يستخرج بالنذر من البخيل) يقول: يا رب! لو نجحت ابني فسأذبح شاة، فهذا معناه: أنه إذا لم ينجح ابنه لم يذبح. كان هناك شخص في بلدنا مرة نذر لله أن لو نجح ابنه فسيذبح شاة، فنجح ابنه، وقال لي: أنا نذرت أن أذبح شاة لو نجح ابني فنجح الولد، قلت له: وجب عليك الوفاء بالنذر، قال لي: لكن الولد لم يأتِ بمجموع كبير، قلت له: أنت لم تشترط على الله، فلو أنه قال: لله علي شاة إذا حصل ابني على (90%)، فإذا حصل ابنه على (89. 5%) لا يجب عليه النذر، بل يستحب، فالاشتراط على الله جائز، لأن النبي عليه الصلاة والسلام سألته امرأة في الإهلال، قال: (أهلي واشترطي، قالت: على من؟ قال: اشترطي على ربكِ، قالت: ماذا أقول يا رسول الله؟ قال: قولي: لبيك اللهم بعمرة، فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني) يعني: لو منعني أي مانع فسأتحلل من إحرامي ولا شيء علي، فهذا الاشتراط على الرب تبارك وتعالى، لكن لو جئت إلى مطار جدة وعلي ملابس الإحرام وقد أهللت بالحج، وقلت: لبيك اللهم بحجة، لكن لم أقل: فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني، فيجب علي أن أذبح شاة. أما لو اشترطت على ربي وحبسني حابس، فإن لي أن أقوم وأخلع ملابس الإحرام وألبس الملابس العادية وأرجع في الطائرة التي جئت فيها، وليس علي شاة في هذه الحالة؛ لأنني قلت: يا رب، إن منعني مانع فائذن لي أن أتحلل في المكان الذي منعني فيه المانع وحبسني فيه الحابس، ولا شيء عليَّ، يعني لا دم علي، لكن إذا لم أشترط فيجب علي دم يذبح لفقراء الحرم، لا تذبحه للسيد البدوي، ولا عند الحسين، لا يجزئك، لا بد أن يذبح بمكة ويوزع على فقرائها.

شرح حديث: (من مات وعليه صوم صام عنه وليه)

شرح حديث: (من مات وعليه صوم صام عنه وليه) قال: [وحدثني هارون بن سعيد الأيلي وأحمد بن عيسى قالا: حدثنا ابن وهب أخبرنا عمرو بن الحارث عن عبيد الله بن أبي جعفر عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه)] يعني: الذي يموت وعليه صيام إما صيام رمضان أو صيام نذر واجب فالحق هذا يكلف به الولي، وهذا الولي إما أن يكون وارثاً أو عصبة، فهل يجوز لأجنبي أن يصوم عن الميت؟ يعني: أنت صديقي فمت وعليك خمسة أيام من رمضان، أو خمسة أيام نذر لله عز وجل، ففي هذه الحالة هل ينفع أن أصوم عنك وأبوك وأخوك وعمك وخالك والعصب والورثة كلهم موجودون؟ يجوز بشرط إذن الولي؛ لأن الحق هذا كلف به الولي. (من مات وعليه صوم صام عنه وليه)، فإن استأذنه أحد الأجانب في قضاء هذا الصوم فأذن جاز وإلا فلا.

شرح حديث المرأة التي أتت رسول الله تسأله عن أمها التي ماتت وعليها صوم شهر

شرح حديث المرأة التي أتت رسول الله تسأله عن أمها التي ماتت وعليها صوم شهر قال: [وحدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا عيسى بن يونس حدثنا الأعمش -وهو سليمان بن مهران - عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي ماتت وعليها صوم شهر، فقال: أرأيتِ لو كان عليها دين أكنتِ تقضينه؟ قالت: نعم، قال: فدين الله أحق بالقضاء)] وهذا يبين لنا أن الصيام حق لله عز وجل، كما أن هناك حقوقاً مادية بين العباد، فهناك حقوق تترتب في ذمتك للعباد، وهذه لا يغفرها الله عز وجل إلا إذا غفرها العباد، ولذلك من شروط التوبة: أن يتحلل المسلم من ذنبه إذا كان الذنب بينه وبين العباد، بأن يدفع إليهم حقوقهم أو يستسمحهم أو يستعفيهم. أما الذي هو حق لله عز وجل فإن الله تعالى إذا شاء عفا وإذا شاء عذب، أما حقوق العباد فيلزمك أن تستبرئ منها قبل ألا يكون دينار ولا درهم، وإنما هي الحسنات والسيئات، ولذلك سئل عليه الصلاة والسلام: (أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا يا رسول الله! من لا درهم له ولا دينار، قال: المفلس هو من أتى بصلاة وصيام وزكاة وحج وجهاد، ولكنه أتى وقد سب هذا وشتم هذا وسفك دم هذا وهتك عرض هذا، فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته أخذ هو من سيئاتهم، فطرحت عليه حتى طرح في النار)، هذا هو المفلس حقاً، المفلس في نظر الناس هو الذي ليس لديه فلوس، والمفلس عند الله عز وجل هو الذي أتى بكثير من الطاعات، لكنه قد تعدى على الناس ولم يتحلل منهم، والغني والثري والهنيء والسعيد من أتى بصلاة وصيام وزكاة، وتحلل من حقوق العباد في الدنيا، قبل أن يدفع ما أتى به من طاعة إليهم، في موقف لا يصلح فيه المال ولا البنون.

شرح حديث الرجل الذي سأل النبي عن أمه التي ماتت وعليها صوم شهر

شرح حديث الرجل الذي سأل النبي عن أمه التي ماتت وعليها صوم شهر قال: [حدثني أحمد بن عمر الوكيعي حدثنا حسين بن علي عن زائدة -هو ابن قدامة - عن سليمان -وهو سليمان بن مهران الأعمش - عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم] في الحديث الأول جاءت امرأة، وهنا جاء رجل يسأل، يعني: تعدد الحوادث في المسألة الواحدة، وربما يكون الجواب على السؤال الواحد متعدداً حسب حال الشخص؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كانت عنده حكمة عظيمة، فكان يأتي الرجل فيتفرس فيه النبي عليه الصلاة والسلام أنه عاق لوالديه، فيسأله الرجل: (يا رسول الله! أي الإسلام خير؟ فيقول: بر الوالدين) يعني: لديه قضية تحتاج إلى علاج. ثم يأتي آخر ويقول: (يا رسول الله! أي الإسلام خير؟ فيقول: إيمان بالله)، فالسؤال واحد والجواب متعدد بتعدد حاجات السائلين ومصالح السائلين. فهنا رجل يسأل ويقول: (يا رسول الله! إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها؟ فقال: لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها؟ قال: نعم)] يعني: لو كان على أمك هذه دين لجارتها أتقضيه عنها أو لا؟ قال: نعم، قال: فتقديم حقوق الله أولى من حقوق العباد، وهذا قياس. قال: [(لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها؟ قال: نعم، قال: فدين الله أحق أن يقضى)].

شرح حديث المرأة التي قالت: يا رسول الله! (إن أمي ماتت وعليها صوم نذر)

شرح حديث المرأة التي قالت: يا رسول الله! (إن أمي ماتت وعليها صوم نذر) ومن حديث ابن عباس أيضاً قال: [(جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن أمي ماتت وعليها صوم نذر)] يعني: هذه المرأة نذرت أن تصوم أياماً غير رمضان، ولم تنذر صيام رمضان؛ لأنه فرض، وصوم النذر يقل في الفرضية عن صوم رمضان. قالت: [(أفأصوم عنها؟ قال: أرأيتِ لو كان على أمكِ دين فقضيتيه أكان يؤدي ذلك عنها؟ قالت: نعم، قال: فصومي عن أمك)] يعني: لو كان على أمكِ دين وقضيتيه عنها هل سيسقط الدين عن أمكِ أو لا يسقط؟ (قالت: نعم، قال: فصومي عن أمكِ). إذاً: الصيام تجوز فيه النيابة، لكن النيابة الخاصة بالولي لا العامة، وكذلك الحج يجوز فيه النيابة، لكن الصلاة لا تصح فيها النيابة، فمذهب جماهير أهل العلم أن الصلاة ليس فيها نيابة، فلا ينفع أن تصلي عن غيرك لا عن الحي ولا عن الميت، وهناك كثير من الأبناء يقولون: هذا أبونا كبير وليس قادراً أن يصلي، وأيضاً فقد عقله وبدأ يخرف وليس عنده تركيز، ويتبول على نفسه، فنحن نصلي عن والدنا من باب البر، نقول: لا، لا تصلوا عنه؛ فهو إما أنه مكلف فيصلي على أي هيئة وعلى أي حال بإمكانه، وإما أنه غير مكلف، قد فقد عقله فالله عز وجل قد أسقط عنه الصلاة في هذه الحالة، والصلاة ليس فيها نيابة، إنما النيابة في الحج والصوم، وأنتم تعلمون الحديث الذي قال فيه رجل: (لبيك اللهم حجاً عن شبرمة، قال النبي عليه الصلاة والسلام: من شبرمة؟ قال: جار لي، قال: أحججت عن نفسك؟ قال: لا، يا رسول الله) هذا الشخص لم يحج عن نفسه وذهب يحج عن جاره، انظروا إلى الصداقة الصافية الخالصة لله عز وجل، يقدم صاحبه على نفسه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (حج عن نفسك أولاً، ثم حج عن شبرمة بعد ذلك). وفي الحديث: (إن أبي لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: حج عنه). يعني: لا يثبت على الجمل أو الحمار؛ لأنه عجز وكبر. والمصريون لا يفكرون في الحج إلا بعد التقاعد بعشرين سنة، فإذا ذهب إلى الحج فيحتاج إلى أربعة أشخاص يحملونه ويطوفون به، وإذا قلت له: لماذا تأخرت؟ يقول: كنت أبني البيت، وكنت أزوج الأبناء والبنات، نقول لهذا وأمثاله: أنت لست مكلفاً بكل هذا، أنت مكلف بما فرضه الله عز وجل عليك أولاً، فما فضل فلأولادك، لا يصلح أن تقدم أولادك على نفسك، فهذه فريضة وأنت قد ملكت مالاً تؤدي به هذه الفريضة، فتكون قد وجبت في حقك وجوباً فورياً، وأخر زواج ابنك وبنتك سنة أو سنتين، كذلك أخر بناء البيت واسكن في أي بيت؛ لأن الفريضة أحق من هذا، ولذلك معظم الحجاج المصريين في السبعين والثمانين والتسعين سنة، كلهم بعكاكيز، والذي ليس بعكاز يستند على اثنين، بخلاف بقية الشعوب ترى الواحد منهم يذهب إلى المنسك هذا، ومن منى إلى عرفات عشرة كيلو يمشيها على رجليه، قد تركب السيارة من منى إلى عرفات، لكن للزحام الشديد جداً لا تتمكن من ركوب السيارة، فأنت حين تمشي في الصباح من منى إلى عرفات ولا زالت الشمس غير قوية، خير لك، كذلك تمشي من عرفات إلى المزدلفة بعد المغرب والجو أهدأ من الظهر، فأنت تأخذ العشرة كيلو على رجليك وأنت منشغل بهذا الجمع، تفكر: كيف لو أنه محشور بين يدي الله عز وجل، ويوم الحج يذكرك بيوم الحشر، وبخروج الناس جميعاً إلى الله عز وجل ليحاسبهم، ثم يلقي بعضهم في النار ولا يبالي، ويلقي بعضهم في الجنة ولا يبالي سبحانه وتعالى. ومن حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال: [(بينما أنا جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتته امرأة فقالت: إني تصدقت على أمي بجارية، وإنها ماتت، فقال: وجب أجرك، وردها عليك الميراث)]. قولها: (إني تصدقت على أمي بجارية). يعني: أعطت البنت جارية صدقة لأمها، فلما ماتت أمها دخلت الجارية ضمن الميراث، والبنت ترث أمها، فترث الجارية؛ لأنه يجوز أن يرث الواحد من صدقته، فمثلاً: أنت تعطي أمك ملابس وتعطيها ذهباً وغير ذلك، وكذلك تعطي أباك مالاً وإخوتك يعطونه معك، فيتكون عند الوالدين من الملابس والذهب والهدايا وغيرها، فمات الأب والأم، فكل ما لديهم يصبح ميراثاً، ولا يصلح أن يقول أخي: أنا أعطيت أبي وأمي كيت وكيت وكيت وهذا أعطاها كذا فكل واحد يأخذ الذي أعطاهما، لا، ما أعطيت لأمك أو لأبيك خرج من ملكك ودخل في ملكهما، فلما ماتت الأم كان ما خلفته ميراثاً لجميع الأبناء للذكر مثل حظ الأنثيين، وكذلك ما خلفه الأب. لكن لو أن شخصاً تصدق بصدقة في سبيل الله عز وجل، ليس على أمه ولا على أبيه، تصدق بصدقة في سبيل الله عز وجل، كأن أوقف فرساً للجهاد في سبيل الله، فهل يجوز له أن يأخذه؟ ما يجوز، كذلك هل يجوز له أن يشتريه؟ أيضاً، لا؛ لأن عمر رضي الله عنه تصدق بفرس في سبيل الله، فرأى هذا الفرس يباع في السوق، فاستأذن عمر النبي عليه الصلاة والسلام أن يشتريه فقال له النبي: (

كتاب الصيام - فضل ليلة القدر والحث على طلبها والاعتكاف في رمضان

شرح صحيح مسلم - كتاب الصيام - فضل ليلة القدر والحث على طلبها والاعتكاف في رمضان ليلة القدر فضلها عظيم، فهي خير من ألف شهر، ومن قامها إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن حرم خيرها فقد حرم، فحري بالمؤمن أن يجتهد في طلبها وإدراكها، وذلك بقيامها وشغل ساعاتها بالطاعات من صلاة وتلاوة قرآن وذكر ودعاء واستغفار وغير ذلك من الطاعات، وقد حرص عليها الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه حق الحرص، فكانوا يعتكفون العشر الأواخر من رمضان من أجل إدراكها، ولنا في رسول الله أسوة حسنة.

باب فضل ليلة القدر والحث على طلبها وبيان محلها وأرجى أوقات طلبها

باب فضل ليلة القدر والحث على طلبها وبيان محلها وأرجى أوقات طلبها إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. سيكون الكلام في هذا الدرس عن ليلة القدر، والكلام في الأسبوع القادم - بإذن الله تعالى - سيكون عن الاعتكاف ومشروعيته ومكان الاعتكاف، وموطن البحث حينئذ سيكون عن موطن الاعتكاف؛ رداً لمن قال: إنه لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة، باعتبار أنها جزئية في غاية الأهمية، وأثارت جدلاً طويلاً في السنوات الأخيرة، فنجلي الأمر حينئذ بإذن الله تعالى.

شرح حديث (إن رجالا من أصحاب النبي أروا ليلة القدر في المنام)

شرح حديث (إن رجالاً من أصحاب النبي أروا ليلة القدر في المنام) قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب فضل ليلة القدر والحث على طلبها وبيان محلها وأرجى أوقات طلبها. حدثنا يحيى بن يحيى - هو التميمي النيسابوري أبو زكريا - قال: قرأت على مالك - وهو مالك بن أنس الإمام المشهور - عن نافع - الفقيه - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (إن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام، في السبع الأواخر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر)] يعني: أنا أرى أن رؤاكم قد تواطأت على أن ليلة القدر إنما تكون في السبع الأواخر من شهر رمضان. فقوله: (فمن كان متحريها) أي: فمن كان يطلبها ويتحرى وقتها. وقوله: (فليتحرها في السبع الأواخر) والنبي عليه الصلاة والسلام كان من عادته أنه إذا صلى الغداة يلتفت إلى أصحابه ويقول: من رأى منكم رؤيا البارحة، فيحدثه كل إنسان بما رأى، إن كان خيراً قصه عليه وأوله له النبي عليه الصلاة والسلام، فإذا سكتوا قال النبي عليه الصلاة والسلام: وإني رأيت فيما يرى النائم في هذه الليلة كيت وكيت وكيت، فكان يقص عليهم ويقصون عليه، ويؤول لهم رؤياهم صلوات ربي وسلامه عليه، حتى قص عليهم قصصاً عجيبة فيما يتعلق بالجنة والنار، والجزاء والثواب والعقاب وغير ذلك مما هو معلوم لديكم. وبين النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه: أن من رأى في منامه شيئاً يكرهه فلا يقصه على أحد، وليستعذ بالله من الشيطان الرجيم، وليتفل عن يساره ثلاثاً، وليتحول عن مكانه، وربما قال: فليتوضأ، وليصل ركعتين، فهذا فيه العصمة من الكوابيس ومن الأحلام السيئة التي تقض مضجع صاحبها.

من آداب الرؤيا

من آداب الرؤيا فمن الآداب الشرعية فيها: الأول: ألا يقصها على أحد. الثاني: إذا استيقظ أن يتفل عن يساره ثلاثاً ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، والتفل هو بين البصق والنفخ، أي: يكون فيه شيء يسير من الريق. الثالث: أن يتحول عن مكانه، يعني: يترك المكان الذي كان ينام فيه، وينام على جنبه الأيمن أيضاً؛ لأن هذا من آداب النوم، لكن إذا كان ينام في أول السرير فلينم في وسطه أو في آخره، والعكس بالعكس إذا كان هناك سريران، فيغير موضع الفراش وليتحول عن مكانه. الرابع: أن يتوضأ ويصلي ركعتين، وإذا قام الرجل من نومه فصلى ركعتين وشهد لله تبارك وتعالى بالتوحيد الخالص، فإنه لا يدعو بدعوة في هذا الوقت إلا استجيبت له، كما قال عليه الصلاة والسلام: (من تعار من الليل -أي: من استيقظ من ليله- فقام فتوضأ وصلى ركعتين لم يحدث فيهما نفسه بشيء، ثم قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له -إلى آخر الدعاء ثم قال-: لم يدع بشيء إلا استجيب له)، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (فإذا فعلت ذلك، فإنها إن شاء الله لا تضرك) يعني: إذا التزمت هذه الآداب الشرعية فإن هذه الرؤيا إن شاء الله لا تضرك، فكم من أناس يرون في منامهم شيئاً يكرهونه فيقض مضجعهم، بل ويتأرقون أشد الأرق، يظنون أن هذا واقع بهم ولا محالة، فينتظرون هذا البلاء وهذا الشر وإن طالت مدة انتظارهم، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إذا فعلت هذا) أي: إذا حافظت على هذه الآداب، (فإنها إن شاء الله لا تضرك)، يبشرك عليه الصلاة والسلام. إذاً: كان من عادته صلى الله عليه وسلم أنه يقول لأصحابه بعد صلاة الصبح: (من رأى منكم البارحة شيئاً) فتصوروا أن الصحابة في ذلك الوقت حين توجه هذا السؤال إليهم قالوا: (يا رسول الله! إنا رأينا ليلة القدر، ومحلها في السبع الأواخر من شهر رمضان، فقال عليه الصلاة والسلام: إني أرى رؤياكم قد تواطأت) يعني: هذه المنامات وهذه الرؤى قد اتفقت على أنها في السبع الأواخر من رمضان. قال: (فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر) يعني: من رمضان.

شرح حديث: (أرى رؤياكم في العشر الأواخر، فاطلبوها في الوتر منها)

شرح حديث: (أرى رؤياكم في العشر الأواخر، فاطلبوها في الوتر منها) قال: [وحدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تحروا ليلة القدر في السبع الأواخر). وحدثني عمرو الناقد وزهير بن حرب قال زهير: حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن سالم -وهو ابن عبد الله بن عمر - عن أبيه - وهو عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما قال: (رأى رجل أن ليلة القدر ليلة سبع وعشرين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أرى رؤياكم في العشر الأواخر، فاطلبوها في الوتر منها)]. أما فقوله: (أرى رؤياكم في العشر الأواخر) يعني: لما رأى هذا الرجل ليلة القدر في ليلة السابع والعشرين أراد الرسول عليه الصلاة والسلام أن يؤكد على مجموع الرؤى لا على رؤية هذا الرجل؛ لأن جل الصحابة الذين أخبروا برؤاهم أخبروا أنها في السبع الأواخر، بخلاف رجل واحد فإنه قال: إني رأيتها في ليلة السابع والعشرين، وإلا فمعظم رؤى الصحابة إنما كانت في العشر الأواخر. وقوله: (فاطلبوها في الوتر منها) أي: في الليالي الوترية، ليلة الحادي والعشرين، والثالث، والخامس، والسابع، والتاسع والعشرين. فهذه الليالي هي مناط ومحل ليلة القدر. أما كون النبي عليه الصلاة والسلام يعلم ليلة القدر، أو يعلم اسم الله الأعظم، أو يعلم ساعة الإجابة في يوم الجمعة أو غير ذلك، وأخفى ذلك على هذه الأمة، فإنما هذا الإخفاء كان لمصلحة عظيمة جداً، وهي أن يتحرى الناس العبادة، ويجتهدوا فيها في معظم هذه الأوقات؛ لأنك لو علمت يقيناً أن الساعة التي يجاب فيها الدعاء في يوم الجمعة هي ساعة كذا بالتحديد، لانقطعت في هذه الساعة للعبادة والدعاء والذكر والتسبيح، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام عمّى ذلك على الأمة فقال: (إن في الجمعة لساعة ما يدعو فيها أحد إلا استجيب له). ولذلك اختلف العلماء في تحديد هذه الساعة، فمنهم من قال: هي في الصباح، ومن قال: هي في المساء، ومن قال: هي قبيل المغرب، ومن قال: في ساعة الجمعة، ومن قال: بين يدي الإمام وهو يخطب، وكل هذا إنما هو لمصلحة الأمة، وهي أن تجتهد في الدعاء والذكر والتسبيح والصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام في هذا اليوم من أوله إلى آخره. كذلك أخفى النبي عليه الصلاة والسلام علينا اسم الله الأعظم؛ حتى نجتهد في دعاء الله عز وجل بجميع أسمائه الحسنى وصفاته العلى، كما أمرنا تعالى بقوله: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] أي: ادعوه بجميع الأسماء، فلو أننا علمنا اسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب لما دعوناه إلا بهذا الاسم فقط، فإخفاء هذا الاسم فيه مصلحة عظيمة جداً. كذلك لو أننا علمنا يقيناً ليلة القدر في رمضان لما صلينا ولا تعبدنا ولا ذكرنا ولا سبحنا الله تعالى بشيء إلا في هذه الليلة؛ لأنها ليلة هي خير من ألف شهر، فربما محت ذنوب سنين طويلة، فأنا وأنت قد نكتفي بالعبادة في هذه الليلة، فكان من المصلحة أن يخفى علينا محل هذه الليلة من بين الليالي؛ حتى يكون محل الاجتهاد واسعاً مدة عشر ليال على الصحيح.

شرح حديث ابن عمر (فالتمسوها في العشر الغوابر)

شرح حديث ابن عمر (فالتمسوها في العشر الغوابر) قال: [وحدثني حرملة بن يحيى أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب أخبرني سالم بن عبد الله بن عمر أن أباه رضي الله عنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لليلة القدر: إن ناساً منكم قد أروا أنها في السبع الأول، وأري ناس منكم أنها في السبع الغوابر، فالتمسوها في العشر الغوابر)] (الغوابر) هي البواقي والأواخر، فالغابر هو الشيء المتأخر، أو الشيء الباقي، وكلمة (الغوابر) في اللغة من كلمات الأضداد، يقال: فلان غبر أي: فلان مضى وانتهى، وفلان غبر أي: مات، وفلان غبر أي: تأخر، وفلان غبر أي: تقدم. فكلمة (غبر) في اللغة من كلمات الأضداد، تطلق على الشيء وضده، تطلق على الأول وعلى الآخر، وعلى المتقدم وعلى المتأخر، فلما ذكرت هنا في مقابلة الأول فلا بد أنها تدل على الأواخر. فقوله: (إن ناساً منكم قد أروا أنها في السبع الأول) اختلف العلماء في السبع الأول، هل هي السبع الأول من العشر الأواخر، أو السبع الأول من أول شهر رمضان؟ فهناك ناس رأوا في منامهم، والرؤى والأحلام لا ينبني عليها اعتقاد ولا أحكام، وإنما هي مبشرات. وقوله: (وأري ناس منكم) أي: ورأى أناس آخرون منكم. وقوله: (أنها في السبع الغوابر) أي: في السبع البواقي من الشهر. وقوله: (فالتمسوها في العشر الغوابر) أي: فالتمسوها في العشر الأواخر والغوابر من شهر رمضان.

شرح حديث: (التمسوها في العشر الأواخر، فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبن على السبع البواقي)

شرح حديث: (التمسوها في العشر الأواخر، فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبن على السبع البواقي) قال: [وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا محمد بن جعفر] محمد بن المثنى العنزي البصري الملقب بـ الزمن، ومحمد بن جعفر الملقب بـ غندر. قال: [حدثنا شعبة] وشعبة هو شيخ محمد بن جعفر، بل إن شعبة تزوج بأم محمد بن جعفر، فيكون محمد بن جعفر تربى في حجره ورضع من علمه. قال: [عن عقبة - وهو ابن حريث - قال: سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فالتمسوها في العشر الأواخر، فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبن على السبع البواقي)]، كأن النبي عليه الصلاة والسلام قال ذلك في ليلة الثالث والعشرين، ولم يبق من الشهر إلا سبع ليال، وكأنه قال: فإن عجز أحدكم أو ضعف عن الاجتهاد في العبادة في اليومين أو في الليلتين الماضيتين، فلا أقل من أن يجتهد في السبع البواقي.

شرح حديث: (تحينوا ليلة القدر في العشر الأواخر، أو قال: في التسع الأواخر)

شرح حديث: (تحينوا ليلة القدر في العشر الأواخر، أو قال: في التسع الأواخر) قال: [وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن جبلة قال: سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كان ملتمسها فليلتمسها في العشر الأواخر). وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا علي بن مسهر عن الشيباني -وهو أبو إسحاق الشيباني - عن جبلة ومحارب كلاهما عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تحينوا ليلة القدر في العشر الأواخر، أو قال: في التسع الأواخر)]. فقوله: (تحينوا). أي: اطلبوها وتحروها في وقتها، ووقتها في العشر الأواخر، أو في التسع الأواخر، وذكر العشر خرج مخرج الغالب وليس المقصود حقيقة العشر؛ لأن الليالي الفردية لا تنتهي إلا بليلة التاسع والعشرين، حتى وإن كان رمضان ثلاثين يوماً، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما من أيام العمل الصالح فيها أفضل عند الله عز وجل من العشر الأوائل من ذي الحجة) مع أن المقصود التسعة؛ لأن اليوم العاشر عيد، ولكنه كلام خرج مخرج الغالب، يعني: التسعة تقرب إلى العشرة، وكذلك التسع في رمضان تقرب إلى العشر، فليس المقصود حقيقة العشر وإنما المقصود التسع.

شرح حديث: (أريت ليلة القدر ثم أيقظني بعض أهلي فنسيتها فالتمسوها، في العشر الغوابر)

شرح حديث: (أُريت ليلة القدر ثم أيقظني بعض أهلي فنسيتها فالتمسوها، في العشر الغوابر) قال: [حدثنا أبو الطاهر وحرملة بن يحيى التجيبي - وكلاهما مصري - قالا: أخبرنا ابن وهب - وهو مصري - عن يونس - وهو ابن يزيد الأيلي - عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أُريت ليلة القدر)] هنا الرؤية تمت للنبي عليه الصلاة والسلام نفسه، والصحابة رأوها واختلفوا فيها، فمنهم من رآها ليلة السابع والعشرين، ومنهم من رآها في السبع الأوائل، ومنهم من رآها في السبع الأواخر، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم بين هذا كله وقال: (التمسوها في العشر، أو في التسع) ثم تأتي رؤية النبي عليه الصلاة والسلام. قال: [(أُريت ليلة القدر، ثم أيقظني بعض أهلي فَنُسِّيتُها، فالتمسوها في العشر الغوابر)] أي: البواقي من الشهر. أحياناً أنت ترى رؤيا جميلة وتفرح معها، وتشعر بأن روحك تحلق في السماء السابعة، ثم تفاجأ بمن يوقظك فتقوم، فربما من فرط همك وغمك تشعر أن هذا الخير قد انقضى عنك، وتنسى ما كنت فيه من خير، فالنبي عليه الصلاة والسلام قد رأى ليلة القدر في منامه ليس حقيقة، فكأنه أراد أن يجمع عليه أمره حتى يحدث بها، فإذا ببعض نسائه قد أيقظته عليه الصلاة والسلام، فقام ناسياً لتحديد وتعيين تلك الليلة. قال: [وقال حرملة: (فَنَسِيتُها)] يعني: في رواية: (فَنُسِّيتُها) ورواية: (فَنَسِيتُها) وهذا يدل على جواز أن يقول القائل: أُنسيت كذا أو نَسيت كذا، كلاهما جائز، لأن بعض أهل العلم قالوا: لا ينبغي أن يقول المرء: أنا نسيت كذا؛ هذا خطأ لا يوافق اللغة ولا الشرع، وإنما الموافق للغة والشرع أن تقول: أُنسيتها أو نُسِّيتُها، وقد جاء في حديث عند البخاري: (أن النبي عليه الصلاة والسلام سمع رجلاً يقرأ آية من كتاب الله أو يقرأ قرآناً، فقال: رحمه الله قد أذكرني آية كنت قد أنسيتها) يعني: غابت عنه عليه الصلاة والسلام، لكن الراجح من أقوال أهل العلم: أن لفظ أُنسيتها أولى من نَسِيتها، لكن هذا لا يعني أنها رواية شاذة أو منكرة أو لا تصح لغة ولا اصطلاحاً، وإنما نُسِّيت ونَسِيت بمعنى واحد، والقائلون بالأولى أخذوا هذا من قول الله عز وجل: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ} [الكهف:63] يعني: لو أنك رددته إلى أصله لكان نَسِي غير نُسِّي، فقالوا: النسيان من الشيطان، وهذا تأويل فيه تكلف، خاصة وقد ثبت هذا المصطلح.

شرح حديث أبي سعيد الخدري في اعتكاف النبي العشر الأواسط من رمضان برواية قتيبة بن سعيد

شرح حديث أبي سعيد الخدري في اعتكاف النبي العشر الأواسط من رمضان برواية قتيبة بن سعيد قال: [حدثنا قتيبة بن سعيد - وهو الثقفي - حدثنا بكر بن مضر عن ابن الهاد -وهو يزيد بن عبد الله بن الهاد، هكذا المحدثون يقولون: ابن الهاد، واللغويون يثبتون الياء: ابن الهادي، وهم أولى بهذا من المحدثين -عن محمد بن إبراهيم - وهو التيمي - عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه - وهو من صغار الصحابة اسمه سعد بن مالك بن سنان رضي الله عنه - قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور -يعني: يعتكف- في العشر التي في وسط الشهر، فإذا كان من حين تمضي عشرون ليلة، ويستقبل إحدى وعشرين يرجع إلى مسكنه)] يعني: أنه كان يعتكف عشرة أيام فقط، وهي التي في وسط الشهر، وهذا يدل على أن الاعتكاف إنما شرع مؤخراً ولم يشرع أولاً؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام اعتكف العشر الأوائل وخرج من معتكفه، واعتكف العشر الوسطى وخرج من معتكفه، ثم اعتكف العشر الغوابر، واستقر على ذلك حتى وفاته عليه الصلاة والسلام. قال: [(ورجع من كان يجاور معه)] يعني: ورجع من اعتكافه من كان قد اعتكف معه في العشر الوسطى، وخرج منه بخروج النبي عليه الصلاة والسلام. قال: [(ثم إنه أقام في شهر، جاور فيه تلك الليلة التي كان يرجع فيها، فخطب الناس، فأمرهم بما شاء الله، ثم قال: إني كنت أجاور هذه العشر -يعني: كنت أعتكف هذه العشر الوسطى- ثم بدا لي أن أجاور هذه العشر الأواخر)] يعني: رأيت أن أعتكف هذه العشر الأواخر. قال: [(فمن كان اعتكف معي فليبت في معتكفه)] يعني: من اعتكف معي العشر الوسطى وأراد أن يواصل معي الاعتكاف فلا يخرج من معتكفه، لكن ليبت في معتكفه وليثبت وليمكث فيه. قال: [(وقد رأيت هذه الليلة فأنسيتها -أي: ليلة القدر- فالتمسوها في العشر الأواخر في كل وتر -أي: في كل ليلة وترية- وقد رأيتني أسجد في ماء وطين)] يعني: أنا رأيت ليلة القدر، ورأيت من علاماتها وأماراتها في هذه الليلة أني أسجد لصلاة الفجر في ماء وطين، وهذه العلامة الماء والطين ليست في كل عام إلى يوم القيامة، بل رمضان يأتي أحياناً برمته من أوله إلى آخره في عز الحر حيث لا مطر ولا طين، وربما يأتي رمضان في عز المطر فيأتي من أوله إلى آخره والمطر ينزل في كل وقت من الليل والنهار. إذاً: فليست هذه العلامة صالحة لكل زمان ومكان، وإنما هذه العلامة صالحة لهذه الليلة من هذا العام من هذا الشهر، في حين رؤية النبي عليه الصلاة والسلام ليلة القدر حينئذ. قال: [قال أبو سعيد: مطرنا ليلة إحدى وعشرين]، يبين أبو سعيد الخدري راوي الحديث أن هذه الليلة التي رأى فيها النبي عليه الصلاة والسلام ليلة القدر هي ليلة إحدى وعشرين. قال: [(فوكف المسجد في مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)] (وكف) بمعنى: قطر ماءً حتى ابتلت الأرض، وكان مسجده عليه الصلاة والسلام مسقوفاً بجريد النخل، كان مسجداً متواضعاً؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن زخرفة المساجد، وبين أن زخرفتها من علامات الساعة، قال: (لا تحمروا ولا تصفروا في المساجد) فنهى عن زخرفتها وزركشتها والمباهاة بها، وبين أن ذلك من أشراط الساعة وعلاماتها، وقد وقع الناس فيما حذر منه النبي عليه الصلاة والسلام. وكل مسجد بني على البساطة واهتم أهله بالدعوة إلى الله عز وجل كانت ثماره طيبة، وشجرته طيبة، أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، أما الذين انشغلوا بزخرفة المساجد وبنائها على أحدث طراز من الخارج والداخل، فقلَّ أن تكون في هذه المساجد دعوة إلى الله عز وجل. والواقع يشهد بهذا، فكم من مساجد كلفت ملايين مملينة، وكم من مساجد أشقت شعوبها، يعني: حرموا الشعوب وأنفقوا هذه الأموال الوقفية على بناء المساجد وزخرفتها، وربما كلفت ميزانية مسجد واحد فقط ما يكفي لتزويج آلاف الشباب أو حجهم أو عمرتهم، أو قضاء مصالح عامة في الأمة. فمسجد النبي عليه الصلاة والسلام كان مسقوفاً بجريد النخل، فلا يكاد المطر يسقط على سقف المسجد إلا وينزل مباشرة إلى الأرض، فيختلط بالرمل والتراب فيحدث من ذلك ما يسمى بالطين. قال: [(فنظرت إليه وقد انصرف من صلاة الصبح -أي: فنظرت إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقد انصرف من صلاة الصبح- ووجهه مبتل طيناً وماءً)] إذاً: تحققت رؤيا النبي عليه الصلاة والسلام حيث قال: (إني رأيت ليلة القدر، ورأيت أني أسجد في ماء وطين) أي: بعد أن انتهت ليلة القدر وأقامها وأحياها بالذكر والصلاة وغير ذلك، وهذه الليلة ثبت أنه عليه الصلاة والسلام قامها وأحياها حتى الصباح، ويسمى قيام الليل بذلك؛ لأن المرء يقوم جل الليل ومعظمه، وقلّ أن يصدق ذل

حكم ملامسة الجبهة للأرض عند السجود

حكم ملامسة الجبهة للأرض عند السجود وهذا كلام محمول على أن هذا الطين أو هذا التراب كان شيئاً يسيراً لا يمنع من تمكن الجبهة من الأرض والتماسها بالأرض؛ لأن هذا فرض في السجود؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم، وذكر منها: الجبهة) والإجماع على أن الأنف تابع لها، فالذي يصلي على جبهته وقد غرز طاقيته أو قلنسوته أو عمامته في جبهته حتى بلغت حاجبه هذا على خطر عظيم جداً، فإن كان يفعل ذلك متعمداً بطلت صلاته، وإن كان يفعله جاهلاً فلا شيء عليه حتى يتعلم ويعلم، فيرجع إلى ما أمر به النبي عليه الصلاة والسلام: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: الجبهة، واليدين، والركبتين، والقدمين) هذه سبعة. وربما قال قائل: ولم الجبهة بالذات مع أن الواحد يمكن أن يصلي ويسجد على الركبتين وهي مغطاة، وكذلك يصلي في الجورب ويصلي في الخف ويصلي في النعل، نقول: إجماع أهل العلم أن الأصل في الجبهة الكشف لا التغطية، ولذلك أوجبوا أن تمس الجبهة الأرض، أو يمس منها شيء يتحقق به لغة مس الجبهة للأرض. فالإنسان الذي ينزل طاقيته إلى حد حواجبه إذا دخل في الصلاة فليرفع هذا الساتر حتى تمس جبهته الأرض والتراب، والشيعة عليهم من الله ما يستحقون يفعلون غير هذا؛ لأن الشيعة لهم دين يتدينون به غير دين الإسلام، وغير دين أهل السنة والجماعة في كل شيء، إلا شيئاً يسيراً، الشيعة يسجدون على حجارة، وعندهم مصانع لهذه الحجارة، كان في الأول يسجدون على بلطة، فلما انتهى البلط تقريباً؛ لأنهم يأخذن البلط من ماء وطين معين من كربلاء، فلما انتهى البلط الذي في كربلاء أنشئوا مصانع لصنع حجارة معينة، على اعتبار أن هذه الحجارة مربعة وفيها مكان مريح للجبهة، وتجد الإقبال الكبير من الشيعة على شراء هذه الحجارة، مما جعلهم يطالبون المصنع بأن يكثر من إنتاج هذه الحجارة، حتى يحصل كل الشيعة على هذه الحجارة، فهم يعتقدون أن الصلاة غير صحيحة إلا على هذه الحجارة، ودخلت مسجداً ذات مرة سنة (1974م) فوقع في يدي كتاب من كتب الشيعة، وكان ثمرة سيئة من ثمرات عدم تلقي العلم على أيدي المشايخ، وقع في يدي كتاب اسمه: (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) وحينها لم يكن عندي علم لا عن الشيعة ولا عن السنة، وفيه: أن الصلاة لا بد أن تكون على الأرض وعلى الحجارة، فاتخذت حجارة للصلاة عليها، وأنا في سنة (1974م) كنت في أول ثانوي، فدخلت المسجد في مدينة المنصورة فأخرجت الحجر من جيبي ووضعته لأسجد عليه، فكان هناك واحد بجانبي فلما رأى الحجر قال: أنت شيعي، قلت له: نعم والحمد لله، فقال لي: لماذا تصلي هنا؟ قلت: أصلي يا أخي في بيت ربنا، ودخل الإمام في الصلاة وكاد أن يركع وما زلنا نتجادل مع بعض فتركني ودخل في الصلاة وأنا دخلت، وكان كلما جئت لأسجد على الحجارة أخرها الأخ بيده، وبعد الصلاة قلت له: أنت جاهل، قال لي: لا، أنت الجاهل، والظاهر أنك شيعي ولا تعرف، فقلت له: خذ هذا الكتاب واقرأ فيه حتى تعلم ما فيه، فقال لي: تعال فأتى الإمام وقال له: هذا الأخ معه حجارة يسجد عليها، فكلمني الإمام بطريقة فيها عجرفة وعنجهية، فتمسكت بما أنا عليه، ورميتهم كلهم بالجهل والإلحاد وترك السنة ومعاداة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن كل هذا الكلام كان موجوداً في الكتاب، وأخذت الكتاب ومشيت، ثم صليت في مسجد في قرية مجاورة لنا، فجئت لأخرج الحجارة من الجيب فلم أجدها، فتحسرت وندمت، فلما جئت لأسجد رفعت طرف السجادة حتى أسجد على البلاط، فقال لي الرجل الذي كان بجانبي: لماذا تعمل هكذا؟ قلت له: السنة السجود على الأرض مباشرة، قال لي: هذا عمل الشيعة، وهم ليسوا من أهل السنة، قلت: وما يدريك أنت؟ قال: كنت في العراق والشيعة يفعلون هذا، أما أهل السنة فلا يفعلون ذلك، فوقعت كلماته في قلبي أبرد من الماء البارد في اليوم الحار، فقلت له: سأراجع نفسي، فقال: راجع نفسك، فذهبت من المنصورة إلى القاهرة ودخلت على شيخنا وإمامنا الكبير الشيخ كشك رحمه الله بعد صلاة الجمعة، فلما وصلت إليه قلت له: يا شيخ! الموضوع كيت وكيت وكيت وكيت، قال لي: هذا ضلال مبين، هذا مذهب الشيعة عليهم لعنة الله، وظل يسبهم، فبقيت سنة كاملة أتردد بين المنصورة والقاهرة؛ من أجل أن أصلي وراء الشيخ كشك يوم الجمعة، فقد كان صاحب فضل علي بعد ذلك الرجل الفلاح الذي لا يعرف شيئاً، ولا حتى يحسن أن يكتب اسمه، حتى تعرفوا أن الواحد قد يتلقى علمه ممن هو دونه.

شرح حديث أبي سعيد الخدري في اعتكاف النبي العشر الأواسط من رمضان برواية ابن أبي عمر

شرح حديث أبي سعيد الخدري في اعتكاف النبي العشر الأواسط من رمضان برواية ابن أبي عمر قال: [حدثنا ابن أبي عمر قال: حدثنا عبد العزيز الدراوردي عن يزيد -هو ابن الهاد - عن محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في رمضان العشر التي في وسط الشهر) وساق الحديث بمثله غير أنه قال: (فليثبت في معتكفه)] قال في الرواية الأولى: (فليبت في معتكفه) وفي هذه الرواية قال: من يريد أن يقعد معنا فليثبت في معتكفه في العشر الأواخر. قال: [غير أنه قال: (فليثبت في معتكفه. وقال: وجبينه ممتلئاً طيناً وماءً)] الجبين: هو طرف الجبهة، وللإنسان جبينان، الجبين الأيمن والجبين الأيسر، والذي في المقدمة هو الجبهة، ولا تعارض بين قوله في الرواية الأولى: (ووجهه مبتل طيناً وماءً) يعني: فيه شيء يسير لا يؤثر على التصاق الجبهة بالأرض، أما قوله: (وجبينه ممتلئاً طيناً وماءً) والجبينان هما جانبا الجبهة، ولا بأس أن يمتلئ الجبين طيناً وماءً، لكنه لا يمنع من التصاق الجبهة بالأرض؛ لأن هناك فرقاً بين الجبين وبين الجبهة، فإذا امتلأ الجبين طيناً فلا مانع أن تكون الجبهة بلا طين.

شرح حديث أبي سعيد الخدري في وقوع ليلة القدر ليلة إحدى وعشرين في زمن النبي

شرح حديث أبي سعيد الخدري في وقوع ليلة القدر ليلة إحدى وعشرين في زمن النبي قال: [حدثني محمد بن عبد الأعلى قال: حدثني المعتمر - وهو ابن سليمان التيمي - حدثنا عمارة بن غزية الأنصاري قال: سمعت محمد بن إبراهيم يحدث عن أبي سلمة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول من رمضان، ثم اعتكف العشر الأوسط في قبة تركية -يعني: قبة صغيرة من صوف أو من خيش- على سدتها حصير -يعني: الباب من حصير وهو الخوص- قال: فأخذ الحصير بيده فنحاها في ناحية القبة)] يعني: أخذ هذه السدة وجعلها في ناحية من هذه القبة أو المكان الذي خصه للمعتكف. وفي هذا جواز أن يتخذ المعتكف لنفسه قبة ومكاناً خاصاً يعتكف فيه، لا يدخل عليه فيه أحد. قال: [(ثم أطلع رأسه فكلم الناس)]، بعدما نحى الباب الذي من الحصير أخرج رأسه من الباب فكلم الناس. قال: [(فدنوا منه -أي: اقتربوا منه- فقال: إني اعتكفت العشر الأول ألتمس هذه الليلة)] أي: أنه ظن أن هذه الليلة في العشر الأول قبل أن يخبر أنها في العشر الأواخر. قال: [(ثم اعتكفت العشر الأوسط)] أي: أيضاً التماساً لهذه الليلة. قال: [(ثم أُتيت فقيل لي)] أي: أتاني ملك أو رأى ذلك رؤيا. قال: [(فقيل لي: إنها في العشر الأواخر)]، والغالب أن الذي أتاه إنما هو جبريل عليه السلام؛ لأنه كان يأتيه بالوحي. قال: [(فمن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف، فاعتكف الناس معه)]. وهذا يدل على أن الاعتكاف للاستحباب. قال: [(قال: وإني أريتها ليلة وتر)]. أي: رأيتها في المنام أو فيما يرى النائم وأنها في ليلة وترية. قال: [(وأني أسجد صبيحتها في طين وماء)] يعني: في أثناء الصلاة. وكون ليلة القدر في ليلة وترية هذا عام إلى قيام الساعة، لكن في هذه الليلة بالذات ومن هذا العام الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم هذا القول ستمطر السماء، وسيبتل المسجد، وسنصلي الصبح في الطين والماء. قال: [(فأصبح من ليلة إحدى وعشرين)]. قوله: (فأصبح) أي: فصلى صبيحة ليلة واحد وعشرين في طين وماء. قال: [(وقد قام إلى الصبح -أي: إلى صلاة الصبح- فمطرت السماء، فوكف المسجد)] أي: فنزل المطر من سقف المسجد إلى الأرض. قال: [(فأبصرت الطين والماء -هذا كلام أبي سعيد - فخرج حين فرغ من صلاة الصبح وجبينه وروثة أنفه فيهما الطين والماء -يعني: طرف أنفه التي هي الأرنبة- وإذا هي ليلة إحدى وعشرين من العشر الأواخر)]. قال: [حدثنا محمد بن المثنى حدثنا أبو عامر - وهو العقدي - حدثنا هشام عن يحيى - وهو ابن أبي كثير - عن أبي سلمة قال: (تذاكرنا ليلة القدر)] يعني: تسامرنا وجعل كل منا يحدث أخاه عن ليلة القدر وعن فضلها وعن محلها وعن وقتها وشرفها وغير ذلك. قال: [(فأتيت أبا سعيد الخدري رضي الله عنه وكان لي صديقاً)] أبو سعيد الخدري سعد بن مالك بن سنان الخدري المدني كان صديقاً لـ أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف. قال: [(فقلت: ألا تخرج بنا إلى النخل؟ -أي: إلى البساتين والمزارع- فخرج وعليه خميصة، فقلت له: سمعت يا أبا سعيد! رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر ليلة القدر؟ فقال: نعم، اعتكفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشر الوسطى من رمضان، فخرجنا صبيحة عشرين، فخطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أريت ليلة القدر وإني نَسيتها أو أُنسيتها، فالتمسوها في العشر الأواخر من كل وتر، وإني أريت أني أسجد في ماء وطين، فمن كان اعتكف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فليرجع، قال: فرجعنا وما نرى في السماء قزعة -يعني: قطعة من سحاب- وجاءت سحابة فمطرنا حتى سال سقف المسجد، وكان من جريد النخل، وأقيمت الصلاة -أي: صلاة الفجر- فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد في الماء والطين، قال: حتى رأيت أثر الطين في جبهته) وحدثنا عبد بن حميد أخبرنا عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليمني أخبرنا معمر بن راشد البصري اليمني. (ح) وحدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي - الإمام المصنف - أخبرنا أبو المغيرة حدثنا الأوزاعي] عالم الشام، ليس هناك في زمانه في الشام أفضل منه، وكان مجاهداً، وقد واجه الحجاج بن يوسف الثقفي فوعظه وأغلظ له في الوعظ حتى بكى الحجاج. قال: [كلاهما عن يحيى بن أبي كثير بهذا الإسناد نحوه، وفي حديث

شرح حديث أبي سعيد في التماس ليلة القدر في الليلة الخامسة أو السابعة أو التاسعة والعشرين

شرح حديث أبي سعيد في التماس ليلة القدر في الليلة الخامسة أو السابعة أو التاسعة والعشرين قال: [حدثنا محمد بن المثنى وأبو بكر بن خلاد قال: حدثنا عبد الأعلى حدثنا سعيد -هو ابن أبي عروبة - عن أبي نضرة -هو المنذر بن مالك بن قُطَعَة - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم العشر الأوسط من رمضان يلتمس ليلة القدر قبل أن تُبان له)] يعني: قبل أن يخبر ويأتيه الوحي بأنها في العشر الأواخر. قال: [(فلما انقضين -أي: فلما مرت هذه العشر الأوسط- أمر بالبناء فقوض)] يعني: لما انتهت هذه العشر الأوسط أمر بهذه الخيمة فنزعت وأزيلت. قال: [(ثم أبينت له أنها في العشر الأواخر فأمر بالبناء فأعيد)] أي: لما أخبر بليلة القدر أمر بالخيمة فأعيد تركيبها وبناؤها مرة أخرى. قال: [(ثم خرج على الناس فقال: يا أيها الناس! إنها كانت أبينت لي ليلة القدر، وإني خرجت لأخبركم بها، فجاء رجلان يحتقان معهما الشيطان فَنُسِّيتُها)] يعني: أنا رأيت في ليلة الحادي والعشرين أن ليلة القدر ليست في العشر الأوسط من الشهر وإنما هي في الأواخر منه، وربما رآها تحديداً في ليلة بعينها، وقام من نومه وأتى أصحابه ليخبرهم بميعاد هذه الليلة من ذلك العام، وليست هذه الليلة متعينة في كل عام. قوله: (فجاء رجلان يحتقان معهما الشيطان) فتحاقا أو تخاصما أو تلاحيا كلها بمعنى واحد، والمعنى: أن كل واحد منهما يدعي أن له حقاً عند صاحبه، ويطالب صاحبه بالحق الذي عنده، وكان معهما الشيطان، فلما رأى ذلك النبي عليه الصلاة والسلام نسي ما كان سيحدث به أصحابه، وهذا يدل على أن الخصومة والملاحاة سبب للعذاب والشقاء، وسبب لرفع الخيرات وجلب المضرات. وقال النبي عليه الصلاة والسلام في رواية أخرى: (وإني خرجت لأخبركم بليلة القدر، غير أني رأيت رجلين منكما قد تخاصما فرفعت) فهل معنى (رفعت) نسيتها أو أُنسيتها، أم أنها رفعت هذه الليلة وتحولت إلى ليلة أخرى؟ على خلاف بين أهل العلم، وهذا يدل على أن الخصومة والملاحاة والخلافات سبب لمحق البركات وجلب المضرات. قال: [(فالتمسوها في العشر الأواخر من رمضان، التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة)] يعني: التمسوها في التاسعة والعشرين والسابعة والعشرين والخامسة والعشرين، مع أنه كان حقه أن يقول: التمسوها في الخامسة والسابعة والتاسعة؛ للترتيب، ولكنه أتى من الآخر قال: (التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة)، ولذلك لم يتفطن أحد من أهل العلم إلى هذه الأعداد إلا ابن تيمية عليه رحمة الله، فقال كلاماً جميلاً سأذكره. ومبدأ الحساب للمجتهد المطلق أمر لازم، وإلا كيف سيتعامل مع الأعداد والأرقام الموجودة في الكتاب والسنة؟ لا بد أن يكون فقيهاً بمادة الحساب والرياضة، ولذلك الإمام السيوطي عليه رحمة الله ادعى أنه مجتهد مطلق، وأراد أن يصنع لنفسه مذهباً يخالف فيه مذهب إمامه؛ لأنه كان شافعي المذهب، فخالفه في ثمان عشرة مسألة فقط، فرأى أن العملية ما تستأهل مذهباً منفرداً؛ لأنه كان يفكر بنفس الطريقة التي كان يفكر بها الشافعي والشافعية، فكيف يخالفهم والمنهج الفكري واحد، والأصول واحدة؟ الشاهد: أن الإمام السيوطي ظن أو ترجح لدى نفسه أنه يحق له أن يكون مجتهداً مطلقاً، لأنه بلغ في العلم شأناً عظيماً جداً، وكان كعبه عالياً في العلم، خاصة فيما يتعلق بالعلوم الحديثية، وكان ذا شأن عظيم، لكن الإمام السخاوي كان يعيش معه في عصر واحد، فلم يكن السيوطي يصنف كتاباً إلا ويرد عليه السخاوي والعكس بالعكس، والسيوطي له أكثر من ألف ومائتي مصنف، وقيل: ألفا مصنف، ما ترك باباً من أبواب العلم إلا وصنف فيه مؤلفاً: أدب، لغة، حديث، فقه، تفسير، ما ترك شيئاً إلا وصنف فيه كتباً وصار إماماً فيه، فقال له السخاوي: أنت قلت: إنك مجتهد مطلق كيف ذلك وأنت تجهل الحساب، هذه المادة الوحيدة التي لم يكن يفقه السيوطي فيها شيئاً، والحساب من ألزم العلوم لعلم المواريث وغيره من المسائل الشرعية التي تحتاج إلى الحساب والرياضة، فـ السيوطي ليس عنده استعداد أن يستوعب مسألة واحدة في الحساب، فـ السخاوي قال له: أنت لست مجتهداً مطلقاً، فيرد السيوطي على السخاوي، وذلك عندما ألّف السخاوي كتاباً اسمه: (ألف سيخ في عين من حرم الفتيخ) والفتيخ هو حديد، وكان السيوطي يحرم الفتيخ، فرد عليه بكتاب اسمه: (الفتيخ في عين من أحل الفتيخ) وكل واحد يأتي بأدلته، ودار بينهما من المهاترات والمناظرات الشيء الكثير جداً، وقد ذكر السخاوي طرفاً عظيماً جداً في

شرح حديث عبد الله بن أنيس في وقوع ليلة القدر ليلة ثلاث وعشرين في زمن النبي

شرح حديث عبد الله بن أنيس في وقوع ليلة القدر ليلة ثلاث وعشرين في زمن النبي قال: [عن عبد الله بن أنيس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أريت ليلة القدر ثم أنسيتها، وأراني صبحها أسجد في ماء وطين، قال: فمطرنا ليلة ثلاث وعشرين)] قبل ذلك قال: ليلة واحد وعشرين، وهذا يدل على أن الليلة متنقلة. قال: [(فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانصرف وإن أثر الماء والطين على جبهته وأنفه. قال: وكان عبد الله بن أنيس يقول: ثلاث وعشرين)] أي: في عام آخر؛ لأنها لا ترى في السنة مرتين وإنما مرة واحدة، لكن اختلاف الروايات يدل على اختلاف السنوات. قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا ابن نمير ووكيع عن هشام عن أبيه عن عائشة] هشام هو هشام بن عروة عن أبيه عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها. [قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (التمسوا -وفي رواية- تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان)].

شرح حديث أبي بن كعب في كون ليلة القدر ليلة سبع وعشرين

شرح حديث أبي بن كعب في كون ليلة القدر ليلة سبع وعشرين قال: [وحدثنا محمد بن حاتم وابن أبي عمر كلاهما عن ابن عيينة قال ابن حاتم: حدثنا سفيان بن عيينة عن عبدة وعاصم بن أبي النجود سمعا زر بن حبيش يقول: (سألت أبي بن كعب رضي الله عنه فقلت: إن أخاك ابن مسعود يقول: من يقم الحول يصب ليلة القدر)] يعني: الذي سيصلي العام كله سيدرك ليلة القدر، وهذا مذهب خاص لـ ابن مسعود فقد كان يرى أن ليلة القدر في رمضان وفي غير رمضان، وأن من قام الحول كله لا بد له من إصابة ليلة القدر. قال: [(فقال: رحمه الله، أراد ألا يتكل الناس)] انظر إلى الأدب من أبي بن كعب مع ابن مسعود، حيث قال: رحم الله أخي ابن مسعود، ثم بين بأدب شديد جداً خطأ ابن مسعود بعد أن دعا له بالرحمة ووجد له مخرجاً وعذراً بقوله: (أراد ألا يتكل الناس) يعني: هو أراد أن تجتهدوا في العبادة في جميع السنة، لم يجعلها في العشر الأواخر، ولا في رمضان، بل في السنة كلها. قال: [(أما إنه قد علم أنها في رمضان)] يعني: أبي بن كعب أثبت أن ابن مسعود يعلم أنها في رمضان، ولكنه قال لكم خلاف ما يعلم؛ حتى لا تتكلوا، وهذا من فقه الدعوة. قال: [(وأنها في العشر الأواخر، وأنها ليلة سبع وعشرين)] يعني: مذهب أبي بن كعب أنها على التعيين من كل عام ليلة سبع وعشرين، وكان يقسم على ذلك ولا يستثني، يقول: أقسم بالله العظيم أو أحلف بالله غير حانث ولا مستثن أنها ليلة السابع والعشرين فيما مضى؛ لأنها لو كانت فيما بقي لكانت في أول الشهر يوم اثنين أو ثلاثة. وهذا يدل على أن العالم لا يلزمه أن يفتي بكل ما يعلم؛ لأنه لا بد وأن ينظر في مصلحة المستفتي، أحياناً يأتيك الرجل فيقول لك: أنا قلت لامرأتي: عليها الطلاق، قد تقول: وقع الطلاق، والطلاق لم يقع، وهذا اللفظ عند بعض أهل العلم يقع به الطلاق، وعند الجمهور طلاق ضمني، يعني: إذا نوى به الطلاق وقع، وإذا لم ينو لم يقع، يقول لك: أنا لم أنو، هذه زوجة وعشرة سنين وعيال وأكل وشرب وملابس فكيف أنوي؟ لم أنو والله، فإن كان من أهل العلم أو طالب علم مؤدب محترم وصاحب دين وعلم ووقع في مثل هذا تقول له: لا شيء عليك ولا حرج، عليك كفارة يمين؛ لأن هذا صاحب دين وتحرٍ، ويعلم أن نساء المؤمنين ليس بالأمر الهين، وخراب البيوت ليس بالأمر الهين، بخلاف من قد جثم الشيطان على صدره بالليل والنهار، فمثل هذا يخوف، وسار جماهير أهل العلم قديماً وحديثاً أنه ليس بلازم أن يفتي الرجل المستفتي بما هو حق في الشرع، بل يمكن أن يتجاوزه لمصلحة المستفتي، استناداً إلى المصلحة الخاصة للمستفتي، وأنه لا يضره بالفتوى؛ لأنه ليس كل العلم ينفع الناس، فمن العلم ما يفتنهم ويضرهم ويضلهم، ولذلك قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟. ويقول ابن مسعود: ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة. مع أنه دين وعلم وأدلة، لكن لا تبلغ لهذه الأدلة عقول الخلق، فينبغي أن يخاطبوا على قدر عقولهم؛ حتى لا يكذبوا الله تعالى ورسوله. إذاً: فالأصل أن يتفرس المفتي في وجه المستفتي، وألا يعطيه من العلم إلا ما ينفعه، أقل منه لا، زيادة عنه لا، أقل منه يجعله يفرط، وأكثر منه يضله ويشقيه. قال: [(ثم حلف - أي أبي - لا يستثني - أي لا يقول: إن شاء الله - أنها ليلة سبع وعشرين، فقلت: بأي شيء تقول ذلك يا أبا المنذر؟ -وهذه كنية أبي - قال: بالعلامة أو بالآية التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها تطلع يومئذ لا شعاع لها)]، لم يذكر العلامة وهي الشمس؛ لبيانها وعدم الحاجة إلى ذكرها، فالشمس تطلع في ذلك اليوم لا شعاع لها، نحن في هذا الوقت عندما ننظر إلى الشمس وهي في جهة المشرق عند طلوعها نرى أشعة مثل الحبال والخطوط تخرج من الشمس إلينا، ففي ليلة القدر تمتاز عن بقية الليالي فيما يتعلق بعلامتها وأمارتها في صبيحة تلك الليلة، وهي أن الشمس تخرج في صبيحة ليلة القدر بيضاء نقية لا شعاع لها صافية، من ينظر إليها يسعد جداً بنظره إليها، بخلاف غيرها من الأيام، فإنك لا تطيق النظر إليها كثيراً؛ لأنه يؤذيك شعاعها، لكن في هذا اليوم بالذات تخرج بلا شعاع. إذاً: هذه إحدى الأمارات والعلامات على أن الليلة الماضية والمنصرمة كانت ليلة القدر. قال: [وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة قال: سمعت عبدة بن أبي لبابة يحدث عن زر بن حبيش عن أبي بن كعب رضي ال

كتاب الإمارة - الناس تبع لقريش والخلافة في قريش

شرح صحيح مسلم - كتاب الإمارة - الناس تبع لقريش والخلافة في قريش بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الناس تبع لقريش في الجاهلية والإسلام، وأن الخلافة العامة في قريش، وهذا أمر أجمع عليه أهل السنة والجماعة، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيلي أمر المسلمين اثنا عشر خليفة كلهم من قريش يكون على أيديهم عز الإسلام ونصرة راية الحق، وقد اختلف العلماء في الزمان المحدد لهؤلاء الخلفاء على أقوال عدة.

باب الناس تبع لقريش، والخلافة في قريش

باب الناس تبع لقريش، والخلافة في قريش إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستغفره ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. قال رحمه الله: (باب: الناس تبع لقريش، والخلافة في قريش) الناس تبع لقريش في الخير والشر، والإمارة والإمامة، والإمام الأعظم -أي: الخليفة العام- من قريش.

شرح حديث أبي هريرة: (الناس تبع لقريش)

شرح حديث أبي هريرة: (الناس تبع لقريش) قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب وقتيبة بن سعيد قالا: حدثنا المغيرة -يعنيان: الحزامي] أي: أنه المغيرة بن عبد الرحمن المدني نزيل عسقلان، ولقبه قصي [ح وحدثنا زهير بن حرب - أبو خيثمة النسائي نزيل بغداد- وعمرو الناقد المصري قالا: حدثنا سفيان بن عيينة كلاهما -أي: المغيرة بن عبد الرحمن الحزامي وسفيان بن عيينة - عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي حديث زهير: يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم]. أي: في طريق الأعرج قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي حديث زهير قال أبو هريرة: يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم. ومعنى يبلغ به: بعد طبقة الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فهو يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. كذلك معنى قول الراوي عن الصاحب: يرفعه. أي: يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فمعنى يبلغ به ويرفعه: أن هذا القائل لهذا الكلام هو النبي صلى الله عليه وسلم، فإما أن يقول التابعي: قال الصاحب: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم. أو: قال النبي صلى الله عليه وسلم. أو: أبلغ إلى النبي صلى الله عليه وسلم. أو يبلغ إلى النبي صلى الله عليه وسلم. أو يرفعه. كله في معنى واحد، وهو أن القائل لهذا الكلام هو النبي صلى الله عليه وسلم. قال: [وقال عمرو -أي عمرو الناقد - رواية] معنى رواية: رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم. أي: يبلغ به أو يرفعه، والمعنى واحد. [قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الناس تبع لقريش في هذا الشأن)] أي: أتباع لقريش في شأن الإمارة أو الخلافة [(مسلمهم لمسلمهم وكافرهم لكافرهم)] أي: أن الناس في إيمانهم وإسلامهم وفي كفرهم تبع لقريش. ولو نظرت في أيام الجاهلية قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم لعلمت أن الناس في هذه الحالة من الكفر كانوا أتباعاً لقريش، وأن قريشاً كانت تسود العرب وتقودها مع كفرها وضلالها، فهذا يدل على أن قريشاً كانت رأساً في الضلال قبل البعثة، وكذلك هي رأس في الخير بعد الإسلام وبعد فتح مكة. قال: [(الناس تبع لقريش في هذا الشأن مسلمهم لمسلمهم وكافرهم لكافرهم)] أي: المسلمون تبع لقريش في الإسلام، والكفار تبع لقريش في الكفر. قال: [وحدثنا محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر] وهو معمر بن راشد البصري نزيل اليمن يروي عن همام بن منبه أو ابن منبه كلاهما سواء، [قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر أحاديث منها]، هذه الأحاديث تسمى صحيفة همام عن أبي هريرة وهي حوالي (142) حديثاً يرويها همام عن أبي هريرة، لم يقل فيها همّام باستمرار: حدثنا أبو هريرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول كذا وإنما قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: كيت وكيت وكيت حتى عد (142) حديثاً تسمى الصحيفة، أخرجها الإمام أحمد بن حنبل في الجزء الثاني من مسنده، وهو الجزء الذي يشمل رواية أبي هريرة رضي الله عنه. قال: [فذكر أحاديث منها: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الناس تبع لقريش في هذا الشأن مسلمهم تبع لمسلمهم، وكافرهم تبع لكافرهم)].

شرح حديث جابر: (الناس تبع لقريش في الخير والشر)

شرح حديث جابر: (الناس تبع لقريش في الخير والشر) قال: [وحدثني يحيى بن حبيب الحارثي حدثنا روح -وهو روح بن عبادة البصري - حدثنا ابن جريج] وهو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج وهو مدلّس، ونحن نعلم أن المدلّس إذا لم يصرّح بالسماع توقفنا في قبول حديثه، فهو هنا صرّح بالسماع، كما أن شيخه أبو الزبير المكي محمد بن مسلم بن تدرس مدلّس كذلك، ولكنه قد صرّح بالسماع من جابر بن عبد الله الأنصاري فانتفت عنهما شبهة التدليس؛ لأن المدلّس إذا صرّح بالسماع وإذا قال: سمعت فلاناً، أو حدثني فلان، أو أخبرني، أو أنبأني تنتفي عنه فوراً شبهة التدليس؛ لأن المدلّس ليس كاذباً، وإنما هو يوهم المستمع أو القارئ أنه سمع ولم يسمع، فهو يقع في الوهم، وإن كان يربطه بالكذب على القائل، لكنه ليس كذّاباً كذباً صريحاً. قال [ابن جريج: حدثني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الناس تبع لقريش في الخير والشر).

شرح حديث ابن عمر: (لا يزال هذا الأمر في قريش)

شرح حديث ابن عمر: (لا يزال هذا الأمر في قريش) قال: [وحدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس] وأحياناً يقول مسلم: حدثنا أحمد بن يونس، وينسبه إلى جده لكثرة ملازمته لجده ويسقط من النسب أباه، حتى إذا أردت أن تبحث عن ترجمة أحمد بن عبد الله بن يونس تكون أنت عالماً بنسب الرجل، ولو كنت لا تعلم أن أحمد بن حنبل اسمه أحمد بن محمد بن حنبل لا بد أنك ستحتار في البحث عن ترجمته، وكثير من الناس يذهب إلى كتب التراجم ليفتّش عن ترجمة راو بعينه، مشهور بنسبته إلى جده مثلاً كـ أحمد بن محمد بن حنبل، فيبحث في باب أحمد بن حنبل، فلا يجد في الرواة من يسمى أحمد بن حنبل، فيظن أن هذا الكتاب لم يشتمل على ترجمة الإمام، فيقول: فبحثت في كتاب التقريب أو التهذيب أو الكمال أو غير ذلك من كتب الرجال فما وجدت ذكراً له. وفي الحقيقة هو مذكور في كل هذه الكتب، ولكن بهذا الاسم الثلاثي أحمد بن محمد أي: اسم الآباء في باب الميم، ولكنه ذهب ليبحث عن ترجمته في باب الحاء في اسم الأب أحمد بن حنبل، فلم يجد له ذكراً في هذا الموطن، فكذلك الذي يبحث عن ترجمة أحمد بن عبد الله بن يونس يبحث عن هذا الاسم الثلاثي. وربما يكون الحافظ ابن حجر في كتاب التقريب أو التهذيب علم أن هذا موطن يخطئ فيه كثير من الناس، فيقول في باب الياء بالنسبة للأب أحمد بن يونس تجده قد سبق في أحمد بن عبد الله بن يونس، فإذا قال ذلك فقد أراحك، وإلا فقد حدث هذا معي منذ سنوات فيما يسمى بـ عبد الله بن منيع، فأنا بحثت عنه بهذا الاسم وإذا به اسم طويل جداً، وفي آخره منيع، وما دلني على ذلك إلا شيخنا الفاضل رحمة الله تعالى عليه الشيخ عبد المحسن العباس، وهو أستاذ الحديث في الجامعة الإسلامية، وله كتب في المصطلح كثيرة. قال: [وحدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس حدثنا عاصم بن محمد بن زيد عن أبيه قال: قال عبد الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال هذا الأمر في قريش -أي: الإمارة- ما بقي من الناس اثنان)] وهذا يدل على أن الإمارة والخلافة في قريش إلى يوم القيامة، وربما يدخل في هؤلاء الخلفاء المهدي المنتظر؛ لأنه آخر الخلفاء على الإطلاق، وهو قرشي من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، بل من أولاد فاطمة رضي الله عنها، واسمه يواطئ اسم النبي صلى الله عليه وسلم، واسم أبيه يواطئ اسم أبي النبي صلى الله عليه وسلم. أي: اسمه محمد بن عبد الله القرشي، فلا يأتك بعد هذا صعيدي أو منوفي فيقول: أنا المهدي المنتظر. لا بد من معرفة أصله: هل هو قرشي أم لا؟ ولا يمنع أن يكون القرشي منوفياً -وإن كانت هذه عجيبة من العجائب- فلو أنه انتقل من قريش إلى منوف أو إلى الصعيد فلا بأس أن تكون الأسرة هاجرت وهو منها، وهذا تقدير الله عز وجل حتى يعم الأمر، فيظهر فجأة ومرة واحدة، فإن عيسى بن مريم عليه السلام بشّر بنبي يأتي من بعده اسمه أحمد، فلما تسمى محمد عليه السلام بهذا الاسم، خفي على الناس أن محمداً كأحمد، وكان أول من تسمى في الدنيا باسم أحمد هو نبينا صلى الله عليه وسلم، فقال الشانئون: إنما بشّر عيسى عليه السلام برجل اسمه أحمد ولم يقل: محمد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحى به الذنوب، وأنا الحاشر وأنا العاقب) أي: الذي يُحشر الناس على قدميه عليه الصلاة والسلام أو بين يديه صلى الله عليه وسلم، فهذه أسماؤه الخمسة، وله أسماء أخرى قد ذكرناها من قبل ومرت بنا.

شرح حديث جابر بن سمرة: (لا ينتهي هذا الأمر حتى يكون على الناس اثنا عشر خليفة)

شرح حديث جابر بن سمرة: (لا ينتهي هذا الأمر حتى يكون على الناس اثنا عشر خليفة) قال: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا جرير -وهو ابن عبد الحميد الضبي الكوفي عن حصين - حصين بن عبد الرحمن الكوفي - عن جابر بن سمرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول. (ح) وحدثنا رفاعة بن الهيثم الواسطي -واللفظ له- حدثنا خالد -يعني ابن عبد الله الطحان]، الواسطي، وواسط هي قرية بالعراق من أعمال الحجاج بن يوسف الثقفي عليه من الله ما يستحق. قال: [عن حصين عن جابر بن سمرة قال: دخلت مع أبي على النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول: (إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة -أي: لا ينتهي هذا الأمر حتى يكون على الناس اثنا عشر خليفة- ثم تكلم بكلام خفي علي فقلت لأبي: ما قال؟ قال: كلهم من قريش)] هذه الكلمة لم يسمعها جابر، وفي هذا إثبات أن جابراً وأباه صحابيان. قال جابر بن سمرة: دخلت مع أبي على النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول كلاماً وخفي علي بعض كلامه، فسألت عنه قال: (كلهم من قريش). قال: [حدثنا ابن أبي عمر] وهو محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني اليمني انتقل إلى مكة واستوطنها، وتتلمذ على يد سفيان بن عيينة. قال: [حدثنا سفيان عن عبد الملك بن عمير عن جابر بن سمرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يزال أمر الناس ماضياً وقائماً ومستمراً ما وليهم اثنا عشر رجلاً، ثم تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة خفيت علي فسألت أبي: ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: كلهم من قريش)] أي: هؤلاء الاثنا عشر خليفة كلهم من قريش. قال: [وحدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا أبو عوانة عن سماك بن جابر بن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث ولم يذكر: (لا يزال أمر الناس ماضياً)]. قال: [وحدثنا هداب بن خالد الأزدي -وقيل: هدبة - حدثنا حماد بن سلمة عن سماك بن حرب قال: سمعت جابر بن سمرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة -أي: أن الإسلام عزيز في ظل اثني عشر خليفة من قريش- ثم قال كلمة لم أفهمها فقلت لأبي: ما قال؟ قال: كلهم من قريش). حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية محمد بن خازم الضرير عن داود -وهو ابن أبي هند - عن الشعبي -وهو عامر بن شراحيل بفتح الشين- عن جابر بن سمرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزال هذا الأمر عزيزاً إلى اثني عشر خليفة، ثم تكلم بشيء لم أفهمه فقلت لأبي: ما قال؟ قال: كلهم من قريش). (ح) حدثنا نصر بن علي الجهضمي حدثنا يزيد بن زريع -إمام البصرة، أثنى عليه الإمام أحمد بن حنبل أعظم ثناء- حدثنا ابن عون. (ح) وحدثنا أحمد بن عثمان النوفلي -واللفظ له- حدثنا أزهر حدثنا ابن عون عن الشعبي عن جابر بن سمرة قال: (انطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعي أبي فسمعته يقول: لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفة، فقال كلمة صمنيها الناس -أي: أصابني بسبب صياحهم واختلاط أصواتهم الصمم، فلم أتمكن من سماع الكلمة التي قالها- فقلت لأبي: ما قال؟ قال: كلهم من قريش). حدثنا قتيبة بن سعيد وأبو بكر بن أبي شيبة حدثنا حاتم -وهو ابن إسماعيل - عن المهاجر بن مسمار عن عامر بن سعد بن أبي وقاص قال: كتبت إلى جابر بن سمرة مع غلامي نافع: أن أخبرني بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فكتب إلي: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم جمعة عشية رجم الأسلمي -أي: ماعز الأسلمي الذي رجمه النبي عليه الصلاة والسلام في الزنا- يقول: (لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة)]. وهذه بشرى عظيمة، فمهما حاول المحاولون فالدين قائم وظاهر، وله أئمته الذين يظهرونه في كل زمان ومكان، حتى تقوم الحجة على جميع الخلق، فيأتي الناس جميعاً يوم القيامة ولا حجة لهم بين يدي الله عز وجل، إما مؤمن يدخل الجنة برحمة الله تعالى، وإما كافر يدخل النار بعمله وبسبب كفره. قال: [(لا يزال ا

كلام النووي في أحاديث باب (الناس تبع لقريش)، و (الخلافة في قريش)

كلام النووي في أحاديث باب (الناس تبع لقريش)، و (الخلافة في قريش) قال الإمام النووي عليه رحمة الله: (هذه الأحاديث وأشباهها دليل ظاهر أن الخلافة مختصة بقريش لا يجوز عقدها لأحد من غيرهم، وعلى هذا انعقد الإجماع في زمن الصحابة). وأنتم تعلمون أن أفضل الإجماع ما أجمعت عليه الصحابة، فالإجماع الذي ليس محل نزاع ولا اختلاف هو إجماع الصحابة رضي الله عنهم، فانعقد إجماع الصحابة أن الخلافة والإمارة العامة في قريش لا في غيرهم، ولا يمنع أن يكون الخليفة العام يولي ولاة على الأمصار من غير قريش؛ لأن المقصود بالإمارة هنا: ليست الإمارة الخاصة أو إمارة الدويلات، أو الدول والأمصار التابعة للولاية العامة، وإنما المقصود في هذه النصوص: الإمارة العامة والخلافة العامة. أي: الخليفة الكبير الذي يعيّن ولاة على الأمصار، فلا بأس أن يكون الولاة على الأمصار من قريش أو من غير قريش، وإنما الإمام العام يكون من قريش. قال: (وعلى هذا انعقد الإجماع في زمن الصحابة، فكذلك بعدهم، ومن خالف فيه من أهل البدع أو عرض بخلاف من غيرهم -أي: ومن خالف في هذا الأمر وخالف في هذا الإجماع فإنه من أهل البدع- فهو محجوج بإجماع الصحابة والتابعين فمن بعدهم بالأحاديث الصحيحة. قال القاضي -أي: القاضي عياض -: اشتراط كونه قرشياً هو مذهب العلماء كافة). إذاً: شرط في الخليفة العام أن يكون قرشياً، وكثير من الجماعات يزعمون أن أميرهم هو الخليفة العام، ولا يصرّح بهذا إلا في أضيق الحدود وفي المجالس الخاصة، بل من الجماعات من يكفّر الجماعات الأخرى وربما كفّر عامة المسلمين لتركهم بيعة هذا الخليفة أو هذا الأمير أو ذاك الإمام، وهذا الكلام كله باطل. ومنهم من يحتج بنصوص الإمارة العامة على جماعته، ولصالح الإمارة التي قد بايع فيها، ولا شك أن هذا كله لا يلزم المسلم، ومن مات بغير بيعة على هذا النحو في هذا الزمان فإنه لا شيء عليه. ويحتجون بحديث: (من مات وليس في رقبته بيعة فقد مات ميتة جاهلية) ولا شك أنك لو بايعت لأبطلت البيعات الحاصلة في الجماعات الأخرى؛ لأنها جماعات منشقة مارقة خارجة عن الجماعة الأم، وعلى ذلك لا يلزمك أن تبايع جماعة من الجماعات، وإنما الذي يلزمك أن تعبد الله تبارك وتعالى بالكتاب والسنة وبفهم سلف الأمة، وخذه من أي جماعة شئت، ومن أي إمام شئت، ومن أي عالم شئت، وافهمه من أي كتاب شئت، المهم أنك لست مطالباً في هذا الزمان إلا بقال الله وقال الرسول على فهم سلف الأمة لهذه النصوص. فهذه الجماعات التي على الساحة كلها لا يلزمني قط مبايعتها ولا مساندتها إلا فيما يتعلق بقول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2]، ودون ذلك خرط القتاد. (قال القاضي عياض: اشتراط كون الإمام قرشياً هو مذهب العلماء كافة، وقد احتج به أبو بكر وعمر رضي الله عنهم على الأنصار يوم السقيفة فلم ينكره أحد] أي: حينما توفي النبي صلى الله عليه وسلم، واجتمع الأنصار يريدون أن يكون الخليفة منهم، دخل عليهم أبو بكر وذكّرهم بهذه الأحاديث وهذه النصوص وأن الإمارة والإمامة دائماً في قريش لا في الأنصار، وهذا دين وحق وشرع، ليس طلباً للإمامة والزعامة، وإنما هو تحقيق للحق الشرعي الذي جاء به محمد عليه الصلاة والسلام، ولم ينكر على أبي بكر ولا عمر أحد من الأنصار أن الخليفة يشترط فيه أن يكون قرشياً. (قال القاضي عياض: وقد عدها العلماء في مسائل الإجماع). أوردها ابن حزم في مسائل الإجماع وابن المنذر في مسائل الإجماع، ونقل الإجماع النووي والحافظ ابن حجر وغير واحد بأن الخليفة العام لا بد أن يكون قرشياً. قال: (ولم ينقل عن أحد من السلف فيها قول ولا فعل يخالف ما ذكرنا). أي: أن السلف والخلف كلهم متفقون على هذا الشرط. قال: (وكذلك من جاء بعدهم في جميع الأعصار والأمصار).

رأي أهل البدع في كون الخلافة في قريش

رأي أهل البدع في كون الخلافة في قريش قال القاضي عياض: (ولا اعتداد بقول النظام). والنظام هو سيد المعتزلة في زمانه. قال: (ولا اعتداد بقول النظام ومن وافقه من الخوارج وأهل البدع). إذاً: القائلون بجواز كونه من غير قريش هم من أهل البدع، كـ النظام وهو كبير المعتزلة في زمانه، والخوارج قاطبة أجمعوا على جواز كونه من غير قريش، وإجماعهم ليس محل اعتبار ولا كرامة عند أهل السنة؛ لأنهم أصلاً مخالفون لأهل السنة في أصول الاعتقاد، فكف يعتبر خلافهم؟ بل هم خلاف من هم خير منهم شيئاً يسيراً كالشيعة، فكيف يُعتبر خلاف الخوارج والمعتزلة لأمر أجمع عليه الصحابة والتابعون ومن بعدهم من أهل السنة والجماعة إلى يومنا هذا؟ لكن المؤسف جداً أن نرى في هذا الزمان بعض من ينتسب إلى السلفية وأهل السنة والجماعة ويقول: بالإمكان أن يكون الخليفة من غير قريش، وظني أنه متتبّع لهذه الأخبار ولهذه الجماعات، ويأتي في مساجد السنة ويزعم أن الخليفة يمكن أن يكون غير قرشي، فهذا القول مردود منه وممن هو أفضل منه؛ لأنه مخالف لإجماع المسلمين فضلاً عن مخالفته لنصوص سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، ولم يقل بهذا القول الذي قاله هذا الشيخ إلا أهل البدع، ولا سلف له إلا هم. قال القاضي: (ولا اعتداد بقول النظام ومن وافقه من الخوارج وأهل البدع أنه يجوز كونه من غير قريش، ولا بسخافة ضرار بن عمرو -المبتدع الضال- في قوله: إن غير القرشي من النبط وغيرهم يُقدم على القرشي لهوان خلعه إن عرض منه أمر). ضرار بن عمرو هذا من أكابر أسياد المبتدعة، يقول: نحن لا نأتي بقرشي ونعينه إماماً، وإنما نأتي بنبطي -أي: من البربر- ونعينه إماماً؛ وذلك لأن الإمام معرّض للخلع، والخلع لا يليق بكرامة القرشي، فنحن نريد أن نبعد القرشي عن هذه الإهانة، فلو قلنا: من الذي افترض هذا الفرض أنه إذا عُيّن خُلع؟ A أهل البدع هم الذين افترضوا هذا الفرض؛ ولذلك دللوا عليه بما يثبت له الكرامة والعزة، فكأنها كما يقول الناس: كلمة حق أُريد بها باطل! ولا شك أن أهل البدع دائماً إذا ابتدعوا شيئاً جمّلوه وزينوه وزخرفوه بزخرف القول؛ حتى يدخل على السذّج من أبناء المسلمين، فهو لا يرفض إمامة القرشي ويضع مكانه النبطي رفضاً باتاً وبدون إبداء أسباب، وإنما يقول: أنا أرفض إمامة القرشي حفاظاً على كرامة القرشي، حتى لا يُخلع أو يهان أو يسب أو يشتم أو غير ذلك. قال: (ولا سخافة ضرار بن عمرو في قوله: إن غير القرشي من النبطي وغيرهم يقدم على القرشي لهوان خلعه إن عرض منه ما يؤدي إلى خلعه. وهذا الذي قاله من باطل القول وزخرفه، مع ما هو عليه من مخالفة إجماع المسلمين، والله أعلم).

معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم (الناس تبع لقريش في الخير والشر)

معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم (الناس تبع لقريش في الخير والشر) قال: (قوله صلى الله عليه وسلم: (الناس تبع لقريش في الخير والشر) فمعناه: في الإسلام والجاهلية). المعلوم أن موطن قريش الأصلي هو مكة المكرمة، وأن قريشاً لم تستقر بعد فتح مكة في هذا المكان، بل انتقل منهم من انتقل إلى المدينة، وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم من أرسل في الأمصار هنا وهناك ليعلموا الناس الدين، ومنهم من ولد له في البلد الذي سافر إليه، وهاجر إليه، فمنهم من استقر ومنهم من رجع إلى بلاده، ثم بعد ذلك هاجرت أسر عظيمة وقبائل وبطون إلى كثير من البلدان، ومعظم القرشيين هاجروا من مكة والمدينة إلى غيرها من الأمصار، ومعظمهم هاجر إلى صعيد مصر، فلا يبعد في المستقبل أن يكون الإمام من صعيد مصر. (الناس تبع لقريش في الخير والشر) معناه: في الإسلام والجاهلية. النبي عليه الصلاة والسلام قال لـ هرقل الروم: (أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين) أي: تؤجر على إسلامك وتؤجر على إسلام أتباعك؛ لأن الأتباع لو رأوه أسلم لأسلموا؛ ولذلك دائماً يقولون: إذا سقط الرأس سقط من دونه. لكن ما دام الرأس قائماً فلا يزال الأمر في حزم وقوة وشدة، فكذلك الناس تبع لقريش في الإسلام والجاهلية، في الخير والشر. قال: (كما هو مصرح به في هذه الروايات؛ لأنهم كانوا في الجاهلية رؤساء العرب، وأصحاب حرم الله، وأهل حج بيت الله). وأصحاب السقاية والرعاية وخدمة الحجيج وغير ذلك. فهم كانوا رءوساً في الجاهلية. (وكانت العرب تنظر إسلامهم). أي: أن الناس كلها تتطلع: هل أسلمت قريش أم لا؟ هل استجابت قريش لدعوة هذا النبي الذي هو منهم وهو ابن من أبنائها أم لا؟ فإذا قيل: (لم يستجيبوا) فكّر الواحد ألف مرة قبل أن يستجيب لهذه الدعوة. يقول: إذا كان هذا ابناً من أبنائهم ولم يتّبعوه ولم ينصروه، بل حاربوه، فهذا يدل على أنه ليس على الحق، وهم أعلم به منا؛ ولذلك كانوا يتأخرون دائماً عن الإسلام وعن المبادرة إلى اتباع النبي عليه الصلاة والسلام. هذا في الجاهلية. فلما أسلمت قريش في فتح مكة كان فتحاً عظيماً ونصراً مبيناً للإسلام وأهله، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، حينما رأوا قريشاً قد دخلت في دين محمد صلى الله عليه وسلم، فتبعهم الناس، وجاءت وفود العرب من كل جهة، ودخل الناس في دين الله أفواجاً. وكذلك في الإسلام هم أصحاب الخلافة، والناس تبع لهم، وبيّن صلى الله عليه وسلم أن هذا الحكم مستمر إلى آخر الدنيا ما بقي من الناس اثنان.

الأمر بحكم قريش مستمر إلى قيام الساعة

الأمر بحكم قريش مستمر إلى قيام الساعة إذاً: الإمارة والخلافة العامة في قريش ما بقي في الناس اثنان، وهذا أمر منذ مبعث النبي عليه الصلاة والسلام إلى قيام الساعة، وأنتم تعلمون أن أبا بكر قرشي، وعمر قرشي، وعثمان قرشي، وعلياً قرشي، والحسن قرشي، ومعاوية بن أبي سفيان قرشي، وكذلك أولاده، وعمر بن عبد العزيز كذلك قرشي، فهؤلاء جميعاً خلفاء راشدون، وهم بلا شك داخلون في هذه الخلافة، بعضهم أحسن خلافة من بعض، وبعضهم كان أقوى من بعض، لكن كلهم كانوا عاملين بالإسلام وهديه، وكلهم يعملون لنصرة الإسلام، وكانوا يتقون الله تعالى فيما ولوا من أمر المسلمين، وبعضهم أفضل من بعض كما قلنا، وكان أفضلهم على الإطلاق أبو بكر الصديق، ومن بعده عمر، ومن بعده عثمان، ووقع النزاع في أواخر عهد عثمان في مقتله، ثم أتت الفتن، وكثرت في زمن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وقام إليه رجل وقال: يا أمير المؤمنين! ألست أمير المؤمنين حقاً؟ قال: بلى. قال: فلِم وقع هذا النزاع في زمنك ولم يقع في زمن أبي بكر وعمر؟ قال: لأن أبا بكر وعمر كانا أميرين على مثلي، وأنا أمير على أمثالكم. كما قال السلف: أعمالكم عمّالكم. يعني: كيفما تكونوا يول عليكم. وبيّن صلى الله عليه وسلم أن هذا الحكم مستمر إلى آخر الدنيا ما بقي في الناس اثنان، وقد ظهر ما قاله صلى الله عليه وسلم، فمن زمنه عليه الصلاة والسلام إلى الآن الخلافة في قريش. وهذا التقرير من الإمام النووي. يقول: الخلافة منذ زمن النبي عليه الصلاة والسلام إلى يومنا هذا -أي: في القرن السادس الهجرية- كلها في قريش، وكانت الخلافة منذ زمنه عليه الصلاة والسلام إلى نهاية القرن السادس تزيد عن اثني عشر خليفة، ولذلك لم يقل النبي عليه الصلاة والسلام: الخلافة اثنا عشر خليفة، وإنما قال: (يتولى فيكم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش) أي: الموصوفون بالعدل والرشاد، ولا يمنع أن يكون هناك من هو دون ذلك. قال: (وقد ظهر ما قاله صلى الله عليه وسلم، فمن زمنه عليه الصلاة والسلام إلى الآن الخلافة في قريش).

التعصبات بين مذاهب أهل السنة والجماعة أمر مذموم

التعصبات بين مذاهب أهل السنة والجماعة أمر مذموم قال القاضي عياض: استدل أصحاب الشافعي بهذا الحديث على فضيلة الشافعي. وذلك لأنه قرشي. والحديث نص في الإمارة والشافعي ليس أميراً، كما أن الحديث نص في أفضلية قريش، فهو من هذا الباب فقط يثبت فضيلة الشافعي؛ لأنه قرشي. وقد وقعت مهاترات وتعصبات بين أصحاب المذاهب، حتى دعاهم هذا التعصب إلى الافتراء والكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، فالأحناف والشافعية عداوتهم معلومة على مر التاريخ إلى يومنا هذا، حتى في الأزهر ينظر الشافعي إلى الحنفي كما لو كان يهودياً، وفي زمن من الأزمان كان لا يتزوج الشافعي من الحنفية، ولا الحنفي من الشافعية، وإذا رُفع الأمر إلى القاضي فإنه ينتحل مذهباً يخالف مذهب القضية المرفوعة إليه، ومعلوم أن الكعبة لها أربعة أركان، فكان الأحناف يجلسون في ركن، والمالكية في ركن، والشافعية في ركن، والحنابلة في ركن، والذي يفاجأ أنه صلى في جماعة الحنابلة وهو شافعي يرجع فيعيد صلاته. وهذا شر مستطير وتفريق للأمة. وأدى هذا التعصب إلى أن افترى الأحناف حديثاً كذباً وزوراً على النبي عليه الصلاة والسلام، أنه قال: (فيكون في أمتي رجل هو أبو حنيفة سراج أمتي) أو: (سراج أمتي أبو حنيفة النعمان). وهما حديثان مكذوبان. وبعد أن أثبتوا الفضل لإمامهم أرادوا ذم الشافعي ليستمر لهم الكمال، فقالوا: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سيخرج رجل من أمتي محمد بن إدريس أشد عليها من إبليس). يقصدون الإمام الشافعي، اسمه محمد بن إدريس، ومعلوم أن أبا حنيفة مات سنة (150) هـ، والشافعي ولد في نفس السنة، فقال الأحناف: حينما ولد إمامكم أبى إمامنا الحياة، كأنه هو الذي أمات نفسه. ويقول الشافعية رداً عليهم: حينما ولد إمامنا أبى إمامكم الحياة؛ لأنه لا يهنأ له الحياة في ظل إمامنا وهو طفل رضيع! فكل هذه تعصبات لا قيمة لها، فـ أبو حنيفة ليس قرشياً، بل هو كوفي، وأحمد بن حنبل ليس قرشياً، بل هو بغدادي، ومالك ليس قرشياً بل هو مدني، أما الشافعي فهو قرشي، فهو من هذه الجهة أفضل من الأئمة الثلاثة، ومن جهة الفقه كذلك هو أفقه من الثلاثة، أما منزلته عند الله فالعلم عنده سبحانه، فالله تعالى أعلم بمن اتقى، فإن الإمام أحمد بن حنبل له من العلم والفضل والثبات في المحن ما ليس للشافعي، فهو إمام أهل السنة بالاتفاق. وأما تقرير مسائل للاعتقاد فقد اشتهر به الإمام مالك رحمه الله تعالى، فهو الذي عاصر ابتداء ظهور البدع والفتن في العقيدة، وفي صفات المولى عز وجل، فقرر مسائل الاعتقاد على مذهب الصحابة والتابعين، ثم برز على هذه الأصول بعد ذلك من جاء بعده كـ الشافعي، فـ الشافعي تلميذ مالك، بل صحبته أمه من مكة إلى المدينة وعنده من العمر عشر سنوات، فقدم إلى الإمام مالك وقال: يا إمام! أريد أن أقرأ عليك الموطأ، فنظر إليه الإمام واستصغره. قال: اذهب فالتمس من يقرأ لك. فقال: يا إمام! أحفظ الموطأ عن ظهر قلب. قال: أنت؟ قال: نعم. قال الشافعي: فقرأته عليه في أربعة مجالس. أي: من حفظه سرده سرداً على الإمام في أربعة مجالس. فسُر به مالك جداً وقرّبه إليه وكان مستملياً له. أي: أنه يجلس بجواره ويقرأ، والإمام مالك يشرح الموطأ. وكذلك الإمام أحمد كان تلميذاً للشافعي. فالأول أبو حنيفة؛ ولذلك يسمونه الإمام الأعظم. أي: أكبرهم وأولهم، والمكان الذي كان يسكن فيه في العراق يسمى إلى الآن بالأعظمية؛ نسبة إلى الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان رحمه الله تعالى، ورضي عنهم أجمعين.

الجمع بين حديث (الخلافة بعدي ثلاثون سنة)، وحديث (حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة)

الجمع بين حديث (الخلافة بعدي ثلاثون سنة)، وحديث (حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة) أما قوله عليه الصلاة والسلام: (إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش)، وفي رواية: (لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً كلهم من قريش)، وفي رواية: (لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة كلهم من قريش). فقد قال القاضي عياض: (هنا يتوجّه سؤالان: الأول: أنه قد جاء في الحديث الآخر: (الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تكون ملكاً عاضاً) كما في الحديث الطويل: (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، فإذا أراد الله أن يرفعها رفعها)، وقد رُفعت الخلافة الراشدة التي كانت على منهاج النبوة، وكان مدتها ثلاثون سنة وبضعة أشهر، وهي خلافة الأربعة: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثون سنة) أي: تقريباً بزيادة أو بنقصان. وهذا من أعلام نبوته عليه الصلاة والسلام. قال: (فإذا شاء الله أن يرفعها رفعها، ثم يكون ملكاً عاضاً) وهو ملك بني أمية والعباسيين وغيرهم. قال (فيكون فيكم ما شاء الله أن يكون، ثم إذا أراد الله أن يرفعه رفعه، ثم يكون ملكاً جبرياً) وهو الذي تمر به الأمة اليوم، فالملك الجبري: أن يؤتي بهؤلاء السلاطين والحكام بغير اختيار من شعوبهم ولا اقتراع ولا انتخاب ولا رضا، وإنما جيء بهم فجثموا على صدور شعوبهم، وهم يعلمون أن الذي جاء بهم قادر على أن يذهب بهم مرة أخرى؛ ولذلك يعقدون الولاء لهم، فهم حكام في بلادهم لتنفيذ مصالح الغرب، وكنا من قبل نقول: لتنفيذ مصالح الغرب والشرق، وإن شاء الله غداً لا يكون هناك غرب بإذن الله تعالى، ولا يبقى إلا الإسلام عزيزاً منتصراً ما دام الناس يرجعون إلى دينهم، ويطيعون الله تعالى، ويطيعون النبي صلى الله عليه وسلم. فإن قيل: جاء في الحديث: (الخلافة بعدي ثلاثون سنة) أي: الخلافة التي على منهاج النبوة. ثم تكون ملكاً عاضاً؛ وهذا مخالف لحديث اثني عشر خليفة؛ لأن الخلافة التي مكثت ثلاثين سنة كانت خلافة الراشدين وهم أربعة، فإنه لم يكن فيها إلا الخلفاء الراشدون الأربعة، والأشهر أنها التي بويع فيها الحسن بن علي؟ ف A المراد في حديث: (الخلافة ثلاثون سنة) أي: خلافة النبوة. وقد جاء مفسراً في بعض الروايات: (خلافة النبوة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً عاضاً) ولم يشترط في هذا أن يكونوا اثني عشر خليفة، فلم يشترط أنها خلافة على منهاج النبوة، وإنما بين أن الخلافة التي تكون على منهاج النبوة هي خلافة الخلفاء الراشدين بعد عهد النبوة، ثم خلافة المهدي؛ لأنه قال: (ثم يكون ملكاً جبرياً، فيكون فيكم ما شاء الله أن يكون، فإذا شاء الله أن يرفعه رفعه، ثم تكون الخلافة على منهاج النبوة ثم سكت عليه الصلاة والسلام). وهذا بشير خير لهذه الأمة: أن الخلافة بعد هذا الملك الجبري الذي تعاني منه الأمة تكون على منهاج النبوة بإذن الله تعالى. وهذا لا يعني: أننا ننتظر حتى يأتي المهدي المنتظر، بل لا يمنع أن تكون هناك خلافة على منهاج النبوة قبل ظهور المهدي المنتظر، فلا بد أن يبذل كل منا جهده لإعادة الخلافة مرة أخرى ولقيام الدين مرة أخرى في الأرض. السؤال الثاني: أنه قد ولي أكثر من هذا العدد، أي: أكثر من اثني عشر تولوا الإمارة، فكيف يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (هم اثنا عشر أميراً) مع أن الذي تولى إلى يومنا هذا أكثر من ذلك، بل إلى عهد الإمام النووي كانوا أكثر من ذلك؟ A هذا اعتراض باطل؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يقل: لا يلي إلا اثنا عشر خليفة. أي: لم يذكرهم على سبيل الحصر، وإنما قال: (يلي). وقد ولي هذا العدد، ولا يضر كونه وجد بعدهم غيرهم. هذا إن كان المراد باللفظ: (كل وال)، ويحتمل أن يكون المراد مستحق الخلافة العادلين إلى يوم القيامة لا يزيد عن اثني عشر خليفة. هل أبو بكر كان مستحقاً للخلافة؟ الجواب: نعم. مستحق بالإجماع المعتبر؛ لأن الشيعة والخوارج لا يقرون بهذا، وكذلك عمر كان مستحقاً وعثمان وعلي كانا مستحقين، ثم لا يمنع بعد ذلك أن يكون هناك مئات أو آلاف الخلفاء ليسوا هم المعنيين بهذا الحديث، وقد مضى منهم من عُلم، ولا بد من تمام اثني عشر خليفة قبل قيام الساعة. وقيل: إن معنى هذا الحديث: أنهم يكونون في عصر واحد. أي: لا تقوم الساعة حتى يتولى اثنا عشر خليفة أمر المسلمين في زمان واحد وفي عصر واحد، فيكون بعضهم في الشرق وبعضهم في الغرب، وبعضهم في الجنوب وبعضهم في الشمال. أي: يجتمع اثنا عشر خليفة على إمرة المسلمين، يتبع كل واحد منهم طائفة من المسلمين. قال ا

معنى حديث (عصيبة من المسلمين يفتتحون البيت الأبيض)

معنى حديث (عصيبة من المسلمين يفتتحون البيت الأبيض) قوله عليه الصلاة والسلام: (عصيبة من المسلمين يفتتحون البيت الأبيض بيت كسرى أو آل كسرى). المعلوم أن كسرى لقب لمن تولى أمر فارس، وقيصر أمر الروم، فهل المراد بهذا الحديث ظاهره: (عصيبة من المسلمين يفتتحون البيت الأبيض بيت كسرى أو آل كسرى)؟ ثبت في البخاري من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن أموالهم في سبيل الله عز وجل) وهذا مؤذن بفتح البلدين. أما بلاد فارس فقد فُتحت ودخلها الإسلام في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولكنها تحتاج إلى فتح جديد الآن، وتحتاج إلى نشر السنة فيها بعد أن نشروا التشيّع، وانتشرت البدع هناك؛ حتى غلب على أهل هذه البلاد المروق والخروج من دين الإسلام بالكلية، ومن تولى فيهم زعامة دينية هو أقرب إلى الكفر منه إلى الإيمان، خلافاً للشعب فإنه تبع لكل ناعق. فإذا كان ظاهر هذا الحديث هو المراد فنتوقف عند الظاهر، ونقول: إن عصابة قليلة من المسلمين يفتتحون هذه البلاد في آخر الزمان كما افتتحت في أول الزمان، وربما يكون المقصود بالفتح: هو الفتح الأول الذي حصل في زمن عمر، وربما لا يكون هذا الظاهر مراداً للنبي عليه الصلاة والسلام، وهذا من عندي وهو قابل للثبوت والرد، فقد يكون هذا الحديث معناه: أن عصابة من المسلمين يفتحون الأرض كلها حتى يفتحون البيت الأبيض في أمريكا، ويفتحون بلاد فارس، ويفتحون بلاد الروم، ويفتحون سائر البلدان وهم عصابة قليلة من الأمراء والوجهاء والسلاطين من قريش، وفي هذا بشارة عظيمة بسقوط دولة الروم، وسقوط أعظم قوة تحمل الصليب في العالم اليوم وهي دولة أمريكا، وهذا كلام قابل للرد، وليس اعتقاداً جازماً عندي. قال: (وإذا أعطى الله أحدكم خيراً فليبدأ بنفسه) وهذا تماماً كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (ابدأ بنفسك ثم بمن تعول) إذا أعطاك الله خيراً فأنعم على نفسك ومن على نفقتك، ووسّع على نفسك وعلى من تعول؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (وأفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى) أي: ما فضل عن حاجتك. وقوله: (أنا الفرط على الحوض) عليه الصلاة والسلام، والفرط والفارط هو: الذي يتقدم القوم إلى الماء ليهيئ لهم ما يحتاجون إليه.

الأسئلة

الأسئلة

حكم من شك في خروج صوت أو ريح أو مذي حال صلاته

حكم من شك في خروج صوت أو ريح أو مذي حال صلاته Q أشعر بوسوسة في كل صلاة بأنني أمذيت، وأنا لا أعرف هل هذا مذي أم ماذا؟ وأشك هل خرج ابتداءً أم لا؟ A على أية حال إذا حدّثتك نفسك بشيء في الصلاة فاستمر في صلاتك ولا تخرج منها حتى تجد ريحاً أو تسمع صوتاً، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا ينفتل أحدكم من صلاته حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) ليس معنى ذلك: أنه لا يخرج من الصلاة حتى يسمع الصوت أو يشم الرائحة الحقيقة، وإنما المراد: لا يخرج أحدكم من صلاته بمجرد الوسوسة، ولا يخرج إلا ليقين؛ وأنت على يقين أنك على وضوء، واليقين هنا لا يزول بالشك، وإنما يزول بيقين مثله.

حكم قراءة القرآن متكئا

حكم قراءة القرآن متكئاً Q ما حكم من قرأ القرآن متكئاً دون عذر؟ A هذا أمر جائز، وإن كان الأولى والأفضل أن تتهيأ كأحسن ما يكون من ملبس ومجلس، كأن تجلس بوقار، وتكون على وضوء. كل هذا من مستحبات التعامل مع كتاب الله عز وجل. قراءة وتلاوة وتدبراً وتفسيراً، وجائز أن تقرأ القرآن على أي وجه كان.

الحكم على حديث (البس جديدا، وعش حميدا، ومت شهيدا)

الحكم على حديث (البس جديداً، وعش حميداً، ومت شهيداً) Q ما صحة حديث (البس جديداً، وعش حميداً، ومت شهيداً)؟ A حديث صحيح.

حكم الخلافة إذا لم يكن الخليفة من قريش

حكم الخلافة إذا لم يكن الخليفة من قريش Q هل كون الخليفة من قريش شرط لصحة الخلافة. بمعنى: هل تبطل الخلافة إذا لم يكن الخليفة من قريش، وما حكم الخلفاء العثمانيين الأتراك؟ A الخلافة العثمانية خلافة معتبرة، ويا ليتها دامت، لكن أنتم قد سمعتم أن الخلافة شرط فيها أن تكون قرشية، وهي الخلافة التي أخبر عنها النبي عليه الصلاة والسلام، وهي الخلافة التي فيها إعزاز للدين وقيام للإسلام ونجدة للمسلمين، وهي في اثني عشر خليفة، والخلافة كثيرة جداً، وقد مضى أكثر من مائة خليفة، ففي الدولة العباسية الثانية ضعف أمر الإسلام وكان لا يزال اسم الخليفة موجوداً، وانحدرت قوة المسلمين من قوة القوة في زمن الخلافة الراشدة إلى القوة المجردة في زمن بني أمية، إلى شبه القوة في أول بني العباس، إلى الضعف والخور في الدولة العباسية الثانية، إلى البدع والنفاق في الدول التي أتت بعد الدولة العباسية، وتجد أن عنوان الخليفة يدل على قوة الدولة في زمانه، كالمقتدي بالله، والمعز لدين الله، والمستنصر بالله، والمستنجد بالله مع أن الأصل في كل مسلم أنه مستنجد، فأنت مستنجد بالله؛ لغلبة الكفر عليك، أو لغلبة بلاد الكفر على بلادك، فأنت تشعر من اللقب نفسه بمكانة الدولة في دول العالم كله، فهذا شرط كما قلنا، ولا يحل لأحد أن يخالف الإجماع الذي انعقد.

القول العدل في الإمام أبي حنيفة

القول العدل في الإمام أبي حنيفة Q ما هو القول العادل في أبي حنيفة ومذهبه؟ A يغلب على مسألة المذاهب أمران كما قيل: يهلك في علي اثنان: أحدهما: مغال، والثاني: جاف. أحدهما مغال جداً في علي حتى جعله إلهاً، فشابه النصارى في قولهم: عيسى هو الله، والثاني: متجاف عنه جداً حتى بلغ به الأمر إلى تكفير علي بن أبي طالب رضي الله عنه. هذا الأمر يشبهه أمر أبي حنيفة رحمه الله تعالى، أبو حنيفة رحمه الله كان بعيداً عن منارة العلم في زمانه، ومنارة العلم كانت في مكة والمدينة، ولا شك أن الذي يبعد عن موطن العلم يخفى عليه بعضه أو معظمه، وهذا الذي حدث، وكان أبو حنيفة مجتهداً بلا نزاع رحمه الله تعالى، بدت منه بوادر فيما يتعلق بالله عز وجل وفي بعض مسائل الاعتقاد، ولم يصنف كتاباً قط لا في العقيدة ولا في الفقه، وإنما صنّف تلاميذه، فإن كان قال ما قال -وقد ورد في كتاب الفقه الأكبر ما يُنكر- فلا شك أن هذا يرد عليه، وإن كان هذا من تلاميذه فالتبعة عليهم، لكن الإمام أبا حنيفة كان إمام الرأي، وكان سفيان الثوري إمام الأثر، وهما متعاصران بلديان، فكلاهما كوفي، وكان بينهما ما بينهما من المشاحنات، نقلها ابن حبان رحمه الله في كتاب الضعفاء والمجروحين، حتى قال سفيان في أبي حنيفة قولاً شنيعاً شديداً، واعتمده من أتى بعده، والأصل في هذا أنهما قرينان، وكلام الأقران في بعضهم يطوى ولا يروى، وقد تكلم ابن إسحاق في مالك، وتكلم مالك في ابن إسحاق، وتُكلّم في الشافعي وتُكلّم في البخاري وفي مسلم وفي غير علم من أعلام الأمة، لكن هذا الكلام عند منصة التحقيق لا يثبت ولا تثبت له قيمته، ويبقى عندنا أن الحق يؤخذ من كل من جاء به، والباطل يرد على كل من جاء به، فـ أبو حنيفة إمام من الأئمة بلا منازع، والأصل ألا يكون فيه نزاع رحمه الله تعالى، وندافع عنه ونثبت أن لحوم العلماء مسمومة، ومن تعرّض لهم بالثلب ابتلاه الله قبل موته بموت القلب، وكفى بها عقوبة. أبو حنيفة رحمه الله كانت له مواقف رائعة جداً في نصرة دين الله عز وجل، وكان إماماً في الفقه مفنناً، وإن كان يغلب عليه الرأي والاجتهاد لخفاء الدليل عليه؛ ولذلك تجد أن حظ أبي حنيفة من الرواية ضعيف بالنسبة إلى رواية الآخرين كـ مالك والشافعي وابن حنبل، فهؤلاء فقهاء ومحدثون، أما هو فكان فقيهاً وحظه من التحديث قليل، حتى جُمع مسنده في كُتيّب صغير، ولا شك أن الواحد منا إذا خفي عليه الدليل واحتاج إلى التأويل تأوّل، وإذا احتاج إلى الاجتهاد اجتهد، مع أننا لسنا أهلاً للاجتهاد، لكن إذا اضطررنا إلى ذلك اجتهدنا، فلِم تجوّز هذا لنفسك وتستبعده على إمام كـ أبي حنيفة، فينبغي أن نترحّم على الجميع ونترضّى عن الجميع، ونسأل الله تعالى أن يثيب منهم من كان مجتهداً مصيباً، وأن يعفو عمن أخطأ، فله أجر واحد كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.

حكم العقود التي يجريها البنك الإسلامي في مدن مصرية

حكم العقود التي يجريها البنك الإسلامي في مدن مصرية Q أخ يسأل عن العقود التي يجريها البنك الإسلامي في هذه المدن الجديدة كمدينة (الشيخ زايد) و (6 أكتوبر) (والعاشر من رمضان) وغيرها من المدن؟ A هذه عقود ربوية كلها، التعامل معها تعامل ربوي، ولا يجوز الإقدام عليه قط إلا كما يجوز للمضطر أن يأكل لحم الميتة، وإلا فلا.

حكم الصلاة على الميت في المقبرة لمن لم يصل عليه من قبل

حكم الصلاة على الميت في المقبرة لمن لم يصل عليه من قبل Q هل يجوز صلاة الجنازة على الميت في المقبرة بعد دفنه لمن لم يستطع في وقت الصلاة عليه، وهل على هذا دليل، أم هذه بدعة؟ A يجوز الصلاة على الميت -حتى وإذا صُلي عليه- في المقابر لمن لم يصل عليه، ودليل ذلك أن امرأة كانت تقم المسجد بالمدينة، فلما ماتت صلى عليها الصحابة في الليل ودفنوها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم حينما افتقدها بعد ثلاث: (أين فلانة التي كانت تقم المسجد؟ قالوا: يا رسول الله! ماتت، فصلينا عليها ودفناها، فقال: هلا آذنتموني؟ ثم أشير إلى قبرها فوقف فصلى وصلى الناس معه). ولا حجة لمن يقول: هذه خصوصية للنبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن الله تعالى قال: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103] والصلاة على الميت فرض كفاية، وقد تمت بصلاة الأصحاب، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل هذا في كل من مات ولم يصل عليه، إنما فعل هذا مع تلك المرأة رضي الله تعالى عنها، وصلى أصحابه بعده، فهذه الصلاة ليست هي الصلاة المنهي عنها في المقابر، وليست من الصلاة في المساجد التي فيها قبور، بل هذه الصلاة صلاة مخصوصة ليس فيها ركوع ولا سجود، ولا يقصد بها الاستشفاع أو التقرب أو المناجاة أو الاستغاثة بالأموات. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

كتاب الإمارة - الاستخلاف وتركه - النهي عن طلب الإمارة

شرح صحيح مسلم - كتاب الإمارة - الاستخلاف وتركه - النهي عن طلب الإمارة من تمام أمر المسلمين تنصيب خليفة عليهم يسوس أمور دنياهم بدينهم، ولهذا الاستخلاف صور متعددة كلها ثابتة عن سلفنا الصالح، ومن ذلك: ترك الاستخلاف وجعل الأمر شورى، كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنه: الاستخلاف كما فعل الصديق رضي الله عنه حيث استخلف عمر الفاروق، وقد أجمع العلماء على انعقاد الخلافة باختيار أهل الحل والعقد، كما فعل عمر رضي الله عنه؛ إذ جعل أمر الخلافة في ستة نفر من كبار الصحابة يختارون واحداً منهم ليكون خليفة على المسلمين.

حكم انعقاد الولاية لغير الله ورسوله ولغير الخليفة العام

حكم انعقاد الولاية لغير الله ورسوله ولغير الخليفة العام بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فقد بيّنا في الدرس الماضي ما يتعلق بواقع الأمة اليوم، وأن هذه الإمارات الحادثة على الساحة الدعوية إنما هي إمارات خاصة وليست إمارات عامة، أما الإمارة العامة فالمقصود: بها الخلافة العظمى. وهذه لا يجوز انعقادها بشروطها وأركانها وموجباتها إلا للخليفة العام. وأن من بايع إمام جماعته أو أمير جماعته على أنه إمام عام وعقد له البيعة بنفس أركان وشروط الإمارة العامة والخلافة العامة، فقد أجرم جرماً عظيماً في حق النصوص الشرعية الواردة في شأن الإمارة؛ لأنه يلزمه أن يقول بتعدد الإمارات بأنواعها وليس الأمر كذلك، كما يلزمه أن يكفر بلسان الحال أو المقال من لم يبايع، كما يلزمه كذلك لحوق الإثم والثواب في الطاعة والمعصية لهذا الأمير، وليس الأمر كذلك فيما يتعلق بما يرضي الله، وإن صحّت هذه الإمارات فهي لا تعدو كونها إمارات أو بيعات على البر والتقوى، ولا يلزمه فيها طاعة، وإذا لزمته طاعة لزمته من باب أن هذا عمل مشروع أوجبه الشرع أو ندب إليه، كما لا يلحق الإثم -أي: إثم مخالفة الأمير- لأن إمارته غير شرعية، فليست هي الإمارة التي يناط بها الثواب والعقاب في الطاعة والمعصية، وإذا كان ثم معصية أو عقاب فإنما الثواب والعقاب بالشرع لا بالبيعة، كما لو أن فلاناً من الناس مسئولاً عن هذا المسجد، قال: تأتي تخطب عندنا الجمعة؟ قلت له: نعم. آتي. قال: اتفقنا؟ قلت: اتفقنا، ثم تخلّفت عن خطبة الجمعة بلا عذر فإني آثم بتأثيم الشرع لي، وكان الاتفاق من باب قول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2]. فنحن لا نقول بجواز إنشاء هذه البيعات الدعوية على الساحة أبداً؛ لأنها ليست بمشروعة لا في الكتاب ولا في السنة ابتداءً. هذا أولاً. ثانياً: لأن عقد البيعة لآحاد الناس بغير برهان ولا بيّنة ولا دليل شرعي يُضعف الولاء دائماً لله عز وجل، ولذلك هؤلاء الذين بايعوا أو عندهم انتماء لجماعات دعوية دائماً يعتنون بالجماعة فقط -إلا من رحم الله- ودائماً يعتنون بإمامهم وأميرهم؛ ولذلك لو جاء القول الصريح في كتاب الله وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام مخالفاً لهذا الإمام أو لهذا الأمير عملت الجماعة بقول الأمير وضربوا بكلام الله وكلام رسوله عرض الحائط؛ زعماً منهم أن كلام الله وكلام الرسول على رءوسنا، وملء قلوبنا وأعيننا ولكن هذا الكلام لا يناسب الواقع، وإنما هذا حكم شرعي، أما قول الإمام فهو فتوى شرعية وليس حكماً شرعياً، فنحن إذا تركنا كتاب الله إنما نتركه لفتوى شرعية، وهي فتوى الإمام أو المسئول أو الأمير، وإذا عملنا بكتاب الله؛ عملنا به أنه الأصل، وهو أصل الأحكام. نقول: كل هذا محاورة ومناورة مع كتاب الله عز وجل ولا يصلح ذلك ولا ينتفع بها صاحبها لا في الدنيا ولا في الآخرة، وأبى الله تعالى إلا أن يفضح الظالمون المارقون عن فهم كتاب الله عز وجل وعن سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك فضح الله تعالى كل الجماعات على ملأ من الخلق، بأن صنّفت فيهم التصانيف، وكثير منهم زعم أنه تاب وأثبت أنه تاب منذ (25) عاماً أو يزيد على ذلك. أبعد هذه الدعوة كلها وبعد هذا الفساد الذي أفسدت في الأرض أنت ومن معك تأتي اليوم بعد ضياع الوقت وتقول: أنا تبت إلى الله؟! على أية حال هذا أصل من أصول الدين، وهو قبول التوبة ما لم يغرغر العبد، والقول الذي قلته اليوم كنت تسمعه نصيحة خالصة منذ أن نشأت بدعتك، ولكنك صممت أذنك، وصككت على قلبك فلم تسمع كلام الحق أبداً. والحق دائماً أبلج واضح، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل). فالإمارة لا يجوز انعقادها إلا لله تعالى ورسوله، ثم من ولاَّه الله تعالى، إلى يوم القيامة، وهو الخليفة العام الذي يعين الولاية من باطنه، ويعيّن ولاة الأمصار والبلدان من باطنه، فيجب طاعة هؤلاء؛ لأن طاعة الوالي من طاعة الخليفة وطاعة الخليفة من طاعة النبي عليه الصلاة والسلام وهي من طاعة الله عز وجل، وما دون ذلك فخرط القتاد.

باب الاستخلاف وتركه

باب الاستخلاف وتركه قال: (باب الاستخلاف وتركه) أي: باب جواز الاستخلاف. إذا كان هناك خليفة عام ووافته المنية أو مرض مرضاً أوشك فيه على الموت فإنه يجوز له أن يولي كما يجوز له أن يترك الاستخلاف. أما جواز الاستخلاف فقد استخلف أبو بكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه واختاره للناس من دون الناس، وإذا تركت الخلافة فقد تركها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يستخلف من بعده أحداً، وإنما انعقدت البيعة لـ أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فيجوز تركها ويجوز انعقادها. قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء حدثنا أبو أسامة - حماد بن أسامة - عن هشام بن عروة عن أبيه عروة بن الزبير عن ابن عمر - عبد الله بن عمر العدوي - رضي الله عنهما قال: حضرت أبي حين أصيب]. أي: حين طُعن في صلاة الفجر، والذي طعنه هو أبو لؤلؤة وكان مجوسياً ما سجد لله فضلاً عن أنه أسلم، ولذلك لما سأل عمر بعد إصابته: من قتلني؟ قالوا: أبو لؤلؤة، قال: الحمد لله أن لم يطعني أحد سجد لله سجدة. قال ابن عمر: [حضرت أبي حين أُصيب، فأثنوا عليه -أي: سمعت ثناء الناس عليه- وقالوا: جزاك الله خيراً، فقال: راغب وراهب]. أي: أن المرء بين راغب وراهب، بين خائف وراج، بين متمن بانعقاد الخلافة وبين متوقف فيها، فكلمة راغب وراهب محمولة على كل هذه المعاني. قال: [قالوا: استخلف -أي: يا عمر -، فقال: أتحمّل أمركم حياً وميتاً؟] أي: ما يدريه لو أنه استخلف أيصيب أم يخطئ، أيؤدي الأمانة أم يخونها؟ فقال: [لوددت أن حظي منها الكفاف لا علي ولا لي]. إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لو أراد أحد أن يصنف في مناقبه مصنفات لكانت حمل بعير! إن عمر رضي الله عنه يتمنى أن يخرج من الدنيا كفافاً ليس له من الخير شيء ولا يوجد عليه من الشر شيء! هذا عمر الإمام العادل! هذا فاروق الأمة الذي فرّق الله به بين الحق والباطل! هذا أول من صدع بالحق حول الكعبة على حين تخوف من الناس، فكان إسلامه نصراً لدين الله عز وجل ولنبيه ولأصحابه الكرام! وها هو الذي يتمنى مع كل هذا أن يخرج من الدنيا لا له ولا عليه! عمر رضي الله عنه الذي كان يبكي إذا تعثّرت ناقة في العراق أو بمصر أو بالشام أو في سائر البلدان، وهو الذي أخذ على عاتقه أنه مسئول عنها أمام الله عز وجل! إنه وال على كل شيء! على الإنسان وعلى الطير والحيوانات والحشرات وكل أصناف المخلوقات. قال: [لوددت أني خرجت منها على الكفاف لا علي -أي: من الإثم- ولا لي -أي: من الثواب-]. ولا شك أن هذا رجل سيأتي يوم القيامة لا يحاسب؛ لأنه لا له ولا عليه. قال: [فإن أستخلف -أي: بعد ضغطكم علي- فقد استخلف من هو خير مني أبو بكر، وإن أترك -أي: الاستخلاف- فقد تركه من هو خير مني رسول الله صلى الله عليه وسلم]. إن عمر بهذا الكلام الجميل يعطي درساً عظيماً جداً، وهو أنه لابد أن يكون للإنسان المسلم سلف في أقواله وأعماله، إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني، إذا ستخلفني أبو بكر الصديق رضي الله عنه عليكم، فإن استخلفت عليكم أحداً فاعلموا أن لي سلفاً في هذا الاستخلاف، وإن تركتكم بغير استخلاف أو عاجلتني المنية بغير ذلك، فقد عاجلت المنية عليه الصلاة والسلام ولم يستخلف، فأنا في كلا الحالين لي سلف فيما أفعل وفيما أقول؛ ولذلك قال سفيان الثوري رحمه الله: إن استطعت ألا تحك رأسك إلا بأثر فافعل. قال -أي عبد الله بن عمر -: [فعرفت أنه -أي: عمر - حين ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مستخلف] لأنه ذكر أن أبا بكر استخلف وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ترك الاستخلاف، فإذا تعارض قول أو فعل أبي بكر مع قول أو فعل الرسول صلى الله عليه وسلم فالمقدم هو فعل الرسول عليه الصلاة والسلام، فانظر إلى هذه الفائدة التي استنبطها عبد الله بن عمر، فقد كان فقيهاً محنكاً. قال: [فعلمت أنه حين ذكر رسول الله -أي: ما كان منه من شأن الاستخلاف- غير مستخلف] لأنه لا يقدم قول أبي بكر وفعله على قول النبي عليه الصلاة والسلام وفعله. قال: [فعلمت أنه غير مستخلف] إذا كان الأمر بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أبي بكر يقدّم النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن الثابت أن عمر بن الخطاب قد استخلف، ولكن ليست خلافة عين، وإنما خلافة انعقدت بعدة أشخاص وكانوا ستة. الأول: عثمان بن عفان، الثاني: علي بن أبي طالب، الثالث: أبو عبيدة بن الجراح، الرابع: عبد الرحمن بن عوف، الخامس:

كلام النووي في أحاديث الاستخلاف

كلام النووي في أحاديث الاستخلاف قال النووي عليه رحمة الله في قوله: (إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني) إلى آخر الحديث. قال: (حاصله: أن المسلمين أجمعوا على أن الخليفة إذا حضرته مقدمات الموت وقبل ذلك يجوز له الاستخلاف ويجوز له الترك -هذا جائز وذاك جائز- فإن تركه فقد اقتدى بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فقد اقتدى بـ أبي بكر. وأجمعوا على انعقاد الخلافة بالاستخلاف). هذه المسألة محل إجماع؛ وهذا الاستخلاف يلزم الأمة كلها، ولا يجوز لأحد أن يخرج عن هذا الخليفة المستخلف. قال: (وأجمعوا على انعقادها بعقد أهل الحل والعقد للإنسان إذا لم يستخلف الخليفة). أبو بكر الصديق رضي الله عنه استخلف عليهم عمر، فوجبت البيعة لـ عمر في ذمة كل مسلم في ذلك الوقت، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم ترك الاستخلاف، ولكن المهاجرين والأنصار -وهم الذين كانوا يمثلون أهل الحل والعقد كمجلس الشورى، وشتان بين الإيمان والكفر- انعقد بالإجماع على إمامة أبي بكر، فلما صعد المنبر أبو بكر الصديق رضي الله عنه وخطب خطبته العظيمة، وهي أول خطبة بعد نبوة النبي عليه الصلاة والسلام وبعد موته، قام المسجد بالإجماع فبايع أبا بكر الصديق رضي الله عنه؛ لعلمهم أنه لا يحل لهم أن يخالفوا الإجماع. فإذا كان الإجماع من أهل الحل والعقد المعتبرين المختارين برضى شعوبهم المسلمة وعلى ألفة من الكتاب والسنة؛ فحينئذ لا يجوز لأحد أن يتخلف عن قرار يصدر عنه، لا في شأن الخلافة ولا في شأن الاجتهاد؛ لأن هذا خروج على الأمة وعلى مقدرات الأمة. قال: (وأجمعوا على جواز جعل الخليفة الأمر شورى بين جماعة كما فعل عمر رضي الله عنه بالستة). جعل الأمر شورى لأهل الحل والعقد أن يختار من بين هؤلاء الستة خليفة. فإن قيل: هل يجوز لأهل الحل والعقد حينئذ أن يختاروا واحداً غير الستة؟ A لا يجوز؛ لأن هذا من مسائل الإجماع؛ ولذلك اختاروا منهم، ولو كان يجوز لهم ذلك لاختاروا من غيرهم. فإن قيل: ولِم لا يجوز أن يختاروا واحداً غير الذي عيّنهم الخليفة؟ A لأن هذا خروج عن أمر الخليفة، والخليفة ما زال حياً. والوجه الثاني: أنهم لو اختاروا واحداً من غير الستة لكان لنا أن نفترض أنه ما عيّن ستة وإنما عيّن واحداً؛ لأن الذي يعيّن واحداً قد يعيّن مائة، كأنه قال لهم: لا تخرجوا عن هؤلاء الناس، فخرجوا فقد خالفوا أمير المؤمنين. قال: (وأجمعوا كذلك على أنه يجب على المسلمين جميعاً أن ينصّبوا من بينهم خليفة). ولم يقل على أهل الحل والعقد، وإنما يجب على المسلمين جميعاً أن يساهموا وأن يبادروا بنصب خليفة والبيعة له.

بيان أن القول بوجوب نصب الخليفة معتقد أهل السنة والجماعة

بيان أن القول بوجوب نصب الخليفة معتقد أهل السنة والجماعة ورد علي سؤال يقول: إنك تقول بوجوب نصب الخليفة، وسمعناك في الدرس الماضي يوم السبت الماضي تقول: يجب على كل مسلم أن يساهم وأن يبادر في نصب الخليفة العام، واعلم أن هذا المطلب ليس مطلب أهل السنة والجماعة، وإنما هو مطلب أهل البدعة؟ A إن الشبهة دخلت على السائل من باب خلط وجوب نصب الخليفة بين معتقد أهل السنة والجماعة وبين حزب التحرير، فحزب التحرير هذا حزب شر على الإسلام والمسلمين، وهو من الشيعة والقدرية؛ لأن هذا الشعب إنما يفخر بثوابت الإسلام وبدعائم الدين، وهذا الحزب ما أُنشئ إلا لإحداث البلبلة والقلقلة في صفوف المسلمين، وحربنا لهذا الحزب -في الشام تارة، وفي أمريكا تارة، وفي مصر تارة- لا يخفى على من كان يعرف جهاده -والحمد لله- ضد هؤلاء، بل ولي مصنّف في حزب التحرير وبيان عوار ما كانوا عليه من ديانة، لكنهم دائماً يطالبون بالخلافة، ولو انعقدت الخلافة من جبريل عليه السلام لقالوا ببطلانها؛ لأنهم يقصدون أن يكون الخليفة من بينهم هم، فلو انعقدت لجميع الأنبياء والملائكة فهي عندهم باطلة، ولهم في الخلافة منهج منحرف عن منهج أهل السنة والجماعة، فليس هذا بطبيعة الحال ما نعنيه ولا نقصده. ثم من القائل: إن وجوب نصب الخليفة بدعة؟ هل إذا أتانا الخليفة نقول: لا. الخلافة بدعة؟! أظن أن كل مسلم صادق عالم بأمر دينه يتمنى أن لو يرسل الله تعالى إلينا خليفة، وإنكم لتعلمون أن الأمة في عز وسيادة وريادة طالما كان فيها خليفة، ولعلكم توقنون أن الذل والهوان ما لحق بالأمة إلا بعد موت آخر خليفة عثماني سنة (1929م) على يد الكلب الهالك مصطفى كمال أتاتورك، فالإسلام ما أُهين إلا بعد موت هذا الخليفة، وكان هذا الخليفة يهدد أوروبا، فلا يمكن للأمة أن ترجع إلى ما كانت عليه من عز في عهد الخليفة العثماني إلا أن يشاء الله تعالى شيئاً آخر. قال: (وأجمعوا على أنه يجب على المسلمين نصب خليفة، ووجوبه بالشرع لا بالعقل). أي: إذا أردنا أن نحتج على وجوب نصب الخليفة، فإنما يكون ذلك بنصوص الشرع: قال الله، وقال الرسول، وأجمع الصحابة، أما أن نقول: مستند وجوب الخلافة أتى بالعقل، والعقل يوجب علينا نصب خليفة، والأمور لا يمكن أن تتم إلا بخليفة! فهذه كلها حلول عقلية، ونصب الخليفة دائماً يكون بالشرع لا بالعقل. قال: (وأما ما حكي عن الأصم أنه قال: لا يجب نصب خليفة، وعن غيره أنه يجب بالعقل لا بالشرع، فباطلان، أما الأصم -الذي قال: لا يجب نصب الخليفة- فمحجوج بإجماع من قبله). والإجماع حجة، وخاصة إجماع الصحابة الذي لا خلاف عليهم. قال: (وأما الأصم فمحجوج بإجماع من قبله، ولا حجة له في بقاء الصحابة بلا خليفة في مدة التشاور يوم السقيفة). يعني: الأصم لما قال: بعدم وجوب نصب الخليفة في كل وقت احتج بالمدة الزمنية اليسيرة بين موت النبي صلى الله عليه وسلم وتنصيب أبي بكر، ولا شك أن هذه المدة ليس فيها حجة مطلقة للأصم؛ لأن الصحابة ما تركوا نصب الخليفة إلا من باب التفاهم في تعيين من هو الخليفة؟ ثم هل يمكن أن يؤخذ من بعض اليوم حجة في عدم الوجوب؟ أبداً لا يمكن أن يكون ذلك، بل كانوا في تلك المدة ساعين في النظر في كل من يعقد له. وأما القائل الآخر -وهو الذي قال: إن الخليفة يجب نصبه بالعقل لا بالشرع- ففاسد كذلك وفساده ظاهر؛ لأن العقل لا يوجب شيئاً، ولا يحسنه ولا يقبحه؛ لأن التحسين والتقبيح والوجوب والإثم وغير ذلك كله معروف بالشرع لا بالعقل.

اختلاف العلماء في نص النبي صلى الله عليه وسلم على إمامة أبي بكر

اختلاف العلماء في نص النبي صلى الله عليه وسلم على إمامة أبي بكر في هذا الحديث دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينص على خليفة، وهذه المسألة محل نزاع، وقد ثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام نص على خلافة أبي بكر. قال: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر)، لكن هذا في عموم الاقتداء، ومن الممكن أن يصرف النص عن ظاهره، فتكون خلافة أبي بكر على عموم الاقتداء، وأن هؤلاء من أئمة الهدى، بل أعظم أئمة الهدى من بعده، ولكن لا يلزم أن يكون الخليفة من بعده أبو بكر؛ لأنه يجوز نصب المفضول في وجود الفاضل، وغير ذلك من النصوص، ولا داعي لسردها؛ لأننا لسنا بصدد هذا، وهناك أدلة أخرى كثيرة على نص الإمامة لـ أبي بكر، منها: (مروا أبا بكر فليصل بالناس) فهذه إمارة الصلاة! والمعروف أن إمارة الصلاة جزء من الإمارة العامة، وليست هي الإمارة العامة، ومع ذلك فالنصوص كلها الواردة في إمارة وخلافة أبي بكر ليست صريحة في الخلافة العامة، بل مؤولة؛ ولذلك لم يختلف أهل السنة والجماعة على أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على إمامة أبي بكر. فهذه النصوص في ثبوت الإمامة، وأنه من أئمة الهدى إشارة إلى خلافته. إذاً: خلافة أبي بكر الصديق معلومة بالإشارة، وهذا قول جمهور أهل السنة. ومنهم من قال: لا. هذه النصوص كلها تُحمل على الخلافة العظمى، فتكون إمامة أبي بكر معلومة في الدين بالنص الظاهر. وهذه المسألة من مسائل الخلاف عند أهل السنة والجماعة، ولذلك هم لا يبدّعون ولا يفسّقون المخالف؛ لأن هذه من مسائل الخلاف المعتبر عند أهل السنة والجماعة، تماماً كما في التفضيل بين عثمان وعلي رضي الله عنهما، فمنهم من كان يفضّل عثمان على علي، ومنهم من كان يفعل العكس، ويقولون: إمامة عثمان بن عفان جائزة في حضور علي بن أبي طالب وإن كان علي أفضل منه، لكن انعقد الإجماع بعد ذلك على رفع هذا الكلام، وأن عثمان أفضل من علي، وأولى بالإمامة من علي، وأن الخلفاء الراشدين الأربعة على ترتيبهم في الخلافة هم على ترتيبهم في الفضل، فـ أبو بكر أفضل من عمر، وعمر أفضل من عثمان، وعثمان أفضل من علي، وهذا هو الراجح. وكما قال الأصوليون: الإجماع بعد الخلاف يقطعه. إذا كانت هناك مسألة محل نزاع، ثم عقد الإجماع بعد ذلك على أحد الرأيين، فلا شك أن الخلاف قبل ذلك ينقطع. ففي هذا الحديث دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينص على خليفة وهو إجماع أهل السنة وغيرهم. قال القاضي: وخالف في ذلك بكر ابن أخت عبد الواحد، فزعم أنه نص على أبي بكر. وقال ابن الراوندي: نص على العباس. وقال الشيعة والرافضة: نص على علي. وهذه دعاوى باطلة وتحفيز على الافتراء، ووقاحة في مكابرة الحس؛ وذلك لأن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على اختيار أبي بكر، وعلى تنفيذ عهده إلى عمر، وعلى تنفيذ عهد عمر بالشورى، ولم يخالف في شيء من هذا أحد، ولم يدع علي ولا العباس ولا أبو بكر وصيتهم في وقت من الأوقات، وقد اتفق علي والعباس على جميع هذا من غير ضرورة مانعة من ذكر وصية لو كانت. فمن زعم أنه كان لأحد منهم وصية -كما تزعم الشيعة- فقد وصف الأمة إلى اجتماعها على الخطأ، واستمرارها عليه، وكيف يحل لأحد من أهل القبلة أن ينسب الصحابة إلى المواطأة والكذب والاتفاق على الباطل في كل هذه الأحوال، ولو كان شيء لنُقل، وإنه من الأمور الموضوعة.

باب النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها

باب النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها قال: (باب: النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها) أي: الإمارة العامة أو الخاصة. قال: [حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا جرير بن حازم حدثنا الحسن -وهو ابن أبي الحسن البصري - حدثنا عبد الرحمن بن سمرة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عبد الرحمن! لا تسأل الإمارة. فإنك إن أعطيتها عن مسألة أكلت إليها) وفي رواية: (وكلت إليها -إما بالهمز وإما بالواو: أكلت أو وكلت إليها- وإن أعطيتها عن غير مسألة أعُنت عليها). يعني: أعانك الله عليها. شيء يفرض عليك فرضاً بخلاف شيء تطلبه أنت طلباً، فالذي تطلبه أنت لا تُعان عليه، والذي يُفرض عليك فرضاً يعينك الله تعالى عليه. قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن العلاء قالا: حدثنا أبو أسامة عن بريد بن عبد الله عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري قال: (دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من بني عمي)]. يعني: من الأشعريين، وهناك فرق بين الأشعريين والأشاعرة، وإن كان أصل النسب واحداً؛ لأن أبا الحسن الأشعري هو منسوب إلى قبيلة الأشعريين أيضاً. قال: [(دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم. أنا ورجلان من بني عمي فقال أحد الرجلين: يا رسول الله! أمّرنا على بعض ما ولاك الله عز وجل)]. يعني: أمّرنا على أي شيء حتى ولو كان كوماً من تراب. فإذا كان يفهم من ذلك أن الإمارة إلى هذا الحد، فلماذا ننقم على غيرنا ممن لا دين له ولا علم عنده ولا تقوى ولا صيام ولا صلاة ولا زكاة، وهو حريص على الإمارة؟ قال: [(فقال أحد الرجلين: يا رسول الله! أمّرنا على بعض ما ولاك الله عز وجل، وقال الآخر مثل ذلك، فقال: إنا والله لا نولي على هذا العمل أحداً سأله ولا أحداً حرص عليه)]. لأن سؤال السائل يدل على الرعونة والسفاهة والطيش والتطلّع، وبالتالي فإن هذه الأخلاق القلبية الرذيلة لا تؤهل المرء أبداً لأن يتولى عملاً، ولا يتولاه إلا من كان نقي العلم والعقل والعمل والقلب، هذا يكون أعظم للإمامة والإمارة. قال العلماء: الحكمة في عدم تولية من سأل الولاية: أنه يوكل إليها، ولا تكون معه إعانة من الله عز وجل.

نماذج من ورع السلف ورفضهم للولاية

نماذج من ورع السلف ورفضهم للولاية يذكر أن سفيان الثوري رحمه الله أرسل إليه الوالي ليعطيه القضاء، فامتنع سفيان، فحمله الوالي على المجيء فجاء ودخل مجلس الوالي، فطلبوا منه أن يتولى القضاء، فقام سفيان بأفعال غريبة حتى سال لعابه من فمه؛ ليظن الحاضرون أنه معتوه، وأنه لا يفهم شيئاً، فقال له الأمير: مهما عملت لابد أن تتولى القضاء، فلما حمله على ذلك قال له: دعني أستخير وأستشير وأرد عليك، قال: سترجع إلينا ثانية؟ قال: سأرجع، فخرج من مجلس الأمير وترك نعله، ثم عاد فأخذ نعله وانصرف، فتنبه أحد العلماء الحاضرين لذلك فقال: لن يرجع إليك أيها الأمير! قال: ولم؟ قال: إنه وعدك بأن يرجع، وقد ترك نعله في المجلس فرجع كما وعدك وأخذه، فلن يرجع إلى هنا مرة أخرى. وأبو حنيفة رحمه الله جلد بسبب رفضه للقضاء سبع مرات. أما اليوم فانظروا إلى السفهاء والحمقى والمغفلين الذين يدفعون آلافاً، بل ملايين الجنيهات من أجل أن يتولوا منصب القضاء وهم لا يُحسنون أن يقضوا في شعيرة أو في حزمة جرجير، ومع هذا يفتون في الدماء والأموال والأعراض، ويتولون القضاء مع سكرهم وعربدتهم وسلوكهم المنحرف، ومجالسهم كلها مشبوهة، وأعمالهم كلها مبنية على الرشوات، ومع هذا يدفعون الآلاف والملايين لأجل الحصول على كرسي ذي رجلين أو ثلاثة لا أقول أربعة، وإنما كرسي مكسر، يريدون أن يكونوا قضاة، حتى ولو كان العمل حقيراً مرذولاً، وفرق بين كون هذا العمل حقاً لك تسعى للحصول عليه، ولا سبيل إليه إلا بالمال، أو تدفع المال لترد ولا سبيل لرفعه إلا بالمال، أما أن تكون عالماً بأن هذا المكان لست أهلاً له ثم تسعى إليه فهذا جرم عظيم وكبيرة من الكبائر؛ فإنه لا يجوز لأحد قط أن يسعى لولاية إلا إذا رأى عجز الناس عنها، ورأى من نفسه رشداً في ذلك، فإن يوسف عليه السلام: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55]، أي: اجعلني وزير المال، فإنه لا أحد في ولايتك ولا في إمامتك يستطيع أن يقوم بهذه المهمة، وأنا على خبرة بذلك، فأنا أهل لذلك المنصب.

شرح حديث: (لا نستعمل على عملنا من أراده ومن طلبه)

شرح حديث: (لا نستعمل على عملنا من أراده ومن طلبه) قال: [حدثنا عبيد الله بن سعيد ومحمد بن حاتم -واللفظ له- قالا: حدثنا يحيى بن سعيد القطان حدثنا قرة بن خالد حدثنا حميد بن هلال حدثني أبو بردة قال: قال أبو موسى: (أقبلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعي رجلان من الأشعريين، أحدهما عن يميني والآخر عن يساري، فكلاهما سأل العمل، والنبي صلى الله عليه وسلم يستاك)]. يعني: سألاه أن يكون عاملين. أي: واليين؛ لأن الوالي اسمه عامل. يعني: عامل للسلطان على البلدة الفلانية. قال: [(والنبي صلى الله عليه وسلم يستاك)]. يعني: يتسوك بالسواك. قال: [(فقال: ما تقول يا أبا موسى! أو يا عبد الله بن قيس؟! قال: فقلت: والذي بعثك بالحق ما أطلعاني على ما في أنفسهما، وما شعرت أنهما يطلبان العمل)]. كان أبو موسى سيد الأشعريين؛ ولذلك نسب النبي صلى الله عليه وسلم إليه القول من باب أن يكلّم العظيم العظماء، فرد بقوله هذا، واعتذر إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم لم يخبراه ولم يطلعاه على ما في أنفسهما. [قال: (وكأني أنظر إلى سواكه تحت شفته وقد قلصت -يعني: قرضه- فقال: لن -أو- لا نستعمل على عملنا من أراده ومن طلبه، ولكن اذهب أنت يا أبا موسى! أو يا عبد الله بن قيس! فبعثه على اليمن)] والياً. اللذان جاءا معه وطلبا الإمارة حرماها، وأخذها أبو موسى لأنه لم يطلبها. قال: [(ثم أتبعه معاذ بن جبل، فلما قدم عليه، قال: انزل)].

الرد على من قال لا يعمل بخبر الآحاد مع بيان بعض أحكام المرتد

الرد على من قال لا يعمل بخبر الآحاد مع بيان بعض أحكام المرتد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم أرسل أبا موسى الأشعري ليعلم الناس كلمة التوحيد وهو واحد، ثم أردفه بـ معاذ بن جبل لكي يعلم الناس في مكان آخر، فإن استجابوا علماهم الشرائع. إذاً: فـ أبو موسى الأشعري آحاد، وكذلك معاذ آحاد، وعلي بن أبي طالب آحاد، وهذا يدل على أن خبر الواحد تقوم به الحجة في العقائد والأحكام، خلافاً للمعتزلة الذين أنكروا ذلك وقالوا: لا يجوز الاحتجاج بخبر الواحد في العقائد، إنما يحتج بالخبر المتواتر قرآناً أو سنة متواترة. قال: [(فلما قدم معاذ عليه -أي: على أبي موسى - قال: انزل، وألقى له وسادة)]. وسادة يعني: مخدة، وهذا منتهى الإكرام. يقول: [قال: (وإذا رجل عنده موثق)]. أي: عند أبي موسى شخص مقيد بالسلاسل. [(قال -أي: معاذ بن جبل لـ أبي موسى -: ما هذا؟ قال: هذا كان يهودياً فأسلم، ثم راجع دينه دين السوء فتهود. قال: لا أجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله)]. أرأيتم؟ معاذاً لا يريد أن يجلس أبداً حتى يقتل، فليس هناك سلام قط مع اليهود. قال: [(اجلس. نعم. قال: لا أجلس حتى يقتل. قضاء الله ورسوله)]. كأن قضاء الله ألا يجلس معهم حتى يُقتل هذا اليهودي. قال: [(قال ذلك ثلاث مرات، فأمر به فقُتل، ثم تذاكرا القيام من الليل)]. يعني: كأنه بعد مقتل هذا اليهودي قال أبو موسى لـ معاذ: ماذا تعمل في قيام الليل؟ فلو كان هذا في زماننا فإن العالم كله ينقلب؛ لأن أبا موسى قتل رجلاً يهودياً. إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أما من أتانا منهم فنرده إليهم، وأما من ذهب منا إليهم فأبعده الله). أي: نحن لسنا حريصين على من أسلم ويريد أن يرتد، فالذي يريد أن يرتد يرتد، فإن أهم شيء هو الثبات على العقيدة، هل أنا أحامي وأدافع عن أناس، وأضع يدي على قلب من أراد الكفر وأقول له: لا تكفر؟ فالنبي صلى الله عليه وسلم علّم هذا الدرس لـ خباب بن الأرت لما قال له: (ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فغضب النبي صلى الله عليه وسلم واحمر وجهه، ثم اعتدل وكان متكئاً مسنداً ظهره إلى الكعبة، وقال: إن من كان قبلكم كان ينشر بالمناشير من رأسه إلى قدميه حتى يلقى على الأرض فلقتين لا يرده ذلك عن دينه). وفي هذا الزمان تجد العلمانيين والمشركين كثيرين جداً من كُتَّاب وصحفيين يلحدون في الله عز وجل وينكرون وجوده وينكرون شريعته، ويفعلون ذلك آلاف المرات في مقالاتهم، المقال الواحد فيه عشرة مواطن من مواطن الردة، والغريب بعد ذلك كله تجد بعض المشايخ يختلف مع البعض في إثبات الردة لهؤلاء. قال: [(ثم تذاكرا القيام من الليل، فقال أحدهما -أي: معاذ -: أما أنا فأنام وأقوم، وأرجو في نومتي ما أرجو في قومتي)]. يعني: أنا أرجو الله تعالى في نومتي ما كنت أرجوه في قومتي؛ لأنني بنومتي أتقوى به على الطاعة، وكذلك أرجو في وقت طعامي أرجوه في وقت قيامي؛ لأني آكل لأتقوى به على الصيام، وأنام لأتقوى به على القيام، فإني أرجو الله تعالى بهذا وذاك. أما قوله: (لا أجلس حتى يُقتل، فأمر به فقتل) ففيه: وجوب قتل المرتد، ولا أصرح من ذلك من قوله عليه الصلاة والسلام: (من بدّل دينه فاقتلوه). مرة التقيت نصرانياً في شارع الهرم، وجلست معه جلسة، ثم قلت له: ما هو حكمكم على النصراني الذي يسلم؟ قال: القتل. قلت له: لماذا؟ قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من بدّل دينه فاقتلوه). أنت تحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا؟ إن الشيعة حين يجدون حديثاً صحيحاً في البخاري ومسلم يقولون: عندكم! معناه: أنه عندنا شيء وعندهم شيء آخر، فهم متأكدون أن هذه مسألة مفاصلة بين الشيعة والسنة، ونحن ننعق بالليل والنهار في التقريب بين الشيعة والسنة! قال النصراني النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (من بدّل دينه فاقتلوه). فالذي يسلم عندنا لا ريب أنه يستحق القتل، والكنيسة قررت ذلك. فإذا كان اليهود والنصارى يحتجون بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من بدّل دينه فاقتلوه)، فالمسلمون يحتجون به من باب أولى؛ لأن الخطاب موجه للأمة: من بدّل دينه يا معشر الأمة! ويا معشر الخلفاء! فاقتلوه. وقد أجمعوا على قتله، لكن اختلفوا في الاستتابة. يعني: هل يستتاب من بدّل دينه وارتد قبل القتل أم يُقتل؟ منهم من قال: يُقتل بغير استتابة، ومنهم من قال: يُقتل بعد الاستتابة. واختلفوا في الاستتابة. فقيل: يوم. وقيل: ثلاث. وقيل: شهر. فإن تاب وإلا قُتل. وقال القاضي عياض: (وفي هذا الحديث أن لأمراء الأمصار -أي: للولاة الذين عي

كتاب الإمارة - غلظ تحريم الغلول

شرح صحيح مسلم - كتاب الإمارة - غلظ تحريم الغلول لقد ثبت بالكتاب والسنة غلظ تحريم الغلول، وهو الأخذ من الغنيمة قبل توزيعها، وهو نوع من أنواع السرقة، ولكن لا يقام على من فعله حد السرقة؛ لأن للغال حظّاً في الغنيمة فوجدت الشبهة التي تدرأ الحد، وقد بين النبي عليه الصلاة والسلام أن عقوبة الغال يوم القيامة أن يأتي بما غلَّ على رقبته، وقد أجمع العلماء على أن الغلول كبيرة من الكبائر، كما أجمعوا على جواز أخذ شيء من الغنائم كالطعام والشراب والسلاح بشرط الحاجة إليه واستخدامه في المعركة ثم إرجاعه إلى الغنيمة.

باب غلظ تحريم الغلول

باب غلظ تحريم الغلول إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

شرح أحاديث ذكر الغلول وتعظيم أمره

شرح أحاديث ذكر الغلول وتعظيم أمره قال المصنف رحمه الله تعالى: [وحدثني زهير بن حرب] أبو خيثمة النسائي، نزيل بغداد، روى عنه الإمام مسلم أكثر من ألف حديث، فهو من أكابر شيوخ الإمام مسلم [قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم] وهو المعروف بـ ابن علية إسماعيل بن علية بن مقسم الأسدي الضبي أبو بشر البصري [عن أبي حيان] وهو يحيى بن سعيد بن حيان، وهو تيمي كوفي [عن أبي زرعة] وهو ابن عمرو بن جرير البجلي الكوفي، وأبو زرعة مختلف في اسمه جداً على عدة أقوال: فهو مشهور ومعروف بكنيته، ولذلك استغنى الرواة عن ذكر أسماء مختلفة بذكر المتفق عليه وهو الكنية أبو زرعة، اشتهر بالرواية عن أبي هريرة رضي الله عنه، كما أن أبا هريرة اختلف في اسمه واسم أبيه على نحو ثلاثين اسماً، لكنه مشهور بكنية واحدة: أبو هريرة. [قال أبو هريرة: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فذكر الغلول، فعظّمه وعظّم أمره)]. والغلول: نوع من أنواع السرقة، لكنه ليس بالسرقة التي يقام عليها حد القطع؛ لأن الذي يغل هو الذي يأخذ من مال الغنيمة قبل توزيعها على الجند المقاتلين، وله فيها حظ ونصيب؛ ولذلك لم يأمر الشرع بقطع يد الغال لهذه الشبهة. شبهة أن له في هذا المال نصيباً كالذي يسرق مالاً مشتركاً بينه وبين شريك له مع أنه سارق، لكن لا تقطع يده، لقيام الشبهة. والحدود تدرأ بالشبهات، فهذا الذي سرق مالاً له فيه شريك لا يقام عليه الحد؛ لأن له في هذا المال حظاً وملكاً، وهذا الحظ والملك يسمى في الشرع شبهة، تُدرأ بها الحدود فلا تقطع يده. فالغلول: هو الأخذ من الغنيمة قبل أن يقسمها الإمام. ولا شك أن ثبوت الحظ فيها لهذا الغال؛ لكونه من المقاتلين يدرأ عنه الحد، لكن له عقوبة أخرى كما أن النصّاب له عقوبة أخرى. المحتال لأخذ المال له عقوبة، والسارق من الحرز له عقوبة، وإن كان يصدق على كل هؤلاء اسم السرقة، لكن لكل واحد منهم تصنيف: هذا سرقة، وهذا غلول، وهذا نصب واحتيال إلى غير ذلك من التصانيف الشرعية للفعل الواحد. ولذلك أُسندت إقامة الحدود إلى السلطان لا إلى الأفراد؛ لأن الأفراد ليس عندهم التأهيل العلمي لجعل كل سرقة في مكانها، وإنما يعدون كل أخذ أموال الغير بغير حق سرقة ونصباً واحتيالاً، وربما لا يفرّقون بين العقوبات، فيقطعون يد كل من أخذ مال الغير حتى وإن كان عن طريق النصب، والنصب له عقوبة أخرى ليست هي القطع، والاحتيال كذلك، والغلول كذلك، وإن كان الكل يشترك في معنى واحد وهو أخذ أموال الغير بلا حق ولا بيّنة. قال: [(قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الغلول فعظّمه وعظّم أمره). أي: ذكر أنه أمر عظيم شنيع جداً. ليس معنى (فعظّمه): أنه أمرٌ عظيم شريف. وإنما معناه: فعظّم أمره جداً، وهوّله جداً، وخوفنا منه جداً. قال: [(ثم قال: لا ألفين)] أي: لا أجد. وفي رواية: [(لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء)] يعني: حذار أن أجد أحداً منكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته بعير قد حمله. قال: (له رغاء) والرغاء: اسم لصوت البعير [(يقول: يا رسول الله! أغثني -أي: اشفع لي الآن- فأقول: لا أملك لك شيئاً. قد أبلغتك)] أي: أنا من قبل في الحياة الدنيا قد حذّرتك. قال: [(لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة -الحمحمة: هي صوت الفرس- فيقول: يا رسول الله! أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً. قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء -وهو اسم لصوت الشاة- يقول: يا رسول الله! أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً. قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح)] النفس لفظ عام، فربما سرق من الأسرى واحداً، أو من الإماء واحدة، وربما يكون المعنى أعم من ذلك. قال: [(فيقول: يا رسول الله أغثني. فأقول لا أملك لك شيئاً. قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق، ولو شيئاً من جلد يسير، فيقول: يا رسول الله أغثني. فأقول: لا أملك لك شيئاً. قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت -والصامت هو الذهب والفضة. أي: يسرق شيئاً من أموال الغنائم ذهباً أو فضة- فيقول: يا رسول الله! أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك). وحدثني أبو بكر بن أبي شيبة -وهو عبد الله بن محمد بن إبراهيم الكوفي المعروف بـ أبي بكر - قال: حدثنا عبد الرحيم بن سليمان] وهو الكناني المعروف بـ أبي علي الأشل وهو مروزي الأصل، نزل الكوفة وله تصانيف مف

كلام النووي في شرح أحاديث تعظيم أمر الغلول

كلام النووي في شرح أحاديث تعظيم أمر الغلول إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

التصريح بغلظ تحريم الغلول

التصريح بغلظ تحريم الغلول قال الإمام النووي: (قوله: (ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلول فعظّمه وعظّم أمره). قال: هذا تصريح بغلظ تحريم الغلول)، ومعنى: غلظ. أي: ينقله من كونه صغيراً إلى الكبير. أي أن كلمة الزجر الشديد أو علامة الزجر الشديد أمارة على أن الفعل المنهي عنه كبيرة من الكبائر، كما لو جاء في الفعل عقوبة أو وعيد بالنار أو العذاب أو البراءة أو اللعن، فكون هذا علامة على أن هذا الفعل الذي ترتب عليه هذا الزجر الشديد يدل على أنه كبيرة من الكبائر. وكذلك من علامة الكبيرة: الحد في الدنيا. وكذلك من علامات الكبيرة: إرجاء العذاب أو العفو إلى يوم القيامة، إلى مشيئة الله عز وجل إن شاء عذّبه وإن شاء غفر له: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} [المائدة:40]. فهذه وغيرها من العلامات لاعتبار هذا الفعل الذي ترتب عليه هذا العقاب أو إقامة الحد في الدنيا دليل على أن الفعل كبيرة؛ لأنه لا حد على الصغائر، وإنما الصغائر فيها التعزير، والتعزير لا يزيد عن عشر جلدات، فما ضرب النبي صلى الله عليه وسلم حداً قط أكثر من عشر جلدات في صغيرة من الصغائر. قال: (تصريح بغلظ تحريم الغلول، وأصل الغلول في اللغة: الخيانة -والخيانة تصدق كذلك على النصب والاحتيال والسرقة والغلول وغير ذلك- ثم غلب اختصاصه في الاستعمال بالخيانة في الغنيمة) يعني: أن تقع الخيانة في الغنيمة فهذا اسمه في الشرع غلول، وفي اللغة: غلول وخيانة. (قال نفطويه: سمي بذلك لأن الأيدي مغلولة عنه. أي: محبوسة). أي: حبس الشرع الأيدي أن تمتد إلى هذه الأموال ولو كانت تحت أيديها، ومعنى أن الشرع حبس الأيدي أي: منعها من تناول هذا الشيء على سبيل التملك.

تحريم السرقة من المغنم وبيان مصارف الفيء

تحريم السرقة من المغنم وبيان مصارف الفيء المعلوم أن الفارس إذا تتبع العدو فقتله غنمه، وأخذ منه فرسه وسلاحه ومتاعه وطعامه وشرابه وغير ذلك، فالمعلوم أنه موكل إلى إيمانه وإلى تقواه وإلى الوازع الإيماني في قلبه؛ لأن هذا مال بين يديه، فالمطلوب منه أن يتناول هذا المال وأن يسلمه للإمام، ولذلك حبس الشرع يد المقاتل أن تمتد لشيء من الغنيمة إلا على سبيل نقلها إلى الإمام، أما على سبيل التملك فهذا غلول وسرقة، وتملك بغير حق شرعي، ولا يصح التملك من الغنيمة إلا بعد إذن الإمام بإعطاء السهم، إذا كان هذا من الغنيمة، وإذا كان من الفيء فلا حظ للمقاتل؛ لأنه لا يقاتل أصلاً، والفيء ما أخذه المسلمون صلحاً أو أماناً أو عهداً أو خراجاً أو نزولاً على بقائهم في بلادهم -أي: بقاء الكافرين في بلادهم- على أن يؤدوا من المال ومن الثمر كيت وكيت على حسب ما يتفق الإمام مع هؤلاء. أي: أصحاب الأرض. فحينئذ للإمام أن يأخذ هذا المال وأن يقسّمه على فئات معينة وليس على كل فئة؛ ولذلك قال الله تعالى في غزوة بني النضير: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:7]. مرد ذلك إلى أن هذا شيء أخذه النبي عليه الصلاة والسلام من بني النضير دون قتال، -أي: دون قتال يُذكر- ويستحق أن يسمى هذا المال غنيمة، وإنما هو فيء أخذه المسلمون بغير قتال، فكان الفيء موزّعاً على هذه المصارف الخمسة: لله. أي: للمجاهدين وإعداد الجيوش. وللرسول: أي لخاصة الرسول صلى الله عليه وسلم وأهل بيته أي: أزواجه، ولذوي القربى أي بني هاشم وبني عبد المطلب؛ لأن الصدقة محرمة عليهم؛ فعوضهم الله تعالى سهماً من أسهم الفيء. ولليتامى. أي: لفقراء اليتامى. وابن السبيل. حتى وإن كان غنياً وانقطع به الطريق فيأخذ حتى يتبلّغ إلى مكانه وإلى ماله. قال: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ} [الحشر:7] أي: مالاً متداولاً بين الأغنياء كما كان هذا الأمر في الجاهلية، كانت القبيلة إذا قاتلت قبيلة أخرى وانتصرت عليها أخذوا أموالها ووضعت بين يدي شيخ القبيلة الغالبة المنتصرة، فيأخذ منها الربع حقاً خالصاً له، ثم يأخذ منها ما اشتهته نفسه بعد الربع؛ ولذلك قال شاعرهم: لك المرباع منها والصفايا. أي: الربع منها وما يصفو لك منها بعد ذلك على حسب ما تشتهيه نفسك، وأما نحن فلنا الحثالة والباقي، سواء كان قليلاً أو كثيراً على حسب نصيبنا وحظنا، فنهى الإسلام عن هذا وقال: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر:7] وحينما كان الأمر هذا لا يمكن تقريره إلا بتقوى الله قال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحشر:7]. ثم بيّن عاقبة مخالفة التقوى ومخالفة تقسيم الفيء على هذا النحو فقال: {إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:7] أي: إذا لم يكن ذلك منكم على مقتضى تقوى الله والخوف منه فإن الله تعالى شديد العقاب في الدنيا والآخرة. هذا بالنسبة للفيء، أما بالنسبة للغنيمة فللفارس سهم وللفرس سهمين.

معنى قوله: (لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير)

معنى قوله: (لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير) قال: (قوله: (لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء). أي: لا أجدن أحدكم على هذه الصفة. ومعناه: لا تعملوا عملاً أجدكم بسببه على هذه الصفة. والرغاء بالمد: صوت البعير، وكذلك المذكورات بعده هي أسماء أصوات لها.

الرد على شبهة الاستدلال بقوله (لا أملك لك من الله شيئا) على إنكار شفاعة النبي لأصحاب الكبائر

الرد على شبهة الاستدلال بقوله (لا أملك لك من الله شيئاً) على إنكار شفاعة النبي لأصحاب الكبائر قوله: (لا أملك لك من الله شيئاً) أي: أنا يا رسول الله! ارتكبت كبيرة وأتيت هذا الوقت لتشفع لي. فقوله: (لا أملك لك شيئاً) يعتمد الملاحدة على هذه اللفظة في نفي شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة لأصحاب الكبائر، ويقولون: لا شفاعة للنبي عليه الصلاة والسلام. وبلا شك لأول وهلة أن هذه شبهة، والنبي عليه الصلاة والسلام قد ثبت عنه أنه قال: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) فما باله عليه الصلاة والسلام يتخلى في هذا الحديث عن صاحب الكبيرة ويقول: (اليوم لا أملك لك من الله شيئاً) قد حذّرتك وقد منعتك وخيرتك في الدنيا فلم تطع. A يكون ذلك أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر وفي أول وهلة إذا طلب منه الواحد -وليست الأمة- أن يشفع له يقول: الآن وفي هذا التوقيت لا أملك لك أنت شخصياً وقد حذّرتك، فالنبي صلى الله عليه وسلم يعتذر عن الشفاعة أولاً، حتى يأتي موعدها العام بأمر الله تعالى. أليس النبي عليه الصلاة والسلام قد قال في حديث الشفاعة: (ثم آتي فأسجد تحت العرش، فأُلهم محامد لم أكن أحمد بها من قبل، فيقول لي ربي تبارك وتعالى: يا محمد ارفع رأسك، وقل تسمع، واشفع تشفّع)؟ فحينئذ من الذي يأذن له في الشفاعة؟ الله عز وجل. أما في أول الأمر وفي أول البعث والحشر يأتيه فلان أو علان لوقوعه في كبيرة أو في معصية فيقول له: اشفع لي يا رسول الله! فيقول: الآن وفي هذا التوقيت بالذات أنا لا أملك الشفاعة، فالشفاعة لها وقت مخصوص ومكان معلوم ليس هذا أوانها، فاعتذاره عليه الصلاة والسلام عن الشفاعة أولاً لأن هذا ليس وقتها، إنما وقتها يأتي بعد، ثم يشفع في جميع الموحدين عليه الصلاة والسلام بعد ذلك لا في واحد دون الآخر.

الاستدلال بحديث الباب على وجوب زكاة العروض وبيان خلاف العلماء في ذلك

الاستدلال بحديث الباب على وجوب زكاة العروض وبيان خلاف العلماء في ذلك قال: (واستدل بعض العلماء بهذا الحديث على وجوب زكاة العروض -أي: عروض التجارة- وكذلك زكاة الخيل، ولا دلالة فيه لواحد منهما؛ لأن هذا الحديث في عقوبة الغلول). وزكاة العروض محلها الزكاة، والربط بين هذا الحديث وبين زكاة العروض بعيد جداً، بل الاستدلال به استدلال باطل في غير محله. والحديث الذي ورد في زكاة العروض حديث ضعيف باتفاق المحدثين، ولكن الجمهور اعتمدوا عليه في مشروعية زكاة العروض. والقول بالمشروعية يشمل الاستحباب والوجوب؛ ولذلك يهرب كثير من الناس من توصيف زكاة العروض، فيقول: زكاة العروض مشروعة. ولا يقول: مستحبة أو غير ذلك. أما الجمهور فقد ذهبوا إلى وجوب زكاة العروض، واعتمدوا على هذا النص وعلى نص آخر ضعيف، ولكنه صريح في وجوب الزكاة، ويا ليته صح! وذهب الظاهرية إلى عدم مشروعية زكاة العروض، أما جماهير علماء الأمة سلفاً وخلفاً فعلى مشروعية زكاة العروض، واختلفوا فيما إذا كانت واجبة أو مستحبة، فالذي اجتهد في إثبات الحديث قال: بوجوب زكاة العروض. وجمهور أهل العلم قال بأن الحديث فيه نزاع أو هو ضعيف، ولكنه في باب فضائل الأعمال؛ وهو أكبر عون على مواساة الفقراء في مال الأغنياء وغير ذلك، فقالوا باستحباب زكاة عروض التجارة.

إجماع العلماء على تغليظ تحريم الغلول وأنه من الكبائر

إجماع العلماء على تغليظ تحريم الغلول وأنه من الكبائر قال: (وأجمع المسلمون على تغليظ تحريم الغلول، وأنه من الكبائر). إذاً: إثبات الغلول وبعد ثبوته يثبت فيه الغلظ أو التغليظ الشديد في التحريم، فهذا التغليظ يجعل الفعل كبيرة من الكبائر بكتاب الله عز وجل وبسنة النبي عليه الصلاة والسلام، وبإجماع أهل العلم، وهذه مصادر التشريع المعتبرة، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:161] نفى الله عز وجل وبرأ صفحة الأنبياء أن يقعوا في مثل هذه الكبيرة أبداً {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} [آل عمران:161] أي: ما وقع الغلول ولن يقع من نبي قط، ثم قال الله تعالى: ((وَمَنْ)) من ألفاظ العموم، ((وَمَنْ يَغْلُلْ)) أي: من بقية الناس وبقية الخلق {يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:161] يأت به على هذه الصفة. إذا غل فرساً يأتي به قد حمله على رقبته له حمحمة، وإذا كان بعيراً له رغاء، وإذا كانت شاءً أو ذهباً أو فضة يأتي بما غل وإن كان شيئاً من جلد يسير، أو عوداً من أراك. يعني: شعيرة يسيرة جداً من ضمن عود الأراك وهو السواك.

وجوب رد الغال لما غله وبيان كيفية التصرف فيه

وجوب رد الغال لما غله وبيان كيفية التصرف فيه قال: (وأجمعوا على أن عليه رد ما غلّه، فإن تفرق الجيش وتعذر إيصال حق كل واحد إليه ففيه خلاف بين العلماء. قال الشافعي وطائفة: يجب تسليمه إلى الإمام أو الحاكم كسائر الأموال الضائعة. وقال ابن مسعود وابن عباس ومعاوية والحسن والزهري والأوزاعي ومالك والثوري والليث وأحمد والجمهور: يدفع خمسه إلى الإمام ويتصدق بالباقي). فالعلماء كافة قالوا بعقوبة الغال. قالوا: إما أن يتوب إلى الله عز وجل قبل أن يوزع الإمام الفيء أو الغنيمة على الناس، وإما أن تكون التوبة وإرجاع الأموال بعد تفرّق الناس وأخذ كل ذي حق حقه. قالوا: فإن تاب قبل توزيع الغنيمة وقبل تفرق الناس قُبل منه ذلك ويجب على الإمام أن يأخذ منه ما قد غل، أما إذا تفرّق الناس وقد أخذوا غنائمهم وأنصبتهم فقال الشافعي: يدفع مال الغلول إلى السلطان والأمير والحاكم، ويتوب إلى الله عز وجل ولا شيء عليه. وقال جماهير أهل العلم: يأخذ الإمام الخمس من مصلحة العامة ويتصدق هذا الغال بالأربعة الأخماس الباقية معه، وهذا الرأي هو الصحيح. أما مذهب الشافعي فضعيف، ومذهب الجمهور يستند إلى حديث ضعيف كذلك، وقد ورد في سنن أبي داود، أما عمل الأمة في أزمنتها الأولى فبمذهب الجمهور.

اختلاف العلماء في صفة عقوبة الغال

اختلاف العلماء في صفة عقوبة الغال قال: (واختلفوا -كذلك- في صفة عقوبة الغال. فقال جمهور العلماء وأئمة الأمصار: يعزر). مع أنه كبيرة؛ لأنه ليس كل كبيرة فيها حد. فعقوق الوالدين كبيرة عليه عقوبة في الدنيا لكن ليس عليه الحد، وإنما ورد في شأنها الوعيد الشديد، وهذا الوعيد جعلها كبيرة من الكبائر، فكذلك الغلول قد ورد فيه الوعيد الشديد فجعله كبيرة، لكن لم يرتب الشرع عليها حداً. (فقال الجمهور: يعزّر على حسب ما يراه الإمام، ولا يحرق متاعه). قياساً على مانع الزكاة، وقد ورد في لفظ أن مانع الزكاة يؤخذ منه نصف ماله ويُحرق متاعه، وهو حديث ضعيف. وقيل: صحيح. ولكنه مكروه. فالقول الأول أنه يعزّر على حسب ما يراه الإمام والسلطان ولا يحرق متاعه. (وهذا قول مالك والشافعي وأبي حنيفة ومن لا يحصى من الصحابة والتابعين ومن بعدهم عدة، أما مكحول والحسن والأوزاعي فقالوا: يُحرق رحله ومتاعه كله). فـ الأوزاعي قال: (من غل أُحرق متاعه إلا السلاح والثياب التي يلبسها. وقال الحسن: إلا الحيوان والمصحف. واحتجوا بحديث عبد الله بن عمر في تحريق رحله. قال الجمهور: وهذا حديث ضعيف؛ لأنه مما انفرد به صالح بن محمد عن سالم وهو ضعيف. قال الطحاوي: ولو صح يُحمل على أنه كان إذا كانت العقوبة بالأموال كأخذ شطر المال من مانع الزكاة وضالة الإبل وسارق التمر، وكل ذلك منسوخ، والله أعلم).

حكم أخذ المقاتلين شيئا من الغنائم تدعو الحاجة إليه قبل توزيعها

حكم أخذ المقاتلين شيئاً من الغنائم تدعو الحاجة إليه قبل توزيعها إن قيل: هل يحرم على جميع المقاتلين أخذ أي شيء من الغنائم؟ A لهم أن يأخذوا طعامهم، كما ثبت من قبل في الصحيح أنهم كانوا يأخذون العسل والسمن، وكانوا يأخذون علف الدواب، وما دعت إليه الحاجة للقتال -أي: لمصلحة القتال والنصر- فلو أن مجاهداً سقط من على فرسه أو أخذ العدو سلاحه فوجد سلاحاً لكافر ملقى على الأرض فإنه له أن يأخذه ليقاتل به، فإذا فرغ من القتال رد السلاح إلى الغنيمة، وإن كاد يموت جوعاً أو عطشاً، ووجد في متاع كافر قد قتله وأخذ سلبه طعاماً وشراباً فإنه يجوز له أن يأكل ويشرب. إذاً: ما دعت إليه الحاجة من مال العدو وطعامه وشرابه وسلاحه وفرسه فله أن يستخدمه ويرد ما فضل عن حاجته بعد الحرب إلى الإمام.

حكم الإسهام للغال من الغنيمة

حكم الإسهام للغال من الغنيمة هل يأخذ الغال سهمه من الغنيمة؟ نحن اتفقنا على أنه قد غل، لكن هذا الغال قبل الغلول له سهم أم ليس له؟ A له سهم. فغلوله شيء واستحقاقه لسهمه في الغنيمة شيء آخر، أما استحقاقه فيجب دفع الحق إليه، وأما غلوله فله حكم آخر، أن يرد ما غل ويتوب إلى الله عز وجل. وبعض العلماء قال: جزاء وقوعه في الغلول يُحرم السهم. وهكذا اختلف العلماء على هذين المذهبين، فمذهب الجمهور: أنه يأخذ سهمه؛ لأن هذا حق ثابت له أثبته الشرع، فيدفع إليه بأمر الشرع، أما الذي فعله فقد رتّب الشرع عليه شيئاً آخر، أوجب عليه التوبة، وأوجب عليه دفع المال، والتخلّص منه على النحو السابق، فهذا شيء واستحقاقه شيء آخر، وهذا الذي يعجبني من هذين الرأيين.

باب تحريم هدايا العمال

باب تحريم هدايا العمال قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وابن أبي عمر محمد بن يحيى واللفظ- واللفظ لـ أبي بكر بن أبي شيبة - قالوا: حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن عروة عن أبي حميد الساعدي -وأبو حميد مشهور بكنيته واختلف في اسمه على اختلافات شتى كذلك، فهو مشهور بكنيته- قال: (استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأسد)] أي: جعله عنده عاملاً. استعمله على بيت المال فهو عامل، استعمله على الصلاة فهو عامل مع أنه الإمام والشيخ الكبير، لكن اسمه في الشرع: عامل؛ لأن الإمام استعمله. أي: طلب منه أن يكون عاملاً في هذا المكان على إمامة الناس، أو عاملاً على الأذان، أو عاملاً على الصدقات، والعاملون عليها لهم أجر، فقد سماهم القرآن (عاملين) مع أنهم في الأصل جباة لأموال الزكوات وغير ذلك، وهم كذلك يعطون منها لأنهم من مصارفها الشرعية، فهم عُمّال عليها. قوله: (رجلاً من الأسد) بالسين، وفي رواية: (من الأزد) بالزاي، وكلاهما صحيح، فهو أسْدي أو أزْدي، والرجل الذي استعمله النبي عليه الصلاة والسلام اسمه عبد الله بن اللتبية. [قال عمرو وابن أبي عمر: (على الصدقة)]. أي استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة. والصدقة عند الإطلاق تعني: الزكاة: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:60]. قال: [(فلما قدم -أي: ابن اللتبية وجمع الأموال وأتى بالمال والسواد العظيم- قال: هذا لكم. وهذا لي أهدي إلي. قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فحمد الله وأثنى عليه)]، أرأيت النبي صلى الله عليه وسلم حينما يريد أن يتكلم أو يخطب؟ يبدأ بحمد الله وتمجيده والثناء عليه، ثم يدخل في الخطبة، ثم يختم بالحمد والصلاة. قال: [(فحمد الله وأثنى عليه وقال: ما بال عامل أبعثه فيقول: هذا لكم وهذا أهدي لي)] أي: أنني حينما أبعث أحدكم ليأتيني بأموال يأخذ منها شيئاً ويقول: هذا أُهدي إلي! قال: [(أفلا قعد في بيت أبيه أو في بيت أمه حتى ينظر أيهدى إليه أم لا؟)] هذا يدل على أن الإنكار أحياناً يكون بالإغلاظ، لكن إذا كنت لا تؤتى بالقوة فسآتي إليك بالسياسة، وآتيك من الطريق والبوابة التي تصلح معك. فلو أن واحداً أغلظت عليه عاند وانتقل من شر إلى أشر، ومن سيئ إلى أسوأ، وإذا تلطفت معه وترفقت معه ستكون معه نتيجة فينبغي اللطف معه، (ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه) فإذا كان هناك من لا يؤتى إلا بالقوة وبالضرب يضرب، وإذا كان هناك شخص لا يصلي فعندما تأتيه بالطيب يقول: هذا الكلام قديم، فإذا حُبس ثلاثة أيام وضرب صلى، فهنا يضرب ويحبس. قال: [(أفلا قعد في بيت أبيه أو في بيت أمه حتى ينظر أيُهدى إليه أم لا؟ والذي نفس محمد بيده لا ينال أحد منكم منها شيئاً)] أي من أموال الناس بغير حق [(إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه)]. أورد الإمام مسلم هذا الحديث في هدايا العمال بعد الغلول؛ ليدل على أن هدايا العمال نوع من أنواع الغلول؛ وذلك لاتحادهما في العقوبة، فإنه يوم القيامة يحمله على عنقه بالضبط كنفس عقوبة الغال. قال: [(إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه، بعير له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر -تيعر: تصيح- ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه)] أي: بياض إبطيه، ولكنه ليس بياضاً في الحقيقة؛ لأن هذا المكان من وجود الشعر فيه لا يكون أبيض، وإنما يكون أبيض مترّباً كوجه الأرض؛ ولذلك يقال: عفرتا إبطيه، بسبب وجود الشعر فيشبهان وجه الأرض، ووجه الأرض اسمه عفر الأرض. فقولك: تعفّرت: أصابك من عفارها. أي: من سطح الأرض ووجهها. ثم قال: [(اللهم هل بلغت مرتين)] عليه الصلاة والسلام. أي: أنه يؤكد أنه قد بلّغ هؤلاء حتى لا يأتي واحد يوم القيامة فيسأل: لماذا أخذت هذا؟ فيقول: يا رب! هذه هدية. [حدثنا إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد. قالا: أخبرنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن عروة عن أبي حميد الساعدي قال: (استعمل النبي صلى الله عليه وسلم ابن اللتبية -رجلاً من الأزد- على الصدقة، فجاء بالمال فدفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذا مالكم. وهذه هدية أهديت لي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أفلا قعدت في بيت أبيك وأمك فتنظر أيهدى إليك أم لا؟ ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً) ثم ذكر نحو حديث سفيان بن عيينة] السابق. [حدثنا

بيان أن هدايا العمال حرام وغلول

بيان أن هدايا العمال حرام وغلول قال الإمام النووي: (وفي هذا الحديث بيان أن هدايا العمال حرام وغلول؛ لأنه خان في ولايته وأمانته، ولهذا ذكر في الحديث في عقوبته وحمله ما أُهدي إليه يوم القيامة، كما ذكر مثله في الغال، وقد بين صلى الله عليه وسلم في نفس الحديث السبب في تحريم الهدية عليه، وأنها بسبب الولاية، بخلاف الهدية لغير العامل فإنها مستحبة). حتى إن أهل العلم كانوا لا يأخذون شيئاً من طلابهم على سبيل الورع، لكن لو أن رجلاً عالماً بينه وبين أحد طلابه تعاملات أو جوار أو صداقة، وكانوا قبل ذلك يتعاطون الهدية، فالطالب يعطي العالم والعالم يعطي الطالب، فهذه هدية لا علاقة لها بهذا التحريم، فضلاً عن أنها ليست حراماً، ولكن أهل العلم كانوا يتورعون ويقولون: إنا لا نأكل بديننا وإنما نأكل بأموالنا. وأحياناً يأتي الطالب بهدية فإذا ردها الشيخ انكسر قلب الطالب وربما امتنع عن الدرس خجلاً أن الشيخ أحرجه أو رده. ومن الناس من يقول: شيخنا متكبّر. أتيت له بهدية فلم يأخذها مني، في حين أن وجهة الشيخ وجهة شرعية في رد الهدية. إن بعد الشيخ عن أموال الناس أمان له في دعوته، خاصة بعده عن أموال الأغنياء؛ لأن أكثر شيء يكسر عين الشيخ أن تمتد يده إلى أموال الآخرين، فإذا كانت يده نزيهة ونظيفة ولا تمتد إلا بالرفض والدفع فحينئذ يكون الشيخ حراً دائماً في فتاواه، أما إذا مد يده فإن اليد التي امتدت مرة لا بد أن تمتد الثانية والثالثة حتى تحرص هذه اليد على أن تمتد، وإذا رجعت خائبة مرة يعز عليه ذلك، لكنه يهون عليه أن تمتد يده الثانية والثالثة والرابعة حتى يكون هذا إلفاً مألوفاً له؛ فيألف أن يتكفف الناس دائماً، ولذلك المعصية إذا وقعت من المرء مرة هان عليه أن تقع الثانية، وطالما كان بعيداً عن المعصية فإنه يهابها ويخاف منها، وترتعد فرائصه عند ذكرها على مسامعه، وأعظم من ذلك جرائم الأموال في ذمة العالم والشيخ، ولذلك ينبغي أن يتربى الطالب منذ نعومة أظفاره في طلب العلم على أن يجعل بينه وبين أموال الخلق جداراً كجدار يأجوج ومأجوج؛ لأن هذا هو الحصن الحصين والسد المنيع الذي يجعلك تنطلق بدعوتك لا تألو لها جهداً، ولا تخاف أن يحرج فيها أحد، أما الذي امتدت يده إلى أموال الآخرين أو جيوبهم، فلا شك أنه إذا استفتاه هؤلاء جاملهم؛ لأنه إن لم يجامل حرموه ومنعوه أموالهم، مع أن أبخل الناس هم الأغنياء وأصحاب الأموال إلا ما رحم الله عز وجل.

كتاب الإمارة - وجوب طاعة الأمراء في غير معصية

شرح صحيح مسلم - كتاب الإمارة - وجوب طاعة الأمراء في غير معصية أجمع العلماء على وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية؛ لورود الأدلة الثابتة من الكتاب والسنة على ذلك، كما استقر الإجماع على عدم جواز الخروج على الحاكم الفاسق الظالم، وانعقد الإجماع كذلك على وجوب خلع الكافر من الولاية إذا تبين كفره وباح به قولاً واحداً، بخلاف المبتدع المتأول.

باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية

باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. (باب: وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية). وعموماً سواء كان الأمراء أو غيرهم فيحرم طاعتهم في معصية الله عز وجل، أما مسألة: هل طاعتهم واجبة أو غير واجبة فمتوقف على كنه الآمر، إذا كان أماً أو أباً أو رئيساً للعمل أو أميراً أو سلطاناً أو عالماً أو آحاد الناس، فلا شك أن آحاد الناس إذا أمر أو نهى ولم يكن له سلطان على المأمور فإن طاعته حينئذ غير واجبة، أما إذا كان أميراً أو عالماً أو والداً وكان أمره في طاعة الله عز وجل فطاعته حينئذ تجب على المأمور، فبوّب النووي لهذه الأحاديث بـ (باب وجوب طاعة الأمراء في طاعة الله عز وجل وتحريم طاعتهم إذا أمروا بمعصية الله عز وجل). فأياً كان الآمر، وأياً كانت صفته أو هيئته أو سلطانه فإن طاعته غير ملزمة للمأمور إذا كان الأمر في معصية الله عز وجل، أما إذا كان في طاعة فإما أن يكون واجباً أو مستحباً على حسب صفة الآمر.

شرح حديث ابن عباس في وجوب طاعة الأمير

شرح حديث ابن عباس في وجوب طاعة الأمير قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثني زهير بن حرب وهارون بن عبد الله -وهو المعروف بـ هارون الحمال - وهو أيضاً أبو موسى البغدادي البزاز - كلاهما قالا: حدثنا حجاج بن محمد -وهو أبو محمد المصيصي الأعور وهو ترمذي الأصل نزل بغداد ثم استقر بالمصيصة ونُسب إليها- قال: قال ابن جريج: (نزل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي السهمي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية)]. أي: بعثه أميراً على سرية فنزلت هذه الآية فيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء:59] ولم يقل: وأطيعوا أولي الأمر منكم، وإنما قال: {وَأُوْلِي الأَمْرِ} [النساء:59]، فالآية ليس فيها إفراد أولي الأمر بطاعة، وإنما فيها إفراد الله بالطاعة، وإفراد الرسول صلى الله عليه وسلم بالطاعة، وعطف طاعة أولي الأمر على طاعة الله ورسوله؛ وذلك لأن الله لا يأمر إلا بطاعة، ولا يأمر إلا بحق، ولا ينهى إلا عن خبيث، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وللنبي حق الأمر ابتداءً دون وروده في القرآن، وكم من تشريع استقل به النبي عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك طاعته واجبة مع طاعة الله عز وجل، فالشرع إما ورد في القرآن، وإما ورد في القرآن والسنة، وإما ورد في السنة فحسب، فالنبي صلى الله عليه وسلم واجب الطاعة وإن لم يكن أمره الذي أمر به في الكتاب؛ لأن الله تعالى جعل لرسالته خصوصية، فالأمر أحياناً يأتي في القرآن فحسب، وأحياناً تجد أدلة الأمر في القرآن وفي السنة معاً، كما لو ذكرنا أي مسألة قلنا: ودليل هذه المسألة في الكتاب والسنة والإجماع، أو في الكتاب والسنة، أو دليل هذه المسألة في السنة فحسب، أو دليل هذه المسألة الإجماع فحسب وهكذا. فالسنة لها حق الاستقلال عن الكتاب، وهذا فيه رد على من يزعم التمسك بالقرآن دون السنة، ويحتج بظواهر بعض الآيات، كقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] ولا شك أن مرد كل ما استقلت بها السنة إلى كتاب الله إلى عمومات الأمر بطاعة النبي صلى الله عليه وسلم، فالذي يطيع النبي عليه الصلاة والسلام فهو في الحقيقة طائع لله تعالى، وحينما كان هذا الأمر مفقوداً عند أولي الأمر عطف الله تعالى طاعتهم على طاعته وطاعة رسوله، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء:59] ولم يقل: وأطيعوا أولي الأمر، وإنما قال: {وَأُوْلِي الأَمْرِ} [النساء:59] فإذا كان أولي الأمر يأمرون بما أمر به الله فطاعتهم حينئذ واجبة، لا لكونهم ولاة أمر، ولكن لكونهم أمروا بما أمر به الله، وكذلك طاعتهم معطوفة على طاعة الرسول، ولم يكن لهم طاعة مستقلة، ولو كانت لهم طاعة مستقلة بعيداً عن الكتاب والسنة لكان الأولى أن يقول الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأطيعوا أولي الأمر. أي: بأي أمر يأمرون، وعن أي نهي ينهون، ولكنه سبحانه وتعالى بيّن أن طاعة ولاة الأمر في هذه الآية مرهونة بالأمر بطاعة الله وطاعة الرسول عليه الصلاة والسلام. قال: [قال ابن جريج: (نزل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي السهمي. بعثه النبي عليه الصلاة والسلام في سرية)]. والمعلوم أن السرية: هي القطعة من الجيش يرسلها الأمير لأداء مهمة عسكرية أو حربية أو قتالية ليس فيها الأمير العام، فإن وجد الخليفة العام والأمير العام في سرية سمي جيشاً لا سرية، فالسرية: هي التي ليس فيها الأمير، والجيش: هو الذي فيه الأمير. قال ابن جريج: [أخبرنيه يعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس]. انظروا إلى هذا الإسناد العجيب! ابن جريج كان حقه أن يقول: أخبرني يعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] نزلت في عبد الله بن حذافة السهمي. بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية، ولكن الإمام مسلم جزّء الإسناد على مرحلتين، توقف عند ابن جريج وقال: نزل قوله تعالى كذا وكذا في عبد الله بن حذافة السهمي. أخبرني بهذا ي

شرح حديث أبي هريرة: (من أطاعني فقد أطاع الله) وذكر طرقه

شرح حديث أبي هريرة: (من أطاعني فقد أطاع الله) وذكر طرقه [حدثنا يحيى بن يحيى أخبرنا المغيرة بن عبد الرحمن الحزامي عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة]. أبو الزناد عبد الله بن ذكوان المدني، يروي عن الأعرج عبد الرحمن بن هرمز المدني، وروايته عن أبي هريرة معروفة ومشهورة. [عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من أطاعني فقد أطاع الله)] إذاً: طاعة الرسول من طاعة الله عز وجل. ومن الناس من يقول: أنا لا آخذ من السنة شيئاً، يكفيني كتاب الله عز وجل آخذ منه ما شئت، أأتمر بأوامره وأنتهي عن نواهيه، أما السنة فقد دخلها الزيغ والتحريف؛ ولذلك طُعن في بعض رواة السنة على المعنى الدقيق، ولذلك أنا لا أعتمد مطلقاً على حديث يأتيني في كتاب من كتب السنة، وإنما عندي القرآن آخذ بآياته من أوله إلى آخره. وإن من يقول ذلك لاشك أنه إما جاهل ومقلّد لغيره، وإما أنه علماني جاحد ملحد يلحد في أسماء الله تعالى وكتابه؛ وذلك لأن الله تعالى قد أمر في كتابه بطاعة الرسول استقلالاً، والذي يأخذ بالقرآن ماذا يصنع بهذه الآيات الكثيرة التي تأمر بطاعة الرسول؟ وما قيمة أخذك بالقرآن دون أن تأخذ ما جاءك من جهة الرسول وأنت مأمور بطاعة الرسول، ففيم تطيعه إذاً؟ إذا كنت تزعم أنك تأخذ بالقرآن فقط فأطع الله في أمره بطاعة الرسول عليه الصلاة والسلام، فكيف تطيع الله دون أن تأخذ بسنة نبيه عليه الصلاة والسلام؟ [عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن يعصني فقد عصى الله)] وربما يكون المعنى: (من يطعني فكأنما أطاع الله، ومن يعصني)؛ لأن الرواية حملت في سياقها صيغة الماضي وصيغة المضارع (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن يعصني فقد عصى الله) ولم يقل: ومن عصاني، وإنما قال: (ومن يعصني) وأنتم تعلمون أن فعل المضارع يفيد الاستمرار. أي: ومن يعصني إلى يوم القيامة، فقد عصى الله تعالى: [(ومن يطع الأمير فقد أطاعني)] فأي أمير يُبعث عليك فطاعته من طاعة الرسول. قال: [(ومن يعص الأمير فقد عصاني)] إذا كانت طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم من طاعة الله، ومعصية الرسول صلى الله عليه وسلم هي معصية لله، وطاعة الأمير من طاعة الرسول، ومعصية الأمير من معصية الرسول فإن طاعة الأمير من طاعة الله، ومعصية الأمير من معصية الله. ولا شك أن المستمع لهذه النصوص يعلم يقيناً أنه لا يمكن استقامة هذا الدين في قلوب الخلق إلا إذا تعاملوا مع الخالق سبحانه وتعالى، فلو أن أميراً أمرني بأمر وركبت هواي وقلت: لن أطيعك في شيء، وعلمت بالوازع الإيماني الموجود في قلبي أن رفضي لأمر الأمير إذا أمرني بطاعة الله تعالى وخدمة الجيش والجند يوجب علي عقاب الله عز وجل لأطعت الأمير؛ وذلك لأن عصياني لأمر الأمير هو عصيان في الحقيقة لله عز وجل ولرسوله؛ فلو أن هذه المعاني لم تكن مكتملة في قلبك لفسدت الدنيا والآخرة، ولذلك المسلم دائماً والعربي خاصة يحتاج إلى وازع إيماني يتعامل به مع الله عز وجل، ثم يفيض هذا الوازع على المعاملة مع الخلق، فلو لم يكن الوازع الديني على أشده في قلب العبد المؤمن فإنه لا يمكن أن يستقيم له أمر ولا نهي؛ لأنه لا يستشعر مراقبة الله عز وجل، فالذي يفقد هذا المعنى لا بد أنه سيضيع أمره، ويتشتت شمله في دنياه وآخرته، فالذي يطيع الأمير كأنما يطيع الرسول، والذي يطيع الرسول كأنما يطيع الله تعالى. إذاً: الذي يطيع الأمير يطيع الله ورسوله في الحقيقة، والذي يعصي الأمير يعصي الله ورسوله في الحقيقة، فلا بد لكل إنسان أن يتعامل مع الله عز وجل. قال: [وحدثنيه زهير بن حرب حدثنا ابن عيينة -أي سفيان - عن أبي الزناد بهذا الإسناد ولم يذكر (ومن يعص الأمير فقد عصاني). وحدثني حرملة بن يحيى التجيبي المصري أخبرني ابن وهب عبد الله القاضي المصري أخبرني يونس بن يزيد الأيلي عن ابن شهاب أخبره قال: حدثنا أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني)]. قوله: (ومن عصى أميري) وقوله: (ومن أطاع أميري) جعل بعض أهل العلم يذهبون إلى أن هذا الحديث خاص بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين بعثهم النبي صلى الله عليه وسلم أمراء على السرايا، ولكن جماهير العلماء قالوا: هذا عام في كل أمير إلى يوم القيامة بدليل أنه قد جاء في معظم الروايات: (ومن يعص الأمير) (ومن يطع الأمير)، ولم يقل: أميري. قال: [وحدثني محمد بن حاتم حدثنا مكي بن إبراهيم حدثنا ابن جريج عن

وجوب طاعة الأمير في غير معصية

وجوب طاعة الأمير في غير معصية قال الإمام النووي: (أجمع العلماء على وجوب طاعة الأمير في غير معصية، وعلى تحريمها في المعصية، نقل الإجماع على هذا القاضي عياض وآخرون). إذاً: طاعة الأمير والسلطان من مسائل الإجماع، والمعلوم أن معصية الأمير أو السلطان مهلكة للدين والدنيا سواء.

تفسير قول الله تعالى: (وأولي الأمر منكم) وبيان المراد من ذلك

تفسير قول الله تعالى: (وأولي الأمر منكم) وبيان المراد من ذلك قال: (قوله نزل قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] في عبد الله بن حذافة أمير السرية). قال العلماء: المراد بأولي الأمر: من أوجب الله طاعته من الولاة والأمراء. هذا قول جماهير السلف والخلف من المفسرين والفقهاء وغيرهم. وقيل: الأمراء والعلماء). أي: لو قلنا: {وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] هل المقصود بأولي الأمر: الأمراء والسلاطين والخلفاء؟ أم هم العلماء؟ هذا منشأ الخلاف ومنبع الخلاف. مذهب جماهير العلماء أن أولي الأمر: هم الأمراء والولاة. وذهب البعض الآخر إلى أن ضمن أولي الأمر: العلماء. وهذا الرأي الآخر هو أعجب الآراء وأحبها إلي؛ لأنه في حقيقة الأمر ينبغي أن يأتمر الولاة والسلاطين بأمر العلماء، والله تعالى أثنى في كتابه في غير ما موطن على أهل العلم أعظم من ثنائه على الصلحاء من أولي الأمر، وقد نُقل عن السلف كثيراً أنهم قالوا: الولاة فوق الناس، والعلماء فوق الولاة. فيكون العلماء هم أعلى وأعظم طبقة يمكن أن يؤتمر بأوامرهم وينتهى عن نواهيهم جميع الناس بما فيهم الحكام والمحكومين، فحينئذ دخول العلماء في أولي الأمر دخول أولوي. أي: أن طاعتهم أوجب من طاعة الولاة والسلاطين.

بيان أن طاعة ولي الأمر طاعة لله ولرسوله

بيان أن طاعة ولي الأمر طاعة لله ولرسوله قال: (أما قوله: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع وليي فقد أطاعني) وقال في المعصية مثله؛ لأن الله تعالى أمر بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأمر هو صلى الله عليه وسلم بطاعة الأمير؛ فتلازمت الطاعة)، فكأن الذي يطيع الأمير يطيع الله ورسوله على الحقيقة.

شرح حديث أبي هريرة: (عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك)

شرح حديث أبي هريرة: (عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك) قال: [وحدثنا سعيد بن منصور وقتيبة بن سعيد كلاهما عن يعقوب -وهو يعقوب بن عبد الرحمن القارئ - عن أبي حازم -وهو سلمة بن دينار - عن أبي صالح السمان ذكوان بن السمان المدني عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك، وأثرة عليك)]. عليك السمع والطاعة في كل الأحوال، إذا كنت تكره هذا الأمر أو تحبه، إذا كنت كسولاً أو نشيطاً، في كل الأحوال طاعة أولي الأمر واجبة عليك، ما داموا موحدين ويأمرون بطاعة الله عز وجل فأمرهم واجب النفاذ، ونهيهم واجب الانتهاء، لا يحل لك الانتكاس عنه أبداً، سواء كنت تحب هذا الأمر أو تكرهه، سواء وجّه إليك في حال النشاط أو في حال الكسل. قال: (عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك، وأثرة عليك). هذا فيه بيان أن السلاطين في وقت من الأوقات يؤثرون الدنيا لهم على حسابكم، يؤثرون الدنيا لا الدين، فيأخذونها دونكم، فإذا أخذوها دونكم فاحتسبوها عند الله عز وجل، ولا تنازعوا ولاة الأمر في دنياهم، وإنما الذي يجب عليكم طاعتهم فيما أطاعوا فيه الله ورسوله، ومعصيتهم فيما عصوا فيه الله ورسوله، أما إذا أخذوا حظوظهم كاملة مستوفاة من الدنيا فلا يحل لكم أن تنازعوهم في ذلك، وإنما النزاع دائماً في الدين، أما في الدنيا فهذه هي الأثرة، وكان هذا محل البيعة كما ورد في الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت. وسيأتي معنا بإذن الله تعالى.

وجوب طاعة ولاة الأمر فيما يشق وتكرهه النفوس

وجوب طاعة ولاة الأمر فيما يشق وتكرهه النفوس قال النووي: (قال العلماء: معناه: تجب طاعة ولاة الأمور فيما يشق وتكرهه النفوس وغيره مما ليس بمعصية). أي: إذا كان يأمرنا بأمر نكرهه، ولكنه طاعة وليس معصية، فحينئذ طاعتهم واجبة. (فإن كانت لمعصية فلا سمع لهم ولا طاعة كما صرح به النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الباقية، فتحمل هذه الأحاديث المطلقة لوجوب طاعة ولاة الأمور على موافقة تلك الأحاديث المصرحة بأنه لا سمع ولا طاعة في معصية الله).

الأمر بعدم منازعة ولاة الأمر في حظوظهم من الدنيا

الأمر بعدم منازعة ولاة الأمر في حظوظهم من الدنيا (أما الأثرة -ويقال: الأُثرة- وهي: الاستئثار والاختصاص بأمور الدنيا عليكم. أي: اسمعوا وأطيعوا وإن اختص الأمراء أنفسهم بالدنيا ولم يوصلوكم حقكم مما عندهم. وهذه الأحاديث في الحث على السمع والطاعة في جميع الأحوال، وسبب اجتماع كلمة المسلمين، فإن الخلاف سبب لفساد أحوالهم في دينهم ودنياهم). أما إذا كان هذا سبباً في فساد في الدين فلا وألف لا، إذا أمرونا بمعصية أو نهونا عن طاعة فلا وألف لا، أما إذا أخذوا حظهم عشرة أضعاف من الدنيا فهذا أمر لا يحل لنا أن نقاتلهم عليه، ولا أن نخرج عليهم بسبب الدنيا؛ لأنه متاع زائل لا يستحق الوقوف عنده، ولا نفسد ديننا ودنيانا بسبب هذا، وفي النهاية الغلبة لهم؛ لأنهم يملكون القوة ويملكون النجدة.

شرح حديث أبي ذر: (إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع وإن كان عبدا مجدع الأطراف)

شرح حديث أبي ذر: (إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع وإن كان عبداً مجدع الأطراف) قال: [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعبد الله بن براد الأشعري وأبو كريب جميعاً قالوا: حدثنا ابن إدريس -وهو عبد الله بن إدريس الأودي أبو محمد الكوفي - عن شعبة عن أبي عمران -وهو عبد الملك بن حبيب الجوني - عن عبد الله بن الصامت الغفاري البصري يروي عن عمه أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: (إن خليلي -أي: حبيبي محمد صلى الله عليه وسلم- أوصاني أن أسمع وأطيع)] أي: أسمع للأمير، وأُطيع الأمير، وليس أن تسمع بأحد أذنيك وتُخرجها من الأخرى. المقصود بالسمع هنا: سمع الإجابة وسمع الطاعة، أن نسمع ونطيع ما دام الأمر في طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وفي طاعة الله عز وجل. قال: [(إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع، وإن كان عبداً مجدّع الأطراف)]. (مجدّع) بمعنى: مقطوع. فلان مجدوع الأنف. أي: مقطوع الأنف. فالنبي عليه الصلاة والسلام أوصى بالسمع والطاعة للأمير وإن كان عبداً مجدّع الأطراف. يعني: مقطوعة يداه ورجلاه وأنفه. فمع كل هذا فالمطلوب مني سماع الأمر له. فالمقصود من الأمير: أنه يملك القوة ويملك البطش والبأس وغير ذلك، لكن هذا مجدّع الأطراف، ومع هذا فإنه لو أمرني بأمر وجب عليّ الطاعة، فإذا لم أسمع فالذي سيتولى العقاب هو الله عز وجل، فإذا كنت أنا أعلم أن معصيتي لهذا الأمير تعرضني لسخط الله عز وجل فلابد أن أسمع له وأطيع مع أنه عبد، مع أنه لا يحل مطلقاً اختيار العبد ابتداء للولاية والإمارة، وولاية العبد اختياراً وابتداء بالإمارة والولاية باطلة؛ وذلك لأن الحرية شرط في الأمير والوالي، لكن إذا عيّن الخليفة عبداً والياً أو سلطاناً على بلد أو على سرية، فله ذلك مع مخالفته للأولى، ولا يكون العبد والياً عاماً، -أي: خليفة في الخلافة العامة- إلا إذا وصل العبد إلى الإمارة بانقلاب عسكري، واستخدم حيلة حتى تمكّن من الولاية، وهذا ممكن والتاريخ يشهد بذلك، فكم من العبيد والبربر وغيرهم كانوا ملوكاً وولاة وأمراء، ومع هذا وجب السمع لهم والطاعة؛ لأنهم بعد تملكهم وإمارتهم يملكون القوة التي يهلكون بها الحرث والنسل، فطاعتهم واجبة حينئذ لحقن دماء المسلمين، مع أن أصل توليتهم باطل. قال: [حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر وحدثنا إسحاق أخبرنا النضر بن شميل جميعاً عن شعبة - النضر وغندر يرويان عن شعبة - عن أبي عمران بهذا الإسناد، وقالا في الحديث: (عبداً حبشياً مجدع الأطراف)]. فإن كان عبداً حبشياً مجدّع الأطراف وصار أميراً فحينئذ يجب السمع له والطاعة، والسمع والطاعة في كل هذه الأحوال مرهون بطاعة الله، أما إذا كانت في معصية الله حتى وإن كان أميراً سيد الأحرار، أو كان أبا بكر الصديق فإنه لا سمع ولا طاعة حينئذ؛ لأن السمع والطاعة مرهونان بطاعة الله تعالى وطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام.

شرح حديث أم الحصين الأحمسية: (لو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله فاسمعوا وأطيعوا)

شرح حديث أم الحصين الأحمسية: (لو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله فاسمعوا وأطيعوا) قال: [حدثنا محمد بن المثنى حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن يحيى بن حصين -وهو الأحمسي - قال: سمعت جدتي -وهي أم الحصين مشهورة بكنيتها الأحمسية - تحدث: أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع، وهو يقول: (لو استُعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا)]. (لو استُعمل عليكم) أي: لو كان عليكم عامل (يقودكم بكتاب الله) وجب عليكم أن تسمعوا وتطيعوا له مع أنه عبد، ولا يحل لأحدكم أن يقول له: أنت عبد ولا يمكن أن تكون أميراً ولا سلطاناً. [وحدثناه ابن بشار حدثنا محمد بن جعفر وعبد الرحمن بن مهدي عن شعبة بهذا الإسناد وقال: (عبداً حبشياً) وفي رواية: (عبداً حبشياً مجدعاً). وفي رواية من طريق عبد الرحمن بن بشر عن - بهز وهو ابن أسد العمي - حدثنا شعبة ولم يذكر: (حبشياً مجدعاً) ولكنه زاد أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى أو بعرفات]. أي أم الحصين الأحمسية سمعت في حجة الوداع -إما بمنى وإما بعرفات- النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لو استعمل عليكم عبد حبشي فاسمعوا له وأطيعوا ما دام يقودكم بكتاب الله عز وجل). [وحدثني سلمة بن شبيب حدثنا الحسن بن أعين حدثنا معقل -وهو ابن عبيد الله الجزري - عن زيد بن أبي أنيسة عن يحيى بن حصين عن جدته أم الحصين قال: سمعتها تقول: (حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً كثيراً) يعني: تكلم وخطب فينا خطبة طويلة عظيمة من بين ما سمعته أنه قال: (إن أُمِّر عليكم عبد مجدع -حسبتها قالت: أسود- يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا)]. أي: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (فاسمعوا له وأطيعوا).

شرح حديث ابن عمر: (على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب)

شرح حديث ابن عمر: (على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب) قال: [وحدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث -وهو الليث بن سعد المصري - عن عبيد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (على المرء المسلم السمع والطاعة)] هذا الخطاب خاص بالمسلمين؛ لأن الكافر من باب أولى لا يسمع. قال: [(على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وفيما كره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)]. أي: لا تجب عليه طاعة هذا الأمير في معصية الله، بل يحرم عليه طاعته حينئذ. [وحدثناه زهير بن حرب ومحمد بن المثنى قالا: حدثنا يحيى -وهو ابن سعيد القطان - وحدثنا ابن نمير حدثنا أبي كلاهما عن عبيد الله بهذا الإسناد مثله].

ذكر أمر عبد الله بن حذافة مع سريته حين أمره النبي صلى الله عليه وسلم عليها وقصة أسر الروم له

ذكر أمر عبد الله بن حذافة مع سريته حين أمره النبي صلى الله عليه وسلم عليها وقصة أسر الروم له [حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار] وكلاهما على فرسي رهان، فإن محمد بن بشار -أي: بندار - وابن المثنى العنزي كلاهما كان على خط من العلم والعبادة والتقوى والسن، والعجيب أنهما ولدا في عام واحد وماتا في عام واحد. قال: [واللفظ لـ ابن المثنى قالا: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن زبيد -وهو ابن الحارث اليامي أبو عبد الرحمن الكوفي - عن سعد بن عبيدة -وهو السلمي الكوفي - عن أبي عبد الرحمن وهو أبو عبد الرحمن السلمي عبد الله بن حبيب عن علي رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشاً وأمر عليهم رجلاً)] قيل: هذا الرجل هو عبد الله بن حذافة السهمي الذي نزل فيه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] وقيل: غيره. ورجّح النووي: أنه غيره؛ ويذكر أن عبد الله بن حذافة السهمي في سريته كان رجلاً ظريفاً، والظريف من الرجال هو صاحب النكتة والفكاهة، وهو من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، لكنه كان ظريفاً مازحاً، فحينما أمره النبي صلى الله عليه وسلم على تلك السرية قال لقومه: اجمعوا لي حطباً، فجمعوا حطباً وقال لهم: أججوا فيه ناراً. فأججوا فيه ناراً، قال: ألقوا بأنفسكم فيها ألست أميركم؟ فنظر بعضهم إلى بعض، وقام بعضهم فتهيأ للوقوع فيها، وأما البعض الآخر فقال: يا عبد الله! إنا قد فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، فنحن لم نسلم إلا فراراً من النار، فتأتي أنت الآن وتأمرنا بالوقوع في النار! وقام أناس آخرون وتهيئوا للنزول فيها، فقال عبد الله بن حذافة: على رسلكم انتظروا وليحذر أحدكم أن يقع في النار، إني أُمازحكم. وقد وردت روايات: أنه غضب غضباً شديداً فأمرهم بذلك، فلما تهيئوا للنزول في النار سكن عنه الغضب فنهاهم عن النزول في النار، فلما رجعوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام قالوا: لقد كان من أمر عبد الله بن حذافة أن فعل كذا وكذا، قال: [(أما إنهم لو دخلوها ما خرجوا منها إلى يوم القيامة، إنما الطاعة في المعروف ولا طاعة في معصية الله). إذاً: فليس كل أمير يُطاع إلا إذا كان في طاعة الله عز وجل، وعبد الله بن حذافة السهمي وردت عنه هذه القصة من ثلاث طرق، وفي كل طريق منها علّة، فالبعض يثبت الرواية والبعض ينكرها، ويترجّح لدي أنها ثابتة واشتهرت في كتب السير وتراجم الأصحاب: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمّره على سرية ناحية الروم، فأُسر عبد الله بن حذافة في ثلاثمائة نفر من أصحابه، فجيء بـ عبد الله بن حذافة السهمي إلى أمير الروم فقال له الأمير: قبّل رأسي وأنا أفُك أسرك. قال: لا. فحاول بكل وسيلة أن يقبّل رأسه فأبى، فأمر الرومي بماء يغلي، فجيء به فوضع واحداً من أصحاب السهمي فيها حتى ذاب، وعبد الله بن حذافة السهمي ينظر إليه، ثم جيء بالثاني والثالث وهكذا والسهمي ينظر إلى جنده الذين كانوا معه، وانصرف الأمير الرومي، فحينما رأى السهمي أن أصحابه يُلقون في هذا الماء المغلي حتى يذوبوا في هذا الماء بكى، فاستبشر جند الروم بذلك، وذهبوا إلى الأمير وقالوا: أبشر أيها الأمير! لقد بكى عبد الله بن حذافة كأنه رق، فجيء به إلى هذا الأمير، فقال له الأمير: مالك؟ فقال: وددت أن لي أرواحاً بعدد شعر رأسي، فإذا وضعت في هذا القدر وذبت فيه ذلك الذوبان رد الله تعالى إلي روحي فقُتلت قتلة ثانية وثالثة ورابعة بعدد شعر رأسي، فاغتاظ الرومي جداً. قال: تقبّل رأسي وأفُك أسرك وأسر مائة من أصحابك. قال: بل تفك أسري وأسر جميع المسلمين عندك. قال: لك ذلك. فقام إليه عبد الله بن حذافة وقبّل رأسه وأخذ أصحابه وانطلق إلى المدينة إلى عمر، وكان الخبر قد طار إلى عمر بن الخطاب، فاستقبله عمر على باب المدينة وقال: حق على كل مسلم أن يقبّل رأس عبد الله بن حذافة وأنا أولكم، فقام عمر وقبّل رأسه. وهذا عمل بطولي رائع جداً، قام وقبّل رأس كلب من الكلاب، ولا مشكلة حينئذ إذا كان هذا ثمن فكاك (300) رقبة مؤمنة، فإن ذلك من باب المصلحة العامة؛ ولذلك أقره عمر ولم يُعلم لـ عمر مخالف في ذلك، مما دل على مشروعية ذلك ما دام في الصالح العام.

شرح حديث: (لا طاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعروف)

شرح حديث: (لا طاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعروف) [عن علي: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشاً وأمّر عليهم رجلاً فأوقد ناراً وقال: ادخلوها، فأراد ناس أن يدخلوها، وقال الآخرون: إنا قد فررنا منها. فذُكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال للذين أرادوا أن يدخلوها: لو دخلتموها لم تزالوا فيها إلى يوم القيامة)]. إن هذا الحديث يثبت أمراً في غاية الأهمية، يُثبت لنا عذاب القبر، لأنه عليه الصلاة والسلام لم يقل: لو دخلتموها ما خرجتم منها أبداً، وإنما قال: (لو دخلتموها ما خرجتم منها إلى يوم القيامة). فما بين وقوع هذا الحادث إلى يوم القيامة برزخ، والنبي صلى الله عليه وسلم أثبت عذاب البرزخ، وهذه الفائدة لم يذكرها الإمام النووي. قال: (لو دخلتموها لم تزالوا) أي: تُعذّبون في النار (إلى يوم القيامة)، وقال للآخرين قولاً حسناً؛ لأنهم عصوا الأمير حينما أمر بمعصية الله عز وجل وقال: (لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف).

شرح حديث: (لو دخلوها ما خرجوا منها إنما الطاعة بالمعروف)

شرح حديث: (لو دخلوها ما خرجوا منها إنما الطاعة بالمعروف) قال: [حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير وزهير بن حرب وأبو سعيد الأشج وتقاربوا في اللفظ. قالوا: حدثنا وكيع -وهو وكيع بن الجراح الرؤاسي - حدثنا الأعمش سليمان بن مهران الكوفي عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية واستعمل عليهم رجلاً من الأنصار، وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا فأغضبوه في شيء، فقال: اجمعوا لي حطباً، فجمعوا له، ثم قال: أوقدوا ناراً فأوقدوا، ثم قال: ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسمعوا لي وتطيعوا؟ قالوا: بلى، قال: فادخلوها، فنظر بعضهم إلى بعض فقالوا: إنما فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار، فكانوا كذلك وسكن غضبه وطُفئت النار، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: لو دخلوها ما خرجوا منها إنما الطاعة في المعروف)].

شرح حديث عبادة بن الصامت: (بايعنا رسول الله على السمع والطاعة)

شرح حديث عبادة بن الصامت: (بايعنا رسول الله على السمع والطاعة) قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الله بن إدريس عن يحيى بن سعيد وعبيد الله بن عمر عن عبادة بن الوليد بن عبادة عن أبيه عن جده -أي: عن أبيه الوليد بن عبادة بن الصامت عن جده عبادة بن الصامت رضي الله عنه- قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة)] فهذا محل البيعة، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يبايع على أشياء كثيرة، يبايع على النصرة، على المنع، على القتال، على الإسلام، على ترك المعاصي وغير ذلك من سائر صنوف أمور البيعة قال: [(بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى ألا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم)]. انظر إلى محل البيعة! السمع والطاعة بأحوالها، (في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى ألا ننازع الأمر أهله، وأن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم). وهذه المسألة صعبة جداً، ولا يقدر عليه إلا الرجال حقيقة. قوله: (في المنشط): أن تكون واقفاً بجانب الأمير تنتظر أن يأمرك بأمر وتنطلق كالسهم لتنفّذ هذا الأمر. قوله: (والمكره): فلا تبتعد من الأمير وتتخفى خلف كل جدار وحائط وعمود، لا تريد أن يراك، فيأمرك. والصحابة رضي الله عنهم حينما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة باردة يوم الأحزاب: (من يأتيني بخبر القوم وهو رفيقي في الجنة؟) فأحجم الناس جميعاً ولم يقل أحد: أنا يا رسول الله! إذ كانوا متعبين من البرد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قم يا يا حذيفة)! فقام حذيفة في هذا الوقت وهو كاره، وهو ليس في حقيقة أمره كارهاً لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما لظروف البرد والجو، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن يُذهب عنه البرد. قال حذيفة: (فكنت أمشي أتصبب عرقاً، حتى أتيت على القوم فوجدتهم قد أوقدوا ناراً يدفئون أبدانهم). فالطاعة واجبة في المنشط والمكره، وفي العسر واليسر. قوله: (وعلى أثرة علينا) أي لا ننازعه دنياه، حيث يأخذ منها ما يشاء، والناظر لتاريخ الأمة الإسلامية وولاتها وأمرائها يعلم أن أي أمير أو سلطان ما تولى إلا وحصّل من الدنيا الكثير والكثير إلا القليل من الولاة، ولو أردنا أن نذكر بعضهم لقلنا: من هؤلاء جميعاً: النبي صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الأربعة، ثم عمر بن عبد العزيز. وأما الكثرة الكاثرة من الولاة والأمراء فأول ما يحرصون على جمع الدنيا والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن هذا سيقع منهم لا محالة، فلا تنازعوهم؛ لأن منازعتكم إياهم حينئذ فساد لدينكم ودنياكم، فالمنازعة تؤدي إلى القتال، والقتال فساد للدين والدنيا. إذاً: إذا أمروا بالطاعة وجب علينا الامتثال، وإذا أمروا بالمعصية وجب علينا الرد وحرمت علينا الطاعة حينئذ. قال: (وعلى ألا ننازع الأمر أهله) بلا شك ينصرف إلى الذهن أولاً أننا لا ننازع الولاة أمورهم وشئونهم وولايتهم، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فإذا كان المقصود بالأمر: الولاية والسلطان والخلافة، فهذا بلا شك أولى وأولى؛ لأن هذا سياق الحديث، وإذا أخذنا بعموم اللفظ لقلنا: إنه لا يجوز لأحد أن ينازع أو أن يهجم على أمر ليس له فيه شيء، فلو أن طبيباً بنى عمارة، لقلنا بأنه نازع الأمر أهله، ولو أن مهندساً أجرى عملية جراحية فقتل المريض، لقلنا: يحاكم ويعاقب؛ لأنه نازع الأمر أهله، وليس الأمر من شأنه.

شرح حديث عبادة بن الصامت في النهي عن منازعة أولي الأمر إلا إذا أتوا كفرا بواحا

شرح حديث عبادة بن الصامت في النهي عن منازعة أولي الأمر إلا إذا أتوا كفراً بواحاً قال: [حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب بن مسلم حدثنا عمي - عبد الله بن وهب - حدثنا عمرو بن الحارث حدثني بكير -كل هؤلاء مصريون- عن بسر بن سعيد عن جنادة بن أبي أمية قال: دخلنا على عبادة بن الصامت وهو مريض، فقلنا: حدثنا -أصلحك الله- بحديث ينفع الله به سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فكان فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله. قال: إلا أن تروا كفراً بواحاً) وفي رواية: (براحاً) يعني: ظاهراً لا لبس فيه ولا خفاء (عندكم من الله فيه برهان)]. أي: أن الذي يعمله كفر ومحادة لله ورسوله، ودليلنا في ذلك ظاهر من الكتاب والسنة، وهذا هو البرهان قال: (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله) أي: في الكتاب (فيه برهان). أما قوله: (إلا أن تروا كفراً بواحاً) إلى آخره معناه: كفرا ظاهراً. والمراد بالكفر هنا: المعاصي؛ لأن الكفر أحياناً يطلق على المعصية، كما قال عليه الصلاة والسلام: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك). إذاً: الحلف كفر لا يخرج من الملة؛ لأنه معصية، فأحياناً يُطلق الكفر ويراد به المعصية، وأحياناً تُطلق المعصية ويراد بها الكفر، وهذا باب طويل. ومعنى (عندكم من الله فيه برهان). أي: تعلمونه من دين الله تعالى علماً يقينياً. ومعنى الحديث: لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم، ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكراً محققاً تعلمونه من قواعد الإسلام، فإذا رأيتم ذلك فأنكروه عليهم وقولوا بالحق حيثما كنتم، لا تهابوهم ولا تخافوا منهم؛ لأنهم في قبضة الملك سبحانه وتعالى، وأنتم وإياهم عبيد عند الله، وأخطأ من ظن أنهم يملكون لأنفسهم نفعاً أو ضراً فضلاً أن يملكوا لغيرهم شيئاً من ذلك، فالكل في قبضة الله عز وجل، إن أراد الله تعالى أن يُهلك الجميع أهلكهم، وإن أراد أن ينجيهم جميعاً أنجاهم أو أراد أن يُهلك البعض وينجّي البعض الآخر فعل، فالكل عبيد لله تعالى، وقلوب العباد جميعاً بين يدي الله تبارك وتعالى، وبين أصبعين من أصابعه يقلبها كيف يشاء، يجعل من يشاء كافراً ويجعل من يشاء مؤمناً، يجعل من يشاء شقياً ومن يشاء سعيداً، وغير ذلك كل يوم هو في شأن سبحانه وتعالى، وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين، وإن كانوا فسقة ظالمين.

تحريم طاعة ولي الأمر في معصية الله وبيان حكم الخروج عليه

تحريم طاعة ولي الأمر في معصية الله وبيان حكم الخروج عليه هناك فرق بين أمرين: الأمر الأول: تحريم طاعتهم في معصية الله. الأمر الثاني: والخروج عليهم، فما دام هذا الأمر الموجه إلي بمعصية الله ليس أمراً يؤدي إلى الكفر البواح -أي: المخرج من الملة- وما دام الوالي موحداً فلا يجوز الخروج عليه البتة؛ لذا يا إخواني! لا بد أن نفرّق بين أمرين: أن يأمرني الوالي أو السلطان أو الحاكم بأمر فيه معصية لله فحينئذ يحرم عليّ طاعته في هذا الأمر، لكن أمره بمعصية الله لا يسوغ لي الخروج عليه وقتاله ما لم يكفر بذلك كفراً مخرجاً من الملة، وقد تظاهرت الأحاديث بمعنى ما ذكرت، وأجمع عليه أهل السنة، أنه لا ينعزل السلطان بالفسق أو مجرد الظلم، وأما الوجه المذكور في كتب الفقه لبعض الشافعية أنه ينعزل فهو محكي عن المعتزلة لا عن أهل السنة، ومع ذلك فهو غلط من المعتزلة، ومخالف لإجماع العلماء. قال النووي: (وسبب عدم انعزاله وتحريم الخروج عليه ما يترتب على ذلك من الفتن وإراقة الدماء، وفساد ذات البين، فتكون المفسدة في عزله أكثر منها في بقائه). فالوالي إما أن يكون كافراً كفراً مخرجاً من الملة، وإما أن يكون ظالماً أو فاسقاً ليس كافراً، أو يكون مؤمناً موحداً، فإذا أمر بمعصية الله تعالى ففي كل هذه الأحوال يحرم طاعته، وفرق بين عدم طاعته فيما أمر بمعصية الله وبين الخروج عليه، فلا يحل الخروج عليه ولا قتاله لمجرد كونه ظالماً أو فاسقاً؛ لأن الخروج عليه وقتاله يؤدي إلى مفسدة عظيمة جداً وإراقة للدماء، فلو بقي في مكانه مع فسقه وظلمه لكان ذلك أحقن لدماء المسلمين، وأقل خطراً من الخروج عليه بالقتال أو المحاربة. (قال القاضي عياض: أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر). وهذا من مسائل الإجماع، لقول الله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141] فلا يولى كافر قط على مسلم، ولذلك إذا أسلمت امرأة كافرة ولم يُسلم من أوليائها أحد، تولّت آحاداً من المسلمين، رجلاً من أصحاب الوجاهة كالعالم أو السلطان أو القاضي أو غير ذلك لا بد أن تتخذ لها ولياً في الزواج من المسلمين، أما أن تزوج نفسها أو تتخذ لها ولياً من الكافرين من أوليائها فلا وألف لا. قال: (أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر، وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر انعزل). إذاً: يحرم ابتداءً عقد الولاية لكافر، وإذا كان مسلماً فطرأ عليه الكفر في أثناء الولاية وجب على المسلمين عزله عن هذه الولاية. قال: (وكذلك لو ترك إقامة الصلوات والدعاء إليها). يعني: لو أمر أمته بأن لا تصلي، أو أغلق في وجهها المساجد، أو جعل المساجد كنائس، أو غير ذلك من الأماكن العامة أو الخاصة فحينئذ وجب عزله. قال: (وكذلك عند جمهورهم -أي جمهور العلماء- صاحب البدعة). أي: الوالي صاحب البدعة. (وقال بعض البصريين: تنعقد لصاحب البدعة الإمامة ابتداءً، وتستدام له -أي: يستمر فيها ما دامت بدعته لا يكفر بها- لأنه متأول). أي: يظن أنه على الحق. (قال القاضي عياض: فلو طرأ عليه كفر أو تغيير للشرع -تغيير عام للشرع كله- أو بدعة خرج عن حكم الولاة، وسقطت طاعته، ووجب على المسلمين القيام عليه وخلعه حينئذ). لكن هذا القيام وإسقاط الولاية يجب أول ما يجب على أهل الحل والعقد، والخطاب يوجه إلى الأمة في صورة أهل الحل والعقد. قال: (ووجب عليهم نصب إمام عادل إن أمكنهم ذلك، فإن لم يقع ذلك إلا لطائفة وجب عليهم القيام بخلع الكافر، ولا يجب في المبتدع إلا إذا ظنوا القدرة عليه، فإن تحققوا العجز لم يجب القيام). فإن تحققوا من عجزهم وعدم نجاحهم في خلع هذا الكافر أو المبتدع بدعة مكفرة حينئذ لا يجب القيام. قال: (وليهاجر المسلم عن أرضه إلى غيرها، ويفر بدينه، ولا تنعقد لفاسق ابتداء، فلو طرأ على الخليفة فسق قال بعضهم: يجب خلعه إلا أن تترتب عليه فتنة وحرب. وقال جماهير أهل السنة من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين: لا ينعزل للفسق والظلم وتعطيل الحقوق، وإنما ينعزل بالكفر، ولا يخلع ولا يجوز الخروج عليه بذلك، بل يجب وعظه وتخويفه؛ للأحاديث الواردة في ذلك. قال القاضي: وقد ادعى أبو بكر بن مجاهد في هذا الإجماع، وقد رد عليه بعضهم هذا بقيام الحسن وابن الزبير وأهل المدينة على بني أمية، وبقيام جماعة عظيمة من التابعين والصدر الأول على الحجاج بن يوسف الثقفي مع ابن الأشعث وغير ذلك. وتأول هذا القائل قوله: ألا ننازع الأمر أهله في أئمة العدل). أي: بايعنا رسول الله ألا ننازع الأمر أهله العدول، أما إذا كفروا أو فسقوا فينازعوهم الأمر. قال: (وحجة الجمهور أن قيامهم على الحجاج ليس بمجرد الفسق؛ بل لما غيّر من الشرع وظاهر من الكفر. قال القاضي: وقيل: إن هذا الخلاف كان أولاً، ثم حصل الإجماع على منع الخروج عليهم. والله أعلم. وأنتم تعلمون أن الإجماع بعد الخلا

معنى المبايعة والبيعة

معنى المبايعة والبيعة أما قوله: (بايعنا على السمع) المراد بالمبايعة: المعاهدة، وتكون بوضع اليد في اليد؛ لأن كل واحد من المتبايعين كان يمد يده إلى صاحبه، وكذا هذه البيعة تكون بأخذ الكف. وقيل: سميت مبايعة لما فيها من المعاوضة؛ لأن الله تعالى قال: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111] فكانت هذه بيعة مع الله عز وجل.

حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال: (وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم). أي: نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر في كل زمان ومكان، الكبار والصغار، لا نداهن فيه أحداً ولا نخافه، ولا نلتفت إلى الأئمة، فلابد من القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد أجمع العلماء على أنه فرض كفاية، فإن خاف من ذلك على نفسه أو ماله أو على غيره سقط الإنكار بيده ولسانه، وبقي الإنكار بقلبه؛ لأن هذا في مقدور كل إنسان. ووجبت كراهته بقلبه. وهذا مذهب الجماهير، وحكى القاضي هنا أن بعضهم ذهب إلى الإنكار مطلقاً في هذه الحالة وغيرها، وقد سبق في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كتاب الإيمان، وبسطته بسطاً شافياً هناك. أسأل الله تعالى أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال والأقوال؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله على نبينا محمد.

الأسئلة

الأسئلة

حكم زجر الخطيب وإنزاله من المنبر لعلة فيه

حكم زجر الخطيب وإنزاله من المنبر لعلة فيه Q إذا كان الخطيب لديه أخطاء، ولكنها غير عقائدية، هل عليّ زجره أو إنزاله من على المنبر؟ A لا. ليس لك ذلك، ولا يجوز لك أن تفعل هذا، وهذا في كل خطيب يصدر منه أي خطأ.

حكم قول المرأة لزوجها: (أنت محرم علي)

حكم قول المرأة لزوجها: (أنت محرم علي) Q امرأة قالت لزوجها: أنت مُحرّم عليّ، فهل لها كفارة؟ A قول هذه المرأة لا عبرة له في الشرع، فهو قول صدر من غير مختص، فلو قالت المرأة لزوجها: أنت طالق ثلاثاً لا يقع الطلاق، فكذلك لو حرّمته على نفسها لا يحرم.

حكم من وطئ سجادة كانت متنجسة بالبول ثم جفت

حكم من وطئ سجادة كانت متنجسة بالبول ثم جفت Q إذا وطئت سجادة كانت متنجسّة بالبول ثم جفّت، فهل يجب غسل قدمي؟ A إذا كان يقصد بالجفاف جفاف القدم فيجب غسل القدم وإن جفّت، أما إذا كان يقصد السجادة فوطئها وهي متنجسّة بعد الجفاف فلا يجب غسل القدم.

بيان ما يطهر به البلاط إذا أصابه بول

بيان ما يطهر به البلاط إذا أصابه بول Q هل يلزم من غسل البلاط النجس بالبول الدلك بالمساحة؟ A لا، وإنما يكفي سكب الماء عليه.

حكم التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم

حكم التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم Q هل يجوز التبرك بأي أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم كقطعة خشب من السور المحيط بقبره مثلاً؟ A لا يجوز مطلقاً، هذا شرك بالله عز وجل، إنما التبرك المشروع بآثار النبي صلى الله عليه وسلم بما هو خاص به من حاجاته، كشيء من ثوبه أو شيء من شعره أو غير ذلك، وقد ثبتت النصوص بذلك.

نبذة عن علم الدكتور إسماعيل منصور وتنكبه عن منهج السلف

نبذة عن علم الدكتور إسماعيل منصور وتنكبه عن منهج السلف Q كلما مر الزمان انتشرت الفتن وتعاظم أمرها، وقد حدث شيء عجيب لي بالأمس، إذ وقع في يدي كتابان لم أشترهما، وهما: (تذكير الأصحاب بتحريم النقاب)، وكتاب (شفاء الصدر بنفي عذاب القبر)؟ A هذان للدكتور إسماعيل منصور، كان هذا الدكتور إسماعيل منصور من ألزم الناس لطلب العلم على منهج السلف، وهو من المنصورة، ويدرس تقريباً مذهب الإمام الشافعي، وكان قمة في الدعوة إلى مذهب السلف سنة (1978م و1979م و1980م و 1981م) أربع سنوات، وما كنا نقنع أبداً بالسماع من أحد مطلقاً إلا منه هو. ومن عظيم فتنته: أنه كان يحفظ الكتب الستة بالإسناد، وكان إذا خطب خطبة استمر فيها إلى قرابة العصر، يخطب ويذكر أحاديث قد تصل إلى (100) حديث يسوقها بإسناد كل مصنّف، وكنا نراجع الخطبة وراءه فلا نجده يخرم حرفاً واحداً وهذه فتنة عظيمة جداً. وحينما سافرنا ورجعنا في (1986م) وجدنا الإخوة كلهم انفضوا عن إسماعيل منصور، فقلنا: ما الذي جرى؟ هذا شيخنا. قالوا: لا. قلنا: لماذا؟ قالوا: لأنه الآن له آراء سيئة جداً. وكانت زوجته من قبل منتقبة وتلبس السواد، فهو كما قلت كان شيخ السلفيين، فأتيت إليه مرة من المرات وقلت له: يا شيخنا! أنت اليوم عندك خطبة في المنصورة؟ وكان قد طُرد من الجمعية الشرعية في المنصورة. فقال لي: نعم. عندي خطبة في المنصورة. قلت له: هل من الممكن أن أصطحبك فأنا تلميذك. قال: لم لم أرك من زمن؟ قلت له: كنت في الأردن. فظن أنه لا علم لي بأخباره السيئة. فقال: تفضّل. فركبت معه السيارة، فوجدت امرأة قد تحللت من كل شيء وهي تتكلم، فسمعت منه عن الإمام الشافعي ما يحملني على النزول، فتحملت أن أسمع البلاء كله حتى وصلت إلى المنصورة، فعندما نزلت هناك قال لي: أين تصلي؟ قلت: أصلي في الجمعية الشرعية. قال: عند المبتدعة؟ قلت له: الجمعية الشرعية مبتدعة! وأنت إلى أين تذهب؟ قال لي: ألا تصلي معي؟ قلت له: لا والله، لا أجوّز لنفسي أن أصلي خلفك؛ لأنك أنكرت كل شيء ثابت في الدين. فقال: النقاب حرام. قلت له: كيف ذلك؟! نحن نعرف أن الخلاف فيه بين الوجوب والاستحباب، ومن أتى بقول غير هذين القولين يكون مبتدعاً، فلما قلت هذا الكلام أعطتني امرأته (الدش المحترم). قالت لي: لقد أتيت مشحوناً. فقلت: أنا غير مشحون ولا أعرف أي شيء. قال لي: أنا سأخبرك إذاً بأشياء، هل أنت تعتقد عذاب القبر؟ قلت له: تعلمت هذا منك والله، فأشرطتك في عذاب القبر من مصروفي الخاص فقد كنت أسمع الشريط هذا بالذات؛ لأنه كان مؤثراً جداً، فقد كان الواحد عندما يسمعه كأنه في القبر. قال لي: لا. رجعت عنه وتبيّن لي أنه كذب. قلت له: لم يتبيّن بعد للأمة أنك كذاب، وأنت تعرف أن الذي قال هذه المقولة هم المعتزلة والجهمية، فكيف تقول بهذا الكلام؟ فإما أن تكون جاهلاً وتعلمت، وأما أن تكون عالماً وجهلت. تصور! أنه أوقف السيارة في الطريق أربع أو خمس مرات حتى ينزّلني. قلت له: لا. اصبر عليّ حتى نصل، إذ لم يكن لدي نقود، ولو نزلت في الطريق سأمشي إلى المنصورة على الأقدام. وهكذا زعزع الثوابت كلها. فكل كتبه إنكار كذا، وإنكار كذا، وإنكار كذا، وإنه ليغلب على ظني أن مردّه إلى الإخلاص، فلو كان هذا الرجل مخلصاً في دعوته الأولى لعصمه الله عز وجل، والله أعلم، فلما خلا منه ذلك فُتن في دينه، فما من شيء يُفتح للنقاش مع الدكتور إسماعيل منصور إلا وينظر ما تعتقده حتى يخالفه، وكان من قبل يقول: لا يوجد أحد يناقشني إلا الشيخ ابن باز والشيخ الألباني، مع أنهما في حياتهما لم يناقشاه. فقال له بعض الإخوة: لماذا هؤلاء بالذات؟ قال: لأنهما العالمان المعترف بهم، أما غيرهما فكلهم دوني في العلم. تصور أن شخصاً يرفع نفسه فوق الناس جميعاً! فمن نادى على نفسه بذلك فقد نادى على نفسه بالجهل، ولا يزال الرجل متعلماً عالماً حتى يقول: قد علمت، فإذا قال ذلك فهو أجهل الناس كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه. فعلى أية حال نحن نحذّر من هذا الرجل، ومن نافلة القول أن أقول: إنه أستاذ سموم في كلية الطب جامعة القاهرة، والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

كتاب الإمارة - الإمام جنة يقاتل من ورائه ويتقى به

شرح صحيح مسلم - كتاب الإمارة - الإمام جنة يقاتل من ورائه ويتقى به لقد أناط الشارع الحكيم بالإمام أو الحاكم أو الخليفة حماية المسلمين، ووقاية من تحته ورعايتهم، وسياستهم بالدين، وأوجب عليهم طاعته ما لم يكن أمره في معصية، فإنه لا طاعة إلا في المعروف، وطاعة الإمام الظالم الفاسق وعدم الخروج عليه أمر واجب، حقناً لدماء المسلمين، كما أنه لا يجوز مبايعة إمام ثان في بلد ما في وجود الإمام الأول في نفس البلد، وللعلماء في مبايعة إمامين في وقت واحد وفي قطرين شاسعين أقوال مختلفة.

باب الإمام جنة يقاتل به من ورائه ويتقى به

باب الإمام جنة يقاتل به من ورائه ويتقى به الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، أما بعد: فمع الباب التاسع من كتاب الإمارة: (الإمام جنة يقاتل به من ورائه ويتقى به). الإمام جنة. أي: وقاية وحماية وستر، ودفع لأذى الكفار والمشركين عن أهل الإيمان والتوحيد. [حدثنا إبراهيم] وهو إبراهيم بن سفيان الذي روى صحيح مسلم. وإبراهيم لم يسمع الصحيح كله من مسلم، وإنما سمع جزءاً من الصحيح، وفاته بعض المواطن وبعض الأحاديث، فأخذها عن مسلم إجازة لا سماعاً. ومعنى الإجازة: أن الراوي صاحب الحديث يكتب بكتابه إلى فلان، ويقول له: خذ هذا فإنه حديثي فاروه عني، ولم يسمعه منه ولكنه قد أجازه فيه. ولذلك لا يقول المجاز: حدثني فلان، ولا سمعت فلاناً. وإنما يقول: حدثني فلان إجازة. لبيان نوع التحمّل. أو يقول: عن فلان. فلو قال عن فلان فلا يلزمه أن يقول: إجازة. وإنما يلزمه أن يقول: إجازة إذا استخدم الألفاظ التي تفيد السماع: كحدثنا وأنبأنا وأخبرنا. فلو قال: حدثني فلان، أو أنبأني فلان أو أخبرني فلان ولم يسمع منه بل تحمّل عنه إجازة، فيلزمه أن يقول: حدثني فلان إجازة. أخبرني فلان إجازة. أنبأني فلان إجازة. والألفاظ التي تحتمل السماع وعدمه كـ (قال) و (عن) لا يلزم فيها أن يصرّح بالإجازة، ولو قال: عن فلان أو قال فلان فسواء قال: إجازة أو لم يقل فلا بأس عليه، ولا يُنسب إلى التدليس حينئذ، إنما لو قال: حدثني فلان وكانت الرواية إجازة ولم يبيّن فيُنسب إلى التدليس حينئذ، فيقال: فلان مدلّس؛ لأنه صرّح بالسماع ولم يسمع، فأوهم القارئ والممتنع أنه يصاحب مجالسة ويتلقى هذا الحديث مشافهة ولم يكن هذا منه فكان مدلساً، والقبيح هو الإيهام. فـ إبراهيم بن سفيان راو الصحيح عادة لم يسمع هذا الحديث من الإمام مسلم؛ ولذلك قال فيه: عن مسلم، فلا يلزمه أن يقول: إجازة. قال مسلم: [حدثني زهير بن حرب - أبو خيثمة النسائي نزيل بغداد، ونساء هي قرية في حوالي العراق قرب المدائن أو قرب إيران الآن- حدثنا شبابة بن سوار]. وشبابة مدائني وكذلك شيخه ورقاء، والمدائن مدينة كبيرة جداً من بلاد فارس، ويهم من يظن أن المدائن هي مدينة النبي عليه الصلاة والسلام، فالنسبة إلى المدينة مدني، أما النسبة إلى المدائن مدائني. فيقال: ورقاء المدائني وليس المدني. [عن أبي الزناد عن الأعرج]. أبو الزناد عبد الله بن ذكوان المدني عن الأعرج وهو عبد الرحمن بن هرمز المدني وجُل رواية الأعرج عن أبي هريرة. [قال: عن أبي هريرة: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الإمام جُنة)] فهذا توكيد بـ (إنَّ) المشددة. يعني: مهمة الإمام والخليفة العام والولاة والسلاطين والأمراء: أنهم جُنة لرعاياهم، يحمونهم ويذبون عنهم ويدافعون عنهم كل أنواع الأذى، ويجلبون لهم كل أنواع الخير. هذه مهمة الإمام الحق الذي يُظل في ظل عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله، هذه هي مهمته، ولا شك أن جُل الأئمة اليوم لا يفعلون ذلك، وندر أن يكون الإمام عدلاً يتقي الله في رعيته. قال: (إنما الإمام جُنة) ومعنى جُنة: أي وقاية وستراً. ونحن في زمان نتمنى فيه أن يرفع الإمام عنا يده وسوطه، ولا علاقة له بعد ذلك في أي فساد يقع علينا. أي: بلغنا في السوء مبلغاً عظيماً جداً، حتى تمنينا فيه ألا يكون الإمام لنا لا جُنة ولا مهلكة، ولا علاقة له بالرعية؛ لبُعده الشديد جداً عن المهمة التي لأجلها تولى، وعن المهمة التي لأجلها صار إماماً وبايعه من بايعه، وأطاعه من أطاعه. إنما الإمام جُنة: أي: وقاية وستراً؛ لأنه يمنع العدو من أذى المسلمين، ويمنع الناس بعضهم من بعض، ويحمي بيضة الإسلام، ويتقيه الناس ويخافون سطوته. قال: [(يُقاتل من ورائه ويتقى به)] أي: إذا كان هذا الإمام جُنة -وقاية وستراً- وقائماً بحق الإمامة وبواجبها؛ فلا بد أن يقاتل معه الرعية إذا طلب الإمام منهم المقاتلة، ولا بد أن يكونوا من خلفه مباشرة؛ لأن الإمام في حقيقة الأمر لا يقاتل بنفسه وإنما يقاتل بأمره ونهيه، ويُنسب النصر والهزيمة له، وإن لم يكن قد باشر هو بنفسه النصر ولم يباشر بنفسه الهزيمة، فيقال: انتصر فلان في حرب كذا، أو في غزوة كذا. وربما كان قابعاً في غرفة العمليات لم يواجه عدواً مواجهة شخصية بنفسه؛ وذلك لأن بذل الجهد العقلي أعظم بكثير جداً من بذل الجهد البدني، فالجهد البدني يبذله أي إنسان، أما العقلي والتكتيك العسكري، ومع

باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول

باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول الباب العاشر: (باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء). ليس أمراً مستحباً أو مندوباً وإنما هو واجب، (الأول فالأول). أي: الأول ثم الذي يليه. فلو كان هناك إمام في زمانك فبايعته ثم مات أو عُزل فلا تقل: أنا قد بايعت إماماً ولا يلزمني بيعة الإمام الثاني الذي أتى بعده بعد العزل أو الموت، فكل إمام أتى بعد إمام وجب عليك عقد البيعة له، وتقديم فرائض الطاعة، وإن كان يجتمع في العمر ألفا إمام كل يوم إمام فبيعة الإمام واجبة مطلقاً. ويجدر بي أن أقول: إن بيعة الإمام هنا المقصود بها: الخليفة العام. فهذه هي البيعة الشرعية، أما البيعات التي دون ذلك فإنها ليست بيعات شرعية، ولا علاقة لها بتلك النصوص العامة التي وردت في شأن الخلافة العامة، كهذه النصوص التي نحن بصددها، والتي ستأتي معنا فكلها متعلقة بالخليفة العام، أما تلك الجماعات التي انتشرت في بقاع الأرض هنا وهناك -فكل حزب بما لديهم فرحون- وهذه البيعات التي تُعقد لهم بيعات غير شرعية. هذا ما أعتقده. ثم يزعم البعض منهم أنها بيعات خاصة من باب التعاون على البر والتقوى، ومن الممكن أن يحصّل ذلك بغير بيعة، فلو قالوا لي: تصلي الجمعة القادمة وتخطب في هذا المسجد؟ قلت: نعم. ثم دعاني هواي ومزاجي إلى عدم الحضور، فأوقعت الناس في الحرج والعنت في وقت الخطبة، فلا شك أنني آثم في هذه الحالة لا لمخالفتي لمن اتفق معي، وإنما لمخالفتي الشرع، فأنا آثم بتأثيم الشرع، مثاب بتثويب الشرع. وبعض الناس يقولون: لا بد أن تكون في عنقك بيعة وإن مت على غير بيعة مت ميتة جاهلية. فهذا حين وجود الإمام، أما إذا انعدم الإمام فإنما السمع والطاعة في المعروف لولاة الأمر الموحدين من أهل العلم والسلاطين، فحينئذ الكلام عن البيعة هنا كلام عن البيعة للإمام العام، ولا يتوهمن أحد أن هذه البيعة تلزمه لجماعة كذا أو كذا أو للشيخ الفلاني أو للعالم الفلاني، أو للسلطان الفلاني أو غير ذلك، فإن هذه بيعات كلها ليست لازمة ولا تجب في شيء.

شرح حديث أبي هريرة في الوفاء بالبيعة للإمام الأول فالأول

شرح حديث أبي هريرة في الوفاء بالبيعة للإمام الأول فالأول قال: [حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر - ابن بشار لقبه بندار، وابن جعفر لقبه غندر، وغندر أي: مشاغب-حدثنا شعبة عن فرات القزاز -وفرات هو ابن أبي عبد الرحمن تميمي كوفي- قال: عن أبي حازم قال: قاعدت أبا هريرة خمس سنين] أبو حازم الذي يروي عن أبي هريرة في طبقة التابعين هو سلمان مولى عزة، وأبو حازم الذي يروي عن سهل بن سعد الساعدي في نفس الطبقة من طبقات التابعين هو سلمة بن دينار، وكثير من الناس يهم بين الاثنين. الكنية أبو حازم، وأحدهما: يروي عن أبي هريرة وهو سلمان مولى عزة. والثاني: يروي عن سهل بن سعد وهو سلمة بن دينار. قال: قاعدت أبا هريرة خمس سنين]. ومعنى قاعدت. أي: جالسته، تلقى على يديه العلم خمس سنوات. [فسمعته يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي)]. أعظم أمة على وجه الأرض أرسل الله تعالى إليهم أنبياء هم بنو إسرائيل، ليس هذا لفضلهم ولا لمكانتهم، بل هذا لكفرهم وعنادهم، إذ أقام الله تعالى عليهم الحجة لكثرة بعث الأنبياء والمرسلين؛ حتى لا يظن بنو إسرائيل أن هذا من باب الشرف لهم، وإنما هذا لعلم الله تعالى الأزلي فيهم أنهم أهل جحود وأهل غدر، وما نجا منهم نبي من الأنبياء، فقتلوا البعض وسبّوا البعض، ونشّروا البعض، وغير ذلك مما كان من بني إسرائيل مع أنبيائهم. قال: (كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي). وفي هذا: جواز أن يقول الرجل عن الميت: هلك. وهلك بمعنى: مات. وإذا كان الهلاك يصح إطلاقه على موت الأنبياء، فمن باب أولى يصح إطلاقه على من دونهم، كلما مات نبي خلفه أرسل الله تعالى إليهم نبياً آخر، ولا يفهمن أحد من هذا النص أن النبوة بالاستخلاف، كالذين تربوا في أمريكا على يدي رشاد رشدي وغيرهم من الملاحدة يفهمون من هذا النص أن النبوة بالاكتساب والاستخلاف، ويعتمدون على ظواهر بعض النصوص ومنها هذا النص: (كلما هلك نبي خلفه آخر) أي أخلفه الله تعالى بآخر، ولم يُخلف هو غيره. وما سمعنا أن أحداً قط قال بأن النبوة مكتسبة إلا أصحاب العقائد المنحرفة. قال عليه الصلاة والسلام: [(وإنه لا نبي بعدي)]. إن أحد المنحرفين المصريين كان دكتوراً في كلية الزراعة جامعة الزقازيق، سافر إلى أميركا وغيّر بطاقته الشخصية وسمى نفسه (لا) في البطاقة، ثم بعد مدة من الزمان ادعى النبوة، فلما نوفس في ذلك وقال له المناظر: النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا نبي بعدي) قال: وأنا (لا) فالنبي قد بشّر بأني نبي من بعده، ثم غيّر اسمه بعد فترة من هذه المناقشة وادعى الإلهية. ومعلوم أنه ما من ساقطة في الأرض إلا ولها لاقطة، فقد تبعه على هذه الدعوة الفاسدة الباطلة أحمد صبحي منصور، وأنتم تقرءون له في الأهرام والأخبار دائماً، ظهر ليساند الإله الجديد، فإنه أول ما ادعى رشاد رشدي النبوة ذهب إليه هناك، وكان بينهم من الاتفاق ما يؤهل إلى أن يكون رشاد رشدي إلهاً، وأن يكون أحمد صبحي منصور نبي ذلك الزمان، فلما حدثت بينهما الخصومة والخلاف فضح كل منهما الآخر، فهلك رشاد رشدي ورجع أحمد صبحي منصور إلى مصر بخفي حنين، لم تثبت له النبوة ولم تثبت له الإلهية، وثبتت له القدم الراسخة في الإلحاد والإجرام، فصار يطعن في ثوابت الإسلام في الليل والنهار على صفحات الجرائد. قال: [(كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء فتكثر)] أي: لا نبي بعدي، ولكن يقوم بمهمة النبي في سيادة أمور الناس خلفاء، وهؤلاء الخلفاء كثرة كاثرة، كلما هلك خليفة أو عزل لكفره جاء غيره؛ لأن الإمام إذا كفر وجب عزله وتنصيب غيره. قال: [(وستكون خلفاء فتكثر. قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟! قال: فوا ببيعة الأول فالأول وأعطوهم حقهم؛ فإن الله سائلهم عما استرعاهم)] (فوا) من الوفاء. أي: يجب عليكم أن تفوا ببيعة الأول، ولا تبايعوا من ظهر في وجود الإمام الأول، فإنما البيعة تُعقد لإمام واحد، وهذا الإمام يعين الولاة والأمراء من باطنه، فتجب طاعة الولاة والأمراء والسلاطين في شتى أصقاع بلاد المسلمين؛ نظراً لوجوب طاعتهم للإمام العام، فإذا كان الخليفة مثلاً في تركيا أو في العراق أو في المدينة أو في مصر أو في المغرب، فيجب عليه أن يعيّن ولاة على كل بقاع المسلمين: ولاة للصلاة، ولاة للجهاد، ولاة للسياسة، ولاة للقضاء، وغير ذلك مما يصلح

معنى قوله: (فوا ببيعة الأول فالأول)

معنى قوله: (فوا ببيعة الأول فالأول) قال: (فوا ببيعة الأول فالأول) أي: عند تكاثر الخلفاء لا شك أن هذا مخالف لظاهر النصوص؛ لأنه لا بيعة إلا لخليفة واحد، فما بالنا وقد انتشر الخلفاء هنا وهناك، وكل يدّعي أنه خليفة وكل يزعم أنه خليفة، كما نسمع أن سلطان المغرب أمير المؤمنين يطبع كتاب التمهيد شرح الموطأ، ويكتب عليه طُبع على نفقة أمير المؤمنين الملك الحسن بن فلان الفلاني المغربي، ثم نجد مثيلاً له في بلاد الشام يقول: إنه أمير المؤمنين. فهنا نبايع واحداً فقط، ومن الممكن أن يقول أمير الشام لأمير المغرب: أنت لست أمير المؤمنين، إنما البيعة الشرعية لي، ويقهره ويحمله على أن يكون مطيعاً له، مما جعل بعض أهل العلم يقولون رفعاً للفساد وحقناً للدماء: تجوز البيعة لأكثر من إمام إذا تباعدت ديارهم، وإن لم يكن الأمر مشروعاً في أصله.

حكم عقد البيعة لأكثر من إمام في وقت واحد

حكم عقد البيعة لأكثر من إمام في وقت واحد قال: (فوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم. فإن الله سائلهم عما استرعاهم). في هذا الحديث معجزة ظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. قال النووي: (ومعنى هذا الحديث: إذا بويع لخليفة بعد خليفة فبيعة الأول صحيحة يجب الوفاء بها، وبيعة الثاني باطلة يحرم الوفاء بها، ويحرم عليه -الخليفة الثاني -طلبها- في وجود الخليفة الأول- وسواء عقدوا البيعة للثاني عالمين بعقد بيعتهم للأول أو جاهلين بها، وسواء كانا في بلدين أو في بلد واحد أو أحدهما في بلد الإمام، وهو الصواب الذي عليه أصحابنا وجماهير العلماء. وقيل: تكون البيعة للخليفة الذي بويع في بلد الإمام. وقيل: يُقرع بينهما، وهذان فاسدان). كأن يكون قد بايعت لخليفة معيّن، ثم ظهر خليفة آخر في نفس البلد، فكيف يهدم حق الإمام الأول وتلغى البيعة له؟ فمنهم من قال بإجراء القرعة بينهما. قال: (واتفق العلماء على أنه لا يجوز أن يُعقد لخليفتين في عصر واحد سواء اتسعت دار الإسلام أو لم تتسع. وقال إمام الحرمين الإمام الجويني في كتاب الإرشاد -وكان أصولياً مقنناً- قال أصحابنا -أي الشافعية- لا يجوز عقدها لشخصين -أي: لا تجوز البيعة لشخصين- قال: وعندي: أنه لا يجوز عقدها لاثنين في صقع واحد -أي: في بلد واحد- وهذا مجمع عليه) أي: هذا محل اتفاق. قال: (فإن بَعُدَ ما بين الإمامين، وتخللت بينهما شسوع فللاحتمال فيه مجال). أي أن إمام الحرمين يقول: أنا أوافق من قال: إنه لا تجوز البيعة لخليفة ثان في ظل البيعة للخليفة الأول إذا كانا في بلد واحد، أما إذا اتسعت وشسعت المسافة بينهما فيحتمل أن تصح البيعة لكل منهما. قال: (وهو خارج عن القواطع. وحكى المازري هذا القول عن بعض المتأخرين). (خارج عن القواطع): أي: أن هذا الكلام كلام ينقض المقطوع به ضرورة وشرعاً وحكماً: أنه لا تجوز عقد البيعة لإمام ثانٍ مع وجود الإمام الأول. قال: (وحكى المازري هذا القول عن بعض المتأخرين من أهل الأصل -أي: من أصحاب الأصول- وأراد به إمام الحرمين) أي: أنه يريد أن يرد عليه ويقول له هذا كلام فاسد من إمام الحرمين، ولا يجوز اتباعه على ذلك. (وهو قول فاسد مخالف لما عليه السلف والخلف، ولظواهر إطلاق الأحاديث، والله تعالى أعلم).

ذكر روايات وطرق حديث أبي هريرة في الوفاء بالبيعة للأول فالأول

ذكر روايات وطرق حديث أبي هريرة في الوفاء بالبيعة للأول فالأول قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعبد الله بن براد الأشعري قال: حدثنا عبد الله بن إدريس عن الحسن بن فرات عن أبيه -أي: الفرات بن أبي عبد الرحمن الكوفي كما قلنا في الإسناد الماضي- بهذا الإسناد مثله. وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو الأحوص سلّام بن سليم الحنفي ووكيع -ثم ينتهي الإسناد ليبدأ إسناد جديد- وحدثني أبو سعيد الأشج حدثنا وكيع وينتهي الإسناد]. الإسناد الثالث: [وحدثنا أبو كريب وابن نمير قالا: حدثنا أبو معاوية، وينتهي الإسناد]. إذاً عندي أبو الأحوص ووكيع وأبو معاوية وهو محمد بن خازم الضرير. والإسناد الرابع: [حدثنا إسحاق بن إبراهيم -المعروف بـ ابن راهويه - وعلي بن خشرم قالا: أخبرنا عيسى بن يونس كلهم عن الأعمش -وهو سليمان بن مهران الكوفي - وينتهي الإسناد.

شرح حديث ابن مسعود: (إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها)

شرح حديث ابن مسعود: (إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها) قال: [وحدثنا عثمان بن أبي شيبة أخو أبي بكر بن أبي شيبة واللفظ له]، أي: هذا سياق الحديث القادم، وهو سياق عثمان بن أبي شيبة لا سياق السابقين. [حدثنا جرير -وهو ابن عبد الحميد الضبي - عن الأعمش]. إذاً: هما اثنان يرويان هذا الإسناد كله، الأول: هو عيسى بن يونس، والثاني: جرير كلاهما يروي عن الأعمش، والأعمش يروي عن زيد بن وهب وهو الجهني أبو سليمان الكوفي، ثقة إمام جليل مخضرم، ومعنى المخضرم: أنه من سادات التابعين، أسلم في زمن النبي عليه الصلاة والسلام ولم يره. أي: أنه أدرك زمن الجاهلية وزمن النبوة، فأسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه لم ير النبي صلى الله عليه وسلم، فيصنّفه العلماء بين التابعي وبين الصحابي. والتابعي: هو الذي رأى الصحابي أو لزم الصحابي، ووجد بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام. أما الصحابي كما قلنا من قبل فهو من لقي النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن اللقاء يثبت للأعمى وغير الأعمى. فلو قلنا: الصحابي: هو من رأى لكان لزاماً علينا أن نخرج من لم ير النبي صلى الله عليه وسلم لعمى أو لعلة أو غير ذلك، فالصحابي: هو من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على ذلك. لأن هناك من لقي النبي صلى الله عليه وسلم وليس مؤمناً به، كالكفار والمشركين الذين التقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وآذوه، ولم يؤمنوا به عليه الصلاة والسلام، أو المنافقين الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر. فهم في حقيقة الأمر ليسوا من الصحابة؛ لأنهم ليسوا مؤمنين بالنبي عليه الصلاة والسلام؛ حتى لا يقال: إن عبد الله بن أُبي بن سلول كان صحابياً، بل كان منافقاً، والله تبارك وتعالى أعلم نبيه بأسماء المنافقين وأعيانهم، وعلّم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك حذيفة بن اليمان رضي الله عنه. قال زيد بن وهب: [عن عبد الله]. إذا ورد الصحابي في طبقة الصحابة عبد الله هكذا غير منسوب فالمقصود به: عبد الله بن مسعود، خاصة إذا كان الإسناد كوفياً؛ لأن زيد بن وهب كان كوفياَّ، فإذا قال كوفي من التابعين: حدثني عبد الله فإنما هو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ لأنه هو الذي رحل من المدينة إلى الكوفة، ليعلّم الناس الصلاة والعلم. [قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنها ستكون بعدي أثرة)] أي: إيثار الحُكّام والأمراء والسلاطين لأنفسهم بالمال وأمور الدنيا، مما يجعلهم ينتهكون الحرمات في سبيل منصب أو كرسي أو وجاهة أو مال أو غير ذلك، فإن الحُكّام يؤثرون أنفسهم دائماً بملذات الدنيا ومتاعها، فينتهكون العرض ويسفكون الدم لأجل الحصول على ذلك. فبدلاً من أن يؤثروا الناس على أنفسهم، آثروا أنفسهم على الناس، وهذا فيما يتعلق بالدنيا، والحمد لله أنهم لم يؤثروا أنفسهم بالدين، وإنما يؤثرون أنفسهم بمتاع الدنيا وملذاتها. [(إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها)] إذا نظر الواحد منكم أو قرأ عن هذا الإيثار ينكر ذلك أشد الإنكار. [(قالوا: يا رسول الله! كيف تأمر من أدرك منا ذلك؟)] أي: بماذا تنصحنا وماذا نفعل حينئذ؟ والنبي عليه الصلاة والسلام هو ملاذ الموحدين إلى يوم الدين قال: [(تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم)] ولم يقل: تسألون الحُكّام أو السلاطين أو الأمراء أو العلماء؛ لأن العلماء في الغالب لا يملكون شيئاً، العالم لا يملك إلا استقامة الفتوى وبيان الحلال والحرام، وبيان المشروع من الممنوع، ويملك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يملك أكثر من ذلك، لكن كثيراً من الناس يأتي فيقول: يا شيخ! العمل في البنوك حرام؟ يقول الشيخ: نعم حرام. يقول: إذاً: قدّم لي عملاً. وليس هذا له، ربما هو نفسه بغير عمل، فأنت تسأله عن الحرام والحلال فقط، ولا علاقة له بتيسير دنياك، وبتيسير حياتك، إنما له أن يوجهك في الحياة، هذا حلال وهذا حرام، هذا ممنوع وهذا مشروع. هذا دور العالم. ويأمر السلطان ومن دون السلطان بالمعروف وينهاهم عن المنكر. هذا دوره. وإن لم يؤد للرعية هذا الدور كان كالبهائم، بل تكون أفضل منه عند الله عز وجل؛ لأنها على الأقل تؤدي ما كان واجباً في حقها من الحرث والضرع، أما هو فقد خلقه الله تعالى لمهمة وحدد له السبيل، ولكنه لحرصه على الدنيا وعلى الكرسي والمنصب والمال نكس عن الطريق، وصار يجعل الحق باطلاً والباطل حقاً، فإنا لله وإنا إليه راجعون! فقال النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً ذلك: ستجدون لا محالة من بعدي أثرة وأموراً تنكرونها. قالوا: كيف نخرج منها يا رسول الله؟! قال: تؤدون الحق الذي عليكم؛ لأن كل إنسان له حق وعليه واجب. قال: (أ

شرح حديث عبد الله بن عمرو في الفتن ووجوب طاعة الأمير ودفع منازعيه

شرح حديث عبد الله بن عمرو في الفتن ووجوب طاعة الأمير ودفع منازعيه قال: [حدثنا زهير بن حرب وإسحاق بن إبراهيم قال إسحاق: أخبرنا. وقال زهير: حدثنا]. وكما قلت من قبل: هناك فرق بين (حدثنا) و (أخبرنا)، فأخبرنا المشهور عند العلماء استخدامها في الإجازة. أي: فيما لم يسمع الراوي من شيخه. فيقول: أخبرنا، والأفضل أن يقول: أخبرنا فلان إجازة. لكن (حدثنا) لا تُستخدم إلا في السماع. [حدثنا جرير عن الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة قال: دخلت المسجد فإذا عبد الله بن عمرو بن العاص جالس في ظل الكعبة، والناس مجتمعون عليه، فأتيتهم فجلست إليه، فقال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا منزلاً -يعني: نزلوا ليختبئوا- فمنا من يُصلح خباءه -يعني: منا من قد انشغل بتثبيت خيمته- ومنا من ينتضل -من النضال أي: النشال، والتدريب على الرمي بالسهم والقوس- ومنا من هو في جشره -أي: في إصلاح فرسه من العلف والتنظيف وغير ذلك- إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصلاة جامعة -أي: اجتمعوا أيها الناس- فاجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم)] وهذه مهمة الأنبياء والمرسلين، أنهم يعلمون أقوامهم ما ينفعهم من خيري الدنيا والآخرة [(وينذرهم شر ما يعلمه لهم)]. إذاً: مهمة الأنبياء: البشارة في الخير والنذارة من الشر. فهذه مهمة الأنبياء منذ أن أرسل الله تعالى نوحاً إلى محمد عليه الصلاة والسلام. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: [(إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها). (جُعل عافيتها) أي: قوتها في أولها. وهذا معلوم. [(وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها)] وهذا أيضاً من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، فقد بشّر أن قوة هذه الأمة وعافيتها في صدرها الأول وقد كان وبعد ذلك يكون هناك ضعف وهوان وذل وأمور تنكرونها. قال: [(وتجيء فتنة فيرقق بعضها بعضهاً)] أي: أن الفتنة الأولى تتبعها ثانية، وحين وجود الفتنة الأولى يقول الناظر إليها: هذه مهلكتي. وذلك لأنها عظيمة لا يمكن الفرار منها ولا الفكاك عنها، ولا تكون كذلك، بل ينجو منها العبد، وسرعان ما يقع في فتن أخرى فيقول: إذا انكشفت الفتنة الأولى فلا تنكشف هذه فتنكشف، فيقع في الثالثة فتتبعها أختها وتكثر الفتن في آخر الزمان، حتى يظن المسلم أنه في كل فتنة من الهالكين. قال: [(وتجيء فتنة فيرقق بعضها بعضهاً، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي ثم تنكشف، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه -أي: هي التي لا أخرج منها- فمن أحب أن يزحزح عن النار ويُدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه)]. وهذا كلام جميل، فالنبي صلى الله عليه وسلم يحذّر من الفتن، إذ تكثر ويرقق بعضها بعضاً، ويسلّم بعضها إلى بعض؛ وموقفي أنا كمسلم موحد أن أؤمن بالله واليوم الآخر. كان عبد الله بن عمر إذا عُرضت عليه الفتنة قال: آمنت بالله ورسوله. يتأول هذه النصوص. وكان غير واحد من السلف يفعلون ذلك، وإذا أتت الفتنة كانوا أحلاف بيوتهم. أي: يغلقون على أنفسهم بيوتهم، وينكسون سيوفهم ويقولون: آمنا بالله ورسوله، ولا شك أن موقف المسلم من الفتنة بين ثلاثة مواقف: الموقف الأول: إذا كان الحق في الفتنة ظاهراً وواضحاً وجب على الناس أن يعينوا صاحب الحق على المبطل، وجب عليهم ذلك ولا يسعهم المخالفة، وذلك إذا كانت الإعانة والنصرة في مقدورهم. والموقف الثاني: يحرم عليهم إعانة المبطل على المحق. الموقف الثالث: إذا لم يكن للفتنة جانب رابح، لا يعرف أيهما على الحق وأيهما على الباطل، وأين الحق في هذه الفتنة؟ فإن واجب المسلم حينئذ أن يكف يده عن تلك الفتنة أبداً. وهذا ما فعله سلف الأمة. قال: [(فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته)] أي موته (وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس) أي: يبذل إلى الناس (الذي يحب أن يؤتى) أي: من الخير. قال: [(ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه)]؛ لأن البيعة لا تكون إلا باليد، وتكون باللسان، لكن صورة البيعة غالباً وضع اليد في اليد. قال: [(فليطعه إن استطاع)] إذا كنت قد بايعت إماماً فأطعه ما استطعت إلى ذلك سبيلاً. قال: [(فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر)]. إذا جاء إمام آخر وزعم الإمامة والخلافة ينازع بها الإمام الأول فادفعوه وادرءوا ما استطعتم، فإن لم يكن دفعه ممكناً إلا بقتله قُتل. يعني: ادفعوه وبيّنوا عواره وفساده م

معنى قوله: (فتنة يرقق بعضها بعضا)

معنى قوله: (فتنة يرقق بعضها بعضاً) قوله: (ترقق بعضها بعضاً) أي: يصير بعضها رقيقاً خفيفاً لعظم ما بعده. الفتنة تأتي كالجبل فيستعظمها المرء، لكنها بالنسبة لما بعدها هي رقيقة جداً وسهلة ميسورة. والتأويل الثاني معناه: يشبه بعضها بعضاً. وقيل: يدور بعضها في بعض ويذهب ويجيء. وقيل: يسوق بعضها إلى بعض بتحسينها وتسويلها. والمعنى الثالث: فيدفق لا يرقق. أي: تأتي متدفقة، يدفع ويصب صباً.

معنى قوله: (وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه)

معنى قوله: (وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه) قال: (وليأت إلى الناس الذي يجب أن يؤتى إليه) هذا من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم وبديع حكمه، وهذه قاعدة مهمة فينبغي الاعتناء بها، وهو أن الإنسان يجب عليه ألا يفعل مع الناس إلا ما يُحب أن يفعلوه معه. قال: (فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر) معناه: ادفعوه إلا إذا كان لا يندفع إلا بقتله فيجوز حينئذ قتله.

معنى قوله: (هذا ابن عمك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل)

معنى قوله: (هذا ابن عمك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل) قوله: (هذا ابن عمك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل) إلى آخره. المقصود بهذا الكلام: أن هذا القائل لما سمع كلام عبد الله بن عمرو بن العاص وذكر الحديث في تحريم منازعة الخليفة الأول، وأن الثاني يُقتل اعتقد أن هذا الوصف في معاوية، فقد اعتقد أن معاوية خليفة ثان في وجود الخليفة الأول؛ لمنازعته علياً رضي الله عنه، وكانت قد سبقت بيعة علي، فرأى هذا القائل أن نفقة معاوية على أجناده وأتباعه في حرب علي ومنازعته ومقاتلته إياه من أكل الأموال بالباطل، وأخذ أموال المسلمين من بيت المال، وإنفاقها على الجند لمحاربة الخليفة الأول -أي: صاحب البيعة المشروعة- يعد باطلاً؛ لأنه قتال بغير حق، فلا يستحق أحد مالاً في مقاتلته. فقال عبد الله بن عمرو: (أطعه في طاعة الله واعصه في معصية الله) وفيه دليل على وجوب طاعة المتولين للإمامة بالقهر من غير إجماع ولا عهد. قال: (أطعه) أي: أطع معاوية في طاعة الله، ومن كان على شاكلة معاوية من إمام ثان يظهر في وجود الإمام الأول تجب عليك طاعته إذا تولى بالقهر والغلبة وإعمال السيف، يجب طاعته من باب حقن الدماء. قال له: إن الناس أطاعوا معاوية؛ لأنه ظهر وغلب في بقعة من بقاع الناس في الشام، وادعى الخلافة وطلب البيعة لنفسه، فبايعه الناس قهراً في وجود البيعة الصحيحة لـ علي بن أبي طالب. إذاً فلِم أطاعه الناس؟ ولِم لم يقتلوه أو يدفعوا عن علي ما استطاعوا؟ لأنهم لم يقدروا على ذلك، فإن رفع أحد عقيرته بمقتضى هذه النصوص قتله معاوية. وكأنه أراد أن يقول: إن الإمام إما أن يتولى بالنص والإجماع كـ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وإما أن يتولى بالقهر والغلبة كالولاية الجبرية، والنبي قد بينها عليه الصلاة والسلام. قال: (ستكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم ينزعها الله تعالى إذا شاء أن ينزعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة) وهي الخلافة الراشدة للأئمة الأربعة (فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم ينزعها الله تعالى إذا شاء أن ينزعها، ثم يكون ملكاً عاضاً) كما كان في دولة بني أمية ودولة العباسيين وغيرها من الدول، حتى في زماننا هذا وفي عصرنا الحديث. قال: (فإذا شاء الله تعالى أن ينزعه نزعه) أي: ينزع الملك العضوض (ثم يكون ملكاً جبرياً) أي: قهرياً. يتولى الحكام سياسة الناس بالقهر والقوة والغلبة، والسيف والسنان، حينئذ يجب علينا الطاعة لا لأننا قد بايعنا، ولا للخلافة المشروعة -بل هي غير مشروعة- ولكن حقناً لدماء المسلمين وجب عليهم أن يسمعوا ويطيعوا في طاعة الله عز وجل، وألا يسمعوا ولا يطيعوا في معصية الله عز وجل، هذا باب. وباب الطاعة لهم لحقن الدماء باب آخر، فحينئذ يجب على الناس أن يسمعوا ويطيعوا حقناً للدماء. قال: (ثم تكون فيكم ما شاء الله أن يكون) أي: هذا الملك الجبري (فإذا شاء الله تعالى أن يرفعه رفعه، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت). وهذا يدل على أن ختام الخلافة ستكون على منهاج النبوة، هل هي خلافة المهدي المنتظر أو هي قبل المهدي المنتظر؟ الله أعلم. والراجح: أن الأرض تمهّد بخلافة قبل ظهور المهدي المنتظر ونزول عيسى بن مريم. وقد ظهرت وبدت البوادر والبشائر في هذا الزمان بهذه الصحوة المباركة التي رجع الناس فيها أفواجاً وجماعات إلى ربهم، حتى من فئات ما كان المرء يتصور قط أن واحداً منهم يرجع إلى الله، أو يتعرّف على الله عز وجل، صارت فئة مجتمعة كلها ترجع إلى الله عز وجل. وفي هذا من المبشرات ما فيه، والتوبة والأوبة والإنابة إلى الله عز وجل تبشر بأن هذه الصحوة صحوة مباركة عاملة بالكتاب والسنة ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، وبهذا تتهيأ الأرض للخلافة الراشدة بإذن الله تعالى.

باب الأمر بالصبر عند ظلم الولاة واستئثارهم

باب الأمر بالصبر عند ظلم الولاة واستئثارهم إذا ظلم الوالي أو استأثر في الدنيا، فالذي عليّ -كما قلنا من قبل- أن أؤدي الذي علي وأسأل الله الذي لي. وإذا ابتلاني الله تعالى بأن الذي لي لم يصلني فالواجب عليّ الصبر. قال: [حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار قالا: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة قال: سمعت قتادة يُحدّث عن أنس بن مالك]. هذا هو الإسناد الثاني. قال: سمعت قتادة؛ لأن قتادة مدلّس، واسمه قتادة بن دعامة السدوسي البصري، ومعنى قتادة في اللغة: فرع الشجرة. والدعامة: أصل الشجرة. فهو قتادة وأبوه دعامة، قتادة بن دعامة السدوسي البصري يحدث عن أنس. وفي رواية أخرى قال: سمعت أنساً. وقتادة كان مدلّساً. [عن أسيد بن حضير]. أنس بن مالك صحابي وأسيد بن حضير صحابي. فهذه قوة إسنادية: أن صحابياً يروي عن صحابي آخر. قال: [(أن رجلاً من الأنصار خلا برسول الله صلى الله عليه وسلم)] خلا أي: اختلى به في مكان، وليس خلا به بمعنى: أنه عصاه ولم يطعه. [(فقال: ألا تستعملني كما استعملت فلاناً؟)]. هذا الكلام محرج وليس وجيهاً؛ ولذلك استحيا أن يسأله على الملأ. فقال: [(يا رسول الله ألا تستعملني كما استعملت فلاناً؟ فقال: إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض)] هل هذا الجواب مطابق للسؤال؟ قال: (إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض). يفهم من هذا الكلام أن من طبيعة العُمّال والأمراء إيثار أنفسهم على الرعية، فلم يرد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون هذا الأنصاري منهم، والأثرة أكثر ما تكون في الولاية من بعده صلى الله عليه وسلم؛ لذلك يقول: لا يمنع إذا استعملتك أن تبقي نفسك للمال وملذات الدنيا على الرعية فتقع في المحذور، فاصبر حتى تلقاني على الحوض، وإذا كنت مأموراً لدى عامل من العُمّال فآثر نفسه دونك، فأد الذي عليك، وانتظر واصبر على أن تلقى ما هو لك حتى تلقاني على الحوض فإنه لن يضيع، فالذي يضيع في الدنيا لا يضيع في الآخرة، وهذا يبيّنه ما كان من أمر أبي ذر رضي الله عنه عندما قال: (يا رسول الله! ألا تستعملني؟ قال: إنك لضعيف) وأنا أحبك يا أبا ذر! وأحب لك ما أحب لنفسي! فانظر إلى منتهى الشفقة منه عليه الصلاة والسلام!

باب في طاعة الأمراء وإن منعوا الحقوق

باب في طاعة الأمراء وإن منعوا الحقوق منع الحقوق ظلم، لكنه لا يؤدي إلى الكفر، وما دام الظلم لم يبلغ بولي الأمر الكفر فإن هذا الظلم يوجب له السمع والطاعة. قال: [حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار قالا: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن سماك بن حرب عن علقمة بن وائل الحضرمي عن أبيه رضي الله عنه قال: سأل سلمة بن يزيد الجعفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا نبي الله! أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم ويمنعونا حقنا. فما تأمرنا؟ فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه، ثم سأله في الثانية أو في الثالثة فجذبه الأشعث بن قيس رضي الله عنه وقال: اسمعوا وأطيعوا)] أي: قال النبي عليه الصلاة والسلام، وربما يكون قال الأشعث؛ لأن الأشعث سمع هذا الكلام منه عليه الصلاة والسلام في موطن آخر غير هذا الموطن، فيصح أن يكون هذا الكلام موقوفاً ومرفوعاً، فإذا قلنا: مرفوعاً يكون التقدير: قال النبي عليه الصلاة والسلام: [(اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حُمِّلوا وعليكم ما حُمّلتم)] أي: جعل الله تعالى لكل واحد منكم حقه، وجعل على كل واحد منكم واجباً، فأدوا الذي عليكم، واصبروا حتى تلقوا رسول ربكم على الحوض. [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا شبابة بن سوار المدائني حدثنا شعبة عن سماك بهذا الإسناد مثله، وقال: فجذبه الأشعث بن قيس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ: (اسمعوا وأطيعوا. فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم)]. أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد.

الأسئلة

الأسئلة

حكم مبايعة الإمام الظالم

حكم مبايعة الإمام الظالم Q إذا كان الإمام ظالماً وغير عادل في حكمه فهل أبايعه أم لا؟ A البيعة تجب للإمام وإن كان فاسقاً.

حكم إطلاق لفظ (خليفة) على حاكم بلد معين والبيعة له

حكم إطلاق لفظ (خليفة) على حاكم بلد معين والبيعة له Q هل يجوز أن نطلق على حاكم بلد معيّن أنه خليفة في هذا البلد، وهل يجب علينا أن نبايعه؟ A بلا شك أن هؤلاء يقومون مقام الولاة والسلاطين، في الأصل أنهم معينون من جهة الخليفة ولا خليفة، فكان كل حاكم حاكماً على بلده فحسب، وليست شروط الخلافة متحققة في أحد من هؤلاء جميعاً، أما بيعة الخلافة فلا تصح لهؤلاء جميعاً؛ لأنهم ليسوا خلفاء، بل هم حُكام.

الحكم على حديث (إذا صليتم بالناس فخففوا)

الحكم على حديث (إذا صليتم بالناس فخففوا) Q يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (إذا صليتم بالناس فخففوا فإن فيهم الضعيف والسقيم وذا الحاجة) هل هذا الحديث صحيح؟ A نعم. صحيح.

بيان مقدار تخفيف الصلاة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

بيان مقدار تخفيف الصلاة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم Q إذا كان صحيحاً فما بالنا لا نعمل به لا سيما ونحن ندّعي بأننا متمسّكون بالسنة وجزاكم الله خيراً؟ A لا، فأنا أرى أن الصلاة أكثر تخفيفاً مما أراده النبي عليه الصلاة والسلام، لأن الذي أمر بالتخفيف هو الذي كان يصلي بالناس، فكان يصلي الفجر من الستين إلى المائة آية، ولا أحد يصلي الآن من الستين إلى مائة آية إلا ما ندر، وكان عليه الصلاة والسلام يصلي الظهر بعد الفاتحة بالثلاثين آية. أي: بحوالي ربعين. ونحن نصلي الظهر والعصر بالكوثر والإخلاص، وبالكاد أحدنا يُدرك الكوثر والإخلاص وراء الإمام، وإذا دخل المسجد وصلى خلف إمام لا يعرفه وحسّن به الظن، أو خاف على نفسه ألا يقرأ شيئاً بعد الفاتحة بدأ بالكوثر احتياطاً؛ لكي يدرك أي آية، بل منا من لا يدرك إتمام فاتحة الكتاب، ولو أنك قرأت دعاء الاستفتاح بعد تكبيرة الإحرام يقيناً لا تدرك شيئاً لا أقول: من الفاتحة، وإنما من القرآن بعد الفاتحة، فهذا هو التخفيف الذي تريده أنت، أما التخفيف الذي أراده النبي عليه الصلاة والسلام فإنه قد ورد أن أحدهم كان إذا سمع الأذان انطلق من عمله إلى بيته، فتوضأ وصلى السبحة -أي: السنة- ثم أتى إلى مسجد النبي عليه الصلاة والسلام من عوالي المدينة وأطرافها، فأدرك معه الركعة الأولى. هذا هو تخفيف النبي عليه الصلاة والسلام. وكان يجعل العصر على النصف من الظهر، أي: إذا كان يقرأ في الظهر بثلاثين آية يقرأ في العصر بخمس عشرة آية، وكان يصلي المغرب فيطيل فيها، حتى إنه صلى مرة بسورة الأعراف كاملة، والأصل في صلاة المغرب التطويل. أي: أن المغرب أطول من صلاة الظهر، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي فيها بطوال المفصّل. أي: بالسور الكبيرة التي تبدأ من (ق) أو (الأحقاف) على خلاف بين العلماء في المفصّل، فكان يقرأ في المغرب بالسورة أحياناً وبالسورتين أحياناً من طوال المفصّل. هل نحن نعمل هذا؟ فلو أنه أتى من يصلي بنا هنا بالأعراف ما الذي سيحدث؟ سوف ينهره كل من في المسجد حتى السنّية ويقولون: ما هذا؟ ألم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتخفيف؟ مع أن الذي أمر بالتخفيف هو الذي صلى بهذه السورة، وإن صلى بها مرة واحدة فأنا لم أصل بها إلا مرة واحدة، فلِم تنقمون علي؟ فيقولون: النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يصلي بها كل يوم. أقول: وهل أنا صليت بها كل يوم؟ فهذا لم يحصل إلا مرة واحدة، لكن لا بد أن يتوجه اللوم والإنكار؛ وذلك لأنهم لم يحفظوا من الدين إلا التخفيف، وما علموا مقدار التخفيف. صليت بالناس في بلد من البلدان صلاة المغرب بآية الكرسي وسورة الضحى، فقام الكل عليّ قومة رجل واحد ليس فيهم رجل رشيد، ولا واحد دافع عنّي فالكل اتهمني، فأتوا رجلاً فيهم هو الموظف الوحيد فيهم، ويرون أن هذا الرجل هو عالمهم مع أنه لا علاقة له بالدين، لكن ما دام موظفاً ومتعلماً ومعه إعدادية قديمة فهو الأمل في البلد كلها، وبعد هذا اضطررت أن أقف في المحكمة متهماً أمامه، وقد عقدت هذه المحكمة في المسجد. قال: أنا أوافقك على سورة الضحى، أما آية الكرسي فلا. قلت له: لماذا؟ قال: لأن الصلاة باطلة إلا بثلاث آيات فأكثر، إنما أقل من هذا فلا، فآية الكرسي آية واحدة! فكان عليك أن تجمع معها آيتين أخرى ولو من سورة الضحى! فأي كلام هذا؟ وأي تخريف؟ يقولون لك: النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالتخفيف، وكل واحد فهم التخفيف على مزاجه. نقول: إذا كان هناك نصوص ظاهرها التعارض فلا بد من حمل بعضها على البعض، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم العملية بيّنت ذلك كله، فنحن رغم أننا سنيون متمسكون إلا أننا أيضاً ملتزمون بكلام النبي عليه الصلاة والسلام. ثبت في حديث معاذ بن جبل أن معاذاً كان إمام قومه، وكان يصلي العشاء الآخرة مع النبي عليه الصلاة والسلام، ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم وكان إمامهم، فصلى فأطال الصلاة، ففارقه حرام بن ملحان رضي الله عنه، فلما بلغ معاذ أن حراماً فارقه قال: والله إنه لمنافق، لأرفعن أمره إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وقد سبقه بالشكوى حرام وهو أخو أم سُليم أم أنس بن مالك فقال النبي عليه الصلاة والسلام لـ معاذ بن جبل: (أفتّان أنت يا معاذ؟! صل بهم بـ (الشمس وضحاها) و (الليل إذا يغشى)). قال العلماء: هذا هو القدر المشروع في صلاة العشاء، ولا يمنع الزيادة عن ذلك ولا الإقلال من ذلك، لكن غالب صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة العشاء بهذا القدر، وكان يفعل ذلك ويأمر به عليه الصلاة والسلام. فأذكركم بما يحدث الآن في أمريكا من حرائق في الغابات أسأل الله تعالى أن يحرق أبدانهم وقلوبهم، فأكثر من (4000) منزل قد التهمتها النيران، وإخلاء كثير من المدن، وما يحدث في روسيا من فيضانات وموت العشرات، وقتل كثير من الصينيين أيضاً في الفيضانات، وتخريب المباني والكباري، هذا بالإضافة إلى الخ

كتاب الفرائض - تعريف الميراث

شرح صحيح مسلم - كتاب الفرائض - تعريف الميراث علم الفرائض من أجل العلوم وأنفعها؛ لما فيه من إعطاء كل ذي حق حقه، وقد أوصى النبي عليه الصلاة والسلام بتعلمه، وذهب بعض أهل العلم إلى وجوب تعلمه، ومن مجالاته وأبوابه معرفة أسباب وموانع الإرث وغيرها من المسائل الأخرى.

كتاب الفرائض

كتاب الفرائض إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وبعد:

تعريف الفرائض

تعريف الفرائض كتاب الفرائض هو كتاب في المواريث، والوصايا المتعلقة بالمورث، وكذلك بتركته؛ ولذلك قال العلماء من أهل اللغة: الفرائض: جمع فريضة، وهي من الفرض، والفرض هو: التقدير المحدد شرعاً، يقال: فرض الله كذا، بمعنى: حدَّ الله كذا، أي: جعل هذا الفرض حدًّا محدداً في الشرع لا يحل لمن حدد لأجله أن يتعداه، ومن تعداه فقد ظلم نفسه، وعرَّض نفسه للعقوبة في الدنيا والآخرة. ويقال للعالم بالفرائض، أو لمن مهر في هذا العلم وفي هذا الفن: فرضي، كما كان يقال ذلك لـ زيد بن ثابت، إذ كان أفرض أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، ومن بعده علي بن أبي طالب، ومن بعدهما عمر بن الخطاب رضي الله عنهم. وأريد أن أقول لك: إن هناك بعض العلوم كانت علماً على أصحابها، وبعض الأشخاص كانوا علماً على بعض العلوم، وكثير من أصحابه عليه الصلاة والسلام كانوا علماء في كل شيء، وفي كل فرع من فروع العلم، لكنَّ أحدهم كان يبرز في علم معين، فمثلاً: حذيفة بن اليمان كان بارزاً فيما يتعلق بعلم الفتن وأشراط الساعة وغيرها. وكذلك زيد بن ثابت كان أفرض الأمة في زمن النبي عليه الصلاة والسلام. وأما الإرث في الميراث فقال المبرد: أصله العاقبة؛ لانتقاله من شخص إلى آخر. قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يحيى بن يحيى، وأبو بكر بن أبي شيبة، وإسحاق بن إبراهيم -يعني ابن راهويه، واللفظ لـ يحيى، قال يحيى: أخبرنا، وقال الآخران: حدثنا ابن عيينة -وهو سفيان بن عيينة - الزهري، عن علي بن حسين، عن عمرو بن عثمان، عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يرث المسلم الكافر، ولا يرث الكافر المسلم)]. وفي رواية: (لا يتوارث أهل ملتين شتى)، يعني: مختلفتين، وبعض أهل العلم يضعف هذه الرواية، وهي عند أبي داود وابن ماجه من حديث عبد الله بن عمرو، ولها شاهد عند الترمذي من حديث جابر. قال النووي رحمه الله تعالى: (أجمع المسلمون على أن الكافر لا يرث المسلم، وسواء كان كفراً أصلياً أو كفراً طارئاً؛ كمن ارتد من المسلمين، فلو أن ولداً بالغاً ارتد عن الإسلام فإنه لا يرث أباه المسلم. كما أن الرجل لو أسلم وبقي أولاده على الكفر، كأن بقوا على النصرانية مثلاً، أو على اليهودية، أو أياً كانت ملتهم غير ملة الإسلام؛ فإنهم لا يرثونه إجماعاً).

أقوال أهل العلم في توريث المسلم من الكافر

أقوال أهل العلم في توريث المسلم من الكافر إذاً: المسألة فيما يتعلق بتوريث الكافر من المسلم لا تجوز، وعلى ذلك إجماع أهل العلم، ولم يخالف في ذلك أحد، أما ميراث المسلم من الكافر فقد وقع النزاع بين أهل العلم في جواز ذلك من عدمه: فالجمهور على عدم الجواز؛ أخذاً بظاهر هذا الحديث: (ولا يرث المسلم الكافر)، وقد نازع في ذلك بعض أهل العلم، فقالوا: بل يرث المسلم الكافر، واحتجوا بدليل: (الإسلام يعلو ولا يعلى عليه). لكن هذا الحديث ورد في بيان فضل الإسلام على غيره من ملل الكفر، وهذا الذي يبدو من ظاهر الرواية، ولذلك تعجب الإمام النووي أيما تعجب ممن ذهب إلى جواز ميراث المسلم من الكافر بحجة علو الإسلام، وأنه يعلو ولا يعلى عليه. فقال عليه رحمة الله: (ليس في هذا دليل على جواز التوريث بين المسلم والكافر، وغاية ما في هذا الدليل إثبات علو الإسلام على غيره من سائر ملل الكفر، ولم يذكر الميراث من قريب ولا من بعيد؛ ولذلك لا يصلح دليلاً، والذين قالوا بجواز توريث المسلم من الكافر ورد عنهم الرأي الآخر الذي يوافق مذهب الجمهور. قال النووي عليه رحمة الله: (ورأيهم الذي يوافَق فيه جمهور أهل العلم بمنع التوريث -أي: منع توريث المسلم من الكافر- أكثر صحة وصواباً من رأيهم الأول). يعني: كأن النقل عن هؤلاء بجواز التوريث -أي: توريث المسلم من الكافر خاصة- في ثبوته نزاع. وقد ورد عنهم رأي آخر وهو المنع، وأدلته قوية وأسانيده ثابتة، فكأن الأمر فيه شبه إجماع على عدم توريث المسلم من الكافر، لكن الإجماع المقطوع به: هو عدم جواز توريث الكافر من المسلم، لقول النبي الكريم: (لا يرث المسلم الكافر، ولا يرث الكافر المسلم). قال النووي: (وأما المرتد فلا يرث المسلم بالإجماع)، إذاً: عندنا مسألتان فيهما إجماع: الأولى: عدم توريث الكافر من المسلم. والثانية: عدم توريث المرتد من المسلم. وشبه الإجماع انعقد على عدم توريث المسلم من الكافر، وهو صواب لظاهر الرواية.

أقوال أهل العلم في توريث المسلم من المرتد

أقوال أهل العلم في توريث المسلم من المرتد وأما المسلم فلا يرث المرتد عند الشافعي ومالك وربيعة وابن أبي ليلى وغيرهم، بل يكون ماله فيئاً للمسلمين، يعني: لو أن شخصاً ارتد عن الإسلام فلا يرثه أولياؤه، وإنما يؤخذ ماله فيوضع في الخزانة العامة للدولة، أو فيما يعرف عند الفقهاء في بيت مال المسلمين، والفيء لا يطلق إلا على المال الذي اكتسب بغير حرب، أي: بغير جهد. وقال أبو حنيفة والكوفيون والأوزاعي وإسحاق: يرثه ورثته من المسلمين. وأما المسلم فهل له أن يرث المرتد أم لا؟ مذهب الجمهور: لا يكون بينهما توارث. وذهب الكوفيون وأصحاب الرأي إلى توريث المسلم من المرتد؛ وروي ذلك عن علي وابن مسعود وجماعة من السلف، لكن قال الثوري وأبو حنيفة: ما كسبه في ردته فهو للمسلمين. يعني: أنهم يفرقون بين ماله قبل الردة، وبين ماله بعد الردة، فيقولون: الذي اكتسبه بعد ردته هو مال أو فيء للمسلمين، فيوافقون في ذلك جمهور أهل العلم. أما ما اكتسبه في حال إسلامه قبل الردة فلورثته من المسلمين أن يرثوه. وقال الآخرون: الجميع لورثته من المسلمين، وهذا مذهب ثالث. إذاً: عندنا مذهب الجمهور، ومذهب أهل الرأي من الكوفيين، ومذهب ثالث لبعض أهل العلم القائلين بأن جميع المال الذي اكتسبه قبل الردة وبعدها إنما هو ميراث لورثته.

أقوال أهل العلم في توريث الكفار بعضهم من بعض

أقوال أهل العلم في توريث الكفار بعضهم من بعض وأما توريث الكفار بعضهم من بعض؛ كاليهودي من النصراني وعكسه، والمجوسي منهما وهما منه؛ فقال به الشافعي وأبو حنيفة رضي الله عنهما وآخرون، ومنعه مالك؛ لأنهم أصحاب ملتين، اليهود أصحاب ملة، والنصارى أصحاب ملة، والمجوس أصحاب ملة؛ وكل هؤلاء أصحاب ملل شتى مختلفة. وفي الحديث: (لا يتوارث أهل ملتين شتى)، فالذي قال بمنع التوارث بين الملل اعتمد على ظاهر هذه الرواية، والذين قالوا بجواز ذلك اعتبروا أن كل ملل الكفر ملة واحدة، فليست الملل إلا ملة إيمان، أو ملة كفر. وبالتالي حملوا: (لا يتوارث أهل ملتين شتى) على ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم)، فقالوا: ليس في الملل إلا ملة كفر، أو ملة إسلام. وبعض العلماء يرى أنه لا يرث حربي من ذمي، ولا ذمي من حربي، وهما الاثنان كفار، واختلاف الدين الأصل فيه حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم)، وحديث: (لا يتوارث أهل ملتين شتى).

موانع الإرث

موانع الإرث المرتد عن الإسلام لا يرث أقاربه المسلمين، لكنهم يرثونه، ولا يعتبر هذا من التوارث بين دينين؛ لأنه لا اعتراف بانتقاله إلى الدين الآخر، ولا إقرار له عليه، وهذا مذهب بعض أهل العلم من الأحناف وغيرهم، لكن الراجح أنه لا يكون بينهما توارث أبداً، وهذا مانع من موانع الإرث. المانع الثاني: اختلاف الدار الذي هو الوطن، هل هي دار كفر أم هي دار إسلام وإيمان؟ وكذلك بالنظر إلى ملة الوارث والمورث، وقد ذكرناه كذلك. المانع الثالث: الرق، فلا يرث الرقيق؛ لأن ما يملكه ملك لسيده، فلو مات الحر أو مات السيد قوم العبيد، أو وزع العبيد على التركة، ووزع العبيد على الوارثين، وبالتالي لا يرث العبد سيده؛ لأنه في ذاته مال متقوم لسيده، وسبب الميراث لم يقم بين السيد والمورث، فلا وجه لتوريثه من ملكه. المانع الرابع: القتل، كأن يقوم الوارث بقتل مورثه اعتداء وعدواناً بغير حق، أو استعجالاً لانتقال الميراث إليه، فإنه يعاقب بالحرمان من الميراث فضلاً عن القصاص؛ ولذلك من أعظم أسباب منع انتقال التركة إلى الوارث: القتل، أي: قتل الوارث مورثه، وقد جاء في المادة الخامسة من قانون الميراث -وهو قانون في الغالب على مذهب الأحناف-: من موانع الإرث: قتل المورث عمداً، سواء كان القاتل فاعلاً أصلياً أم شريكاً أم كان شاهد زور أدت شهادته إلى الحكم بالإعدام وتنفيذه، وهذا إذا كان القتل بلا حق ولا عذر، وكان القاتل عاقلاً بالغاً له من العمر خمس عشرة سنة. وهذا كلام جميل، وأصل هذا الكلام كله من حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يرث القاتل شيئاً)، وحديث: (ليس لقاتل ميراث) , وفي رواية: (لا ميراث لقاتل).

شروط القتل الذي به يحصل منع الإرث

شروط القتل الذي به يحصل منع الإرث لكن ليس كل قتل يمنع به الوارث من الميراث، بل لابد من شروط تتوفر في القتل: الشرط الأول: أن يكون القتل عمداً، يعني: أن تتوجه إرادة القاتل وقصده إلى إزهاق روح المقتول، وعليه القتل الذي يؤثر في الميراث هو القتل العمد، أما الخطأ فلا يؤثر على انتقال الميراث إلى صاحبه. فمثلاً: شخص صوب سلاحه نحو عصفور أو حمامة واقفة بجوار صاحب ما، فلم تتوجه إرادته قط لقتل هذا الرجل، لكنه في العادة -كما يفعل غيره من الصيادين- إنما أراد قتل هذا العصفور أو الحمامة أو هذا الطير، فخطأ انحرفت يده، أو أسرع هذا الرجل من مكانه جهة السهم أو جهة الرصاصة فمات، فهذا قتل خطأ. كذلك: رجل أصيب بما يسميه العامة بغصة في أثناء الطعام، فقال لولده: اضرب على ظهري، فضربه على ظهره فمات، فهذا أيضاً قتل خطأ لا يمنع من الميراث. إذاً: مدار البحث عندنا في القتل العمد. أيضاً: رجل كبير في السن أو امرأة كبيرة في السن معها ابنتها أو معها ابنها أو ابن ابنها أو غير ذلك من أصحاب الفرائض -وسنذكرهم وأوقات ورثهم- فهذا الشاب أو تلك الفتاة تعجلت قتل أمها، أو تعجل الولد قتل أبيه ليرث، فإما أن يكون إثبات هذا القتل بأنه عمد بإقرار القاتل، أو بشهادة الشهود إذا كان الشهود قد رأوه وهو يقتل ولم يرهم، أو غير ذلك من أدلة الإثبات، فحينئذ يمنع هذا من الميراث، ويجب عليه القصاص، ويستوي في العمد أن يكون القاتل هو الفاعل الأصلي، أي: الذي باشر فعل القتل والضرب حتى الموت وإزهاق الروح، فيستوي في ذلك أن يكون الفاعل أصلياً، أو يكون شريكاً فيه، مثل ما أنك تريد أن يموت أبوك، فتقول لأحد أصحابك: ما رأيك أن نأتي به على شرفة، ثم ننظر الوقت المناسب لقتله، فيجتمع على موت هذا الرجل اثنان أو ثلاثة أو أربعة أو عشرة أو مائة أو بلد أو قرية بأسرها، فهؤلاء جميعاً شركاء في الجريمة، ويجب أن يقادوا به، والولد معهم؛ لأنه يستوي أن يكون فاعلاً أصلياً لذاته، أو أن يكون شريكاً مع غيره، أو حتى أن يكون شاهد زور ترتب على هذه الشهادة حكم القاضي بالإعدام على هذا الرجل، وتم تنفيذ الحكم. الشرط الثاني: أن يكون القاتل في حال القتل مكلفاً، أي: أن يكون عاقلاً بالغاً، وقد اختلف أهل العلم في العقل وخاصة في البلوغ، فمنهم من اعتبر السن في البلوغ، ومنهم من اعتبر العلامات والأمارات في البلوغ. فمثلاً قالوا: حد البلوغ عند الولد على خلاف بينهم وكذلك البنت من اثنتي عشرة سنة إلى ست عشرة سنة، على اختلاف بين أهل العلم، هذا إذا نظرنا إلى البلوغ من جهة السن. أما من جهة الأمارات والعلامات فقالوا: البلوغ عند البنت إنما يكون بإنبات الشعر عندها تحت الإبط وفي العانة، وكذلك الحيض، وأما البلوغ عند الولد فبنزول المني، وبظهور شعر عانته، وبظهور شعر إبطه، واختلفوا في بقية العلامات. وعلى أية حال الشرطان اللذان تم الاتفاق عليهما، وما قبل هذين الشرطين يعد حدثاً من الأحداث لا يؤاخذ بالجناية، وإنما يؤاخذ بأقل من ذلك. واختار قانون الأحوال الشخصية فيما يتعلق بالأسباب المانعة من الميراث في القتل: أن يكون القاتل قد بلغ من العمر خمسة عشر عاماً، يعني: قبل هذا السن لا يعد جناية؛ لأنه حدث، وما بعد هذه السن ولو بلحظة يعد جناية؛ لأنه بالغ ومكلف وعاقل، فما الذي يجعله يقدم على هذا الفعل؟ وأما الحيل المؤدية إلى الحرام فهي حرام في الشرع، مثل أن يعمد وارث إلى قتل مورثه لا عن طريقه هو، لكن عن طريق تسليط الحدث على قتل المورث، كأن يقول شخص لابنه: اذهب فاقتل جدك، والولد عمره مثلاً عشر سنوات، فإن قتله فإن أباه يمنع من الإرث. وأما الابن فإنه محجوب بالأب إذا كان حياً. أما لو كان الأب ميتاً فإن الولد يحجب لو كان له أعمام. لكن لو أن الجد حي والأب مات وعنده أولاد، فإن الأولاد تحجب من ميراث الجد من أجل أعمامهم، أي: لوجود أولاد آخرين للجد. كأن يموت رجل، وترك أبناءً ذكوراً وإناثاً، وترك أبناء ابن ذكوراً وإناثاً، ففي هذه الحالة هؤلاء الأبناء الذين مات أبوهم في حياة جدهم يرثون من الجد تحت باب الوصية الواجبة، والوصية الواجبة تختلف عن مطلق الوصية. إذاً: أبناء الابن الذين مات والدهم يرثون من الجد تحت ما يسمى بالوصية الواجبة، وبالتالي لا يحجبون بالأعمام، وهل هناك أحد يقضي بهذا في هذه القضية؟ فإن قتل الولد أباه، وهذا الولد عمره أربعون سنة؛ لكنه مجنون، فإنه يرث؛ لأن الجنون علة مانعة من لحوق الإثم والقصاص؛ فكان قتله كأن لم يكن. ولا بد يا إخواني أن نتعلم الفرائض؛ لأن هذه وصية النبي صلى الله عليه وسلم، بل هي أمره؛ ولذلك ذهب بعض أهل العلم إلى وجوب تعلم الفرائض؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (تعلموا الفرائض وعلموها الناس)، وفي رواية ابن مسعود قال: (تعلموا الفرائض، والطلاق، والحج؛ فإنه دينكم)، والحديث عند الدارمي. والميراث في اصطلاح الفقهاء: هو استحقاق ما خلفه الميت من مال أو حق لسبب من أسباب الميراث الشرعية. والحق إما أن يكون ديناً

أركان الإرث

أركان الإرث الأول: المورث، أي: الميت، وبالتالي فالذي يوزعه الأب على أبنائه قبل وفاته لا يسمى ميراثاً، وإنما يسمى عطية، أو منحة، أو هبة، أو غير ذلك. أما الميراث فهو ما خلفه الرجل بعد وفاته. ولذلك يلزم الأب أو يلزم الرجل صاحب المال أن يوزع على أبنائه المال بالسوية، ذكوراً كانوا أم إناثاً، ولا يقل: أنا سأعطي ولدي هذا شقة أربع غرف، وذاك شقة أربع غرف، ولهذه شقة فيها غرفتان؛ لأنها بنت؛ لأنك بذلك تعطي منحة ونحلة وهبة ولا تعطي ميراثاً، إذ الميراث ليس من حكمك ولا من شأنك، إنما هو من شأن الورثة بعد موتك، إنما أنت توزع الآن في حياتك؛ فعليك أن توزع بالسوية بين الأبناء جميعهم، ذكوراً كانوا أم إناثاً، فتعطي الولد عشرة آلاف، وتعطي البنت كذلك عشرة آلاف، وليس خمسة؛ لأن هذا ليس ميراثاً. وهذا بغض النظر عن الولد إن كان عاصياً أم باراً بوالده؛ لأن الوالد لابد أن يعتقد أن الله تبارك وتعالى عنده من العذاب ما هو أشد وأبقى لهذا العاصي، وقادر على أن ينتقم من هذا العاصي لوالده، فاتركه لله عز وجل: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64]. ولذلك حين فرض الله تبارك وتعالى هذه المواريث وحدها كان يعلم أن من الأبناء عصاة وطائعين، ومع هذا لم يفرق سبحانه وتعالى بين هؤلاء وهؤلاء، فقد كان يعلم أن من الأبناء من يأخذ مالاً ليتعلم به ويتزوج به ويبني به بيتاً، ويعلم أن بقية الأبناء إنما يعملون في الأرض بالليل والنهار، ولا حظ لهم إلا أن يعملوا، ومع هذا جعل القسمة على وتيرة واحدة. وإن كان الإمام أحمد بن حنبل عليه رحمة الله له مذهب في هذا، فقد قال: إذا أنفق الوالد على ولده مالاً حتى زوجه وبنى له داراً، ولم يكن ذلك لأخيه الصغير أو الأصغر، فإذا مات الأب كان للورثة أن يقيِّموا أو يقدروا للصغير الذي لم تبن له دار ولم يتزوج مقدار ما قد أخذه أخوه، ثم تقسم التركة عليهم، وهذه فتوى إمام، فلك أن تأخذ بها، أما مذهب الجمهور فيختلف عن ذلك. إذاً: وفاة المورث -الذي هو الميت- فيثبت لدينا أن فلاناً مات وترك ميراثاً أو تركة، سواء مات موتاً حقيقياً، بأن مات أمام أعيننا وغسلناه وصلينا عليه وكفناه ودفناه، أو مات موتاً حكمياً، كرجل فقد في الحرب في ظروف غامضة مثلاً لمدة اختلف فيها أهل العلم، لكن قانون الأحوال الشخصية أخذ بأحد المذاهب، وحدد مدة الفقد بأربع سنوات، وهذا لا يصلح أن ينطبق على رجل ترك امرأته وسافر مثلاً إلى العراق أو السعودية أو أمريكا أو إلى أي بلد، وقعد هناك أربع أو خمس سنين، فتقوم الزوجة وتذهب إلى المحكمة وتطالب باستخراج شهادة بموت زوجها حكماً من أجل أن تتزوج، فهذا لا يصلح نهائياً. أتعلمون أنه إلى الآن هناك أناس من عام (1973م) أُخرجت لهم شهادات بالفقد أو بالموت حكماً بعد أربع سنوات، ثم رجعوا إلى بيوتهم بعد هذه الفترة الطويلة. ومن ذلك: أن أناساً في حرب (1967م) أسروا واستطاعوا الهروب والفكاك من السجن في أثناء حرب (1973م)، فقدم أحد الناس حتى وصل إلى قرية بجوار قريتي، ووصل في وقت متأخر من الليل، أو لعله تعمد الدخول إلى بلده في وقت متأخر، فطرق الباب ففتحت له أخته، ثم أرادوا أن يناموا، ولم يخبروا الأب حتى الصباح، وهذه حادثة ذكرت في الصحف والمجلات والجرائد- فلما قام الأب في الصباح ليصلي الفجر؛ وجد رجلاً أجنبياً بين بنتيه فقتله، حادث مؤلم جداً؛ ولذلك هذا الحادث أقض مضاجع جميع أهل القرى المجاورة، فكان كل واحد منهم يفكر لو أن ولده هو الذي رجع الذي قد بلغه أنه قد قتل في 1967م، يقول: يمكن أن يكون مفقوداً، وأحبوا أن يريحوني ويطمنوني في هذه المسألة فقالوا: إنه قتل. فكل إنسان رجع لنفسه الأمل أن ولده ممكن يرجع له في يوم من الأيام، أو زوجها ممكن يرجع لها في يوم من الأيام، فقال: قبل أن أقتل أتأكد أنه المفقود. إذاً: فلا بد أن يكون هذا الموت إما حقيقياً أو حكمياً. الثاني: وجود الوارث؛ لأن السلطان يرث من لا وارث له، والسلطان يعني: بيت مال المسلمين. والوارث هو: من قام بينه وبين المورث سبب من أسباب الميراث، وستأتي معنا أسباب الميراث. الثالث: التركة، فلو مات مورث وعنده مائة يرثونه، ولم تكن له تركة، فهل يكون هناك مجال للميراث؟ والتركة هي الميراث أو الموروث، ويقصد به: كل ما تركه المورث من الأموال، كما أنه يشمل الحقوق القابلة لأن تورث، كحق مرهون لتحصيل دين.

شروط الإرث

شروط الإرث أولاً: تحقق موت المورث حقيقة أو حكماً كما سبق، وهناك موت يسمى الموت التقديري، وهو موت الجنين الذي يسقط من بطن أمه بجناية عليها. كأن ضرب ابن أمه على بطنها وهي حامل فسقط الجنين ميتاً، فهذا ليس بميت حقيقة قبل نزوله، ولا ميت حكماً، وإنما يسمى موته موتاً تقديرياً، والقانون المصري لم يعترف بهذا النوع، ولم يعتبر هذا النوع من القتل أو الموت؛ ولذلك لم يذكره. أما الشرع فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا استهل الصبي؛ صلي عليه ووُرِّث)، يعني: إذا نزل الجنين من بطن أمه وصرخ، والحكمة من الصراخ أو الاستهلال حتى يتحقق من حياته؛ لأنه لو نزل ميتاً لا ميراث له، أو لو مات في بطن أمه ونزل فلا ميراث له. أما لو نزل ثم مات فإنه يرث؛ لظاهر الحديث: (إذا استهل الصبي؛ صلي عليه ووُرِّث)، وميراثه لورثته. فإن ورث من أمه ثم مات فإن أباه يرثه. إذاً: ميراث الصبي تماماً كميراث رجل بلغ الستين عاماً. ثانياً: تحقق حياة الوارث عند موت المورث، حقيقة أو تقديراً، فالجنين في بطن أمه له حياة تقديرية، فإذا مات أبوه وله إخوة -أي: هذا الجنين- فإننا سنقدر أن هذا الحمل حي، فإما أن يتم توزيع التركة على اعتباره ذكراً، ويخصم له حظه ونصيبه، فإن كان أنثى خصم منه النصف الثاني أو مقدار الزيادة ووزعت على بقية الورثة، وهنا تقسم التركة على اعتباره أنثى، فإن كان ذكراً أخذ من أنصباء الورثة ما يوازي نصيب الذكر من كل واحد، ثم يعطى لهذا الجنين حظه كاملاً. وفي القانون: يجب استحقاق الإرث عند تحقق حياة الوارث وقت موت المورث، أو وقت الحكم باعتباره ميتاً، ويكون الحمل مستحقاً للإرث إذا توفر فيه ما نُص عليه في المادة كذا وكذا. وتطبيقاً لهذا الشرط فإذا مات الثاني ولم نعلم أيهما مات أولاً؛ فلا استحقاق لأحدهما في تركة الآخر، سواء كانا موتهما في حادث واحد أم لا. أليس الولد يرث أباه، والأب يرث ولده؟ لكنهما ماتا في حادث سيارة أو طائرة، ونحن لم نعلم أيهما مات قبل الآخر، فإنه لا استحقاق لأحدهما في تركة الآخر، لكن لو اتضح لنا أن أحدهما مات قبل الآخر بدقيقة واحدة؛ ثبت الميراث بينهما، بمعنى: يرث الذي مات مؤخراً الذي مات مقدماً عليه بدقيقة، يعني: لو أننا نظرنا إليه يلفظ أنفاسه ثم تبع الروح البصر، ثم نظرت إلى الثاني ففعل ذلك؛ كان الثاني هذا وارثاً لذلك الذي مات قبله بدقيقة واحدة، وإن كان أقل من ذلك؛ لأنه تحقق لدينا موت أحدهما أولاً، ثم موت الآخر؛ فيرث الآخر من الأول، ولا إشكال في ذلك. لكن القضية التي نحن بصددها: إذا مات مورث ووارث في حادث أو في وقت لا نعلم أيهما مات أولاً؛ فلا ميراث بينهما، كأن ذهب ولد إلى المكان الفلاني وأخوه ذهب إلى المكان الآخر مثلاً، فأتانا الخبر أن هذا مات يوم الأربعاء في صلاة الظهر، والثاني مات أيضاً في يوم الأربعاء في صلاة الظهر، فإننا سنتحقق متى كان حصول الموت؟ في الساعة كم؟ في الدقيقة كم؟ حتى نعرف أيهما مات أولاً، وبالتالي نورث الأخير من الأول، وإذا لم يثبت فلا توارث بينهما، والتركة ستكون لبقية الورثة. أما هذان بالذات فلا توارث بينهما ما داما قد ماتا في وقت واحد، أو خفي علينا أيهما أسبق موتاً من صاحبه. ثالثاً: ألا يوجد في واحد من الورثة مانع من موانع الإرث التي ذكرناها.

أسباب الميراث

أسباب الميراث السبب في اللغة: ما يتوصل به إلى غيره. وفي الشرع: هو ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم لذاته. وفيما يلي نذكر هذه الأسباب: السبب الأول: النكاح، نقصد به عقد زواج صحيح؛ حتى لا يترتب على عقد الزواج الفاسد أو الباطل آثار، فإن وقع الطلاق بعد الزواج الصحيح فإن كان معقوداً عليها فليس لها إلا طلقة واحدة وتبين بينونة كبرى، فإذا أراد زوجها أن يراجعها فبمهر جديد وبعقد جديد، يعني: يتزوجها زواجاً جديداً بمهر وعقد جديدين، ويبقى لها عنده طلقتان، أو واحدة إذا كان قد طلقها مرة ثم طلقها بعد زواجه مرة أخرى. أما إذا كان الطلاق بائناً فلا توارث بينهما بعده، أي: إذا كان الطلاق بائناً بينونة كبرى، أو بينونة صغرى، بمعنى: أن المرأة طلقت طلاقاً أولياً أو ثانياً، ثم انتهت عدتها؛ فهذا يسمى طلاقاً بائناً بينونة صغرى، وبالتالي فإنها تحل لزوجها الذي كانت معه بمهر جديد وعقد جديد. أما المرأة المطلقة طلاقاً بائناً بينونة كبرى، يعني: طلقت ثلاث طلقات، ثم انقضت عدتها من الطلقة الثالثة؛ فإنها تحل لغيره، ولا تحل له إلا إذا تزوجت بغيره، ثم طلقت طلاقاً طبيعياً بغير اتفاق ولا تحليل، وأراد زوجها الأول أن يراجعها، أو يتزوجها زواجاً جديداً بثلاث طلقات؛ فيجوز ذلك، يعني: له عليها طلقات ثلاث جدد. أما إذا كان الطلاق بائناً فلا توارث بينهما بعده، إلا إذا كان المطلق قد أوقع الطلاق فراراً من ميراث زوجه، بأن أوقعه في مرض موته دون أن يطلبه الآخر، وأنتم تعرفون أن هذا الأمر يحصل كثيراً، فقد يقوم الرجل بتطليق زوجته لأجل حرمانها من الميراث: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} [النساء:12]. فلابد أن يكون طلاقاً لا يقصد به إلحاق الضرر؛ ولذلك إذا أوصى شخص مثلاً بكل أمواله فلا تنفذ هذه الوصية؛ لأن الوصية لا تحل له إلا في ضمن الثلث، ولا تجوز بالزيادة على الثلث إلا بإجازة الورثة، فلا تنفذ هذه الوصية إلا في حدود الثلث رغماً عن الورثة، وفيما زاد عن الثلث لا تنفذ إلا بإرادة وموافقة الورثة، وإلا فلا نفاذ لها. فهذا الرجل يطلق امرأته في مرض موته لأجل الإضرار بها وحرمانها من الميراث، فإن ماتت الزوجة قبله بعد هذا الطلاق لم يرثها، بينما هي بنفسها ترث إذا مات وهي حية، وهو لا يرثها؛ معاملة له بقصده الذي كان قد قصده. أما إذا مات قبلها فإنها ترثه رغم أنها مطلقة، لكنها مطلقة أولاً بقصد الضرر. ثانياً: مات وهي لا تزال في العدة، وأنتم تعلمون أن المرأة في العدة لها حق الميراث. أما إذا مات قبلها فإنها ترثه ما لم تنقض عدتها؛ معاملة له بنقيض قصده، ومن ثم جاءت المادة الحادية عشرة من القانون: وتعتبر المطلقة طلاقاً بائناً في مرض الموت في حكم الزوجة إذا لم ترض بالطلاق، يعني: إذا رضيت سقط حقها في الميراث، وإذا لم ترض وأثبتت أن هذا الطلاق إنما تم لأجل الإضرار بها؛ فإنها زوجة وترث. السبب الثاني: الولاء بين المالك وبين من أعتقه من عبيده، حيث يرث الأول الثاني، يعني: أن المالك هو الذي يرث العبد. ومعلوم أن الرق قد ألغي وحرم قانوناً؛ لأنه لا بد أن تعلموا أن هناك قاعدة: ما دام أنه لا يوجد جهاد إذاً فليس هناك رق نهائياً. وقد ورد في متن الرحبية أسباب ميراث الورى فقال: أسباب ميراث الورى ثلاثة كلٌ يفيد ربه الوراثة وهي نكاح وولاء ونسب ما بعدهن للمواريث سبب أي: ليس هناك سبب رابع. وبهذا تنتهي أيضاً المقدمة في موانع الإرث، ومعنى الميراث وأسباب الميراث. وإن شاء الله في الدرس القادم يكون لنا مقدمة أيضاً في أصحاب الفرائض والعصبات. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

كتاب الحج - ما يباح للمحرم بحج أو عمرة وما لا يباح وبيان تحريم الطيب عليه

شرح صحيح مسلم - كتاب الحج - ما يباح للمحرم بحج أو عمرة وما لا يباح وبيان تحريم الطيب عليه شرع الله سبحانه وتعالى للمحرم لباساً خاصاً بالإحرام، وحرم عليه أنواعاً من الملابس التي لا تناسب هذه العبادة العظيمة، والتي ينبغي أن يظهر المسلمون فيها على مستوى واحد، لا فرق بين غنيهم وفقيرهم، وشريفهم ووضيعهم إلا بقدر ما عند أحدهم من التقوى والقبول عند الله عز وجل.

باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة وما لا يباح، وبيان تحريم الطيب عليه

باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة وما لا يباح، وبيان تحريم الطيب عليه الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ثم أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة. أما بعد: لقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم ما يجوز للمحرم أن يلبسه وما لا يجوز عندما سئل: (ما يلبس المحرم من الثياب يا رسول الله؟! قال: لا تلبسوا القمص، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا البرانس، ولا الخفاف). والبرنس: هو كل ثوب متصل بغطاء الرأس، مثل الجاكت الذي له طربوش يوضع على الرأس، وهذا هو الغالب في ثياب العرب، وثياب المغرب والجزائر وتونس وغيرها مرتبطة بغطاء الرأس إلى هذا اليوم. قال: (ولا البرانس ولا الخفاف)، يعني: لا يجوز للمحرم أن يلبس خفاً. (إلا ألا يجد النعلين)، فحينئذ يلبس الخف، ولكن (ليقطعهما أسفل من الكعبين). ثم تكلم عن الطيب فقال: (ولا تلبسوا من الثياب شيئاً مسه الزعفران ولا الورس). وهما نوعان من أنواع الطيب.

شرح حديث ابن عمر فيما يلبسه المحرم

شرح حديث ابن عمر فيما يلبسه المحرم قال المصنف رحمه الله تعالى: [وحدثنا يحيى بن يحيى وعمرو الناقد وزهير بن حرب كلهم عن ابن عيينة - سفيان - قال يحيى أخبرنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن سالم عن أبيه رضي الله عنه قال: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم ما يلبس المحرم؟)]. والإسناد الأول من رواية نافع عن ابن عمر، وهنا من رواية سالم عن أبيه ابن عمر. قال: [(ما يلبس المحرم؟ قال: لا يلبس المحرم القميص، ولا العمامة، ولا البرنس، ولا السراويل، ولا ثوباً مسه ورس ولا زعفران، ولا الخفين، إلا ألا يجد نعلين فليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين). حدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن يلبس المحرم ثوبا مصبوغاً بزعفران أو ورس، وقال: من لم يجد نعلين فليلبس الخفين، وليقطعهما أسفل من الكعبين)].

شرح حديث ابن عباس فيما يلبسه المحرم

شرح حديث ابن عباس فيما يلبسه المحرم قال: [حدثنا يحيى بن يحيى وأبو الربيع الزهراني وقتيبة بن سعيد جميعاً عن حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن جابر بن زيد عن ابن عباس]. وجابر بن زيد هو أبو الشعثاء الأزدي البصري مشهور بكنيته، ثقة فقيه، معروف بكنيته دون اسمه. [عن ابن عباس رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب يقول: (السراويل لمن لم يجد الإزار، والخفان لمن لم يجد النعلين)، يعنى: المحرم]. وفي حديث ابن عباس هذا لم يذكر شرط قطع الخفين، وذكره في حديث عبد الله بن عمر ولا تعارض بين الحديثين؛ لأن حديث ابن عباس مطلق، وحديث ابن عمر مقيد ذلك بالقطع، فيحمل المطلق حينئذ على المقيد، والمحرم لا يجوز له أن يلبس شيئاً فوق الكعبين، والخف يكون إلى فوق الكعبين، وهو يغطي موضع الوضوء من القدم، والنعل: إنما هو شيء يطؤه اللابس بقدمه مرتبط بأعلى قدمه -أي: بظهر القدم- بسيرين أو أكثر من ذلك. والفرق بين الخف والنعل: أن النعل: لا يغطي الكعبين ولا العقب، والخف يغطيهما، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: إذا لم يكن معه نعل ومعه خف فليقطع الخف حتى يكون أسفل من الكعبين، والكعبان هما: العظمتان الناتئتان في أول القدم في أول الساق من جهة الأسفل، فالذي ليس معه نعل ومعه خف حتى يكون مثل النعل أو شبيهاً بالنعل ويلبسه، حتى يظهر مؤخرة قدمه كما يظهر العقب من النعل. فـ (السراويل لمن لم يجد الإزار، والخفان لمن لم يجد النعلين). وهذه المسألة يتعرض لها كثير من الناس، فتجد الواحد يسافر ومعه ملابس الإحرام، والإزار والرداء والنعل وكل ذلك، ثم في المطار ينسى فيدخل الملابس إلى مخزن الطائرة، ولا يمكنه في هذه الحالة أن يحصل على ملابسه مرة أخرى فوق الميقات، والذين في الطائرة لن يبيعوا له ملابس الإحرام، ومن مر على الميقات دون إحرام فإما أن يرجع مرة أخرى إلى المقيات، وإما أن يحرم من أي مكان بعد المقيات وعليه دم، ففي هذه الحالة يجوز له أن يلبس السروال بدلاً من الإزار بشرط أن يلبس الإزار إذا تمكن منه ويخلع السروال، والذي لا يقدر على النعل يلزمه على الفور قطع الخف ولبسه. قال: [حدثنا محمد بن بشار -وهو المعروف بـ بندار - حدثنا محمد بن جعفر -وهو المعروف بـ غندر - وحدثنا أبو غسان الرازي -وهو محمد بن عمرو بن بكر الرازي المعروف بـ زنيج - حدثنا بهز -وهو ابن أسد العمي - قالا جميعاً -يعني: بهز بن أسد العمي ومحمد بن جعفر غندر كلاهما- حدثنا شعبة عن عمرو بن دينار بهذا الإسناد]،: يعني: عمرو بن دينار عن جابر بن زيد عن ابن عباس. قال: [أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يخطب بعرفات فذكر هذا الحديث. وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا سفيان -وهو ابن عيينة -، (ح) وحدثنا يحيى بن يحيى أخبرنا هشيم -وهو ابن بشير السلمي الواسطي - (ح) وحدثنا أبو كريب -وهو محمد بن علاء الهمداني - حدثنا وكيع -وهو ابن الجراح الرؤاسي الكوفي - عن سفيان]. وإذا قال وكيع: عن سفيان، فهو سفيان الثوري، وكلاهما كوفي. قال: [(ح) وحدثنا علي بن خشرم أخبرنا عيسى بن يونس عن ابن جريج، (ح) وحدثني علي بن حجر حدثنا إسماعيل -وهو ابن علية - عن أيوب، كل هؤلاء] أي: كل من سفيان بن عيينة وهشيم بن بشير وسفيان الثوري وابن جريج وأيوب. قال: [عن عمرو بن دينار بهذا الإسناد -أي: عن جابر بن زيد عن ابن عباس - ولم يذكر أحد منهم -أي: من هؤلاء الخمسة- يخطب بعرفات غير شعبة وحده]. وشعبة في الإسناد السابق يروي عن عمرو بن دينار عن جابر بن زيد عن ابن عباس أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يخطب بعرفات، وأما هؤلاء الخمسة فإنهم رووا نفس الحديث عن ابن عباس ولم يذكروا فيه أن ذلك كان بعرفات، فهذا من باب زيادة الثقة، ولا خطأ في هذه المسألة عند المحدثين.

شرح حديث جابر بن عبد الله فيما يلبسه المحرم

شرح حديث جابر بن عبد الله فيما يلبسه المحرم قال: [وحدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس حدثنا زهير -وهو زهير بن معاوية بن حديج - حدثنا أبو الزبير -وهو محمد بن مسلم بن تدرس المكي - عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يجد نعلين فليلبس خفين، ومن لم يجد إزاراً فليلبس سراويل)]. ولم يبين شرط القطع في الخفين كما في حديث عبد الله بن عمر، فيحمل المطلق على المقيد، ويخرج من الخلاف.

شرح حديث يعلى بن أمية فيما يلبسه المحرم

شرح حديث يعلى بن أمية فيما يلبسه المحرم قال: [حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا همام]، وهو ابن يحيى بن دينار العوذي البصري، وهو ثقة في العموم، وابن جريج ثقة في العموم، لكن إذا روى همام عن ابن جريج -وكلاهما أخرج له مسلم - فلا يكون هذا الإسناد على شرط مسلم؛ لأن همام بن يحيى العوذي ضعيف في ابن جريج خاصة، فلو جاء همام عن ابن جريج في إسناد فاعرف أن هذا الاسناد لا يمكن أن يكون في صحيح مسلم، وإن كان مسلم روى لكليهما واحتج بهما، ولكن ليس من رواية أحدهما عن الآخر. قال: [حدثنا عطاء بن أبي رباح -وهو تابعي- عن صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة -والجعرانة: اسم مكان قبل مكة بستة عشر كيلو متر- عليه جبة وعليها خلوق -يعني: طيب من زعفران اسمه خلوق بفتح الخاء- أو قال: أثر صفرة]. يعني: كان متضمخاً ومتخلطاً بالطيب، ولكثرته كانت له علامات وآثار في ثيابه صفراء. قال: [فقال: كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي؟ قال: وأنزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي، فستر بثوب]. يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجبه على سؤاله؛ لأن الوحي نزل عليه عليه الصلاة والسلام بمجرد أن سئل هذا السؤال، وكان إذا نزل عليه الوحي عليه الصلاة والسلام ستره أصحابه بثوبه. قال: [وكان يعلى يقول: وددت أني أرى النبي صلى الله عليه وسلم وقد نزل عليه الوحي، قال: فقال: أيسرك أن تنظر إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقد أنزل عليه الوحي؟]. وهذا الحديث لم يبين من قال ذلك لـ يعلى بن أمية، ولكن الروايات التي تلت هذه الرواية بينت أن القائل لـ يعلى بن أمية هذا الكلام هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعمر هو الذي ستر النبي عليه الصلاة والسلام بثوبه. قال: [فرفع عمر طرف الثوب -أي: الذي ستر به النبي عليه الصلاة والسلام- فنظرت إليه له غطيط]، أي: نظر يعلى بن أمية من تحت طرف الثوب إلى النبي عليه الصلاة والسلام وله غطيط، والغطيط: هو النفس الذي يتردد ويتحشرج في صدر المرء. قال: [وأحسبه قال: كغطيط البكر]. والبكر: هو الفتي من الإبل، فقد كان يصدر من النبي عليه الصلاة والسلام صوتاً حين ينزل عليه الوحي -وهذا من شدة الوحي عليه- يشبه صوت الفتي من الإبل. قال: [فلما سري عنه -أي: فلما كشف عنه الكرب، ورجع إلى ما كان عليه قبل نزول الوحي- قال: (أين السائل عن العمرة)]. والتقدير: أن السائل قال: هأنذا يا رسول الله! فقال النبي عليه الصلاة والسلام: [(اغسل عنك أثر الصفرة). يعني: هذا اللون والطيب الذي أثر في ثوبك، أو قال: (أثر الخلوق، واخلع عنك جبتك -وهو نوع لباس يشبه القميص- واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك)]. وكأن هذا الرجل كان يعلم كيف يحج، وكأنه قد حج من قبل مفرداً؛ لأن المتمتع والقارن كلاهما يعتمر أولاً، فالمتمتع يعتمر ثم يخلع ملابس الإحرام حتى يحج، والعمرة دخلت في الحج إلى قيام الساعة، والمفرد لا يلزمه العمرة، ولذلك سمي مفرداً؛ لأنه أفرد الحج بالنسك، فهذا الرجل كأنه حج من قبل مفرداً ويعلم كيف يحج، ولكنه لم يعتمر، فظن أن العمرة في هيئتها ووقتها تختلف عن الحج، ولذلك قال النبي عليه السلام: (اغسل عنك أثر الصفرة، واخلع عنك الجبة، واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك). ولم يسأله عن كيفية الحج؛ لأنه سبق أن حج، أو أنه يعلم ما قد فرض عليه في الحج، فأحاله النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما هو معلوم لديه، ولكنه بين له ما وقع فيه من محرمات، وهي أنه لبس الجبة وتطيب بعد أن أحرم من الميقات، وكلاهما يحرم على المحرم. قال: [وحدثنا ابن أبي عمر -وهو محمد بن يحيى العدني نزيل مكة- قال: حدثنا سفيان]، وإذا قال ابن أبي عمر: حدثنا سفيان فإنما هو ابن عيينة، وابن عيينة من علماء مكة، وذاك عدني من عدن ونزل مكة، فطبيعي أنه يروي عن سفيان بن عيينة المكي. قال: [عن عمرو]. والقاعدة أنه إذا حدث سفيان عن عمرو فـ سفيان هو ابن عيينة، وعمرو هو ابن دينار المكي. قال: [عن عطاء -وهو ابن أبي رباح - عن صفوان بن يعلى عن أبيه -وهو يعلى بن أمية - قال أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل وهو بالجعرانة وأنا عند النبي صلى الله عليه وسلم وعليه مقطعات، يعنى: جبة

معنى الحج والعمرة

معنى الحج والعمرة الحج بفتح الحاء هو المصدر لهذا الفعل، وبالفتح والكسر جميعاً هو الاسم منه، إما الحِج، وإما الحَج، فالحج يطلق على الاسم والمصدر، بخلاف الحِج فإنه يطلق على الاسم، وأصله -أي: أصل الحج- القصد، تقول: حججت البيت، أي: قصدت البيت للزيارة والنسك، ويطلق الحج كذلك على العمل، يعني: تأدية المناسك، فإذا رأيت رجلاً يرمي، أو يطوف بالبيت، أو يسعى بين الصفا والمروة، أو يبيت بمزدلفة، أو يقف بعرفة تقول: هذا يحج، وإذا رأيت رجلاً يرمي الجمار فإنك تقول: هذا يحج، يعني: يتنسك نسكاً من مناسك الحج، فكلمة الحج تطلق على الفعل، وعلى الإتيان مرة بعد أخرى. وأصل العمرة الزيارة، يعني: أصل كلمة عمرة في اللغة هي الزيارة.

حكم الحج والعمرة وشروط وجوبهما

حكم الحج والعمرة وشروط وجوبهما واعلم أن الحج فرض عين على كل مكلف، لا يؤديه عنه غيره إلا بشروط، فالحج فرض عين على كل أحد بشروط: أولاً: أن يكون مكلفاً؛ لأن العاجز ليس داخلاً في التكليف؛ لأن غير القادر على الحج ببدنه ليس مكلفاً بالحج، وعندما نقول: إن الحج فرض عين على الشخص، فهذا يعني: أنه يلزمه أن يذهب بنفسه لأداء نسك الحج، وأما المريض، أو الكبير في السن جداً الذي لا يستطيع أن يثبت على الراحلة فقد جاء في الحديث: (إن أبي لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه يا رسول الله؟! قال: حج عنه)؛ لأن كبر السن والعجز والضعف منعه من أن يقصد البيت بنفسه، وكذلك لا يكلف بالحج الصبي والمجنون. فالمكلف بالحج هو القادر على الإتيان به المستطيع له. ثانياً: أن يكون حراً غير عبد، فالعبد غير مكلف بالحج. ثالثاً: أن يكون مسلماً، وهو احتراز من حج الكافر؛ لأن الكافر لا يقبل منه الحج، والكافر مخاطب بفروع الشريعة على أرجح الأقوال وإن لم يقبل منه ذلك، إلا فريضة الحج؛ لأن (النبي عليه الصلاة والسلام نهى أن يجتمع في جزيرة العرب دينان). وفي رواية: (نهى أن يجتمع في جزيرة العرب أهل ملتين، ولا يكون فيها إلا أهل ملة الإسلام فقط). الشرط الرابع: أن يملك الاستطاعة، والاستطاعة كما جاء في حديث أبي هريرة: (هي الزاد والراحلة). وقد اختلف العلماء في وجوب العمرة فقيل: واجبة، وقيل: مستحبة، وللشافعي قولان فيها، أصحهما الوجوب.

عدد مرات الحج الواجب

عدد مرات الحج الواجب وأجمعوا على أنه لا يجب الحج ولا العمرة في عمر الإنسان إلا مرة واحدة، إلا أن ينذر المرء حجاً أو عمرة فهي واجبة بنذره، يعني: هو الذي أوجب ذلك على نفسه بالنذر، والشارع لم يوجبه عليه ابتداء؛ لأن الشرع إنما أوجبه عليه مرة واحدة، وقد فعل، ولكنه أوجب ذلك على نفسه بعد ذلك عن طريق النذر، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من نذر أن يطيع الله فليطعه). وهذا فعل أمر يدل على الوجوب لا يسع المرء أن يتخلف عنه.

حكم الحج والعمرة لمن دخل مكة لحاجة لا تتكرر

حكم الحج والعمرة لمن دخل مكة لحاجة لا تتكرر وإذا دخل مكة أو حرمها لحاجة لا تتكرر من تجارة أو زيارة ونحوهما ففي وجوب الإحرام بحج أو عمرة خلاف للعلماء، وهما قولان للشافعي أصحهما: استحبابه، والثاني: وجوبه بشرط ألا يدخل لقتال ولا خائفاً من ظهوره وبروزه، أي: إذا دخل مكة لأي غرض من أغراض الدنيا. الصواب: أنه لا يلزمه أن ينوي نسكاً، بل يستحب له ألا يدخل مكة إلا محرماً، أما إذا كان داخلاً لقتال فلا يلزمه أن يدخل محرماً.

الاختلاف في كون وجوب الحج على الفور أو التراخي

الاختلاف في كون وجوب الحج على الفور أو التراخي وبعد أن اتفق العلماء على أن الحج فرض عين، وقد ثبت فرضيته بكتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وإجماع أهل العلم، لكن بعد الاتفاق على فرضيته اختلفوا هل هو فرض على الفور أم على التراخي؟ واليوم العالم كله يعتبر الحج فرضاً على التراخي، فكل الناس وكل الجنسيات أول ما يتيسر لهم الحج بل ومن غير أن يتيسر يقصدون الحج مباشرة في موسم الحج والعمرة في رمضان إلا المصريين، يجلس أحدهم ستين سنة أو سبعين سنة ويقول: أزوج العيال أولاً، وإذا زوجهم أخذ هم طلاقهم، ثم يريد أن يبني البيت، وأن يضع الأموال في البنك، وفي النهاية يقول لك: صحتي لا تتحمل الحج. وفي حديث عبد الله بن عمر: (استمتعوا بهذا البيت قبل أن ينقض، فإنه نقض مرتين، وإذا نقض الثالثة فلا يرتفع). وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (يخرب هذا البيت ذو السويقتين من الحبشة، وكأني أنظر إليه ينقضها حجراً حجراً)، يعني: في المرة الثالثة التي تكون قبل قيام الساعة ينقض البيت الحرام حجراً حجراً، حتى الداخل إلى بيت الله الحرام لا يرى أثراً لمكان الكعبة، فكيف يطوف؟ وحول ماذا يطوف؟ وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من استطاع منكم أن يقصد البيت فليفعل، فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له). فقد اختلف أهل العلم هل الحج على الفور أو على التراخي؟ فقال الشافعي وأبو يوسف وطائفة: هو على التراخي، إلا أن ينتهي إلى حال يظن فواته لو أخره عنها، فإذا غلب على ظنه هذا لزمه على الفور. وتزويج الولد ليس فرضاً على الأب، ولكن الفرض عليه الحج، فهو صاحب المال، فلا يعطيه غيره وهو في أمس الحاجة إليه. والشرع لم يوجب على الولد أن يعطي والديه شيئاً إذا كان محتاجاً إليه. وقوله عليه الصلاة والسلام: (أنت ومالك لأبيه) محمول على أنه يدفع الفائض عن حاجته إلى والديه، وأما أن يعطي والديه من أصل ماله الذي يعيش عليه هو وأهل بيته وأولاده فإن الشرع لم يأمره بذلك قط. وقال: أبو حنيفة ومالك وآخرون: هو على الفور.

ما يحرم على المحرم لبسه وهو محرم

ما يحرم على المحرم لبسه وهو محرم ويقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الأول: (لا تلبسوا القمص، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا البرانس، ولا الخفاف، إلا أحد لا يجد النعلين فليلبس الخفين، وليقطعهما أسفل من الكعبين، ولا تلبسوا من الثياب شيئاً مسه الزعفران ولا الورس)، فقال فيه العلماء: هذا من بديع الكلام وجزله؛ فإنه صلى الله عليه وسلم: (سئل عما يلبسه المحرم فقال: لا يلبس كذا وكذا)، فحصل في الجواب أنه لا يلبس المذكورات، ويلبس ما سوى ذلك، وكان التصريح بما لا يلبس أولى؛ لأنه منحصر، وأما الملبوس الجائز للمحرم فغير منحصر، فضبط الجميع بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يلبس كذا ولا كذا)، يعني: ويلبس ما سواه، وأجمع العلماء على أنه يحرم عليه أن يلبس شيئاً من هذه المذكورات، فيحرم عليه أن يلبس القميص، أو العمامة، أو السروال -الذي هو البنطلون-، أو البرانس، أو الخفاف إلا إن لم يجد نعلين فليقطع الخفين من فوق حتى يشبهان النعل ويلبسهما حينئذ، ولا يلبس من الثياب ما مسه الزعفران أو الورس، يعني: ما مسه الطيب كذلك. ونبه عليه الصلاة والسلام بالقميص والسراويل على جميع ما في معناهما، وهو ما كان محيطاً أو مخيطاً معمولاً على قدر البدن أو قدر عضو منه، مثل الجوشن -أي: الفنيلة- والتبان -وهو الشرت- والقفاز -وهو الكفوف- فهذه يمنع للمحرم لبسها، وإن لبسها متعمداً عالماً بالحكم وجب عليه دم. ونبه صلى الله عليه وسلم بالعمائم والبرانس على كل ساتر للرأس، وكل ما يقوم مقامهما في ستر الرأس، مما هو في معنى العمامة والبرنس، وحتى العصابة حرام، فلا يجوز له أن يعصب رأسه بعصابة، ولا أن يلفها عليه، وإن اضطر إليها لشجة أو صداع أو غيرهما شدها ولزمته الفدية. ونبه صلى الله عليه وسلم بالخفاف على كل ساتر للرجل من مداس، وجورب وغيرها. والذي ليس معه نعل يقطع الخف ويلبسه، وكذلك يقطع الجزمة. وإذا تخرق الإزار أو الرداء وأراد المحرم أن يرقعه ويخيطه فله ذلك ولا حرج عليه؛ لأن هذا خيط ليس على قدر العضو، والإزار والرداء مصنوع من خيوط منسوجة بطريقة معينة متداخلة.

فتوى شيخ الشافعية في مصر للشافعية بلبس قفازين أثناء الطواف، وسبب فتواه بذلك

فتوى شيخ الشافعية في مصر للشافعية بلبس قفازين أثناء الطواف، وسبب فتواه بذلك يقول الشافعية: إن مس المرأة ينقض الوضوء، ولما يختلط الرجال والنساء في الطواف حول الكعبة أمرهم شيخهم وزعيمهم في مصر أن يلبسوا القفازين والجوارب أثناء الطواف؛ لأن الوضوء شرط لصحة الطواف؛ لأنه لو مس المرأة وإن كان على سبيل الخطأ أو السهو في الزحام لزمه الخروج من الطواف للوضوء، وهو في هذه الحالة سيخرج من الطواف مائة مرة، وممكن ألف مرة، وممكن أن يظل أسبوعاً في مكة يطوف بالليل والنهار ولا ينجو في طوفة من مس امرأة، فأفتاهم شيخهم بأن من أراد الطواف أن يلبس القفازين في يده، ويلبس الجوارب في رجله، وبعد ذلك لا يضره مس النساء له إلا إذا تحركت شهوته، وفي هذه الحالة يكون قد أخذ برأي الأحناف بأن مس المرأة لا ينقض الوضوء إلا إذا تحركت شهوته، وهو كلام صحيح متين، ومذهب الأحناف هو أصح المذاهب في هذه المسألة. وشرط صحة العمرة والإحرام أن لا يلبس هذا ولا ذاك.

حكم الطيب للمحرم

حكم الطيب للمحرم ونبه صلى الله عليه وسلم بالورس والزعفران على ما في معناهما، وهو الطيب، يعني: أي طيب يحرم على المحرم أن يتطيب به، فيحرم على الرجال والنساء جميعاً في الإحرام جميع أنواع الطيب، والمراد ما يقصد به الطيب. فلو أكل فاكهة لها رائحة فهذا لا يسمى طيباً، ولا ينهى عن هذا، وإنما الذي ينهى عنه المحرم هو الطيب الذي يقصد به التطيب، وأما الفواكه، أو الأطعمة، أو غير ذلك مما له رائحة فلا حرج أبداً على المحرم في أكلها، ولا شيء عليه في ذلك، لأنه لا يقصد بها الطيب أصلاً، وإنما القصد منها الطعام والشراب.

الحكمة من تحريم اللباس وغيره على المحرم

الحكمة من تحريم اللباس وغيره على المحرم قال العلماء: والحكمة في تحريم اللباس المذكور، -يعني: العمامة، والسراويل، وغير ذلك من المذكورات المنهي عنها- أن يبتعد عن الترفه والتنعم، ويتصف بصفة الخاشع الذليل، وليتذكر أنه محرم في كل وقت، فيكون أقرب إلى كثرة أذكاره، وأبلغ في مراقبته وصيانته لعبادته، وامتناعه من ارتكاب المحظورات والمعاصي، وليتذكر به الموت ولباس الأكفان، ويتذكر البعث يوم القيامة، حين يكون الناس حفاة عراة مهطعين إلى الداعي. فكل الناس؛ الغني والفقير والوزير والرئيس وغير ذلك من جميع طبقات الناس على اختلاف مستوياتهم في ذلك الموقف يلبسون إزاراً ورداء، ولا أحد يتميز عن أحد، فالناس في هذا الموقف سواسية أمام الله عز وجل، كما أنهم سواسية يوم القيامة، لا يفضل أحد على الآخر إلا بتقوى الله عز وجل، والعمل الصالح. والصلوات في جماعة خلف الإمام صورة مصغرة من هذا، فليس الصف الأول محجوزاً للكبار، ولا الثاني للعمداء، ولا الثالث للعقداء، فهذه لا توجد إلا في ضباط الجيش، ويكتبون على الجدار في كل مسجد كتيبة: تنبيه: ممنوع دخول أي عسكري مجند أو متطوع إلى الصف الأول في صلاة الجمعة؛ لأن هذا صف الضباط الكبار، وحتى ضابط الاحتياط يجلس في أي مكان إذا علم أن الضباط الكبار سيملئون المكان. وأنا مرة جلست خلف الإمام بعدما ترحلنا من التدريب، فجلست في مكان العميد؛ لأن الضباط يأتون وقت إقامة الصلاة أو في أثناء الخطبة، فغمز لي أحد الضباط أثناء الخطبة أن هذا مكان قائد الكتيبة، فسكت ولم أرد عليه، وبعد الصلاة وجدت حوالي خمسة عشر ضابطاً حولي، فذهبت إلى قائد الكتيبة فقال لي: لماذا جلست في هذا المكان؟ فقلت: وماذا في هذا المكان؟ فقال لي: عندما دخلت المسجد لماذا لم تجلس في أي مكان؟ قلت: جلست في أي مكان، قال لي: هذا مكاني، قلت له: لماذا لا تأتي مبكراً حتى تجلس فيه؟ قال: هل أنت تناقشني أيضاً، قلت له: هذا هو السنة، ثم إني حرمت من الإجازة ولم أعط إلا ثلاثة أيام فقط بعد أسبوع؛ من أجل أنني صليت في مكان العميد. والإنسان عندما يتجرد من لباسه ويلبس الإزار والرداء يختلط بغيره، فلا يعرف الشريف من الوضيع، وهما عند الله سواء إلا بالتقوى، والمرء بهذا اللباس يتذكر الموقف والمحشر بين يدي الله عز وجل، يوم أن يكون كل واحد مشغولاً بنفسه فقط، إلا النبي عليه السلام يقول: (رب أمتي أمتي). عليه الصلاة والسلام. والإزار والرداء يشبهان الكفن، وجمع الناس في مزدلفة أو منى أو عرفات يذكرك بالمحشر، وهذا الزي يذكرك بالكفن، وأنك ستخرج من الدنيا بمثل هذين الثوبين، فموسم الحج من منافعه أنك تعرف قدرك، كما قال تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج:28]. ومن أعظم المنافع: أن تتذكر أنك ابن آدم، وأنك خطاء، وأن الله يتوب عليك إن تبت إليه وأنبت وكنت صادقاً مخلصاً في هذه التوبة، وإذا كان الأمر كذلك فعليك أن تتذكر أنك كالميت يمشي في أكفانه. ولذلك لما وقع رجل فوقصته ناقته فمات وكان محرماً قال النبي عليه الصلاة والسلام: (اغسلوه، ولا تمسوا ثوبه شيئاً من زعفران؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً)، يعني: يبعث على نفس الهيئة التي مات عليها. فلابد للمرء أن يتذكر قدره وقيمته، وأنه مهما ارتفع فإن الأمر كما قال النبي عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه البخاري من حديث أنس: (ما ارتفع شيء قط من أمور الدنيا إلا كان حقاً على الله تعالى أن يضعه). فمهما ارتفعت وعلوت فإنك في قبضة المولى عز وجل يفعل بك ما يريد بقوله: كن، سبحانه وتعالى. فاعلم أنك بين يدي الله عز وجل أكنت محرماً أم غير محرماً، وإذا كنت تتذكر هذا وأنت محرم، وتغفل عنه في ثيابك بعد الإحرام؛ فاعلم أنك ما خرجت بالمنفعة التي كان ينبغي عليك أن تخرج بها من هذا الإحرام. والجماع ومقدماته، والكلام الذي يثير ذلك حرام على الرجال والنساء في الإحرام. والحكمة في تحريم الطيب والنساء أن يبعد عن الترفه وزينة الدنيا وملاذها ويجتمع همه لمقاصد الآخرة.

حكم قطع الخفين إذا لم يجد المحرم نعلين وحكم من لبسهما دون قطع

حكم قطع الخفين إذا لم يجد المحرم نعلين وحكم من لبسهما دون قطع وقال صلى الله عليه وسلم: (إلا أحد لا يجد النعلين فليلبس الخفين، وليقطعهما أسفل من الكعبين)، وذكر مسلم بعد هذا من رواية ابن عباس وجابر: (من لم يجد نعلين فليلبس خفين)، ولم يذكر قطعهما، وقد اختلف العلماء في هذين الحديثين، فقال أحمد: يجوز لبس الخفين بحالهما، ولا يجب قطعهما؛ لحديث ابن عباس وجابر، وكان أصحابه يزعمون نسخ حديث ابن عمر المصرح بقطعهما، وزعموا أن قطعهما إضاعة مال، ونحن قد نهينا عن إضاعة المال. وقال مالك وأبو حنيفة والشافعي وجماهير العلماء: لا يجوز لبس الخفين إلا بعد قطعهما أسفل من الكعبين؛ لحديث ابن عمر، قالوا: وحديث ابن عباس وجابر مطلقان، فيجب حملهما على المقطوعين؛ لحديث ابن عمر، والمطلق يحمل على المقيد، والزيادة من الثقة مقبولة، وهذه زيادة من عبد الله بن عمر. قالوا: وقول الحنابلة-: إنه إضاعة مال ليس بصحيح؛ لأن الإضاعة إنما تكون فيما نهي عنه، وأما ما ورد الشرع به فليس بإضاعة، بل حق يجب الإذعان له. ثم اختلف العلماء في لابس الخفين لعدم النعلين، هل عليه فدية أم لا؟ يعني: إذا لبس خفين ولم يقطعهما وليس له نعلين هل عليه فدية في هذه الحالة؟ فقال مالك والشافعي ومن وافقهما: لا شيء عليه؛ لأنه لو وجبت فدية لبينها صلى الله عليه وسلم، وقال أبو حنيفة وأصحابه: عليه الفدية، كما إذا احتاج إلى حلق الرأس يحلقه ويفدي، يعني: كأن يكون في رأسه حكة، أو ورم، أو ضرر، أو لا يصبر على شعره فإنه يحلقه وهو محرم وعليه الفدية، وكذلك من لم يجد النعلين فليلبس الخفين، فإن قطعهما فلا شيء عليه، وهو المنصوص، وإن لم يقطعهما فعليه الفدية قياساً على من احتاج إلى حلق رأسه وهو محرم لعلة، والعلة في الأول هي وجود النهي.

تحريم الطيب على المحرم والحكمة من ذلك

تحريم الطيب على المحرم والحكمة من ذلك وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا تلبسوا من الثياب شيئاً مسه الزعفران ولا الورس) فقد أجمعت الأمة على تحريم لباسهما؛ لكونهما طيباً، وأي ثوب مصبوغ بزعفران أو ورس يحرم لبسه للمحرم، وألحقوا بهما جميع أنواع ما يقصد به الطيب، وسبب تحريم الطيب أنه داعية إلى الجماع، فإذا رأى الرجل امرأته متطيبة وقع عليها، وإذا تطيب الرجل طلبته المرأة، فلما كان الطيب هو الدافع إلى الوقاع والجماع نهى عنه الشارع، فهذا النهي ليس لذاته وإنما لغيره، يعني: النهي عن الطيب إنما قصد مخافة الوقاع والجماع، وهذا الرأي ضعيف؛ لأنه لو كان النهي عن الطيب لغيره وليس لذاته لقال المحرم غير المتزوج: إن الجماع بالنسبة له مستحيل؛ إذ إنه ليس متزوجاً، ويقول المتزوج الذي لم يصحب امرأته: امرأتي ليست معي، لكن النهي عام لكل إنسان سواء كان امرأة أو رجلاً محرماً، ولأنه ينافي تذلل الحاج، فإن الحاج أشعث أغبر، والأصل فيه أنه كما يقول الله تعالى في يوم عرفة عندما يباهي ملائكته بأهل الموقف ويقول: (يا ملائكتي! هؤلاء عبادي أتوني شعثاً غبراً)، يعني: كل واحد شعره منفوش لم يسرحه، مخافة أن يقع منه شعر، وسقوط الشعرة والشعرتين جائز، ولا حرج في ذلك، وأما الثلاث وما فوقها ففيها الفدية؛ ولذلك نهى الشارع المحرم عن ترجيل شعره، فلا يسرحه حتى يؤدي نسكين من رمي جمرة العقبة، أو يذبح الهدي، أو يطوف البيت ويسعى، وحينئذ له بعد ذلك حتى ولو لم يحلق أن يسرح أو يرجل شعره قبل أن يحلقه. والحاج أشعث أغبر من كثرة الغبار والتراب الذي يقع على رأسه، وسواء في تحريم الطيب للرجل والمرأة، وكذا جميع محرمات الإحرام سوى اللباس كما سبق بيانه. المرأة تحرم في ملابسها العادية، وليس في إزار ورداء، وقد رأينا امرأة تلبس إزاراً ورداء في منى وهي من مصر، وإذا بينت لها رماك زوجها بالجهل وغير ذلك.

ما يحرم على المحرم أثناء الإحرام

ما يحرم على المحرم أثناء الإحرام محرمات الإحرام سبعة: أولاً: اللباس على النحو الذي فصلنا آنفاً. ثانياً: الطيب والورس والزعفران في الثوب، ودهن الرأس أو اللحية، وأما وضع الطيب على البدن بعد الاغتسال وقبل لبس ملابس الإحرام فهذا لا يضرك، والمنهي عنه هو التطيب بعد الإحرام وبعد أن يقول المحرم: لبيك اللهم عمرة، أو لبيك اللهم حجاً، أو لبيك اللهم بعمرة وحجة، فهذه الكلمة فاصلة في المباح وغير المباح، ولو تطيب قبلها فلا حرج عليه وإن استمر معه الطيب بعدها، فتحريم الطيب هو تحريم لمس الطيب بعد الدخول في النسك، وأما قبل ذلك فلا حرج عليك. ثالثا: إزالة الشعر إلا في وقته، ووقته للمعتمر بعد السعي. وأول ما يفعله المحرم عقد النية على النسك سواء بعمرة أو حج، ثم التلبية حتى يرى بيوت مكة أو الحرم على خلاف بين العلماء، فإذا رأى الحرم أو بيوت مكة قطع التلبية لينشغل بعد ذلك بشيء آخر، ويستحب له دخول الحرم من باب السلام؛ لدخول النبي صلى الله عليه وسلم منه، فإذا دخل الحرم بدأ بالطواف سبعة أشواط، وليجعل البيت عن شماله، ويبدأ من الحجر الأسود، ويطوف من خارج حجر إسماعيل، ويدعو بما شاء إلا بين الركنين الركن اليماني، والحجر الأسود، فيقول بينهما: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201]. فإذا فرغ من الطواف صلى ركعتين خلف مقام إبراهيم إن تيسر له ذلك، وإلا صلاهما في أي مكان من الحرم، وليقرأ في الأولى بفاتحة الكتاب و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1]، وفي الثانية بفاتحة الكتاب و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، فإذا فرغ من الصلاة فليتضلع من شرب ماء زمزم، ثم ينطلق إلى الحجر الأسود وإن استطاع فليقبله، وإلا فليستلمه بيده ويقبل يده، فإن لم يستطع فليشر إليه بيده من بعيد في محاذاته وموازاته ويقول: باسم الله، والله أكبر، ثم يرجع خلفه إلى باب الصفا تالياً قول الله عز وجل: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة:158]. ثم يبدأ بالسعي من الصفا أولاً إلى المروة، وهذا شوط، ومن المروة إلى الصفا شوط ثان، وهكذا فيبدأ بالصفا وينتهي عند المروة، ثم يحلق عند المروة ويتحلل من عمرته، والحلق أفضل من التقصير؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا للمحلقين ثلاثاً، ثم دعا للمقصرين مرة واحدة، إلا القارن أو المتمتع فالأفضل في حقهما التقصير؛ لأنهما سيحجان في الأيام المقبلة القلائل، وسيكون عليهما في يوم النحر الحلق، فإذا حلق في العمرة فربما لا يجدان بعد ذلك شعراً يحلقانه، فالأفضل لمن أتى نسكين متتاليين سواء كان قارناً أو متمتعاً أن يقصر شعره في العمرة؛ ليبقي له شيئاً للحلق يوم النحر. فإزالة الشعر للمحرم ممنوع إلا في حينه ووقته. رابعاً: أخذ الظفر أو قطعه وقصه لا يجوز، ومن فعل فعليه دم، إلا من قطع منه شيء يسير كان يؤذيه؛ لأنه هنا أخذه على سبيل العلاج والتطبيب لا على سبيل القص. خامساً: عقد النكاح والإشارة إليه. سادساً: الجماع وسائر أنواع الاستمتاع يفسد الحج، حتى الاستمناء لا يجوز. سابعاً: إتلاف الصيد، سواء كان ذلك بمباشرته، أو بمشورته، أو بدلالته.

حكم المحرم إذا تطيب أو لبس ما هو محرم عليه أثناء الإحرام

حكم المحرم إذا تطيب أو لبس ما هو محرم عليه أثناء الإحرام وإذا تطيب أو لبس ما نهي عنه لزمته الفدية إن كان عامداً بالإجماع، يعني: يذبح شاة، وإن كان ناسياً فلا فدية عليه عند الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق، وأوجبها أبو حنيفة ومالك في هذه المسألة، والنسيان في هذه المسألة يرفع الإثم ولا يرفع الكفارة عندهما. ولا يحرم المعصفر عند مالك والشافعي، وحرمه الثوري وأبو حنيفة وجعلاه طيباً، وأوجبا فيه الفدية، وهو الصحيح، ويكره للمحرم لبس الثوب المصبوغ بغير طيب ولا يحرم.

حكم لبس السراويل للمحرم إذا لم يجد الإزار

حكم لبس السراويل للمحرم إذا لم يجد الإزار وقوله عليه الصلاة والسلام: (السراويل لمن لم يجد الإزار، والخفين لمن لم يجد النعلين) يعني: المحرم. هذا صريح في الدلالة للشافعي والجمهور في جواز لبس السراويل للمحرم إذا لم يجد إزاراً. وفي أحد الأيام قام شخص وهو يلبس البنطلون وفوقه رداء ليسأل الشيخ عطية سالم رحمه الله وأحسن إليه، فقال له الشيخ: الذي فوق كتفيك البسه في حقوك حتى تخرج وتشتري رداء آخر، وكان السائل من المصريين الذين لا يفهمون فقال للشيخ: أنا لا أسألك عن هذا، أنا قلت لامرأتي كذا وكذا، فهل تصبح طالقاً أم لا؟ فقال له الشيخ: نعم تصبح طالقاً. فهذا صريح في الدلالة لمذهب الشافعي والجمهور في جواز لبس السراويل للمحرم إذا لم يجد إزاراً، ومنعه مالك؛ لكونه لم يذكر في حديث ابن عمر السابق، والصواب إباحته بحديث ابن عباس هذا مع حديث جابر بعده، وأما حديث ابن عمر فلا حجة فيه. قوله عليه الصلاة والسلام: (وهو بالجعرانة)، فيها لغتان مشهورتان: الجعْرانة بتخفيف الراء، والجعرّانة بالتشديد.

تحريم الطيب على المحرم وواجب من أصابه منه شيء

تحريم الطيب على المحرم وواجب من أصابه منه شيء قوله عليه الصلاة والسلام للسائل عن العمرة: (اغسل عنك أثر الصفرة)، فيه: تحريم الطيب على المحرم ابتداء ودواماً؛ لأنه إذا حرم دواماً فالابتداء أولى بالتحريم، لكن الابتداء مقصود به بعد الإهلال، وأما قبل الإهلال فإنه يطيب بدنه لا ثوبه. وفيه: أن العمرة يحرم فيها من الطيب واللباس وغيرهما من المحرمات السبعة السابقة ما يحرم في الحج. وفي هذا الحديث: أن من أصابه طيب ناسياً أو جاهلاً ثم علم وجبت عليه المبادرة إلى إزالته، والراجح أنه لا فدية عليه. وفيه: أن من أصابه في إحرامه طيب ناسياً أو جاهلاً لا كفارة عليه، وهذا مذهب الشافعي، وبه قال عطاء والثوري وإسحاق وداود، وقال مالك وأبو حنيفة والمزني وأحمد في أصح الروايتين عنه: عليه الفدية، لكن الصحيح من مذهب مالك: أنه إنما تجب الفدية على المتطيب ناسياً أو جاهلاً إذا طال لبثه عليه، يعني: إذا استمر ذلك عليه مدة من الزمان.

ما يلزم المحرم إذا لبس المخيط جاهلا بحكمه

ما يلزم المحرم إذا لبس المخيط جاهلاً بحكمه وقوله عليه الصلاة والسلام: (واخلع عنك جبتك) دليل لـ مالك وأبي حنيفة والشافعي والجمهور: أن المحرم إذا صار عليه مخيط ينزعه ولا يلزمه شقه، يعني: إنما يلزمه خلع السروال أو العمامة أو غير ذلك.

معنى قوله: (واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك)

معنى قوله: (واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك) وقوله عليه الصلاة والسلام: (واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك) فمعناه: من اجتناب المحرمات، يعني: بقية المحرمات التي تحرم في الحج فإنها تحرم كذلك في العمرة، ويحتمل أنه أراد مع ذلك الطواف والسعي والحلق بصفاتها وهيئاتها، وإظهار التلبية وغير ذلك مما يشترك فيه الحج والعمرة، ويخص من عمومه ما لا يدخل في العمرة من أفعال الحج، كالوقوف والرمي والمبيت بمنى ومزدلفة وغير ذلك، وهذا الحديث ظاهر في أن هذا السائل كان عالماً بصفة الحج دون العمرة، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام له: (واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك).

بعض فوائد حديث يعلى بن أمية في ما يباح للمحرم بحج أو عمرة وما لا يباح

بعض فوائد حديث يعلى بن أمية في ما يباح للمحرم بحج أو عمرة وما لا يباح وفي هذا الحديث من الفوائد دليل للقاعدة المشهورة: أن القاضي والمفتي إذا لم يعلما حكم المسألة أمسكا عن جوابها حتى يعلماه أو يظناه بشرطه، فمادام ليس عندهما علم فإنهما يمسكان عن الجواب حتى يعلماه، والأصل أن يحيلا المسألة إلى عالم أو يظهرا الجهل ويقولا: الله أعلم، وفي هذا الحديث: أن من الأحكام التي ليست في القرآن ما هو بوحي لا يتلى، يعني: أن الوحي وحيان، وحي متلو وهو كتاب الله عز وجل القرآن الكريم، ووحي غير متلو ولا يتعبد بتلاوته ولا يقرأ في الصلاة، وغير ذلك من خصائص القرآن الكريم، وهو وحي السنة، فالسنة وحي كذلك. وقد استدل بهذا الحديث من يقول من أهل الأصول: إن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن له الاجتهاد. وهذه المسألة محل نزاع بين الأصوليين، وهناك أدلة أنه اجتهد بغير وحي، وأدلة بينت أنه انتظر ولم يجتهد حتى أتاه الوحي. وأما إدخال يعلى بن أمية رأسه ورؤيته للنبي عليه الصلاة والسلام في تلك الحال وإذن عمر له في ذلك فكله محمول على أنهم علموا من النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يكره الاطلاع عليه في ذلك الوقت وتلك الحال؛ لأن فيه تقوية الإيمان بمشاهدة حالة الوحي الكريم على النبي صلى الله عليه وسلم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الأسئلة

الأسئلة

حكم شراء السرقة، ووقت صلاة الفجر

حكم شراء السرقة، ووقت صلاة الفجر Q ما حكم شراء الشيء المسروق للحاجة إليه؟ وما هو الوقت الصحيح لصلاة الفجر بعد الأذان؟ A لا يحل شراء الشيء المسروق، إذا كان يعلم أنه مسروق، ولا ينجيه من الإثم دفعه مالاً حلالاً فيه، فإذا اشتراه لزمه رد المبيع وأخذ الثمن. وأما الوقت الصحيح لصلاة الفجر بعد الأذان فهو على أقل تقدير ثلث ساعة، وأما قبل ذلك فلا.

حكم تحريك الخاتم أثناء الوضوء

حكم تحريك الخاتم أثناء الوضوء Q ما حكم تحريك الخاتم أثناء الوضوء إذا غلب على الظن أن الماء لم يصل إلى ما تحت الخاتم؟ A لك أن تفعل ذلك، وكان ابن سيرين يفعله، كما ذكر ذلك البخاري في كتاب الوضوء، ولكن لا يلزمك تحريكه، وإنما هو من المستحبات، وإذا لم تحركه فلا حرج عليك.

حكم بيع الذهب الذي على شكل صليب

حكم بيع الذهب الذي على شكل صليب Q ما حكم بيع الذهب الذي هو عبارة عن صليب والانتفاع بالمال الذي بيع به؟ A لا يجوز؛ لأنه رمز الكفر، وشعار الشرك، فلا يجوز بيعه لهم؛ لأنهم يتعبدون به، وقد قرر شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله قاعدة عظيمة جداً في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، فقال: وينهى المسلم أن يبيع أو يؤجر لنصراني بيتاً أو محلاً إذا غلب على ظنه أنه يرفع فيه الصليب.

حكم صلاة تحية المسجد لمن جاء قبل الإقامة وقد صلى سنتها في بيته

حكم صلاة تحية المسجد لمن جاء قبل الإقامة وقد صلى سنتها في بيته Q في الحديث: (إذا طلع الفجر فلا صلاة إلا ركعتي الفجر)، فهل إذا صليت ركعتي سنة الفجر في البيت ثم دخلت المسجد للصلاة أصلي ركعتي تحية المسجد أم لا؟ A نعم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين). فإذا صليت سنة الفجر في بيتك وأتيت قبل إقامة الصلاة فصل ركعتين، فإذا أتيت وقد أقيمت الصلاة فادخل في الصلاة، وإذا كنت قد بدأت في صلاة ركعتي تحية المسجد وأقيمت الصلاة فاخرج من صلاتك والحق بالإمام؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا أقيمة الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة).

الاستمرار في النصيحة للعصاة

الاستمرار في النصيحة للعصاة Q أختي تعمل سكرتيرة عند رجل في أحد المصارف، وهي متنمصة وعاقة لوالديها، ولقد وجهت إليها النصح كثيراً فلم تقبل، فماذا أفعل؟ A أنت تتكلم عن واحدة لا يحكمها دين ولا شرع، فلا تمل من النصيحة في الليل والنهار، وأرفق بها بالحكمة والموعظة الحسنة.

حكم حلق اللحية

حكم حلق اللحية Q هل حلق اللحية ذنب كبير؟ الشيخ: نعم، حلق اللحية كبيرة من الكبائر، وهو إما أن يكون كبيرة بذاته كما قال الذهبي، وإما أن يكون صغيرة وبتكرارها يصير كبيرة، وحالق اللحية يجدد حلقها دائماً، يعني: كل يوم قبل أن ينزل إلى شغله يأثم.

حكم وضع المال في البنك بنية أن تكون أرباحه في سبيل الله

حكم وضع المال في البنك بنية أن تكون أرباحه في سبيل الله Q هل يجوز وضع المال في البنك مع نية أن تكون الأرباح في سبيل الله أو للفقراء؟ A لو أنك فعلت ذلك في بنك فيصل، أو المصرف الإسلامي الدولي فلا حرج عليك أن تهنأ بهذا الربح أو تنتفع بهذه الزيادة، وإذا أردت أن تتخلص منها كذلك مع هذين البنكين فهو أفضل، والله أعلم.

حكم حمل الهاتف الجوال في الحج

حكم حمل الهاتف الجوال في الحج Q ما حكم الدين فيمن يحمل المحمول في أثناء حجه؟ A يجوز ذلك، ولو حرمناه فسنحرم أن تتكلم مع أي جار لك أو قريب أو صديق أو ملازم لك في الحج، وسيكون الكلام في الحج ممنوعاً نهائياً، فما هو الفرق بين كلامك مع زميلك الذي بجوارك وبين الكلام بالمحمول؟ والشيخ ابن عثيمين نهى المعتمرين أو المعتكفين في رمضان أن يتصلوا بأهاليهم إلا لحاجة أو ضرورة ماسة، وهذا نهي استحسان، وقال: لا يجوز الخروج من المعتكف لكلام الأهل والخلان والأصحاب إلا لضرورة. وبعض من كان موجوداً أثار هذه القضية من أجل فتوى الشيخ ابن عثيمين، وحملوا كلامه على أنه لا يجوز للمعتكف أن يتكلم مع أهله في المعتكف، مع أن كلام المعتكف مع امرأته جائز، والنبي صلى الله عليه وسلم تكلم مع نسائه، فقد تكلم مع صفية، ومع عائشة، ومع أم سلمة، وغيرهن، وإنما الذي نهى عنه الشيخ هو الخروج من المعتكف بغير عذر؛ لأن هذا قاطع للاعتكاف.

حكم الأتاري

حكم الأتاري Q ما حكم الدين في الأتاري؟ A الأتاري بلاء عظيم جداً، صرف الشباب، وأفسد الطلاب وغيرهم، فتجد الواحد يلبس ملابسه ويزعم أنه ذاهب إلى المدرسة، ولكنه لا يذهب إلى المدرسة، وإنما يذهب إلى أي ناد ويلعب إلى انتهاء وقت الدراسة، ثم يرجع إلى البيت، وكثير جداً من الطلاب والشباب والأولاد فسدوا بهذه الألعاب التي ظهرت هنا وهناك.

كيفية دعوة النساء

كيفية دعوة النساء Q لا يجوز دعوة النساء إلا بشروط، فكيف أدعو فتاة الجامعة والتي ليست بمفردها وإنما هي مع شاب أو عدد من الشباب؟ A ولها ظهرك، وادفع لها ما عندك من حكمة وموعظة حسنة، وأمرها بالمعروف، وانهها عن المنكر، لا أن تجلس تنظر إلى عينيها وتقول لها كلاماً كثيراً جداً، ثم لا تنام الليل، قلقاً وتعبان، وتريد في اليوم الثاني أن تقابلها بأي شكل من أجل أن تدعوها أيضاً، ويكون ختاماً ليس مسكاً. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

كتاب الحج - مواقيت الحج والعمرة

شرح صحيح مسلم - كتاب الحج - مواقيت الحج والعمرة لقد وقت الله عز وجل للعبادات مواقيت لا يصح تأديتها في غيرها، ومن هذه العبادات الحج والعمرة، فقد رتب الله عز وجل لها وقتاً زمانياً، كما حدد لها رسوله صلى الله عليه وسلم مواقيت مكانية يحرم منها من هو من أهلها ومن أتى عليها من غير أهلها.

باب مواقيت الحج والعمرة

باب مواقيت الحج والعمرة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ثم أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، أما بعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب مواقيت الحج والعمرة]. المواقيت: جمع ميقات، والميقات إما زماني وإما مكاني، فالميقات الزماني للعمرة جميع أيام السنة ولياليها. فمن أراد أن يعتمر إلى بيت الله الحرام فله ذلك في كل وقت من ليل أو نهار على مدار السنة، وليس هناك شيء يسمى عمرة المولد النبوي، أو عمرة رجب، وكل هذا إنما هو تنسيق سياسي، وإلا فالعمرة جائزة ومستحبة في جميع أيام السنة ولياليها. وأما الميقات الزماني للحج فهو شوال وذو القعدة باتفاق أهل العلم.

خلاف العلماء في كون شهر ذي الحجة ميقاتا زمانيا للحج

خلاف العلماء في كون شهر ذي الحجة ميقاتاً زمانياً للحج وقع الخلاف في ذي الحجة، وهل ذو الحجة كله ميقات زماني للحج أم ليس ميقاتاً للحج؟ اختلف فيه العلماء إلى مذهبين: المذهب الأول وهو مذهب جماهير أهل العلم: أن العشر الأوائل من ذي الحجة هن ميقات للحج، وتطلق العشر تغليباً، وإلا فالأصل فيها التسع، لأن اليوم العاشر من ذي الحجة يوم النحر، ونحن نعلم قوله عليه الصلاة والسلام: (الحج عرفة). فمن لم يقف بعرفة فلا حج له، والوقوف بعرفة يبدأ من بعد طلوع الشمس يوم التاسع إلى غروب الشمس، يعني: من وقف يوم التروية بمعنى بات فيها، وهذا المبيت سنة وليس واجباً، ثم إذا طلعت الشمس من اليوم التاسع يذهب ماشياً أو راكباً إلى عرفات، ويصلي في عرفة الظهر والعصر جمع تقديم مع القصر، ويحضر الخطبة مع الإمام، ثم إذا غربت شمس التاسع أفاض الحاج من عرفة إلى المزدلفة، ولا يصلي المغرب بعرفة وإن أذن للمغرب وهو فيها، بل يصلي المغرب والعشاء في مزدلفة جمع تأخير مع قصر العشاء. ومن لم يتمكن من الوقوف بعرفة في نهار التاسع فيجزئه أن يقف بها جزءاً ولو يسيراً من ليلة العاشر، ولذلك أطلقوا عليها تغليباً العشر الأوائل من ذي الحجة. أما من فاته الوقوف بعرفة في اليوم التاسع وفي ليلة العاشر، وذهب إلى عرفة في يوم النحر ووقف بها ونزل بعد غروب الشمس لم يصح حجه؛ لأن اليوم العاشر ليس ميقاتاً زمانياً للحج، وهذا مذهب الجمهور. والمذهب الثاني: أن ذا الحجة كله ميقات زماني للحج؛ لأن الله تعالى يقول: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197]. وأشهر جمع شهر، ولا يصدق هذا الجمع إلا على شهر صحيح أو قارب الصحيح، وأما التسعة أو العشرة فلا يصدق عليها شهر، والشهران لا يجمعان؛ لأن أقل الجمع في اللغة العربية ثلاثة، وفي بقية لغات العالم اثنان.

الرد على من يقول بجواز الحج في أي وقت من أشهر الحج الثلاثة

الرد على من يقول بجواز الحج في أي وقت من أشهر الحج الثلاثة شوال وذو القعدة ميقاتان زمانيان للحج بلا خلاف بين أهل العلم. وقد قال صلاح منتصر: أنه بإمكانك أن تحج في شوال أو في ذي القعدة؛ لأن الله عز وجل قال: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197]. فيمكنك أن تحج في أي شهر من الشهور الثلاثة وفي أي وقت منها، سواء في أول الشهر، أو في وسطه، أو في آخره وكذلك في كل شهر، وقال هذا الملاحدة ونشروه على صفحات الجرائد، وقالوا: لماذا يجتمع الناس في وقت واحد، وتحدث الحرائق والزحام والموت؟ والله يقول: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ} [البقرة:197]. ولم يقل: يوم أو يومان أو ثلاثة أو خمسة، وإنما أشهر معلومات. و A إن قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197]، أي: عقد نية الحج في هذه الأشهر كلها جائز، وهذه الأشهر ميقات زماني للحج لمن أراد التمتع. والميقات المكاني لأهل المدينة ولمن مر بها، هو ذو الحليفة الذي يسمى الآن أبيار علي.

الفرق بين حج التمتع والقران

الفرق بين حج التمتع والقران الذي يريد أن يحج قارناً عليه أن يسوق الهدي معه من الميقات، والنبي عليه الصلاة والسلام حج قارناً، والتمتع أفضل؛ لما جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي)، يعني: لو علمت أن التمتع أفضل من القران ما كنت أخذت الهدي من ذي الحليفة، والمتمتع يأخذ هديه من مكة، سواء من منى أو من مزدلفة أو من عرفة أو من أي مكان، ولا يلزم أن يسوقه من الميقات. وهذا الفرق الأول بين القارن والمتمتع. والفارق الثاني بينهما أن القارن إذا وصل إلى بيت الله الحرام فإنه يطوف ويسعى بين الصفا والمروة ويقصر شعره، ويبقى في ملابس إحرامه، ولا يحل له خلعها والتحلل منها حتى يخرج بها إلى منى في يوم التروية التي هي اليوم الثامن من ذي الحجة، فلو جاء في شهر شوال وقد ساق معه الهدي فإنه سيبقى في ملابس إحرامه شوال وذا القعدة وعشرة أيام من ذي الحجة، ولا شك أن في هذا مشقة عظيمة جداً على الإنسان، وفيه تعريض لعورته للانكشاف وعدم الستر، وغير ذلك، ولذلك القارن يأتي متأخراً، والمتمتع لا يسوق الهدي من الميقات، وإنما يأخذه من مكة، أو يوكل فيه. وأشهر الحج التي هي شوال وذو القعدة والعشرة الأوائل من ذي الحجة، وهي المقصودة بقوله سبحانه وتعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ} [البقرة:197]، يعني: هذه الأشهر هي ميقات زمني لمن أراد التمتع والقران.

حكم من أحرم بالحج بعد أيام التشريق من ذي الحجة

حكم من أحرم بالحج بعد أيام التشريق من ذي الحجة وقد وقع الخلاف فيمن دخل مكة بعد يوم النحر وأيام التشريق، فعند الجمهور أن عليه أن يؤدي عمرة، وليس عليه قران ولا تمتع؛ لأن موسم الحج قد انصرم. وقال: داود الظاهري وغيره: لم تنته أشهر الحج؛ لأن شهر ذي الحجة كله من الأشهر المعلومات في الحج. فإذا دخل قارناً فإنه يظل قارناً من ذي الحجة حتى يأتي ذو الحجة الثاني من العام القادم، وهذا فيه أعظم مشقة. وإن دخل متمتعاً فعليه أن يعتمر بنية التمتع وينتظر الحج من العام المقبل، ويصح حجه متمتعاً، وعند الجمهور لا يصح إلا مفرداً، أما تمتعاً فلا.

الفرق بين حج التمتع والإفراد

الفرق بين حج التمتع والإفراد الفرق بين المتمتع وبين المفرد: أن المفرد لا يلزم بالطواف والسعي قبل أداء الحج، لأن الطواف والسعي خاصان بالعمرة، وهو ما أحرم بعمرة وإنما أحرم بحج فقط، وليس على المفرد هدي، والمتمتع بخلافه. فالميقات الزماني للعمرة خلال أيام السنة ولياليها، والميقات الزماني للحج شوال، وذو القعدة، والتسع الأوائل من ذي الحجة، وأطلق على هذه التسع شهر تغليباً.

رد آخر على من يقول بجواز الحج في أي وقت من أشهر الحج الثلاثة

رد آخر على من يقول بجواز الحج في أي وقت من أشهر الحج الثلاثة الرد الثاني على من يقول: بأداء الحج في أي وقت من أيام الأشهر المعلومات: أن أعرف الناس بمراد الله عز وجل هو النبي عليه الصلاة والسلام، ولو سبق هذا الفهم إليه لعمل به عليه الصلاة والسلام، أو أمر أصحابه ولو في عام واحد أن يجعلوا الحج في شوال أو في ذي القعدة أو في أي يوم من التسع، وليس بلازم أن يبدأ في يوم التروية الذي هو اليوم الثامن وينتهي في اليوم الثالث عشر من أيام التشريق، ولكنه بين بسنته العملية عليه الصلاة والسلام بأن الحج على هذا النحو في هذه الأيام، وأمر أصحابه جميعاً أن يفعلوا ذلك، وعلى وهذا سار الخلفاء الراشدون الذين اتباعهم سنة وهدىً، وقال النبي عليه السلام: (خذوا عني مناسككم، خذوا عني مناسككم، خذوا عني مناسككم، لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا). فإذا كان يمكن أداء الحج في غير هذه الأيام المعلومات لخالف في ذلك ولو جيل من أجيال المسلمين على طول التاريخ وعرضه، وليس من المعقول إن كان هذا حقاً أن يخفيه الله تبارك وتعالى عن جميع علماء الأمة ويعلمه صلاح منتصر ومن على شاكلته.

المواقيت المكانية للحج والعمرة

المواقيت المكانية للحج والعمرة وأما المواقيت المكانية فهي التي يحرم منها من أراد الحج أو العمرة أو من أراد النسك عموماً، فعلى من أراد النسك أن يلبس ملابس الإحرام وينوي النسك، ويقول: لبيك اللهم عمرة، أو لبيك اللهم حجة، أو لبيك اللهم عمرة وحجة، حسب النسك الذي يريد أداءه، لا يتعدى الميقات المكاني دون إحرام، فإن تعداه فقد اختلف أهل العلم فيما يكفره. والمواقيت المكانية متعددة، فميقات أهل الشام ومصر والمغرب ومن مر بها من أهلها ومن غير أهلها رابغ، والمذكور في الأحاديث أنها الجحفة، وقد صارت الجحفة الآن قرية خربة مهجورة، وقبلها بيسير جداً قرية عامرة تسمى رابغ اتخذها الناس ميقاتاً مكانياً، وهي تبعد عن مكة حوالي مائتي كيلو متر، يعني: ست مراحل، وأبعد المواقيت المكانية عن الحرم هو ميقات أهل المدينة، وهو أبيار علي أو ذو الحليفة، وهو يبعد عن المسجد النبوي شيئاً يسيراً، فالمسافة بينه وبين المسجد النبوي حوالي ربع ساعة بالسيارة، ومن الميقات إلى مكة حوالي أربع ساعات وزيادة لراكب السيارة المسرع. أما من الجحفة إلى مكة فحوالي ساعتين، فميقات أهل الشام بينه وبين مكة نصف المسافة التي بين ميقات أهل المدينة وبين مكة، فأبعد المواقيت عن الحرم هو ميقات أهل المدينة ومن مر بها، ويتلوه في البعد ميقات أهل الشام. وأما ميقات اليمن فهو يلملم، وفي رواية: ألملم، ولكن المشهور يلملم، وميقات أهل نجد والرياض ومن مر بها قرن المنازل، ويسمى الآن بالسيل. وميقات أهل العراق ذات عرق، وهي تبعد كثيراً عن الحرم. وكل هذه المواقيت في أرض الحجاز، فلو رسمت الكعبة أو مكة لوجدت أن هذه المواقيت تحيط بمكة من الخارج، ومنها ما يبعد كثيراً ومنها ما يقترب كثيراً، وكلها خارج حدود مكة، ولكنها في أرض الحجاز.

بيان من حدد المواقيت المكانية للحج والعمرة

بيان من حدد المواقيت المكانية للحج والعمرة النبي عليه الصلاة والسلام هو الذي حدد هذه المواقيت المكانية، إلا ميقات أهل العراق الذي هو ذات عرق، فقد جاء في رواية جابر بن عبد الله، لكن أبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس راوي هذا الحديث عن جابر قال: سمعت جابراً يقول: أراه قال: يرفعه. يعني: شك أبو الزبير هل رفع جابر هذا الحديث أم لا؟ فإذا كان مرفوعاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام فالذي حدد الميقات هو الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن لم يكن مرفوعاً كان من دون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي حدد ميقات أهل العراق، والراجح أن الشك لا يصح معه الرفع وإنما الوقف؛ لأن الوقف أيقن وأحوط، ولذلك قال العلماء: حديث جابر ليس مرفوعاً لشك أبي الزبير هل رفعه جابر أو لا؟ والراجح من أقوال أهل العلم: أن الذي حدد ميقات أهل العراق هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه وتبعه عليه الصحابة فكان كالإجماع، والإجماع حجة في العبادات، واتخاذ الميقات المكاني عبادة من العبادات. والمسألة فيها أقوال أخرى وأدلة كثيرة ومتناثرة هنا وهناك.

شرح حديث ابن عباس في المواقيت

شرح حديث ابن عباس في المواقيت وقد جاء في ثلاثة أحاديث: حديث ابن عباس وهو أتمها وأكملها، وحديث ابن عمر وفيه بعض النقص، وحديث جابر على الشك الذي ذكرته آنفاً. قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يحيى بن يحيى وخلف بن هشام وأبو الربيع وقتيبة جميعاً عن حماد - يعني ابن زيد - عن عمرو بن دينار عن طاوس - وهو ابن كيسان اليماني - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة)]، يعني: جعل ميقات أهل المدينة ذا الحليفة. قال: [(ولأهل الشام الجحفة)]. والإمام الدارقطني يقول: إن حديث جابر ضعيف. وهذه مجازفة من الدارقطني في كتاب العلل، قال: لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يحدد ميقاتاً لأهل العراق؛ لأن أهل العراق لم يدخلوا في الإسلام في زمان النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما دخلوا في زمان عمر بن الخطاب. ونقول: وأيضاً أهل الشام لم يدخلوا في الإسلام في زمن النبي عليه الصلاة والسلام، والذي حدد ميقات أهل الشام النبي عليه الصلاة والسلام، فلا يصلح هذا الاعتراض قط. فلا يصلح هذا النقد لرد الحديث، وإنما يكفي في إنزال الحديث من الرفع إلى الوقف؛ لشك أبي الزبير. قال: [(وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة -وتسمى اليوم رابغ- ولأهل نجد قرن المنازل -وتسمى اليوم السيل- ولأهل اليمن يلملم. قال: فهن لهن -أي: لهذه القرى- ولمن أتى عليهن من غير أهلهن)]. فميقات أهل الشام لمن مر به براً أو بحراً أو جواً أو بمحاذاته، فالطائرة القادمة من مصر إلى جدة تمر بمحاذاة رابغ، وكذلك الذي يأتي من المغرب أو من سوريا أو لبنان أو غيرها إنما يمر مروراً محاذياً للميقات، ولو تعمد أن يمر من فوق رابغ لكان له ذلك، وهو أفضل بلا شك. فالإحرام يكون من الميقات أو من مكان يحاذي ويوازي الميقات. قوله: (فهن لهن ولمن أتى عليهن)، أي: ولمن أتى من هذه المواقيت من غير أهل هذه البلاد، والذي يمر بميقات ليس هو ميقاته فله أن يتخذه ميقاتاً له، بل لا يجوز له أن يتجاوزه وهو ينوي أداء النسك إلا بالإحرام منه، فهو كميقاته. قال: [(هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة)]، فلو مر على الميقات وهو لا يريد أن يحج أو يعتمر ولا ينوي النسك يأثم بتجاوزه الميقات بغير إحرام على مذهب جماهير العلماء، وبعض أهل العلم قال: لا يجوز دخول مكة إلا محرماً، والراجح عدم الإثم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة بغير إحرام، وهذا يدل على جواز دخول مكة بغير إحرام. فمن عقد النية على أداء النسك لا يجوز له أن يتجاوز الميقات دون إحرام، فإن تجاوزه دون إحرام فقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن عليه دماً، ومنهم من أوجب عليه أن يرجع إلى ميقاته فيحرم منه، ثم يدخل بعد ذلك مكة. وهذا بلا خلاف بينهم. واختلفوا في زيارة المدينة أولاً، والذي أخلص إليه: أن من أحرم من ميقات أهل المدينة أن ذلك جائز مع الكراهة، ويصح حجه وعمرته مع مخالفته للأولى، والأولى أنه لا يمر من ميقاته إلا بإحرام؛ لقوله: (هن لهن)، أي: هذه المواقيت لأهلها، فينبغي أداء النسك أولاً قبل الزيارة. قال: [(هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة، فمن كان دونهن فمن أهله، وكذا فكذلك، حتى أهل مكة يهلون منها). حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا يحيى بن آدم حدثنا وهيب حدثنا عبد الله بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم. وقال: هن لهم -أي: لأهل هذه البلاد- ولكل آت أتى عليهن من غيرهن -أي: ولمن مر بهذه البلاد وهذه المواقيت- ممن أراد الحج والعمرة، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ -يعني: من حيث أراد النسك يحرم من مكانه- حتى أهل مكة من مكة)].

شرح حديث ابن عمر في المواقيت

شرح حديث ابن عمر في المواقيت قال: [وحدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يهل أهل المدينة من ذي الحليفة، وأهل الشام من الجحفة، وأهل نجد من قرن. قال عبد الله - يعني عبد الله بن عمر -: وبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ويهل أهل اليمن من يلملم)]. قوله: (وبلغني) يدل على أنه لم يسمعه بنفسه من النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما سمعه من غير النبي صلى الله عليه وسلم، والغالب أن هذا من مراسيل الصحابة، ومراسيل الصحابة في الغالب مقبولة؛ لأن الصحابي غالباً لا يأخذ إلا عن صاحبه، وقل أن تجد صحابياً يأخذ عن تابعي، ومعظم روايات الصحابة عن الصحابة. وقد جاء في حديث ابن عباس أن النبي عليه الصلاة والسلام هو الذي حدد ميقات أهل اليمن وقال: (ولأهل اليمن يلملم). وحديث ابن عباس مرفوع بلا شك، وهو متفق عليه في الصحيحين. وأما قول عبد الله بن عمر: (وبلغني) فهذا من الأمانة العلمية، فهو لم يسمع ذلك وإنما بلغه بلاغاً، كأنه بلغه حديث ابن عباس فقال به. قال: [أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مهل أهل المدينة ذو الحليفة -يعني: المكان الذي يهلون منه، يعني: يحرمون منه- ومهل أهل الشام مهيعة -وهو اسم للجحفة- وهي الجحفة، ومهل أهل نجد قرن. قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: وزعموا -والزعم يطلق على القول الصادق والقول الكاذب- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أسمع ذلك منه قال: ومهل أهل اليمن يلملم)]. ولا حرج على عبد الله بن عمر في أنه لم يسمع ذلك، لأنه قد سمعه جابر وعبد الله بن عباس، وهما حجتان، وعبد الله بن عمر لم ينف ذلك، وإنما قال: بلغني أنه قال كذا. فـ ابن عباس حفظ، وعبد الله بن عمر إما أنه لم يسمع ميقات أهل اليمن خاصة، أو أنه سمع ونسي، والمعلوم أن من حفظ حجة على من لم يحفظ. قال: [حدثنا يحيى بن يحيى ويحيى بن أيوب وقتيبة وعلي بن حجر قال يحيى: أخبرنا، وقال الآخرون: حدثنا إسماعيل بن جعفر عن عبد الله بن دينار أنه سمع ابن عمر رضي الله عنهما قال: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل المدينة أن يهلوا من ذي الحليفة، وأهل الشام من الجحفة، وأهل نجد من قرن. وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: وأخبرت أنه قال: ويهل أهل اليمن من يلملم). وحدثني زهير بن حرب وابن أبي عمر قال ابن أبي عمر: حدثنا سفيان - يعني: ابن عيينة -عن الزهري عن سالم عن أبيه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يهل أهل المدينة من ذي الحليفة، ويهل أهل الشام من الجحفة، ويهل أهل نجد من قرن. قال ابن عمر رضي الله عنهما: وذكر لي ولم أسمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ويهل أهل اليمن من يلملم)].

شرح حديث جابر بن عبد الله في المواقيت

شرح حديث جابر بن عبد الله في المواقيت وأما الحديث الأخير في الباب بعد حديث ابن عباس وحديث ابن عمر فهو حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما. قال: [حدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا روح بن عبادة حدثنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير: (أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يسأل عن المهل؟ -أي: عن أماكن الإهلال، أي: الإحرام- فقال سمعت: ثم انتهى فقال: أراه يعني النبي صلى الله عليه وسلم)]، يعني: أن أبا الزبير شك، هل رفع جابر إلى النبي صلى الله عليه وسلم أم لا. قال: [وحدثني محمد بن حاتم وعبد بن حميد كلاهما عن محمد بن بكر - وهو البرساني - قال عبد: أخبرنا محمد أخبرنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير: أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يسأل عن المهل؟ فقال: سمعت أحسبه رفع إلى النبي عليه السلام -يعني: أظنه رفع الحديث- فقال: مهل أهل المدينة من ذي الحليفة، والطريق الآخر الجحفة)] يعني: مهل أهل المدينة من جهة الشرق ذو الحليفة، ومقابله الجحفة لأهل الشام. [(ومهل أهل العراق من ذات عرق، ومهل أهل نجد من قرن، ومهل أهل اليمن من يلملم)]. وذو الحليفة هي أبعد المواقيت من مكة، وبينها وبين مكة نحو عشر مراحل أو تسع، وهي قريبة من المدينة على نحو ستة أميال. والجحفة ميقات لأهل الشام ولأهل مصر، قيل: سميت بذلك لأن السيل أجحفها في وقت، يعني: أخذها في طريقه، وهي الآن خربة، والعامرة بجوارها وقبلها بشيء يسير هي رابغ، ويقال للجحفة مهيعة، وهي على نحو ثلاث مراحل من مكة على طريق المدينة. وأما يلملم فهو جبل من جبال تهامة على مرحلة من مكة. وأما قرن المنازل فهو بإسكان الراء بلا خلاف بين أهل العلم من أهل الحديث واللغة والتاريخ والأسماء، وغلط الجوهري في صحاحه غلطاً فاحشاً فقال: بفتح الراء، وهو خطأ، وهو أقرب المواقيت إلى مكة. وأما ذات عرق بكسر العين ميقات أهل العراق، واختلف العلماء هل وقته لهم النبي صلى الله عليه وسلم أم وقته عمر بن الخطاب باجتهاده؟ وأما تضعيف بعضهم لهذه الرواية على اعتبار أن العراق لم تفتح فقد رددنا عليه، وذكرنا أنه عليه الصلاة والسلام وقت لأهل الشام الجحفة في جميع الأحاديث الصحيحة بلا خلاف، ومعلوم أن الشام لم تفتح في زمانه عليه الصلاة والسلام، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة عنه عليه الصلاة والسلام أنه أخبر بفتح الشام واليمن والعراق، فلا مانع أن يحدد لهذه البلاد المواقيت، وقد حدد المواقيت لأهل اليمن ولأهل الشام بلا خلاف، فما المانع أن يحدده لأهل العراق؟ وهو صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه زويت له مشارق الأرض ومغاربها، وقال: (سيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها). وهذه من الكرامات التي وقعت للنبي عليه الصلاة والسلام، فقد زويت له الأرض كلها كأنها في قطعة قماش فرآها كلها، ورأى مشارق الأرض ومغاربها، وأطلعه الله عز وجل وبشره بكل بقعة من الأرض تفتح له، فقال: (وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها)، (وأنهم سيفتحون مصر وهي أرض يذكر فيها القيراط)، (وأن عيسى عليه السلام ينزل على المنارة البيضاء شرقي دمشق). وهذه الأحاديث صحيحة، وهناك غيرها في الصحيح مما يطول ذكره.

كلام النووي في أحاديث مواقيت الحج والعمرة

كلام النووي في أحاديث مواقيت الحج والعمرة

حكم الإحرام من الميقات

حكم الإحرام من الميقات قال النووي رحمه الله: (وأجمع العلماء على أن هذه المواقيت مشروعة). والمشروع عبارة عن المستحب أو الواجب، ومن فقه الإمام النووي ودقته أنه قال: إجماع العلماء منعقد على مشروعية هذه المواقيت، ولما وقع الخلاف بينهم في الاستحباب والوجوب لم يذكره، وإنما ذكر أن الإجماع انعقد على مشروعية هذه المواقيت، فقال: (وأجمع العلماء على أن هذه المواقيت مشروعة. ثم قال مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد والجمهور: هي واجبة، لو تركها وأحرم بعد مجاوزتها أثم ولزمه دم وصح حجه). يصح عند الجمهور وفيه فداء، فمثلاً الذي يمر برابغ وهو يريد أداء النسك، ثم فوجئ بأن الطائرة قد نزلت في مطار جدة وهو لم يحرم فقد اختلف فيه العلماء، فإما أن يرجع إلى الميقات ويحرم منه، وإما أنه يحرم من المكان الذي نزل فيه وعليه دم، يعني: يذبح شاة، وقد لزمه الإثم. والإثم يلحق المتعمد، ولا يرفع عنه الإثم إلا التوبة، ومع هذا يلزمه دم، فيذبح شاة لفقراء الحرم وحينئذ يصح حجه أو عمرته. قال: (وقال عطاء والنخعي: لا شيء عليه) ولكن هذا الكلام محمول على من ترك الميقات ناسياً أو مخطئاً حتى أكمل حجه. قال: (وقال سعيد بن جبير: لا يصح حجه)؛ لأنه ترك الميقات متعمداً. والأخذ بقول الجمهور فيه النجاة والعصمة. فـ عطاء والنخعي قالا: لا شيء عليه، يعني: يحرم من أي مكان، وهذا القول مردود لو كان عامداً، وأما إذا كان ساهياً فلا شيء عليه؛ لأن المخطئ والناسي لا شيء عليهما في الشرع، وعلى هذا لو أن شخصاً نام في الطائرة أو في الباخرة ولم يستيقظ إلا في جدة ولم يحرم من الميقات فإنه لا حرج عليه حينئذ؛ لأنه لا يستوي الناسي أو النائم مع المتعمد، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ورفع القلم عن النائم حتى يستيقظ)، وأما سعيد بن جبير فقوله شديد جداً، هو أقوى الأقوال. قال: (وفائدة المواقيت: أن من أراد حجاً أو عمرة حرم عليه مجاوزتها بغير إحرام ولزمه الدم كما ذكرنا. قال الشافعية: فإن عاد إلى الميقات قبل التلبس بنسك سقط عنه الدم، وفي المراد بهذا النسك خلاف منتشر).

حكم الإحرام لمن دخل مكة غير ناو للحج أو العمرة

حكم الإحرام لمن دخل مكة غير ناوٍ للحج أو العمرة قال: (وأما من لا يريد حجاً ولا عمرة فلا يلزمه الإحرام لدخول مكة على الصحيح من مذهبنا، سواء دخل لحاجة تتكرر كحطاب وحشاش وصياد ونحوهم، أو لا تتكرر كتجارة وزيارة ونحوهما. وللشافعي قول ضعيف: أنه يجب الإحرام بحج أو عمرة إن دخل مكة أو غيرها من الحرم لما يتكرر بشرط سبق بيانه. والراجح. أما من دخل مكة وهو لا ينوي نسكاً أنه لا يلزمه الإحرام).

حكم من تجاوز الميقات غير مريد للحج أو العمرة ثم نواهما أو أحدهما بعد مجاوزة الميقات

حكم من تجاوز الميقات غير مريد للحج أو العمرة ثم نواهما أو أحدهما بعد مجاوزة الميقات قال: (وأما من مر بالميقات غير مريد دخول الحرم بل لحاجة دونه)، أي: أنه لن يصل إلى الحرم، وإنما إلى قبله. قال: (ثم بدا له أن يحرم فيحرم من موضعه الذي بدا له فيه). وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام هنا: (ومن كان دون ذلك -أي: دون هذه المواقيت- فمن حيث أنشأ) أي: من حيث نوى، ولا يلزمه أن يرجع إلى الميقات الذي مر عليه؛ لأنه لم ينو نسكاً في وقت المرور عليه، ولا بد أن يحرم فوراً منذ أن عقد نيته على الإحرام، ولو سار بغير إحرام مع عقد النية فيأخذ حكم من مر من الميقات دون إحرام. قال: (فإن جاوزه بلا إحرام ثم أحرم أثم ولزمه الدم، وإن أحرم من الموضع الذي بدا له أجزأه ولا دم عليه)، يعني: لا يلزمه أن يرجع إلى الميقات ولا دم عليه. قال: (ولا يكلف الرجوع إلى الميقات. وقال: الإمام أحمد وإسحاق: يلزمه الرجوع إلى الميقات). والأخذ بالأيسر أيسر للناس.

ميقات أهل مكة للحج والعمرة

ميقات أهل مكة للحج والعمرة وميقات أهل مكة لا بد أن نميز فيه بين نسكين، فالذي يريد أن يؤدي عمرة يلزمه أن يخرج إلى الحل خارج مكة، ومكة كلها حرم، يعني: كلها لها حرمة، ولذلك سميت حرماً، وقد اعتاد الناس أن يخرجوا للعمرة من التنعيم كما هو مذكور في حديث عائشة، وعرفة حل، وقل من يحرم منها إلا الإخوة طلاب العلم الذين يعرفون أن عرفة حل، وعرفة ليست كلها حل، وإنما: نصفها فقط. والذي يريد الحج من أهل مكة يحرم من بيته، ويلبس ملابس الإحرام وينطلق إلى النسك والحج، فيسن لأهل مكة في يوم التروية أن يلبسوا ملابس الإحرام من بيوتهم والخروج منها مباشرة إلى منى دون المرور بالحرم، وبعض أهل العلم استحب لأهل مكة إذا أرادوا الإحرام أن يذهبوا إلى الحرم ويحرموا منه، والراجح الأول. يقول هنا في قوله: [(فمن كان دونهن فمن أهله، وكذا فكذلك، حتى أهل مكة يهلون منها) يقول: ومعناه وهكذا، فهكذا من جاوز مسكنه الميقات حتى أهل مكة يهلون منها. وأجمع العلماء على هذا كله، فمن كان في مكة من أهلها أو وارداً إليها وأراد الإحرام بالحج فميقاته نفس مكة، ولا يجوز له ترك مكة والإحرام بالحج من خارجها -يعني: ليس له أن يذهب إلى ميقاته- سواء الحرم والحل، هذا هو الصحيح عند أصحابنا. وقال بعض أصحابنا: يجوز له أن يحرم به من الحرم كما يجوز من مكة؛ لأن حكم الحرم حكم مكة، والصحيح الأول لهذا الحديث. قال أصحابنا: ويجوز أن يحرم من جميع نواحي مكة بحيث لا يخرج عن نفس المدينة وسورها، وفي الأفضل قولان أصحهما: من باب داره -يعني: يحرم من باب داره- والثاني: من المسجد الحرام تحت الميزاب -ولا دليل عليه- وهذا كله في إحرام المكي بالحج، والحديث إنما هو في إحرامه بالحج. وأما ميقات المكي للعمرة فأدنى الحل)، أي: من كان مقيماً بمكة أو من أهلها ميقاته المكاني للعمرة أدنى الحل، يعني: في أول الحل، وليس لازماً أن يكون من التنعيم. قال: (لحديث عائشة الآتي: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها في العمرة أن تخرج إلى التنعيم وتحرم بالعمرة منه). والتنعيم في طرف الحل. والله تعالى أعلم).

ميقات أهل العراق ومن مر عليها

ميقات أهل العراق ومن مر عليها قال: (قوله حديث جابر: (ومهل أهل العراق من ذات عرق)، هذا صريح في كونه ميقات أهل العراق، لكن ليس رفع الحديث ثابتاً كما سبق، وقد سبق الإجماع على أن ذات عرق ميقات أهل العراق ومن في معناهم -فميقات أهل العراق ثابت بالنص الموقوف والإجماع- قال الشافعي: ولو أهلوا من العقيق كان أفضل -والعقيق مكان قبل ذات عرق بقليل جداً، كما أن رابغ قبل الجحفة - والعقيق أبعد من ذات عرق بقليل، فاستحبه الشافعي لأثر فيه، ولأنه قيل: إن ذات عرق كانت أولاً في موضعه، ثم حولت وقربت إلى مكة. والله أعلم).

الميقات الزماني للحج والعمرة

الميقات الزماني للحج والعمرة قال: (واعلم أن للحج ميقات مكان، وهو ما سبق في هذه الأحاديث، وميقات زمان -يعني: الحج له ميقات زماني وميقات مكاني، وكذلك العمرة- وهو شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة، ولا يجوز الإحرام بالحج في غير هذا الزمان. هذا مذهب الشافعي. ولو أحرم بالحج في غير هذا الزمان لم ينعقد حجاً وانعقد عمرة. وأما العمرة فيجوز الإحرام بها وفعلها في جميع أيام السنة، ولا يكره في شيء منها، لكن شرطها ألا يكون في الحج، ولا مقيماً على شيء من أفعاله -يعني: لا يدخل هذه مع ذاك في نسك واحد). والله تعالى أعلم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم.

الأسئلة

الأسئلة

حكم إفراد يوم السبت بالصيام

حكم إفراد يوم السبت بالصيام Q جاء في الحديث (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم، وإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنب أو عود شجر فليمضغه)، فإذا صادف يوم السبت يوم عرفة وعاشوراء فهل نصومه؟ وإذا صمت يوم الجمعة فهل علي أن أصوم يوم السبت إذا لم أكن قد صمت الخميس؟ A نعم. وحديث: (لا تصوموا السبت إلا فيما افترض عليكم) حديث صحيح، وهو عام في النهي عن صيام السبت مطلقاً، وقال: جماهير العلماء قديماً وحديثاً بجواز صيام السبت إذا صمت يوماً قبله أو يوماً بعده، والنهي الوارد في الحديث وإن كان عاماً إلا أنه مخصوص بالإفراد، لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تصوموا الجمعة إلا أن تصوموا يوماً قبله - الذي هو الخميس - أو يوماً بعده). فمن صام الجمعة مفردة ولم يصم معها يوماً قبلها أو بعدها فهو مكروه، وكذلك من صام السبت مفرداً. وأما من جمع إلى الجمعة يوماً قبلها أو بعدها فلا شيء عليه في ذلك، وكذلك السبت. والله تعالى أعلم. ولكن لو كان يوم عرفة يوم سبت فإن كان بإمكانك أن تجمع إليه الجمعة فلا شك أن هذا حسن وخروج من الخلاف، وإن لم يكن الجمع فلا بأس بالصيام، وإذا وافق يوم من هذه الأيام المنهي عنها يوماً مخصوصاً بالفضل فلا بأس بصيامه، وفي ذلك أثر وإن كان ضعيفاً، وذكره الشيخ سيد سابق في كتاب فقه السنة، ولكن عمل العلماء على جواز هذا في الأيام الفاضلة، ولتخصيص يوم عرفة بمغفرة الذنوب السابقة لعام واللاحقة لعام، والله أعلم. وجاء في حديث أم سلمة: (كان النبي عليه الصلاة والسلام يصوم يوم السبت والأحد أكثر مما يصوم من الأيام، ويقول: إنهما عيد المشركين فأنا أحب أن أخالفهم). وهذا حديث حسن أيضاً.

حكم إدخال مني الرجل إلى رحم زوجته بواسطة الحقن

حكم إدخال مني الرجل إلى رحم زوجته بواسطة الحقن Q ما حكم الإسلام في أخذ السائل المنوي من الرجل ووضعه في رحم المرأة بواسطة الحقن؟ A لا بأس بذلك بشرط أمانة الطبيب. وهناك مراكز كثيرة جداً تقوم بهذه العمليات، وتخون في وضع النطفة من باب إثبات النجاح وسمعة المراكز وغيرها، فإذا كان الطبيب صاحب دين ومأمون على أخذ النطفة من الزوج ووضعها في رحم الزوجة فلا بأس بذلك. فجواز هذا وعدمه متوقف على أمانة الطبيب.

الحكم على حديث: (بارك الله في التجارة والنجارة)

الحكم على حديث: (بارك الله في التجارة والنجارة) Q هل هناك حديث يقول: (بارك الله في التجارة والنجارة)؟ A لا.

حكم الصناديق التعاونية التي تستثمر أموالها في البنوك

حكم الصناديق التعاونية التي تستثمر أموالها في البنوك Q ما حكم صندوق التكافل الموجود في المصالح الحكومية والذي يعطي مكافأة نهاية الخدمة، مع العلم بأن أموال هذا الصندوق تستثمر في البنوك؟ A اسأل الشيخ صفوت نور الدين فهو أدرى الناس تقريباً بهذه الصناديق.

فضل لزوم المرأة بيتها

فضل لزوم المرأة بيتها Q ما جزاء التزام المرأة الجلوس في بيتها؟ A جزاها الله خيراً، فهذا عمل صالح.

حكم خروج المرأة صلة لرحمها

حكم خروج المرأة صلة لرحمها Q ما حكم خروج المرأة لصلة رحمها بمفردها أو مع زوجها؟ A إذا خرجت بإذن الزوج لصلة رحمها الذي لا يستدعي سفراً فلا شيء عليها، ولا يحل لها أن تخرج بغير إذن الزوج، وإن خرجت مع زوجها فهو أفضل.

حكم جلوس المرأة مع عمها

حكم جلوس المرأة مع عمها Q ما حكم دراسة الفتاة البالغة عند عمها شقيق أبيها دروساً خصوصية؟ A إذا كان المدرس هو عمها فهو بمنزلة الوالد، وهو محرم، فلا يلزم من ذلك وجود محرم.

حكم الائتمام بالإمام الذي يصلي العشاء إذا كان المأموم لم يصل المغرب

حكم الائتمام بالإمام الذي يصلي العشاء إذا كان المأموم لم يصل المغرب Q دخلت المسجد والإمام يصلي العشاء وقد أنهى الركعة الأولى وبقيت ثلاث ركعات، وأنا لم أصل المغرب، فدخلت خلف الإمام بنية أن أصلي المغرب، فصليت مع الإمام الثلاث ركعات الباقية بنية المغرب، فهل صلاتي جائزة أم أعيد صلاة المغرب؟ A لا تعد، وصلاتك مخالفة للأولى، فقد كان الأولى أن تصلي مع الإمام صلاته التي يصليها ثم تأتي بما فاتك من غير إعادة لما أدركت مع الإمام. فلو جئت والإمام يصلي العشاء فصل معه العشاء، ثم صل المغرب بعد ذلك، وأما إعادة العشاء فمحل خلاف بين أهل العلم، والراجح أنه لا يلزم إعادتها؛ لأنه لا فرض في يوم مرتين.

معنى دبر الصلاة وذكر بعض الأدعية التي تكون بعد الصلاة

معنى دبر الصلاة وذكر بعض الأدعية التي تكون بعد الصلاة Q هل الدعاء دبر الصلوات بعد انتهاء الصلاة أم قبلها؟ A بعد الفراغ من الصلاة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا فرغ من صلاته: (اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، تباركت وتعاليت). وكان يقول بعد صلاتي الفجر والمغرب: (اللهم إني أسألك علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، ورزقاً حلالاً طيباً متقبلاً). وغيرها من الأدعية، فكلها كان يقولها عليه الصلاة والسلام بعد الفراغ من الصلاة.

من ضوابط التكفير والاختلاف السائغ

من ضوابط التكفير والاختلاف السائغ Q سمعنا كثيراً أن المقياس في التكفير هو الاستحلال، كما في تفسير السعدي وكتاب فتنة التكفير للألباني، ولم نسمع عن التفريق بين التشريع العام والتشريع الخاص؟ A من قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله كان مسلماً، ولو قال بقول رشاد خليفة وأحمد صبحي منصور فلا. فـ رشاد خليفة ادعى النبوة في أمريكا وكان سكرتير أحمد صبحي منصور، وأحمد صبحي منصور قلب الفرائض والأركان ولم يؤمن بحديث واحد من أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما آمن بالقرآن فقط بزعمه. وقال: قرأت القرآن من أوله إلى آخره فلم أجد فيه إلا خطأين اثنين. وقد اختلف الصحابة في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه عز وجل، وهذه المسألة من مسائل الاعتقاد، وفيها خلاف، ولكنهم لم يختلفوا في أصول الاعتقاد وإنما في فروعه، وأما أصول الاعتقاد فلم يحصل فيها خلاف بين السلف، وهذا أمر معلوم مستقر. وقد وقع النزاع الآن في هذه المسألة، والخلاف إن كان مبنياً على الدليل فهو اختلاف أفهام في النص فيكون راجحاً ومرجوحاً، وإن كان غير مبني على دليل فخطأ وصواب، أو صح وغلط. فخلاف أهل العلم في هذه القضية لا يضرك. وأنت إذا نظرت في أدلة جواز كشف الوجه وأدلة عدم كشفه وترجح لديك وجوب الستر ثم أمرت النساء بكشف وجوههن فإنك تأثم؛ لأنك اعتقدت اعتقاداً جازماً أن الأدلة تنهض لوجوب الستر، ولو اعتقدت ديناً لله عز وجل أن الستر جائز؛ لأن الأدلة لا تنهض على الوجوب فإنك لا تأثم بالكشف. فالراجح في حقك هو دين تتعبد به الله عز وجل. وأنت إذا كنت جاهلاً كما تقول عن نفسك فالفرض في حقك أن تقلد من تثق في دينه، وليس عيباً، وإنما العيب أن يأتي الجاهل ويقول: إن العلماء فرقوا بين التشريع العام والتشريع الخاص، هذا ليس أسلوباً أدبياً.

كتاب الحج - التلبية وصفتها ووقتها

شرح صحيح مسلم - كتاب الحج - التلبية وصفتها ووقتها يشرع للحاج والمعتمر إذا بلغ الميقات أن يغتسل ويتطيب ثم يلبس لباس الإحرام، وإن وافق صلاة فريضة صلاها، فإذا ركب دابته واستوت به لبى بحجه أو عمرته، والرجل يرفع بها صوته دون المرأة، ولا تنقطع التلبية حتى يشرع في أعمال الحج والعمرة، ولا يمنع منها حائض ولا نفساء ولا جنب ولا من دونهم من أصحاب الحدث.

مقدمة

مقدمة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. ثم أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة. أما بعد: فالذي يريد أداء النسك يجب عليه أن يعقد نية خالصة لله عز وجل؛ لأن الإخلاص سر قبول العمل، كما أن استقامة العمل هي سر قبوله كذلك، فإذا كان العمل صالحاً على نهج النبوة فإنه لا يقبل حتى يكون خالصاً لله عز وجل، وإذا كان خالصاً لله وليس على نهج النبوة فإنه لا يقبل حتى يكون خالصاً وسائراً على منهاج النبوة. فالذي يريد أن يؤدي نسكاً لله عز وجل أو أي عبادة لله لابد أن ينوي نية صالحة صادقة خالصة؛ لأن العبادة مصروفة لله عز وجل لا لأحد سواه، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يسأل ربه الإخلاص في أقواله وأفعاله، وفي الحج كان يقول: (اللهم إني أسألك حجة لا رياء فيها ولا سمعة). وقال عليه الصلاة والسلام: (من راءى راءى الله به -أي: فضحه على رءوس الأشهاد يوم القيامة- ومن سمع سمع الله به)، وهذا في جميع الأعمال التي هي مصروفة لله عز وجل، فإذا صرفها العبد لغير الله حوسب عليها وفضح على رءوس الأشهاد. ثم إذا جمع نية صالحة يستحب له أن يخرج من بيته لأداء النسك يوم الخميس، وبذلك جاءت الرواية الصحيحة عند البخاري وغيره: (أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا سافر خرج يوم الخميس)، والحج سفر؛ بل هو من أعظم السفر. وقرر ذلك الحافظ ابن حجر عليه رحمة الله قال: يستحب السفر للحج يوم الخميس، إذا كان في إمكانه، وإلا ففي أي يوم يجوز أن يخرج للحج. ثم لابد أن يعرف الحاج ما يحل له وما يحرم، وما يبطل نسكه وما يفسده، وما لو قصر في واجب وجب عليه الدم، لابد أن يعرف كل ذلك. وفي الدروس الماضية علمنا أن الحاج إذا أخلص النية لله ثم بدأ في السفر وبلغ الميقات المكاني وأحرم بالحج أو بالعمرة يحرم عليه الطيب بعد ذلك، سواء كان في ثوبه أو في بدنه كما يحرم عليه الجماع، وأن الجماع يفسد ويبطل هذا النسك، ويحرم عليه لبس المخيط على قدر العضو سواء كان قميصاً أو بنطالاً أو سروالاً، إلا ألا يجد إزاراً فيلبس السروال حتى يتمكن من لبس الإزار، ولا يلبس البرنس ولا العمامة. والمرأة إنما تحرم في ثيابها التي تلبسها، غير أنه يحرم عليها أن تنتقب في حال إحرامها؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تنتقب المرأة المحرمة)، وهذا نهي أفاد التحريم. وقول عائشة رضي الله عنها: كنا نكشف وجوهنا حتى إذا مر بنا الركبان من الرجال أسدلنا على وجوهنا، فالذي يباح للمرأة في إحرامها الإسدال لا النقاب، والإسدال: هو أن تطرح المرأة على رأسها شيئاً من قماش، ولا تعصبه عصباً، ولا تربطه كما تربط النقاب، وتكشف وجهها، فإذا أقبل إليها الرجال أو كانت في جمع فيهم رجال فيسن لها أن تطرح هذا القماش على وجهها دون أن تشده أو أن تربطه. وتكلمنا عن الميقات، والميقات نوعان: زمني، وهو للعمرة في جميع أيام السنة، وللحج في أشهر الحج، وهي: شوال، وذو القعدة، والعشر الأوائل من ذي الحجة، كما اتفقنا على ذلك وهذا مذهب الجماهير، وبعضهم قال: بل ذو الحجة شهر للحج كله من أوله إلى آخره، وبينا تفصيل ذلك في الدرس الماضي. أما المواقيت المكانية: فهي: يلملم لأهل اليمن، وذو الحليفة لأهل المدينة، والجحفة لأهل الشام والمغرب، وذات عرق لأهل العراق، وقرن المنازل لأهل نجد، هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن لمن أراد الحج والعمرة، وبينا أنه لا يحل لأحد يريد النسك أن يعبر هذه المواقيت دون أن يحرم، فإذا جاوزها بغير إحرام اختلف أهل العلم في كفارة ذلك: هل يلزمه أن يرجع إلى الميقات ويحرم منه، أم يكفيه أن يتوب إلى الله عز وجل ويفدي بدمٍ يعني: يذبح شاة لفقراء الحرم، ويستمر في إحرامه وأداء نسكه؟

باب التلبية وصفتها ووقتها

باب التلبية وصفتها ووقتها والترتيب البديع الذي سار عليه الإمام مسلم، هو أنه تكلم أولاً فيما يحل وما يحرم للمحرم قبل أن يخرج من بيته، ثم إذا خرج ذهب إلى الميقات، فتكلم عن الميقات بعد أن تكلم عن المحرمات والمنهيات، ثم إذا ذهب المتنسك إلى الميقات وقف عنده حتى يحرم ويلبي؛ لأن الإحرام والتلبية قرينان، ولذلك أعقب الكلام عن المواقيت بكلام عما يلزم الحاج منذ أن يحرم من الميقات، ولذلك قال: باب التلبية وصفتها ووقتها. والتلبية تبدأ من الميقات، فلازلنا مع الإمام مسلم وكذا الإمام النووي من الدرس الماضي في الميقات، وما الذي يلزمني -كرجل أراد نسكاً أو امرأة- في الميقات، فقال: التلبية بعد الإحرام: فالتلبية ليست قبل الإحرام وإنما هي بعد الإحرام، والإحرام لا يكون إلا من الميقات، فإذا أحرمت وأنت في الميقات المكاني، فإنما تعقب الإحرام التلبية، ولذلك لم يتكلم هنا عن الإحرام على افتراض أنه أمر بدهي معروف، وأن التلبية لا تكون إلا من بعده.

شرح حديث ابن عمر في صفة تلبية النبي

شرح حديث ابن عمر في صفة تلبية النبي قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يحيى بن يحيى التميمي قال: قرأت على مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك)]، النبي عليه الصلاة والسلام لم يثبت عنه أنه لبى بغير هذه الكلمات، فمن أراد أن يتمسك بهذا فلا شك أنه تمسك بالأصل، وهو قوله المرفوع إليه عليه الصلاة والسلام وفعله كذلك؛ لأنه أمر بذلك. قال نافع: [وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يزيد فيها -أي: يزيد في التلبية- وهي قوله: (لبيك لبيك وسعديك، والخير بيديك، لبيك والرغباء إليك والعمل)]، وهذا مسنون وجائز، فإن فعلته فهو جائز مشروع، ولا حرج عليك ألا تفعله، وتتمسك بتلبية النبي عليه الصلاة والسلام، ولا بأس أن تجمع هذه التلبية إلى تلبيته عليه الصلاة والسلام. قال: [حدثنا محمد بن عباد -وهو ابن الزبرقان المكي نزيل بغداد- قال: حدثنا حاتم -وهو ابن إسماعيل المدني أبو إسماعيل وأصله من الكوفة- عن موسى بن عقبة -وهو الإمام الكبير الفقيه بالمغازي صاحب السير، وهو أسدي مولى آل الزبير- عن سالم بن عبد الله بن عمر -وهو سالم المدني، ابن الصحابي الجليل عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما- ونافع مولى عبد الله بن عمر وحمزة بن عبد الله] أي: حمزة بن عبد الله بن عمر. إذاً: سالم وأخوه حمزة والمولى نافع جميعاً يروون عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. قال: [(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استوت به راحلته قائمة عند مسجد ذي الحليفة)]، يعني: قامت ونهضت من بروكها، وذلك عند مسجد ذي الحليفة، ميقات أهل المدينة، فهذا يدلنا على أن النبي عليه الصلاة والسلام ما كان يحرم ولا يلبي إلا بعد أن تقوم به راحلته وتستوي تماماً، حينئذٍ يقول: (لبيك اللهم حجة، لبيك اللهم عمرة، ثم يقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك)؛ وهذا يعمل به كثير من الناس، وبه قال أهل العلم، لكن الراجح ما فعله النبي عليه الصلاة والسلام أنه ما كان يحرم بالنسك إلا بعد أن يدخل المسجد فيصلي فيه ثم ينطلق فيركب الراحلة من أمام المسجد ثم يحرم ويلبي بعد ذلك. كثير من الناس يدخلون مسجد ذي الحليفة أو في أي مسجد من مساجد المواقيت فيغتسلون ثم يصلون ركعتين، أو يصلون الفرض إذا وافق فرضاً، ثم بعد التسليم مباشرة يهلون ويحرمون فيقولون: لبيك اللهم عمرة، أو لبيك اللهم حجة، وهذا وإن كان جائزاً لكنه خلاف الأولى، والأولى هو فعله عليه الصلاة والسلام، حيث كان يصلي ثم يخرج من المسجد ويركب الراحلة ثم يأمرها بالقيام فتقوم، حتى إذا استوت قال: لبيك اللهم عمرة أو حجة، أو يجمع بينهما؛ لأنه عليه الصلاة والسلام اعتمر أربع مرات، وحج مرة واحدة، وكان حجه قراناً يعني: قرن بين العمرة والحج، وساق الهدي من ميقات ذي الحليفة وأدخله معه منى. قال: [(إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استوت به راحلته قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل -يعني: بعد أن تستوي تماماً يحرم- فقال: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك). قال: [قالوا -أي: حمزة ونافع وسالم - وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: هذه تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم]. يعني: هذه الكلمات الماضية أو السالفة هي التي لبى بها النبي عليه الصلاة والسلام. قال: [قال نافع: وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يزيد مع هذه الكلمات: لبيك وسعديك، والخير بيديك، لبيك والرغباء إليك والعمل. وحدثنا محمد بن المثنى وهو العنزي أبو موسى البصري المعروف بـ الزمن، قال: حدثنا يحيى بن سعيد وهو الأنصاري عن عبيد الله وهو العمري أخبرني نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: تلقفت]-يعني: أخذت الشيء بسرعة-. التلقف بخلاف الأخذ، التلقف فيه شيء من الخطف والسرعة. قال: [تلقفت التلبية من في رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني: أخذتها أخذاً سريعاً- فذكر بمثل حديثهم. وحدثني حرملة بن يحيى التجيبي المصري قال: أخبرنا ابن وهب وهو عبد الله أخبرني يونس وهو

حكم الزيادة في التلبية التي أثبتها ابن عمر عن أبيه

حكم الزيادة في التلبية التي أثبتها ابن عمر عن أبيه وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يهل بإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم بهؤلاء الكلمات، ويقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك وسعديك، والخير في يديك، لبيك والرغباء إليك والعمل. إذاً: هذه الزيادة التي زيدت في التلبية، إنما هي من عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعمر هذا من الخلفاء الراشدين، بل هو أعظم رجل في الدولة بعد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، فهو الرجل الثالث في الأمة، والنبي عليه الصلاة والسلام أمرنا بالاقتداء بالخلفاء الراشدين، فـ عمر لم يكن قد ابتدع في دين الله عز وجل، فإن العبادات توقيفية، وهذا وقف على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعمر ممن أمرنا بالاستنان بسنته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث العرباض بن سارية يقول: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين). أهل العلم يقولون: الاستنان بسنة الخلفاء الراشدين جميعاً لازمة كلزوم الكتاب والسنة، بمعنى: لو أجمع الخلفاء الأربعة على أمر لصار أمراً لازماً واجباً في حق الأمة كأي نص في كتاب الله أو في سنة النبي عليه الصلاة والسلام، هذا في حال اجتماع الخلفاء الراشدين على أمر، أما إذا انفرد أحدهم بأمر يتعلق بدين الله عز وجل فإن لم يعلم له مخالف ولم ينكر عليه أحد من الصحابة سواء كان من الخلفاء أو من غيرهم لكان كالإجماع، ولم نجد من الصحابة من خالف عمر بن الخطاب أو أنكر عليه في هذه الزيادة، بل وجدنا من يوافقه على ذلك وهو ولده عبد الله، وعبد الله من صغار الصحابة رضي الله عنه، لكنه من أشد الصحابة التزاماً واتباعاً للسنة، ولولا علمه بجواز هذه الزيادة وأنها مستحبة؛ لأنها صادرة من خليفة من الخلفاء الراشدين المهديين المرضيين عند ربهم المبشرين بالجنة، ولا مخالف له من كبار الصحابة فكان كالإجماع. فلما علم عبد الله بن عمر أن هذا دين الله عز وجل التزمه وزاد فيه، ولو وقع في قلب عبد الله بن عمر أدنى شك أن هذه الزيادة لا تجوز، وأنها ليست من قول النبي عليه الصلاة والسلام ما قالها، حتى ولو كان القائل بها أباه. وعمر بن الخطاب كان يهل بإهلال الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم يزيد هذه الزيادة ويقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك وسعديك، والخير في يديك لبيك والرغباء إليك والعمل.

شرح حديث ابن عباس في تلبية المشركين في الجاهلية

شرح حديث ابن عباس في تلبية المشركين في الجاهلية قال: [وحدثني عباس بن عبد العظيم العنبري حدثنا النضر بن محمد اليمامي وهو أبو محمد مولى بني أمية حدثنا عكرمة بن عمار حدثنا أبو زميل وهو سماك بن الوليد الحنفي اليمامي ثم الكوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان المشركون يحجون ويعتمرون]، لكن على نظام الوثنية، فكانوا يقولون في طوافهم: لبيك لا شريك لك، ولكنهم كانوا بعد ذلك يشركون في تلبيتهم فيقولون: لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك، يقولون هذا وهم يطوفون بالبيت. فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يسمع تلبيتهم، فكان إذا سمع قولهم: لبيك لا شريك لك، كان يستوقفهم ويقول: (ويلكم قد قد)، يعني: حسبكم هذا، ولا تزيدوا عليه، كان يأمرهم بأن يقفوا عند التوحيد، وينهاهم عما دون التوحيد وهو الشرك؛ لأنهم يقولون: لبيك لا شريك لك، وهذا كلام جميل وعظيم ويتفقون معنا فيه، أما زيادتهم الشركية فيقولون: إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك، يعني: لبيك يا رب ومن اتخذناهم شركاء ومن اتخذناهم آلهة، لأن هذه الآلهة شركاء لك وأنت تملكهم وما يملكون، لكنه في عمومه شرك؛ لأن التلبية من أعظم أعمال الحج، فلابد من صرفها لله عز وجل فحسب، وإذا صرفت لغيره من المخلوقات فهو من أعظم الشرك. ولذلك (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمعهم يقولون: لبيك لا شريك لك، يقول: ويلكم قد قد)، يعني: حسبكم ويكفيكم هذا ولا تزيدوا عليه من قولكم الشركي: إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك.

مفهوم تثنية (لبيك) في التلبية

مفهوم تثنية (لبيك) في التلبية قال القاضي: قال المازري: التلبية مثناة للتكثير والمبالغة، يعني: لبيك اللهم لبيك، وثنى لبيك للتكثير والمبالغة في الاستجابة والطاعة والانقياد والذل والخضوع لله عز وجل، فلبيك الثانية ليست تأكيداً للأولى؛ لأنه أتى منقاداً ومذعناً خاضعاً ذليلاً لله عز وجل فلا يحتاج إلى تأكيد، وإنما التكرار هنا والتثنية لأجل التكثير والمبالغة. ومعناه: إجابة بعد إجابة، وأول من لبى أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، لما أمره الله عز وجل بقوله: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:27]، قال: لبيك اللهم لبيك، فهو أول من لبى لما بنى قواعد البيت الحرام هو وابنه إسماعيل؛ حيث أمر بعد هذا البناء بأن ينادي في الناس ويعلمهم في هذه الأرض الصحراء الجرداء، ومع هذا فإن الله تبارك وتعالى بلغ صوته ونداءه وأذانه للعالمين جميعاً في ذلك الزمن. قال: إجابة بعد إجابة، وهذا يوافق ما ذكرناه عن إبراهيم لما أمر بالأذان أطاع وقال: لبيك، ولذلك يستحب لمن نودي عليه أن يقول: لبيك فلان، وليس في هذا نوع تحرج، فإذا نادى عليك منادٍ لا بأس أن تقول: لبيك فلان، وهو أحسن من قولك: نعم، وأحسن من قولك: أجبتك، وإن كان كل هذا جائز.

خطأ النووي في تأويله لليد في قوله تعالى: (بل يداه مبسوطتان)

خطأ النووي في تأويله لليد في قوله تعالى: (بل يداه مبسوطتان) قال: معنى لبيك: إجابة بعد إجابة ولزوم لطاعتك، فتثنى للتوكيد لا تثنية حقيقية، بمنزلة قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64]. قال الإمام النووي: أي: نعمتاه، وأنتم تعلمون في أثناء دروسنا لكتاب أصول الاعتقاد للإمام اللالكائي أن اليد الثابتة لله عز وجل لا يجوز صرفها عن ظاهرها، وهو معتقد أهل السنة والجماعة، لا يجوز صرف صفات الله عز وجل عن حقيقتها المرادة لله عز وجل اللائقة بعظمته وجلاله، فإذا قال سبحانه: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64]، إذاً: اليد هنا محمولة على حقيقتها ولا يجوز صرفها إلى غيرها من المعاني. فاليد تأتي في لغة العرب أحياناً بمعنى: النعمة، تقول: فلان له يد على فلان، يعني: له فضل ومنة ونعمة وغير ذلك، لكن السياق هو الذي يحكم القضية، هذا فيما يتعلق بالخلق. أما إذا كان الأمر متعلقاً بالخالق تبارك وتعالى فإن الصفات الواردة في الكتاب والسنة لابد من حملها على حقيقتها على المعنى اللائق بالله عز وجل. ولذلك أخطأ النووي رحمه الله في تأويل هذه الآية، قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64]، أي: نعمتاه، مع أن الله تبارك وتعالى نعمه كثيرة لا يمكن أن نحصرها، قال الله تعالى عنها: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34]، ولم يقل نعمَ الله؛ لأنها اسم جنس لجميع النعم. فأراد الله عز وجل بهذه الآية بيان كثرة نعمه على الخلق، وأن المحصي لها والعاد لها إذا أراد أن يعدها فإنه لا يقدر على ذلك، ولا يمكن لأحد من الخلق أن يحصيها مهما بلغ عقله وذكاؤه. قال: ((بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ))، على تأويل اليد بالنعمة هنا، ونعم الله تعالى لا تحصى. وقال يونس بن حبيب البصري: لبيك اسم مفرد لا مثنى، قال: وألفه إنما انقلبت ياء لاتصالها بالضمير كلدي، وعلى مذهب سيبويه: أنه مثنى بدليل قلبها ياء مع المظهر، وأكثر الناس على ما قاله سيبويه.

معنى التلبية

معنى التلبية واختلف أهل العلم في معنى (لبيك) فقيل معناها: اتجاهي وقصدي إليك، يعني: أنا يا رب أقصدك بهذا النسك، أي: أتيت إليك قاصداً موجهاً ومولياً وجهي إليك. (لبيك اللهم لبيك) أي: قصدتك يا رب بهذا النسك، مأخوذ من قولهم: داري تَلُبُّ دارك أي: تواجهها. وقيل معناها: محبتي لك، مأخوذ من قولهم: امرأة لبة إذا كانت محبة لولدها عاطفة عليه. وقيل معنى (لبيك اللهم) أي: إخلاصي إليك يا رب، مأخوذ من قولهم: حب لباب إذا كان خالصاً محضاً، ومن ذلك لب الطعام ولبابه، أي: قلبه وإخلاصه، ومحل الإخلاص هو القلب. وقيل معناها: أنا مقيم على طاعتك وإجابتك، مأخوذ من قولهم: لب الرجل بالمكان وألب إذا أقام فيه. فهذا الرجل الذي أراد النسك قائم من أول الإحرام حتى يتحلل على طاعة الله عز وجل، ولذلك ينهى المحرم عن التلبس بالمعاصي؛ لأنه القائل: لبيك اللهم لبيك، يعني: أنا مقيم على طاعتك، فالذي يقيم على الطاعة كيف تأتي منه المعصية وكيف يتلبس بالمعصية؟ وهو الذي وعد ربه بأنه قائم على طاعته، يعني: لا يأتي إلا طاعة ولا يفعل إلا معروفاً، فكيف تأتي منه المعصية في حال تلبيته وإحرامه؟ وهذا يبين قوله عليه الصلاة والسلام: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من حجه كيوم ولدته أمه)، والرفث والفسوق، إنما هما خروج عن حد التلبية، وخروج عن معنى التلبية. والله تعالى يقول: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197]، الرفث: هو كل ما يتعلق بالكلام بين المرأة والرجل، فيما يتعلق بالجماع أو الفراش أو التلويح والتلميح بالخطبة وغير ذلك. ((وَلا فُسُوقَ))، يشمل المعاصي كبيرها وصغيرها. ((وَلا جِدَالَ))، أي: لا جدال في الباطل وبالباطل، أما الجدال بالتي هي أحسن وبالحكمة والموعظة الحسنة وبيان الحق إلى الخلق فكل هذا مباح في الحج، والذي نهينا عنه إنما هو الجدال بالباطل، أن يكون الإنسان مخاصماً لحوحاً مجادلاً بعلم وبغير علم، فهذا بلا شك ليس أمراً ممدوحاً ولا محموداً عموماً، وهو أكثر ذماً في الحج وفي حال التلبس بالإحرام، ولذلك فإن جهلاء مكة يستغلون هذا النص فيؤجرون بيوتهم ومنازلهم ومساكنهم للحجاج والمعتمرين وهم وفد الله عز وجل، فيقول المؤجر: إن هذه الغرفة لمدة عشرة أيام بخمسين ألف ريال أو بثلاثين ألف ريال، يعني الليلة بثلاثة آلاف ريال، مع أن أهل العلم لهم كلام في غاية الجودة والنفاسة، لكن من ذا الذي يستطيع أن يجهر به فضلاً أن يطالب به، فأهل العلم لهم كلام أن بيوت مكة لا تؤجر للحجيج، والحجيج إنما يدخلون هذه البيوت ويسكنونها بغير أجر، لكن من ذا الذي يصنع هذا الآن؟! فالقصور تبنى حول الحرم وتظل طيلة العام فارغة لا أحد يدخلها، وإنما يكتفون بتأجيرها لشهرين في العام؛ شهر رمضان وشهر ذي الحجة، وهذه البيوت إنما تحصل ثمنها على مدار عامين أو ثلاثة فقط، والباقي بعد ذلك ربح فاحش وعظيم، تصور أن الواحد يشقى في أداء النسك عدة مرات، يشقى في الحصول على تأشيرة، ثم يشقى في دفع ثمن التأشيرة مع أنها مجاناً، لكنها أحياناً تصل إلى بضعة آلاف وهي تصرف مجاناً، ويطبع في جواز السفر هذه التأشيرة منحت مجاناً، وهو كذب، إنما الذي أخذ منك الجواز حتى رجع إليك، ما وقع هذا الجواز في يد أحد إلا وأخذ مالاً، ابتداءً من صاحب المكتب وانتهاءً بالقنصل، هذه لم تمنح مجاناً، وإنما منحت بالرشاوي في الأغلب الأعم، إلا أن يكون هناك إنسان له وجاهة أو عنده مصلحة أو غير ذلك، فإنها تمنح له على مضض وبشق الأنفس مجاناً. ثم تشقى مرة ثانية في السفر، وتشقى بالشيكات المزعومة، وهي كضرائب الحدود والمكوس، ثم تشقى بعد ذلك هناك بأنك تفاجأ أن كل ما مضى شيء وأنك توفر لك مسكناً أقل من المتواضع شيء آخر، وإن كان هذا كل ما يملك من الدنيا، على اعتبار أنه وصل بيت الله الحرام، ويتفاجأ بأن الليل لو دخل عليه هو يريد النوم والاستراحة فلا يستطيعه من الضجيج والزحام القاتل الذي في الحرم بحيث لا يجد الشخص له مكاناً ليقف فيه، الواحد لا يجد له ثلاثين سنتيمتر في ثلاثين سنتيمتر يقف فيه، ولابد من النوم، وإذا كنت لا تستطيع أن تقف في الحرم فكيف ستنام؟! لابد من مكان تنام فيه، وإلا ستنام في الشارع، الواحد عندما يذهب إلى الحج يصرف دم قلبه، فيصرف ثلاثين أو أربعين ألف جنيه لكي يحج، وهذا من العسر الشديد والعراقيل التي وضعت أمام من أراد أن يؤدي منسك الحج لله عز وجل، فكلها رحلة فيها شقاء وعذاب وضنك وصعوبات متعاقبة ومتلاحقة، ولذلك هذا يشعرنا بعظمة قوله عليه الصلاة والسلام: (رجع من حجه كيوم ولدته أمه) لأن هذه هي الهدية الكبرى، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (فهلموا نستأنف العمل)، إذا كان قيمة الحج في أنك ترجع كيوم ولدتك أمك، فالإنسان بعد أداء هذا النسك يراجع نفسه، ويقف مع نفسه موقفاً جاداً في أقواله وأفعاله وحركاته ونياته وكل شيء يمكن أن يصدر منه مع نفسه مع ربه مع الآخرين، فيب

حكم التلبية

حكم التلبية أما حكم التلبية فقد أجمع المسلمون على أنها مشروعة، والمشروع في الأصول يشمل الواجب والمندوب، أو المستحب، فالإجماع على أن التلبية مشروعة، لكن وقع الخلاف: هل هي مستحبة أو واجبة؟ فقال الشافعي وآخرون: هي سنة ليست بشرط لصحة الحج ولا واجبة، يعني: لا هي شرط في صحة الحج، ولا هي واجبة يلزم من تركها الدم. فهي عند الشافعي سنة ليست بشرط لصحة الحج ولا بواجبة وهو الراجح؛ لأنها لو كانت واجبة وشرطاً في صحة الحج لبطل الحج بتركها، ولو كانت واجبة فقط وليست شرطاً في صحة الحج فإن المتخلف عنها والتارك لها يلزمه الدم مع الإثم إن ترك ذلك متعمداً. قال: (فلو تركها صح حجه ولا دم عليه، لكن فاتته فضيلة عظيمة جداً)، فتصور أنك ستظل مثلاً من ذي الحليفة إلى أن تدخل مكة أربع أو خمس أو ست ساعات وأنت في حال إذعان وخضوع وخشية وذل واستكانة لله عز وجل بقولك بين يديه: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، وتستحضر معاني هذه الكلمات التي كلها توحيد وذل وخضوع لله عز وجل أربع خمس ست سبع ثمان عشر ساعات وأنت على هذه العبادة، أو تبدأ من رابغ إلى أن تدخل مكة، أو من قرن المنازل إلى مكة، أو من يلملم إلى مكة، وأنت متلبس بهذه الطاعة، وهذا الذل والانقياد لله عز وجل، مظهراً التوحيد والإخلاص والذل والخضوع لله، يعني: عبادات قلبية وعبادات جوارح تجمع بين جميع أنواع العبادات في هذه التلبية. ولا يغرنك الحكم بأنها سنة أن تتركها؛ لأنك لو تركتها لتركت شيئاً عظيماً وفضلاً لو فاتك فقد فاتك الخير كله. ثم اختلفوا في إيجابها: قال الشافعي وآخرون: هي سنة، وقال بعض الشافعية: هي واجبة تجبر بالدم، يعني: لو تركها يذبح شاة لفقراء الحرم، ويصح الحج بدونها؛ لأنها ليست واجبة، وقال بعض الشافعية وهو الرأي الثالث عند الشافعية: هي شرط لصحة الإحرام، ولا يصح الإحرام ولا الحج إلا بها. إذاً: التلبية فيها عدة آراء: سنة من تركها فقد فوت فضيلة عظيمة، واجب يجبر بالدم ويصح حجه، شرط في صحة الإحرام والحج. يعني: لو ذبحت مائة دم يظل حجك باطلاً؛ لأنك فوت ركناً، وهذا شرط في صحة الحج، لا يصح الحج إلا به. أنا أريد أن أسأل سؤالاً: خلاف أهل العلم في هذه المسألة لا يجعلني آخذ بالعزيمة من باب الاحتياط، تجد الأخ في الطائرة مثلاً وخاصة أن هذه البلاد حارة، والحر يورث الخمول، كما أن جو مكة نفسه يورث الخمول، وهذا الكلام ذكره الإمام النووي. وكنت أتعجب منذ أوائل الثمانينات وكانت أول سفرة لي إلى بلاد الحجاز كنت أتعجب جداً، وصار أمراً ملحوظاً؛ كلما دخلت مكة أخذني الخمول والوخم وأقبلت على النوم وتركت العبادة، وما قدرت على مراجعة جزء أو جزأين كل يوم، وأنعس والمصحف يقع من يدي ولا أستطيع الإمساك به، حتى قرأت للإمام النووي أن هذه الحالة انتابته مرات حين دخوله مكة، فسأل الأطباء هناك فقالوا: جو مكة يورث هذه المظاهر إلا من أقام بها مدة. فلما أقمت بها مدة في سنة تسعين كنت في غاية النشاط، كنت أسكن بجوار الحرم بيني وبين الحرم قدر محطتين لا يزيد على ذلك، وكنت أركب مواصلة في كل مرة لأداء الصلوات الخمس، والإخوة الذين كنت أسكن معهم من أهل مكة يتعجبون جداً يقولون: يا شيخ ألا تستطيع أن تمشي هذه المسافة القصيرة؟ أقول لهم: والله العظيم أنني لا أستطيع أن أرفع قدمي، فلما أقمت بها سنة تسعين كان بيني وبين الحرم لا يقل عن خمسة كيلو، ولا أذكر أنني فوت فرضاً واحداً على مدار الثلاثة أشهر إلا في الحرم، وكنت أمشي على قدمي ولا أركب؛ لأن إلف جو مكة بعد ذلك أورث الشخص نشاطاً عظيماً جداً أيام الشباب. قال: (والصحيح من مذهبنا ما قدمناه عن الشافعي: أن التلبية سنة. وقال مالك: ليست بواجبة، ولكن لو تركها لزمه دم وصح حجه)، إذا كانت ليست بواجبة تكون سنة، والذي يترك السنة لا يلزم بالفداء، ولكن مالكاً لم يقو على القول بالوجوب موافقة للشافعي في ذلك، وقول الشافعي وافق قول مالكاً على اعتبار أن مالكاً أسبق، لكن الإمام مالكاً قال بالدم من باب الاحتياط. قال الشافعي ومالك: ينعقد الحج بالنية بالقلب من غير لفظ كما ينعقد الصوم بالنية، يعني: قاس الحج على الصوم؛ لأنك في الصوم لا تقول: نويت أصوم غداً، أو نويت أصوم الشهر كله، بل إنك تعقد النية في قلبك، وكذلك لا تقل: نويت أصلي العشاء أربع ركعات في مسجد الرحمة (305) شارع الهرم خلف الإمام الفلاني في الساعة الفلانية وإنما يكفيك أن تنوي خلف الإمام؛ لأن نيتك وأنت قادم إلى المسجد بعد أن سمعت الأذان وتوضأت وتهيأت في بيتك وخرجت منه إلى المسجد كل هذا أليس كافياً في إثبات النية؟ والراجح جواز -بل استحباب- التلفظ بالنية في أداء نسك الحج أو العمرة، لأن النبي

وقت التلبية للحاج

وقت التلبية للحاج والتلبية تبدأ من صبيحة التروية الذي هو اليوم الثامن من ذي الحجة، وتظل اليوم الثامن والتاسع والعاشر إلى أن ترمي جمرة العقبة الكبرى، يعني: ثلاثة أيام بلياليها أنت مطالب بالتلبية، وقل أن تجد من يلبي حتى في أفواج طلاب العلم، تدخل عليهم وهم منشغلون بالعلم والمحاضرات والدروس والنقاش وغير ذلك، ولا تجد ملبياً مع أنهم مطالبون في هذا التوقيت بالتلبية وليس بدروس العلم، كما أن المرء لا يطالب بدروس العلم في رمضان، وإنما يطالب بقراءة القرآن، تجد الناس في رمضان منشغلين بدروس العلم، إذا كان الصائم من الصبح إلى الظهر في العمل، ومن الظهر إلى العصر نائم، ومن العصر إلى المغرب في الدرس العلمي، فأين القرآن؟! تجد شهر رمضان مر عليك ولم تختم حتى عشرة أجزاء، فقد جوز بعض أهل العلم قراءة القرآن والزيادة في رمضان أكثر منه في غيره، وجوزوا قراءته في أقل من ثلاثة أيام في رمضان خاصة، نحن لا نوافق على هذا القول وإن كان يدل على اهتمام أهل العلم، الإمام مالك كان إذا دخل رمضان طوى صحف العلم وأقبل على القرآن، لم يتكلم في مسألة علمية إلا ما يتعلق بعبادة القوم من صلاة أو صيام أو اعتكاف أو غير ذلك، أما أنه يؤدي حلقته التي كان يؤديها فلم يكن هذا من فعل السلف.

من آداب التلبية

من آداب التلبية ورفع الصوت بالتلبية خاص بالرجال، أما المرأة فإنها تلبي بقدر ما يسمع من بجوارها أو تسمع نفسها، أما أن تلبي بصوت مرتفع فإن هذا فيه فتنة عظيمة جداً للرجال، ولذلك لا ترفع المرأة صوتها بالتلبية. هؤلاء الذين تجمعهم على الدرس اجمعهم على كتاب الله عز وجل، فلو جمعتهم على الدرس فإنه أمر لا بأس به وهو جائز، لكن مخالف للأولى. ويستحب الإكثار من التلبية لاسيما عند تغير الأحوال كإقبال الليل، أو إقبال النهار، يعني: عند وقت السحر ووقت الغروب. وعند الصعود والهبوط: تصعد جبلاً أو تنزل من جبل، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر ربه إذا صعد شرفاً، يعني: إذا صعد إلى مكان مرتفع قال: الله أكبر، وإذا نزل قال: سبحان ربي الأعلى، فالعلماء استحبوا ذكر الله تعالى بالتلبية عند الصعود إلى الشرف أي: المكان المرتفع والنزول منه، واجتماع الرفاق. فقول النووي هنا: (يستحب الإكثار من التلبية عند اجتماع الرفاق) يدل على جواز التلبية جمعاً، والقيام والقعود، والركوب والنزول، وأدبار الصلوات وفي المساجد كلها؛ فإن مذهب جماهير الفقهاء: استحباب التلبية أدبار الصلوات، وإن كان بعض أهل العلم قال: ذلك من البدع، لكنه في الحقيقة ليس من البدع، بل هو من المسائل المختلف فيها خلافاً سائغاً. والأصح أن المحرم لا يلبي في الطواف حول البيت ولا في السعي بين الصفا والمروة؛ لأن التلبية منذ الإحرام بالنسك من الميقات المكاني، وللعلماء خلاف في ذلك، حتى أن يرى بيوت مكة قال به قوم، أو أن يرى الحرم قال به قوم، أو أن يدخل الحرم ويرى الكعبة قال به قوم. وأبعد الأقوال: أن يرى بيوت مكة، وأدنى الأقوال: أن يدخل البيت الحرام، فإذا دخله انقطعت التلبية، لانشغاله بعبادة أخرى؛ وهي عبادة الذكر والدعاء والطواف حول البيت، ولزومه ذكراً معيناً بين الركنيين اليمانيين، الركن اليماني والركن الذي فيه الحجر الأسود، فهو يقول بين هذين الركنين: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201]، فالذي يلبي يقطع التلبية إذا رأى بيت الله الحرام أو إذا دخل فيه؛ لانشغاله بعبادة أخرى، فعند دخوله للمسجد يقدم رجله اليمنى ويقول: باسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، اللهم اغفر لي ذنبي وافتح لي أبواب رحمتك، فهذه عبادة تقطع التلبية التي كان عليها، ثم هو سينظر إلى الكعبة وينطلق للبحث عن الركن الذي فيه الحجر الأسود؛ ليبدأ منه الطواف على النحو الذي ذكرناه في الدرس الماضي. قال: ويستحب أن يكرر التلبية كل مرة ثلاث مرات فأكثر، يعني: هو أحياناً يفتر عن التلبية ويكسل وأحياناً ينشط فيلبي، فإذا لبى لبى ثلاثاً، يقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، يقول ذلك ثلاث مرات أو خمس مرات أو سبع مرات أو تسع مرات، ويستحب أن يكون وتراً. وإذا لبى صلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسأل الله تعالى ما شاء لنفسه ولمن أحبه وللمسلمين، وأفضل سؤال الله عز وجل في هذه الحالة: الرضوان، والجنة، والاستعاذة من النار، يسأله الرضوان أن يرضى الله تعالى عنه، ويسأله الجنة التي هي رحمة الله تعالى لعباده، ويسأله العياذ من النار، أن يجيره من النار، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام بين في حديث أن عبادته كلها إنما هي دندنة حول هذا، لقول الرجل لما نصح أن يقول كذا وكذا فقال: (أنا لا أحسن يا رسول الله! دندنتك ولا دندنة معاذ، ولكني أسأل الله الجنة وأستعيذه به من النار، قال النبي عليه الصلاة والسلام: حولها ندندن)، يعني: هذا الذي نريد تحفيظه إياك وأنت لا تستطيع أن تحفظه ولا تستطيع أن تقوله من بعدنا، وأنك لا تحسن إلا أن تسأل الله الجنة وتستعيذ به من النار، فهذه الدندنة التي لا تستطيع أن تقولها كلها الغرض منها في النهاية هذا الذي وصلت له، الذي هو سؤال الجنة والاستعاذة من النار. فالشاهد أن من سأل الله تعالى الرضوان والجنة والاستعاذة به من النار فهذا أفضل الذكر وأفضل السؤال الذي يوجه لله عز وجل، وإذا رأى شيئاً يعجبه يقول: اللهم إن العيش عيش الآخرة، حتى لا تلهينك الدنيا عن التلبية وذكر الله عز وجل. ويصح للمحرم أن يبيع ويشتري وهذا لا يضره ولا يؤثر على إحرامه وإن كان هذا خلاف الأولى؛ لأن المحرم ينشغل بالتلبية والذكر والدعاء وغير ذلك، لا ينشغل بالبيع والشراء واللغط ودخول الأسواق التي هي شر البقاع على وجه الأرض. ولذلك الإمام النووي يقول: وإذا رأيت شيئاً يعجبك فقل: اللهم إن العيش عيش الآخرة، ولا تزال التلبية مستحبة للحاج حتى يشرع في رمي جمرة العقبة يوم النحر، أو يطوف طواف الإفاضة إن قدمه عليها، أو الحلق عند من يقول: الحلق نسك، وهو الصحيح. وتستحب للعمرة حتى يشرع في الطواف. يعني: التلبية تستحب لك حتى تبدأ في الطواف على النحو الذي ذكرناه آنفاً. وتستحب التلبية للمحرم مطلقاً، سو

الأسئلة

الأسئلة

حكم التلبية جماعيا

حكم التلبية جماعياً Q ما حكم التلبية جماعياً؟ A هذه المسألة محل نزاع بين أهل العلم، والنزاع الذي بينهم لا يصح أن يقال للمخالف مبتدع وإن كان الأولى أن يلبي كل واحد لوحده، لكن لو حصل أنهم لبوا جماعة أو ذكروا جماعة لا يقال هذا بدعة.

حكم العمل في شركات السياحة الدينية كالحج والعمرة

حكم العمل في شركات السياحة الدينية كالحج والعمرة Q ما حكم العمل في شركات السياحة الدينية كالحج والعمرة؟ A لا بأس بها.

حكم جباية الضرائب

حكم جباية الضرائب Q ما حكم الضرائب وجبايتها في حالة عدم كفاية الزكاة والصدقات لاحتياجات الرعية؟ A وما يدريك أن الزكاة ليست كافية؟ السؤال هذا لا يوجهه إلا الخليفة أو الوالي عنه ليس أنت، لأجل أنك تعمل موظفاً في الضرائب تريد أن تجد لنفسك أي مسوغ، فعملك حرام ومالك حرام، إنما ادعاؤك أن الزكاة ليست كافية، لو أن كل غني أدى زكاة ماله لصار الفقير غنياً، وهذا وعد الله عز وجل لعباده، والزكاة أعظم نظام تكافلي اجتماعي، بحيث لا يبيت الفقير جائعاً قط. إذا كان في هذا الزمن لا يكاد يكون هناك فقير، عندما يكون عندك زكاة مال وتريد أن تعطيها بالفعل للمستحق تجد بشق الأنفس شخصاً مستحقاً، الآن تجد الفقير يتقاضى مائتين إلى ستمائة جنيه في الشهر أو أكثر من ذلك ولا يزال يتسول ويشكو الله عز وجل إلى خلقه. فالموظفون الذين هم محدودو الدخل هم أهل الزكاة بالدرجة الأولى، ليس الذين يتسولون في المساجد ويتسكعون في الشوارع والطرقات. والحكومة عندما تأخذ الضرائب توزعها للفقراء، فالأصل في الزكاة أنها تؤخذ من الغني فتوضع في يد الفقير، وإذا وضعت في يد غير الفقير فإنها لا تجزئه على المذهب الراجح عند أهل العلم، أما الحديث الذي أخرجه الشيخان: (تُصدق الليلة على غني)، فهو في عموم الصدقات، إنما أموال الزكاة فلها مصارفها الثمانية: ومنها الفقير والمسكين، فإذا وضعت الزكاة في يد الفقير والمسكين فقد بلغت من الغني إلى مستحقها، أما إذا وضعت في غير هذه المصارف الثمانية فلا تجزئ صاحبها على المذهب الراجح عند أهل العلم. وفي هذه الحالة لو وافقناك جدلاً وهذه الموافقة باطلة، لكني أضرب لك جدلاً أن الضرائب تؤدي مؤدى الزكاة، وأنها تقوم بالمهمة التي تقوم بها الزكاة، وأن الحكومة إنما تأخذها لتنفقها في مصارف الزكاة، فأقول: بين الضرائب والزكاة فروق لا يمكن اجتماعهما، الزكاة حق في مال الغني لصالح الفقير، والضرائب حق الدولة! لا يوجد شيء في الشرع اسمه حق الدولة، بعض الناس يقولون: هذه الأرض للدولة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من أصلح أرضاً ميتة فهي له)، فمن أصلح هذه الأرض فإن الحكومة تأخذ منه الضرائب، المتر بألف جنيه، وهذا ظلم ونهب ومكوس، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول عن تلك المرأة الزانية: (أنها تابت توبة لو تابها صاحب مكس لتاب الله عز وجل عليه)، وصاحب المكس هو الذي يأخذ أموال الناس بالباطل. والزكاة حق في أموال الغني بالحق، والمكوس والضرائب بالباطل، والأصل في الزكاة الرضا والخضوع لله عز وجل والتعبد، فأنت تدفع هذا المال تعبداً لله تعالى، والضرائب لا تدفعها تعبداً، بحيث أنك تصارح الحكومة وتقول لها: أنتم لم تأتوا إلي من أجل أن تأخذوا الضرائب التي هي الزكاة. بينما الزكاة أنت تحمل مالك على يدك وعلى قلبك وتذهب به وتعطيه الفقير من غير سلطان عليك؛ لأن السلطان سلطان القلب، والإيمان هو الذي حركك؛ لأنك تعلم أنك لن تدخل الجنة إلا بهذا، لكن الضرائب فهي نار في نار، فما علاقتها بالجنة؟ فلا يمكن اعتبار الضرائب زكاة نهائياً.

علاج ضعف الهمة

علاج ضعف الهمة Q أريد علاجاً لضعف الهمة، وما هي الخطوات التي أخطوها كي أكون طالب علم مع ضيق الحال والوقت، فإمكانياتي المادية لا تساعدني على شراء ما أحتاجه من كتب، وظروف عملي تؤثر علي؟ A ابق في عملك، فأنت مثل الذي يقول لامرأته: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، ويظل يقول الطلاق حتى ينسى ماذا كان يقول، فيأتي ويقول: يا شيخ أهي مطلقة أم لا؟! أو هل تحل لي مرة أخرى؟ كيف تحل لك؟! فهذا جاء ووضعك بين المطرقة والسندان، يقول لك: انتبه، لا يوجد لدي مال، لا أستطيع أن أنتقل وأبحث عن المشايخ، لا أستطيع أن أشتري كتاباً، أو أنني آتي من العمل وأنا متعب جداً، فإن توفر لي حضور مجلس علم فأنا سأنام وسامحني، لأنني أبذل جهداً في العمل رهيباً فلا أستطيع أن أكون في درسك مستيقظاً فبعد كل هذا ماذا أعمل لك؟ ابق في عملك، وفي وقت الاستراحة اسمع شريطاً، أو طالع كتاباً، أو اطلع على أي مسألة علمية، وهذا الذي أنت مكلف به، فعند أن تكون عندك مؤهلات الطلب إذاً حينها نستطيع أن ننصحك.

حكم الأخذ من اللحية

حكم الأخذ من اللحية Q قال لي بعض الإخوة: إن عدم الأخذ من اللحية بدعة، فلما سألت عن الدليل قال لي: إن ابن عمر كان معروفاً بأنه أكثر الصحابة تشبهاً بالنبي عليه الصلاة والسلام، وبالتالي فإن لحيته كانت لا تزيد عن القبضة، فلما قلت له: إن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (أطلقوا اللحى)، ولم يقل: حتى القبضة، قال لي: هكذا قال الشيخ الألباني أفيدونا؟ كما هل يجوز الأخذ من عرض اللحية؟ A حقيقة أن هذه المسألة محل نزاع بين الجواز وعدم الجواز، الأخذ من اللحية وقع فيه الخلاف قديماً، هل يجوز الأخذ من اللحية أم لا؟ والراجح: جواز الأخذ منها إذا فحشت، يعني: إذا طالت طولاً بالغاً، أو انتفشت انتفاشاً عظيماً، واستدل القائلون بالجواز على فعل عبد الله بن عمر وأنه راوي الحديث: (أطلقوا اللحى وحفوا الشارب ولا تشبهوا بالمجوس)، وكان عبد الله بن عمر يأخذ من لحيته من طولها وعرضها إذا فضل عن القبضة إذا حج أو اعتمر، فكان لا يفعل هذا إلا في النسك، إذا فحشت لحيته وطالت فيقبض على عارضيه وعلى ذقنه فيأخذ ما فضل عن القبضة، فتبقى لحيته طويلة، ويبقى مذهب القائلين بجواز الأخذ منها هو بقاء صورة اللحية كاملة في وجه العبد، وإذا قلنا بالجواز، فهل يصلح إجراء هذا الكلام أو الأخذ من اللحية بما فضل عن القبضة على من صبغ وجهه بقلم جاف وقال: أنا ملتحٍ. الذين قالوا بجواز الأخذ من اللحية لم يقصدوا هذه الصورة، إنما يقصدون الأخذ منها إذا فحشت من طولها وعرضها، والجماهير على عدم الأخذ منها، اعتماداً على إطلاق النصوص الواردة: (أطلقوا)، (أعفوا)، (أرخوا)، وكلها ألفاظ تدل على الترك بغير مساس. والعجب العجاب أن يقول شيخنا الألباني رحمه الله تعالى رحمة واسعة بوجوب الأخذ من اللحية، إنما نقول بالجواز بالشرط المتقدم، أما الوجوب فلم يقل به أحد من أهل العلم فيما علمت وفيما اطلع عليه أهل العلم في هذا الزمان فيما نعلم إلا الشيخ الألباني، ولذلك لا نترك مذاهب العلماء كافة قديماً وحديثاً لقول رجل. وبعض العلماء شرط توفر ما كان من عبد الله بن عمر، من أنه لا يجوز الأخذ منها إلا في الحج والعمرة، لكن يعكر على هذا الرأي ثبوت أخذ أبي هريرة من لحيته في غير الحج والعمرة، وكذا أخذ أبي الدرداء وسلمان الفارسي وغيرهم من الصحابة، فكان عبد الله بن عمر يفعل ذلك على سبيل التعبد.

تقييم كتاب شرح السنة للإمام البربهاري

تقييم كتاب شرح السنة للإمام البربهاري Q ما رأيكم في كتاب شرح السنة للإمام البربهاري؟ A كتاب عظيم جداً، فهو كتاب رائع في أصول الاعتقاد، لا أعلم على كتاب شرح السنة للبربهاري مأخذاً، وليس فيه شيء يخالف العقيدة؛ لأن الإمام البربهاري من أئمة أهل السنة.

تقييم كتاب الإيمان لأبي عبيد القاسم بن سلام

تقييم كتاب الإيمان لأبي عبيد القاسم بن سلام Q ما رأيكم في كتاب الإيمان لـ أبي عبيد القاسم بن سلام؟ A كتاب رائع جداً، وهو في سبعة مجلدات، كتاب ممتاز جداً مطبوع في الجامعة الإسلامية.

تقييم كتاب الروضة الندية لشرح الدرر البهية

تقييم كتاب الروضة الندية لشرح الدرر البهية Q ما رأيكم في كتاب الروضة الندية لشرح الدرر البهية؟ وهل هو مناسب لأن يبدأ به طالب العلم؟ A كتاب ممتاز، وهو غير مناسب لأن يبدأ به طالب العلم.

معرفة الأحكام الشرعية من صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما

معرفة الأحكام الشرعية من صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما Q هل يستطيع الإنسان أن يكتفي بصحيح مسلم والبخاري وغيرهما من كتب السنة وما عليهما من شروح فيما يتعلق بالتفقه في الدين ومعرفة الحكم الشرعي وغير ذلك؟ A هذا السؤال صعب جداً، لكن يحكمك الوقت والجهد. فبلا شك أن دراسة صحيح البخاري وصحيح مسلم ليس هو كل دين الله عز وجل، وأن المسائل التي لم يتناولها الصحيحان أكثر من التي تناولها الصحيحان، فلا أدعي أن الاكتفاء بالصحيحين هو فقه في دين الله عز وجل على التمام والكمال، فلو جمعت إلى هذين الكتابين كتاباً في الفقه على يد شيخ، وكتاباً في اللغة على يد شيخ، وكتاباً في الأصول على يد شيخ، وكتاباً جامعاً شاملاً في الاعتقاد على يد شيخ ستكون بذلك قد جمعت الخير كله.

دلالة قوله: (وما يعذبان في كبير)

دلالة قوله: (وما يعذبان في كبير) Q حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي عليه الصلاة والسلام مر بقبرين فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستنزه من بوله أو لا يستبرئ من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بين الناس بالنميمة)، هل يستدل به على أن النميمة ليست من الكبائر؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (وما يعذبان في كبير)؟ A الأخ السائل عند أن نقل الحديث نقله بشكل صحيح، وعند أن سأل سأل خطأ، فقوله: (إنهما ليعذبان)، بلام التوكيد، يؤكد أنهما يعذبان، وقوله: (وما يعذبان في كبير)، أي: وما أوردهما هذا العذاب عظيم تكليف وقع عليهما، وإنما هو أمر يسير إتيان وترك، الإتيان متمثل في أن هذا الرجل الذي كان يبول لا يتطهر من بوله، والتطهر من البول أمر يسير، يعني: الأمر الذي هو سبب عذابهما ليس أمراً يشق عليهما، بل هو أمر يسير جداً، وبسبب تفريطهما في هذا اليسير عذبا: (أما أحدهما: فكان لا يستنزه من بوله، وأما الآخر: فكان يمشي بين الناس بالنميمة)، والمطلوب هنا الترك، وترك المعاصي في مقدور كل إنسان، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم)، إذاً: الطاعة على قدر الاستطاعة فلو قال لك رجل: قف في صلاتك، لابد أن تقف، فإذا عجزت عن الوقوف لمرض أو علة صل جالساً أو على جنب أو إيماءً، مع أن القيام في الصلاة من واجبات وفرائض الصلاة، فلا تصح صلاتك الفرض وأنت قادر على القيام إذا صليت جالساً، فالذي يصلي الفرض جالساً مع قدرته على القيام لابد له من إعادة الصلاة؛ لأنها باطلة، بخلاف النافلة إذا صلى جالساً مع قدرته على القيام فلا حرج عليه، ولكنه على قدر النصف من صلاة القائم؛ لأنه جلس بغير علة ولا عذر. وقوله عليه الصلاة والسلام: (وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه)، لم يقل: فاجتنبوا منه ما استطعتم، وهذا يدل على أن جانب الترك والنهي في مقدور كل مكلف، نهاك عن الزنا والخمر واللعب بالنردشير وكل هذا في مقدورك، ونهاك عن النميمة، وهي في مقدورك وهو أمر بسيط جداً، أنا ما لي وشأن الناس، يعني: إنك عندما تغلب في الإصلاح بين الناس ليس لك علاقة فيما بينهم، إذا لم يكن عندك طيب الكلام والصلح بين الناس ولو بالكذب المباح فلا أقل من أنك تدع الناس وشأنهم، فترك النميمة أمر في إمكانك وأمر في مقدورك، فلما ولجته مخالفاً لنهيه عليه الصلاة والسلام، مرتكباً لهذه الحرمة استحققت عذاب الله عز وجل، والذين صنفوا في الكبائر أوردوا الغيبة والنميمة في الكبائر، وهو محل إجماع عند أهل العلم: أن الغيبة والنميمة من كبائر الذنوب.

الحكم على حديث: (نسألك بمعاقد العز من عرشك ومفاتح الرحمة من كتابك)

الحكم على حديث: (نسألك بمعاقد العز من عرشك ومفاتح الرحمة من كتابك) Q هل يصح هذا الدعاء: نسألك بمعاقد العز من عرشك ومفاتح الرحمة من كتابك أن تغفر لنا ذنوبنا؟ A هذا الدعاء غير صحيح.

الحكم على حديث: (الكلام في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب)

الحكم على حديث: (الكلام في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب) Q هل هذا الحديث صحيح: (الكلام في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب)؟ A هذا حديث ضعيف، والكلام المباح خارج المسجد مباح في داخل المسجد، والكلام المباح لا يأكل الحسنات، إنما الكلام القبيح المنهي عنه هو الذي يأكل الحسنات، سواء قلته في المسجد أو في خارج المسجد.

حكم من قرأ سورة يس اعتقادا منه أنها تضر من ظلمه

حكم من قرأ سورة يس اعتقاداً منه أنها تضر من ظلمه Q أحد الناس أخذ مالي، وأنا أريد أن أقرأ عليه سورة يس؛ لأني سمعت أنها تضر الظالم، فما حكم ذلك؟ A غير صحيح، بل هي من البدع، ولا يصح في فضل يس حديث واحد.

الفرق بين أسماء الله المتعدية وغير المتعدية

الفرق بين أسماء الله المتعدية وغير المتعدية Q ذكر فضيلة الشيخ ابن عثيمين في شرحه لكتاب لمعة الاعتقاد لـ ابن قدامة أربع قواعد هامة في أسماء الله وصفاته، وذكر في القاعدة الثانية في الفرع الرابع: كل اسم من أسماء الله يدل على ذات الله، وعلى الصفة التي يتضمنها، وعلى الأثر المترتب عليه إن كان متعدياً، أرجو من فضيلتكم بيان الفرق بين الأسماء المتعدية وغير المتعدية؟ A في الحقيقة لم يتكلم عن اسم متعد، إنما تكلم عن صفة، يقول: كل اسم من أسماء الله يدل على ذات الله، وعلى الصفة التي تضمنها، وعلى الأصل المترتب عليه إن كان متعدياً. فالله تبارك وتعالى تسمى بالرحيم، فلا يجوز لأحد أن يتسمى بأسماء الله عز وجل، يعني: يحرم على العبد أن يكون اسمه: الرحيم، الكريم، الغفور وغير ذلك من أسماء الله المعرفة بالأف واللام، إلا أن تكون مضافة للعبودية، كعبد الرحيم، وعبد الغفور، وعبد التواب، وعبد القهار وغير ذلك من أسماء الله عز وجل. والذي يترجح لدي أن الصفات مشتقة من الأسماء وليس العكس؛ لأن باب الصفات أوسع وأشمل وأعم من باب الأسماء، فلو قلنا: إن الصفات تشتق من الأسماء لقلنا: جميع الأسماء تدل على الصفات، ولو قلنا: إن الأسماء هي التي تشتق من الصفات للزمنا أن نشتق من كل صفة اسماً، فتصبح الأسماء في نهاية الأمر إلى مئات الأسماء؛ لأن باب الصفات أوسع، فلو اشتققنا من كل صفة اسماً لكانت الأسماء أكثر مما هو معلوم في كتاب الله وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام. فكل اسم يدل على صفة وليس العكس، وهذا معنى الاشتقاق، فالرحيم اسم يدل على الرحمة، والتواب اسم يدل على قبول التوبة من العبد، والحميد اسم يدل على صفة الحمد وغير ذلك من الأسماء، وكل اسم له صفة، وأحياناً الصفة تكون متعدية، وأحياناً تكون لازمة لا تعدي لها. كالرحيم يشتق منه الرحمة، وهذه الرحمة متعلقة من جهة الصفة بالله عز وجل، ومن جهة الأثر بالخلق، يعني: الأثر المترتب على هذه الصفة المشتقة من هذا الاسم متعلق بالخلق، وهذا معنى التعدي. كما أقول لك: الزكاة نفعها متعد، وليس لازماً فحسب، بل لها نفع لازم ونفع متعد، النفع اللازم هو الذي ينفع المزكي، فعندما تأخذ أموال زكاتك وتتصدق بها وتزكي بها، فأنت منتفع بهذا، والمنفعة ظهرت في قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103]، فالذي يؤدي الزكاة إنما يطهر بها نفسه وماله، وهذا نفعه اللازم له. أما نفعه المتعدي والأثر المترتب على إخراج الزكاة فهو كفاية الفقير، أو غنى الفقير، فهذا نفع قد تعدى إلى الغير، لذلك فالنفع المتعدي هو الذي يشمل الآخرين. فصفة الرحمة لله عز وجل هي صفة ذات لله لازمة له ومتعدية إلى الخلق من جهة الأثر، فأثرها متعدٍ في رحمة الخلق، ولذلك في الحديث: (إن لله تبارك وتعالى مائة رحمة، أنزل بين الخلائق رحمة واحدة فبها يتراحم جميع الخلائق، حتى إنك لتجد الدابة العجماء ترفع حافرها عن وليدها مخافة أن تصيبه)، وهذا من جراء تلك الرحمة أو من أثر تلك الرحمة. (واختزن الله عز وجل تسعاً وتسعين رحمة يرحم بها عباده في عرصات القيامة). إذاً: الرحمة هذه متعدية، وقس على هذا المثال بقية الأسماء والصفات. أما الحمد، فلا يُحمد أحد غير الله عز وجل، فالحمد لازم غير متعد.

حكم أكل المحرم من صيد غيره

حكم أكل المحرم من صيد غيره Q قول الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المائدة:96]، إن كان محرماً ورأى جماعة يصطادون فدعوه للطعام، فهل يأكل أم لا؟ A لا يأكل؛ لأنه يحرم عليه مادام محرماً صيد البر بنفسه أو بالإشارة أو بالدلالة أو بالمساعدة أو بالفعل نهائياً، فلا يجوز له أن يأكل من صيد البر، ولذلك ميز الله تبارك وتعالى بين صيد البحر وصيد البر، فقال في صيد البحر: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة:96]، وهم الجماعة الذين يمشون تدعوهم ليأكلوا، إنما صيد البر فلا.

تطبيق مناسك الحج والعمرة

تطبيق مناسك الحج والعمرة Q لو درسنا مناسك الحج والعمرة عملياً لكان أقرب للفهم وجزاك الله عنا خيراً؟ A نذهب إلى مكة، وأنا سأشرح لك مناسك الحج، لأن مناسك الحج لا يمكن أن تفهم إلا هناك، كما لو أن شخصاً لا يستطيع أن يصلي ولا يسمع عن الصلاة، فتعلمه نظرياً، فلا يستطيع أن يصلي إلا إذا صليت أمامه، وعلمته ذلك عملياً، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم حدد فترة تعليم الطفل للصلاة بثلاث سنوات، قال: (علموهم الصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر)؛ لأن الطفل مرة يصلي وعشر مرات لا يصلي، ومرة يحضر معك الصلاة من أولها وبعد ذلك يتركك في الصف ويخرج يلعب ثم يحضر معك التسليم على اعتبار أنك توبخه وتؤنبه إذا لم يصل مع الإمام وأتم الصلاة وغير ذلك. إلى أن تمر ثلاث سنوات يكون الطفل قد تعلم الصلاة بأركانها وأحكامها وواجباتها، ما يزيد فيها وما لا يزيد وغير ذلك، وبعد ذلك يعاقب من سن العاشرة؛ لأن هذه مسائل عملية لا تدرك إلا بالعمل. وهناك حدود بين عرفة وبين المزدلفة، فقد عملوا لوحة مكتوب عليها من هذه الناحية أول عرفة، تصور لو أنك وقفت تحت هذه اللوحة فأنت واقف في مزدلفة، ولو خطوت خطوة واحدة وراء اللوحة تكون أنت واقفاً في عرفة، ومن وقف في غير عرفة فإن وقوفه لا يصح، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (عرفة كلها موقف)، ولذلك أتى في مرة من المرات رجل يسأل الشيخ ابن عثيمين ونحن في الحج يقول له: يا شيخ! أنا لم أستطع أن أقف على جبل الرحمة، ولم يقولوا لي إلا بعدما رحل الناس، فماذا أعمل الآن وما صحة حجي؟ فالشيخ ضحك وقال له: يا بني! ومن ألزمك بصعود جبل الرحمة؟ بل إن صعوده كاد أن يكون من البدع، وبعض المصريين يظنون أن الحج والوقوف بعرفة لابد أن يكون على أعلى قمة في الجبل، ويتشاجرون، ويتصورون أن الحج لا يصح إلا بالوقوف في هذا الموضع. فالوقوف على جبل الرحمة ليس واجباً ولا سنة، بل كاد أن يكون بدعة، وحرصكم عليه يؤكد بدعيته. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

كتاب الحج - الإهلال من حيث تنبعث الراحلة

شرح صحيح مسلم - كتاب الحج - الإهلال من حيث تنبعث الراحلة كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الحج أو العمرة أن يتطيب لإحرامه، فيطيب مفرق رأسه وبدنه بأجود ما يجد من الطيب، ثم يركب دابته ويستوي على ظهرها، فإذا شرعت بالسير أهل صلى الله عليه وسلم، وكان هذا فعله في إهلاله بالعمرة من ذي الحليفة، وكذلك عندما أهل بالحج من مكة يوم التروية.

مجمل الكلام في المواقيت الزمانية والمكانية

مجمل الكلام في المواقيت الزمانية والمكانية الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أما بعد: فبعد أن تعرضنا في كتاب الحج في الباب الأول لبيان ما يحرم على الحاج وما يباح له في ثيابه، انتقلنا بعد ذلك إلى المواقيت وقلنا: إن المواقيت منها المكاني ومنها الزماني، فهناك ميقات زماني للحج وهو أشهر الحج، وبينا أن أشهر الحج: هي شوال وذو القعدة، ووقع الخلاف في ذي الحجة هل هو الشهر كله أم بعضه؟ ورجحنا أن مذهب جماهير العلماء أن بعض شهر ذي الحجة هو من أشهر الحج وليس كل شهر ذي الحجة، وينتهي هذا البعض من الشهر بانتهاء ليل يوم النحر؛ لما رجحناه هناك من اتفاق العلماء على أن من لم يدرك الوقوف بعرفة في نهار التاسع من ذي الحجة إنما يجزئه أن يقف ولو بعض الليل من ليلة النحر، ثم ينزل إلى مزدلفة فإن أدرك المبيت بها ولو في جزء يسير من الليل كذلك صح مبيته في مزدلفة، فإن لم يدرك الوقوف في مزدلفة في هذه الليلة صح حجه وعليه دم؛ لأن المبيت في مزدلفة في مذهب جماهير الفقهاء واجب، وهو الراجح من الأدلة، وهو فعل النبي عليه الصلاة والسلام. أما ما يقال: إن شهر ذي الحجة كله من الأشهر الحرم فليس هذا بقول متين ولا تقوم عليه الأدلة؛ ولأنه يترتب عليه جواز التمتع والقران في العشرين يوماً الباقية منه ولا قائل بذلك، وإن قال بذلك بعض أهل العلم فيرد عليهم؛ لأن التمتع والقران إنما يسميان بذلك لكونهما قد وقعا في عام واحد، فإن الذي يقرن بين حجه وعمرته بعد أداء نسك الحج يلزمه إذا أتى قارناً أن يسوق الهدي معه ويتمتع ويبقى في ملابس إحرامه حتى يدخل الحج القادم؛ أي: من العام المقبل، وإذا أتى متمتعاً يلزمه أن يعتمر في شهر ذي الحجة -أي: في العشرين يوماً الأخيرة منه- ثم يظل متمتعاً ولا يخرج من مكة حتى يدرك الحج من العام المقبل. وشهر ذي الحجة هو تمام السنة، والمحرم ابتداء سنة جديدة، وإنما سمي تمتعاً لأن الحاج يتمتع بالعمرة إلى الحج من نفس العام، وسمي قراناً لأن القارن يقرن بين العمرة والحج من نفس العام، فإذا اعتبرنا أن شهر ذي الحجة كله هو من أشهر الحج وليست العشرة الأيام الأوائل منه فهذا يعني حصول المشقة للناس، كما أنه من جهة المعنى فاسد؛ لأن التمتع والقران يقعان في عام واحد لا في عامين متتاليين. أما الميقات المكاني: فإن ميقات أهل الشام ومن مر بهم هو الجحفة، وهي المعروفة اليوم برابغ، ورابغ قبل الجحفة بشيء يسير، وانعقد الإجماع على جواز الإحرام منه؛ لأن الجحفة صار الآن خرباً لا ينزله أحد، وميقات أهل المدينة هو ذو الحليفة، وهي المعروفة بأبيار علي، وميقات اليمن هو يلملم، وميقات العراق هو ذات عرق، وميقات أهل نجد ومن مر بهم هو وادي السيل. قال النبي عليه الصلاة والسلام في هذه المواقيت: (هن لهن -أي: هذه المواقيت لأهلها المحددة لهم- ولمن مر بهن من غير أهلهن)، يعني: الجحفة ميقاتك باعتبارك من أهل الشام أو من أهل مصر، أما إذا كنت بالمدينة أو مررت بالمدينة فإن ميقاتك هو ميقات أهل المدينة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام بعد أن حدد المواقيت: (هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن لمن أراد الحج أو العمرة). وقلنا في هذه المواقيت: إنه لا يجوز لأحد قط إذا كان يريد نسكاً عمرة أو حجاً أن يتجاوز هذه المواقيت ولا أن يعبرها بغير إحرام، فإذا كنت قاصداً أداء النسك وما أخرجك من بيتك إلا هذا القصد فيحرم عليك أن تعبر الميقات وأن تتجاوزه بغير إحرام، فإن تجاوزته بغير إحرام لزمك الرجوع إلى الميقات للإحرام من جديد، وعليك الإثم؛ أي: إثم عمد التجاوز بغير إحرام، تستغفر الله تعالى وتتوب إليه منه. أو أنك تحرم من مكانك بعد تجاوز الميقات وعليك دم، ويسن لمن أحرم من الميقات أن يشترط، فبعد أن يقول: لبيك اللهم عمرة، أو حجاً، أو عمرة وحجاً فيقول: فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني؛ لأنه لو منعك مانع بعد الإحرام وبعد تجاوز الميقات من مرض أو وعكة أو علة أو حتى إجراء في الأوراق الرسمية؛ ربما ذهبت إلى المطار أو إلى الميناء فقالوا: جوازك مزيف مثلاً، أو قالوا: التأشيرة غير صحيحة وغير سليمة، أو أوراقك ليس لها عندنا رقم على الكمبيوتر، أو غير ذلك، فإنهم لا يتورعون أن يرجعوك في أقرب طائرة أو باخرة إلى بلدك مرة أخرى وأنت بملابس الإحرام. فإنما في هذه الحالة لابد أنك ستتحلل من إحرامك؛ فإن كنت قد اشترطت من الميقات وقت الإحرام وقلت: فإن حبسني حابس -أي: منعني مانع- فمحلي حيث حبستني. أي: فجوز لي يا رب أن أتحلل في نفس المكان الذي منعني فيه العذر وحبسني فيه الحابس؛ فإن قدمت في وقت الإحرام هذا الشرط ومنعك مانع أو حبسك حابس جاز لك أن تتحلل ولا شيء عليك، وإن لم تشترط ومنعك مانع أو حبسك حابس فلابد أن تتحلل، ولكن يبقى عليك دم، هذا

باب أمر أهل المدينة بالإحرام من عند مسجد ذي الحليفة

باب أمر أهل المدينة بالإحرام من عند مسجد ذي الحليفة قال الإمام النووي: (باب: أمر أهل المدينة بالإحرام من عند مسجد ذي الحليفة)، أي: الأمر لأهل المدينة النبوية ولمن مر عليها من غير أهلها أن يحرموا من مسجد ذي الحليفة. فميقات أهل المدينة هو ذو الحليفة، ومن أراد أن يحرم من ميقات أهل المدينة فليحرم من عند الميقات المحدد له لا قبل ذلك ولا بعده، أي: لا قبل الميقات ولا بعده؛ لأنه لو أحرم قبل الميقات يلزمه أن يحرم ثانية من الميقات، ولو أحرم بعد الميقات لزمه أن يرجع إلى الميقات أو أن يذبح دماً. فميقات أهل المدينة هو ذو الحليفة، لأهل المدينة ولمن جاء عليها وأراد أن يخرج منها متوجهاً إلى مكة لأداء النسك، بخلاف الذي يريد أن يدخل مكة لا للنسك وإنما لتجارة أو زيارة أو غير ذلك فإن هذا لا يلزمه الإحرام؛ لأنه ما نوى أصلاً أداء النسك وإنما نوى دخول مكة، وقد ثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام دخل مكة بغير إحرام ولا نسك، ودخل مكة بإحرام ونسك، فأما دخوله مكة للنسك فقد أحرم له، ولما أراد القتال وفتح مكة ما أحرم له؛ لأنه ما نوى النسك في هذه السنة أو في هذا العام. ولا يجوز لأهل المدينة ولمن مر بهم وأراد النسك أن يحرم من المسجد النبوي، مع أنها أميال قلائل بين المسجد وبين الميقات. ولذلك أحرم رجل من المسجد النبوي وصلى ركعتين ولبى من المسجد، فسمعه مالك بن أنس بن أبي عامر الأصبحي الإمام الفقيه، فقال له: إني أخشى عليك الفتنة، قال: أي فتنة يا إمام؟ إنما هي فراسخ بيننا وبين الميقات، وأردت أن أحرم من المسجد لشرفه، قال: أما سمعت قول الله عز وجل: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]. والنبي عليه الصلاة والسلام جعل ميقات أهل المدينة ذا الحليفة، وهو أعلم بأن المسجد له شرف وله منزلة وله مكانة ومع هذا لم يحدده ميقاتاً لأهل المدينة ولمن مر بهم، فمن أحرم من المسجد النبوي ولم يحرم من الميقات الشرعي النبوي الذي حدده النبي عليه الصلاة والسلام يخشى عليه أن تصيبه فتنة، فهنا لابد من التزام المواقيت لكل بلد ولمن مر عليها.

شرح حديث ابن عمر في تلبية النبي من عند مسجد ذي الحليفة

شرح حديث ابن عمر في تلبية النبي من عند مسجد ذي الحليفة قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك، عن موسى بن عقبة عن سالم بن عبد الله -وهو ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما- أنه سمع أباه -أي: عبد الله بن عمر - رضي الله عنه يقول: (بيداؤكم هذه التي تكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند المسجد يعني: ذا الحليفة)]. عبد الله بن عمر أكثر الصحابة التزاماً بسنة النبي عليه الصلاة والسلام هو الذي يقول: بيداؤكم هذه أنتم تكذبون على رسول الله عليه الصلاة والسلام فيها، وتزعمون أنه أحرم منها ولم يحرم منها، إنما أحرم من أمام باب مسجد ذي الحليفة، والبيداء: هي الصحراء وهي الأرض القحل وهي المكان المتسع العظيم كان قبل المسجد مباشرة. فأهل المدينة في زمن التابعين كانوا يذهبون إلى هذه البيداء ويحرمون منها وينطلقون بدوابهم، ويزعمون أن النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام كانوا يحرمون من هذه البيداء التي هي بجوار المسجد مباشرة، فـ عبد الله بن عمر أطلق القول بأنهم قد كذبوا على النبي عليه الصلاة والسلام، وأنه ما أحرم من هذه البيداء ولا من هذه الأرض القاحلة، وإنما أحرم من باب المسجد وبينهما مسافة يسيرة جداً. هذه البيداء الآن دخلت في توسعة هذا المسجد، ولكن على أية حال لابد من التزام المكان؛ لأنك لا تدري كما قلنا من قبل في الدرس الماضي: إن بين عرفة وبين مزدلفة علامة وهي لوحة قد وضعها المتخصصون ليبينوا أن من عبر هذه اللافتة يكون قد دخل في أرض عرفة وصح وقوفه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (وعرفة كلها موقف). وأما من بات خلف أو قبل هذه اللافتة فلم يصح له وقوف بعرفة بل لا يصح له حج؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (الحج عرفة) يعني: أعظم ركن من أركان الحج هو الوقوف بعرفة، فإن أتيت به جبر ما دونه بالدم، وإن لم تأت بهذا الركن على جهة الخصوص لا يجبر بدم قط. وها نحن منذ قرابة سبع سنوات لما بدأنا في هذا الكتاب المبارك قلنا: إن الكذب عند أهل السنة والجماعة له مدلول بخلاف المعتزلة. الكذب: هو إخراج الكلام على غير حقيقته، سواء كان في ذلك متعمداً أو مخطئاً أو ساهياً أو ناسياً، وهذا مصطلح أهل السنة والجماعة، أما عند المعتزلة فإنهم قالوا: الكذب لا يكون إلا إذا تعمده صاحبه، ولكن هذا التعريف عند أهل السنة والجماعة شرط لازم للإثم لا لبيان الكذب، يعني: لا يأثم الكاذب عند الله عز وجل إلا إذا تعمد الكذب، ولكن الكاذب ساهياً أو ناسياً أو مخطئاً لا إثم عليه، كمن حلف أنه فعل الشيء الفلاني ثم أيقن بعد أن أقسم أنه لم يفعله، فلا إثم عليه، بخلاف الذي يذكر أنه لم يفعل وأقسم أنه فعل متعمداً وهو يعلم أن الأمر على غير الحقيقة، فهذا بلا شك هو اليمين الغموس الذي ينغمس به صاحبه في نار جهنم عياذاً بالله. فقال عبد الله بن عمر: هذه البيداء التي تحرمون منها يا أهل المدينة أنتم ومن مر بكم، وتزعمون أن النبي عليه الصلاة والسلام أحرم منها ليس الأمر كما تقولون، وإنما هذا كذب ولا يلزم منه أنهم تعمدوا ذلك، بل يمكن أن يكون ذلك صدر منهم على سبيل الخطأ أو السهو أو النسيان، قال: (ما أهل -أي: ما أحرم- رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند المسجد) يعني: من عند باب مسجد ذي الحليفة، ثم صلى ركعتين وقيل: إنها صلاة الصبح، ثم انطلق من المسجد وركب دابته القصواء، وكانت تناخ أمام باب المسجد، فلما قامت وانبعثت به ناقته قال: (لبيك اللهم عمرة وحجاً). وفي الدرس الماضي قلنا: يسن للمعتمر ألا يدخل في الإحرام، وبعض الناس يتصور أن الإحرام: هو لبس الإزار والرداء، لكن الإحرام: هو عقد النية بالدخول في النسك من الميقات، فلو لبست ثياب النسك الإزار والرداء من بيتك أو في المطار أو في الطائرة كل ذلك قبل أن تأتي إلى الميقات فإنك لا تسمى محرماً، وبالتالي يحل لك كل ما يحرم على المحرم قبل أن تبلغ الميقات، فلو أنك ذهبت من بيتك ودخلت في مطار القاهرة، ثم أردت أن تتطيب فلك ذلك، ولو أردت أن تخلع ملابسك وتلبس الملابس العادية فلك ذلك، ولو أردت أن تجامع امرأتك فلك ذلك؛ لأنك في حقيقة الأمر لست محرماً، وإنما أنت لبست الملابس التي ستحرم وتهل فيها ولا يكون ذلك إلا ببلوغك إلى الميقات، أما قبل ذلك فيجوز لك ما لا يجوز لك بعد إحرامك. وفي الطائرة ينبهون ويقولون: بقي ربع ساعة على وصولنا إلى الميقات، فتجهز قبل فوات الربع الساعة بدقيقتين تبدأ تقول: لبيك اللهم حجاً وعمرة، أو عمرة، أو حجاً، فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني. والطائرة تسير بسرعة 1000 كيلو في الساعة، فأول ما ينبه عليك تنتبه جداً وتظل تنظر في الساعة حتى لا تسرح ويضيع عليك الأمر، فافرض أنك سرحت أو سهيت أو نسيت ثم فوجئت بأن الطائرة نازلة إلى مط

حكم الاغتسال والصلاة عند الإحرام

حكم الاغتسال والصلاة عند الإحرام والركعتان ليستا من أعمال الحج والعمرة، والإتيان بهما ليس بلازم، كما أن الاغتسال ليس بلازم، فلم يأت دليل على أن للحج أو للعمرة ركعتين أو غسلاً. ولكن جماهير الفقهاء استحبوا ذلك من باب التطيب للقاء الله عز وجل ولا بأس بهذا المعنى، لكن الذي أنبه عليه أن ذلك لو فاتك فلا إثم عليك. والعلماء اختلفوا: هل يجوز الإحرام بالنسك بدون صلاة؟ والاتفاق على أن الإحرام بالنسك بغير صلاة جائز وهذا إجماع، لكنهم قالوا: باستحباب أن يكون الإهلال بالنسك بعد الصلاة، إلا أن توافق صلاة فرض فإن ذلك يجزي ويكفي. إذا دخلت مسجد الميقات ووجدت الناس يصلون الفرض فصل معهم ولا تصل شيئاً بعد ذلك؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يخص الإحرام بركعتين، إنما الركعتان اللتان صلاهما هما صلاة الصبح، ثم انطلق من المسجد وركب الدابة وأهل، فيجوز عقد الإحرام بعد صلاة الفرض أو بعد صلاة سنة راتبة أو غير راتبة كتحية المسجد في مسجد الميقات أو سنة الوضوء، ولكن بعض أهل العلم قال: ولا بأس أن يجعل للإحرام ركعتين وهما مسببتان، واعتبر أن نية الدخول في النسك سبب لأداء هاتين الركعتين ولو كان ذلك في وقت الكراهة. ووقت الكراهة: هو من بعد صلاة العصر حتى صلاة المغرب لمن لم يدرك العصر، ومن بعد صلاة الصبح حتى طلوع الشمس وارتفاعها قدر رمح أو رمحين لمن لم يدرك الصبح، ووقت عمودية الشمس في كبد السماء، يعني: قبيل الظهر بدقائق، هذا الوقت لا تجوز الصلاة فيه؛ لأنه وقت تسعر فيه جهنم، ولذلك نهى عنه النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (لا صلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس)؛ لأنهما وقتان كان المشركون يسجدون للشمس فيهما، وقال عليه الصلاة والسلام: (فإن الشمس تشرق وتغرب بين قرني شيطان) ولذلك نهى عن ذلك، حتى لا تتشبه بمن يعبد الشيطان، فإنه يسجد للشيطان في هذين الوقتين؛ وقت الغروب ووقت الشروق. ولكن الراجح من أقوال أهل العلم أنك إذا صليت في المسجد ركعتين بنية تحية المسجد أو سنة الوضوء فإنه لا بأس بذلك حتى ولو كان في وقت الكراهة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما نهى عن الصلاة في هذه الأوقات نهى عن الصلاة المطلقة، بخلاف الصلاة ذات السبب، بمعنى: لو أن رجلاً صلى العصر وجلس في المسجد لا يصح له أن يقوم فيأتي بركعتين وأربع وست وثمان وعشر؛ لأن هذه الصلاة لا سبب لها. أما إذا دخلت المسجد وقد صليت العصر في مسجد آخر فقبل أن تجلس تصلي ركعتين مع أن هاتين الركعتين وقعتا في وقت الكراهة؛ لكن لا كراهة فيهما هنا؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين)، فسبب الركعتين دخول المسجد.

باب الإهلال من حيث تنبعث الراحلة

باب الإهلال من حيث تنبعث الراحلة قال: [باب الإهلال من حيث تنبعث الراحلة]، معنى الإهلال: هو الإحرام، وهو الدخول في النسك فتهل به وتقول: لبيك اللهم كذا وكذا بحسب ما نويت. وقوله: باب: الإهلال من حيث تنبعث الراحلة، يعني: تقوم بك الدابة، أو نحوها مثل الباخرة أو الطائرة من حين أول التنبيه أو بمحاذاة الميقات فإنك تهل. قال: [حدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري -والمقبري لقب؛ لأنه كان يسكن بجوار مقابر البقيع، فكان إذا أتى المسجد أو ذهب إلى بيته مر بهذه المقابر فلقب بـ المقبري - عن عبيد بن جريج أنه قال لـ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (يا أبا عبد الرحمن! رأيتك تصنع أربعاً لم أر أحداً من أصحابك يصنعها)]، يعني: أنت قد اجتمعت فيك أربع خصال أو أشياء ما رأيت أحداً يصنعها أو لم تجتمع هذه الأربع عند أحد على الصورة التي اجتمعت عندك، ولا يمنع أن يكون غير عبد الله بن عمر قد فعل واحدة منها أو اثنتين أو ثلاث.

مشروعية مس الركنين اليمانيين دون الشاميين

مشروعية مس الركنين اليمانيين دون الشاميين قال: [(قال: ما هن يا ابن جريج؟ -أي: ما هذه الأربع؟ - قال: رأيتك لا تمس من الأركان إلا اليمانيين)]، وهما الركن اليماني والذي يليه وهو الركن الذي فيه الحجر الأسود، فعند الطواف فإنك تطوف من الشمال إلى اليمين، وتجعل الكعبة على شمالك؛ فالركن الذي هو المربع، والركن الذي فيه الحجر الأسود يسميان بالركنين اليمانيين؛ لأنهما من جهة اليمن، كما أن الركنين الآخرين الموازيين هما الركنان الشاميان؛ لأنهما من جهة الشام. وإن كان الركن الذي فيه الحجر الأسود أقرب إلى جهة العراق لكن أطلق عليه اليماني من باب التسهيل أو التغليب أو الخيرية، وأنتم تعلمون أن أهل اليمن أخير من أهل العراق بشهادة النبي عليه الصلاة والسلام لما أتاه وفد اليمن قال: (أتاكم أهل اليمن أرق الناس أفئدة وألينهم قلوباً، الفقه يمان، والإيمان يمان، والحكمة يمانية)، فهذه شهادة ليس لها في العراق مثيل، بل أرض العراق تذكر إذا ذكرت الفتن بخلاف أهل اليمن. ولذلك نحن نقول: العمران من باب التسهيل لـ أبي بكر، وعمر مع أن أبا بكر أفضل من عمر؛ فـ أبو بكر أفضل الأمة وأفضل الأمة من بعده عمر، وأفضل الأمة من بعد عمر عثمان، وأفضل الأمة من بعد عثمان علي رضي الله عن الجميع، وترتيبهم في الخلافة على قدر ترتيبهم في الأفضلية، وهذا معتقد أهل السنة والجماعة بخلاف الشيعة عليهم من الله ما يستحقون. والركن اليماني الذي هو قبل ركن الحجر الأسود كان يستلمه عبد الله بن عمر ويمسحه، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (مسح الركن اليماني يحط الخطايا حطاً)، وقال عن الحجر الأسود: (إنما هو حجر من أحجار الجنة كان أبيض كالثلج سودته خطايا بني آدم)، فيكفيك أنك تمس حجراً من أحجار الجنة أو تقبله، والسنة التقبيل فإن لم تستطع فلا تزاحم؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عمر بن الخطاب عن الزحام، وقال: (يا عمر لا تؤذ الضعفاء) عمر قوي لو أراد عمر -وكان آخر الصحن- أن يقبل الحجر الأسود لاستطاع أن يزيح الناس من أمامه حتى يصل إلى الحجر، وكأن النبي عليه الصلاة والسلام رآه يفعل ذلك وهو قوي والناس ضعفاء مكدودون متعبون من أداء هذا النسك، فقال: يا عمر! لا تفعل، قبله إن استطعت وإلا فاستلمه بيدك أو بشيء، يعني: أدخل يدك إلى الحجر فإذا لمست الحجر فقبل يدك، فإن لم تستطع بيدك فبالعصا، فإذا لم تستطع فإنما يكفيك أن تشير إليه مكبراً يعني: إذا كنت في مقابل الحجر وكنت بعيداً عنه لا تستطيع استلامه ولا تقبيله فأشر إليه بيمينك وقل: الله أكبر ولا شيء عليك، وإذا أشرت فلا تقبل، إما أن تقبل بفمك وإما أن تقبل شيئاً معك كاليد أو العصا إذا مسست بهما الحجر، أما أن تقبل يدك وأنت تشير بها دون مساس للحجر فهذا من بدع الحج أو من بدع الطواف. والخلاف على استلام جميع الأركان كان في القرن الأول ثم أزيل الخلاف تماماً بعد ذلك، ولابد أن تعلم قاعدة وهي أن الإجماع يرفع الخلاف، يعني: إذا وقع خلاف على مسألة بعينها في القرن الأول ثم اتفق العلماء على شيء واحد وأجمعوا عليه رفع هذا الخلاف واعتبر كأنه لم يكن؛ لأن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما كان إذا دخل مكة طاف بالبيت واستلم الأربعة الأركان، وكذلك كان يفعل عروة بن الزبير وغير واحد؛ لأنهم يعتقدون أن الأربعة الأركان من البيت ولا فرق عندهم بين الركنين الشاميين والركنين اليمانيين، ولكن هذا الفعل يرده فعله عليه الصلاة والسلام وأنه ما استلم إلا الركنين اليمانيين، أما الشاميان فلم يستلمهما عليه الصلاة والسلام، وهو يعلم أنهما من البيت، ولكن أصل ذلك عند معاوية وغيره حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (يا أم عبد الله لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية لنقضت الكعبة وبنيتها على قواعد إبراهيم).

قصة بناء الكعبة

قصة بناء الكعبة ولعلكم قرأتم في كتب أخبار مكة كما في التاريخ للطبري، والبداية والنهاية لـ ابن كثير، وتاريخ مكة للفاكهي وغير كتاب ممن عني بأخبار البلد الحرام. أن سيدنا آدم عليه الصلاة والسلام هو الذي بنى أصل القواعد للبيتين: للبيت الحرام، ثم انتقل بعد ذلك إلى القدس فبنى أصل المسجد الأقصى، وقد جاء في الصحيحين من حديث أبي ذر أن النبي عليه الصلاة والسلام سئل: (أي المساجد وضع في الأرض أولاً يا رسول الله!؟ قال: البيت الحرام، قيل: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى، قيل: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة) أي: أربعون سنة بين تأسيس البيتين. وفي القصة الطويلة التي أخرجها البخاري ومسلم في قصة دخول إبراهيم عليه الصلاة والسلام وهاجر أم إسماعيل عليه الصلاة والسلام إلى البلد الحرام قبل أن تكون بلداً حراماً، وقبل أن يكون بها أحد من الناس وإنما كانت أرضاً صحراوية، وكان موضع البيت إنما هو دوحة عظيمة جداً قد أتت عليها الرمال ثم أتت عليها السيول فاجتاحتها فبقي البيت على أصل قواعد آدم، ولكن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما ترك زوجه وولده إسماعيل في المكان المعروف، والقصة طويلة في معرفة السعي بين الصفا والمروة، وكان أول من فعل ذلك هي هاجر أم إسماعيل، ثم جبريل عليه الصلاة والسلام نفض بجناحه موضع زمزم، فلما جاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام للمرة الثالثة وجد ابنه إسماعيل جالساً في مكان يبري نبلاً له، فقال: يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر، قال: يا أبتي افعل ما أمرك ربك، قال: إن الله أمرني أن أبني البيت ها هنا. فبنى البيت من الركن اليماني إلى الركن الذي فيه الحجر الأسود بغير زيادة ولا نقصان، والطول من جهة الركنين الشاميين، وحجر إسماعيل الموجود الآن كان في داخل الكعبة التي بناها إبراهيم عليه الصلاة والسلام؛ لأن إبراهيم رفع القواعد لقوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} [البقرة:127]. فرفع البيت ولكنه لم يسقفه حتى قبل مبعث النبي عليه الصلاة والسلام ببضع سنوات أتت بعد ذلك السيول فاجتاحت البيت وأخذت الحجارة حتى لم يبق إلا القواعد التي في أصل المسجد، فبنى أهل الجاهلية المسجد قبل بعثة النبي محمد عليه الصلاة والسلام بخمس سنين، ثم اختلفوا فيمن يضع الحجر، فقالوا: نرضى بأول داخل، فكان الداخل هو محمد عليه الصلاة والسلام، فخلع ثوبه ووضع الحجر فيه وحملته كل القبائل، كل من طرف حتى وضعوه في المكان الذي حدده النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنهم قد رضوا بحكمه، فلما بنوا البيت أخرجوا منه المكان الذي كان فيه إسماعيل يبري نبله وهو المعروف الآن بحجر إسماعيل. والحجر من البيت ولذلك لا يحل لأحد عند طوافه بالبيت أن يطوف في حجر إسماعيل؛ لأنه لا يكون قد أتم الطوفة حينئذ، فلابد أن يطوف من خارج الحجر لا من داخله؛ لأن من طاف من داخل الحجر كأنه طاف من داخل الكعبة ولم يطف حول الكعبة حقيقة. ولذلك على أية حال فإن الكعبة بالفعل قد هدمت وبنيت على أصل القواعد الأولى ثم جاء بعد ذلك عبد الله بن الزبير وهدمها مرة أخرى وبناها على قواعدها الأولى وأدخل الحجر في الكعبة، وقال: هذا هو البناء الذي أدركنا عليه النبي عليه الصلاة والسلام. ولكن النبي عليه الصلاة والسلام إنما منعه من نقض الكعبة وبنائها على القواعد التي يعرفها أنه خاف الفتنة؛ لأنه قال: (لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لنقضت الكعبة وبنيتها على قواعد إبراهيم). والذي كان قد بناها على قواعدها الأولى هو عبد الله بن الزبير قال: إن الذي منع النبي عليه الصلاة والسلام أن يبنيها لا يمنعني؛ لأن الناس قد عرفوا الإسلام والإيمان واستقر ذلك في قلوبهم ولم يكونوا بعد حديث عهد بجاهلية، والعلة الأخرى التي منعت النبي صلى الله عليه وسلم هي موجودة معي وهي النفقة. فنقض الكعبة حجراً حجراً حتى بناها على قواعد إبراهيم، وجعل لها بابان؛ باباً في المشرق وباباً في المغرب يدخلها الداخل من جهة المشرق ويخرج من جهة المغرب، ولكن عبد الملك بن مروان لما تولى الإمارة قال: لأنقضن الكعبة وأبنيها على ما كانت في عهد نبينا عليه الصلاة والسلام وفعل وأغلق منها باباً ولم يبق إلا هذا الباب الذي هو موجود الآن، ثم بعد ذلك عوتب عبد الملك بن مروان قال: إنك قد فعلت فعلاً ود النبي عليه الصلاة والسلام أن لم يكن، ثم حدثوه بحديث عائشة: (لولا أن قومك حديثو عهد) فطأطأ رأسه وبكى وقال: والله لو أعلم هذا الحديث ما نقضتها، فصار الرجل ينقض الكعبة ويبنيها في حضرة كثير جداً من أهل العلم ولا أحد يذكر أو ربما لا أحد يعرف هذا الدليل. ولم يبلغ عبد الملك هذا الدليل إلا بعد أن نقض الكعبة وبناها، وهذا أمر عظيم جداً، وهذا يدل عل

حكم لبس النعال السبتية

حكم لبس النعال السبتية قال: [(ورأيتك تلبس النعال السبتية)]، والسبتية: هي النعال التي لا شعر فيها، والنعال التي نلبسها نحن لا شعر لها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (أيما إهاب دبغ فقد طهر). والإهاب هو الجلد قبل الدباغ فإذا دبغ صار جلداً طاهراً، والدباغ نوعان: إما دباغ من الداخل والخارج، وإما من الداخل من موضع اللحم، فإذا كان الدباغ من الداخل والخارج؛ فإن الدباغ يطهر اللحم والخارج يزيل الشعر، فإذا دبغ الجلد على هذا النحو سمي: دباغاً سبتية، وهذا نوع من الدباغ كان في الطائف، ويصنعون منه النعال، وهذا كان ملبس أهل الرفاهية، ولذلك لا يتناسب لبس النعال بالمقابر، ولذلك جاء في الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام لما رأى رجلاً يلبس هاتين النعلين بين القبور قال: (يا صاحب السبتيتين ألق عنك سبتيتيك). قال العلماء: يكره لبس النعال في داخل المقابر، لأنه لا يتناسب مع هذا المقام؛ فإن المرء يدخل هذه الأماكن ذليلاً خاشعاً مطمئناً مخبتاً، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يلبس النعال التي لا تدبغ من الخارج، وكان هذا ملبس رسمي عند العرب، وليس ملبس أهل الرفاهية. والنبي عليه الصلاة والسلام هو أكثر الخلق تواضعاً وإخباتاً لله عز وجل، وهذا خلقه عليه الصلاة والسلام في كل باب من أبواب الأخلاق والآداب والسلوك.

الصبغ بالصفرة والإهلال يوم التروية

الصبغ بالصفرة والإهلال يوم التروية قال: [(ورأيتك تصبغ بالصفرة)]، أي: تصبغ شعرك باللون الأصفر. قال: [(ورأيتك إذا كنت بمكة)]، يعني معناه: أنه قد أحرم من ذي الحليفة، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يحرم من غير ذي الحليفة، فقد اعتمر أربع مرات وحج مرة واحدة قارناً بين الحج والعمرة، وفي كل كان النبي عليه الصلاة والسلام يحرم من ذي الحليفة. وصفة القران أن يذهب الحاج من الميقات حتى يؤدي العمرة في مكة ثم يبقى في إحرامه إلى يوم التروية، ثم يحرم بالحج في يوم التروية، والعلماء اختلفوا في الإهلال بالحج للقارن أو للمفرد فقال بعضهم: يكون من أول شهر ذي الحجة، ولكن سنة النبي عليه الصلاة والسلام العملية خير شاهد على عكس ذلك، وهو أنه دخل عليه الصلاة والسلام مكة قارناً، فأدى نسك العمرة ثم بقي في إحرامه حتى يوم التروية، ثم ركب ناقته في يوم التروية، وكان ذلك في اليوم الثامن من ذي الحجة وهو المعروف بيوم التروية، وسمي تروية؛ لأن الناس يتروون فيه أي: يأخذون ريهم وشرابهم إلى عرفة وإلى مزدلفة ومنى من مكة ليكفيهم في مناسك الحج. قال: [(ورأيتك إذا كنت بمكة أهل الناس إذا رأوا الهلال -أي: أحرم الناس بالحج إذا رأوا هلال ذي الحجة- ولم تهلل أنت حتى يكون يوم التروية)]، الذي هو اليوم الثامن من ذي الحجة، فهذه الأربعة الأمور لم تجتمع إلا لـ عبد الله بن عمر، ومعلوم أنها قد تكون اجتمعت في غيره، ولكن عبيد بن جريج هو الذي يتكلم عن نفسه قال: أراك قد اجتمعت فيك أشياء لم تجتمع لغيرك، أو لم تكن في غيرك، أو تصنع أربعة أشياء لم يكن أحد غيرك يفعلها، لا يعني ذلك أن يكون غير عبد الله بن عمر لم تجتمع فيه هذه الأربع وزيادة، لكن عبيد بن جريج لا علم له بذلك. وجواب عبد الله بن عمر على أسئلة عبيد بن جريج أنه قال: [(أما استلام الركنين اليمانيين فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يمس إلا اليمانيين، وأما النعال السبتية فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس النعال التي ليس فيها شعر، ويتوضأ فيها، فأنا أحب أن ألبسها)]، أي: يلبس النعال التي ليس فيها شعر بعدما يتوضأ، ورجله لا تزال رطبة بالماء، ولا يزال الماء عالقاً برجله، هذا معنى يلبس النعال التي ليس فيها شعر ويتوضأ فيها؛ لأن الوضوء لا يمكن عندما تكون رجلاه في النعل، وإنما عندما تكون رجلاه خارج النعل، فلابد من حمل هذا الحديث على التأويل السائغ له، وهو أنه كان يتوضأ ثم يضع قدمه في النعل ثم بعد ذلك يمسح عليه. قال: [(وأما الصفرة -أي: الصبغ بالصفرة- فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبغ بها فأنا أحب أن أصبغ بها)]، وهو الحناء أو الكتم وهو الذي يصبغ به شعر الرأس واللحية. قال: [(وأما الإهلال -أي: الإهلال في يوم التروية وليس من أول شهر ذي الحجة- فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل حتى تنبعث به راحلته)]، يعني: يوم التروية أول ما يركب الدابة وتقوم به يبدأ يهل.

استشعار الآخرة وقرب الأجل عند أداء مناسك الحج

استشعار الآخرة وقرب الأجل عند أداء مناسك الحج والنسك ثلاثة أنواع: تمتع، وإفراد، وقران، والإفراد أن تنوي أداء نسك الحج فقط، والذي يريد أن يحج دون أن يعتمر فإنه يحرم من الميقات من رابغ ثم يدخل مكة يطوف حول الكعبة ويسعى بين الصفاء والمروة، فهذه المسائل العملية لا يمكن أن تفهم ولا تركب في العقل إلا بالتطبيق، فهو يفرد الحج دون العمرة، وهذا الطواف يسمى طواف القدوم، وليس له علاقة بالعمرة، فلا يسقط عنه طواف الإفاضة في اليوم العاشر. وملابس الإحرام تذكر الواحد بأصله أو بمبدئه ومنتهاه، فهي تذكره بيوم ميلاده حين ولد في خرقة، وتذكره بوفاته حين يكفن في خرقة. وأما هذا الحشر في عرفة أو في منى أو المزدلفة أو في بيت الله الحرام أو يوم النحر إنما يذكرك بالحشر يوم القيامة، ومن لم يعتبر بهذه المعاني كلها في حجه فإنه يرجع إلى ما كان عليه قبل الحج وزيادة، فالسارق يرجع سارقاً، ونصاباً، ومحتالاً، والكذاب يرجع مثل حالته، لكن إذا ذهب من هنا ليجدد العهد والميثاق مع الله عز وجل، خاصة وأن الله وحده هو الذي يغفر له ما تقدم من ذنبه، وأنه يرجع من ذنبه كيوم ولدته أمه، وهذه فرصة ربنا أعطاها لك وأنت لا تدري، ربما لا تتيسر لك مرة أخرى. فإن رجعت على هذا النحو مستبشراً برحمة الله ومغفرته وقبول توبتك والعفو عن ذنبك، فيلزمك أن تحاسب نفسك على أقوالك وأفعالك وأخلاقك، وتبقى سمحاً كريماً، وتتمثل أخلاق النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنك لا تدري أتحج مرة ثانية أم لا؟ يغفر لك ذنبك أم يؤاخذك الله عز وجل؟ فهناك معاني لابد أن تفكر فيها، هذه المعاني تلزم المرء في كل حياته بالشرع، وأنت في كل فترة تقوم بتشييع الجنازة، ربما يغسلونك في المقبرة، ويصلون عليك، ويدفنونك بجوار الميت، ويقبرونكما في وقت واحد، ولا يغلقون القبر إلا عليكما سوياً. ومع هذا أنت تقول: أنا ما زلت شاباً، وتنسى أن الذي تدفنه طفل لم يبلغ مرحلة من الشباب أو الفتوة، فلو كنت فعلاً تمشي في الجنازة فعليك أن توقن بأنك لا ترجع إلى بيتك وإلى أهلك، نحن ممكن نخرج من المسجد وتصدمنا سيارة، فنحن طلاب علم في مسجد الرحمة وبعد خمس دقائق من خروجنا يقال فينا: الله يرحمنا، فلابد أن الإنسان فعلاً يستشعر عظمة الله عز وجل في كل لحظة من لحظات حياته. وكان أحد السلف رضي الله عنهم يقول: لو أن الله عز وجل أخبرني بأن ساعتي غداً ما زدت في عملي شيئاً، لأنه اجتهد في أصل عبادته لله عز وجل على أحسن وجه وأكمله، إنما لو أن الواحد منا قيل له: إن ساعتك غداً، فإنه يبيت الليل يفكر في كل شيء، يراجع حساباته في كل جانب، ليس عندنا الاستعداد الذي كان عند أسلافنا، وليست لنا قلوب كالقلوب التي كانت في صدور أسلافنا، والله تبارك وتعالى يرحم ضعفنا.

ما يشرع للحاج عمله من أول يوم التروية إلى نهاية المناسك

ما يشرع للحاج عمله من أول يوم التروية إلى نهاية المناسك فمن حج مفرداً فإنه لن يعتمر وإنما يحج فقط، أنت بإمكانك أن تأتي من جدة إلى منى مباشرة دون أن تدخل مكة، فتصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم تبيت بها، لكن البقاء في منى والمبيت بمنى في هذه الليلة سنة وليس واجباً ولا فرضاً، ثم تذهب مباشرة إلى عرفة نهاراً وهذا شيء جيد وهو سنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أشرقت عليه الشمس في منى انطلق إلى عرفة، فوصل قبيل الظهر وصلى الظهر والعصر جمع تقديم، وترك صلاة المغرب والعشاء حتى صلاهما في مزدلفة حين أفاض جمع تأخير، وما هبط من عرفات إلى مزدلفة إلا بعد أن غربت عليه الشمس في عرفات، فتوضأ وضوءاً خفيفاً، فقال أسامة بن زيد: الصلاة يا رسول الله! يعني: المغرب أذن لم لا تصلي؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام مشيراً إلى المزدلفة: (الصلاة أمامك) يعني: سنصلي المغرب والعشاء جمع تأخير في مزدلفة، وليس صلاة المغرب والعشاء تؤدى في عرفة، فمن لم يدرك الوقوف في نهار عرفة يمكنه أن ينزل في الليل يوم التاسع من ذي الحجة، ولو أدركت ساعة في ليل عرفة قبيل الفجر صح وقوفك، ثم تنزل من عرفة إلى مزدلفة، ثم تنطلق إلى منى، وبهذا يكون قد تم حجك ولا شيء عليك ولا كفارة بتركك البقاء في منى في نهاية التروية أو في ليل اليوم التاسع؛ لأن هذا كله مسنون وليس واجباً. فإذا رميت جمرة العقبة الكبرى في يوم النحر وحلقت فلك أن تتحلل من إحرامك وتأتي كل ما كان محرماً عليك إلا إتيان النساء، فإذا طفت طواف الإفاضة أي: تركت منى من عند جمرة العقبة الكبرى ونزلت إلى بيت الله الحرام فطفت بالبيت وسعيت فأنت تكون قد أديت النسك الثالث، والأنساك في يوم النحر خمسة إذا أديت منها اثنين تحللت من إحرامك وصح لك كل شيء إلا النساء، وإذا أتيت بثلاث صح لك كل شيء حتى النساء، وقلنا سابقاً: هي رمي جمرة العقبة الكبرى، والحلق، وذبح الهدي، والسعي بين الصفا والمروة، والطواف، إذا فعلت اثنين من الخمسة جاز لك أن تتحلل من إحرامك وتلبس الملابس العادية، وإذا فعلت ثلاثاً جاز لك كل شيء حتى النساء، هذا لمن حج مفرداً؛ لأن المفرد ليس عليه هدي كما أنه ليس عليه طواف قدوم ولا سعي بين الصفا والمروة، إنما عليه الطواف والسعي بعد رمي جمرة العقبة الكبرى أو في يوم النحر، والنبي عليه الصلاة والسلام ما سئل في هذه الخمسة الأنساك في يوم النحر عن شيء قدم أو أخر إلا قال: افعل ولا حرج، لكن التفسير الطبيعي في أداء هذه المناسك أن الحاج ينزل من مزدلفة إلى منى فيفاجأ بعد ظهر يوم النحر أن جمرة العقبة الكبرى من أمامه سيرميها بسبع حصيات ثم يحلق؛ لأن ذلك من السنة، ثم منى بجوارك إذا كنت من أصحاب الهدي كالمتمتع والقارن فتذبح، أو ربما تؤجل الذبح إلى اليوم الثاني أو الثالث أو حتى الرابع إلى وقت صلاة العصر وهو الوقت الذي يسن فيه الذكر والتسبيح والتهليل والتلبية وغير ذلك. فإذا كان الأمر كذلك فلتذهب إلى مكة لتطوف حول البيت وتسعى بين الصفا والمروة، لكن إذا قدمت واحدة على الأخرى فلا شيء عليك في هذا اليوم وقبل غروب الشمس، ومن أخر الطواف والسعي معنى ذلك أنه قد رمى جمرة العقبة وحلق وذبح إن كان من أهل الذبح، وبالتالي يحل له كل شيء، فله أن يخلع ملابسه ويلبس الملابس العادية، لكن إن دخل عليه ليل يوم النحر دون أن يطوف ويسعى بين الصفا والمروة يلزمه أن يلبس ملابس الإحرام للطواف والسعي، هذه بسبب أنها لفتت بعض الأنظار سأعيدها مرة أخرى. أنا أقول لك: هذه الخمسة الأنساك مسنونة لك منذ الزوال، يعني: من وقت الظهيرة حتى غروب الشمس، فرمي جمرة العقبة لابد أن يتم في يوم النحر وقبل غروب الشمس، والذبح ليس بلازم فإن أمامك أربعة أيام يوم النحر وثلاثة أيام التشريق إلى عصر اليوم الثالث، فلك أن تذبح في هذه الأربعة أيام، والحلق يتم كذلك في يوم النحر وهو الأفضل، ويصح لو تركته حتى الذبح مع مخالفتك للأفضل، أما الطواف فإنه لابد أن يؤدى قبل خلعك لملابس الإحرام؛ لأنه لا متنسك يطوف إلا بملابس الإحرام، ولك أن تطوف بغير ملابس الإحرام أي: بملابسك العادية إذا لم تكن متلبساً بالنسك إذا ما كنت ناوياً عمرة ولا حج لك أن تطوف بالبيت بملابسك العادية، فالطواف عبادة وهي شيء آخر. لكن إذا فاتك الطواف والسعي في يوم النحر وتحللت من ملابسك وأردت أن تطوف وتسعى فيلزمك بعد غروب شمس يوم النحر أن تلبس ملابس الإحرام مرة أخرى لتطوف وتسعى، وهذا للمفرد. وجاء رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام في اليوم الذي بعد يوم النحر وهو أول أيام التشريق، فقال: (يا رسول الله! ذبحت قبل أن أحلق، قال: لا حرج، وقال آخر: حلقت قبل أن أذبح، قال: لا حرج)، فوجه النبي صلى الله عليه وسلم سؤاله لأحد أصحابه: (أطفت بالبيت وسعيت؟ قال: بعد يا رسول -يعني: ما طفت- قال: البس إحرامك وطف واسع). هذا الحديث خفي على كثير جداً من أهل العلم نبه عليه الشيخ الألباني عليه رحمة الله في كتابه الممتع مناسك الحج والعمرة.

أفضل المناسك الثلاثة وصفتها

أفضل المناسك الثلاثة وصفتها فنسك الحج الثلاثة هي: إفراد وتمتع وقران، والتمتع والقران لكل واحد منهما حكم، وأفضل هذه الأنساك الثلاثة التمتع مع أن النبي عليه الصلاة والسلام حج قارناً، لكن الخلاف وقع بين العلماء أيهما أفضل القران أو التمتع، فبعضهم قال: القران؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حج قارناً، والجمهور قال: التمتع وحجته في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي). وأنتم تعلمون أن القارن يسوق الهدي من الميقات حتى يدخل به مكة، والمتمتع يأخذ هديه من مكة إلى منى، المهم أنه لا يسوق الهدي من الميقات، فالنبي عليه الصلاة والسلام لما دخل مكة واعتمر ومعه الهدي من الميقات من ذو الحليفة قال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي) أي: ما حججت قارناً وإنما حججت متمتعاً. والصواب: أن التمتع أفضل من القران والإفراد، والثلاثة الأنساك كلها خير وبركة، لكن أخيرها وأبركها التمتع بشهادة النبي عليه الصلاة والسلام، فالذي يتمتع بين العمرة والحج يجمع بينهما، فأنت تنوي من الميقات التمتع وهو الجمع بين العمرة والحج، العمرة تؤدى أولاً، فإذا قلت: لبيك اللهم عمرة وحجاً تمتعاً دخلت مكة فطفت وسعيت وحلقت ثم تتحلل من ملابسك. ولو أن المتمتع ذهب في شهر شوال فالأفضل له أن يحلق، لكنه إذا ذهب في يوم الثالث أو الرابع أو الخامس من ذي الحجة فالأفضل في حقه أن يقصر؛ لأنه بقي له خمسة أيام وسيأتيه يوم النحر، وهو مطالب بالحلق، فلو أنه حلق بالموس يوم الخامس من ذي الحجة سيحلق ماذا في يوم عشرة ذي الحجة؟ لن يزيل شيئاً. لكنه لو أتى من أول الأشهر أو في وقت يسمح بسواد رأسه يعني: بنمو شعره ونبته مرة أخرى يكون الحلق أفضل، وهذا الجمع بين كلامي الآن والكلام السابق، فالذي يذهب من هنا متمتعاً ليس عليه أن يلتقط الهدي من الميقات، بل هو سيدخل مكة بغير هدي، وله أن يوكل شركة الراجحي هناك، فإنها تحمل عنك عبء الهدي والذبح والسلخ والطبخ وغير ذلك فهي تفعل كل هذا، وتدفع حوالي ستمائة وخمسين أو ستمائة ريال تقريباً. ولك أن تذهب وتشهد ذبيحتك بنفسك، وإن كان الأمر فيه مشقة كبيرة لكن ما عندهم مانع؛ لأن الشركة بنفسها تقول لك: تفضل الذبيحة حقك رقم كذا، وتذهب المذبح الأهلي في منى فترى الذبيحة حقك موجودة وفي رقبتها البيانات حقها، واسمك مكتوب على الذبيحة. فإذا أردت أن تشهد ذبحها وتأخذ هذه الذبيحة كلها بعد الذبح ما هناك مانع، ولك ذلك، ثم تدخل مكة فتطوف بالبيت وتسعى بين الصفا والمروة وتحلق رأسك إذا كنت متقدماً في أشهر الحج، وإذا كنت متأخراً يعني: في شهر ذي الحجة نفسه فالأولى أن تقصر فقط، فإذا فعلت ذلك فقد تحللت من عمرتك، وتلبس ملابسك العادية حتى يوم التروية من أول ما تركب الدابة من بيتك أو من المسجد الحرام أو من أي موضع في مكة تبدأ تنطق بالإهلال من موضعك في البيت أو في الشارع أو في المسجد الحرام نفسه، وتنطلق إلى منى فتؤدي بها المناسك، ثم تؤدي المناسك بعرفة، ثم المزدلفة ثم منى، وإذا نزلت إلى مكة فلك أن تطوف بالبيت وتسعى. والسعي ليس بلازم وإنما يكفيك الطواف ويجزئ عنك سعيك الأول الذي سعيته وهو سعي القدوم، وهذا في القارن ليس في المتمتع، وإذا لم يفعل الأول لزمه السعي في يوم النحر بعد طواف القدوم، أما المتمتع فإنه يطوف ويسعى قولاً واحداً؛ لأن هذا حج على انفراد، وهذه عمرة على انفراد قد أداها المتمتع، والمتمتع والقارن عليهما هدي بخلاف المفرد فإنه لا هدي عليه، والقارن لا يتحلل من إحرامه بعد أداء العمرة، وإنما يبقى في ملابس الإحرام حتى تنبعث به راحلته يوم التروية إلى منى.

شرح حديث ابن عمر في إهلال النبي عند انبعاث راحلته

شرح حديث ابن عمر في إهلال النبي عند انبعاث راحلته قال: [حدثنا هارون بن سعيد الأيلي، حدثنا ابن وهب - عبد الله بن وهب المصري القاضي- قال: حدثني أبو صخر -وهو حميد بن زياد الخراط مدني سكن مصر- عن ابن قسيط -وهو يزيد بن عبد الله بن قسيط - عن عبيد بن جريج قال: حججت مع عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما بين حج وعمرة ثنتي عشرة سنة أو ثنتي عشرة مرة -يعني: هو حج واعتمر عدة حجات وعدة عمرات مع عبد الله بن عمر قرابة ثنتي عشرة مرة- فقلت: يا أبا عبد الرحمن! لقد رأيت منك أربعة خصال وساق الحديث، كما ساقه أولاً. وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا علي بن مسهر، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وضع رجله في الغرز -بمعنى: إذا وضع رجله في غرز الدابة، يعني: كان لا يهل إلا إذا انبعثت به راحلته- قال: وانبعثت به راحلته قائمة أهل من ذي الحليفة)]. إذاً: عندنا إهلالان كان النبي عليه الصلاة والسلام لا يهل فيهما إلا إذا انبعثت به راحلته: إهلال من ذي الحليفة في مبدأ العمرة، وإهلال من مكة في يوم التروية، ليس من أول شهر ذي الحجة وإنما من أول يوم التروية. قال: [وحدثني هارون بن عبد الله حدثنا حجاج بن محمد قال: قال ابن جريج: أخبرني صالح بن كيسان، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أنه كان يخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل حين استوت به ناقته قائمة)]، وفي الرواية التي تليها قال: [(رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب راحلته بذي الحليفة)]، يعني: ركب الدابة أولاً ثم أهل حين استوت به قائمة، يعني: ما كان يهل بها وهي باقية في مكانها وهو راكب فوقها إلا إذا قامت وانبعثت، وبعض أهل العلم في هذا الزمان يقول: حين تركب الباص أيضاً لا تهل إلا إذا انطلق الباص؛ لأنه هو حين انبعاثه. وهذا من تشبيه الباص بالبعير الذي تركبه وغير ذلك، والنبي عليه الصلاة والسلام لم يهل حين بروك البعير وإنما أهل حين انبعث، أي: حين قامت به ناقته واستوت وانبعثت.

باب الصلاة في مسجد ذي الحليفة

باب الصلاة في مسجد ذي الحليفة قال: [باب الصلاة في مسجد ذي الحليفة. حدثني حرملة بن يحيى، وأحمد بن عيسى قال أحمد: حدثنا وقال حرملة: أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس، عن ابن شهاب أن عبيد الله بن عبد الله بن عمر أخبره، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (بات رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة مبدأه وصلى في مسجدها)]، النبي عليه الصلاة والسلام لما أراد النسك خرج من المدينة بعد صلاة العصر، ووصل ذا الحليفة قرابة المغرب أو العشاء فصلى بها المغرب والعشاء ثم بات بذي الحليفة، ولا يلزمنا المبيت بذي الحليفة كما بات النبي عليه الصلاة والسلام، ومن فعله تأسياً واقتداء فهو حسن لكنه لا يلزمه؛ لأن هذا المبيت ليس من أعمال الحج ولا من أعمال العمرة نهائياً، فمن فعله تأسياً واقتداء فهو حسن ومن تركه فلا حرج عليه. فقوله: (بات النبي عليه الصلاة والسلام بذي الحليفة مبدأه) أي: في مبدأ الانطلاق لأداء النسك (وصلى في مسجدها) المقصود: أنه بات بذي الحليفة حتى أصبح، ولما أصبح صلى الفجر، ولذلك أهل العلم استفادوا من هذا الحديث أن إهلاله بالنسك كان بعد صلاة الصبح لا بعد ركعتين مخصوصتين بالنسك أو بنية الإحرام، وإنما أحرم بعد صلاة الصبح صلى الله عليه وسلم.

باب الطيب للمحرم عند الإحرام

باب الطيب للمحرم عند الإحرام قال: [عن عائشة رضي الله عنها قالت: (طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرمه حين أحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت)]، نحن كنا قد اتفقنا في الدروس الماضية أن الطيب يحرم على المحرم؛ وقلنا: إن من فعل ذلك متعمداً لزمه الدم؛ لأنه خالف واجباً، ومن فعل ذلك ساهياً أو مخطئاً أو جاهلاً وهو لا يعلم بالحرمة فلا شيء عليه، وإن قدم شاة فهو حسن، لكن إن لم يقدم فلا إثم عليه. وعائشة رضي الله عنها تقول: (طيبت) يعني: حصل منها العطر والطيب، (طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرمه حين أحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت)، يعني: لما أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يحرم طيبته قبل أن يحرم، والذي أراد الدخول في النسك قبل إحرامه جاز له أن يتطيب في بدنه دون ثوبه. فـ عائشة رضي الله عنها طيبته -قبل أن يحرم- في بدنه، وستأتي معنا الأدلة التي تبين هذا، ثم قالت: (ولحله) أي: طيبته لحله قبل أن يطوف بالبيت طواف الإفاضة في يوم النحر، بعد رمي جمرة العقبة، وبعد الحلق وربما بعد الذبح وفي يوم النحر حل له كل شيء إلا النساء، ومما حل له الطيب، فهي تقول: (وطيبته لحله قبل أن يطوف بالبيت)، يعني: طيبته بعد أن تحلل من ملابسه بمنى بعد رمي جمرة العقبة وبعد الحلق، لأن السنة التي وردت في حجه كما في حديث جابر في الصحيحين أن النبي عليه الصلاة والسلام في حجه فعل هذا، فإنه رمى جمرة العقبة وناول رأسه الحلاق فحلق الأيمن ثم حلق الأيسر، وأخذ أبو طلحة الأنصاري شعره فأخذ الشق الأيمن له ولأهل بيته، وأخذ الشق الأيسر ففرقه في أصحابه كل واحد له شعرة أو شعرتان بركة من النبي عليه الصلاة والسلام. والتبرك بالنبي عليه الصلاة والسلام يجوز بذاته وآثاره، بخلاف بقية الخلق فلا يجوز التبرك بأحد قط من الخلق، إنما يجوز الاستشفاع والاستسقاء بدعاء الصالحين وغير ذلك، وهذا ليس موضوعنا الآن، فالنبي عليه الصلاة والسلام رمى جمرة العقبة وحلق وذبح الهدي وكان معه الهدي في منى؛ لأنه كان يسوقه معه، وعلى أية حال على فرض أنه لم يذبح مع أنه ذبح لكنه رمى جمرة العقبة وحلق فحل له كل شيء إلا النساء. فهو لما سينزل من منى يطوف بالبيت ويسعى سعي القدوم، فالنبي عليه الصلاة والسلام تحلل في منى قبل أن يطوف بالبيت، فـ عائشة تقول: (وطيبته لحله قبل أن يطوف بالبيت)؛ لأنه تحلل بعد أداء نسكين أو ثلاثة. فقولها رضي الله عنها: (طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي لحرمه حين أحرم)]، أو لحرمه حين أحرم وكلاهما صحيح، ولكن جمهور المحدثين يقولون: بضم الحاء وبعض اللغويين ينكرون على المحدثين ضم الحاء ويقولون: الصواب هو الكسر. وعروة والقاسم يخبران عن عائشة أنها قالت: [(طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي بذريرة في حجة الوداع للحل والإحرام)]، الذريرة: اسم قارورة أو كأس كان يوضع فيه الطيب يأتي من الهند، واسم ذريرة كأنها كلمة هندية معربة، والمعنى طيبته في حال حله وفي حال إحرامه، أي: قبل أن يحرم. قال: [وقال عروة: (سألت عائشة رضي الله عنها بأي شيء طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند حرمه؟ قالت: بأطيب الطيب)]، وهو المسك. [وقالت عائشة: (كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأطيب ما أقدر عليه قبل أن يحرم ثم يحرم)]، وهذا لفظ صريح أن الطيب كان قبل الإحرام، ويذكر أنه في البدن لا في الثوب. قال: [وعن عائشة قالت: (طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرمه حين أحرم ولحله قبل أن يفيض -يعني: قبل أن يطوف طواف الإفاضة- بأطيب ما وجدت). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم)]، والوبيص الذي هو البريق واللمعان في مفرق الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد كان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه يسرح شعره من منتصف رأسه ويطرح الأيمن على الأيمن والأيسر على الأيسر، طبعاً لو عملها واحد الآن بنية الاقتداء لكان مأجوراً على ذلك، لكن نريد منك أن تلبس العباءة مثل ما كان يلبسها النبي عليه الصلاة والسلام، فقد كان يرى مفرق رأسه؛ لأنه كان محرماً، والمحرم لا يلبس طاقية ولا قلنسوة ولا شيئاً من هذا، فحيث أنه يفرق شعره ويكثفه يلبس أيضاً عمامة مثلما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، كيف أنت تقتدي به في شيء ولا تقتدي به في الأشياء الأخرى؟ لكي تأتي البنات وتجلس بجانبه وتقول: هذا شعره ناعم، شعره أسود. شعرك هذا يمكن أن تشتعل فيه نار تأكلك وتأكل شعرك، ووقتها ستغطي رأسك مكرهاً، لا بنية الاقتداء وإنما بنية أنك تخفي الحرق، فالأحسن لك أن تستقيم من الآن، وتصحح نيتك، وتصلح عملك على منهاج النبي عليه الصلاة والسلام.

الأسئلة

الأسئلة

حكم لبس الحزام الذي فيه وصلة قماش مخيطة للمحرم

حكم لبس الحزام الذي فيه وصلة قماش مخيطة للمحرم Q هل يمكن لبس حزام لوضع المال به وبه وصلة مخيطة أم لا؟ A لا بأس بلبس الحزام للحفاظ على الأوراق والأموال وغير ذلك، وإن كان في الحزام وصلة مخيطة فهذا لا يضر، وأصله الجواز، وكثير من السلف أفتى بذلك ولم يمنع من ذلك أحد للحاجة؛ ولأن هذا لم يخط على قدر العضو، وأنتم تعلمون أن الذي نهى عنه الشرع إنما هو لبس الثياب المخيطة على قدر العضو، وإلا فهذا الإحرام الذي تلبسه فيه شيء من الخيط بل هو نسج من خيط، وربما أدير على حافة هذا الثوب بالمكينة، وهذا يعني أن فيه خياطة. ولكن المنهي عنه أن تلبس ثوباً مخيطاً على قدر العضو كالكم والصدر والظهر والرجل وغير ذلك، فالمنهي عنه أن تلبس ثوباً مخيطاً على قدر العضو، أما غير ذلك فليس فيه نهي، ومنه هذا الذي نذكره، والذي فيه الحرج هو هذا الإزار الذي ألحق به ما يشبه الملابس الداخلية لربط هذا الجزء على العورة المغلظة فهذا لا يجوز لبسه؛ لأن هذا خيط على قدر العضو، الملابس في هذا الزمان صارت ليس فيها حشمة. فالمنهي هو ما قد حيك على قدر العضو ليس بمهم أن يكون مخيطاً، فهذا لا يجوز لبسه.

حكم إهداء ثواب القرآن إلى الميت

حكم إهداء ثواب القرآن إلى الميت Q هل يصل ثواب القرآن الكريم إلى الأموات، وإذا كان يصل فبأي سورة مع الدليل؟ A ثواب القرآن يصل إلى الأموات أو لا يصل، المسألة فيها اختلاف بين أهل العلم، وأنا قد أجبت عن هذا السؤال مراراً وتكراراً في هذا المسجد.

حكم من حج على نفقة شركة أو من أحد الناس

حكم من حج على نفقة شركة أو من أحد الناس Q هل من يحج حجة الإسلام تجوز حجته إذا كانت على حساب شركة، أو عامل في خدمة الحجاج، أو أهدى إليه أحد الناس، أفتونا بذلك؟ A يجوز بلا خلاف بين أهل العلم.

عدد الهدي في الحج

عدد الهدي في الحج Q كم عدد الهدي المقصود بفريضة الحج؟ A الهدي شاة واحدة فقط لكل حاج قارناً كان أو متمتع، وبعير لسبعة، أو بقرة لسبعة من الناس، يعني: سبعة يشتركون في بقرة أو في جمل أو لكل واحد شاة.

حكم من حج متمتعا، وبيان ما هو التمتع

حكم من حج متمتعاً، وبيان ما هو التمتع Q إذا كان التمتع أفضل من القران، فهل من يريد حجة الإسلام يجزئه التمتع فقط، وما هو التمتع؟ A نعم يجزئه، والتمتع: هو أنك تضم العمرة إلى الحج وتؤدي العمرة في أشهر الحج: شوال، ذو القعدة، العشر الأوائل من ذي الحجة، ثم لا تخرج من مكة بعد أداء العمرة، وتنوي عند أداء العمرة أداء الحج بعدها، وهذه النية تنعقد من الميقات، ثم تتحلل من إحرامك بالعمرة، وتحرم في يوم التروية، وتذهب لتؤدي الحج تماماً بتمام على النحو الذي ذكرناه، وهذا بلا شك يجزئك عن حجة الإسلام، بل هو حجة الإسلام.

عدد عمرات النبي عليه الصلاة والسلام

عدد عمرات النبي عليه الصلاة والسلام Q ذكرت أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع مرات غير العمرة التي كانت مع حجه، أليست عمرته التي مع حجته هي ضمن الأربع؟ A هي ضمن الأربع، اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم أربع مرات إحداهن مع حجته.

حكم الأضحية للحاج

حكم الأضحية للحاج Q هل من السنة الأضحية بعد الحج كل عام؟ وهل يلزم ذلك؛ لأن بعض الناس يفعل ذلك بحرص شديد؟ A لا، بل أنه من واجبات الحج، وهذا للمتمتع والقارن لا للمفرد كما وضحنا من قبل. ومن يحرصون على ذلك هم على حق؛ لأن هذا واجب عليهم لابد من أدائه، لكن من لم يكن معه هدي أو ما عنده مال يشتري به هدياً فإنه يصوم، قال تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة:196]. لكن أقول: الذي ليس عنده مال بتقوى الله، وربنا يعلم أنك تحمل معك ثلاثة أو أربعة آلاف ريال لكي تشتري هدايا لفلان وفلان وفلتان إلى آخره، أتترك الواجب في حقك وتشتري الهدايا؟ وتزعم أنه ليس لديك مال، فتصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعت إلى بلدك، وتجده في سوق المدينة وفي غيرها من الأسواق يحمل الكراتين والشنط، فهذا لا ينبغي.

حكم الاختباء في مكة للحج خوفا من السلطات السعودية

حكم الاختباء في مكة للحج خوفاً من السلطات السعودية Q هل يجوز للمعتمر أن يمكث في منزل مختبئاً حتى لا يمسك، وأن ينزل إلى منى في موسم الحج؟ A نعم ممكن، أنت ذاهب في رمضان من أجل أن تعتمر، وأنت تعرف أن العمرة من هنا أمرها ميسور فتدفع ألفاً أو ألفين وتسافر، لكن عندما تذهب تحج تدفع عشرة أو عشرين ألفاً، ثم تفاجأ بأن المطلوب منك هناك للسكن عشرة آلاف أخرى فالحج صار فيه مشقة عظيمة جداً وأنت لم تحج حجة الإسلام، لكن بإمكانك أن تختبئ في مكان معين من رمضان ولا تخرج حتى دخول وقت الحج. بالرغم من أن الحكومة هناك لا تجوز هذا وتحرج كل الحرج على من بقي، فهل أنا أبيت في مكان كان في هذا المكان صاحب حق وأنا أخذته منه؟ لا أنا أبيت بأموالي وآكل بأموالي وأشرب بأموالي وأركب مواصلات بأموالي، إذاً: لا خسارة على أحد قط، وبالتالي فمن ذا الذي يجوز في الشرع أن يمنعني من الحج؟ الدول العربية -قبل دخول الكفار فيها- ملك لكل مسلم له أن يصول ويجول فيها حيث شاء، وأن يمكث في أي بلد من غير أن يأخذ الجنسية، مصر ملك لكل مسلم، والسعودية ملك لكل مسلم، لا يجوز لأي حكومة أن تزعم أنها تنظم، وفي الحقيقة أنها تعسر وتشق على من أراد البقاء هنا، أو على من أراد البقاء هناك، أنا حر في أن أؤدي المناسك في أي وقت شئت وفي أي عام شئت، لا يجوز لأحد أن يمنعني هذا هو الأصل، ويمكن الخروج عن هذا الأصل لو كانت هناك مضرة، وأي مضرة حينئذ؟ فأنا لا آكل أكل أحد، ولا أنام في مكان أحد ولا شيء من ذلك، كل هذا بأموالي وهو خير يساق إلى البلد هناك. وبالتالي لما قامت الحكومة بمنع ذلك وهي لعبة سياسية لعدم دخول الشعوب والأمم الدخول المتسع في موسم الحج، اضطر العلماء أن يفتوا بما صدر من قرارات سياسية هناك، وبعضهم كان يجاهر بعكس ذلك. والدروس في الحرم من أنفع الدروس على مدار العام، فمثلاً: الشيخ ابن عثيمين في شهر رمضان كان يقعد تقريباً عشرين يوماً أو الشهر كاملاً يعطي دروساً يجيب فيها عما لا يقل عن ألف سؤال، فيخرج بكم هائل جداً من الأسئلة والأجوبة التي تنفع الأمة في حياتها ومعادها، فإذا منع الشيخ مثلاً لكونه قد صرح بعدم مشروعية هذه القرارات السياسية فإنه سيمنع، فالأمر يريد منك التوكل على الله عز وجل، وتعرف أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك.

حكم السعي قبل عرفة للمفرد

حكم السعي قبل عرفة للمفرد Q هل يجوز السعي قبل عرفة للمفرد؟ A المفرد لا طواف ولا سعي عليه أولاً، وإنما يلزمه الطواف والسعي في يوم النحر وما بعده.

حكم من اعتمر في أشهر الحج

حكم من اعتمر في أشهر الحج Q ذهب لعمل عمرة في شهور الحج، فهل عليه هدي؟ A أنت لو ذهبت في أشهر الحج سواء كنت متمتعاً أو قارناً فإن عليك هدياً، فإذا اعتمرت وعقدت العزم على جمع الحج إلى العمرة فعليك هدي، وإذا كنت متمتعاً ستعمل عمرة وتتحلل.

حكم من صلى إماما بدون عمامة

حكم من صلى إماماً بدون عمامة Q هل للبس العمامة أو الطاقية دليل؟ وإن لم يلبس العمامة هل عليه إثم؟ A لا ليس عليك إثم، وإن خلعت الطاقية أو العمامة أو غير ذلك فلا إثم عليك، لكن يبقى أن النبي عليه الصلاة والسلام لبسها ولبسها أصحابه الكرام صلوات الله عليه ورضي الله عن أصحابه، وهي من سنن العادة وإن أخذت شكل العبادة، فإن أنت لبستها اقتداء وتأسياً بالنبي عليه الصلاة والسلام فهو حسن، وإن تركت ذلك فلا إثم عليك. وكل الأحاديث الواردة في فضل العمامة أحاديث موضوعة، منها ما ورد في أكثر من عشرين طريقاً: (ركعتان بعمامة خير من سبعين ركعة بغير عمامة)، ولما كانت الجمعية الشرعية مهتمة بمسألة العمامة، والعمامة شيء أساسي في حياتها احتجوا بهذه الأحاديث المصنوعة الموضوعة المكذوبة التي لم يقلها النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يأت في أي منبر من منابر الجمعية الشرعية إلا والإمام متقدم أولاً على المنبر ويأخذ العمامة ويضعها على رأسه، فالطاقية وحدها لا تكفي بل لابد من العمامة بزعمهم. رجل صلى بالناس إماماً وهو حاسر الرأس، وكان أحد المأمومين من الجمعية الشرعية فخرج من الصلاة بعدما كبر وأتى بالعمامة ووضعها على رأس الإمام، فهذا غلو. فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يتوضأ ويمسح على العمامة، وهديه عليه الصلاة والسلام في العمامة أمر قد استفاض فيه شيخ الإسلام ابن القيم في كتاب: زاد المعاد، فليراجع الباب من أراد.

حكم من جامع زوجته في نهار رمضان

حكم من جامع زوجته في نهار رمضان Q ما حكم رجل جامع زوجته في نهار رمضان؟ A إذا كان هذا الرجل من أهل التكليف يعني: كان بالغاً عاقلاً ذاكراً لما يفعل وأتى امرأته بغير عذر متعمداً وهو يعلم أنه في نهار رمضان، بخلاف من جامع امرأته ظناً منه أنه لا يزال في الليل ففوجئ أنه في النهار هذا يعتبر خطأ، أو من جامع امرأته ناسياً في نهار رمضان ثم تذكر بعد أن جامع ونزع فهذا لا شيء عليه، وإن قال أحمد بن حنبل: عليه الكفارة، لكن الراجح هو مذهب الجماهير، وهو أن من فعل ذلك مخطئاً أو ناسياً فلا شيء عليه، أما من جامع امرأته متعمداً فكفارته صيام شهرين متتابعين، فإن لم يقدر أو لم يكن من أهل الصيام فليطعم ستين مسكيناً.

التكبير في العيدين

التكبير في العيدين Q متى يبدأ التكبير في العيدين؟ A التكبير في عيد الأضحى يبدأ من فجر يوم عرفة وينتهي في عصر اليوم الثالث من أيام التشريق، ويبدأ في عيد الفطر من غروب الشمس وينتهي بصلاة العيد.

حكم استعمال النساء حبوب منع الحيض أثناء الحج

حكم استعمال النساء حبوب منع الحيض أثناء الحج Q هل يجوز أن تستعمل النساء حبوباً لمنع الحيض أثناء الحج، وإذا حاضت هناك فهل تطوف طواف الإفاضة؟ A يجوز استخدامها الحبوب لرفع الدورة مدة بقائها في أداء النسك، فقد أفتى المعاصرون بجواز ذلك، فإذا كان الحيض يضر بنسك المرأة فلا بأس أن تتعاطى هذه الحبوب لتأمن عدم وجود الدورة مدة النسك. أما قولها: وإذا حاضت هناك فهل تطوف طواف الإفاضة؟ فنقول: إن المرأة الحائض والنفساء تفعل كل شيء إلا الطواف بالبيت.

حكم من طاف وسعى بغير ملابس الإحرام

حكم من طاف وسعى بغير ملابس الإحرام Q حججت منذ خمس سنوات متمتعاً، وبعد رمي جمرة العقبة الكبرى حلقت وتحللت ولبست الملابس العادية، وصمت ثلاثة أيام في الحج ورميت الجمرات في أيام التشريق، ثم قبل السفر طفت وسعيت بملابسي العادية وفي نيتي الجمع بين طواف الإفاضة والوداع، فهل علي شيء لطوافي بملابسي العادية؟ A لا شيء عليك، والواضح أنك أو أنكم تجهلون هذا الحكم فمن فعل ذلك أي: من خالف ذلك جاهلاً أو ناسياً فلا شيء عليه ولا إعادة، وليس عليه شيء من دم أو غيره.

حكم من طاف وهو على غير وضوء

حكم من طاف وهو على غير وضوء Q هل الوضوء شرط للطواف؟ A نعم، الوضوء شرط للطواف وليس شرطاً في السعي، إنما يستحب في السعي، إنما هو شرط في الطواف، من فقد وضوءه فعليه أن يخرج ويتوضأ ويبني على ما مضى إلا الطوفة التي فقدت الوضوء، فمن طاف مرتين -مثلاً- وفي أثناء الطواف الثالث انتقض وضوءه فعليه أن يخرج فيتوضأ ويأتي بالشوط الثالث كما في الأول.

حكم من أشار وكبر إذا لم يستطع استلام الركن اليماني

حكم من أشار وكبر إذا لم يستطع استلام الركن اليماني Q هل عند عدم استطاعة استلام الركن اليماني أشير إليه بيدي وأكبر من بعيد؟ A لا، إذا لم تستطع أن تستلمه بيمينك فلا تشر إليه ولا تكبر، إنما هذا في الحجر الأسود. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه.

كتاب الحج - تحريم الصيد على المحرم

شرح صحيح مسلم - كتاب الحج - تحريم الصيد على المحرم لقد حرم الإسلام صيد البر على المسلم ما دام محرماً، كما حرم عليه الإعانة على قتل الصيد بأي شكل من الأشكال، ولا يحل له أكل صيد البر إلا إذا صاده غير المحرم لا يقصد به إهداء المحرم منه أو إطعامه، ومع ذلك فهناك ما يجوز للمحرم قتله في الحرم، وهو ما يعرف بالفواسق؛ كالعقرب والغراب والحدأة وما في معناها.

محظورات الإحرام وكفاراتها

محظورات الإحرام وكفاراتها إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. ثم أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة. نعرج سريعاً على ما ذكرناه إجمالاً في الدروس الماضية فيما يتعلق بالأشياء التي تحرم على المحرم، وإذا وقع فيها فما كفارتها؟

الجماع ودواعيه

الجماع ودواعيه المحظور الأول: الجماع ودواعيه. يحرم على المحرم الجماع والتقبيل والمفاخذة والأحضان، وغير ذلك مما يؤدي في الغالب إلى الوقوع في المحرم الصريح وهو الجماع، وهذا مع امرأته؛ لأن غير المرأة محرمة في الإحرام وفي غيره، فنحن نقول: ما يحرم على المحرم إتيانه أولاً هو جماع امرأته، فالإحرام والتلبس بالنسك سبب لتحريم ما كان حلالاً له من قبل مع امرأته، وهو الجماع والتقبيل، وخطابه إياها وخطابها إياه فيما يتعلق بالفراش. وقيل في تفسير الرفث: أنه كل كلام يدور بين الرجل والمرأة فيما يتعلق بالفراش أو الجماع. إذاً: أول شيء يحرم على المحرم -سواء كان رجلاً أو امرأة- إتيانه هو الجماع ودواعيه، فلابد أن تطرد الوسائل والأسباب التي تؤدي إلى الجماع في الغالب، فإذا رميت جمرة العقبة الكبرى في يوم النحر وحلقت فهذان منسكان، ويحل لك أن تتحلل من إحرامك، ويحل لك ما كان حراماً عليك إلا الجماع، فإذا طفت البيت وسعيت فقد حلت لك امرأتك. إذاً: جماع المرأة لا يحل إلا بعد الطواف والسعي، فلو أنك حلقت ورميت وذبحت أي: أديت ثلاثة مناسك، فإنه يحل بهؤلاء الثلاثة أن تتحلل من ملابسك ويحل لك كل شيء إلا الجماع؛ لأنه لابد في حل الجماع من الإتيان بمنسك الطواف حول الكعبة والسعي بين الصفا والمروة. فالمرأة لا تحل لك إلا بعد الطواف، وإذا طفت وسعيت حلت لك امرأتك وحل لك أن تنكح، أي: أن تزوج أو أن تتزوج أو أن تعقد أو غير ذلك مما يتعلق بأمور النساء.

اكتساب السيئات واقتراف المعاصي

اكتساب السيئات واقتراف المعاصي المحظور الثاني: اكتساب السيئات، واقتراف المعاصي والذنوب. وهو داخل في الفسوق المذكور في كتاب الله عز وجل، والمذكور في سنة النبي عليه الصلاة والسلام. قال تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ} [البقرة:197]، والفسوق يشمل الكبائر والصغائر من الذنوب.

المخاصمة مع الرفقاء وبقية الحجيج

المخاصمة مع الرفقاء وبقية الحجيج المحظور الثالث: المخاصمة مع الرفقاء وبقية الحجيج. والمخاصمة قد نهى عنها القرآن الكريم والسنة النبوية، وهي بمعنى الجدال بالباطل، أما الجدال بالحق فإنه لا حرج على صاحبه، والأصل في تحريم هذه الأشياء كلها التي ذكرنا قول الله عز وجل: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ} [البقرة:197]. وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه).

لبس الخفين والمخيط على قدر العضو

لبس الخفين والمخيط على قدر العضو المحظور الرابع: لبس المخيط على قدر العضو، يعني: قميص أو بنطلون أو تبان -الملابس الداخلية أو الفانيلة- وغير ذلك، كل هذا يحرم على المحرم إتيانه، إلا إذا لم يجد إزاراً فليلبس السراويل حتى يتمكن من لبس الإزار. وكذلك يحرم لبس الثوب المصبوغ بما له رائحة طيبة كالزعفران والورس، كما يحرم عليه أن يلبس الخف أو الحذاء إلا ألا يجد نعلاً فيقطع الخف حتى يستوي مع النعل. قال ابن عمر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يلبس المحرم القميص ولا العمامة ولا البرنس). والبرنس: هو (الزعبوط). عبارة عن طاقية لكنها مخيطة مع الثوب أو القميص. قال: (ولا السراويل، ولا ثوباً مسه ورس ولا زعفران، ولا الخفين إلا ألا يجد نعلين فليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين). والحديث عند البخاري ومسلم. وقد أجمع العلماء على أن هذا مختص بالرجل، يعني: كل هذه المنهيات فيما يتعلق بالملابس خاصة بالرجال دون النساء، أما المرأة فإنها لا تلبس النقاب ولا القفازين. فالمرأة المنتقبة في حال إحرامها لا تلبس النقاب، وإنما تطرح البيشة على رأسها دون أن تشدها شداً، فإذا مر عليهن الرجال وخشيت أن يقع نظر الرجال عليها وضعت هذه البيشة على وجهها، فإذا مر الركبان من الرجال وأرادت أن تكشف وجهها فلها ذلك. والحديث عند البخاري وأحمد: (لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين)، وفي هذا دليل على أن إحرام المرأة في وجهها وكفيها، أما إحرام الرجل ففي سائر بدنه فيما يتعلق بالقميص أو بالسروال أو بالخف. ويجوز للرجل أن يستر نفسه بمظلة شمسية ونحوها، ويجب ستره إذا خيفت الفتنة من النظر. قالت عائشة: (كان الركبان يمرون بنا -أي: من الرجال- ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات، فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها) (سدلت جلبابها) أي: أنزلته على وجهها. قالت: (فإذا جاوزوا بنا كشفنا)، والحديث عند أبي داود وابن ماجة بسند صحيح.

إجراء عقد النكاح إما لنفسه أو لغيره

إجراء عقد النكاح إما لنفسه أو لغيره المحظور الخامس: إجراء عقد النكاح إما لنفسه أو لغيره، سواء كان ذلك بالولاية أو الوكالة، يعني: إما أن يتولى ذلك بنفسه لنفسه أو لغيره، وإما أن يوكل في نكاح نفسه أو إنكاح غيره، ولو أجرى محرم عقد نكاح فهذا العقد لا عبرة به في نظر جمهور أهل العلم وهو الصحيح؛ لأن هذا العقد لم يصادف محلاً، وقد وقع في وقت محرم، ولا تترتب عليه آثاره الشرعية؛ لما رواه الإمام مسلم من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يَنْكِح المحرم ولا يُنْكح ولا يخطب) (لا ينكح المحرم) أي: لنفسه (ولا ينكح لغيره ولا يخطب)، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. والعمل على هذا عند كثير من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وبه يقول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق، ولا يرون أن يتزوج المحرم، وإن نكح فنكاحه باطل. أما ما ورد عن ميمونة رضي الله عنها أنها تزوجها النبي عليه الصلاة والسلام وهو محرم فهو معارض بما رواه مسلم من أنه تزوجها وهو حلال. فقد جاء فيما يتعلق بزواج النبي صلى الله عليه وسلم من ميمونة بنت الحارث أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها في رواية: (وهو محرم) وفي رواية: (وهو حلال)، والراجح: أنه تزوجها وهو حلال -يعني: بعد أن أحل- ولكنه تزوجها في الحرم، ويقال لمن كان في الحرم: (محرم) أي: قائم في الحرم، ولابد من هذا التأويل حتى يستقيم الدليلان معنا، والعمل بالدليلين أولى من رد أحدهما. فقول الراوي: (تزوجها وهو محرم) أي: تزوجها وهو قائم بالحرم، يعني: تم عقد النكاح على ميمونة في الحرم، وإذا علمتم حدود الحرم تزول الغرابة حينئذ، فالحرم يحده حدود بعيدة جداً، ليس هو مبنى المسجد نفسه، بل حدود الحرم من الجعرانة ومن التنعيم ومن جهة عرفة أماكن بعيدة جداً، ومن أراد أن يحرم من أهل مكة فلابد أن يخرج إلى الحل، والحل في أطراف مكة ومشارفها، وهذا رأي قوي ويساند من يقول: إن مكة كلها حرم. لكن من جهة الأحكام فإنه لا يجوز الاعتكاف في أي مكان من مكة، وإنما الاعتكاف في المساجد؛ لأن الآية خصصت هذا الحرم، وهو قول الله عز وجل: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187] ولم يقل: في الحرم، فلا يبعد أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها في العوالي أو في أسفل مكة أو غيرها مما هو داخل في حدود الحرم، وليس في أصل المسجد نفسه. إذاً: الأدلة التي وردت متعارضة في الظاهر فيما يتعلق بزواج النبي صلى الله عليه وسلم من ميمونة بنت الحارث أنه تزوجها وهو حرام، وتزوجها وهو حلال، والصواب: أنه تزوجها وهو حلال أي: بعد أن تحلل من إحرامه، والرواية التي تقول: أنه تزوجها وهو حرام أي: وهو في الحرم.

تقليم الأظفار وإزالة الشعر

تقليم الأظفار وإزالة الشعر المحظور السادس والسابع على التوالي: تقليم الأظفار وإزالة الشعر سواء كان ذلك بالحلق أو القصر أو بأية طريقة، وسواء كان شعر الرأس أم غيره؛ لقول الله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196] أي: هدي المتمتع والقارن. وأجمع العلماء على حرمة قلم الظفر للمحرم بلا عذر، فإن انكسر فله إزالته من غير فداء عليه؛ ولذلك يستحب لك قبل أن تدخل وتتلبس بالنسك أن تحلق شعر رأسك وشعر العانة، وتنتف شعر الإبط، وتقلم أظفارك، وتغتسل، وتتطيب، حتى لا يقع شيء من ذلك منك عمداً أو خطأً أو نسياناً أو تضطر إليه، لكن هب أنك دخلت في النسك دون أن تفعل كل هذا وهي مستحبات في حق المحرم، فإذا انكسر ظفرك بعد إحرامك يحرم عليك تقليم الأظفار وقص الشعر، سواء كان ذلك شعر الرأس أو شعر البدن كالإبط والعانة وغيرها، فيحرم عليك أن تأخذ شيئاً من هذا بالقص أو بالحلق أو بأي طريقة أخرى. لكن هب أن ظفرك انكسر فهل يجوز لك إزالة هذا الظفر الذي انكسر؟ نعم يجوز، ولا يجوز لك بعد ذلك أخذ بقية الظفر الذي لم ينكسر، ولكن تأخذ القطعة التي انكسرت فقط ولا تأخذ أكثر منها، وفي هذه الحالة لا فداء عليك، كما قال الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196]. ويجوز إزالة الشعر إذا تأذى ببقائه، وفيه الفدية إلا في إزالة شعر العين إذا تأذى به المسلم فإنه لا فدية فيه. هب أن شعرة من رموشك نزلت في عينك وأنت تتضرر بها بلا شك، فإزالة هذه الشعرة عن موطن الأذى أولى من إزالتها بالكلية، لكن إذا لم يكن بد إلا إزالتها بالكلية فهذا من التطبيب فيجوز بلا فداء، أما شعر الرأس فإنه لا يجوز لك إزالته إلا إذا دعت علة لذلك.

التطيب في الثوب أو البدن

التطيب في الثوب أو البدن المحظور الثامن: التطيب في الثوب أو البدن بعد الإحرام، والتطيب قبل الإحرام يجوز في البدن، أما الثوب فإنه لا يجوز تطييبه، بل قد ورد الشرع بالنهي عن لبس الثوب -أي: الإزار والرداء- المطيب بطيب شديد كالورس والزعفران. وإذا مات المحرم لا يطيب لا في بدنه ولا في كفنه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام فيمن مات محرماً: (لا تخمروا رأسه) يعني: لا تضعوا على رأسه غطاءً، وكل ما غطي به الوجه يسمى خماراً للمرأة والرجل، فقال: (لا تخمروا رأسه، ولا تمسوه طيباً، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً)، وما بقي من الطيب الذي وضعه في بدنه أو ثوبه قبل الإحرام فإنه لا بأس به. ويباح شم ما لا ينبت للطيب على جهة الخصوص كالتفاح وغيره من الفواكه، وإن كان لها رائحة لكنها لم تتخذ للطيب، فما اتخذ للأكل ولم يتخذ للطيب كالشمام لا يحرم على المحرم.

لبس الثوب مصبوغا بما له رائحة طيبة

لبس الثوب مصبوغاً بما له رائحة طيبة المحظور التاسع: لبس الثوب مصبوغاً بما له رائحة طيبة، كأن يكون ثوب الإحرام -الإزار والرداء- مصبوغاً بالورس والزعفران، فهذا ينهى عنه، أما إذا كان مطيباً بطيب خفيف يعني: لا يبدو منه تلك الرائحة الشديدة التي تبدو من الورس والزعفران فإنه لا بأس به؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تلبسوا ثوباً مسه ورس أو زعفران إلا أن يكون غسيلاً) يعني: إلا بعد أن يكون غسيلاً وذلك في الإحرام، ويكره لبسه لمن كان قدوة لغيره؛ لئلا يكون وسيلة لأن يلبس العوام ما يحرم وهو المطيب بالفعل، وأحياناً لا ينبغي لآحاد الناس أن يفعل شيئاً حتى وإن كان حلالاً؛ لأن عامة الناس ينظرون إليه على أنه القدوة والأسوة، فإذا فعل ما هو جائز ومباح كان من باب أولى أن يقع غيره في المحرم الصريح، لكنه لو تورع عن المباح أو عن بعض المباح لتعلم منه أتباعه الورع.

حكم إتيان محظورات الإحرام

حكم إتيان محظورات الإحرام لو أن أحداً ما خالف وفعل هذه المحرمات فإنه إما أن يخالف متعمداً عالماً بالحكم، وإما أن يخالف سهواً أو خطأً أو جهلاً. فالوطء يبطل الحج والعمرة باتفاق أهل العلم من غير خلاف، فلو أن محرماً جامع امرأته بطل حجه وبطلت عمرته، ويلزمه الاستمرار في أداء النسك، وعليه الإعادة والقضاء في العام المقبل. ومن كان له عذر واحتاج إلى ارتكاب محظور من محظورات الإحرام غير الوطء كحلق الشعر ولبس المخيط اتقاء الحر أو البرد ونحو ذلك لزمه أن يذبح شاة؛ لأن كل هذه واجبات، وكل واجب يتخلف عنه الحاج يلزمه دم بخلاف أركان الحج، فكل واجب فرط فيه يلزمه الذبح، أو يطعم ستة مساكين كل مسكين نصف صاع، والصاع أربعة أمداد، والمد: هو ملء الكفين، أو يصوم ثلاثة أيام على النحو الذي سيأتي معنا، وهو مخير بين هذه الثلاث.

باب جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى، ووجوب الفدية لحلقه وبيان قدرها

باب جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى، ووجوب الفدية لحلقه وبيان قدرها قال المصنف رحمه الله تعالى: فـ[عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر به زمن الحديبية فقال: قد آذاك هوام رأسك -يعني: القمل الذي في رأسك هل آذاك يا كعب بن عجرة؟ - قال: نعم. يا رسول الله! فقال النبي عليه الصلاة والسلام: احلق ثم اذبح شاة نسكاً)]، يعني: تعبداً لله عز وجل. فما دام في ذلك عذر فليس عليه فداء، ولكن وجب الفداء جبراً لهذا الواجب؛ لأنه يحرم حلق الشعر للمحرم، فأبيح للمعذور بشرط أن يقدم فداءً وهو ذبح شاة. قال: [(أو صم ثلاثة أيام -يعني: إذا لم يكن معك شاة صم ثلاثة أيام- أو أطعم ثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين)]، وهذا حديث عند البخاري ومسلم. والهوام: ما يهيم في رأس المرء من حشرات كالقمل وغيره الذي يضره، ولفظ الحديث: اذبح أو أو أو وهذا يدل على التخيير. قال: [(اذبح شاة أو صم ثلاثة أيام أو أطعم ثلاثة آصع)]، والآصع: جمع صاع، ثلاثة آصع يطعم بها ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع؛ كفارة لمن اضطر إلى حلق شعره إذا كان عنده العذر في ذلك، وهذا من رحمة الله عز وجل. قال: [وعن كعب بن عجرة كذلك قال: (أصابني هوام في رأسي وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية حتى تخوفت على بصري -يعني: حتى خشي أن يذهب بصره- فأنزل الله سبحانه وتعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196])]. (ففدية من صيام) أي: ثلاثة أيام بينته السنة، (أو صدقة) ثلاثة آصع على ستة مساكين، (أو نسك) وهو ذبح شاة. قال: [(فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: احلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين فرقاً من زبيب -الفرق: هو المكيال المعين يحمل ثلاثة آصع- أو انسك شاة، فحلقت رأسي ثم نسكت)]. ولم يتخير كعب بن عجرة الثلاثة آصع أو الصيام مع أن هذا كان في مقدوره؛ لأن الذي يذبح شاة من باب أولى يملك ثلاثة آصع، لكنه لم يفعل هذا ولا ذاك وإنما فعل الأولى، وهذا شيء عجيب، فالشرع يحتاج إلى قلوب نقية وصادقة مع الله عز وجل حين تتعامل معه، فهذا الرجل لما علم أن خير هذه الكفارات الثلاث هو الذبح ذبح، ولم يتعامل مع ربه بالحد الأدنى وإنما تعامل بالحد الأقصى، وقاس الشافعي غير المعذور على المعذور إذا كان هناك عذر، وأوجب أبو حنيفة الدم على غير المعذور إن قدر عليه لا غير، هذا فيما يتعلق بحلق الرأس. وعن عطاء قال: إذا نتف المحرم ثلاث شعرات فصاعداً فعليه دم. أي: إذا نتف المحرم من لحيته أو من بدنه أو من إبطه أو من شعره ثلاث شعرات فصاعداً فعليه دم. يعني: يذبح شاة، وروى الشافعي عنه أنه قال: في الشعرة الواحدة مد، وفي الشعرتين مدان، وفي الثلاث فصاعداً دم. إذاً: ينبغي لك وأنت تمشي في منى وعرفات ومزدلفة ألا تلعب في لحيتك وفي شعرك، أو تنتف شعر إبطك، فإنك في هذه الحالة ستنزل من عرفة بدم، وتنزل من مزدلفة بدم، وتنزل من منى بدم. إذاً: في الشعرة الواحدة مد من طعام ملء الكفين، وفي الشعرتين مدان.

حكم من تطيب ناسيا أو لبس المخيط

حكم من تطيب ناسياً أو لبس المخيط أما إذا لبس المحرم أو تطيب جاهلاً بالتحريم أو ناسياً أنه محرم لم تلزمه الفدية؛ لأن الناسي لا فدية عليه. قال: فـ[عن يعلى بن أمية قال: (أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل بالجعرانة -والجعرانة حل، وهي قبل مكة بحوالي اثني عشر كيلو- وعليه جبة، وهو مصفر لحيته ورأسه -يعني: رآه يلبس الجبة وهو مخالف، ومصفر لحيته ورأسه وهو كذلك مخالف- فقال: (يا رسول الله! أحرمت بعمرة وأنا كما ترى) -يعني: أنا لم أدرك أنه حرام أو لم أتذكر أنه حرام إلا بعد أن فعلت ووقعت في المحظور- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: اغسل عنك الصفرة وانزع عنك الجبة)] حتى لو فعل ناسياً أو جاهلاً فإنه يجب عليه الجزاء؛ لأنه ضمان مال وضمان المال مضمون.

باب تحريم الصيد على المحرم

باب تحريم الصيد على المحرم اعلم أن جزاء الصيد الذبح، كما قال الله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95] هذه الكفارات وهذه الفداءات كلها تذبح لفقراء الحرم وفي أي وقت بخلاف الهدي، فالهدي سواء كنت متمتعاً أو قارناً يكون في يوم النحر وفي أيام التشريق الثلاثة، لكن الكفارات في أي وقت، حتى من عجز عن أداء الكفارة فله أن يوكل في ذبحها في أي وقت شاء، ولو كان ذلك في أقصى بلاد العالم، يرسل بعد شهر أو شهرين أو ثلاثة أشهر أو سنة أو سنتين من يذبح له في الحرم.

شرح حديث الصعب بن جثامة في إهدائه حمارا وحشيا للنبي وهو محرم

شرح حديث الصعب بن جثامة في إهدائه حماراً وحشياً للنبي وهو محرم قال: [باب تحريم الصيد للمحرم]. قال: [عن الصعب بن جثامة الليثي رضي الله عنه: (أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حماراً وحشياً)]، الحمار الوحشي يؤكل لحمه بخلاف الحمار الأهلي فإنه لا يؤكل لحمه، والنبي صلى الله عليه وسلم كان بالأبواء أو بودان، وهما اسمان لمكانين بين مكة والمدينة، فبعد أن أحرم النبي عليه الصلاة والسلام أتى الصعب بن جثامة رضي الله عنه فأهدى حماراً وحشياً للنبي عليه الصلاة والسلام ليأكله، فرده عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الصعب: (فلما أن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في وجهي -لأن النبي صلى الله عليه وسلم رد هديته- قال: إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم)، يعني: أنا ما رددت هديتك إلا أن المحرم لا يحل له هذا. وفي رواية: (أهديت له حمار وحش)، وفي رواية: (أهديت له من لحم حمار وحش)، و (من) تفيد التبعيض، فمعناه: أنه قدم له بعض لحم الحمار ولم يقدمه حياً، وإنما قدم بعضه بعد أن ذبح، والبخاري عليه رحمة الله بوب لحديث هذا الباب، فقال: باب تحريم إهداء الوحش الحي، وقد أخطأ عليه رحمة الله، والروايات كلها عند مسلم وهي متفق على صحتها أن الإهداء إنما وقع على بعض اللحم لا على الحيوان وهو حي. وفي رواية ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أهدى الصعب بن جثَّامة إلى النبي صلى الله عليه وسلم حمار وحش وهو محرم فرده عليه فقال: لولا أنا محرمون لقبلناه منك)، وفي رواية منصور عن الحكم قال: (أهدى الصعب بن جثَّامة إلى النبي صلى الله عليه وسلم رجل حمار وحش)، فالرواية التي تقول: (أهدى حمار وحش) أطلقت على البعض الكل، وهذا سائغ في اللغة، كما تقول: أنا أكلت الطعام كله، وأنت في حقيقة الأمر تثبت أنك أكلت حتى شبعت، أما الطعام فربما لم تأكل منه ربعه أو خمسه أو أقل من ذلك، فأنت أطلقت الكل وأردت البعض. وفي رواية شعبة: قال: (أهدى الصعب بن جثَّامة إلى النبي عليه الصلاة والسلام عجز حمار وحش يقطر دماً)، وهذه الرواية صريحة جداً في أن المهدى كان بعض الحمار الوحشي لا كل الحمار الوحشي، وأنتم تعلمون أن البعض لا يأكله إلا بعد الذبح. وفي رواية شعبة عن حبيب قال: (أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم شق حمار وحش فرده) أي: النصف. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قدم زيد بن أرقم فقال -وعبد الله بن عباس يستذكره- كيف أخبرتني عن لحم صيد أهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حرام -أي: وهو محرم- قال: أهدي له عضو من لحم صيد فرده -أي: ليس كل الصيد وإنما بعضه- فقال: إنا لا نأكله إنا حرم) أي: محرمون، وفي هذا استحباب لمن أراد أن يرد شيئاً أو لا يقبل الهدية أن يبين السبب تطييباً لخاطر المهدي، والنبي عليه الصلاة والسلام لم يكن من عادته رد الهدية، فإذا ردها ردها لعلة شرعية، وبينها تطييباً لخاطر المهدي.

شرح حديث أبي قتادة في صيده لحمار الوحش وأكل المحرمين منه

شرح حديث أبي قتادة في صيده لحمار الوحش وأكل المحرمين منه قال: [من حديث أبي قتادة قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بالقاحة -القاحة: هي اسم قرية بين مكة والمدينة- قال: فمنا المحرم ومنا غير المحرم)]، وربما وجه أحدكم سؤالاً وقال: نحن عرفنا من قبل أنه لا يجوز لمن أراد النسك أن يمر على الميقات إلا وهو محرم؟ A هذا أبو قتادة لم يكن مريداً للنسك؛ ولذلك جاز له أن يعبر الميقات بغير إحرام، وقيل: إن المواقيت لم تكن وقتت بعد. وهذا بعيد، وقيل: لأن النبي عليه الصلاة والسلام بعث أبا قتادة ورفقته لكشف عدو لهم بجهة الساحل، وهذا التأويل هو أقوى التأويلات. إذاً أبو قتادة الأنصاري لما عبر الميقات بغير إحرام كان يقصد استكشافاً للعدو وقتالاً له، وأنتم تعلمون من الدروس الماضية أنه يجوز لمن دخل مكة مقاتلاً أو محارباً أو مجاهداً أن يدخلها بغير إحرام. ومن خرج من بيته ينوي النسك لا يمر على ميقاته إلا محرماً، ويؤدي النسك أولاً ثم ينصرف إلى المدينة، فإذا خالف ذلك فقد خالف الأولى، فإن دخل المدينة بغير إحرام، كان ميقاته حينئذ ميقات أهل المدينة، فعندما يرجع إلى مكة يحرم من ذي الحليفة، لكنه هنا قد خالف الأولى، وفوت على نفسه ثواباً عظيماً جداً، وهو إحرامه من الميقات الأول الذي مر به. قال أبو قتادة [: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بالقاحة فمنا المحرم ومنا غير المحرم)، إذاً: هذه الرفقة كان فيها محرمون وغير محرمين. قال: (إذ بصرت بأصحابي يتراءون شيئاً -يعني: ينظرون إليه بأعينهم- فنظرت فإذا حمار وحش -أي: نظرت في الموضع الذي يتراءون فيه فبصرت عيناي حمار وحش- فأسرجت فرسي وأخذت رمحي -يعني: وضعت عليه السرج- ثم ركبت فسقط مني سوطي، فقلت لأصحابي -وكانوا محرمين- ناولوني السوط، فقالوا: والله لا نعينك عليه بشيء)]؛ لأنهم محرمون، فغير المحرم يجوز له أن يناوله السوط، أما أن المحرم فلا يجوز له قتل الصيد ولا ذبحه ولا الإشارة إليه ولا الإعانة على قتله، أما أكل الصيد ففيه نزاع وسيأتي معنا. قال: [(فقلت لأصحابي وكانوا محرمين: ناولوني السوط، فقالوا: والله لا نعينك عليه بشيء، فنزلت فتناولته ثم ركبت، فأدركت الحمار من خلفه وهو وراء أكمة -يعني: أدركت الحمار وهو وراء تبة- فطعنته برمحي فعقرته -يعني: قتلته- فأتيت به أصحابي فقال بعضهم: كلوه، وقال بعضهم: لا تأكلوه -أي: المحرمون- وكان النبي صلى الله عليه وسلم أمامنا فحركت فرسي فأدركته، فقال: هو حلال فكلوه). يعني: وجه أمره للمحرمين أن هذا الحمار الذي قتله أبو قتادة ولم يكن محرماً حلال لهم ولا بأس بأكله مع أنهم محرمون، قد يقول قائل: الصعب لما أهدى بعض حمار وحشي للنبي عليه الصلاة والسلام رده عليه وقال له: (إنا لم نقبله لأنا حرم) وهنا النبي صلى الله عليه وسلم يأمر المحرمين أن يأكلوا من هذا الحمار الذي قتله أبو قتادة. وعن أبي قتادة [: (أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان ببعض طريق مكة تخلف مع أصحاب له محرمين وهو غير محرم، فرأى حماراً وحشياً، فاستوى على فرسه وسأل أصحابه أن يناولوه سوطه فأبوا عليه، فسألهم رمحه فأبوا عليه، فأخذه ثم شد على الحمار فقتله، فأكل منه بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأبى بعضهم، فأدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه عن ذلك فقال: إنما هي طعمة أطعمكموها الله)] يعني: هذا طعام ساقه الله إليكم، وهذا يعني: إقراره عليه الصلاة والسلام لما فعلوه. وفي حديث زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (هل معكم من لحمه شيء؟). قال: [وعن عبد الله بن أبي قتادة قال: انطلق أبي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، فأحرم أصحابه ولم يحرم أبو قتادة. قال أبو قتادة: [(فبينما أنا مع أصحابه يضحك بعضهم إلى بعض)]، كلف النبي صلى الله عليه وسلم أبا قتادة أن يأتي بأخبارهم، فلم يكن محرماً لأجل هذا؛ لأن المجاهد في الغالب لا يتفرغ لأداء النسك؛ ولذلك كان فيهم أقوام قد استعدوا للقاء العدو، وأقوام قد استعدوا لأداء النسك، وكان أبو قتادة ممن لم يحرم. قال: [(فبينما أنا مع أصحابه يضحك بعضهم إلى بعض، إذ نظرت فإذا أنا بحمار وحش فحملت عليه فطعنته فأثبته -يعني: سقط ميتاً- فاستعنتهم فأبوا أن يعينوني -يعني: قال: احملوا معي الحمار اذبحوه أو اسلخوه فلم يفعلوا- فأكلنا من لحمه وخشينا أن نقتطع)]. هذا الفوج الذي ذهب من المدينة إلى مكة كان فوجاً كبيراً جداً، والنبي صلى الله عليه وسلم كان في مقدمة هذا الفوج، وأبو قتادة كان في آخر الفوج، فلما طعن هذا الحمار الوحشي وجا

الأحكام الفقهية لأحاديث باب تحريم الصيد على المحرم

الأحكام الفقهية لأحاديث باب تحريم الصيد على المحرم هذه الروايات التي سمعناها في مسلم على اختلاف ألفاظها، والبخاري ترجم باب: إذا أهدي للمحرم حماراً وحشياً حياً لم يقبل، ثم رواه بإسناده وقال في روايته: حماراً وحشياً، وحكي هذا التأويل عن مالك وغيره، وهو تأويل باطل. وهذه الطرق التي ذكرها مسلم صريحة في أنه كان لحماً مذبوحاً لا يلزم أن يكون حياً، وأنه إنما أهدي بعض لحم صيد لا كله، واتفق العلماء على تحريم الاصطياد على المحرم. قال الشافعي وآخرون: يحرم عليه تملك الصيد بالبيع والهبة، وفي ملكه إياه بالإرث خلاف. يعني: تصور لو كان أبو قتادة اصطاد هذا الأتان ثم بعد أن اصطاده مات فوراً، فهل يرثه عبد الله بن أبي قتادة؟ هذا محل نزاع بين أهل العلم، أما لحم الصيد فإن صاده المحرم أو صيد له فهو حرام عليه، فالصيد ليس متعلقاً بنية الصائد كذلك، فقال: أما لحم الصيد فإن صاده المحرم أو صيد له فهو حرام، سواء صيد له بإذنه أو بغير إذنه، فإن صاده حلال -أي: غير محرم- لنفسه ولم يقصد أن يهديه للمحرم، ثم أهدى من لحمه للمحرم أو باعه لم يحرم عليه؛ لأنه من الأصل لم يصد ولم يعن ولم يشر ولم يساعد، والذي اصطاده حلال ليس محرماً، وهذا الحلال ما أصابه لأجل المحرم إنما أصابه لأجل نفسه هو، فإذا أصابه بهذه النية وأنه ما قصد بهذا الصيد إطعام المحرمين جاز للمحرم حينئذ. قال أبو حنيفة: لا يحرم عليه ما صيد له بغير إعانة منهم، كأن أبا حنيفة أراد أن يقول: حتى لو نوى الصائد بصيده المحرم ما دام المحرم لم يصدر منه شيء يدل على الصيد بالإشارة أو الإعانة أو غير ذلك فإنه لا حرج عليه حتى لو كانت نية الصائد إطعام المحرم، لكن بر الأمان في مذهب الجمهور. وقالت طائفة: لا يحل له لحم الصيد أصلاً سواء صاده أو صاده غيره له أو لم يقصده فيحرم مطلقاً، وهذا مذهب بعيد جداً، والأحاديث التي معنا في الباب ترد عليه، وعند أبي داود والترمذي والنسائي من حديث جابر أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصد لكم) فالحديث صريح، يعني: صيد البر حلال لكم يا محرمين! بشرطين: الأول: ألا تصطادوه أنتم بأنفسكم، الثاني: ألا يصطاده حلال يقصد بهذا الصيد إطعام المحرم. وحديث أبي قتادة لما اصطاد هذا الأتان وأطعمهم وأطعم النبي عليه الصلاة والسلام محمول على أنه ما صاده بنية إطعام المحرمين وإنما اصطاده لنفسه، وحديث الصعب: أنه قصد إطعام النبي عليه الصلاة والسلام وإطعام المحرمين فلما بلغ ذلك النبي عليه السلام من نية الصعب رده وقال: لا، نحن حرم. يحرم علينا أن نصطاد أو نعين أو أن نشير أو أن نساعد، ويحرم علينا كذلك أن نأكل من لحم الصيد الذي صيد لنا خاصة، إذاً: لابد من هذا التأويل حتى تستقيم الروايات.

باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم

باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم قال: [باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم]. يعني: في حال حله وفي حال إحرامه، و (يندب) يعني: يستحب ولا يجب. قال: [قالت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أربع كلهن فاسق، يقتلن في الحل والحرم: الحدأة والغراب والفأرة والكلب العقور، فقلت للقاسم: أفرأيت الحية؟ قال: تقتل بصغر لها)] يعني: بذل وإهانة، ولا حرج عليك إذا قتلتها فيكون معنا خمسة: الحدأة والغراب والفأرة والكلب العقور والحية. وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خمس فواسق) وفي الرواية الأولى قالت: (أربع كلهن فاسق). قالت: (خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الحية) ذكرت الحية موقوفة من قول القاسم، ومرفوعة من قوله عليه الصلاة والسلام. قالت: (خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الحية والغراب الأبقع) إذاً: الحدأة والغراب والفأرة والكلب العقور أربعة، والحية الخامسة. قالت: (خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الحية والغراب الأبقع والفأرة والكلب العقور والحديا) فالحديا السادسة. وفي رواية: (خمس فواسق يقتلن في الحرم: العقرب والفأرة والحديا والغراب والكلب العقور) فصار لدينا سبع فواسق. وفي رواية: قالت: (خمس فواسق يقتلن في الحرم: الفأرة والعقرب والغراب والحديا والكلب العقور) وفي رواية: (خمس من الداوب كلها فواسق تقتل في الحرم: الغراب والحدأة والكلب العقور والعقرب والفأرة)، وفي رواية: عن عبد الله بن عمر قال النبي عليه الصلاة والسلام: (خمس لا جناح على من قتلهن في الحَرم والإحرام -وهذه الزيادة يعني: في داخل الحرم وهو محرم- الفأرة والعقرب والغراب والحدأة والكلب العقور)، وفي رواية: قال (في الحُرم والإحرام) يعني: في الأشهر الحرم وفي حال إحرامه، وفي رواية حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خمس من الدواب كلها فاسق، لا حرج على من قتلهن: العقرب والغراب والحدأة والفأرة والكلب العقور). وفي رواية: (أن رجلاً سأل ابن عمر: ما يقتل المحرم من الدواب؟ فقال: أخبرتني إحدى نسوة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أمر أن تقتل الفأرة والعقرب والحدأة والكلب العقور والغراب). وفي رواية: (أنه كان يأمر بقتل الكلب العقور والفأرة والعقرب والحديَّا والغراب والحية -قال:- وفي الصلاة أيضاً)، يعني: تصور أنك ترى حية وأنت تصلي أو غراباً وأنت تصلي أو عقرباً وأنت تصلي أو فأرة وأنت تصلي، هل يجوز لك قتلها وأنت تصلي؟ A يجوز لك، وتستمر في الصلاة وتبني على ما مضى، وجمهور أهل العلم قالوا: بشرط ألا يلتفت عن القبلة. وذهب غيرهم إلى أنه يباح للمصلي أن ينطلق خلف هذه الفواسق حيث ذهبت حتى يقتلها. وقتلها مندوب أو مستحب، سواء كان في حال الصلاة أو في حال الإحرام أو في داخل الحرم. وعن ابن عمر: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور). وعن ابن جريج قال: قلت لـ نافع: ماذا سمعت ابن عمر يحل للحرام قتله من الدواب؟ فقال لي نافع: قال عبد الله: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (خمس من الدواب لا جناح على من قتلهن في قتلهن: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور).

كلام النووي في أحاديث قتل الفواسق

كلام النووي في أحاديث قتل الفواسق

جواز قتل الفواسق وما في معناها

جواز قتل الفواسق وما في معناها يقول الإمام النووي: (اتفق جماهير العلماء على جواز قتلهن في الحل والحرم والإحرام، واتفقوا على أنه يجوز للمحرم أن يقتل ما في معناهن). أي: هناك اتفاق على أنه ليست هذه السبعة المذكورة في النص هي التي تقتل فقط، بل يقاس عليها ما في معناها من هوام ودواب تؤدي نفس الفسوق الذي لأجله أبيح قتل هذه الفواسق. وكلمة فاسق تعني: خارج؛ ولذلك يقال: فلان فاسق، يعني: خارج عن طاعة الله عز وجل، سواء بارتكاب الكبائر أو بارتكاب الصغائر، والفسق فسقان: فسق أكبر وفسق أصغر وهو الفسق العملي، فهذه الدواب سميت فواسق لأنها خرجت عن المألوف لدى الدواب ولدى الهوام بإيذاء الآخرين. ومن الدواب ما هو أهلي كالقطط ولكنها من دواب البيوت؛ ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الهرة وقال: (إنها من الطوافين عليكم والطوافات)، وأثبت أن سؤرها ليس بنجس، كما في حديث أبي قتادة الأنصاري. فهل النص الوارد في قتل هذه الفواسق خاص بهذه الفواسق فقط؟ أم يقاس عليها ما في معناها من الخروج والإيذاء والإفساد والفسق؟ قال الشافعي: اتفق العلماء على أنه يجوز للمحرم أن يقتل ما في معناهن، ثم اختلفوا في المعنى. فقال الشافعي: المعنى في جواز قتلهن: كونهن مما لا يؤكل، وكل ما لا يؤكل ولا هو متولد من مأكول وغيره فقتله جائز للمحرم ولا فدية عليه. إذاً: العلة في القياس بين المنصوص عليه وغير المنصوص عليه عند الشافعي هي أنه غير مأكول اللحم. قال: وكل ما لا يؤكل لحمه جاز قتله في الحل والحرم ولا فدية على القاتل. وقال مالك: المعنى فيهن: كونهن مؤذيات. إذاً العلة عند الشافعي: كونه ما لا يؤكل لحمه، والعلة عند مالك: الإيذاء، فكل مؤذ يجوز للمحرم قتله وما لا يكون كذلك فلا يجوز للمحرم قتله. اختلف العلماء في الكلب العقور، فقيل: هو الكلب المعروف، وقيل: كل ما يفترس يسمى كلباً عقوراً من جميع السباع. قال: (اتفق العلماء على جواز قتل الكلب العقور للمحرم والحلال في الحل والحرم، واختلفوا في المراد به، فقيل: هذا الكلب المعروف خاصة، حكاه القاضي عن الأوزاعي وأبي حنيفة والحكم بن صالح ويلحق به الذئب، وحمل زفر معنى الكلب على الذئب وحده، وقال جمهور العلماء: ليس المراد بالكلب العقور تخصيص هذا الكلب المعروف، بل المراد: هو كل عاد مفترس غالباً، كالسبع والنمر والذئب والفهد ونحوها)، ومعنى العقور: العاقر الجارح، ونحن نسميه الكلب المسعور. هناك كلب لا يحرس ولا يفعل شيئاًَ، وفي النهار يفرش يديه ورجليه وينام، حتى لو ضربته لا يتحرك من مكانه، فهذا ليس بعقور، بخلاف الكلب الذي يتربص بك، وبخلاف الكلاب التي تمزح فتخيف الصغار؛ لأنه يسعد ويفرح عندما يخاف الصغير، فهذا لا يقصد افتراساً وإنما يقصد الممازحة والملاعبة. هناك كلب يهجم عليك لكنه يحافظ عليك، ولا يخدشك بخدش، بخلاف المسعور الذي لا يترك شاذة ولا فاذة إلا وينقض عليها. والغراب الأبقع: هو الذي في ظهره وبطنه بياض. وحكى السياجي عن النخعي أنه قال: لا يجوز للمحرم قتل الفأرة. والحديث يرد عليه ذلك. وحكى غيره عن علي ومجاهد: أنه لا يقتل الغراب ولكن يرمى، وهذا ثابت عن علي بن أبي طالب، وهو ليس كذلك، وأما الحية تقتل بصغر لها أي: بمذلة وإهانة، هذه هي السبع الفواسق التي يجوز للمحرم أن يقتلها في الحل والحرم والإحرام كذلك.

حكم قتل من يجب عليه القتل بقصاص أو رجم أو غيره في الحرم

حكم قتل من يجب عليه القتل بقصاص أو رجم أو غيره في الحرم وفي هذه الأحاديث دلالة للشافعي وموافقيه في أنه يجوز أن يقتل في الحرم كل من يجب عليه قتل بقصاص أو رجم. أي: إذا كانت هذه الفواسق بسبب الفسق جاز قتلها في الحرم، فكذلك الذي اكتسب حد الزنا أو السرقة أو غير ذلك لابد أنه فسق فيقاس على هذا المنصوص من جهة جواز إقامة الحد عليه في المسجد أو في الحرم. قال: (في هذه الأحاديث دلالة للشافعي وموافقيه في أنه يجوز أن يقتل في الحرم كل من يجب عليه قتل بقصاص أو رجم بالزنا أو قتل في المحاربة وغير ذلك، وأنه يجوز إقامة جميع الحدود فيه، سواء كان موجب القتل والحد جرى في الحرم أو خارجه). يعني: حتى لو أتى الذنب وهو خارج الحرم، كأن يكون زنى خارج الحرم أو سرق خارج الحرم، والمحترفون لا يسرقون إلا عند الطواف حول الكعبة، فيالها من قلوب مثل الحجارة! بل هي أشد وأقسى من الحجارة، يلبس ملابس الإحرام ويطوف مع الناس لكنه لا يطوف بنية العبادة وإنما بنية السرقة. يقول الشافعي: يجوز إقامة كل الحدود في المسجد، سواء كان موجب القتل والحد جرى في الحرم أو خارج الحرم، يعني: ارتكب السرقة خارج الحرم ودخل الحرم، ويحتج بقوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران:97] فـ الشافعي يقول: يقام عليه الحد سواء ارتكب ما يوجب الحد في الحرم أو خارج الحرم. أما أبو حنيفة وطائفة معه فقالوا: ما ارتكبه من ذلك -أي: ما ارتكبه من هذه الموجبات للحد- في الحرم يقام عليه فيه -يعني: إذا أتى ما يوجب الحد في الحرم يقتل في الحرم- وما فعله خارج الحرم ثم لجأ إلى الحرم إن كان إتلاف نفس لم يقم عليه في الحرم، بل يضيق عليه ولا يكلم ولا يجالس ولا يبايع حتى يضطر إلى الخروج منه فيقام عليه الحد خارج الحرم، وما كان دون النفس يقام فيه، ولكنهم لم يفرقوا بين نفس ودونها وحجتهم ظاهر الآية: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران:97] إلى آخر ما ذكره.

جزاء قتل الصيد وقطع الشجر في الحرم

جزاء قتل الصيد وقطع الشجر في الحرم لا يحل للمحرم أن يقتل الصيد بنفسه، ولا أن يعين عليه، ولا أن يشير ولا يساعد في شيء من هذا كله، لكن هب أنه قتل فما كفارة ذلك؟ هذا الذي ينبغي أن نتعرف عليه. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} [المائدة:95] هذا شرط {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة:95]، يعني: تنظر ماذا قتلت فتخرج مثله تماماً، يحكم به اثنان عدلان يقولان: والله هذا مثل هذا، يعني: هذه الكفارة مثلما قتل هذا المحرم. قال تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95] يعني: يذبح هذا الهدي لفقراء الحرم. قال تعالى: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} [المائدة:95] يعني إن لم تكن المثلية قائمة ولا متيسرة يطعم مساكين. قال: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة:95]، يعني: ما يكافئ ذلك صياماً {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة:95] أي: وبال تعمده ووقوعه في المحرم. قال تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ} [المائدة:95] متعمداً لمثل ما فعل أولاً {فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} [المائدة:95].

أقوال العلماء في جزاء قتل الصيد

أقوال العلماء في جزاء قتل الصيد قال ابن كثير: الذي عليه الجمهور: أن العامد والناسي سواء في وجوب الجزاء. وقال الزهري: دل الكتاب على العامد وجرت السنة على الناسي. إذاً: الجزاء هذا يتناول المتعمد والناسي، فالقرآن بين العامد، والسنة بينت الناسي، ومعنى هذا: أن القرآن دل على وجوب الجزاء على المتعمد وعلى تأثيمه؛ لقول الله تعالى: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة:95] بعد أن قال: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} [المائدة:95]، وأيضاً فإن قتل الصيد إتلاف، والتلف مضمون بمعنى: أنك ضامن لإرجاع المال إلى صاحبه في حالة العمد وحالة النسيان وحالة الخطأ، وحالة العمد تستوجب الإثم بخلاف النسيان. قال: فإن قتل الصيد إتلاف؛ لأنه مال، والإتلاف مضمون في العمد والنسيان، ولكن المتعمد مأثوم والمخطئ غير ملوم. وقال في المسوى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة:95] معناه على قول أبي حنيفة: يجب على من قتل الصيد جزاء مثل ما قتل. أي: مماثل له إما في العين وإما في القيمة، فإن قتلت حماراً وحشياً تخرج حماراً وحشياً، أو قتلت ناقة تخرج ناقة، قتلت دجاجة تخرج دجاجة، فإن لم تجد عين ما قتلت تخرج القيمة. قال: يحكم بكونه مماثلاً ذوا عدل، إما كائناً من النعم بالغ الكعبة، أي حال كونه هدياً، وإما كفارة طعام مساكين. مثال ذلك: قتلت حماراً وحشياً فكفارتي إخراج حمار وحشي: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95]، فإن لم أجد حماراً وحشياً فآتي باثنين عدلين. قال تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ} [المائدة:95]، فآتي بهذين العدلين ليريا الحمار الوحشي ويقدران قيمته، فإن قالا: مائة دينار أخرج مائة دينار وأشتري بها طعاماً للمساكين كما في قوله: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} [المائدة:95]، ومعناه على قول الشافعي: يجب على من قتل الصيد جزاء، إما مثلما قتل في الصورة والشكل، فيكون هذا المماثل من جنس النعم، يحكم بمثليته ذوا عدل منكم يكون جزاءً حال كونه هدياً، وإما ذلك الجزاء كفارة، وإما عدل ذلك صياماً، أي: أقدر الصيام بالقيمة، وأنظر إلى هذه القيمة كم مسكيناً تطعم، وأصوم عن كل واحد يوماً، يعني: لو كانت المائة دينار تطعم مائة شخص أصوم مائة يوم وهكذا، والذي يقدر هذا ذوا عدل. وعن عبد الملك بن قريب عن محمد بن سيرين: أن رجلاً جاء إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: إني أجريت أنا وصاحب لي فرسين إلى ثغرة ثنية فأصبنا ضبياً ونحن محرمان فما ترى؟ فقال عمر لمن بجانبه: تعال حتى أحكم أنا وأنت، فحكم عليه بعنزة فولى الرجل وهو يقول: هذا أمير المؤمنين لا يستطيع أن يحكم في ضبي حتى دعا رجلاً يحكم معه. ظن أن عمر جاهل، والجاهل يظن أن الناس كلهم جهال. فسمع عمر قول الرجل فدعاه وسأله: هل تقرأ سورة المائدة؟ قال الرجل: لا. قال: وهل تعرف هذا الرجل الذي حكم معي؟ قال له: لا. قال: لو أخبرتني أنك تقرأ سورة المائدة لأوجعتك ضرباً، لكنه عذره لجهله، ثم قال: إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95]، هذا الذي جعلني أستدعي آخر؛ لأنه ليس مأذوناً لي أن أحكم بمفردي، وهذا عبد الرحمن بن عوف الذي دعوته. وهذا يدل على عدالة الصحابة جميعاً رضي الله عنهم جميعاً. وقد قضى السلف في النعامة ببدنة، وفي حمار الوحش وبقر الوحش والأيل والأروى لكل واحد من ذلك ببقرة، والأيل: ذكر الوعول والأروى: أنثى الوعول، وفي الوبر والحمامة والقمري والحجل والدبسي في كل واحد من هذه بشاة، وهي أسماء لهذه الدواب، وفي الضبع بكبش، وفي الغزال بعنز، وفي الأرنب بعناق، والعناق: هو العنز الذي زاد على أربعة أشهر. قال: وفي الثعلب بجدي وفي الجربوع بجفرة. روى سعيد بن منصور عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة:95] قال: إذا أصاب المحرم صيداً حكم عليه بجزائه -يعني: بمثيله- وإن لم يكن عنده جزاؤه قوم جزاؤه دراهم ثم قومت الدراهم طعاماً فصام عن كل نصف صاع يوماً، فإذا قتل المحرم شيئاً من الصيد حكم عليه فيه ثم بعد ذلك بين كيفية الإطعام والصيام. قال مالك: أحسن ما سمعت في الذي يقتل الصيد فيحكم عليه فيه أن يقوم الصيد الذي صاد، فينظر كم ثمنه من الطعام، فيطعم كل مسكين مداً، أو يصوم مكان كل مد يوماً وينظر كم عدة المساكين ما كانوا، يعني: على قدر إطعام المساكين يصوم عدداً من الأيام وإن كانوا أكثر من ستين مسكيناً.

حكم اجتماع أكثر من محرم في قتل صيد

حكم اجتماع أكثر من محرم في قتل صيد إذا اشترك جماعة محرمون في قتل صيد عامدين، مثال ذلك: تجمعوا على غزال في الصحراء جميعاً اجتماع رجل واحد فقتلوه، فمن الممكن أن الذي يباشر القتل شخص واحد فهل الكفارة تلزم الباقين؟ بالاتفاق تلزمهم؛ لأنهم أعانوا وأشاروا حتى تمكن القاتل من قتله. أقول: فهل يلزم كل واحد كفارة، أم أن الجميع يلزمهم كفارة واحدة؟ A الجميع تلزمهم كفارة واحدة، قال: (إذا اشترك جماعة في قتل صيد عامدين لذلك جميعاً فليس عليهم إلا جزاء واحد، لقوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة:95] فالمثلية هنا واحدة، حتى وإن اشترك فيها جماعة. وسئل ابن عمر رضي الله عنهما عن جماعة قتلوا ضبعاً وهم محرمون، فقال: اذبحوا كبشاً فقالوا: عن كل إنسان منا؟ فقال: بل كبشاً واحداً عن جميعكم).

بيان جزاء من قطع شجرة من أشجار الحرم

بيان جزاء من قطع شجرة من أشجار الحرم قال: (ويحرم على المحرم والحلال أن يصطاد من الحرم أو أن ينفره، أو أن يقطع شجره الذي لم يستنبته الآدميون في العادة، وقطع الرطب من النبات، يعني: قطع الذي نضج وبدا صلاحه من النبات كالعنب أو البلح أو غير ذلك حتى الشوك، إلا نبات الإذخر؛ فإنه مباح التعرض له بالقطع والقلع والإتلاف ونحو ذلك؛ لما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال النبي عليه الصلاة والسلام يوم فتح مكة: (إن هذا البلد حرام لا يعضد شوكه -يعني: لا تقطع أشجاره حتى وإن كانت أشجار شوك- ولا يختلى خلاه -يعني: الرطب الذي في رءوس النخل لا يختلى- ولا ينفر صيده ولا تلتقط لقطته إلا لمعرف) يعني: وأنت في الحرم سواء كنت محرماً أو غير محرم إن وجدت ساعة على الأرض أو نقوداً أو أي شيئاً فلا علاقة لك بها نهائياً؛ لأنها أولاً وآخراً تحرم عليك، ولا تحل لك بحال إلا إذا كنت معرفاً، فتأخذها وترفعها في يديك وتلف بها شرقاً وغرباً، والمحرم لم يأت معرفاً، وإنما جاء ملبياً. فقال العباس: (إلا الإذخر فإنه لابد له منه فإنه للقيون والبيوت) والقيون: الحداد وكذلك البيوت. قال القرطبي: خص الفقهاء الشجر المنهي عنه بما ينبته الله تعالى، الذي ليس لابن آدم صنيع له فيه، فأما ما ينبت بمعالجة آدمي فاختلف فيه، والجمهور على جواز قطعه، وقال الشافعي: في الجميع الجزاء. ورجح ذلك الحافظ ابن قدامة، واختلفوا في جزاء ما قطع من النوع الأول. فقال مالك: لا جزاء فيه بل يأثم، وقال عطاء: يستغفر الله، وقال أبو حنيفة: يؤخذ بقيمته هدي، وقال الشافعي: في النخلة العظيمة بقرة وفيما دونها شاة، واستثنى العلماء الانتفاع بما انكسر من الأغصان وانقطع من الشجر من غير صنيع الآدمي وبما يسقط من الورق، فكل هذا يجوز الانتفاع به. قال ابن قدامة: وأجمعوا على إباحة أخذ ما استنبته الناس في الحرم من بقل وزرع ومشموم -أي: الورد الرائحة- وأنه لا بأس برعيه واختلائه، وفي الروضة الندية يقول صديق حسن خان: ولا يجب على الحلال -أي: على من لم يكن محرماً- في صيد حرم مكة ولا شجره شيء إلا مجرد الإثم، وأما من كان محرماً فعليه الجزاء الذي ذكره الله تعالى إذا قتل صيداً -يعني: أجراه وقاسه على قتل الصيد- قال: وليس عليه شيء في شجر مكة؛ لعدم ورود دليل تقوم به الحجة. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

الأسئلة

الأسئلة

حكم استخدام الأشياء المطلية بماء الذهب للرجال والنساء

حكم استخدام الأشياء المطلية بماء الذهب للرجال والنساء Q ما حكم استخدام الأشياء المطلية بماء الذهب للرجال والنساء؟ A أما النساء فإن الذهب والحرير حلال لهن، لكن من باب الزينة، فليس على المرأة شيء في لبسها الحرير والذهب في مواضع الزينة من بدنها، ولا يجوز لها استخدام الذهب فيما دون ذلك، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الذي يشرب في إناء الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم). قال النووي: وهذا يشمل الرجال والنساء، ثم قال: والذهب حلال للنساء في الزينة وحرام عليهن في الانتفاع، أو قال: في الاستعمال، فاستعمال أواني الذهب والفضة للنساء يحرم كذلك، أما في الزينة في بدنها وفي ثوبها فهو جائز، أما الرجل فإنه لا يجوز له ذلك ألبتة؛ لأن هذا حرام عليه؛ لما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام: (أنه أخذ ذهباً بيمينه وحريراً بيساره وقال: هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثها).

حكم من اعتمر عن نفسه وأراد أن يعتمر عن قريب له

حكم من اعتمر عن نفسه وأراد أن يعتمر عن قريب له Q شخص أدى عمرة وله قريب مات، فهل يجوز له أن يؤدي عمرة له؟ A من حيث الجواز يجوز له ذلك على خلاف عند أهل العلم في تعدد العمرة في السفرة الواحدة.

بيان من يؤدي الحج عن المتوفى

بيان من يؤدي الحج عن المتوفى Q من يؤدي عن المتوفى فريضة الحج هل لابد أن يكون من الأقارب؟ A الأولى القريب، وأولى الأولى الأبناء؛ لقول المرأة التي أتت إلى النبي عليه الصلاة والسلام: (يا رسول الله! إن أبي لا يثبت على الراحلة. أفأحج عنه؟ قال: حجي عنه)، وأتت امرأة فقالت: (يا رسول الله! إن أمي ماتت وعليها حج أفأحج عنها؟ قال: أرأيت لو أن على أمك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم. قال: فدين الله أحق بالقضاء)، وغير ذلك من الروايات التي تثبت أن الأبناء هم الذين يؤدون هذه الفريضة، لكن يصرف هذا إلى جواز أداء منسك الحج من الغير: أن رجلاً قال في الإهلال: لبيك اللهم حجاً أو عمرة عن شبرمة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (من شبرمة؟ قال: صاحب لي، قال: أحججت عن نفسك؟ قال: لا. قال: حج عن نفسك أولاً ثم حج عن شبرمة). وفي رواية قال: (جار لي)، فإما جار وإما صاحب ولا تعارض بين الروايتين، فهذا يدل على جواز حج الغير وإن لم يكن قريباً لآحاد الناس. والله تعالى أعلم.

حكم الاستحمام بالصابونة للمحرم

حكم الاستحمام بالصابونة للمحرم Q هل يجوز الاستحمام بالصابونة في الإحرام؟ A نعم يجوز.

حكم صيام الحاج في بلده إذا أخل بشيء من واجبات الحج

حكم صيام الحاج في بلده إذا أخل بشيء من واجبات الحج Q هل يجوز الصيام في بلدي بعد الرجوع من الحج إذا وقعت في أي شيء من الواجب؟ A إذا لم تكن تملك الفداء -أي: الذبح- وقد وجب في حقك الصوم فالأفضل أن يكون الصوم هناك، لكن إذا لم يكن في علمك إلا بعد رجوعك فوجب الصيام في حقك ولا شيء عليك.

حكم الاتكاء على باطن اليد اليسرى

حكم الاتكاء على باطن اليد اليسرى Q هل يوجد حديث يحرم الاتكاء على باطن اليد اليسرى؟ A نعم. وهو عند أبي داود وغيره، وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ضجعة الشيطان أو اتكاء الشيطان.

نبذة عن حياة سيد سابق

نبذة عن حياة سيد سابق Q من هو سيد سابق، ونرجو الدعاء له بالرحمة؟ A الشيخ سيد سابق علم من أعلام الدعوة إلى الله عز وجل، وفقيه من فقهاء الأمة، وحبر من أحبار الملة، وكنت أقول منذ شهر واحد: لم يبق في الأخيار الأوائل إلا فضيلة الشيخ سيد سابق، كان من العلماء العاملين والسادة الأتقياء، كان بقاؤه بعد موت الشيخ ابن باز والشيخ الألباني من الأشياء التي تتكئ عليها الصحوة الإسلامية، والرجل معلوم لدينا بفقه السنة، وجهده في الدعوة إلى الله عز وجل ومشاركته في المؤتمرات الدولية على مدار سبعين عاماً أعظم بكثير جداً جداً من فقه السنة، والذي له اطلاع في كتب الفقه التي يعتمدها الأزهر يعلم قيمة كتاب فقه السنة، وهذا الكتاب هو من أجل ما صنف شيخنا العلامة الشيخ سيد سابق، فنسأل الله تبارك وتعالى بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، وباسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى أن يتقبل شيخنا من الصالحين، وأن يحشره مع الأنبياء والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً. اللهم اغفر له وارحمه. اللهم تجاوز عن سيئاته، اللهم اغفر له وارحمه وتجاوز عن سيئاته، اللهم أبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، أكرم نزله، ووسع مدخله، واجعل قبره روضة من رياض الجنة، ولا تجعله حفرة من حفر النار. اللهم هون عليه يا رب! اللهم هون عليه، اللهم اجعل قبره مد بصره، اللهم اجعله روضة من رياض الجنة، ولا تجعله حفرة من حفر النار. اللهم اغفر له وارحمه وتجاوز عنه ولا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده. وصلى الله على نبينا محمد.

ما يفعل الحاج أو المعتمر إذا أقيمت الصلاة وهو يطوف

ما يفعل الحاج أو المعتمر إذا أقيمت الصلاة وهو يطوف Q إذا أقيمت الصلاة والحاج أو المعتمر لم ينته من إكمال الطواف والسعي هل يصلي مع الناس ثم يكمل طوافه وسعيه من حيث انتهى، أم يأتي بالشوط من الأول؟ A لا، يبني على ما مضى، وهذه المسألة قد تكلمنا عنها في الدرس الأول أو الثاني تقريباً، فإذا كنت تطوف وسمعت إقامة الصلاة فعليك أن تدخل في الصف وأنت قائم في مكانك، ثم تنصرف إذا سلم الإمام وتكمل الطوفة.

حكم طواف الوداع

حكم طواف الوداع Q هل طواف الوداع واجب في الحج دون العمرة؟ A نعم. هو واجب في الحج دون العمرة.

حكم تقديم السعي على الطواف

حكم تقديم السعي على الطواف Q هل يجوز تقديم السعي على الطواف سواء كان في الحج أو في العمرة؟ A لا. لابد من تقديم الطواف على السعي.

حكم صلاة تحية المسجد لمن جلس ولم يصل

حكم صلاة تحية المسجد لمن جلس ولم يصل Q هل يجوز لمن دخل المسجد أن يصلي ركعتين تحية مسجد بعد أن جلس؟ A اختلف العلماء بين الجلوس اليسير والطويل، فإذا جلس جلوساً يسيراً أو اتكأ على ركبتيه أو غير ذلك فلينهض وليصل ركعتين، وهما واجبتان؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين)، أما إذا كان جلوساً طويلاً فإنه يسقط عنه ذلك.

حكم مصافحة النساء

حكم مصافحة النساء Q ما حكم مصافحة النساء؟ A مصافحة النساء الأجانب حرام؛ لما رواه الطبراني من قوله عليه الصلاة والسلام: (لأن يطعن أحدكم بمخيط من حديد في رأسه خير له من أن تمس يده يد امرأة لا تحل له) وفي رواية: (أجنبية).

حكم رمي جمرة العقبة ليلة العيد

حكم رمي جمرة العقبة ليلة العيد Q هل يجوز رمي جمرة العقبة في ليلة العيد؟ A رمي جمرة العقبة لا يكون إلا بعد الزوال، ورخص فيه قبل ذلك للضعفة والأطفال.

بيان متى يجوز الطواف بغير ملابس الإحرام

بيان متى يجوز الطواف بغير ملابس الإحرام Q هل يوجد طواف يجوز للإنسان فيه أن يطوف بالملابس العادية دون إزار ورداء؟ A نعم. كل طواف ليس على سبيل النسك، أي: كل طواف ليس متعلقاً بالحج ولا بالعمرة. مثال ذلك: كلما دخلت الحرم وأردت أن تطوف يمكنك أن تطوف، ولا يلزمك أن تلبس ملابس الإحرام؛ لأنك لست محرماً من الأصل، وكل من لم يكن محرماً جاز له أن يطوف بملابسه العادية، وهناك حديث يقول: (تحية البيت الطواف) لكن هذا الحديث ضعيف؛ وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: يا بني عبد مناف! يا بني عبد المطلب! يا يا وظل ينادي على أهل مكة: (لا تمنعوا أحداً دخل هذا البيت في أي ساعة من ليل أو نهار أن يصلي ركعتين) ولم يقل: أن يطوف، وقال عليه الصلاة والسلام: (الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أحل فيه الكلام). وهذا الحديث: (لا تمنعوا أحداً دخل هذا البيت في أي ساعة من ليل أو نهار أن يصلي ركعتين) يدل على جواز الصلاة حتى في أوقات الكراهة؛ لأن هذه الصلاة لها سبب؛ ولأنه قال: (في أي ساعة من ليل أو نهار) ولاشك أن هذا يعم أوقات الكراهة، فهذا جائز، والبيت ليست تحيته الطواف، ولكنه يستحب؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا دخل بيت الله الحرام بدأ بالطواف، لكنه لم يأمر بذلك، وبيَّن في سنته أن للداخل بيت الله الحرام أن يصلي ركعتين، وبالتالي جاز له أن يلبس في الحرم الملابس العادية.

تقييم كتاب (معالم التنزيل)

تقييم كتاب (معالم التنزيل) Q ما رأيكم في كتاب تفسير البغوي الذي هو معالم التنزيل؟ A كتاب رائع جداً وممتاز جداً، واقتناؤه غنيمة.

حكم تعدد العمرات في السفرة الواحدة

حكم تعدد العمرات في السفرة الواحدة Q من اعتمر وهو ليس من أهل مكة هل يجوز له أن يذهب للتنعيم ويحرم بعمرة أخرى بعد وقت قليل من الأيام؟ وهل صحيح أن لكل عمرة فترة. نريد التوضيح؟ A إن السلف لم يكن من هديهم تعدد العمرات في السفرة الواحدة، أما الوقت بين العمرة وبين الأخرى فهو محل خلاف بين أهل العلم، فمنهم من قال: يعتمر في كل عام مرة، ومنهم من قال: يعتمر في كل شهر مرة، ومنهم من قال: يعتمر إذا اسود رأسه، يعني: إذا حلق في العمرة الأولى ثم نبت شعره حتى كسا رأسه حينئذ يجوز له أن يعتمر. وليس هناك نص يمنع تعدد العمرات بين فترة وفترة، والأصل فيه الجواز، لكن جمهور أهل العلم كره ذلك؛ لأنه لم يكن السلف يفعلون هذا، والخلاف الذي وقع بينهم في المدة بين العمرة والعمرة ليس خلافاً مرفوعاً، وإنما هو اجتهاد منهم؛ ولذلك يذهب الجماهير إلى جواز تعدد العمرة في السفرة الواحدة مع الكراهة، ويذهب البعض إلى عدم الكراهة.

حكم شراء المحرم الصيد البري

حكم شراء المحرم الصيد البري Q هل يجوز للمحرم أن يشتري الصيد البري؟ A لا يجوز له أن يشتريه ولا أن يتملكه.

التحذير من أهل البدع والتصوف

التحذير من أهل البدع والتصوف Q ما رأيكم في كتاب الفقه الواضح للدكتور محمد بكر إسماعيل؟ وإن لم يكن جيداً فكيف أتصرف فيه؟ A النصيحة لله عز وجل أن محمد بكر إسماعيل لا يقل في قبحه وشره عن علي جمعة. أتعرفون علي جمعة أم لا تعرفونه؟ فالذي لا يعرفه فاعلم أنها منة من الله عز وجل، والذي يعرفه يعرف أنه عدو لدود للسنة وأهلها، ولا يقل محمد بكر إسماعيل عنه في رفع راية الحرب على أهل السنة، فكلاهما من أهل البدع وكلاهما متصوف إلى أقصى حد، ومحارب للسنة. أذكر لك مثالاً: محمد بكر إسماعيل -الذي أعمى الله تعالى بصره وبصيرته- له درس كل يوم ثلاثاء في مسجد في السويس، فمرة نادى وقال: أين فلان؟ قالوا: موجود، قال: يا بني! هل أخذت الماجستير أم لا؟ قال: لم آخذه بعد، فغضب غضباً شديداً وأخذ يصيح بالميكرفون ويقول له: تأخرك هذا هو الذي جعل شخصاً كـ الألباني يظهر، تصور! ولد صغير عمره خمس وعشرون سنة تأخره في الحصول على الماجستير هو الذي جعل شخصاً كـ الألباني يظهر، فعدو السنة لابد أن يترك أثراً -ولو في وقت الغضب- ليدل على فساد قلبه، ناهيك عن معاصيهم الظاهرة، فنحن نشترك معهم في المعاصي الباطنة، وإذا انفردنا بالله عز وجل هتكنا الستر ولسنا معصومين، لكن لا نتبجح بها، لكن هذا يقعد قعدات كثيرة مع اللواءات والعمداء والوزراء يتعاطون الشيشة وتبدأ من عنده، فضلاً عن أن هؤلاء قالوا عنا عدة مرات: أننا خوارج العصر، والصحوة الإسلامية لا تدخل في ذمتهم، فمقاطعتهم نجاة، والله تعالى أعلم.

حكم لبس المرأة إزارا وهي محرمة

حكم لبس المرأة إزاراً وهي محرمة Q يقول: هل يجوز للمرأة أن تلبس إزاراً وهي محرمة؟ A نعم يجوز.

حكم الذهب للمرأة

حكم الذهب للمرأة Q قرأت للشيخ الألباني عليه رحمة الله أن الذهب حرام على المرأة كما هو حرام عل الرجل تماماً بتمام؟ A إن الشيخ الألباني لم يقل: إن الذهب حرام على المرأة كالرجل تماماً بتمام، ولكن قال بحرمة الذهب المحلق فقط، أما غير المحلق فقال الشيخ بجوازه للمرأة، وعلى أية حال هذا قول محدث خالف فيه الشيخ الأمة بأسرها؛ ولذلك البقاء على مذهب العلماء كافة نجاة وعصمة، فالذهب بجميع أنواعه وأشكاله حلال للنساء. والله تعالى أعلم. فمذهب الشيخ الألباني يرده: (أن امرأة دخلت بابنتها على النبي عليه الصلاة والسلام فرأى في يدها سوارين من ذهب -يعني: ذهب محلق- فقال: أتؤدين زكاتها؟ قالت: لا، قال: أتحبين أن تسوري بسوارين من نار؟ فألقت المرأة السوارين في حجر النبي عليه الصلاة والسلام)، فالنبي عليه الصلاة والسلام لم ينكر عليها أنها لبست المحلق، وإنما أنكر عليها أنها لم تؤد زكاته، فالمرأة تخلصت منه بأن ألقته صدقة في حجر النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يلزمها النبي عليه الصلاة والسلام بالصدقة، ولكنها كونها بذلت هذا من نفسها لأول وهلة فللنبي عليه الصلاة والسلام أن يأخذه منها صدقة، يصرفها في وجوه الصدقة المشروعة. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

كتاب الحج - جواز حلق الرأس للمحرم إن كان به أذى

شرح صحيح مسلم - كتاب الحج - جواز حلق الرأس للمحرم إن كان به أذى يحرم على المحرم حلق رأسه أو أخذ شيء منه إلا إذا كان ذلك نسكاً، فإذا قامت بالمحرم علة في رأسه من مرض أو علة أو آفة ألحقت الأذى به فله أن يحلق شعره، وعليه أن يكفر عن هذا الحلق بإحدى ثلاث؛ إما صوم ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، أو ذبح شاة.

باب جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى، ووجوب الفدية عليه وبيان قدرها

باب جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى، ووجوب الفدية عليه وبيان قدرها الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. فمع الباب العاشر من كتاب الحج وهو: باب جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى أو علة أو مرض، ووجوب الفدية لحلقه وبيان قدرها. من المعلوم أن من المحرمات على المحرم حلق رأسه، إلا إذا كان ذلك نسكاً، يعني: لا يجوز للمحرم أن يحلق شعره، أو أن يأخذ منه شيئاً متعمداً إلا إذا كان يقصد بأخذ شعره قصه أو حلقه تنكساً وتعبداً لله عز وجل، فإذا قامت علة بالمحرم في رأسه من مرض أو علة أو آفة ألحقت الأذى به، فهل له أن يحلق شعره؟ A نعم. له أن يحلق شعره، لكن لابد أن يكفر عن هذا الحلق بفدية.

شرح حديث كعب بن عجرة في حلق الرأس للمحرم عند الحاجة

شرح حديث كعب بن عجرة في حلق الرأس للمحرم عند الحاجة قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال كعب بن عجرة رضي الله عنه: (أتى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية وأنا أوقد تحت قدر لي أو برمة لي، والقمل يتناثر على وجهي، فقال: أيؤذيك هوام رأسك؟ قال: قلت: نعم. قال: فاحلق وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك نسيكة)]. فإذاً: حلق الرأس جائز لمن كانت به علة شرعية، وغير جائز لمن لم تكن به علة شرعية. وإذا قامت العلة وحلق صاحب العلة رأسه في غير وقت الحلق المشروع له في النسك، فإنما عليه الكفارة، وكفارته: أن يصوم ثلاثة أيام، أو يطعم ستة مساكين، بقدر ثلاثة آصع، والصاع: أربعة أمداد، والمد: ملء الكفين من الطعام، فكأنه قال: عن كل يوم صاع إذا ما أراد الصيام؛ لأن هذه الكفارات على سبيل التخيير لا على سبيل الترتيب: صم أو أطعم أو انسك، و (أو) للتخيير عند الأصوليين. فهنا إذا صام ثلاثة أيام فقد كفر عن حلقه شعره، وإذا اختار الإطعام فليطعم ستة من المساكين، لكل مسكين نصف صاع من طعام، وإذا اختار الذبح فعليه أن يذبح شاة. قال أيوب وهو راوي الحديث: فلا أدري بأي ذلك بدأ، وهذا المصطلح من الراوي، أو من غيره من أهل العلم من رواة الأحاديث إنما يدل على التخيير. روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي عليه السلام قال: (أربع كلمات لا يضرك بأيهن بدأت: سبحان، والحمد لله، والله أكبر، ولا إله إلا الله)، وهي الأذكار التي تقرأ دبر الصلوات المكتوبات: سبحان الله ثلاثاً وثلاثين مرة، والحمد لله ثلاثاً وثلاثين مرة، والله أكبر ثلاثاً وثلاثين مرة، ولا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مرة واحدة، وهي تمام المائة. لكن لا يضرك بأي واحدة من الأربع بدأت، وهذا يدل على التخيير، فابدأ بأي هذه الكلمات الأربع فإنه لا يضرك.

منزلة السنة في الدين

منزلة السنة في الدين قال: [وعن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: في أنزلت هذه الآية: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196]]. قوله: ((فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ)) أي: ثلاثة أيام، قوله: ((أَوْ صَدَقَةٍ)) أي: إطعام ستة مساكين، قوله: ((أَوْ نُسُكٍ)) أي: الشاة. إذاً: القرآن الكريم تكلم عن الكفارة إجمالاً والسنة بينته، فالسنة مبينة للكتاب وشارحة ومفصلة، بخلاف من يقول: إننا لا نأخذ إلا من كتاب الله عز وجل. فهؤلاء إنما دعاهم مرض قلوبهم وفساد ضمائرهم إلى أن يتعلقوا بشبهة هي أوهى من بيت العنكبوت، لكنهم لا يجرءون أن يقولوا: لا نأخذ بالقرآن ولا بالسنة، فقالوا: نأخذ بالقرآن دون السنة، والنبي عليه الصلاة والسلام حذر من هؤلاء، وبين أنهم لابد خارجون، قال: (لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: ما كان في كتاب الله حلالاً أحللناه، وما كان في كتاب الله حراماً حرمناه). ثم بين النبي عليه الصلاة والسلام عوار هذه الفكرة وفساد هذا الضمير، فقال: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه) قال ذلك ثلاثاً. ولذلك فمن جهة المنزلة السنة تأتي في الترتيب الثاني بعد كتاب الله عز وجل. وأما من جهة الحكم الشرعي فإن السنة مع الكتاب سواءً بسواء، بل أتت السنة -فضلاً عن بيانها للمجمل، أو تفصيلها، أو شرحها لكتاب الله عز وجل- بأحكام انفردت بها، وهذا في معظم أبواب الشريعة، فالسنة أتت بأحكام مستقلة لم تكن في كتاب الله عز وجل إلا على سبيل الأمر الإلزامي والعام في اتباع أمره عليه السلام. قال: (فيَّ نزلت هذه الآية: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196] قال: فأتيته فقال: ادنه -أي: اقترب- فدنوت، فقال: ادنه فدنوت، فقال صلى الله عليه وسلم: أيؤذيك هوامك؟ قال: نعم. قال: فأمرني بفدية من صيام أو صدقة أو نسك ما تيسر) أي: من هذه الثلاث لك أن تتخير ما يمكن أن يكون يسيراً في حقك.

بعض الأحكام المأخوذة من أمر النبي لكعب بن عجرة بأن يحلق رأسه

بعض الأحكام المأخوذة من أمر النبي لكعب بن عجرة بأن يحلق رأسه وعنه قال: [(إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف عليه -أي: وقف عند رأسه، أو قريباً منه- ورأسه يتهافت قملاً -يعني: ينزل منه القمل نزولاً كثيراً- فقال: أيؤذيك هوامك؟ قلت: نعم. قال: فاحلق رأسك)]. وقوله هنا: (فاحلق) ليس فعل أمر يدل على الوجوب، فإن هذه العلة إذا كان يقوى عليها صاحبها، ويمكن له أن يصبر مدة الإحرام بغير أن يحلق فهذا لا شك أولى، وهذا اتفاق أهل العلم. أما إذا كان ذلك يؤذيه بحيث يتضرر به ضرراً بالغاً شديداً لا يحتمله، فله أن ينتقل إلى الرخصة، ولما كانت العزيمة ترك الحلق والرخصة هي الحلق دل هذا على أن هذا الأمر ليس للوجوب، وإنما هو للندب والتخيير. فقال هنا: (فاحلق رأسك. قال: ففي نزلت هذه الآية: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196] فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: صم ثلاثة أيام، أو تصدق بفرق بين ستة مساكين -والفرق: هو الوعاء الذي يأخذ مقدار ثلاثة آصع- أو انسك ما تيسر) يفهم من ظاهره: أنه بإمكانه أن ينسك أي شيء، حتى لو دجاجة، ولكن النسيكة أقل ما تطلق على الشاة؛ ولذلك لفظ (النسيكة) لم يستخدم إلا فيما اشترط الشرع أن يكون شاة فما فوق، أما أقل من ذلك فلا، فالنسيكة في الحج هي الهدي، وهي البقرة، أو الإبل، أو الشاة، الشاة لواحد، والبقرة لسبعة، وكذلك البعير أو الإبل. والنسيكة كذلك في العقيقة شاتان للغلام، وشاة للجارية، كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام. والنسيكة في وليمة العرس كذلك شاة لمن اختار أن يذبح دماً، وإلا فله أن يصنع لحماً، أما في العقيقة فليس له أن يصنع لحماً، حتى وإن اشترى لحماً كثيراً فإنه لا يجزئه؛ لأن العبرة في العقيقة: إهراق الدم بالنية عن فلان؛ ولذلك يسن لمن عق أن يقول حين الذبح: اللهم هذا منك وإليك، عقيقة أو نسيكة عن فلان. فهنا قال: (أو انسك ما تيسر) أي: ما تيسر لك من الشياه، وإن تيسر له البعير أو البقرة نسكاً لا يمنع، وإن لم يتيسر له إلا الشاة فبها ونعمت، وهي خير من الصيام، وخير من الصدقة على المساكين؛ لأن الشاة ينتفع بها أكثر من ستة، وإن اختار إطعام المساكين وجب عليه أن يطعم ستة مساكين فقط. ولا شك أن هذا النسك خير من هذا كله؛ لأن النسك نفعه يتعدى لغير الصائم، وكذلك يشمل معه الستة زيادة.

أقوال العلماء في الطعام الذي يكون منه نصف الصاع

أقوال العلماء في الطعام الذي يكون منه نصف الصاع قال: [وعن كعب بن عجرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر به وهو بالحديبية وهو محرم قبل أن يدخل مكة، وهو يوقد تحت قدر، والقمل يتهافت على وجهه، فقال: أيؤذيك هوامك هذه؟ قال: نعم. قال: فاحلق رأسك، وأطعم فرقاً بين ستة مساكين -والفرق: ثلاثة آصع- أو صم ثلاثة أيام، أو انسك نسيكة)]. قال ابن أبي نجيح وهو أحد الرواة: أو اذبح شاة، وهذا يدل على أن النسيكة المقصود بها: الشاة. قال: [وعن كعب رضي الله عنه: (أن النبي عليه الصلاة والسلام مر به زمن الحديبية فقال له: آذاك هوام رأسك؟ قال: نعم. فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: احلق رأسك، ثم اذبح شاة نسكاً، أو صم ثلاثة أيام، أو أطعم ثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين)]. اتفق العلماء على القول بظاهر هذا الحديث إلا ما حكي عن أبي حنيفة والثوري: أن نصف الصاع لكل مسكين إنما ذلك في الحنطة، يعني: يتصدق بثلاثة آصع من حنطة على ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع. وهذا الحديث يرد عليهم، ومذهب الجماهير يختلف عن هذا، فمذهب الجماهير أن نصف الصاع من أي طعام كان هو الكفارة المجزئة لمن حلق. قال أبو حنيفة والثوري: نصف الصاع لكل مسكين إنما ذلك في الحنطة، فأما التمر والشعير وغيرهما فيجب صاع لكل مسكين. والحديث يقول: (أو أطعم ثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين)، فإذا كان الحديث صريحاً لا يحتمل التأويل، وخالفه قول عالم، فهل يصار إلى الدليل الذي ظاهره لا يحتمل التأويل، أو إلى قول العالم؟ A يصار إلى الدليل، وهذا العالم الذي خالف الدليل إما أنه لم يبلغه، أو بلغه ولكن فيه علة، أو بلغه لكنه منسوخ، أو بلغه لكنه مؤول، أو غير ذلك من الأعذار التي بسببها خالف أهل العلم ظاهر الروايات. فلو قلنا بقول أبي حنيفة والثوري رحمهما الله لقلنا: إنه يلزم الحالق ستة آصع، والدليل بيَّن أنها ثلاثة آصع من تمر، وهذا يجزئ. وعن أحمد بن حنبل في رواية: أنه لكل مسكين مد من حنطة، وهذا بلاشك أيضاً منابذ للرواية؛ لأن الصاع أربعة أمداد، فإذا كان لكل مسكين مد واحد فإنه سيكون صاعاً ونصف صاع فقط، وهذا مخالف للدليل. فهذا قول الإمام أحمد بن حنبل وهو إحدى الروايات عنه. وعن الحسن البصري وبعض السلف: أنه يجب إطعام عشرة مساكين، والرواية تقول: ستة فقط. قال: أو صوم عشرة أيام، والرواية تقول: ثلاثة أيام، وهذا ضعيف منابذ للسنة مردود. انتهى كلام الإمام النووي عليه رحمة الله.

سبب نزوله قوله تعالى: (ففدية من صيام أو صدقة أو نسك)

سبب نزوله قوله تعالى: (ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) قال: [وعن عبد الله بن معقل قال: (قعدت إلى كعب بن عجرة رضي الله عنه وهو في المسجد، فسألته عن هذه الآية: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196] فقال كعب رضي الله عنه: نزلت فيَّ، كان بي أذى من رأسي فحملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي، فقال: ما كنت أُرى أن الجهد بلغ منك ما أَرى. أتجد شاة؟ فقلت: لا. فنزلت هذه الآية: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196]-فبدأ بالصيام، ثم الصدقة ثم النسك- قال: صوم ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين نصف صاع طعاماً لكل مسكين، قال: فنزلت في خاصة، وهي لكم عامة)]. والأصوليون يقولون: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، يعني: اللفظ في النص القرآني أو النبوي عام وإن كان سبب نزوله في الآية أو سبب وروده في الحديث خاصاً بحادثة بعينها، وعلى ذلك فإنه يصلح للتطبيق في كل حادثة مشابهة، وهذا إلى يوم القيامة، فلا يصح للإنسان أن يقول: إن هذه الفدية التي طولب بها كعب بن عجرة لا يفعلها غيره؛ لأنها حادثة عين، وبمجرد أن طبقها كعب انتهى دورها؛ لأن اللفظ الذي ورد في الآية لفظ عام، والعبرة بعمومه لا بخصوص السبب الذي نزلت من أجله.

عناية الراعي برعيته واجتهاده في إصلاح أمورهم

عناية الراعي برعيته واجتهاده في إصلاح أمورهم قال: [وعن عبد الله بن معقل قال: حدثني كعب بن عجرة رضي الله عنه: (أنه خرج مع النبي عليه الصلاة والسلام محرماً فقمل رأسه -أي: فانتشر القمل في رأسه ولحيته- فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليه فدعا الحلاق فحلق رأسه)]، فالنبي عليه الصلاة والسلام هو الذي دعا الحلاق بنفسه ليحلق رأس كعب بن عجرة حتى يكون أبلغ في اجتهاد الإمام، وهذا أدب نبوي رفيع جداً، فالأمر وإن كان في ظاهره مخالفاً، إلا أنه لما كان العذر في حق فلان ساعده الإمام بنفسه، وهذا أمر مستحب في دين الله عز وجل. وأنتم تعلمون قصة الرجل الذي وقع على امرأته في نهار رمضان، فأتى إلى النبي عليه السلام وقال: (يا رسول الله! هلك الأبعد؟ قال: وما ذاك؟ قال: وقعت على امرأتي في نهار رمضان. قال: أعتق رقبة، قال: لا أجد. قال: صم ستين يوماً. قال: وهل أوقعني فيما وقعت فيه إلا الصيام؟ قال: أطعم ستين مسكيناً، قال: والله يا رسول الله! لا أجد قوت أهلي). وبينما هو كذلك إذ أتى رجل ببرمتين من التمر، فوضعهما بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام، فقال صلى الله عليه وسلم: (خذهما وأطعمهما ستين مسكيناً، قال: وهل تجد بين لابتيها -أي: بين جبليها- من هو أفقر مني ومن أهل بيتي؟ قال: اجعلها في أهل بيتك). فهو -عليه السلام- ساعده على القيام بواجب الكفارة، مع أنه ليس مطالباً بذلك، ولكنه ساعده من باب الاستحباب والندب، فيندب لكل أمير أو مسئول أو قادر أن يساعد من وقع في الكفارة على أداء كفارته. فـ كعب بن عجرة وإن نزلت فيه الآية خاصة إلا أنها في الحكم عامة لجميع المسلمين. هذه رواية الباب، وكلها متفقة في المعنى، ومقصودها: أن من احتاج إلى حلق الرأس لضرر من قمل أو مرض أو نحوهما فله حلقه في الإحرام وعليه الفدية. قال الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} [البقرة:196] الآية. وبين النبي عليه الصلاة والسلام أن الصيام ثلاثة أيام، والصدقة ثلاثة آصع لستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع، والنسك شاة، وهي شاة تجزئ في الأضحية، وهذا شرط في النسك، وكل الأنساك إنما تقاس على الأضحية. والأضحية يجزئ فيها شاة لا تقل عن ثمانية أشهر، وهذا مذهب جماهير العلماء، ولم يرد فيه دليل أو نص صريح يحدد عمر الشاة إلا من طرق ضعيفة، لكن مذهب الجماهير أحوط وأسلم، ألا تقل الشاة عن ثمانية أشهر، ويا حبذا لو كانت عشرة أشهر أو سنة كاملة. ويقاس على هذه الأضحية غيرها من بقية الأنساك؛ كنسك من حلق رأسه، أو نسك من فرط في واجب من واجبات الحج، فصار عليه الدم كفارة لما فرط وأهمل، ولما تخلف عنه من واجبات الحج على ألا تنقص هذه الشاة عن ثمانية أشهر، ويفضل أن تكون أكثر من ذلك.

باب جواز الحجامة للمحرم

باب جواز الحجامة للمحرم باب جواز الحجامة للمحرم. قال: [عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم)]. قال: [وعن ابن بحينة رضي الله عنه: (أن النبي عليه الصلاة والسلام احتجم بطريق مكة وهو محرم وسط رأسه)]. قوله: (احتجم بطريق مكة وهو محرم) يعني: بين مكة وبين الميقات، أي: لم يعتمر بعد ولم يحج، وإنما احتجم في حال إحرامه، وأنتم تعلمون أن الحجامة لا بأس بها للمحرم؛ لأنها لا فدية عليها، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام افتدى هنا لأنه حلق شعره. فالنسيكة هنا كانت من أجل حلق الرأس، فدم الحجامة لا يؤثر على الإحرام لا بكراهة ولا بغيرها، كما أن دم الحجامة لا تأثير له في الوضوء، فإذا احتجم متوضئ فلا يلزمه إعادة الوضوء، إنما يجب عليه أن يمسح موضع الدم أو يغسله، وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما إذا احتجم غسل مواضع محاجمه، أخرجه البخاري في كتاب الطهارة. والدماء عموماً لا تأثير لها في الطهارة؛ ولذلك قال الحسن: لا يزال المسلمون يصلون في جراحاتهم، فالدماء لا تأثير لها قط لا في الصلاة ولا في الوضوء. إذاً: إذا جرح المتوضئ لا يلزمه الإعادة، ولكنه يلزم بإزالة الدم وغسل موضعه. وعبد الله بن عمر رضي الله عنه عصر بثرة في بدنه حتى خرج منها الدم، فصلى ولم يتوضأ. وعمر بن الخطاب رضي الله عنه تعلمون أنه طعن في صلاته، فاستمر فيها حتى غاب عن الوعي، ونصحه أصحابه بالصلاة عند الإفاضة أي: بإتمامها، وقال: (إنه لا حظ في الإسلام لمن لا حظ له في الصلاة)، وغير ذلك من الدماء التي تخرج من المخارج الطبيعية فيستوي في ذلك أن يخرج الدم من العين، أو من الأذن، أو من الأنف، أو من أي مخرج إلا مخرجين: القبل، والدبر، فإذا خرج الدم من القبل أو الدبر فإنه ينتقض به الوضوء. واختلف أهل العلم في الدود الصغير الذي هو كرأس الدبوس إذا خرج من القبل هل ينقض؟ مذهب الجماهير أنه ينقض، ومذهب الأحناف أنه لا ينقض إلا إذا لوث الموضع. والأحوط: أنه ينقض الوضوء، ويُلزم بإعادة الوضوء من باب الاحتياط؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة ما لم يحدث) من حديث أبي هريرة في الصحيحين. قيل لـ أبي هريرة: يا أبا هريرة! ما الحدث؟ قال: الصوت فساء أو ضراط. ولذلك بوب البخاري في كتاب الطهارة باب: من لم ير نقض الوضوء إلا بالخارج من السبيلين، أو من أحدهما. وأنت إذا نظرت إلى نواقض الوضوء تجد غالباً أن هذه النواقض مردها إلى القبل والدبر، حتى النوم مرده إلى الدبر؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (النوم وكاء السه، فإذا نام أحدكم انطلق الوكاء). والوكاء بمعنى: الغطاء، فشبه الإنسان بالقربة التي لها غطاء محكوم، هذا الغطاء هو اليقظة، فإذا نمت انطلق هذا الوكاء، فقال: (النوم وكاء السه، فإذا نام أحدكم انطلق الوكاء). يعني: إذا نام أحدكم لا يتحكم في خروج الريح من بدنه، فإذا نام فإن مرده كذلك إلى الخارج من أحد السبيلين. وعن ابن بحينة: (أن النبي عليه الصلاة والسلام احتجم بطريق مكة وهو محرم وسط رأسه). فالذي يحتجم في وسط رأسه يحتاج إلى إزالة بعض الشعر، ولا تتم الحجامة إلا بهذا الطريق.

الحجامة للمحرم وما في ذلك من الأحكام

الحجامة للمحرم وما في ذلك من الأحكام قال النووي: (في هذا الحديث دليل على جواز الحجامة للمحرم، وقد أجمع العلماء على جوازها في الرأس وغيره إذا كان له عذر في ذلك، يعني: لا يجري الحجامة في رأسه إلا إذا كان مضطراً إلى ذلك، وإن قطع الشعر حينئذ فعليه الفدية لقطع الشعر، فإن لم يقطع فلا فدية عليه، واحتجوا بنص الآية: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} [البقرة:196]، وفي الغالب الذي يجري الحجامة إنما يجريها لأجل العلة أو المرض، فإذا أجراها لأجل العلة أو المرض، ولكنه أجراها في موضع في بدنه لا يحتاج معه إلى قطع الشعر فلا فدية عليه حينئذ ولا كفارة. أما إذا أجراها في موضع فيه شعر فاضطر إلى أخذ بعض الشعر أو كله، فإنما عليه الفدية، وهذا الحديث محمول على أن النبي عليه الصلاة والسلام كان له عذر في الحجامة في وسط الرأس؛ لأنه لا ينفك عن قطع شعره. أما إذا أراد الحجامة لغير حاجة فإن تضمنت قلع شعره فهي حرام؛ لتحريم قطع الشعر، وإن لم تتضمن ذلك بأن كانت في مواضع لا شعر فيها، فهي جائزة عندنا وعند الجمهور ولا فدية فيها. وعن ابن عمر: أنهم كرهوها للمحرم بغير عذر. وعن الحسن البصري قال: فيها الفدية في كل الأحوال، أي: بعذر وبغير عذر). قال: (وفي هذا الحديث بيان قاعدة من مسائل الإحرام وهي: أن الحلق واللباس وقتل الصيد ونحو ذلك من المحرمات يباح للحاجة وعليه الفدية. كمن احتاج إلى حلق أو لباس لمرض أو حر أو برد، أو قتل صيد للحاجة وغير ذلك والله أعلم). ولذلك أهل العلم يفتون بجواز أن يلبس المحرم فوق الإزار والرداء شيئاً يستدفئ به إذا كان الجو شديد البرودة ويخشى معه الهلاك. وأنتم تعلمون أنه لا يحل للمحرم أن يلبس إلا الإزار والرداء، وفي شدة البرد القارس لا شك أن المرء يخشى على نفسه الهلكة، فإذا استدفأ بشيء آخر فله ذلك مع وجوب الفدية.

باب جواز مداواة المحرم عينيه

باب جواز مداواة المحرم عينيه باب جواز مداواة المحرم عينيه، حتى وإن اضطر إلى أخذ بعض شعر جسمه له أن يأخذ من شعره ما يساوي قدر العلاج، لكن عليه الفدية حينئذ. قال: فـ[عن نبيه بن وهب قال: (خرجنا مع أبان بن عثمان حتى إذا كنا بملل -اسم موضع - اشتكى عمر بن عبيد الله عينيه، فلما كنا بالروحاء - اسم موضع كذلك - اشتد وجعه فأرسل إلى أبان بن عثمان يسأله، فأرسل إليه: أن اضمدهما بالصبر، فإن عثمان رضي الله عنه حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرجل إذا اشتكى عينيه وهو محرم ضمدهما بالصبر)]، يعني: عالجهما بالاكتحال بهذه المادة، لكن إذا احتاج إلى أخذ بعض الشعر، فإن كانت شعرة واحدة فعليه مد، وإذا أخذ شعرتين فعليه مدان من طعام، وإذا أخذ ثلاث شعرات فما فوق فعليه شاة. وإذا كان الشعر يتساقط لوحده بغير صنيع منك فلا شيء عليك، وقد اتفق العلماء على جواز تضميد العين وغيرها بالصبر ونحوه مما ليس بطيب ولا فدية في ذلك، فإن احتاج إلى ما فيه طيب جاز له فعله وعليه الفدية؛ لأن الطيب يحرم على المحرم، كما أن الحلق يحرم على المحرم، فإذا احتاج إلى الحلق لعذر فله أن يحلق وعليه الفدية، فكذلك إذا احتاج المريض أو المرمد في عينيه إلى العلاج بشيء فيه طيب، فعليه أن يستخدم هذا الطيب، ولكن عليه الفدية. واتفق العلماء على أن المحرم يكتحل بكحل لا طيب فيه إذا احتاج إليه، ولا فدية عليه، وأما الاكتحال للزينة فمكروه عند الشافعي وآخرين، ومنعه جماعة منهم: أحمد وإسحاق -يعني: حرموه- وفي مذهب مالك قولان كالمذهبين -يعني: مكروه، ومحرم- وفي إيجاب الفدية عندهم بذلك خلاف.

باب جواز غسل المحرم بدنه ورأسه

باب جواز غسل المحرم بدنه ورأسه باب جواز غسل المحرم بدنه ورأسه، وإن كان الأولى غير ذلك. للمحرم أن يغسل بدنه ورأسه، لكن الأولى ألا يغتسل، فهذا الحديث بيَّن الجواز وغيره بيَّن الأفضل. قال: [(عن عبد الله بن عباس والمسور بن مخرمة أنهما اختلفا بالأبواء -اسم موضع- فقال عبد الله بن عباس: يغسل المحرم رأسه، وقال المسور: لا يغسل المحرم رأسه، فأرسلني ابن عباس إلى أبي أيوب الأنصاري أسأله عن ذلك فوجدته يغتسل بين القرنين -يعني: بين خشبتين قد نفضهما ووضع عليهما ستارة- وهو يستتر بثوب، قال: فسلمت عليه فقال: من هذا؟ فقلت: أنا عبد الله بن حنين -وهو تابعي- أرسلني إليك عبد الله بن عباس أسألك كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه وهو محرم؟ فوضع أبو أيوب رضي الله عنه يده على الثوب فطأطأه حتى بدا لي رأسه، ثم قال لإنسان يصب: اصبب. فصب على رأسه، ثم حرك رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر، ثم قال: هكذا رأيته صلى الله عليه وسلم يفعل)]. إذاً: غسل البدن والرأس جائز للمحرم؛ بدليل حديث أبي أيوب الأنصاري، وأنه كان يغتسل كما رأى النبي عليه الصلاة والسلام يغتسل وهو محرم، وليس في هذا بيان للعورة، ولهذا لا يمنع أن يغتسل وهو لابس ملابس الإحرام خاصة مع شدة الحر في ذلك الزمان. فهذا أبو أيوب الأنصاري ستر نفسه عن الناس إلا من مولاه، أو من رجل يصب عليه، فجعل بينه وبينه ستاراً، ومولاه يمد يديه فيصب الماء على رأس أبي أيوب الأنصاري. فـ أبو أيوب بين كيفية غسل النبي عليه الصلاة والسلام رأسه لـ عبد الله بن حنين وهو مبعوث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، فقال: رأيته يفعل هكذا، ثم بين له أنه يأخذ مجامع رأسه من مقدم الرأس، فيرجع بيديه إلى قفاه، ثم يردهما إلى مقدم رأسه. وهذا يعني: أنه لا يدخل أصابعه في شعره ويخلل شعره تخليلاً تاماً، فالمحرم لا يحتاج إلى مثل هذا، وإنما يحتاج إلى مثل هذا الجنب، حتى يصل الماء إلى منبت الشعر. قال: فأمر أبو أيوب بيديه على رأسه جميعاً فأقبل بهما وأدبر، فقال المسور لـ ابن عباس: لا أماريك أبداً.

فوائد حديث أبي أيوب في غسل المحرم رأسه وبدنه

فوائد حديث أبي أيوب في غسل المحرم رأسه وبدنه هذا الحديث فيه فوائد: منها: جواز اغتسال المحرم، وغسله رأسه، وإمرار اليد على شعره بحيث لا ينتف شعراً، وأنتم تعلمون أن هذا غير مأمون وغير مضمون، وليس فيه كفارة؛ لأنه ما قصد إسقاط الشعر. ومنها: قبول خبر الواحد، والرجوع إلى النص عند الاختلاف لا إلى قول الفقيه؛ ولذلك يقول ابن القيم عليه رحمة الله: العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه فإذا كان خلاف الفقهاء للنص خلافاً ظاهراً لا يحتمله النص، لا يكون خلافاً معتبراً ولا يصار إلى رأي هذا الفقيه، إنما يصار إلى النص؛ لأنه ظاهر لا يحتمل التأول. أما إذا كان نصه -أي: النص في القرآن أو السنة- يحتمل التأويل، وأن الفقهاء أولوا هذا النص على مذهبين أو أكثر بحيث يحتمل النص جميع هذه التأويلات، فلا ينكر على المخالف حينئذ. ومنها: السلام على المتطهر في وضوء وغسل بخلاف الجالس على الحدث. وإن كان الجالس على الحدث يجوز إلقاء السلام عليه، والأفضل ترك ذلك، وليس هناك دليل صحيح ينهى عن إلقاء السلام على المحدث، لكن ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه نهى عن الرجلين يختليان فيتحدثان. ومن هذه الفوائد: جواز الاستعانة في الطهارة، والأولى ترك ذلك. والنبي عليه الصلاة والسلام قد أعانه عليه غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، في الإتيان بماء للاستنجاء أو ماء للوضوء كما فعل أسامة بن زيد والمغيرة بن شعبة، وبلال، وأنس وغيرهم كثير قد أعانوا النبي عليه الصلاة والسلام على إتمام طهارته، حتى غسل القدم، واعتذر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المغيرة بن شعبة، وأنه إنما أدخلهما طاهرتين، لما هوى المغيرة ليخلع خف النبي عليه الصلاة والسلام قال: (دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين). وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما منعه من ذلك لا لأن ذلك مكروه، ولكنه أدخلهما طاهرتين، ولو لم يكن على هذه الحال لجوز له وأذن له أن يفض النعل من رجله، ولكن الأولى ترك ذلك لما يمكن أن يلحق بالمتطهر من كبر أو عجب، أو غير ذلك. فمن آنس من نفسه رشداً، وأن ذلك لا يؤثر على تواضعه وإخباته فإنه لا يمنع من ذلك، والأمر في حقه جائز، والأولى تركه. والله أعلم. اتفق العلماء على جواز غسل المحرم رأسه وجسده من الجنابة، بل هو واجب عليه، وأما غسله تبرداً فمذهب الشافعية، ومذهب الجمهور جوازه بلا كراهة، ويجوز عندنا أي: عند الشافعية غسل رأسه بالسدر والخطمي؛ بحيث لا ينتف شعراً، فلا فدية عليه ما لم ينتف شعراً. وقال أبو حنيفة ومالك: هو حرام موجب للفدية، والصحيح هو مذهب جماهير أهل العلم.

باب ما يفعل بالمحرم إذا مات

باب ما يفعل بالمحرم إذا مات الباب الرابع عشر: ما يفعل بالمحرم إذا مات. قال: [عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رجلاً خر من بعيره -أي: من فوق بعيره- فوقص فمات، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تخمروا رأسه، فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبياً)]. الجزاء من جنس العمل، فكما أن هذا الرجل كان محرماً، والمحرم تلزمه التلبية، فكذلك إذا مات في حال إحرامه فإنه يبعث على نفس الحال ملبياً. قال: (اغسلوه بماء وسدر)، وفي هذا جواز استخدام السدر -ورق النبق- وهو له رائحة لكنه لا يستخدم للطيب. وهذا يدل على حرمة الطيب على المحرم حتى لو كان ميتاً، يستوي في ذلك المحرم الذي مات، والمحرم الذي لم يمت، فإنه يحرم عليهما جميعاً استعمال الطيب، وإن كان طيباً أو له رائحة طيبة وهو لا يقصد التطيب فإنه لا يكره له. قال: (اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه)، أي: الإزار والرداء، (ولا تخمروا رأسه)، ويقال: كل غطاء للوجه خمار، سواءً كان ذلك في حق الرجل أو المرأة. أما قوله: (ولا تخمروا رأسه) أي: لا تضعوا شيئاً على رأسه، ودعوه مكشوفاً، والذي لا يضع شيئاً على رأسه من باب أولى لا يضع على الوجه، وقد جاء في الروايات صريحاً: (ولا تخمروا وجهه ولا رأسه)، يعني: اتركوه مكشوفاً، كما يحرم على المحرم أن يضع شيئاً فوق رأسه كالقلنسوة، أو الطاقية أو الغترة أو شيء من هذا، فإنه يحرم عليه بعد الموت ذلك؛ لأنه يبعث على نفس الحال التي قبض ودفن عليها. ثم علل ذلك بأنه قال: (فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبياً). قال: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (بينما رجل واقف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة)] يعني: في حال إحرامه؛ لأن الإحرام لا تنفك منه إلا بأداء نسكين من أعمال يوم النحر، نزولك من عرفة ومبيتك بمزدلفة، ثم تنطلق بعد شروق الشمس في يوم النحر إلى عرفة، وترمي جمرة العقبة بعد الزوال، أي: بعد ظهر يوم النحر، ثم تحلق أو تذبح الهدي، عندها يحل لك كل شيء إلا النساء، ولا يحل لك النساء إلا بعد الطواف والسعي. قال: [(بينما رجل واقف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة إذ وقع من راحلته، قال أيوب: فأوقصته، أو أقصعته. وقال عمرو: فوقصته، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبين)]. وفي رواية: (في ثوبيه)، وهذا يدل على أن الثوبين هنا المقصود بهما: الإزار والرداء. قال: [(ولا تحنطوه)]؛ لأن الحنوط طيب ويستخدم للطيب؛ ولذلك نهاهم أن يحنطوه بالحنوط، والحنوط في الغالب لا يستخدم إلا للميت، وإن استخدمه الحي جاز ذلك، وعلى أية حال: إذا استخدمه الحي أو الميت فإنما يستخدم لأجل الطيب؛ ولذلك نهاهم أن يطيبوه بالحنوط، وأذن لهم أن يضعوا في ماء غسله السدر؛ لأنه لا يستخدم للطيب عادة. قال: [(ولا تخمروا رأسه فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبياً)]. وفي رواية: (فإن الله يبعثه يوم القيامة يلبي)، وهذا فيه رحمة عجيبة جداً. فالرواية التي تقول: (فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبياً) أي: على الحالة التي مات عليها. وأما قوله: (فإن الله يبعثه يوم القيامة يلبي)، هذا يدل على أنه يبعث وهو يلبي، وإن مات وهو غير ملبٍ؛ لأن المرء في حال إحرامه ينشط فيلبي، ويهمد ويكسل وهو في التلبية، فهب أنه مات في لحظة كسله، فهو لم يمت ملبياً، وإنما مات تاركاً، أو متكاسلاً عن التلبية، فهذا من رحمة الله عز وجل أنه يبعثه وهو يلبي. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أقبل رجل حراماً -يعني: محرماً- مع النبي عليه الصلاة والسلام فخر من بعيره فوقص وقصاً فمات، -يعني: انكسر كسراً فمات- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: اغسلوه بماء وسدر وألبسوه ثوبيه - الإزار والرداء - ولا تخمروا رأسه، فإنه يأتي يوم القيامة يلبي). وفي رواية: (ملبياً). وفي رواية -وهي رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس - (اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تخمروا رأسه ولا وجهه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً). وفي الرواية الثانية: قال ابن عباس: (أن رجلاً كان مع النبي صلى الله عليه وسلم محرماً فوقصته ناقته فمات، فقال عليه الصلاة والسلام: اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تمسوه بطيب، ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبداً). والتلبيد: هو دهن الشعر بشيء لا يؤثر على صحة العبادة، أو صحة الطهارة، والنبي عليه الصلاة والسلام قد لبد شعره قبل الإحرام، ولكنه استمر معه بعد الإحرام، فإذا مات ملبداً أو ملبياً فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً أو ملبداً. وعن ابن عباس رضي الله عنهما يحدث: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم فوقع من ناقته فأقعصته، فأمر النبي صلى ا

من فوائد حديث ابن عباس في المحرم إذا مات

من فوائد حديث ابن عباس في المحرم إذا مات قال النووي عليه رحمة الله: (في هذه الروايات دلالة بينة لمذهب الشافعي وأحمد وإسحاق وموافقيهم في أن المحرم إذا مات لا يجوز أن يلبس المخيط، ولا تخمر رأسه ولا وجهه، ولا يمس طيباً). يعني: يدفن على نفس هيئته التي مات عليها وهو محرم. قال: (وقال مالك والأوزاعي وأبو حنيفة وغيرهم: يفعل به ما يفعل بالحي، ولكن هذا الحديث يرد عليهم. وأما قوله: (اغسلوه بماء وسدر) دليل على استحباب السدر في غسل الميت، وأن المحرم في ذلك كغيره، وهذا مذهب جماهير أهل العلم. وقوله: (لا تخمروا وجهه ولا رأسه)، أما تخمير الرأس في حق المحرم الحي فمجمع على تحريمه، أما وجهه فقال مالك وأبو حنيفة: هو كرأسه. وقال الشافعي والجمهور: لا إحرام في وجهه، بل له تغطيته). وإنما يجب كشف الوجه في حق المرأة؛ لأن إحرام المرأة في وجهها ويديها؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين). وهذا يدل على وجوب أو استحباب -على الخلاف المشهور- تغطية الوجه والكفين لغير المحرمة، وإجماع أهل العلم أن إحرام المرأة في وجهها وكفيها، أما في سائر بدنها فلها أن تحرم في ملابسها العادية بخلاف الرجل. قال: (إذا كان ذلك -أي: إحرام المرأة في وجهها- فالرجل على العكس منها، فإنه لا إحرام في وجهه)، وبالتالي له أن يستر وجهه. فلو نام المحرم فهل له أن يضع منديلاً على وجهه؟ له ذلك، وله أن يلبس نظارة القماش، التي يعطونه إياها في الطائرة لينام فلا يتأثر بالضوء، فإذا لبس هذا الحاج فهل عليه شيء؛ لأن هذا يعتبر تخميراً لبعض الوجه؟ A لا يعتبر؛ لأنه لم يقصد لذاته، ولم تتخذ بنية تخمير الرأس أو بعضه، وإنما اتخذت لغيرها، وإذا كان الأمر كذلك فإنه يجوز للحاج أن يفعل ذلك؛ لأنه ما قصد تخمير الرأس، إنما قصد المساعدة على تخمير الوجه وهو جائز لهم. ومع هذا فالأولى ترك ذلك، للخلاف القائم بين العلماء في جواز تخمير الوجه من عدمه؛ لأن المسألة على مذهبين عند أهل العلم: مذهب يقول بالجواز، ومذهب يقول بالحرمة، فلاشك أن القائل بالحرمة يلزم من المخالفة لحوق الإثم بالمحرم إذا خمر وجهه. وإذا وقع الخلاف بين أهل العلم في قضية ما فالأحوط في الدين ترك ذلك؛ ما لم يقض الدليل بصحة أحد الأقوال، فإنه يصار إليه ولا يصار إلى غيره، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا يصلين أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء). أتيت بهذا الحديث لأبين لك الفرق بين الكثير والقليل، أو بين الكبير والصغير، والحديث في الصحيحين. ومفهوم الحديث: لا يصلين أحدكم في الثوب الواحد إلا إذا كان على عاتقه منه شيء، وقد شرح الحافظ ابن حجر هذا الحديث. قال: الصلاة صحيحة؛ لأنه يصدق عليها ظاهر الحديث. قال: ولو أخذ هذا الثوب بخيط على عاتقه صحت صلاته؛ لأن الحديث يقول: (لا يصلين أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء). فقد تحقق شرط الحديث، وهو وجود الشيء على العاتق، ثم استفاض الحافظ ابن حجر في التأدب مع الله عز وجل، وبدأ يتكلم في الرقائق ويخاطب القلوب. قال: ولكن لا يمكن لأحد أن يقف بهذا الملبس أمام أحد من عظماء الدنيا وغير ذلك، فمن باب أولى ألا يقف مصل أمام الله عز وجل في هذا إلا إذا كان ناسكاً، يعني: إلا إذا كان محرماً؛ لأن المحرم يصلي في الإزار والرداء، ولا يكشف شيئاً من عاتقيه. المحرم لا يجوز له أن يكشف عاتقه الأيمن إلا في الطواف فقط، فإن أدركتك الصلاة وأنت تطوف فعليك أن تغطي كتفك الأيمن وتلحق بالإمام، فإذا انتهت الصلاة كشفت الكتف الأيمن ثم أتممت طوافك. فالمصلي وإن كان محرماً لا يجوز له أن يكشف عاتقه، فالحافظ ابن حجر يخاطب القلوب والعقول النيرة فيقول: وهذا الموقف -أي: بين يدي الله عز وجل- أليق بكمال الرياضة، وأنه ينبغي للمرء أن يكون على أحسن هيئة وأجمل منظر، وهذا مخل بهذا الأدب وهذا الشرف -أي: شرف الموقف بين يدي الله عز وجل- أن يأتيه العبد وليس على عاتقه شيء. من الفوائد: الدلالة لمذهب الشافعي وموافقيه في أن حكم الإحرام باقٍ مع الميت حتى يبعث؛ لأنه بعث على حالته التي مات عليها. فما بين موته وبعثته هو في حكم المحرم. ومنها: أن التكفين في الثياب الملبوسة جائز، وهذا أمر مجمع عليه. وأبو بكر الصديق رضي الله عنه لما خير في لحظة احتضاره بين ثيابه التي يلبسها، وأن يشتروا له ثوباً يكفن فيه قال: الحي أولى بذلك من الميت. وهذا من أدبه وتورعه رضي الله عنه وأرضاه، فالثياب الملبوسة يجوز التكفين فيها بلا خلاف بين أهل العلم. ومنها: جواز التكفين في ثوبين، وإن كان الأفضل ثلاثة، لكن يقال هنا: الأفضل ثلاثة لمن لم يكن محرماً، والأفضل في حق المحرم أن يكفن في ثوبيه. ومنها: أن

باب جواز اشتراط المحرم التحلل بعذر المرض ونحوه

باب جواز اشتراط المحرم التحلل بعذر المرض ونحوه باب جواز اشتراط المحرم التحلل بعذر المرض ونحوه. أي: إذا خشي العذر من مرض أو نحو ذلك، والاشتراط: أن الواحد في لحظة إهلاله في الميقات حين يقول: لبيك اللهم عمرة يردفها بقوله: فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني. فيكون قد اشترط على ربه هنا، فربما يأتيه عارض من مرض، أو تعسر في الأوراق الرسمية وغيرها، يعني أنت ممكن تسافر من هنا، وتمر على الميقات فتحرم وتهل: لبيك اللهم عمرة، وتنزل مطار جدة فيقال لك: تأشيرتك هذه مضروبة، كيف مضروبة؟ الكمبيوتر يقول: إن التأشيرة هذه مضروبة، والرقم هذا الذي معك قد دخل به محرم آخر البلاد برقم صحيح. قال: [عن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ضباعة بنت الزبير فقال لها أردت الحج؟ قالت: والله ما أجدني إلا وجعة فقال لها: حجي واشترطي، وقولي اللهم محلي حيث حبستني، وكانت تحت المقداد بن الأسود)]. وقوله: (حجي واشترطي) يعني: قولي: (اللهم محلي حيث حبستني) يعني: إذا منعني المرض أو العذر فأنا سأتحلل من ملابس الإحرام، وألبس الملابس العادية وأرجع بغير أداء النسك ولا فدية علي. (اللهم محلي) أي: ائذن لي بالتحلل من ملابس الإحرام بغير كفارة ولا فداء. مثال ذلك: لو أنهم أرجعوك من مطار جدة أو تحت أي ظرف من الظروف وقعت فيه، وقد اشترطت في الميقات فقلت: لبيك اللهم حجاً أو عمرة فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني. فرأوك في المطار مثلاً وأنكروا عليك أوراقك الرسمية التي أنت داخل بها مكة، فإذا كنت اشترطت في الميقات فلك أن تنزع ملابس الإحرام، وترجع إلى بلدك ولا كفارة عليك ولا ذنب. أما إذا لم تكن قد اشترطت فإنه يلزمك الكفارة، وكفارة ذلك: ذبح شاة لفقراء الحرم، فقيمة الاشتراط أنه ينأى بك عن الكفارة إذا تحقق الشرط. قال: [قالت عائشة: (دخل النبي عليه الصلاة والسلام على ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب - وهي بنت عم النبي عليه الصلاة والسلام -فقالت: يا رسول الله! إني أريد الحج وأنا شاكية، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني)]. قال: [وعن ابن عباس رضي الله عنه: (أن ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب رضي الله عنها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إني امرأة ثقيلة -يعني: أثقلني المرض- وإني أريد الحج. فما تأمرني؟ قال: أهلي بالحج -يعني قولي: لبيك اللهم حجاً- واشترطي أن محلي حيث تحبسني. قال: فأدركت)] أي: فأدركت الحج كله بغير أن يمنعها المرض. قال: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن ضباعة أرادت الحج. فأمرها النبي عليه الصلاة والسلام أن تشترط، ففعلت ذلك عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم)].

فوائد من أحاديث اشتراط المحرم التحلل بعذر

فوائد من أحاديث اشتراط المحرم التحلل بعذر يقول الإمام النووي: (في هذا الحديث دلالة لمن قال: يجوز أن يشترط الحاج والمعتمر في إحرامه أنه إذا مرض تحلل. وهو قول عمر بن الخطاب، وعلي، وابن مسعود، وآخرين من الصحابة رضي الله عنهم، وجماعة من التابعين، وهو الصحيح من مذهب الشافعي، وحجتهم هذا الحديث الصحيح الصريح)، لأنكم تعلمون جميعاً أن الدليل لا يصح الاحتجاج به إلا إذا كان صحيحاً وصريحاً. وقولك: صحيح، احتراز من الضعيف؛ لأن الضعيف لا تقوم به الحجة، خاصة في مسائل الأحكام ومسائل الاعتقاد وغيره. ووقع نزاع بين أهل العلم في جواز الاحتجاج بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال. والراجح في ذلك عدمه. ولو أنه أراد الحج ومنعه مانع من بيته فلم يخرج فله ثواب الحج، وهذا لا يعني أن حجة الإسلام تسقط عنه، بل تبقى، ولكن الثواب يجري له. وقد جاءت في ذلك أحاديث كثيرة جداً إن شئت أن ترجع إليها في باب الإخلاص من كتاب رياض الصالحين، وهو متوفر لدى كل إنسان، فارجع فإنك تجد آثاراً كثيرة تدل على أن من نوى شيئاً وكان عازماً عزماً أكيداً صادقاً فإنه يجري له الثواب. أذكر من هذا دليلاً واحداً وهو قول النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه لما كان في غزوة: (ما نزلتم منزلاً ولا هبطتم وادياً ولا سرتم في طريق -وفي رواية: أو في مسير- إلا وقد شاركوكم الأجر -أي: إخوانكم بالمدينة- منعهم العذر). وفي رواية: (منعهم المرض). قال: (وقال أبو حنيفة ومالك وبعض التابعين: لا يصح الاشتراط؛ لأنه حادثة عين، فهو أمر مخصوص بـ ضباعة فقط، ولا يمكن قياس غير ضباعة على ضباعة، والكلام هذا طبعاً منقوض بالقاعدة الأصولية: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وفي هذا الحديث دليل على أن المرض لا يبيح التحلل إذا لم يكن اشترط في حال الإحرام، لكنه لو منعه المرض بالفعل عن مواصلة المناسك فلابد أن يتحلل ويذبح شاة.

باب إحرام النفساء واستحباب اغتسالها للإحرام، وكذا الحائض

باب إحرام النفساء واستحباب اغتسالها للإحرام، وكذا الحائض الباب الأخير: باب إحرام النفساء، واستحباب اغتسالها للإحرام، وكذا الحائض. وذلك لأن النفساء والحائض كلتاهما حكمهما واحد. والنفاس يطلق في اللغة: على الحيض. وعائشة رضي الله عنها نفست في حجة الوداع، والنبي عليه الصلاة والسلام قال لها: (أنفست؟ قالت: نعم)، وكان ذلك في مدخلها مكة، وطهرت منه في ليلة عرفة، كما سيأتي معنا في الروايات، والنبي عليه الصلاة والسلام انطلق محرماً مع هلال ذي الحجة، أي: أن الأمر لم يستغرق إلا بضعة أيام، فهذا حيض، كما أنه من المعلوم أن عائشة لم تلد، ومع هذا قال لها: (أنفست؟) فالنفاس في اللغة: الحيض. فالحيض: هي العادة الشهرية التي تنزل على المرأة المؤهلة له، والنفاس: ما تصاب به المرأة بعد ولادتها، كما في حديث أم سلمة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت للنفساء أربعين يوماً). وهذا يدل على أن أقصى مدة النفاس أربعون يوماً، وهذا في الغالب، وإلا فأنت تجد في كتب المذاهب كما عند الأحناف والشافعية أن أقصى مدة النفاس ستون يوماً، وهذا شاذ، فغالب النساء ينقطع دم النفاس عنهن بعد أربعين يوماً، ولا يلزم استمرار نزول الدم أربعين يوماً، بل قد ينزل عشراً، ثم ينقطع عشراً، ثم يأتي عشراً وهكذا، أو خمساً وخمساً، أو سبعاً وسبعاً، فلا يجب استمرار نزول الدم طوال الأربعين يوماً، ولكن المعنى: أن النبي صلى الله عليه وسلم حدد أن أقصى مدة النفاس تكون أربعين يوماً. ولذلك العلماء يقولون: أقصى مدة النفاس على حديث أم سلمة أربعون يوماً في غالب عادة النساء، ولا حد لأقله، كما لا حد لأقل الحيض، والراجح أن أقل حد النفاس والحيض دفقة دم تخرج من رحم المرأة؛ لأنه لا معنى لقولهم: لا حد لأقله؛ لأنه إذا كان أقصى النفاس أربعين يوماً فلابد أن يكون له حد أقل، فقولهم: لا حد لأقله أمر غير مفهوم، والمفهوم أن أقل الحيض والنفاس دفقة دم تخرج من رحم المرأة، وهذا مذهب كثير من أهل العلم كذلك. قال: (باب إحرام النفساء واستحباب اغتسالها للإحرام وكذا الحائض). يعني: الحائض والنفساء يستحب لهما أن تغتسلا للإحرام مع وجود النفاس ومع وجود الحيض. والإحرام يكون من الميقات، وأنتم تعلمون أن الغسل في حق الرجال كذلك مستحب وليس واجباً، كما أن الصلاة التي يحرم بعدها المحرم ليست واجبة، وإنما هي مستحبة كذلك. قال: [قالت عائشة: (نفست أسماء بنت عميس)] وأسماء بنت عميس هي زوجة أبي بكر الصديق رضي الله عنه. قالت: [(نفست أسماء بنت عميس بـ محمد بن أبي بكر -يعني: ولدت محمد بن أبي بكر - بالشجرة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر يأمرها أن تغتسل وتهل)] يعني: تقول: لبيك اللهم عمرة أو حجاً. قال: [وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (في حديث أسماء بنت عميس حين نفست بذي الحليفة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر رضي الله عنه فأمرها أن تغتسل وتهل)]. وذو الحليفة ميقات أهل المدينة، وأنتم تعلمون أن هذا المكان فيه نزاع بين ثلاث مسائل: الشجرة، والمسجد، والبيداء، فمن الناس من كان يهل من البيداء، ومن الناس من كان يهل من المسجد بعد الصلاة مباشرة وقبل أن يقوم من مقامه، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام ما أهل إلا من عند الشجرة حين ركب دابته فقامت وانبعثت، فبعد أن انبعثت أهل بالنسك. وفي هذا الحديث صحة إحرام النفساء والحائض واستحباب اغتسالهما للإحرام، وهو مجمع على الأمر به، لكن مذهب الشافعية ومالك وأبي حنيفة والجمهور: أنه يستحب. وقال الحسن وعند أهل الظاهر هو واجب. يعني: غسل الحائض والنفساء واجب، والحائض والنفساء يصح منهما جميع أفعال الحج إلا الطواف وركعتيه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (واصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت). فالطواف لا يجوز للحائض ولا النفساء، ولا حتى فاقد الوضوء؛ لأن الطهارة شرط في الطواف؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الطواف بالبيت صلاة غير أن الله أحل فيه الكلام). والركعتان اللتان خلف مقام إبراهيم تابعتان للطواف، فإذا كان الحائض والنفساء وغير المتوضئ من الرجال والنساء لا يجوز له الطواف على هذا النحو، فهل يجوز له الصلاة ركعتين؟ من باب أولى لا يجوز؛ لأنه لا طواف إلا بطهور، والسعي لا يشترط له الطهارة لكن يستحب. وفي هذا الحديث: أن ركعتي الإحرام سنة وليستا بشرط لصحة الحج؛ لأن أسماء لم تصلهما، هذا والله تعالى يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال والأقوال.

الحج مفروض على التراخي

الحج مفروض على التراخي أذكر قديماً كتاباً اسمه: (إحكام التقرير في أحكام التفسير) وهو في الحقيقة لأخ أردني اسمه مراد شكري. أخونا مراد شكري من إخواننا المحبين، وهو في الحقيقة من تلاميذ الشيخ الألباني، ومعلوم أن الاجتهاد في النوازل أمر سائغ. أما إذا اجتهد السلف في مسألة على قولين، ثم انعقد الإجماع بعد هذا الخلاف، فالمعلوم أصولياً أن الإجماع بعد الخلاف يرفعه، يعني: ينزع الخلاف كأن لم يكن. فإذا اختلف السلف في مسألة على قولين، أحدهما قال: يجوز، والآخر قال: لا يجوز، ثم تبين لأهل العلم عدم الجواز، وانعقد إجماع أهل العلم على عدم الجواز، فانعقاد الإجماع بعد الخلاف يجعل الخلاف كأن لم يكن، أي: يرفعه تماماً، وبعد ظهور الحق ومعرفة أن التأويل ليس مذهب السلف لا يحصل ثوابه، بل يأثم من فعل ذلك، خاصة وأن رءوس التأويل رجعوا عن تأويلهم. هذا الأخ يقول: حديث ضباعة يدل على تعجيل الحج. قالت ضباعة: (يا رسول الله! إني أريد الحج ولكني ثقيلة -أو أشتكي- فقال لها: حجي واشترطي)، لم يقل لها: انتظري إلى العام القادم، أو أن الحج على التراخي، وإنما قال لها: (حجي) أي: الآن، فأمره عليه الصلاة والسلام لها بقوله: (حجي) ليس أمراً يدل على الوجوب، إنما هو للإرشاد والتوجيه باتفاق أهل العلم، وإذا كان الحج على الفور لكان أول من حج بعد الفرض هو النبي عليه الصلاة والسلام، ولكنه حج في آخر حياته، وأنتم تعلمون أن حجة الوداع كانت في السنة العاشرة، وقد مات النبي صلى الله عليه وسلم بعد حجه ببضعة أشهر. فالراجح من كلام أهل العلم: أن الحج مفروض على التراخي.

الأسئلة

الأسئلة

حكم من يصلي النافلة أثناء إقامة الصلاة

حكم من يصلي النافلة أثناء إقامة الصلاة Q إذا أقيمت الصلاة وأنا أصلي النافلة هل يكون الخروج من الصلاة بالتسليم أم لا؟ A قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة)، يعني: التي أقيمت الصلاة لأجلها، فإذا كنت تصلي النافلة أو السنة الراتبة وأقيمت الصلاة فاعلم أن هناك خلافاً بين العلماء، فمنهم من يقول: صل ركعتين وإن كنت أحرمت ودخلت في الصلاة بأربع، ومنهم من يقول يخفف الصلاة قدر الإمكان حتى يدرك الركعة الأولى مع الإمام. ومنهم من قال: تبطل الصلاة ولا يحتاج معها إلى تسليم. وحمل النفي هنا على نفي الصحة، فقوله: (فلا صلاة) أي: لا صلاة صحيحة إلا التي أقيم لها، وهي صلاة الإمام. وأحسن الأقوال في ذلك: قولان لابد من اعتبارهما. القول الرابع في المسألة: إذا أقيمت الصلاة فلا شروع في صلاة نافلة، (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة) أي: فلا تشرع في صلاة غيرها، وإذا كنت في صلاة فتعجلها وخففها حتى تلحق بالإمام، هذا إذا كان لحوقك بالإمام في الركعة الأولى، وأما إذا كان يغلب على ظنك أنك لا تدرك الإمام في الركعة الأولى مهما عجلت فينبغي أن تخرج من صلاتك بتسليم أحوط، وشيخنا الألباني عليه رحمة الله يقول: يخرج منها مباشرة بغير تسليم؛ لأن الشيخ يحمل النفي على الإطلاق، يقول: (فلا صلاة) أي: فلا صلاة صحيحة، فإذا فسدت صلاته أو بطلت فما قيمة التسليم حينئذ؟ كالذي يخرج منه الريح وهو في الصلاة هل يسلم؛ لأنه بخروج الريح قد خرج من الصلاة، فما قيمة التسليم حينئذ؟

معنى الحديث الصريح

معنى الحديث الصريح Q لا يجوز الاحتجاج بالدليل إلا إذا كان صحيحاً وصريحاً، فما معنى صريحاً؟ A معنى الصريح: أن الدليل صريح في حل النزاع ليس بعيداً عنه، يعني: صراحة الدليل أنه يحكم القضية نفسها، فلو أنك مثلاً قلت لامرأتك: أنت طالق. فقلت لي هل يقع الطلاق؟ قلت لك: نعم. يقع، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: (من صام رمضان، ثم أتبعه ستاً من شوال فكأنه صام الدهر). فهذا الحديث صحيح، لكنه ليس صريحاً في حل النزاع.

حكم وضع الأموال في بنك فيصل

حكم وضع الأموال في بنك فيصل Q هل يجوز وضع الأموال في بنك فيصل؟ A في الحقيقة إن بنك فيصل وبنك المصرف الإسلامي الدولي بنكان أحسن من غيرهما وإن كان فيهما دخن، فيجوز لك أن تعمل في هذين البنكين مع استغلال الربح هنيئاً مرئياً.

معنى الاضطباع وحكمه

معنى الاضطباع وحكمه Q هل الاضطباع مشروع في طواف القدوم فقط، وما الفرق بين أهل مكة وأهل الحرم؟ A أهل مكة أو أهل الحرم لا يلبسون ملابس الإحرام أصلاً؛ لأنهم يطوفون طواف عبادة وليس طواف نسك، أما أنت فباعتبارك قادماً فإنه يلزمك الإحرام، وإذا لبست الإحرام يلزمك الاضطباع، والاضطباع هو: كشف الكتف الأيمن حين الطواف فقط.

كتاب الحج - بيان وجوه الإحرام الإفراد - القران - التمتع

شرح صحيح مسلم - كتاب الحج - بيان وجوه الإحرام الإفراد - القران - التمتع الحج أحد أركان الإسلام وشعائره العظيمة، وهو ثلاثة أنواع: تمتع وقران وإفراد؛ يهل الحاج بأحدها عند الإحرام، وقد وقع الاختلاف في أي المناسك الثلاثة أفضل منذ عهد الصحابة، كما اختلفوا في حجة النبي صلى الله عليه وسلم هل كانت إفراداً أم قراناً أم تمتعاً؟ وعلى كل حال فالإفراد أكملها، والهدي يجبر النقصان في القران والتمتع.

باب ما جاء أن عرفة كلها موقف

باب ما جاء أن عرفة كلها موقف الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، ثم أما بعد: قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: (باب ما جاء أن عرفة كلها موقف). النبي عليه الصلاة والسلام لاشك أنه وقف في موطن معين من عرفة، ولم يقف في كل عرفة، كما وقف في موطن معين من مزدلفة، ولم يقف في كل مزدلفة، وكذلك وقف ونزل في منى، وقد ضرب له خباء في منى فمكث فيه ثلاثة أيام، ولا شك أن ذلك كان في مكان معين دون بقية أجزائها، والنبي عليه الصلاة والسلام خشي أن يأتي من يتمسك بهذا المكان الذي نزل فيه في عرفة أو في مزدلفة أو في منى ويقول: لا يجزئ الوقوف إلا في المكان الذي وقف فيه النبي عليه الصلاة والسلام، سواء كان ذلك الوقوف في منى أو مزدلفة أو عرفة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام في عرفة: (وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف). وقال في المزدلفة: (وقفت هاهنا وجمع كلها موقف)، ويقال لمزدلفة: جمع. وقال في منى: (ووقفت هاهنا ومنى كلها موقف)؛ ليبين الجواز، وإن كان الأفضل النزول حيث نزل النبي عليه الصلاة والسلام، والوقوف حيث وقف النبي عليه الصلاة والسلام.

حكم الطواف في جميع طوابق المسجد الحرام وسطحه وخارج المسجد

حكم الطواف في جميع طوابق المسجد الحرام وسطحه وخارج المسجد ومن المعلوم أن النبي عليه الصلاة والسلام طاف حول الكعبة مباشرة، واليوم من الناس من يطوف في الدور الثاني أو الثالث أو في السطح أو خارج المسجد الحرام من شدة الزحام، والطواف في هذه الأماكن كلها يجزئ الطائفين، ولكن أفضل الطواف بلا شك هو الطواف في المكان الذي طاف فيه النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن من لم يتمكن من ذلك يجزئه طوافه في غير المكان الذي طاف فيه النبي عليه الصلاة والسلام، وطوافه صحيح بلا شك وبلا خلاف بين أهل العلم، وإن كان الأفضل هو الطواف حيث طاف النبي عليه الصلاة والسلام.

حكم الوقوف في أي مكان من مزدلفة ومنى وعرفة في أيامهن المحدودة

حكم الوقوف في أي مكان من مزدلفة ومنى وعرفة في أيامهن المحدودة أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن ينفي خلافاً ربما يقع فيه طوائف من الأمة فيما بعد، فقال في حديث جابر: [(نحرت هاهنا ومنى كلها منحر)]، أي: ذبحت الهدي في هذا المكان من منى، ولو أراد الذابح أن يذبح في كل بقعة منها شاة لربما ذبح آلاف أو ملايين الشياه، والنبي عليه الصلاة والسلام ما ذبح إلا هديه، ولا يتصور أنه ذبح إلا في بقعة معينة من منى، فخشي عليه الصلاة والسلام أن يتمسك بهذا المكان في النحر والذبح أناس من أمته فقال: (نحرت هاهنا)، أي: في هذا المكان بعينه، (ومنى كلها منحر)، أي: منى كلها صالحة بأن يذبح فيها الهدي، وليس بلازم أن يذبح في نفس المكان الذي ذبح فيه النبي عليه الصلاة والسلام، بل قال: (فانحروا في رحالكم، ومنى كلها منحر)، يعني: من شاء أن ينحر في بيته أو في خيمته أو في خبائه الذي نزل فيه في منى فلينحر، ولا يصح لك أن تضرب خباءك ولا أن تنزل في مكان خارج منى، وإنما تضرب خباءك في منى في أيام منى، وفي مزدلفة في ليلة المزدلفة، وفي عرفة في يوم عرفة وليلتها. فإذا كان الخباء مضروباً خارج هذه البقاع -أي: خارج حدود عرفة أو المزدلفة أو منى- لم يصح مبيتك ولا قيامك في هذا المكان إذا لم تكن قد دخلته في أثناء المدة المأذون فيها من جهة الشرع. قال: [(ووقفت هاهنا وعرفة كلها موقف)]، أي: في هذا المكان من عرفة، (وعرفة كلها موقف). وقال: [(ووقفت هاهنا -أي: في جمع في مزدلفة- وجمع كلها موقف)].

الرمل في الطواف واستلام الحجر الأسود

الرمل في الطواف واستلام الحجر الأسود قال جابر رضي الله عنه: [(إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أتى الحجر فاستلمه)]، أي: لما دخل مكة محرماً بالحج أتى الحجر فاستلمه، أي: فتناوله بيمينه وقبل يمينه، ثم مشى على يمين الحجر، وكان الحجر على شماله. قال: [(فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً)] والرمل: هو الإسراع قليلاً، والسعي الحثيث، وهذا الرمل لا يكون إلا في الثلاثة الأشواط الأولى، وأما الأشواط الأربعة الباقية فيمشي فيها على الأقدام بغير تكلف وبغير إسراع، وإنما يمشي المشي المعتاد. فالسنة أن ترمل في الثلاثة الأشواط الأولى، وتمشي مشياً عادياً في الأربعة الباقية. وفي هذا الحديث: أن السنة للحاج أن يبدأ أول قدومه بطواف القدوم، ويقدمه على كل شيء، وأن يستلم الحجر الأسود في أول طوافه، وقد اختلف أهل العلم هل يسن أن يستلم الحجر أو أن يقبله أو يشير إليه في كل شوط أو يكفي الشوط الأول؟ فالاستلام والتقبيل مسنون في الشوط الأول، ويسن له أن يشير إليه وأن يتوجه إليه بصدره عند محاذاته، وأن يشير إليه بيمينه، ولا يقبل يمينه بعد ذلك في بقية الأشواط.

باب في الوقوف وقوله تعالى: (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس)

باب في الوقوف وقوله تعالى: (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) الباب الحادي والعشرون: باب في الوقوف وقوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة:199]. قال: [قالت عائشة رضي الله عنها: كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة]، أي: لم يكونوا يقفون بعرفة، وهذا في الجاهلية قبل الإسلام. قال: [قالت: وكانوا يسمون الحمس]، أي: من شدة تحمسهم، وكانوا يعتبرون أنهم أنجب العرب وأفضلهم، وأولى بالبيت الحرام من غيرهم. والمزدلفة حرم، وعرفة ليست بحرم، وإنما هي حل، فكانوا يقولون: نحن أولى ببيت الله من بقية العرب، لا يسعنا أن نخرج من دائرة الحرم. ومن أراد من أهل مكة أن يعتمر يلزمه أن يذهب إلى الحل ليحرم من هناك، كما أهلت عائشة من التنعيم؛ لأن التنعيم من الحل وليس من الحرم، ويجوز الإحرام من عرفة، لأن عرفة حل وليست حرماً، وهي من جهة المشرق، ونمرة حل من جهة المغرب، فمن أراد أن يهل بعمرة من أهل مكة وهو بعرفة فله ذلك. وقريش كانت تعتبر أنها أولى الناس ببيت الله الحرام وبالحرم، وكان أهلها يقولون: إذا خرجت العرب إلى الحل -أي: إلى عرفة- فإننا لا نخرج؛ لأننا أولى بالحرم منهم، ولا يجوز لنا أن نخرج عن دائرة الحرم، فكانوا يقفون في حجهم في الجاهلية في مزدلفة؛ لأن المزدلفة حرم. وأما العرب فقد أجمعوا على وجوب الوقوف بعرفة قبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام، وكانت قريش ومن دان دينها يقفون بمزدلفة ويسمون أنفسهم الحمس، فلما جاء الإسلام أمر الله عز وجل نبيه أن يأتي عرفات فيقف بها، ثم يفيض منها في قوله عز وجل: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة:199] أي: ثم انزلوا، وربنا سبحانه وتعالى اختار هذا اللفظ {ثُمَّ أَفِيضُوا} [البقرة:199]، ولم يقل: ثم انزلوا، أو ثم اصدروا، وإنما قال: {ثُمَّ أَفِيضُوا} [البقرة:199]، فشبه ذلك بفيضان الماء وسيلانه الجاري الذي لا يمكن الوقوف في وجهه أو صده؛ لأن العرب كانوا مجمعين على الوقوف بعرفة إلا قريشاً، وقريش إلى العرب نسبة قليلة جداً. فلما جاء النبي عليه الصلاة والسلام بهذا الإسلام أمره ربه أن يفيض من حيث أفاض الناس، أي: من عرفات. والمقصود بالناس: العرب، فأمر الله عز وجل نبيه أن يخالف قومه وعشيرته وأهله في وقوفهم بمزدلفة، وينطلق مباشرة إلى عرفة، ثم إذا دخل الليل وغربت الشمس من اليوم التاسع أن يفيض مع الناس، يعني: أن ينزل من عرفة إلى المزدلفة، والذي ينطلق من منى في يوم عرفة بعد شروق الشمس إلى عرفات يمر بالمزدلفة أو بمحاذاتها على حسب الطريق الذي يسلكه؛ لأن الطرق ما بين منى إلى عرفة ومن عرفة إلى مزدلفة ومن مزدلفة إلى منى طرق كثيرة، فهناك طرق تمر بأرض المزدلفة، وطرق تحاذيها من الخارج. والنبي عليه الصلاة والسلام بات بمنى في يوم التروية، ثم صلى الفجر وجلس في مصلاه حتى أشرقت الشمس، ثم انطلق عليه الصلاة والسلام وقريش كلها تنظر إليه وتحسب أنه سينزل في المزدلفة؛ لأنها موقف قومه، وظنوا أن محمداً لن يخالفهم في ذلك، وأن العرب ستحرج إحراجاً شديداً في هذا اليوم، فمر النبي عليه الصلاة والسلام بالمزدلفة ولم يقف فيها ووقف بعرفة، ثم نزل من آخر يومه فصلى المغرب والعشاء جمع تأخير في المزدلفة عند المشعر الحرام، ومزدلفة كلها موقف، وإن كان الأولى النزول عند المشعر الحرام، ويصلي فيها المغرب والعشاء جمع تأخير. قال: [قالت: وكان سائر العرب يقفون بعرفة، فلما جاء الإسلام أمر الله عز وجل نبيه أن يأتي عرفات فيقف بها ثم يفيض منها، فذلك قوله عز وجل: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة:199]]. قال: [وعن هشام بن عروة عن أبيه قال: كانت العرب تطوف بالبيت عراة إلا الحمس]، يعني: إلا قريشاً، فقد كانوا يطوفون وعليهم ملابسهم. قال: [إلا الحمس -والحمس قريش وما ولدت- كانوا يطوفون عراة إلا أن تعطيهم الحمس ثياباً، فيعطي الرجال الرجال والنساء النساء]. وقريش كان لها فضل عظيم جداً في الجاهلية في الحفاظ على كرامة البيت وشرفه، وكانوا يعطون من ملابسهم للعرب الذين يأتون يطوفون بالبيت عراة، فكان الرجل من قريش أو من الحمس يعطي الرجل من العرب، والمرأة من قريش تعطي المرأة من العرب، حتى يطوف الجميع مستورين. قال: وكانت الحمس لا يخرجون من المزدلفة -أي: يقفون بها- وكان الناس كلهم يبلغون عرفات -أي: العرب-. قال: [قال هشام: فحدثني أبي عن عائشة رضي الله عنها قالت: الحمس هم الذين أنزل الله عز وجل فيهم: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة:199]. قالت: كان الناس يفيضون من عرفات، وكان الحمس يفيضون من المزدلفة، يقولون: لا نفيض إلا من الحرم. فلما نزلت: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة:199]، رجعوا إلى عرفات]، أي: رجع الحمس وقريش وأفاضوا مع الناس من عرفات.

مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم لقومه قبل البعثة في وقوفهم بالمزدلفة ووقوفه بعرفة

مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم لقومه قبل البعثة في وقوفهم بالمزدلفة ووقوفه بعرفة قال: [وعن جبير بن مطعم قال: أضللت بعيراً لي -أي: ضل بعيري- فذهبت أطلبه يوم عرفة، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفاً مع الناس بعرفة، فقلت: والله إن هذا لمن الحمس] يعني: النبي صلى الله عليه وسلم من الحمس من قريش فلماذا يقف في عرفة؟ وجبير بن مطعم كان كافراً في ذلك الوقت لم يسلم بعد، ولكنه كان في عرفة في ذلك اليوم، وهو من العرب. فتعجب أشد التعجب كيف يقف محمد بعرفة مع أنه من الحمس، والحمس لا يقفون بعرفات وإنما يقفون بالمزدلفة. قال: [فقلت: والله إن هذا لمن الحمس، فما شأنه هاهنا؟ أي: لماذا أتى إلى هنا؟ ولماذا يخالف قومه؟ قال: وكانت قريش تعد من الحمس]. والنبي عليه الصلاة والسلام حج في الإسلام حجة واحدة، وهذا الموقف من جبير بن مطعم كان قبل الإسلام، وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحج قبل الإسلام على ملة إبراهيم. وكان يخالف قومه في الجاهلية في الوقوف بمزدلفة، حتى أثار ذلك تعجب جبير بن مطعم.

معرفة العرب للحج في زمن إبراهيم عليه السلام

معرفة العرب للحج في زمن إبراهيم عليه السلام وقد كانت العرب تحج قبل الإسلام، وكان الحج عبادة معروفة من زمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فهو ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام. والله عز وجل قال أول ما قال في الحج لإبراهيم: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا} [الحج:27]. فالحج عبادة قديمة معروفة في ملة إبراهيم، والنبي عليه الصلاة والسلام كان من أتبع الناس قبل البعثة لملة أبيه إبراهيم، وكان على ملة إبراهيم عليه السلام.

باب في نسخ التحلل من الإحرام والأمر بالتمام

باب في نسخ التحلل من الإحرام والأمر بالتمام الباب الثاني والعشرون: في نسخ التحلل من الإحرام والأمر بالتمام. قال تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196]، يعني: كلاهما معاً بملبس واحد وإحرام واحد. قال: [قال أبو موسى الأشعري: (قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منيخ بالبطحاء -يعني: قد أناخ بعيره في البطحاء- فقال لي: أحججت؟ فقلت: نعم -يعني: أهللت بالحج؟ فقلت: نعم- قال: بم أهللت؟ قال: قلت: لبيك بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم)]. وأبو موسى الأشعري كان قد جاء من اليمن، والأشعريون يمنيون في الأصل، فـ أبو موسى الأشعري أصله من اليمن. واليمن من الجزيرة العربية، والاستعمار هو الذي فرق البلاد الإسلامية ووضع الحدود بين بلدانها، فهذه اليمن، وهذه الحجاز، وهذه مصر، وتلك ليبيا وغير ذلك، وكل هذه التسميات أو الحدود التي فرقت بين هذه المسميات ما أنزل الله بها من سلطان، والأصل أن الأرض كلها ملك لكل مسلم إلا ما حذر منه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، والذي حذر منه الله تعالى ورسوله هي بلاد الكفر وبلاد الحرب، وقد أخرج أبو داود أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (أنا بريء ممن أقام بين ظهراني المشركين والكافرين). وأما بلاد المسلمين فهي ملك لكل أحد من المسلمين. وأرض الحجاز لا يحل أن يبقى فيها ولا أن ينزلها رجل من الكافرين؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يجتمع في أرض الجزيرة العربية دينان قط). وأرض الجزيرة تشمل بلاد الحجاز كلها. وفي رواية: (أهل ملتين أبداً)، يعني: لا يجتمع فيها أبداً مسلم مع غيره، بل لابد من وجود المسلم دون غيره، وأما اليهود والنصارى وعبدة الأوثان فلابد من إخراجهم من جزيرة العرب. والسياسة العالمية الآن تمنعهم من دخول مكة والمدينة فقط، ولما دخل هؤلاء الكفار بلاد الخليج والحجاز قال الشيخ الألباني محذراً: إن هؤلاء لا يخرجون حتى يأخذوا خيبر؛ لأنهم قد طردوا منها، فقد طردهم منها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والنبي عليه الصلاة والسلام كان قد فرض عليهم الجزية واستمر دفعهم للجزية في زمن أبي بكر، ثم أجلاهم عمر رضي الله عنه عن خيبر. وهم لم ينسوا أن هذه أرضهم، ويعتقدون بأنهم سيرجعون إليها، وهم أصحاب الشعار من النيل إلى الفرات، ولهم شعار جديد الآن وهو تلك الكرة الدائرية التي تقضي بأن العالم ملك لليهود، ويصورون الكرة الأرضية ويضعون عليها نجمة داود، أي: أن نجمة داود لابد أن تسود بلاد العالم، فأحفاد القردة والخنازير يتصورون أنهم أسياد العالم جميعاً، وأن العالم لابد أن يحكم بسياسة غربية، وإن كان هذا الواقع اليوم، ولكن هذا ليس بفعل اليهود بالدرجة الأولى، وإنما هو بفعل أذناب اليهود هنا وهناك. (قال: قلت: لبيك بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم)، وهذا يدل على أنه يجوز الإهلال بإهلال شخص آخر، وإن لم يعلم أنه أهل بشيء معين، فيجوز لك أن تقول: لبيك اللهم بإهلال كإهلال زيد أو عمر أو حسن أو إبراهيم أو سعد وأنت لا تدري بماذا أهل هؤلاء، أو بماذا أهل من اقتديت به في إهلالك، وهذا هو الإهلال المطلق، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (فقد أحسنت). فالعبرة ليست في إهلال أبي موسى الأشعري، وإنما في إقرار النبي عليه الصلاة والسلام لإهلاله. ثم أمره النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (طف بالبيت وبالصفا والمروة وأحل)، أي: طف بالبيت الذي هو طواف القدوم وهو كذلك طواف العمرة. ولما قال له: (وأحل) دل على أنه كان متمتعاً؛ لأن القارن لا يتحلل بعد أداء العمرة، وإنما يبقى في ملابس إحرامه حتى يخرج يوم التروية إلى منى، ولا يتحلل إلا في يوم النحر. قال: [(فطفت بالبيت وبالصفا والمروة، ثم أتيت امرأة من بني قيس ففلت رأسي)]. يعني: غسلت رأسه ومشطته وسرحته، وهذه المرأة من بني قيس قريبة له، أو هي من محارمه، وبنو قيس هم أهل أبي موسى، واسم أبي موسى الأشعري عبد الله بن قيس الأشعري. قال: [(ثم أهللت بالحج)]، يعني: بعد أن تحلل وأتى هذه المرأة ففعلت به ما فعلت. جدد الإهلال في يوم التروية، الذي هو اليوم الثامن من ذي الحجة. قال: [(فكنت أفتي به الناس -يعني: كان يفتي الناس بجواز التمتع من العمرة إلى الحج- حتى كان في خلافة عمر رضي الله عنه، فقال له رجل: يا أبا موسى! أو يا عبد الله بن قيس! رويدك بعض فتياك -يعني: انتبه يا أبا موسى الأشعري فإنك تفتي على غير ما يفتي به أمير المؤمنين- فإنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النسك بعدك، فقال -أي أبو موسى الأشعري -: يا أيها الناس! من كنا أفت

نهي عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما عن حج التمتع وحجتهما في ذلك

نهي عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما عن حج التمتع وحجتهما في ذلك قال: [قال: أبو موسى: (قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منيخ بالبطحاء، فقال: بم أهللت؟ قال: قلت: أهللت بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم، قال: هل سقت من هدي؟ قلت: لا)]، والحديث الأول ليس فيه: (هل سقت من هدي؟) لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما أهل ساق الهدي معه من الميقات. فالنبي عليه الصلاة والسلام لما أهل أهل قارناً، ودخل مكة محرماً قارناً بين الحج والعمرة لما ساق معه الهدي، وأما أبو موسى الأشعري وكذلك علي بن أبي طالب فلم يكن عندهما علم أن النبي صلى الله عليه وسلم ساق الهدي أو لم يسقه، وهذا فارق جوهري بين القارن والمتمتع، فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الإهلال، فمن الخير والبركة أن يهل بإهلال النبي عليه الصلاة والسلام، لكن لما لم يسق الهدي كان له فسخ الحج عن العمرة، فيحرم بالعمرة أولاً، ثم يهل بالحج يوم التروية؛ لأنه لم يسق الهدي. قال: [(فطف بالبيت وبالصفا والمروة ثم حل، فطفت بالبيت وبالصفا والمروة، ثم أتيت امرأة من قومي فمشطتني وغسلت رأسي، فكنت أفتي الناس بذلك في إمارة أبي بكر وإمارة عمر، فإني لقائم بالموسم)] أي: أنه كان قائماً في الموسم يفتي الناس، وهذه السنة ما زالت قائمة إلى الآن في منى ومكة وعرفة ومزدلفة، فهناك المشايخ والعلماء وطلاب العلم من الجامعة الإسلامية ومن جامعة ابن سعود وغيرهما يأخذون التراخيص بالإفتاء في موسم الحج بعد اختبارهم في أحكام الحج والعمرة، فإذا كانوا متقنين لهذه الأحكام صدروهم لإفتاء الناس وتعليم الناس مناسك الحج والعمرة؛ لأن الناس هناك يتخبطون تخبطاً عظيماً جداً، فتجد الزحام عليهم شديداً، وهؤلاء يقفون بالليل والنهار للتصدي لإفتاء الناس. قال: [(فإني لقائم بالموسم إذ جاءني رجل فقال: إنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في شأن النسك، فقلت: أيها الناس! من كنا أفتيناه بشيء فليتئد، فهذا أمير المؤمنين قادم عليكم فبه فائتموا، فلما قدم قلت: يا أمير المؤمنين! ما هذا الذي أحدثته في شأن النسك؟ قال: إن نأخذ بكتاب الله فإن الله عز وجل قال: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196]، وإن نأخذ بسنة نبينا صلى الله عليه وسلم فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحل حتى نحر الهدي)] وكلاهما محق، فـ عمر محق في قوله: إن أحسن الأنساك القران؛ لأنه المذكور في القرآن، وهو الذي فعله النبي عليه الصلاة والسلام، وأبو موسى الأشعري محق في قوله: التمتع جائز؛ لأنه إن لم يكن جائزاً ومجزئاً لصاحبه وفاعله لما أجازه النبي عليه الصلاة والسلام ولما أمره بذلك عندما لم يسق الهدي. قال: [قال أبو موسى الأشعري: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني إلى اليمن، قال: فوافقته في العام الذي حج فيه)]، يعني: جاء من اليمن في العام الذي جاء فيه النبي عليه الصلاة والسلام من المدينة، فهذا مر بيلملم وذاك مر بذي الحليفة، فالتقيا في البطحاء، أي: بطحاء مكة. قال: [(فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا موسى! كيف قلت حين أحرمت؟ قال: قلت: لبيك إهلالاً كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: هل سقت هدياً؟ فقلت: لا، قال: فانطلق فطف بالبيت وبين الصفا والمروة ثم أحل)] ثم ساق الحديث بمثل ما سبق. قال: [وعن أبي موسى الأشعري أنه كان يفتي بالمتعة -أي: التمتع بالعمرة إلى الحج، وليست متعة النساء- فقال له رجل: رويدك ببعض فتياك، فإنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النسك بعد، حتى لقيه بعد فسأله، فقال عمر: قد علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فعله وأصحابه)]، أي: قد قاله وأمر به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتمتع وإنما كان قارناً، فـ عمر بن الخطاب يقول: إن النبي عليه الصلاة والسلام قد فعله، ومعلوم في كلام العرب أنه ينسب الفعل إلى الرجل وإن لم يفعله إن كان أمر به، كما يقال: انتصر النبي عليه الصلاة والسلام في غزوة بدر، وإن كان الذي باشر النصر هم أصحابه رضي الله عنهم أجمعين. قال: [(ولكن كرهت أن يظلوا معرسين بهن في الأراك، ثم يروحون في الحج تقطر رءوسهم)]. وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان فقط من الصحابة كان مذهبهما كراهة التمتع، والعلة في ذلك أن الحاج لم يأت من بلده ليتمتع هنا، بل أول ما يدخل مكة يلبس كلباس الميت، فيلبس الإزار والرداء إلى أن يتحلل من منسكه. ولما ذكر الإمام مسلم كراهة عمر بن الخطاب رضي الله عنه للتمتع واستحبابه وتفضيله للقران عليه أردف ذلك مباشرة بباب جواز التمتع؛ لأن جمهور الصحابة على جواز التمتع.

باب جواز التمتع

باب جواز التمتع باب جواز التمتع. قال: [قال عبد الله بن شقيق: كان عثمان ينهى عن المتعة، وكان علي يأمر بها]، وإذا أجمع الخلفاء الراشدون على أمر فإنه كالنص القطعي؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء). يقول ابن رجب الحنبلي: إذا أجمع الخلفاء الأربعة على أمر فكان كالنص من كتاب الله أو من سنة النبي عليه الصلاة والسلام، يعني: له نفس الحجية والقوة. قال: (فقال عثمان لـ علي كلمة -أي: أنه كان يراجع علياً في قضية التمتع والقران- ثم قال علي: لقد علمت أنا قد تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: ولو كان التمتع لا يجزئ لنهانا عنه النبي عليه الصلاة والسلام- فقال: أجل، ولكنا كنا خائفين)]. قال: [وعن سعيد بن المسيب قال: اجتمع علي وعثمان رضي الله عنهما بعسفان، فكان عثمان ينهى عن المتعة أو العمرة، فقال علي: ما تريد إلى أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم تنهى عنه؟ فقال عثمان: دعنا منك -يعني: اترك رأيك هذا- فقال: إني لا أستطيع أن أدعك، فلما أن رأى علي ذلك أهل بهما جميعاً]، أي: أهل بالحج والعمرة قراناً، يعني: في وقت واحد وبإحرام وإهلال واحد نزولاً على رأي عثمان، وهو أفضل من علي. وهذا فيه الأدب الشديد من علي بن أبي طالب، فرغم اعتقاده أن التمتع جائز لكنه وافق عثمان في القضية، ولو قرن علي بن أبي طالب بين الحج والعمرة فهذا لا يخالف ما عنده؛ لأن علياً يقول بالقران كذلك، ويقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم حج قارناً، ولكنه يزيد على عثمان باستحباب التمتع، والقول باستحباب التمتع يلزم منه استحباب القران.

أدب الصحابة في الخلاف وحال المسلمين اليوم

أدب الصحابة في الخلاف وحال المسلمين اليوم إذاً: علي، وعثمان رضي الله عنهما متفقان في استحباب القران، واتباع المتفق عليه خير من المختلف فيه، يعني: أن عثمان وعلياً متفقان على القران، ولكن عثمان ينهى عن التمتع، ويقول: إنا قد تمتعنا لعلة من العلل، وهو كلام غير سديد، ولكن عنده شبهة في هذه القضية، فقد قال: تمتعنا لأنا كنا خائفين، ولكن هذا كان في عمرة القضاء، وكانت عمرة وليست حجاً، ولم يكونوا خائفين، وهذا بيان لأصل عظيم جداً من أصول الأدب في طلب العلم، وهو أن اتباع المتفق عليه خير من المختلف فيه ما دمنا متفقين في قضية ومختلفين في أخرى.

قول عثمان بإتمام الصلاة في منى ومخالفة ابن مسعود له في ذلك

قول عثمان بإتمام الصلاة في منى ومخالفة ابن مسعود له في ذلك واتباع المتفق عليه خير من المخالفة، والصلاة في مسجد الخيف بمنى السنة فيها القصر حتى لأهل مكة، ومنى حرم، يعني: أنها داخلة في أرض الحرم، فإذا أتى رجل من أهل الحرم وحج وصلى مع الإمام أو منفرداً في مسجد الخيف ثلاثة أيام التشريق أو يوم التروية سن له أن يصلي الظهر ركعتين، والعصر ركعتين، والعشاء ركعتين، وعثمان بن عفان لم يفعل ذلك وإنما صلى تماماً، فصلى الرباعية أربعاً. والنبي صلى الله عليه وسلم وهو من أهل مكة صلى في منى قصراً، وكذلك صلى من بعده أبو بكر، ومن بعده عمر، وهذه سنة عملية تكررت في كل عام، ولا يتصور أن تخفى على عثمان خاصة مع انتشار الحج وكثرة الحجيج، ولكن عثمان لما صار أميراً للمؤمنين حج بالناس وصلى الرباعية أربعاً، وصلى خلفه عبد الله بن مسعود -وهو سادس ستة في الإسلام- يعني: أنه كان من كبار الصحابة وفقهائهم ومحدثيهم، وكان يخالف عثمان في ذلك، فلما كلموه في ذلك وقالوا: يا أبا عبد الرحمن! أليست السنة أن نصلي الظهر والعصر والعشاء اثنتين؟ فقال: بلى، قالوا: ولم صليت خلف عثمان أربعاً؟ قال: لأن الخلاف شر، وإن الصلاة مجزئة، ومعنى ذلك: أننا وعثمان متفقون في الإجزاء، ولو صليت وحدي لحدثت فتنة في الحج. يعني: لو أن الشيطان أدخل بينهم الخلاف فلربما قتلوا أنفسهم في هذه الطاعة، فـ عثمان لما صلى بالناس أربعاً وافقه المخالفون له عملياً بالصلاة خلفه. ونحن لما اعتمرنا في عام من الأعوام مع شيخنا الألباني عليه رحمة الله أراد أن يصلي ركعتين في وادي عرنة، ووادي عرنة عند جماهير العلماء ليس من عرفة إلا مالكاً فإنه يقول: وادي عرنة من عرفة، والنبي عليه الصلاة والسلام لما قدم إلى هذا الوادي صلى فيه ركعتين، ثم وقف في عرفة، وهذا الوادي هو مقدم مسجد نمرة الذي فيه المنبر الذي يصعد عليه الخطيب في يوم عرفة ويخطب الناس. والوادي الذي صلى فيه النبي عليه الصلاة والسلام قبل المنبر مباشرة، يعني: قبل جدار المسجد. ونمرة طويل جداً كما أنه عريض، والثلث الأول من المسجد الذي فيه المنبر هو في وادي عرنة أو على مشارف عرنة، فالذي يصلي في ثلث المسجد الأول فكأنه صلى في وادي عرنة، والذي يصلي خارج المسجد فكذلك يصلي في وادي عرنة. فاختلفنا فمنا من قال: نصلي في الوادي نفسه ولا ندخل المسجد، ومنا من قال: بل ندخل المسجد فثلث المسجد في الوادي، والذي يصلي في الثلث الأول فكأنه صلى في الوادي، يعني: أننا متفقون على أن الثلث الأول من الوادي، فلو أننا صلينا معهم فنحن متفقون، وهذا هو الأكمل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل الركعتين في المسجد وإنما صلاهما في الوادي. فتمسك أناس بأن الثلث الأول من المسجد من وادي عرنة ولابد من الصلاة في المسجد، فافترقنا وقلوبنا متغيرة، وكل واحد مخالف لأخيه وحاقد عليه، وصارت خصومات في الشام استمرت سنوات. ولما نأتي نعرض موقفنا هذا على موقف عثمان وعلي رضي الله عنهما، أو على موقف أبي موسى الأشعري وعمر بن الخطاب نجدنا أننا لسنا متفقين أبداً، ولا ننفع في شيء أبداً. وقد أصل بعض أهل العلم أننا نعمل سوياً ونتحد فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه. وهذا كلام جميل جداً ويشهد له القرآن والسنة وفعل السلف، ولكنه يحتاج إلى ضبط، وضبطه أننا نعمل سوياً فيما اتفقنا عليه؛ لأنه لا خلاف حينئذ، ولكن الذي اختلفنا فيه لا يعذر بعضنا بعضاً فيه مطلقاً، فمن الخلاف ما يمكن أن يعذر فيه صاحبه، ومنه ما لا يمكن أن يعذر صاحبه، فالذي يختلف معي في أصل الدين ويقول: إن أبا بكر وعمر هما الجبت والطاغوت أختلف معه ولا أعذره. فالجملة الأخيرة جملة مطاطة تحتاج إلى ضبط، والصحيح أن نقول: يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه إذا كان هذا الأمر المختلف فيه قد اختلف فيه سلفنا رضي الله عنهم، يعني: إذا كان الخلاف في المسألة معتبراً. وأما إذا كانت المسألة في أصول الدين وأصول الاعتقاد فلا يمكن أبداً العذر فيها. وعثمان وعلي توافقا في أمر شرعي، وفي مكان محرم فاتفقا حتى لا تحدث فتنة بين الأتباع. واليوم لا أحد يعرف تمتع أو قران، وإنما يذهبون إلى مكة لابسين ملابس الإحرام.

جواز حج التمتع

جواز حج التمتع قال: [وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة]. قال: [وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: كانت لنا رخصة، يعني: المتعة في الحج]. قال: [وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: لا تصلح المتعتان إلا لنا خاصة، يعني: متعة الحج ومتعة النساء]. وقد كانت متعة النساء حلالاً لأصحابه عليه الصلاة والسلام ثم حرمت ثم أبيحت ثم حرمت إلى الأبد. فقد حرمت في عصر النبوة، فكانت خاصة بالصحابة. وأما متعة الحج فقد اختلف فيها الصحابة، ثم انعقد الإجماع على جواز الإفراد والتمتع والقران، والقاعدة الأصولية تقول: الإجماع بعد الخلاف يرفع الخلاف، يعني: يجعله كأن لم يكن. فبعض الصحابة أنكر التمتع وكرهه، وجمهورهم على جواز التمتع والقران، ثم من أتى بعدهم من التابعين وأتباعهم والأئمة المتبوعين والفقهاء أجمعوا على جواز الأقسام الثلاثة للحج.

اختلاف العلماء في أفضل أقسام الحج الثلاثة

اختلاف العلماء في أفضل أقسام الحج الثلاثة وقع الخلاف في أي هذه المناسك أفضل؟ فالخلاف واقع في الأفضلية. وحجة النبي صلى الله عليه وسلم كان فيها المفرد وفيها القارن وفيها المتمتع، ولم ينكر على واحد منهم. فالذي تمتع في زمنه وفي حجته عليه الصلاة والسلام معه ولم ينكر عليه كان بمثابة تمتع النبي صلى الله عليه وسلم نفسه؛ لأنه أقره، وهذه سنة تقريرية، وقد استدل من قال: إن القران أفضل بأنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي)، يعني: لو كنت أعرف أن التمتع أفضل لما كنت أتيت بالهدي معي. وهذه القضية لها تشريعات عظيمة جداً، وهي مرتبطة بالإجماع، وهل هو حجة أم لا؟ وما يدرينا أن هذا الإجماع واقع؟ وكما يقول أحمد بن حنبل: من ادعى الإجماع فقد كذب، وما يدريك أن فلاناً خالف، يعني: ما يدريك وأنت في المشرق أن فلاناً في المغرب قد خالف، فكيف تزعم الإجماع؟ ثم ما المراد بالإجماع، هل هو إجماع الصحابة أم إجماع أهل كل عصر؟ المسألة محل نزاع كبير جداً بين أهل العلم على ثلاثة مذاهب أو أكثر من ذلك، وكل له أدلته، وهذه المسألة بحثها في أصول الفقه.

الأدلة على جواز حج التمتع

الأدلة على جواز حج التمتع قال: [قال ابن أبي الشعثاء: أتيت إبراهيم النخعي وإبراهيم التيمي، فقلت: إني أهم أن أجمع العمرة والحج في هذا العام -يعني: أحج وأعتمر هذا العام- فقال إبراهيم النخعي: لكن أباك لم يكن ليهم بذلك أي: إن أباك ما كان ليعمل هكذا- قال قتيبة حدثنا جرير عن بيان عن إبراهيم التيمي عن أبيه أنه مر بـ أبي ذر رضي الله عنه بالربذة فذكر له ذلك فقال: إنما كانت لنا خاصة دونكم]. قال: [وعن غنيم بن قيس قال: سألت سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن المتعة فقال: فعلناها وهذا يومئذ كافر بالعرش، يعني: بيوت مكة]، يعني: لقد تمتعنا في عام من الأعوام، وكان في ذلك الوقت معاوية بن أبي سفيان كافراً لم يسلم، فهو يقول: معاوية ينكر التمتع لأنه لا يعرف أنه جائز، وكنا نحن تمتعنا وهو ما يزال كافراً وكان جالساً في بيوت مكة لم يسلم، فـ معاوية أسلم عام الفتح سنة ثمان، وسعد بن أبي وقاص حج في العام السادس من الهجرة، يعني: قبل إسلام معاوية بسنتين، وحج متمتعاً. والعرش: بيوت مكة، وسميت بالعرش؛ لأنهم كانوا يعرشونها بجريد الأراك أو بجريد النخل. قال: [قال مطرف بن عبد الله بن الشخير: قال لي عمران بن حصين: (إني لأحدثك بالحديث اليوم ينفعك الله به بعد اليوم -يعني: سأحدثك حديثاً اليوم وسينفعك الله عز وجل به بعد ذلك- واعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعمر طائفة من أهله في العشر -يعني: أمرهم بأن يؤدوا العمرة في العشر الأوائل من ذي الحجة- قال: فلم تنزل آية تنسخ ذلك ولم ينه عنه حتى مضى لوجهه، ارتأى كل امرئ بعد ما شاء أن يرتئي). يقول له: إن النبي عليه الصلاة والسلام في زمانه أمر قومه أو طائفة من قومه أن يعتمروا في العشر الأوائل من ذي الحجة -يعني: في الشهر الحرام- ومعنى ذلك: أنهم بعد أداء عمرتهم يتحللون ويهلون في يوم التروية بالحج وينطلقون إلى منى، ثم لم ينهه ربه عن المتعة، ولم ينزل قرآن ينسخ هذا الحكم، فكانت المتعة باقية وجائزة، وكان عليها النبي عليه الصلاة والسلام إلى أن مات، ولما مات جاء كل واحد ينظر إلى شيء، وهو هنا يعرض بسيدنا عمر. وقد كان الصحابة جبالاً في الأدب، ولا يمكن أن يظهر رجل في الأمة مثل أدنى صحابي في الأدب والوقار والعدالة وغير ذلك، ومع ذلك كان الحق أحب إليه، وعمر بن الخطاب أفضل من ملء الأرض من مثل عمران بن حصين، فهو أفضل الأمة في زمانه. قال: [عن مطرف قال: قال لي عمران بن حصين: (أحدثك حديثاً عسى الله أن ينفعك به، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين حجة وعمرة، ثم لم ينه عنه حتى مات، ولم ينزل فيه قرآن يحرمه، وقد كان يسلم علي حتى اكتويت فتركت، ثم تركت الكي فعاد). وهذه منقبتان لـ عمران بن حصين، الأولى: أنه أدرك التمتع مع النبي عليه الصلاة والسلام، والثانية: أن عمران بن حصين كانت الملائكة تسلم عليه خاصة حتى أصيب بداء فبادر بالكي، وآخر الدواء الكي وليس أوله، فلما اكتوى ولم يصبر على الأذى أو على المرض أو على التداوي فترة طويلة أو غير ذلك وبادر المرض بالكي انصرفت عنه الملائكة فلم تسلم عليه بعد ذلك، حتى تاب من ذلك ورجع إلى ترك الكي، فرجعت الملائكة تسلم عليه، وكان عمران يقول لـ مطرف: لا تحدث عني وأنا حي، أو حدث عني بواحدة واكتم عني الثانية، يعني: حدث عني بمسألة جواز التمتع، ولكن لا تحدث عني وأنا حي بتسليم الملائكة علي. فـ عمران كان يخشى على نفسه الفتنة، وعلى الناس من أن يفتتنوا به، فقال: واكتم عني هذه ما دمت حياً، فإذا مت وأردت أن تحدث عني فافعل. قال: [قال مطرف: (بعث إلي عمران بن حصين في مرضه الذي توفي فيه، فقال: إني كنت محدثك بأحاديث لعل الله أن ينفعك بها بعدي، فإن عشت فاكتم عني -يعني: إذا أنا شفيت من هذا المرض فاكتم عني- وإن مت فحدث بها إن شئت، إنه قد سلم علي، واعلم أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قد جمع بين حج وعمرة، ثم لم ينزل فيها كتاب الله -أي بنسخ- ولم ينه عنها نبي الله صلى الله عليه وسلم، قال رجل فيها برأيه ما شاء)]. قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: (وأحاديث الباب متضافرة على جواز إفراد الحج عن العمرة، وجواز التمتع والقران، ولقد أجمع العلماء على جواز الأنواع الثلاثة).

معنى الإفراد والتمتع والقران في الحج

معنى الإفراد والتمتع والقران في الحج والإفراد هو: أن يحرم بالحج في أشهره ويفرغ منه ثم يعتمر، يعني: له أن يعتمر بعد الحج. ومن أراد أن يعتمر قبل الحج، فلا بد أن يكون قارناً أو متمتعاً. فالإفراد: أن تهل من الميقات بالحج مفرداً، ثم إذا أردت أن تعتمر بعد الحج فلك ذلك. والتمتع: أن تحرم بالعمرة في أشهر الحج وتفرغ من العمرة ثم تحج من عامك. ففي التمتع يقول الحاج في الميقات: لبيك اللهم عمرة، ثم يدخل مكة فيطوف ويسعى ويقصر شعره ويحل ويبقى في مكة حتى يوم التروية، فإذا كان يوم التروية لبس ملابس الإحرام من جديد ثم يقول وهو خارج من سكنه أو من الحرم أو من أي مكان في مكة متوجهاً إلى منى: لبيك اللهم حجة. وأما القران فهو أن يحرم بهما جميعاً، يعني: يقول لبيك اللهم عمرة وحجاً، وكذا لو أحرم بالعمرة ثم أحرم بالحج قبل طوافها صح وصار قارناً.

أدلة تفضيل الإفراد على بقية أنواع الحج

أدلة تفضيل الإفراد على بقية أنواع الحج قال النووي رحمه الله تعالى: (واختلف العلماء في أي هذه الأنواع الثلاثة أفضل؟ فقال الشافعي ومالك وكثيرون: أفضلها الإفراد ثم التمتع ثم القران). واحتج الشافعي وأصحابه في ترجيح الإفراد بأنه صح ذلك من رواية جابر، وابن عمر، وابن عباس، وعائشة، قال الشافعي: وهؤلاء لهم مزية في حجة الوداع على غيرهم، فـ جابر أحسن الصحابة سياقاً لرواية حديث حجة الوداع، وهو أضبط له من غيره، وابن عمر صح أنه كان آخذاً بخطام ناقة النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع، وأنكر على من رجح قول أنس على قوله، وقال: كان أنس يدخل على النساء وهن مكشفات الرءوس، وإني كنت تحت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم يمسني لعابها، أسمعه يلبي بالحج، وعائشة هذه من أقرب المقربين إلى النبي عليه الصلاة والسلام مع كثرة فقهها وعظم فطنتها، وابن عباس محله من العلم والفقه في الدين والفهم الثابت معروف، مع كثرة بحثه وحفظه أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم التي لم يحفظها غيره وأخذه إياها من كبار الصحابة، ومن دلائل ترجيح الإفراد: أن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم أفردوا الحج وواظبوا على إفراده، فقد أفرد أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم الحج، واختلف فعل علي فمرة أفرد ومرة قرن ومرة تمتع، وهم لم يواظبوا عليه إلا بعد أن علموا أنه أفضل، وأن النبي صلى الله عليه وسلم حج مفرداً، وهم الأئمة الأعلام وقادة الإسلام المقتدى بهم في عصرهم وبعدهم، فكيف يليق بهم المواظبة على خلاف فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وأما الخلاف عن علي رضي الله تعالى عنه وغيره فإنما فعلوه لبيان الجواز. قالوا: ومما يميز الإفراد عن التمتع والقران: أن الإفراد لا يجب فيه دم بالإجماع؛ وذلك لكماله وتمامه، ويجب الدم في التمتع والقران، وهو دم جبران، يعني: يسد الخلل والنقص الذي حصل، فمثلاً المتمتع لما أتى إلى الميقات لم يهل بحج وعمرة، وإنما أهل بعمرة، ثم أهل من مكة بالحج ولم يرجع مرة أخرى إلى الميقات مع أنه غير مطالب به، فقالوا: يصير هذا خللاً؛ لأن الأصل في الإهلال بالنسك أن يكون من الميقات، فتجاوز الشارع عن المتمتع في إهلاله بالحج من بيوت مكة أو من الحرم مقابل أن يقدم شاة أو أن يذبح هدياً. ومنها: أن الأمة أجمعت على جواز الإفراد من غير كراهة، وأما التمتع فقد كرهه عمر وعثمان وغيرهما، ومن المعلوم أن ما أجمع عليه الصحابة خير مما كرهه بعضهم، فكان الإفراد أفضل.

الجمع بين اختلاف روايات الصحابة في صفة حجته صلى الله عليه وسلم

الجمع بين اختلاف روايات الصحابة في صفة حجته صلى الله عليه وسلم فإن قيل: كيف وقع الاختلاف بين الصحابة رضي الله عنهم في صفة حجته وهي حجة واحدة، وكل واحد منهم يخبر عما شاهده وهي قضية واحدة؟ قال القاضي عياض: قد أكثر الناس الكلام على هذه الأحاديث، فمن مجيد منصف، ومن مقصر متكلف، ومن مطيل مكثر، ومن مقتصر مختصر. قال النووي رحمه الله: وأوسعهم في ذلك نفساً الطحاوي، وأبو جعفر الطبري، والقاضي أبو عبد الله بن المرابط، والقصار، وابن عبد البر وغيرهم، قال القاضي: أولى هذه الأقوال: أن النبي عليه الصلاة والسلام أباح للناس فعل هذه الأنواع الثلاثة؛ ليدل على جواز جميعها، فالذي أفرد الحج قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم مفرداً؛ لأنه أمره بالإفراد، والذي حج قارناً قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم قارناً؛ لأنه أمره بالقران، والذي حج متمتعاً قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم متمتعاً؛ لأنه أمره بالتمتع. قال: وأما إحرامه صلى الله عليه وسلم بنفسه فأخذ بالأفضل، فأحرم مفرداً للحج، وبه تظاهرت الروايات الصحيحة، وأما الروايات بأنه كان متمتعاً فمعناها أمر به، وأما الروايات بأنه كان قارناً فإخبار عن حالته الثانية لا عن ابتداء إحرامه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أدخل الحج في العمرة وأدخل العمرة في الحج فصار قارناً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أهل من الميقات أهل بالحج وساق معه الهدي، والمتمتع يجوز له أن يذبح هدياً، وهو ليس واجباً وإنما يجوز. وأنت إذا كان معك مال أقل من النصاب أو مال بلغ النصاب ولم يحل عليه الحول جاز لك أن تخرج عنه الزكاة وليست واجبة وإنما تجوز لك، وكذلك من أتى للعمرة فقط جاز له بل ويستحب له أن يسوق الهدي أو أن يذبحه، فالنبي عليه الصلاة والسلام قيل: إنه أحرم من الميقات بالعمرة وساق الهدي فقط، وقيل: إنه أحرم وأفرد الحج، ثم في أثناء الطريق لما بلغ الحديبية أدخل الحج على العمرة، فقيل: يا رسول الله! أهذا لعامنا خاصة؟ يعني: إدخال الحج في العمرة والعمرة في الحج لعامنا هذا خاصة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا بل لأبد الأبد، يعني: هذا لنا وللأمة، فيجوز إدخال العمرة على الحج والحج على العمرة. قال: وإجزاء أو ذبح الهدي للقارن يدل على أنه ما أحرم بهما من الميقات وإنما أحرم بواحد ثم أدخل عليه الآخر، فأحرم بالعمرة وأدخل عليها الحج، أو أحرم بالحج وأدخل عليه العمرة. وهذا هو فسخ العمرة إلى الحج أو فسخ الحج إلى العمرة، يعني: إن كنت دخلت مفرداً بالحج فقط ولكنك تمكنت من أداء العمرة فإنك تفسخ مباشرة نية الحج وإهلالك بالحج وتجعلها عمرة بإهلال جديد من مكانك وليس من الميقات، فتؤدي العمرة ثم تتحلل إذا لم تسق الهدي، ثم تذهب إلى منى بإهلال جديد في يوم التروية، وبذلك تكون قد أدخلت العمرة على الحج تمتعاً أو قراناً إذا كان معك الهدي.

حكم المحرمة إذا حاضت قبل طواف العمرة

حكم المحرمة إذا حاضت قبل طواف العمرة وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: (أنها أتت مع النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع معتمرة، يعني: نوت وأهلت بالعمرة من الميقات، فلما بلغت مشارف مكة دخل عليها النبي عليه الصلاة والسلام وهي تبكي فقال: ما يبكيك يا أم عبد الله! قالت: نفست يا رسول الله! يعني: حضت، فقال: لا تبكي، فإنما هو شيء كتبه الله عز وجل على بنات آدم)، يعني: هذا أمر مكتوب عليكن، ولا يؤثر عليك، فافسخي إهلالك ثم أهلي يوم أن نهل، فلما وصلت لم تعتمر، وإنما تحللت وتركت العمرة؛ لأنها حائض، والحائض لا يجوز لها الطواف، والطواف ركن في العمرة والحج. فخرجت عائشة رضي الله عنها وهي حائض يوم التروية مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فحجت، فلما كان آخر يوم عرفة طهرت، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام أخاها عبد الرحمن بن أبي بكر أن يذهب بها بعد أيام التشريق -أي: بعد الفراغ من الحج- إلى التنعيم فأهلت من هناك؛ لأنها قد فسخت العمرة إلى الحج، فأصبحت مفردة، والمفرد يعتمر بعد أداء الحج، وصار حكمها حكم أهل مكة؛ لبقائها في مكة أكثر من أربعة أيام، وأهل مكة إذا أرادوا العمرة يذهبون إلى الحل، والتنعيم أحد أماكن الحل، فذهبت عائشة وأهلت بالعمرة من هناك ثم أتت ودخلت البيت واعتمرت ثم قصرت شعرها قدر أنملة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام لها: (هذه بتلك)، يعني: هذه العمرة التي بعد الحج توازي العمرة التي منعك منها الحيض.

مذاهب العلماء في أفضل أنواع الحج

مذاهب العلماء في أفضل أنواع الحج قال النووي رحمه الله تعالى: اختلف العلماء في هذه الأنواع الثلاثة أيها الأفضل، فقال الشافعي ومالك وكثيرون: أفضلها الإفراد، ثم التمتع، ثم القران، وقال أحمد وآخرون: أفضلها التمتع، وقال أبو حنيفة وآخرون: أفضلها القران، وهذان المذهبان قولان آخران للشافعي. والصحيح تفضيل الإفراد، ثم التمتع، ثم القران. وأما حجة النبي عليه الصلاة والسلام فاختلفوا فيها هل كان مفرداً أم متمتعاً أم قارناً؟ وهي ثلاثة أقوال للعلماء بحسب مذاهبهم السابقة. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

حكم من لم يجد الهدي

حكم من لم يجد الهدي من لم يجد ما يشتري به شاة فالواجب في حقه صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله، ومن كان معه ما يشتري به شاة ولكنه لم يجدها فإنه يصوم، وأما قول من قال: إنه يتصدق بثمن الشاة على فقراء الحرم فهذا ليس بصحيح، والصحيح أن من لم يجد الشاة ينتقل إلى الواجب الثاني وهو الصيام، سواء فقد الشاة من جهة أنه لا يملك ما يشتريها به أو يملك ولكنه لم يجد الشاة نفسها.

باب وجوب الدم على المتمتع، وأنه إذا عدمه لزمه صوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله

باب وجوب الدم على المتمتع، وأنه إذا عدمه لزمه صوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله قال: [باب وجوب الدم على المتمتع، وأنه إذا عدمه لزمه صوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله. عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج)]. والتمتع هنا المقصود به التمتع اللغوي، وهو الارتفاق والانضمام، وهو أنه جمع العمرة إلى الحج وجمع الحج إلى العمرة قراناً، وهذا يسمى تمتعاً من جهة اللغة، فالنبي عليه الصلاة والسلام أحرم بالحج مفرداً من ذي الحليفة، ولما قارب مكة نوى إدخال العمرة على الحج فكان قارناً، فهو أول الأمر كان مفرداً ثم قرن قبل طواف القدوم. قال: [(تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، وأهدى، فساق معه الهدي من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة -يعني: لما قدم مكة أهل بالعمرة- ثم أهل بالحج، وتمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج، فكان من الناس من أهدى فساق الهدي -أي: من الميقات- ومنهم من لم يهد -أي: ومنهم من لم يسق معه الهدي من الميقات- فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قال للناس: من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه)]، يعني: من ساق معه الهدي من الميقات فإن حجه قران، والقارن لا يحل من حجه حتى يحج حجه الأكبر، وحينئذ يحل، فالمفرد والقارن لا يحلان إلا في يوم النحر، وأما المتمتع فإنه إذا اعتمر فقد تحلل من إحرامه تماماً وحل له كل شيء حتى النساء، ثم يهل بالحج يوم التروية. قال: [(ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة، وليقصر وليحلل)]، يعني: الذي لم يسق الهدي يعتمر، فيطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة ويقصر أو يحلق ويتحلل من عمرته تماماً. قال: [(ثم ليهل بالحج وليهد)]. والهدي يكون في يوم النحر أو في ثلاثة أيام التشريق سواء كان ذلك بالنسبة للقارن أو للمتمتع. وسيتحدد هل هو قارن أم لا من الميقات، فإذا كان قد ساق الهدي معه فهو قارن لا محالة، وإذا لم يكن قد ساق الهدي فإما أن يجد هدياً في مكة أو لا يجد، فإذا وجده كان متمتعاً وإلا فلا. قال: [(فمن لم يجد هدياً -أي: من المتمتعين الذين تحللوا من عمرتهم وفصلوا بينها وبين الحج- فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله، وطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت حين قدم مكة، فاستلم الركن أول شيء)]، وهو الركن الذي فيه الحجر الأسود، فالطائف حول البيت لابد أن يبدأ الطواف من عند الحجر الأسود، ويجعل البيت عن شماله، ولابد أن يطوف من خارج حجر إسماعيل، فإن طاف من داخل الحجر -أي: كان هو بين الحجر وبين الكعبة لم يحسب طوافه؛ لأن حجر إسماعيل من الكعبة، فكأنه طاف داخل الكعبة، والأصل في الطواف أنه يكون حول الكعبة. قال: [(ثم خب ثلاثة أطواف من السبع، ومشى أربعة أطواف، ثم ركع)]، أي: ثم صلى ركعتين، فمن تيسر له الصلاة خلف مقام إبراهيم فهو السنة، ومن لم يتيسر له ذلك فيجزئه أن يصلي ركعتين في أي موطن من الحرم. قال: [(ثم ركع حين قضى طوافه بالبيت عند المقام -ويقرأ في الأولى بعد فاتحة الكتاب بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1]، وفي الثانية بعد فاتحة الكتاب بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]- ثم سلم فانصرف -أي: فانصرف من صلاته- فأتى الصفا فطاف بالصفا والمروة سبعة أطواف)]. ويحسب السعي من الصفا إلى المروة شوطاً ومن المروة إلى الصفا شوطاً، وبعض الناس يخطئ ويعد السعي من الصفا إلى المروة إلى الصفا شوطاً واحداً، فيسعى بين الصفا والمروة أربعة عشر شوطاً، وهذا بخلاف السنة، ولا يفعله إلا الجهلاء من الناس، وأما أهل العلم وطلاب العلم والكثير من الناس فيعرفون أن السعي من الصفا إلى المروة شوط ومن المروة إلى الصفا شوط، فيبدأ السعي من الصفا وينتهي عند المروة، كما رتبه الله عز وجل في قوله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة:158]. وأهل العلم يقولون: يتحلل من إحرامه بالحلق عند المروة، كما أن الحاج يتحلل من إحرامه بالحلق عند جمرة العقبة الكبرى كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام، وإذا حلق في أي مكان من الحرم جاز له ذلك، ولا بد أن يكون داخل حدود الحرم، وحدود الحرم تبدأ من التنعيم غرباً إلى عرفة شرقاً أو شمالاً والجعرانة وغير ذلك من الأماكن التي تحد اسم الحرم، فمن حلق في أي مكان منها كان له ذلك. ولا ينبغي للمعتمر أو للحاج أن يخرج خارج حدود الحرم فيحلق في الحل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في سنته العملية بين أن المعتمر إنما يتحلل من إحرامه عند

شروط هدي التمتع

شروط هدي التمتع قال الإمام النووي: (هدي التمتع واجب بشروط -يعني: الهدي الواجب على المتمتع يجب بشروط، اتفق أصحابنا على أربعة منها واختلفوا في ثلاثة، أحد الأربعة أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج)، وأشهر الحج هي شوال وذو القعدة والعشر الأوائل من ذي الحجة، فإذا أتى المعتمر إلى مكة واعتمر في هذه الأشهر جاز له أن يتحلل من إحرامه انتظاراً ليوم التروية وليهل بالحج من مكانه. قال: (الثاني: أن يحج من عامه)، يعني: من نفس العام الذي أدى في أشهر الحج منه عمرته. قال: (الثالث: أن يكون آفاقياً لا من حاضري المسجد). آفاقياً يعني: من الآفاق البعيدة وليس من أهل مكة، وحاضروه أهل الحرم ومن كان منه على مسافة لا تقصر فيها الصلاة. وأما أهل مكة فالأصل في حجهم الإفراد. (الرابع: ألا يعود إلى الميقات لإحرام الحج)، يعني: إنما يهل من بيته ومكانه سواء كان مكانه في الحرم أو في أي مكان. وأما الثلاث المختلف فيها فإحداها نية التمتع، وذلك مثل شخص اعتمر في شهر شوال وليس في نيته أن يتمتع، فلما دخل الحرم أراد أن يجلس إلى الحج، فإذا جاء الحج فإنه يحرم من مكانه الذي تنبعث راحلته منه يوم التروية، ويكون متمتعاً؛ لأن عمرته وقعت في أشهر الحج من نفس العام، فإن قبض عليه ولم يستطع إكمال الحج فعليه دم، فإن اشترط عندما لبى بالحج وقال: فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني، فإن قبض عليه فليس عليه شيء؛ لأنه اشترط بقوله: فإن حبسني حابس -أي: منعني مانع- فمحلي -أي: فأذن لي أن أتحلل بغير قيد ولا شرط وبغير كفارة. ولا يلزم المتمتع أن ينوي في الميقات التمتع، كما أنه لا يلزم القارن؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام إنما أهل بالحج من ذي الحليفة فقط، فلما وصل إلى الجعرانة أدخل معها العمرة، بدليل أنه لما دخل مكة طاف وسعى بين الصفا والمروة وقصر شعره ثم لم يحلل حتى كان يوم النحر، ومعلوم أن الذي يفرد الحج لا يلزمه ذلك، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام أدخل العمرة على الحج، وهي ليست له خاصة ولا لأصحابه خاصة، بل هي لأبد الأبد، يعني: يجوز إدخال العمرة على الحج إلى يوم القيامة. الثاني: كون الحج والعمرة في سنة واحدة في شهر واحد، والراجح: أنه لا يلزم أن تقع العمرة والحج في شهر واحد؛ لأن أشهر الحج ثلاثة وليس شهراً واحداً. والثالث: كونهما عن شخص واحد، والأصح أن هذه الثلاثة لا تشترط. والله تعالى أعلم.

وقت الصيام لمن لم يجد الهدي

وقت الصيام لمن لم يجد الهدي قوله صلى الله عليه وسلم: (فمن لم يجد هدياً) المراد لم يجده هناك إما لعدم الهدي، وإما لعدم ثمنه، وإما لكونه يباع بأكثر من ثمن المثل، وإما لكونه موجوداً لكنه لا يبيعه صاحبه، ففي كل هذه الصور يكون عادماً للهدي، فينتقل إلى الصوم. فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحجة وسبعة إذا رجع على ما جاء في نص القرآن الكريم، ويجب صوم هذه الثلاث قبل يوم النحر الذي هو اليوم العاشر، وصيام عرفات مسنون لغير الحاج، ويكره للحاج صيامه. وجمهور العلماء على أن الصيام واجب في الأيام الأولى من شهر ذي الحجة، أي: بعد دخول المتمتع مكة وأداء العمرة، أي: أن هذه الثلاثة الأيام تكون بين العمرة وبين الحج، أي: وهو متحلل. قال: (ويجب صوم هذه الثلاثة قبل يوم النحر، ويجوز صوم يوم عرفة منها، والأفضل ترك صيامه، والأولى أن يصوم الأيام الثلاثة قبله، والأفضل ألا يصومها حتى يحرم بالحج بعد فراغه من العمرة، فإن صامها بعد فراغه من العمرة وقبل الإحرام بالحج أجزأه على المذهب الصحيح عندنا، وإن صامها بعد الإحرام بالعمرة وقبل فراغها لم يجزئه على الصحيح). وأما صوم السبعة فيجب إذا رجع إلى أهله، والصحيح في مذهبنا أنه إذا رجع إلى أهله، وهذا هو الصواب؛ لهذا الحديث الصحيح الصريح، والمذهب الثاني: إذا فرغ من الحج ورجع إلى مكة من منى، ولكن المذهب الأول هو الصحيح. ومن لم يتمكن من صيام الثلاثة الأيام في مكة لم يسقط عنه، بل يلزمه صيام العشرة عند أهله، لكن يبدأ بالثلاثة أولاً، ثم يجعل بينها وبين السبعة فاصلاً من إفطار؛ حتى يفرق بين الثلاثة وبين السبعة، ولو صامها كاملة أجزأه ذلك، والأولى أن يفرق بينها بإفطار. فإذا لم يجد الهدي لأي عذر من الأعذار فعليه الصيام، ولو كان معه قيمة الهدي والتمس الهدي في يوم النحر ولم يجد هدياً يشتريه أو سرق ماله لزمه الصيام، فيصوم بعد أيام التشريق، وأما أيام التشريق فيحرم صومها؛ لأنها أيام عيد. ولو مات قبل الصيام فلا شيء عليه، ويجب على وليه الصوم عنه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من مات وعليه صيام فليصم عنه وليه). ويجزئ أن يتعدد الأولياء، يعني: لا بأس أن يصوم كل ولي من أوليائه يوماً عنه، بحيث يجتمع عشرة أيام يصومها عشرة من الأولياء، أو واحد يصوم عشرة أيام، أو اثنان كل منهما خمسة، فالمهم أن يصام عنه عشرة أيام، سواء تعدد الأولياء أو لم يتعددوا.

باب بيان أن القارن لا يتحلل إلا في وقت تحلل الحاج المفرد

باب بيان أن القارن لا يتحلل إلا في وقت تحلل الحاج المفرد الباب الخامس والعشرون: بيان أن القارن لا يتحلل إلا في وقت تحلل الحاج المفرد. والمفرد يتحلل من الحج يوم النحر إما بعد التحلل الأصغر بأداء منسكين، أو بعد التحلل الأكبر بأداء ثلاثة مناسك، ومنها الطواف والسعي؛ لأن النساء لا يحللن للرجال إلا بعد الطواف والسعي. فإذا كان الحاج مفرداً فإنه يذهب مباشرة إلى منى أو حتى إلى عرفات إذا لم يدرك يوم التروية، ولا شيء عليه في عدم إدراكها؛ لأن إدراك يوم التروية في منى سنة، وليست واجبة، وكذلك المبيت بمنى في هذه الليلة ليس واجباً، بل هو مسنون، فإذا أدرك الرجل الوقوف بعرفة فإنه ينزل بعد ذلك إلى مزدلفة بعد غروب شمس اليوم التاسع، فيصلي المغرب والعشاء جمع تأخير بمزدلفة، ويبيت بها، والمبيت بها واجب، ثم ينطلق بعد شروق الشمس يوم النحر إلى منى، فيرمي جمرة العقبة الكبرى بعد الزوال، أي: بعد الظهر في يوم النحر، ثم يحلق، وبذلك يتم له التحلل الأول، وهو الذي يحل له كل شيء إلا النساء. فإذا نزل إلى مكة -أي: أفاض إلى مكة- وطاف طواف الإفاضة وسعى بين الصفا والمروة حل له كل شيء حتى النساء، وهذا يسمى عند أهل العلم التحلل الأكبر، يعني: الذي يحل له كل شيء حتى النساء، ولا يبقى عليه محظور من محظورات الإحرام. والمفرد ليس عليه هدي، وإنما الهدي على المتمتع والقارن. ولذلك ذهب أهل العلم إلى أن أفضل صور الحج الإفراد؛ لكماله وتمامه، وهم يرون أن الهدي عند القران والتمتع إنما هو لجبران الخلل والنقص فيهما، وهذا النقص هو عدم إلزام القارن والمتمتع بالخروج إلى الميقات في يوم التروية. ومعنى ترجمة الباب: أن القارن والمفرد يشتركان في هذه الصورة، فكل منهما لا يتحلل إلا في يوم النحر، حتى لو جاء القارن قبل الحج بأسبوعين، والقارن يستحب له أن يدخل مكة في أول ذي الحجة أو قبل الحج مباشرة؛ حتى إذا اعتمر في اليوم السادس أو الخامس أو السابع من ذي الحجة لا يبقى إلا يوماً واحداً، ثم ينطلق بملابس إحرامه إلى منى في يوم التروية، ولا يمكث كثيراً بملابس إحرامه في بيوت مكة أو في بيت الله الحرام. فلو أتى قبل ذلك بأسبوع أو بأسبوعين فإنه يلزمه أن يبقى في ملابس إحرامه ولا يتحلل لا تحللاً أصغر ولا أكبر حتى يؤدي حجه، ويتحلل من الحج في يوم النحر، كالمفرد تماماً. فالقارن والمفرد يشتركان في أن كلاً منهما يتحلل في يوم النحر، بخلاف المتمتع، فالمتمتع بمجرد أن يدخل مكة ويعتمر يتحلل بعد الحلق عند جبل المروة، ثم يحل له كل شيء حتى النساء، ثم يهل من مكانه بالحج يوم التروية، أما القارن فلا يجوز له أن يتحلل إلا بعد ثلاثة من رمي جمرة العقبة الكبرى والذبح والحلق والطواف حول البيت والسعي بين الصفا والمروة. قال: [عن حفصة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (يا رسول الله! ما شأن الناس حلوا ولم تحلل أنت من عمرتك؟ -يعني: لماذا بعض الناس ومعهم بعض أصحابك أو كثير منهم حلوا بعد أن أدوا العمرة وأنت لم تحلل وقد اعتمرت معهم؟ - قال: إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر)]، يعني: حتى أذبح في يوم النحر. وتلبيد الرأس قد بيناه في الدروس الماضية، وأما تقليد الهدي أو إشعاره فهو سوق الهدي من الميقات مقلداً مشعراً، وسوق الهدي من الميقات يجب على القارن، وأما المتمتع فإنه يشتري هديه من أي مكان، سواء من منى، أو من عرفة، أو من مزدلفة، أو من مكة، أو من أي مكان، ولا يلزمه أن يسوقه، فإن ساقه صار قارناً، وإذا ساق الهدي من الميقات يسن أن يشعره في خده الأيمن أو في صفحة وجهه الأيمن، وأن يقلده في قدمه، إما بلبس نعل، أي: يلبسه جلداً في قدمه، أو يحيط قدمه بحبل أو شيء ليميزه بذلك. ومعنى إشعار الهدي في صفحة وجهه الأيمن أي: جرح الهدي وتلطيخه بالدم في جانبه الأيمن، أو جرح أذنه؛ حتى يعلم من نظر إليه أنه هدي، وليس أمراً مشاعاً يلتقط، فإذا التقطه أحد لزمه أن ينادي عليه؛ لأنه قد أوقف لله عز وجل. فالإشعار هو: جعل علامة أو دليل أو أمارة في وجه الهدي بجرحه في صفحة خده الأيمن أو بوضع علامة في أذنه أو غير ذلك، والتقليد بمعنى: تقليد قدمه بشيء، أي: وضع علامة في قدمه، إما خيط يميزه، أو حبل، أو لبس نعل من الجلد، أو غير ذلك بحيث يميز؛ حتى إذا نظر إليه ناظر عرف أنه هدي موقوف لله عز وجل. قال: (إني لبدت رأسي وقلدت هديي -أي: سقت هديي من الميقات- فلا أحل حتى أنحر). وهذا الحديث دليل على المذهب الصحيح المختار الذي قدمناه واضحاً بدلائله في الأبواب السابقة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارناً في حجة الوداع. وفي رواية أنه قال لها: (فلا أحل حتى أحل من الحج). قال: [وقالت حفصة رضي الله عنها: (إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أزواجه أن يحللن عام حجة الوداع، قالت حفصة: فقلت: ما يمنعك أن تحل أنت كذلك؟ -يعني: أنت تأمرنا أن نحل بعد أداء العمرة فما الذي يمنعك أن تحل أنت كذلك؟ - إني لبدت رأسي وقلدت هديي -أي: س

كتاب الحج - حجة النبي صلى الله عليه وسلم

شرح صحيح مسلم - كتاب الحج - حجة النبي صلى الله عليه وسلم لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، وقد بين لنا صلوات الله وسلامه عليه المناسك وأمرنا أن نأخذها عنه، وقد حرص جمع غفير من أصحابه على حفظ كل صغيرة وكبيرة فيما يتعلق بصفة حجته، ونقلوها لمن بعدهم حتى وصلت إلينا كأنها رأي عين.

تابع باب وجوب الدم على المتمتع، وأنه إذا عدمه لزمه صوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله

تابع باب وجوب الدم على المتمتع، وأنه إذا عدمه لزمه صوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة. إن الحاج إذا لم يجد ما يشتري به شاة فالواجب في حقه صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله، وكذلك إذا كان معه المال الذي يشتري به الشاة ولكنه لم يجد شاة ليشتريها فالواجب عليه أن يصوم. أما قول من قال: يقيم الشاة ويتصدق بثمنها على فقراء الحرم فهذا ليس بصحيح، والصحيح: أن من لم يجد عين الشاة وجب عليه الصيام، سواء أكان لا يملك ما يشتري به الشاة، أو يملك المال ولكنه لم يجد الشاة نفسها. قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب وجوب الدم على المتمتع، وأنه إذا عدمه لزمه صوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله]. قال: [عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج)]. قوله: (تمتع النبي صلى الله عليه وسلم)، ونحن نعلم أن التمتع الاصطلاحي ليس هو حج النبي عليه الصلاة والسلام فالنبي صلى الله عليه وسلم حج قارناً، فالتمتع هنا هو التمتع اللغوي، وهو الالتفاف والانضمام، وهو أنه جمع العمرة إلى الحج، وجمع الحج إلى العمرة قراناً من جهة الاصطلاح، وإن كان من جهة اللغة يسمى القران تمتعاً. فالاصطلاح أن النبي عليه الصلاة والسلام أحرم من ذي الحليفة بالحج مفرداً، ولما قارب مكة نوى إدخال العمرة على الحج فكان قارناً، فهو أول الأمر كان مفرداً، ثم قرن قبل طواف القدوم. قال: [تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى، فساق معه الهدي من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة -يعني: لما خرج من مكة أهل بالعمرة- ثم أهل بالحج، وتمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج، فكان من الناس من أهدى -أي: من الناس من ساق الهدي معه من الميقات- ومنهم من لم يهدي -أي: ومنهم من لم يسق معه الهدي من الميقات- فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قال للناس: من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه)]، يعني: من ساق الهدي معه من الميقات فإن حجه قران، والقارن لا يحل من حجه حتى يتم حجه الأكبر؛ لأن الحج يطلق على العمرة من باب المجاز، والحج الأكبر هو بعد رمي الجمرات والنحر والحلق والطواف حول الكعبة، والسعي بين الصفا والمروة، فحينئذ يحل له. والمفرد لا يحل إلا في يوم النحر، وكذلك القارن لا يحل إلا في يوم النحر، أما المتمتع الذي لم يسق الهدي فإنه إذا اعتمر تحلل من إحرامه تماماً وحل له كل شيء حتى النساء، ثم يهل بالحج يوم التروية، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول لأصحابه: (من كان منكم أهدى -أي: ساق الهدي- فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه)، يعني: يوم النحر. قال: [(ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة، وليقصر وليحلل)] يعني: الذي لم يسق الهدي يعتمر، فيطوف بالبيت ويسعى بالصفا والمروة، ويقصر أو يحلق ويكون بذلك قد تحلل من عمرته تماماً، وهذا للمتمتع. قال: [(ثم ليهل بالحج وليهد)]، أي: يهل يوم الثامن وهو يوم التروية. قال: (ثم ليهل بالحج ثم ليهد)، والهدي يكون في يوم النحر أو في أيام التشريق الثلاثة سواء كان ذلك بالنسبة للقارن أو للمتمتع قال: [(فمن لم يجد هدياً)]، وهذا القول متوجه للمتمتع؛ لأن القارن سيتحدد موقفه من الميقات، إذا كان قد ساق الهدي أو لم يسقه، فإذا كان قد ساق الهدي معه فهو قارن لا محالة، وإذا لم يكن قد ساق الهدي فإما أن يجد هدياً في مكة أو لا يجد، فإذا وجد كان متمتعاً وإلا فلا. قال: (ثم ليهل بالحج وليهد، فمن لم يجد هدياً) أي: من المتمتعين الذين تحللوا من عمرتهم تماماً، وفصلوا بينها وبين الحج فليصم ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله. أما كيفية حجه صلى الله عليه وسلم قال: [(وطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة، فاستلم الركن أول شيء)]، أي: الركن اليماني الذي فيه الحجر الأسود؛ لأن الركن اليماني يطلق على الركنين اليمانيين، بخلاف الركنين الشاميين اللذين هما في مقابل الركنين اليمانيين. قال: (فاستلم الركن أول شيء)، وهذا طبعاً فيه بيان أن الطائف حول البيت لا بد أن يبدأ الطواف من عند الحجر الأسود، وليجعل البيت عن شماله ثم يكمل طوفة كاملة، فمن الحجر إلى الحجر طوفة، ولا بد أن يطوف من خارج حجر إسماعيل؛ لأنه إن طاف ومر من بين الحجر والكعبة فلا يحسب له طواف؛ لأن حجر إسماعيل من الكعبة،

شروط وجوب هدي التمتع

شروط وجوب هدي التمتع قال الإمام النووي: (هدي التمتع واجب بشروط، اتفق الشافعية على أربعة واختلفوا في ثلاثة: أما اتفاقهم فأوله أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج)، وأشهر الحج هي: شوال وذو القعدة والعشر الأوائل من ذي الحجة، فإذا أتى المعتمر إلى مكة، واعتمر في هذه الأشهر جاز له أن يتحلل من إحرامه انتظاراً ليوم التروية، وليهل بالحج من مكانه. قال: (الثاني: أن يحج من عامه)، أي: يحج في نفس العام الذي أدى في أشهر الحج منه عمرته. مثال ذلك: شخص ذهب اليوم واعتمر وهو متمتع، ولما جاء الحج لم يهل بالحج، وقال: أنا باقٍ إلى العام القادم، فهنا لا يظل متمتعاً؛ لأن شرط التمتع أن تقع العمرة والحج في عام واحد، وأنتم تعرفون أن آخر أشهر العام الهجري هو شهر ذي الحجة، فلا يجوز له أن يدعي أنه متمتع إلى العام المقبل، بل من دخل مكة في أشهر الحج فاعتمر وتحلل بنية إدخال الحج على العمرة تمتعاً فإنه لا بد أن يدخل الحج من نفس العام، وهذا محل اتفاق. قال: (الثالث: أن يكون آفاقياً لا من حاضري المسجد)، ما معنى آفاقياً؟ يعني: من الآفاق البعيدة، وليس من أهل مكة، وحاضره يعني: حاضر أهل الحرم ومن كان منه على مسافة لا تقصر فيها الصلاة. يعني: أن يكون آفاقياً لا من حاضري المسجد، وحاضروه هم أهل الحرم، ومن كان منه على مسافة لا تقصر معها الصلاة، يعني: يكون من أماكن بعيدة، أما أهل مكة فالأصل في حجهم الإفراد. قال: (الرابع: ألا يعود إلى الميقات لإحرام الحج)، يعني: ألا يعود إلى الميقات حتى يهل بالحج في يوم التروية، وإنما يهل من بيته، أو من مكانه، سواء كان مكانه الحرم أو البيت أو السوق أو في أي مكان. قال: (وأما الثلاثة المختلف فيها: فأحدها نية التمتع). فمثلاً: واحد ذهب إلى المدينة يوم العيد بعدما اعتكف العشر الأواخر من رمضان في مكة، وقعد في المدينة يومين أو ثلاثة أيام، ولما رجع إلى مكة أحرم بالعمرة، وليس له نية أبداً في التمتع، لكنه قال: أنا أستفيد بعمرة. فأحرم من ذي الحليفة ودخل مكة مرة أخرى على اعتبار أنه يعتمر ويذهب إلى جدة فيسافر، فلما دخل الحرم قال: ما المانع أن الواحد يمكث في الحرم ويجاور إلى أن يحج؟ قال ذلك بعدما عبر الميقات بزمن، فهل يلزمه الآن أن يخرج إلى الميقات إذا أراد الحج؟ A يحرم من مكانه، حين تنبعث به راحلته يوم التروية، ويبقى متمتعاً؛ لأن عمرته وقعت في أشهر الحج من نفس العام، فإذا دخل منى يوم التروية ومنع من الحج وأمر بترحيله فإنه يلزم في حقه دم، فإن قال: (لبيك اللهم حجة، فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني)، ثم تعرض له هؤلاء وأمروا بترحيله فليس عليه شيء؛ لأنه اشترط. قال: (فإن حبسني حابس)، أي: منعني مانع (فمحلي)، أي: فأذن لي أن أتحلل بغير قيد ولا شرط كفارة. قال: فالثلاثة المختلف فيها قال: النية، لا يلزم المتمتع أن ينوي في الميقات التمتع على أرجح أقوال أهل العلم، كما أنه لا يلزم القارن؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أهل بالحج فقط من ذي الحليفة، ولما أتى ووصل إلى الجعرانة أدخل معها العمرة، بدليل أنه لما دخل مكة طاف وسعى بين الصفا والمروة وقصر شعره، ثم لم يحلل حتى كان يوم النحر. ومعلوم أن الذي يفرد الحج أو يهل بالحج من الميقات لا يلزمه ذلك، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام أدخل العمرة على الحج وهي إلى أبد الأبد، ليست خاصة له ولا لأصحابه، فعلى ذلك يجوز إدخال العمرة على الحج الأبد. الثاني: كون الحج والعمرة في شهر واحد. والراجح: أنه لا يلزم أن تقع العمرة والحج في شهر واحد؛ لأن أشهر الحج ثلاثة وليست شهراً واحداً. والثالث: كونهما عن شخص واحد، والأصح أن هذه الثلاثة لا تشترط، والله تعالى أعلم.

حكم الحاج إذا لم يجد هديا

حكم الحاج إذا لم يجد هدياً أما قوله: من لم يجد هدياً فالصيام، قال: فالمراد: لم يجده هناك؛ إما لعدم الهدي؛ وإما لعدم ثمنه؛ وإما لكونه يباع بأكثر من ثمن المثل؛ وإما لكونه موجوداً لكنه لا يبيعه صاحبه، ففي كل هذه الصور يكون عازماً للهدي. قال: [(فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع)]، فهو موافق لنص القرآن الكريم، ويجب صوم هذه الثلاث قبل يوم النحر. ويوم النحر هو يوم العاشر، واليوم الذي قبله يوم عرفات، وأنتم تعلمون أن صيام عرفات مسنون لغير الحاج، ويكره للحاج صوم عرفات. إذاً: هذه هي الأيام الثلاثة التي يصومها في أشهر الحج، وجمهور العلماء على أن الصيام واجب في الأيام الأول من شهر ذي الحجة، أي: بعد دخول المتمتع مكة وأداء العمرة، فتكون هذه الثلاثة الأيام واقعة بين العمرة والحج، أي: وهو متحلل. قال: (ويجب صوم هذه الثلاثة قبل يوم النحر، ويجوز صوم يوم عرفة منها، أما الأفضل ترك ذلك، لكن الأولى أن يصوم الثلاثة قبله، والأفضل ألا يصومها حتى يحرم بالحج بعد فراغه من العمرة، فإن صامها بعد فراغه من العمرة، وقبل الإحرام بالحج أجزأه على المذهب الصحيح عندنا، وإن صامها بعد الإحرام بالعمرة وقبل فراغها لم يجزئه على الصحيح). قال: (أما صوم السبعة فيجب إذا رجع إلى أهله) وفي المراد بالرجوع خلاف. قال: (الصحيح في مذهبنا: أنه إذا رجع إلى أهله، وهذا هو الصواب لهذا الحديث الصحيح الصريح. والمذهب الثاني: إذا فرغ من الحج ورجع إلى مكة من منى، ولكن المذهب الأول هو الصحيح. ولو لم يكن الثلاثة ولا السبعة حتى عاد إلى وطنه لزمه صوم عشرة أيام)، يعني: من لم يتمكن من أداء الثلاثة في مكة لا يسقط عنه صومها، بل يلزمه صيام العشرة عند أهله. لكن يبدأ بالثلاثة أولاً، ثم يجعل بينها وبين السبعة فاصلاً من إفطار، حتى يفرق بين الثلاثة وبين السبعة، ولو صامها كاملة لأجزأه ذلك، والأولى أن يفرق بينها بإفطار.

باب بيان أن القارن لا يتحلل إلا في وقت تحلل الحاج المفرد

باب بيان أن القارن لا يتحلل إلا في وقت تحلل الحاج المفرد الباب الخامس والعشرون: بيان أن القارن لا يتحلل إلا في وقت تحلل الحاج المفرد، إذا لم يجد بأي عذر من الأعذار عدم الوجوب فعليه الصيام. فلو التمس الهدي في يوم النحر ولم يجد هدياً، أو لم يجد نقوداً يشتري بها الهدي، أو أن نقوده سرقت، فكل هذه الصورة تعني: انعدام الهدي، فيلزمه الصيام حينئذ، ولا يصوم أيام التشريق، فإنه يحرم صومها؛ لأنها أيام عيد، ولو مات قبل الصيام لا شيء عليه، وصيامه يجب في حق الأولياء؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من مات وعليه صوم فليصم عنه وليه). ويجزئ أن يتعدد الأولياء. يعني: لا بأس أن يصوم كل ولي من أوليائه يوماً له، بحيث يجتمع له عشرة أيام يقوم بها عشرة من الأولياء، أو واحد يصوم عشرة أيام، أو اثنان يصوم كل منهما خمسة.

بيان حج المفرد

بيان حج المفرد قال: (بيان أن القارن لا يتحلل من إحرامه إلا في اليوم الذي يتحلل منه المفرد)، والمفرد يتحلل يوم النحر، إما تحللاً أصغر بأداء منسكين، وإما تحللاً أكبر بأداء ثلاث مناسك منهن الطواف والسعي؛ لأن النساء لا يحللن للرجال إلا بعد الطواف والسعي. فإذا كان الحاج مفرداً فإنه يذهب مباشرة إلى منى، أو إلى عرفات إذا لم يدرك يوم التروية، ولا شيء عليه؛ لأن إدراك يوم التروية في منى من السنن وليس من الواجبات، وكذلك المبيت بمنى في هذه الليلة ليس بواجب، بل هو مسنون، فإذا أتى الرجل وأدرك الوقوف بعرفة فإنه ينزل بعد ذلك إلى مزدلفة بعد غروب شمس التاسع، فيصلي المغرب والعشاء جمع تأخير بمزدلفة، ويبيت بها وجوباً، ثم ينطلق بعد ذلك -أي: بعد شروق الشمس من يوم النحر- إلى منى، ثم يرمي جمرة العقبة الكبرى بعد الزوال -أي: بعد الظهر في يوم النحر- ثم يحلق، وبذلك يتم له التحلل الأول الذي يحل له كل شيء إلا النساء. فإذا نزل إلى مكة -أي: أفاض إلى مكة وهو يطوف طواف الإفاضة ويسعى بين الصفا والمروة حل له كل شيء حتى النساء، وهذا يسمى عند أهل العلم التحلل الأكبر، ولا يبقى هناك محظور من محظورات الإحرام التي تعرفنا عليها آنفاً. والمفرد ليس عليه هدي كما اتفقنا، إنما الهدي على المتمتع والقارن؛ ولذلك ذهب أهل العلم كما عرفنا في الدروس الماضية إلى أن أفضل صور الحج الإفراد لكماله وتمامه، وهم يرون أن الهدي عند القران والتمتع إنما هو لجبر خلل ونقص في الصورة، هذا الخلل وهذا النقص يتمثل في عدم إلزام القارن والمتمتع بالخروج من الميقات يوم التروية.

اشتراك المفرد والقارن في وقت التحلل

اشتراك المفرد والقارن في وقت التحلل قال: باب بيان أن القارن لا يتحلل إلا في وقت تحلل الحاج المفرد، يعني: القارن والمفرد يشتركان في هذه الصورة، أن كلاً منهما لا يتحلل إلا في يوم النحر، حتى ولو جاء القارن قبل الحج بأسبوعين. ويستحب للقارن أن يدخل مكة في أول ذي الحجة، أو قبل الحج مباشرة، حتى إذا اعتمر في اليوم السادس أو الخامس أو السابع من ذي الحجة لم يبق له بملابس إحرامه إلا يوم واحد، وينطلق بهذه الملابس أو بهذا الإحرام إلى منى في يوم التروية، فلا يمكث كثيراً في بيوت مكة، أو في بيت الله الحرام بملابس الإحرام. فإن افترضنا أنه أتى قبل ذلك بأسبوع أو بأسبوعين أو بثلاثة فيلزمه أن يبقى في ملابس إحرامه ولا يتحلل -لا تحللاً أصغر ولا تحللاً أكبر- حتى يؤدي حجه ويتحلل من الحج في يوم النحر، كالمفرد تماماً والذي ذكرنا صورته الآن. فالقارن والمفرد كلاهما يشترك في صورة، وهي تحلل كل منهما في يوم النحر، بخلاف المتمتع، فالمتمتع يدخل مكة ويعتمر ويتحلل بعد الحلق عند جبل المروة، ثم يهل من مكانه يوم التروية، والمتمتع إذا أدى عمرته حل له كل شيء حتى النساء، بخلاف القارن فلا يجوز له أن يتحلل إلا بعد رمي جمرة العقبة الكبرى والذبح أو الحلق والطواف حول البيت والسعي بين الصفا والمروة.

معنى إشعار الهدي وتقليده

معنى إشعار الهدي وتقليده قال: [عن عبد الله بن عمر أن حفصة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (يا رسول الله! ما شأن الناس حلوا ولم تحلل أنت من عمرتك؟ -يعني: كثير من أصحابك حل بعد أن أدى العمرة وأنت اعتمرت معهم ولكنك لم تحلل- قال: إني لبدت رأسي وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر)] أي: الذبح يكون يوم النحر. وقد عرفنا معنى تلبيد الرأس في الدروس الماضية، ثم قال: (وقلدت هديي) وتقليد الهدي: إشعار الهدي وسوقه من الميقات مقلداً مشعراً، وسوق الهدي من الميقات يكون للقارن، أما المتمتع فإنه يأخذ هديه من أي مكان: من منى، من عرفة، من مزدلفة، من مكة، من أي مكان، ولا يلزمه أن يسوقه، فإن ساقه صار قارناً. وإذا ساق الهدي من الميقات يسن أن يكون هذا الهدي مشعراً في خده الأيمن أو في صفحة وجهه اليمنى، وأن يكون مقلداً في قدمه، إما بلبس نعل أو لبس جلد في قدمه، أو إحاطة القدم بحبل أو شيء يميزه. ومعنى إشعار الهدي في صفحة وجهه اليمنى: جرح الهدي في جانبه الأيمن أو في أذنه حتى يعلم من نظر إلى هذا الهدي أنه هدي، وأنه ليس بلقطة، وإذا التقطه يلزمه أن ينادي عليه؛ لأن هذا أوقف لله عز وجل، وهذا معنى الإشعار. فالإشعار: هو قيام العلامة والدليل والأمارة في وجه الهدي، يجرحه في صفحة خده الأيمن أو بوضع علامة في أذنه اليمنى أو غير ذلك. وتقليده بمعنى: تقييد قدمه بشيء، أي: وضع علامة في قدمه، إما خيط يميزه أو حبل أو لبس نعل من الجلد وغير ذلك، حتى إذا نظر إليه ناظر عرف أن هذه البقرة أو أن هذا البعير أو أن هذه الشاة إنما أوقفت لله عز وجل، فالذي يأخذها يحترم نفسه ويرجعها بسرعة؛ لأنه رزق حرام. قال: (إني لبدت رأسي وقلدت هديي -أي: سقت هديي من الميقات- فلا أحل حتى أنحر) وهذا الحديث دليل على المذهب الصحيح المختار الذي قدمناه واضحاً بدلائله في الأبواب السابقة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارناً في حجة الوداع. وفي رواية: قال لها: (فلا أحل حتى أحل من الحج)، وقالت حفصة رضي الله عنها: (إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أزواجه أن يحللن عام حجة الوداع. قالت حفصة: فقلت: ما يمنعك أن تحل أنت كذلك؟ قال: إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر هديي).

باب جواز التحلل بالإحصار وجواز القران واقتصار القارن على طواف واحد وسعي واحد

باب جواز التحلل بالإحصار وجواز القران واقتصار القارن على طواف واحد وسعي واحد الباب السادس والعشرون: باب بيان جواز التحلل بالإحصار وجواز القران. يعني: لو أحصرت. هل لك أن تتحلل من إحرامك؟ A نعم. لك ذلك. وهل يجوز لك أن تدخل الحج على العمرة قراناً؟ A نعم. يجوز لك ذلك وإن لم تنو من الميقات ذلك. خرج عبد الله بن عمر رضي الله عنهما معتمراً، وكان ذلك في أيام الفتنة التي دارت بين الحجاج بن يوسف الثقفي وعبد الله بن الزبير، وأنتم تعلمون أن الحجاج دخل كما تدخل البهائم والحمير بلد الله الحرام، فضرب الكعبة بالمنجنيق، وكانت فتنة عظيمة جداً أكلت الأخضر واليابس. فـ عبد الله بن عمرو دخل مكة في عام الفتنة معتمراً، وقال: [(إن صددت عن البيت صنعنا كما صنعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم)]، يعني: إن حال بيننا وبين البيت حائل تحللنا من إحرامنا كما تحللنا في عمرة الحديبية. فالنبي صلى الله عليه وسلم أتى إلى مكة في عام الحديبية معتمراً، وصده المشركون عن البيت، وقامت هناك شروط واتفاقيات من أحد بنودها أن يرجع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في هذا العام ولا يدخلوا مكة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أحرم، فتحلل من إحرامه في الحديبية، فـ عبد الله بن عمر قال: إن صدني الحجاج أو صدتني الفتنة القائمة بمكة فما الذي يمنعني أن أتحلل في المكان الذي صددت فيه كما تحللنا مع النبي عليه الصلاة والسلام في عام الحديبية. قال: [(فخرج فأهل بعمرة وسار، حتى إذا ظهر على البيداء التفت إلى أصحابه فقال -يعني: بعد أن دخلت في حدود أرض الحرم، وليس المسجد الحرام- ما أمرهما إلا واحد -أي: لو صددنا عن العمرة كما لو صددنا عن الحج والعمرة، فهما سواء- أشهدكم أني قد أوجبت الحج مع العمرة)]. قال ذلك بعد أن عبر الميقات بأيام ليس بخطوات؛ لأنه أهل من ذي الحليفة بعمرة، وأدخل معها الحج في مكة، ويشترط شرطاً وحيداً أصيلاً فيمن أدخل الحج على العمرة: أن يكون ذلك قبل طواف القدوم، أما المتمتع فله أن يدخل الحج على العمرة بعد طواف القدوم، أما القارن فإنه يلزمه أن يدخل الحج على العمرة قبل بداية الطواف. قال: (ما أمرها إلا واحد، أشهدكم أني قد أوجبت الحج مع العمرة، فخرج حتى إذا جاء البيت طاف به سبعاً، وبين الصفا والمروة سبعاً لم يزد عليه، ورأى أنه مجزئ عنه وأهدى). قال: [وعن نافع أن عبد الله بن عبد الله وسالم بن عبد الله كلما عبد الله حين نزل الحجاج لقتال ابن الزبير. قالا: لا يضرك ألا تحج العام، فإنا نخشى أن يكون بين الناس قتال يحال بينك وبين البيت]. يعني: عبد الله بن عبد الله وأخوه سالم يقولون لـ عبد الله بن عمر: أترك الحج هذه السنة؛ لأن هناك قتالاً وفتنة عظيمة جداً بين الحجاج وابن الزبير، ونخشى ألا تتمكن من الحج. قال: [(فإن حيل بيني وبينه فعلت كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه حين حالت كفار قريش بينه وبين البيت، أشهدكم أني قد أوجبت عمرة -يعني: أحرم بالعمرة من الميقات- فانطلق حتى أتى ذا الحليفة فلبى بالعمرة، ثم قال: إن خلي سبيلي قضيت عمرتي، وإن حيل بيني وبينه فعلت كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه، ثم تلا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]، ثم سار حتى إذا كان بظهر البيداء -أي: بالمكان الفسيح الذي بجوار الحرم- قال: ما أمرهما إلا واحد -أي: حكم الصد في العمرة كحكم الصد في العمرة والحج- إن حيل بيني وبين العمرة حيل بيني وبين الحج، أشهدكم أني قد أوجبت حجة مع عمرة، فانطلق حتى ابتاع بقديد -مكان بالحرم- هدياً ثم طاف لهما طوافاً واحداً بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم لم يحل منهما حتى حل منهما بحجة يوم النحر)]، وبقية الأحاديث في الباب تشهد للمعنى الذي ذكرناه. وفي هذه الأحاديث جواز التحلل بالإحصار، وفيه صحة القياس والعمل به؛ لأن عبد الله بن عمر اجتهد فقاس هذا على ما كان من حياة النبي عليه الصلاة والسلام، والصحابة رضي الله عنهم كانوا يستعملون القياس؛ فلهذا قاس الحج على العمرة في حكم الإحصار من عدمه؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام إنما تحلل من الإحصار عام الحديبية من إحرامه بالعمرة وحدها. وفي هذا الحديث: أن القارن يقتصر على طواف واحد وسعي واحد، وهو مذهب جماهير العلماء.

باب في الإفراد والقران

باب في الإفراد والقران الباب السابع والعشرون: باب في الإفراد والقران. يعني: في جواز الإفراد بالحج وجواز القران بين الحج والعمرة. قال: [عن ابن عمر قال: (أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج مفرداً)]، هذا كان من ميقات ذي الحليفة، والنبي عليه الصلاة والسلام حج في الجاهلية. قيل: حج مرة وقيل: حج مرتين، والراجح: أنه حج مرة قبل البعثة. لكن هذا الحديث في حجه عليه الصلاة والسلام من ذي الحليفة -أي: بعد البعثة- وفي العام العاشر، وهو المعروف بحجة الوداع، ويؤيد ذلك أدلة، منها أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يحج بعد الإسلام إلى حجة واحدة، وكان إهلاله من ذي الحليفة، ويقول عبد الله بن عمر: (وأنا معه)، ومعلوم أن عبد الله بن عمر لم يحج مع النبي عليه الصلاة والسلام قبل البعثة؛ لأن عبد الله بن عمر لم يكن موجوداً.

اختلاف العلماء في نوع الحجة التي حجها النبي صلى الله عليه وسلم

اختلاف العلماء في نوع الحجة التي حجها النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج مفرداً) أي: أنه بدأ أول مشوار الحج مفرداً، فلما أتى إلى الجعرانة أدخل عليها العمرة فاعتمر أولاً، ولم يتحلل إلا في يوم النحر؛ وهذا يرد على العلماء الذين يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان مفرداً فقط. وقد اختلف العلماء في أي الحج أفضل: الإفراد أو التمتع أو القران؟ وكل من قال بقول قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، وظهر هذا في بعض الأدلة. أما الذي قال: التمتع أفضل اعتمد على ظاهر بعض الروايات التي تقول: تمتع النبي عليه الصلاة والسلام بالعمرة إلى الحج، ورددنا على هذا القول برأيين: الرأي الأول: أن التمتع في هذا الحديث محمول على التمتع اللغوي لا التمتع الاصطلاحي. والثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي من الميقات). فالذي يسوق الهدي من الميقات هو القارن لا المتمتع. الأمر الثالث: أن النبي عليه الصلاة والسلام لما اعتمر لم يتحلل إلا في يوم النحر بعد أداء هذه المناسك، فهذه كلها شواهد وأدلة تدل على أنه كان قارناً. والذي يقول: الإفراد أفضل، واعتمد على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مفرداً في حجه، فاعتمد على منشأ الحج. أي: أصل الحج في ذي الحليفة، فقد أهل النبي عليه الصلاة والسلام بالحج فقط من ذي الحليفة، والصواب والصحيح: أنه لما بدأ الحج مفرداً أدخل عليه من الجعرانه العمرة، فكان أولاً مفرداً وقبل أداء العمل في الحج أدخل عليه العمرة؛ فاعتمر أولاً ثم حج. إذاً: كان في أول مشواره مفرداً ولكنه لم يتم هذا الإفراد، بل أدخل عليه العمرة فصار قارناً، وهو الراجح بل الصحيح. ومعلوم أن سوق الهدي على سبيل الاستحباب للمفرد والمعتمر، فالنبي صلى الله عليه وسلم ساق الهدي استحباباً؛ لأنه نوى الإفراد، ولكنه شجعه سوق الهدي على إدخال العمرة فصار قارناً. وهناك اتفاق بين أهل العلم أن المعتمر لا هدي عليه، وأن المفرد لا هدي عليه، لكن لا يمنع ذلك من أن يهدي المفرد والمعتمر، وليس هناك مانع شرعي. قال: [وقال أنس: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يلبي بالحج والعمرة جميعاً)]، وهذا يورد خلافاً بينه وبين عبد الله بن عمر، فـ أنس يقول: سمعته يلبي بالحج والعمرة، وعبد الله بن عمر يقول: أنا كنت معه، وما كان يلبي إلا بالحج فقط. قال أنس بن مالك: أنا لم أكن صغيراً، لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم مفرداً، فقد سمعته يقول: (لبيك اللهم حجاً وعمرة)، وعبد الله بن عمر يقسم أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لبيك اللهم حجة). وتفسير هذا الخلاف أن عبد الله بن عمر حكى ما قد سمعه من أول المشوار، من ميقات ذي الحليفة، وأنس بن مالك كان يأخذ بخطام ناقته في مناسك الحج ابتداءً من الجعرانة حتى قضى حجه، فسمعه يقول: (لبيك اللهم عمرة وحجة) فلما أدخل النبي عليه الصلاة والسلام العمرة على الحج سمعه أنس فحكى ما سمعه، وعبد الله بن عمر حكى ما سمعه من أول المشوار، وعلى أية حال كل واحد من الصحابة يحكي ما قد سمعه، وكلام أهل العلم كلام جميل في الجمع بين الخبرين. وفي رواية: [أن بكر بن عبد الله قال: حدثنا أنس: (أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم جمع بينهما -بين الحج والعمرة- قال: فسألت ابن عمر فقال: أهللنا بالحج، فرجعت إلى أنس فأخبرته ما قال ابن عمر، فقال: كأنما كنا صبياناً)]، يعني: لم نكن نحن أطفالاً حتى تثيروا بيننا هذه الفتنة كلها. الإمام النووي يقول: (قدمنا أن الرأي المختار -بل الصحيح- في حجة النبي عليه الصلاة والسلام: أنه كان في أول إحرامه مفرداً، ويحمل عليه حديث عبد الله بن عمر، ثم أدخل العمرة على الحج فصار قارناً، وهذا حديث أنس وبهذا اتفقت الروايات، وجمعنا بين الأحاديث أحسن جمع، فحديث ابن عمر محمول على أول إحرامه، وحديث أنس محمول على أواخره وأثنائه، وكأنه لم يسمعه أولاً، ولا بد من هذا التأويل أو نحوه؛ لتكون رواية أنس موافقة لرواية الأكثرين كما سبق بيان ذلك).

باب ما يلزم من أحرم بالحج ثم قدم مكة من الطواف والسعي

باب ما يلزم من أحرم بالحج ثم قدم مكة من الطواف والسعي الباب الثامن والعشرون: باب ما يلزم من أحرم بالحج ثم قدم مكة من الطواف والسعي. يعني: من أحرم بالحج فقط. قال [وبرة: (كنت جالساً عند ابن عمر، فجاءه رجل فقال: أيصلح لي أن أطوف بالبيت قبل أن آتي الموقف؟ -والموقف: هو عرفة، يعني: أنا أحرمت بالحج فقط، فهل أطوف بالبيت قبل أن أذهب إلى عرفة؟ - فقال: نعم. فقال: فإن ابن عباس يقول: لا تطف بالبيت حتى تأتي الموقف فقال ابن عمر: فقد حج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت قبل أن يأتي الموقف، فبقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تأخذ، أو بقول ابن عباس إن كنت صادقاً؟)]. انظر الكلام الجميل في التأصيل الفكري عند السلف. يقول: النبي عليه الصلاة والسلام طاف وسعى، وابن عباس: يقول: لا. فأيهما أحق: الأخذ بقول النبي صلى الله عليه وسلم وبفعله أو بقول ابن عباس؟ يقول: فإن كنت صادقاً في محبة الرسول عليه الصلاة والسلام فاتبعه. صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة طاف وسعى، لكنه كان قارناً، فالسؤال وجه لمن أفرد الحج: هل يلزمه الطواف والسعي؟ A لا يلزمه، ولو أنه دخل البيت فيطوف طواف القدوم الذي لا علاقة له بالنسك، ويكون هذا الطواف دون أن يسعى بين الصفا والمروة. قال: [وبرة: (سأل رجل ابن عمر رضي الله عنهما: أطوف بالبيت وقد أحرمت بالحج؟ فقال: وما يمنعك؟ قال: إني رأيت ابن فلان -يقصد ابن عباس - يقول له: أنا رأيت ابن فلان يكرهه، وأنت أحب إلينا منه)]. يقول له: المسألة هذه فيها خلاف بينك وبين ابن عباس، لكنك أحب إلينا من ابن عباس، فأنت رجل عالم وزاهد ورجل فاضل، وابن أمير المؤمنين، أما ابن عباس فقد فتن وفتحت عليه الدنيا، وكان قد تولى الإمارة في البصرة، وعادة الأمراء أنهم أصحاب أموال وأصحاب وجاهة وغير ذلك، فأنت يا ابن عمر! أحب إلينا من ابن عباس، ورأيك إن شاء الله محل احترام، وسنعمل به! فانظر على الفتنة قول وبرة: (أنت أحب إلينا من ابن عباس) كأن هذا الأمر ليس بالعلم، وإنما بالفقر، فهو يستفتي الفقير، والفقير أحب إليه من الغني، هذا كلام غير صحيح، فالأمر كله مداره على العلم الصحيح المؤيد بالدليل. فقال ابن عمر: (وأينا -وفي رواية: وأيكم- لم تفتنه الدنيا). فـ ابن عمر لم يستغل الموقف، ولم يقل: نعم. والله صحيح، فعلاً ابن عباس فتنته الدنيا وأنا رجل فاضل، ولو شاء لحط يده في يد وبرة، وصارا يؤلبان الناس على ابن عباس كما يفعل أهل هذا الزمان. ولا أزكي نفسي. ثم قال -أي ابن عمر: (رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرم بالحج وطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة، فسنة الله ورسوله أحق أن تتبع من سنة فلان إن كنت صادقاً). المخطئ في هذا كله كما قلنا ابن عمر؛ لأن ابن عمر يفتي من أراد الحج والعمرة، سواء كان متمتعاً أو قارناً، أما السؤال الموجه في الإفراد فالحق مع ابن عباس. قال: [عن عمرو بن دينار: (سألنا ابن عمر عن رجل قدم بعمرة -يعني: ما أحرم إلا بعمرة- فطاف بالبيت ولم يطف بين الصفا والمروة. أيأتي امرأته؟)] أي: أحرم بالعمرة فطاف دون أن يسعى بين الصفا والمروة، هل تحل له امرأته؟ ومعلوم أنه تحل له امرأته بعد أن يطوف بين الصفا والمروة ويحلق أو يقصر. قال: [(فقال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت سبعاً، وصلى خلف المقام ركعتين، وبين الصفا والمروة سبعاً، وقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)]، يعني: لا تحل امرأته إلا إذا أحل.

باب ما يلزم من طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة من البقاء على إحرامه حتى يتحلل في يوم النحر

باب ما يلزم من طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة من البقاء على إحرامه حتى يتحلل في يوم النحر الباب التاسع والعشرون: باب ما يلزم من طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة من البقاء على إحرامه حتى يتحلل في يوم النحر. هذا الباب في حكم القارن لا المتمتع؛ لأن المتمتع إذا طاف وسعى وحلق أو قصر جاز له كل شيء حتى النساء، أما المفرد فيأتي مباشرة إلى منى أو إلى عرفات. ويتحلل في يوم النحر، وربما لم يبق لإحرامه إلا يومان: يوم عرفة ويوم النحر، على فرض أنه لم يدرك يوم التروية. قال: [عن محمد بن عبد الرحمن: (أن رجلاً من أهل العراق قال له: سل لي عروة بن الزبير عن رجل يهل بالحج، فإذا طاف بالبيت أيحل أم لا؟ فإن قال لك: لا يحل فقل له: إن رجلاً يقول ذلك -يعني: هناك رجل يقول: يحل- قال: فسألته فقال: لا يحل من أهل بالحج إلا بالحج -يعني: إلا بأداء الحج- قلت: فإن رجلاً كان يقول ذلك، قال: بئس ما قال. فتصداني الرجل -أي: فاعترضني- فسألني فحدثته فقال: فقل له: فإن رجلاً كان يخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك، وما شأن أسماء والزبير فعلا ذلك. قال: فجئته فذكرت له ذلك، فقال: من هذا؟ -أي: من الذي يرسلك إلي ويسألك ويقول لك: إذا قال لك كذا فقل له كذا؟ - قال: قلت: لا أدري. قال: فما باله لا يأتيني بنفسه يسألني؟ أظنه عراقياً -وهذا يدل على أن السلف كانوا يعرفون أن أهل العراق هم أهل فتنة- قلت: لا أدري. قال: فإنه قد كذب. قد حج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرتني عائشة رضي الله عنها أن أول شيء بدأ به حين قدم مكة أنه توضأ، ثم طاف بالبيت)] وهذا مذهب الجماهير: أن الوضوء شرط في صحة الطواف، وأن الطواف صلاة إلا أن الله أحل فيه الكلام، ولا تكون الصلاة بغير وضوء، إلا أبا حنيفة فإنه قال: الوضوء ليس شرطاً في صحة الطواف ولكن يستحب، والراجح: الأول. قال: [(ثم حج أبو بكر فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ثم لم يكن غيره -يعني: لم يفعل غير ذلك- ثم عمر مثل ذلك، ثم حج عثمان فرأيت أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ثم لم يكن غيره، ثم معاوية وعبد الله بن عمر، ثم حججت مع أبي -أي: الزبير بن العوام - فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت، ثم لم يكن غيره، ثم رأيت المهاجرين والأنصار يفعلون ذلك، ثم لم يكن غيره، ثم آخر من رأيت فعل ذلك ابن عمر ثم لم ينقضها بعمرة، وهذا ابن عمر عندهم أفلا يسألونه، ولا أحد ممن مضى ما كانوا يبدءون بشيء حين يضعون أقدامهم أول من الطواف بالبيت، ثم لا يحلون -يعني: لا يعتبرون أن هذا الطواف يجيز لهم التحلل- وقد رأيت أمي وخالتي -أمه أسماء، وخالته عائشة - حين تقدمان لا تبدءان بشيء أول من البيت تطوفان به، ثم لا تحلان أي: إلا بعد السعي والتقصير أو الحلق، والتقصير في حق النساء قيد أنملة من كل ضفيرة. قال: وقد أخبرتني أمي أنها أقبلت هي وأختها والزبير وفلان وفلان بعمرة قط، فلما مسحوا الركن حلوا)]. هذا الكلام لا بد من تأويله: (لما مسحوا الركن حلوا)، ويقصد الركن الذي فيه الحجر الأسود، وأن الماسح للركن يمسحه في مبدأ الطواف، وهل هناك تحلل بمجرد البدء بالطواف، أم أن التحلل يكون بعد السعي والحلق والتقصير؟ إذاً: لا بد من تأويل هذا النص. قال: فلما مسحوا الركن حلوا، والتأويل: أنهم لما انتهوا من الطواف والسعي والتقصير حلوا، هذا تأويل ولا بد منه حتى لا تتضارب الروايات. قال: وقد كذب فيما ذكر من ذلك، وبقية الروايات على نحو هذا.

تحلل أسماء بنت أبي بكر لعدم وجود الهدي وعدم تحلل الزبير لوجود الهدي معه

تحلل أسماء بنت أبي بكر لعدم وجود الهدي وعدم تحلل الزبير لوجود الهدي معه قال: [قالت أسماء بنت أبي بكر: (خرجنا محرمين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان معه هدي فليقم على إحرامه، ومن لم يكن معه هدي فليحلل)]، أي: من كان معه هدي فليقم على إحرامه حتى يؤدي حجه ويتحلل في يوم النحر، وهذا القارن. ومن لم يكن معه هدي فليحلل بعد أداء العمرة. قالت: [(فلم يكن معي هدي فحللت، وكان مع الزبير هدي فلم يحلل. قالت: فلبست ثيابي ثم خرجت فجلست إلى الزبير)]، هذا كلام أسماء بدليل أنه كان مع الزبير هدي فلم يتحلل بعد عمرته حتى تحلل يوم النحر بعد أداء المناسك، أما أسماء نفسها فلم يكن معها هدي، فتحللت بعد أداء العمرة؛ لأنها كانت متمتعة. قالت: [(ثم خرجت فلبست ثيابي فجلست إلى الزبير -يعني: قعدت بجوار زوجها فقال: قومي عني، فقلت: أتخشى أن أثب عليك؟)] قال الزبير ذلك لأنه كان محرماً، وهل يأمن المرء على نفسه إذا كان في هذا الموطن وعلى هذه الصفة من الإحرام أن تحدثه نفسه بوقاع امرأته، فهي متحللة، فإذا اشتهت زوجها ربما وثبت عليه، من أجل هذا أنكرت فقالت: لا تعتقد أني جئت لأفسد عليك حجك؟ لا. لن يكون هذا مني أبداً. وفي رواية: قالت: [(قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج)، ثم ذكر بمثل حديث ابن جريج] لما أدخلوا العمرة على الحج، فكان بعضهم ساق الهدي فكان قارناً، وبعضهم لم يكن معه الهدي فصار متمتعاً. قال: [غير أنه قال: فقال: استرخي عني -يعني: ابعدي عني- فقلت: أتخشى أن أثب عليك؟] قال: [وعن عبد الله مولى أسماء بنت أبي بكر حدث: (أنه كان يسمع أسماء كلما مرت بالحجون تقول: صلى الله على رسوله وسلم)]. الحجون: أعالي مكة، والنبي عليه الصلاة والسلام دخل مكة من أعلاها وخرج من أسفلها؛ ولذلك يسمون مكان الدخول المعلاة إلى الآن، ويسمون مكان الخروج المسفلة، وهذه الشوارع معروفة بهذه الأسماء إلى الآن. قال: [(كلما مرت أسماء بالحجون تقول: صلى الله على رسوله وسلم. لقد نزلنا معه هاهنا -أي: دخلنا مكة من أعاليها- ونحن يومئذ خفاف الحقائب -يعني: أمتعتنا قليلة وكنا فقراء- قليل ظهرنا -أي: يركب البعير اثنان أو ثلاثة- قليلة أزوادنا، فاعتمرت أنا وأختي عائشة والزبير وفلان وفلان، فلما مسحنا البيت أحللنا)] أي: لما طفنا وسعينا، يقال: فلان مسح الأرض، يعني: طاف بها، وجابها شرقاً وغرباً؛ ولذلك يقال للمسيح الدجال: المسيح؛ لأنه يمسح الأرض شرقاً وغرباً، ويضع قدمه عند منتهى بصره، وقد ورد في بعض الروايات أنه ينظر وهو في المشرق إلى الغرب فيكون نظره في منتهى الغرب، فتصور أنه ينظر من المشرق إلى المغرب، وفي خطوة واحدة يمسح الأرض، ولا ينجو من فتنته إلا من أراد الله له النجاة. قالت: (فلما مسحنا البيت) أي: فلما أدينا مناسك العمرة في البيت؛ لأن العمرة كلها في بيت الله الحرام، ومناسك العمرة: طواف وسعي وحلق، والنية تسبق ذلك. قالت: [(ثم أهللنا من العشي بالحج)]، يعني: ثاني يوم بعد الظهر أهللنا بالحج، أي: دخلوا مكة يوم السابع من ذي الحجة واعتمروا، وما مر عليهم إلا الليل وأوائل يوم الثامن، وفي العشي -والعشي يطلق على ما بعد الظهيرة- انطلقوا إلى منى مهلين بالحج.

باب في متعة الحج

باب في متعة الحج الباب الثلاثون: في متعة الحج. أي: في التمتع بالحج، وهو أحد أنواع الحج. قال: [عن مسلم القري قال: (سألت ابن عباس، رضي الله عنهما عن متعة الحج فرخص فيها، وكان ابن الزبير ينهى عنها)]، أنتم تعرفون أن التمتع محل نزاع بين الصحابة، لكن الإجماع انعقد على أن الحج قران وإفراد وتمتع، ومعلوم أن الإجماع بعد الخلاف يرفعه. قال: (سألت ابن عباس رضي الله عنهما عن متعة الحج فرخص فيها، وكان ابن الزبير ينهى عنها) أي: عبد الله بن الزبير، واسم أمه أسماء. قال عبد الله بن عباس: هذه أم ابن الزبير فإذا كان ابن الزبير ينكر التمتع بالحج، فإن أمه حجت مع النبي صلى الله عليه وسلم، وعبد الله بن الزبير صحابي صغير، ولم يثبت أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، بل كان طفلاً صغيراً فلم يحج، فإذا أردت أن تسأل فاسأل أمه، فهي خبيرة بذلك. قال: [(هذه أم ابن الزبير تحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص فيها)] أي: التمتع إما قراناً وإما تمتعاً؛ لأن أسماء رضي الله عنها هي التي نقلت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من كان معه هدي فلا يحلل حتى يحلل يوم النحر، ومن لم يكن معه هدي فليطف بالبيت وليسع بين الصفا والمروة، وليقصر وليحلل، وليهل بالحج يوم التروية). قال: تحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في المتعة، فادخلوا عليها فاسألوها. قال: فدخلنا عليها فإذا أمرأة ضخمة عمياء. طبعاً هذا الكلام لو قيل على سبيل التنقص لكان غيبة وكان حراماً، لكنه على سبيل التحقق أنه قد دخل وعرف أن هذه أسماء فسألها، وأسماء كانت مثل سودة رضي الله عنها في ضخامتها؛ ولذلك لما لبست سودة النقاب وخرجت إلى حاجتها، وكان عمر يغار على أزواج النبي عليه الصلاة والسلام: فقال: (يا سودة! إنك لا تخفين)، يعني: مهما تفعلي نحن نعرفك؛ لأنها كانت ضخمة جداً، فكان عمر يعرف أنها سودة، وأسماء كانت ضخمة، لكن ليست بضخامة سودة رضي الله عن الجميع. قال: [(فإذا امرأة ضخمة عمياء فقالت: قد رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها)]. قال: [وقال مسلم القري: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: (أهل النبي صلى الله عليه وسلم بعمرة وأهل أصحابه بحج، فلم يحل النبي صلى الله عليه وسلم ولا من ساق الهدي من أصحابه وحل بقيتهم -أي: بعد أداء العمرة لمن كان متمتعاً- فكان طلحة بن عبيد الله فيمن ساق الهدي فلم يحل)].

باب جواز العمرة في أشهر الحج

باب جواز العمرة في أشهر الحج الباب الحادي والثلاثون: باب جواز العمرة في أشهر الحج. وهذه نقطة فيها مخالفة لما كان عليه أهل الجاهلية، فأهل الجاهلية كانوا يقولون: عمرة في أشهر الحج لا تصح، بل كانوا يعدون أداء العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور. قال: [عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كانوا يرون أن العمرة فى أشهر الحج من أفجر الفجور فى الأرض)]. هذه -الحمد لله- ظلمة أخرجنا الله عز وجل منها على يد نبينا عليه الصلاة والسلام. قال: [(كانوا يرون أن العمرة فى أشهر الحج من أفجر الفجور فى الأرض، ويجعلون المحرم صفراً)]، وهذا النسيء الذي تكلم الله عز وجل عنه في القرآن الكريم وفي قوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة:37]. وكان أهل الجاهلية يرون أن القتال وإراقة الدماء في الأشهر الحرم منقصة عظيمة لا تجوز، والأشهر الحرم هي: ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب، ورجب ليس مع الأشهر المذكورة في الترتيب، بل هو قبل هذه الأشهر بشهرين، ولذلك سموه رجب الفرد، يعني: رجب لوحده، والثلاثة الأشهر الحرم الباقية هي: ذو القعدة، ذو الحجة، المحرم، لكنهم بمزاجهم، يقولون: المهم أن هناك أربعة شهور حرماً لا نحارب فيها، فيقومون بالنسيء، وهو أن يؤخروا شهراً ويقدموا شهراً مكانه، هذا النسيء الذي حرمه الله عز وجل في القرآن، وجعله مظهراً من مظاهر الكفر. قال: [(كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، ويجعلون المحرم صفراً، ويقولون: إذا برأ الدبر وعفا الأثر وانسلخ صفر حلت العمرة لمن اعتمر)]. قولهم: (إذا برأ الدبر) يقصدون: برأ أدبار وأظهار الإبل من التعب والكل وكثرة المشي. وقولهم: (وعفا الأثر) أثر الجمال في مشيها في الصحراء مع طول الوقت تأتي الرياح بالرمال فتجعل هذه الآثار كأن لم يكن جمل مر من هنا من قبل. وقولهم: (وانسلخ صفر) يعني: انقضى صفر. وقولهم: (حلت العمرة لمن اعتمر) يعني: الذي يريد أن يعتمر يعتمر بعد صفر. قال: [(فقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابعة)] يعني: دخل مكة يوم الرابع من ذي الحجة، يعني: في نفس التوقيت الذي حرم أهل الجاهلية تأدية العمرة فيه. قال: [(مهلين بالحج، وأمرهم أن يجعلوها عمرة، فتعاظم ذلك عندهم، فقالوا: يا رسول الله! أي الحل؟ قال: الحل كله)] يعني: تحللوا تماماً من أعمال العمرة، حتى تؤدى العمرة وحدها والحج وحده في أشهر الحج، خلافاً لما كان عليه الجاهلية. قال: [عن أبي العالية البراء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لأربع خلون من العشر وهم يلبون بالحج، فأمرهم أن يجعلوها عمرة)]. قال: [عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح بذي طول وقدم لأربع مضين من ذي الحجة، وأمر أصحابه أن يحولوا إحرامهم بعمرة، إلا من كان معه الهدي)]، فالذي كان معه الهدي يبقى قارناً، يعتمر ويبقى في إحرامه حتى يتحلل يوم النحر. قال: [قال ابن عباس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذه عمرة استمتعنا بها)] قوله: استمتعنا بها يشمل القارن والمتمتع؛ لأنه ما كان قد نوى عمرة من الميقات، وإنما نوى حجاً فقط، فلما أدخل العمرة على الحج صار مستمتعاً بالعمرة، مع أنه كان قارناً؛ فهذا الاستمتاع في حق القارن استمتاع لغوي، أما في حق المتمتع فإنه تمتع اصطلاحي. قال: [(فمن لم يكن عنده الهدي فليحل الحل كله، فإن العمرة قد دخلت في الحج إلى يوم القيامة)]. قال: [عن أبي جمرة قال: (تمتعت فنهاني ناس عن ذلك، فأتيت ابن عباس فسألته عن ذلك فأمرني بها -أي: قال: تمتع. ولا تلتفت إلى الجماعة التي تنهاك، ولا يضرك هذا- ثم انطلقت إلى البيت فنمت -يعني: انطلق إلى بيت الله الحرام فنام- فأتاني آت في منامي فقال: عمرة متقبلة وحج مبرور)]. إذاً: هذه بشارة، والحق مع ابن عباس لا مع من نهى أبا جمرة عن التمتع. قال: [(فأتيت ابن عباس فأخبرته بالذي رأيت، فقال: الله أكبر، الله أكبر، سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم)].

باب تقليد الهدي وإشعاره عند الإحرام

باب تقليد الهدي وإشعاره عند الإحرام قال: [باب تقليد الهدي وإشعاره عند الإحرام] يعني: من أول الإهلال لمن ساق هديه، طبعاً هذا الكلام بالنسبة للقارن إذا ساق الهدي، بل يجب عليه أن يسوق الهدي من الميقات إذا تيسر له ذلك، وإلا فبنيته يلتقط من أي مكان. قال: [قال ابن عباس رضي الله عنهما: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بذي الحليفة، ثم دعا بناقته فأشعرها في صفحة سنامها الأيمن معنى أشعرها: جرحها وخدشها -وسلت الدم- يعني: نظف الدم في موضع الجرح- وقلدها نعلين) يعني: ألبسها نعلين، أتى بجلد فربطه على مؤخرة قدم هذا الهدي، قال: (ثم ركب راحلته) لم يركب التي قلدها وأشعرها، وإنما واحدة أخرى غيرها؛ لأن الهدي لا يركب؛ فقد صار وقفاً لله عز وجل يمنع استخدامه. قال: [(ثم ركب راحلته، فلما استوت به على البيداء أهل بالحج)]. قلنا: إن من أهل من الميقات إنما يهل إذا استوت به ناقته أو دابته وانبعثت، وذكرنا أن بعض أهل العلم قال: إن الإهلال بالنسك سواء كان حجاً أو عمرة يكون بعد الصلاة وقبل أن يقوم من مقامه في مسجد الميقات. والصواب: أنه يهل إذا ركب دابته وانبعثت به، أي: وقامت، فبعد أن يتحرك الباص يبدأ في الإهلال، أما الإهلال من المسجد أو بعد الصلاة أو من الساحة أو من البيداء المجاور للمسجد أو غير ذلك فكل هذا ليس صحيحاً، ولذلك ابن عمر قال: (هذه البيداء التي تكذبون فيها على رسول الله عليه الصلاة والسلام، وتزعمون أنه ما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عند الشجرة)، وقد بينا في الدروس الماضية أن الشجرة هذه كانت عند باب مسجد ذي الحليفة، ولكن عمر قطعها حتى لا يعبدها الناس من دون الله عز وجل. إذاً: إذا ركب الرجل دابته وقامت أو تحركت بدأ في الإهلال، أما قبل ذلك وبعد ذلك فلا، فإنه إذا أهل بعد ذلك وجب عليه أن يذبح دماً؛ لأنه قد أهل بعد أن مضى، أو بعد أن عبر الميقات. قال: (صلى الرسول عليه الصلاة والسلام الظهر بذي الحليفة، ثم دعا بناقته فأشعرها في صفحة سنامها الأيمن، وسلت الدم وقلدها نعلين، ثم ركب راحلته فلما استوت به على البيداء أهل بالحج). والإشعار: هو أن يجرحها في صفحة سنامها اليمنى بحربة أو سكين أو حديدة أو نحوها، ثم يسلت الدم عنها، وأصل الإشعار والشعور: الإعلام والعلامة، ويقال: إشعار الهدي لكونه علامة له، وهو مستحب؛ ليعلم أنه هدي، فإن ضل رده واجده، وإن اختلط بغيره تميز؛ ولأن فيه إظهار شعار، وفيه تنبيه غير صاحبه على فعل مثل فعله. وأما صفحة السنام: فهي جانبه، والصفحة مؤنثة، ومعلوم أن الإشعار سنة وليس بواجب، ويكون الإشعار في الإبل والبقر دون الغنم؛ لأن الغنم أضعف من أن تحتمل الجرح، فضلاً عن أن شعرها وصوفها ووبرها يغطي هذا الإشعار، فلا تكون له فائدة حينئذ. قال: [قال أبو حسان الأعرج: (قال رجل من بني الهجيم لـ ابن عباس: ما هذه الفتيا التي قد تشغفت أو تشغبت بالناس أن من طاف بالبيت فقد حل؟ فقال: سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم وإن رغمتم)]، قال له: ما هذا الذي عملت يا ابن عباس؟! أنت عملت فتنة في وسط الناس، أأنت قلت: إن الذي يطوف بالبيت يتحلل؟ قال له: نعم. سنة نبيكم وإن رغمت أنوفكم، ولكن هذا للمتمتع. قال ابن عباس: (لا يطوف بالبيت حاج ولا غير حاج إلا حل -وهذا زيادة من ابن عباس - قلت لـ عطاء: من أين يقول ذلك؟ قال: من قول الله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:33]). طبعاً هذا مذهب مخالف لمذهب جماهير الصحابة، فـ ابن عباس مخطئ في ذلك، فـ ابن عباس يقول: (من طاف بالبيت) فلو كان يقصد التمتع فكلامه منضبط، أما إذا كان يقصد أن مجرد الطواف يحل للطائف الحل ويحتج بقول الله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:33]، أي: الكعبة، فإنه سيكون مجرد وصول الأغنام أو الأبقار أو الإبل إلى البيت العتيق يجعل صاحب الهدي حلالاً وإن لم يطف؛ لأنه قال: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:33]، فهذا المذهب خطأ من ابن عباس، خالفه غيره من الصحابة. ولذلك يقول النووي: هذا الذي ذكره ابن عباس هو مذهبه، وهو خلاف مذهب الجمهور من السلف والخلف، فإن الذي عليه العلماء كافة سوى ابن عباس أن الحاج لا يتحلل بمجرد طواف القدوم، بل لا يتحلل حتى يقف بعرفات، ويرمي ويحلق ويطوف طواف الزيارة، فحينئذ يحصل التحللان الكبير والصغير، ويحصل الأول باثنين من هذه الثلاث التي هي رمي جمرة العقبة والحلق والطواف. وأما احتجاج ابن عباس بالآية فلا دلالة له فيها؛ لأن قوله تعالى: {مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ ال

باب التقصير في العمرة

باب التقصير في العمرة باب التقصير في العمرة. يعني: باب جواز التقصير، بل الاستحباب للمعتمر الذي يريد التمتع أن يقصر دون أن يحلق، ويحلق في يوم الكمال والتمام وهو يوم النحر. قال: [عن ابن عباس قال: (قال لي معاوية: أعلمت أني قصرت من رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند المروة بمشقص؟ فقلت له: لا أعلم هذا إلا حجة عليك)]. قال ابن عباس: إن معاوية بن أبي سفيان أخبره قال: قصرت من رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص وهو على المروة، أو رأيته يقصر عنه بمشقص وهو على المروة. هذا الحديث فيه جواز الاقتصار على التقصير وإن كان الحلق أفضل، وسواء في ذلك الحاج والمعتمر؛ إلا أنه يستحب للمتمتع أن يقصر في العمرة ويحلق في الحج؛ ليقع الحلق في أكمل العبادتين. وفيه: أنه يستحب أن يكون تقصير المعتمر أو حلقه عند المروة؛ لأنها موضع تحلله كما قلنا من قبل، وهذا الحديث محمول على أنه قصر عن النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة الجعرانة لا في عمرة حجة الوداع؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يقصر في عمرة الوداع، وإنما طاف وسعى فقط، ثم انطلق بعد ذلك إلى منى، وحلق في يوم العاشر؛ لأن القارن لا يلزمه التقصير ولا الحلق من عمرته، لأنه قرن بين المنسكين الحج والعمرة، فلا يلزمه الحلق في عمرته أو التقصير، وإنما يلزمه الحلق أو التقصير في حجه. قال: وهذا الحديث محمول على أنه قصر عن النبي عليه الصلاة والسلام في عمرة الجعرانة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع كان قارناً، وثبت أنه عليه الصلاة والسلام حلق بمنى، وفرق أبو طلحة شعره بين الناس، فلا يجوز حمل تقصير معاوية على حجة الوداع، ولا يصح حمله أيضاً على عمرة القضاء؛ لأن عمرة القضاء هذه كانت في سنة سبع من الهجرة، ومعاوية لم يكن أسلم في هذا العام، وإنما أسلم في العام الثامن. يعني: بعد ذلك بعام، والله أعلم. قال أبو سعيد الخدري: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نصرخ بالحج صراخاً -هذا كان في حجة الوداع- فلما قدمنا مكة أمرنا أن نجعلها عمرة، إلا من ساق الهدي، فلما كان يوم التروية ورحنا إلى منى أهللنا بالحج) أي: من بيوت مكة.

باب إهلال النبي صلى الله عليه وسلم وهديه

باب إهلال النبي صلى الله عليه وسلم وهديه قال: [الباب الرابع والثلاثون: باب إهلال النبي صلى الله عليه وسلم وهديه. عن أنس رضي الله عنه: (أن علياً قدم من اليمن، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: بم أهللت؟ فقال: أهللت بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم، قال: لولا أن معي الهدي لأحللت)]. إذاً: المتمتع لا يسوق الهدي، والقارن يسوق الهدي، وإذا ساق الهدي لا يتحلل من عمرته بخلاف المتمتع يتحلل ويهل بالحج من مكانه في يوم التروية. تتكرر الأحاديث والخلاف بين عبد الله بن عمر وبين أنس بن مالك في مسألة الحج والعمرة. قال النبي عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده ليهلن ابن مريم بفج الروحاء حاجاً أو معتمراً أو ليثنينهما). وهذا يدل على أن عيسى بن مريم هو أحد أفراد أمة النبي عليه الصلاة والسلام، وهو تابع للنبي عليه الصلاة والسلام، وإن كان نبياً مستقلاً إلا أنه في آخر الزمان يكون تابعاً لأمة الإسلام. فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: عيسى بن مريم سيأتي في آخر الزمان، إما أن يحج أو يعتمر أو يجمع الحج والعمرة، وهذا يدل على جواز إفراد الحج وجواز التمتع والقران.

باب بيان عدد عمر النبي صلى الله عليه وسلم وزمانهن

باب بيان عدد عُمَرِ النبي صلى الله عليه وسلم وزمانهن الباب الأخير وهو الخامس والثلاثون: باب بيان عدد عُمَرِ النبي صلى الله عليه وسلم وزمانهن. يعني: كم عدد العمر التي اعتمرها؟ وفي أي الشهور اعتمر؟ أما عدد العمر فقد وقع الخلاف بين مالك والجمهور: مالك يقول: اعتمر ثلاث مرات، والجمهور: على أنه اعتمر أربع مرات. والصواب: هو الجمع بينهما، أن مالكاً قال: اعتمر ثلاثاً غير عمرة حجة الوداع، فلم يعدها، وبذلك تنسجم الروايات ويتألف كلام أهل العلم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم حج مرة واحدة بعد البعثة، وحج مرة أو مرتين قبل البعثة على ملة إبراهيم عليه السلام. قال: [قال أنس: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر، كلهن في ذي القعدة، إلا التي مع حجته)]، يعني: ثلاث عمرات في ذي القعدة، وواحدة في يوم الرابع من ذي الحجة. قال: [(عمرة من الحديبية أو زمن الحديبية في ذي القعدة، وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة، وعمرة من جعرانة حيث قسم غنائم حنين في ذي القعدة، وعمرة مع حجته)] أي: في ذي الحجة. الخلاف بين زيد بن أرقم وبين أنس وبين عائشة وابن عمر وغيرهم أن النبي عليه الصلاة والسلام اعتمر أقل من ذلك، والصواب ما ذكرناه، وأخطأ من قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر في رجب، وما اعتمر في رجب قط، كان عبد الله بن عمر يقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم اعتمر مرة في رجب، والصواب: أنه لم يعتمر في رجب، وراجعته عائشة، ولما راجعته عائشة سكت ولم يتكلم. قالت: (يرحم الله أبا عبد الرحمن فإنه قد أخطأ، ما اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في رجب قط، وعبد الله بن عمر يسمع إنكارها فلم يرد عليها)، فتبين أنه لم يضبط أحد زمن عمرات النبي عليه الصلاة والسلام قدر ما ضبطته عائشة وأنس وبقية أصحابه رضي الله عنهم أجمعين. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الأسئلة

الأسئلة

تكفير الحج المبرور للذنوب

تكفير الحج المبرور للذنوب Q هل يلزم مغفرة الذنوب لكل من وقف بعرفة؟ A ليس كل من وقف بعرفات يغفر له، إنما يغفر له من كان حجه مبروراً. وفي الحديث: (من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه). واختلف العلماء في قوله: (كيوم ولدته أمه) ومعلوم أن من ولد لا ذنب عليه، فهل الحج يغفر الذنوب جميعاً كبيرها وصغيرها، أو يغفر الصغائر دون الكبائر. والراجح من أقوال أهل العلم وهو مذهب الجماهير: أن الحج يكفر الذنوب جميعاً كبيرها وصغيرها، وهذا فضل من الله.

بيان ما تفعله الفتاة إن أجبرها والدها على خلع النقاب

بيان ما تفعله الفتاة إن أجبرها والدها على خلع النقاب Q لما لبست النقاب غضب والدي وحلف بالطلاق من أمي إن لم أخلع النقاب فماذا أفعل؟ A اخلعي النقاب، ولا شيء لك غير ذلك، فإذا رزقت بمن يحفظ عليك أمر دينك فنعما به، لأن كثيراً من الآباء لا يستحقون أن يكونوا آباءً، كما أن الجمع الغفير من الأبناء لا يستحقون أن يكونوا أبناءً. فالأصل في ضبط هذه المسألة أن كل واحد -أب أو أم- يقف عند حد الشرع، ومن تجاوز ذلك فحسابه على الله عز وجل. أقول لهذه الفتاة أن تخلع النقاب، وألا تخرج من بيتها إلا لضرورة ملحة، وأن تلبسه في خروج يترتب عليه فتنة.

الحكم على حديث (كنت كنزا مخفيا)

الحكم على حديث (كنت كنزاً مخفياً) Q يقول أحد المشايخ: إن الله عز وجل يقول في حديث قدسي: (كنت كنزاً مخفياً وأردت أن أعرف وخلقت الخلق حتى يعرفوني) فهل يوجد حديث بهذا اللفظ، وإن كان فما المعنى الذي يدل عليه، وما رأيكم في هذا الشيخ؟ A هذا الحديث حديث موضوع غير صحيح، والذي أذكره أن هذا السائل وجه نفس السؤال في الدرس الماضي، وزاد في Q أن هذا الشيخ قال: (حتى يعرفوني) أي: حتى يعرفوا عظمتي وجلالي. أقول: إن هذا الشيخ الذي قال ذلك -سواء كنتم تعلمونه أو لا- هو في العقيدة ليس على منهج السلف، بل هو يتأول الصفات على منهج الأشاعرة. فعلى أية حال هو شيخ جليل، وله باع عظيم جداً في الدعوة إلى الله عز وجل، ونحسبه مخلصاً إلا في قضية الصفات، فإنه ليس ينهج نهج أهل السنة، فاحذروا مسائله في الصفات. أما أن تحذروه برمته فهذا ليس من العدل، بل جهوده مشكورة جداً في الدعوة إلى الله عز وجل، وقد تاب على يديه آلاف الناس.

حكم تقصير القارن لعمرته وحلقه يوم النحر

حكم تقصير القارن لعمرته وحلقه يوم النحر Q هل يجوز للقارن أن يقصر في عمرته ويحلق في يوم النحر؟ A نعم. يجوز له ذلك، أما وجوباً فلا.

أخطاء العلماء

أخطاء العلماء Q الشيخ أبو زهرة كان حاقداً وناقماً على منهج السلف، فما رأيك فيه؟ A الشيخ أبو زهرة كغيره من أهل العلم، وهو رجل أبلى بلاءً حسناً في نشر دين الله عز وجل، وكان حجر عثرة في وجوه أعداء الله عز وجل في داخل الأزهر وخارجه، وله من الجهود العلمية والمصنفات الفقهية وغيرها ما يحمد له ويشكر، غير أنه أكب هنا، وكان يسلك مسلكاً غير مسلك السلف في بعض القضايا لا في كل شيء، وهذا لا يخلو منه عالم. فأظن أن منهج أهل السنة في مثل هذا أن يوهب شره لخيره، والنظر إلى ما أخطأ فيه أبو زهرة أو غيره كالشيخ محمد عبده أو رشيد رضا أو غيرهم ما أخطئوا فيه لا أظن أنهم متعمدون للخطأ.

كتاب الحج - السعي بين الصفا والمروة ركن لا يصح الحج إلا به

شرح صحيح مسلم - كتاب الحج - السعي بين الصفا والمروة ركن لا يصح الحج إلا به من أركان الحج: السعي بين الصفا والمروة، فلا يصح الحج إلا بالإتيان به، وهو مرة في حق المفرد والقارن، ومرتان في حق المتمتع، فمرة يسعى لعمرته، ومرة يسعى لحجته، كما يشرع للحاج رمي جمرة العقبة ضحى يوم النحر، ثم يرمي الجمار الثلاث أيام التشريق الأول والثاني والثالث.

حكم السعي بين الصفا والمروة

حكم السعي بين الصفا والمروة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن لا يصح الحج إلا به]. فالسعي بين الصفا والمروة ركن من أركان الحج، لا يصح إلا بالإتيان به؛ لأن الركن داخل في ماهية الشيء، وفي تكوينه وأساسه بخلاف الواجب، فإن الواجب يجبر بدم، كالمبيت بمنى في أيام التشريق فإنه واجب، فمن حج ولم يبت بمنى في هذه الليالي فإن عليه دماً؛ لأنه لابد أن تعرف أن أي واجب يقصر فيه الحاج يجبر بدم، وأي ركن في الحج يقصر فيه بمعنى لا يأتيه ألبتة فإنه يبطل به حجه. فقوله: باب بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن لا يصح الحج إلا به، يعني: من لم يسع لا حج له، وهذا السعي في حق المتمتع مرتان: مرة مع العمرة، ومرة مع الحج. يعني: يطوف ويسعى بين الصفا والمروة، ويحلق ويتحلل؛ لأنه لا يتحلل قط معتمر إلا بعد السعي بين الصفا والمروة. أما القارن فله أن يطوف بالبيت ويصلي ركعتين، ثم يرجع إلى الحجر فيقبله، أو يستلمه، أو يشير إليه مكبراً، ولا يسعى بين الصفا والمروة، ولا يحلق، ثم ينطلق يوم التروية إلى منى فيؤدي الحج، لكنه في يوم النحر إذا نزل إلى مكة وجب عليه أن يطوف بالبيت، وأن يسعى بين الصفا والمروة. إذاً: القارن ليس عليه من الوجوب إلا سعي واحد بين الصفا والمروة، فإن فعل هذا السعي بعد طواف القدوم، أو بعد طواف العمرة، فليس عليه سعي في يوم النحر، وإنما يطوف بالبيت فقط. وإذا لم يأت به في أداء عمرته، فيجب عليه أن يأتي به في يوم النحر على الخلاف المذكور. فالذي لا يطوف ولا يسعى في يوم النحر، وتحلل بأداء المنسكين: رمي جمرة العقبة والذبح، أو الحلق فله أن يتحلل، وهذا المعلوم عند أهل العلم بالتحلل الأصغر الذي يحل له كل شيء إلا النساء؛ لأن حل النساء هو التحلل الأكبر. ولا يحل له النساء إلا بعد الطواف والسعي، فإذا طاف وسعى وأتى منسكين آخرين حل التحلل الأكبر، بمعنى: كل شيء يحل له كان حراماً عليه في حال إحرامه حتى النساء، والذي لا يطوف في نهار النحر، ودخل عليه الليل ولم يطف وأراد أن يطوف بالليل، أو أن يطوف في اليوم الثاني أو الثالث أو الرابع وهي: أيام التشريق، فيجب عليه أن يلبس ملابس الإحرام من جديد. لكن الشيخ عادل العزازي حفظه الله راجعني في هذه القضية وقلت له: أنا ظننت أن هذه المسألة مستقرة عندك؛ لأننا تلقيناها عن الشيخ الألباني، والشيخ الألباني صاحب دليل فيها، وإن لم يقل فيها أحد من أهل العلم السابقين قبله بقول، إلا ما ورد إشارة عند النووي في شرح الصحيح في شرح حديث جابر الطويل في صفة حجه عليه الصلاة والسلام. ولكن الشيخ الألباني وقف عندها وأكد عليها وساق لها الدليل، أن من أدركه الليل في يوم النحر ولم يطف ولم يسع فعليه الإحرام، والحديث صحيح. ولكني حاولت مراراً وبذلت جهداً جهيداً أنا وإخواني الذين يهتمون ويعنون بكتب التراث للحصول على نسخة كتاب: مناسك الحج والعمرة للشيخ الألباني، ولكن للأسف الشديد لم نجد الكتاب إلى الآن. فهذه المسألة من أراد أن يرجع إليها بالتفصيل فليرجع إلى كتاب: مناسك الحج والعمرة للشيخ الألباني. وهذه قضية مهمة؛ لأن كثيراً من الناس يغفل عنها، بل ربما لا يعرفها من الأصل، فإن الذي لم يطف ولم يسع في يوم النحر عليه أن يلبس ملابس الإحرام إذا جن عليه الليل، والذي نقل هذا الكلام إلى الشيخ عادل لم يذكر له أني قلت: إذا جن عليه الليل. فظن الشيخ أنني ألزم الناس بلبس ملابس الإحرام في كل وقت، وفي كل حين حتى في نهار النحر قلت: أنا لم أقل هذا، وما آفة الأخبار إلا رواتها، قلت: أنا لم أقل هذا وحاكمني الشيخ عادل، ولكني قلت له: بيني وبين القوم الشريط والكلام مسجل، وهو أني قيدت ذلك بدخول الليل، فاشترطت دخول الليل.

حكم لبس الباروكة للمرأة تتزين بها لزوجها

حكم لبس الباروكة للمرأة تتزين بها لزوجها المسألة الثانية التي يسرني جداً أن أعتذر عنها، وأن أنسحب منها قبل البدء في الدرس وهي أنني قلت: إن لبس الباروكة للمرأة المسلمة تتزين بها لزوجها أمر جائز، وامتثالاً لقوله عليه الصلاة والسلام: (الدين النصيحة) وهذه النصيحة أنا أولى بها من أي إنسان آخر. وقول عمر لـ أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما: يا أبا موسى أو قال له: يا عبد الله بن قيس، اعلم أن الرجوع بالحق خير من التمادي بالباطل. وقول أبي حنيفة: إنما نحن بشر نقول القول اليوم ونرجع عنه غداً. والحقيقة: اللياقة والمرونة والشهامة هي: أن المرء إذا علم أنه أخطأ يرجع عن خطئه، وهذا تمام العلم وكماله، ولا أدعيه لنفسي، لكن على أية حال لا بأس أن نتمسك بأسلافنا رحمهم الله. فهذه المسألة أنا قد أخطأت فيها حتى أوقفتني امرأتي جزاها الله خيراً على فتوى للجنة الدائمة، لما وجه إليها Q ما حكم لبس المرأة ما يسمى بالباروكة لتتزين بها لزوجها؟ فأجابت اللجنة المباركة: ينبغي لكل من الزوجين أن يتجمل أحدهما للآخر بما يحببه فيه، ويقوي العلاقة بينهما، لكن في حدود ما أباحته شريعة الإسلام دون ما حرمته، ولبس ما يسمى بالباروكة بدأ في غير المسلمات، فهو أصلاً من زينة الكافرات، واشتهرن بلبسه والتزين به حتى صار من سيمتهن. فلبس المرأة المسلمة إياها، وتزينها بها ولو لزوجها فيه تشبه بالكافرات، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله: (من تشبه بقوم فهو منهم). ولأنه في حكم وصل الشعر بل أشد منه وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ولعن فاعله. وإني أنسلخ من الكلام الأول انسلاخاً تاماً، وأقول: هذه عقيدتي في هذه القضية، جزاكم الله خيراً، وأرجو أن تسامحوني.

باب بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن لا يصح الحج إلا به

باب بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن لا يصح الحج إلا به الباب الثالث والأربعون: باب بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن لا يصح الحج إلا به. والسعي بين الصفا والمروة للمتمتع يكون مرتين؛ لأن العمرة الأولى لا تتم إلا بطواف وسعي، والحج لا يتم إلا بطواف وسعي. أما القارن فإن عمرته تتم بغير سعي إذا كان سيسعى مع طوافه في يوم النحر، يعني: أن القارن إما أن يؤخر السعي، وإما أن يعجل السعي، فإذا عجل السعي فالسعي في يوم النحر مستحب وليس واجباً. أما المفرد إذا أخره فالسعي في يوم النحر في حقه واجب؛ لأن المفرد ليس له إلا سعي واحد. قال: [عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: أو قلت لها: إني لأظن رجلاً لو لم يسع بين الصفا والمروة ما ضره، قالت: لم؟ قلت: لأن الله تعالى يقول: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:158] إلى آخر الآية، فقالت: ما أتم الله حج امرئ ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة]، يعني: عروة بن الزبير يقول لـ عائشة: أنا أرى أن واحداً حج أو اعتمر ولم يسع بين الصفا والمروة ليس عليه حرج، وأن السعي بين الصفا والمروة إنما أذن فيه الشارع لبيان مسألة عقدية كانت على أيام الجاهلية؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158]. فوقف عند قوله: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ} [البقرة:158] يعني: المسألة ليست عزيمة، فالذي يريد أن يسعى فلا جناح عليه، والذي لا يريد لا شيء عليه، فلا جناح عليه أن يطوف بهما. قالت عائشة رضي الله عنها له: لو كان الأمر كما تقول لكان: فلا جناح عليه ألا يطوف بهما؛ يعني يطوف أو لا يطوف، إذا كنت تعتبر أن هذا الطواف أو السعي بين الصفا والمروة من باب الاستحباب لكان سياق الآية يختلف عن سياق المتواتر، فلا جناح عليه ألا يسعى، فالآية ليست كما تظن أو كما فهمت، بل الآية حجة عليك، وليست حجة لك، فهي تريد أن تقول له: أنت لا تفهم الحديث إلا إذا عرفت سبب ورود الحديث، ولا تفهم الآية إلا إذا عرفت سبب نزول الآية، فقوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158]، كانت الأنصار في الجاهلية يعبدون صنمين هما: إساف وكان على الصفا، ونائلة وكانت على المروة، ثم تحول الصنمان إلى حجر الكعبة، ثم إلى جوار الكعبة، فكانوا يسعون بين الصفا والمروة لأجل عبادة الصنمين. فالأنصار لما دخلوا في الإسلام وأتوا إلى مكة معتمرين تحرجوا أن يطوفوا بين الصفا والمروة؛ لأنهم كانوا يسعون في الجاهلية عبادة للأصنام. فقولها: إنما كان ذاك أن الأنصار كانوا يبلون في الجاهلية لصنمين على شاطئ البحر يقال لهما: هتاف ونائلة، وقولها: على شاطئ البحر هذا خطأ، وإنما الذي كان على شاطئ البحر شيء آخر. قالت: ويأتون إلى الصفا والمروة فيعبدون هذين الصنمين، ثم يجيئون فيطوفون بين الصفا والمروة، ثم يحلقون، فلما جاء الإسلام كرهوا أن يطوفوا بينهما للذي كانوا يصنعونه في الجاهلية، أي: يطوفون بين الصفا والمروة لعبادة الصنمين. قالت: فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:158]، أي: ليستا عبادة الصنمين، وإنما هما من شعائر الله، {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ} [البقرة:158] أي: فلا يتحرج أن يطوف بين الصفا والمروة كما كان يطوف في الجاهلية، فإنه الآن من شعائر الإسلام. قال: [قال عروة: قلت لـ عائشة: (ما أرى علي جناحاً ألا أطوف بين الصفا والمروة، قالت: لم؟ قلت: لأن الله عز وجل يقول: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158]، قالت: لو كان كما تقول لكان: (فلا جناح عليه ألا يطوف بهما) إنما أنزل هذا في أناس من الأنصار كانوا إذا أهلوا أهلوا لمناة في الجاهلية -ومناة هذه هي التي كانت على شاطئ البحر- فإذا دخلوا الحرم توجهوا إلى الصفا والمروة فعبدوا هذين الصنمين، فيطوفون بين الصفا والمروة، فلما قدموا مع النبي صلى الله عليه وسلم للحج ذكروا ذلك له، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فلعمري ما أتم الله حج من لم يطف بين الصفا والمروة)]. قولها: فلعمري هذا قسم، (ما أتم الله حج امرئ أتى للحج ما لم يطف بين الصفا والمروة)، يعني تريد أن تقول له: إن السعي هذا ركن من لم يأت به فلا حج له.

باب بيان أن السعي لا يكرر

باب بيان أن السعي لا يكرر الباب الرابع والأربعون: باب بيان أن السعي لا يكرر. وهو أن السعي لا يكرر في حق القارن، وهذا الكلام قدمناه، والمتمتع يكرر سعيه، والمفرد لا سعي عليه إلا سعياً واحداً، فالقارن الذي ساق الهدي من الميقات ولم يتحلل بعد عمرته انتظاراً للإهلال في يوم التروية عليه سعي واحد. قال: [وقال جابر: (لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً)]. وفي الدروس الماضية تكلمنا مراراً وأثبتنا أن النبي عليه الصلاة والسلام كان قارناً. ومعنى قول جابر: (ما طاف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه إلا طوافاً واحداً)، أي: ولا أصحابه الذين ساقوا الهدي. أما من لم يسق الهدي فإنه يجب عليه سعيان، وهو المتمتع.

باب بيان وقت استحباب الرمي

باب بيان وقت استحباب الرمي الباب الثالث والخمسون: باب بيان وقت استحباب الرمي. والرمي رميان: رمي في يوم النحر، ورمي في أيام التشريق. ورمي الجمرات بحصى الخذف، فإذا زادت عن ذلك أو نقصت جاز مع الكراهة، لكن على أية حال: يكره إذا تعمد الملتقط أن يلتقط أصغر من حصى الخذف أو أكبر، أما من لم يجد إلا أكبر أو أصغر فلا حرج عليه. فمثلاً: لا يلتقط المحرم حصى خذف مثل حبة الأرز، وإن فعل سيجزئه لكن مع الكراهة. ولا يلتقط سبعة أحجار كبار تقع في وجوه الناس من الناحية المقابلة له، ويعتبر أن هذه عبادة، فعلى اعتبار أنه لو رمى بحصى الخذف وجاءت في وجوه المقابلين له لا تضرهم، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف فقال: (إنه لا ينكأ عدواً، وإنما يفقأ العين). وقد كنا نخذف ونحن نرعى الأغنام، والحمد لله ما من نبي إلا ورعى الغنم. فباب بيان وقت استحباب الرمي. قال: [عن جابر قال: (رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمرة يوم النحر ضحى -ويوم النحر هو يوم العيد- وأما بعد -أي: وأما بعد يوم النحر- فإذا زالت الشمس)]. إذاً: الجمرة جمرتان: جمرة العقبة الكبرى، وهي التي ترمى فقط يوم النحر، ورميها ضحى، ويجوز أن ترمى إلى وقت المغرب، لكن أحب الأوقات في رميها الضحى بعد أن تنزل من مزدلفة إلى منى. وجمرة العقبة الكبرى في منى، لما تنزل من مزدلفة ستنزل إلى منى يوم النحر بعد الشمس، وقدر المشي ساعة ما بين مزدلفة إلى منى، فإذا وصلت إلى منى وبحثت عن جمرة العقبة الكبرى كنت في وقت الضحى، ولذلك يجوز أن تلتقط حصى الخذف الذي ترمي بها جمرة العقبة من مزدلفة، أو من طريقك إلى منى، أو من منى نفسها. وبعض الحجاج في ليلة المبيت بالمزدلفة يبيتون مهمومين ومنشغلين بجمع سبع حصيات لكي يذهبوا إلى منى وينطلقوا منها مباشرة. والخطأ الثاني أيضاً: بعض الحجاج يطيب حصى الخذف وهو محرم، والمحرم لا يجوز له أن يستعمل الطيب، فهو عندما يطيب هذه الحصيات سيمس من الطيب، وهذا خطأ كبير أيضاً. بعض أهل العلم هناك يفتي بوجوب الدم؛ لأن هذا تنطع في عدة مسائل، فالصحابة ما غسلوا الحجارة، لأن الأصل فيها الطهارة، لحديث: (جعلت لي الأرض طهوراً) أي: الأرض كلها بحصاها وترابها ووحلها وطينها طهور. لكن قد يقال: نحن نطيبها لأنها تقع في يد الله عز وجل، من الذي نص على أن هذه الحصيات تقع في يد الله إذا رميتها؟! والشيعة عليهم لعنة الله لا يلتقطون الحصى إنما يلتقطون أكياس الدم، فكل واحد منهم يأتي بسبع أكياس دم، وهذه إشارة لمقتل الحسين، فهم يرجمون الشيطان بأكياس الدم. تصور أن كل شيعي يرمي بسبعة أكياس دم، والأكياس تقع في محل الشاهد فتنفجر، فيرجع الدم على الحجاج، فهذا بلاء عظيم مع ما في هذا اليوم من شدة الزحام، والذي يسقط على الأرض فكبر عليه أربعاً لوفاته، سواءً كان كبيراً أو صغيراً، رجلاً أو امرأة، فلا مجال أبداً لحياته إلا أن يأذن الله تبارك وتعالى له بذلك. فحصى الخذف لا تغسل ولا تطيب ولا شيء من هذا، وتلتقط من أي مكان، ولا مانع للحاج -وهذا يحصل لما يأتي يوم عشرين من ذي القعدة- أن يأخذ من بلاده حصى فيضعها في الشنطة مثلاً ويحافظ على هذه السبع الحصيات. و Q هل يجوز رمي الجمرة أياً كانت: الوسطى أم الصغرى أم الكبرى بجمار رمي بها من قبل؟ و A لا يجوز، إنما الجمرة يرمى بها مرة واحدة. ولذا فإن عربيات البلدية هناك تقوم برفع كل هذا الحصى وترميه بعيداً في الجبل؛ من أجل اليوم الثاني يرمي الناس الجمرات بحصى جديدة، وقد يلتقط الناس ثاني يوم أو ثالث يوم أو رابع يوم الذي هو ثالث أيام التشريق نفس الجمرات التي رموا بها بالأمس أو قبل الأمس، لكن هذا لا يضر، لأن الذي يغلب على الظن: أن هذه الجمار التي تلتقط من بعيد لم يرم بها، إنما التي رمي بها هي التي تأخذها من الجو، أو التي أخذتها في أثناء الرمي من محل الشاهد نفسه، أو من البير نفسه، فإن الموجود في هذا البير يقيناً عندك أنه قد رمي به، فلا يجوز التقاطه مرة أخرى، إنما إذا مررت بالجبل والتقطت منه وإن رمي به ألف مرة فإن الأصل فيه عدم الرمي، وهذا جهل لا يضرك. فمن شك هل رمي بها أو لم يرم بها، فالأصل عدم الرمي ما دامت بعيداً. والحوض لابد أن تقع الحصى فيه، ولا يصح الرمي إلا أن تقع في الحوض نفسه. جابر رضي الله عنه يقول: (رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمرة يوم النحر) وهي جمرة العقبة الكبرى، أما الكبرى والوسطى والصغرى فهي ترمى في أيام التشريق الثلاثة إلا لمن تعجل، كما قال تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:203]. يعني: الذي هو مستعجل ويريد أن يسافر أو ينطلق، ولذلك المتعجل لا يجوز له أن يبقى في مكة رابع أيام التشريق، ولذلك قال: {لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة:203] يعني: هذه المسألة مربوطة بتقوى الله عز وجل، {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْ

باب بيان أن حصى الجمار سبع

باب بيان أن حصى الجمار سبع الباب الرابع والخمسون: باب بيان أن حصى الجمار سبع. قال: حصى الجمار، ولم يقل: حصى الجمرة الكبرى. أيام التشريق فيها رمي الجمرات الثلاث، بخلاف يوم النحر، ففيه رمي جمرة العقبة الكبرى فقط بسبع حصيات. قال: [قال جابر رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الاستجمار تو، ورمي الجمار تو، والسعي بين الصفا والمروة تو، والطواف تو، وإذا استجمر أحدكم فليستجمر بتو)]. يريد أن يقول لك: إن العدد سبعة مستحب في بعض العبادات، وواجب في البعض الآخر.

باب استحباب طواف الإفاضة يوم النحر

باب استحباب طواف الإفاضة يوم النحر الباب الثامن والخمسون: باب استحباب طواف الإفاضة يوم النحر. قال: [يقول ابن عمر: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر، ثم رجع فصلى الظهر بمنى). قال نافع: (فكان ابن عمر يفيض يوم النحر، ثم يرجع فيصلي الظهر بمنى، ويذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله)]. يعني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر، بمعنى: طاف طواف الإفاضة، فالنبي عليه الصلاة والسلام في يوم النحر طاف طواف الإفاضة، ثم رجع فصلى الظهر بمنى. إذاً: أول مافعله النبي عليه الصلاة والسلام هو أنه أتى من مزدلفة إلى منى ثم رمى جمرة العقبة، ثم حلق، ثم ذبح، ثم انطلق إلى مكة، فطاف طواف الإفاضة، وسعى بين الصفا والمروة، ثم رجع إلى منى فصلى بها الظهر. والنبي صلى الله عليه وسلم حج في ذلك الوقت راكباً، وهذا أخص. قال: [وعن عبد العزيز بن رفيع قال: قلت لـ أنس بن مالك: (أخبرني عن شيء عقلته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أين صلى الظهر يوم التروية؟ قال: بمنى، قلت: فأين صلى العصر يوم النحر؟ قال: بالأبطح، ثم قال: افعل ما يفعل أمراؤك)]. يعني: أنت ليست لك علاقة بالنبي عليه الصلاة والسلام، إنما النبي عليه الصلاة والسلام فعل هذا لأنه الأحسن، لكن لا يمنع أن يكون هناك خلاف الأحسن وهو الجائز، يعني خلاف المستحب الجائز أو المباح. فقال له أنس رضي الله عنه: إن النبي صلى الله عليه وسلم فعل كيت وكيت، لكن لا يلزمك هذا، إنما الذي يلزمك هو اتباع الأمراء؛ لأن مخالفة الأمير سبب فتنة عظيمة، ونحن في الدروس الماضية ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قصر الصلاة بمنى، وأبو بكر وعمر قصرا الصلاة بمنى، إلا عثمان رضي الله عنه فإنه صلى أربعاً، وصلى خلفه ابن مسعود رضي الله عنهما أربعاً، فقيل لـ ابن مسعود: لمَ صليت وقد علمت أن عثمان خالف السنة في ذلك؟ قال: الخلاف شر. يعني: يرضيكم أن ابن مسعود يصلي في مكة ركعتين، ولا يصلي مع الإمام أربعاً، فصلاة الظهر بمنى أربع ركعات جائزة، وإن كان الأولى اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لو خالف أحد فصلى أربعاً تصح صلاته. وهذه السنة العظيمة خفيت على عثمان بن عفان، وهنالك مسائل مشهورة ومستفيضة عند الصغار قد خفيت على الكبار؛ ليجري الله عز وجل سنته في الخلق مهما بلغت قيمته ومنزلته أنه لا يحظى بالعلم كله. وموسى عليه السلام وهو نبي ذهب إلى الخضر وأخذ منه العهود والمواثيق الغليظة أنه لا يعترض عليه، ومع هذا أخطأ ثلاث مرات وأول مرة وثاني مرة قبل عذره، ولما أخطأ في المرة الثالثة فارقه، ولذلك قال له الخضر: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف:78]، أي: أنت لا تنفع للصحبة أبداً، مع أنه نبي لكنه بشر في النهاية، ولذلك هو معصوم في جهة الشرع، أما في غير جهة الشرع فليس معصوماً. ولا يجوز على الأنبياء ارتكاب الكبائر باتفاق، أما الصغائر فالخلاف فيها قائم، والراجح جواز وقوع الأنبياء في الصغائر التي لا علاقة لها بالشرع. إذاً: طواف الإفاضة ليس بواجب يوم النحر بل هو مستحب، يعني: يجوز لك أن تؤخره إلى اليوم الثاني والثالث والرابع؛ لأنه مستحب يوم النحر، وليس بواجب، بل بعض أهل العلم قالوا: إنما يجب أداء طواف الإفاضة في شهر ذي الحجة، ومن لم يفعله في شهر ذي الحجة فلا حج له، أي: ما أتم الله حجه كما قالت عائشة رضي الله عنها. أما المستحب وهو أن يطوف في يوم النحر، وليس في ليلة الحادي عشر؛ لأن لغة الشرع تفرق بين اليوم والليلة. فالليل يطلق على الليل، واليوم يطلق على النهار دون الليل. ولذلك فإن الكتب التي عنيت بأعمال اليوم والليلة تجد فيها مثلاً: أذكار اليوم والليلة، أي: أذكار النهار والليل، لأن اليوم يطلق على النهار دون الليل. فطواف الإفاضة في يوم النحر مستحب، ولا يتحلل التحلل الأكبر إلا به، أما إذا تحلل التحلل الأصغر بأداء منسكين من بقية المناسك، فإنه يحل له كل شيء إلا النكاح. ولا يرخص في ترك المبيت إلا لأهل السقاية، وهم الذين يأتون بالماء من مكة، ويوم التروية سمي يوم التروية لأن الحجاج يتروون فيه، يعني: يأخذون ما يرويهم من العطش من مكة إلى منى. وأيام التشريق سميت تشريقاً لأن اللحم كان فيها يشرق بمعنى: أنه يجفف، أو يشقق قطعاً ثم يجفف.

باب وجوب المبيت بمنى

باب وجوب المبيت بمنى قال: [باب وجوب المبيت بمنى]. اعلم أن المبيت بمنى واجب، الذي هو ليلة الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، لكن هذا الوجوب ينسحب على من بقي في المكان ولو جزءاً يسيراً من الليل. فاللغة والشرع يسمحان بإطلاق لفظ المبيت على من أدرك المبيت بمنى، ولو جزءاً يسيراً من الليل. ثم اختلفوا هل هذا الجزء اليسير يكون في أول الليل أم في آخره؟ ومن تمكن من البقاء والمبيت بمنى من أول الليل فهذا بلا شك أولى، وأخرج له من الخلاف، وإذا لم يتمكن إلا من البقاء في منى جزءاً يسيراً من الليل من أوله أو من آخره، ما دام أنه لم يتمكن من ذلك إلا على هذا النحو فإنه يجبره. وهذه المسألة ستقابلها في منى، فإن بقاءك في النهار ليس بلازم؛ لأن القصد أن ترمي الجمرات الثلاث بعد الزوال. فبقاؤك من الفجر إلى الظهر في منى ليس بلازم، بإمكانك أن تنطلق خارج منى، وبقاؤك بعد الزوال إلى غروب الشمس ليس بلازم، إنما لأجل رمي العقبات الثلاث، فإذا رميتها بعد الزوال ثم انطلقت إلى مكة لتحظى بفضل وثواب الصلاة في المسجد الحرام فلك ذلك، يعني أن تذهب فتصلي العصر هناك، ولا بأس أن تصلي المغرب والعشاء هناك، فتكون صليت العصر والمغرب والعشاء، والصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، أي: بثلاثمائة ألف صلاة، يعني: بحوالي مائة وخمسين ألف يوم في الحياة العادية، أو بمائتي ألف يوم في الحياة العادية لو أن الله تقبل ذلك وأثابك عليه. والمبيت في منى أفضل من المبيت بالمسجد الحرام؛ لأن المبيت بالمسجد الحرام لا فضل فيه غير الأمن والأمان، مع أن الأمن والأمان في موسم الحج عموماً، أو في بيت الله عموماً سواءً كان ذلك بالليل أو بالنهار. أما إدراك المبيت في منى فإن بعض أهل العلم ذكر أن المبيت لا يكون إلا بإدراك أول الليل، وبعضهم قال: بل آخر الليل يجزئه، ولكن الأحوط أن يحرص الحاج أن يكون من أول الليل إلى آخره في منى حتى يخرج من هذا الخلاف، لكن إذا لم يتمكن إلا بالوقوف ولو ساعة من آخر الليل، أو من أوله فلا حرج عليه إلا أهل السقاية، وهم الذين يخدمون الحجيج بشربهم وطعامهم وغير ذلك بغير عوض. كان العباس يستأذن النبي عليه الصلاة والسلام عدم المبيت بمنى لقيامه على أمر السقاية للحجيج، والحمد لله السقاية في الحج الآن على أعلى مستوى.

باب في الصدقة بلحوم الهدي وجلودها وجلالها

باب في الصدقة بلحوم الهدي وجلودها وجلالها الباب الواحد والستون: باب في الصدقة بلحوم الهدي وجلودها وجلالها. قال: [قال علي: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه)]، البدن: جمع بدنة، والبدنة في اللغة تطلق على البقرة والبعير والشاة، ولكنها عند الإطلاق تطلق على البعير فقط، قال علي رضي الله عنه: [(أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه، وأن أتصدق بلحمها وجلودها وأجلتها، وألا أعطي الجزار منها شيئاً)]. يعني: أجر الجزارة تكون مالاً، فلا يأخذ الجزار شيئاً من الذبيحة، وهذا الحكم ينسحب على الأضاحي، لكن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (كنت نهيتكم عن الادخار فوق ثلاث). يعني: كان حتى لو بقي ولم يتلف لا يأكله. ثم أتى الناسخ لهذا الحديث وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (كنت نهيتكم عن الادخار فوق ثلاث ألا فكلوا وادخروا)، يعني: الآن كلوا وادخروا بخلاف الأول فإنه لم يكن يحل لأحد أن يدخر فوق ثلاثة أيام. ولا يعطى الجزار على سبيل الإجارة والعوض منها شيئاً، فإذا سقت الهدي من الميقات، وقلدته وأشعرته فقد أوقفته على الله عز وجل، فهو كالنذر تماماً، فلا يجوز لك أن تبيع شيئاً من هذه الذبيحة، ولا ترم حتى الظفر ولا ينتفع به أحد، ويحرم عليك أن تبيع شيئاً من النذر أو الأضحية أو العقيقة أو الهدي، وأما النذر فيحرم عليك أن تأكل منه شيئاً؛ لأنك نذرتها لله عز وجل، وإن كان النذر مكروهاً؛ لأن النذر إنما يستخرج به من البخيل. والبخيل جعل الله تبارك وتعالى أهون الناظرين إليه، وأهون أصحاب الحقوق عليه، فظل يلتمس لنفسه الأعذار حتى يتخلص من أداء حق الله عز وجل له. فلا يجوز للناذر أن يأكل من نذره شيئاً، ولا من يعولهم، أي: من تلزمه نفقتهم، ويجب إخراج النذر كله لله عز وجل، دون أن ينتفع منه بشيء إلا بالثواب الذي دفعه للتخلص من هذا النذر لله عز وجل. أما الأضحية فلك أن تأكل منها، وتهدي وتتصدق منها قياساً على الهدي، فإن للمهدي أن يأكل من هديه، وأن يتصدق منه بالثلث الثاني، وأن يهدي منه الثلث الثالث، فإن تصدق بها كلها كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام فهو حسن، وهذا عين الكمال والتمام، والنبي عليه الصلاة والسلام ذبح عدداً عظيماً جداً بلغ ستين ناقة، وأمر علي بن أبي طالب أن يتصدق بكل شيء فيها بحيث لا يبقي منها شيئاً، وهذا عين الكمال والتمام الذي لا يكاد يصدر إلا عن النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام. والشاة لا يصح فيها الشراكة، وأما البدنة التي هي البعير أو البقرة، فإنها تصح وتشرع لسبعة، وللآكل أن يأكل من الهدي ما شاء. وسن الحياة محل خلاف؛ لأن تحديد السن ليس فيه دليل، وأقل عمر الشاة أن يكون ثمانية شهور، وأكثره ألا يزيد عن سنة، لكن لو أنه قدم أقل من ثمان، أو أكثر من عام فإنه يجزئ؛ لأنه لا دليل في التنصيص على هذه القضية المعينة.

باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض

باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض الباب السابع والستون: باب وجوب طواف الوداع، وسقوطه عن الحائض. طواف الوداع في الحج بلا خلاف واجب على الحجاج، ويجوز لك الجمع بالنية بين طواف الإفاضة الذي هو ركن، وبين طواف الوداع الذي هو واجب، وطواف الإفاضة في يوم النحر، وسمي الإفاضة لأن الإنسان يفيض من منى إلى مكة، أي: ينزل من منى إلى مكة، ثم يرجع إلى منى فيبقى بها ثلاثة أيام، فمن انطلق من منى إلى مطار جدة ليركب الطائرة أو الباخرة ولم يطف طواف الوداع فإن عليه دماً؛ لأن طواف الوداع للحج واجب، وبعض أهل العلم قالوا باستحبابه للمعتمر. والصواب بل الصحيح: أنه لا طواف وداع للمعتمر أياً كانت عمرته في أي وقت من السنة شاء. أما طواف الوداع فواجب، وقيل: سنة، والراجح أنه واجب يجبر بدم، يعني: من فرط فيه أو قصر فيه فعليه الدم حتى لو تركه ناسياً أو جاهلاً، فإنه يرتفع عنه الإثم وتبقى عليه الكفارة، وهي: ذبح شاة لفقراء الحرم. فالذي يطوف طواف الإفاضة في يوم النحر يلزمه بعد انتهائه من الحج طواف آخر هو طواف الوداع، ولو أخر طواف الإفاضة لليوم الثالث أو الرابع، وجمع بالنية بينه وبين طواف الوداع جاز ذلك وأجزأه، لكنه لا يعجل ويقدم طواف الوداع مع طواف الإفاضة ويطوفهما طوافاً واحداً في يوم النحر لاختلاف الزمان. وسمي طواف الوداع وداعاً لأنك ستغادر مكة بعده مباشرة، ولذلك ذهب كثير من أهل العلم إلى عدم الاتجار بعد طواف الوداع؛ لأنه سيطوف طواف الوداع وينطلق من المسجد الحرام إلى سفره مباشرة، فلا يجوز ولا يصح أن يطوف إنسان في يوم النحر مع طواف الإفاضة مع أنه يعلم أنه يبقى أكثر من ثلاثة أيام في منى أو في بلد الله الحرام. وفي صحيح مسلم وعند البخاري كذلك أن الحاج لا يجوز له البقاء في مكة بعد أداء الحج ثلاثة أيام إلا أن يكون مجاوراً، يعني: إلا أن ينوي البقاء في مكة، أما الذي أتى إلى الحج فبعد ثلاث ينطلق. قال: [قال ابن عباس: (كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت)] أي: بالطواف، يعني الناس لما كانوا يرمون الجمرات في ثالث أيام التشريق ثم ينطلق كل واحد منهم إلى حال سبيله، فالرسول عليه الصلاة والسلام قال: (لا ينصرفن أحدكم -أي: بعد أداء الحج- حتى يكون آخر عهده بالبيت) بالطواف. وهذا بخلاف طواف الإفاضة. وفي حديث ابن عباس: [(أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض)]. يعني: المرأة الحائض ليس عليها طواف وداع، إنما عليها طواف الإفاضة، ولكنها تؤخره حتى يرتفع عنها الدم، وأهل العلم في هذا الزمان يفتون بجواز أن تتعاطى المرأة أدوية ترفع الدورة حتى يتم حجها؛ وعائشة لما حاضت في الحج كان الأمر بيد النبي عليه الصلاة والسلام، فكان له أن يصدر أوامره للصحابة كلهم بالبقاء في مكة اليوم الثاني والثالث إلى أن تنتهي الدورة. أما الآن فيطلب منك أن تكون في المطار الساعة كذا، وفي الميناء الساعة كذا، وإن تأخرتم فإنه سيترككم. فالعلماء جوزوا أن تتعاطى المرأة أي أدوية ترفع الدورة وتحتفظ بها حتى يتم حجها، أو تتم عمرتها. أما الصيام فليس في ذلك ضرورة، إنما في ذلك تنطع.

باب ما يقول إذا قفل من سفر الحج وغيره

باب ما يقول إذا قفل من سفر الحج وغيره باب ما يقول إذا قفل من سفر الحج وغيره. قال: [عن عبد الله بن عمر: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قفل من الجيوش -يعني: من الغزو- أو السرايا، أو الحج، أو العمرة إذا أوفى -يعني: إذا بلغه- على ثنية، أو فدفد -يعني: إذا صعد شيئاً مشرفاً عالياً- كبر ثلاثاً)]. وهذه السنة لما تكون مسافراً تطلع على كبري، أو على تبة، وأنت طالع الكبري أو التبة فتقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ثم تقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، آيبون تائبون، عابدون، سائحون -أو ساجدون -ومعنى (آيبون) يعني: راجعون منيبون- لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. وهذا يسن لمن رجع من سفر الطاعة كرجوع الجيش من الغزو، أو رجوع الحاج من الحج، أما السفر العادي فلا يسن فيه: (صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده). وفي رواية: أنه كبر مرتين، ولا بأس أن يكبر ثلاثاً لورود ذلك أيضاً.

باب في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة

باب في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة الباب التاسع والسبعون: باب في فضل الحج والعمرة، ويوم عرفة. قال: [قالت عائشة رضي الله عنها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة -يعني: لا يوجد يوم أكثر عتقاً من الرقاب من النار أكثر من يوم عرفة- وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟)]، أي: يرجون رحمتك، ويخافون عذابك كما في بقية الحديث الآخر، قال: (يرجون رحمتي ويخافون عذابي، ولم يروه)، أي: ولم يروا عذابي، فكيف لو رأوه. فقوله: (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة) لا يتعارض مع حديث: (خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة)، ووجه الجمع بين الحديثين: أن خير أيام الأسبوع هو يوم الجمعة، وخير أيام السنة هو يوم عرفة. والدنو دنو حقيقي يليق بالله عز وجل، والإمام النووي عليه رحمة الله كان يقع في التأويل أحياناً، وتلاميذه من فحول أهل العلم اعتذروا عن النووي بأنه لم يتقن مسائل العقيدة، وتصدر للتصنيف والتأليف في الفقه والأصول وغير ذلك قبل أن يستيقن من مسائل الاعتقاد، فكلما مرت عليه المسألة في أثناء تصنيفه تكلم فيها ونقل فيها عن أهل العلم، فتارة ينقل، وتارة يسكت، وتارة يوافق المتأولة. وله تأثر بعلماء زمانه ومشايخه، وأنهم كانوا متأولة، فقد كانوا في العقيدة أشاعرة، فقد قال النووي في شرحه لهذا الحديث: قال القاضي عياض: قال المازري: معنى (يدنو) أي: تدنو رحمته وكرامته، لا دنو مسافة ومماسة. وهذا تأويل أيضاً، لأن دنو الرحمن صفة فعل لله عز وجل، وصفة أفعاله لا يعلم كيفيتها إلا الله عز وجل، كما لا يعلم صفات ذاته إلا هو سبحانه. فأهل السنة يثبتون جميع الصفات لله عز وجل على المعنى اللائق به، ولا نخوض فيها بكيف ولا تأويل، إنما نؤمن بها كما جاءت ونمرها كما أمرها سلفنا رضي الله عنهم، وهذا أسلم وأحكم وأعلم.

باب ما بين القبر والمنبر روضة من رياض الجنة

باب ما بين القبر والمنبر روضة من رياض الجنة الباب الثاني والتسعون: باب ما بين القبر والمنبر روضة من رياض الجنة والإمام النووي قد أثبت يقيناً أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قبر في بيته، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: (ما بين قبري ومنبري) وهو لا يعرف مكان القبر، وأنتم تعلمون أن الأنبياء يدفنون حيث يموتون، وهذه سنة خاصة بالأنبياء. رجل صوفي بنى مسجداً، وحفر لنفسه قبراً، ولما مرض واشتد عليه المرض قال: أنا سأمكث في المسجد من أجل إذا مت أدفن فيه. ولو كان هذا الرجل صادقاً لكان ينام دائماً في القبر لا في الغرفة من أجل أن يدفن في الناحية التي مات فيها، ولما تحقق الإمام النووي من موته لم يتحرج أن يقول: ما بين القبر ومنبر المسجد النبوي روضة من رياض الجنة، والمقصود بالبيت هو بيت عائشة الذي مات فيه النبي عليه الصلاة والسلام وصار بعد ذلك قبراً له صلى الله عليه وسلم. أما قوله عليه الصلاة والسلام: (ما بين قبري ومنبري) فهذا حديث غير صحيح، والصحيح: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة). واختلف العلماء في معنى قوله: (روضة من رياض الجنة): القول الأول: أن ذلك الموضع بعينه ينقل إلى الجنة؛ لأنه موضع من مواضع الجنة وروضة من رياضها. والثاني: أن العبادة فيه تؤدي بصاحبها إلى الجنة. قال الطبري: المراد ببيته هو القبر، قاله زيد بن أسلم. والثاني: المراد بالبيت: سكناه، يعني على ظاهره، وإن كان القولان كلاهما يؤدي إلى معنى واحد، لكن حرص الناس على أن يصلوا في الروضة هذا حرص مشكور؛ لأن العبادة في هذا الموطن لها فضل يختلف عن غيره، وحرص الناس أحياناً يؤدي إلى وقوع مفسدة عظيمة جداً خاصة مع الزحام الشديد. ولذلك فإن هناك مآسي منها ما يفعله غالب الحجاج كالباكستانيين والهنود وغيرهم كل واحد فيهم يجلس في الطابور من أجل أن يصلي ركعتين في الروضة.

باب أحد جبل يحبنا ونحبه

باب أحد جبل يحبنا ونحبه الباب الثالث والتسعون: باب أحد جبل يحبنا ونحبه. أي: باب إثبات أن جبل أحد يحبنا ونحبه. جاء في حديث أبي حميد الساعدي أنه قال: [(خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك - وساق الحديث وفيه- ثم أقبلنا حتى قدمنا وادي القرى، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: إني مسرع فمن شاء منكم فليسرع معي، ومن شاء فليمكث، فخرجنا حتى أشرفنا على المدينة فقال: هذه طابة -أو طيبة، أو طِيبة وهي المدينة- وهذا أحد وهو جبل يحبنا ونحبه)]. وفي رواية: (إن أحداً جبلٌ يحبنا ونحبه)، والسبب لا يعلمه إلا الله عز وجل. وبعض أهل العلم يتأول هذا الحديث فيقول: يحبنا أهل الجبل من الإنس والجن والملائكة، لكن هذا تأويل، ولا يمنع إجراء هذا الحديث على ظاهره، وأن الله تعالى يرزق هذا الجبل الأصم تمييزاً يحب به ويبغض، كما أنطق الله عز وجل الجمادات والأحجار والمياه والحيوانات والطيور للنبي عليه الصلاة والسلام. وهذا الحديث من معجزاته الكثيرة عليه الصلاة والسلام، فإن الله ميز بعض الجمادات وأعطاها تمييزاً لتبكي وليعز عليها فراق النبي عليه الصلاة والسلام، أو لتستجيب لأمره عليه الصلاة والسلام، أو تنتهي بنهيه عليه الصلاة والسلام، فلا مانع أن يرزق الله تعالى ذاك الجبل تمييزاً يحب به ويبغض، فأحب النبي عليه الصلاة والسلام، وأحب أصحابه، وأحب المسلمين الموحدين جميعاً؛ لأن قوله: (إن أحداً جبل يحبنا ونحبه) (يحبنا) أي: نحن المسلمين، وقيل: الصحابة. والراجح: أن هذا اللفظ عام يطلق ويراد به عموم الموحدين وعموم المسلمين، ولذلك: (لما صعد النبي عليه الصلاة والسلام جبل أحد هو وأبو بكر وعمر وعثمان فارتجف الجبل واهتز، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: اثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان). فثبت أحد، ولما يرتجف بعد ذلك، وهذا يدل على أن الله تعالى رزق الجبل تمييزاً، فائتمر بأمره عليه الصلاة والسلام.

فضل الصلاة في المسجد الحرام والمسجد النبوي

فضل الصلاة في المسجد الحرام والمسجد النبوي الباب الرابع والتسعون: في إثبات فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة. قال: [قال النبي عليه الصلاة والسلام: (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام)]. فإذاً: الصلاة في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام أحسن من جميع المساجد بألف صلاة، أما المسجد الحرام فإن الصلاة فيه بمائة ألف صلاة. قال: [قال أبو هريرة رضي الله عنه: (صلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء، وإن مسجده آخر المساجد)]. يعني: آخر المساجد التي لها هذا الفضل، والمسجد الأقصى هو مسجد داود وسليمان عليهما السلام، ونحن أحق بداود وسليمان من اليهود عليهم لعنة الله، وإثبات الفضل لهذه المساجد، لأن الذي بناها أنبياء، فإن أول من أسس قواعد البيت الحرام وكذلك المسجد الأقصى هو آدم عليه السلام، وهذا الذي رجحه الحافظ ابن كثير، وابن تيمية وغيرهما من أهل العلم. والذي رفع القواعد في البيت الحرام هو إبراهيم وإسماعيل، والذي رفع القواعد في المسجد الأقصى هو داود وسليمان. والذي بنى المسجد النبوي هو النبي عليه الصلاة والسلام. فيقول أبو سلمة: لم نشك أن أبا هريرة كان يقول الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، منعنا ذلك أن نستثبت أبا هريرة عن ذلك الحديث، حتى إذا توفي أبو هريرة تذاكرنا ذلك، وتلاومنا ألا نكون كلمنا أبا هريرة في ذلك حتى يسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان سمعه منه، فبينما نحن على ذلك جالسنا عبد الله بن إبراهيم بن قارظ، فتذاكرنا ذلك الحديث، فقال لنا عبد الله بن إبراهيم بن قارظ: أشهد أني سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فإني آخر الأنبياء، وإن مسجدي آخر المساجد). فهذا الحديث قد ورد موقوفاً ومرفوعاً من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. قال: [عن ابن عباس أنه قال: (إن امرأة اشتكت شكوى فقالت: إن شفاني الله لأخرجن فأصلين في بيت المقدس -يعني: كانت وجعة مريضة، فنذرت لله عز وجل إذا شفاها أن تخرج إلى بيت المقدس لتصلي به- فبرئت ثم تجهزت تريد الخروج، واستعدت للرحلة من المدينة إلى الشام، فجاءت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تسلم عليها فأخبرتها ذلك وقالت: اجلسي وكلي ما صنعت -أي: كلي الأكل الذي أنت عملتيه ومتزودة به في الطريق- وصلي في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: صلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا مسجد الكعبة)]، الذي هو البيت الحرام. فـ ميمونة رضي الله عنها اجتهدت في زمن النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا يدل على جواز الاجتهاد عند الصحابة، وعدم الرجوع في اجتهادهم أحياناً إلى النبي عليه الصلاة والسلام إذا كانت الحجة واضحة وظاهرة. كما أن في هذا الحديث جواز العدول عن عين النذر إلى ما هو أفضل منه، فإن الصلاة في المسجد النبوي بألف صلاة، فهي تجزئ عن الصلاة المنذورة في المسجد الأقصى. وقال عليه الصلاة والسلام: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى). وشد الرحال: هو اتخاذ الرحلة إلى هذه المساجد. الإمام أبو محمد الجويني يقول: يحرم شد الرحال إلى غير هذه المساجد، والإمام النووي يقول: هذا الكلام غلط، والصواب: هو مذهب الجمهور، أن هذا الحديث فيه فضيلة هذه المساجد الثلاثة، وفضيلة شد الرحال إليها؛ لأن معناه عند جمهور العلماء: لا فضيلة في شد الرحال إلى مسجد غيرها، فمهما شددت رحالك إلى جميع المساجد في بقاع الأرض، فليس لها فضل شد الرحال كما لهذه المساجد، ولا ينفي ذلك جواز شد الرحال إلى غيرها لطلب العلم أو غيره. وعبارة يحرم شد الرحال إلى غير هذه المساجد الثلاثة، لم يقل بها إلا الإمام الجويني فقط، وغلطه وخطأه أهل العلم، وحملوا الحديث على أنه لا فضيلة في شد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، وهذا لا ينفي أن تشد الرحال إلى غير هذه المساجد، لكن ليس لها فضل شد الرحال كفضل شد الرحال إلى الثلاثة المساجد. يعني: كأن الحديث معناه: لا فضيلة في شد الرحال إلا إلى هذه المساجد الثلاثة. فمن ذهب مثلاً من القاهرة إلى قليوب أو إلى غيرها لسماع محاضرة -مثلاً- فإن هذا من شد الرحال، فعلى مذهب أبي محمد الجويني يحرم، وعلى مذهب علماء الأمة أن هذا الفعل جائز، لكن ليس فيه فضيلة شد الرحال كما في هذه المساجد الثلاثة. ونريد أن نبين مسألتين: المسألة الأولى: ذكر اسم الشيخ بالقدح مناف للأدب في طلب العلم، والأفضل أن يقال:

باب بيان المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم

باب بيان المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم باب بيان أن المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم كما جاء في كتاب الله عز وجل هو مسجد النبي عليه الصلاة والسلام، وليس هو مسجد قباء كما هو مشهور عند الناس. قال: [(عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال: مر بي عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري فقلت له: كيف سمعت أباك يذكر في المسجد الذي أسس على التقوى؟ قال: قال أبي: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت بعض نسائه فقلت: يا رسول الله! أي المسجدين الذي أسس على التقوى؟ قال: فأخذ كفاً من حصباء فضرب به الأرض ثم قال: هو مسجدكم هذا - لمسجد المدينة - قال: فقلت: أشهد أني سمعت أباك هكذا يذكره)]. ليس معنى ذلك: أن مسجد قباء ليس له فضل، بل لقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ركعتان في مسجد قباء تعدل عمرة). والصلاة في مسجد قباء تعدل ثواب عمرة، لكن عمرة في رمضان تعدل حجة مع النبي عليه الصلاة والسلام. قال ابن عمر: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزور قباء راكباً وماشياً). وعنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي مسجد قباءٍ راكباً وماشياً فيصلي فيه ركعتين). وكان يأتيه كل يوم سبت، وفي هذا جواز تخصيص يوم من أيام الأسبوع لعبادة معينة، كما يقول الإمام النووي في ذلك. قال: (وفي هذا الحديث بيان فضل مسجد قباء، وفضل الصلاة فيه، وفضيلة زيارته، وأنه تجوز زيارته راكباً وماشياً، وهكذا جميع المواضع الفاضلة تجوز زيارتها راكباً أو ماشياً، وفيها أنه يستحب أن تكون صلاة النفل بالنهار ركعتين كصلاة الليل. وقوله: كل سبت، فيه جواز تخصيص بعض الأيام للزيارة، وهذا هو الصواب وهو قول الجمهور، وكره ابن مسلمة المالكي ذلك، قالوا: لعله لم تبلغه هذه الأحاديث ولله الحمد والمنة)، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

كتاب الحج - فتاوى وأسئلة

شرح صحيح مسلم - كتاب الحج - فتاوى وأسئلة

مدى صحة قصة أن الشجاع الأقرع ظهر لميت كان تاركا للصلاة في المدينة عام 1420هـ ‍

مدى صحة قصة أن الشجاع الأقرع ظهر لميت كان تاركاً للصلاة في المدينة عام 1420هـ ‍ Q هذه نشرة مجهولة تحذر تارك الصلاة من الشجاع الأقرع، وتحكي عقوبة حدثت لشخص ببقيع الغرقد في المدينة المنورة في شهر صفر سنة 1420هـ‍ كان تاركاً للصلاة، إنا لله وإنا إليه راجعون، وقد شاهدها جمع من الناس، وقد صرع بعضهم، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ومصور في النشرة إنسان مدفون، وهو في كفنه، وقد التف عليه ثعبان. A هذا كله كلام فارغ، فالشجاع الأقرع الذي يظهر في القبر للميت يظهر بمناسبة عدم تأديته للزكاة، وقد أراد ربنا سبحانه أن يفضح هذا الأفاك الكذاب، فظن أن الشجاع الأقرع سيظهر لتارك الصلاة، مع أن النصوص دلت على أن الشجاع الأقرع إنما يظهر لتارك الزكاة، فهذا الكلام افتراء على الشرع، ونحن لا نهون من عذاب القبر، ولكن نقول: إنه استخدم هذه النصوص كذباً في غير محلها، ففضحه الله عز وجل.

سبب عدم شرح الشيخ لبعض الأبواب في الصحيح

سبب عدم شرح الشيخ لبعض الأبواب في الصحيح Q ذكرتم أنه لن يتم شرح كتاب النكاح وما بعده حتى كتاب البيوع؛ لأنكم قمتم بشرح هذه الكتب في مسجد العزيز بالله، وأغلب الحاضرين في هذا المسجد لم يحضروا شرح هذه الكتب، وهم بذلك سيحرمون من شرحها، وهي هامة جداً، وأنا أهيب بك أن تسير بالترتيب في شرح الصحيح حتى تتم الفائدة لنا ولك؟ A إذا كنت حريصاً على العلم فاحضر هناك، والأشرطة موجودة في مسجد العزيز من أول درس إلى آخر درس، فأنا منذ سنتين أشرح البخاري، فهل أعيده هنا مرة أخرى، وبعد ذلك ستطلب مني أن آتي لك إلى البيت، وهذا قد فعله أناس، وقد طالبوني بشرح الصحيحين في بيوتهم مرة أخرى من أول درس، فقلت: من يطلب هذا الطلب لاشك أنه غير موفق وغير مسدد، ولا يمكن أن يستمر، ولن يكون طالب علم أبداً، والذي يطلب هذا الطلب إنسان بلطجي وفوضوي، وليس طالب علم، ولو لبينا له طلبه فإنما هما درسان أو ثلاثة، ثم يقول لك: لا يا شيخ! الكلام هذا صعب جداً وكثير، ثم إن هذه المنهجية لم نرها عند السلف، فالذي كان يريد أن يحضر الدرس يذهب إلى الشيخ في المسجد ويجلس أمامه. وأنا علي واجبات عينية، وعندي شغل أتكسب منه، وعندي أولاد، وعندي دعوة عامة، والدعوة العامة أشرح فيها علم، وأشرح فيها كتب العلم، والواحد إذا كان واقفاً أمام واحد ليس كمن يقف أمام مائة، وربنا يفتح لما يكون العدد كبيراً، فكل من يستمع يدور في ذهنه شيء غير الذي يدور في ذهن الثاني والثالث والرابع، ولو كان الحاضر واحداً فقط فلن يوجه كل هذه الأسئلة، ولا يمكن أن يدور في ذهنه إلا سؤال أو سؤالان، فالذي يريد طلب العلم فليطلبه بصدق وإخلاص، ويأتي إلى المسجد ويجلس بجوار أفقر الناس وأدناهم، حتى يتعلم الذل والتواضع والخشوع والإنابة لله عز وجل؛ لأن الله تعالى لا يقبل من عبد عملاً إلا بتقواه.

أسباب تسمية السور بأسمائها المعروفة

أسباب تسمية السور بأسمائها المعروفة Q لماذا سميت سورة البقرة بهذا الاسم؟ A لأن أعظم حدث فيها هو الحدث الذي فعله بنو إسرائيل عليهم لعنة الله في مراجعتهم لنبيهم في البقرة المذكورة في هذه السورة المباركة، وكل سورة لها أكثر من اسم، وإنما تعرف وتشتهر بأسماء معينة؛ لأن هذا الاسم في الغالب يكون أعظم حدث تكلمت عنه السورة. والله أعلم.

التكبير عند صعود المرتفعات في السفر

التكبير عند صعود المرتفعات في السفر Q عند الصعود يسن التكبير، فهل عند الاستواء في أعلاه يسن التكبير أيضاً أم أثناء الصعود نفسه؟ A أثناء الصعود فقط، وفي أثناء النزول يسبح، كما جاء في الحديث الذي في الصحيحين: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يكبر على كل شرف)، يعني: يكبر على كل مكان مشرف، يعني عال. (ويسبح عند كل هبوط). فيسن إذا كنت صاعداً أن تكبر، وإذا كنت نازلاً أن تسبح، وتقول: سبحان ربي الأعلى.

حكم التضحية بالشاة إذا ولدت

حكم التضحية بالشاة إذا ولدت Q اشترى رجل شاة ليضحي بها يوم العيد، فولدت قبل شهر ونصف، فهل يجوز له أن ينحرها يوم العيد علماً بأنها ترضع صغارها وهم بحاجة إلى الرضاعة؟ A يستعيض عنها بشاة أخرى، وإن كان قد أوقفها هي بعينها فله أن يستعيض عنها شاة أخرى؛ لأن ما حاد عن هذا الوقف بعينه إلا لضرورة وعذر. والله أعلم.

شرح الشيخ محمد عبد المقصود لأعمال الحج والعمرة

شرح الشيخ محمد عبد المقصود لأعمال الحج والعمرة Q نرجو أن توجزوا لنا أعمال الحج والعمرة بالترتيب، ومسائلهما في الزمان والمكان في بحث صغير؟ A شرح شيخنا الشيخ محمد عبد المقصود أعمال الحج والعمرة يوم الأربعاء الماضي في حوالي خمس ساعات، فقد جلس من صلاة المغرب تقريباً حتى الساعة الواحدة في الليل في مسجد السلام في المعادي، وأنا لما سمعت الخبر في إذاعة المسجد قلت: الذي عنده استعداد يبيت هنا يتفضل، وشيخنا شغوف بذكر الأدلة وسردها، فلا يتكلم إلا بدليل، وسجل حوالي أربعة أشرطة أو خمسة في أعمال الحج من أولها إلى آخرها. وشيخنا محمد عبد المقصود هو عالم الصحوة، وإذا كانت الرحلة تستحب أو تجب لأحد في هذا الزمان فإنما تجب إليه، ولا أزكي أحداً بعده في باب العلم والدعوة إلى الله عز وجل، أما في باب علم الحديث فإن الرحلة أول ما تكون لشيخنا الشيخ محمد عمرو عبد اللطيف، ويلحق بالشيخ محمد عبد المقصود الشيخ محمد إسماعيل حفظه الله في الإسكندرية، وأذكر بهذا الكلام قول من قال: إن المحامد قد طووا جياعاً، فهذا محمد عبد المقصود، وهذا محمد إسماعيل، وهذا محمد عمرو عبد اللطيف، فهؤلاء المحامد الرحلة إليهم من أقرب القربات في هذا الزمان. والله تعالى أعلم.

ترتيب المساجد الشريفة الثلاثة في البناء

ترتيب المساجد الشريفة الثلاثة في البناء Q أيهما بني أولاً مسجد النبي عليه الصلاة والسلام أم المسجد الأقصى؟ A المسجد الأقصى، فالذي وضع القواعد في المسجد الأقصى سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام، وفي الصحيحين من حديث أبي ذر: (أن النبي عليه السلام سئل: أي المساجد وضع أولاً؟ قال عليه الصلاة والسلام: المسجد الحرام، قيل: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى، قيل: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة). والمسجد النبوي في آخر الزمان؛ لأنه مرتبط بآخر الأنبياء صلوات ربي وسلامه عليه.

كيفية تقسيم الأضحية، وحكم تقسيمها

كيفية تقسيم الأضحية، وحكم تقسيمها Q كيف تقسم الأضحية، وهل الرأس والحواشي تدخل في التقسيم؟ A تقسيم الأضحية ليس واجباً بل مستحباً، ولا يلزم أن تقسمها بالميزان ثلاثة أثلاث، بل تقسمها بالنظر، والأفضل أن تتخلص من هذه الحواشي وألا تجعلها في قسمك، فإذا جعلتها في قسمك فاجعل قسمك كقسم غيرك.

حكم إعطاء الجزار من الأضحية

حكم إعطاء الجزار من الأضحية Q أجرة الجزار هل تكون من نصيب صاحب الشاة أم من نصيب الأقارب؟ A لا هذا ولا ذاك، وإنما الجزار يعطى أجره من خارج الذبيحة، فإذا أعطيته شيئاً من الذبيحة فإنه يخرج من التقسيم، يعني: أن الباقي يقسم ثلاثة أثلاث، أو أن تجعل الجزار إذا كان فقيراً من قسم الصدقة، وإن كان صديقاً تجعله من قسم الهدية.

التحذير من اتباع الكفار

التحذير من اتباع الكفار Q هل حديث حرب هرمجدون صحيح، وإذا كان صحيحاً فنرجو نبذة عنه؟ A حرب هرمجدون من وضع اليهود، وليس هناك حديث صحيح في تسميتها بهذا الاسم، وأرجو ألا نصدق من يردد مصطلحات اليهود، وألا نسير في ركاب اليهود والنصارى، ونؤمن بكل شيء يقولونه، ونعتقد أنهم يعرفون كل شيء عن العالم؛ لأن هذا انبهار بعالم الكفر، ونحن مطالبون بأن نضع عالم الكفر تحت أقدامنا، كما قال عليه الصلاة والسلام: (ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي هاتين). فمظاهر الكافرين الخاصة الذين لم يتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم تحت أقدامنا. واليوم يقولون: أمريكا تعرف كل شيء، وأن عندها من التكنولوجيا ما أظهر الفتات في قاع البحار، ولو كان المسيح الدجال حي الآن على معتقدنا لأتوا به، ولكان القمر الصناعي قد أتى به، فالقمر الصناعي قد أظهر النقير والقطمير، ولم يترك شيئاً، ومع هذا لم يخبرنا ولم ينبئنا عن مكان المسيح الدجال، ولو كان حقاً لأظهره، ويكذبون بأحاديث صحيحة في الصحيحين؛ بسبب أن القمر الصناعي اكتشف كل شيء، ولماذا لم يكشف أسامة بن لادن الذي دوخهم سنين؟ فهذا كذب يريدون أن يخربوا به عقيدتنا، وهذا في منتهى الخطورة، ونحن للأسف الشديد نقرأ الجريدة ونصدق، مع أننا في دروس العلم نقول: العلم لابد فيه من التلقي، ولا ينفع أخذه من الصحف، وهذه المسألة ليست مسألة فقهية أو فرعية بل هي في العقيدة. وهم يريدون من هذا أن يستقر في قلوبنا عدم منابذة هذا البلد -أمريكا- مع أنها أضعف، والباطل مهما انتفش فهو ضعيف، والحق مهما ضعف فهو يشتمل على القوة بين جنباته، والمسلمون في هذا الوقت رغم هزالهم وضعفهم إلا أن الغرب الكافر الملحد يحسب لهم مليون حساب مع ضعفهم؛ لأنهم يعلمون أن معهم المنهج القويم، ولو عادوا في يوم لمنهجهم وعرفوا أنهم على الحق المبين فإن الغرب سيتأخرون، ولو سمعت أمريكا وأوربا أن زعماء العرب اجتمعوا وقرروا الجهاد لخرجت أرواحهم وهم جالسون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نصرت بالرعب مسيرة شهر). وهذا الحديث عام في الأمة، وهذا مذهب الجمهور. وبعضهم قال: هو خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الصواب أنه عام للأمة.

الحث على تربية الأبناء، وبيان أن ميزان التفاضل عند الله بالتقوى

الحث على تربية الأبناء، وبيان أن ميزان التفاضل عند الله بالتقوى Q كلما نظرت إلى الشيوخ استحقرت نفسي، وخاصة عندما أنظر إلى طلاب العلم وأجد نفسي ضعيفاً في طلب العلم، وعزائي أني أربي ابني ليكون مثل العلماء الكبار، وأنا أحضر مجلسك عسى أن يكون فيه قليل بركة، فهل هذا يكفي؟ A إن شاء الله يكفيك، فقيامك بتربية ولدك وتنشئته تنشئة صالحة من أفضل الأعمال في هذا الزمان الذي انتشر فيه الباطل في كل مكان وانتفش، وإذا تركت ولدك لحظة ضاع منك، وربما رجع وربما لم يرجع، فمن أفضل الأعمال حرص الآباء على تربية أبنائهم وتنشئتهم في هذا الزمان تنشئة صالحة، والجيل الذي نحن فيه يظهر والله أعلم أن لا بركة فيه ترتقب، ولا يمكن أن يكتب النصر على يديه، والأمل معقود في أبنائنا وأبناء أبنائنا، وأن وجه الأرض سيتغير بهم إن شاء الله، ومع إيماننا أن الله تعالى قادر على أن يغير الأرض في أقل من قوله: (كن) سبحانه وتعالى، لكن السنن الكونية والنواميس الشرعية تقضي بأن: {اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]. ولما كان التغير من جهة الواقع أمر يحتاج إلى مدة من الزمان عقدنا الأمل في أبنائنا وأبناء أبنائنا. وأما نظر الأخ للعلماء أو للدعاة أو للمشايخ على أنهم أفضل منه واحتقاره لنفسه فربما يكون بهذا أفضل ممن احتقر نفسه أمامه. فليست المسألة عند الله بأن هذا شيخ أو طالب، أو أن هذا فقير وهذا غني، بل المسألة كلها مربوطة ومرهونة بالتقوى، وربما يكون عندك من التقوى والإخلاص لله عز وجل ما ليس عند كثير من الشيوخ، فحذار أن تحتقر نفسك إلى هذا الحد، ولكن هذا مظهر من مظاهر الخضوع والذل والتواضع لله عز وجل، وعدم الكبر والعجب بالنفس الذي هو آفة الآفات.

الأدب مع العلماء

الأدب مع العلماء Q هل من الأفضل الصمت عند ذكر العلماء أم بيان ما يفعلون؟ A منهج السلف بين يدي علمائهم السماع وعدم الاعتراض، إلا إذا أشكل عليهم أمر وجب السؤال عنه.

حكم إرجاع المطلقة في العقد وقبل الدخول

حكم إرجاع المطلقة في العقد وقبل الدخول Q هل للمطلقة من عقد القران رجعة؟ A نعم، لها رجعة بعقد جديد ومهر جديد، فإذا عقدت على امرأة ولم تبن بها ثم طلقتها فإنما جاز لك أن ترجع إليها بعقد جديد ومهر جديد، ويحق لها ما قد فرضته لها أولاً في العقد الأول من صداق كامل إذا كنت قد خلوت بها، أو نصف الصداق إذا لم تكن بينكما خلوة، ورجوعها إليك بالعقد الثاني يبقي لها في ذمتك طلقتان.

حكم تحريم الزوجة

حكم تحريم الزوجة Q رجل قال لزوجته: أنت حرام علي في الدنيا والآخرة ثم عاشرها، فما الحكم؟ A لو أن الله تعالى أدخلها الجنة ما دامت مسلمة فالأمر كما قال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} [الأعراف:43]. فلن يكون بينك وبينها غل، يعني: أن الله تعالى ينسيك ما كان بينك وبين امرأتك من خلافات ومشكلات وغير ذلك، والمرأة إذا دخلت الجنة فهي زوجة لزوجها الذي تزوجها في الدنيا. فإن قصد بقوله: أنت علي حرام في الدنيا الظهار؛ وقع ظهاراً، وإن قصد به طلاقاً وقع طلاقاً، فقول الرجل لامرأته: أنت علي حرام هو من الألفاظ التي تحتمل وقوع الطلاق وتحتمل عدمه، فإذا قال لها: أنت علي حرام ونوى به الطلاق وقع الطلاق؛ لأن النية شرط في إيقاع الطلاق الضمني، بخلاف الصريح، ولو قال لامرأته: أنت طالق وقع الطلاق حتى وإن لم ينو الطلاق؛ لأنه لفظ صريح لا يحتاج إلى نية، وأما اللفظ الضمني الذي يحتمل وقوعه وعدم وقوعه فإنه يحتاج إلى نية، ومنها لفظ: أنت علي حرام، فإذا كان يقصد بهذا اللفظ إيقاع الظهار وقع الظهار، فيصوم شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا، وإذا كان ممن يجب عليه الصيام في رمضان فليعلم أن صيام الكفارة واجب في حقه كوجوب رمضان تماماً بتمام، فإذا عجز عن الصيام أو لم يكن من أهله وجب عليه إطعام ستين مسكيناً، وإذا كان نوى بهذا القول طلاقاً فيقع طلاقاً، ولو لم ينو الطلاق ولا الظهار فعليه كفارة يمين.

حكم لطم المرأة وجهها

حكم لطم المرأة وجهها Q امرأة لطمت وجهها فما كفارتها؟ A أن تتوب إلى الله عز وجل؛ لأن هذا من فعل الجاهلية، ولو أضافت إلى التوبة أعمال البر من الصدقة وكثرة النوافل وغير ذلك فهذا أحب.

حكم تارك الصلاة، وحكم إقامة الزوجة معه

حكم تارك الصلاة، وحكم إقامة الزوجة معه Q امرأة زوجها لا يصلي إلا كل شهر أو شهرين الجمعة، فما حكم معاشرته لها، وهي تنصحه كثيراً ويأبى، فبماذا تنصح الزوجة، ومع هذا هو يشدد عليها في النفقة؟ A روى أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري: (أن امرأة أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله! إن زوجي لا يصلي، وإذا صمت فطرني، وإذا صليت ضربني، وإن زوجي هو صفوان بن المعطل هذا -وأشارت إليه في مجلس النبي عليه السلام- وإني من قوم إذا نمنا لا نستيقظ). أي: أن القبيلة كلها مبتلاة بهذه البلوى. فقال صفوان (إني من أهل بيت لا يقومون إلا إذا طلعت الشمس، فقال: يا صفوان! إذا قمت فصل، قال: يا رسول الله! وإني نهيتها أن تصلي بسورتين في كل ركعة، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المرأة وقال: إنما يكفيك سورة واحدة، قالت: وإني إذا صمت فطرني، قال صفوان: يا رسول الله! إني رجل شاب، وإن هذه المرأة تنطلق في صبيحتها تصوم حتى تفرض الصوم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام لها: لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها حاضر إلا بإذنه). فلو أن هذه المرأة صادقة فيما تقول من أن زوجها لا يصلي إلا بعض الصلوات ويترك بعضها، أو يصلي أحياناً ويتركها أحياناً فلتعلم أنه لا يكفر حتى على مذهب من يكفر تارك الصلاة؛ لأن الذي يكفر تارك الصلاة إنما يكفر الذي يتركها بالكلية، ولا يصلي جمعة ولا جماعة نهائياً، وبعض العلماء أو الشيوخ إنما يطلقون القول من باب الترهيب والوعيد الشديد لتارك الصلاة حتى لفرض واحد، وهذا من حكمة الدعوة إلى الله عز وجل، وأما التأصيل العلمي فإنه شيء آخر يختلف عن الدعوة وترهيب الناس من المعاصي وغير ذلك، ويجب على هذه المرأة أن تمتنع من زوجها ولا تمكنه من نفسها حتى يأتي بالصلوات على وجهها، ولا إثم عليها حينئذ. والله تعالى أعلم.

حكم قراءة سورتين في ركعة واحدة

حكم قراءة سورتين في ركعة واحدة Q هل يفهم من حديث صفوان بن المعطل عدم جواز قراءة سورتين في ركعة واحدة؟ A كان هذا في أول الأمر.

حكم صلاة الفجر بعد طلوع الشمس لمن كان نائما

حكم صلاة الفجر بعد طلوع الشمس لمن كان نائماً Q هل يجوز لمن ينام حتى طلوع الشمس الصلاة عند الاستيقاظ؟ A لا يجوز له ذلك، فهذه الحالة لا تجوز إلا لـ صفوان، ولمن كان مثل صفوان وإلا فلا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما أنكر عليه، وإنما قال له: (إذا قمت فصل).

حكم التضحية على الزوجة في وجود الزوج وكيفية صرف الأموال الربوية

حكم التضحية على الزوجة في وجود الزوج وكيفية صرف الأموال الربوية Q هل يجوز إسقاط الدين عن شخص إذا كان من أموال ربوية مع العلم أن الدائن قريب من المدين، وهل يجوز للزوجة التضحية والزوج قادر؟ A نعم، وإذا كانت هي قادرة فإن الأضحية عليها وليست عليه. وأما هل يجوز إسقاط دين عن شخص من أموال ربوية مع العلم أن الدائن قريب من المدين فالأموال الربوية لا يجوز صرفها إلا فيما يمتهن، وبعض أهل العلم تجوزوا في صرف أموال الربا في الديون الواجبة الحالة الأداء إذا لم يكن عنده مال حلال يقضي دينه منها وإلا فلا، والأمر كما قال عليه الصلاة والسلام: (درهم ربا ينفقه الرجل أو يأكله الرجل وهو يعلم أنه ربا أشد عند الله من ست وثلاثين زنية). وهذا أمر خطير جداً.

أصناف الأنعام التي يجوز الاشتراك فيها في الأضحية

أصناف الأنعام التي يجوز الاشتراك فيها في الأضحية Q ما هي الأصناف التي يجوز الاشتراك في التضحية بها؟ A يكون الاشتراك في البقرة والبدنة، وأما الشاة فليس فيها شراكة. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

كتاب الهبات - كراهة شراء الإنسان ما تصدق به ممن تصدق عليه

شرح صحيح مسلم - كتاب الهبات - كراهة شراء الإنسان ما تصدق به ممن تصدق عليه الهبات والصدقات من العقود التي لا يقابلها عوض، بخلاف عقود البيع والشراء والإجارة وغير ذلك فهي عقود تكون بعوض، وقد نهى الشارع عن الرجوع في الهبات والصدقات، واختلف العلماء في مسألة الرجوع فيها بعد القبض، فمنهم من حرمه، ومنهم من جعل النهي للتنزيه، بينما أجمعوا على جواز رجوع الوالد في هبته لولده للحاجة.

باب كراهة شراء الإنسان ما تصدق به ممن تصدق عليه

باب كراهة شراء الإنسان ما تصدق به ممن تصدق عليه إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب الهبات] الهبات: جمع هبة، والهبة هي: كل عطية بغير عوض. أي: بغير عوض مادي في الدنيا. كالهبات والصدقات وغير ذلك مما لا ينتظر المتصدق شيئاً مقابلاً وعوضاً عما تصدق به أو وهبه، ولك أن تقول: هي العقود التي بغير عوض، بخلاف عقود المعاوضات، فإنها كل عقد أجري بعوض، كعقود البيع والشراء: أعطيتك داراً في مقابل المال. أعطيتك مالاً في مقابل الأرض. أعطيتك مالاً في مقابل السلعة، فإن قولنا: في مقابل كذا، أي: عقد مقابلة، هذا شيء مقابل شيء، فهذا عقد المقابلة، أو عقد المعاوضة، يعني: لا أعطيك شيئاً إلا بعوض، أما عقود الهبات فكلها بغير عوض في الدنيا، أما عوضها فعند الله عز وجل. إذاً: فالهبات هي: العقود التي بغير عوض. قال: [باب كراهة شراء الإنسان ما تصدق به ممن تصدق عليه]. يعني: لو أنك تصدقت بشيء على فلان فلا يجوز لك أن تشتري هذا الشيء من فلان هذا، لكن لو باعه هذا الرجل إلى غيرك فيجوز لك أن تشتري ما تصدقت به من غير من تصدقت عليه، أما ممن تصدقت به عليه فلا، ربما تكون الحكمة من ذلك أن المتصدَّق عليه إذا ذهب المتصدِّق ليشتري من محل الصدقة، أو محل الهبة، تسامحا في شيء من ثمنها، فربما يكون ثمنها الأصلي ألف دينار، فيبيعها بخمسمائة دينار فقط وليس بألف؛ فأكون قد رجعت في بعض هذه الصدقة مما يوازي ما نقص من ثمنها، وكون المرء يرجع في صدقته هذا أمر منهي عنه، ولذلك الذي يعطي المرأة المخطوبة ذهباً ينوي به هدية، أو هبة، أو صدقة فلا يجوز له أن يرجع فيه والحالة هذه لو أنه فسخ الخطبة؛ لأنه أعطاه لا على سبيل إتمام النكاح، وإجراء هذا الزواج والاستمرار فيه، وإنما أعطاه بنية الهبة؛ لكونها فقيرة أراد أن يتصدق عليها، سواء تم الزواج أو لم يتم لا يأخذ هذا الذهب منها. وربما استحى أن يقول لها: هذه صدقة عليك وعلى والديك، فقال لها: هذه هدية، أو هذه هبة، أو هذه منحة، وهو ينوي غير ما ينويه عامة الناس، من أن الذهب الذي يقدم للمخطوبة لأجل إتمام الزواج، وفي الغالب أنه من المهر، ولذلك الفرق بين تقديم الذهب لإتمام الزواج وتقديمه هبة أو صدقة؛ أن الأول إذا فسخ الخطبة بسبب منه أو بسبب منها فله أن يسترد الذهب، وإذا قدمه هبة أو صدقة فليس له أن يسترد الذهب، كأنه قال: أنا قدمت الذهب ولا يهمني إتمام هذا الزواج أو عدم إتمامه؛ لأني ما قدمته بنية الزواج أو النكاح، وإنما قدمته لله من باب التعاون أو غير ذلك.

شرح حديث: (العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه)

شرح حديث: (العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه) قال: [حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب -وهو المعروف بـ القعنبي أبو عبد الرحمن البصري وأصله مكي- حدثنا مالك بن أنس عن زيد بن أسلم -وهو زيد بن أسلم العدوي المدني، وكان مولى لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه- عن أبيه -أي: أسلم العدوي - أن عمر بن الخطاب قال: (حملت على فرس عتيق في سبيل الله)] (حملت على فرس عتيق) أي: حملت فلاناً على فرس لي سريع جيد، يعني: فرس عربي أصيل، فمعنى العتيق: الجيد الأصيل، والحمل تمليك بإجماع أهل العلم، إلا أن يشترط الحامل الحمل، كأن يقول: حملت فرسي هذا على الجهاد في سبيل الله، فإذا فرغ من الجهاد رد الفرس إليه، ولكن إذا نودي للجهاد وجب عليه أن يدفع فرسه لمن يحمل عليه، أي: للمحتاج إليه. الشاهد من هذا: أن حمل الفرس في الجهاد بخلاف حمل الفارس على الفرس، الحمل تمليك، إذا دفعت إليك الفرس وقلت لك: حملتك عليه، أي: ملكتك إياه ليحملك في الجهاد، وهذا معنى الحمل. فقول عمر: (حملت على فرس عتيق في سبيل الله)، كأنه أراد أن يقول: ملكت فلاناً الفرس للحمل عليه في سبيل الله عز وجل. ثم قال: [(فأضاعه صاحبه)] أي: مالكه ضيع هذا الفرس الذي حملته عليه، بمعنى لم يعتن به ولم يعلفه ولم يكرمه، بل قصر في خدمة الفرس من حيث الإطعام؛ لأن هذا المحمول كان فقيراً قليل المال، حتى أصيب الفرس بضعف وهزال، ولكنه على أية حال بمجرد أن انتقل من ملك عمر رضي الله عنه فقد تملكه هذا المسلم. ثم قال: [(فأضاعه صاحبه فظننت أنه بائعه برخص)] يعني: غلب على ظني لقلة مال المحمول أنه في يوم لا بد أن يبيعه؛ لأنه ليس له مال، ولا يستطيع أن يقوم على خدمة الفرس. فوقع في نفس عمر شراء هذا الفرس مرة أخرى؛ لأنه فرس عتيق جيد سريع. ثم قال: [(فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك)]. يعني: أن الصحابة رضي الله عنهم ما تردد في أنفسهم شيء يتعلق بالحلال والحرام إلا ويرجعون إلى المرجعية العظمى، وهو النبي عليه الصلاة والسلام في معرفة الحلال والحرام في جميع شئونهم. ولما حاك في نفس عمر رضي الله عنه أن يشتري هذا الفرس لو أراد صاحبه أن يبيعه، ظن أن هذا البيع ربما يكون فاسداً وباطلاً، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليسأله، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: [(لا تبتعه، ولا تعد في صدقتك)] أي: لا تشتره، معنى الابتياع: الشراء. فالنبي عليه الصلاة والسلام سمى شراء الصدقة رجوعاً فيها، حتى ولو كان بعوض، فما بالك بمن يتصدق ويرجع في صدقته، أو يتصدق ويمنُّ بهذه الصدقة، لا شك أن المن بالصدقة من الكبائر؛ ولذلك أخرج مسلم في صحيحه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ثلاثة لا يكلمهم الله تعالى، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: المنان، والمسبل، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب). (المنان)، أي: الذي يعطي العطية ثم يقول لمن أعطاه: أنا أعطيتك يوم كذا وكذا وكذا، ويظل يمن بها عليه، فهذا بلا شك قد أضاع أجره، ولو قال قولاً معروفاً ولم يتصدق لكان خيراً له، فهنا قال: [(لا تبتعه ولا تعد في صدقتك، فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه)]. يعني: الذي يتصدق ويأخذ الصدقة مرة أخرى، ولو عن طريق الشراء، كالكلب يقيء ما في بطنه، ثم يأكل هذا القيء مرة أخرى. جمهور أهل العلم على أن القيء نجس، خاصة قيء الكلب، ولذلك مثل به النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن لم يقل: كالرجل مثلاً يعود في قيئه، وإنما قال: (كالكلب)؛ لأن الكلب نجس لعابه، وهذا مذهب جميع الفقهاء، فإذا كان اللعاب نجساً، فكذلك قيئه يكون نجساً. وذهب جماهير العلماء إلى أن آكل القيء كآكل النجس، وهو حرام، وهذا مذهب من قال: إن العودة في الصدقة حرام، وبعضهم قال: مكروه إلا الوالد مع ولده.

شرح حديث: (لا تبتعه وإن أعطاكه بدرهم)

شرح حديث: (لا تبتعه وإن أعطاكه بدرهم) قال: [وحدثنيه زهير بن حرب أبو خيثمة النسائي نزيل بغداد، قال: حدثنا عبد الرحمن يعني: ابن مهدي - وعبد الرحمن بن مهدي إمام كبير ثقة، بل حجة حافظ، تلميذ الإمام الثوري، وهو بصري- عن مالك بن أنس بهذا الإسناد وزاد: (لا تبتعه، وإن أعطاكه بدرهم)]. أي: لا تشتر صدقتك التي تصدقت بها ممن تصدقت عليه، ولو كان سيبيعها منك بأبخس الأثمان، لا تفرح بذلك. فهذا الفرس الذي تصدق به عمر رضي الله عنه يشار إليه بالبنان، ومع هذا لو باعه صاحبه بدرهم فليس لـ عمر رضي الله عنه أن يشتريه منه؛ لأنه قد وهبه له أو تصدق به عليه، ولا يجوز الرجوع في الهبة ولا في الصدقة.

شرح حديث: (لا تشتره وإن أعطيته بدرهم)

شرح حديث: (لا تشتره وإن أعطيته بدرهم) قال: [وحدثني أمية بن بسطام -وهو أبو بكر العيشي البصري - حدثنا يزيد بن زريع حدثنا روح بن القاسم أبو غياث التميمي البصري العنبري عن زيد بن أسلم المدني عن أبيه عن عمر: (أنه حمل على فرس في سبيل الله، فوجده عند صاحبه وقد أضاعه، وكان قليل المال، فأراد أن يشتريه -يعني: فأراد عمر أن يشتري هذا الفرس- فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال: لا تشتره، وإن أعطيته بدرهم؛ فإن مثل العائد في صدقته كمثل الكلب يعود في قيئه)]. عند ابن سعد في كتاب الطبقات أن اسم هذا الفرس الورد. قال: [وحدثناه ابن أبي عمر محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني اليماني -انتقل إلى مكة واستقر بها، وتتلمذ على يد ابن عيينة - حدثنا سفيان -وهو ابن عيينة - عن زيد بن أسلم بهذا الإسناد، غير أن حديث مالك وروح أتم وأكثر.

شرح حديث: (لا تبتعه ولا تعد في صدقتك)

شرح حديث: (لا تبتعه ولا تعد في صدقتك) قال: وحدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك عن نافع -وهو نافع الفقيه مولى ابن عمر - عن ابن عمر: (أن عمر بن الخطاب حمل على فرس في سبيل الله فوجده يباع، فأراد أن يبتاعه -أي: يشتريه- فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فقال: لا تبتعه، ولا تعد في صدقتك). وحدثناه قتيبة بن سعيد وابن رمح جميعاً عن الليث بن سعد، (ح) وحدثنا المقدمي -وهو محمد بن أبي بكر بن علي بن عطاء بن مقدم المقدمي - ومحمد بن المثنى البصري قالا: حدثنا يحيى -وهو ابن سعيد القطان - (ح) وحدثنا ابن نمير قال: حدثنا أبي، (ح) وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة -وهو حماد بن أسامة - كلهم عن عبيد الله، كلاهما عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديث مالك]. وعبيد الله هو ابن عمر العمري أخو عبد الله، لكن عبيد الله المصغر إمام كبير ثقة حجة، بخلاف عبد الله المكبر فهو ضعيف، وكلاهما من نسل عمر بن الخطاب. أما قوله: (كلاهما) الأصل عدم وجودها؛ لأن الأربعة يروون عن عبيد الله، وعبيد الله تلميذ نافع، وليس تلميذ ابن عمر؛ فالصواب حذف (كلاهما)؛ لأن (كلاهما) تدل على اثنين. ولأن الإسناد الأول ينتهي إلى الليث، والثاني ينتهي إلى القطان، والثالث إلى ابن نمير، والرابع إلى أبي أسامة، فهؤلاء كلهم عن عبيد الله، وعبيد الله عن نافع، أما (كلاهما) فلم أجد لها مسوغاً هنا، حتى إن الحافظ ابن حجر حينما علق على هذا الإسناد لم يذكر (كلاهما) في الفتح.

شرح حديث (لا تعد في صدقتك يا عمر)

شرح حديث (لا تعد في صدقتك يا عمر) قال: [حدثنا ابن أبي عمر وعبد بن حميد واللفظ لـ عبد - وهو عبد الحميد بن حميد، أما عبد فلقب- قال: أخبرنا عبد الرزاق -وهو ابن همام الصنعاني اليمني - أخبرنا معمر -وهو ابن راشد البصري اليمني - عن الزهري -وهو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن زهرة الزهري - عن سالم -وهو سالم بن عبد الله بن عمر - عن ابن عمر: (أن عمر حمل على فرس في سبيل الله، ثم رآها تباع فأراد أن يشتريها، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تعد في صدقتك يا عمر)]، أي: لا تشتر الصدقة، حتى وإن كان في ذلك مصلحة لك.

الفوائد المستنبطة من باب كراهة شراء الإنسان ما تصدق به ممن تصدق عليه

الفوائد المستنبطة من باب كراهة شراء الإنسان ما تصدق به ممن تصدق عليه فوائد هذا الباب: إذا كان الغرض من الصدقة هو ثواب الآخرة، فكأن الراجع في صدقته قد آثر الحياة الدنيا على الآخرة، وكأنه يقول بلسان حاله: ثواب الدنيا خير من ثواب الآخرة؛ ولذلك نهى النبي عليه الصلاة والسلام. ويلتحق بالصدقة والهبة الكفارات والأجور والزكوات وغيرها، فلو أن رجلاً عنده إبل، أخرج زكاة الإبل، أو غنماً أخرج منها خمس شياه، فوجد هذه الشياه بعد أن وصلت إلى يد الفقير يبيعها في السوق، هل يجوز له أن يشتريها؟ هل الزكوات من عقود الهبات أم المعاوضات؟ فكل خارج يخرج من يدك إلى الآخرين بغير عوض؛ فهو من عقود الهبات، فالكفارات كلها بجميع أنواعها، والنذور بجميع أنواعها، والزكوات والواجبات والصدقات بعمومها وإطلاقها؛ كل هذه أموال تخرج من يدك بغير عوض، فحكمها واحد. وأفاد الحديث كذلك: كراهة الرجوع في الصدقة، وبعضهم حرمه قال: لفظ الحديث وظاهره يفيد التحريم، وذلك بضرب المثل، ثم هو ظاهر النهي، فقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تبتعه يا عمر!) هنا نهي، والنهي يدل على التحريم، ما لم يصرفه صارف، لكن قال الجمهور: النهي هنا للتنزيه، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهاه نهي إرشاد، فحملوا النهي على الإرشاد. ودليل القائلين بأن النهي هنا للتحريم: المثل المضروب، فإن الراجع في هبته أو في صدقته كالكلب يرجع في قيئه، قالوا: وهذا زجر شديد جداً لا يستقيم مع الكراهة، إنما يستقيم مع التحريم. والذي يترجح لدي أن الراجع في صدقته يحرم عليه ذلك. كما أفاد الحديث: فضل الحمل في سبيل الله عز وجل للغزو والقتال والجهاد، والمعاونة على ذلك بشتى أنواع الحمل، لا يلزم أن تحمله على فرس، بل تجهيز الغازي في سبيل الله عز وجل بالمال كاف؛ لأن المال حمل، بالطعام كاف، بالفرس، بالطائرة، بالدبابة بغير ذلك مما هو في مقدور الحامل، فلو فعله لكان حاملاً في سبيل الله عز وجل؛ ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من لم يغز ولم يجهز غازياً، ولم تحدثه نفسه بالغزو، فمات يوم يموت، إلا مات ميتة جاهلية). ومن لا ينفع غيره، ولا تحدثه نفسه أن يشارك، فإلى متى يظل بهذا الشكل؟ لابد للإنسان أن يقعد مع نفسه مرة ويسأل نفسه: إلى متى نظل نسمع الدعاة يعظوننا في المشاركة في الجهاد، وليس عندنا أي استعداد أبداً للتجاوب مع أي دعوة؟ لا، لابد أن نستعد من الآن؛ حتى إذا أتى الوقت المناسب لا ننتظر حتى نستعد، ولا ينادى علينا للجهاد، فنقول: لماذا الجهاد؟ وما الذي حصل؟ إذاً: ينبغي أن يظل الواحد منا يحدث نفسه عن الجهاد، وضرورة الاستعداد له. كما أفاد الحديث كذلك: أن الحمل في سبيل الله تمليك، فإذا أعطيتك فرساً، فإن هذا الفرس ملكك؛ ولذلك لا يجوز لي أخذ هذا الفرس مرة أخرى، ولو بالبيع والشراء. كما يجوز للمحمول على الفرس أن يبيعه، وأن ينتفع بثمنه، إما قبل الغزو والجهاد، وإما بعد الغزو والجهاد عليه، يستوي هذا وذاك.

كلام النووي في حديث عمر: (حملت على فرس عتيق في سبيل الله)

كلام النووي في حديث عمر: (حملت على فرس عتيق في سبيل الله) قال النووي: (قوله: (حملت على فرس عتيق في سبيل الله)، معناه: تصدقت به ووهبته لمن يقاتل عليه في سبيل الله، والعتيق: هو الفرس النفيس الجواد السابق) أي: المسرع الذي يسبق غيره. ثم قال: (قوله: (فأضاعه صاحبه)، أي: قصر في القيام بعلفه ومؤنته. وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تبتعه ولا تعد في صدقتك)، هذا نهي تنزيه لا تحريم، فيكره لمن تصدق بشيء أو أخذه في زكاة أو كفارة أو نذر ونحو ذلك من القربات أن يشتريه ممن دفعه هو إليه، أو يهبه، أو يتملكه باختياره منه، فأما إذا ورثه منه فلا كراهة فيه). يعني: الوالد إذا وهب ولده شيئاً؛ فله أن يرجع في هذه الهبة، أما الولد إذا وهب والديه أو أحدهما شيئاً؛ فلا يجوز له أن يأخذ هذه الهبة إليه مرة أخرى، إلا عن طريق الميراث؛ لأنه لما وهبه وهبه بالطريقة الشرعية، ولما انتقل إليه الميراث انتقل بطريق شرعي. حدثت مشكلة منذ عدة أشهر وهي: أن رجلاً كان موسعاً عليه في المال، وكان يعطي والده ووالدته من بعد والده من ماله، فلما ماتت والدته نازع الورثة بأن هذا الولد الذي كان يعطي لوالديه المال لا يجوز له أن يأخذ من هذا الميراث، واستدلوا بهذا الحديث، قالوا: لأنه كان واهباً ومتصدقاً، وهذا المال الذي ينتقل الآن عن طريق الإرث معظمه مال هذا المتصدق، وبالتالي فلا يحل له أن يأخذ منه شيئاً. فجاءوا إلي فقلت لهم: ينتقل إليه عن طريق الميراث. قالوا: دليلك؟ قلت: دليلي كيت وكيت وكيت قالوا: كثير من العلماء لم يقولوا كذا. المهم حصلت مشكلة مفادها أن ذلك اتباع للهوى، وهذا هو حال كثير من الناس، ما دام في صالحه وافقك، وإلا لو أتيته بمئات الأدلة من كتاب الله ومن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن هذه الأدلة تمنعه من أخذ بعض متاع الدنيا، فإنه لا يوافقك. المهم أنك إن وافقتهم وافقوك، وإن خالفتهم ولو كان معك الكتاب والسنة خالفوك. ثم قال: (وقد سبق بيان هذا في كتاب الزكاة، وكذا لو انتقل إلى ثالث ثم اشتراه منه المتصدق فلا كراهة). يعني: لو أن هذا الرجل الذي تصدقت عليه وحملته على هذا الفرس اسمه عمرو، فقام عمرو وباع هذا الفرس من غيرك، فيجوز لك أنت كمتصدق بهذا الفرس أصلاً أن تشتريه من غيره بلا كراهة، إنما المحظور أن تشتريه ممن تصدقت عليه، أما من غيره فلا حرج في ذلك، لكن يشترط أن يكون البائع الآخر مالكاً له، لا موكلاً من قبل صاحبه؛ لأن الموكل والوكيل كلاهما سيحابي صاحب الفرس المتصدق به أولاً. أما الآخر فإنه يبيعه دون محاباة، وينازع في الحصول على أعلى سعر لهذا الفرس، بخلاف المتصدق عليه. ثم قال: (هذا مذهبنا ومذهب الجمهور، وقال جماعة من العلماء: النهي عن شراء صدقته للتحريم لا للكراهة، والله أعلم).

ذكر الفوائد المستنبطة من باب كراهة شراء الإنسان ما تصدق به ممن تصدق عليه

ذكر الفوائد المستنبطة من باب كراهة شراء الإنسان ما تصدق به ممن تصدق عليه فوائد هذا الباب: إذا كان الغرض من الصدقة هو ثواب الآخرة، فكأن الراجع في صدقته قد آثر الحياة الدنيا على الآخرة، وكأنه يقول بلسان حاله: ثواب الدنيا خير من ثواب الآخرة؛ ولذلك نهى عنه النبي عليه الصلاة والسلام. ويلتحق بالصدقة والهبة الكفارات والأجور والزكوات وغيرها، فلو أن رجلاً عنده إبل، أخرج زكاة الإبل، أو غنماً أخرج منها خمس شياه، فوجد هذه الشياه بعد أن وصلت إلى يد الفقير يبيعها في السوق، هل يجوز له أن يشتريها؟ هل الزكوات من عقود الهبات أم المعاوضات؟ فكل خارج يخرج من يدك إلى الآخرين بغير عوض فهو من عقود الهبات، فالكفارات كلها بجميع أنواعها، والنذور بجميع أنواعها، والزكوات والواجبات والصدقات بعمومها وإطلاقها؛ كل هذه أموال تخرج من يدك بغير عوض، فحكمها واحد. وأفاد الحديث كذلك: كراهة الرجوع في الصدقة، وبعضهم حرمه، قال: لفظ الحديث وظاهره يفيد التحريم، وذلك بضرب المثل، ثم هو ظاهر النهي، فقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تبتعه يا عمر!) هنا نهي، والنهي يدل على التحريم، ما لم يصرفه صارف، لكن قال الجمهور: النهي هنا للتنزيه، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهاه نهي إرشاد، فحملوا النهي على الإرشاد. ودليل القائلين بأن النهي هنا للتحريم: المثل المضروب، فإن الراجع في هبته أو في صدقته كالكلب يرجع في قيئه، قالوا: وهذا زجر شديد جداً لا يستقيم مع الكراهة، إنما يستقيم مع التحريم. والذي يترجح لدي أن الراجع في صدقته يحرم عليه ذلك. كما أفاد الحديث: فضل الحمل في سبيل الله عز وجل للغزو والقتال والجهاد، والمعاونة على ذلك بشتى أنواع الحمل، لا يلزم أن تحمله على فرس، بل تجهيز الغازي في سبيل الله عز وجل بالمال كاف؛ لأن المال حمل، بالطعام كاف، بالفرس، بالطائرة، بالدبابة بغير ذلك مما هو في مقدور الحامل، فلو فعله لكان حاملاً في سبيل الله عز وجل؛ ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من لم يغز ولم يجهز غازياً، ولم تحدثه نفسه بالغزو، فمات يوم يموت إلا مات ميتة جاهلية). ومن لا ينفع غيره، ولا تحدثه نفسه أن يشارك، فإلى متى يظل بهذا الشكل؟ لابد للإنسان أن يقعد مع نفسه مرة ويسأل نفسه: إلى متى نظل نسمع الدعاة يعظوننا في المشاركة في الجهاد، وليس عندنا أي استعداد أبداً للتجاوب مع أي دعوة؟ لا، لابد أن نستعد من الآن، حتى إذا أتى الوقت المناسب لا ننتظر حتى نستعد، ولا ينادى علينا للجهاد فنقول: لماذا الجهاد؟ وما الذي حصل؟ إذاً: ينبغي أن يظل الواحد منا يحدث نفسه عن الجهاد وضرورة الاستعداد له. كما أفاد الحديث كذلك: أن الحمل في سبيل الله تمليك، فإذا أعطيتك فرساً فإن هذا الفرس ملكك؛ ولذلك لا يجوز لي أخذ هذا الفرس مرة أخرى، ولو بالبيع والشراء. كما يجوز للمحمول على الفرس أن يبيعه، وأن ينتفع بثمنه، إما قبل الغزو والجهاد، وإما بعد الغزو والجهاد عليه، يستوي هذا وذاك.

كلام النووي في حديث عمر في باب كراهة شراء الإنسان ما تصدق به ممن تصدق عليه

كلام النووي في حديث عمر في باب كراهة شراء الإنسان ما تصدق به ممن تصدق عليه قال النووي رحمه الله تعالى: (قوله: (حملت على فرس عتيق في سبيل الله)، معناه: تصدقت به ووهبته لمن يقاتل عليه في سبيل الله، والعتيق: هو الفرس النفيس الجواد السابق) أي: المسرع الذي يسبق غيره. قال: (قوله: (فأضاعه صاحبه)، أي: قصر في القيام بعلفه ومؤنته. وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تبتعه ولا تعد في صدقتك)، هذا نهي تنزيه لا تحريم، فيكره لمن تصدق بشيء أو أخذه في زكاة أو كفارة أو نذر ونحو ذلك من القربات أن يشتريه ممن دفعه هو إليه، أو يهبه، أو يتملكه باختياره منه، فأما إذا ورثه منه فلا كراهة فيه). يعني: الوالد إذا وهب ولده شيئاً فله أن يرجع في هذه الهبة، أما الولد إذا وهب والديه أو أحدهما شيئاً فلا يجوز له أن يأخذ هذه الهبة إليه مرة أخرى إلا عن طريق الميراث؛ لأنه لما وهبه وهبه بالطريقة الشرعية، ولما انتقل إليه الميراث انتقل بطريق شرعي. حدثت مشكلة منذ عدة أشهر وهي: أن رجلاً كان موسعاً عليه في المال، وكان يعطي والده ووالدته من بعد والده من ماله، فلما ماتت والدته نازع الورثة بأن هذا الولد الذي كان يعطي لوالديه المال لا يجوز له أن يأخذ من هذا الميراث، واستدلوا بهذا الحديث، قالوا: لأنه كان واهباً ومتصدقاً، وهذا المال الذي ينتقل الآن عن طريق الإرث معظمه مال هذا المتصدق، وبالتالي فلا يحل له أن يأخذ منه شيئاً. فجاءوا إلي فقلت لهم: ينتقل إليه عن طريق الميراث. قالوا: دليلك؟ قلت: دليلي كيت وكيت وكيت قالوا: كثير من العلماء لم يقولوا كذا. المهم حصلت مشكلة مفادها أن ذلك اتباع للهوى، وهذا هو حال كثير من الناس، ما دام في صالحه وافقك، وإلا لو أتيته بمئات الأدلة من كتاب الله ومن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم لكن هذه الأدلة تمنعه من أخذ بعض متاع الدنيا فإنه لا يوافقك. المهم أنك إن وافقتهم وافقوك، وإن خالفتهم ولو كان معك الكتاب والسنة خالفوك. قال: (وقد سبق بيان هذا في كتاب الزكاة، وكذا لو انتقل إلى ثالث ثم اشتراه منه المتصدق فلا كراهة). يعني: لو أن هذا الرجل الذي تصدقت عليه وحملته على هذا الفرس اسمه عمرو، فقام عمرو وباع هذا الفرس من غيرك، فيجوز لك أنت كمتصدق بهذا الفرس أصلاً أن تشتريه من غيره بلا كراهة، إنما المحظور أن تشتريه ممن تصدقت عليه، أما من غيره فلا حرج في ذلك، لكن يشترط أن يكون البائع الآخر مالكاً له، لا موكلاً من قبل صاحبه؛ لأن الموكل والوكيل كلاهما سيحابي صاحب الفرس المتصدق به أولاً. أما الآخر فإنه يبيعه دون محاباة، وينازع في الحصول على أعلى سعر لهذا الفرس، بخلاف المتصدق عليه. قال: (هذا مذهبنا ومذهب الجمهور، وقال جماعة من العلماء: النهي عن شراء صدقته للتحريم لا للكراهة، والله أعلم).

باب تحريم الرجوع في الصدقة والهبة بعد القبض إلا ما وهبه لولده وإن سفل

باب تحريم الرجوع في الصدقة والهبة بعد القبض إلا ما وهبه لولده وإن سفل قال: [باب تحريم الرجوع في الصدقة والهبة بعد القبض، إلا ما وهبه لولده وإن سفل]. قوله: (وإن سفل). يعني: وإن نزل، يعني: ولده أو ولد ولده وإن نزل. فقوله: (باب تحريم الرجوع في الصدقة والهبة بعد القبض)، يعني: لو أني الآن نويت أن أتصدق عليك بصدقة، وهذه الصدقة لم أدفعها إليك، ولكني ميزتها عن بقية المال، فقلت: هذه الصدقة أو هذا الفرس سوف أعطيه غداً صباحاً إن شاء الله لفلان، فلما جاء الليل قلت: لا، هذا الفرس لن أتصدق به، ثم أتيت في اليوم الثاني فقلت: بل أتصدق به، وأتيت بهذا الفرس بخطامه ولجامه فدفعته إليك فقبضته مني فانصرفت عني. فصورة الرجوع الأولى التي بدَّلت فيها وغيَّرت نيتي، هل آثم بذلك؟ والصورة الثانية بعد أن دفعته إليك وقبضته مني، هل يجوز لي الرجوع فيها بعد القبض؟ هذا الذي يفرق فيه أهل العلم بين الصدقة المقبوضة وغير المقبوضة. في غير المقبوض يجوز للمتصدق أو الواهب أن يرجع عنها، أما بعد القبض فلا يجوز له ذلك. فقوله هنا: (باب تحريم الرجوع في الصدقة والهبة بعد القبض إلا ما وهبه لولده وإن سفل) هنا استثنى واحداً، وهو أن يتصدق الوالد على ولده؛ فله أن يرجع في صدقته إن احتاجه، فالأصل ألا يرجع هو كذلك؛ لكن إذا احتاج إلى الرجوع فله أن يرجع ولا حرج عليه؛ لأن الولد وما يملك لأبيه.

شرح حديث: (مثل الذي يرجع في صدقته كمثل الكلب يقيء ثم يعود في قيئه فيأكله)

شرح حديث: (مثل الذي يرجع في صدقته كمثل الكلب يقيء ثم يعود في قيئه فيأكله) قال: [حدثني إبراهيم بن موسى الرازي وإسحاق بن إبراهيم -أي: ابن راهويه - قالا: أخبرنا عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، حدثنا الأوزاعي -وهو عبد الرحمن بن عمرو البيروتي اللبناني إمام الشام في زمانه- عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين عن ابن المسيب - وهو سعيد بن المسيب المدني - عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل الذي يرجع في صدقته، كمثل الكلب يقيء ثم يعود في قيئه فيأكله)]. هذا مثل نبوي عظيم جداً يصور الأمر كأنه صورة حية أمامه، كلب يقيء ما في بطنه ثم يعود فيأكل قيئه، وهكذا المتصدق الذي يعود في صدقته. قال: [وحدثناه أبو كريب محمد بن العلاء الهمداني الكوفي أخبرنا ابن المبارك عن الأوزاعي قال: سمعت محمد بن علي بن الحسين يذكر بهذا الإسناد، نحوه. وحدثنيه حجاج بن الشاعر حدثنا عبد الصمد -وهو ابن عبد الوارث - حدثنا حرب حدثنا يحيى -وهو ابن أبي كثير اليمامي - حدثني عبد الرحمن بن عمرو -وهو الأوزاعي - أن محمد بن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثه بهذا الإسناد نحو حديثه. وحدثني هارون بن سعيد الأيلي وأحمد بن عيسى قالا: حدثنا ابن وهب -وهو عبد الله بن وهب القاضي المصري - أخبرني عمرو -وهو عمرو بن الحارث المصري - عن بكير -وهو ابن عبد الله الأشج - أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: سمعت ابن عباس يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما مثل الذي يتصدق بصدقة ثم يعود في صدقته كمثل الكلب يقيء ثم يأكل قيئه)].

شرح حديث: (العائد في هبته كالعائد في قيئه)

شرح حديث: (العائد في هبته كالعائد في قيئه) قال: [وحدثناه محمد بن المثنى -وهو العنزي البصري المعروف بـ الزمن - ومحمد بن بشار -وهو الملقب بـ بندار - قالا: حدثنا محمد بن جعفر -وهو الملقب بـ غندر، وغندر في لغة أهل الحجاز المشاغب، وكان محمد بن جعفر يشغب على ابن جريج؛ فلقبه بهذا- قال: حدثنا شعبة: سمعت قتادة يحدث عن سعيد بن المسيب]. قتادة بن دعامة السدوسي البصري إمام من أئمة الرواية، ولكنه مدلس، والمدلس إذا صرح قبل حديثه وإلا فلا، وهنا قد صرح، فقول شعبة: (سمعت قتادة يحدث عن سعيد) كأنه يقول: قال سعيد أو عن سعيد، لكن رواية قتادة عن شيوخه إذا كانت من طريق شعبة؛ فمحمولة على السماع وإن لم يصرح؛ لأن شعبة قال: أنا أكفيكم رواية قتادة؛ فإني كنت أتتبع فاه، فما قال فيه: سمعت وحدثنا رويته عنه، وما قال فيه: قال، أو عن لم أروه عنه. والتدليس خمس مراتب، والمدلسون على خمس طبقات، والكلام في التدليس إذا كان كلاماً عاماً مطلقاً فهو محمول دائماً على النوع الثاني من التدليس. وسنتكلم عن أنواع التدليس بعد أن ننتهي من الباب. لكن اعلم أن حديث قتادة وإن لم يصرح فيه بالسماع إذا كان من طريق شعبة فهو محمول على السماع، فما بالك إن صرح كما هو الآن، كما لم ينفرد بهذه الرواية، إنما له عشرات الرواة وافقوه على روايته هذه. قال: [حدثنا شعبة: سمعت قتادة يحدث عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (العائد في هبته كالعائد في قيئه). وحدثناه محمد بن المثنى حدثنا ابن أبي عدي عن سعيد عن قتادة بهذا الإسناد مثله]. بعض الرواة صحف سعيداً إلى شعبة؛ لأنهما في الرسم واحد، فحينما تكتب سعيداً وتكتب شعبة بغير ضبط ولا نقط ولا تشكيل؛ يمكن تصحيف سعيد إلى شعبة، وشعبة إلى سعيد؛ لأن الرسم واحد، كحمزة وجمرة أو حمرة الرسم واحد، ودائماً حينما تأتي تنظر في المخطوطات القديمة تجدها بغير نقط ولا ضبط ولا تشكيل ولا غير ذلك، ولذلك تصحف على كثير من المحدثين والعلماء كثير من قراءتهم من المخطوطات القديمة. ويدرك ذلك أهل العلم الذين تلقوا العلم من أفواه العلماء، أو أهل اللغة الذين يعرفون استقامة المعنى من عدمه في أثناء سماعهم لهذا من أفواه العلماء. ولذلك إذا روى عن قتادة سعيد فهو سعيد بن أبي عروبة، فإذا أتاك أي إسناد في أي كتاب من كتب السنة سعيد عن قتادة وسعيد هذا غير منسوب، فهو سعيد بن أبي عروبة لا غيره، مع أنه روى عن قتادة من اسمه سعيد كثيرون، لكن بغير نسبة فهو سعيد بن أبي عروبة؛ لأنه كان معروفاً بالملازمة لـ قتادة، وعلى يديه تخرج سعيد بن أبي عروبة.

شرح حديث: (العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه)

شرح حديث: (العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه) قال: [وحدثنا إسحاق بن إبراهيم -المعروف بـ ابن راهويه - أخبرنا المخزومي -وهو المغيرة بن سلمة أبو هشام البصري - حدثنا وهيب حدثنا عبد الله بن طاوس عن أبيه -وهو طاوس بن كيسان اليماني - عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه)]. يقول الإمام النووي: (هذا ظاهر في تحريم الرجوع في الهبة والصدقة بعد إقباضهما، وهو محمول على هبة الأجنبي، أما إذا وهب لولده وإن سفل؛ فله الرجوع فيه كما صرح به في حديث النعمان بن بشير، ولا رجوع في هبة الإخوة والأعمام وغيرهم من ذوي الأرحام، وهذا مذهب الشافعي، وبه قال مالك والأوزاعي، وقال أبو حنيفة وآخرون: يرجع كل واهب إلا الولد، وكل ذي رحم محرم). الذي يترجح هو مذهب جماهير العلماء دون مذهب الأحناف، أن كل واهب يحرم عليه أن يرجع في هبته إلا الوالد، فله أن يرجع في هبته لولده، ولو كان ذلك بعد القبض.

حقيقة التدليس وأنواعه

حقيقة التدليس وأنواعه التدليس: هو الإيهام، أي: ذكر كلام يفهمه المستمع على نحو، ويريد منه المتكلم نحواً آخر. يعني: أنا أوهمك أني سمعت فلاناً يقول شيئاً، وأنا قد سمعته فعلاً وتتلمذت على يديه، لكن هذا الكلام بالذات الذي أنقله لك الآن لم أسمعه منه، فأنا لا أقول: حدثني فلان، ولا أخبرني فلان، ولا سمعت فلاناً، وإنما أقول: قال فلان، وعن فلان. فمثلاً: سمعت منه جزءاً حديثياً له، وهذا الجزء فيه مائة حديث، لكني لم أسمع منه إلا تسعين حديثاً فقط، وتوفي الشيخ أو رحل قبل أن أسمع العشرة الباقية، ولكن وقع في يدي نسخة الأحاديث لهذا الشيخ، فعز علي بعد أن سمعت معظم هذا الجزء أن أروي بعضه، فقلت في التسعين حديثاً: حدثني فلان حدثني فلان حدثني فلان، والناس يعرفون أني تلميذ له، وأني سمعت هذا الجزء الحديثي منه، ثم أتيت على العشرة الأحاديث الباقية فقلت فيها: عن فلان، أُعَرّضُ للمستمع بروايتي عنه، وأنا لم أسمع منه هذه الأحاديث العشرة. فهذا يسمى تدليس الإسناد؛ ولذلك نحن نقول: شرط تدليس الإسناد: أن يصرح المدلس بالسماع من شيخه. أما تدليس التسوية فهو نوع ثان من أنواع التدليس، وهو أشر من تدليس الإسناد. وتدليس التسوية: أن يكون المدلس أدرك الشيخ الذي يروي عنه، بل وهذا الحديث بعينه الذي يرويه قد سمعه حقاً من الشيخ، فهو يقول فيه: حدثني فلان، وهو صادق في هذا، لكن المدلس بهذا النوع يعمد إلى راو ضعيف فوق شيخه لا تقبل روايته فينقصه من الرواية والإسناد، فمثلاً: إذا كان بقية بن الوليد يروي عن الأوزاعي عن الحارث عن فلان، والحارث ضعيف، فيقوم بقية فيسقط الحارث؛ لأنه ضعيف، فبدل ما كان الأوزاعي يقول: حدثني الحارث عن إبراهيم أو عن سعيد، يقول: قال الأوزاعي: عن سعيد، ويكون قد أسقط راوياً ضعيفاً بين راويين ثقتين، وسمي هذا بتدليس التسوية؛ لأن المدلس يعمد إلى شيخ شيخه وهو ليس عدلاً ولا أهلاً للرواية فيسقطه ليسوي الإسناد كله ثقات، وهذا ما كان يفعله بقية؛ ولذلك يقول علي بن مسهر: كن من بقية على تقية؛ فإن أحاديثه ليست نقية. فـ بقية هو أستاذ تدليس التسوية، فأي إسناد فيه بقية احذر منه، وتوقف عند كل راو، وانظر كيف تحمَّل، هل تحمل سماعاً أو عنعنة، ولذلك بقية لما كان يسقط شيوخ الأوزاعي الضعفاء، والأوزاعي مع إمامته كان يروي عن ضعفاء، فقيل لـ بقية: لم أسقطت فلاناً؟ قال: لأنه ضعيف، وأنا أجلُّ الأوزاعي أن يروي عن ضعفاء. ما يخصك من ذلك؟ هو روى عنه، فأنت لا تسقط من روى عنه، فمن أثبت الإسناد فقد برئت ذمته وعهدته، وهذا من الأصول عند أهل العلم. يقول العلماء: في تدليس الإسناد يلزم المدلس فقط التصريح بالسماع من شيخه، أما في تدليس التسوية فيلزم المدلس بالتصريح بالسماع من عنده إلى آخر السند؛ لأن تدليسه يقع على الإسناد كله وليس على طبقته هو فقط، ولذلك أي إسناد فيه مدلس معروف بتدليس التسوية يُلزم التصريح بالسماع في جميع طبقات السند فوق المدلس. أما تدليس الشيوخ فهو: أن يكون المدلس ليس له إلا شيخ واحد، فيسميه مرة، ويكنيه مرة، ويلقبه مرة، مما يوهم المستمع أن هؤلاء شيوخ متعددون وكثرة، وهو في الحقيقة شيخ واحد. واشتهر بهذا الخطيب البغدادي وابن الجوزي وغيرهما من أهل العلم. أما تدليس البلاد، فالحامل عليه والغرض منه إيهام المستمع الرحلة في طلب العلم، كأن تقول مثلاً: حدثني فلان فيما وراء النهر، وفي الحقيقة إنما توجد ترعة بينك وبين الذي حدثك، فتقول: حدثني فلان في بلاد ما وراء النهر، وأنت تقصد تلك الترعة التي بينك وبينه، فالمستمع له يظن بلد ما وراء النهر حقيقة. كذلك مثلاً: لو قال: حدثني فلان بالأندلس، المستمع سيظنه الأندلس القطر المعروف، ثم يفاجأ بأن الأندلس هذه اسم لشارع، أو اسم حي شعبي، ففي هذه الحالة هذا تدليس. كذلك حينما يقول شخص: وقد ألفت هذا الكتاب في مدينة الرياض في سنة كذا، وانتهيت منه بعد صلاة العشاء، فالقارئ سيقع في قلبه أنها الرياض التي في أرض الحجاز، وهي في الحقيقة عبارة عن عزبة اسمها الرياض، فذلك من تدليس البلاد، وهو نوع من أنواع كثيرة، لكن على أية حال أخطر أنواع التدليس على الإطلاق تدليس التسوية، ثم يليه الإسناد، ثم يليه الشيوخ.

طبقات المدلسين

طبقات المدلسين أما طبقات المدلسين فخمس طبقات: الطبقة الأولى: أناس لم يدلسوا قط إلا في حديث أو حديثين؛ فننظر إلى الشخص من حيث الإمامة والمكانة، مثل: يحيى بن سعيد الأنصاري، هذا روى أكثر من ثلاثمائة ألف حديث، ولم يدلس إلا في حديث، وهو نفسه يقول: ما دلست إلا في حديث واحد، فما بورك لي فيه. ولكن لم يقل ما هو هذا الحديث، ولم يعرف أحد هذا الحديث، فهل نطرح هذه الآلاف المؤلفة من الأحاديث من أجل حديث واحد؟ لا، ولا يقول بهذا إلا إنسان مجنون. فهذه الطبقة الأولى، فنحن احتملنا هذا التدليس، ولا نبحث حتى مجرد البحث عن هذا الحديث الذي ثبت أنه دلس فيه. الطبقة الثانية: أناس عرفت أمامتهم وجلالتهم دلسوا، ولكن تدليسهم بجنب روايتهم لا يكاد يذكر، مثل: سفيان بن عيينة والثوري مع إمامتهما وجلالتهما، واتفاق الشيخين البخاري ومسلم على الرواية لهما. الطبقة الثالثة من المدلسين: هم كثرة كاثرة من الرواة دلسوا تارة تدليس التسوية، وتارة الإسناد الذي قد ذكرته هنا، فهذا التدليس نتوقف فيه إلى أن يثبت لنا السماع. الطبقة الرابعة: قوم مدلسون وهم ضعفاء، أو مختلف فيهم، فالذي يثبته يقبل حديثه بشرط الطبقة الثالثة، أي إذا صرح، والذي يضعفه يرد روايته. وينظر في ضعفهم، هل ضعفهم مما يجبر، أو لا يجبر؟ وهذا محل ضبط وبحث عند أهل السند. الطبقة الخامسة: قوم وضاعون أو كذابون أو ضعفاء ضعفاً لا يحتمل، ومع ذلك هم مدلسون، فهؤلاء لو صرحوا بالتحديث لا تقبل روايتهم؛ لأنهم كذابون وضاعون أو ضعفاء جداً أو منكرو الحديث. ومناط البحث في التدليس هو الطبقة الثالثة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

الأسئلة

الأسئلة

حكم من حلف عدة أيمان ولم يكفر عنها وقد نسي مقدارها

حكم من حلف عدة أيمان ولم يكفر عنها وقد نسي مقدارها Q حلف شخص عدداً من الأيمان، ولا يتذكر منها إلا القليل، ولم يكفر عن هذه الأيمان فماذا يفعل؟ A على أية حال هو غير مكلف بتكفير الأيمان التي نسيها، وإنما ما تذكره يكفر عنه وجوباً، وإن كثرت الأيمان على الشيء الواحد كثرت الكفارات، يعني: لو حلف على شيء واحد عدة أيمان، وحنث فيها؛ فإنه يلزمه مع كل يمين كفارة، ليس مع كل عمل.

حكم بيع الفرس الموهوب للجهاد قبل الجهاد به

حكم بيع الفرس الموهوب للجهاد قبل الجهاد به Q ما الدليل على جواز البيع للفرس الموهوب قبل الجهاد به؟ A هذا الحديث نفسه من رواية ذكرها الإمام البخاري في كتاب الهبة، يقول: (حمل عمر على فرس له في سبيل الله عز وجل، فوجد المحمول فرسه هزيلاً من قلة الطعام)، يقول الحافظ ابن حجر: أي وجده المحمول لا يصلح للجهاد. فرجح الحافظ ابن حجر في الفتح جواز بيع الفرس الموهوب قبل أداء مهمة الهبة أو الصدقة. سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.

كتاب الهبات - العمرى

شرح صحيح مسلم - كتاب الهبات - العمرى العمرى من العقود المختلف فيها بين العلماء، فمنهم من جعلها عقد تمليك، ومنهم من جعلها عقد منفعة كالعارية، ومنهم من فصل فيها؛ فإن كانت غير مشروطة فهي للموهوبة له ولعقبه، ولا تعود إلى الواهب، وإن كانت مشروطة فالمسلمون على شروطهم، وهذا هو أرجح الأقوال.

باب العمرى

باب العمرى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. هذا هو الباب الرابع من كتاب الهبات وهو: باب العمرى، والعمرى بالألف المقصورة لا بالتاء المربوطة.

شرح حديث: (أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه؛ فإنها للذي أعطيها)

شرح حديث: (أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه؛ فإنها للذي أعطيها) قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يحيى بن يحيى التميمي النيسابوري أبو زكريا، قال: قرأت على مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه؛ فإنها للذي أعطيها، لا ترجع إلى الذي أعطاها؛ لأنه أعطى عطاءً وقعت فيه المواريث)]. يعني: من منح أخاه منحة، أو هبة، أو أي شيء بغير عوض؛ لأن العمرى هي عقد بغير عوض، وتسمى رقبى، وسنعرف السر في تسمية العمرى بالرقبى بعد قليل. فقوله: (أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه) أي: هي له ولعقبه، أو أن الواهب المعمِر قال للمعمَر: هذه العمرى لك ولولدك من بعدك، أياً كان ولدك، الابن أو ابن الابن وإن نزل. مثال العمرى كأن أقول لك: أعمرتك هذه الدار، أي: جعلت هذه الدار لك مدة عمرك، أو مدة عمري، فأينا مات أولاً ترد الدار إلى الثاني، ومن هنا سميت عمرى؛ لأنها متعلقة بالعمر، سواء كان هذا العمر هو عمر المعمِر أو المعمَر. ويمكن أن تكون مقيدة، ويمكن أن تكون بغير قيد، كما لو قال المعمِر للمعمَر: أعمرتك هذه الدار على أنك لو مت قبلي ردت إلي. وفي هذه الصورة نزاع بين أهل العلم: هل تصح العمرى ويبطل الشرط، أو أن العمرى باطلة من الأصل؟ فقوله: (أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه)، أي: أعطاه المعمِر هذه الدار مثلاً على اعتبار أنها تئول إلى أولاد المعَمر من بعده؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (فإنها للذي أعطيها)، أي: فإنها للمعمَر، (لا ترجع إلى الذي أعطاها)، أي: وهبها وأعمرها؛ والعلة: (لأنه أعطى عطاءً وقعت فيه المواريث) أي: أن المعمِر أو الواهب أو المعطي أعطى للمعطَى أو للمعمَر أو للموهوب له هذه الدار، وانبنى عليها أنه لما مات المعَمر انتقلت إلى ورثته، ولذلك اختلف أهل العلم في العمرى، هل هي عقد تمليك أم لا؟ واتفقوا على أن المعمَر يملك منفعة العين، لكنهم اختلفوا هل يملك الرقبة أم لا؟ يعني: هل يملك أصل الشيء المعمَر أم لا؟ فذهب الجمهور إلى أن العمرى عقد تمليك لأصل الشيء ومنفعته، وإلا فكيف تنتقل الدار إلى الورثة فيرثونها من بعد المعمَر ولا تكون تمليكاً، ربما تنتقل الأذهان إلى عقود الإيجار التي لم تحدد بمدة، وهذه عقود باطلة من جهة الشرع، عقود الإيجار المعروفة بالمشاهرة عقود باطلة في الشرع؛ لأن عقود المنفعة التي بعوض أعظم شرط فيها التحديد، إلا عقود البيع فالبائع لا يحتاج إلى تحديد، إنما عقود المنفعة التي بعوض لا بد فيها من التحديد، إذا خلا عقد الإجارة عن شرط التحديد فهو عقد باطل. إذاً: عقود إيجار الشقق والمحلات التي يؤجرها الناس مشاهرة. يعني: تبقى مدى العمر حتى يرثها الأبناء والأحفاد، هذه العقود باطلة، فمن كان بإمكانه أن يتخلص من مثل هذا ابتغاء مرضاة الله عز وجل فإنه من باب الطاعات والأعمال الصالحة.

شرح حديث: (من أعمر رجلا عمرى له ولعقبه فقد قطع قوله حقه فيها)

شرح حديث: (من أعمر رجلاً عمرى له ولعقبه فقد قطع قوله حقه فيها) قال: [حدثنا يحيى بن يحيى ومحمد بن رمح قالا: أخبرنا الليث بن سعد، (ح) وحدثنا قتيبة حدثنا ليث عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أعمر رجلاً عمرى له ولعقبه فقد قطع قوله حقه فيها، وهي لمن أعمر ولعقبه)] يعني: بمجرد أن قال له: أعمرتك هذه الدار لك ولعقبك؛ انقطعت صلته بهذه الدار، فلا يجوز له أن يرجع في ذلك قط. فقوله: (من أعمر رجلاً)، أي: من أعطى رجلاً داراً، أو شيئاً، أو متاعاً، على سبيل العمرى له ولعقبه، (فقد قطع قوله حقه فيها)، أي: قوله للمعمَر: أعطيتك، أو أعمرتك هذا الشيء. (وهي لمن أعمر ولعقبه)، أي: لأبنائه وأبناء أبنائه. قال: [غير أن يحيى قال في أول الحديث: (أيما رجل أعمر عمرى فهي له ولعقبه)].

شرح حديث: (أيما رجل أعمر رجلا عمرى له ولعقبه، فقال: قد أعطيتكها وعقبك ما بقي منكم أحد)

شرح حديث: (أيما رجل أعمر رجلاً عمرى له ولعقبه، فقال: قد أعطيتكها وعقبك ما بقي منكم أحد) قال: [حدثنا عبد الرحمن بن بشر العبدي، أخبرنا عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليمني، أخبرنا ابن جريج -وهو عبد الملك بن عبد العزيز الأموي المشهور بـ ابن جريج - أخبرني ابن شهاب -وهو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن زهرة الزهري - عن العمرى وسنتها، فحدثني عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن جابر بن عبد الله الأنصاري أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أيما رجل أعمر رجلاً عمرى له ولعقبه فقال: قد أعطيتكها وعقبك ما بقي منكم أحد؛ فإنها لمن أعطيها، -أي فإنها لذلك المعطى ولعقبه حتى ينقطع نسله- وإنها لا ترجع إلى صاحبها -أي: الذي أعمرها-؛ من أجل أنه أعطى عطاءً وقعت فيه المواريث)].

مذهب جابر بن عبد الله رضي الله عنهما والزهري في العمرى

مذهب جابر بن عبد الله رضي الله عنهما والزهري في العمرى قال: [حدثنا إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد واللفظ له، قال: أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن جابر قال: (إنما العمرى التي أجازها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يقول الرجل: هي لك ولعقبك، فأما إذا قال: هي لك ما عشتَ؛ فإنها ترجع إلى صاحبها)] لأنه أجاز العمرى بشرط الحياة، وعند أهل اللغة: أن العمرى لا تسمى عمرى إلا إذا قال المعمِر للمعمَر: أعمرتك هذه الدار مدة حياتك؛ ولذلك العلماء يسمونها الرقبى، لأن كلاً من المعمَر والمعمِر يرقب وفاة صاحبه لتحقق الشرط، فلو قال الرجل لأخيه: أعمرتك هذه الدار مدة حياتك، وهذا الأمر كان معروفاً في الجاهلية بشروط أتى الشرع فأبطلها، ولذلك لما هاجر المهاجرون من مكة إلى المدينة قام الأنصار رضي الله عنهم وأعمروا إخوانهم دوراً وحيطاناً، أي: بساتين وزروعاً ونخيلاً وغير ذلك، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (يا معشر الأنصار! لا تفسدوا أموالكم -وفي رواية: لا تهلكوا أموالكم-؛ فإن من أعمر شيئاً فهي لمن أُعمر ولعقبه)، حتى لا تكون العمرى بين المهاجرين والأنصار سبب نزاع وشقاق في المستقبل، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (يا معشر الأنصار! انظروا ما تصنعون؛ فإن من أعمر منكم لأحد من المهاجرين شيئاً فهي للمعمَر ولعقبه) لذلك وقع النزاع في العمرى هل تكون مدة حياة المعمر أو أنها تنتقل إلى الورثة؟ وهل العقد صحيح والشرط باطل بحيث تنتقل العين إلى ورثته؟ قال جابر: (إنما العمرى التي أجازها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: هي لك ولعقبك، وأما إذا قال: هي لك ما عشتَ؛ فإنها ترجع إلى صاحبها)، يعني: لو قال له: هي لك ولعقبك؛ تنتقل إلى الورثة، أما إذا شرط وقال: هي لك ما عشتَ، أي: هي لك مدة بقائك وحياتك؛ فإذا مات المعمَر رجعت الدار إلى المعمِر، فهذه وقع النزاع فيها. قال معمر: (وكان الإمام الزهري عليه رحمة الله يفتي به) وهو راوي الحديث، فضلاً عن جابر الذي روى هذا الحديث بعدة طرق عنه، فإن هذا هو الذي فهمه جابر من كلام النبي عليه الصلاة والسلام، أن الرجل يفرق بين لفظين: فإذا قال: هذه عمرى لك، أو عمرى لك ولعقبك، فإنهما سواء؛ لأن العمرى عند الإطلاق تعني التمليك والانتقال عن طريق الميراث، إلا إذا اشترط واستثنى وقال: العمرى لك ما عشتَ، أو عمرى لك ما عشتُ، فيكون تعلقه بعمر المعمَر أو بعمر المعمِر، فأيهما مات أولاً انتقلت إلى الآخر، فإذا قال المعمِر للمعمَر: هذه الدار عمرى لك، أي: تعمرها وتسكنها، وتنتفع بها مدة بقائك وحياتك، فإذا متَّ انتقلت إلي، وإذا متُّ انتقلت لورثتي، فهذا الشرط محل اتفاق عند قوم، ومحل نظر عند آخرين.

شرح حديث: (أن رسول الله قضى فيمن أعمر عمرى له ولعقبه قال: فهي له بتلة)

شرح حديث: (أن رسول الله قضى فيمن أعمر عمرى له ولعقبه قال: فهي له بتلة) قال: [حدثنا محمد بن رافع، حدثنا ابن أبي فديك -وهو محمد بن إسماعيل - عن ابن أبي ذئب -وهو محمد بن عبد الرحمن - عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى -أي: حكم- فيمن أعمر عمرى له ولعقبه، فهي له بتلة، لا يجوز للمعطي فيها شرط ولا ثنيا)] قوله: (بتلة) أي: عطية ماضية غير راجعة إلى الواهب، والثنيا هي الاستثناء، يعني: لا يجوز له أن يشرط ولا أن يستثني. لأنه أطلق أولاً، فقال: هذه عمرى لك ولعقبك، ولأن هذا هو مذهب جماهير العلماء، إذا قال: هي لك ولأولادك من بعدك، فأي شرط مع هذا اللفظ يبطل، وأي استثناء يبطل، فصيغة الكلام أولاً كأنه عقد بيع لكن بغير عوض، ونحن نعلم أن عقد البيع لا يجوز فيه شرط ولا استثناء، فلا يصح أن أقول لك: بعتك هذه الدار على أن تردها إلي بيعاً وشراء إذا أردت. ولا يصح أن أقول لك: بعتك هذه الدار على ألا تسكنها أنت، لا يصح هذا الشرط. واختلف أهل العلم في مثل هذا. فبعضهم أبطل البيع أصلاً، وبعضهم صحح البيع وأبطل الشرط، والراجح أن البيع صحيح والشرط باطل لا يلزم به المشتري. قال: [قال أبو سلمة: لأنه أعطى عطاءً وقعت فيه المواريث، فقطعت المواريث شرطه]. الصورة الأولى: هي قول المعمِر للمعمَر: أعمرتك هذه الدار مدة حياتك، هل يستوي قولك: أعمرتك هذه الدار مدة حياتك، مع قولك: أعمرتك هذه الدار لك ولعقبك من بعدك؟ لا يستويان. الصورة الأولى: لا تفيد التمليك. الصورة الثانية: تدل على التمليك. فقولك: أعمرتك هذه الدار لك ولعقبك؛ تفيد هذه الصورة ملك الرقبة؛ لأن المعلوم قطعاً أنه لا ينتقل بالميراث إلى الورثة إلا ما كان ملكاً للمورث. أما إذا قال المعمِر للمعمَر: أعطيتك هذه الدار مدة حياتك، فإذا أنت مت انتقلت إلي، أو ردت إلي، هل يصح في مثل هذه الميراث؟ A لا يصح؛ لأنها عمرى مشروطة بعمر المعمَر، إذا انتهى عمره انتهت العمرى، وردت إلى صاحبها ومالكها الأول.

شرح حديث: (العمرى لمن وهبت له)

شرح حديث: (العمرى لمن وهبت له) قال: [حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري حدثنا خالد بن الحارث، حدثنا هشام -وهو ابن أبي عبد الله الدستوائي - عن يحيى بن أبي كثير حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (العمرى لمن وهبت له). وحدثناه محمد بن المثنى حدثنا معاذ بن هشام -وهو معاذ بن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي - حدثني أبي عن يحيى بن أبي كثير، حدثنا أبو سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال بمثله. وحدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير بن معاوية بن حديج، حدثنا أبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي عن جابر بن عبد الله الأنصاري يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وحدثنا يحيى بن يحيى، واللفظ له، أخبرنا أبو خيثمة -هو زهير المتقدم- عن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها؛ فإنه من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حياً وميتاً، ولعقبه)]. يعني: أنه لما هاجر المهاجرون إلى المدينة وتركوا أرضهم وديارهم، أشفق عليهم الأنصار فأعمروهم أرضاً، وآثروهم على أنفسهم مع ما كان بهم من خصاصة، لكن كان الأمر في الجاهلية أن من أعمر شيئاً رده في أي وقت شاء، فالنبي صلى الله عليه وسلم بين أن العمرى إنما هي عقد هبة، ولا يجوز للواهب أن يرجع في هبته، والراجع في هبته كالكلب يرجع في قيئه، كما أن الذي يهب هبة ويرجع فيها ليس من مكارم الأخلاق، فلو أن رجلاً أعطى هدية لأهله، فلما تشاجرا طالبهم برد الهدية، فهذا في العرف من مساوئ الأخلاق، فكانوا في الجاهلية يتخلقون بهذا الخلق، فجاء الإسلام وبين أن العمرى من عقود الهبات التي هي بغير عوض, ولا يجوز لأحد أن يرجع فيها، كما أن ذلك ليس من مكارم الأخلاق، وإنما ذلك من مساوئها. فلما أعمر الأنصار المهاجرين ذلك، خشي النبي عليه الصلاة والسلام أن يتمثل الأنصار أخلاق الجاهلية، وأن يطالبوا المهاجرين بما وهبوهم إياه بعد مدة من الزمان، أو في أي وقت شاءوا؛ فقال: (مهلاً يا معشر الأنصار! فإن من أعمر عمرى -أي: لأخيه- فهي له حياً وميتاً، وإذا مات انتقلت إلى ورثته). فلا بد أن تعلموا هذا، وهذا عند الإطلاق بغير قيد ولا شرط، يعني: إذا قال أحدهم لأخيه: أعمرتك هذه الدار؛ فلا بد أن يعلم أن هذه الدار سوف تنتقل إلى ورثة المعمَر، إلا إذا اشترط، وعلى المعمَر أن يقبل العمرى بشرطها أو بغير شرطها من أول الأمر.

شرح حديث: (جعل الأنصار يعمرون المهاجرين، فقال النبي: أمسكوا عليكم أموالكم)

شرح حديث: (جعل الأنصار يعمرون المهاجرين، فقال النبي: أمسكوا عليكم أموالكم) قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا محمد بن بشر العبدي، حدثنا حجاج بن أبي عثمان، (ح) وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم عن وكيع عن سفيان -وهو ابن عيينة؛ لأن سفيان بن عيينة هو الذي يروي عنه وكيع بن الجراح - وحدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد حدثني أبي عن جدي عن أيوب -وهو السختياني - كل هؤلاء عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعنى حديث أبي خيثمة المتقدم، وفي حديث أيوب من الزيادة قال: (جعل الأنصار يعمرون المهاجرين، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أمسكوا عليكم أموالكم)] أي: لا تعمروها حتى يعلم الواحد منكم إذا أعمر شيئاً بشرط فله شرطه، وإذا أعمر بغير شرط؛ فليعلم أن هذه العمرى لا ترد إليه.

شرح حديث جابر في حكم العمرى غير المشروطة

شرح حديث جابر في حكم العمرى غير المشروطة قال: [حدثنا محمد بن رافع وإسحاق بن منصور -وهو الكوسج البغدادي - قال: حدثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير عن جابر قال: (أعمرت امرأة بالمدينة حائطاً لها ابناً لها، ثم توفي وتوفيت بعده، وتركت ولداً وله إخوة بنون للمعمِرة، فقال ولد المعمرة: رجع الحائط إلينا، وقال بنو المعمر: بل كان لأبينا حياته وموته، فاختصموا إلى طارق مولى عثمان -هو والي المدينة لـ عبد الملك بن مروان بعد إمارة ابن الزبير - فدعا جابر -أي: دعا طارق جابر بن عبد الله ليشهد على هذه الحالة- فشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرى لصاحبها، فقضى بذلك طارق، ثم كتب إلى عبد الملك فأخبره ذلك، وأخبره بشهادة جابر فقال عبد الملك: صدق جابر، فأمضى ذلك طارق، فإن ذلك الحائط لبني المعمر حتى اليوم)] يعني: للورثة حتى رواية هذا الأثر. فهذه العمرى إنما أعمرتها المرأة أحد أولادها بغير قيد ولا شرط، فالذي يعمر بغير قيد ولا شرط ولا استثناء يحمل على الإطلاق، أي: أنها للمعمَر ولولده من بعده، وليس في هذا أدنى تعارض مع الميراث؛ لأن هذا من باب عقود الهبات التي لا يحل لأحد أن يرجع فيها، فربما أن تكون أعمرت هذه المرأة ولدها لعلة لحقته، أو لآفة، أو لحاجة، أو غير ذلك، وهذا على أية حال في مذهب الحنابلة جائز، أن يخص الوالد ولده أو المرأة ابنها بشيء دون بقية إخوته إذا دعت الضرورة إلى ذلك، كأن يكون صغيراً وقد كبر إخوته، أو يكون مريضاً وإخوانه صحاح أو غير ذلك من العلل، حتى إن الإمام أحمد في فتوى له رجح ذلك، قال: إذا كبر الأولاد، وتزوجوا، وبنو دورهم من أموال آبائهم، وكان أحد الأبناء صغيراً قاصراً، فلابد أن نقدر له ما يساوي ما أعطي بقية إخوته، ثم يقسم الميراث بعد ذلك. هذه فتوى رائعة جداً أفتى بها الإمام أحمد بن حنبل عليه رحمة الله. قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم واللفظ لـ أبي بكر، قال إسحاق: أخبرنا، وقال أبو بكر: حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو -وإذا حدث سفيان بن عيينة عن عمرو؛ فهو عمرو بن دينار المكي لا غير- عن سليمان بن يسار: أن طارقاً قضى بالعمرى للوارث؛ لقول جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم] يعني: قضى بأن تنتقل العمرى إلى الورثة.

شرح أحاديث: (العمرى جائزة، والعمرى ميراث لأهلها)

شرح أحاديث: (العمرى جائزة، والعمرى ميراث لأهلها) قال: [وحدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار قالا: حدثنا محمد بن جعفر البصري، حدثنا شعبة بن الحجاج العتكي البصري، قال: سمعت قتادة يحدث عن عطاء عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (العمرى جائزة)]. (جائزة) أي: ماضية، أو حلال ومشروعة، والمعاني كلها متقاربة. قال: [حدثنا يحيى بن حبيب الحارثي، حدثنا خالد -وهو ابن الحارث - حدثنا سعيد -هو سعيد بن أبي عروبة البصري - عن قتادة عن عطاء عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (العمرى ميراث لأهلها)] العمرى عند الإطلاق وعدم التقييد بأنها له ولعقبه، فلا شك أنها ميراث لعقبه. قال: [حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار قالا: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (العمرى جائزة). وحدثنيه يحيى بن حبيب حدثنا خالد بن الحارث حدثنا سعيد عن قتادة بهذا الإسناد، غير أنه قال: (العمرى ميراث لأهلها)، أو قال: (جائزة)]. يعني: إما أنه قال: العمرى جائزة أو قال: العمرى ميراث لأهلها.

أحكام العمرى وأحوالها وصورها

أحكام العمرى وأحوالها وصورها قال العلماء في تعريف العمرى لغة: أعمرتك هذه الدار مثلاً، أو جعلتها لك عمرك، أو حياتك، أو ما عشت، أو ما حييت، أو ما بقيت، أو ما يفيد هذا المعنى، وعقب الرجل: هم أولاده وما تناسلوا عنه، يعني: أبناؤه وأبناء أبنائه، وإن نزلوا. أحسن مذهب هو مذهب الشافعية فيما يتعلق بالعمرى؛ لأن العمرى تختلف: منهم من منعها مطلقاً، ومنهم من أجازها مطلقاً وأبطل الشرط، فالشافعية أتوا بتفصيل رائع. قال النووي: (قال الشافعية: العمرى ثلاثة أحوال: أحدها: أن يقول: أعمرتك هذه الدار، فإذا متَّ فهي لورثتك أو لعقبك؛ فتصح بلا خلاف) يعني: هذه العمرى صحيحة بلا خلاف بين أهل العلم، ويملك المعمَر بهذا اللفظ رقبة الدار، والرقبة هي الملك، والدار ليس لها رقبة، لكن الرقبة هنا تعبر عن أصل الشيء، فقولك: أعمرتك هذه الدار لبنيك، أي: لورثتك، هذا عقد تمليك بغير عوض؛ لأن العمرى من عقود الهبات، والعلة في كون العمرى بهذه الصورة عقد تمليك، أنه أعطى عطاءً وقعت فيه المواريث، كما جاء في الحديث، (لأنه أعطى عطاءً وقعت فيه المواريث)، ففي هذه الصورة وهذه الحالة العمرى جائزة بلا خلاف. ثم قال: (ويملك بهذا اللفظ المعمَر رقبة الدار، وهي هبة، لكنها بعبارة طويلة). فإذا أردنا أن نضع حداً وتعريفاً لهذه العمرى لعرفناها بألفاظ طويلة، والأصل في التعريف أنها قليلة المبنى، فلو قلنا: عقد البيع هو عقد ينتقل به الشيء إلى المشتري في مقابل عوض، فينتج عن هذا التعريف أشياء كثيرة جداً عندما نأتي لنشرحه، ومعظم التعاريف والحدود التي وضعها العلماء بعقد العمر ما هي إلا شرح لصور العمرى، وليس تعريفاً واحداً لها. قال: (فإذا مات فالدار لورثته، فإن لم يكن له وارث فلبيت المال، ولا تعود إلى الواهب بحال خلافاًَ لـ مالك). يعني: مالك هو الوحيد الذي أفتى بأن تعود إلى الواهب، أما جمهور أهل العلم فقالوا: لا تعود إليه بحال؛ لأنها خرجت من ذمته على سبيل الهبة، لا على سبيل المنفعة، فإذا مات هذا الرجل المعمَر؛ فقد ترك مالاً هو يملكه، ولا حق لمالك هذه الدار الأول فيها مطلقاً، فكيف تنتقل إليه وقد خرجت من ذمته هبة؟ يعني: تصور لو أنك أعطيت بعض مالك لرجل، وبمجرد أن وقع المال في يده فوضعه في جيبه خر ميتاً، هل يحل لك أن تأخذ هذا المال مرة أخرى؟ هذا المال قد خرج منك على سبيل الهبة، فإذا أخذته فكأنما رجعت تأكل قيئك مرة أخرى، والنبي عليه الصلاة والسلام ضرب بذلك أسوأ المثل بالكلب، ولا ينبغي لأحد أن يتشبه به. قال: (الحال الثاني: أن يقتصر على قوله: جعلتها لك عمرك، ولا يتعرض لما سواه، ففي صحة هذا العقد قولان للشافعي، أصحهما وهو الجديد: صحته، وله حكم الحال الأول). يعني: مذهب الشافعي الجديد الذي صنفه في مصر وأفتى به في العراق: أن هذا العقد صحيح، وحكمه نفس أحكام الحال الأول، وساوى بين قول المعمِر: أعمرتك إياها، وبين قوله: أعمرتك إياها ولعقبك من بعدك، فلو قال وأطلق: أعمرتك الدار، فهو كما لو قال: أعمرتك إياها ولعقبك من بعدك. قال: (والثاني وهو القديم: أنه باطل. وقال بعض أصحابنا: إنما القول القديم أن الدار تكون للمعمَر حياته، فإذا مات عادت إلى الواهب أو ورثته؛ لأنه خصه بها حياته فقط. وقال بعضهم: القديم أنها عارية يستردها الواهب متى شاء، فإذا مات عادت إلى ورثته)، ذكرنا أن الرأي الأول هو الراجح في مذهب الشافعية. ثم قال: الثالث: أن يقول: جعلتها لك عمرك، فإذا متَّ عادت إلي أو إلى ورثتي إن كنت مت) يعني: ما دمت حياً فهي لك اعمرها واسكنها مثلما تريد، فإذا أنت متَّ ردت إليَّ، وإذا مت أنا فتردها لورثتي. ثم قال: (ففي صحته خلاف عند أصحابنا، منهم من أبطله، والأصح عندهم صحته، ويكون له حكم الحال الأول، واعتمدوا على الأحاديث الصحيحة المطلقة: (العمرى جائزة) وعدلوا به عن قياس الشروط الفاسدة، والأصح الصحة في جميع الأحوال، وأن الموهوب له يملكها ملكاً تاماً، ويتصرف فيها بالبيع وغيره من التصرفات، وهذا مذهبنا، وقال أحمد: تصح العمرى المطلقة دون المؤقتة)، يعني: العمرى المشروطة بشرط غير صحيحة، إنما الصحيح منها المطلقة التي تنتقل إلى الورثة. ثم قال النووي: (وقال مالك في أشهر الروايات عنه: العمرى في جميع الأحوال تمليك لمنافع الدار مثلاً، ولا يملك فيها رقبة الدار بحال، وقال أبو حنيفة بالصحة كنحو مذهبنا، وبه قال الثوري والحسن بن صالح وأبو عبيدة، حجة الشافعي وموافقيه هذه الأحاديث الصحيحة). يعني: التي سبق ذكرها. قال: (أما قوله عليه الصلاة والسلام: (أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها) إلى آخر الحديث، فالمراد به إعلامهم أن العمرى هبة صحيحة ماضية، يملكها الموهوب له ملكاً تاماً لا يعود إلى الواهب أبداً، فإذا علموا ذلك

تعريف العمرى والعارية والرقبى والفرق بينها

تعريف العمرى والعارية والرقبى والفرق بينها العمرى لغة بضم العين وإسكان الميم: هي ما تجعله للرجل مدة عمرك أو عمره، وقال ثعلب وهو إمام من أئمة اللغة: العمرى: أن يدفع الرجل لأخيه داراً فيقول: هذه لك عمرك، أو عمري، أينا مات دفعت الدار إلى أهله، أي: إلى ورثته. وعرفها الحنفية والحنابلة بأنها: جعل المال في شيء يملِّكه لشخص آخر عمر أحدهما. وعرفها المالكية والشافعية بأنها: جعل المال في شيء يملكه لشخص آخر عمر هذا الشخص. وهناك ألفاظ مرادفة للفظ العمرى، منها: الإعارة، فبعض أهل العلم سوى بين العارية وبين العمرى، فالإعارة تمليك منفعة مؤقتة بلا عوض، كأن أقول لك: أعرتك هذا الذهب لتلبسه امرأتك، أو أعرتك هذا المسجل لتسمع به ثم ترده إلي. والإعارة: هي عقد يقع على المنفعة بغير عوض، والفرق بين العمرى وبين العارية أن العمرى مقيدة بالعمر، بخلاف العارية. وأما العريّة بغير ألف بعد العين، فهي أن يهب لك ثمر نخلة، أو ثمر شجرة دون أصلها؛ لتنتفع بثمرها، ولا علاقة لك بها. أما المنيحة فليست في الشجر، ولا في النخل، إنما المنيحة في الدواب كالبقر، والغنم، والإبل، منحتك هذه الناقة لتحلبها وتأخذ لبنها ثم تردها إلي، أو البقرة، أو الشاة، أو المعز، والمنيحة إنما سميت منيحة لمنحك الممنوحة لبنها، والمنيحة خاصة بلبن الشاة أو البقر أو الغنم أو غير ذلك، ثم ترجعها إلى صاحبها. ومن الألفاظ المرادفة للعمرى الرقبى، والرقبى في اللغة: مأخوذة من المراقبة، يقال: أرقبت زيداً الدار إرقاباً، والرقبى هي نفس العمرى، ولذلك الإمام البخاري في كتاب الهبات قال: باب العمرى والرقبى، فسوى بينهما. وقال ابن عباس: العمرى والرقبى سواء. فهو يرى أن العمرى هي الرقبى، وسميت الرقبى بذلك لأن كل واحد من طرفيها يرقب موت صاحبه لتبقى له، يعني: أعمرك عمرى، ثم انتظر موتك؛ لأنه بعد الموت ترد إليه داره. والرقبى في الاصطلاح عند جمهور الفقهاء: هي أن يقول الشخص: أرقبتك الدار مثلاً، أو هي لك رقبى مدة حياتك، على أنك إن مت قبلي عادت إلي، وإن متُّ قبلك فهي لك ولعقبك. وقال المالكية: هي أن يقول الرجل للآخر: إن مت قبلي فدارك لي، وإن مت قبلك فداري لك. ذهب الفقهاء في الجملة إلى جواز العمرى ومشروعيتها؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حياً وميتاً، ولعقبه). ولقوله عليه الصلاة والسلام: (العمرى جائزة لأهلها). والعمرى نوع من الهبة يفتقر إلى ما يفتقر إليه سائر الهبات من الإيجاب والقبول والقبض، أو ما يقوم مقام ذلك. إذاً: العمرى لابد فيها من إيجاب وقبول، وكذلك قبض، فلو قلت لك: أعمرتك هذه الدار، ولكني لازلت ساكناً فيها فلا تصح هذه العمرى؛ لأن الشرط فيها الانتقال والقبض، أو ما يقوم مقامه. وقد اختلف الفقهاء في كون العمرى تمليك للعين ذاتها أو للمنفعة، فقال الجمهور عدا المالكية -يعني: الأحناف والشافعية والحنابلة-: هي تمليك عين في الحال؛ لما روى جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها؛ فإن من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حياً وميتاً، ولعقبة)، وفي لفظ: (قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالعمرى أنها لمن وهبت له)، لكن المالكية والليث بن سعد قالوا: إنه ليس للمعمر فيها إلا المنفعة، فإذا مات عادت إلى المعمِر؛ لما روى يحيى بن سعيد عن عبد الرحمن بن القاسم قال: سمعت مكحولاً يسأل القاسم بن محمد عن العمرى: ما يقول الناس فيها؟ فقال القاسم: ما أدركت الناس إلا على شروطهم في أموالهم وما أعطوا)، يعني: الناس إذا اشترطوا ملك المنفعة فلهم ذلك، وإذا اشترطوا أنها له ولعقبه فلهم ذلك. وقال أبو إسحاق الحربي عن ابن العربي: لم يختلف العرب في العمرى والرقبى والمنحة ونحوها، أنها على ملك أربابها) -أي: على ملك أصحابها الأول- ومنافعها لمن جعلت له. وهذا الكلام مخالف لما قلناه؛ لأن مقصود ابن العربي أن عقود الهبات كلها على ملك صاحبها الأول، لكن هذا خلاف التمليك؛ لأن التمليك لا يتأقت، كما لو باعه إلى مدة، فإذا كان لا يتأقت حمل قوله: على تمليك المنافع؛ لأنه يصلح توقيته. كما لو قال المعمِر للمعمَر: أعطيتك أو أعمرتك هذه الدار مدة حياتك، فإذا أنت متَّ ردت إليَّ، قال العلماء: الأقرب أنه عقد منفعة، وعقود المنفعة لا تمليك فيها. فإذا كان التمليك لا يتأقت حمل قوله عليه الصلاة والسلام على تمليك المنافع، أي: له حق المنفعة له ولعقبه من بعده، وهذا يرتبط ارتباطاً شديداً جداً مع قوله عليه الصلاة والسلام: (فإنه أعطى عطاءً وقعت فيه المواريث) وكافة أهل العلم على أن المواريث لا تقع على المنافع، إنما تقع على العين، فالذي يصح عندنا هو مذه

كلام الحافظ في الفتح عن العمرى وأحكامها

كلام الحافظ في الفتح عن العمرى وأحكامها ذكر الحافظ ابن حجر في كتاب الهبات في الباب الثاني والثلاثين من الفتح: باب ما قيل في العمرى والرقبى، قال: أعمرته الدار، فهي عمرى، أي: جعلتها له، كما في قوله تعالى: {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود:61]، أي: جعلكم عماراً، ثم ذكر حديث جابر: (قضى النبي عليه الصلاة والسلام بالعمرى أنها لمن وهبت له)، وذكر حديث أبي هريرة: (العمرى جائزة)، وهو كذلك في حديث جابر. ثم قال: والعمرى مأخوذة من العمر، والرقبى مأخوذة من المراقبة؛ لأنهم كانوا يفعلون ذلك في الجاهلية، فيعطي الرجل الدار ويقول: أعمرتك إياها، أي: أبحتها لك مدة عمرك، فقيل لها: عمرى لذلك، وكذا قيل لها: رقبى؛ لأن كلاً منهما يرقب صاحبه متى يموت لترجع إليه، وكذا ورثته، فيقومون مقامه في ذلك، هذا أصلها، يعني: حتى الورثة يرقبون موت مورثهم، يعني: إما أنها سميت رقبى لأن كلاً من المعطي والآخذ ينتظر موت صاحبه، وكذلك الورثة ينتظرون ويرقبون موت مورثهم؛ حتى تنتقل إليهم هذه الدار. وأما شرعاً: فالجمهور على أن العمرى إذا وقعت كانت ملكاً للآخر، ولم يخالف في ذلك غير مالك وقال: عقد منفعة، أما الجمهور على أن العمرى إذا وقعت كانت ملكاً للآخر، ولا ترجع إلى الأول إلا إن صرح باشتراط ذلك، لكنه إذا قال المعمر حين العقد للمعمَر: أعمرتك إياها مدة حياتك، فإذا متَّ ردت إليَّ، هذا شرط، والمؤمنون عند شروطهم، ما لم يحلوا حراماً أو يحرموا حلالاً. ثم قال: (وذهب الجمهور إلى صحة العمرى، إلا ما حكاه أبو الطيب الطبري عن بعض الناس، والماوردي عن داود الظاهري وطائفة، لكن ابن حزم الذي هو شيخ الظاهرية صحح عقد العمرى، ثم اختلفوا إلى ما يتوجه التمليك، هل يتوجه إلى الرقبة أم إلى المنفعة؟ فالجمهور على أن العقد يتوجه إلى الرقبة، بخلاف المالكية فإنهم قالوا: يتوجه إلى المنفعة. ثم ساق الأحاديث التي وردت في مشروعية العمرى، فقال بعد ذلك: فيحصل لنا من هذه الروايات ثلاثة أحوال: الأولى: أن يقول: هي لك ولعقبك، فهذا صريح في أنها للموهوب له ولعقبه؛ فلا إشكال في ذلك. الحالة الثانية: أن يقول: هي لك ما عشتَ، فإذا متَ رجعت إليَّ؛ فهذه عارية مؤقتة، وهي صحيحة، فإذا مات رجعت إلى الذي أعطى، وقد بينت هذه والتي قبلها رواية الزهري. يعني: التي كان يفتي بها الإمام الزهري، وكذلك جابر بن عبد الله، وبه قال أكثر العلماء ورجحه عامة الشافعية، والأصح عند أكثرهم أنها لا ترجع إلى الواهب، واحتجوا بأنه شرط فاسد، فكأنه كالشرط الملغي، لكن الأول هو الراجح. الصورة الثالثة: أن يقول: أعمرتكها، ويسكت، لم يقل: ولعقبك، فرواية أبي الزبير تدل على أنها تأخذ حكم ما لو قال له: أعمرتك ولبنيك؛ لأنه إذا لم يشترط الرجوع إليه فكأن نيته انصرفت إلى التمليك المطلق. إذاً: لدينا صورتان من صور العمرى كلاهما عقد تمليك، وصورة واحدة عقد ملك المنفعة. الصورة الأولى: لو قال المعمِر للمعمَر: أعمرتك الدار ولعقبك من بعدك؛ انتقلت هذه الدار بالميراث إلى الورثة؛ لأنها دخلت في ملك المعمَر. الصورة الثانية: لو أطلق ولم يخير ولم يشرط؛ فتأخذ نفس الحكم. أما الصورة الثالثة: لو قيد ذلك بالعمر: أعمرتك إياها مدة عمرك، أو مدة عمري؛ فأينا مات ردت إلى أهله، فالشرط هنا ينبغي اعتباره، وأن الأصل في هذه الصورة أنها تمليك للمنفعة لا تمليك للعين، وهي صحيحة عند الجمهور، وأبطلها بعضهم.

شروط صحة العمرى

شروط صحة العمرى شروط صحة العمرى ثلاثة: الشرط الأول: الإيجاب. الشرط الثاني: القبول، وهذان الشرطان في أي عقد من العقود: إيجاب، وقبول، الإيجاب: أعمرتك هذه الدار، والقبول: قبلت هذه العمرى، إيجاب من المعمِر، وقبول من المعمَر. الشرط الثالث: القبض أو ما يقوم مقامه، فإذا كان الشيء مما ينقل؛ كالسيارة، في هذه الحالة سوف يكون هناك قبض مال، وانتقال مال، أما الدار فبالسكنى يكون القبض.

كتاب اللقطة - مقدمة الكتاب والتعريف باللقطة والضيافة والمواساة بفضول المال

شرح صحيح مسلم - كتاب اللقطة - مقدمة الكتاب والتعريف باللقطة والضيافة والمواساة بفضول المال من التقط مالاً أو شيئاً له قيمة فعليه أن يعرفه سنة، فإن وجد له صاحباً وإلا حفظ أوصاف لقطته وانتفع بها وبقيت عنده وديعة حتى يأتيه صاحبها، أما إن كانت اللقطة في الحرم فإنه لا يأخذها إلا من نوى أن يعرفها مدة حياته.

شرح أحاديث سؤال النبي عن اللقطة

شرح أحاديث سؤال النبي عن اللقطة بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد: فنحن في كتاب اللقطة. قال المصنف رحمه الله: [حدثنا يحيى بن يحيى التميمي قال: قرأت على مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن] وربيعة الرأي لم يكن كأهل الأثر في اتباع الأثر، وإنما دائماً كان مذهبه يميل إلى الرأي في الغالب. قال: [وعن يزيد مولى المنبعث عن زيد بن خالد الجهني أنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن اللقطة -أي: ما يلتقطه المرء ويأخذه- قال: اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة -يعني: أخبر بها الناس على مدار السنة- فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها)]. أي: وإلا فهي لك. كأنه يسأله عن اللقطة وهي ما دون الحيوان، وهي ما يمكن أن يجده الإسان ويأخذه إما أن يكون ضالة وإما أن يكون لقطة، والفرق بين الاثنين أن الضالة: هي الحيوان من ذوات الأربع وما دون ذلك لقطة؛ لحديث: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن اللقطة ثم سأله بعد ذلك عن الضالة). إذاً: هناك فرق بين اللقطة وبين الضالة، فإذا ضاع على الإنسان ذهب أو خشب أو جماد أو غير ذلك فيقال عنه لقطة. كذلك لو أنك وجدت شاة تمشي أو تائهة أو ضالة فأخذتها فلا تقول: أنا أخذت لقطة وإنما تقول: أنا أخذت ضالة، وقوله عن اللقطة: (اعرف عفاصها) العفاص: هو الإناء أو الوعاء الذي يوضع به هذا الشيء. (ووكاءها) وهو الحبل الذي تربط به. (ثم عرفها سنة فإن جاء صاحبها وإلا وشأنك بها) يعني: هي لك. فسأله بعد ذلك عن ضالة الغنم. قال: [(هي لك أو لأخيك أو للذئب)] يعني: إما أن تأخذها أو يأخذها غيرك أو يأكلها الذئب؛ لأن الغنم أو الماعز ضعيف يسطو عليه الذئب أو السبع فيأكله. قال: [(فضالة الإبل قال: ما لك ولها -يعني: هذه لا تلتقط- معها سقاؤها وحذاؤها)]. سقاؤها: البعير عنده القدرة على أن يشرب من الماء الشيء الكثير فيخزن الماء في المعدة فإذا عطش استخدم هذا الماء الذي شربه. وكذلك عنده القدرة على أن يأكل طعاماً فوق طاقته فيخزنه فإذا جاع أخرجه من المعدة إلى الفم فمضغه ثم ابتلعه مرة أخرى فيشبع بذلك. وكذلك معها حذاؤها وهو الخف الذي تستطيع به السير، ومعها الطعام والشراب الذي تستطيع به الشبع فهي لا تحتاج إلى التقاط. وبالتالي لا تكون ضالة. قال: [(ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها)] أي: حتى يلقاها صاحبها. وكره بعض الناس إطلاق كلمة الرب على الممتلكات، وهذا بلا شك كلام ترده الأدلة، والصحيح: أن هذه الأشياء تضاف إلى أصحابها من باب أنه ربها. قال: [وحدثنا يحيى بن أيوب، وقتيبة، وابن حجر، قال: ابن حجر أخبرنا وقال الآخران: حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن يزيد مولى المنبعث، عن زيد بن خالد الجهني: (أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة، فقال: عرفها سنة -وهي مدة التعريف- ثم اعرف وكاءها وعفاصها ثم استنفق بها)]. يعني: أنفقها بعد مرور السنة بشرط ألا يظهر صاحبها. [(فإن جاء ربها -أي: صاحبها- فأدها إليه)]. حتى بعد مرور السنة، وإن جاز للرجل أن يستنفق وأن ينتفع بهذه اللقطة إلا أنها لا تزال ديناً في ذمته إذا ظهر صاحبها ولو بعد مرور السنة. [(فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: فضالة الغنم؟ قال: خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب. قال: يا رسول الله: فضالة الإبل؟ قال: فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمرت وجنتاه أو احمر وجهه، ثم قال: ما لك ولها؟)] يعني: أنه صلى الله عليه وسلم قضى وأفتى وهو غضبان، وفي كتاب الأقضية لا يجوز للقاضي أن يقضي وهو غضبان، وغضب النبي عليه الصلاة والسلام ليس كغضبنا إذا غضبنا فمنا من يتمالك نفسه ومنا من يهرف ويسرف فيما لا يعلم، أما النبي عليه الصلاة والسلام فإنه لا ينطق إلا بالحق في حال غضبه وفي حال رضاه صلى الله عليه وسلم. ثم قال: [(معها حذاؤها وسقاؤها حتى يلقاها ربها)]. قال: [وحدثني أبو الطاهر أخبرنا عبد الله بن وهب أخبرني أبو سفيان الثوري، ومالك بن أنس، وعمرو بن الحارث وغيرهم أن ربيعة بن أبي عبد الرحمن حدثهم بهذا الإسناد مثل حديث مالك غير أنه زاد: (أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه فسأله عن اللقطة)]. كلمة (وأنا معه) قالها زيد بن خالد الجهني الذي هو راوي لهذا الحديث. [(قال: فسأله عن اللقطة. وقال عمرو - أي: عمرو بن الحارث - فإذا

شرح حديث: (ضالة الإبل)

شرح حديث: (ضالة الإبل) [وحدثني إسحاق بن منصور] وهو المعروف بـ الكوسج، والكوسج: لقب لمن كان شعره خفيفاً في ذقنه يعني: ليس له شعر في العارضين وإنما شعرات يسيرة شكلها مثل اللحية. [قال: أخبرنا حبان بن هلال حدثنا حماد بن سلمة حدثني يحيى بن سعيد، وربيعة الرأي بن أبي عبد الرحمن]، ومما يذكر في ترجمة ربيعة أن أبا عبد الرحمن والد ربيعة خرج في غزوة وترك لامرأته وهي حامل ثلاثين ألف دينار من الذهب، فغاب ثمانية عشر عاماً وقيل: إحدى وعشرين عاماً، فلما رجع أبو عبد الرحمن إلى المدينة طرق الباب فخرج إليه ربيعة، فلما فتح الباب دخل أبو عبد الرحمن، فدفعه ربيعة على اعتبار أنه رجل غريب قد اقتحم البيت بغير إذن أو غير ذلك، فتشاجر ربيعة مع أبي عبد الرحمن، وأصر أبو عبد الرحمن على أن هذا بيته وله أن يدخل فحينئذ تغلظ ربيعة على أبيه وأخرجه خارج البيت، وفي نفس الوقت سمع الأذان فانطلق إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي العصر، فوجد بعد الصلاة حلقة عظيمة وشاباً يحاضر فيها فاستمع إليه فأعجب جداً بكلامه، فلما فرغ المحاضر من محاضرته أسرع أبو عبد الرحمن إلى بيته فدخل على امرأته وقال: إني سمعت رجلاً شاباً يتكلم في العلم بكلام ما أجمله وما أحلاه عند العمود الفلاني أو عند السارية الفلانية، ولكني أسألك أين المال الذي تركته لك الثلاثين ألف دينار؟ قالت: لقد أنفقتها على ولدك ربيعة الذي سمعته يتكلم بأجمل الكلام. قال: أهذا ولدي؟ لقد قمت في ولدي من بعدي بأحسن قيام. هذه القصة في الحقيقة ليس لها أقدام تثبت عليها بل هي عرجاء أو أصابها الكساح، ولها في نقدها وجوه عديدة، لكن الذي أريد أن أبلغكم إياه أن هذه القصة لا تثبت وهي غير صحيحة. قال: [حدثني يحيى بن سعيد، وربيعة الرأي بن أبي عبد الرحمن، عن يزيد مولى المنبعث، عن زيد بن خالد الجهني: (أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ضالة الإبل؟ -زاد ربيعة - فغضب حتى احمرت وجنتاه واقتص الحديث بنحو حديثهم وزاد: فإن جاء صاحبها فعرف عفاصها وعددها ووكاءها فأعطها إياه وإلا فهي لك)] والنبي عليه الصلاة والسلام كان يخاطب بهذا الكلام الصحابة، فكل واحد منهم مطالب بهذا. وقوله عليه الصلاة والسلام: (اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة، فإن لم تعرف فخذها)، أنا عندي تعريفان: التعريف الأول: تعريف مجمل. والتعريف الثاني: تعريف مفصل. قال: [وحدثني إسحاق بن منصور أخبرنا أبو بكر الحنفي، حدثنا الضحاك بن عثمان بهذا الإسناد وقال في الحديث: (فإن اعترفت) يعني: فإن اعترف بها صاحبها. أي: أتى بالتعريف كاملاً على وجهه. [(فأدها)] والتقدير أدها إليه أي: ادفعها إليه؛ لأنها أمانة، (وإلا فاعرف عفاصها ووكاءها وعددها)، يقول: (فإن اعترفت فأتي بها) يعني: فإن تعرف عليها صاحبها فادفعها إليه. والتقدير: وإن لم تعترف ولم يظهر صاحبها ويتعرف عليها فاعرف أنت للمرة الثانية هذا التعريف الثاني: (فاعرف عفاصها ووكاءها وعددها) وهذا هو التعريف الدقيق المفصل الذي يلزمني أنا إذا أعطيتها، فتستقر في ذمتي الأوصاف الدقيقة المفصلة لهذه اللقطة.

شرح حديث في كيفية تعريف السوط لمن وجده

شرح حديث في كيفية تعريف السوط لمن وجده قال: [حدثنا محمد بن بشار -المعروف بـ بندر - حدثنا محمد بن جعفر] المعروف بـ غندر ربيب شعبة يعني: شعبة تزوج أمه بعد وفاة أبيه، [وحدثني أبو بكر بن نافع قال: حدثنا غندر حدثنا شعبة، عن سلمة بن كهيل قال: سمعت سويد بن غفلة قال: (خرجت أنا وزيد بن صوحان، وسلمان بن ربيعة غازين)] أي: خرجنا مجاهدين في غزوة. [(فوجدت سوطاً فأخذته فقالا لي: دعه)] أي: سويد بن غفلة، وزيد بن صوحان قالا لـ سويد بن غفلة اترك السوط لا تأخذه، [(فقلت: لا)] أي: سآخذه، [(ولكني أعرفه)] أي: أنا سآخذه وأقول: الذي ضايع له سوط، [(قالا: فإن جاء صاحبه وإلا استمتعت به. قال: فأبيت عليهما)] أي: قال سويد بن غفلة لـ زيد بن صوحان وسلمان أنا سآخذه وانتفع به، [(قال: فلما رجعنا من غداتنا قضي لي أني حججت)] يعني: يسر الله لي الحج، فأتيت المدينة فلقيت أبي بن كعب فأخبرته بشأن السوط وبقولهما لي: لا تأخذه ولا تلتقطه. وقولي لها: أنا سألتقطه وأعرفه سنة. فقال: أي: أبي: (إني وجدت صرة فيها مائة دينار على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) والدينار أربعة جرام وربع جرام ذهب صافي عيار أربعة وعشرين، وكلمة (الصافي) يعني الخالص النقي الذي هو أربعة وعشرين ليس فيه رصاص ولا نحاس ولا شيء من هذا. [قال: (إني وجدت صرة فيها مائة دينار على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: عرفها حولاً. قال: فعرفتها فلم أجد من يعرفها، ثم أتيته فقال: عرفها حولاً)] أي: حولاً ثانياً [(فعرفتها فلم أجد من يعرفها، ثم أتيته فقال: عرفها حولاً)] أي: حولاً ثالثاً. [(فعرفتها فلم أجد من يعرفها، فقال: احفظ عددها ووعاءها)] الذي هو العفاص، [(ووكاءها فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها)] ثم قال: [(فاستمتعت بها)]. وهذا يدل على أن صاحبها لم يظهر. قال: [(فلقيته بعد ذلك بمكة. فقال: لا أدري بثلاثة أحوال أو حول واحد)] والشك من الراوي، فالرواية التي تحدد التعريف بثلاثة أحوال فيها شك، وبقية الروايات مجمعة على أن التعريف حول واحد. وعلى فرض صحة الرواية يصير التعريف فوق السنة ليس واجباً وإنما هو مستحب، والأولى اعتبار الزيادة شاذة بسبب شك الراوي؛ لموافقة الراوي في السنة الأولى بقية الرواة الذين لم يزيدوا على سنة واحدة. قال: [وعن سلمة بن كهيل أو أخبر القوم وأنا فيهم قال: سمعت سويد بن غفلة قال: خرجت مع زيد بن صوخان وسلمان بن ربيعة فوجدت سوطاً واقتص الحديث بمثله إلى قوله: (فاستمتعت بها)] أي: بالسوط. قال شعبة: فسمعته بعد عشر سنين يقول: عرفها عاماً واحداً. وهذه الرواية أوثق من رواية بقية الرواة. وفي رواية حماد بن سلمة قال: (فإذا جاء أحد يخبرك بعددها ووعائها ووكائها فأعطها إياه). الذي يأتي ليتعرف على الشيء الذي ضاع منه المطلوب منه أن يأتي بالتعريف المفصل. وزاد سفيان في رواية وكيع: (وإلا فهي كسبيل مالك). يعني: كسائر مالك. يعني: لو لم يظهر صاحبها وعرفها تعريفاً دقيقاً مفصلاً ومر العام فهو حر ينفقها أو لا ينفقها فهي ماله. وفي رواية ابن نمير: وإلا فاستنفع بها.

باب في لقطة الحاج

باب في لقطة الحاج الباب الأول: في لقطة الحاج. قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثني أبو الطاهر، ويونس بن عبد الأعلى قالا: أخبرنا عبد الله بن وهب المصري، أخبرني عمرو بن الحارث المصري، أخبرنا بكير بن عبد الله بن الأشج المصري، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن عبد الرحمن بن عثمان التيمي: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لقطة الحاج) فمكة لا تلتقط لقطتها، وهذه من الأحكام الخاصة بمكة، فإذا رأيت لقطة في الأرض فأنت مخير بين أمرين: إما أن يغلب على ظنك أن الدنيا أمان وأن هذه اللقطة ستبقى في مكانها حتى يرجع إليها صاحبها فيأخذها فاتركها، وإما أن البلد ليست كذلك وأنه قد يأخذها رجل خائن ليس أميناً فيضمها إلى ماله ولا يعرفها، فحينئذ إذا أخذت هذه اللقطة وأشهدت أحد الثقات العدول على أنك التقطتها من المكان الفلاني وعرفتها أمامه ونظر إليها وشهد بذلك أو أنك أخبرته بها تفصيلاً ثم إنك ما أخذتها بعد ذلك إلا لتنشدها ولتعرفها؛ فإنه لا تحل لقطة مكة إلا لمنشد. أي: إلا بنية التعريف أما غير ذلك فلا. وقوله: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لقطة الحاج). الحج رمز وإنما المقصود مكة كلها، في موسم الحج وفي غير موسم الحج. قال: [وعن أبي سالم الجيشاني] وهو سفيان بن هانئ المصري وهو تابعي مخضرم، والتابعي هو الذي رأى أحد الصحابة أو لقيه. والتابعي المخضرم: هو الذي أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره، فهو لم يلق النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لو لقيه لكان من الصحابة. ولو قلنا أن الصحابي هو من رأى النبي عليه الصلاة والسلام سنخرج من الصحابة ابن أم مكتوم مثلاً وبعض الصحابة الذين أصيبوا بالعمى قبل رؤيتهم النبي عليه الصلاة والسلام، فالصحابي: هو من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على ذلك. فقولنا: (مؤمناً به هذا) احتراز وشرط، فلو كان رجلاً رآه مراراً ولم يسلم إلا بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام لا يكون صحابياً؛ لأنه لم تثبت له الرؤية حال الإيمان. أما الرجل الذي لقي النبي عليه الصلاة والسلام ولو لحظة واحدة ثم مات النبي عليه الصلاة والسلام أو مات هذا الرجل فتجوز له الصحبة بشرف النبي عليه الصلاة والسلام، ولفظ (صاحب) في اللغة لا يثبت للرجل إلا مع طول المدة وطول الصحبة وغير ذلك، لكنه في اللغة شيء وفي الاصطلاح شيء آخر في حق النبي عليه الصلاة والسلام. قال: [عن أبي سالم الجيشاني، عن زيد بن خالد الجهني، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من آوى ضالة فهو ضال ما لم يعرفها)] الضالة هي الحيوان الذي يقدر على أن يحمي نفسه كالجاموس والبقر والحصان والحمار بحيث لا يستطيع السبع الصغير أن ينهشه حتى يقتله، فهناك فارق بين السباع الصغيرة التي لا تؤثر في الضوال الكبيرة وبين السباع الكبيرة التي تؤثر في الضوال الكبيرة والصغيرة على السواء. فقوله هنا: (من أوى ضالة فهو ضال ما لم يعرفها)، فالضوال لا تلتقط إلا إذا غلب على الظن هلاكها، فالإبل لا تلتقط؛ لأن حذاءها ووكاءها وسقاءها وطعامها وشرابها معها وتستطيع أن تحمي نفسها، والأصل فيها الانطلاق والانبعاث حتى يجدها ربها أو هي ترجع إلى أرضها، لكن إذا غلب على الظن أن هذا البعير الذي يمشي في الصحراء قادم على بيت للأسود أو السباع، وأنه إذا قدم عليها هلك ولابد ففي هذه الحالة يجب التقاطها وإيواؤها وذلك للضرورة رغم أنها لا تلتقط، فلا تؤخذ إلا بنية تعريفها، فلو أخذتها وقصدت التعريف فحينئذ لا حرج علي، وهذا معنى قوله: (من آوى ضالة فهو ضال ما لم يعرفها) ولو رأيت بعيراً يتوجه إلى ناحية فيها لصوص فبلا شك أن أخذي لهذا البعير بغرض تعريفه حتى يظهر صاحبه خير من أن يذهب إلى هؤلاء اللصوص فيأخذونه ويذبحونه ويأكلونه.

باب تحريم حلب الماشية بغير إذن مالكها

باب تحريم حلب الماشية بغير إذن مالكها قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: تحريم حلب الماشية بغير إذن مالكها]، أي: لابد أن يأذن مالكها أو يغلب على الظن أنه يفرح بذلك لما بيني وبينه من ود. وهذه المسألة مسألة عرفية، وهي في الوقت نفسه نسبية، بشرط عدم اختراق الحواجز والحرمات، فالناس يختلفون، فإنسان له أناس مقربين يحب أن يعطيهم إبله، وهناك أناس لا يحب أن يعطيهم أي شيء، فلو أني غلب على ظني أنك تحب أن تراني أحلب شاتك فأنا أفعل ذلك لأجل إدخال السرور عليك وإلا فالأصل المنع؛ لأن هذا مال الغير ولا يحل أخذه إلا بإذن صاحبه، قال النبي عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عمر: (لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه، أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته فينتفل طعامه؟!). والنبي عليه الصلاة والسلام يضرب مثلاً، وفي هذا جواز ضرب الأمثال. والمشربة: غرفة المتاع وتسمى غرفة الخزين أو المعاش، وضرع الماشية عبارة عن المشربة التي يخزن فيها ويعبأ فيها الطعام، فكما أنك لا تحب أن تكسر هذه المشربة ويؤخذ منها الطعام، فكذلك لا يحل لأحد أن يهجم على ضرع ما شيتك فيأخذ منها اللبن ويشربه. وفي هذا فائدة أخرى: أن اللبن يطلق عليه طعام وإن كان الأصل فيه أنه شراب، فلو حلف إنسان ألا يطعم هذا اليوم فلا يحل له أن يشرب اللبن، فلو شربه لزمته الكفارة، ويقع منه الطلاق إن علق طلاقه على الطعام وشرب اللبن. قال صلى الله عليه وسلم: (إنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم) ولم يقل: أشربتهم عليه الصلاة والسلام، (فلا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه)، والإمام مسلم عليه رحمة الله أورد عدة أبواب في كتاب اللقطة لم يتبين لي أو ما وجدت كلاماً لأهل العلم من الشراح في ذكر مناسبة هذه الأبواب في باب اللقطة؛ ولا أدري ما العلاقة بين هذه الأبواب وبين كتاب اللقطة.

باب الضيافة ونحوها

باب الضيافة ونحوها قال المصنف رحمه الله تعالى: [الباب الثالث: باب الضيافة ونحوها: قال أبو شريح العدوي: (سمعت أذناي وأبصرت عيناي حين تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم)] يريد يقول: أنه متأكد، [(فقال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته. قالوا: وما جائزته يا رسول الله؟ قال: يومه وليلته)] يعني: الضيف له إكرام مدته ثلاثة أيام بلياليها، لكن يوم الجائزة هو يوم النزول. وكان العلماء يفرقون بين البادية والمدينة، فالمدينة فيها الفنادق والمطاعم، أما البادية فليس فيها مثلما في المدينة. واليوم الأول يسمى يوم الجائزة -أي: يوم التحفة- يعني: يكرمك فيه المضيف أكثر من إكرامه لك في بقية الأيام، ففي أول يوم يذبح لك ويحمر ويشمر لك، وبعد ذلك يعطيك مما هو موجود، لا بأس بذلك، ولو تكلف لك في كل يوم فلابد أن يقع هو في الإثم وتقع أنت في الحرج؛ لأنه ربما لا يكون قادراً على ذلك في كل يوم. وأذكر في ترجمة الإمام أحمد بن حنبل أنه نزل هو ومن معه على أحد تلاميذه فقدم لهم مائدة يتكلم عنها العرب. يعني: تكلف لهم جداً، فقال بعض أصحاب أحمد وأظن أنه إسحاق بن منصور الكوسج قال: يا فلان لقد تكلفت. فقال الإمام أحمد بن حنبل: دعه يفعل ما يشاء فلو جاء بالدنيا بحذافيرها بين يدي إخوانه ما وفاهم حق الأخوة. وهذا في يوم الجائزة. لكن لا يتصور أن تكون هذه الجائزة وهذه التحفة في كل يوم، بل هذا أمر يؤدي إلى الحرج والضيق في نفس المضيف. والضيافة ثلاثة أيام فما كان وراء ذلك فهو صدقة من المضيف على الضيف، ولذلك عبد الله بن عمر كان إذا سافر أخذ معه مولاه نافعاً، وكان إذا فرغ من الثلاثة الأيام قال: يا نافع ائتنا بطعامنا وشرابنا فنحن لا نقبل الصدقة من أحد. يعني: الحد الفاصل ثلاثة أيام ثم بعد ذلك ينفق من كيسه وطعامه على نفسه وعلى مولاه نافع الفقيه. وقال: [(من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)]. وقال أبو شريح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الضيافة ثلاثة أيام وجائزته يوم وليلة، ولا يحل لرجل مسلم أن يقيم عند أخيه حتى يؤَثمه أو يؤُثمه) يعني: لا يحل لك أن تبقى عندي وتمكث أكثر من ثلاثة أيام حتى لا توقعني في الإثم، فلا يحل لك أن تحملني على الوقوع في الإثم فأقوم بطردك مثلاً. قال: [(قالوا: يا رسول الله وكيف يؤثمه؟ قال: يقيم عنده ولا شيء له يقريه به)] يعني: ما عندي شيء أضيفك به، والغرض الشرعي هو عدم إيقاع المضيف في الإثم والحرج، ونعمة الإحساس نعمة عظيمة جداً، أن الإنسان يشعر بأخيه من غير أن يشكو له. مثلاً: أنت ذهبت ضيفاً فإذا بهذا المضيف شديد الفقر وليس عنده شيء ينفقه على أولاده وعلى من تجب عليه العناية بهم، ثم أنت تذهب تكلفه فوق ذلك إثماً، وتريد أن تأخذ حقك الثلاثة الأيام فليس من حقك ذلك، فشرط الضيافة أن يقريك بما عنده، أما إذا كان عنده حاجة فإنه لا يأثم، فمن حقوق الأخوة الإيمانية: أن تنخلع من جلدك لا من ثيابك، وهذا هو الإحساس، أما الإنسان الذي لا يشعر بإخوانه فهذا إنسان فقد شيئاً كثيراً من دينه. قال صلى الله عليه وسلم: (ولا يحل لرجل مسلم أن يقيم عند أخيه حتى يؤثمه. قالوا: يا رسول الله: وكيف يؤثمه؟ قال: يقيم عنده ولا شيء له يقريه به) أي: لا يستطيع أن يقوم بحق الضيافة. قال: [وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: (قلنا: يا رسول الله إنك تبعثنا فننزل بقوم فلا يقروننا)] أي: لا يضيفونا، [(فما ترى؟ فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا)] أي: يؤدون الذي عليهم وأنتم تأخذون ما لكم، [(فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم)] ولم يقل: الذي ينبغي لكم، وإنما قال: (الذي ينبغي لهم) أي: بما يتناسب مع حالهم، إنسان لا يستطيع إلا أن يقدم كسر الخبز، والثاني يستطيع أن يقدم بقرة أو شاة أو بعير، فإذا كان هذا الحق لكم أن تأخذوا بعيراً فخذوه منه ولو كان ذلك على سبيل العنوة؛ لأن هذا حق لابد أن يذهب إلى أصحابه.

باب استحباب المواساة بفضول المال

باب استحباب المواساة بفضول المال قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب استحباب المؤاساة بفضول المال] يعني: ما فضل عن حاجتك وحاجة من تعول؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول). يعني: إذا كان معي ما يزيد عن حاجتي وحاجة امرأتي ووالدي وأبنائي ومن أعولهم -وعيالتهم تلزمني- فما زاد عن هذا فلا بأس أن يتصدق به المرء. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من كان عنده فضل زاد). ولم يقل: من كان عنده زاد، وإنما قال: (من كان عنده فضل زاد فليعد به على من لا زاد له، ومن كان عنده فضل ظهر) يعني: مكان على الدابة واسع، (فليعد به على من لا ظهر له). فإذا كان الظهر الذي عندي يكفيني، والطعام الذي عندي في الطعام يكفيني، أو المال الذي عندي يكفيني على قدر ما أريد فلست مطالباً بالصدقة حينئذ، قال عليه الصلاة والسلام كما في حديث أبي سعيد الخدري: (بينما نحن في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على راحلة له، قال: فجعل يصرف بصره يميناً وشمالاً) الرجل نفسه يلمح ما يصرح، (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له). وذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل. يعني: حتى ظن الصحابة أن فضول الأموال وفضول الظهور التي معهم ليست حقهم، وكأنها حقوق عامة مشاعة لجميع المسلمين.

باب استحباب خلط الأزواد إذا قلت والمواساة فيها

باب استحباب خلط الأزواد إذا قلت والمواساة فيها قال المصنف رحمه الله تعالى: (باب: استحباب خلط الأزواد) أي: القوت والطعام والمتاع (والمؤاساة فيها)، وهذا ليس من باب الربا، بعض الناس يتصور أننا لما نكون مضطرين لجمع ما معنا أن هذا من باب الربا، والإمام النووي ينفي هذا ويقول: لا علاقة لهذا بالربا قطعاً. وكلمة الاستحباب تنفي الوجوب، أما نفي الوجوب فلا ينفي الاستحباب، فيستحب خلط الأزواد، والنبي عليه الصلاة والسلام كان إذا اضطر إلى ذلك فرش النطع من الجلد ودعا الناس أن يأتوا بما عندهم، فمنهم من يأتي بكسر الخبز، ومنهم من يأتي بشراب ومتاع ولبن وغير ذلك حتى تجتمع الأزواد فيدعو على هذا الطعام فيزداد نماء وبركة، وهذا من معجزاته عليه الصلاة والسلام وخرقه للعادات؛ حتى يأكل الجميع ويحملوا منه في مزاداتهم. قال: [حدثني أحمد بن يوسف الأزدي حدثنا النضر -يعني ابن محمد اليمامي - حدثنا عكرمة -وهو ابن عمار - حدثنا إياس بن سلمة عن أبيه - سلمة بن الأكوع - قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فأصابنا جهد)] أي: مشقة، [(حتى هممنا أن ننحر بعض ظهرنا)] يعني: حتى هممنا أن ننحر بعض الإبل، وأنتم تعلمون أن نحر الإبل في الغزو خسارة، قال: [(فأمر نبي الله صلى الله عليه وسلم فجمعنا مزاودنا فبسطنا له نطعاً فاجتمع زاد القوم على النطع، قال: فتطاولت لأحرزه كم هو؟)] يعني: أقدر هذا الزاد. قال: [(قال: فحزرته كربضة العنز)]، يعني: كمبرك الشاة. قال: [(ونحن أربعة عشرة مائة، قال: فأكلنا حتى شبعنا جميعاً ثم حشونا جربنا)] جمع جراب بكسر الجيم، وكلمة حشونا تدل على أن كل واحد كان يحشو فزاده بعد أن شبع، [فقال صلى الله عليه وسلم: (فهل من وضوء؟)] أي: هل أحد عنده ماء لكي نتوضأ؟ قال: [(فجاء رجل بإداوة له فيها نطفة)] أي: قليل من الماء (فأفرغها في قدح)] أي: في قدح واسع، [(فتوضأنا كلنا ندغفقه دغفقة)] يعني: نصبه صباً شديداً مع أن الأصل فيه أنه شيء قليل جداً؛ لكن النبي صلى الله عليه وسلم دعا فيه بالبركة فنما وكان يخرج من بين أصابعه عليه الصلاة والسلام. قال: [(ثم جاء بعد ذلك ثمانية فقالوا: هل من طهور؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فرغ الوضوء)] يعني: انتهى الماء، وهذا فيه إعجاز للنبي عليه الصلاة والسلام. وهذه الأبواب لا علاقة لها بباب اللقطة وأحكامها، لكن يبقى أن نتعرف على اللقطة من جهة الأحكام الفقهية، والكتاب الذي يأتينا بعد ذلك هو كتاب الجهاد والسير، فأنا رأيي أن نتكلم على اللقطة من جهة الأحكام؛ ونؤجل درس العقيدة إلى الأسبوع القادم حتى نفرغ من أحكام اللقطة بإذن الله غداً بعد صلاة المغرب. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد.

كتاب اللقطة - مسائل وأحكام اللقطة

شرح صحيح مسلم - كتاب اللقطة - مسائل وأحكام اللقطة اللقطة مال محترم غير محرز لا يعرف صاحبه، وقد فصل الشارع في أحكامها، وبين ما يلزم ملتقطها من حفظ لها ولأوصافها، ومدة تعريفها، وحكم ما يترتب على ذلك من مؤنة ونماء وضمان، وغير ذلك من الأحكام.

تعريف اللقطة لغة واصطلاحا

تعريف اللقطة لغة واصطلاحاً إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أما بعد: فمع بعض الأحكام الفقهية المتعلقة باللقطة: أولاً: تعريف اللقطة: هو من اللقط الذي هو الأخذ، كما قال الله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ} [القصص:8]؛ أي: فأخذوه. فاللقط بمعنى: الأخذ والتناول. وهذا في اللغة. وقلنا من قبل: إذا أردنا أن نعرف شيئاً أو مصطلحاً فله تعريف في اللغة وتعريف في الاصطلاح. أي: اصطلاح أهل التخصص. فاللقطة عند اللغويين بمعنى: الالتقاط والأخذ. أما شرعاً: فهي مال محترم غير محرز لا يعرف الواجد مستحقه. فقولهم: (مال محترم): احتراز من المال الغير محترم. والمال المحترم هو مال معصوم، والأصل في المال أنه معصوم، ولا يخرج عن هذه العصمة إلا بسبب شرعي، حتى وإن كان مال كافر فإنه معصوم، والأموال كالفروج، وما دام فرج الكافر معصوماً فينبغي أن يكون ماله كذلك معصوماً، ومن استحل المال لزمه أن يستحل الفرج؛ لأنه لا فارق في الشرع بين الأموال والأعراض. وقولهم: (غير محرز): أي: ملقى على الأرض. ولو أني أخذت مالاً محرزاً فالتكييف أو الوصف الشرعي أن فعلي هذا يصير سرقة، لأنه يشترط في السرقة: أن يكون مالاً محرزاً، أما في اللقطة فيشترط ألا يكون محرزاً. وقولهم: (لا يعرف الواجد مستحقه). يعني: لا يعرف من التقطه، وإلا لو كان الواجد والملتقط يعرف صاحبه فيجب عليه أن يدفعه إليه، لكنه وجد المال ولا يعرف مستحقه. وهذا قيد يخرج به أحد أمرين: الأول: إما أنه يعرف صاحبه فيجب عليه الدفع إليه. الثاني: أو أنه مال عام. أي: من الأموال المباحة لكل أحد، كما قال عليه الصلاة والسلام: (من أحيا أرضاً ميتاً فهي له)، فلو أن رجلاً أحيا قطعة أرض فوجد في باطن الأرض معادن من الذهب والحديد والورق وغير ذلك من كنوز الأرض، فهذا مال مباح لمن وجده بشرط أن يؤدي زكاته، وهي زكاة الركاز، وهو حر في بقية المال، لا يحل لأحد قط لا حكومة ولا غير حكومة أن يأخذوا هذا المال منه؛ لأنه مال مملوك له على سبيل أنه مال عام في أرض عامة، فليس في الإسلام شيء اسمه الأرض هذه ملك الحكومة إلا أن تكون أرضاً عامة لمنافع الناس مثل الطريق فلا يملكه أحد ولا حتى الحكومة تملكه، فهو ملك عام لكل من مر فيه كل إنسان مسلم وكافر، فالشارع ملك للجميع؛ لأنه جعل في انتفاع الناس عامة، فلا يجوز السطو على الشارع والبناء فيه أو غير ذلك من باب أنه غير مملوك، فهذا مال عام له ملاك وهم جنس المنتفعين به أينما كانوا، أما المال العام فينتفع به من أصلحه ومن أخذه ومن التقطه. الأمر الثاني: ألا يعرف الواجد مستحقه. يعني: لا يعرف لمن هذا المال، أما إذا كان مالاً لا يملكه أحد كهذه الأموال العامة أو الصحراء المترامية الأطراف فالشرع يجيزها لمن أصلح جزءاً منها أو أحاط على جزء منها وبدأ العمل فيها، ولا يحل لأحد من الأشخاص العامة أو الخاصة أو الشخص المعنوي الذي هو الحكومة أو جهة إدارية، أو غير إدارية، لا يحل لها أبداً أن تعطل هذه المسيرة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قد أجاز وشرع له: أنه إذا استصلح شيئاً من هذه الأرض أن يتملكها.

أركان اللقطة

أركان اللقطة من التعريف دائماً نأخذ الأركان، إذا اتفقنا على تعريف معين -تعريفاً اصطلاحياً- فلابد أن يشتمل هذا التعريف على أركان المعرف، فبعد أن عرفنا اللقطة في الاصطلاح: (وأنها مال محترمة غير محرز لا يعرف الواجد مستحقه) لابد أن أقول: إن أركان اللقطة ثلاثة: الركن الأول: اللقط. وهو الفعل. الركن الثاني: الملتقط. وهو الواجد. الركن الثالث: الملقوط أو الملتقط -اسم فاعل- أي: الذي تناوله الملتقط أو الواجد. وهناك فرق بين الركن والشرط، فالركن: ما كان داخلاً في ماهية الشيء وأساسه، ويتكون الشيء منه ومن غيره، أما الشرط فهو الخارج عن ماهية الشيء، ويلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده الوجود. إذاً: اللقط. معناه: وضع يد الواجد على الملتقط أو الملقوط. وفيه معنى الأمانة والولاية، والملتقط أمين على ما التقط، ومطالب تجاه هذا الملقوط بأحكام وآداب، كما أن الملتقط فيه معنى الاكتساب والملك بشروطه.

حكم اللقطة

حكم اللقطة حكم اللقط: فيه خلاف بين العلماء، فمذهب الحنفية والشافعية: استحباب اللقط وليس الوجوب. والمالكية والحنابلة على كراهة اللقط. وقد تجري على اللقط الأحكام الشرعية الخمسة، كما أن النكاح تجري عليه الأحكام الشرعية الخمسة، فقد يكون واجباً في حق فلان، وقد يكون محرماً في حق فلان، إذا كان الرجل يملك الباءة وتتوق نفسه إلى نكاح النساء ويخشى على نفسه العنت أو الوقوع في المعصية فحينئذ يجب عليه النكاح، ولو كان الرجل مجبوباً أو عنيناً أو لا ذكر له وإن كان يملك المال فيحرم عليه النكاح؛ لأنه يضر بالمرأة في أعز حق لها عند الرجل، يضر بها وهو غاش ومدلس في هذا النكاح فيحرم عليه ذلك. إذاً: قد يكون النكاح مكروهاً أو مستحباً أو مباحاً. وكذلك اللقطة قد تكون واجبة إذا خفت على المال الضائع التلف، فيتعين اللقط لحفظها. مثلاً: رجل يمشي في صحراء بسيارة، وأنت تسير خلفه بسيارة وهذا الطريق في الغالب لا يمشي فيه أحد، ونادراً ما يمشي فيها كل عدة أيام فوج أو قافلة أو سيارة أو غير ذلك، فإذا وجدت في هذا الطريق طعاماً قابلاً للعطب بعد عدة أيام وغلب على ظنك عطبه -وأنتم تعلمون أن معظم الأحكام الشرعية إنما تجري على غلبة الظن، الأحكام الشرعية معظمها مبني على غلبة الظن- وأنه لا يمكن حفظه، وإذا تركته فسد؛ فحينئذ يتعين عليك أخذه، وتأثم بتركه، وإذا كنت آثماً في تركه وجب عليك الالتقاط، فحينئذ إذا تعين اللقط طريقاً لحفظ المال كان الالتقاط واجباً. وأحياناً يكون مندوباً وهو عند عدم خوف التلف عليها، أو يغلب على ظني أن الدار والبلد أمان وربما يُهيأ لهذا الطعام من هو آمن عليه مني. ويكون اللقط محرماً وهو عندما يأخذ الملتقط المال الضائع لا لحفظه ورده إلى صاحبه بل لتملكه، حينما وقعت عيني على المال المرمي على الأرض ورد في ذهني فوراً أن آخذ هذا المال لا لأعرفه ولكن لأتملكه ولو سألني أحد عنه سأنكر وأقول: أنا ما رأيت شيئاً ولا التقطت شيئاً. فهذا سطو على أموال الناس بغير حق، وأخذ ونهب لأموال الناس بالباطل. وهذه المسائل يستطيع كل إنسان أن يضبطها بنفسه، فكل إنسان يعلم من نفسه ذلك، فإذا رأيت مالاً فهذا الشيء بيني وبين الله عز وجل، أنا آخذ المال لكي أعرفه، وأيضاً لو أن المال هذا لم يعرف على مدار سنة أو سنتين ولم يظهر صاحبه أضعه في مكان عام آمن للتعريف! فإذا أخذ هذه اللقطة وهو ينوي تملكها ففي هذه الحالة يحرم عليه التقاطها؛ لأنه يعلم من نفسه ضعفاً وأحياناً يكون اللقط مكروهاً وذلك في حق من يشك في أمانة نفسه، كأن تكون نفسه ضعيفة تتنازعه قوى الخير والشر، هو رجل صالح وتقي لكن نفسه تغلبه، وكل ما أمره قرين الخير من الملائكة بالمعروف غلبه قرين السوء من الأبالسة والشياطين بأن يحول هذا المال إلى نفسه، فهو متحير متردد بين الأمرين يأخذه أم يعرفه؟ كلما استقر على أمر غلبه الآخر، فهذا إنسان عنده شك في نفسه وفي قدرته وأمانته؛ فيكره له الالتقاط، فالمال الملتقط يكره أخذه إذا كنت على يقين أنك ستأخذه ولا تعرفه أو أنك تشك في أمانتك. فكل إنسان يعلم من نفسه ومن حاله حكم اللقطة في حقه هو: هل هي واجبة أم محرمة أم مندوبة أم مكروهة أم مباحة؟! والمباح إذا استوى الفعل والترك، قال الحافظ ابن حجر: ومن ثم كان الأرجح في مذاهب العلماء أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، فمتى رجح أخذها وجب أو استحب، ومتى رجح تركها حرم أو كره، وإلا فهو جائز. يعني: مباح.

حكم الإشهاد على اللقطة

حكم الإشهاد على اللقطة يجب الإشهاد على الالتقاط، بأن يُشهد الملتقط عليه رجلاً عدلاً واحداً فأكثر، وأقل الشهود في اللقطة واحد يشترط أن يكون عدلاً؛ لحديث عياض بن حمار رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من وجد لقطة فليشهد ذا عدل)، وفي رواية: (فليشهد ذوي عدل). يعني: لا يكتم ولا يغيب، فإن وجد صاحبها فليردها عليه وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء. والوجوب هو مذهب الظاهرية، وقول عند الشافعي، وإليه ذهب الشوكاني، والصنعاني، والحنابلة والمالكية، وقال الشافعي في أحد القولين باستحباب الإشهاد احتياطاً. وسبب وجوب الإشهاد -وهو مذهب جماهير العلماء- أو استحبابه -وهو مذهب بعض أهل العلم- أنه يُمتنع به من الخيانة، فالشرع لما اشترط الشاهد اشترطه لمصلحة الملتقط، ليمتنع به من الخيانة، وأن الملتقط قد يموت فجأة فتصير اللقطة من تركته وليست كذلك، إذ قد يموت في مدة وجوب التعريف، فلا تدخل في مال الميراث، يأتي الشاهد حينئذ ويقول: هذا الميت قد التقط لقطة وهي كذا وعددها كذا في المكان الفلاني! وأنا الشاهد على ذلك فانتبهوا أن تُدخلوا هذه اللقطة في الميراث؛ لأنها ليست مال المورث ولا مال الورثة. أما كيفية الإشهاد، فله طريقتان: الأولى: أن يشهد أنه وجد لقطة ولا يُعلِّم عفاصها ولا غيره؛ لئلا يتطرق الكذب إليها. كأن أقول: يا فلان! أنا وجدت مالاً لا أعرف عدده ولا وصفه ولا نوعه ولا شيء من هذا أبداً، وأنا أعرفه في أماكن متعددة يسهل التعرف عليه من خلالها فحينئذ إذا ظهر صاحبه فهو له. الثانية: أن يشهد على صفاتها كلها حتى إذا مات لم يتصرف فيها الوالي، لكن هذه تحتاج إلى أمانة الشاهد؛ ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام اشترط أن يكون الشاهد عدلاً؛ لأنه لو كذب أو خان يصير فاسقاً، فاشترط النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون الشاهد عدلاً؛ لأن الشاهد ممكن أن يتواطأ مع أحد الخونة الذين يأكلون أموال الناس بالباطل فيقول مثلاً: لقد ضاع مني (1000) جنيه وبلغني أنها عندك وأوصافها كذا وعددها كذا وأوراقها كذا وضاعت مني في المكان الفلاني؛ لأن الملتقط قد أخبر الشاهد بهذه الأوصاف تفصيلاً. فإذا لم يكن الشاهد عدلاً ضاعت الأمانة، واستطاع الكاذب أن يتوصل بكذبه وتدليسه وغشه إلى أخذ ما ليس له. وقد أشار بعض الشافعية إلى التوسط بين التعريفين -أي: التعريف المفصل والتعريف المجمل- فقالوا: لا يذكر الصفات كلها، وإنما يعرف اللقطة ببعض الألفاظ دون البعض. فمثلاً: يقول: وجدت من المال (1000) في المكان الفلاني، فلو أن الشاهد الفاسق ذهب إلى أحد الكذبة قال له: اذهب إلى فلان وقل له: قد ضاع مني (1000) جنيه فإنه لما يأتي الكاذب هذا للملتقط ويقول له: ضاع مني (1000) جنيه في المكان الفلاني. يقول له الملتقط: كيف شكل عفاصها؟ بماذا كانت ملفوفة؟ فيقول له: في ورق سلفان. فيقول: لا. فيقول له: أنا تذكرت والله فقد كانت في خرقة فعلاً. فيقول له: كم الذي ضاع منك؟ يقول له: (1000) جنيه، فيقول له: آسف الذي وجدته (1000) دولار وليس (1000) جنيه.

حكم لقطة الحيوان

حكم لقطة الحيوان لقطة الحيوان لها أحكام: فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة يذهبون إلى القول بعدم التقاط الحيوان؛ للنهي الوارد عن ذلك، ولكن النهي ليس على إطلاقه بدليل أن النبي عليه الصلاة والسلام في حديث زيد بن خالد الجهني في الصحيحين: (لما سئل عن ضالة الغنم قال: هي لك أو لصاحبك أو للشيطان). وفي رواية: (أو للذئب). وسئل عليه الصلاة والسلام عن ضالة الإبل فقال: (مالك ولها معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر). فالأصل أن النهي الوارد عن التقاط الحيوان إما أن يكون متعلقاً بالإبل وفي هذه الحالة لا يكون متعلقاً بما دون الإبل. والسؤال هنا: هل يقاس على الإبل غيرها، وهل يقاس على الشاة غيرها؟ إذا قلنا: إن الإبل ليست محل التقاط إلا إذا خيف عليها الهلاك من كبار السباع وغيرها، أو هلاك عام بالحرق أو الغرق أو شيء من ذلك في حال الهلاك العام والدمار العام فإنما ذلك يكون بإذن الإمام كما هو مذهب جماهير العلماء. أما الشاة فإنها تلتقط وكذا من كان في مثل حكمها، فالشاة ضعيفة، وكذا المعز، لا تستطيع أن تدفع عن نفسها حتى من صغار السباع، فالكلب قد يتسلط على شاة ويأكلها، أو ذئب أو سبع أو أسد. أما صغار السباع لو تسلط على حمار كبير أو تسلط على بقرة أو جاموسة كبيرة أو بعير فإن هؤلاء جميعاً يستطيعون الدفاع عن أنفسهم، ولذلك البعير يقاس عليه من الحيوانات من كان في مثل قوته ويستطيع الدفع، فهذا لا يلتقط، والشاة يقاس عليها من كان في مثل ضعفها ممن لا يستطيع أن يدفع عن نفسه أذى صغار السباع. إذاً: الصحيح أنه لا يجوز لقط الإبل، لما ورد مرفوعاً من حديث زيد بن خالد الجهني: (مالك ولها معها حذاؤها وسقاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها). أما ضالة الغنم فيجوز التقاطها؛ لما ورد في حديث زيد: (خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب). وقاس عليها الجمهور ما يشبهها في الضعف واحتمال الضياع.

حكم لقطة الحاج

حكم لقطة الحاج ورد في الحديث: (نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن لقطة الحاج)، وهذا الحديث الذي جاء في الصحيحين يقيده قوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة رضي الله عنها مرفوعاً في لقطة مكة قال: (ولا تلتقط ساقطتها إلا لمنشد) يعني: لا يحل لأحد أن يلقط لقطة مكة إلا إذا كان بنية الإنشاد والتعريف. والحمد لله تعالى. إذاً: لا يحل التقاط لقطة مكة على سبيل التملك إنما على سبيل الإنشاد. والحكومة السعودية الآن سهلت عليك أمر هذه اللقطة بتخصيص أماكن في الحرم لوضعها فيها، فمن وجد شيئاً يلتقطه ولا حرج، وعليه أن يذهب به إلى هذه الأماكن، وبذلك تبرأ عهدته من هذه اللقطة. وقد ذكرنا أن من أركان اللقطة: الركن الأول: هو اللقط. والركن الثاني: الملتقط. والثالث: هو الملقوط أو الملقط. فالملتقط: وهو من له أهلية الاكتساب أو الاحتفاظ والتملك، ويشترط فيه أن يكون حراً مسلماً مكلفاً أميناً. ومن أهل العلم من أجاز التقاط الذمي إذا كان أميناً؛ لأنه من أهل الاكتساب والتملك تماماً كالمسلم، وكذلك الصغير والمجنون والسفيه إذا التقط واحد منهم مالاً ضائعاً ثبتت يده عليه لكن يتصرف فيه الوصي أو الولي بلا شك. فإذا كان الملتقط ليس واحداً وإنما هو اثنين أو ثلاثة أو جماعة من الناس، فلها حكم آخر، فلو التقط اثنان مالاً ضائعاً ثم ترك أحدهما حقه منه للآخر لم يسقط حقه، ولو أقام كلاهما البينة على أنه هو الملتقط وحده ولا تاريخ في البينتين تبقى اللقطة لمن هي بيده؛ لأنه صاحب اليد عليها. ولو أمر إنساناً آخر بالتقاط شيء رآه فالتقطه فاللقطة إن قصد أنها له فإن الملتقط يناوله إياها، وإن قصد أن يلتقطها وتكون في حوزته فهي للذي التقط، وإن رأياها جميعاً فبادر أحدهما فأخذها، أو رآها أحدهما فأعلم بها صاحبه فأخذها فهي للآخذ وليس للرائي؛ لأن استحقاق اللقطة بالالتقاط لا بالرؤية. وهذا الحكم الشرعي وهو أن اللقطة لمن التقط وليس لمن رأى. وإذا رأيت اللقطة وسبقتك يد إليها، تكون لصاحب اليد ولا تكون لصاحب العين. الركن الثالث من أركان اللقطة: الملقوط الذي هو المال المحترم غير المحرز، الذي لا يعلم الواجد مستحقه، وهو إما حيوان ويسمى ضالة، أو غير حيوان ويسمى لقطة. أما المال المباح فلا يكون لقطة؛ لأنه ليس له مالك. فإذا تحققت الأركان الثلاثة السابقة نكون قد حققنا معنى اللقطة اصطلاحاً. وإليك بعض الأمثلة: إذا أخذ ثياب غيره أو متاعه أو حذاءه قصداً أو سهواً، وترك متاعه، ولم يتعمد الآخذ الأخذ فالمتروك لقطة إن كان على سبيل الخطأ، وإن تعمد الأخذ جاز للمأخوذ حذاءه بيع المتروك واستحقاق الثمن، لكن في الغالب أن هذا المأخوذ لا يساوي شيئاً، ولكن هذا حكم شرعي على أية حال، وهو أنه يجوز لك بيع المتروك والملتقط مكان ما ضاع منك عمداً، وإن كان لا يساوي شيئاً، ويجوز بيعه والتصرف فيه. ومن ترك مختاراً دابة بمهلكة ويغلب على الظن بل تُيقن أنها ستهلك يكون قد حققنا شرط خوف الضياع أو الهلكة فيكون الالتقاط واجباً بعدما ترك صاحب الدابة دابته في مكان الهلكة وقد رأيتها وغلب على ظني هلاكها وخفت عليها الضياع. قال: ومن ترك مختاراً -أي: غير مكره ولا مجبر- دابة في مهلكة فأخذها إنسان فأطعمها وسقاها وخلصها من الهلاك فهي له؛ لأن صاحبها تركها مختاراً؛ لأنها في حكم المباح؛ لما أخرجه أبو داود بسند حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من وجد دابة قد عجز عنها أهلها أن يعرفوها فتركوها فأخذها فأحياها فهي له) والحديث صحيح، وهذا مذهب الحنابلة. ومعرفة اللقطة يكون كما قال عليه الصلاة والسلام: (اعرف عفاصها ووكاءها). والوكاء: هو الخيط الذي يربط به العفاص. والعفاص: الوعاء الذي تكون فيه اللقطة. ويلحق بذلك كل ما يلزم لمعرفة اللقطة ويبين أوصافها مثل جنسها ونوعها وقدرها وما تتميز به عن غيرها، وكل هذا لمعرفة صدق أوصافها إذا ادعي ملكيتها. قال الحافظ: اختلف في هذه المعرفة على قولين للعلماء أظهرهما الوجوب. والتعريف مرتين تعريف خاص بالناس عموماً، ويتوسط فيه المعرفة ببعض الأوصاف دون البعض، أما التعريف الذي يلزمني أنا كملتقط أن أعرفك تعريفاً دقيقاً مفصلاً مخافة أن أموت أو مخافة أن أنسى أوصافها. وعند التعريف باللقطة استحب بعض أهل العلم كتابة أوصافها خوف النسيان، وهذا قول أحمد، والنووي أما كيفية التعريف فهي أن يذكر الملتقط للناس عينها ولا يبين أوصافها بل يذكرها بوصف عام، وأجاز الحنابلة ذكر جنسها من ذهب أو فضة، وقالت الشافعية: تفصل ذكراً أو أنثى، أو يذكر بعض الأوصاف ولا يفصل بالاستيعاب، ويستثنى من هذا الوجوب ما يلي: ما يعلم أن مالكه لا يطلبه وإن كان مالاً مثل: قشر الرمان أو النوى ونحو ذلك مما يرميه الناس ولكنه إذا وجده في يد الملتقط فله أن يأخذه. يعني: صاحب قشر الرمان أو قشر البطيخ الذي رماه هو ربما رماه ليرجع إليه فالتقطه آخر فوجد ا

مدة تعريف اللقطة وزمنها

مدة تعريف اللقطة وزمنها مدة التعريف: مدة تعريف الملتقط للقطة سنة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (عرفها سنة). وهذا محل إجماع، قال ابن قدامة: لا نعلم فيه خلافاً، ولا بأس أن تزيد على مدة الوجوب سنة، ويستثنى من هذا الأصل إذا كانت اللقطة يسيرة فيعرفها ثلاثة أيام أو زمناً يظن بعده أن فاقدها لا يطلبها، ويستثنى أيضاً ما يخشى فساده إذا كان كثيراً أو يسيراً كالفاكهة والخضروات فإنه يعرفها مدة لا يخشى فيها عليها الفساد، وهذا قول الحنفية والحنابلة. زمن التعريف: يكون التعريف في الأوقات المناسبة كالنهار حيث محفل الناس ومجمع الناس أو في المكان الذي يسموه في الريف الصاري، وهو مجمع الناس، ويتكرر بالقدر الذي يحصل به مقصد التعريف؛ حتى يغلب على الظن وصول الخبر إلى صاحبه، ويكون ذلك كل يوم أو كل أسبوع أو كل شهر كلما توفر لك ذلك. قال ابن الهمام: اعلم أن الأمر بتعريفها سنة يقتضي تكرار التعريف عرفاً وعادة، والتعريف واجب على الفور. يعني: بمجرد أن تلتقط اللقطة لا يجوز تأخيرها عن زمن تطلب فيه اللقطة عادة، فالشخص لما يركب سيارة وينسى فيها حاجته كالحقيبة التي فيها أمواله وفيها أوراق وفيها وفيها، ثم إذا نزل في محطة الوصول أدرك أنه نسي الحقيبة فإنه يبحث عنها في محطة الوصول ومحطة المغادرة في نفس اللحظة والتوقيت فحينئذ يجب على الملتقط أن يعرفها في نفس اللحظة والتوقيت، ويكتب في ورقة عظيمة وضخمة أو قطعة من القماش كبيرة وتكون معلقة وبخط واضح إعلاناً عنها، وإذا سقطت الورقة أو القماش يعلقها مرة أخرى حتى يتمكن صاحب الحاجة من معرفتها إما في مكان المغادرة أو في مكان الوصول، ويعطي خبراً لكل سائق، فطريقة التعريف لكل ضائع أو لكل ضالة أو ملتقط إنما تكون على حسب غلبة الظن في وصول الخبر إلى صاحبها، والذي يتولى التعريف هو الملتقط أو نائبه، وإذا كان الملتقط صبياً فلا يتولى ذلك إلا الوصي أو الولي.

ذكر أقوال أهل العلم في ضمان اللقطة ومؤنة التعريف بها

ذكر أقوال أهل العلم في ضمان اللقطة ومؤنة التعريف بها مؤنة التعريف: بعض العلماء يقولون: إن الملتقط إذا التقط شيئاً وغرم فيه لا يجوز له الرجوع على صاحب المال. وبعض أهل العلم يقولون: بل له الرجوع إلى صاحب المال الضائع أو الخصم من الملتقط. وهذا الذي يترجح عندي. أن اقتطاع مؤنة التعريف من المال الملتقط أو من صاحب هذا المال، فاللقطة التي بيد الملتقط مضمونة إن كان قد التقطها بنية حفظها وردها لصاحبها فهي أمانة والأمانات لا تُضمن خاصة إذا قام الملتقط أو الأمين بحفظها أو صيانتها. ومن التقط شيئاً بنية الحفظ والرعاية والصيانة لكنه هلك لظرف خارج عن الإرادة فلا ضمان حينئذ؛ لأن الملتقط أمين والأمين إذا قام بواجب الأمانة فإنه لا يضمن في جميع الأموال والممتلكات، وإن كان قد التقطها بنية أخذها لنفسه وعدم ردها إلى صاحبها فهي مضمونة، وإذا التقطها بنية الحفظ والرد إلى صاحبها فلا ضمان عليه عند الحنفية والمالكية، ومن أخذها ثم ردها إلى مكانها فالراجح أنه يضمن ذلك؛ لأنها بعد أن كانت لقطة صارت أمانة في يده فلا يجوز له التصرف بهذه الأمانة حتى يظهر صاحبها؛ لأن الشرع لم يأذن له بردها إلى مكانها، وإنما أوجب عليه الحفظ والتعريف، وهو بفعله هذا قد خالف الشرع في ذلك. وبعض أهل العلم يقولون: لا ضمان عليه. والذي يترجح لدي وجوب الضمان عليه؛ لأنه فرط في الأمانة.

مسألة نماء الضالة

مسألة نماء الضالة وهنا مسألة ملحقة بهذا: وهي نماء الضالة: فأقول: النماء له حالتان: إما أن يكون متصلاً بالضالة أو منفصلاً، فالنماء المتصل بالضالة كالسمن، لما التقطت النعجة أو الخروف أو المعز أو ما شابه ذلك لابد لحفظها ورعايتها أن أطعمها وأسقيها وهذا يكون لمالكها إذا استردها؛ لأن هذا نماء متصل بها لا يمكن انفصاله، فمن وجد شاة عشاراً ثم بقيت فترة حتى وضعت حملها، فهذا الحمل أصل ثباته كان قبل الالتقاط، ففي هذه الحالة إذا وضعت الشاة حملها عندي صار هذا النماء منفصل مع أن الأصل فيه الاتصال فهو من حق صاحب الشاة، أما إذا حصل العشار للشاة وهي عندي بعد التقاطها فهذا مال منفصل من حق الملتقط. وهناك مسائل لولي الأمر أو نائبه في أصل ضوال الإبل وما يشبهها في الامتناع من صغار السباع على وجه الحفظ لصاحبها ولا يلزم ولي الأمر تعريفها؛ لأن هذا مال الأصل فيه أنه لا يلتقط وإنما التقطه الوالي أو السلطان لمخافة الهلكة. ولابد أن يعرف الناس أن المال الذي ليس محلاً للالتقاط إذا ضاع يُسأل عنه في الأماكن العامة. أي: عند السلطان، وعلى ولي الأمر أن يجعل لها حمى ترعى فيه. أي: مكاناً للمرعى والرعاية وغير ذلك. ولو التقطها غير السلطان لم يجز له ذلك، ويكون ضامناً لها، ولا تبرأ ذمته إلا بردها إلى صاحبها، وعلى المدعي ملكيتها إقامة البينة، ولا يكتفى منه بالوصف؛ لأنها كانت ظاهرة بين الناس، فلا بد من تعريفها بوصف يتميز به عن الآخرين. أما ضالة الغنم وما يشبهها فوصفها كما يلي: أن يعجز عن الوصول إلى الماء والمرعى، وألا يمتنع من صغار السباع -هذا شرط التقاط الغنم وما يشبهها- بحيث لا يدفع عن نفسه الأذى كصغار الإبل وهي الفصيل، وصغار البقر وهي العجول، وصغار الخيل وهي الأفلاء -جمع فلو- والدجاج والأوز، كل هؤلاء لا يستطيعون دفع صغار السباع عنهم، والحكمة من أخذ ضالة الغنم هي خوف الضياع عليها إن لم يلتقطها أحد، وفي ذلك إتلاف لماليتها على مالكها. ويخير ملتقط الغنم بين ثلاثة أمور: إما أن يأكلها وعليه القيمة، أو يبيعها ويأخذ ثمنها لصاحبها إذا ظهر، أو يحفظها بعينها لصاحبها وينفق عليها دون أن يتملكها وتكون النفقة من قبل الملتقط على جهة التطوع عند الشافعية والحنابلة وكذلك رواية عن مالك وإذا تلفت ضالة الغنم فعلى الملتقط الضمان، وهذا مذهب الجمهور، خاصة إذا قصر وإلا فلا. وصلى الله على نبينا محمد.

كتاب الرؤيا

شرح صحيح مسلم - كتاب الرؤيا الرؤيا والحلم مخلوقان لله عز وجل، والرؤيا خلقها الله عز وجل في العقل الباطن للرائي، وهي في غالبها خير، وبقدر ما يكون الرائي لها من أهل الصلاح والصدق في يقظته تكون الرؤيا صادقة، أما الحلم فإنه مما يسر به الشيطان ويفرح به، وقد يأتي فيه ما يكرهه العبد ويتكدر له، فإذا رأى ذلك شرع له التحول عن موضعه الذي نام فيه، والاستعاذة بالله من شره، وكتمانه عن الناس فلا يخبر به أحداً.

أحاديث في الرؤيا والحلم

أحاديث في الرؤيا والحلم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله ومن والاه، وبعد. فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أما بعد: فمع كتاب جديد وهو كتاب الرؤيا. والكتاب في اللغة بمعنى: الجمع والضم، ولذلك يقال: كتيبة، وهي التي تجمع عدداً من الجند والمعدات المتماثلة وغير ذلك فيقال: هذه كتيبة مدرعات. وهذه كتيبة مشاة. وهذه كتيبة طبية؛ لأنها جمعت المتماثلات فسميت كتيبة لأنها جمعت في أحشائها جنوداً متشابهين، وكذلك يقال للكتابة كتابة لأنها عبارة عن مجموعة من الحروف. ومعنى الكتاب في الاصطلاح: هو الجزء الذي ضم في أحشائه مجموعة من المسائل المتشابهة. فمعنى كتاب الرؤيا، أنه تضمن المسائل التي تتكلم عن الرؤيا، وقد يشمل الكتاب مئات الفصول والأبواب، وكل باب أو فصل له تعلق وثيق بمسألة الكتاب ككتاب الإيمان أو الطهارة أو الصلاة وغير ذلك، ولذلك لا يمكن أبداً أن تجد في كتاب الوضوء مثلاً مسألة لها تعلق بالحدود نهائياً؛ لأن هذا كتاب وذاك كتاب آخر.

شرح حديث: (الرؤيا من الله والحلم من الشيطان)

شرح حديث: (الرؤيا من الله والحلم من الشيطان) قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عمرو الناقد وإسحاق بن إبراهيم -وهو المعروف بـ ابن راهويه - وابن أبي عمر -وهو محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني المكي أي: نزيل مكة- جميعاً عن ابن عيينة -وهو سفيان بن عيينة أبو محمد المكي - وهذا اللفظ لـ ابن أبي عمر]. هذا الحديث رواه أكثر من واحد، والإمام مسلم رواه من عدة شيوخ منهم: عمرو الناقد وإسحاق بن إبراهيم المروزي وابن أبي عمر إلا أن هذا السياق لواحد دون الثلاثة، وأما ألفاظ الباقين فهي على النحو من هذا السياق، وليست مثله تماماً بتمام. قال: [حدثنا سفيان وهو ابن عيينة عن الزهري -وهو محمد بن مسلم بن شهاب الزهري الإمام الكبير المعروف- عن أبي سلمة -وهو ابن عبد الرحمن بن عوف صحابي كبير- قال: كنت أرى الرؤيا أُعرى منها]. يقال: رجل عري. أي: رجل أصابته حُمى. والمعنى: أنه أُصيب بسخونة أو بحمى غير أنه قادر على المشي [قال: غير أني لا أُزمل] أي: لا أُغطى في الفراش، من قوله عليه الصلاة والسلام: (زملوني زملوني)، وقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل:1]. قال: [حتى لقيت أبا قتادة الأنصاري فذكرت ذلك له فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان، فإذا حلم أحدكم حلماً يكرهه فلينفث عن يساره ثلاثاً، وليتعوذ بالله من شرها فإنها لن تضره)]. أي: لا تضره لو التزم هذه التعليمات، لكن لا بد أن تحفظ معي ما الذي يجب على من رأى حلماً يكرهه؛ ولم يأت ذلك في حديث واحد، وإنما في أحاديث شتى. قال: [(الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان)] مع أن الرؤيا والحلم كلاهما مخلوقان لله عز وجل؛ لأن الخير والشر من الله عز وجل، والحلم هو الشر، وإذا كانت الرؤيا من الله عز وجل؛ فهي دليل الخير، فالرؤيا خلقها الله عز وجل في تصوّر الرائي أو في عقل الرائي الباطن أو في منامه وكذلك الحلم. فالحلم مخلوق لله عز وجل، والله تعالى أراده إرادة كونية، لكن الشيطان يحضره ويُسر به ويفرح، والشيطان ليس خالقاً، والخالق الواحد هو الله عز وجل، فلا خالق غيره، فهو الذي خلق الخير وأمر به وأحبه ورضيه، ورتّب عليه الثواب، وخلق الشر ولم يرضه. ومعنى خلقه: أنه أذن في وجوده كالزنا، والسرقة، وشرب الخمر وغير ذلك، فلا يكون شيء في الكون إلا بأمر الله عز وجل وإذنه، لأنه ليس لأحد أن يتحرك حركة أو يسكن سكنة إلا بإذن الله عز وجل، فإن الذي يأتي المعصية يلزمه فيها عدة جهود لإتمامها، وهي: المشي على الأقدام، والبطش باليد، وغير ذلك. والقتل، والسرقة، والزنا، وشرب الخمر كل هذا لا يمكن أن يتم إلا بإذن الله عز وجل، ومعنى أن الله أذن فيه مع أنه لم يحبه، بل كرهه وحرّمه، وأرسل الرسل بالنذارة والوعيد الشديد، وأنزل الكتب تحذيراً من الوقوع في هذه المعاصي، وخلق الجنة والنار، وبيّن الطريق، وأقام الحجة على العباد؛ حتى يهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بيّنة. وكذلك الحلم فإن الله تبارك وتعالى أذن في إيجاده، وكذلك الرؤيا الطيبة أذن الله تبارك وتعالى في إيجادها، ومعنى (أذن). أي: أنه أمر بخلقها في تصور الرائي أو في النائم، أما الرؤيا فلا يحضرها شيطان؛ لأنها خير، ومواطن الخير يفر منها الشيطان، أما الحلم فإنه شر ولذلك يحضره الشيطان، ويفرح به ويُسر، وإنما يغتاظ أشد الغيظ أن يرى الرجل رؤيا صالحة، فلا طاقة له بها، ولذلك يهرب من ميدانها، ويحضر في موطن يحلم فيه المرء حلماً سيئاً. وقوله صلى الله عليه وسلم: (الرؤيا من الله والحلم من الشيطان) حتى لا يتصور أحدكم أن الشيطان يبتدئ الخلق في تصور الرائي أو في ذهنه أو في عقله؛ لأن الشيطان أقل من ذلك، وأنه لا يقدر أن يخلق شيئاً. قال: [(فإذا حلم أحدكم حلماً يكرهه)] سواء ذكر يكرهه أو لم يذكر، فالمعلوم أن الذي يرى حلماً أنه يكره ذلك، فإذا كان يحبه فليعلم أنه رؤيا صالحة، وليس أحد من الخلق يحب الحلم؛ لأن الحلم إزعاج وكوابيس ونكد وغم وهم، بل صراع وحرب بين الرائي وبين ما يراه طوال نومه، أو في جزء كبير من نومه، فيتصور -مثلاً- أن بعيراً أو أسداً أو ثعباناً يتبعه ويلاحقه، أو غير ذلك، من الذي يحب ذلك في يقظته فضلاً أن يحب ذلك في منامه؟ إن الواحد منا لو رأى حلماً على النحو من هذا أن بعيراً يجري خلفه، ثم يستيقظ فجأة فإنه يقول: الحمد لله أن هذا كان حلماً ولم يكن حقيقة، لأنه كره ذلك من قلبه. فعلاج من رأى حلماً يكرهه هو ما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: [(فلينفث عن يساره ثلاثاً)] والنفث هو النفخ. وإن شئت فقل: هو كال

شرح حديث أبي قتادة في الرؤيا: (فليبصق على يساره حين يهب من النوم ثلاث مرات)

شرح حديث أبي قتادة في الرؤيا: (فليبصق على يساره حين يهب من النوم ثلاث مرات) قال: [وحدثني حرملة بن يحيى] وهو المعروف بـ التجيبي حرملة بن يحيى التجيبي، وتجيب: قرية من أعمال دمياط، وهو مصري. قال: [أخبرنا ابن وهب -وهو عبد الله بن وهب القاضي المصري - أخبرني يونس] إذا حدث ابن وهب عن يونس فإنما هو يونس بن يزيد الأيلي. وحرف الحاء الموجود في الإسناد معناه: تحويل الإسناد، فهو اختصار لكلمة تحويل. قال: [(ح) وحدثنا إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد قالا: أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر كلاهما عن الزهري]. قوله: (كلاهما) لا بد من ربط الإسناد الثاني بالإسناد الأول، فالإسناد الأول انتهى عند يونس بن يزيد الأيلي، والإسناد الثاني انتهى عند معمر. إذاً: يونس بن يزيد ومعمراً يرويان عن الزهري بهذا الإسناد. أي بالإسناد السابق. قال: [وليس في حديثهما أُعرى منها. وزاد في حديث يونس: (فليبصق على يساره حين يهب من نومه ثلاث مرات)]. ومعنى يهب أي: يقوم ويفزع ويترك الفراش؛ لأن المرء قد يأتيه حلم ثم يزول وهو لا يزال في نومه؛ لأنه ليس بلازم أن يزول الحلم بزوال النوم، بل ممكن أن يزول قبل زوال النوم، فمعنى يهب من نومه هو الاستيقاظ في حال استمرار الحلم، فإذا هب من فراشه فليبصق عن يساره ثلاث مرات، وأنتم تعلمون أن لفظ العدد ثلاثة وسبعة محل اعتبار الشرع، فقد ورد فيهما الأحاديث الكثيرة جداً، وكذا بعض آيات القرآن الكريم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستخدمهما كثيراً في أدعية الاستشفاء وغيرها.

شرح حديث: (فإذا رأى أحدكم شيئا يكرهه فلينفث عن يساره ثلاث مرات)

شرح حديث: (فإذا رأى أحدكم شيئاً يكرهه فلينفث عن يساره ثلاث مرات) قال: [حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب -وهو المعروف بـ القعنبي نسبة إلى جده- قال: حدثنا سليمان -وهو ابن بلال المدني - عن يحيى بن سعيد -وهو الأنصاري - قال: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن يقول: سمعت أبا قتادة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان، فإذا رأى أحدكم شيئاً يكرهه فلينفث عن يساره ثلاث مرات وليتعوذ بالله من شرها، فإنها لن تضره)]. فقال: إن كنت لأرى الرؤيا أثقل علي من جبل فما هو إلا أن سمعت بهذا الحديث فما أباليها]. أي: أنه كان يحلم أحلاماً فظيعة ومفزعة ومقلقة فكانت على قلبه أثقل من الجبل، ولم يكن لديه علاج لهذه الكوابيس أو الأحلام حتى سمع بهذا الحديث؛ لأنه أصيب بالداء فحصل الدواء، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (تداووا عباد الله! فما أنزل الله تعالى داء إلا وأنزل له دواء). ولذلك شرع النبي عليه الصلاة والسلام أذكار النوم، فإنها بإذن الله تحفظ النائم من هذه الأحلام، والذي اعتاد أن يتلو هذه الأذكار ويستحضر الخشوع والخضوع والإنابة والتوبة إلى الله عز وجل مع تلاوة شيء من كتاب الله عز وجل حتى يكون من الأوابين أو من التوابين أو من المخبتين -كما جاء في بعض الروايات- فإنه بإذن الله تعالى يكون عليه من الله تعالى حافظ حتى يستيقظ، وهذا الحافظ من الملائكة يحرس المرء حتى يستيقظ. أما الذي يذهب إلى فراشه على غير وضوء ولا ينام على جنبه الأيمن، ولا يضع يده تحت خده، ولا يتلو شيئاً من كتاب الله عز وجل، ولا يقرأ الأذكار، بل ربما ينام على السباب والشتائم والفحش والغضب وغير ذلك، فأنى لهذا أن يهنأ بنومه؟! فكما أنه عاش في نهاره تعيساً شقياً فإنه كذلك يشقى في نومه. فيكون في شقاء دائم سواء في حال يقظته أم في حال نومه، ولكن انظر إلى عبد من عباد الله عز وجل، يحيا نهاره بطاعة الله عز وجل، وما من باب يقرب إلى الله عز وجل إلا ويلجه هذا العبد، ثم يلتزم شرع الله تعالى في نومه كما التزمه في يقظته، فيرى من الله تعالى خيراً في نومه، يرى وكأنه في صحبة أهل العلم، أو يحضر مجالس العلم، أو يرى أنه مع النبي عليه الصلاة والسلام، أو مع أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، أو مع العشرة المبشرين بالجنة، أو يرى مشهداً يُنصر فيه دين الله عز وجل، أو يرى أنه يسبح في أنهار الجنة. وقد رأيت رؤيا في سنة (1984م) لا زلت أُسر بها سروراً عظيماً جداً إلى يومي هذا، وكنت في تلك الآونة قد فرغت من قراءة ترجمة الإمام أحمد بن حنبل للإمام ابن الجوزي في مجلد عظيم جداً اسمه سيرة الإمام أحمد بن حنبل، حوالي (700) ورقة، فلما فرغت من قراءة ترجمة الإمام أحمد بن حنبل إذا بأحد أصدقائي في الرؤيا يوقظني ويقول: الحق! الإمام أحمد بن حنبل في الدور الثاني وهو يحاضر، فقمت مسرعاً لأرى الإمام أحمد فلم أر أحداً إنما رأيت رجلاً وضيئاً وبديناً وحوله بعض الناس. فقلت: ليس هذا هو الإمام أحمد، فقد قرأت ترجمته، الإمام أحمد نحيف البدن، فيه سمرة، غائر العينين، عظم وجهه باد من فرط نحافته، وليس بطويل. فقال يمازحني: كم تدفع وأريك الإمام أحمد؟ قلت: أدفع كل ما معي، وأنا في ذلك الوقت لم يكن معي شيء، فقال: الإمام أحمد في الدور الذي فوق، قلت: إذاً من هذا؟ قال: هذا ابن حزم، قلت: والله هذه فعلاً الصفات التي جاءت في ترجمة ابن حزم، فصعدت إلى الدور الثاني بصعوبة شديدة جداً، والبيت الذي كنت أسكن فيه كان كبيراً جداً، فكلما نهضت تزحلقت على السلم من كثرة الأحذية، أي: أنها كانت كالجبال في مدخل هذه الشقة وفي مدخل هذا الدور، فعانيت حتى دخلت ورأيت الإمام أحمد وجلست بجواره، والكل يقول: اجلس في مكانك لا تتخطى. قلت: إنما التخطي في صلاة الجمعة واسألوا الإمام، فجلست بجوار الإمام، فتذكرت بعض إخواني الذي كان يسكن معي أنه يريد أن يرى الإمام أحمد بن حنبل والإمام ابن حزم، فنزلت لإيقاظه فقال لي: أنا تعبان ومشغول. فقلت له: أنت حر. وتركته. وحينما صعدت السلّم وإذا بالناس قد انصرفوا، فقصصت هذه الرؤيا على الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله، فقال باللفظ الواحد: هذه بشرى خير، وأنت على الطريق، وإن كنت ستجد صعوبة في أوله، وهذه الصعوبة هي التي أدركتها على السلّم حينما تعثّرت مراراً ثم رأيت الإمام، ولكن الشاهد أن الشيخ الألباني اعتبر أن هذه بشرى خير، وظل يبكي منها ساعات طوال، وقال: يا ليتنا نرى الإمام. قلت: يا شيخ أنت رأيت من هو خير من الإمام، وهو النبي

شرح حديث: (وليتحول عن جنبه الذي كان عليه)

شرح حديث: (وليتحول عن جنبه الذي كان عليه) قال: [وحدثناه قتيبة -وهو ابن سعيد الثقفي - ومحمد بن رمح عن الليث بن سعد محمد بن رمح والليث كلاهما مصريان، ثم يتحول الإسناد قال: [(ح) وحدثنا محمد بن المثنى -وهو المعروف بـ العنزي أبو موسى الزمن - قال: حدثنا عبد الوهاب] يعني: ابن عبد المجيد الثقفي. ثم يتحول الإسناد ليبدأ إسناداً ثالثاً: [(ح) وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الله بن نمير]. وجميع هذه الأسانيد الثلاثة كلهم يروون عن يحيى بن سعيد الأنصاري بهذا الإسناد. وفي حديث الثقفي وهو عبد الوهاب بن عبد المجيد قال أبو سلمة: فإن كنت لأرى الرؤيا، وليس في حديث الليث وابن نمير قول أبي سلمة إلى آخر الحديث. وزاد ابن رمح في رواية لهذا الحديث: (وليتحول عن جنبه الذي كان عليه)]. وهذا العلاج الثالث. فقد أخذنا العلاجين الأولين وهما: أن يتفل عن يساره ثلاثاً، وأن يتعوذ من شرها ثلاثاً، فقد ورد في رواية عدم ذكر العدد، وفي الرواية الأخرى ذكر فيها العدد، فلابد من جمع الروايات والنصوص في القضية الواحدة، فربما تأخذ بنص منسوخ فتأخذ منه حكماً قد نسخ وبطل العمل به منذ زمن النبي عليه الصلاة والسلام. لا بد في كل قضية من جمع أدلتها والنظر في أقوال أهل العلم من سلف الأمة فيها حتى تخرج بنتيجة واحدة، أو بعدة نتائج، وهذه النتائج بمجموعها قد قالها السلف، كأن تكون النصوص حمّالة، فيكون خلاف أهل العلم حينئذ معتبراً لا إنكار فيه.

جواز اختلاف الفقهاء على آراء يحتملها الدليل

جواز اختلاف الفقهاء على آراء يحتملها الدليل إذا اختلف السلف في قضية على رأيين أو ثلاثة أو أربعة وكانت هذه الآراء يحتملها الدليل فلا إنكار فيها، إنما الإنكار يكون في المنكر المجمع على أنه منكر. أما قضية اختلف فيها السلف على مذهبين كقضية الحجاب والنقاب، أو الكشف والتغطية فقد اختلفوا فيها، فلا إنكار في هذا، والأمر كله مداره على تقوى الله عز وجل، وإذا كنت من أهل العلم وطلابه فعليك أن تدرس المسألة دراسة مستوعبة، فالذي يغلب على ظنك وعقلك وقلبك فإنما هو دين الله تعالى في حقك، وغيرك يدرس القضية وينتهي إلى رأي يخالف ما أنت عليه، أيضاً بتقوى الله بعيداً عن الهوى؛ لأن صاحب الهوى آثم، فإذا ذهب أحد طلاب العلم إلى جواز الكشف، بناء على الأدلة التي استعرضها، وذهب الآخر إلى وجوب التغطية، فليس لأحدهما أن يُنكر على الآخر. وكذا وضع اليد على الصدر بعد الرفع من الركوع. وهذا أمر ثابت بالدليل الصحيح الصريح الذي لا يحتاج إلى تأويل، وليس بلازم، فقد ورد في حديث وائل بن حجر أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقوم في صلاته من الركوع حتى يستقر كل عضو في مكانه. فمنهم من قال: يستقر كل عضو في مكانه على أصل خلقته قياماً، فالذي يمشي في الشارع لا يضع يده على صدره، وإنما يمشي ويديه إلى جانبيه. ومما يساعد على ذلك: أن هذه المسألة من المسائل العملية التي ترد عشرات المرات في اليوم الواحد، فالواحد يصلي 17 ركعة فرضاً، ومثلها مرتين أو ثلاثاً أو يقل أو يزيد من النوافل، والنوافل والفرائض في الهيئة سواء، ومع ذلك لم يرد إلينا فيها دليل صحيح صريح، وهذه من المسائل التي لو كانت مستقرة عند السلف كان النقل فيها تواتر أو استفاض، وهذا رأي فريق من الناس. وكذا الإسبال ليس فيه سنة ثابتة، لكن من فعله فلا حرج عليه، غير أن شيخنا الألباني رحمه الله قال: من فعلها فهو مبتدع. وهذا الحكم فيه مبالغة لا نقره عليها رحمه الله. وعلماء الحجاز قالوا: وضع اليد على الصدر بعد الرفع من الركوع سنة ثابتة عن النبي عليه الصلاة والسلام، والدليل حديث وائل بن حجر. فبالنظر إلى كل هيئة من هيئات الصلاة نجد أن المصلي على حال معين، فهو في حال قيامه قبل الركوع يضع اليد اليمنى على اليسرى على الصدر، وفي حال الركوع قابض على الركبتين، وفي حال السجود واضع كفيه على فخذيه مشيراً بسبابة أصابع اليد اليمنى باتجاه القبلة. إذاً: كل ركن من أركان الصلاة له كيفية معينة وهيئة معينة، فإذا كنا نريد أن نلحق القيام بعد الركوع بالقيام قبل الركوع، لأنهما قيام واحد، فنستدل بحديث: (حتى يستقر كل عضو في مكانه) أي: داخل الصلاة. لأن الحديث فيه: (إذا قام من ركوعه) أو (إذا اعتدل من ركوعه)، فإنه يرجع على هيئته قبل الركوع، وكانت هيئته قبل الركوع أنه يضع اليمين على الشمال. إذاً: هذا الكلام وجيه، وحكمنا على الرأي الأول الذي يقول: ليس فيه سنة ثابتة بأنه كلام وجيه أيضاً، وهو عبارة عن استنباط واجتهاد، وليس فيه دليل صحيح صريح يحسم القضية، وحينما يعرض كلا الاجتهادين على النص فإنه يحتمل، فإذا كان الدليل يحتمل جميع هذه التأويلات فلا إنكار على من تبنى تأويلاً من هذه التأويلات، ولهذا قال الإمام أحمد بن حنبل عليه رحمة الله: إذا شاء وضع اليمين على اليسار بعد الرفع من الركوع، وإذا شاء أسدل. أي أن القضية عنده ليس فيها نص صريح، إنما هو اجتهاد والاجتهاد يحتمل النص. إذاً: هذه المسألة ليس فيها سنة ثابتة بحيث أنني لو تركتها أكون قد تركت هيئة كان عليه السلف، أو أمر بها النبي عليه الصلاة والسلام، ولو أني فعلتها لست آثماً. والشاهد الذي أريد أن أقوله: أن نربي أنفسنا دائماً على حسن التعامل مع مسائل الخلاف، فالغضب الشديد لا وجه له في الإسلام، ولا وجه له في الشرع، فأنت حينما تقرأ في أدلة الحجاب والنقاب ستجد من يذهب إلى وجوب النقاب وفي المقابل ستجد من ترجح لديه أن الكشف جائز، فلا إنكار عليه، لكنك حين تدخل على القضية وأنت عاقد العزم -قبل أن تقرأ وقبل أن تسمع شيئاً- أن النقاب واجب، وأن تاركة النقاب آثمة، فربما تقول: هي سافرة، وداعرة وغيرها من هذه الألفاظ التي نسمعها ممن لا عقل له، وممن لا يحتمل الخلاف لضيق أفقه بكلام أهل العلم. وقل أن تجد في دين الله عز وجل مسألة مجمع عليها؛ ولذلك فإن كتب الإجماع قليلة جداً، وحجم كل منها صغير؛ وانظر إلى الإجماع لـ ابن المنذر لا يتعدى المائة ورقة، والإجماع لـ ابن حزم لا يتعدى المائة ورقة وهكذا؛ بل إن أهل العلم ينكرون على ابن حزم أنه عد مسائل من الإجماع وفيها الخلاف، وكذلك ابن المنذر فقد ادعى الإجماع في مسائل فيها خلاف، وتجد كتب الفقه ضخمة جداً، لوجود الخلاف. إذاً: أنت في هذا الوقت تريد تحملني في كل قضية من القضايا على رأيك أو على مذهب إمامك، وهذا الكلام لا علاقة له بالعلم قط، إنما كل إمام من الأئمة بذل أقصى جهده وبذل وسعه ثم استقر لديه أن دين الله عز وجل

شرح حديث: (الرؤيا الصالحة من الله والرؤيا السوء من الشيطان)

شرح حديث: (الرؤيا الصالحة من الله والرؤيا السوء من الشيطان) قال: [(الرؤيا الصالحة من الله والرؤيا السوء من الشيطان، فمن رأى رؤيا فكره منها شيئاً فلينفث عن يساره)]. وفي هذه الرواية لم يقل ثلاثاً بخلاف الرواية الأخرى. قال: [(وليتعوذ بالله من الشيطان)]. وفي رواية: (فليتعوذ بالله من شرها). إذاً: عندنا أربع روايات: (فلينفث عن يساره ثلاثاً)، (وليتحول عن جنبه)، (وليتعوذ بالله من شرها)، (وليتعوذ بالله من الشيطان). فالمسلم يتعوذ بالله من شرها، ومن الشيطان، لأنها حلم أو رؤيا سوء، والرؤيا السوء من الشيطان، فينبغي التعوذ منه. قال: [(وليتعوذ بالله من الشيطان فإنها لا تضره)] أي: إنه إن فعل ذلك فإنها ليست واقعة به، ولا تصيبه بحزن ولا هم ولا غم إذا فعل ذلك. الشرط الخامس: وهو قوله عليه الصلاة والسلام: [(فإن رأى رؤيا حسنة فليبشّر ولا يخبر إلا من يحب)]، وفي رواية: (فلينشر) وهذه الرواية فيها تصحيف، وكذلك رواية أخرى: (فليستر)، لكن الصواب في الروايات: (فإن رأى رؤيا حسنة فليبشّر) أي: فليبشر بها الناس، لكن ليس كل الناس وإنما ممن يغلب على ظنك أو توقن أنه يحبك ويحب الخير لك ولا يحسدك، ولا يحصل في قلبه ضغينة ولا كراهية؛ لأن بعض الناس إذا رآك على خير كره ذلك وحسدك. إذاً: الرؤيا الحسنة من الله عز وجل، وإذا رأى أحدكم رؤيا حسنة فليبشّر، ولا يبشّر إلا من يحب، فهذان الشرطان في الرؤيا الحسنة.

شرح حديث: (الرؤيا الصالحة من الله فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدث بها إلا من يحب)

شرح حديث: (الرؤيا الصالحة من الله فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدث بها إلا من يحب) [حدثنا أبو بكر بن خلاد الباهلي وأحمد بن عبد الله بن الحكم قالا: حدثنا محمد بن جعفر] وهو المعروف بـ غندر ربيب شعبة أي: أنه حينما مات جعفر تزوج شعبة بن الحجاج العتكي البصري أم محمد، فـ محمد بن جعفر كان من أئمة الحديث بالبصرة، ويكفي أنه ربيب شعبة، فقد رضع العلم وهو في حجره، ولذلك كان من المكثرين عن شعبة، وكانت فيه شدة على المحدثين؛ لأنه رضع كراهية التدليس والإرسال من شيخه شعبة الذي كان يقول: لئن أزني أحب إلي من أن أُدلِّس. وفي رواية قال: لئن أشرب من بول حمار أحب إلي من أن أدلّس. وليس معنى هذا الكلام أن شعبة يدعو إلى الزنا أو إلى شرب أبوال الحمير، ولكن هذا الكلام خرج مخرج الوعيد الشديد والكراهية المتناهية للتدليس. [وعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج] وهو المعروف بـ ابن جريج الأموي كان مدلساً كبيراً، قلّ أن يخلو مجلس من مجالسه إلا وفيه تدليس، فقدم محمد بن جعفر إلى مكة فجلس في مجلس ابن جريج. والمدلّس لا يقول: حدثنا ولا أخبرنا، وإنما يقول: عن فلان، وقال فلان، كما تقول: قال الشيخ الفلاني: كذا وكذا وكذا فأقول لك: هل سمعت منه؟ تقول: لا. ولكن أخبرني به فلان، لكن قولك: قال فلان ليس كذباً صريحاً، وإنما هو تمويه بأنك سمعت، فالمدلس يستخدم مصطلحات توهم السماع ولا يزعم فيها السماع، فإذا قال المدلس قال فلان وعن فلان استوقفناه، فإن لم يصرح بالسماع احتملنا حديثه؛ لأنه ليس كذّاباً، وإنما هو مدلّس فقط، ولذلك حديث المدلّس ضعيف، أما حديث الكذاب فهو موضوع ومكذوب ومفترى، ولا يمكن أن يرقى إلى القبول من أي طريق ولو من مائة طريق، إنما لو أتى الإسناد من مدلس من وجه آخر احتملناه، ولو صرّح المدلّس بالسماع في أحد الوجوه ولم يصرّح بالوجه الآخر احتملناه. فكان ابن جريج يقول: قال فلان، وعن فلان، فيقول له محمد بن جعفر: أسمعت منه؟ فيقول: لا. إنما هو من فلان، حتى قال مرة: عن فلان، فقال ابن جعفر بيده: أي: أنه أشار بيده. فقال ابن جريج لـ محمد بن جعفر: يا غندر! وغندر في لغة أهل مكة هو المشاغب، فغلب هذا اللقب على محمد بن جعفر. [قال محمد بن جعفر: حدثنا شعبة عن عبد ربه بن سعيد عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال: إن كنت لأرى الرؤيا تمرضني حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الرؤيا الصالحة من الله، فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدث بها إلا من يحب، وإن رأى ما يكره فليتفل عن يساره ثلاثاً)]. إذاً: عندنا ثلاث روايات، وهي: يتفل، ويبصق، وينفث [(وليتعوذ بالله من شر الشيطان وشرها)] أي: وليتعوذ بالله مرة من شر الشيطان ومرة من شر هذه الرؤيا حتى لا تتحقق فيه [(ولا يحدث بها أحداً فإنها لن تضره)]. الشاهد عندنا: أن كثيراً من أصاحب النبي صلى الله عليه وسلم رأوا أحلاماً أو رؤيا سوء، فأخبروا بها النبي عليه الصلاة والسلام فعوذّهم وأولها لهم، بل إن النبي عليه الصلاة والسلام رأى رؤيا أزعجته كما في الحديث الطويل حديث الرؤيا بعد صلاة الغداة، حينما قال: (من رأى منكم البارحة رؤيا؟) ثم قال: (فإنه قد أتاني ملكان فقالا لي: انطلق يا محمد، فانطلقت معهما حتى أتينا على تنور، فقلت: ما هذا؟ فقالا: انطلق انطلق، فانطلقت حتى رأيت رجلاً يسبح في نهر من الدماء، ورجل آخر على الشط يلقمه حجراً كلما أراد أن يقترب من الشط) إلى آخره. في التحذير من الربا والزنا. فهذه رؤيا مزعجة لكن فيها مصلحة عامة، وتحذير للأمة من الوقوع في مثل هذه المعاصي، أما من كان يرى من أصحابه رؤيا سوء فيخبره بها عليه الصلاة والسلام، فهذا قد أخبر عالماً بها، وأما النهي فهو أن لا يخبر بها أحداً إذا كان لا يعبر الرؤيا، ولا بأس عليه أن يخبر بها من يفسّرها.

شرح حديث جابر: (إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها)

شرح حديث جابر: (إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها) [قال: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث، (ح) وحدثنا ابن رمح -وهو محمد - قال: أخبرنا الليث عن أبي الزبير عن جابر] أبو الزبير هو محمد بن مسلم بن تدرس أبو الزبير المكي يروي عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما. قال: [عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق عن يساره ثلاثاً، وليستعذ بالله من الشيطان ثلاثاً، وليتحول عن جنبه الذي كان عليه)]. إذاً: الاستعاذة من شرها ثلاثاً، ومن الشيطان ثلاثاً، وليتفل عن يساره ثلاثاً، وليتحول عن جنبه الذي كان عليه، ثم لا يخبر بها أحداً، وأما قبل أن تنام فإنما عليك بأذكار النوم وقراءة القرآن.

شرح حديث: (إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب)

شرح حديث: (إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب) [قال: حدثنا محمد بن أبي عمر المكي حدثنا عبد الوهاب -أي: ابن عبد المجيد الثقفي عن أيوب وهو أيوب بن أبي تميمة السختياني البصري وأبو تميمة اسمه كيسان السختياني البصري لكن غلبت عليه الكنية- عن محمد بن سيرين البصري عن أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب) يعني: تتحقق كفلق الصبح. أما قوله: إذا اقترب الزمان فهو محل خلاف. فمنهم من قال: معنى اقتراب الزمان. أي: اقتراب الساعة. ومنهم من قال: هو أن يعتدل ليله ونهاره. فمثلاً: في أيام الشتاء الليل أطول من النهار، وفي أيام الصيف يكون النهار أطول من الليل، وهناك أيام يعتدل فيها النهار والليل. بمعنى: أن يكون الليل ثنتي عشرة ساعة، والنهار أيضاً ثنتي ساعة. وفي الحقيقة الكلام هذا بعيد، وربما يكون هناك تأويل آخر. ومعنى آخر وهو: إذا كاد الفجر أن ينفلق، وانصرم الليل وكاد النهار أن يقبل. والرؤى في هذا التوقيت أي قُبيل الفجر أو بعد صلاة الفجر إنما فيها المبشرات كما ذكره أهل العلم في كتبهم. فهذا هو التأويل الثالث، والذي يترجّح مما سبق هو: إذا اقتربت الساعة. قال: (وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثاً) أي: أن أحسنكم رؤيا أحسنكم حديثاً، ولذلك فإن اهتماماتك في اليقظة تظهر عليك في الرؤيا. أي: حينما ننظر في الإمام البخاري فقد كان العلم يجري في دمه حتى ما يترك عرقاً ولا مفصلاً إلا ويجري فيه، ولذلك كان يقول: كنت أستيقظ من النوم في الليلة عشرين مرة، فكان حين ينام يغفو غفوات، ومن قبله كان يفعل ذلك عمر رضي الله عنه، حتى أشفق الصحابة على عمر فقال: إذا نمت بالليل ضيّعت حظي. أي: مع الله عز وجل، وإذا نمت بالنهار ضيّعت الرعية، فكان يغفو غفوات تارة في النهار بالقيلولة، وتارة في شيء يسير جداً في الليل. فالإمام البخاري يقول: كنت أستيقظ في الليلة الواحدة أكثر من عشرين مرة، فيوقد السراج ويسجل الخاطرة. والخاطرة بمعنى فائدة أو نكتة حديثية أو فقهية أو شيء من هذا، وهذا يدل على أنه لم يكن يهنأ بالنوم. فاهتماماتك تظهر عليك بالليل، فالذي يهتم بشرب الخمر -عياذاً بالله- يرى في نومه أنه يشرب الخمر، والذي يهتم بقراءة القرآن وطلب العلم وغير ذلك يرى أنه جالس في مجالس العلم، لأن هذا اهتمامه، ولأن حياته قامت على هذا، والذي يهتم أيضاً بجمع الدنيا يرى أنه يلهث يميناً ويساراً خلف صفقة أو غير ذلك، والذي يهتم بمنظره وجماله فوق ما أمر الشرع يرى ذلك، ولذلك نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن الإرفاء كما في حديث أبي الدرداء وسلمان الفارسي: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الإرفاء). وهو: أن يرجّل الرجل شعره دائماً. طبعاً نحن لا ننهى عن التجمّل، فالله جميل يحب الجمال، وطيب يحب الطيب، لكن لا تكن حياتك كلها أمام المرآة؛ لئلا تصاب بالوساوس. وبعض المصلين يصاب بالوسواس في داخل الصلاة، فيتحرك حركة مستمرة، ولذلك الأئمة يقولون: الحركة الكثيرة تبطل الصلاة، واختلفوا في الكثرة، ومرجعها إلى العُرف، والأصل في المصلي أن يقف بإخبات وذل وخضوع لله! وبعض المصلين في السعودية يكثرون من الحركة في الصلاة ويقولون: هذه حركة قليلة؛ لأن الشعب كله هكذا، فهذا مما عمت به البلوى. أما في غير السعودية فإننا نتجرأ على الحكم بإبطال صلاته وأمره بالإعادة، لكن هناك لا نتجرأ؛ لأن العلماء هناك للأسف الشديد يتأسفون لهذا، ولذلك فإن أهل العلم وطلاب العلم لا يفعلون ذلك هناك إلا الجاهل من طلاب العلم بحكم المسألة، إنما أهل العلم ينهون عن ذلك هناك ويتأسفون جداً لما يحدث. ومما يحدث أيضاً ويزيد الطين بلة: هو الالتفات. كنت مرة أصلي الجمعة في الحرم والازدحام شديد جداً، وضغطوني حتى انحرفت لكني بقيت أصلي مؤدياً للركوع والسجود، ثم انفلت من الصف، فالذي على شمالي دفعني دفعاً حتى انحرفت يميناً لكني على أي حال ما زلت محاظفاً على التوجه للقبلة، ثم إنني اندفعت رغماً عني فقال لي أحد المصلين: كبّر مرة أخرى يا شيخ، وكنا في الركعة الثانية فاستمريت في صلاتي حتى سلمت مع الإمام، فقال لي ذلك الشخص: أنت الآن يلزمك أن تصلي الظهر مرة أخرى. قلت: يا شيخ أنا اندفعت رغماً عني ولو أن واحداً أخذني بعنقي ولف بي هذا المسجد وأنا كاره لذلك حريص ألا يكون مني ذلك فإن صلاتي صحيحة ولا يلزمني شيء. قال: لا. بل اذهب إلى أهل العلم. قلت: أنت الآن تصدّق أهل العلم؟ قال: طبعاً أهل العلم كيف ننكر عليهم؟ قلت له: تعال! وذهبت إلى الشيخ علي الهندي رحمه الله، فقال لي الشيخ: لا شيء عليك وصلاتك صحيحة. قال: كيف يا شيخ أنت تفتي هذا بذلك؟ قلت: هل تريد أن نذهب إلى شيخ آخر؟ قال: نعم. قلت: أريد أن

معنى قوله: (ورؤيا المسلم جزء من خمسة وأربعين جزءا من النبوة) وذكر أنواع الرؤيا

معنى قوله: (ورؤيا المسلم جزء من خمسة وأربعين جزءاً من النبوة) وذكر أنواع الرؤيا قال: [(ورؤيا المسلم جزء من خمسة وأربعين جزءاً من النبوة)]. وفي رواية: (رؤيا المؤمن جزء من خمسة وأربعين جزءاً من النبوة). وليس معنى هذا أنك حينما ترى خمساً وأربعين رؤيا أنك نبي! وإنما هي مبشرات، فالنبوة انقطعت بنبينا عليه الصلاة والسلام، وإنما يبقى لنا المبشرات في الرؤيا الصالحة. قال: [(والرؤيا ثلاثة)] أي: ثلاثة أنواع [(فالرؤيا الصالحة بشرى من الله، ورؤيا تحزين من الشيطان)] يعني: الحلم السيئ أو الرؤية السيئة من الشيطان تصيبك بالحزن والهم والغم، [(ورؤيا مما يحدث المرء نفسه)] أي: أنها ليست من المبشرات ولا هي رؤيا سوء من الشيطان، إنما يرى المرء في منامه أنه يلوم نفسه، أو يحدث نفسه بحديث، أو يأمر نفسه بأمر، أو ينهاها عن نهي، أو يوبّخ نفسه أو غير ذلك. قال: [(فإن رأى أحدكم ما يكره)] وهو من الشيطان [(فليقم فليصل)] أي: فليصل ركعتين. وهذا الشرط السادس. ولا بد من الوضوء فهو عبادة مستقلة عن الصلاة، ومع استقلال الوضوء عن الصلاة إلا أنه شرط في صحة الصلاة، ولا تعلق له بالصلاة، ولذلك فإن الشرع رتّب على الوضوء ثواباً معيناً ورتب على الصلاة ثواباً آخر، فهذا يدل على أن الوضوء عبادة مستقلة. ولا تلزمك الصلاة إلا إذا حضر الوقت، لكنك إن صليت العشاء وتوضأت بعدها فلا تلزمك صلاة، ولو كان الوضوء مع الصلاة عبادة واحدة فلا يصح منك الوضوء إلا إذا صليت، لكن هذا لا يلزمك ولست مكلفاً به. قال: [(فإن رأى أحدكم ما يكره فليقم فليصل، ولا يحدث بها الناس)] أي: بالرؤيا، أو الصلاة، ففي اللغة العربية أن الضمير يعود على أقرب مذكور، وأقرب مذكور في النص هو الصلاة، والمعنى: ولا يحدث بهذه الصلاة الناس. أي: أنه يصلي صلاة سرية، فيقوم يصلي ركعتين لله عز وجل بإخلاص وتوجه لله، وهذا الكلام مقبول، وهذا النص يحتمله. والقول الثاني: الرؤيا أي: ولا يحدث بهذه الرؤيا السوء الناس، حتى لا تضره. وحمل الإطلاق هنا على ما جاء مقيداً في الروايات السابقة، وهذا الكلام وجيه. والرأي الأول وهو: ولا يحدث بالصلاة الناس. هذا الرأي لم أقرأه لأحد وإنما هذا أخرجته من عند نفسي، فإن شئت أن تأخذه لنفسك فلك ذلك وإلا فأنا أقول النص يحتمله وإن لم أطّلع عليه لأحد من الناس، والذي يترجّح لدي هو مذهب العلماء، وهو أن الضمير يعود على الرؤيا.

معنى قوله: (وأحب القيد وأكره الغل)

معنى قوله: (وأحب القيد وأكره الغل) قال: [(وأحب القيد وأكره الغُل، والقيد ثبات في الدين)]. إما أن يكون هذا الكلام مرفوعاً وإما أن يكون موقوفاً. أي: أن هذه الرواية مدرجة، وقد يكون هذا من كلام النبي عليه الصلاة والسلام. والمسألة محل نزاع، والراجح أنه كلامه عليه الصلاة والسلام. والقيد دائماً يكون في القدم، والغُل يكون إما في اليد وإما في العُنق، وفي الغالب يكون بربط اليد في العنق، قال تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} [الإسراء:29] يعني: مربوطة. فالنبي عليه الصلاة والسلام يحب القيد، يحب أن يرى رؤيا أنه مُقيد من قدمه؛ لأن القيد ثبات في الدين. أي أنك إذا كنت في مجلس علم وأردت لتقوم تجد نفسك مربوطاً، تريد أن تنصرف من مجلس العلم لكن الله تعالى أراد بك أن تثبت في طريق الطلب، ورأيت في نومك أنك مقيد من قدمك في مكان مجلس العلم، أو مجلس الذكر، أو مجلس يؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، بخلاف الغُل، فإنه يدل على البخل والشح وغير ذلك، ولذلك اليهود عليهم لعنة الله سبوا الله تبارك وتعالى فقالوا: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} [المائدة:64]. [قال: فلا أدري هو في الحديث أم قاله ابن سيرين].

شرح حديث: (رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة)

شرح حديث: (رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة) [وحدثني محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن أيوب بهذا الإسناد، وقال في الحديث: قال أبو هريرة: فيعجبني القيد وأكره الغل، والقيد ثبات في الدين. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة)]. ورد أنها جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، وورد أنها جزء من خمسة وأربعين، وورد أنها جزء من سبعين من رواية عبد الله بن عمر، وغير ذلك. قال القاضي عياض: (أشار الطبري إلى أن هذا الاختلاف راجع إلى اختلاف حال الرائي، فالمؤمن الصالح تكون رؤياه جزءاً من ستة وأربعين جزءاً، والفاسق جزءاً من سبعين جزءاً على اختلاف درجة إيمان الرائي).

باب لا يخبر بتلعب الشيطان به في المنام

باب لا يخبر بتلعب الشيطان به في المنام (باب: لا يخبر بتلعّب الشيطان به في المنام). أي: إذا رأى أحدنا شيئاً يكرهه فإنما هو من الشيطان، فلا يخبر أحداً به؛ لأن هذا من إخبار الغير بتلعّب الشيطان. [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث وحدثنا ابن رمح أخبرنا ليث عن أبي الزبير عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لأعرابي جاءه فقال: (إني حلمت أن رأسي قُطع فأنا أتّبعه)] أي أنني رأيت في الرؤيا أن رأسي قُطع وأنا أجري خلفه أتبعه. [(فزجره النبي صلى الله عليه وسلم وقال: لا تخبر بتلعب الشيطان بك في المنام)] أي: أن هذا من الشيطان فلا تخبرن به أحداً. وفي رواية أبي سفيان عن جابر قال: [(جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله رأيت في المنام كأن رأسي ضُرب فتدحرج، فاشتددت على أثره)] أي: وأنا أعدو خلفه أطلبه. [فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأعرابي: (لا تحدث الناس بتلعّب الشيطان بك في منامك)]. لكن لا بأس أن يحدث العالم كما حدث النبي صلى الله عليه وسلم. [وقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بعد يخطب فقال: (لا يحدثن أحدكم بتلعّب الشيطان به في منامه). وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو سعيد الأشج قالا: حدثنا وكيع -أي ابن الجراح العتكي الكوفي - عن الأعمش وهو سليمان بن مهران الكوفي عن أبي سفيان طلحة بن نافع عن جابر قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله رأيت في المنام كأن رأسي قُطع. قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إذا لعب الشيطان بأحدكم في منامه فلا يحدث به الناس). وفي رواية أبي بكر: (إذا لُعب بأحدكم ولم يذكر الشيطان)]، قوله: (إذا لُعب) مبني للمجهول، وفاعله مسمى في الحديث الآخر وهو الشيطان. يعني: إذا لعب الشيطان بأحدكم فلا يحدث به الناس. يقول الإمام النووي: (قال المازري: يُحتمل أن النبي عليه الصلاة والسلام علم أن منامه هذا من أضغاث الأحلام -وهي التخاريف- بوحي أو بدلالة من المنام دلّته على ذلك، أو على أنه من المكروه الذي هو من تحزين الشيطان. وأما العابرون الذين يعبرون ويفسّرون الرؤى والأحلام فيتكلمون في كتبهم على قطع الرأس ويجعلونه دلالة على مفارقة الرائي ما هو فيه من النعم). ففي تفسير الأحلام مثلاً لـ ابن سيرين يفسر قطع الرأس بمعنى أنه يزول عنك النعيم الذي أنت فيه.

كتاب الشعر - حكم الشعر والأناشيد والنرد

شرح صحيح مسلم - كتاب الشعر - حكم الشعر والأناشيد والنرد الكلام إما منظوم أو منثور، وكل منظوم في العادة أفضل مما يوازيه من المنثور، والشعر كما كانت له مكانته عند العرب في جاهليتهم كانت له مكانته في الإسلام، إلا أن الإسلام هذب أغراضه واستعمله سلاحاً للدفاع عن الدين، والذب عن الملة.

كتاب الشعر

كتاب الشعر الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وبعد: فقد اختلف الناس في الشعر، فمنهم الذام له مطلقاً، ومنهم المادح له المكثر منه مطلقاً. والصواب: الاعتدال بين الأمرين، فما كان منه حسن ويدعو إلى مكارم الأخلاق ويبين مسائل التوحيد والعقيدة فلا شك أنه ممدوح وإن كثر، وما كان يدعو إلى الرذيلة والهجاء لأهل الإيمان وغير ذلك فلا شك أن هذا مذموم كل الذم.

شرح حديث الشريد بن سويد في طلب النبي صلى الله عليه وسلم منه إنشاده شعر أمية بن أبي الصلت

شرح حديث الشريد بن سويد في طلب النبي صلى الله عليه وسلم منه إنشاده شعر أمية بن أبي الصلت قال المصنف رحمه الله: [حدثنا عمرو الناقد وابن أبي عمر -وهو محمد بن يحيى العدني نزيل مكة- كلاهما عن ابن عيينة -أي: أن كلاً من عمرو وابن أبي عمر يروي عن ابن عيينة، وهو سفيان بن عيينة أبو محمد المكي المدني - قال: قال ابن أبي عمر: حدثنا سفيان -يعني: سفيان بن عيينة - عن إبراهيم بن ميسرة] وهو من الطائف، نزل مكة واستقر بها، فتلقى عنه سفيان بن عيينة. قال: [عن عمرو بن الشريد]. وهو أبو الوليد الثقفي الطائفي، من ثقيف، من الطائف، وقبيلة ثقيف كلها كانت تسكن الطائف، فكل من كان ثقفياً فهو طائفي إلا ما ندر. قال: عن عمرو بن الشريد عن أبيه -وهو الشريد بن سويد رضي الله عنه شهد بيعة الرضوان- قال: (ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً)]. أي: ركبت خلفه على الدابة. وهذا يدل على جواز أن يركب على الدابة اثنان أو أكثر أياً كانت هذه الدابة: حماراً بغلاً فرساً دراجة أو غير ذلك؛ لأن بعض الناس يتحرج أن يركب خلف أخيه على الدابة ويقول: المماسة إما تفيد الكراهة أو التحريم، وهذا كلام في غاية النكارة والبعد، فقد قام الدليل على جواز ذلك وفعله من هو خير مني ومنك، وهو النبي عليه الصلاة والسلام، فقد أردف خلفه قثم بن العباس، وعبد الله بن العباس، والفضل بن العباس، ومعاذ بن جبل، وأبا ذر، والشريد بن سويد، وأسامة بن زيد، ووالده زيداً، وبلال بن رباح، وأنس بن مالك وغيرهم كثير جداً، ولا فرق بين الدراجة وبين الحمار الذي سماه النبي عليه الصلاة والسلام (يعفور)، والذي يفرق إنما يفرق بغير دليل، والذي يحرم أو يكره إنما يحرم أو يكره كذلك بغير دليل، والأصل في ذلك الجواز. ولذلك لفت نظر ابن منده كثرة إرداف النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه خاصة من الصغار، فصنف رسالة أسماها: (الأرداف)، ويمكن أن تقرأ: (الإرداف)، فسواء هذا أو ذاك، فقد جمع ابن منده في هذه الرسالة العظيمة جداً التي بلغت حوالي أربعين نصاً وزيادة جل من أردفهم النبي عليه الصلاة والسلام خلفه على الدابة، وأحاديثهم التي دارت في حال الإرداف، وهذا يدل ضرورة على أهمية هذا الأمر والاعتناء به، وحرص السلف على فعل ذلك، بل هو باب من أبواب الرحمة بالنسبة للصغار، وباب واسع جداً من أبواب الملاطفة للكبير، وتصور أن عظيماً يأخذ وراءه من هو أقل منه عظمة، وأن كبيراً يأخذ خلفه من هو أقل منه كِبَراً في القدر أو في السن، فهذا معاذ بن جبل أردفه النبي عليه الصلاة والسلام خلفه على الدابة وقال: (يا معاذ بن جبل! أتدري ما حق الله على العبيد؟ قلت: الله ورسوله أعلم). وذكر الحديث بطوله. فتصور أي شرف لـ معاذ بن جبل أن يقول: أردفني النبي صلى الله عليه وسلم خلفه على الدابة. ففيه باب من أبواب الملاطفة ومن أبواب الموادعة، وهو عظيم جداً في تأليف القلوب. وهذه الرسالة، أعني: (الإرداف)، قد حققتها منذ اثني عشر عاماً ولم تر النور إلى الآن، ولعل من استلمها مني يمن علينا قريباً بطبعها. قال: ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت؟)]. أي: هل تحفظ شيئاً يا شريد من شعر أمية بن أبي الصلت؟ [قلت: نعم. قال: (هيه)]. أي: هات، أو اقرأ، أو اقرض. وقرض الشعر أولى من قراءته، لكن لا يقال: اقرض إلا لمن قرض الشعر نفسه، أما من حفظه فيقال: حافظ أو قارئ أو غير ذلك. و (هيه) بكسر الهاء وإسكان الياء وكسر الهاء الثانية، ومعناها: هات ما عندك. [(قال: فأنشدته بيتاً. فقال: هيه -أي: زد- ثم أنشدته بيتاً. فقال: هيه. حتى أنشدته مائة بيت). قال: وحدثنيه زهير بن حرب - أبو خيثمة النسائي نزيل بغداد- وأحمد بن عبدة جميعاً عن ابن عيينة -يعني: كلاهما يروي عن سفيان - عن إبراهيم بن ميسرة، عن عمرو بن الشريد أو يعقوب بن عاصم]. أي: أن إبراهيم بن ميسرة إما أن يكون روى عن عمرو بن الشريد أو عن يعقوب بن عاصم ولا يضر، والذي يترجح أنه روى عن عمرو بن الشريد؛ لأن معظم الروايات إنما ذكرت عمرو ولم تذكر يعقوب بن عاصم. [قال: عن الشريد قال: (أردفني رسول

شرح حديث أبي هريرة: (أشعر كلمة تكلمت بها العرب كلمة لبيد)

شرح حديث أبي هريرة: (أشعر كلمة تكلمت بها العرب كلمة لبيد) قال: [حدثني أبو جعفر -وهو محمد بن الصباح - وعلي بن حجر السعدي جميعاً عن شريك، قال ابن حجر: أخبرنا شريك، عن عبد الملك بن عمير، عن أبي سلمة عن أبي هريرة]. وأبو سلمة: هو ابن عبد الرحمن بن عوف، أبوه صحابي كبير رضي الله عنه وعن أبيه. [قال أبو سلمة أي: ابن عبد الرحمن بن عوف الزهري عن أبي هريرة رضي الله عنه]. وأبو هريرة نجم وعلم من أعلام الصحابة مع قلة صحبته للنبي عليه الصلاة والسلام، فإنه لم يصحبه إلا أربع سنوات؛ لأن أبا هريرة أسلم في العام السابع من الهجرة، وأتى من بلاد دوس باليمن واستقر بالمدينة، بل دخل أبو هريرة المدينة والنبي عليه الصلاة والسلام راجع من غزوة خيبر، فلزمه أربع سنوات أو أقل من ذلك، لكنه لزمه على ملئ بطنه أو على شبعه، ولذلك قال أبو هريرة رضي الله عنه: إنما شغل إخواننا من الأنصار زراعتهم وشغل إخواننا المهاجرون تجارتهم ولم يشغلني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شاغل، وإنما لزمته على ملئ بطني. فضلاً أن النبي عليه الصلاة والسلام قد دعا له. وقد أسلم أبو هريرة قبل أمه، وكانت أمه تحاربه في دينه وإسلامه، فلما جاء أبو هريرة إلى النبي عليه الصلاة والسلام في المدينة وجده بخيبر، فانطلق من المدينة إلى خيبر، ووجدتهم قافلون إلى المدينة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (مرحباً بـ أبي هريرة، فرحب بـ أبي هريرة رضي الله عنه. وقال: يا أبا هريرة! ألك عندنا حاجة؟ قال: يا رسول الله! ادع الله لأمي. قال النبي عليه الصلاة والسلام: اللهم حبب أبا هريرة إلى المؤمنين وحبب المؤمنين إلى أبي هريرة واهد أمه). فانطلق أبو هريرة إلى أمه فرحاً يبكي بهذا الدعاء، وكانت حينئذ قد أسلمت في وقت حضور الدعوة. ولما طرق الباب أبو هريرة قالت: من؟ قال: ولدك. قالت: انتظر حتى أتم وضوئي. فأسلمت ببركة دعوة النبي عليه الصلاة والسلام، وأتى بها أبو هريرة إلى النبي عليه الصلاة والسلام حتى تشهد صحبته، وحتى يحصل لها شرف الصحبة. ولما رجع أبو هريرة إلى النبي عليه الصلاة والسلام رجع باكياً؛ من فرح ما وجد في أمه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (من يبسط رداءه فأدعو له فلا ينسى شيئاً بعده قط، فقال أبو هريرة: فكنت أول من بسط، فبسطت ردائي فدعا لي النبي عليه الصلاة والسلام: ألا أنسى شيئاً من العلم قط. قال: اضمم إليك ثوبك يا أبا هريرة! فضممته. قال: فما نسيت شيئاً من العلم قط) فهذه مؤهلات أو بعض مؤهلات أبي هريرة رضي الله عنه وهو غصة في حلوق الملاحدة والزنادقة، وإنما يسعون سعياً حثيثاً للطعن في أبي هريرة، وفي حقيقة الأمر هم يقصدون الطعن في دين الله عز وجل، وإنما اتخذوا أبا هريرة بالذات قنطرة للطعن في دين الله عز وجل؛ لأنهم يعلمون أن الثقة إذا زالت عن أبي هريرة زالت الثقة بمروياته كذلك، وأبو هريرة من المكثرين، بل هو أكثر من روى السنة على الإطلاق، فهدْمُ أبي هريرة هو هدم لركن ركين، وأصول عظيمة من أصول ديننا، وهيهات هيهات! فإن هذا هو دين الله عز وجل، وهو الذي يدافع عنه كما وعد: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38]. وأشهر الأقوال كما رجح ابن أبي حاتم ومن قبله أبوه: أن أبا هريرة اختلف في اسمه على نحو من ثلاثين اسماً، والراجح أنه: عبد الرحمن بن صخر الدوسي، وإنما نسي الناس اسمه لغلبة الكنية عليه، وهي أبو هريرة. وسبب تكنيته بذلك أنه كان ينام في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام مع أهل الصفة من المهاجرين؛ لأنه كان فقيراً، وكانت هرة تداعبه وتلاعبه، وكذلك كان يداعبها ويلاعبها، فلما رأى ذلك النبي عليه الصلاة والسلام قال: (أنت أبو هريرة). وهريرة: تصغير هرة. والهرة: هي القطة. والنبي عليه الصلاة والسلام كان يفعل ذلك ببعض أصحابه. ومن ذلك: أنه دخل المسجد فوجد علي بن أبي طالب رضي الله عنه نائماً على التراب في المسجد، فكان يكنيه بـ أبي تراب، مع أن كنية علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أبو الحسن، ولكن لما غلبت عليه صفة وهيئة وحال معين أطلقها النبي عليه الصلاة والسلام عليه من باب المداعبة والملاطفة معه رضي الله عنه. قال: [عن

شرح حديث: (أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد)

شرح حديث: (أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد) قال: [وحدثني محمد بن حاتم بن ميمون، حدثنا ابن مهدي، عن سفيان -وهو ابن عيينة - عن عبد الملك بن عمير، حدثنا أبو سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل. وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم)]. يعني: هذا في وجه آخر، إذ إنه تكلم في حديث عن أمية، ثم تكلم في حديث آخر عن لبيد، ثم جمع بينهما في حديث واحد.

شرح حديث: (أصدق بيت قاله الشاعر: (ألا كل شيء)

شرح حديث: (أصدق بيت قاله الشاعر: (ألا كل شيء) قال: [وحدثني ابن أبي عمر، حدثنا سفيان -وهو ابن عيينة - عن زائدة -وهو ابن قدامة - عن عبد الملك بن عمير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أصدق بيت قاله الشاعر: ألا كل شيء ما خلا الله باطل. وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم)].

شرح حديث: (لأن يمتلئ جوف الرجل قيحا يريه خير من أن يمتلئ شعرا)

شرح حديث: (لأن يمتلئ جوف الرجل قيحاً يريه خير من أن يمتلئ شعراً) قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا حفص -وهو ابن غياث - وأبو معاوية -وهو محمد بن خازم الضرير الكوفي - وحدثنا أبو كريب -وهو محمد بن العلاء الهمداني الكوفي - حدثنا أبو معاوية، كلاهما عن الأعمش]. (وكلاهما) تعود على حفص وأبي معاوية؛ لأنه في الإسناد الأول جمع بين حفص وأبي معاوية. وفي الإسناد الثاني ذكر أبا معاوية، إذاً: أبو معاوية مكرر في الإسنادين بزيادة حفص، وعليه فـ حفص وأبو معاوية كلاهما عن الأعمش، والأعمش هو سليمان بن مهران الكوفي. قال: [وحدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا وكيع -وهو ابن جراح العتكي كوفي- حدثنا الأعمش، عن أبي صالح]. إذاً: الثلاثة: حفص بن غياث، وأبو معاوية الضرير، ووكيع يروون عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، وأبو صالح: هو الملقب بـ السمان، وهو أبو صالح السمان ذكوان المدني، واسمه ذكوان وهو مدني، ولقب بـ السمان؛ لأنه كان يجلب السمن والزيت من المدينة ويبيعها في الكوفة، فلقب بـ السمان لصناعة السمن أو تجارة السمن. قال: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لأن يمتلئ جوف الرجل قيحاً يريه، خير من أن يمتلئ شعراً). قالا أبو بكر بن أبي شيبة: إلا أن حفصاً لم يقل: يريه]. وفي الإسناد الثاني، وهو إسناد سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً يريه، خير من أن يمتلئ شعراً).

شرح حديث: (خذوا الشيطان، لأن يمتلئ جوف رجل قيحا)

شرح حديث: (خذوا الشيطان، لأن يمتلئ جوف رجل قيحاً) قال: [حدثنا قتيبة بن سعيد الثقفي، حدثنا ليث، عن ابن الهاد]. وابن الهاد هو: عبد الله بن يزيد بن الهاد، هكذا لغة المحدثين، فلا يقولون: ابن الهادي، وإنما يقولون: ابن الهاد، والأفصح قول اللغويين وهو: ابن الهادي، فاللغويون يثبتون الياء دون المحدثين فإنهم لا يثبتونها. قال: [عن يحنس. وهو ابن عبد الله المدني أبو موسى مولى آل الزبير، وهذا الاسم سيئ؛ لأنه مشعر بالنصرانية، وكان من المفترض أن النبي صلى الله عليه وسلم يغيره، أليس كذلك؟! يحنس من الطبقة السابعة. أي: أن بينه وبين النبي عليه الصلاة والسلام لا يقل عن ستين أو سبعين سنة، فكيف يغير النبي عليه الصلاة والسلام اسمه؟! قال: [عن يحنس مولى مصعب بن الزبير، عن أبي سعيد الخدري قال: بينا نحن نسير]. و (بينما) هي مكتوبة (بينا) بغير الميم، لكنها تنطق (بينما) وتكتب (بينا)، والفصيح في الكتابة (بينا)، وإذا قرئت تقرأ (بينما). يعني: في الوقت الذي نحن فيه جلوس حصل كذا وكذا، كقول عمر: (بينا نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ اطلع علينا رجل شديد بياض الثياب) إلى آخر الحديث. والمعنى: في حال جلوسنا مع النبي عليه الصلاة والسلام إذ اطلع علينا رجل، فهذا لبيان الحال. قال: (بينا نحن نسير)، أي: بينما نحن نسير، يعني: في الوقت الذي نسير فيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه مثل أن تقرأ: ثنا فلان، اختصار لكلمة: (حدثنا)، و (أنبا) فلان، اختصار لكلمة: (أنبأنا)، وهذا في لغة التحمل، أما في الأسماء فالأنبا منطقة سكانية. قال: [بينما نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرْج]. والعرْج اسم قرية، وهي من عمل الفرع على نحو ثمانية وسبعين ميلاً من المدينة، والفرْع هذا بجوار القصيم. قال: [بينما نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرج، إذ عرض شاعر ينشد -يعني: خرج علينا رجل وهو ينشد- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خذوا الشيطان -سماه شيطاناً- أو أمسكوا الشيطان)]، ومعنى خذوا: أي: احجزوه وأمسكوه، ثم قال: [(لأن يمتلئ جوف رجل قيحاً، خير له من أن يمتلئ شعراً)]. لفظ الحديث يقول: (من أن يمتلئ): إذاً: فالمذموم الإكثار، والقضية لو كانت متعلقة بالإكثار فالمرء لو أن جوفه ومعدته امتلأت قيحاً خير له من أن تمتلئ شعراً فحسب. ولذلك عندما تنظر لشخص يحب الشعر كثيراً -حتى وإن كان شعراً جيداً- فهو في ليله ونهاره يقرض الشعر ويصنع الشعر ويؤلف الشعر ويأتي إلى العروض ويصنع القوافي وغير ذلك، وهكذا حياته بالليل والنهار، وربما مضت من عمره السنين وهو على حاله هذه، وما فكر يوماً أن يأخذ كتاب الله تبارك الله تعالى بيديه ويقرأ فيه، فهذا الرجل مع اعترافنا بأنه يقصد شعراً جيداً حسناً إلا أنه مذموم، لأنه ألهاه عن ذكر الله، وألهاه عن كلام الله عز وجل، فأتت الكراهة هنا -وأنا أقول: الكراهة فقط- لأن هذا الشعر وإن كان حسناً إلا أنه ألهاه عن كتاب الله وعن سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وإن كان شعراً قبيحاً فهو حرام؛ لأنه أولاً قبيح في ذاته، ولأنه ثانياً -شغله- عن ذكر الله. وأنا قد قلت في أول المحاضرة: إن العلماء اختلفوا في الشعر: فمنهم من مدحه مطلقاً، ومنهم من ذمه مطلقاً، لكن الصواب ما سيأتي.

كلام الإمام النووي في الأحاديث الواردة في الشعر

كلام الإمام النووي في الأحاديث الواردة في الشعر

استحسان النبي صلى الله عليه وسلم لشعر أمية بن أبي الصلت

استحسان النبي صلى الله عليه وسلم لشعر أمية بن أبي الصلت يقول النووي عليه رحمة الله: ومقصود الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم استحسن شعر أمية واستزاد من إنشاده؛ لما فيه من الإقرار بالوحدانية والبعث. التي كانت مفقودة في زمن أمية، وعقيدة الإيمان بالبعث التي فقدها الدهريون قبل مبعث النبي عليه الصلاة والسلام.

جواز إنشاد الشعر الذي لا فحش فيه

جواز إنشاد الشعر الذي لا فحش فيه قال: [وفي هذا الحديث أيضاً: جواز إنشاد الشعر الذي لا فحش فيه، وكذلك سماعه، سواء شعر الجاهلية أو شعر الإسلام. يعني: الشعر الذي يدعو إلى مكارم الأخلاق والفضائل والتوحيد وأركان الإيمان سواء كان شعراً جاهلياً قاله جاهليون كفار، أو قاله مسلمون، وعلى أية حال: (الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها التمسها). حتى إن وجدتها عند كافر فهنيئاً لك. وليس معنى: بأنه كافر أنه لا يتكلم قط بكلام حق، أو أنه لكفره يرد عليه كلما قال، وإنما يرد القول الباطل على من قال به وإن كان مسلماً موحداً، والقول الحق يقبل من قائله ولو كان كافراً. وهذا الكلام أرجو ألا يكون شعارات نرددها، إذ إنه عند الاحتكاك العملي تظهر الترجمة العملية للإيمان بهذه القواعد التي نقر بها في أثناء الدرس، فلو قال لك رجل نصراني وأن تسرق: يا فلان! أليست السرقة حرام؟ قل له: نعم. واشكره على ذلك، ولو قال لك ذلك أيضاً يهودي فاشكره على ذلك؛ لأنه أسدى إليك معروفاً، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من لم يشكر الناس لم يشكر الله)، فشكر الناس من شكر الله عز وجل، أي: جزء من شكر الله عز وجل، ولذلك قال: (من لم يشكر الناس)، ولم يقل: من لم يشكر المسلمين ولا المؤمنين، وإنما الناس، ولفظ (الناس) عام يشمل المسلم والكافر، فمن أدى إليك نصيحة أو معروفاً أو قال حقاً يقبل منه ويحترم ويشكر عليه وإن كان كافراً، وأن من قال قولاً باطلاً يخالف دين الله عز وجل يرد عليه وإن كان إماماً من أئمة المسلمين. وهذا الكلام لا غبار عليه، وأرجو أن يظهر هذا الكلام في ترجمة عملية عند الاحتكاك، ولذلك العلماء كلهم ذموا التعصب كله، إلا التعصب للنبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن التعصب للنبي عليه الصلاة والسلام خير وبركة؛ لأنه معصوم، أما أن يتعصب المرء لمن هو دونه حتى وإن كان من أصحابه رضي الله عنهم أجمعين فلا يصح هذا؛ لأن ما دون النبي عليه الصلاة والسلام يؤخذ من قوله ويرد. لكن من الذي يأخذ من قولهم ومن الذي يرد عليهم؟ أهل العلم؛ حتى لا تظن في نفسك أنه يحق لك أن تعترض على أبي بكر وعمر وعثمان، فإياك أن تظن ذلك، فالذي يأخذ من قول العلماء هم أهل العلم وطلاب العلم النابغين، والذي يرد على العلماء هم أهل العلم وطلاب العلم النابغين، لكيلا يأتي بعد ذلك من لا يقرأ ولا يكتب ولا يحسن أن يصلي ويصوم ويقول: من أبو بكر هذا؟ هو رجل وأنا رجل، من أبو حنيفة؟ من الشافعي؟ لا، بل إنك تستحق أن تعلق برجليك إلى السقف وتضرب على رأسك إلى أن يخرج هذا النتن من عقلك، حتى لا تسول لك نفسك أن كل شخص من حقه أنه يعترض على كل أحد، فهناك أصول علمية، بل إنك بنفسك تقول ذلك. قال: (وفي هذا الحديث منقبة ل لبيد، وإظهار فضله رضي الله عنه).

حكم هجاء النبي صلى الله عليه وسلم

حكم هجاء النبي صلى الله عليه وسلم ثم يتكلم هنا ويقول: (قد أجمع المسلمون على أن الكلمة الواحدة من هجاء النبي صلى الله عليه وسلم موجبة للكفر). وانتبه لهذا الكلام، إذ إن الذي ينقل هذا الإجماع هو النووي رحمه الله تعالى، قال: (قد أجمع المسلمون على أن الكلمة الواحدة من هجاء النبي صلى الله عليه وسلم موجبة للكفر). يعني: من سب النبي صلى الله عليه وسلم فهو كافر. وقد نقل هذا الإجماع ابن المنذر وابن تيمية في الصارم المسلول، وابن حزم في كتابه: الإجماع، ونقله غير واحد؛ أن سب النبي عليه الصلاة والسلام كفر، وسب الدين كفر، وسب الله عز وجل كفر، والإجماع منعقد على هذه الثلاث: أن من سب الله تعالى كفر بلا نزاع ولا استتابة، ومن سب دين الله عز وجل كفر، ومن سب نبي الإسلام أو نبياً من الأنبياء كفر، لكن وقع النزاع في سب الدين، وهذا النزاع ذكره ابن تيمية عليه رحمة الله فقال: من سب الدين -مع استكمال الشروط وانتفاء الموانع- أي: لو أن شخصاً عاقلاً حراً غير مكره سب الدين فإنه يسأل: ماذا تقصد بالسب؟ هل تقصد طريقة أو خلق المسبوب؟ أو أنك تقصد دين الله؟ ولذلك أنا دائماً أقول: من سب دين الله، لا من سب الدين؛ لأن دين الله هو دينه الموجود بين دفتي القرآن الكريم وسنة النبي عليه الصلاة والسلام، فمن سب دين الله الذي هو دين الله المنزل من السماء من عند الله عز وجل على رسوله الكريم بواسطة جبريل، فإنه يكفر بلا خلاف، بل بإجماع أهل العلم. وأما إن ضربك فلان فأردت أن ترد له الصاع بصاع أو بأكثر فسببت له الدين، فقلنا لك: سب الدين كفر ألا تدري ذلك؟ تقول: نعم أنا أدري أن سب دين الله كفر، ولكني ما قصدت دين الله، وإنما قصدت بسبي دين فلان أي: خلق فلان، فإنه في هذه الحالة لا يكفر بل يعزر، ليسب بأي أنواع السب إلا أن يذكر الدين، وإن قصد به الأخلاق أو المسلك أو غير ذلك، لكنه هنا على أية حال لا يكفر ولا يحد فيها حد الردة. قال: (وقد أجمع المسلمون على أن الكلمة الواحدة من هجاء النبي صلى الله عليه وسلم موجبة للكفر. قالوا: بل الصواب: أن المراد أن يكون الشعر غالباً عليه -وهذا في حالة الذم- مستولياً عليه بحيث يشغله عن القرآن وغيره من العلوم الشرعية وذكر الله تعالى، وهذا مذموم من أي شعر كان، حتى وإن كان شعراً إسلامياً).

الانشغال بالأناشيد الإسلامية

الانشغال بالأناشيد الإسلامية وبهذه المناسبة نعرج شيئاً يسيراً على هذه الأناشيد الإسلامية، أولاً: أنا كنت صديقاً حميماً لـ أبي مازن، وكنا نسكن بجوار بعضنا البعض في الأردن سنوات طويلة، وكذلك أبو دجانة، فهم أصدقاء أحماء لي منذ سنوات طويلة، وأنا لا أعني هذان ولا غيرهما، وإنما أتكلم في القضية عموماً، ولكني أسترشد بحال أبي مازن وأبي دجانة، فإنهما كانا يبيتان الليالي الطويلة والأيام الطويلة لا شغل لهما إلا الشعر، فيسألون في كل وادٍ عن شعر جميل يصلح للإنشاد، شعر يصلح للصغار، للنساء، للطلاب المتوسطين وغير ذلك، ويعلمون الصبيان كيف ينشدون هذه القصيدة وغير ذلك. يعني: كان ليلهم ونهارهم شغل بهذه الأناشيد، وفي الحقيقة كنت أمازح القوم، وكلما لقيتهم أقول لهم: قد ثبت في الصحيحين قوله عليه الصلاة والسلام: (لأن يمتلئ) إلى آخر الحديث، وأنا أكتفي بهذا النص، وأقول: إلى آخر الحديث، فكانا يردان علي: قد ثبت في الصحيحين: (ألا كل شيء ما خلا الله باطل)، فهما كانا يحتجان بأحاديث المدح، وأنا كنت أحتج بأحاديث الذم، وكلانا يمازح الآخر بأحاديث الذم، لكن في الحقيقة انشغال إلى أقصى حد! نعم هذان الأخوان من أهل القرآن، ويحفظان القرآن عن ظهر قلب حفظاً جيداً، ولهم حظ فيه يومياً بعد صلاة الفجر. أي: كان لهم ورد يقرءونه قبل أن يخرجوا من المسجد، لكن شغلهم بالشعر كان زائداً جداً.

حكم حفظ اليسير من الشعر

حكم حفظ اليسير من الشعر قال: (فأما إذا كان القرآن والحديث وغيرهما من العلوم الشرعية هو الغالب عليه فلا يضر حفظ اليسير من الشعر مع هذا؛ لأن جوفه ليس ممتلئاً شعراً). أي: أن القضية الآن هي أن جوفك ممتلئ شعراً، لكن ما هو حد هذا الامتلاء؟ حده: إما أن يغلب القرآن والسنة والعلوم الشرعية الشعر، وإما أن يغلب الشعر عليهم، فإذا غلب الشعر على القرآن والسنة والعلوم الشرعية فإنه يعد ملء الجوف، وإذا غلب الآخر لا يعد ممتلئاً بالشعر، وإن كان فيه شعراً يسير فهذا لا يضر، لكن بشرط أن يكون هذا الشعر شعراً يدعو إلى مكارم الأخلاق.

حكم الشعر

حكم الشعر قال: (واستدل بعض العلماء بهذا الحديث على كراهة الشعر مطلقاً قليله وكثيره، وإن كان لا فحش فيه، وتعلقوا بقوله: (خذوا الشيطان). وقال العلماء كافة -يعني: إجماع- هو مباح ما لم يكن فيه فحش ونحوه. قالوا: وهو كلام -أي: الشعر- حسنه حسن وقبيحه قبيح). وهذه تصح أن تكون قاعدة من قواعد أهل السنة والجماعة، إذ إن كل كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح وإن صدر من كافر، أو من أعظم الموحدين. قال: (فقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم الشعر واستنشده وأمر به حسان بن ثابت لما قال له: (قم يا حسان فاهجهم)، أي: رد عليهم هذا الهجاء، وقلة الأدب والتطاول على دين الله ورسوله. قال: (وأنشده أصحابه بحضرته في الأسفار وغيرها، وأنشده الخلفاء والأئمة الصحابة وفضلاء السلف ولم ينكره أحد منهم على إطلاقه، وإنما أنكروا المذموم منه وهو الفحش ونحوه. وأما تسمية هذا الرجل الذي سمعه النبي صلى الله عليه وسلم ينشد شيطاناً فلعله كان كافراً، أو كان الشعر هو الغالب عليه، أو كان شعره هذا من المذموم)، فلابد أن يحمل قوله: (خذوا الشيطان) على هذه التأويلات. قال: (وبالجملة فتسميته شيطاناً إنما هو قضية عين لا يجوز أن تتعدى إلى غيرها)، ومعنى: قضية عين: أي: أن حكمها يتعلق بها ولا يتعداها إلى الغير، وهذا استثناء من قاعدة: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وهي قاعدة أصولية، فإذا كان اللفظ عاماً فهو يصلح لهذا القضية التي ورد من أجلها، وغيرها إذا كانت القضية تشترك مع القضية الأولى في العلة، أما هذه القضية فهي قضية عين، يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا القول متعلق بفلان فقط، ولا يجوز أن تتعداه إلى غيرها، يعني: لا يصح أن نقول لكل من ينشد الشعر: خذوا الشيطان، لكن ستقول لي: إن النبي قال ذلك، نعم النبي قال ذلك، لكن قوله مؤول على ما إذا كان الشعر قبيحاً مذموماً، أو كان يغلب عليه الشعر، أو أن الرجل كان كافراً، حتى لو كان مسلماً فإنها تحمل على أنه كان مسلماً ينشد شعراً مذموماً، ولذلك سماه النبي صلى الله عليه وسلم شيطاناً، وسماه هو دون غيره، ولذلك سمع النبي عليه الصلاة والسلام الكلام المذموم وغير المذموم، سمع الممدوح واستحسنه، كما سمع شعر لبيد وسمع شعر أمية، وأمر حساناً أن يهجو القوم، وأنتم تعلمون أن الهجاء مذموم، لكنه أمره بالهجاء رداً على الهجاء، من باب قول الله عز وجل: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء:148]، فهذا رد للظلم ودفع له، والله تعالى أعلم.

باب تحريم اللعب بالنردشير

باب تحريم اللعب بالنردشير باب: (تحريم اللعب بالنردشير). قول النووي: (باب: تحريم اللعب بالنردشير). أي: أن اللعب بالنردشير حرام، ولم يقل بالكراهة رحمه الله. والنردشير الذي يظهر: أنها الطاولة، وسُلم الثعبان، والضمنة، والشطرنج، لكن الشطرنج أخف. وكلمة (الناردشير) كلمة فارسية معربة. يعني: أن أصل هذه اللعبة أتت من عند أجداد الخميني من فارس. قال: [حدثني زهير بن حرب، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه -وهو بريدة بن حصيب رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لعب بالنردشير، فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه)]. قوله: (فكأنما) الكاف للتشبيه، أي: أن الذي يلعب بالنردشير فكأنما أدخل يده دخولاً ممكناً في لحم خنزير وفي شحمه ودمه. والخنزير محرم باتفاق لم يخالف في ذلك أحد، كما أن التعامل بشحمه أو لحمه أو دمه أمر لا يحل لمسلم أن يفعله، فكذلك اللعب بالنردشير وأخذ النرد بيدك، فإذا أخذت نرداً بيدك فكأنما تأخذ شحم خنزير ودم خنزير، وهذا لما كان حراماً باتفاق فينبغي أن يكون أخذ الزهر واللعب بالنردشير وما في معناه حرام كذلك باتفاق، كالضمنة وسلم الثعبان، وهذه المسائل كلها حرام سواء كان اللعب برهان أم بغير رهان.

كلام النووي في باب اللعب بالنردشير

كلام النووي في باب اللعب بالنردشير قال النووي: (هذا الحديث حجة للشافعي والجمهور في تحريم اللعب بالنرد). وهذا كلام جمهور أهل العلم، فـ النووي ينقل أن هذا مذهب الشافعية باتفاق، وهو كذلك مذهب جماهير العلماء. قال: (وقال أبو إسحاق المروزي من أصحابنا -أي: من الشافعية-: يكره ولا يحرم)، فهذا واحد في مقابل أمة يقول: إنه مكروه، والباقون على تحريمه. قال: (أما الشطرنج فمذهبنا -أي: الشافعية- أنه مكروه ليس بحرام، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه كان ممن يذهب إلى تحريم الشطرنج، وإذا مر بأقوام يلعبونه قال: ما هذه الأصنام التي أنتم لها عاكفون)، يعني: عاكفون عليها كما كان أهل الجاهلية يعكفون على أصنام لهم يعبدونها من دون الله. قال: (وهو مروي -أي: القول بالكراهة- عن جماعة من التابعين، وقال مالك وأحمد: حرام). وتصور عندما تكون المسألة فيها خلاف بين أهل العلم: حرام ومكروه، ما موقفك أنت كمسلم؟ إذا اختلف العلماء في مسألة بين حرام ومكروه، فالاحتياط لدينك هو: (فمن اتقى الشبهات). أليست المسألة عندما يكون فيها خلاف تجدها محل شبهة؟ بلى، فأنت كرجل موحد وتحب الرسول ماذا تعمل؟ (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه)، أي: طلب البراءة الأصلية لدينه وعرضه، ونزّه نفسه عن دنايا الأمور وسفسافها. فالآن عندما يختلف العلماء في قضية ما على حلال أو مكروه أو حرام، فلو عملت هذا الشيء فمن الممكن أن أقع في الحرام، يعني: ممكن أن تكون هذه المسألة حرام عند الله، حتى وإن كنت أعتقد أنها مكروهة؛ لأنها ممكن أن تكون حراماً، فما الذي يضمن لي وممكن أن تكون مكروهة ويمكن أن تكون حلالاً، فالأسلم والأحوط للدين خاصة في زمن انتشرت فيه المعاصي بجميع ألوانها وأشكالها: أن يمتنع المرء عن أدنى ما فيه شبهة. قال: (قال مالك: هو شر من النرد -فـ مالك وأحمد اتفقوا على أن هذا حرام-) أي: أن مالكاً لم يقل بالحرمة فحسب، بل إن حرمته شر من الحرام، مثل أن يقول لك: الدخان حرام، والحشيش حرام، والخمر حرام، لكن الحرمة مختلفة؛ لأن حرمة ما ثبتت حرمته بالقياس بخلاف ما تثبت حرمته بالنص، يعني: الآن النظر إلى المحرمات حرام، النظر إلى الأجنبيات حرام، والزنا بالأجنبيات حرام، فهل حرمة النظر كحرمة الزنا؟ لا، وإن كان الجميع يصدق عليه لفظ الحرام، وكذلك السجائر حرام، والخمر حرام، لكن لا يمكن أن تكون حرمة السجائر كحرمة الخمر، ولا يعني ذلك أنني أخفف من شأن السجائر، فأنا أقول أيضاً: إنها حرام، لكن حرمتها لم تثبت بالنص، وإنما ثبتت بفحوى النص، فلا يوجد نص بعينه يقول: إن الدخان حرام، لكن هناك نصوصاً كثيرة جداً يؤخذ منها ويستنبط منها حرمة الدخان، بخلاف الخمر فإن حرمتها ثابتة بالنص، فالحرام الثابت بالنص يختلف عن الحرام الذي ثبت بفحوى النص أو بإلحاقه بالنص قياساً. والأخ الذي يسأل ويقول: ألعبه أم لا ألعبه؟ لو قلنا له: العبه وليس فيه شيء. يعني: أكثر ما يقال فيه: إنه مكروه كراهة تنزيه، فيقول: يكفي فالشيخ قال لي يجوز، ويقول لامرأته: تعالي حتى أعلمك! ويظل طوال الليل والنهار يلعب مع امرأته، ويؤذن للظهر فيقول: حتى أكمل هذا الدور! ويكمل هذا الدور قبل العصر بنصف ساعة، فيخطف هذا الدور خطفاً ويجلس من أجل دور جديد؛ لأن امرأته عندما تعلمت صارت بارعة، وهو واقف أمامها، فيا ليته لم يعلمها، وكل مرة هي التي تكسب، فيريد أن يخطط ويتكتك جيداً حتى لو أخذ الدور أربع ساعات؛ لكيلا يغلبه أحد. قال مالك: هو شر من النرد، وألهى عن الخير، وقاسوه على النرد وأصحابنا يمنعون القياس، ويقولون: هو دونه، ومعنى: (صبغ يده في لحم الخنزير ودمه) أي: في حال أكله منهما، وهو تشبيه لتحريمه بتحريم أكلهما)، يعني: التشبيه لتحريم النرد بتحريم أكل الخنزير. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

الأسئلة

الأسئلة

حكم محادثة الخاطب لمخطوبته بواسطة التلفون

حكم محادثة الخاطب لمخطوبته بواسطة التلفون Q هل يجوز أن يكلم الخاطب خطيبته بواسطة التلفون وهو غير عاقد عليها؟ A سألت هذا السؤال لشيخنا الألباني عليه رحمة الله فقال: ولا يرسل إليها رسالة. أنا أنقل إليك فتوى الشيخ، واللبيب بالإشارة يفهم.

حكم التسبيح بأنامل اليد اليسرى

حكم التسبيح بأنامل اليد اليسرى Q قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسبح بأنامل اليد اليمنى، فهل يجوز لنا أن نسبح باليدين؟ A على أية حال إذا كان هذا ثابتاً لديك، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسبح بأنامل يده اليمنى، وهو أيضاً ثابت عندي، ولم يثبت أنه سبح بأنامل يده اليسرى قط، وإنما قال ناصحاً لأمته ولأزواجه: (اعقدن التسبيح على أناملكن، أو على الأنامل فإنهن يأتين مستنطقات). والنبي عليه الصلاة والسلام كما ثبت في حديث عائشة وغيره: (كان يحب التيامن في كل شيء، أو التيمن في كل شيء إلا ما كان مستقذراً)، فهذا الحديث إنما خصص الحديث الأول، وهو حديث أم سلمة أنه قال لها: (اعقدن التسبيح على الأنامل). واليد اليمنى واليسرى لها أنامل، لكن حديث عائشة يخصص هذا الحديث بعقد التسبيح على أنامل اليد اليمنى، وفي رواية أصرح من هذا: (اعقدن التسبيح بالميامن)، يعني: على أنامل اليد اليمنى، (فإنهن تأتي مستنطقات)، يعني: تنطق اليد يوم القيامة وتقول: يا رب! كان يسبح بي. أما عقد التسبيح باليد اليسرى فلم يكن من هديه عليه الصلاة والسلام، وخير الهدي هدي محمد عليه الصلاة والسلام، لكن لو فعلتها لا تأثم، لكنك فرطت في باب من أبواب الاتباع الذي أنت مأمور به. ثم كيفية عقد التسبيح على الأنامل اختلف فيها أهل العلم، وذكر هذا الخلاف الشيخ ابن تيمية عليه رحمة الله فقال: الأنامل هي عقدة الأصابع، إذ إن كل أصبع فيه ثلاث عقد، فهل الحديث يحث على عقد التسبيح على كل الأنامل التي هي عقدة الإصبع أم أنها طرف الإصبع؟ شيخ الإسلام ابن تيمية لما ذكر هذا الكلام رجح أن التسبيح يكون على أنملة واحدة من أنامل الإصبع. يعني: تسبح على طرف الأصابع: سبحان الله، سبحان الله، سبحان الله، ثم تأتي بدورة أخرى وهكذا، وقال: اليد فيها خمس أنامل يصدق عليها لفظ الأنامل في الحديث الذي هو جمع: أنملة، فكانت هذه خمس في اليد الواحدة، والخمس إنما هي جمع للواحد، يصدق عليها ما ورد في الحديث الآن. لكن على أية حال أقول: إن الخلاف في هذه القضية خلاف بسيط، فسواء عقدت على كل أنملة أو على جميع الأنامل، يعني: سواء استخدمت أصبعاً واحداً في تسبيحة واحدة، أو في ثلاث تسبيحات فإن هذا أمر لا تأثم فيه.

حكم إعطاء الصدقة لفقراء الأشراف

حكم إعطاء الصدقة لفقراء الأشراف Q هنا جماعة تسمى: الأشراف، يرفعون نسبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل يجوز لهم أخذ الصدقة مع أنهم فقراء؟ A لا يمكن، حتى لو أكلت من تحت رجلك، لكن بشرط أن النسب هذا يثبت فعلاً، فلا تضيع نفسك على نسب وهمي، والآن لو ذهبت إلى دار المحفوظات لكي تخرج نسبك ستعلم أنت ابن من؟ ومن أين أتيت؟ وذاهب إلى أين؟ وستجد الموظف هناك قد اكتسب لونه وصفته من نفس الدفاتر التي يبحث فيها! فيقول لك: أنت تريد أن تكون شريفاً أم ماذا؟! أولاً: تدفع ثلاثمائة جنيه، وهذا بسند رسمي وإذا كنت تريد أن تكون شريفاً؟ فيقول لك: إذاً: هات ألف جنيه، فإن أردت أن يجعلك نبياً فممكن أن تدفع ثلاثة آلاف جنيه ويحضر لك شهادة بأنك نبي! فأنا أريد أن أقول لك: إن معظم الشهادات التي تصدر من دار المحفوظات تصدر برشاوى، وهي مزورة، فأنت لا تجمع على نفسك بلوتين: بلوة أنك تكون شريفاً كذباً، وبلوة أنه في الوقت نفسه أنك ستكون مضطراً أمام هذه الشهادة المزورة ألا تأخذ الصدقات، وبالتالي ستضيع نفسك في الحالتين. أما إذا ثبت فعلاً النسب والشرف فإن الصدقة لا تحل لك، والنبي عليه الصلاة والسلام لما أكل الحسن أو الحسين تمرة أو تفاحة ألقيت على الأرض من شجرة خارج البستان فأخرجها النبي عليه الصلاة والسلام من فمه، وقال: (كخ كخ! إنه لا يحل لنا آل البيت)، وخشي النبي صلى الله عليه وسلم أن تكون هذه من ثمر الصدقة، أو من فاكهة الصدقة، خشي وهو غير متأكد هل هي من الصدقة أم لا؟ وفي الصحيحين: (نحن آل البيت لا تحل لنا الصدقة)، يعني: صدقات الناس: (وإنما هي أوساخ الناس).

كتاب التوبة - الحض على التوبة والفرح بها

شرح صحيح مسلم - كتاب التوبة - الحض على التوبة والفرح بها من طبيعة البشر الخطأ والوقوع في الذنب والمعصية، ومن رحمة الله عز وجل أن فتح لهم باب التوبة والرجوع إليه، وقد وردت كثير من النصوص القرآنية والنبوية في الحض على التوبة والرجوع إلى الله، وبيان أن الله عز وجل يفرح بتوبة عبده من أحدنا فقد راحلته في الصحراء وعليها متاعه ثم عاد ووجدها.

تعريف التوبة وشروطها

تعريف التوبة وشروطها إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فأصل التوبة في اللغة: الرجوع، يقال: فلان تاب بالتاء المثناة من فوق، أو بالمثلثة -أي: رجع وعاد. وفي اصطلاح الفقهاء أو العلماء: الرجوع والانخلاع والانفلات تماما ًمن الذنب. وقد سبق في كتاب الإيمان أن تكلم الإمام النووي عن التوبة فقال: إذا كانت التوبة بين العبد وبين الله عز وجل فلها ثلاثة أركان، وزاد ركناً رابعاً، وذلك إذا كانت بين العبد والعباد وهو: رد المظالم إلى أصحابها.

الشرط الأول: الإقلاع عن الذنب

الشرط الأول: الإقلاع عن الذنب ومعنى كلمة (ركن): أي: أنه داخل في ماهية وأساس الشيء، بل لا يقوم هذا الشيء إلا به، بخلاف الشرط، فإنه خارج عن ماهية الشيء وليس داخلاً فيه. فمثلاً: الوضوء شرط في صحة الصلاة، وهو غير داخل في ماهية الصلاة، فمن توضأ لا يلزمه لزوماً أكيداً أن يصلي، فيمكن أن يتوضأ المرء ولا يصلي، لكن لا يمكن أن يصلي إلا بوضوء، فالوضوء عبادة مستقلة، والصلاة عبادة أخرى، والله تعالى قد جعل الوضوء شرطاً في صحة الصلاة. مثال آخر: الركوع، وهو داخل في ماهية وأساس الشيء، فهو ركن من أركان الصلاة، فلو كان المرء متوضئاً ودخل في الصلاة، ثم ترك ركناً متعمداً أو ناسياً، لزمه أن يجبر هذا الركن بالإتيان بركعة أخرى، ولا يجبر بالسجود للسهو، وكذلك إن ترك السجود. وهذا هو الفرق بين الشرط والركن، فالركن داخل في ماهية الشيء، والشرط خارج عن ماهية الشيء، فإذا قلنا: إن من أركان التوبة: الإقلاع عن الذنب، فإن الذي يدعي أنه قد أقلع عن الذنب، لكن لا يزال مصراً وقائماً على نفس الذنب فإنه ليس بتائب توبة حقيقية، فربما يتوب بعض الوقت، لكنه يرجع إلى المعصية مرة أخرى؛ لأنه لم يتب توبة نصوحاً، والتوبة النصوح: هي التوبة الصادقة الخالصة التي انعقد قلب المرء على الانسلاخ من الذنب انسلاخاً يؤدي إلى قلب هذا الذنب حسنات عند الله عز وجل؛ لعزمه وصدقه الأكيد. فلو أن رجلاً ابتلي بكبيرة السرقة، أو كبيرة الزنا، أو شرب الخمر، وهو يقول: يا رب! تبت إليك من هذا الذنب، لكن سرعان ما يعود إلى نفس الذنب مرة أخرى، فهذا إما أنه لم يكن صادقاً ومخلصاً في توبته، وإما أن شهوته غلبته فعاد إلى نفس الذنب. ففي الحالة الأولى: أنه لم يكن صادقاً ولا مخلصاً، فلا يكون هذا العبد تائباً على الحقيقة، وفي الحالة الثانية: أنه بالفعل قد أقبل على ربه، وامتلأت أحشاؤه وصدره حباً لله ولكتابه ولسنة نبيه، فهو صادق وعازم على ألا يرجع إلى الذنب، لكن شهوته تغلبه فيقع في الذنب مرة أخرى، فهذه الحالة بلا شك أنها خير وأفضل بكثير جداً، بل لا مقارنة بينها وبين الحالة الأولى، فإن الله تعالى يتوب على هذا العبد، وإن عاد إلى الذنب ثم تاب، حتى لو تكرر ذلك منه مرات ومرات، وهذا فضل الله عز وجل يؤتيه من يشاء. الإقلاع عن الذنب يستلزم استجماع الحواس، أي: أنه لا يجزئك أن تقول بلسانك دون تدبر ولا تفكر ولا تعقل ولا عقد القلب على الإقلاع عن الذنب: يا رب! تبت إليك، أو يا رب! أستغفرك وأتوب إليك، فإن هذا لا يخدم العبد، وإنما الذي يخدمه أن تجتمع حواسه على الإقلاع عن الذنب، ويعقد قلبه على ذلك. والذنب إذا تكلمنا عنه فإنما نتكلم عن أنفسنا، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (كل بني آدم خطاء - أي: مذنب- وخير الخطائين التوابون)، فالذنب لا بد من الوقوع فيه؛ لأن ما دون النبي عليه الصلاة والسلام غير معصوم من الوقوع في الكبائر، والصغائر من باب أولى. وقد تضافرت وتظاهرت على ذلك الأحاديث المبينة بأن العباد لا بد أن يذنبوا، ولو لم يذنبوا لأخذهم الله واستبدلهم بغيرهم، وتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يذنبون فيتوبون)، فالله تعالى يحب التوبة والأوبة والرجوع والإنابة إليه، ولذلك الأنبياء صلوات ربي وسلامه عليهم كانوا أكثر الناس استغفاراً وتوبة وإنابة وخضوعاً وذلاً، مع أنهم لم يأتوا من الأعمال ما يستوجب ذلك كله، لكنهم كانوا يعدون اللمم في حق أنفسهم أعظم من الكبائر، فكانوا يقدمون بين يدي دعائهم من التضرع والخشوع والذل ما لا يقدمه من هو دونهم في المنزلة والفضل -وإن ارتكب الكبائر- وهذا بلا شك من باب الاقتداء والأسوة بالأنبياء والمرسلين.

الشرط الثاني: الندم على فعل المعصية

الشرط الثاني: الندم على فعل المعصية الشرط الثاني: الندم على فعل المعصية، أي: أن يتفطر ويتصدع قلبه ندماً وحسرة على ما بدر منه، إذ لا يكفي في التوبة أن يقلع عن المعصية فقط، بل يندم على المعصية. وكثير من الإخوة بعد هدايته ومعرفته للطريق الصحيح يتملح ويتفكه بذكر معاصيه السابقة، فيقول: أنا كنت أفعل كذا وكذا ويضحك، إن هذا لا بد أن يعلم أنه بعد هدايته ومعرفته للطريق الحق، أنه قد سلك طريق التوبة من هذا الذنب، أو من هذه الذنوب كلها، فإذا ذكرها يلزمه أن يتصدع قلبه على ما كان منه، لا أن يذكرها على سبيل التفكه والتملح، بل هذا ذنب جديد يرتكبه العبد، فبعد أن عصى فرح بمعصيته، وهذا بلاء كبير جداً.

الشرط الثالث: العزم على ألا يعود للذنب

الشرط الثالث: العزم على ألا يعود للذنب الشرط الثالث: العزم على ألا يعود للذنب مرة أخرى، أي: أن يعزم ويعقد قلبه على ألا يرتكب مثل هذا الذنب مرة أخرى، فإن كان سارقاً عزم على ألا يسرق في المستقبل مهما بلغ به ضيق العيش؛ فإنه إن عاد للسرقة مرة أخرى فإن توبته غير صادقة.

الشرط الرابع: رد المظالم إلى أهلها

الشرط الرابع: رد المظالم إلى أهلها الشرط الرابع: رد المظالم إلى أهلها إن كانت المعصية متعلقة بحق آدمي. ثم إن من الذنوب التي بين العباد ما يمكن رده ومنها ما لا يمكن رده: فالذي يمكن رده مثل: سرقة المال، أو أي متاع أو منقولات أو غير ذلك، فهذا بلا شك أن دليل صدق التوبة: إرجاع الحق إلى صاحبه، وإلا فلا يكون صادقاً في توبته، وهذا مشروط بالإمكان، فلو أن شخصاً فقيراً لا مال له البتة، لكنه ابتلي ببلية شرب الخمر، فهو يسرق كثيراً ليشبع شهوته، وبعد أن تاب من السكر لا حاجة له إلى سرقة المال؛ لأنه كان يسرق لأجل الشرب، فلما تاب من الشرب تاب معها من السرقة، فإذا كان يسرق في اليوم -مثلاً- مائة جنيه لمدة سنوات عديدة، ثم حسبها فأصبح عليه عدة آلاف، فالغالب أنه لا يمكنه أن يؤدي هذا المال إلى صاحبه، لكن بإمكانه أن يستسمح من صاحبه، وينبغي أن يكون صاحب المال كريماً، فلا يرد هذا الطالب، أما إذا كان قادراً على رد المال فلا يجزئه طلب العفو، وإنما يلزمه لزوماً أكيداً أن يدفع الحق إلى صاحبه، إلا أن يعفو صاحبه بغير طلب منه. لكن لو أن إنساناً في أيام شقوته وتعاسته كان يزني، ثم تاب من هذه البلية، فكيف يرد المظالم إلى أهلها؟ هل يذهب -مثلاً- إلى من زنى بامرأته أو أخته أو أمه ويقول له: هذه أمي، أو هذه ابنتي، أو هذه أختي ازن بها!! أم هل يدفع تعويضاً، أو دية لذلك؟! إن هذا باب من أبواب المظالم التي بين العباد التي لا يمكن ردها قط، وإنما يتوقف ذلك على إقامة الحد على هذا العبد، أو أن يتوب إلى الله عز وجل بغير إقامة الحد عليه، فيتوب الله عز وجل عليه أو يعذبه؛ لأن الله سبحانه وتعالى له أن يفعل ما يشاء، وهذه الكبائر إذا تاب منها العبد تاب الله عليه، وإذا أقيم عليه الحد كان في ذلك كفارة له، وإذا مات مصراً على الذنب فهو في مشيئة الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، إلا إذا استحل الذنب مع قيام الحجة عليه، فإنه يكفر بذلك.

الامتناع عن مقارفة الذنب لسبب من الأسباب

الامتناع عن مقارفة الذنب لسبب من الأسباب قد يقلع الشخص عن الذنب لا ندماً، لكن لعلة تمنعه من مقارفة هذا الذنب، كإنسان كان يسرق، ثم أصيب بحادث فكسرت ذراعه أو رجله، فترك السرقة بسبب ما حصل له، لا أنه أقلع عن السرقة ندماً وحسرة وتوبة، وإنما منعه العذر من الذنب أو الوقوع فيه. كذلك: إنسان كان يزني، لكنه لما كبر سنه ورق عظمه صار عاجزاً عن وصال النساء وعن جماعهن، فترك الزنا لذلك. أيضاً: إنسان كان يتعاطى التدخين، وهو كبيرة من الكبائر، وبعضهم عده صغيرة، وعلى أي حال فإنه في الغالب أن من يدخن يقع في كبيرة؛ لأن أهل العلم قد أجمعوا على أن الصغيرة مع الإصرار تعد كبيرة، والإصرار: هو الإقامة على الذنب. كذلك لو أن إنساناً سافر إلى محبوبته ومعشوقته في مكان آخر، فهو قد هم بالذنب وفكر فيه، واتخذ له الخطوات العملية للوقوع فيه، لكن حصل أن انقلبت السيارة، فتأخر عن موعد اللقاء بمعشوقته، فانصرفت وانصرف هو راجعاً إلى بيته، فهذا كمن زنى، لكن الفرق بينه وبين الزنا الحقيقي: أنه لا يقام عليه الحد في هذه الحالة، لكنهما في الإثم سواء، مع أنه في أثناء الطريق إلى معشوقته لو فكر في عذاب الله عز وجل، فخاف ووجل وخشع، ثم رجع إلى بيته تائباً نادماً، عازماً على ألا يقرب هذه المرأة ولا غيرها، فإن ذلك لا يستوي مع من ارتكب جريمة الزنا حقيقة، وإنما قد يتوب الله عليه.

حكم التوبة عند أهل السنة

حكم التوبة عند أهل السنة اتفق أهل العلم على أن التوبة من جميع المعاصي واجبة، وهذا الوجوب أظن أنه يتفق مع العقل فضلاً عن النقل. ولذلك يقول أهل العلم: إن الإقلاع عن الذنب، أو عن جميع الذنوب واجب بالشرع، يعني: أنه قد جاءت الآيات والأحاديث، وإجماع الأمة، وقياس أهل العلم -وهذه هي المصادر الشرعية الأربعة- على وجوب التوبة من جميع الذنوب والمعاصي. ولذلك العلماء إذا أرادوا أن يعبروا عن أمر أو يلحقوا أمراً بأدلته وقالوا: أدلته الشرعية أو النقلية، أو السمعية، فاعلم أن الدليل هو: قال الله وقال الرسول. بخلاف ما لو قالوا: إن دليل هذه المسألة دليل عقلي، فيكون هذا الدليل محله الاجتهاد وليس محله النص، وإنما هو بذل وسع المجتهد أو الفقيه في إيجاد حل لمسألة ما، وهذه العملية تسمى: الاجتهاد، وإلحاق هذا الفرع بأصله لاتحادهما في العلة يسمى: القياس، وهي: عملية عقلية يبذلها المجتهد أو الفقيه للوصول بالفرع إلى إيجاد حل مشابه أو مساوي أو مماثل لأصله في الشرع. ثم إن كل واجب لا يؤتى به فصاحبه آثم إلا من عذر، وأقول: واجب، لا مستحب ولا مندوب ولا مباح، فهذه كلها دون الوجوب، فإذا قلت لولدك مثلاً: يا بني! اذهب إلى فلان، أو لا تذهب. فقد جعلته في دائرة المباح، إن شاء ذهب وإن شاء لم يذهب، بخلاف ما إذا قلت له: افعل كذا وكذا، وإن لم تفعل فسأعاقبك، فهذا الأمر يفيد الوجوب. وكذلك الانخلاع من الذنوب أمر واجب بالشرع، فقد أمرنا الله تعالى في كتابه بالتوبة، وأمرنا الرسول عليه الصلاة والسلام في سنته بالتوبة دون استثناء، بل أمراً أكيداً، وعزماً شديداً على الإقلاع عن الذنب، وهذه النواهي التي نهتنا عن الذنوب، فأفاد الأمر الوجوب، وأفاد النهي حرمة الوقوع في الذنب، فالذي يترك هذا الواجب لا بد أنه آثم، وإثمه يختلف باختلاف الذنب، فإن كان الذنب كبيراً كان إثمه كبيراً، وله حكمه في الشرع، وإن كان الذنب صغيراً كان إثمه صغيراً، فمعرفة قدر الإثم تتوقف على معرفة قدر الذنب. كما أن التوبة واجبة على الفور، فلا يجوز تأخيرها قط، سواء كانت المعصية صغيرة أو كبيرة، فإذا أذنب العبد لزمه أن يحدث له توبة، ولا يقول: سوف أتوب غداً، أو الأسبوع الذي سوف يأتي، أو سوف أبدأ أصلي من يوم السبت، أو من أول الشهر، أو من أول السنة الجديدة، أو السنة الميلادية، أو السنة الهجرية، فما الذي يضمن لك ذلك؟! يمكن أن يأتيك الموت الآن، فلو أنك أذنبت ذنباً فأحدثت له توبة فورية، ثم مت بعد التوبة، فهذا من حسن الخاتمة، ولو أن الله تعالى قبضك قبل التوبة من المعصية، فهذا من سوء الخاتمة. والتوبة من مهمات الإسلام وقواعده المتأكدة، وقواعد الإسلام هي: الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، والتوحيد، والإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والبعث، والحساب، والجزاء، والجنة، والنار، وعذاب القبر، فهذه كلها تسمى مهمات الإسلام، يعني: أنها أهم شيء في الدين، فينبغي أن يفتش المرء في نفسه عن هذه المهمات، فيقول: ما موقفي من الصلاة؟ ما موقفي من الصيام؟ ما موقفي من الحج؟ ما موقفي من التوبة؟ ما موقفي من الزكاة؟ إن كثير من الناس معه المال الكثير، لكن لا يخطر على باله قط أن يخرج الزكاة، إما لكونه كان فقيراً لم يتعود منذ صغره على إخراج الزكاة، فلما اغتنى بعد ذلك بقيت معه فكرته، وإما لعدم التفكير في إخراج الزكاة، من غير أن يقصد الامتناع. فهذا لا بد أن يراجع نفسه، ويحسب ماله إن كان ذهباً أو فضة، فإن بلغ النصاب، وحال عليه الحول، أو حالت عليه أحوال، فيحسب هذه الأحوال ويخرج الزكاة عنها، إلا أن تأكل الأحوال المال، فقد اجتهد أهل العلم في ذلك اجتهادات مختلفة: فمنهم من قال: يخرج عن عام واحد، وهو العام الذي هو بصدده. ومنهم من قال: بل يخرج عن ثلاثة أو خمسة أو ما تطيب به نفسه وخاطره، أو ما يحقق له المصلحة من بقاء بعض المال وإخراج بعضه، إظهاراً للتوبة والندم، وغير ذلك من الاجتهادات، وأظن أن هذا أمر يرجع إلى علاقة كل إنسان بربه.

حكم التوبة عند المعتزلة

حكم التوبة عند المعتزلة وجوب التوبة عند المعتزلة فبالعقل؛ لأن العقل أصل عند المعتزلة، وهذا أمر قد تكلمنا فيه كثيراً، ولا داعي لذكر بعضه، ولذا فأقول: إن أدلة التوبة عند المعتزلة عقليه، أما أدلة التوبة عند أهل السنة فهي سمعية أو نقليه، أي: قال الله، قال رسوله. فلو قلت لشخص ما: يا أخي! إن الزنا حرام. فرد عليه قائلاً: إنه ليس بحرام، حتى يقول: ما دام أنه برضا المرأة فالرجل في مقام زوجها! ثم تقول له: قال الله كذا، وقال الرسول كذا، وقال ابن تيمية كذا، وقال أحمد بن حنبل كذا، وقال ابن القيم كذا، وتأتي له بأدلة من الكتاب أو السنة أو إجماع أهل العلم أو القياس على حرمة الزنا، ومع ذلك فهو باق على معصيته، ثم إذا أصيب بالزهري أو السيلان، هذان المرضان اللذان يفتكان بالعبد، ولا يصاب بهما إلا من قبل الزنا، وسبحان ربي! فالمرء يجامع امرأته فلا يصاب بهذا، ويجامع غيرها فيصاب، إنه أمر خطير جداً ينبغي التوقف عنده، ومع أن العملية أو الوصال أو الإتيان واحدة، لكن هنا يبارك له فيه، وهناك لا يبارك له فيه، أمر عجيب جداً! وقدرة إلهية عجيبة! ثم إذا ذهب إلى الدكتور، وقال له الدكتور: خطر الزنا من الناحية الطبية على الأعضاء، أو على البدن، أو على النفس كذا وكذا، وأخذ يعدِّد له النتائج الوخيمة للزنا، حتى يقنع ببشاعة وحرمة الزنا، وحتى يقول: إن هذا الكلام معقول جداً، وبالتالي أنا سوف أمتنع عن الزنا، فهو قد امتنع عنه عقلاً لا نقلاً، لكن قبل ذلك قلنا له: قال الله، قال رسوله، فلم يقبل، فهذا يكون قد امتنع عن الذنب على مذهب المعتزلة، وبالتالي فتوبته فيها نظر. أيضاً: لو أن شخصاً مولعاً بالتدخين، ثم قلت له: قال الله، قال رسوله، ولم يمتنع عن التدخين، حتى جاء إليه شخص آخر بأسلوب علمي، فذكر له أن التدخين سبب في أمراض خطيرة جداً، كالقلب والرئتين وغيرهما، فامتنع عن التدخين، فإن كان امتنع عن التدخين لأدلة الكتاب والسنة فتوبته مقبولة، وإن لم يرجع عن ذنبه إلا لهذا دون النظر إلى تحريم الله عز وجل، وتحريم الرسول، فلا شك أنها ليست توبة، وهو على خطر عظيم، ولا يجب على الله قبولها؛ لأن الله تعالى لا يجب عليه شيء، وإذا أوجب الله تبارك وتعالى على نفسه شيئاً فإنما هذا فضل من الله عز وجل أوجبه على نفسه، كما في حديث معاذ بن جبل: (أتدري ما حق العباد على الله؟ -أي: حق العباد على الله إذا أتوا بالتوحيد-قلت: الله ورسوله أعلم. قال: أن يغفر لهم). يعني: إذا كانوا موحدين فالجزاء: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ -وأعظم الإحسان هو توحيد الله تبارك وتعالى - إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60]، والإحسان هو التوبة والمعفرة. فإذا كان الأمر كذلك فإنه ليس لأحد أن يوجب على الله شيئاً، وإنما يوجب الله تبارك وتعالى على نفسه ما يشاء، كما أن الله تبارك وتعالى حرم علينا أن نقسم بغير ذاته وأسمائه وصفاته، حرم علينا القسم بغير هذا، وأقسم هو بالمخلوقات سبحانه وتعالى، فأقسم بالشمس، والضحى، والقمر، والليل، والعصر، وهذه كلها مخلوقات، فله أن يفعل ما يشاء، فله أن يقسم بالعظيم من مخلوقاته، مع أنه لا يحل لنا قط أن نقسم بالشمس، ولا بالقمر، ولا بالنجم، ولا بالأنبياء، ولا بالمرسلين، ولا بالملائكة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (من أقسم بغير الله فليقل: لا إله إلا الله)، أي: كفارة من أقسم بغير الله عز وجل أن يقول: لا إله إلا الله.

مسائل متفرقة في باب التوبة

مسائل متفرقة في باب التوبة

حكم من تاب من الذنب ثم ذكره

حكم من تاب من الذنب ثم ذكره إذا تاب العبد من الذنب ثم ذكره بعد ذلك، فهل يجب عليه أن يجدد الندم والتوبة أم لا؟ قال بعض أهل العلم: يجب. وقال البعض: لا يجب؛ لأن الذنب إنما يكفي منه إحداث توبة واحدة، ثم إن العبد إذا أذنب ذنباً فلا يكاد يفارقه حتى يلقى ربه، وبالتالي ربما يؤدي هذا بالعبد إلى اليأس من رحمة الله عز وجل، فهو دائماً في حسرة وندم وغم وهم، فيعطله ذلك عن القيام بمهام الإسلام الأخرى، أي: أنه يصبح عنده من الهم والندم ما يعجزه عن الإتيان بالواجبات والمهمات العظام، لذا كان يكفيه أن يتوب من الذنب مرة واحدة.

صحة التوبة من ذنب مع الإصرار على ذنب آخر

صحة التوبة من ذنب مع الإصرار على ذنب آخر وتصح التوبة من ذنب وإن كان مصراً على ذنب آخر؛ لأن كل ذنب له توبة تخصه كما قال العلماء، فلو أن إنساناً يسرق ويزني، ثم تاب من السرقة، لكنه لم يتب من الزنا، فإن استمراره على الزنا لا يؤثر على توبته من السرقة، وتوبته من الذنب الأول مقبولة، ويبقى عليه أن يتوب من الذنب الثاني. وإذا تاب توبة صحيحة بشروطها، ثم عاود ذلك الذنب، كتب عليه ذلك الذنب الثاني، ولم تبطل توبته الأولى، وهذا مذهب أهل السنة في المسألتين، وخالفت في ذلك المعتزلة فقالوا: الأصل أن يتوب توبة عامة من جميع الذنوب، وإلا فلا تقبل توبة جزئية، وهذا -حتى من جهة العقل- الذي يتشدق به المعتزلة كلام غير مقبول. ولذلك إذا أتى شخص يقول: أنا أسرق وأزني، وقد تبت من الزنا، ولا زلت قائماً على السرقة، فهل تقبل توبتي أم لا؟ فإن قلنا له: لا بد أن تتوب من الاثنين، وإلا فتوبتك غير مقبولة، سيقول: إذن ما دام أن توبتي لم تقبل، فسأعمل الذنب الثاني والثالث والعاشر والمائة. فيقع في جميع الكبائر والصغائر، فكان من جهة العقل أن ينخلع من ذنبه المتبقي، أما أن نوصد الباب أمامه تماماً فلا شك أن ذلك يؤيسه ويقنطه من رحمة الله، وإذا بلغ إلى هذا الحد فإن ذلك يوقعه في جميع الكبائر باستهتار، وربما باستحلال فيقع في دائرة الكفر.

قبول توبة الكافر من كفره

قبول توبة الكافر من كفره إن توبة الكافر من كفره مقطوع بقبولها، وهذا بإجماع أهل العلم، فلا يفرق بين توبة الكافر من الكفر، وتوبة المسلم العاصي من معصيته. والأصل في هذا: ما جاء في صحيح مسلم، أن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: (لم يكن أحد أبغض إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى شرح الله تعالى صدري للإسلام، فأتيته فقلت: يا رسول الله! مد إلي يدك لأبايعك! أي: على الإسلام، فلما مد يده قبضت يدي، فقال: ما لك يا عمرو؟ -أي: لم قبضت يدك؟ - فقلت: يا رسول الله! أبايعك على أن يغفر لي). ومعلوم أن بغض الرسول من أعظم الكفر، فهو أراد أن يطمئن على نفسه إذا أسلم هل يغفر له في ما قد مضى أم لا؟ (فقال النبي عليه الصلاة والسلام: يا عمرو! أما علمت أن التوبة تجب ما كان قبلها -أي: تغفر ما كان قبلها- أما علمت أن الحج يجب ما كان قبله، أما علمت أن الهجرة تجب ما كان قبلها). فهذه ثلاثة أعمال تغفر جميع الذنوب: الكبائر والصغائر، وإن كان الحج فيه خلاف: هل يكفر الذنوب الكبائر والصغائر، أم الصغائر فقط؟ الراجح من أقوال أهل العلم استظهاراً للأدلة: أن الحج يكفر حتى الكبائر. ثم إن توبة الكافر من كفره تكون بالانخلاع من الكفر، والدخول في الإسلام، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (الإسلام يجب ما كان قبله)، أي: يمحو ما كان قبله، والذي قبل الإسلام إنما هو الكفر، فلو أن كافراً قال الآن: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، غفر الله تبارك وتعالى له جميع كفره وأعماله التي كان قد عملها حال كفره، أما أعماله الصالحة التي كان يعملها في جاهليته وفسقه فإنه يثاب عليها بإسلامه، وليس معنى ذلك أن جميع أعمال الكفار أعمال كفرية، بل منها ما هو صالح، ومنها ما صلاحه متعد إلى الغير، ومن المعلوم أن الكذب كان مذموماً في الجاهلية، وحديث أبي سفيان مشهور في ذلك. وكذلك أهل الجاهلية كانوا أهل كرم ونجدة، وهذه كلها خصال حميدة، فإذا أتى بها الكفار ثم أسلموا، كافأهم الله تبارك وتعالى عليها قبل الإسلام وبعد الإسلام، وإذا ماتوا على كفرهم، فإن الله تعالى يكافئهم عليها في دنياهم؛ لأن الله تعالى يعلم أن هذا العبد سيموت على الكفر، أو يعلم أن هذا العبد سيموت على الإيمان، فإذا سبق في علم الله أن هذا العبد يموت على الكفر، لكنه كان يعمل صالحاً في حياته، فإنه يكافئه الله تعالى عليه. ولهذا عندما يذهب المسلم إلى بلاد أوروبا أو أمريكا، فيرى هناك البلاد الجميلة، ويرى النعيم الذي هم فيه، فيحدث نفسه فيقول: في الجنة أكثر من هذا النعيم، وربما قال: هؤلاء الكفار أكرمهم الله بهذا النعيم، وذلك مكافأة منه سبحانه على أعمالهم الحسنة، فإذا ماتوا يكون الحساب وافياً كاملاً، فالله زاد لهم في الدنيا، وفتح عليهم في الدنيا، حتى إذا قدموا على الله عز وجل كانت لهم النار خالدين مخلدين فيها أبداً، ولذلك كثير من الناس من يذهب إلى هناك فيفتن بسبب ذلك.

عدم القطع بتوبة المسلم العاصي

عدم القطع بتوبة المسلم العاصي هل توبة المسلم العاصي مقطوع بها أو مظنونة؟ خلاف بين أهل السنة، والظن أنه يمكن أن يرجع إلى المعصية مرة أخرى، ورجوعه ومعاودته للذنب بل والوقوع في ذنوب أخرى جعل توبته غير مقطوع بها. وأقول أيضاً: إن الكافر إذا أسلم صار حكمه حكم المسلم من جهة المعصية لا من جهة الكفر.

باب الحض على التوبة والفرح بها

باب الحض على التوبة والفرح بها الحض بمعنى الحث، يعني: أدلة يظهر منها حث الله تعالى ورسوله الكريم العباد على التوبة.

شرح حديث فرحة الله بتوبة العبد من رواية أبي هريرة

شرح حديث فرحة الله بتوبة العبد من رواية أبي هريرة قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثني سويد بن سعيد، حدثنا حفص بن ميسرة، وهو العقيلي أبو عمر الصنعاني نزيل عسقلان، حدثني زيد بن أسلم المدني، عن أبي صالح السمان ذكوان المدني، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهو عبد الرحمن بن صخر الدوسي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قال الله عز وجل -إذن الحديث قدسي، وليس بلازم إذا سمعت: قال الله عز وجل أن ذلك قرآن، وإنما يمكن أن يكون حديثاً قدسياً- أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حيث يذكرني)]. وفي رواية عند أبي داود (أنا عند ظن عبدي بي، فليظن عبدي بي ما شاء، إن ظن بي ظناً حسناً سيجدني عند ظنه، وإن ظن بي ظن سوء سيجدني عند ظنه). يعني: لو أن إنساناً تاب إلى الله عز وجل توبة صالحة خالصة، لكنه قال: لا يغفر لي. فهذا إساءة ظن بالله عز وجل، فالمرء يتوب وتحمله توبته على الإكثار من العمل الصالح، حتى يعضد توبته السابقة، ثم يحمله وجله وخوفه على الإكثار من العبادة والنوافل والقرب إلى الله عز وجل، ثم يحسن الظن بربه أنه لن يخيب رجاءه فيه؛ لأنه لو أساء الظن بربه لأساء المعتقد، ومن قدم على ربه سيئ العقيدة فيه فلا شك أنه يجازى على ذلك. والمعية في الحديث: معية سمع وعلم وإحاطة لا معية ذات؛ لأن ذات الله العلية فوق السماوات على العرش، فهو تبارك وتعالى مع عباده بسمعه وعلمه، وهذا لا يتنافى مع علوه فوق سماواته. وهنا انتهى الحديث القدسي، ثم يبدأ الحديث النبوي بالقسم، والقسم لإفادة صدق المقسم، والنبي عليه الصلاة والسلام صادق بغير قسم، فلو أخبر بخبر لكان صادقاً فيه بغير قسم، وإنما أقسم للتأكيد على أهمية الأمر. قال عليه الصلاة والسلام: (والله! لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته بالفلاة). والفلاة: الصحراء التي لا زرع فيها ولا ماء، وتصور لو أن شخصاً أخذ دابته ومشى بها في صحراء مقفرة قاحلة، وعليها طعامه وشرابه، ثم أجهده السير فنزل بجوار شجرة وأخلد إلى الراحة، فلما استيقظ لم يجد راحلته، فصار يضرب في شرق الصحراء وغربها ليجد راحلته وضالته، فلم يفلح في ذلك، حتى يئس من رجوعها، فرجع وقال: أنام عند الشجرة حتى الموت -لا سيبل له إلا هذا- لأنه لو أراد أن يرجع إلى مكانه الأول لمات في الطريق، فلأن يموت في الظل خير له من أن يموت في الحر، فرجع فنام، فلما استيقظ وجد دابته وعليها الزاد والمتاع، عند ذلك سيفرح فرحاً شديداً، -ولله المثل الأعلى- فالله أفرح بتوبة العبد إن عاد ورجع إليه من هذا براحلته، فهو لو ارتكب جميع الذنوب والمعاصي فإنه لا يضر الله شيئاً، ولو أتى بجميع الطاعات فلن ينفع الله شيئاً؛ لأن الله تعالى هو النافع والضار، والله تعالى ينفع ابتداءً ولا يضر إلا من اختار المضرة لنفسه أو للغير، فحينئذ يوقع الله به الضرر، كما في قوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران:54] فالله تعالى لا يوصف بالمكر ابتداءً، وإنما يوصف بالمكر جزاءً لمكر سابق، وهذا من عظيم قدرته تبارك وتعالى، وأنه عليم بما تخفي الصدور، وأن مكر الماكرين، وكيد الكائدين لا يخفى عليه عز وجل، فإذا مكر الماكرون فالله تبارك وتعالى يمكر بهم أشد من مكرهم؛ لأنه خير الماكرين سبحانه وتعالى، ولا يجوز أن يوصف الله تعالى بالمكر ابتداءً؛ لأنها صفة نقص، كما في قوله تعالى: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} [السجدة:22]، فلا يجوز لأحد أن يقول: إن الله هو المنتقم، لكن الانتقام صفة لله عز وجل في مقابل إجرام المجرمين، فإذا قال العبد: ربنا سوف ينتقم من فلان. فأنت تذمه ولا تمدحه؛ لأن هذا أسلوب ذم، والله تبارك وتعالى لا يذم، بل يمدح بكل كمال وجلال، وإذا وصف بصفة فيها ذم فاعلم أنها في جهة الكمال، وذلك إذا كانت متعلقة بالذات الإلهية؛ لأنه لا يوصف بهذا إلا في مقابلة فعل استوجب ذلك: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} [السجدة:22]، ولم يقل: إنا من المؤمنين منتقمون، أو من الموحدين، أو من المسلمين، أو من الطائعين، وإنما قال: من المجرمين. والله لا يظلم العبد الموحد، فإذا ظلمه أحد ولم يستطع أن يأخذ حقه، فسأل الله أن يأخذ بحقه من ظالمه، فقال: يا رب! خذ حقي من فلان. فأخذ الله له حقه من فلان، عند ذلك سيقول: سبحان الله! إن الله قادر على كل شيء. فما معنى أنه عرف الآن أن الكمال لله؟! مع أن هذا انتقام للإجرام الذي سبق منه، والله تعالى لا يوصف بالانتقام ابتداءً إلا في مقابلة إجرام وظلم. قوله عليه الصلاة والسلام: (والله! لله أفرح بتوبة)، يقال: فلان فرح، يعني: فلان منتشي، وفلان سعيد، وفلان حصل عنده مناسبة سعيدة ففرح لها وطرب، وفلان لم تسعه الدنيا، وتعبيرات كثيرة جداً تدل على أن هذا العبد في حالة حسنة، وإذا كان هـ

أقوال أهل العلم في المراد بقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ومن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا)

أقوال أهل العلم في المراد بقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ومن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً) قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والله لله أفرح بتوبة العبد من أحدكم يجد ضالته بالفلا)] اختلف أهل السنة في ذلك، وهذا الخلاف بين أهل السنة إنما هو في فروع الاعتقاد، وهو خلاف معتبر، إذ أن أهل السنة قد أجمعوا على أصول السنة وأصول الدين، ولم يختلفوا فيها، فلو أن واحداً قال بجميع ما قال به أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بأصول الاعتقاد، لكنه قال: إن الله لا يرى بالأبصار في الآخرة، فهذا يكون معتزلياً؛ لأن رؤية المولى عز وجل في الآخرة أصل من أصول الإيمان، دون أهل الكفر والجحود والكفران، فإنهم لا يرونه عقوبة لهم على ذلك. والذراع من الرسغ إلى المرفق، وقالوا: الباع من الرسغ إلى المنكب، أي: الكتف، قال: بعض أهل السنة: هذا التقدير في طريق التوبة يدل على أن الله تعالى يقبل على عبده أكثر من إقبال العبد عليه، مع استغنائه عن حاجاتهم، فهذا فضل وكرم من الله عز وجل, وقال بعضهم: لا، بل هذا نص نجريه على ظاهره. أيضاً: من المسائل التي وقع فيها خلاف بين أهل السنة، وهو خلاف معتبر: رؤية النبي عليه الصلاة والسلام لربه في ليلة الإسراء والمعراج، فقد اختلف فيها الصحابة رضي الله عنهم، فقال بعضهم: إن النبي عليه الصلاة والسلام رأى ربه، وقال بعضهم: لم ير ربه، إذن هل سنخرج أحد الفريقين من دائرة السنة وندخله في البدعة؟ لا؛ لأن المسألة من فروع الاعتقاد، وما دام وقع الخلاف فيها بين السلف فلا يزال الخلاف قائماً إلى قيام الساعة بغير نكير على جميع الأطراف، فإذا جاء أحدهم وأخذ بمذهب عائشة، وهو قول أهل السنة، من أن النبي عليه الصلاة والسلام لم ير ربه، فهل الذي يذهب مذهب ابن مسعود وابن عباس وغيرهم يقول: لا, بل قد رأى ربه؟ ثم يشنع على الآخر ويقول له: أنت ضال، أنت مبتدع، إن هذا الكلام لا يجوز؛ هل ينفع هذا الكلام؟ لا، لماذا؟ لأن وجود الخلاف بين الصحابة مع عدم تضليل بعضهم لبعض يدل على أن الخلاف في هذه القضية سائغ ومعتبر، بينما الخلاف في الأصول يكون غير معتبر، فقد يخرج المرء من دائرة السنة إلى دائرة البدعة. إذاً: بعضهم التزم ظاهر النص، والبعض الآخر قال: المقصود من الحديث: سرعة إقبال الله عز وجل على العبد أكثر من إقبال العبد عليه، وقال بعضهم: تقرب العبد إلى الله كناية عن التوبة، لكن هذه الكناية إطلاق اللفظ وإرادة لازمة، مثل قول: الخنساء تصف أخاها: طويل النجاد رفيع العماد كثير الرماد إذا ما شتى قولها: (طويل النجاد) أي: أنه إنسان طويل، والطول ممدوح عند العرب، حتى يقولون: الطول هيبة وإن كان خيبة، حتى لو كان صاحبه غير صالح. وقولها: (رفيع العماد)، العماد هو ما يعتمد عليه، مثل: القائم في الأرض، كالخشب أو الحديد، أو العكاز، فهي لم ترد أن تصفه أنه يمشي متكئاً على عمود، وإنما أرادت أن تكني عن شرفه وحكمته ومكانته العظيمة عند قومه. وقولها: (كثير الرماد) كناية عن الكرم؛ لأن كثير الرماد فيه دلالة على إشعال الحطب وشوي اللحم للضيوف، لكن قلة الفئران في البيت إشارة إلى الفقر، يذكر أن امرأة ذهبت للولي وقالت له: إني أشكو قلة الفئران في بيتي. كناية منها عن فقرها؛ لأن الفئران ماذا تعمل في بيت ليس فيه إلا البلاط؟ ماذا تعمل الفئران في بيت ليس فيه إلا الرياح؟ لا بد أن ترحل الفئران. والأولى عندي أن تجرى هذه النصوص على ظاهرها، فنؤمن بها ولا نأخذ في كيفيتها، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة.

شرح حديث فرحة الله بتوبة العبد من طرق أخرى

شرح حديث فرحة الله بتوبة العبد من طرق أخرى قال: [حدثنا عبد الله بن قعنب القعنبي، حدثنا المغيرة بن عبد الرحمن الحزامي، عن أبي الزناد، وهو عبد الله بن ذكوان، عن الأعرج عبد الرحمن بن هرمز المدني، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لله أشد فرحاً بتوبة أحدكم من أحدكم بضالته إذا وجدها). وحدثنا عثمان بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم -وهو المعروف ابن راهويه -واللفظ لـ عثمان - أي: هذا السياق من طريق أو من لفظ عثمان بن أبي شيبة لا من طريق ابن راهويه - حدثنا جرير، وهو ابن عبد الحميد الضبي، عن الأعمش سليمان بن مهران الكوفي، عن عمارة بن عمير التيمي الكوفي، عن الحارث بن سويد التيمي الكوفي أبو عائشة، قال: دخلت على عبد الله أعوده]. إذا ذكر في طبقة الصحابة عبد الله فالمراد به: عبد الله بن مسعود، وهناك قرينة أخرى: أن يكون الإسناد كوفياً؛ لأن عبد الله بن مسعود رحل إلى الكوفة وتولى فيها القضاء، وتخرج على يديه جيل التابعين بأكمله، ولذلك إذا كان الإسناد كوفياً، ثم قال التابعي: وحدثني عبد الله، فعلم أنه عبد الله بن مسعود من غير خلاف. قال: [دخلت على عبد الله أعوده وهو مريض، فحدثنا بحديثين: حديثاً عن نفسه وحديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم]، يعني: أنه حدثهم بحديث مرفوع وحديث موقوف، فذكر هنا المرفوع ولم يذكر الموقوف، وذكر البخاري في صحيحه الحديثين جميعاً، وليس الأمر كما قال أحدهم: حدثني فلان بحديثين، أما هو فقد نسي أحدهما وأنا نسيت الآخر، يعني: أنه لا يوجد شيء. قال: [حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده المؤمن من رجل في أرض دوية -أي: الأرض القفر والفلاة الخالية- مهلكة)]. في حقيقة الأمر الأرض لا تهلك، لكن لما كانت محلاً للهلاك نسب الهلاك إليها استعارة؛ لأن الهلاك يقع فيها، ولذلك يسمونها: استعارة محلية، فيطلقون المحل ويريدون الحال، بخلاف الاستعارة الحالية، إذ هي إطلاق الحال وإرادة المحل. قال رحمه الله: [(معه راحلته عليها طعامه وشرابه، فنام فاستيقظ وقد ذهبت، فطلبها حتى أدركه العطش، ثم قال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه، فأنام حتى أموت -ليس له إلا هذا- فوضع رأسه على ساعده ليموت)]. أي: لم يكن واضعاً رأسه على ساعده خصيصاً لأجل الموت، وإنما فعل ذلك لأجل النوم فيدركه الموت وهو نائم، كذلك لا يلزم للموت أن يضع الرجل رأسه على ذراعه أو على ساعده، فهذه ليست هيئة الميت وإنما هيئة النائم. قال المصنف رحمه الله: [(فاستيقظ وعنده راحلته وعليها زاده وطعامه وشرابه، فالله أشد فرحاً من توبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده)، وفي الرواية الثانية: (من رجل بداوية من الأرض)]. داوية أو دوية بالألف أو بغيرها، وكلاهما واحد. وفي الرواية الأخرى: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده المؤمن).

خوف المؤمن من ذنوبه داع له إلى التوبة منها

خوف المؤمن من ذنوبه داعٍ له إلى التوبة منها وقد ذكر البخاري في صحيحه والترمذي وغيرهما أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، أما الفاجر فإنه لا يرى ذنوبه إلا كذبابة وقعت على أنفه فقال بها هكذا). فهذا يدل على أن المؤمن دائماً قلبه حي، فإذا وقع في الذنب الصغير تجده يتصور أن هذا الذنب جبل يخاف أن يسقط عليه فيدكه دكاً، أما الفاجر فيرى ذنبه كأنه لم يكن، أو كأنه لا شيء، وشبهه بذبابة وقعت على أنفه فقال بيده هكذا، يعني: أشار إليها بكفه فطارت، ولذلك المؤمن إذا وقع في الذنب أحدث له فوراً توبة وندماً، وتفطر قلبه وتصدع وعاش في هم وغم وكدر، أما الفاجر فيقول: إن رحمة الله وسعت كل شيء، ويذهب يحتج بكل آيات وأحاديث الرجاء، بينما العبد المؤمن الصالح الطائع يضع نصب عينيه آيات وأحاديث الخوف، وآيات وأحاديث الرجاء، فإذا نظر إلى آيات وأحاديث الخوف حمله ذلك على مزيد الطاعة، وإذا نظر إلى أحاديث الرجاء حمله ذلك على الإكثار من النوافل لرجاء المغفرة، ولذلك هناك فرق كبير جداً بين الرجاء وبين التوكل، فالرجاء لا يكون إلا بعد العمل، فيعمل أولاً ثم يرجو الله تعالى، لكن أن يكون قائماً على المعصية ويقول: إني لأرجو رحمة الله تعالى! فهذا حمق وليس ديناً، ولذلك عندما تلت عائشة رضي الله عنه قول الله تعالى: ({وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60]، قالت: يا رسول الله! أهذا الزاني يزني، والسارق يسرق، ويخافون ألا يتقبل منهم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لا يا ابنة الصديق! إنما هؤلاء أقوام أتوا بصلاة وصيام وزكاة وجهاد، وفي رواية: وحج، ويخافون ألا يتقبل منهم). يعني: أنهم قد حققوا العمل أولاً، ثم دفعهم الخوف ألا يقبل ذلك منهم، وهذا هو الخوف المعتدل الذي يحملك على زيادة الطاعة، أما إذا حملك الطمع في رحمة الله عز وجل على الوقوع في معصيته فليس هذا من باب الرجاء الممدوح.

شرح رواية النعمان بن بشير لحديث: (لله أشد فرحا بتوبة عبده) وحل ألفاظها

شرح رواية النعمان بن بشير لحديث: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده) وحل ألفاظها قال: [وفي رواية النعمان بن بشير قال: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده من رجل حمل زاده ومزاده على بعير)]. والمزادة: اسم جنس للمزادة، وهي القربة العظيمة، سميت بذلك لأنه يزاد فيها من جلد آخر، وكانت العرب تحمل فيها المتاع، كالطعام والشراب وغير ذلك. قال: [(ثم سار حتى كان بفلاة من الأرض، فأدركته القائلة - أي: وقت القيلولة- فنزل فقال تحت شجرة)، يعني: أنه نام تحت شجرة وقت القيلولة، والقيلولة اسم النوم وقت الظهيرة. قال: (فغلبته عينه وانسل بعيره)، أي: نام فذهب بعيره في خفية. [(فاستيقظ فسعى شرفاً فلم ير شيئاً، ثم سعى شرفاً فلم ير شيئاً)]، الشرف: المكان العالي، وقد يكون المراد به: الرجل العظيم في قومه، ذو المكانة السامية المرموقة، والمراد به هنا الأول، أي: أن الرجل انطلق إلى مكان عال لينظر بعيره، فلم يجد شيئاً، ثم نزل وانطلق إلى مكان آخر عال، فلم يجد شيئاً، حتى أيس من إيجاد هذا البعير أو الراحلة. قال: [(ثم سعى شرفاً ثالثاً فلم ير شيئاً، فأقبل حتى أتى مكانه الذي قال فيه، فبينما هو قاعد جاءه بعيره يمشي، حتى وضع خطامه في يده)، يعني: أن البعير جاء من نفسه حتى وضع الخطام في يد صاحبه، والرجل كان قاعداً، بينما في الحادثة الأولى: (فاستيقظ فوجد البعير بين يديه أو ضالته)، فهل الكلام هذا فيه خلاف أم لا؟ لا يمكن أن نقول: إن فيه خلافاً، وإنما الخلاف هذا بتعدد الحوادث؛ لأن هذه الحادثة لم تقع فعلاً، يعني: أن الراوي الذي روى لنا هذا لا يروي لنا حادثة وقعت بالفعل، فينقلها ويصورها لنا كما هي، وإنما هذا تمثيل وتقريب ضربه النبي عليه الصلاة والسلام لبيان المعنى على الحالين، ففي هذا الوقت كان الشخص نائماً، ثم بعد ذلك يستيقظ فينظر فيرى ضالته أمام عينيه، بخلاف رجل آخر مستيقظ وينتظر، ومن شدة همه وحزنه ينظر في الصحراء شرقاً وغرباً، وبعد ذلك ينظر فإذا سواد آتٍ من بعيد، فيقول: يا ترى هل هذه ضالتي أم أنا لم أستطيع أن أرى جيداً؟ ويظل في هذه الشكوك، لكن على كل حال هناك بصيص أمل يمكن أن تكون ضالته، حتى تقترب منه فيعرف أنها ضالته، فلا شك أن فرحته هذه أتت تدريجية، بينما الآخر أتت فرحته فجأة، فهذا تمثيل لفرحة العبد بضالته على الحالين: حال الشك حتى أتاه اليقين، وحال اليقين الذي يراه فجأة. قال: [(فالله أشد فرحاً بتوبة عبده من هذا حين وجد بعيره على حاله). قال سماك: فزعم الشعبي -وهو عامر بن شراحيل - أن النعمان رفع هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأما أنا فلم أسمعه]. يعني: أن هذا الحديث من رواية سماك بن حرب عن الشعبي عن النعمان بن بشير من قوله، ولذلك لا تجد في الحديث أن النعمان قال: حدثني النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما قال: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده)، ثم بعد ذلك في نهاية الحديث تأتي المسألة التي هي محل خلاف، إذ إن سماكاً يقول: أنا الذي رويت الحديث عن الشعبي عن النعمان، لكن أنا أشك أن النعمان رفع هذا الحديث، يعني: أنه ليس من قول النبي وإنما هو من قول النعمان، والشعبي إنما يزعم أنه سمع النعمان يرفع هذا الحديث، وهذا من دقة المحدثين ودقة الرواة، وهذا ما كان يكفي سماك كما يكفينا، أي: ما دام أن الشعبي قد رفع الحديث فنأخذه، والعهدة عليه، لكن دقة المحدثين جعلت سماكاً يروي الحديث كما سمعه موقوفاً على النعمان.

قاعدة: ليس كل من تلبس بالكفر أو البدعة صار كافرا أو مبتدعا

قاعدة: ليس كل من تلبس بالكفر أو البدعة صار كافراً أو مبتدعاً وفي حديث البراء بن عازب قال النبي عليه الصلاة والسلام: [(كيف تقولون بفرح رجل انفلتت منه راحلته -أي: انطلقت وانسلت- تجر زمامها بأرض قفر ليس فيها طعام ولا شراب -يعني: أن حبلها مجرور وراءها- وعليها له طعامه وشرابه، فطلبها حتى شق عليه -يعني: أجهده البحث- ثم مرت بجذع شجرة فتعلق زمامها -يعني: أن هذه الناقة أو البعير أو الحمار في أثناء سيره في الصحراء مر بشجرة فتعلق الحبل بأصلها- فوجدها متعلقة به -النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ما رأيكم في فرحة رجل كهذا؟ - قالوا: شديداً يا رسول الله! فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أما والله! لله أشد فرحاً بتوبة عبده من الرجل براحلته)]. وفي حديث أنس قال النبي عليه الصلاة والسلام: [(لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم! أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح)]. لكن: لو أن واحداً قال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك. فإنه يكفر؛ لأنه نسب نفسه إلى الربوبية والإلهية، ونسب الرب والإله إلى الخلق، لكن إن صدر من العبد بغير قصد، أو سبق لسان على سبيل السهو والخطأ فلا شيء عليه، وهذا ما يعبر عنه الفقهاء: بأنه ليس بلازم لمن نطق بالكفر أن يتلبس بالكفر أو يلبسه الكفر. ومن نطق بالبدعة ليس بلازم أن تلبسه البدعة أو أن يتلبس بالبدعة. وهذا كلام خطير جداً، فلو أن رجلاً مشهود له بالصلاح والعلم قال بقول المعتزلة في مسألة اعتقادية، أو قال بقول المرجئة، أو الشيعة، فهل يلزم من قوله بقول هؤلاء أن يكون شيعياً، أو قدرياً، أو مرجئاً؟ لا يلزم، وإنما يرد عليه ما قد أخطأ فيه وجانبه الصواب فيه، ويبقى على أصله واستقامته، ولا نخرجه من دائرة السنة لقول وافق فيه المبتدعة، فقد وافق الحافظ ابن حجر الأشعرية في تأويل بعض الصفات، لكن لا ينسب ابن حجر إلى البدعة أو إلى الأشعرية، فقد شن هجوماً شديداً جداً في المجلد الأول والثاني والثالث عشر في فتح الباري على الأشعرية، وأثبت أنهم ليسوا من أهل السنة والجماعة، فرجل كهذا يوافقهم في بعض المسائل إنما نقول: خالف فيها أهل السنة والجماعة مخالفة غير متعمدة، إما أن يكون سبق لسان إذا كان كلاماً، أو سبق قلم إذا كان كتابة، أو يكون عن جهل وعدم دراسة. وكذلك ليس كل من تلبس بالكفر كافراً، أو وقع في البدعة مبتدعاً، إلا إذا خالف في أصل من أصول أهل السنة والجماعة، وأقيمت عليه الأدلة والحجج والبراهين على أن هذا مذهب الاعتزال، أو مذهب القدرية، أو مذهب الأشاعرة، أو مذهب الشيعة، واختار أن يسلك هذا الطريق، ثم لو كان من أهل اللسان أو القلم صنف في الرد على ما كان عليه أولاً. ولذلك يقول ميمون بن مهران: إن أبلى البلاء أن تعرف ما كنت تنكر، وتنكر ما كنت تعرف. أي: أن من أعظم البلاء أن تنكر في المستقبل ما تعرفه قبل ذلك، أو تعرف في المستقبل ما كنت تنكره الآن، فهذا بلاء عظيم جداً، أن يتحول المرء من طريق السنة إلى طريق البدعة، ولا يقف عند هذا الحد، بل يرد على أهل السنة وينسبهم إلى البدعة، والانتقال من السنة إلى البدعة كلام مجمل، فإذا قلت: بدعة. فمعناه: أن كل ما عليه بدعة، وليس هناك شيء اسمه دليل، يعني: أن ترك السنة والانتقال إلى البدعة معناه: الانتقال إلى غير دليل؛ لأن البدعة لا دليل عليها، والدليل إنما يؤيد السنة. والنبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك من باب أنه لم يقع، لكنه تمثيل، فيقول العبد من شدة الفرح: (اللهم أنت عبدي وأنا ربك)، وهذا على سبيل الخطأ، ولذلك قال: (أخطأ من شدة الفرح). ولذا فإن الإنسان قد يبلغ درجة الإغلاق من الغضب أو من الفرح، وليس بلازم أن يكون غضباً فقط، ونحن قد قلنا قبل ذلك: إن الغضب والرضا والسخط والفرح والسرور وغير ذلك كلها انفعالات نفسيه، فإن كانت منضبطة فهذا حد الاعتدال، وإن زادت فربما لا يترتب عليها أثر، فلو أن إنساناً غضب غضباً شديداً بلغ معه درجة إغلاق العقل، بحيث إنه لا يدري ما يقول ولا ما يفعل، فقد يرمي بابنه من أعلى البيت إلى الشارع وهو لا يدري ما يفعل، وكذلك لو قال لامرأته: أنت طالق، فلا يقع طلاقه، ولو قال لله: أنت عبد وأنا ربك، فلا يكفر. أيضاً: لو أن إنساناً فرح فرحاً زائداً جداً، إلى حد أنه يضحك بهستيرية من شدة الفرح، فلا يترتب عليه عند الخطأ وعدم القصد والتعمد أثره. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

كتاب التوبة - سقوط الذنوب بالاستغفار

شرح صحيح مسلم - كتاب التوبة - سقوط الذنوب بالاستغفار فطر الله تعالى الخلق على الخطأ والوقوع في الآثام، وجعل الاستغفار منهم موجباً لسقوط الذنوب، والعبد إذا أذنب فإن ذنبه مهما بلغ ما هو إلا شيء، والله عز وجل وسعت رحمته كل شيء، وباب التوبة لا يغلق حتى تقوم على العبد إحدى القيامتين، ولا يمل الله عز وجل من كثرة توبة عبده، بل هو أشد فرحاً بها من رجل فقد راحلته بأرض فلاة، فلما يئس منها إذا به يجدها قائمة فوق رأسه.

باب سقوط الذنوب بالاستغفار توبة

باب سقوط الذنوب بالاستغفار توبة الاستغفار مهم جداً في مغفرة الذنب، والاستغفار في حد ذاته توبة من الله عز وجل. قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا ليث -وهو الليث بن سعد المصري - عن محمد بن قيس -وهو المعروف بـ القاص، وهو من أهل المدينة، وكان قاصاً في زمن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى- عن أبي صرمة المازني الأنصاري -وهو صحابي مختلف في اسم أبيه- عن أبي أيوب]. وهو أبو أيوب الأنصاري خالد بن زيد بن كليب، من كبار الصحابة، حضر بدراً، ومات غازياً الروم سنة خمسين هجرية، وله منقبة عظيمة جداً وهي: أن النبي عليه الصلاة والسلام لما هاجر من مكة إلى المدينة نزل في بيته. قال: [أنه قال حين حضرته الوفاة: كنت كتمت عنكم شيئاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لولا أنكم تذنبون لخلق الله خلقاً يذنبون فيغفر لهم)].

بيان أهمية الاستغفار

بيان أهمية الاستغفار والتقدير: فيستغفرون الله فيغفر لهم، ولولا أن الله تعالى يغفر الذنب لما سمى نفسه (غفوراً)، ولما سمى نفسه (تواباً)، وغير ذلك من الأسماء التي تفيد في معناها ولفظها أن الله تعالى يقبل العذر ويغفر الذنب، فلو لم يكن غفوراً فكيف يغفر؟! ولو لم يذنب العبد فما الذي يغفره الله عز وجل؟ وإذا كان العبد لا يذنب فلم يستغفر إذن؟ إنما استغفر الأنبياء لوقوعهم في الهفوات، وأنها في حقهم -كما يقول بعض أهل العلم- كالكبائر في حق سائر الناس؛ لأنهم يستشعرون عظمة من عصوه أكثر من غيرهم، ولذلك: (كان نبينا عليه الصلاة والسلام يستغفر الله تعالى في اليوم الواحد أكثر من سبعين مرة)، وفي رواية (كان يستغفره مائة مرة). ولا تعارض بين الروايتين، فالذي يستغفر في اليوم أكثر من سبعين يمكن أن يصل استغفاره إلى مائة مرة. وهنا بيان أهمية الاستغفار، وبيان أهمية تسمية الله عز وجل نفسه بالغفار، أو الغفور، أو التواب، أو الرحيم، وغير ذلك من الأسماء. وهذا حديث عظيم جداً في باب الرجاء، فالعبد مهما أذنب فإن ذنبه لا يعدو كونه شيئاً، والله تعالى وسعت رحمته كل شيء، لكن لا أعطي بطاقة أو رخصة في الوقوع في الذنب، صغيراً كان أو كبيراً، ولكني أقول: إن العبد في لحظة غفلة وتسلط الشيطان إذا وقع في ذنب فيجب عليه أن يبادر ويسارع للاستغفار والتوبة. ومن قبل قلنا: إن التوبة ليست كلاماً ولا ضحكاً ولا استهزاءً، وإنما التائب من ينفطر قلبه، ويغتم غماً يكاد الناظر إليه يقول: هذا يئس من رحمة الله، ولا معاودة لذنب، حتى وإن عاد فإنه يعزم على ألا يعود، فإن عاد بقدر الله عز وجل -وأرجو ألا يكون هذا احتجاجاً بالقدر على المعصية؛ لأن هذا من مسالك وعقائد الفرق الضالة- ووقع في الذنب مرة أخرى في لحظة غفلته وتقصيره، فإنه يلزمه أن يتوب من هذا الذنب الثاني، وهكذا إن وقع في الذنب مرة أخرى، فلا يمل من الاستغفار والتوبة والإنابة إلى الله عز وجل وإن كثرت ذنوبه. قال: [حدثنا هارون بن سعيد الأيلي، حدثنا ابن وهب -وهو عبد الله بن وهب المصري - حدثني عياض، وهو ابن عبد الله الفهري، حدثني إبراهيم بن عبيد بن رفاعة، عن محمد بن كعب القرظي، عن أبي صرمة، عن أبي أيوب الأنصاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو أنكم لم تكن لكم ذنوب يغفرها الله لكم، لجاء الله بقوم لهم ذنوب يغفرها لهم)]. أي: لو لم تذنبوا لأهلككم الله عز وجل، وأتى بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم. قال: [حدثني محمد بن رافع، حدثنا عبد الرزاق -وهو ابن همام الصنعاني اليمني - أخبرنا معمر -وهو ابن راشد البصري اليمني - عن جعفر الجزري -وهو ابن برقان أبو عبد الله الرقي - عن يزيد بن الأصم -وهو أبو عوف البكائي، كوفي، نزل الرقة فنسب لها- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده! لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم)]. فالذي أبهم في رواية أبي أيوب الأنصاري صرح به في هذه الرواية؛ فهو لم يذكر استغفاراً في رواية أبي أيوب، وهنا في رواية أبي هريرة ذكره صراحة؛ حتى لا يحملن أحداً عدم وجود الاستغفار في رواية أبي أيوب اعتقاد أن الله تعالى يغفر لهم بغير أن يستغفروا أو بغير أن يتوبوا، فالله عز وجل جعل مثل هذا في مشيئته، فلا يعلم أحد أيغفر له أم لا يغفر له؟ أما من استغفر الله من الذنب -وهو دليل التوبة وقائدها ورائدها إلى الله عز وجل- غفر له، وهذا وعد الله تبارك وتعالى، ووعده لا يتخلف، بخلاف وعيده الذي توعد به العصاة من الموحدين، إذ هو داخل في مشيئته، إن شاء عذب وإن شاء غفر.

كتمان العلم مخافة اتكال الناس على سعة رحمة الله من هدي السلف رحمهم الله

كتمان العلم مخافة اتكال الناس على سعة رحمة الله من هدي السلف رحمهم الله وفعل أبي أيوب الأنصاري هذا وهو على فراش الموت فعل غير واحد من الصحابة، كـ أبي هريرة، ومعاوية بن أبي سفيان، ومعاذ بن جبل، وأبي ذر وغيرهم، فقد كان عندهم من العلم ما كتموه طيلة حياتهم، حتى إذا أشرف أحدهم على الموت حدث به تأثماً، وليس كتمان العلم جائزاً مطلقاً، كما أن إفشاء العلم ليس جائزاً مطلقاً. فهدي العلماء أن العلم لا يبث إلا في أهله وفيمن يستحق، فلا يعلم كل أحد، وإنما يعلم من يصون هذا العلم، علماً وعملاً واعتقاداً، أما المستهزئون فإنهم لا يتعلمون، بل لا ينفعهم العلم، وهؤلاء سقط الناس ورعاعهم الذين لا يقدرون العلم والعلماء، وعليه فما قيمة أن يعلموا العلم؟ قال مالك يوصي بعض طلاب العلم لما ودعه مسافراً: أوصيك أن تأخذ العلم من أهله وأن تضعه في أهله. أي: خذ العلم من العلماء، وضعه في أقوام هم له أهل، وإنها وصية غالية جداً، لا يعلم معناها إلا مالك ومن كان على شاكلة مالك، رحم الله جميع علمائنا. كذلك: حديث أبي هريرة الطويل في صحيح مسلم، والذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي هريرة: (اذهب خلف هذا الحائط، فمن وجدته يشهد أن لا إله إلا الله فبشره بالجنة، فكان أول من وجده: عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال له: قال لي النبي عليه الصلاة والسلام: يا أبا هريرة! اذهب خلف هذا الحائط فمن وجدته يشهد أن لا إله إلا الله فبشره بالجنة. فقال أبو هريرة: فضربني عمر ضربة خررت منها على استي، وقال: لا تفعل، فذهب أبو هريرة إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال له: قد فعلت ما قلت يا رسول الله! وقد حصل من أمر عمر كذا وكذا، وكان عمر في إثره، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: يا عمر! ما حملك على ذلك؟ قال: يا رسول الله! مخافة أن يتكلوا، دع الناس يعملون، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: دعهم يعملون). أيضاً: قوله عليه الصلاة والسلام لـ أبي ذر: (يا أبا ذر! اذهب فقل للناس: من كان يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله موقناً بها قلبه فبشره بالجنة). فقال أبو ذر عند موته: حدثني النبي صلى الله عليه وسلم بحديث كتمته عنكم، وما أحدثكم إلا تأثماً، أي: مخافة الوقوع في إثم كتمان العلم. إذاً: العلم يكتم أحياناً لمصلحة مخافة أن يتكل الناس على أحاديث الرجاء أو آيات الرجاء، كما أن العلم لا بد من بثه في وقت معين إذا تعين ذلك، وربما هؤلاء سمعوا أحاديث من النبي عليه الصلاة والسلام لم يسمعها غيرهم، فتعين عليهم البلاغ، لكنهم كتموا هذا العلم وقتاً من الزمان؛ مخافة اتكال الناس على سعة رحمة الله، فيدعون العمل، ثم إنهم حدثوا به في وقت غلب على ظنهم أنهم بعد هذا الوقت يموتون ويموت معهم العلم الذي كتموه؛ لأنه ليس مع غيرهم، فحدثوا به مخافة الوقوع في الإثم. قال النووي: إنما كتموه أولاً مخافة اتكالهم على سعة رحمة الله تعالى، وانهماكهم في المعاصي، وإنما حدث به عند وفاته لئلا يكون كاتماً للعلم، وربما لم يكن أحد يحفظه غيره، فتعين عليه أداؤه، وأصبح فرض عين عليه أن يؤديه وأن يحدث به، وهو نحو قوله في الحديث الآخر: وأخبر بها معاذ تأثماً عند موته. أي: خشية الإثم بكتمان العلم.

باب فضل دوام الذكر والفكر في أمور الآخرة والمراقبة وجواز ترك ذلك في بعض الأوقات والاشتغال بالدنيا

باب فضل دوام الذكر والفكر في أمور الآخرة والمراقبة وجواز ترك ذلك في بعض الأوقات والاشتغال بالدنيا الإنسان مطلوب منه أن يكثر من التفكر، والتدبر، واستحضار مراقبة الله عز وجل، وغير ذلك من الأعمال التي من شأنها أن تصون سيره إلى الله عز وجل، وتثبته على الطريق حتى لا ينحرف عنه، لكن هذا ليس في كل وقت؛ لأن هذا لو كان في كل وقت فلربما أدى إلى يأس وقنوط العبد من رحمة الله تعالى. الأمر الآخر: أن ذلك سيشغله عن طلب معاشه، ورعاية من يعولهم، وربما كان العبد صاحب رقة قلب فينفطر قلبه وفؤاده من خشية الله عز وجل، فيؤدي به إلى القنوط واليأس من رحمة الله.

شرح حديث: (يا حنظلة ساعة وساعة)

شرح حديث: (يا حنظلة ساعة وساعة) قال: [حدثنا يحيى بن يحيى التميمي وقطن بن نسير، أخبرنا جعفر بن سليمان -وهو الضبعي البصري - عن سعيد بن إياس الجريري، عن أبي عثمان النهدي -وهو عبد الرحمن بن مل - عن حنظلة الأسيدي قال: -وكان من كتاب الوحي للرسول صلى الله عليه وسلم- (لقيني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قلت: نافق حنظلة، قال: سبحان الله! ما تقول؟ -يعني: ما هذا الكلام الذي تقوله يا حنظلة؟ - قال: قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، يذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنا رأي عين -يعني: حتى كأننا ننظر إليها رأي العين- فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات -أي: باشرنا وجامعنا وقبلنا ولعبنا مع الأزواج والأولاد، وانشغلنا بطلب معاشنا وغير ذلك من متاع الدنيا- فنسينا كثيراً -أي: مما كنا نذكره ونتفكر فيه ونتدبره ونستحضر عظمته في مجلس النبي عليه الصلاة والسلام- قال أبو بكر: فو الله! إنا لنلقى مثل هذا -أي: أنني أشكو مما تشكو منه، وأجد ما تجده أنت من نفسك- فانطلقت أنا وأبو بكر - هذا كلام حنظلة - حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: نافق حنظلة يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما ذاك؟ -أي: ما هذا الكلام الذي تقوله، وما دليل النفاق الذي تزعمه وتدعيه؟ - قلت: يا رسول الله! نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، فنسينا كثيراً، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: والذي نفسي بيده! أن لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة! ساعة وساعة) ثلاث مرات]. إن عامة الناس يفهمون أن الساعة التي هي لله هي: الصلاة والصيام وغير ذلك من الأعمال، والساعة التي هي للقلب هي: الساعة التي يعصي فيها، ويرفث فيها، ويفسق فيها، وينحرف عن الصراط المستقيم، إن هذا ليس هو المقصود من هذا الحديث، وإنما المقصود من هذا الحديث: روحوا القلوب؛ لأن القلوب تمل، فلو أن عبداً يقرأ القرآن في كل لحظة، فإنه لا بد أن يمل، لكن لو أنه انتقل من القرآن إلى السنة، أو من السنة إلى الصلاة، أو من الصلاة إلى الصيام، أو من الصيام إلى الزكاة، أو من الزكاة إلى الحج، أو من الحج إلى قضاء مصالح المسلمين، فينتقل من طاعة إلى طاعة، فإنه لا يمل، لكن أن يقوم على طاعة واحدة دائماً وأبداً فإنه سوف يمل منها؛ لأن القلوب بشرية فطرت على الملل، ولذلك ينبغي على المسلم أن ينوع في طاعة الله عز وجل، فينتقل من طاعة إلى طاعة، ومن حسنة إلى ما هو أحسن منها، ومن عمل دون إلى عمل أعلى في مرضات الله عز وجل، فالنفس تنفر من القيام والدوام على العمل الواحد، حتى وإن كان هذا العمل هو قراءة القرآن الكريم، أو هو النظر في سنة النبي الأمين عليه الصلاة والسلام. فلا بد أن تروح على قلبك ساعة، وهذا الترويح إنما يشمل معافسة الزوجة، ومداعبة الأولاد، والانشغال بالدنيا، وطلب المعاش وغير ذلك، حتى وإن شعر أنه قد نسي ما كان آنفاً تذكر الآخرة، وتدبر في أحوالها وشئونها. أما عمل الدنيا وطلب المعاش فإنه لا يمنع المرء أن يكون ذاكراً لله، ليس فقط بلسانه، وإنما بقلبه وبعمله وفكره وعقيدته، فالمرء إذا انطلق إلى زرعه أو حائطه، أو صناعته، أو تجارته، فإنما يراعي فيها حق الله، ويراعي فيها الحلال والحرام، وهذا الإنسان لم يخرج عن ذكر الله، وإن لم يذكره بلسانه، لكن لو رأى في تجارته شيئاً حرمه الله، أو كرهه الله، استبعده عن تجارته، وهذا نوع من ذكر الله عز وجل. وكذلك إذا داعب أولاده، فخرج أحدهم عن حد الاعتدال والاستقامة بكلمة أو فعل، ذكره أن هذا مخالف للشرع، وأدبه بالرجوع عن هذا إلى طاعة الله عز وجل، ولذا فليس ذكر الله تعالى أن يجلس الإنسان في مكان ويلزمه فيسبح، أو يحمد، أو يستغفر، أو يكبر، أو يهلل، بل العمل بالشرع أولى من القول بالشرع، يعني: أن تعمل على مقتضى الذكر خير من أن تذكر بلسانك؛ لأنك قد ترجمت هذا الذكر القولي إلى عمل، والعمل هو المراد من القول، والنبي عليه الصلاة والسلام إنما قال لنا أقوالاً المراد منها العمل بها، ولا يلزم كل مسلم أن يكون عالماً، لكن يلزم المسلم أن يعمل بما بلغه من العلم، حتى القراء يقولون: العمل بالقرآن فرض عين، بخلاف العلم بالقرآن فهو فرض كفاية، يذكرون هذا في كتب الأحكام والتجويد، يقولون: العلم بالتجويد فرض كفاية، والعمل بالتجويد فرض عين. ولذلك أنت الآن ربما تقرأ القرآن صحيحاً عن طريق التلقي، أو تتلقى القرآن على يد شيخ، فتقرأ القرآن بالأحكام، لكن لو قيل لك: لم كانت الغنة هنا؟ ولم كان الإظهار هنا؟ ولم كان الإقلاب هـ

شرح بعض مفردات حديث حنظلة

شرح بعض مفردات حديث حنظلة قال: [حدثني إسحاق بن منصور -وهو المعروف بـ الكوسج البغدادي، تلميذ أحمد بن حنبل - أخبرنا عبد الصمد بن عبد الوارث، عن أبيه، حدث عن سعيد الجريري، عن أبي عثمان النهدي، عن حنظلة قال: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فوعظنا فذكر النار - أي: ذكرنا بالنار - قال: ثم جئت إلى البيت فضاحكت الصبيان ولاعبت المرأة، قال: فخرجت فلقيت أبا بكر فذكرت ذلك له، فقال: وأنا قد فعلت مثل ما تذكر، فلقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! نافق حنظلة، فقال: مه -كلمة استنكار تقولها العرب، وكأن النبي يقول له: أنت لم تقع في النفاق- فحدثته بالحديث، فقال أبو بكر: وأنا قد فعلت مثل ما فعل، فقال: يا حنظلة! ساعة وساعة، ولو كانت قلوبكم كما تكون عند الذكر لصافحتكم الملائكة، حتى تسلم عليكم في الطرق)]. يعني: لو أن قلوبكم إذا ذكرت تذكرت كما لو تذكرت في مجلس الذكر، فلا يضركم أن تنشغلوا عن الذكر في غير مجالس الذكر، ولا يضركم أن تنشغلوا عن الذكر بمعافسة الزوجة والأولاد، وطلب المعاش وغير ذلك، لكن إذا لم تتأثر قلوبكم بالذكر والموعظة في مجلس الذكر، فتكون مصيباً إن اتهمت نفسك، أما لو كان قلبك يرق من الموعظة ويتأثر بكلام الله وبكلام الرسول عليه الصلاة والسلام، وذكر الجنة والنار، وغيرها من الأخبار، فإن هذا يدل على سلامة القلب، وعلى إيمان القلب. أما أن تخرج بهذا الجو النفسي من مجلس الذكر، وتطالب قلبك بأن يصحبك في كل وقت بهذه الحالة، فإن هذا ليس في مقدور أحد، ولذلك لم يقدر عليه أفضل الأمة بعد النبي عليه الصلاة والسلام، وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، والنبي عليه الصلاة والسلام قد بشر بأنه لو كان كذلك في مجلس الذكر دون غيره من بقية المجالس لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي الطرقات. قال: [حدثنا زهير بن حرب، حدثنا الفضل بن دكين، حدثنا سفيان -وهو الثوري - عن سعيد الجريري عن أبي عثمان النهدي، عن حنظلة التميمي الأسيدي الكاتب -أي كاتب الوحي- قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فذكرنا الجنة والنار فذكر حديثهما]. قال الإمام النووي في قول حنظلة: (عافسنا)، معناه: حاولنا ذلك ومارسناه واشتغلنا به، أي: عالجنا معايشنا وحظوظنا -أي: طلبناها- والضيعات: جمع ضيعة، وهي معاش الرجل من مال، أو حرفة، أو صناعة. وروى الخطابي هذا الحرف (عانسنا) ومعناه: لاعبنا -وعانسنا من العنوسة وهي اللعب- ورواه ابن قتيبة بالشين المعجمة، قال: ومعناه: عانقنا، والأول هو المعروف وهو أعم. وأما قوله: (نافق حنظلة) فمعناه: أنه خاف أنه منافق، حيث كان يحصل له الخوف في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم ويظهر عليه ذلك مع المراقبة والفكر والإقبال على الآخرة، فإذا خرج اشتغل بالزوجة والأولاد ومعاش الدنيا، وأصل النفاق: إظهار ما يكتم خلافه من الشر، فخاف أن يكون ذلك نفاقاً، فأعلمهم النبي عليه الصلاة والسلام أنه ليس بنفاق، وأنهم لا يكلفون الدوام على ذلك، أي: أنهم غير مكلفين بأن يعيشوا دائماً -حتى في طلب معاشهم- كما لو كانوا يعيشون في مجلس الوعظ والذكر، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يبكي أحياناً ويضحك أحياناً، فهل يضحك إنسان يرى النار رأي العين؟ لا يمكن قط، لكن رحمة الله عز وجل تدرك جميع الخلق من المؤمنين الموحدين، فينسون ما يكدر عليهم معاشهم وحياتهم، حتى يتسنى لهم طلب الحياة والمعاش، وإلا لو كان منظر النار لا يغيب قط عن عين أحد لما انتفع بنفسه، ولما انتفع بقلبه، ولذا كان من رحمة الله عز وجل بالإنسان أنه ينسى أحياناً المواعظ حتى ينشغل بما تعين عليه في وقته. لكن لو أن إنساناً في مصنع أو على مكينة أو على كمبيوتر أو أي شيء من الأعمال، وصورت له النار، أو سمع موعظة بليغة جداً أثرت في قلبه، فربما عطلته عن العمل لفرط شفافيته ورقته، وآخر: يأتي فيشكي أنه لا يستطيع أن يأتي زوجته، أو يداعب أولاده، ولا أن يعمل في العمل وحياته كلها مكدرة مقلوبة رأساً على عقب؛ لأنه يخاف الله ولم يتصور أنه لا يغفر ذنبه، فهذا إنسان في طريق اليأس من رحمة الله عز وجل. وأما قوله: (فقلت: يا رسول الله! نافق حنظلة. فقال: مه) قال القاضي: معناه الاستفهام، أي: ما تقول؟ والهاء هنا هاء السكت، قال: ويحتمل أنها للكف والزجر والتعظيم لذلك، يعني: كأنه أراد أن يقول له: اسكت فلم تنافق.

باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه

باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه قال: [حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا المغيرة يعني الحزامي -وهو ابن عبد الرحمن المدني - عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لما خلق الله الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش إن رحمتي تغلب غضبي)]. أي: لما خلق الله الخلق كتب في كتابه هو؛ لأنه قال: كتب في كتابه، فأضاف ضمير الغائب إلى الكتاب، فدل على أن الكتاب هو كتاب مخصوص بالله عز وجل. وهذا الكتاب مكتوب فيه (إن رحمتي تغلب غضبي). قال: [وحدثني زهير بن حرب، حدثنا سفيان بن عيينة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله عز وجل: سبقت رحمتي غضبي)]. هذان الأمران: السبق والغلبة، موصوف بهما رحمة الله عز وجل. قال: [حدثنا علي بن خشرم، أخبرنا أبو ضمرة -وهو أنس بن عياض المدني - عن الحارث بن عبد الرحمن، عن عطاء بن ميناء، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما قضى الله الخلق)]. أي: فرض، وقد ورد (قضى) في القرآن والسنة ثلاث عشرة مرة، لكل واحدة منها معنى يخصه، ويحدد هذا المعنى من خلال السياق. قال: [(لما قضى الله الخلق - أي: لما خلق الله الخلق، وفرغ من خلق الخلق - كتب في كتابه على نفسه، فهو موضوع عنده -أي: فهو عنده فوق العرش-: إن رحمتي تغلب غضبي)]. قال: [حدثنا حرملة بن يحيى التجيبي، أخبرنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب -قد قلنا مراراً: يونس إذا كان بين ابن وهب والزهري فهو يونس بن يزيد الأيلي - أن سعيد بن المسيب أخبره، أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (جعل الله الرحمة مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين، وأنزل في الأرض جزءاً واحداً، فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه)].

نقل كلام الإمام النووي في معنى صفة الغضب والرضا وبيان الخطأ فيه

نقل كلام الإمام النووي في معنى صفة الغضب والرضا وبيان الخطأ فيه قال العلماء في الحديث الأول: (إن رحمتي تغلب غضبي)، وفي رواية: (رحمتي سبقت غضبي): غضب الله تعالى ورضاه يرجعان إلى معنى الإرادة، فإرادته الإثابة للمطيع، ومنفعة العبد تسمى رضا، ورحمته وإرادته عقاب العاصي وخذلانه تسمى غضباً، وإرادته سبحانه وتعالى صفة له قديمه يريد بها جميع المرادات. قالوا المراد بالسبق والغلبة هنا: كثرة الرحمة وشمولها، كما يقال: غلب على فلان الكرم والشجاعة إذا كثر منه. هكذا قال الإمام النووي نقلاً عن العلماء، وهذا النقل إنما هو نقل عن علماء الأشاعرة، لذا فليس هذا الكلام هو معتقد أهل السنة والجماعة، فالمعلوم أن الله تبارك وتعالى يغضب غضباً حقيقياً يليق بجلاله وكماله، والمعلوم أن الله تعالى يرحم عباده رحمة لا يعلم كنهها إلا الله عز وجل، أما نحن فقد أيقنا أن الله تعالى يغضب ويرضى ويسخط، ولا يستلزم إيماننا بهذا مشابهة غضب الله بغضب خلقه، ولا رحمة الله تعالى برحمة خلقه، ولا فرح الله تعالى بفرح خلقه، ولا رضا الله تعالى برضا خلقه، وقد قلنا: إن اختلاف صفات الله عز وجل عن صفات المخلوقين ما هو إلا فرع لأصل وهو اختلاف الذات، فلما اختلفت ذات الله تعالى عن ذوات المخلوقين لا بد أن تختلف الصفات، فليست ذاته كذوات المخلوقين، وبالتالي فإن صفاته ليست كصفات المخلوقين. ثم إن صفات الله سبحانه وتعالى لا توهم التشبيه ولا التمثيل لصفات المخلوقين، وهذا هو معتقد أهل السنة والجماعة من جهة النقل عنهم، أما من جهة العقل فما المانع أن نسلم لله عز وجل بما أثبته لنفسه؟ فنكتفي فقط بأن الله تعالى يغضب، ولا يستلزم الغضب في حق الله تعالى انفعالات نفسيه، وإنما ذلك في العبد، فتجعل المرء يتهور، أو يأتي بسفه أو بشيء من هذا، لكن الغضب في حق الله ليس كذلك، وكذلك الفرح: (لله تبارك تعالى أفرح بتوبة عبده من أحدكم من لقاء دابته التي ضلت طريقها)، فهل فرح الله عز وجل هو نفس فرح العبد؟ لا، وكذلك رحمة الله تبارك وتعالى لعباده ليست كرحمة العباد بعضهم لبعض، فإذا اختلفت الذات فلا بد وأن تختلف الصفات. وأما قوله: (والمراد بالسبق والغلبة هنا: كثرة الرحمة وشمولها، كما يقال: غلب على فلان الكرم والشجاعة إذا كثر منه). فأولاً: هذا القياس غير صحيح؛ للاختلاف بين الخالق والمخلوق، وإذا سلمنا بأن هذا قياس صحيح فلا بأس أن نقول: إن هذا المعنى ينضم إلى المعنى الأصلي، فيكون الأصل عندنا أن الله تعالى يغضب كما يشاء، ويفرح كما يشاء، ويغفر كما يشاء، ويسخط كما يشاء، فنؤمن بهذا ولا نخوض فيه، ولا بأس أن نضم إلى هذا المعنى الأصلي -الذي هو أصل القضية عندنا فيما يتعلق بالصفات- معنىً آخر وهو: أن المراد بالسبق والغلبة هنا: كثرة الرحمة وشمولها، أي: أن رحمة الله تعالى أعظم وأكثر وأشمل من غضبه، فلا بأس بهذا المعنى خاصة وأن الأدلة أثبتت أن رحمة الله تبارك وتعالى أوسع من غضبه، وأن الله تعالى إذا وعد بالرحمة فإنه لا يخلف وعده، وإذا توعد بالعذاب فإن ذلك داخل في مشيئته، فقد تقع أو لا تقع، أي: قد ينفذها الله عز وجل، أو يعفو ويصفح. إذاً: رحمة الله تعالى أوسع وأشمل وأعم من غضبه، لكن كيف يغضب؟ وكيف يسخط؟ وكيف يرضى؟ الكيفية لا يعلمها إلا الله عز وجل، ولذلك يحذر من تأويل النص عن ظاهره، بل يجب الإيمان به كما جاء، وإمراره كما جاء، وهذا معتقد أهل السنة والجماعة قاطبة، ولم يخالف في ذلك أحد منهم.

شمول رحمة الله للخلق في الدنيا والآخرة

شمول رحمة الله للخلق في الدنيا والآخرة قال: [حدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة وابن حجر، قالوا: حدثنا إسماعيل (يعنون ابن جعفر) عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب الحرفي، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (خلق الله مائة رحمة، فوضع واحدة بين خلقه، وخبأ عنده مائة إلا واحدة)]. أي: أن الله خلق الرحمة مائة جزء، وجزء واحد من هذه الأجزاء أنزله لتتراحم به الخلائق جميعاً، من إنسان، وحيوان، وطير، وجماد، وجن، وغيرها من الخلائق، فتصور أن مظاهر الرحمة في بني آدم وفي الجن وفي الحيوانات والطيور وغيرها كلها من آثار رحمة واحدة لله عز وجل، فما بالك بالتسعة والتسعين جزءاً الذي خبأه الله عز وجل ليرحم به عباده المؤمنين في عرصات يوم القيامة. فهو يوم وإن كان عصيباً من وجه، إلا أن رحمة الله سبحانه وتعالى تدرك الموحدين بما يفوق حد العقول، لكني لا أعطي بهذا أيضاً بطاقة أو رخصة للوقوع في الذنب والمعصية والآثام اتكالاً على رحمة الله عز وجل، فربما لا تدركك؛ لأنه ليس وعداً على الله عز وجل أن يغفر لكل عاص، وإنما كل عاص إن لم يتب فهو داخل يوم القيامة في مشيئة الله عز وجل، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، فلا تتكل على هذا، واعمل بما هو أحوط لك، وهو لزوم الطاعة. قال: [حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، حدثنا أبي، حدثنا عبد الملك، عن عطاء، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن لله مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام)]. حتى تعلم بشمول رحمة الله عز وجل للخلق، وهذا جزء واحد من مائة جزء، وأن الذين يتراحمون فيما بينهم بهذا الجزء ليسوا فقط بني آدم، وإنما الإنس والجن والبهائم والهوام. قال رحمه الله: [(فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها، وأخر الله تسعاً وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة)]. قال رحمه الله تعالى: [حدثني الحكم بن موسى، حدثنا معاذ بن معاذ -وهو العمري - حدثنا سليمان التيمي -وهو سليمان بن طرخان التيمي - حدثنا أبو عثمان النهدي، عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لله مائة رحمة، فمنها رحمة بها يتراحم الخلق بينهم، وتسعة وتسعون ليوم القيامة). وحدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا المعتمر، عن أبيه -وهو سليمان بن طرخان التيمي المتقدم في الإسناد الأول- بهذا الإسناد]. وقوله: (طباق ما بين السماء والأرض) أي: مسيرة خمسمائة عام، وتصور أن هذا حجم الرحمة طولاً، أما عرضاً فإنها تملأ الأرض فلا تبقي منها شيئاً، وهذه رحمة واحدة من رحمات الله، فكيف ببقية رحماته سبحانه وتعالى؟! قال رحمه الله: [قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة، كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض، فجعل مائة رحمة، وأنزل واحدة فبها تعطف الوالدة على ولدها، والوحش والطير بعضها على بعض، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة)، يعني: أكملها ببقية أجزاء الرحمة التسعة والتسعين.

رحمة الله بعباده أعظم من رحمة الأم بولدها

رحمة الله بعباده أعظم من رحمة الأم بولدها قال: [حدثني الحسن بن علي الحلواني، ومحمد بن سهل التميمي (واللفظ لـ حسن) حدثنا ابن أبي مريم، حدثنا أبو غسان، حدثني زيد بن أسلم المدني، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب أنه قال: (قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبي، فإذا امرأة من السبي تبتغي أو تسعى إذ وجدت صبياً في السبي)]. أي: عندما جيء بسبايا الحرب إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وجد النبي عليه الصلاة والسلام امرأة من السبي تبحث في بقية المأسورين. قال: [(فأخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ -يعني: هل تتصورون أن هذه المرأة يمكن أن تطرح وأن تلقي وتقذف بولدها في النار؟ - قلنا: لا والله! وهي تقدر على ألا تطرحه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لله أرحم بعباده من هذه بولدها)]. أي: أن مغفرة الله عز وجل ورحمته أوسع من غضبه، ولذلك لا ينزل عقابه ابتداءً، وإنما يستعمل رحمته سبحانه وتعالى ويهديها عباده أولاً، ولا يعذب إلا من تعين في حقه العذاب.

شرح حديث: (لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة)

شرح حديث: (لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة) قال: [حدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة وابن حجر جميعاً، عن إسماعيل بن جعفر، قال ابن أيوب: حدثنا إسماعيل، أخبرني العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد)]. أي: لو يعلم المؤمن الذي وجبت له الجنة ما عند الله من العقوبة ومن العذاب وما أعد لأهل النار فيها، ما طمع في جنة الله عز وجل، بل لتمنى أن ينجو من النار ومن العذاب، حتى وإن لم يدخل الجنة. قال: [(ولو يعلم الكافر ما عند الله عز وجل من الرحمة ما قنط من جنته أحد)]. وهذا في حق الكافر، وهو على عكس ما هو في حق المؤمن. وقد ذُكر عن الحافظ ابن حجر رحمه الله في ترجمته عندما كان قاضي القضاة في مصر: أنه مر في سوق التجار، فخرج إليه رجل يهودي كان يعمل في بيع السمن والزيت، ومعلوم أن مثل هذه الأعمال تتسخ ملابس وأبدان أصحابها، فخرج إليه ذلك اليهودي وقال له: يا قاضي القضاة! أنتم تزعمون أن نبيكم قال: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر)، ألا ترى ما أنا فيه، وما أنت فيه؟! وكأنه أراد أن يقول له: هذه الحال الذي أنا وأنت فيه إنما يخالف خبر نبيكم صلى الله عليه وسلم، فقال الحافظ ابن حجر عليه رحمة الله: إن ما أعده الله لي إذا دخلت الجنة بالنسبة لي الآن في سجن، وما أعده الله عز وجل لك في الآخرة من عذاب فأنت بالنسبة له الآن في جنة، رغم منظرك ومخبرك، لكن أنت الآن في رحمة عظيمة جداً بالنسبة لما أعد لك في الآخرة؛ لأنك في الآخرة ستخلد في نار جهنم، فأنت الآن تعيش في ظل رحمة الله، تأكل، وتشرب، وتضحك، وتعمل كل شيء، أما في الآخرة فليس لك شيء من ذلك، فأسلم هذا اليهودي.

شرح حديث الرجل الذي أسرف على نفسه وأوصى بنيه أن يحرقوه إذا مات

شرح حديث الرجل الذي أسرف على نفسه وأوصى بنيه أن يحرقوه إذا مات قال: [حدثني محمد بن مرزوق بن بنت مهدي بن ميمون، حدثنا روح -وهو روح بن عبادة - حدثنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قال رجل لم يعمل حسنة قط لأهله: إذا مات فحرقوه -يعني: إذا مت فحرقوه، فهو يتكلم بضمير الغائب- ثم اذروا نصفه في البر ونصفه في البحر، فو الله! لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فلما مات الرجل فعلوا ما أمرهم، فأمر الله البر فجمع ما فيه، وأمر البحر فجمع ما فيه، ثم قال: لم فعلت هذا؟ -أي: لم أمرت بنيك أن يحرقوك ثم يذروا نصفك في البر ونصفك في البحر؟ - قال: من خشيتك يا رب! وأنت أعلم، فغفر الله له)]. أي: وأنت أعلم بأني أخشاك، فغفر الله عز وجل له ذنبه. قال: [وحدثنا محمد بن رافع وعبد بن حميد (قال عبد: أخبرنا، وقال ابن رافع -واللفظ له-: حدثنا) عبد الرزاق، أخبرنا معمر، قال: قال لي الزهري: ألا أحدثك بحديثين عجيبين؟ قال الزهري: أخبرني حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أسرف رجل على نفسه -يعني: أفرط في المعاصي- فلما حضره الموت أوصى بنيه فقال: إذا أنا مت فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم اذروني في الريح في البحر، فو الله! لئن قدر علي ربي ليعذبني عذاباً ما عذبه به أحداً، قال: ففعلوا ذلك به، فقال الله تعالى للأرض: أدي ما أخذت، فإذا هو قائم -أي: بين يدي الله عز وجل- فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: خشيتك يا رب، أو قال: مخافتك، فغفر له بذلك)].

أقوال أهل العلم في تأويل حديث الرجل الذي أمر بنيه إذا مات أن يحرقوه

أقوال أهل العلم في تأويل حديث الرجل الذي أمر بنيه إذا مات أن يحرقوه قوله: (فوالله! لئن قدر علي ربي ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين). هذا شك في قدرة الله عز وجل، وهو كفر بالإجماع، لكن العلماء قد اختلفوا في تأويل هذا الحديث: فقالت طائفة: لا يصح حمل هذا على أنه أراد نفي قدرة الله؛ لأن الشاك في قدرة الله تعالى كافر، والكافر مخلد في النار، فلا بد من صرف هذا إلى غير قدرة الله، وقد قال في آخر الحديث: أنه إنما فعل ذلك خوفاً من خشية الله تعالى، والكافر لا يخشى الله، كما أنه لا يغفر لكافر، والحديث يقول: (فغفر الله له بذلك)، أي: بسبب الخشية، والمؤمن لا بد أن يطير إلى الله بجناحي الخوف والرجاء، فإذا غلب الخوف على الرجاء أدى به إلى اليأس من رحمة الله، وإذا غلب الرجاء على الخوف أدى به إلى التسويف في العمل، اتكالاً على رحمة الله عز وجل، لكن لا بأس أن يزيد الخوف على الرجاء شيئاً يسيراً حتى يحمله في حال صحته على العمل، لكن ينبغي أن يغلِّب رجاء الله على رحمة الله عز وجل خاصة وهو في فراش موته، حتى يلقى الله تبارك وتعالى وهو طامع في جنته. لذا فالحديث له تأويلان: الأول: أن معنى (قدر) قضى، أي: لئن قضى علي ربي ليعذبني، وقدر بالتخفيف والتشديد، وهما بمعنى واحد. الثاني: أن (قدر) بمعنى: ضيق، أي: لئن ضيق الله عز وجل علي، كما في قوله تعالى: {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر:15 - 16]، أي: ضيق عليه رزقه. والمراد هنا في الحديث: لئن ضيق الله تعالى رحمته علي ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، وشاهدها في سورة الفجر: {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر:16] وكذلك قول الله تعالى: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء:87]، أي: فظن أننا لا نضيق عليه، وهذا بإجماع المفسرين. وقالت طائفة: اللفظ على ظاهره، والمقصود به القدرة، والرجل قال هذا الكلام وهو غير ضابط له، يعني: أنه في حالة ذهول وغفلة وخطأ جعلته يقول مثل هذا الكلام، وهو لا يقصد حقيقة المعنى، ولا معتقد صحة ذلك، وإنما كلام قاله في لحظة غفلة ودهشة، وتسلط الخوف والجزع عليه، بحيث ذهب توقعه وتدبر ما يقوله، فصار في معنى الغافل والناسي، بل هو أشد من الغافل والناسي، وهذه الحالة لا يؤاخذ فيها العبد كما هو معلوم من أقوال أهل العلم، وهو نحو قول القائل الذي غلب عليه الفرح حين وجد راحلته: (اللهم أنت عبدي وأنا ربك)، فهذا الكلام كفر إن قصده صاحبه، لكن لما غلب عليه الفرح أذهله وأدهشه وغيب شيئاً من عقله، فقال كلاماً لم يقصد حقيقته، وإنما قصد خلاف ذلك، ومثله أيضاً: حديث الرجل الذي لم يعمل صالحاً قط، وهو في غير مسلم: (فلعلي أضل على الله)، أي: أغيب عنه، وهذا يدل على أن قوله: (لئن قدر الله) على ظاهره. وقالت طائفة: هذا من مجاز كلام العرب وبديع استعمالهم، ويسمونه: (مزج الشك باليقين) وهو باب من أبواب الفصاحة، فيمزجون الشك باليقين أحياناً، ولا يريدون حقيقة الشك، وإنما يريدون حقيقة اليقين، كقوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24] ومعلوم أن قائل هذا: هم الأنبياء والمرسلون، فهل الأنبياء الذين قالوا هذا القول -الذي يدل بظاهره على الشك- قصدوا به الشك؟ وهل شكوا في أنهم على الهداية التامة وأنهم طائعون لرب العالمين؟ A لا، وإنما هذا أسلوب بديع من أساليب العرب، ومن أساليب البلاغة والفصاحة في الكلام، فصورته صورة شك والمراد به اليقين, كما لو قال رجل محق في خصومة طلب إلى القضاء: اذهبوا بها إلى القاضي يقضي لي إن كنت مصيباً، أو يقضي علي إن كنت مخطئاً. مع أنه في حقيقة أمره موقن أنه لم يخطئ، لكن قوله: (إن كنت مخطئأً حكم علي، وإن كنت مصيباً حكم لي) كلام يوحي أنه في شك مما هو عليه، أمصيب هو أم مخطئ؟ مع أن اليقين عنده أنه مصيب.

حكم من جهل صفة من صفات الله تعالى

حكم من جهل صفة من صفات الله تعالى وقالت طائفة: إن هذا الرجل جهل صفة من صفات الله تعالى، وقد اختلف العلماء في حكم جاهل الصفة، وهذه مسألة اعتقادية بحتة، لكنها من فرعيات المعتقد لا من أصوله، فقال القاضي وابن جرير الطبري: الذي يجهل صفة من صفات الله عز وجل يكفر، والجمهور على أنه لا يكفر. وأبو الحسن الأشعري صاحب المذهب قديماً كان يذهب مذهب ابن جرير الطبري، لكنه تحول عن هذا إلى مذهب بقية أهل السنة والجماعة، وقال: لا يكفر جاهل الصفة ولا يخرج عن اسم الإيمان، بخلاف جحدها، وهذا مذهب كافة أهل السنة والجماعة، وإليه -كما ذكرنا- رجع أبو الحسن الأشعري واستقر قوله؛ لأنه لم يعتقد ذلك اعتقاداً يقطع بصوابه ويراه ديناً وشرعاً، وإنما يكفر من اعتقد أن مقالته حق، قال هؤلاء: ولو سُئل الناس عن الصفات لوجد العالم بها قلة، أي: يريد أن يقول: إن أكبر شاهد على هذا الكلام واقع الناس، فلو أنك سألت الناس الآن عن صفات الله عز وجل لوجدت العالم بهذه الصفات قلة قليلة من الناس، وهذا يعني أن غالب الناس يجهلون كثيراً من صفات الله عز وجل، وبالتالي فلو قلتم: يكفرون، إذاً نحن نسألكم عن الصفات، وواقع كثير من الناس أنهم لا يعلمون صفات الله عز وجل، فهل الجهل بصفة من الصفات، أو باسم من الأسماء يكفر بذلك صاحبه؟ الجاحد لها يكفر؛ لأن جحود الاسم أو جحود الصفة كفر بالله عز وجل، أما الجاهل بها فإنه لا يكفر، وإن كان يجب عليه أن يتعلم صفات المولى عز وجل. وقالت طائفة: كان هذا الرجل في زمن فترة، وذلك حين كان ينفع مجرد التوحيد الذي يسميه العلماء: (التوحيد المجمل)، مع أنه لا يعرف شيئاً من الجزئيات والفرعيات التي هي من مقتضيات التوحيد، فربما قصر في كثير منها، لكنه على أي حال يأبى إلا أن يكون موحداً لله، بل ويحرص على ذلك، لكن حرصه لا يكفي حقيقة الواقع الذي يعيشه، وأنه في حقيقة الإيمان وحقيقة التوحيد ليس بشيء؛ لأنه يجهل معنى التوحيد ومقتضيات التوحيد، بل يفرط في كثير من شعب الإيمان. وزمن الفترة هو ما بين نبيين، بعد اندثار معالم وشريعة نبي، وقبل بعثة نبي آخر، وأهلها هم أهل فترة، فمن كان منهم على الحنيفية السمحة فهو من أهل الجنة، ومن كان منهم على غير ذلك فقد وقع الخلاف بين العلماء بناءً على خلافهم في أصله: هل هناك تكليف قبل ورود الشرع، أم التكليف بورود الشرع؟ هذه مسألة محل نزاع بين الأصوليين، والراجح فيها: أنه لا تكليف إلا بشرع، لقول الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]. وقالت طائفة: يجوز أنه كان في زمن قوم شرعهم جواز العفو عن الكافر، وهذا كلام غير سديد ولا يصح؛ للمقطوع به في جميع الشرائع، وعند جميع العقلاء أن الكافر من كل فرقة وشريعة مخلد في النار، وأن النار لما خلقها الله عز وجل أعدها للكافرين، وليس للكافرين في زمن محمد عليه الصلاة والسلام، وإنما للكافرين منذ أن خلق الله الخلق إلى قيام الساعة، ثم لماذا أرسل الله تعالى إليهم الرسل؟ أي: هذا الرسول الذي في شريعته العفو عن الكافر ما هي مهمته؟ وما جزاء من خالف هذا الرسول وعصاه ولم يطعه؟ وما جزاء من كفر بهذا الرسول الذي في شريعته العفو عن الكافر؟ لا يتصور هذا المذهب قط، وذلك من مجوزات العقول عند أهل السنة، وإنما منعناه في شرعنا بالشرع، وهو قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48]، وغير ذلك من الأدلة. وقيل: إن هذا الرجل قصد بذلك تحقير نفسه وعقوبتها، لعصيانها وإسرافها، رجاء أن يرحمه الله تعالى.

كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في التكفير والتفسيق والتبديع

كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في التكفير والتفسيق والتبديع لشيخ الإسلام ابن تيمية كلام نافع جداً في هذا الحديث تكلم فيه عن التكفير والتفسيق والتبديع، فأراد أن يفرق بين الوعد والوعيد من جهة، والفارق الجوهري بين أن يقع العبد في الكفر وهو لا يقصد الكفر، والفرق بين الحكم العام والحكم الخاص، وضرب لذلك مثلاً بقضية خلق القرآن، ومعلوم قول أحمد بن حنبل: من قال: القرآن مخلوق فقد كفر، ومع هذا وجد في زمانه من الأعيان ومن المعتزلة من قال بذلك، ولم يكفر القائل بذلك؛ لأن الكفر لا يكون إلا بتحقق شروط وانتفاء موانع، ففرق جوهري بين القائل وبين القول، فالقول قول كفر بلا شك، أما القائل فكونه يكفر أو لا يكفر مسألة تحتاج إلى تدبر وتفكر وتمحص واختبار لهذا القائل، وإقامة الحجة عليه: هل هو جاهل أو غافل أو ناسي أو سكران؟ وغير ذلك من الموانع التي منعت من إلحاق حكم الكفر بالقائل، وهذا لا يؤثر على كون هذا القول كفراً بواحاً، ولذلك ربما يصدر قولاً أو ترى عملاً هو في أصله مخالف للشرع مخالفة تؤدي إلى الكفر، أو تؤدي إلى البدعة، أو تؤدي إلى التفسيق، لكن لا يكون فاعل هذا الفعل كافراً، ولا مبتدعاً، ولا فاسقاً؛ لأنه يتصور أن عمله هو دين الله الذي نزل من السماء، فتصور أن البدعة سنة، ويحرص عليها أكثر من حرصه على السنة الصحيحة؛ لاعتقاده أن هذه هي سنة، وأن هذا هو دين الله تعالى، فلا يكفر ولا يبدع ولا يفسق؛ لجهله، ولغفلته، ولنسيانه، وللإكراه الذي وقع عليه. هذا هو ما دندن حوله شيخ الإسلام ابن تيمية، يقول رحمه الله: مع أني في عمري إلى ساعتي هذه لم أدع أحداً قط في أصول الدين إلى مذهب حنبلي أو غير حنبلي، ولا انتصرت لذلك ولا أذكره في كلامي، بل لا أذكر إلا ما اتفق عليه سلف الأمة، وقد قلت لهم غير مرة: أنا أمهل من يخالفني ثلاث سنين، إن جاء بحرف واحد عن أحد من أئمة القرون الثلاثة يخالف ما قلته، فأنا أقر بذلك، وما أذكره إنما هو عن أئمة القرون الثلاثة بألفاظهم، وبألفاظ من نقل إجماعهم من عامة الطوائف، مع أني دائماً من أعظم الناس نهياً عن أن ينسب معين إلى تكفير، أو تفسيق، أو معصية، إلا إذا قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها يكون كافراً تارة، أو فاسقاً أخرى، أو عاصياً ثالثة.

الخطأ في المسائل الخبرية مغفور

الخطأ في المسائل الخبرية مغفور كما قرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها في المسائل الخبرية القولية، أي: مسائل الغيب، من الجنة، والنار، والصراط، والحشر، والنشر، وعذاب القبر، وغير ذلك، والمسائل العملية المتعلقة بالتكاليف، والحلال والحرام من باب أولى، وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل، ولم يقل أحد منهم على أحد بكفر، ولا بفسق، ولا بمعصية، كما أنكر شريح قراءة من قرأ: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} [الصافات:12] بضم التاء في (عجبت)، كما كان يقرؤها ابن مسعود رضي الله عنه، وأنكرها عليه شريح وقال: إن الله لا يعجب، فبلغ ذلك إبراهيم النخعي -مع أن العجب ثابت لله عز وجل في كثير من النصوص- فقال: إنما شريح شاب يعجبه علمه، وعبد الله كان أعلم منه، وكما أنكرت عائشة وبعض الصحابة رؤية محمد عليه الصلاة والسلام لربه، وقالت: من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية، ومع هذا لا نقول لـ ابن عباس وللمخالفين معه: أنت مفترٍ على الله، وكما تنازعت مع بعض الصحابة في كلام الميت وكلام الحي، وفي تعذيب الميت، وغير ذلك من المسائل الفرعية العقدية، وكذلك ما جرى بين علي ومعاوية، مع أن أهل السنة متفقون على أن الطائفتين جميعاً مؤمنتان، وأن الاقتتال لا يمنع العدالة الثابتة لهم؛ لأن المقاتل وإن كان باغياً فهو متأول، والتأويل يمنع الفسوق، مع أن الحق كان مع علي، لكن لا يدعو ذلك إلى نسبة معاوية إلى الفسق؛ لأن الظن به أنه ما أقدم على قتال علي إلا مجتهداً أو متأولاً، ولا يلزم ذلك إصابته للحق.

وجوب التفريق بين الإطلاق والتعيين بالكفر

وجوب التفريق بين الإطلاق والتعيين بالكفر قال ابن تيمية: وكنت أبين لهم أن ما نقل لهم عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا، فهو أيضاً حق، لكن يجب التفريق بين الإطلاق والتعيين -وهو هذا الذي اختلف فيه السلف- أي: أن إطلاق القول بالكفر والتعيين بالكفر أمر يجب التفريق بينهما، فالقول مثل: (لئن قدر الله تعالى علي ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين)، فهذا القول في حد ذاته كفر باتفاق؛ لأنه شك في قدرة الله، بل الإمام أحمد بن حنبل لما سئل عن القدر قال: إن الله على كل شيء قدير، ففرق بين أن هذا القول كفر، وبين تكفير قائله. ثم قال: وهذه أول مسألة من مسائل الأصول الكبار التي تنازعت فيها الأمة، أعني: مسألة الوعيد، فإن صفة الوعيد في القرآن مطلقة، كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10]، وهي بمنزلة من قال من السلف: من قال كذا فهو كذا، فإن هذه مطلقة عامة. ثم إن الشخص المعين يلغى حكم الوعيد فيه بتوبة، أو حسنات ماحية، أو مصائب مكفرة، أو شفاعة مقبولة. فهو يقول لك: إن القول قول كفر، لكن قائل هذا القول ربما يكون له حسنات ماحية، أو بلاء وأمراض ومصائب نزلت عليه، فكلها من مكفرات الذنوب، أو شفاعة مقبولة يوم القيامة، أو غير ذلك، والتكفير هو من الوعيد، فإنه وإن كان القول تكذيباً لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بالإسلام -وهذا عذر- فلا يعلم أحكام الإسلام، فلا يكفر لجهله، أو لأنه نشأ في بادية بعيدة عن العلم والعلماء، كما هو معروف الآن، تذهب أي قرية أو أي بادية من البوادي فترى هناك بدعاً كثيرة جداً، فتقول: يا إخواني! هذه بدعة وهذه سنة، فيقولون: هذا الكلام أول مرة نسمعه، بل يقولون: هذا دين جديد، ليس لنا به سابق عهد! وهو ليس بدين جديد، وإنما هو نفس الدين الذي جاء به النبي عليه الصلاة والسلام، لكنهم بجهلهم وبعدهم عن مواطن العلم والنور والهدى تصوروا أنه دين جديد. قال ابن تيمية: ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة، وقد يكون الرجل الذي يسمع تلك النصوص أو سمعها لم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها، وإن كان مخطئاً في هذا التأويل. قال: وكنت دائماً أذكر الحديث الذي في الصحيحين، حديث الرجل الذي قال لبنيه: (إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني)، وذكر الحديث، فهذا رجل شك في قدرة الله وإعادته إذا ذري في البر والبحر، بل اعتقد أنه لا يعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكنه كان جاهلاً لا يعلم ذلك، وكان مؤمناً يخاف الله أن يعاقبه، فغفر الله له بذلك الإيمان؛ لأن الخشية هي من شعب الإيمان، والرجل كان في أصله مؤمناً، فالله تعالى غفر له بأصل الإيمان، وتجاوز عنه بصفة القدرة له سبحانه. قال: والمتأول من أهل الاجتهاد الحريص على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم أولى بالمغفرة من مثل هذا. هذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في المجلد الثالث، وقال كذلك في المجلد الثاني عشر كلاماً طيباً، فهو يذكر كلاماً كالمقدمات في اسم المؤمن والكافر، ومن يصدق عليهم هذا الاسم.

بيان سبب التنازع في مصطلح الإيمان والكفر ومن ينسب إليهما

بيان سبب التنازع في مصطلح الإيمان والكفر ومن ينسب إليهما ثم يقول: وسبب هذا التنازع -أي: في مصطلح الإيمان والكفر ومن ينسب إليهما- تعارض الأدلة في الظاهر، فإنهم يرون أدلة توجب إلحاق أحكام الكفر بهم، ثم إنهم يرون من الأعيان الذين قالوا تلك المقالات من قام به من الإيمان ما يمتنع أن يكون كافراً، فتعارض عندهم الدليلان. إذاً: هو يريد أن يقول: إن كل أعمال هذا الرجل إيمان، وهو أحرص على الإيمان والإسلام والتوحيد منك، لكنه يقول كفراً، فتعارض عندهم ما عليه الرجل عامة، وما يقوله خاصة في قضية بعينها تستوجب الكفر، فلما تعارض عندهم عمله وقيامه على التوحيد بما بدر منه مما يناقض هذا التوحيد قالوا: من قال كذا فهو كافر. لفظ عام وشامل، والمستمع لهذه المقولة يعتقد أن هذا اللفظ شامل لكل من قال بذلك القول. ومن الخطأ أن يحلف الرجل فيقول: ورب القرآن الكريم. وهذا كفر، لأنه بقسمه هذا كأنه يقول: إن القرآن مخلوق، وهو في نهاية الأمر قول المعتزلة، مع أن القائل لا يكفر؛ لجهله. قال: ولم يتدبروا أن التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعين، وأن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع، يبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات -أي: من قال: القرآن مخلوق- لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه. ومنهم: يحيى بن معين إمام الجرح والتعديل، مع أن الإمام أحمد بن حنبل يعلم يقيناً أن ابن معين لا يعتقد هذا القول، إذ كانت هذه فتنة وقع فيها من وقع، وصبر فيها من صبر، وكان أحمد بن حنبل يمنعه عن مجلسه بعد أن تلقى عنه علم الجرح والتعديل، فرفض أحمد بن حنبل أن يلقى يحيى بن معين في المجلس، أو أن يدخله عليه كضيف أحمد بن حنبل.

كتاب التوبة - قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت

شرح صحيح مسلم - كتاب التوبة - قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت من رحمة الله تعالى بعباده المؤمنين أن جعل باب التوبة مفتوحاً لهم، فمهما أذنب العبد، ومهما ارتكب من الذنوب والمعاصي، ثم رجع إلى ربه فإنه يقبله، كما جعل سبحانه وتعالى فعل الطاعات مكفرات للذنوب والسيئات، فإتيان الفرائض مكفرات، وإتيان النوافل مكفرات، والتسبيحة مكفرة، والتهليلة مكفرة، فلله الحمد الذي يقبل القليل ويعفو عن الجليل.

باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب والتوبة

باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب والتوبة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد: قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: [باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب والتوبة]. هذا التبويب من الإمام النووي في غاية التوفيق والسداد؛ لأن هذا التبويب يوحي بأن المرء لا بد أن يقع في الذنب، بل هذا نص حديث النبي عليه الصلاة والسلام الذي قال: (والذي نفس محمد بيده! لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وأتى بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم)، فالذنب لا بد أن يقع، إن لم يكن من الكبائر فمن الصغائر حتماً، لكن لست بهذا أعطي بطاقة أو رخصة لكل إنسان أن يذنب، فالمرء قد جبل على أن يقع في الخطأ والتقصير، وإذا وقع في الذنب فمنه ما هو كبير ومنه ما هو صغير، فالكبير قد علمنا حكم مرتكب الكبيرة مراراً وتكراراً، وأما الصغائر فتكفرها الطاعات، من صلاة، وصيام، وزكاة، وحج، وذكر، وتهليل، وتكبير، وتحميد، وتسبيح، وغيرها من الأعمال التي تكفر السيئات وتمحوها. كما يعني هذا التبويب أن المرء إذا أحدث ذنباً لا بد أن يحدث له توبة، وهذا معنى قول الله عز وجل: (اعمل ما شئت فقد غفرت لك)، فمهما عمل العبد من ذنب، وما دام أنه يحدث له توبة، فإن الله تعالى يقبل هذه التوبة. وأقول هذا بمناسبة ذيوع حديث موضوع مشهور بين العامة: (أن الله عز وجل يقول للعبد الذي تاب من ذنبه ثم رجع إليه: فإني لا أتوب على عبدي، وعبدي كالمستهزئ بي)؛ أي: أنه يتوب ثم يرجع في توبته، ويرتكب الذنب الذي تاب منه أو غيره.

شرح حديث: (أذنب عبد ذنبا)

شرح حديث: (أذنب عبد ذنباً) قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثني عبد الأعلى بن حماد النرسي، حدثنا حماد بن سلمة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة -وهو قاص من قصاص المدينة- عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه عز وجل -أي: أن الحديث قدسي، إذ هو من كلام الله عز وجل- قال: (أذنب عبد ذنباً فقال: اللهم اغفر لي ذنبي)، أي: ألجأ وأتضرع وأستعيذ بك يا رب! (فقال الله تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب)]. هنا يقرر قاعدة عظيمة عند أهل السنة والجماعة، وهي أن عبادة المسلم لا بد أن تدور بين الخوف والرجاء، إذ إن الله تعالى يأخذ بالذنب ويغفر الذنب، فلما علم العبد أنه يدور بين الخوف والرجاء، وقد وقع في الذنب، دفعه خوفه من الله عز وجل إلى أن يطلب المغفرة منه سبحانه. قال: (ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب! اغفر لي ذنبي. فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنباً، فعلم أنه له رباً يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب - أي: الثالثة - فقال: أي رب! اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً، فعلم أن له رباً يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئت فقد غفرت لك). والتقدير: اعمل يا عبدي! ما شئت من الذنوب ما دمت تحدث بعدها توبة، وهذا لا يعني أنها رخصة من الله عز وجل للعباد بأن يذنبوا، أو أن يقعوا في المعاصي.

الرد على من يقول ما دام باب التوبة مفتوحا فما المانع أن يذنب العبد ثم يتوب

الرد على من يقول ما دام باب التوبة مفتوحاً فما المانع أن يذنب العبد ثم يتوب وربما يقول بعض الناس: ما دام باب التوبة مفتوحاً فما المانع أن يذنب العبد ثم يتوب؟! وهذا الأمر مردود من عدة أوجه: الأول: أنك لا تضمن أن تقبض روحك وأنت على المعصية، وعند ذلك لا تدرك التوبة. الثاني: أنك لا تدري لعل الشيطان يتسلط عليك فينسيك التوبة، لذا ينبغي على المرء أن يحرص كل الحرص أن يكون بجوار ربه، وملازماً لطاعته. الثالث: لعل الله تعالى لا يوفقك إلى التوبة. الرابع: لعلك تتوب توبة ضعيفة، فلا يقبلها الله عز وجل، وأقول: توبة ضعيفة؛ لأن العبد الذي يفكر سلفاً في المعصية اتكالاً على أنه سيتوب، فإنه في حقيقة أمره لم يتب؛ لأن التوبة من الذنب تجعل قلب المرء كأنه يختلع وينتفض من صدره انتفاضاً، ويتحشرج في حلقه، أما الذي يطلق لنفسه العنان في المعاصي والذنوب بدعوى أنه سيتوب بعدها لا بد أن يسأل نفسه: هل تضمن حياتك بعد ارتكاب الذنب؟ فإن كان الجواب بـ (لا) فليقم على توبته قبل وقوعه في الذنب. وقوله: (فعلم أن له رباً يأخذ بالذنب، ويغفر الذنب، اعمل ما شئت فقد غفرت لك). أي: ما دمت تتوب بعد كل ذنب، فإن باب التوبة مفتوح حتى تطلع الشمس من مغربها، وهذه التوبة عامة لكل الخلق، أما التوبة الخاصة فلكل عبد على حدة، وذلك حين يغرغر. قال عبد الأعلى: (لا أدري أقال في الثالثة أو الرابعة: اعمل ما شئت)؟ قال: [حدثني عبد بن حميد، حدثني أبو الوليد -وهو هشام بن عبد الملك الطيالسي - حدثنا همام -وهو ابن يحيى بن دينار - حدثنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة قال: كان في المدينة قاص يقال له عبد الرحمن بن أبي عمرة قال: فسمعته يقول: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن عبداً أذنب ذنباً) بمعنى حديث حماد بن سلمة، وذكر ثلاث مرات، أذنب ذنباً، وفي الثالثة (قد غفرت لعبدي فليعمل ما شاء)]، أي: فليعمل ما شاء ما دام أنه يحدث توبة، أما أن الله تعالى يعفو عن العبد وهو مصر على الذنب، ولم يتب ويستغفر، ولم يكن عنده من الطاعات ما يؤهله لمحو السيئات، فهو على خطر عظيم جداً.

شرح حديث: (إن الله يبسط يده بالليل) وإثبات صفة اليد لله تعالى

شرح حديث: (إن الله يبسط يده بالليل) وإثبات صفة اليد لله تعالى قال: [حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا محمد بن جعفر -المعروف بـ غندر - حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة قال: سمعت أبا عبيدة يحدث عن أبي موسى رضي الله عنهم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها)] أي: حين ينتهي هذا العالم، وتفنى هذه الدنيا، وهذا في التوبة العامة. قال الإمام النووي: بسط اليد استعارة في قبول التوبة، قال المازري: المراد به قبول التوبة، وإنما ورد لفظ بسط اليد؛ لأن العرب إذا رضي أحدهم الشيء بسط يده لقبوله، وإذا كرهه قبضها عنه، فخوطبوا بأمر حسي يفهمونه، وهو مجاز، فإن اليد الجارحة مستحيلة في حق الله تعالى. هذا كلام الأشاعرة، وقلنا مراراً: إننا نثبت صفات الله عز وجل على الوجه اللائق به سبحانه، ومنها: اليد، فلا ندري كيفية هذه اليد؛ لأننا لا ندري كيفية الذات، وبالتالي فلا ندري كيفية الصفات، أما صفات الفعل لله عز وجل فمنها صفة البسط، أعني: بسط اليد، والبسط في حقنا هو مد اليد، وحتى مد اليد أو البسط على اختلاف بين شعوب العرب نفسها. ولو حملنا بسط اليد على قبول التوبة -كما قال المازري - لقلنا: إن الله تعالى لا يبسط يده حقيقة، ونحن نؤمن أن ما وصف الله به نفسه، وما وصفه به رسوله حقيقة على المعنى اللائق به سبحانه. وقد سألت طفلاً بدوياً في سنة 85 عن حال أبيه فقال: مبسوط، فلما زرته وجدته مريضاً طريح الفراش، فأخبرته بما قال لي ولده، فقال: كلمة (مبسوط) عندنا تعني: أنه نائم في فراشه، بخلاف ما هي عليه عندنا، إذ هي بمعنى فرحان، وعليه فكلمة (مبسوط) لها مدلولات كثيرة، فلمَ لا تحمل مدلولاً عظيماً يليق بأفعال الله عز وجل؟ وأن الله تعالى يبسط يده لعباده المسيئين بالليل والنهار ليتوبوا، فيقبل الله تعالى توبتهم، وبسط اليد وإن كان حقيقة إلا أن الكيفية تختلف عن بسط يد العباد، أو يد المخلوقات، وهذا هو معتقد أهل السنة والجماعة، فيؤمنون بأن الله تعالى يغضب، ويفرح، ويأتي، ويذهب، ويجيء، ويقبض، ويبسط، وغير ذلك من أفعال ذاته سبحانه وتعالى على المعنى اللائق به تبارك وتعالى، ولذلك كلام الإمام النووي غير سديد.

باب غيرة الله تعالى وتحريم الفواحش

باب غيرة الله تعالى وتحريم الفواحش

شرح حديث: (ليس أحد أحب إليه المدح من الله)

شرح حديث: (ليس أحد أحب إليه المدح من الله) قال: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم (قال إسحاق: أخبرنا، وقال عثمان: حدثنا) جرير -وهو ابن عبد الحميد الضبي - عن الأعمش - سليمان بن مهران الكوفي - عن أبي وائل - شقيق بن سلمة الكوفي - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس أحد أحب إليه المدح من الله، من أجل ذلك مدح نفسه)، في هذا إثبات صفة المحبة لله عز وجل، وحبه ليس كحبنا، إذ إن حبنا يستلزم قلباً ووجداً وشفافية، ويستلزم بكاء على المحبوب. وإذا قلنا في معنى بسط اليد لله: أنه قبول التوبة، فلا بد أن نؤول الحب كذلك؛ لأنه لا يليق بالله عز وجل أن يحب كحبنا، فلا بد أن نثبت أن الله تعالى يحب، فيحب عباده المؤمنين والموحدين.

محبة الله تعالى للمدح

محبة الله تعالى للمدح كما أن الله تعالى يحب المدح، ولذلك مدح الله تعالى نفسه، لكن لو أن شخصاً منا مدح نفسه فإنه يكون عيباً عليه، إذ هو يزكي نفسه، والله تعالى يقول: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32]، وحينئذ فلا يجوز له ذلك، فهو أمر مذموم شرعاً وعرفاً، وكذلك لو زكى أحدنا غيره، بمعنى: مدحه وأطراه وأثنى عليه ثناءً يخشى معه الفتنة فغير مشروع، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام في حديث عبد الله بن عمر: (إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب)، وكان ابن عمر يفعل ذلك على الحقيقة، فإذا مدحه إنسان تناول حفنة من تراب فحصبه في وجهه. أما الله عز وجل فإنه يحب المدح، أي: يحب المدح والتزكية والثناء لعباده بشروطه، وقد مدح الله عز وجل عباداً صالحين على العموم، ومدح بعض عباده على الخصوص، كالأنبياء والمرسلين؛ لأنه لا يخشى عليهم الفتنة، لكن لو قلت لشخص ما: أنت ما شاء الله عليك، أنت ممتاز، أنت رجل فاضل، وهو أصلاً لا يستحق ذلك، فيصدق هذا الكلام، ويصدق هذا المدح، فيتعامل مع نفسه ومع الناس بعد ذلك على أنه رجل طيب، ورجل فاضل، وهو في الحقيقة لا يستاهل أن يكون نصف رجل، فأنت قد أثنيت عليه ظلماً وعدواناً لتحصل منه على منفعة غلب على ظنك أنك لا تحصل على هذه المصلحة أو هذه المنفعة إلا بالثناء والإطراء له، والطامة أنه صدق ذلك، وبالتالي بدأ يتصرف على أنه بالفعل إنسان ممدوح، وإنسان مرغوب فيه وفي أخلاقه وغير ذلك، أما الله عز وجل فإنه على خلاف ذلك؛ لأنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]. قال: [(وليس أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش)]؛ لأن الله تعالى يغار -والله المثل الأعلى- فالواحد منا يغار على امرأته، فيغلق عليها الباب، ويغلق عليها الشبابيك، ولا يحب أن يراها رجل، ولا يحب أن تنظر هي إلى رجل آخر، فيمنعها من كل شيء يؤثر على هذه الغيرة، أو يعكر عليه هذه الغيرة، ولو أنه رأى بصر امرأته وقع على رجل، أو وقع بصر رجل عليها، لغضب غضباً شديداً، ولفعل الأفاعيل. لذا أقول: إن الله تبارك وتعالى أشد غيرة من عباده، حتى وإن كانوا أنبياء أو ملائكة، وهي غيرة تليق بذاته وجلاله، ولذلك حرم المعاصي والفواحش، فوضع الحدود والموانع من ارتكاب هذه المعاصي والفواحش؛ لأن الله تعالى يغار أن تنتهك حرمة من حرماته، أو أن يقع عبد في معصية من معاصيه.

إثبات صفة الغيرة لله تعالى

إثبات صفة الغيرة لله تعالى قال: [حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير وأبو كريب - محمد بن العلاء الهمداني - قالا: حدثنا أبو معاوية -وهو محمد بن خازم الضرير - وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة (واللفظ له) حدثنا عبد الله بن نمير وأبو معاوية، عن الأعمش، عن شقيق -وهو أبو وائل السابق في الإسناد الأول- عن عبد الله - وهو ابن مسعود - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا أحد أغير من الله، ولذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه المدح من الله)]. والتقدير كما في الرواية السابقة: من أجل ذلك مدح الله تعالى نفسه. قال: [حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار، قالا: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة قال: سمعت أبا وائل يقول: سمعت عبد الله بن مسعود يقول: قلت له: أأنت سمعته من عبد الله؟ -يعني: أن عمرو بن مرة سأل أبا وائل هل سمع هذا الحديث من عبد الله بن مسعود؟ - قال نعم. ورفعه]، أي: أن ابن مسعود رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وسمي الكلام المرفوع إلى النبي مرفوعاً؛ لرفعة قائله صلى الله عليه وسلم. قال: [(لا أحد أغير من الله، ولذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه المدح من الله، ولذلك مدح نفسه)]. قال: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة وزهير بن حرب - أبو خيثمة النسائي، نزيل بغداد- وإسحاق بن إبراهيم -المعروف بـ ابن راهويه - قال إسحاق: أخبرنا وقال الآخران: حدثنا جرير، عن الأعمش، عن مالك بن الحارث -وهو السلمي الرقي، وقيل: الكوفي- عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس أحد أحب إليه المدح من الله عز وجل، من أجل ذلك مدح نفسه، وليس أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش، وليس أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل). إن مدح الله تعالى والثناء عليه يكون بالتحميد، والتهليل، والتسبيح، والذكر، والصلاة، والصيام، والحج وغير ذلك، وكل هذه الطاعات إنما هي من باب مدح الله عز وجل، وقد اختلف أهل العلم في معنى المدح: فقال بعضهم: هي: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وقال بعضهم: قول العبد: الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين. وقال بعضهم: المقصود بالمدح في الحديث: الصلاة؛ لما اشتملت عليه من دعاء، واستغفار، وقراءة للقرآن وغير ذلك. والذي يترجح لدى الإمام النووي، وأظن أنه الراجح: أن كل طاعة يؤديها العبد لله عز وجل بذل وخضوع فهي من باب مدح الله عز وجل على نعمائه على عباده.

المقابلة بين المدح والغيرة في الحديث

المقابلة بين المدح والغيرة في الحديث ثم تأمل المقابلة بين المدح والغيرة في الحديث، فالله تعالى أحب المدح، وقلنا: المدح هو الطاعات والثناء على الله عز وجل، وفي المقابل غيرة الله عز وجل التي بسببها حرم الفواحش، مما يشعر بأن المدح هو الطاعات في مقابلة الفواحش، فيكون في مقابلة غيرة، وطاعة في مقابلة فواحش، والله تعالى يحب المدح ولذلك مدح نفسه، وطالب العباد بأن يمدحوه بالطاعات والقربات، والله تعالى أشد غيرة من عباده، فلا أحد أغير من الله عز وجل، ولذلك حرم الفواحش والمعاصي ما ظهر منها وما بطن، كالسرقة، والزنا، وشرب الخمر، وغير ذلك من سائر المعاصي التي يمكن أن ترى، وهناك معاص باطنة لا يراها أحد، ولا يعلم بها إلا الله عز وجل وصاحبها الذي تخلق بها، أو يعلم ذلك غيره بقرائن الحال أو المقال، ومنها: المعاصي القلبية، كالغل، والبغض، والحسد، والضغينة، والشحناء، كل هذه أمراض قلبية باطنية، فالله تعالى يطلع عليها ويعلمها من عبده، ولذلك حرم الله تعالى الفواحش والمعاصي ما ظهر منها للعيان وما لم يظهر، كما لو كان في أمراض القلوب.

محبة الله وقبوله لعذر العبد

محبة الله وقبوله لعذر العبد قوله: (وليس أحد أحب إليه العذر من الله عز وجل)، فإذا اعتذر إليك إنسان أخطأ في حقك، فإنك وإن قبلت العذر لكن هذا العذر لا يشفي غليلك في الغالب؛ لأنك تريد الانتقام -وربما جبلت عليه- ولو باللوم والعتب الشديد والتوبيخ، وهذا أقل العفو، لكن تصور أن الذي أساء إليك لقيك فبادرك بالاعتذار، فقد قطع لسانك كما قطع يدك من باب أولى؛ لأنك إذا كنت لا تتناوله بلسانك فمن باب أولى ألا تتناوله بيدك، وحينئذ العذر مبغض إلى العبد، وربما قد تحبه، لكن هذا لا يشفي الغليل -ولله المثل الأعلى- فالله تعالى يحب العذر، والعذر هو التوبة، ولذلك أخرجه مسلم في كتاب التوبة. قال: (وليس أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل)، أي: إذا لم يكن العذر محبباً إلى الله عز وجل، وبلوغ الحجة وقيامها على العباد، فما الفائدة من إرسال الأنبياء والمرسلين، وإنزال الكتب الهادية البشيرة مع هؤلاء الأنبياء والمرسلين؟ إن الله عز وجل بإنزاله الكتب وإرساله الرسل قد أقام الحجة على جميع العباد؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، والله تعالى غني عن عذاب عباده، ولذلك لا يعذبهم إلا بعد قيام الحجة عليهم، وأخذ العذر عنهم ولهم، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام (إذا بلغ العبد أربعين عاماً فقد أعذر الله له) إذا بلغ العبد، مع أنه مكلف من سن العاشرة أو الثانية عشر، ومحاسب على أعماله الحسنة والسيئة، لكن الله تعالى كأنه أعطاه فرصة لأن يتوب، وأن يراجع نفسه، وأن يقف مع نفسه وقفة جادة صادقة حتى بلغ سنة أربعين سنة، والحديث في مسلم. ومن العجب أن سن الأربعين له اهتمام خاص في كتاب الله عز وجل، وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف:15]، وورد أهمية هذا السن في كثير من الأحاديث والآيات، وقد قيل: إن كل نبي بعثه الله عز وجل في هذه السن، أي: في سن الأربعين، ولا أقصد جميع الأنبياء، لكن غالب الأنبياء هكذا، وإلا فأنتم تعلمون أن بعض الأنبياء بعثوا قبل ذلك وهم صغار، مثل: سيدنا عيسى، وسيدنا يحيى، وسيدنا سليمان. نقل الإمام النووي عن القاضي فيقول: يحتمل أن المراد بالاعتذار، أي: اعتذار العباد إليه من تقصيرهم وتوبتهم من معاصيهم، فيغفر الله لهم، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [الشورى:25]. نفس الكلام الذي قلناه في بسط اليد نقوله هنا في غيرة الله عز وجل. قال: [حدثنا عمرو الناقد، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن علية، عن حجاج بن أبي عثمان قال: قال يحيى -وهو ابن أبي كثير -: وحدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يغار، وإن المؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم عليه)]، أي: ما حرم الله عليه. وعلى كل فالله تعالى أثبت لنفسه غيرة كما أثبت لعبده المؤمن غيرة، لكن شتان بين غيرة الله تعالى وبين غيرة عباده المؤمنين. قال: [قال يحيى بن أبي كثير: وحدثني أبو سلمة، أن عروة بن الزبير حدثه، أن أسماء بنت أبي بكر حدثته، أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ليس شيء أغير من الله عز وجل). وفي رواية لها قالت: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا شيء أغير من الله عز وجل)]. قال: [حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب الحرقي، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المؤمن يغار، والله أشد غيرة)]. وهذا يدل على أن الغيرة من شعب الإيمان، والحديث الذي معنا قد أثبت أن العبد المؤمن يغار، والعبد الذي لا يغار لا يكون مؤمناً كامل الإيمان، بل لا يكون رجلاً قط، إنما الرجل هو القائم على طاعة الله عز وجل، هذا هو الرجل حقيقة.

باب قوله تعالى: (إن الحسنات يذهبن السيئات)

باب قوله تعالى: (إن الحسنات يذهبن السيئات) قال: (باب قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114]. (طلب رجل من النبي صلى الله عليه وسلم أن يوصيه، فقال: عليك بتقوى الله، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)). الشاهد: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها). أي: إذا وقعت في سيئة فليكن بعدها حسنة، من أجل أن تغفر هذه تلك، أو أن هذه الحسنة تمحو السيئة، ومعنى (يذهبن) تمحو، فالحسنات تمحو السيئات.

شرح حديث: (أن رجلا أصاب من امرأة قبلة)

شرح حديث: (أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة) قال: [حدثنا قتيبة بن سعيد وأبو كامل فضيل بن حسين الجحدري، كلاهما عن يزيد بن زريع، واللفظ لـ أبي كامل، حدثنا يزيد، حدثنا التيمي -وهو سليمان بن طرخان التيمي - عن أبي عثمان عبد الرحمن بن مل، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، قال: فنزلت: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114]، قال: فقال الرجل: ألي هذه؟ -يعني: هذه خاصة لي فقط- يا رسول الله! قال: لمن عمل بها من أمتي)]. ولا يقول العبد: الحمد لله هذه رحمة من الله عز وجل، ويفعل الآثام والمعاصي! إذ إنه لا يوجد عنده زلف من الليل، وإنما يكتفي بالفروض الخمسة، ولا سنن قبلية ولا سنن بعدية، وربما صلى وهو يفكر، ويريد أن ينتهي الإمام من الصلاة حتى يخرج إلى الشارع، لذا إقامة الصلاة ليس معناه: أنك تؤدي الصلاة ثم تنصرف، بل لا بد أن تبقى قيام الصلاة في قلبك، بحيث يتعلق قلبك بالمساجد. ولذلك يقول العلماء: أداء الصلاة شيء وإقامتها شيء آخر، فإقامة الصلاة يعني: تعلق القلب بها مثلما كان السلف، فقد كان الشخص منهم يدخل في الصلاة فلا يشعر بمن حوله، حتى لو قطعوا رجله أو رقبته؛ لأنه استغرق تماماً في هذه العبادة، فعاش مع الله تبارك وتعالى، فهل نحن كذلك؟!

صغائر الذنوب تكفرها الطاعات ما لم تغش الكبائر

صغائر الذنوب تكفرها الطاعات ما لم تغش الكبائر قال: [حدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا المعتمر -وهو ابن سليمان بن طرخان التيمي - عن أبيه، حدثنا أبو عثمان، عن ابن مسعود (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر أنه أصاب من امرأة، إما قبلة، أو مساً بيد، أو شيئاً، كأنه يسأل عن كفارتها، قال: فأنزل الله عز وجل هذه الآية) ثم ذكر بمثل حديث يزيد. وقال: حدثنا يحيى بن يحيى وقتيبة بن سعيد وأبو بكر بن أبي شيبة -واللفظ لـ يحيى - قال يحيى: أخبرنا، وقال الآخران: حدثنا أبو الأحوص -وهو سلام بن سليم - عن سماك بن حرب، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة والأسود، عن عبد الله بن مسعود قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني عالجت امرأة في أقصى المدينة)]. أي: استمتعت بها استمتاعاً دون الفاحشة، كأن يقبلها أو يحضنها أو يغمز لها أو غير ذلك. وقوله: (في أقصى المدينة) أي: بعيداً عن أنظار وأعين الناس. قال: (وإني أصبت منها ما دون أن أمسها) والمس بمعنى: الجماع، أي: أنه فعل معها كل شيء إلا الجماع. قال: فأنا هذا فاقض فيّ ما شئت، يعني: ها أنا قد أتيتك، وأنا بين يديك فاحكم في بما شئت. لكن نجد كل وسائل الفساد قد سعت لإفساد المرأة، فأدخلوا لها تلفزيوناً (24 بوصة) ملوناً، وأخذت تنظر فيه، فترى الرجل يقبل المرأة، وهي تكاد أن تموت من فرط غيرتها وحيائها، ثم بعد ذلك تألف المسألة، بل لو تعطل التلفزيون تكون مصيبة كبيرة في البيت، ولا بد أن تصلحه في نفس اليوم؛ لأنها تتابع الأفلام والمسلسلات، ومعنى أنها لا تدرك حلقة من المسلسل ذهاب نصف عمرها! وهكذا فشيء مع الوقت تغيرت الأخلاق، وتغيرت القلوب، وكل شيء تغير في الأمة، فلا بد من الرجوع بالأمة إلى عهدها الأول، ولن تصلح الأمة إلا بالرجوع إلى عهدها الأول، العهد الذي يقاس عليه الخير كله. قال: [(فقال له عمر: لقد سترك الله لو سترت نفسك، قال: فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً -وفي هذا جواز اجتهاد المفضول في وجود الفاضل- فقام الرجل فانطلق، فأتبعه النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً دعاه، وتلا عليه هذه الآية: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114]، فقال رجل من القوم: يا نبي الله! هذا له خاصة؟ قال: بل للناس كافة)] أي: بل لكل من وقع في سيئة من هذه الأمة؛ لأن هذا الذنب الذي ذكره الرجل من الصغائر التي تستوجب التعزير لا الحد، والذي يستوجب الحد إنما هو ارتكاب الفواحش، مع أن الرجل سماه حداً فقال (يا رسول الله! أصبت ذنباً فأقم علي الحد)؛ لأن لفظ الحد يطلق مجازاً، ولا يراد به حقيقة الذنب الذي يستوجب حداً قد حده الله عز وجل، كما أن إجماع الأمة منعقد على أن ما دون الجماع صغيرة، وأنا أقول هذا الكلام وأنا في منتهى المرارة؛ لأني لا أضمن جميع القلوب والأذهان المستمعة، وأرجو ألا تهون عليك هذه المعاصي؛ لأن الله تعالى قد يقبضك -ولا يبالي- وأنت عليها، وتبعث عليها، ثم كيف يكون موقفك يوم القيامة؟ لكنني أقرر أمراً، وهو أن ما دون الجماع، أو ما دون الزنا الحقيقي في الفرج هو من الصغائر، تكفرها الطاعات، وأقول هذا لأربط لك بين قول هذا الرجل: (أصبت ذنباً يا رسول الله! فها أنا ذا يا رسول الله! افعل في ما شئت)، وبين ما قاله وأرشد إليه النبي عليه الصلاة والسلام: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود:114]، ولو كان هذا حداً كبيراً يستوجب إقامة حد معلوم لحده النبي عليه الصلاة والسلام، فلما ترك الحد ودله على المكفرات، وهي الصلاة، دل على أن ما فعله الرجل ليس بكبيرة، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الوضوء إلى الوضوء كفارة لما بينهما، والصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما، ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما، والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما، ما لم تغش الكبائر). فقوله: (الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينها ما لم تغش الكبائر)، يدل على أن الذي فعله الرجل ليس من الكبائر؛ لأنه ليس بالزنا الذي هو الإيلاج، أي: إدخال الذكر في الفرج، كما يدخل الرشاء في البئر، وكما قال عليه الصلاة والسلام في حديث ماعز: (يا رسول الله! إني زنيت، قال: أتدري ما الزنا؟ قال: نعم يا رسول الله! قال: أدخل هذا منك في ذاك منها كما يدخل الرشاء في البئر- يعني: هل دخل ذكرك في فرجها على هذا النحو؟ قال: نعم يا رسو

الفرق بين الحد والتعزير

الفرق بين الحد والتعزير قال: [حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا أبو النعمان، الحكم بن عبد الله العجلي، حدثنا شعبة، عن سماك بن حرب، قال: سمعت إبراهيم يحدث عن خاله الأسود -وهو الأسود بن يزيد بن قيس النخعي - عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعنى حديث أبي الأحوص. وقال في حديثه: (فقال معاذ: يا رسول الله! هذا لهذا خاصة - يعني: الكفارة هذه لهذا الرجل خاصة في هذا الموقف- أو لنا عامة؟ قال: بل لكم عامة). وحدثنا الحسن بن علي الحلواني، حدثنا عمرو بن عاصم -وهو الكلابي القيسي أبو عثمان البصري - حدثنا همام -وهو ابن يحيى بن دينار - عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أصبت حداً فأقمه علي. قال: وحضرت الصلاة فصلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قضى الصلاة قال: يا رسول الله! إني أصبت حداً فأقم في كتاب الله، قال: هل حضرت الصلاة معنا؟ قال: نعم، قال: قد غفر لك)]. وهذا محمول على الصغائر لا الكبائر، لأن الكبيرة تستوجب الحد، وليس في مقدور النبي عليه الصلاة والسلام ألا يقيم الحد، والحدود والتعزيرات بينهما فوارق: منها: أنه للسلطان أن يتنازل عن الحد في الكبيرة، بخلاف التعزير، فإنه متروك لاجتهاد القاضي، أو الحاكم أو الأمير أو السيد أو الزعيم أو المسئول، والتعزير يكون باللوم وبالتوبيخ وبالسب، وبالمثلة، كأن يحلق شعره، ولا حد في أقل من عشر، كما أنه لا تعزير في أكثر من عشر، فللحاكم أن يعزر بالجلد، فيجلد جلدتين وثلاثاً وسبعاً وعشراً، ولا يزيد على ذلك إلا في حد من حدود الله، ولذلك جعل الله تعزير المرأة أولاً بالوعظ، ثم باللوم والتوبيخ والهجر، ثم الضرب غير المبرح. قال: [حدثنا نصر بن علي الجهضمي وزهير بن حرب -واللفظ لـ زهير - قالا: حدثنا عمر بن يونس -وهو ابن قاسم اليمامي - حدثنا عكرمة بن عمار، حدثنا شداد، حدثنا أبو أمامة قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ونحن قعود معه، إذ جاء رجل فقال: يا رسول الله! إني أصبت حداً)]. أي: ذنباً عظيماً وليس ما يستوجب حداً، وربما فهم الرجل أن هذا العمل فيه حد، فلما أطلع النبي على ما فعل علم أنه ليس حداً يستوجب إقامة الحد عليه. [قال: (إني أصبت حداً فأقمه علي، فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أعاد فقال: يا رسول الله! إني أصبت حداً فأقمه علي، فسكت عنه، وأقيمت الصلاة)]. وهذا يذكرني بذاك المدني الذي أتى وقال: (يا رسول الله! هلك الأبعد، قال: وما أهلكه؟ قال: وقعت على امرأتي في نهار رمضان)، مع أن وطء المرأة في نهار رمضان ليس فيه حد، ومع هذا قال: هلك. وقال: الأبعد، أي: يدعو على نفسه. فقال عليه الصلاة والسلام: (وما أهلكه؟ أي: ماذا عمل؟ قال: وقعت على امرأتي في نهار رمضان، قال: اذهب فأعتق رقبة، قال: ليس عندي رقبة، قال: اذهب فصم ستين يوماً، قال: وهل أوقعني فيما وقعت فيه إلا الصيام؟ فتبسم النبي عليه الصلاة والسلام وقال: كيف وقعت بها؟ قال: رأيت خلخالها، ثم قال: اذهب فأطعم ستين مسكيناً، قال: ليس عندي ما أطعمه، قال: انتظر، فانتظر حتى أتي بتمر إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ثم قال: اذهب فأطعم ستين مسكيناً، قال: والله يا رسول الله! لا تجد بين لابتيها -أي: بين جبليها، فقد كانت المدينة في وادي أو في سهل بين جبلين عظيمين- أفقر مني ومن أهل بيتي، قال: اذهب فاجعله فيك وفي أهل بيتك). قال: [(وأقيمت الصلاة، فلما انصرف نبي الله صلى الله عليه وسلم قال أبو أمامة: فاتبع الرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف، واتبعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنظر ما يرد على الرجل)]. انظر إلى الحرص على طلب العلم، فقد مشى الرجل والنبي عليه الصلاة والسلام وأبو أمامة وراءهم من أجل أن يعرف رد النبي في هذه القضية. قال: [(فلحق الرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني أصبت حداً فأقمه علي، قال أبو أمامة: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت حين خرجت من بيتك، أليس قد توضأت فأحسنت الوضوء؟ قال: بلى يا رسول الله! قال: ثم شهدت الصلاة معنا؟ فقال: نعم يا رسول الله! قال: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإن الله قد غفر لك حدك، أو قال: ذنبك)]، وهذا شك من الراوي، والصواب: (فإن الل

الأسئلة

الأسئلة

الاحتجاج بالأحاديث على قواعد النحو

الاحتجاج بالأحاديث على قواعد النحو Q هل يجوز الاحتجاج بالأحاديث على قواعد النحو؟ A هذا هو الأصل؛ وليس جائزاً فقط؛ لأن القواعد النحوية إنما أخذت من كلام العرب، وأبلغ الكلام وأفصحه هو كلام الله تعالى وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم، ولذا فإن أعظم قاعدة لغوية هي ما يستشهد عليها بآية من كتاب الله، أو بحديث من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم.

الحكم على حديث: (سلمان منا أهل البيت)

الحكم على حديث: (سلمان منا أهل البيت) Q ما صحة حديث: (سلمان منا أهل البيت)؟ A هذا الحديث روي أنه قاله النبي عليه الصلاة والسلام في غزوة الخندق، لكن إسناده غير صحيح، وهو صحيح موقوف من قول علي بن أبي طالب، فالراجح أنه من كلام علي بن أبي طالب لا من كلام النبي عليه الصلاة والسلام.

الحكم على حديث: (من وصل صفا وصله الله)

الحكم على حديث: (من وصل صفاً وصله الله) Q حديث: (من وصل صفاً وصله الله، ومن قطع صفاً قطعه الله)، هل هو حديث صحيح؟ A نعم هو حديث صحيح.

بيان سبب إيراد الإمام النووي لكلام المازري في شرح صحيح مسلم

بيان سبب إيراد الإمام النووي لكلام المازري في شرح صحيح مسلم Q لماذا أورد النووي قول المازري؟ هل لأنه قبل هذا القول أم ماذا؟ A قد ذكرنا هذا مراراً وتكراراً، وقلنا: إن العقيدة لم تتقرر عند الإمام النووي رحمه الله، ولذلك يورد أحياناً كلام الأشاعرة ويرد عليهم، ويبطل معتقدهم ومذهبهم، وأحياناً يوافقهم على ذلك، وأحياناً يتوقف.

كفارة النذر

كفارة النذر Q عاهدت الله في حالة مرضي الشديد إن شفاني على ألا أشاهد التلفاز ولا أشاهد الأفلام، ثم من الله علي بالشفاء، فأخلفت وعدي مع الله، فما هي الكفارة لذلك؟ A في الحقيقة أن التلفاز لا يحتاج إلى النذر حتى يتركه المسلم؛ أعظم من أن ينذر المسلم تركه، وعلى أي حال إذا أرادت الأخت أن تستريح لسؤالها فلتتصدق بشيء ما، وهذا الشيء قد اختلف فيه أهل العلم؛ لأنه قد ورد في رواية مسلم: (من نذر فلم يستطع فليتصدق بشيء)، وفي رواية: (من قال لأخيه: تعال أقامرك. فليتصدق بشيء)، فهل هذا الشيء هو الكفارة أو أي شيء يجزئ؟ الراجح: أن أي شيء مهما قل يجزئ، خاصة أن الأخت عاهدت الله تعالى، فإذا حملنا هذا العهد على النذر فيجزئها أن تتصدق بأي شيء قل أو كثر، والله تعالى أعلم.

شرح قول الصحابة: (تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن)

شرح قول الصحابة: (تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن) Q نريد شرح هذا الحديث: (تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن)، وهل معناه: تعلم الإيمان ثم حفظ القرآن، أم ماذا؟ A أظن أن هذا السؤال بالذات كان محل خطبة طويلة على هذا المنبر، وقد قلنا: إن النبي عليه الصلاة والسلام مكث ثلاثة عشر عاماً يعلم أصحابه الاعتقاد قبل أن ينزل من السماء حكم شرعي واحد، وهذا ليس بحديث، وإنما هو من قول عبد الله بن عمر، وجرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنهم أجمعين، يقول عبد الله بن عمر: كان الواحد منا يتعلم العشر الآيات من القرآن، فيقف عندها، فيتعلم حلالها وحرامها، وحدودها وفرائضها، وما يجب عليه منها، فكان الإيمان أولاً، وكم ممن يحفظ القرآن لا إيمان له، وبعض الناس يتصور أنه إذا حفظ القرآن فقد عبر القنطرة، بل إن أعظم الناس بدعة في تاريخ الإسلام الخوارج، ومع ذلك كانوا أحفظ الناس لكتاب الله، وأعبد الفرق الإسلامية لله عز وجل، وما وقعوا فيما وقعوا فيه إلا لاستشعارهم بأن المعصية الصغيرة ذنب كبير في حق الله عز وجل، ولذلك كفروا مرتكب الكبيرة، وقالوا: من ارتكب كبيرة فهو كافر خارج عن الملة، مخلد في النار، مع أنه ليس كذلك، لكنهم قالوا بذلك استشعاراً لعظم الذنب، وهذا يعني: أن حسن النية للشخص، أو العواطف في الأحكام الشرعية ليس كافياً، إذ إن المسائل الشرعية تقرر بالقواعد العلمية، ولا يكفيها العاطفة أبداً.

نصيحة لمن أراد أن يقدم على الزواج

نصيحة لمن أراد أن يقدم على الزواج Q كيف أخطب امرأة صالحة ذات دين وجمال ونسب وحسب وأنا رجل فقير؟ A أسأل الله تعالى أن يوفقك إلى ما فيه الخير والصلاح، ووصيتي ونصيحتي لك أن تتزوج بامرأة كفءٍ لك مادياً، لكن لو أنك تزوجت امرأة أقل منك في مستوى المعيشة لكان أفضل، كأن يستلم أبوها مائتين جنيه، وأنت تستلم ثلاثمائة جنيه، عند ذلك سوف تكون حياتها معك جميلة ومرتاحة، لكن أن تبحث عن قوت يومك، وتريد امرأة صاحبة دين -ليس هناك خلاف- ونسب وحسب وجمال فلا؛ لأن معظم البلاء يأتي من هنا، وهناك حالات كثيرة جداً في المجتمع يشهد لها الواقع، ولذلك لما قال العلماء: الكفاءة في الزواج شرط. اختلفوا في المراد بالكفاءة، هل يكتفى بكفاءة الدين، وهو محل اتفاق، أم لا بد من كفاءة الدنيا؟ أعني: من المال أو الحسب أو غيرهما؟ منهم من رد كفاءة الدنيا وقال: إن خديجة رضي الله عنها كانت أكفأ مادياً من النبي عليه الصلاة والسلام، بل كانت تنفق عليه، وكان يشتغل عندها عليه الصلاة والسلام قبل البعثة، لكن في هذه الأيام بعض الشباب يفكرون أن العملية مثلما نقرأ في الكتب! أن الكتب شيء والواقع شيء، فواقعنا مر وأليم، وإياكم أن تتصوروا أنه سيحدث مثل الحادثة التي نسمعها دائماً، وهي: أن رجلاً دميماً تزوج امرأة جميلة، فرآها رجل وسألها: كيف أنت جميلة وزوجك دميم؟! فقالت: يا هذا إليك عني، فلعلني عصيت الله فعاقبني به، ولعله أصلح ما بينه وبين الله فكافأه الله بي.

بيان معنى الباءة الواردة في الحديث

بيان معنى الباءة الواردة في الحديث Q ما معنى الباءة في حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة)؟ A الباءة هي الإنفاق على الزوجة وأبنائها، والقدرة على إتيان النساء، وليس لأهل العلم تفسير أكثر من ذلك.

حكم حف الشارب بالموسى

حكم حف الشارب بالموسى Q ما هو حكم حف الشارب بالشفرة؟ وهل هو من الأعمال المبتدعة؟ A هو بلا شك ليس من السنة، فالذي يحلق شاربه بموس ليس من السنة، بل السنة حف الشارب من أعلى الشفة العليا، فلا يتركه ينزل إلى فمه.

حكم لبس الذهب المحلق وغير المحلق للنساء

حكم لبس الذهب المحلق وغير المحلق للنساء Q ما حكم لبس الذهب للسيدات واستعماله، سواءً كان محلقاً أو غير محلق؟ A جائز، خلافاً لشيخنا الألباني رحمه الله.

حكم قضاء السنن الرواتب

حكم قضاء السنن الرواتب Q فاتتني سنة المغرب البعدية حتى أذن للعشاء، ثم صليتها بعد الأذان، فهل تصح وتجزئ عني؟ A أهل العلم على قولين في هذه المسألة: فالجمهور يقولون بجواز قضاء الفوائت في كل حال. وغير الجمهور من المحدثين وغيرهم يقولون: لا تقبل الفوائت إلا إذا فاتت بعذر، أما غير ذلك فلا، وهذا الرأي أرجح من الأول، وعليه فإذا تركها متعمداً فلا يصليها إذا دخل وقت الثانية، والله أعلم.

كيفية التحلل من مظالم الآخرين

كيفية التحلل من مظالم الآخرين Q سائل يقول: كان في بداية عمره وبلوغه مع جهله يفعل الكبائر من الزنا والسرقة وغير ذلك، ثم هداه الله لسبيل خير من ذلك، وسمع بأمر القصاص في الآخرة، فذهب إلى أحد أهل المظالم فاستحله وأقر بين يديه بفعل الفاحشة مع ابنته، فعفا وصفح عنه الرجل، وذهب إلى الباقين وذكر لهم أنه وقع في حقهم بسوء دون ذكر المظلمة صراحة، فعفوا عنه، وذلك مخافة قطيعة الرحم، أو حصول بعض الضرر عند ذكر المظلمة لهؤلاء، فهل يحاسب على هذه المظالم يوم القيامة؟ وهل تعد هذه توبة صحيحة؟ A الحقيقة هذا السائل ما زاد على الأبواب التي ندرسها ونتناولها في كل يوم، وأن الذي بدر منه هو من الكبائر ومن عظائم الذنوب، ويستوجب الحد، لكنه لا حد عليه الآن، وحتى على فرض وجوب الحد الآن فإن الله تعالى قد ستر عليك وأنت تأتي بالكبائر، فدائرة عفو الله عز وجل تشملك كما تشمل كل شيء، كما قال الله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156]، فذنبك مهما عظم شيء، ورحمة الله تعالى وسعت كل شيء، فيجزئك ويكفيك أن تتوب توبة صادقة وخالصة لله عز وجل، ولا يلزمك كذلك التحلل من أصحاب هذه المظالم؛ لأن بعض الناس ربما تعسف في معرفة المظلمة، وفي الحقيقة لو أنك عرضت علي هذا السؤال قبل أن تذكر هذه المظلمة لوالد البنت التي ظلمتها وظلمته وظلمت نفسك أيضاً، فلن أنصحك أبداً بإخباره بذلك، لكن كونك قد فعلت، وكونه قد عفا، فهو أعظم منك وأكرم، وهذا على خلاف عادات الناس جميعاً، فكونه عفا فهذا يدل على أصالته وشرفه وسيادته، وهذا الأخ إنما يسعه أن يتوب إلى الله عز وجل، ولا شيء عليه بعد ذلك، ولا يلزمه أن يذهب إلى بلاد تقيم الحدود؛ لأن بعض الناس يفعل هذا إذا أذنب ذنباً في بلد لا يقام فيه الحد، وأقول: يلزمه أن يتوب إلى الله عز وجل، وأن ينخرط في سلك طلاب العلم، فيطلب العلم، ويكثر من الصلاة، والصيام، والذكر، والاستغفار، وغير ذلك من القربات والطاعات.

كتاب التوبة - حديث القاتل مائة نفس

شرح صحيح مسلم - كتاب التوبة - حديث القاتل مائة نفس يغفر الله سبحانه الذنوب جميعاً إذا تاب العبد منها توبة نصوحاً، فالذي قتل مائة نفس غفر الله له، وأدخله الجنة؛ لصدق توبته، وتوجهه إلى ربه ومولاه، فمهما عظمت جريرة العبد ومهما جلت معصيته، فإنه لا يحول بينه وبين التوبة شيء، وما ذاك إلا لسعة رحمة الله عز وجل بعباده، وقبوله للمنيبين التائبين منهم.

باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله

باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله الحمد الله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، أما بعد: الباب الثامن من كتاب التوبة هو: باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله:

شرح حديث القاتل مائة نفس

شرح حديث القاتل مائة نفس قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن مثنى، ومحمد بن بشار، واللفظ لـ ابن المثنى قالا: حدثنا معاذ بن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي قال: حدثني أبي -وهو: أبو عبد الله الدستوائي - عن قتادة -وهو ابن دعامة السدوسي البصري - عن أبي الصديق بكر بن عمرو الناجي، مشهور بكنيته أبي الصديق الناجي، عن أبي سعيد الخدري -وهو سعد بن مالك بن سنان -: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعاً وتسعين نفسا)]. يعني: أن هذا الأمر متعلق بالأمم السابقة، ولم يكن واقعاً في أمة محمد عليه الصلاة والسلام.

أهمية العلم وسؤال العلم

أهمية العلم وسؤال العلم قال: [(فسأل عن أعلم أهل الأرض؟ فدل على راهب)]. أي: دلوه على راهب، وشأن الراهب أنه يبقى في صومعته يعبد فيها ربه، فيصلي، ويصوم، ويتقلل من الطعام والشراب واللباس، وأما العلم فلا صلة له به، والأصل أن يدل على أعلم أهل الأرض، لكنهم تركوا ذلك وأخذوا كما يأخذ عامة الناس بظاهر الحال من الصلاح، والعبادة، والتقوى، وغير ذلك، فهذا الراهب إنما تنفعه رهبنته لوحده، وهذه الرهبنة لا تنفع بقية الأمة، فعبادته مقصورة عليه، فهو وحده ينتفع بها، وأما بقية أفراد الأمة فإنما ينتفعون بعلم العالم لا بعبادة الراهب، ولا بعبادة العابد، ولا بصلاحه. والعابد أو الصالح، التقي، الراهب، قل أن يكون له علاقة أو صلة بالعلم، فكثير من الناس إما أن يكون قصاصاً، أو واعظاً، أو خطيباً، أو مصلحاً، أو غير ذلك من الأعمال الخيرية الشريفة التي يتقرب بها قائلها إلى الله عز وجل، لكن لا يصلح أن يتصدى لإفتاء الناس في أمور دينهم ودنياهم. وعلى أية حال ليس هذا مطعناً فيمن تصدى لوعظ الناس، أو التأثير فيهم بالقصص والروايات والأخبار وغير ذلك، وربما لا يتأهل العالم للقيام بهذا الدور في الأمة؛ لأنه أتقن نمطاً معيناً من دين الله عز وجل، وهو طلب العلم بأدلته الشرعية، وإسقاط ذلك على واقع السائل، ثم الإفتاء بالحل أو الحرمة، وبالبطلان أو الصحة، أو غير ذلك، فهو يجيد هذا الفعل، وغيره لا يجيد إلا باب القصص والوعظ، والتأثير في الناس، والخطابة، وربما لا يجيدها العالم، فهذه أرزاق وقدرات وزعت على الخلق كل على حسب مراد الله عز وجل. فليس مطعناً على العالم أنه غير قادر على الوعظ، وليس مطعناً على الواعظ أنه غير قادر على تعليم الناس؛ لأنه لا رصيد له بالعلم، وإنما رصيده حب القصص، والأخبار، والحكايات، والروايات التي يكون لها تأثير مباشر في قلوب المستمعين، وتحريك الوازع الديني في قلوبهم، وربطهم بالله عز وجل، ويا حبذا لو أن ذلك وفق معرفة الحلال والحرام، ومعرفة الأحكام والحدود وغير ذلك من مسائل العلم في دين الله عز وجل! ولذلك يغتر كثير من الناس فيسألون أي خطيب صعد المنبر، وهذا بلا شك فعل غير سديد، ومنهج غير موفق، وربما يحمل الحياء الشيخ ألا يعتذر عن كل سؤال وجه له، فيفتي الناس بالعاطفة لا بالعلم، وكذا يتوجه المستمعون إلى الواعظ، والقصاص، والإخباري وغير ذلك بأسئلة لو طرحت على عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر، والذي يحمل الخطيب أن يتصدى للإفتاء هو مخافة السبة، أو التهمة، أو أن يقال: ليس عنده علم أو غير ذلك، وليس هذا بابه ولا مدخله، كما يحمل الناس العالم أو طالب العلم المتخصص أن يخطب فيهم وليس خطيباً، فإذا صعد المنبر نفر الناس من طريقته وأسلوبه؛ لأن طريقة العلم وطرح المسائل بأدلتها لا يقبلها إلا فئة قليلة من الناس؛ وهم طلاب العلم، فكون العالم أو المهتم بتدقيق وتحقيق المسائل العلمية يفعل ذلك على المنبر لا شك أن هذا فيه تنفير لعامة المستمعين، وإذا اتفقنا أن هذه قدرات؛ فينبغي أن نعرف إلى من نوجه سؤالنا. ولذلك فإن الله تعالى أمرنا أن نسأل أهل العلم فقال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، وقال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]، فالمسألة كلها متعلقة بالعالم. هذا إذا أردت أن تتعلم دينك، وأما إذا أردت أن ترقق قلبك، وشعرت ببعض القسوة أو الغلظة أو البعد عن الله عز وجل؛ فهذا بلا شك عن طريق الواعظ، والقصاص، والمؤثر في قلوب الناس، فلا يبغي هذا على ذاك. ولذلك انظر إلى الخطأ الذي نجم عن عدول الناس في دلالة هذا القاتل على العالم، فهو لما سألهم عن أعلم أهل الأرض دلوه على راهب. قال: [(فأتاه القاتل فقال له: إنه قتل تسعاً وتسعين نفسا -أي: يتكلم عن نفسه بضمير الغائب- فهل له من توبة؟ فقال الراهب: لا توبة له، فقتله القاتل، فأتم به المائة)]. لأنه أغلق باب الأمل أمامه، وإذا كان الباب قد سد وأغلق وأوصد أمامه تماماً، ويستوي أن يقتل واحداً أو مائة؛ فما المانع أن يقتل من أيسه وقنطه من رحمة الله عز وجل. قال: [(ثم سأل عن أعلم أهل الأرض)]. أي: أنه لم يقنط، فسأل للمرة الثانية عن أعلم أهل الأرض. قال: [(فدل على رجل عالم)]. والتفريق بين العالم والراهب: أن الراهب هو الرجل الصالح ذو العبادة المستمرة، لكنه ليس عالماً، ولذلك جرّ على نفسه القتل بجهله، ولو قال: لا أعلم لنجا، لكنه تصدى لشيء بعاطفته، واستعظم ذلك، وأخذ الثقة من نفسه، فطرده من رحمة الله عز وجل بقوله، فلما قنط القاتل قتله، فأتم به المائة، بخلاف العالم. قال: [(فدل على رجل عالم فقال له: إنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة؟ فقال العالم: نعم)]. أي: نعم له توبة وإن قتل الناس أجمعين. قال: [(ومن يحول بينه وبين التوبة)]. يعني: من ذا الذي يحجب عنه باب قبو

من مثبتات التوبة معاشرة الصالحين والابتعاد عن الأشرار

من مثبتات التوبة معاشرة الصالحين والابتعاد عن الأشرار قال: [(انطلق إلى أرض كذا وكذا؛ فإن فيها أناساً يعبدون الله، فاعبد الله معهم)]. وهنا يظهر أن المرء على دين خليله، قال تعالى: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]، فهؤلاء قوم يعبدون الله، وهم أتقياء، ومن عبد الله تعالى معهم أعانوه على ذلك، وألزموه كلمة التقوى. قال: [(ولا ترجع إلى أرضك؛ فإنها أرض سوء)]. أي: أن هؤلاء القوم الذين تربيت معهم قوم أشرار.

التوبة تجب ما قبلها

التوبة تجب ما قبلها قال: [(فانطلق الرجل حتى إذا نصف الطريق -يعني: انتصف به السير في وسط الطريق- أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة، وملائكة العذاب -ومعنى اختصمت: اختلفت- فملائكة الرحمة يقولون: أتانا تائباً، وملائكة العذاب يقولون: لم يعمل خيراً قط، فقد قتل مائة نفس، فأمر الله عز وجل ملائكة الرحمة وملائكة العذاب أن يحتكموا لأقرب قادم، فأنزل الله عز وجل ملكاً من السماء في صورة إنسان، فجعلوه بينهم حكماً، فقال هذا الملك: قيسوا ما بين الأرضين: الأرض التي خرج منها، والأرض التي هو ذاهب إليها، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي هو ذاهب إليها -أي: الأرض التي فيها قوم يعبدون الله عز وجل- فقبضته ملائكة الرحمة). قال قتادة: فقال الحسن -وهو ابن أبي الحسن يسار البصري -: ذكر لنا أنه لما أتاه الموت نأى بصدره]. وهذه صيغة تمريض تشير إلى ضعف ذلك، كما أنه لم يذكر في الحديث النبوي. ونأى بمعنى: نهض وتحرك، يعني: لما أتاه الموت تقلب مرة، فكانت هذه المرة بالقرب من الأرض التي هو قد أرادها. وهذا الكلام الذي قاله الحسن (ذكر لنا) رواه مسلم مسنداً بسند صحيح في الإسناد الذي بعده مباشرة؛ حتى يبين لنا طريق قتادة عن الحسن وأن ذلك قد ثبت من طريق أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد في نفس الحديث. قال مسلم: [حدثني عبيد الله بن معاذ العنبري، حدثنا أبي، حدثنا شعبة عن قتادة أنه سمع أبا الصديق الناجي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن رجلاً قتل تسعاًَ وتسعين نفساً، فجعل يسأل: هل له من توبة؟ فأتى راهباً فسأله، فقال: ليست لك توبة، فقتل الراهب، ثم سأل عالماً فقال له: نعم، ثم أمره أن يخرج من قريته إلى قرية فيها قوم صالحون، ولما كان في بعض الطريق أدركه الموت، فنأى بصدره ثم مات، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فكان أقرب إلى أرض القوم الصالحين بشبر واحد، فأخذته ملائكة الرحمة). وحدثنا محمد بن بشار حدثنا ابن أبي عدي، حدثنا شعبة عن قتادة بهذا الإسناد نحو حديث معاذ بن معاذ، وزاد فيه: (فأوحى الله إلى هذه أن تباعدي -أوحى: بمعنى أمر- وإلى هذه أن تقربي)]. أي: أن الله عز وجل أمر الأرض التي خرج منها أن تتباعد، وأمر الأرض التي هو ذاهب إليها أن تقترب، فكان ما بين بعد هذه واقتراب ذاك هو شبر، والأعمال بالخواتيم كما قال عليه الصلاة والسلام. وفي حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه الذي أخرجه مسلم قال: (لم يكن أحد قط أبغض إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهذا كان في حال كفره- فلما شرح الله تعالى صدري للإسلام أتيته وقلت: يا رسول الله! ابسط يدك فلأبايعك، قال: فبسط النبي عليه الصلاة والسلام يده، فقبضت يدي -أي: لم يبايع- فقلت يا رسول الله: أشترط، فقال: تشترط ماذا؟ قال: أشترط أن يغفر لي ما قد سبق). أي: لأنه لم يكن أحد أبغض إليه من رسول الله، ولا أحد أكره إليه من النظر إلى وجه من رسول الله، ولا دين في الأرض أبغض إليه من دين رسول الله عليه الصلاة والسلام. (قال: يا عمرو بن العاص أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الحج يهدم ما كان قبله، وأن التوبة تهدم ما كان قبلها) ومعنى (تهدم) أي: تحط وتغفر، والحج يهدم ما كان قبله إذا كان حجاً مبروراً لا إثم فيه، بحيث يرجع منه المرء كيوم ولدته أمه كما قال عليه الصلاة والسلام، وكذلك لو أحسن المرء في الإسلام فإنه يغفر له ما قد سبق، بل تقلب سيئاته حسنات، ولذلك قال الله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38] أي: قل للذين كفروا إن يقبلوا على الله عز وجل، وينتهوا عن كفرهم؛ يغفر لهم ما قد سلف، أي: في حال كفرهم، وهذا دليل على أن الإسلام يهدم ويجب ويغفر ما كان قبله من معاص، وإذا كان الإسلام يغفر الكفر والشرك فكيف لا يغفر بقية الذنوب؟! والراجح أن الحج يغفر الكبائر والصغائر، وكذلك إذا تاب الإنسان من الكبيرة قبلت توبته من الكبائر مهما تعددت أو كثرت، والدليل على ذلك حديث قتل التسعة والتسعين.

العمل بشرع من قبلنا والأمثلة على ذلك

العمل بشرع من قبلنا والأمثلة على ذلك وشرع من قبلنا هو شرع لنا ما لم يأت في شرعنا ما يبطل ذلك، فالسجود للبشر كان جائزاً في شريعة يوسف، وأما في شريعتنا فليس بجائز، فلا يحل لمسلم في شريعة محمد عليه الصلاة والسلام أن يسجد لأحد قط؛ احتجاجاً بسجود والدي يوسف وإخوته له؛ لأن هذا شرع من قبلنا ولم يوافق شرعنا، بل شرعنا خالفه مخالفة صريحة، وقد نهى النبي عليه الصلاة والسلام الجالس أن يقوم للقائم، ولما قام إليه الصحابة قال: (كدتم أن تفعلوا فعل فارس والروم، لا تفعلوا) أي: لا تقوموا. ثم قال: (ومن أحب أن يتمثل الناس له قياماً فليتبوأ مقعده من النار)، والخطر كله يكمن في حب الداخل امتثال الناس بين يديه قياماً، فالقضية كلها متعلقة بنية الداخل على القوم الجالسين. ولذلك (لما أتى معاذ بن جبل من اليمن انحنى بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام، فأنكر عليه فوراً، فقال: يا رسول الله! إنهم في اليمن يفعلون هذا ببطارقتهم، وأنت أولى بذلك منهم، قال: لا تفعل). وفي هذا بيان مباشر وفوري أن هذا العمل غير مشكور، وغير مشروع في شرعنا، وأما في شرعهم فقد كان مباحاً وقربة إلى الله عز وجل. فالقاتل الذي كان في شرع من كان قبلنا غفر له لما تاب إلى الله عز وجل، مع أنه قتل مائة نفس، وفي شريعتنا أن من قتل نفساً ثم تاب تاب الله عز وجل عليه، فهذا الذي هو مقرر في شريعة محمد كان هو نفس الذي قرر في شريعة ذلك الرجل الذي قتل مائة نفس، فشرع من كان قبلنا هو نفس شرعنا ما لم يرد في شرعنا ما ينقضه ويرده، فمسألة شرع من قبلنا هل هو شرع لنا أم لا؟ محل نزع بين العلماء: فمنهم من قال: ليس شرعاً لنا. ومنهم من قال: بل هو شرع لنا. والرأي الراجح -وهو الثالث-: أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد نص في شرعنا يبين أن هذا يتفق مع شريعتنا. ومعلوم أنه ليس هناك إثم قط على الداخل، فالنبي عليه الصلاة والسلام قام إلى جعفر بن أبي طالب، وسفيان الثوري كان يقوم للداخل الغريب أو الغائب، وليس كل من دخل أقوم له، إنما القيام على حسب المقام، والنبي صلى الله عليه وسلم قصد الحفاظ على قلب الداخل أن يكون من أهل النار، وأما لو دخل عليك شخص وأنت واضع رجل على رجل، وهو يريد أن يعانقك وأنت ملقى على ظهرك فإن قلبه سوف يتغير عليك جداً؛ لأنه أتى باشتياق وإقبال عليك لأجل أن يعانق، ويسلم بحرارة وغير ذلك، فمن الأدب أن تحسن استقباله، (والنبي عليه الصلاة والسلام كان إذا وجد الحسن والحسين على باب المسجد نزل من على منبر الجمعة، ويخترق الناس حتى يصل إلى باب المسجد فيعانقهما، ثم يحملهما، ثم يصعد المنبر بهما، ويقول: إنما أموالكم وأولادكم فتنة) فهذا هو الحب الفطري الجبلي الذي ربي في القلب. فالمهم أن يكون في حساب الداخل على قوم جالسين أن يستوي عنده قيامهم له وعدم قيامهم، لكن يسن ويفضل للجالس أن يقوم للقادم؛ خاصة إذا كان من أهل العلم، أو من كبار السن، أو من ذوي القرابة نسباً أو مصاهرة؛ لأن هذا فيه تأليف للقلوب، وصلة الود بين القادم والجالس، (والنبي عليه الصلاة والسلام لما رجع من خيبر وجد جعفر بن أبي طالب، فقام إليه، وقبله بين عينيه، وقال: لا أدري بأيهما أسر: بقدوم جعفر، أم بفتح خيبر!). فعلى المسلم أن ينزل الناس منازلهم، وتقدير الناس على قدر منازلهم في الشرع باب من الأدب عظيم جداً ينبغي لطلاب العلم خاصة، والمسلمين عامة أن يعتنوا به عناية فائقة.

حكم توبة القاتل وأنواع الديات

حكم توبة القاتل وأنواع الديات ومذهب أهل العلم وإجماعهم على صحة توبة القاتل عمداً، ولم يخالف أحد منهم إلا عبد الله بن عباس، وأما القاتل خطأ فإن كفارته كما قال تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء:92]، فمن صدم شخصاً بالسيارة فإن هذا قتل خطأ، وكذلك من وكز شخصاً فمات، قال تعالى: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص:15] يعني: هو أصلاً لم يكن متعمداً، ولو لم يوكزه فإنه سيموت، لكن الوكزه كانت السبب، وكان قتلاً خطأ، فلم يتعمد موسى قتله صلى الله عليه وسلم، لكن مسكه في صدره أو رقبته فوقع على الأرض فمات، فهذا جزاؤه عتق رقبة مؤمنة، ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا، وأما القتل العمد فإن اليهود عندهم أن القصاص واجب، ولا بد منه. والنصارى عندهم التسامح واجب لا بد منه، وأما نحن فمخيرون بين القصاص، أو الدية، أو العفو، وهذا من رحمة الله بنا؛ لأننا أحسن منهم، ولهذا فإن الله رفع الأغلال عن هذه الأمة المباركة، ودية القتل العمد تكون بعد تحرير رقبة إذا لم يكن ثم قصاص، ومقدار الدية: مائة ناقة، والناقة قيمتها ثلاثة آلاف جنيه، فتكون الدية بثلاثمائة ألف جنيه. وهناك فرق بين دية المرأة المؤمنة، ودية الرجل، وفرق بين دية الرقيق والأحرار من الرجال والنساء، وفرق بين دية أهل الكتاب والمؤمنين، وإذا كان أهل الكتاب مسالمين أو محاربين أو ناقضي العهد، وهذا موضوع طويل جداً سوف نتكلم فيه. ودية القتل الخطأ على التخفيف من دية القتل العمد، والأصل أن دية القتل الخطأ على العاقلة، وهم أهل القاتل وليس على القاتل نفسه، وهذا فارق بين القتل العمد والقتل الخطأ: أن القتل العمد يتحمله القاتل، وأما القتل الخطأ فيتحمله أهل القاتل، وسموا العاقلة؛ لأنهم يأتون بهذه النوق ويربطونها -أي: يعقلونها- في مكان، ويسلمونها لأهل المقتول. وابن عباس هو الوحيد الذي قال: إن قاتل المؤمن عمداً لا توبة له، والأمة بأسرها والصحابة كذلك يقولون: بأن قاتل المؤمن عمداً له توبة، وقيل: إن ابن عباس قد رجع عن هذا الرأي. وأما ما ذكر عن بعض السلف من خلاف هذا فمراد قائله الزجر عن سبب التوبة، لا أنه يعتقد بطلان توبته، وهذا الحديث ظاهر فيه، وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان:68] إلى أن قال الله تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70]. وهذا الاستثناء يقطع هذه المعاصي السابقة، فلو كان أشرك ثم تاب قبلت توبته، ولو قتل ثم تاب قبلت توبته، وغير ذلك من سائر المعاصي، وأما قول الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء:93] أي: فجزاؤه إن شاء الله تعالى أن يجازيه، أن يخلده في النار، لكن له أن يجازيه، وله ألا يجازيه ويعفو عنه. ثم إن قوله: {خَالِدًا فِيهَا} [النساء:93] الخلود في لغة العرب يعني: المكث الطويل، بخلاف الأبدية السرمدية في النار للكفار والمنافقين، فلو أن هذا العبد قتل فأراد الله عز وجل أن يجازيه أدخله جهنم، وأبقاه فيها مدة من الزمان الطويل، فيكون من آخر من يخرج من النار بشفاعة الشافعين، فيكون معنى: جزاؤه جهنم خالداً فيها: أي: ماكثاً فيها مكثاً طويلاً، لا المكث الأبدي السرمدي. والصواب في معنى هذه الآية: أن جزاءهم جهنم، وقد يجازى به وقد يجازى بغيره، وقد لا يجازى بل يعفى عنه، فإن قتل عمداً مستحلاً له بغير حق ولا تأويل فهو كافر مرتد يخلد في جهنم بالإجماع. ومن ارتكب كبيرة مستحلاً لها، متعمداً الوقوع والتلبث بها، مع قيام الحجة عليه أن هذا حرام، ولكنه أنكر وجحد وأصر على أنه ليس حراماً، وهو ليس متأولاً، ولا مخطأً، بل متعمداً، ومستحلاً، فهو كافر؛ لأن من حرم ما أحل الله، أو أحل ما حرم الله عامداً غير متأول لا شك أنه يكفر.

حكم القاتل المستحل وغير المستحل

حكم القاتل المستحل وغير المستحل قال: (فإن قتل عمداً مستحلاً له بغير حق ولا تأويل؛ فهو كافر مرتد يخلد في جهنم بالإجماع، وإن كان غير مستحل). أي: من قتل عمداً لكنه ليس مستحلاً للقتل، ومعتقداً تحريم ذلك، فهو فاسق عاص مرتكب للكبيرة، جزاؤه جهنم خالداً فيها، لكن بفضل الله تعالى أنه لا يخلد فيها من مات موحداً، وقد يعفى عنه فلا يدخل النار أصلاً، وقد لا يعفى عنه بل يعذب كسائر العصاة الموحدين، ثم يخرج معهم إلى الجنة، فهذا هو الصواب في معنى هذه الآية، ولا يلزم من كونه يستحق أن يجازى بعقوبة مخصوصة أن ذلك حتم في حقه، وليس في الآية إخبار بأنه يخلد في جهنم، إنما فيها أن جهنم جزاؤه إن أراد الله تعالى أن يجازيه، ولذلك لم تقل الآية: ومن يقتل مؤمناً متعمداً فيخلد في جهنم، أو يدخل جهنم، وإنما قالت: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء:93] يعني: ليس بلازم إذا وقع العبد في الذنب أن يجازى به، فيمكن أن يجازى بجزاء آخر، فالله عز وجل يخفف عن عبده من عقوبة إلى عقوبة أخف برحمته وفضله سبحانه وتعالى حتى يصل إلى درجة العفو، والعفو والعذاب بيده سبحانه وتعالى، ونحن في قبضته ومشيئته يفعل ما يشاء، لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه، فأنا عبده، فإن عذبني فبعدله، وإن غفر فبفضله، فأنا أدور بين درجتين: درجة العدل، ودرجة الفضل والإنعام والتكرم. قال: (وليس في الآية إخبار بأنه يخلد في جهنم، وإنما فيها أن هذا الجزاء، أي: يستحق أن يجازى بذلك إن قتل، وقيل: إن المراد: من قتل مستحلاً). ثم ذكر بعد ذلك أقوالاً أخرى للدلالة على ما ذكرناه أنفاً، وزاد أقوالاً فيها ضعف، وأقوى الأقوال في قتل المؤمن عمداً ما قدمناه، والذي يسرنا أن نقول: أن ابن عباس قد رجع عن قوله: بأن قاتل المؤمن عمداً لا توبة له. ومن لم يجد رقبة مؤمنة بعتقها فإنه يصوم شهرين متتابعين مع وجوب الدية.

مفارقة أهل المعاصي والمواضع التي وقعت فيها المعاصي

مفارقة أهل المعاصي والمواضع التي وقعت فيها المعاصي أما قوله: (انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن فيها أناساً يعبدون الله، فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء). قال العلماء: في هذا استحباب مفارقة التائب المواضع التي أصاب بها الذنوب؛ لحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام (لما نزل في واد هو وأصحابه قال: من يرقب لنا الفجر؟ قال بلال: أنا يا رسول الله! فنام بلال، فكان أول من استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد طلعت الشمس، فقال: أين بلال؟ قال: أنا يا رسول الله! فقال: ما الذي أخذك؟ قال: الذي أخذكم يا رسول الله! -يعني: النوم- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: انطلقوا من هذا الوادي فإن به شيطاناً، فلما صعد إلى الأرض المستوية أمر بلالاً فأذن، وتوضئوا فصلوا السنة، ثم صلوا الصبح جماعة)، وهذا بعد طلوع الشمس، وقد حدث هذا ثلاث مرات للنبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه. فقال: (وفي هذا استحباب مفارقة التائب المواضع التي أصاب بها الذنوب، والأخدان المساعدين له على ذلك)، الأخدان: هم الأقران أو الرفقة الذين هم معه، فمن تاب فعليه أن يترك الرفقة القديمة رفقة السوء، ويدخل المسجد، ويكثر من قراءة القرآن، والذكر، والتسبيح، وطلب العلم. قال: (في هذا استحباب مفارقة المواضع التي أصاب بها الذنوب، والأخدان المساعدين له على ذلك، ومقاطعتهم ما داموا على حالهم -أي: على معاصيهم- وأن يستبدل بهم صحبة أهل الخير والصلاح والعلماء والمتعبدين الورعين الأتقياء، ومن يقتدى بهم، وينتفع بصحبتهم، وتتأكد بذلك توبته). ومن يعمل بكلام أهل العلم فسوف ينجو من شرور وفتن كثيرة جداً. ورب واحد يتوب ويأتي المسجد فيرى المجتمع غريباً عليه، وينظر لأخيه في البيت أول ما يلقاه حليق، فيعبس في وجه، ويمكن أن يكون هو أفضل منه، فقد تكون عنده مؤهلات أخرى إيمانيه وصلة بالله أحسن منه. وآخر يبحث عن جزمته في فناء المسجد فإذا لم يجدها قال: هذه آخر مرة أدخل المسجد، وذلك بسبب أخ بسوء خلقه، وقصور فكره صده عن سبيل الله عز وجل، وهناك مكاسب سبقنا إليها غيرنا من الجماعات العاملة على الساحة من صدق الخلق وغيرها، فلماذا لا يكون في ذهنك: أن كل من تقابله فإنك تدعوه إلى الله؟ أليس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باب من أبواب الجنة؟ فلماذا تركته؟ فـ أبو بكر الصديق رضي الله عنه ما كان يفرط في باب قط، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من منكم تصدق اليوم؟ فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله! قال: من منكم عاد اليوم مريضاً؟ فقال: أنا يا رسول الله، قال: من منكم فعل وفعل، وكل سؤال يجيب عنه أبو بكر بقوله: أنا يا رسول الله! قال: لا عليك أن تدخل من أبواب الجنة كلها). يعني: لا يمنعك أن تدخل من جميع أبواب الجنة؛ لأنك قد أتيت من الأعمال الصالحة ما يؤهلك للدخول من جميع الأبواب. وقد سمعت مرة واعظاً وقد سأله سائل فقال له: كيف يدخل أبو بكر رضي الله عنه من أبواب الجنة كلها؟ فقال: يدخل من باب ويخرج منه، ثم يدخل الباب الثاني والثالث وهكذا، فقال له السائل: إن الذي يدخل من باب الجنة لا يخرج منها أبداً، فقال الواعظ: أي والله! حتى أنا فاهم هذا الكلام غلط، وهذا يبين لنا الفرق بين الواعظ والعالم. والجواب على هذه المسألة هو: أن أبا بكر سوف يدخل من الثمانية الأبواب، والله تعالى أعلم بكيفية الدخول، فهذا معتقد أهل السنة والجماعة، كما نعتقد أن مصراعي باب الجنة كما بين مكة وهجر، أو كما بين المشرق والمغرب، وإذا كان تراب الجنة المسك والزعفران فكيف بابها؟! وأما قياس الملائكة ما بين القريتين، وحكم الملك بذلك؛ فهذا محمول على أن الله تعالى أمرهم عند اشتباه أمرهم عليهم واختلافهم فيه أن يحكموا أول من يمر بهم، فمر الملك في صورة رجل فحكم بينهم بذلك، فكان مآل هذا التائب إلى الجنة.

فداء المسلم يوم القيامة بالكافر

فداء المسلم يوم القيامة بالكافر قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو أسامه حماد بن أسامه عن طلحة بن يحيى -وهو ابن طلحة بن عبيد الله التيمي المدني نزيل الكوفة- عن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري عن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان يوم القيامة دفع الله عز وجل إلى كل مسلم يهودياً أو نصرانياً فيقول: هذا فكاكك من النار)]. أي: هذا فداؤك وخلاصك من النار في يوم القيامة، وهذا الكلام لا يعجب الملاحدة، وهو أن ربنا يجعل فكاك المسلم يوم القيامة من النار بيهودي أو نصراني، وليس معنى ذلك أن الكافر يدخل النار بسبب ذنوب المسلم، فربنا يقول: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، ولا يعذب المرء بجريرة غيره، ولا بذنب الآخرين، وإنما يعذب بذنبه وبكفره ولا يعذب بذنوب الآخرين. قال: [وفي رواية عون بن عتبة، وسعيد بن أبي بردة: أنهما رأيا أبا بردة يحدث عمر بن عبد العزيز عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يموت رجل مسلم إلا أدخل الله مكانه النار يهودياً أو نصرانياً، فاستحلفه عمر بن عبد العزيز بالله الذي لا إله إلا هو ثلاث مرات: هل أبوك حدثك عن رسول الله بهذا؟ فحلف له، قال: فلم يحدثني سعيد أنه استحلفه، ولم ينكر على عون قوله). وفي رواية أبي موسى الأشعري عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال فيغفرها الله لهم، ويضعها على اليهود والنصارى)]. والقول الثاني في الحديث الأول: يأخذ الذنوب التي على المسلمين ويضعها على اليهود والنصارى. قال: [وفي رواية صفوان بن محرز قال: (قال رجل لـ ابن عمر: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول في النجوى -أي: المناجاة التي بين العبد وبين الله يوم القيامة، وهو الكلام السر الذي لا يسمعه إلا العبد- قال: سمعته يقول: يدنى المؤمن يوم القيامة من ربه عز وجل) -يعني: يقترب المؤمن من ربه عز وجل- حتى يضع المولى عز وجل عليه كنفه، فيقرره بذنوبه يقول له: أنت عملت كذا يوم كذا وكذا، فيقول: نعم يا رب! وعملت كذا يوم كذا وكذا، فيقول: نعم يا رب)]. فهو لا يستطيع أن ينكر، ولو أنكر ختم على فيه، وتكلمت جوارحه، فهذا موقف لا يصح فيه الإنكار، والمسلم يوم القيامة إذا حوسب وجوزي لا ينكر، وإنما الذي ينكر هم الكفار، فيختم على أفواههم وتتكلم جوارحهم. قال: [(فيقول: هل تعرف ذنب كذا وكذا؟ فيقول: أي رب أعرف، قال: فإني سترتها عليك في الدنيا وإني أغفرها لك اليوم، فيعطى صحيفة حسناته، وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رءوس الخلائق: هؤلاء الذين كذبوا على الله)].

الجمع بين حديث فداء المسلم بالكافر يوم القيامة، وقوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى)

الجمع بين حديث فداء المسلم بالكافر يوم القيامة، وقوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) أورد الإمام مسلم هذه الأحاديث المتعلقة بمغفرة ذنوب المسلمين الموحدين، وأنهم يأتون بأمثال الجبال من الذنوب، والله تعالى يغفرها لهم، ويضع هذه الذنوب على اليهود والنصارى. وظاهر هذه النصوص فيه إشكال، وليس كل نصوص الشرع يفهمها كل مكلف، ولو كانت نصوص الشرع يفهمها كل مكلف لما أمرنا الله بسؤال أهل العلم، فكل واحد يقرأ في الكتاب والسنة فيفهم لوحده، لذا فإن الله تعالى يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] أي: بالبينات الواضحات أو بالمشتبهات. ولو اعتبرنا أن هذا النص من المشتبهات فإن فيه إشكالاً، وهو أن ربنا يقول: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، وفي نفس الوقت يجعل ذنوب المسلمين يوم القيامة على اليهود والنصارى، ويجعل فكاك كل مسلم من النار برجل كافر، والأصل أن الكافر لا يعذب إلا بذنبه، ومعنى هذا الحديث مرتبط بما صح عن أبي هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لكل أحد منزل في الجنة، ومنزل في النار) ولفظ (أحد) عام يشمل المسلم والكافر. والله لما خلق الخلق جعل لكل مخلوق مكان في النار، ومكان في الجنة، فإذا أسلم العبد وجاء بالعمل الصالح فإنه بفضل الله تعالى يغفر الله له ذنبه، ويعطيه مكان ذلك الكافر الذي كان قد أعده له في الجنة، فالمسلم له مكانان، والكافر له مكانان، فالمسلم أخذ مكانه الذي أعد له سلفاً في الجنة، وأما مكانه الذي أعد له في النار فإنه لا يدخله؛ لأنه قد آمن، ووحد الله عز وجل، وعمل الصالحات، ولو عمل السيئات فإنه سوف يدخل مكانه الذي أعد له في النار أولاً، ويعذب فيه، ثم يخرج إلى المكانين في الجنة. وأما الكافر فقد أعد له مكان في الجنة، والكافر لا يدخل الجنة أبداً، ومكانه الذي أعد له في الجنة يكون للمسلم، فهذا هو معنى الفكاك والخلاص، فإن لكل أحد منزل في الجنة ومنزل في النار، فمن اختار الإيمان والصلاح فإنه يحصل على المكانين في الجنة، ومن اختار الكفر والجحود والنكران فإنه يحصل على المكانين في النار. وأما تسمية النبي عليه الصلاة والسلام الوضع بمعنى الفكاك والخلاص؛ فهو من باب المجاز.

بيان متى يحمل الحديث الخاص على العام ومتى لا يحمل

بيان متى يحمل الحديث الخاص على العام ومتى لا يحمل وإذا كان هناك حديث عام وحديث خاص فإنا نحمل الخاص على العام، وإذا اختلف المخرج -أي: مخرج الروايتين الخاصة والعامة- فهذا يدل على شمول الحكم العام لأفراد الخاص، وهذه مسألة أصوليه، فمخرج رواية اليهود والنصارى من طريق أبي موسى الأشعري، وحديث: (لكل أحد منزل في الجنة ومنزل في النار) من طريق أبي هريرة، إذاً: فالمخرج مختلف، فيجب العمل بهما جميعاً، وحمل الخاص على العام من باب اعتبار أن الخاص هو أحد أفراد العام، فمثلاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة ثلاثة أيام بلياليهن إلا مع ذي محرم، ومسيرة يومين إلا مع ذي محرم، ومسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم، ومسيرة بريد أو فرسخ إلا مع ذي محرم)، ثم في الرواية الأخرى: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع ذي محرم). والروايات الأولى كلها مقيدة: ثلاثة أيام، يومين، يوم وليلة، بريد أو فرسخ، والرواية الأخرى بغير قيد، فهي رواية مطلقة، وفي هذه الحالة لا يحمل العام على الخاص، والعام لا يحمل على الخاص إلا بشروط أهمها: اتحاد المخرج، أي: أن الروايات من طريق صحابي واحد، وأما إذا تعددت المخارج فلا يحمل العام على الخاص، وإنما يحمل هذا على تعدد الحوادث، أي: أن رجلاً سأل رسول الله: هل تسافر المرأة من غير محرم مسافة ثلاثة أيام؟ فقال له: لا، وجاء رجل آخر وقال: هل تسافر المرأة مسيرة يومين من غير محرم؟ فقال له: لا، وجاء رجل ثالث فقال: هل تسافر المرأة مسيرة يوم من غير محرم؟ فقال له: لا، وسأل رجل رابع: هل يحل للمرأة أن تسافر من غير ذي محرم؟ فقال: لا. والنبي عليه الصلاة والسلام أفتى كل واحد على حسب سؤاله، وهذا الذي يعرف عند العلماء بتعدد الحوادث إذا اختلف المخرج، أما إذا اتحد المخرج يحمل فإنه الخاص على العام. والحديث الخاص بذكر اليهود والنصارى جاء من طريق أبي موسى الأشعري، وأما حديث أبي هريرة في أن الله تعالى جعل لكل أحد منزلين: منزل في الجنة، ومنزل في النار، فهذا حديث عام؛ لأنه يشمل كل أحد من اليهود والنصارى والمسلمين وغيرهم، والمخرج مختلف، فلا بد أن نعمل بالحديثين، فاليهود والنصارى أحد أفراد العموم الوارد في حديث أبي هريرة. قال: (ومعنى هذا الحديث ما جاء في حديث أبي هريرة لكل أحد منزل في الجنة ومنزل في النار، فالمؤمن إذا دخل الجنة خلفه الكافر في النار؛ لاستحقاقه ذلك بكفره). فالمؤمن يدخل الجنة ويزاد على ذلك مكاناً آخر، ولو أنه كفر أدخل النار، ويزاد على ذلك مكاناً آخر بسبب كفره. قال: ومعنى فكاكك من النار: أنك كنت معرضاً لدخول النار لو أنك كفرت، ولكنك آمنت، فهذا اليهودي أو النصراني أو الكافر فكاكك؛ لأن الله تعالى قدر للنار عدداً، فإذا دخلها الكفار بكفرهم وذنوبهم صاروا في معنى الفكاك للمسلمين. وأما قوله: (يجئ يوم القيامة أناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال فيغفرها الله) فمعناه: أن الله تعالى يغفر تلك الذنوب للمسلمين، ويسقطها عنهم، ويضع على اليهود والنصارى مثلها بكفرهم وذنوبهم، فيدخلهم النار بأعمالهم لا بذنوب المسلمين؛ لأن الله تعالى غفرها، والغفران هو المحو، ولا يترتب من محوها معاقبة الغير عليها، وهذا في عالم البشر لعب أطفال، والله تعالى منزه عن هذا كله. قال: فمعنى هذا الحديث: أن الله تعالى يغفر تلك الذنوب للمسلمين، ويسقطها عنهم، ويضع على اليهود والنصارى مثلها بكفرهم وذنوبهم فيدخلهم النار بأعمالهم لا بذنوب المسلمين. وقوله: (يضعها) مجاز، والمراد: يضع عليهم مثلها بذنوبهم كما ذكرناه أنفاً، ولما أسقط سبحانه وتعالى عن المسلمين سيئاتهم وأبقى على الكفار سيئاتهم -لأن الكفر لا يغفر- صاروا في معنى من حمل إثم الفريقين؛ لكونهم حملوا الإثم الباقي، فاستحقوا المكان الآخر في النار، وهو إثمهم بكفرهم. ويحتمل أن يكون المراد: أنهم يحملون آثاماً بسبب أنهم سنوا الكفر، ودعوا إليه، وعاندوا وجحدوا الإسلام، فتسقط عن المسلمين بعفو الله تعالى، ويوضع على الكفار مثلها لكونهم سنوها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة)، والله تعالى أعلم.

التثبت في سماع الحديث والاستخلاف في ذلك

التثبت في سماع الحديث والاستخلاف في ذلك وأما استحلاف عمر بن عبد العزيز لـ أبي بردة فإنما ذلك لزيادة الاستيثاق والطمأنينة، ولما حصل لهم من السرور بهذه البشارة العظيمة للمسلمين أجمعين؛ فقد كان عنده فيه شك أو غلط أو نسيان أو اشتباه أو نحو ذلك فلهذا استحلف أبا بردة، فلما حلف تحقق انتفاء هذه الأمور، وعرف صحة الحديث، وقد جاء عن عمر بن عبد العزيز والشافعي رحمهما الله تعالى أنهما قالا: هذا الحديث أرجى حديث للمسلمين، وهو أن يغفر الله تعالى لهم، وهو كما قالا لما فيه من التصريح بفداء كل مسلم، ولله الحمد والمنة. وآخر فائدة هي: قول الإمام في قول النبي عليه الصلاة والسلام: (يدنى المؤمن يوم القيامة من ربه حتى يضع عليه كنفه، فيقرره بذنوبه). قال: الكنف: هو الستر والعفو، والمراد بالدنو هنا: دنو الكرامة والإحسان لا دنو المسافة، والله تعالى منزه عن المسافة وقربها، وهذا كلام الأشاعرة. والصواب: أننا نؤمن بأن الله تعالى يدنو من عباده دنواً حقيقياً يليق بجلاله وكماله.

كتاب التوبة - توبة كعب بن مالك وصاحبيه

شرح صحيح مسلم - كتاب التوبة - توبة كعب بن مالك وصاحبيه في قصة توبة كعب بن مالك وصاحبيه كثير من الدروس والعبر، فهذه القصة تبين لنا أثر المعصية في قلب المؤمن وما يعود عليه منها من شعور بالذل والانكسار، كما تبين عظم صدق الحديث، فصدق الحديث منجاة، والكذب مهلكة، وأن امتثال أمر الله ورسوله فوز وفلاح، ومخالفتهما هلاك وبوار في الدنيا والآخرة.

باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه

باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه قال المصنف رحمه الله تعالى: [أخبرني ابن وهب -وهو عبد الله بن وهب المصري القاضي - قال: أخبرني يونس -وهو ابن يزيد الأيلي - عن ابن شهاب -أي: الزهري محمد بن مسلم - قال: (ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك وهو يريد الروم، ونصارى العرب بالشام)]. قال: [قال ابن شهاب: فأخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك: أن عبيد الله بن كعب كان قائد كعب]. وفي بعض الروايات: أنه عبيد الله بن كعب، والصواب: أنه عبد الله لا عبيد الله، وهي الرواية المتفق عليها عند البخاري ومسلم، فلم يذكر البخاري غير عبد الله، وأما الإمام مسلم فذكر في رواية: أنه عبد الله، وذكر في رواية أخرى: أنه عبيد الله، والصواب: عبد الله. قوله: إن عبد الله بن كعب كان قائد كعب من بنيه، يعني: كان يقوده حين عمي؛ لأن كعب بن مالك عمي لما كبر. قال: [سمعت كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك]. إذاً: فقصة توبة هؤلاء الصحابة كان في غزوة تبوك. قال كعب بن مالك [(لم أتخلف عن رسول صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط)]. وهذا يعني: أنه غزا معه كل الغزوات إلا ما استثناه كعب. قال: [(إلا في غزوة تبوك)]. أي: هذه التي حصلت فيها هذه القصة. قال: [(غير أني قد تخلفت في غزوة بدر)]. يريد أن يقول: إن تخلفي عن غزوة بدر كنت معذوراً فيه، كما أن الله عز وجل، ورسوله الكريم عليه الصلاة والسلام لم يعتبا أحداً في تخلفه عن غزوة بدر؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما خرج إلى ماء بدر لم يقصد ملاقاة عدو، أي: لم ينو قتالاً؛ ولذلك لم يدع الناس إلى هذه الغزوة. قال: [(ولم يعاتب أحداً تخلف عنه)]. أي: في غزوة بدر. قال: [(إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عير قريش)]. وهي القافلة من الإبل والبقر والغنم وغيرها مما يكون مع القافلة في سفرهم، وفي هذا الكلام فضيلة ظاهرة لأهل بدر، والنبي عليه الصلاة والسلام ينقل عن ربه سبحانه وتعالى فيقول: (لعل الله اطلع على قلوب أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم؛ فقد غفرت لكم). كما أن فيه إباحة الغنائم لهذه الأمة، فالنبي عليه الصلاة والسلام خرج يريد عير قريش وهي غنيمة، ومن المعلوم أن هذه خاصية من خواص النبي عليه الصلاة والسلام، ومن خواص الأمة من بعده إلى قيام الساعة؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام في حديث آخر: (وأحلت لي الغنائم -أي: لي ولأمتي- ولم تحل لأحد من بعدي)، وربما يتمسك أحد بقوله عليه الصلاة والسلام: (وأحلت لي الغنائم) بأنها خاصة له دون الأمة، وهذا فهم ظاهري للنص، فالسنة العملية للنبي عليه الصلاة والسلام، والخلفاء الراشدين، ومن بعدهم إلى يومنا هذا تبين أن الغنيمة حلال لهذه الأمة إلى قيام الساعة، فقد كانت حلاً للنبي صلى الله عليه وسلم دون غيره، وشرع له أن يقسم الغنائم في أصحابه، وفي كتب التاريخ أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا غنم شيئاً جعل للفرس سهمين، وللفارس سهماً، أي: أنه كان يوزع الغنائم على أصحابه، ولو كانت حلالاً له دون أصحابه ودون بقية الأمة؛ لم يفعل شيئاً من ذلك. قال: [(حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد)]. وهذا في غزوة بدر. قال: [(ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة)]. وليلة العقبة هذه إما أن تكون الأولى، وإما أن تكون الثانية، وأنتم تعلمون أن الأنصار الذي بايعوا النبي عليه الصلاة والسلام ليلة العقبة الأولى كانوا اثني عشر رجلاً، وفي ليلة العقبة الثانية بايعه من الأنصار سبعون رجلاً وامرأتان، والعقبة: اسم مكان قريب من منى. قال: [(ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام)]. يعني: حين تبايعنا على الإسلام، والتزمنا به. قال: [(وما أحب أن لي بها مشهد بدر)]. يعني: أن هذه البيعة التي كانت في العقبة هي أعظم أثراً من غزوة بدر، ولكن غزوة بدر حازت شهرة بين الناس؛ لفضلها ومنزلتها في الإسلام، ولكن أعظم منها -غير أنها ليست مشهورة- البيعة التي تمت ليلة العقبة. قال: [(وإن كانت بدر أذكر في الناس منها)]. يعني: يذكرها الناس؛ وهي مشهورة بينهم.

تردد كعب بن مالك بين شهود غزوة تبوك وعدم شهودها

تردد كعب بن مالك بين شهود غزوة تبوك وعدم شهودها قال: [(وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك: أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة)]. يعني: قصتي مع النبي عليه الصلاة والسلام: أني لم أكن مستعداً للقتال في يوم من الأيام، ولا في غزوة من الغزوات كاستعدادي في هذه الغزوة، فهو قد جمع الأسباب كلها في هذه الغزوة: فلم يكن فقيراً، ولا محتاجاً، وكان يملك الظهر، وغير ذلك، ولم يكن له عذر في التخلف، ومع هذا تخلف، فيقول: كانت بليتي أني تخلفت بغير عذر. قال: [(والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة)]. يعني: لم يكن عنده فرسان قط في حياته إلا في هذه الغزوة، أي: كانت الحجة قائمة عليه؛ لأن الفرس الواحد يكفي للغزو، ومع هذا فقد كان عنده فرسان، فالحجة قائمة عليه من أوسع الأبواب. وفي هذا جواز القسم بغير استحلال؛ لتأكيد الأمر، وإن لم يكن قد طلب ذلك منه. قال: [(فغزاها الرسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد)]. يعني: أن هذه الغزوة كانت في الصيف. قال: [(واستقبل سفراً بعيداً ومفازاً)]. المفازة: هي الأرض القفراء الصحراء البعيدة السفر. قال: (واستقبل سفراً بعيداً). لأنه سينطلق إلى تبوك في الشام. قال: [(واستقبل عدواً كثيراً)]. أي: والعدو كثير العدد، والعدة. قال: [(فجلا للمسلمين أمرهم؛ ليتأهبوا أهبة غزوهم)]. (جلا) بمعنى: كشف لهم الأمر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد عود أصحابه غير ذلك، فكان إذا أراد أن يغزو مكاناً قريباً من جهة الغرب عرض قبل ذلك بيوم أو يومين أنه سيغزو جهة الشرق، أو يشير إلى عكس المكان الذي ينوي غزوه بعد يوم أو يومين؛ حتى لا يعرف الخبر، ولا ينقل الجواسيس خبرهم إلى المعنيين، وهذا مأمون في جانب السفر الطويل، وهو يحتاج إلى إعداد عدة أكثر من السفر القصير، فالمرء يستطيع أن يصبر على جوعه وعطشه يوماً أو يومين، لكنه لا يستطيع أن يصبر على جوعه وعطشه شهراً أو شهرين؛ ولذلك جلا لهم النبي عليه الصلاة والسلام الأمر، فقال: إنا سنلقى المشركين والنصارى في تبوك، ولم يعرض في هذه المرة؛ وذلك لأمن الخوف، وأمن انتقال وانتشار الأخبار عن طريق الجواسيس وغير ذلك، والعلة: (ليتأهبوا أهبة غزوهم) أي: ليستعدوا ويأخذوا الزاد والعتاد والعدة لهذا السفر الطويل. قال: [(فأخبرهم بوجههم الذي يريد)]. يعني: أخبرهم صراحة وحقيقة بالمكان الذي يريد أن يذهب إليه. قال: [(والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير، ولا يجمعهم كتاب حافظ)]. فقد نادى في المسلمين: إننا سنغزو تبوك، وسيكون انطلاق السفر من هذا المكان، أي: من المسجد النبوي، في اليوم الفلاني، ومن وجد في نفسه قوة، وعلم أن القتال تعين عليه فليلحق بنا، أو فليأتنا إلى هذا المكان، ولم يكن هناك كتاب في غزوة تبوك يكتب فيه أسماء المجاهدين. [قال كعب: (فقل رجل يريد أن يتغيب، يظن أن ذلك سيخفى له ما لم ينزل فيه وحي من الله عز وجل, وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزاة حين طابت الثمار والظلال، فأنا إليها أصعر)]. أي: أميل. فالنبي عليه الصلاة والسلام خرج من المدينة في وقت طيب الثمار وقطفها، فمالت نفس كعب إلى التخلف عن الغزوة؛ لأجل جمع الثمار. قال: [(فتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، فأرجع ولم أقض شيئاً، وأقول في نفسي: أنا قادر على ذلك إذا أردت)]. وهذا هو عمل النفس اللوامة، فهو يتخلف لشهوة، لكن نفسه المؤمنة الطيبة تلومه على ذلك، ويقول لنفسه: وإن التمست لنفسك يا كعب! المعاذير فإنك في حقيقة أمرك لو أردت الغزو لفعلت، فهو يقيم الحجة بنفسه على نفسه. قال: (إذا أردت ذلك). فقد كان عنده الزاد والراحلة، ولا يمنعه من ذلك شيء. قال: [(فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمر بالناس الجد)]. يعني: فهو تحدثه نفسه بالغزو، فيذهب يجهز نفسه ليذهب معهم، ثم يقوم الشيطان بتثبيطه، فيذكره بالثمار فيرجع، وهذا يتكرر منه مراراً حتى جد المسلمون بالذهاب إلى تبوك. قال: [(فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غادياً والمسلمون معه)]. أي: في وقت الغداة بعد صلاة الفجر. قال: [(ولم أقض من جهازي شيئاً)]. يعني: غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون وأنا لم أجهز نفسي. قال: [(ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئاً, فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو)]. أي: حتى أوشك المسلمون أن يدخلوا مع عدوهم في القتال. قال: [(فهممت أن أرتحل فأدركهم، فيا ليتني فعلت)]. فصاحب المعصية لا يزال يشعر بذل المعصية في قلبه، خاصة إذا كان عنده وازع إيماني، وحظ من يقين، وأما الفاجر الجر

موقف كعب بن مالك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عند عودته إلى المدينة

موقف كعب بن مالك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عند عودته إلى المدينة قال: [(وصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادماً، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين)]. وهذا يدل على استحباب أن يصلي القادم من سفر طويل ركعتين في المسجد القريب من بيته، ويرسل إلى أهله أنه قد قدم ودخل المسجد؛ حتى تمشط الشعثة، وتستحد المغيبة، أي: تنظف نفسها، وتتهيأ للقاء زوجها. قال: [(ثم جلس للناس)]. أي: بعد أن صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين في المسجد؛ جلس للناس، وهذه سنة سلفية عمل بها سلف هذه الأمة، فالشخص إذا كان من أصحاب الوجاهة والمنزلة، وممن يشار إليه بالبنان في مصالح الناس، أو تعليمهم أو غير ذلك؛ فإنه يستحب له أن يتخذ مكاناً هيناً سهلاً يمكن الوصول إليه بغير مشقة ولا عنت، ويظهر للناس حتى يقضي للناس حاجاتهم. قال: [(ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون -أي: الذين تخلفوا عن القتال- فطفقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له -ولم يطلب منهم قسماً- وكانوا بضعةً وثمانين رجلاً, فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم، وبايعهم، واستغفر لهم)]. لأن أحكام الشريعة مناطها ما كان أمراً ظاهراً، وأما الباطن فإنه الإيمان الذي لا يطلع عليه إلا الله عز وجل؛ ولذلك لما حلفوا قبل منهم النبي عليه الصلاة والسلام، بل وبايعهم، واستغفر لهم، والنبي عليه الصلاة والسلام يعلم أن منهم منافقين، وأن منهم أصحاب أعذار حقاً، ولكنه استغفر للجميع، وقبل منهم للحلف الذي حلفوه، والمعذرة التي قدموها بين يديه عليه الصلاة والسلام، وهذا أمر مسنون أن يقبل الإمام قول الحالف وإن كاذباً، لكن ما عند الله من العقوبة أشد وأبقى مما عند هذا القاضي، أو الأمير، أو السلطان. قال: [(ووكل سرائرهم إلى الله تعالى)]. أي: لما استغفر لهم قال لهم: إذا كنتم على غير ما حلفتم فإن الله تعالى يتولى أمركم، وهذا تهديد رهيب جداً، فالتخلص من ذلك في الدنيا أحسن. قال: [(حتى جئت، فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب)]. فهنا كان مغضباً، مع أن الرواية لم تذكر أنه غضب ممن حلفوا له، فأحياناً يغضب الإنسان غضباً شديداً على أقرب الناس إليه، وأحب الناس إلى قلبه؛ وذلك لأن هذا التصرف الخاطئ لا ينتظر منه، وإنما ينتظر من غيره، فكون النقيصة والعيب يأتيان من الآخرين هذا أمر مقبول، وأما منك وأنت أقرب الناس إلي، وأفهم الناس لي ولأخلاقي؛ فحين تقول: كذا وكذا، أو تفعل كذا وكذا، فوالله إن غضبي منك أعظم بكثير من غضبي على الآخرين، مع أن الآخرين قد قالوا شيئاً هو أعظم من قولك، وأنكر، وأقبح، لكن غضبي عليك أعظم؛ لأنك المظنون بك أن تكون في موطن الدفاع لا في موطن التهمة؛ ولذلك فالإنسان يتعامل مع الآخرين معاملة فيها رفق ولين، ويتعامل مع زوجته، وأبنائه، وأقرب المقربين إليه بهذه الطريقة؛ لأنهم أحب إليه من غيرهم، وفعل غيرهم لا يضره ولا يهمه، بخلاف أفعال المقربين فإنها تهمة، فلو أن امرأة أخطأت خطأً ما فربما يمر الإنسان عليها بغير أن ينكر عليها، لكن لو أن امرأته أخطأت لعاقبها ولو بالضرب؛ لأنه يثيره أن يأتي هذا الانحراف من امرأته. قال: [(تبسم تبسم المغضب, ثم قال: تعال)]. تعال: كلمة فيها رفق ولين. قال: [(وجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: ما خلفك؟)]. لم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم عليه مباشرة، بل سأله عن سبب تخلفه، ولم يقل له: والله أنت منافق، وأنا أعلم أن عندك فرسين، وهذا يعلمك أن تكون مع المخطئ حتى تتيقن أنه قد أخطأ بغير عذر. قال: [فقال لي: (ما خلفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك)]. أي: ما الذي حملك على أن تتخلف عن الغزوة؟ ألم تكن يا كعب! قد ابتعت -أي: اشتريت- ظهرك، هذا إن لم يكن عندك فرس تركب عليه. قال: [(فقلت: يا رسول الله! إني لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر)]. هذا الأمر متعلق بالوحي، فغيرك لا يوحى إليه، وأما أنت فيوحى إليك، ولو أن هذا المجلس بين يدي غيرك لكذبت عليه وخرجت منها، وضمنت النجاة. قال: [(ولقد أعطيت جدلاً)]. يعني: رجل صاحب لسان يحسن أن يتكلم وليس عيياً، بل يفصح عما في نفسه بأحسن عبارة وأقواها، وأكثرها بياناً وفصاحة. قال: [(ولكني والله لقد علمت -أي: أنا أعلم يقيناً- لئن حدثتك اليوم بحديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي)]. أي: لو كذبت عليك فسينزل الوحي بكشف كذبي عليك، فيغضب الله ورسوله علي. قال: [(ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه -يعني: تغضب مني الآن- إني لأرجو عقبى الله)]. يعني: لن أقول إلا الصدق، وإن كان الصدق سيغضبك علي، فإنني بصدقي أرجو العاقبة الحسنة من الله عز وجل، وهذا من حسن الاعتذار والتوبة المهذبة. قال: [(والله ما كان لي عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك)]. أي: أنا تخلفت عنك بغير عذر، وإني ل

موقف بني سلمة من صدق كعب بن مالك في سبب تخلفه عن غزوة تبوك

موقف بني سلمة من صدق كعب بن مالك في سبب تخلفه عن غزوة تبوك قال: [(فقمت، وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني فقالوا لي: والله ما علمناك أذنبت ذنباً قبل هذا، لقد عجزت في ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)]. أي: أنت دائماً رجل صالح، وموقفك طيب، فلو أنك اعتذرت مثل الذين اعتذروا، وتصبح حياتك كلها بغير ذنب، لكنك أكدت الذنب على نفسك. قال: [(قالوا: لقد عجزت في ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله بما اعتذر به إليه المتخلفون, فقد كان كافيك من ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك)]. يعني: لو كنت اعتذرت وحلفت له أنه ما خلفك إلا العذر؛ حتى وإن كنت كاذباً في هذا اليمين، فإن الله عز وجل يغفره لك باستغفار النبي لكم جميعاً، وأنت منهم. قال: [(فوالله ما زالوا يؤنبوني)]. يعني: يلومونني. قال: [(حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي)]. فانظر إلى أثر الصحبة، مع أن الصحابة كلهم عدول؛ لكنهم تقع منهم الهفوات، وهذه هفوة، فهذا رجل أتى والتزم الصدق فلامه بعض الصحابة رضي الله عنهم، ولذلك هم أن يرجع فينسحب من كلامه الأول، ويقدم المعذرة التي قدمها المخلفون. قال: [(ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي من أحد؟)]. يعني: هل سبقني أحد إلى الصدق مع النبي عليه الصلاة والسلام في تخلفه؟ قال: [(قالوا: نعم، لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت, فقيل لهما مثل ما قيل لك. قال: قلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن ربيعة العامري -أو العمري -، وهلال بن أمية الواقفي، قال: فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدراً، لي فيهما أسوة)]. فهذان الرجلان يشار إليهما بالبنان في الصلاح والعلم والعمل والتقوى، وغير ذلك لكن كعباً لم يكن على علم بتخلفهما، وما علم أنهما تخلفا إلا بعد رجوع النبي عليه الصلاة والسلام.

مقاطعة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لكعب وصاحبيه

مقاطعة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لكعب وصاحبيه قال: [(فمضيت حين ذكروهما لي. قال: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا -أيها الثلاثة- من بين من تخلف عنه)]. هؤلاء الثلاثة فقط: هلال بن أمية، ومرارة العامري، وكعب بن مالك، وكلهم من الأنصار، نهى النبي عليه الصلاة والسلام المسلمين أن يتحدثوا معهم في شيء. قال: [(فاجتنبنا الناس)]. وفي هذا وجوب طاعة الأمير في السر والعلن. قال: [(تغيروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض)]. أي: تنكروا، فكلما وقع وجه كعب على وجه واحد من الناس أظهر له غضبه واشمئزازه، وينصرف بوجهه عنه، وهذا زيادة في الخصومة والقطيعة والهجر، وفي هذا جواز بل وجوب مقاطعة أهل البدع والمعاصي. وأصل الهجر في الشرع: ثلاثة أيام، ولا يزيد عليها المسلم إذا زالت علة الهجر، وأما إذا كان الهجر بسبب الدين وليس الدنيا فإنه يبقى لو بقيت العلة ولو لخمسين سنة، فالتوبة نزلت على هؤلاء بعد مرور خمسين ليلة، فهب أن التوبة نزلت بعد عام فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يرجع عن مقاطعة هؤلاء، وكان سيستمر. إذاً: إذا بقيت علة الهجر والخصومة أكثر من خمسين ليلة، أو أكثر من ثلاثة أيام استمر الهجر والمقاطعة حتى تزول العلة، والأصل: أن الهجر لا يزيد عن ثلاثة أيام؛ لأن هذه الثلاثة الأيام كفيلة بتطييب الخاطر، وهدوء البال، وراحة النفس، وغير ذلك، فالله عز وجل هو الذي خلق النفس، وعلم النبي عليه الصلاة والسلام أن النفس تهدأ بعد ثلاثة أيام، فيبدأ الإنسان يفكر فيها بهدوء ولطف؛ لأن الإنسان لو اضطر إلى خصومة فإنه لا يفكر بهدوء، وقد (نهى النبي عليه الصلاة والسلام أن يقضي القاضي وهو غضبان)؛ لأن مظنة الانحراف عن الحق والعدل قائمة، وكذلك: (نهى القاضي أن يقضي وهو جوعان)، فالأحكام التي تصدر عن القاضي وهو جائع قد يكون فيها انحراف عن الحق. قال: [(فاجتنبنا الناس، وتغيروا لنا، فما هي بالأرض التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا -أي: خضعا- وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم -أي: أنه كان شاباً، وكان صاحباه شيخين كبيرين- فكنت أخرج فأشهد الصلاة، وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد -يعني: لو جلس في بيته لكان ذلك أفضل له- وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام أم لا؟)]. أي: أنه يريد أن ينتزع الكلام من النبي عليه الصلاة والسلام انتزاعاً، فهو يذهب ويصلي معه، وبعد الصلاة يقوم إلى النبي عليه الصلاة والسلام ويقول له: السلام عليكم يا رسول الله! فلا يسمع شيئاً، فانظر إلى مدى الحيرة التي يقع فيها صاحب المعصية، فهو يتمنى أن يكلمه كلمة واحدة طيبة. قال: [(فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام أم لا؟ ثم أصلي قريباً منه، وأسارقه النظر)]. يعني: أنا حريص على أن أكون قريباً منه في الصلاة، ثم يختلس بنظره إلى النبي عليه الصلاة والسلام فينظر هل سينظر إليه أم لا؟ وفي هذا جواز أن يجول الإنسان بعينيه في الصلاة، ولا يجوز الالتفات في الصلاة، وقد سألت الشيخ الألباني رحمه الله في عام (1982) فقلت: يا شيخ! هل يجوز للمسلم أن يلتفت في الصلاة، أو ينظر لمن حوله؟ قال: أما هكذا فجائز، وأما هكذا فغير جائز، فجال بعينيه فيمن هم بجوارنا؛ للدلالة على أن اختلاف النظر يمنة ويسرة لا يضر بالصلاة، بخلاف الالتفات في الصلاة، وهذا أمر محل اتفاق. قال: [(ثم أصلي قريباً منه وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي، وإذا التفت نحوه أعرض عني)]. يعني: أن النبي كان ينظر إليه، وهذا شيء يطمئن على أية حال، فهي بشرى. قال: [(حتى إذا طال ذلك علي من جفوة المسلمين مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي). الحائط: هو البستان، ومعنى تسورت الحائط: أي: علوت الجدار، ونزلت في بستانه، وكان بيت أبي قتادة بجوار بيت كعب بن مالك، وما بين بيت كعب وبيت أبي قتادة إلا سور الحديقة، فتسلق كعب السور ونزل في بستان أبي قتادة، وهذا جائز لمن علم طيب خاطره بذلك؛ لأن هذا دخول في ملك الغير بغير إذن، وذلك لا يشرع إلا مع العلم السابق بأن صاحب الحق يرضى بذلك، وأما إذا علم عدم رضاه عن ذلك فلا يحل لأحد أن يتسور داره. قال: [(مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي، وأحب الناس إلي، فسلمت عليه، فوالله ما رد علي السلام! فقلت له: يا أبا قتادة! أنشدك بالله)]. يعني: أحلف عليك بالله. قال: [(هل تعلمن أني أحب الله ورسوله؟)]. يقول كعب: نحن وحدنا هنا، فأنا أسألك س

ابتلاء الله لكعب برسالة ملك غسان

ابتلاء الله لكعب برسالة ملك غسان قال: [(فبينا أنا أمشي في سوق المدينة إذا نبطي من نبط أهل الشام)]. والأنباط والنبيط: هم فلاحو العجم، فهذا ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة، فمن العجب أن واحداً من أهل الشام أتى ليبيع طعامه في سوق المدينة. قال: [(يقول: من يدل على كعب بن مالك؟)]. يعني: من يدلني على كعب فأنا لا أعرفه، وقد سار الخبر إلى الروم في الشام بما حصل من الهجر. قال: [(فطفق الناس يشيرون له إلي حتى جاءني، فدفع إلي كتاباً من ملك غسان، وكنت كاتباً)]. يعني: أنه يعرف القراءة والكتابة. قال: [(فقرأته فإذا فيه: أما بعد: فإنه قد بلغنا أن صاحبك)]. أي: النبي صلى الله عليه وسلم. قال: [(قد جفاك)]. أي: قامت بينك وبينه جفوة. قال: [(ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك)]. فهذه فتنة أخرى، وهي أعظم من الفتنة الأولى، فهذا كتاب جاء من ملك غسان يقول فيه: لقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، فتعال إلينا فإنك لست في أرض هوان ولا ضياع، يعني: أنت عندنا معزز ومكرم ولن تضيع، ودليل ذلك أنك لو أتيتنا لجعلنا لك حظاً عند الملك، ووعود الملوك دائماً لا تخلف؛ لأن خلف الوعود في حق الملوك منقصة. قال: [(فقلت حين قرأتها: وهذه أيضاً من البلاء، فتياممت بها التنور فسجرتها بها)]. ولو أرسل لواحد منا، وكانت هذه الرسالة من ملك؛ لارتد عن دينه مباشرة، وهذا يدل على عظم قدر الصحابي، فهو يزن الأمة بأجمعها، فهؤلاء قوم قد اصطفاهم الله لصحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، فأنت لن تكون من أصحابه؛ لأنك أضعف من أن تكون صاحباً للرسول الله عليه الصلاة والسلام، ولو علم الله فيك خيراً يؤهلك لأن تكون صاحباً لخلقك في ذلك الزمان، {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة:120]. فجاءته الرسالة من ملك غسان فأحرقها، ولو وصلت إلى واحد منا لقام ببروزتها، ونشرها في الصحف والمجلات والجرائد؛ من أجل أن يفاخر بها فهناك فرق كبير بيننا وبين الصحابة. قال: [(أما بعد: فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة)]. قوله: (ولم يجعلك الله) يدل على أن هذه الرسالة فيها ذكر الله، وفيها لفظ الجلالة، لكن كعباً قال: فتياممت بها التنور فسجرتها، يعني: أحرقتها وفيها لفظ الجلالة، وفي هذا جواز حرق الأوراق الممتهنة أو القابلة للامتهان، حتى ولو كان فيها ذكر الله ورسوله، وأنتم تعلمون أن المصاحف التي دونت في زمن عثمان رضي الله عنه أجمع الصحابة رضي الله عنهم على حرقها، ولم يخالف في ذلك واحد من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا إجماع على مشروعية حرق المصاحف الناقصة، أو المعيبة، أو التي فيها أخطاء مطبعية أو غير ذلك، فإذا كان عندك مصحف من هذا القبيل فحرقه أولى من بقائه، والحرق قربة إلى الله عز وجل، أو تقسمه أجزاءً أجزاءً، أو سوراً سوراً.

أمر النبي صلى الله عليه وسلم لكعب وصاحبيه أن يعتزلوا أزواجهم

أمر النبي صلى الله عليه وسلم لكعب وصاحبيه أن يعتزلوا أزواجهم قال: [(حتى إذا مضت أربعون من الخمسين، واستلبث الوحي)]. يعني: تأخر نزول الوحي أربعين ليلة. قال: [(إذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك)]. فزاد غماً إلى غمه، يعني: بعد القطيعة، وهجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه له، فإنه أيضاً يعتزل امرأته. قال: [(فقلت أطلقها أم ماذا أفعل؟)]. انظر إلى الطاعة والانقياد، فالنبي صلى الله عليه وسلم يأمره أن يعتزل امرأته، فيقول: في أي صورة هذا الاعتزال: عدم إتيانها، أم الطلاق؟ فهو مستعد حتى وإن أفضى إلى الطلاق، وهذا في منتهى الطاعة والامتثال. قال: [(قال: لا. بل اعتزلها فلا تقربنها)]. فرسول رسول الله يقول له هذا. قال: [(فأرسل إلى صاحبي بمثل ذلك)]. أي: قال النبي عليه الصلاة والسلام لصاحبيه نفس الذي قال له. قال: [(فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك)]. كلمة: (الحقي بأهلك) العلماء يسمونها من ألفاظ الطلاق الضمني، فهو لفظ يحتمل وقوع الطلاق، ويحتمل عدم وقوعه، والضابط: النية، فلو أن رجلاً قال لامرأته: (الحقي بأهلك) وأراد بهذا اللفظ وقوع الطلاق وقع، ولو قال لامرأته: (الحقي بأهلك) ولم ينو طلاقاً لا يقع طلاقاً. إذاً: فالألفاظ الضمنية لابد فيها من نية الحالف، أو نية المطلق، أو نية المتكلم، بخلاف الألفاظ الصريحة، فلو قال لها: أنت طالق فلا يصح أن يقول: أنا لم أكن قاصداً الطلاق؛ لأن هذا تلاعب بألفاظ الشرع، فاللفظ الصريح يقع ولا يحتاج إلى نية، بخلاف الضمني فإنه يحتاج إلى نية. قال: [(الحقي بأهلك، فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر)]. وهذا تأكيد أيضاً، فهو يقول: اذهبي إلى أهلك حتى يسهل ربنا سبحانه وتعالى الأمر. قال: [(فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم). وهلال بن أمية رجل كبير، عمره أكثر من سبعين سنة. قال: (فقالت له: يا رسول الله! إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟). أي: أنه رجل كبير لا يستطيع أن يخدم نفسه. وانظر إلى أدب امرأته حيث قالت: [(فهل تكره أن أخدمه؟ قال: لا. ولكن لا يقربنك، فقالت: إنه والله ما به حركة إلى شيء)]. أي: هو لا يستطيع أن يقربها حتى وإن نزلت التوبة. قالت: [(ووالله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا)]. وهذا فيه دليل على أن البكاء علامة من علامات صدق التائب. قال: [(فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك)]. أي: مثل هلال بن أمية، لكن هناك فارق كبير بين كعب بن مالك وهلال، فـ هلال رجل لا حراك فيه، وسيضيع بالفعل إذا تركته امرأته، وأما كعب بن مالك فكان رجلاً شاباً جلداً. وكان المجاهدون مع النبي عليه الصلاة والسلام فيهم الشيخ الكبير، والشاب الصغير الذي هو فوق الخامسة عشر من عمره. قال: [(فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول عليه الصلاة والسلام في امرأتك، فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه؟ قال: فقلت: لا استأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يدريني ماذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب)]. أي: وهذا هو الفارق بيني وبين هلال بن أمية. قال: [(فلبثت بذلك عشر ليال)]. أي: بلا زوجة، ولا كلام.

بشرى توبة الله عز وجل على كعب وصاحبيه وما يشرع فيه من شكر النعمة

بشرى توبة الله عز وجل على كعب وصاحبيه وما يشرع فيه من شكر النعمة قال: [(فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهي عن كلامنا، ثم صليت صلاة الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله عز وجل منا: قد ضاقت علي نفسي، وضاقت علي الأرض بما رحبت)]. يعني: رغم اتساع الأرض إلا أنها في نظري ضيقة جداً. قال: [(سمعت صوت صارخ أوفى على سلع). سلع: اسم جبل في المدينة، وقد كان هذا الجبل بين المسجد النبوي، وبين بيوت الأنصار الذين كان منهم كعب بن مالك، فكان كعب جالساً على السطح بعد أن صلى الفجر؛ يقرأ الأذكار، وكان بيته بعيداً عن المسجد، وفي هذا جواز التخلف عن صلاة الجماعة لمن كان بيته بعيداً يشق عليه أن يلحق الجماعة، أو أنه لا يسمع الأذان. قال: [(سمعت صوت صارخ أوفى)]. أي: ظهر على جبل سلع. قال: [(يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر! قال: فخررت ساجداً، وعرفت أن قد جاء فرج)]. وفي هذا استحباب أن يسجد المرء سجود الشكر إذا نزلت به نعمة، أو كشفت عنه بلية، وسجود الشكر لا يلزم له وضوء، ولا استقبال قبلة، ولا تسليم فيه، ولا تكبير، وهو كسجود التلاوة في صفته. قال: [(فخررت ساجداً، وعرفت أن قد جاء فرج، قال: فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بتوبة الله علينا)]. أي: لما نزل الوحي بثبوت توبتنا؛ أعلم صلى الله عليه وسلم أصحابه بهذه التوبة. قال: [(حين صلى صلاة الفجر، فذهب الناس يبشروننا، فذهب قبل صاحبي مبشرون، وركض رجل إلي فرساً)]. يعني: مسرعاً وهو راكب فرسه، وفرحة الصحابة هذه تدل على الحب في الله، والبغض في الله، فلم يكن هذا الأمر فرصة للذي كان غاضباً من كعب أن يصر على خصومته لـ كعب. قال: [(فذهب الناس يبشروننا، فذهب قبل صاحبي مبشرون، وركض رجل إلي فرساً، وسعى ساعٍ من أسلم قبلي، وأوفى الجبل، فكان الصوت أسرع من الفرس)]. فهذا الرجل من فرط فرحته وسعادته بتوبة الله عز وجل على صاحبه؛ صاح وهو راكب الفرس حتى سبق الصوت الفرس، فسمع كعب البشارة ولم ير المبشر. وهذا يدل على أن المرء يقاس بحسناته وسيئاته، ولذلك فالأعمال يوم القيامة توزن بميزان حقيقي لا مثيل له، فيوزن المرء بعمله، أو يجسد الله عز وجل الأعمال أجساماً فيزنها، أو يزن الأعمال باعتبارها من المعاني لا من المحسوسات، والله عز وجل على كل شيء قدير. قال: [(فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني؛ فنزعت له ثوبي فكسوتهما إياه ببشارته)]. أي: مكافأة، {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60]، فهذا الرجل بشره، فخلع ثوبيه وألبسهما هذا الذي جاء يبشره، وفي هذا استحباب رد الجميل، فمن حسن الخلق أن يهدي المرء من أهداه، ويكافئ من أحسن إليه. قال: [(فانطلقت أتأمم رسول الله صلى الله عليه وسلم)]. يعني: أقصد النبي صلى الله عليه وسلم. قال: [(يتلقاني الناس فوجاً فوجاً يهنئونني بالتوبة، ويقولون: لتهنئك توبة الله عليك)]. يعني: هنيئاً لك يا كعب! توبة الله عز وجل عليك. قال: [(حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد، وحوله الناس، فقام طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني)]. يهرول من فرط فرحته. قال: [(والله ما قام رجل من المهاجرين غيره، قال: فكان كعب لا ينساها لـ طلحة)]. أي: لما دخل المسجد قام إليه واحد فقط من بين الناس، وهرول وأسرع إليه وهو يجر إزاره يهنئه، ويبشره بتوبة الله عز وجل عليه، فكان كعب بن مالك يحفظ هذا الجميل لـ طلحة بن عبيد الله، فالنفوس والقلوب أسيرة لمن أحسن إليها. قال: [(فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور ويقول: أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك)]. أي: يقول له: إن اليوم هذا هو بالنسبة لك يا كعب أحسن يوم في حياتك، وفي حقيقة الأمر أن أحسن يوم هو يوم أن أسلم كعب، ولكن لبداهة ذلك لم يذكره النبي عليه الصلاة والسلام. قال: [(فقلت: أمن عندك يا رسول الله! أم من عند الله؟)]. يعني: هذه التوبة من أين أتت من عندك أنت يا رسول الله! أم من عند الله؟ قال: [(فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لا، بل من عند الله، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه عليه الصلاة والسلام)]. يعني: بدا على وجهه النور. قال: [(كأن وجهه قطعة قمر صلى الله عليه وسلم، قال: وكنا نعرف ذلك)]. يعني: كنا إذا فرح عرفنا أنه مسرور، وإذا غضب فكأنما فقيء في وجهه حب الرمان. قال: [(فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله! إن م

كتاب الوصية - الوصية بالثلث

شرح صحيح مسلم - كتاب الوصية - الوصية بالثلث من أعظم ما جاء في الشريعة الإسلامية للمسلمين الوصية؛ فقد حث عليها الشارع، ورغب فيها، وحينما شرعها حذر من الغلو فيها، وجعل الضابط فيها عدم الإضرار بالورثة، فلا يوصى لوارث لما فيه من أخذ ما ليس له بحق، كما لا يوصى لغير الورثة بما يزيد على الثلث لعدم الإضرار بهم.

كتاب الوصية

كتاب الوصية الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. كتاب: الوصية أو الوصايا؛ لأن الوصية مفرد وصايا. وهي كما يقول الأزهري: مشتقة من وصيت الشيء أوصه إذا وصلته، فأصل الوصية في اللغة هو: الواصل، وكأن الميت يصل ما كان في حياته بما هو كائن بعد مماته، يعني: هو يذكر أموراً متعلقة بأمر الوصية الكائنة في حياته بما هو كائن بعد مماته. كتاب: الوصية.

شرح حديث: (ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه)

شرح حديث: (ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه) قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو خيثمة -وهو زهير بن حرب النسائي، نزيل بغداد- ومحمد بن المثنى العنزي -واللفظ له- قالا: حدثنا يحيى -وهو ابن سعيد القطان - عن عبيد الله وهو ابن عمر العمري الإمام الكبير المشهور علم من الأعلام، وله أخ اسمه عبد الله بن عمر العمري، وعبد الله ضعيف، وعبيد الله المصغر إمام من الأئمة، أما عبد الله المكبر فهو ضعيف الرواية. قال عبيد الله: أخبرني نافع -وهو نافع الصغير - مولى عبد الله بن عمر عن ابن عمر -وهو عبد الله - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده)]. قوله: (ما حق امرئ مسلم) فيه حث وتأكيد على استحباب الوصية وعلى سنيتها، وإن كان أهل العلم اختلفوا فيها: أهي واجبة أو مسنونة أو مندوبة مستحبة؟ فذهب بعض أهل العلم إلى وجوبها، وذهب جمهور أهل العلم إلى أن الوصية مندوبة وليست واجبة، وحملوا -أي الجمهور- قول النبي عليه الصلاة والسلام: (ما حق) أنه ليس هو الحق الاصطلاحي، وإنما هو من معناه: حري وجدير لمن كان عنده شيء يوصي به ألا يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده. الأمر الثاني الذي صرف ظاهر النص سواء في القرآن والسنة وهو ما يوحي خلاف الوجوب إلى الندب؛ قوله عليه الصلاة والسلام: (يريد أن يوصي فيه)، فأرجع إرادة الأمر ومشيئته إلى العبد، قال: (يريد أن يوصي فيه)، وهذا بخلاف من كان عنده شيء لا يريد أن يوصي فيه، فحينئذ يترجح لدينا أن مذهب الجمهور هو الحق، وأن الوصية إنما هي مستحبة وليست بواجبة. قوله: (ما حق امرئ مسلم) هل الوصية من أهل الكتاب أو الحربي المقاتل لا تصح؟ الجواب بإجماع أهل العلم: أنها صحيحة، فلو أوصى كتابي يهودي أو نصراني بوصية يريد أن يوصي فيها صحت الوصية فليس الإسلام هنا شرطاً، وهذا بإجماع أهل العلم؛ لأن الوصية تصح من كل أحد من الكافر والمسلم، من المرأة والرجل، وأهل العلم لا يشترطون فيها إلا العقل والحرية، وهذا محل اتفاق بينهم، فلابد للموصي أن يكون عاقلاً؛ احترازاً عن الجنون، فلا تصح وصية المجنون؛ لأنه غير مكلف، والحرية احترازاً من وصية العبد فهي غير جائزة، وذلك لأن العبد وما يملك ملك لسيده، فالعبد في حقيقة الأمر لا يملك شيئاً، بل هو يعد شيئاً داخلاً في ملك سيده، وعلى هذا فهو لا يملك أن يوصي في شيء؛ لأنه لا يملك شيئاً. أما شرط البلوغ فهو محل نزاع بين أهل العلم، هل تصح وصية الصبي الذي لم يبلغ أو لا تصح؟ محل نزاع بين أهل العلم، فمنهم من قال: تصح وصيته، ومنهم من قال: لا تصح وصيته. أما اشتراط الإسلام هنا فالحقيقة أنه غير مراد، وليس بشرط لازم لنفاذ الوصية أو صحتها، وإنما خرج مخرج الغالب أو القياس الأولوي، فإذا كانت وصية الكافر صحيحة نافذة، فمن باب أولى أن تكون وصية المسلم، وإذا جاز للكافر أو الذمي أن يوصي، فأحرى بالمسلم أن يوصي، فليس ذكر مسلم هنا في هذا الحديث شرطاً لصحة الوصية؛ لأنه خرج مخرج الورثة: (ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده)، وكذلك قال في قوله: (يبيت ليلتين) وفي رواية: (يبيت ثلاث ليال)، فاختلاف العدد هنا دليل على أنه غير مراد كذلك، وإنما المراد التعديل؛ ولذلك عبد الله بن عمر لم يلتزم ظاهر هذا الحديث مع أنه هو الذي رواه. قال: فما بت ليلتين من بعد أن سمعت هذا الحديث إلا ووصيتي مكتوبة عندي، فهو لم يلتزم ليلتين ولا ثلاث ليال، وهذا يدل على أن ذكر العدد غير مراد، لكنه مدة مفتوحة من الشرع لمن لم يبادر ويعجل في كتابة الوصية سواء كان يومين أو ثلاثة؛ لأن الناس في شغل، وربما أدى بهم الانهماك في الشغل والأعمال وغير ذلك إلى النسيان، فلا أقل من أن يرجع ويتدبر من خلال يومين أو ثلاثة. أما استحباب كتابة الوصية من أول ما أن يملك المرء شيئاً يريد أن يوصي فيه، فإذا كان قد ملك وتوجهت إرادته إلى الوصية فينبغي له فوراً وعلى التو والحال أن يقوم فيكتب وصيته. أما عن الإشهاد بالوصية فمحل نزاع بين أهل العلم، فذهب بعض أهل العلم إلى أن الإشهاد ليس بلازم؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يذكر الإشهاد، ولم يشترط شهوداً أو شهادة لهذه الوصية، وذهب جماهير أهل العلم إلى استحباب الإشهاد. وغالى بعضهم فقال: وصية مكتوبة بغير إشهاد لا نفاذ لها، لكن هذا الكلام فيه تجاوز، والأصل أن المرء لو كتب وصيته وإن لم يشهد عليها، فإن كان معروف الخط فتبين للورثة أن هذا خط مورثهم واعترفوا بذلك، وأقروا بهذه الوصية فحينئذ يجب إثباتها، ولا أقل من أن تقاس بالوجادة التي هي أحد طرق تحمل العلم. والوجادة هي:

شرح طرق حديث: (ما حق امرئ مسلم)

شرح طرق حديث: (ما حق امرئ مسلم) قال: [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبدة بن سليمان وعبد الله بن نمير وحدثنا ابن نمير حدثني أبي كلاهما]، أي: عبدة وابن نمير، ثم بعد ذلك ابن نمير يحدث مسلماً عن أبيه، وأبوه هو عبد الله بن نمير، فكان الإسناد الأول من طريقين: طريق ابن نمير الذي هو عبد الله من طريق عبدة، والإسناد الثاني من طريق عبد الله بن نمير. إذاً: الطريق الثاني موافق للطريق الأول، لكن الطريق الأول يزيد عبدة بن سليمان، فكلاهما الضمير يعود على عبدة وعبد الله بن نمير. قال: [كلاهما عن عبيد الله بهذا الإسناد -وعبيد الله هو عبيد الله بن عمر العمري - عن نافع عن ابن عمر، بهذا الإسناد -أي: بنفس الإسناد السابق- غير أنهما -والضمير يعود على عبدة وعبد الله بن نمير - قالا: (وله شيء يوصي فيه)، ولم يقولا: (يريد أن يوصي فيه). وحدثنا أبو كامل الجحدري حدثنا حماد -يعني: ابن زيد البصري - وحدثنا زهير بن حرب حدثنا إسماعيل -وهو ابن علية - كلاهما عن أيوب]. حماد بن زيد في الإسناد الأول، وإسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي البصري في الإسناد الثاني، وهو المعروف بـ ابن علية كلاهما يرويان عن أيوب، وهو ابن أبي تميمة كيسان السختياني البصري. قال: [وحدثني أبو الطاهر أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس]. إذاً هنا معنا اثنان: أيوب ويونس، ويونس هو يونس بن يزيد الأيلي شيخ ابن وهب. قال: [وحدثني هارون بن سعيد الأيلي حدثنا ابن وهب أخبرني أسامة بن زيد الليثي]. إذاً: هنا معنا ثلاثة: أسامة ويونس وأيوب، واعلم أن أسامة بن زيد الليثي ضعيف، لكن هل اعتمد عليه مسلم هنا في الرواية، أم ذكره استئناساً؟ ذكره استئناساً، أي: طريقه لا يضر في صحة الحديث. قال: [وحدثنا محمد بن رافع حدثنا ابن أبي فديك -وهو محمد بن إسماعيل - أخبرنا هشام -يعني: ابن سعد المدني -كلهم عن نافع. (كلهم)]. الضمير هنا يعود على أيوب ويونس وأسامة بن زيد الليثي وهشام بن سعد. قال: [كلهم عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديث عبيد الله]. أي: بنفس الرواية التي سبقت: عبيد الله عن نافع عن ابن عمر: (ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين وعنده شيء يريد أن يوصي فيه إلا ووصيته مكتوبة عنده). قال: [وقالوا جميعاً -أي: الأربعة- (له شيء يوصي فيه) إلا في حديث أيوب فإنه قال: (يريد أن يوصي فيه)]. فلفظ (يريد) أتى من طريق يحيى بن سعيد القطان عن عبيد الله عن نافع، ولم ينفرد به، بل تابعه أيوب، لأجل ألا يقول قائل: هذا الحديث فيه أربعة وخمسة وستة لم يذكروا لفظ (يريد) إلا واحد فقط، فما المانع أن يكون هذا من باب الوهم، أي: وهِم في إثبات هذه اللفظة؟ لكن يحيى بن سعيد القطان لم يهم، أولاً: لأنه من الحفاظ الكبار، الأمر الثاني: أنه لم ينفرد بهذه اللفظة، إنما تابعه على ذلك أيوب بن أبي تميمة السختياني، لكن على العموم ذكر في طريقه: (له شيء يريد أن يوصي به إلا ووصيته مكتوبة عنده). قال: [حدثنا هارون بن معروف حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني عمرو وهو ابن الحارث المصري عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ثلاث ليال إلا ووصيته عنده مكتوبة)]. هذا طريق جديد، والحديث كله من طريق عبد الله بن عمر، فتارة يرويه عنه نافع، وتارة يرويه عنه ولده سالم، وسالم

فوائد وأحكام من حديث: (ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه)

فوائد وأحكام من حديث: (ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه) هذه الروايات فيها الحث على الوصية، أي: فيها حث وحض لمن كان عنده شيء يريد أن يوصي فيه أن يبادر بكتابة الوصية، وقد أجمع المسلمون على الأمر بها، فالأمر بها واجب في الكتاب والسنة، لكن مذهب الشافعية وكذا مذهب الجماهير: أنها سنة لا واجبة، وقال داود الظاهري وغيره من أهل الظاهر: هي واجبة لهذا الحديث، ولا دلالة لهم فيه، فليس فيه تصريح بإيجابها، يعني: هذا الحديث في الظاهر لا يدل على الوجوب، لكن إن كان على الإنسان دين أو حق أو عنده وديعة ونحوها لزمه الإيصاء بذلك، يعني: إذا كان الإنسان مضطراً إلى ذلك، بل إذا ترك الوصية فإنه يكون على خطر عظيم جداً، فحينئذ تجب عليه الوصية، فإن كان عنده ودائع أو رهائن أو غير ذلك للخلق وترك الوصية فلا شك أنه سيضيّع حقوقاً أخذاً وعطاء، فإذا أتى الدائنون إلى أهله بعد مماته يطالبون بديونهم ربما تنكّر لهم أهل الميت، وقالوا: ليس لديكم مستند، ولا كتب ذلك بوصية؛ ولا أوصانا مشافهة بذلك، فأنى لنا تصديقكم في هذا المدعى؟ وهذا أمر فيه تضييع لحقوق الخلق، وكذا لو كان هذا الرجل مما يؤثر نفسه بالسر ولم يطلع عليه أحداً، وعنده من الرهائن أو الودائع المالية وغير المالية للخلق، فإنه يلزمه عند ذلك أن يكتب الوصية، وإلا لعد الورثة ما تركه المورّث ميراثاً لهم حتى وإن زعم الزاعمون أن لهم عنده رهائن أو ودائع، لكن ليس لديهم ما يستندون إليه، كما لو ترك الإيصاء في إيصال الحقوق إلى أصحابها، فإن هذا أيضاً أمر مضيع لحقوق الخلق. قال الشافعي رحمه الله: معنى الحديث: ما الحزم والاحتياط للمسلم إلا أن تكون وصيته مكتوبة عنده. إن الإمام الشافعي إمام من أئمة اللغة، بل قوله في اللغة حجة كما قال غير واحد من أئمة اللغة، أي: هو كـ ثعلب وسيبويه وغيره، بل هو أولى منهم بكثير في فهم كلام العرب وهو العربي الأصيل. فهنا يقول: معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (ما حق امرئ مسلم) الحزم في الاحتياط أن يكتب المسلم وصيته، وهذا اللفظ لا يدل عند أهل العربية ولا عند الشافعي على الوجوب. قال: ويستحب تعجيلها. يستحب تعجيل كتابة الوصية، وأن يكتبها في صحته، يعني: لا ينتظر أن يمرض مرض الموت، فربما يأتيه الموت فجأة، فأنّى له أن يوصي وقت وفاته؟ وسواء كان ذلك في صحته أو في مرضه فالأمر مرهون بما إذا توفر لديك شيء تريد أن توصيه. وبعضهم قال: هذا الشيء هو المال، وبعضهم قال: بل لفظ شيء عام في الأموال وفي غيرها، وهذا هو الراجح، بل قد أخرج البخاري وغيره أن الرجل فيهم كان يوصي صاحبه بأن يقوم في أبنائه على تربيتهم وحسن تعليمهم، وكان يكتب بذلك وصيته، وهذا أمر معنوي ليس أمراً مالياً ولا مادياً. وهذا يدل على أن لفظ شيء من ألفاظ العموم التي لا يجوز تخصيصها إلا بمخصص. فالإنسان إذا أمكن أن يوصي في شيء سواء كان مادياً أو مالياً أو معنوياً أو عينياً أو غير ذلك، فالأصل أن يعجّل كتابة هذه الوصية، ولا ينتظر أن يوصي في مرض موته أو إذا مرض أو غير ذلك؛ لأنه لا يدري متى سيأتيه الموت.

مقدار المال الذي يوصى فيه

مقدار المال الذي يوصى فيه فرق العلماء بين من كان يريد أن يوصي بماله: هل يشترط في المال أن يكون كثيراً أو قليلاً؟ فبعض أهل العلم قالوا: لا عبرة بالمال القليل ولا الكثير، فإن الوصية في كل المال، سواء كان قليلاً أو كثيراً؛ لأن لفظ القلة والكثرة مسألة نسبية، فمثلاً واحد ترك مائة ألف جنيه، وعنده من الأولاد عشرون، فهذا المال قليل بالنسبة إلى الورثة، وآخر ترك عشرة آلاف جنيه وليس عنده من الأولاد أحد، فهذا مال كثير بالنسبة للمال الأول، فمسألة القلة والكثرة مسألة لا يمكن ضبطها، فلا حد للكثرة والقلة، ولا من جهة القيمة المالية للمال في زمن الوقوع، فهذا أمر يصعب جداً؛ ولذلك قالوا بأن الوصية تلزم في المال القليل والكثير على السواء، وأحالوا في الكثرة والقلة على العرف، بما يتحقق مع مصلحة الورثة. وقالوا: أما الأمور التافهة فقد جرت عادة الناس على عدم الإيصاء فيها، كيف؟ لو أن واحداً من الناس عنده مائة ألف جنيه، وله ولدان أو ثلاثة وهو يريد أن يوصي، والوصية معلوم أنها لغير الورثة؛ لأنه: (لا وصية لوارث)، فإذا أراد أن يوصي فله ذلك، لكن بعد أن أوصى بثلث المال أو ربع المال، وكان هذا المال وقت كتابة الوصية مائة ألف، دخل له ربح ألف جنيه أخرى، فهل يلزمه أن يُمزّق هذه الوصية ويكتب وصية في حدود مائة ألف وألف؟ لا يلزمه ذلك، بعض أهل العلم قالوا: يكتب مذكرات ملحقة، وبعضهم قال: بل يجدد الوصية إذا استدعى الأمر ذلك، وبعضهم قال: بل هذه الأموال التافهة أو الأشياء التافهة لا يلزمه فيها الإيصاء، وهذا الذي يشهد له واقع وحياة الناس. قال: (ويستحب تعجيلها، وأن يكتبها في صحائف ويُشهد عليه فيها)، يعني: يأتي باثنين من الشهود الرجال أو برجل وامرأتين، ويكتب فيها ما يحتاج إليه، فإن تجدد له أمر يحتاج إلى الوصية به ألحقه بها. قالوا: ولا يكلف أن يكتب كل يوم محقرات المعاملات وجزئيات الأمور المتكررة، ولا يلزمه ذلك. كالإخوة الذين يحرصون على كتابة المذكرات اليومية؛ فيأخذ مذكرة يومية ويكتب: ذهبت المدرسة ثم عدت من المدرسة إلى البيت وأخذت الملف، وصليت في المسجد الفلاني صلاة الظهر، وذهبت العصر إلى الكُتّاب، ثم رجعت وغير ذلك، فهذا برنامج يومي لا يعتبر وصية من أولها إلى آخرها؛ لأنه في المسائل المتعلقة بكل جديد في حياتك، وهذا البرنامج برنامج روتيني وكلنا نمر به. قال: (ولا يكلف أن يكتب كل يوم محقرات المعاملات وجزئيات الأمور المتكررة). وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (ووصيته مكتوبة عنده)، فمعناه: مكتوبة، وقد أشهد عليه بها، لا أنه يقتصر على الكتابة، بل لا يُعمل بها، وكما قلنا: إنما يُعمل بها إذا أقر بها الواصي، فمثلاً أنا الآن كتبت وصيتي وما أشهدت عليها، أو اعتبرت أن الإشهاد ليس شرطاً في صحة الوصية. إذاً: يلزم نفاذ الوصية حتى وإن لم يتم الإشهاد عليها. قال: (ولا تنفع إلا إذا كان أشهد عليها، هذا مذهبنا ومذهب الجمهور). وقال ابن نصر المروزي وهو الإمام الكبير العلم، له كتاب من أنفع الكتب اسمه تعظيم قدر الصلاة وهو مطبوع حديثاً، وكان أهل العلم ينقلون عنه من هذا الكتاب، وهذا الكتاب أعجوبة من أعاجيب المصنفات، وكل كلام ابن نصر المروزي بصراحة قيمة في الإنصاف والعدل. قال ابن نصر المروزي: يكفي الكتاب من غير إشهاد، لظاهر الحديث، وابن نصر المروزي شافعي.

باب الوصية بالثلث

باب الوصية بالثلث الباب الأول: الوصية بالثلث. يعني: باب جواز الوصية بالثلث.

شرح حديث سعد: (عادني رسول الله في حجة الوداع)

شرح حديث سعد: (عادني رسول الله في حجة الوداع) قال مسلم: [حدثنا يحيى بن يحيى التميمي أخبرنا إبراهيم بن سعد المدني عن ابن شهاب -وهو الزهري - عن عامر بن سعد عن أبيه عامر بن سعد بن أبي وقاص قال: (عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع)]. يعني: سعد سبق النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة، وإلا فـ سعد بن أبي وقاص من أوائل المسلمين، وقد هاجر إلى المدينة مع النبي عليه الصلاة والسلام، فهو من المهاجرين، ولكنه رجع إلى مكة إما للحج وإما لحاجة أخرى أرسله فيها النبي عليه الصلاة والسلام. قال: (عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع) أي: في أثناء حجه، والمعلوم أن النبي عليه الصلاة والسلام ما حج بعد البعثة إلا مرة واحدة وهي حجة الوداع، وقيل: إنه حج قبل البعثة على ملة إبراهيم مرتين. قال: [(عادني من وجع أشفيت منه على الموت)]، أي: أشرفت منه على الموت، يعني: كدت أن أهلك بسببه، وفي هذا استحباب زيارة الأمير والسلطان والحاكم ومن يشار إليه بالبنان، فزيارة الكبير تدخل على نفس الصغير أعظم السرور، وفيها من اغتباط القلب والولاء وغير ذلك، وأذكر أن جماعة من الجماعات العاملة على الساحة كثرت أعدادهم بسبب اجتماعياتهم، ومنها الزيارة في الله، زيارة المرضى، ومواساة المحتاجين وغير ذلك، فهذا من أعظم الأعمال التي يحرصون عليها، وكان الواحد منهم من قبل وهو كبير لا يظن به أن يتفرغ لزيارة واحد منا ونحن في الإعدادية مثلاً أو في أول الثانوية، فكان الواحد منهم مع منزلته المرموقة ومكانته السامية يأتي فيزور الشباب الملتزم، فيترك أثراً عظيماً جداً في قلب الوالدين وفي قلب الأعمام والجيران والأهل وغير ذلك، فتسمعهم يقولون: الشيخ الفلاني أتى يزور هذا الولد؟ والعالم الفلاني والداعية الفلاني الذي لا يوجد مثله جاء ليزور ولدي؟ فيشكرونهم ويحبونهم، وهذا بلا شك من مكارم الأخلاق، وإذا فعله لله عز وجل فإن الله تعالى يكافئه عليه بأعظم مما بدر منه. ففيه استحباب عيادة المريض وأنها مستحبة للإمام كاستحبابها لآحاد الناس. ومعنى (أشفيت على الموت) أي: قاربت وأشرفت عليه، لكن لا يقال: أشفى الله فلاناً إلا في الشر، يعني: هناك فرق بين شفى الله فلاناً، وأشفى الله فلاناً، فأشفى لا تقال إلا في الشر؛ ولذلك هنا يقول: أشفيت منه على الموت، أي: قاربت منه. جاءت امرأة إلى الإمام الشافعي وهو مريض، فقالت: أشفى الله الإمام، والمعنى: أهلك الله الإمام. وهي من عامة الناس، فقال الإمام الشافعي: آمين. اللهم بنيتها لا بلفظها، فهي توجهت نيتها وإرادتها إلى الدعاء له لا الدعاء عليه، فقال: اللهم بنيتها لا بلفظها. قال: [(فقلت: يا رسول الله! بلغني ما ترى من الوجع -أي: أنت الآن علمت شدة الوجع الذي نزل بي- وأنا ذو مال))] أي: صاحب مال، وأهل اللغة لا يقولون: فلان ذو مال إلا إذا كان له مال في العُرف المعتبر، فقد توجهت كلمات العرف إلى أن المال هو المال الكثير؛ ولذلك جمهور أهل العلم يقولون: لا يلزم صاحب المال القليل الوصية. قال: (بلغني ما ترى من الوجع) وهذا الكلام على سبيل البيان، كأنه يقول: أنا أبيّن حالي من المرض والوجع الذي نزل بي لأجل مصلحة شرعية مترتبة على هذا، وهو أني ذو مال. أما أن يقول: لقد نزل بي من الوجع ما تراه، فبلا شك أنه مؤثر جداً في ثواب المريض إذا كان على سبيل الشكاية. فهذا قوله: (وإنك ترى ما نزل بي من الوجع) ليس على سبيل الشكاية، وإنما على سبيل التقدمة لبيان الحكمة الشرعية، وللسؤال عن المال الذي عنده كيف يتصرف فيه. قال: [(وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي)] وهذا الحديث روي عن عامر بن سعد وعامر بن سعد وغيره كانوا أبناء لـ سعد، بل قد ورد أن سعداً له ستة أولاد، لكن لم يكن له من الأولاد إلا ابنة في أول أمره حينما نزل به المرض، ولم يقدّر له الموت في هذا المرض، وإنما قُدّرت له الحياة حتى فتح الفتوحات، وضر به أقوام وانتفع به آخرون، ورزقه الله أولاداً آخرين. قال: [(وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة، أفأتصدق بثلثي مالي؟)]، عندي مال كثير، وأريد أن أتصدق، إما أن تكون هذه الصدقة مؤجلة أو منجزة، ومعنى منجزة، أي: أدفع الآن وفي هذا الوقت، وذلك إذا أذنت في أن أتصدق بثلثي مالي، هذه وصية منجزة في حياته، أما الوصية المؤجلة فسيكتبها قبل موته فيقول: تصدقوا بثلثي مالي. قال: [(فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لا. قلت: أفأتصدق بشطره -أي بنصف مالي-؟ قال: لا الثلث. والثلث كثير -وفي رواية-: كبير)]، يعني: أذن له في أن يتصدق بالثلث، واعلم أن الجواب مطابق لمقتضى الحال، فمقتضى الحال أن عنده مالاً وهو غني، ولكن لم يكن له إلا ا

شرح حديث سعد: (دخل النبي علي يعودني)

شرح حديث سعد: (دخل النبي علي يعودني) قال: [حدثنا قتيبة بن سعيد وأبو بكر بن أبي شيبة قالا: حدثنا سفيان بن عيينة، وحدثنا أبو الطاهر وحرملة قالا: أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس، وحدثنا إسحاق بن إبراهيم -والمعروف بـ ابن راهويه - وعبد بن حميد قالا: أخبرنا عبد الرزاق -وهو ابن همام الصنعاني اليمني - أخبرنا معمر -وهو ابن راشد البصري اليمني يعني: هو من أهل البصرة، ولكنه تحوّل إلى صنعاء اليمن، وتتلمذ على يدي عبد الرزاق حتى أقام عنده وتزوج من أهل اليمن، وكان من حفاظ اليمن- وكلهم يروي عن الزهري بهذا الإسناد نحوه. وحدثنا إسحاق بن منصور -وهو المعروف بـ الكوسج - قال: حدثنا أبو داود الحفري، وهي نسبة إلى مكان بالكوفة واسمه هو عمرو بن سعد. يقول أبو حاتم وابن حبان والسمعاني وغيرهم: هو الثقة الزاهد الصالح العابد. وقال ابن المديني: ما أعلم أني رأيت بالكوفة أعبد من أبي داود الحفري. وقال وكيع وهو من أهل الكوفة: إن كان يُدفع بأحد في زماننا -أي: البلاء والنوازل- فبـ أبي داود يعني: أنه من العُبّاد الصالحين، إذا أرادوا أن يتوسلوا بدعاء الحي فليس أحد بالكوفة يتوسّل بدعائه لرفع البلاء والنوازل غير هذا العلم الجبل، لكن الذين زكّوه كـ علي بن المديني ووكيع وسفيان وغيرهم في الحقيقة هم أجل منه في الرواية، وكان هو قليل الرواية، فالمنشغل بالرواية غالباً ينشغل بغير العبادة؛ ولذلك الإمام الخطيب البغدادي صنّف كتاب شرف أصحاب الحديث، وذكر باباً وهو باب: توافق العلماء على أن مسألة في العلم أفضل من سبعين ركعة. والمقصود بها: ركعات النوافل، بل كان الواحد منهم أحياناً يترك قيام الليل لأجل المذاكرة والعلم والتحصيل، أو لأجل الاستفادة من عالم ينزل البلد، ويمكث فيها أكثر الليالي، فكانوا يستغلون ذلك في التلقي، وإن كان ذلك على حساب قيام الليل، فقد كان يحيى بن معين إذا زار أحمد بن حنبل ترك - أحمد - قيام الليل وبرك بركبتيه عند قدمي يحيى بن معين، فسأله عن ذلك ولده عبد الله وقال: أراك تترك قيام الليل إذا أتانا هذا الرجل؟ فقال: يا بني إن قيام الليل يدرك، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (من فاته الوتر من الليل فليصل اثنتي عشرة ركعة بالنهار)، أما هذا الرجال ففواته لا يدرك، يعني: إذا تركنا الانتفاع به في هذه الليلة فلعلنا لا ننتفع به. فأهل العلم كانوا يحرصون على طلب العلم ولو على المسألة البسيطة اليسيرة، ويقدّمونها على سواها. وهذا مالك بن أنس بن مالك أبي عامر الأصبحي الإمام الفقيه المدني كان يدرّس في المسجد النبوي، فلما أذن المؤذن قام أحد الحاضرين ليصلي. قال: ماذا تصنع؟ قال: أصلي يا إمام، أما سمعت النداء؟ قال: أما بلغك أن ما أنت فيه خير لك مما قمت إليه؟ الذي أنت فيه من طلب العلم وحضور حلقة الدرس أولى من القيام لصلاة ركعتين أو أربع؛ لأن طلب العلم هو من أعظم وأشرف وأفضل القربات، وقد جعل الله تعالى ذلك في كتابه، وجعل النبي عليه الصلاة والسلام له في سنته ما لم يكن لأي عمل من الأعمال، وهذا يدل على فضل العلم ومنزلته. يقول الحفري: عن سفيان عن سعد بن إبراهيم المدني عن عامر بن سعد عن سعد قال: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم علي يعودني) فذكر بمعنى حديث الزهري، ولم يذكر قول النبي عليه الصلاة والسلام سعد بن خولة غير أنه قال: (وكان يكره أن يموت بالأرض التي هاجر منها). قال: [وحدثني زهير بن حرب حدثني الحسن بن موسى -وهو المعروف بـ الأشيب - حدثنا زهير -وهو ابن معاوية - حدثنا سماك بن حرب حدثني مصعب بن سعد عن أبيه -هذا مصعب بن سعد بن أبي وقاص أخو عامر بن سعد بن أبي وقاص الزهري - قال: (مرضت فأرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: دعني أقسم مالي حيث شئت -يعني: ائذن لي يا رسول الله أن أوزّع مالي على حسب مشيئتي وإرادتي- قال: فأبى النبي عليه الصلاة والسلام. قلت: فالنصف؟ فأبى. قلت: فالثلث؟ قال: فسكت بعد الثلث، قال: فكان بعد الثلث جائزاً)]. أي: فكان بعد ذلك التصدق والوصية بالثلث أمراً

رواية ثلاثة من أبناء سعد عن أبيهم سعد حديث الوصية بالثلث

رواية ثلاثة من أبناء سعد عن أبيهم سعد حديث الوصية بالثلث قال: [وحدثنا محمد بن أبي عمر المكي حدثنا الثقفي -وهو عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي - عن أيوب السختياني عن عمرو بن سعيد عن حميد بن عبد الرحمن الحميري عن ثلاثة من ولد سعد]. بعض أهل العلم أخطأ فقال: هذا إسناد منقطع، بل هو غير منقطع، لكن لو قال: إسناد ضعيف لجهالة الراوي فهناك فرق كبير جداً بين قوله: إسناد ضعيف لجهالة الراوي، وإسناد ضعيف للإرسال أو الانقطاع، أما قول حميد: عن ثلاثة من ولد سعد أعظم ما يقال في هذا: أن هذا إسناد فيه رجال مجهولون، ولا يعرف من هم؟ والراجح أن حميداً إنما يروي عن عامر وعن مصعب، كما أن حميداً من كبار التابعين وأدرك عبد الله بن عمر. ثبت أنه عندما ظهر معبد الجهني بالبصرة قال حميد بن عبد الرحمن الحميري: أتيت أنا وصاحبي إلى مكة حاجين أو معتمرين، فقلنا: لو وفق لنا أحد من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام نسأله عما كان في البصرة، فوفق لنا عبد الله بن عمر، فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي. وصاحبه هو يحيى بن يعمر البصري. قال: فظننت أنه سيكل الكلام إليّ، فقلت: أبا عبد الرحمن! إن قوماً قِبلنا -أي بالبصرة- يتقفرون العلم، وفي رواية: يتصغرون العلم -يعني: يطلبون دقيق المسائل- ويقرءون القرآن، يقولون: لا قدر، وأن الأمر أنف، أي: أن الله لا يعلم شيئاً إلا إذا كان، أما قبل وقوعه فإنه لا يعلمه سبحانه وتعالى. قال عبد الله بن عمر: إذا لقيت هؤلاء فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني، وهذا كلام ابن عمر تكفير لغلاة القدرية الذين ينكرون القدر وينكرون أعظم مرتبة من مراتبه وهي مرتبة علم الله عز وجل؛ ولذلك قال النووي عليه رحمة الله في شرح هذا الحديث: وهذا منه -أي من عبد الله بن عمر - إيذان بتكفير هؤلاء، أي: إيذان بأن من أنكر مرتبة العلم لله عز وجل وأن الله تعالى علم ما كان وما يكون وما سيكون، وأنه لا يخفى عليه شيء، وأن علمه هو العلم المطلق الذي لم يحد بحد، وأنه صفة لازمة لله عز وجل لا تنفك عنه، وأن الله تعالى اتصف به أولاً وآخراً، وأن العلم صفة من صفاته ينبغي إثباتها لله على جهة الكمال المطلق الذي يليق بالله عز وجل، من أنكر ذلك فقد كفر. فلما أنكر هؤلاء ذلك ما اغتر عبد الله بن عمر بكثرة قراءتهم للقرآن ولا بتحريهم لدقائق المسائل في الدين، وإنما أطلق الحكم بتكفيرهم مباشرة؛ لأنهم أنكروا معلوماً لله عز وجل واجباً له بالضرورة في عقيدة كل موحّد، فلما كان منهم إنكار ذلك كفّرهم عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه. فقول حميد: عن ثلاثة من ولد سعد، هذا أمر لا يضر بصحة الحديث، فقد ورد هذا الحديث من طريق عامر، وقد ورد من طريق مصعب وغيرهما، فهو ثابت في كل الأحوال، كما ثبت الحديث السابق حديث عبد الله بن عمر من طريق أسامة بن زيد المكي، ونحن قلنا: إن أسامة ضعيف، لكن جاء على سبيل الاستئناس، لا على سبيل التأصيل والاستشهاد. مثلاً لو قال الراوي: يقول سفيان عن رجل، من هذا الرجل؟ لا ندري، فهو كذلك ضعيف، ولو قال الراوي: حدثني أهل مكة عن فلان، فالحديث حاله ضعيف؛ لأنه يعم أهل مكة، وهذا لا عبرة به في ميزان العدول، فلابد من التعيين، ولو صرح وقال: حدثني أهل مكة فيهم الحميدي لكفى؛ لأن الحميدي إمام من أئمة المسلمين وعلم من أعلامهم وسيد الحفاظ في زمانه، فلو لم يحدث إلا هو لكفى، لكن لو قال في زمن الحميدي: حدثنا أهل البصرة ولم يعيّن لقلت: هذا الحديث ضعيف. ولو قال: حدثني الثقة، ففيه نزاع بين أهل العلم، فربما يكون ثقة عنده، وضعيفاً عند غيره، بل ربما يكون معروفاً بالتساهل، وربما يكون شرط على نفسه أن يقول: لو قلت: حدثني الثقة فإنما هو فلان، فلو تحرينا ذلك وجدناه لا يخطئ ذلك لكان الأولى حمل هذا التوثيق على فلان بعينه الذي ذكره، وإن وجدنا مع التحري والاستقصاء أنه يقول: حدثني الثقة وقال -مثلاً-: إذا قلت: حدثني الثقة فإنما هو سفيان بن عيينة فهو يروي عن سفيان وعن غير سفيان من الضعفاء ويقول: حدثني الثقة، فلو كان كذلك لم يلتزم ما شرط فالأصل أن ذلك ينظر فيه. قال حميد: [عن ثلاثة من ولد سعد كلهم يحدث عن أبيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على سعد يعوده بمكة فبكى قال: ما ي

أقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم في الوصية بالثلث

أقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم في الوصية بالثلث قال: [حدثني إبراهيم بن موسى الرازي أخبرنا عيسى بن يونس، وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالا: حدثنا وكيع، وحدثنا أبو كريب حدثنا ابن نمير. كلهم عن هشام بن عروة عن أبيه عن ابن عباس قال: (لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع) ومعنى: غضوا أي: نقصوا، يعني: ابن عباس يتمنى لو أن الناس لا يتمسكون بظاهر الحديث؛ لأنه قال: (الثلث والثلث كثير) فيا ليت الناس لا يوصون في ثلث، بل ينزلون عن ذلك إلى الربع أو أقل من ذلك. قال: (لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الثلث. والثلث كثير). وفي هذا الحديث استحباب النقص عن الثلث، وبه قال جمهور العلماء مطلقاً، ومذهبنا: أنه إن كان ورثته أغنياء استحب الإيصاء بالثلث، وإلا فيستحب النقص منه، أي: إذا كانوا فقراء فينزل من الربع إلى العشر، أما إذا كانوا أغنياء فله أن يوصي بالثلث. وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: أنه أوصى بالخمس. وعن علي رضي الله عنه نحوه. وعن ابن عمر وإسحاق: بالربع، وقال آخرون: بالسدس، وآخرون بدونه، وقال آخرون: بالعشر. وقال إبراهيم النخعي رحمه الله: كانوا يكرهون الوصية بمثل نصيب أحد الورثة، لكن ينزلون عن نصيب أحدهم. وروي عن علي وابن عباس وعائشة وغيرهم رضي الله عنهم: أنه يستحب لمن له ورثة وماله قليل ترك الوصية. فمذهب الجماهير أن ترك الوصية لمن كان فقيراً وعنده أولاد أولى؛ وذلك لأن الوصية ستأكل المال.

الأسئلة

الأسئلة

حكم العمل في الضرائب

حكم العمل في الضرائب Q ما حكم العمل بالضرائب؟ A هذا السؤال يتردد كثيراً، وهناك بعض الأبحاث والرسائل يرى أصحابها جواز التعامل بالضرائب، لكن على أية حال من الطامات التي ذُكرت في هذه الرسائل والأبحاث أنهم يعدون أن الضرائب هي الزكاة، يقولون: الضرائب لا بأس أبداً أن نعتبرها زكاة من زكاة المال، وهل هذه الزكاة تجب على كل أحد؟ لا تجب إلا على من بلغ النصاب وحال عليه الحول؟ تصور شخصاً الآن فتح دكاناً، فعندما تأتي لحصر بضاعته ليس عنده إلا أشياء تافهة وقليل من المناديل، ويمكن على مدار السنة كلها لا يبيع بألفين أو ثلاثة آلاف، ويأتي صاحب الضرائب فيطلب عشرة آلاف جنيه، فذهب إلى كبير الضرائب وإلى المحاكم والمحامي وغيرهم، وبعد ذلك خفضوا هذه العشرة آلاف إلى ثلاثة آلاف، فكيف يجعلون هذه الضرائب زكاة، كيف؟! ثم إن هذه الزكاة فريضة شرعية لها مقدار ولها حدود ليست في كل وقت، وهي تُدفع قهراً للإمام، ولا إمام في هذا الزمان قط، وإذا أراد أن يعاقبه فله أن يتركه لله عز وجل، وليعلم تارك الزكاة أنه معروض على الله عز وجل، إذا علم هذا وعلم خطورة الأمر وأن الله تعالى سيكلمه ليس بينه وبينه ترجمان، ويطالبه ويسأله عن حق الفقراء وعن فريضة الزكاة، ربما تخلّص من ماله كله، فلو أنه استشعر الموقف ربما تخلّص من ماله كله لله عز وجل حتى لا يُحاسب في هذا الموطن، أما دفع الزكاة فإن الناس يتهربون منها، ولذلك التعامل مع الله عز وجل يحتاج إلى قلب واع، ووازع إيماني على أعلى مستوى، فلو قلنا لشخص: الحكومة لن تأتيك إلى المحل، أنت لوحدك على نهاية كل سنة تأتي متبرعاً ومتفضلاً وتعطينا الضريبة، فهل يعقل أن يذهب أي شخص؟ لا يمكن، بخلاف ما لو قلنا لرجل: إن الله تعالى قد فرض عليك الزكاة، وهي من فرائض الإسلام، فإن فعلتها وإلا فالحكم كيت وكيت وكيت، وقد حارب أبو بكر مانعي الزكاة، وقد اختلف أهل العلم في مانعي الزكاة ما بين مرتد وما بين مسلم عاص، وفي نهاية الأمر هي فريضة عليك.

كتاب الوصية - وصول ثواب الصدقة إلى الميت - الوقف

شرح صحيح مسلم - كتاب الوصية - وصول ثواب الصدقة إلى الميت - الوقف إن الصدقة تكفر الخطيئة وتطفئ غضب الرب، فيشرع لمن أتى ذنباً أو معصية أن يتوب منها وأن يقدم لذلك الصدقات، وأثر الصدقة على الذنب ثابت في السنة النبوية؛ ولا فرق في ذلك بين كون الصدقة عن حي أو ميت، ومن تصدق عن ميت فله أجر في ذلك.

باب وصول ثواب الصدقات إلى الميت

باب وصول ثواب الصدقات إلى الميت إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. الباب الثاني من كتاب الوصايا: قال الإمام: (باب وصول ثواب الصدقات إلى الميت). وكأنه يقول: إن ثواب الصدقة ينتفع به الميت، وإن لم يوص بذلك، يعني: لو تصدق عنه وليه أو أحد الناس فإنما ينتفع في أجر الصدقة، وإن لم يكن قد أوصى بها. قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة بن سعيد وعلي بن حجر السعدي قالوا: حدثنا إسماعيل بن جعفر عن العلاء عن أبيه -والعلاء هو ابن عبد الرحمن بن يعقوب الحرقي المدني يروي عن أبي هريرة رضي الله عنه- عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أبي مات وترك مالاً ولم يوص فهل يكفر عنه أن أتصدق عنه؟ قال: نعم)]. يعني: هل تنفع أبي الصدقة عنه إما من ماله أو من المال الموروث؟ وذلك لأن المال إذا ورث وانتقل إلى الوارث فهو ليس له، فهل ينتفع الميت إذا تصدق عنه وليه أو غيره من ماله أو من مال الغير هل ينتفع بذلك، ويكفر الله عنه سيئاته بذلك؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: (نعم) وفي هذا دلالة على أن الصدقات تكفر الذنوب؛ ولذلك يسن لمن تاب من ذنب أن يكثر من الصدقات، وأن يكثر من النوافل والطاعات فإن هذا ينفعه، ولو أن عبداً اقترف ذنباً كفارته ليست كفارة مالية فهل ينفعه بعد التكفير عن الذنب أن يتصدق؟ A نعم. ينفعه ذلك. قال: [وحدثنا زهير بن حرب أبو خيثمة النسائي قال: حدثنا يحيى بن سعيد -وهو القطان - عن هشام بن عروة عن أبيه -أي: عروة بن الزبير - عن عائشة رضي الله عنها: (أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أمي افتلتت نفسها)] ومعنى افتلتت أي: بُغِتَتْ. ذهبت روحها فجأة ولم توص، مات فجأة بغير سابق إنذار، وهذه من العلل التي يبعثها الله تعالى على عباده إنذاراً لنهاية حياته. قال: [(وإني أظنها لو تكلمت تصدقت)] لكن لم يكن هناك فرصة قط للكلام؛ لأن الموت أتاها بغتة، فلم يكن هناك وقت يسمح بالوصية، ولا بمجرد الكلام. قال: [(فلي أجر أن أتصدق عنها؟ قال: نعم)].

الأحكام المستنبطة من باب وصول ثواب الصدقة إلى الميت

الأحكام المستنبطة من باب وصول ثواب الصدقة إلى الميت الأول يسأل عن أبيه الذي مات ولم يتصدق، أله أجر إن تصدقت عنه؟ قال عليه الصلاة والسلام: (نعم)، وهذا سعد بن عبادة رضي الله عنه -وهو موقوف من الطريق الثاني- يحكي عن أمه عمرة رضي الله عنها التي ماتت فجأة وبغتة: هل ينفعني أنا أن أتصدق عنها؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (نعم)، وسعد بن عبادة أمه كانت قد ماتت فجأة ويعلم منها سعد أنها محبة للخير محبة للصدقة، جوادة سريعة في الخير أسرع من الريح؛ ولذلك قال: وإني لأظنها لو تكلمت تصدقت، ولكن الموت فاجأها، فهل ينفعني أنا أن أتصدق عنها؟ قال عليه الصلاة والسلام: (نعم). فبانضمام الطريقين أحدهما إلى الآخر يتبين لنا أن الصدقة عن الميت تنفع الميت وتنفع المتصدق أيضاً، كما لو أن رجلاً أراد أن يتخلص من مال حرام، فالمعلوم أن المال الحرام يجب الانتهاء عنه وعدم التعامل فيه، والتخلص منه بأي وجه من وجوه التخلّص المشروعة، فإذا كان المال مال ربا، وأبقاه المرء وأنفقه لكان ذلك حراماً عليه، وهو بكونه مالاً حقيراً حراماً، فماذا يصنع به؟ فكونه أراد أن يتخلص منه وتوجهت نيته إلى إنفاقه خوفاً من الله عز وجل فله على هذه النية أجر، ولذلك يخطئ كثير من الناس الذين يفتون العامة إذا سألوهم عن الأموال الحرام ماذا نصنع فيها؟ يقولون: تصدقوا بها وليس لكم فيها أجر. و A أن لهم فيها أجراً، وأجرهم هو إرادتهم طاعة الله عز وجل في التخلص من هذا المال الحرام، لا في عين المال، وإنما في عين التوسل إلى الله عز وجل بالتخلص من الحرام. فهنا استفدنا من الطريق الأول: أن المتصدق ينفع المتصدق عنه بعد موته، وفي الطريق الثاني: أن المتصدق منتفع بهذه الصدقة. ومن هذين الطريقين يتبين لنا أن الصدقة تنفع المتصدق والمتصدق عنه، كلاهما على السواء. فإن قيل: كيف يتخلص من المال الحرام؟ A العلماء يقولون: ينفقه بعيداً عن الطعام والشراب، وبعيداً عن المساجد، ويحددون المنافع العامة التي تتعلق بشخص بعينه وبمنفعته، وعلى ألا يكون ذلك في بيت من بيوت الله؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، فيبنون بها مثلاً مستشفيات يرصفون بها الطرق يبنون بها الحمامات والمرافق العامة وغير ذلك. قال: [حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا محمد بن بشر العبدي حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن أمي افتلتت نفسها ولم توص، وأظنها لو تكلمت تصدقت، أفلها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: نعم). ويتبع هذا طريق آخر. وهو قوله: حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء الهمداني حدثنا أبو أسامة حماد بن أسامة وحدثني الحكم بن موسى -وهو ابن أبي زهير البغدادي أبو صالح القنطري - قال: حدثنا شعيب بن إسحاق -وهو شعيب بن إسحاق بن عبد الرحمن الأموي مولاهم، البصري ثم القرشي- وحدثني أمية بن بسطام حدثنا يزيد بن زريع -وكلاهما بصري- قال: حدثنا روح -وهو ابن القاسم البصري - وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا جعفر بن عون كلهم عن هشام بن عروة بهذا الإسناد. أما طريق أبي أسامة وروح ففي حديثهما: (فهل لي أجر؟)، وفي طريق شعيب وجعفر: (أفلها أجر؟)، وفي كل يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (نعم)، يعني: يدلان على أن الصدقة تنفع الذي يدفعها والذي دُفعت لأجله. قال النووي: (في هذا الحديث جواز الصدقة عن الميت واستحبابها)، أي: ليست جائزة فقط وإنما أيضاً هي مستحبة، وأن ثوابها يصل وينتفع به، وكذلك المتصدق، وهذا كله أجمع عليه المسلمون، أي: هذه المسألة ليست محل نزاع، بل هي من مسائل الإجماع؛ أن الصدقة ينتفع بها المتصدق والمتصدق عنه.

حكم التصدق عن الميت بطعام في أيام محدودة

حكم التصدق عن الميت بطعام في أيام محدودة فإذا قال قائل: هل يجوز التصدق عن الميت بطعام في أيام محدودة ويرى الناس أن هذه الأيام أيام عبادة؟ A تحديده في أيام قد يدخل في البدع، كتحديد زيارة المقابر مثلاً يوم الخميس أو أول رجب، أو منتصف رجب أو أول شعبان، فإذا وقعت بدعة واستمروا عليها وألفوها، حتى بدا للعامة أن هذا اليوم يشرع فيه عبادة الصلاة أو الصوم أو زيارة القبور أو غير ذلك، فينبغي على السلطان أن يؤدب الناس وأن يرجعهم إلى السنة. وكذلك الذي يفعل طعاماً في يوم ما، فإذا كان أصل الطعام لله عز وجل فإنه لا يشرع له أن يلتزم يوماً بعينه؛ يعني: له أن يطعم الفقراء، لكن لا يلتزم يوماً بعينه، إنما يجعل الأيام في هذه الصدقة دولاً، مرة يجعلها في رجب، ومرة في شعبان، ومرة في رمضان، ومرة في ربيع وغير ذلك من أيام السنة، ويتحرى ألا يتناسب إطعام الناس في وقت ابتدع فيه الناس بدعة معينة، فلا يتحرى مثلاً بهذا الطعام أول رجب، ولا منتصف رجب، ولا أول شعبان، ولا هذه الأيام التي اخترع الناس لها عبادات ليس عليها دليل، بل قام الدليل على أنها بدعة.

الصدقة عن الميت تكون من القريب وغيره

الصدقة عن الميت تكون من القريب وغيره فإن قيل: هل من اللازم أن يكون هناك قرابة بين المتصدق وبين الميت؟ A لا يلزم. ينتفع بها المتصدق إن كان من أوليائه أو من غيرهم.

معنى قوله تعالى: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى)

معنى قوله تعالى: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) وهذه الأحاديث مخصصة لعموم قول الله عز وجل: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39]، هذه الآية قاضية بأن الإنسان لا ينتفع بشيء قط إلا بشيء قد عملته يده، لكن قد ورد إجراء الخير والثواب والفضل لأصحابه بعد وفاته؛ لأنهم كانوا سبباً في ذلك. ومثل هذه الآية قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164] يعني: كل إنسان يحاسب على ما اقترفته يداه لا ما اقترفته يد غيره، ولذلك عائشة رضي الله عنها لما سمعت عمر وابنه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يرويان عن النبي عليه الصلاة والسلام قوله: (إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه) قالت: أخطأ عمر وأخطأ أبو عبد الرحمن، ثم استشهدت لنفسها بظاهر هذه الآية. قالت: أين هذا من قول الله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]؟ وما ذنب هذا الميت أن يعذب ببكاء أهله عليه؟ فهو لا يملك هذا البكاء، ولا يملك كذلك أن يمنعهم؛ فكيف يعذب به، وهي جريمة ارتكبها غيره ولم يرتكبها هو؟ ثم قالت: إنما ذلك في الكافر، كأنها أرادت أن تصحح رواية عمر وابنه رضي الله عنهما أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إنما يعذب الكافر ببكاء أهله عليه)، وردَّ عليها ابن القيم رحمه الله بنفس المنطق وقال: وكذلك لا يعذب الكافر بجريرة غيره، أو بجريمة ارتكبها غيره، وقال بعد أن حكم بصحة اللفظ الذي أخرج في الصحيحين من حديث عمر وابنه: إنما ذلك لمن أوصى بذلك، فقوله: (إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه) أي: إذا أوصى بذلك، فنحن نعرف أن هناك أناساً كثيرين جداً قبل أن يموت يوصي أهله بالقرآن وهو بدعة، ويوصي بمقرئ وهو بدعة، ويوصي بالبكاء ويقول: استأجروا فلانة النائحة واستأجروا فلاناً النائح وغير ذلك، فإذا أوصى بذلك فإنه يعذب، ولا يعذب حينئذ بجريرة غيره، إنما يعذب بما أوصى به؛ لأنه طلب ذلك، أو أن ذلك معلوماً في سيرته أنه كان يحب البكاء والنواح وغير ذلك على الميت، وكان يفعل ذلك بنفسه، فإذا كان هذا معلوماً من دينه فلا شك أنه يعذب وإن بكى عليه الآخرون. وهنا قوله: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39]، فصحيح أن الإنسان لا يؤجر إلا على سعيه هو، لكن أحياناً يجرى له من الخير ما لم تعمله يداه، منها الصدقة، ومنها الحج، ومنها الصيام وغير ذلك من أعمال الطاعة، وهي الأعمال التي وردت فيها نصوص قاضية بذلك، فهذه الأحاديث مخصصة لعموم هذه الآية.

حكم صدقة الوارث عن الميت

حكم صدقة الوارث عن الميت وأجمع المسلمون كذلك على أنه لا يجب على الوارث التصدق عن ميته صدقة التطوع، بل هي مستحبة. لو أن رجلاً عنده عشرة آلاف جنيه ومات اليوم وقد وجبت الزكاة في هذا المال اليوم أو أمس أو قبل أسبوع أو أسبوعين، ولكن الرجل أخر إخراج زكاة المال، فهل يجب على الورثة أن يخرجوا زكاة هذا المال قبل توزيع الميراث؟ A يجب، فإن لم يخرجوا الزكاة كانوا هم المانعين من إخراج الزكاة؛ وذلك لأن هذا أمر واجب، لكن لو أن هذا الرجل كان قد تعود أن يأتيه فلان وفلان وفلان في أيام محدودة، فيتصدق عليهم بمائة أو مائتين أو ثلاثة أو ألف أو ألفين أو ثلاثة آلاف، فهذا من عموم الصدقات لا من الزكاة الواجبة، فإن مات هذا الرجل ومنع الورثة هذه الصدقة فإنهم لا يأثمون بذلك؛ لأن هذه صدقة تطوع لا صدقة واجبة وهي الزكاة، فحينئذ لا يحملون عليها، وإنما يوصون بها، فإن رضوا بذلك فهو أمر مستحب مندوب، وإن أبوا أن يفعلوا ذلك فلا يحملون عليه كما أنهم لا يأثمون بمثل ذلك.

حكم أداء الورثة للحقوق المتعينة على الميت

حكم أداء الورثة للحقوق المتعينة على الميت أما الحقوق المالية الثابتة على الميت فإن كان له تركة وجب قضاء الدين حتى وإن أتى الدين على جميع المال، كذلك يخرج من المال ما هو نفقة واجبة للميت كتجهيزه مثلاً، فالتجهيز يقدم، وقد ذكرنا هذا من قبل، فقلنا: الحقوق المتعينة في مال الميت هي: الدين، والدين إما أن يكون لله عز وجل أو يكون للآدمي، فإن كان ديناً لله عز وجل كإخراج الزكاة أو حج الفريضة، فإذا كان قد هيأ نفسه لمثل هذا فأدركه الموت قبل الحج، فهذا دين يجب أن يخرج من ماله، ويحج عنه أحد أوليائه، وإن حج عنه الغير فلا بأس بذلك. ولهذه المناسبة أردت أن أبين أمراً أنكره بعض الإخوان خاصة الذين يقيمون في مكة، يأتي أناس كثيرون من بلاد الخليج أو من بلاد العرب إلى مكة، ولترفهم وأنفهم من متاعب الحج يجلسون في فنادق خمسة نجوم ويوكلون بعد ذلك من يحج عنهم، وللأسف الشديد نحن رأينا أناساً من مصر يفعلون ذلك، كل همهم أنهم يطوفون أو يعملون عملاً يسيراً، أو يعملون وقتاً دون آخر؛ اتكالاً واعتماداً على أن العروض ستعرض عليهم في أوائل ذي الحجة وأواخر ذي القعدة، وأن هؤلاء العرب يبذلون مالاً كثيراً عظيماً. فيأتي الواحد منهم ويقول: من يحج عني وله عشرة آلاف ريال، أو خمسة عشر ألف ريال، أو عشرون ألف ريال، فيبادر ضعيف الإيمان إلى قبول هذا المال والحج عن صاحبه، بل قد أتى من يستفتيني في مكة أنه أخرج مالاً من سبعة عشر رجلاً وامرأة في عام واحد ليحج عنهم! فهذه طبقة مترفة مرفهة جداً، تأنف أن تسير مع الناس وأن تعرق مع الناس وأن تقع عين الواحد منها على منظر يؤذي وغير ذلك. وللأسف الشديد يستغل ذلك بعض الإخوة المصريين، وهذا عمل غير مشروع، فضلاً عن أنه من جهة العرف عمل غير محترم، لكن لو تم ذلك اتفاقاً فلا بأس بذلك، أي لو أنك حججت حج الفريضة، ثم توسم فيك بعض الناس الصلاح والتقوى، فأتوك بغير استشراف منك، وقالوا لك: نريد منك أن تحج هذا العام عن والدنا، وأصروا على ذلك؛ لما يعلمون من صلاحك وتقواك، فلا بأس بالقبول، والأمر ليس تجارة كما هو المشاهد في أرض مكة، إنما هي عبادة محضة؛ فخذ منهم على قدر ما يسمح لأداء الفريضة، فإن انتهى المال فإنه يكفي أن الله تبارك وتعالى يسر لك أداء هذه العبادة، أو مشاركة المسلمين في هذا الموسم العظيم من مواسم الطاعة السنوية. وأما الحقوق المالية الثابتة على الميت فإن كان له تركة وجب قضاؤها منها، سواء أوصى بها الميت أو لم يوص، ويكون ذلك من رأس المال، وسواء في ذلك إرضاء الله عز وجل كالحج والزكاة وغير ذلك، أو ديون الآدمي. فإن لم يكن للميت تركة لم يلزم الوارث قضاء دينه، لكن يستحب له ولغيره، وبعض أهل العلم ذهب إلى الوجوب، والذي يترجح أن الوجوب في حق الابن الغني الذي يملك قضاء دين والده بلا تضرر في نفسه، أعتمد في ذلك على قوله عليه الصلاة والسلام: (أنت ومالك لأبيك)، وهذا اللفظ عام، أي: في حياته وبعد مماته، وأن من حدده بالحياة دون الممات فهذا تحديد بغير نص.

مبحث في موت الفجأة

مبحث في موت الفجأة أخرج الإمام البخاري حديث المرأة التي افتلتت نفسها في كتاب الجنائز الباب الثالث والتسعين، فقال: باب: موت الفجأة، يعني: البغتة. ثم قال الحافظ: والفجاءة هي الهجوم على من لم يشعر به، واحد هجم عليك وفاجأك، وموت الفجأة وقوعه بغير سبب من مرض وغيره. قال ابن رشيد: مقصود الإمام البخاري -والله أعلم- الإشارة إلى أنه ليس بمكروه -أي: أن موت الفجأة ليس بمكروه- وإن كان قد ورد في بعض الروايات ما يشعر بكراهة موت الفجأة، بل قد ورد في الروايات الصحيحة أن موت الفجأة من علامات الساعة وأشراطها. قال: لأنه صلى الله عليه وسلم لم يظهر منه كراهيته لما أخبره سعد بن عبادة بذلك. وعند أحمد: من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بجدار مائل فأسرع، وقال: (أكره موت الفوات). قال ابن بطال: وكان ذلك -والله أعلم- لما في موت الفجأة من خوف إهمال الوصية، يعني: أن الذي يموت فجأة يحرم أن يكتب وصيته، وترك الاستعداد للمعاد بالتوبة وغيرها من أعمال صالحة. وقد روى ابن أبي الدنيا حديثاً: (المحروم من حرم وصيته)، أي: المحروم حظاً من حرم كتابة الوصية، وقد مضى بنا في أول الباب حديث أن المرء إذا ملك شيئاً ويريد أن يوصيه فلا يبيتن ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده. وعند ابن أبي شيبة من حديث عائشة وابن مسعود: (موت الفجأة راحة للمؤمن وأسف للفاجر) ومعنى أسف أي: غضب، غضب من الله عز وجل على الكافر، وراحة للمؤمن. وقال ابن المنير: لعل البخاري أراد بهذه الترجمة أن من مات فجأة أن يستدرك ولده من أعمال البر ما أمكنه مما يقبل النيابة، وقد نقل عن بعض الشافعية كراهة موت الفجأة. ونقل النووي عن بعض القدماء: أن جماعة من الأنبياء والصالحين ماتوا كذلك، أي: ماتوا فجأة، فلو كان مكروهاً لما أجرى الله تعالى على أنبيائه والصالحين مثل ذلك. قال النووي: وهو محبوب بالمراقبين، أي: أصحاب المراقبة؛ وذلك لأن الأمر كما قال أحدهم: لو أن الله تعالى جعل موتي غداً، ما استطعت أن أزيد في عبادتي شيئاً؛ لأنه قائم بحق العبادة وحق الطاعة وحق المراقبة والخشية والإنابة والتوبة وغير ذلك في كل أحيانه، فلو علم أن موته غداً أو بعد غد أو بعد عام لما استطاع أن يزيد في عبادته شيئاً، فهذا بالنسبة لموت الفجأة رعب، بخلاف غيره فإنه بالنسبة له حسرة: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100]؛ لأنه يعلم أن عمله ناقص، فلما جاءه الموت بغتة تمنى أن لو يرجع عند أن عاين العذاب ليعمل صالحاً. وبهذا يتم الجمع بين قول من قال: موت الفجأة مكروه، وموت الفجأة مستحب أو لا شيء فيه، فهو مستحب لأهل الطاعة ولأهل الإيمان، ومكروه لأهل التقصير والعصيان، وبهذا تلتئم الأدلة.

باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد مماته

باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد مماته الباب الثالث: ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته. نحن قلنا: إنه: {لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39]، لكن هذه الآية عامة خصصت بأدلة، وفي هذا إثبات أن السنة تخصص عموم القرآن، وتقيد مطلق القرآن، كما أنها هنا مطلقة. قال: [حدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة بن سعيد وعلي بن حجر السعدي قالوا: حدثنا إسماعيل بن جعفر عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة) أي: إلا من ثلاثة أعمال، ونأخذ هذا الاسم من جنس المصدر، إذا مات قطع عمله إلا من ثلاثة أعمال لا تنقطع، بل يستمر ثواب هذه الأعمال الثلاثة جارياً له بعد موته.

معنى قوله: (صدقة جارية)

معنى قوله: (صدقة جارية) قال: [(صدقة جارية)]، الصدقة الجارية يسميها الفقهاء بالتسمية الاصطلاحية الوقف، كبناء المساجد، وإنشاء مكتبة عامة، ومكتبة علمية ينتفع بها الناس، أو إنشاء سبيل يشرب منه المارة، أو إنشاء دار للأيتام، أو إنشاء دار للأرامل أو للعجزة كبار السن، وغير ذلك من الأصول الثوابت التي ينتفع بها الناس، وإنشاء طريق وحفر بئر، أو شق الترع، أو إيقاف أرض لمصلحة الناس، بناء السجون كل ذلك داخل في الصدقة الجارية، لكن بناء سجون لتعذيب العلماء مثلاً أو لتهديد طلاب العلم ومحاربتهم في بيوتهم وفي أقواتهم فهذا لا، أما إنشاء السجون لتهديد الظلمة وأخذ الحق منهم وتسليمه إلى أصحابه، ورجم الزاني حينما يزني، فهذا أمر مشروع، فمن تصدق ببناء سجن لأجل هذا فهو مأجور، ونحن نتكلم عن هذا إذا كان هناك خلافة.

معنى قوله: (أو علم ينتفع به)

معنى قوله: (أو علم ينتفع به) قال: [(أو علم ينتفع به)] ما هو العلم الذي ينتفع به الميت؟ هو علم الشرع الذي لا خلاف عليه، والذي مبناه على الأدلة الشرعية: كتاب، سنة، قياس صحيح، اجتهاد أو إجماع. هذا هو العلم الذي ينتفع به، لكن لا يمنع أن تكون هناك علوم أخرى غير شرعية ولكنها في خدمة الشرع، كعلم التجارة، وعلم الصناعة، وعلم الزراعة كل ذلك يلزم بناء الأمة الإسلامية وغيرها، وإن الأمة الإسلامية متى تخلفت عن هذا تخلفت عن أصل الحضارة، وتربص أعداؤها بشئون وأصول العلم، فقوله عليه الصلاة والسلام: (علم ينتفع به) يدل على مشروعية العلم الشرعي واستحبابه، بل هو من فروض الكفاية على الأمة. أما العلوم الأخرى فإنها إذا كانت لا تتعارض مع الشرع، بل تخدم الشرع وتخدم المسلمين، فربما تصل إلى درجة الوجوب، وهي من فروض الكفايات بلا شك عند أهل العلم. وقوله: (ينتفع به) احترازاً من علم لا ينتفع به كعلم السحر، فهو علم يناقض رأس الشريعة. وبعض السحرة يعمد إلى تعليم غيره، حتى إذا مات الساحر الكبير لا ينقطع علم السحر، فهل هذا يعد مما يجرى له الأجر بعد موته؟ A لا، بل يجرى عليه العقوبة بعد موته؛ لأنه كان سبباً في مثل هذا. ومن المعلوم أن علم الموسيقى، وعلم المنطق والفلسفة علوم غير شرعية، وهي ليست من العلوم النافعة، بل ما دخل البلاء على أهل الإسلام إلا بترجمة كتب اليونان في صدر الدولة العباسية الثانية، وذلك عندما ترجمت كتب الفلسفة والمنطق اليونانية، ودخل علم الفلاسفة من أوسع أبوابه، فدخل الفساد في عقائد المسلمين وفي أحكامهم، وشكوا في ربهم وإلههم بسبب كلام الفلاسفة اليونانيين.

معنى قوله: (أو ولد صالح يدعو له)

معنى قوله: (أو ولد صالح يدعو له) قال: [(أو ولد صالح يدعو له)] كلمة وجيزة فيها قيود. القيد الأول: أن الولد ينفع أباه، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إن أطيب كسب أحدكم من يده، وولده من كسبه)، فالرجل ينتفع بولده كما ينتفع الولد بأبيه، وأنتم تعلمون قصة الكنز الذي كان تحت الجدار في سورة الكهف: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف:82] وهو الجد السابع، فبسبب صلاح الآباء انتفع الأبناء من الدرجة السابعة. قوله: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف:82] أي: وكان جدهما السابع صالحاً، فانتفع الحفيدان في المرتبة السابعة بصلاح أبيهما أو صلاح جدهما، فكما ينتفع الوالد بولده، فكذلك ينتفع الولد بأبيه، لكن هنا بيَّن أن مناط النفع هو صلاح الولد، قال: (أو ولد صالح) فقيده بالصلاح، وهذا يدل على أن الولد الفاسد العاق العاصي لا يساوي فلساً في ميزان الشرع، ولا ينتفع به أبواه لا في حياتهم ولا بعد وفاتهم، بل ربما يكون هو مصدر للشقاء والتعاسة دوماً في حياتهما؛ ولذلك من الإيمان المطلق والتسليم التام لله عز وجل عند من لم يرزق الأولاد أن يسلم لله، ويفترض أنه لو رزق ولداً غير صالح، وتاركاً للصلاة والصيام وغير ذلك، هل كان يسعد الأب بهذا الولد إذا أطلعه الله عز وجل على حاله الآن؟ لا يمكن أبداً، بل كثير من الأولاد في هذا الزمان مصدر شقاء وتعاسة للوالدين، ولو علم الوالدان من أمرهما هذا قبل وقوعه لتمنيا أن لم يجتمعا أو أنهما حرما الإنجاب؛ ولذلك أمر الشرع في غير ما آية وحديث، وأكثر السلف الصالح بالاحتياط والحض على تربية الأبناء تربية صالحة. فقد ثبت أن عمر رضي الله عنه أدَّب أباً عق ولده قبل أن يعقه ذلك الولد، بأنه لم يختر له أماً صالحة، ولم يحسن اسمه، ولم يعلمه القرآن، ولم يعلمه شيئاً من السنة، وكان الوالد قد أتى إلى عمر ليشتكي عقوق ولده، فلما أتاه الولد قال: سله يا أمير المؤمنين أليس للولد على والده حقوقاً؟ قال: بلى. قال: لم يفعل من ذلك شيئاً، إنما اختار لي أماً -في رواية: زانية-، وفي رواية: اختار لي أماً سيئة الخلق، ومعنى (سيئة الخلق) أي: زانية، وصاحبة سمعة سيئة، فهي متهمة في عرضها. قال: ولم يعلمني القرآن، وسماني كذا. وذكر اسماً لا يتناسب مع بني آدم، إنما يتناسب مع الحيوانات، فقال عمر لأبية: عققت ولدك قبل أن يعقك. قال: (أو ولد صالح يدعو) لو كان الولد صالحاً ولم يدع لوالديه، هل ينتفع به والداه؟ A ربما ينتفعان، وربما كان النفع قليلاً، فإذا كان الولد صالحاً فصلاحه ينفعه هو، لكن إذا كان صالحاً ودعا فإنه يتعدى صلاحه لوالديه، ولذلك قال: (أو ولد صالح يدعو) ولم يقل: ولد صالح فقط، وفي هذا فضيلة الدعاء للوالدين وصلة الأرحام، وبر الوالدين حيين وميتين. والصدقة في الحقيقة من عموم الدعاء، والصدقة مأخوذة من أدلة أخرى، فإذا كنت تريد نصاً في الصدقات فيؤخذ من نصوص أخرى ذكرناها الآن: (أفله أجر إن تصدقت عنه؟ قال: نعم)، (أفلي أجر إن تصدقت عنها؟ قال: نعم)، فهذا من باب إثبات أن الصدقة تنفعه، وأن الدعاء كذلك من الولد الصالح ينفع، والولد الفاسد لا يذكر أبويه بدعوة في الغالب، لأنهما ليسا على باله، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الدعاء هو العبادة)، ويقصد به: الدعاء تعبداً أو الدعاء طلباً، يعني: إما أن يدعو الإنسان الله عز وجل تعبداً لا يأخذ به شيئاً، أو أنه يدعو الله تعالى لجلب نفع أو لرفع ضر، فالدعاء إما أن يكون محض عبادة لله، كما كان الأنبياء صلوات ربي وسلامه عليهم أجمعين، أو دعاء يطلب به حاجة أو يرفع به مضرة. والدعاء هو العبادة كما قال عليه الصلاة والسلام، خلافاً للفظ: (الدعاء مخ للعبادة) فإنه لفظ ضعيف، وأبلغ منه: (الدعاء هو العبادة) أي: جعل الدعاء نفس العبادة وعينها، فالعبادة هي الدعاء، والدعاء هو العبادة، فلا فرق بين هذا ولا هذا؛ لأنهما اثنان لمسمى واحد. فإذا كان الولد فاسداً فهو أبعد الناس عن العبادة، إذ إن العاصي لا سبيل له إلى العبادة، وبالتالي لا سبيل له إلى الفلاح، فهو تارك للعبادة من أساسها، وإذا كان الدعاء هو العبادة فهو تارك له كذلك، فالولد الصالح إذا مات أبوه تراه يذهب في كل واد، ويطلب من فلان أن يدعو لأبيه، ويطلب من علان أن يشارك في جنازة أبيه، وأن يمكن أهل الصلاح من حضور الجنازة، فتشعر فعلاً بأن قلبه يحترق، ويحاول أن يجمع الإخوة بقدر الإمكان من هنا ومن هناك، ويأتي المساجد ويجمع الموحدين، ويجمع الإخوة الطيبين وطلاب العلم وأصحاب التقوى، ويقول: لعله يخرج من هؤلاء أربعون موحداً يشفعون فيه، بخلاف العاق الذي لم يكن لديه علم بالمساجد نهائياً، أبوه وأمه يموتان في وقت واحد، فيقال: سندفنهم الساعة السابعة، فيقول: متى دفنتم دفنتم! فهذا هو الفاسق أو ا

حكم إهداء قراءة القرآن للميت

حكم إهداء قراءة القرآن للميت أما قراءة القرآن للميت قال: مذهب الشافعي والجمهور: أنها لا تلحق الميت، يعني: ثوابها لا يصل إلى الميت، وهذه المسألة محل نزاع بين أهل العلم، ومفاد هذه المسألة باختصار وإيجاز شديد: أن المرء لو قرأ قرآناً يريد بذلك إيصال ثوابه إلى الميت، هل هذا العمل نفسه مشروع أم غير مشروع؟ مثلاً لو توفي والدي وأردت أن أقرأ ربع سورة البقرة، أنوي ثواب هذه القراءة لوالدي، هل هذا العمل مشروع؟ محل نزاع بين أهل العلم. بعضهم قال: مشروع، وبعضهم قال: غير مشروع؛ لأن هبة الثواب إلى الغير وإن كان قليلاً هي حرمان أجر العمل، أنا قلت: يا رب أنا قرأت البقرة، لا أريد ثواباً، وثوابها وهبته لوالدي، فإن قلت ذلك فإنه لن يبقى لي ثواب؛ لأني نذرت عنه، كما أن في ذلك الافتئات على الله عز وجل، والتجرؤ والتعدي على الله عز وجل؛ فما يدريني أن لي ثواباً في هذا العمل؟ وكأني أقطع على الله عز وجل أنه قد أثابني، وأوجب عليه الثواب في هذا العمل، وأنتم تعلمون أن هذا هو مذهب المعتزلة، فهم يقولون بالعدل، والعدل عندهم هو وجوب إثابة الطائع، فلما كان هذا العمل في ظاهره الطاعة، فإنه يجب على الله تعالى أن يكافئ صاحبه فوراً. الأمر الثاني: وهو أن كل ما يعمله الولد من عمل صالح فوالداه شريكان معه في الأجر من غير أن ينقص من أجره شيئاً، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن خير مال العبد من كسب يده، وولده من كسبه)، فولدك هو أيضاً لك، فإن كنت قد ربيته على الدين والاستقامة فلا غرو أن يكون لك حظ في كل عمل يعمله ذلك الولد حتى وإن لم يقصد صرف الثواب لك، وكذلك مشاركة الوالد لك في الثواب لا تؤثر على ثوابك أنت، كما قال عليه الصلاة والسلام: (ومن سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً)، فلو أن شخصاً الآن يعلم ابنه الصلاة والصيام والزكاة والحج وقيام الليل وقراءة القرآن ويأخذه إلى أماكن الفضيلة ويحصنه من الرذيلة، ويوصيه بالليل والنهار أن هذه منهجه في حياته وبعد مماته -فإن كل عمل يعمله الولد يكون في صحيفة حسنات الوالد، مع عدم تأثر صحيفة حسنات العامل الأصلي- أي: الولد، هذا بخلاف رجل سكير عربيد زان فاجر سارق يحمل ولده وامرأته وابنته على البغاء والزنا والسرقة وشرب الخمر وغير ذلك، والأولاد يفرون منه فراراً، وهو جاثم على صدورهم فما إن مات حتى استراحوا منه، والأمر كما قال عليه الصلاة والسلام: (مستريح ومستراح منه قالوا: يا رسول الله ما مستريح وما مستراح؟ قال: أما العبد المؤمن إذا مات استراح من الدنيا وتعبها ونصبها، وإذا مات العبد الفاجر استراحت منه البلاد والعباد والشجر والدواب)، أترون إلى مدى تأذي الناس منه؟ حتى الجمادات والأرض التي يمشي عليها تتأذى منه، فهذا الولد الذي منعه والده من حضور مجالس أهل العلم لا ينتفع به الوالد؛ لأنه لم يكن حريصاً على الصلاح، بل قام على ضده ونقيضه، وحمل أولياءه وأبناءه على غير الصلاح، ولكن الله تعالى وفقهم للصلاح، فلم يكن هذا من كسبه، وإنما هذا كسب اكتسبه الأولاد بتوفيق الله عز وجل لهم. والذي يترجح لدي أن المرء إذا قرأ القرآن لا يجعل ثوابه لأبيه أو أمه أو لغيرهما، وإنما يعتقد أن عمله الصالح كله -بما فيه قراءة القرآن- ينتفع به الوالدان إذا كان قد رغبا في حياتهما في صلاح الولد حتى وإن لم تنصرف نية الولد إلى هبة الثواب إليهما، فإنهما إن شاء الله تعالى ينتفعان، وينتفع القارئ بذلك الثواب. والله تعالى أعلم.

النيابة في الصلاة

النيابة في الصلاة فإن قيل: هل الصلاة فيها نيابة؟ A الصلاة ليس فيها نيابة؛ لأنها فرض عين، فلا يجدي أن أقول لولدي: اذهب وصل أربع ركعات بالنيابة عني فأنا لا أستطيع أن أصلي! فهذا لا يصح؛ لأن الصلاة ليس فيها نيابة؛ ولذلك النووي يقول: فإن الولد من كسبه، وكذلك العلم الذي خلفه. وقال ابن المنير: لعل البخاري أراد بهذه الترجمة أن من مات فجأة فليستدرك ولده من أعمال البر ما أمكنه مما يقبل النيابة. فالصوم يقبل النيابة والدليل: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه)، كذلك الصدقة تقبل النيابة؛ لحديث الباب الذي بين أيدينا، والحج يقبل النيابة؛ لحديث: (يا رسول الله! إن أبي لا يثبت على الراحلة. أفأحج عنه؟ قال: أرأيت لو كان على والدك دين أكنت قاضيه؟ قال: نعم. قال: فدين الله أحق أن يقضى) وغير ذلك من الأعمال التي تقبل النيابة، أما الصلاة فلم يرد فيها قط نص، فهي ليس فيها نيابة قط، وفروض العين لا تسقط عن صاحبها قط إلا لعلة، فالصلاة واجبة على كل مسلم ومسلمة، فإذا جن شخص من الناس هل تجب عليه الصلاة حينئذ؟ A لا. وليس لي أن أصلي عنه.

الأعمال بين التكلف والتكليف

الأعمال بين التكلف والتكليف يذكر أن الشيخ الألباني رحمه الله سألته سائلة. قالت: يا شيخ! أنا دائماً أذكر عن ولدي الصغير الأدعية، فإذا عطس قلت بدلاً عنه: الحمد لله، ثم أرد عن نفسي فأقول: يرحمكِ الله، وإذا أراد النوم قرأت له أذكار النوم، وإذا قام قرأت له أذكار الاستيقاظ وهكذا، فما الحكم؟ فكان رد الشيخ رحمه الله: هذا تنطع منك، وتكلف بما لم يكلفه الشرع، ونحن نعلم أن التكاليف الشرعية كلها مدارها على العقل والتمييز أو البلوغ، وهذه أصول ثابتة، فالعقل احتراز عن الجنون، فالمجنون إذا أفاق من جنونه لا يطالب بالصلوات التي فاتته في أثناء جنونه.

باب الوقف

باب الوقف الباب الرابع: باب الوقف. قال: [حدثنا يحيى بن يحيى التميمي أخبرنا سليم بن أخضر البصري الثقة الضابط عن ابن عون -وهو عبد الله - عن نافع الفقيه مولى ابن عمر عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (أصاب عمر أرضاً بخيبر)] أي: تملك عمر رضي الله عنه أرضاً بخيبر، وهي سهمه الذي قسم له، فخيبر فتحت عنوة، والقول بأن خيبر لم تفتح عنوة قول لا عبرة به؛ لأن النصوص كلها قاضية عليه، فـ عمر حينما فتحت خيبر وقسمت الغنائم كان من قسمه مال. قيل: هذا المال اسمه سمغ. وقيل: هي اسم للأرض التي قسمت لـ عمر رضي الله عنه. قال: [(فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها)] يعني: عمر رضي الله عنه أتى ليستشير أهل الفضل والعلم والخير يقول: يا رسول الله! ماذا أصنع في هذه الأرض؟ [(فقال: يا رسول الله! إني أصبت أرضاً بخيبر لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي منه، فما تأمرني به؟)]، هو أنفس من النفائس وهو الجودة، وفي هذا استحباب أن يتصدق الإنسان بأغلى وأنفس ما عنده، كما قال الله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92]، وليس مما تكرهون. قال: [(إني أصبت أرضاً لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي منه، فما تأمرني به؟ قال: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها)]؛ لأنه استشاره، وأنتم تعلمون أن المستشار مؤتمن كما قال عليه الصلاة والسلام: (المستشار مؤتمن) يعني: أمين على أن يشير بالحق والخير الذي ينفع المستشير. (قال: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها) يعني: الأرض التي أصبتها يا عمر! إن شئت تصدقت بها مادمت استشرتني ولم تشترط، وانتفع بالناتج عنها. قال: [(فتصدق بها عمر، -وعمر اشترط فيها- فقال: أنه لا يباع أصلها، ولا يبتاع)]، يعني: حتى لو أن أحداً عرضها للبيع يحرم على من علم أنها وقف أن يشتريها، وطبعاً هذا الحكم في كل الوقف، وللأسف الشديد جداً أننا نذهب إلى مكتبات إسلامية عريقة فنجد الكتب مكتوباً عليها: وقف لله تعالى لا يجوز بيعها ولا شراؤها، وتجدها معروضة في المكتبات للبيع، فتقول له: يا أخي! اتق الله، يقول: أنا اشتريتها. قال: [(أنه يباع أصلها، ولا يبتاع، ولا يورث -يعني: ممنوع على عبد الله بن عمر وغيره أن يأخذوا منه شيئاً- ولا يوهب. قال: فتصدق عمر في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب)]، والقربى أي: قرابة عمر من الفقراء وهم أولى، وفي هذا فضيلة الحث على صلة الأرحام. قال تعالى: {وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:180]. قوله: (وفي الرقاب) أي: الإماء والعبيد، حينما يريدون أن يعتقوا فلاناً وهناك فائض من ريع هذه الأرض فإنه لا بأس أن يشترى فيه الرقاب فتعتق. قال: [(وفي سبيل الله -أي: في الجهاد- وابن السبيل -الذي انقطع به الطريق فهو محتاج وإن كان غنياً- والضيف. لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف)] يعني: الذي يقوم عليها بزراعتها وبحصادها ويثمرها لا بأس أن يأكل منها بالمعروف، أي: يأخذ منها بغير زيادة، يعني: لا يحق له أن يخزن منها، مثل مال اليتيم بالضبط؛ فإن مال اليتيم تأكل منه سد رمقك فقط، فلو أن عندك يتيماً فإنك تأكل من ماله بالمعروف، إذا احتجت إلى ذلك واضطررت إليه، وهكذا كان السلف رضي الله تعالى عنهم، كانوا يأكلون من أموال اليتامى نصف ما يأكلونه من أموالهم أنفسهم؛ لأن هذا جاء على غير أصل، والأصل ألا يأكل، كالذي يكون في الصحراء بالضبط، فإما أن يشرب الخمر، وإما أن يهلك عطشاً، فلابد من أن يشرب، ولكن يشرب ما يبل به رمقه فقط، كذلك لحم الخنزير عند الاضطرار، يجب أكله، وإلا كان الإنسان منتحراً إذا مات، فيأكل قطعة يسيرة تذهب الجوع، وهكذا مال الوقف للقائم عليه والعامل عليه أن يأكل منه بالمعروف. قال: [(أو يطعم صديقاً غير متمول فيه أو غير متأثل فيه)] والمعنى واحد، (غير متمول) أي: غير جامع لهذه الأموال حتى يكون له أصل مال.

فوائد من حديث عمر في باب الوقف

فوائد من حديث عمر في باب الوقف وهناك أصل من الأصول فيما يتعلق بالوقف، وهو أنَّ الوقف على شرط الواقف، فحينما أقول لك: خذ يا فلان! ألف جنيه ووزعها على الأيتام، وذهبت فوزعتها على أبناء السبيل، هل يجوز؟ لا يجوز. وقس على هذا. فإذا أنا أوقفت المال على طلاب العلم فلا يجوز صرفه للأيتام، وإذا كان على الأيتام فلا يجوز لغيرهم وهكذا؛ لأن الوقف على شرط الواقف. وفيه كذلك: أن الوقف لا يباع ولا يوهب ولا يورث، إنما يتبع فيه شرط الواقف، وفيه: صحة شروط الواقف، وفيه: فضيلة الوقف. وهي الصدقة الجارية. فالوقف هذا كان من قبل تجده مصدر غنى وثروة عظيمة من ثروات المسلمين، أما الآن فيكاد الوقف ينعدم من الأمة، وبلا شك أن هذه مسئولية الأغنياء ومسئولية وزارة الأوقاف؛ لأن وزارة الأوقاف الدافع إلى وجودها: رعاية الأوقاف من سائر الأموال: أرض، وعقار، وتنقلات، ومساجد، ودور للأيتام وغير ذلك، فالأصل في كل هذا أن المتسلط عليه هو وزارة الأوقاف. لكن الآن لو أراد شخص أن يوقف شيئاً يخاف؛ لأن الوزارة ممتلئة بالذين لا يخافون الله والأكّالين للأموال، وقد مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يترك شيئاً، لكن فرضاً لو أنه كان للنبي عليه الصلاة والسلام مال كان أول المؤجرين له هم وزارة الأوقاف، فهذه الوزارة الآن قائمة قياماً عظيماً في الصد عن سبيل الله عز وجل؛ مما جعل الناس يخافون أن يساهموا بشيء، فكم من شخص يريد أن يبني مسجداً، ولكنه يتردد خائفاً بسبب ما يحصل في هذه الوزارة، وهذه الوزارة مسئولة أمام الله. وأنا لديَّ مكتبة في مسجد العزيز، وأنا في الواقع أريد أن أوقفها، وقد منّ الله عز وجل عليّ بها. وهي منّة عظيمة جداً، وفيها من الكتب ما ليس عند مئات من طلاب العلم، إذ يبلغ ثمنها حين قُدّرت منذ عشر سنوات (600. 000) جنيه، وقد زدت فيها كثيراً، وقد أوقفتها على مسجد العزيز، لكنني خائف أن تبيعها وزارة الأوقاف، ولو كان الأمر مستتباً والحقوق محفوظة، والوقف على شرط الواقف، وانتقل المسجد للداخلية، وهم يحفظون شرطي لأوقفت في هذه الليلة المكتبة على مسجد العزيز، فإنه لا بأس أن ينتفع بها الناس، لكن إذا دخلت في الأوقاف فإنه لا يمكن الانتفاع بها حتى تبلى. إن مكتبة المسجد التي توليت أمرها منذ خمسة عشر عاماً مفتوحة بالليل والنهار، واعترضوني عدة مرات بأن الكتب سُرقت، قلت: دعها لتسرق، فإن الذي يسرق الكتاب إما أن يبيعه بعشرة جنيهات لمن يعرف قيمته فينتفع به، وإما أن يأخذه هو لينتفع به، المهم أنك أوقفت للقارئ مع وجود الإثم أو عدم وجوده. والله العظيم أني وجدت امرأة تبيع أجزاء من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية أمام الجمعية الشرعية في المنصورة سنة (1984) أو (1985) فقلت لها: يا امرأة! لماذا تبيعين هذه الكتب؟ قالت: ابني تركني وغاب عني بضعة أشهر ولم يرسل لي نقوداً، فقلت لها: الكتاب بكم؟ قالت لي: الكتاب بجنيه، فأخذت منها سبعة وعشرين مجلداً، وقالت لي: منه عندي مجلدات من المطبوع، ومجلدات لفتح الباري، ومجلدات لـ مسلم، وعندي مصاحف. المهم واشتريت منها المكتبة ونقلتها إلى بيتي، وتابعت وصول صاحبها، حتى وصل إلى المنصورة، وطبعاً علم أن المكتبة قد بيعت، ومن كمده كاد يموت، وتعرفت أنه من الأساتذة الشرعيين فتركت له رسالة في المسجد، إذا أتى فليتصل بالهاتف الفلاني، أو يأتي إلى المسجد الفلاني، وأتاني إلى قريتي وقال: أنا أشكرك لأنك حفظت المكتبة، فقلت له: أنا اشتريت المكتبة. أتريد أن تشتري مني؟! إن المكتبة التي بيعت أحفظها لك في البيت، فأعطني نقودي وخذ مكتبتك. والله العظيم أستاذ كبير جداً من أساتذة العيون المرموقين المعدودين في مصر، فعندما مات كان الوارث ابنه، فباع الكتب الزكية الكتاب بأربعين قرشاً، وأحد إخواننا مر بهذا البائع وهو يعرفه فوجده يبيع كتباً مكتوباً عليها: مكتبة الأستاذ الدكتور فلان، وكان هذا الأخ أستاذ لغة عربية، وقد درّس هذا الولد اللغة العربية، فأعطى الأستاذ الولد ستين جنيهاً، وحمل الكتب وهي خمسة وستون مجلداً، والله رأيتها بعيني، ودفعه إلى صبي غير مكلّف على اعتبار أن هذا الصبي يعمل طبيباً متخصصاً، فيدفعه إليه ليشتري؛ لأنه لن ينتفع بها، فهي كتب كلها متخصصة في جراحة العيون وغير ذلك. المهم هذا الأخ الذي اشتريت المكتبة من أمه عندما قدِم وقال ما قال من كلام طيب مريح، قلت له: أنا أعطيك هذه المكتبة على أن تتزوج أختي. قال: أفعل. وفرح بذلك، وفرحت به فكان خير زوج لأختي، وهو إلى الآن بحمد الله تعالى طالب علم محافظ على دينه وصلاحه واستقامته. وأسأل الله تعالى أن يتقبّل منا ومنكم، ويرزقنا وإياكم الصلاح والتقوى، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

الفرق بين عقيدة الأشاعرة وعقيدة أهل السنة

الفرق بين عقيدة الأشاعرة وعقيدة أهل السنة Q أرجو منكم بيان الفرق بين عقيدة أهل السنة وعقيدة الأشاعرة، وقد يكون من الأشاعرة بعض المعلمين سواء في الأزهر أو في معهد الدعوة أو غير ذلك؟ A معظم المعلمين في العقيدة في الدراسات النظامية أشاعرة وماتريدية، وهم يعتقدون أن أهل السنة ما هم إلا خليط الأشاعرة والماتريدية، بل ويصرون على الإثبات بأنهم أهل السنة وليسوا كذلك، بل هم من أهل السنة فقط، أما أهل السنة فلهم أصول، وهذه الأصول استنادها إلى كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام. فإن كنت تريد أن تأخذ خطوط عريضة لمعتقدات الأشاعرة والماتريدية، فهذا أمر يصعب ذكره، وعلى أية حال أنتم تعلمون أننا نتناول أثناء تدريس كتب العقيدة، سواء كان في هذا المسجد في كتاب أصول الاعتقاد للالكائي أو في كتاب الإبانة في مسجد العزيز يوم الأحد في كل أسبوع للإمام ابن بطة، وطبعاً تلخيص ذلك أمر يصعب جداً.

حكم العمل على (الأتوبيس)

حكم العمل على (الأتوبيس) Q ما حكم العمل على (الأتوبيس) بعد الانتهاء من العمل الأول لقلة الراتب، حيث إن راتب الشركة ضعيف؟ وما حكم طالب الأجر أكثر مما عمل بعد ذلك؟ وما حكم ركوب الخريجات والخريجين مع بعضهم البعض؟ A كل هذا يبث فتناً، لكن على أية حال أصل Q هل يجوز العمل على (الأتوبيس)؟ A نعم. يجوز، وإن كان السائق يتعرض لفتن عظيمة جداً في ركوب الخريجات والخريجين وغيرهم، لكن على أية حال أصل العمل مشروع، وليتحر السائق في الراكب الذي معه، ويحاول ألا تركب معه المرأة المتبرجة وغيرها.

ما يلزم من كان لديه مسروقات بعد التوبة

ما يلزم من كان لديه مسروقات بعد التوبة Q سمعت من أحد الناس أنه قد أخذ من عمله مبالغ لا يستحقها وهو يعتبرها سرقة، ولكنه لا يعرف كيف يعيدها، وكذلك لا يستطيع إخراجها جملة واحدة، فهل يمكنه أن يخرجها على فترات، كل شهر: مبلغ كذا مثلاً، وذلك في صدقات على الناس؟ A لا. يا أخي الكريم! إذا كنت سرقت من مكان معين، فإنما يلزمك لصلاح التوبة أن تدفع هذا المال إلى صاحب المكان الذي سرقت منه، إلا أن يعفو عنك، أو يأذن في إخراج الصدقات على النحو الذي يرتضيه ويتناسب معه، أما أن تسرق مني، ثم تذهب لتتصدق بما سرقته، فإنك لا تفرق كثيراً عن أم كلثوم حينما قالوا لها: الغناء حرام. قالت: أنا لا أغني إلا في القاعات، فهذا عذر أقبح من ذنب، تسرق لتتصدق؟! هذا أمر عجيب!

إخوة يوسف أنبياء كما أثبت ذلك القرآن الكريم

إخوة يوسف أنبياء كما أثبت ذلك القرآن الكريم Q كنت تكلمت في قصة سابقة عن الأنبياء، وكيف أن لهم هفوات صلوات الله وسلامه عليهم، فتاب الله عليهم منها، وذكرتم أن إخوة يوسف عليه السلام كانوا أنبياء، فما الدليل على ذلك؛ بالرغم من شروعهم في قتل يوسف، والكذب على أبيهم؟ A كل هذا قبل أن يكونوا أنبياء، ونحن قلنا: إن العصمة في الأنبياء من الكبائر تكون بعد البعثة، أما قبل البعثة فبعضهم وقع، وإخوة يوسف هم الأسباط، وأسباط يوسف ذُكروا في القرآن عدة مرات على أنهم أنبياء، إذاً: فهم أنبياء.

معنى الشرك الخفي

معنى الشرك الخفي Q ما هو الشرك الخفي؟ A هو الرياء، وفي الحديث الذي أخرجه أحمد في مسنده: (الرياء هو الشرك الخفي)، وفي رواية: (إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الخفي، قيل: ما هو يا رسول الله؟ قال: الرياء)، وفي رواية: (فإنه محبط للعمل).

إقامة الحد أو العقوبة أو الحجة على العاصي

إقامة الحد أو العقوبة أو الحجة على العاصي Q كيف نعلم أننا أقمنا الحجة على العاصي؟ A لا. يا أخي الكريم! ليست إقامة الحجة لك، إقامة الحجة إما من سلطان ممكن، أو عالم ممكن، فهذان هما اللذان لهما الحجة، أما غيرهما فلا، إلا إذا أتاك وسألك أن تعلمه، يعني: جلس بين يديك مجلس الجاهل وقال لك: علمني أنا جاهل، فتعلمه أن الزنا حرام، وأن السرقة حرام، وأن شرب الخمر حرام، وتنقل له أدلة الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم، فإذا علم وقنع بهذا العلم فقد قامت الحجة عليه بغير السلطان، أما الذي يريد أن يقيم عليه الحجة؛ لأنه بعد إقامة الحجة إن عاند وجحد يترتب على ذلك قتله أو نفيه، أو غير ذلك من الأحكام الشرعية، فهذا لا يكون إلا على يد عالم ممكن أو سلطان ممكن، وإقامة الحجة تستلزم استتابته ثلاثة أيام، يحبس في السجن، ويقال له: الحكم كيت وكيت وكيت، وهذا حرام مجمع على حرمته، والأدلة كيت وكيت، أمامك ثلاثة أيام إما أن تتوب وإما قتلناك وإما السجن. كما أن ترك الصلاة محل نزاع بين أهل العلم فيمن ترك الصلاة كسلاً، أما من تركها جحوداً فهو كافر بالإجماع، ولا خلاف بين أهل العلم في ذلك، لكن لو أنه لا يصلي ويقول: الله يهديني، وادع لنا، فإننا نأتي به إلى السلطان، والسلطان سيضعه في الزنزانة، ويقول: يا بني! ترك الصلاة كفر، وقد وردت الأدلة وتظاهرت على أنه كفر، فأنت تقول له: إما أن تصلي وإما قتلناك يوم الخميس الساعة العاشرة صباحاً، فتصور أن هذا الإنسان يقعد الإثنين والثلاثاء والأربعاء في الزنزانة لا يصلي، وهو يعلم أنه سيقتل يوم الخميس، فهذا مجنون. يقال له: لم لا تصلي؟ يقول: مزاج، ففي مثل هذه الظروف اختلف أهل العلم فيما لو استتيب فلم يتب فقُتل، هل يُقتل ردة أم حداً؟ فالصحابة يقولون: يُقتل ردة؛ لأن مذهب معظم الصحابة أن تارك الصلاة عموماً كافر، ولم يفرقوا بين كونه جاهلاً أو غير جاهل. هما سواء، وهذا طبعاً وارد في حديث أبي وائل الكوفي شقيق بن سلمة. قال: ما كان الصحابة يعدون شيئاً تركه كفر إلا الصلاة، فلماذا خص هذا الفرض بهذا القيد العظيم جداً، فهذا نص مخيف جداً.

إقامة الحد ليس ركنا في التوبة

إقامة الحد ليس ركناً في التوبة Q لو أن عبداً ارتكب ذنباً وتاب منه، وهذا الذنب والابتلاء يستوجب الحد، فهل هذا مشروع وركن في التوبة؟ A ليس إقامة الحد ركناً في التوبة، وإذا كان هو أصل التوبة وبديلها، فإن البدل قام مقامه وهو التوبة، يعني: قلنا العبد ارتكب ما يوجب حداً، لكنه لم يُحد وإنما تاب بينه وبين الله عز وجل، فالتوبة تمحو الحد، يعني: لا يطالب بإقامة الحد عليه، بل يحاسبه الله تعالى يوم القيامة على الذنب وعلى عدم إقامة الحد عليه؛ لأن التوبة تجب ما كان قبلها.

حكم خلع النظارة في الصلاة

حكم خلع النظارة في الصلاة Q ما حكم خلع النظارة في الصلاة؟ A لا بأس به. لا يؤثر على صحة الصلاة، وإن كان هذا يتنافى مع القنوت للصلاة. قال تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] أي: خاشعين متذللين، وأنتم تعلمون أن كثرة الحركة تؤدي إلى بطلان الصلاة، واختلف أهل العلم في الحركة المبطلة للصلاة: كيف هي وكم هي؟ فقالوا: ثلاث حركات تبطل الصلاة، وقالوا: أكثر من ذلك، وابن قدامة يقول: ومرد ذلك إلى عرف الناس، فإذا تعارف الناس أن من تحرك ثلاث حركات أو أربع حركات تبطل صلاته، فحينئذ يحكم على صلاته بالبطلان. وهذه مسألة مهمة جداً، وفيها مخرج لكثير من عادات بعض الشعوب، فمثلاً الشعب السعودي أثناء الصلاة ترى السعودي في حركة مستمرة، فيضع العقال ثم يرفعه وهكذا، ثم ينظر إلى الساعة، ثم يقبض على رأسه إلى غير ذلك، فهم تعارفوا على أن هذا لا يبطل صلاته، أو مثلاً واحد كان يصلي مأموماً في آخر المسجد، وبينه وبين العمود حوالي عشرة أمتار، وهو ممن يذهب إلى أن اتخاذ السترة واجب، وعلى المذهب الراجح: أن السترة سنة مؤكدة وليست واجبة؛ لحديث ابن مسعود وحديث ابن عباس، وهما في البخاري. فهذا الذي صلى مسبوقاً بالإمام يريد أن يتخذ لنفسه سترة، فتراه يتقدم حتى يصل إلى العمود، فدخل رجل من الخارج ونظر إلى هذا الذي يصلي في المسجد ورآه يتقدم ويمشي فأيقن أنه ليس في صلاة، وإنما يلزمه أن يمشي خطوة أو خطوتين.

الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والصبر عليها

الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والصبر عليها Q يقول بعض الإخوة: خطباء الجمعة يريدون ترك هذه الدعوة خوفاً من السلطة، هل يكون آثماً؟ A يا أخي! يكفيك أنك تحمل دليلاً شرعياً: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125]، {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]، فتكلم كلاماً طيباً واخطب، إذا كنت صاحب دعوة فأنت مكلّف بهذا.

كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار - فيمن أحب لقاء الله وفضل مجالس الذكر

شرح صحيح مسلم - كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار - فيمن أحب لقاء الله وفضل مجالس الذكر إن مصيبة الموت لا تعدلها مصيبة، وكل بني آدم لا محالة ميتون، لكن العبد المؤمن إذا اقترب أجله وحانت منيته أقبل على ربه وتمنى لقاءه، وفرح بالانتقال إلى جواره، أما العاصي فإنه يكره لقاء ربه، ويتمنى أن لو امتد به العمر حتى لا يواجه ما أسلف، ولا يعاين ما قدم بين يدي موته من العمل.

تابع باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه

تابع باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فقد جاء في الصحيح أن عبادة بن الصامت رضي الله عنه دخل السوق بدمشق، فرآهم يبيعون الذهب بالذهب مفاضلة يعني: يبيعون جراماً بجرامين، أو ثلاثة جرامات بستة جرامات، وهذا ربا، فلابد أن يكون الذهب بالذهب مثلاً بمثل يداً بيد، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فمن زاد أو استزاد فقد أربى). يعني: من أعطى زائداً، أو طلب زائداً فقد قارف الربا. فلما رآهم على ذلك عبادة أنكر عليهم، ومر معاوية بالسوق، فوجد عبادة ينكر على أهل السوق بيعهم وشراءهم على هذا النحو، فقال: إنا لا نحسب إلا هذا، وكأن معاوية يقول: لم نسمع هذا من النبي عليه السلام. فقال عبادة: أنا أقول لك قال رسول الله، وتقول: ما سمعناه؟! والله لا أساكنك في أرض أنت بها. ثم أخذ عبادة سوطه وانطلق إلى المدينة، فقال عمر: ما جاء بك؟ قال: لقد حدث كيت وكيت، هذا الذي جاء بي. فقال: ارجع قبح الله أرضاً لست بها. فانظر إلى قول عمر: قبح الله أرضاً لست بها. لم يقل له: أنت متزمت ومتشدد. وكتب رسالة مع عبادة إلى معاوية: يا معاوية! لا إمرة لك على عبادة. وعبادة بن الصامت هو راوي حديث: من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، حيث قال عبادة: [إن نبي الله صلى الله وعليه وسلم قال: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه). وحدثنا محمد بن المثنى وابن بشار قالا: حدثنا محمد بن جعفر - وهو المعروف: بـ غندر - حدثنا شعبة عن قتادة قال: سمعت أنس بن مالك يحدث عن عبادة بن الصامت عن النبي عليه الصلاة والسلام. مثله]. قال: [حدثنا محمد بن عبد الله الرزي -وهو من الأرز، فالنسبة رزي أو أرزي، وفي كتاب الأنساب: الرزي نسبة إلى بيع الرز. وقيل: أرزي لأن الرز أصله: أرز- حدثنا خالد بن الحارث الهجيمي حدثنا سعيد - ابن أبي عروبة البصري - عن قتادة] إذا روى سعيد عن قتادة فإنه سعيد بن أبي عروبة البصري لا أحد غيره. [حدثنا سعيد عن قتادة عن زرارة عن سعد بن هشام عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه. فقلت: يا نبي الله! أكراهية الموت؟ فكلنا نكره الموت)]. والمعنى: أن المرء إذا لقي الله لابد أن يموت فكلنا نكره الموت، إذاً: هو يكره لقاء الله، والفوز بالجنة متعلق بالموت؛ فكلنا يكره الموت، [فقال: (ليس كذلك)] ليس هذا معنى الحديث. [قال: (ولكن المؤمن إذا بشر برحمة الله ورضوانه وجنته أحب لقاء الله)] وهذا يكون في ساعة الاحتضار والغرغرة وبلوغ الروح الحلقوم، تأتيك الملائكة فيقولون لك: انظر إلى مكانك في النار فتنظر إليه قبل أن تخرج الروح فيقولون: (هذا مكانك في النار غير أن الله تعالى أبدلك به مكانك في الجنة فانظر إلى مكانك في الجنة) فتنظر إلى مكانك في الجنة، فحينئذ تفرح بلقاء الله عز وجل. أما العبد الفاجر الكافر فتأتيه الملائكة فيقولون: انظر إلى مكانك في الجنة، فينظر فيفرح بذلك، فيقولون: غير أن الله تعالى أبدلك به مكانك في النار، فينظر إلى مكانه في النار فيكره الموت، وهذه الكراهة هي كراهة لقاء الله عز وجل. قال: [(ولكن المؤمن إذا بشر برحمة الله ورضوانه وجنته أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا بشر بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله وكره الله لقاءه). حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن بكر - وهو المعروف بـ الجرجاني أبو عثمان البصري - حدثنا سعيد عن قتادة بهذا الإسناد]. والإسناد السابق يعني: قتادة عن زرارة عن سعد بن هشام عن عائشة. [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا علي بن مسهر -وهو القرشي، أبو الحسن الكوفي الحافظ الكبير- عن زكريا - وهو ابن أبي زائدة - عن الشعبي -وهو عامر بن شراحيل - عن شريح بن هانئ] وهو أبو المقدام الكوفي ثقة مخضرم. ومعنى مخضرم: أسلم في حياة النبي عليه الصلا

كلام النووي في شرح أحاديث باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه

كلام النووي في شرح أحاديث باب من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه قال: (ومعناه: أن الكراهة المعتبرة هي التي تكون عند نزع الروح في حالة لا تقبل فيها توبته ولا غيرها، فحينئذ يبشر كل إنسان بما هو سائر إليه وما أعد له، ويكشف له عن ذلك، فأهل السعادة يحبون الموت ولقاء الله؛ لينتقلوا إلى ما أعد الله لهم، ويحب الله لقاءهم، فيجزل الله لهم العطاء والكرامة. وهو تفسير لمحبة الله. أي: يجزل لهم العطاء والكرامة). إذاً: فسر النووي المحبة بالعطاء والكرامة. قال: (وأهل الشقاوة يكرهون لقاءه؛ لما علموا من سوء ما ينتقلون إليه، ويكره الله لقاءهم). أي: يبعدهم عن رحمته وكرامته. فمعناه: أنه فسر كراهة الله عز وجل للكافرين بالحرمان من الثواب، والطرد من الرحمة والكرامة، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وهذا تأويل فاسد؛ لأن الله تبارك وتعالى يحب ويكره، والمحبة ثابتة له، والكراهة ثابتة له، لكنها محبة تليق بجلاله وكماله، وكراهة تليق بجلاله وكماله، لكنهم أولوا ذلك لأن الواحد لما يكره يحصل له انفعالات نفسية وتغير في الدورة الدموية وشعور بالهم والحزن، فهم يتصورون أن الكراهة في حق الله تستلزم هذا، فلما كان هذا محال في حقه تبارك وتعالى يلزم تأويل الكراهة على غير الكراهة المعروفة لدينا، وهذا ليس بلازم، وإنما الذي يلزم من ذلك: إثبات الكراهة لله، والفضل لله، لكن على القدر اللائق بالله عز وجل. وأنتم تعلمون أن صفة الحب والكراهية والبغض ثابتة لله عز وجل، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها). وحصل تأويل لهذا الحديث من الإمام النووي، ونقل كلام العلماء تأويلاً. وشيخ الإسلام ابن تيمية يحذر تحذيراً أكيداً فيما يتعلق بالحب والبغض والكراهة وغير ذلك فيقول: إن الكتاب والسنة وإجماع المسلمين أثبت محبة الله لعباده المؤمنين، ومحبتهم له؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165]. وقوله: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54]. وقوله: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة:24]. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:4]. وقوله: {يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195]. وقوله: {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222]. وقوله: {يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة:42]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما). قال ابن تيمية: (وقد أجمع سلف الأمة وأئمتها على إثبات محبة الله تعالى لعباده المؤمنين ومحبتهم له، وهذا أصل دين الخليل إمام الخلفاء عليه السلام). يعني: هذا أصل دين إبراهيم وأصل الحنفية السمحاء. فنثبت لله تعالى المحبة والكراهة والبغض كما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تأويل، ونفوض كيفية ذلك إلى الله عز وجل.

باب كراهة الدعاء بتعجيل العقوبة في الدنيا

باب كراهة الدعاء بتعجيل العقوبة في الدنيا يعني: أن يقول: يا رب! إذا كان مقدر لي عقوبة في الآخرة فعجلها لي في الدنيا. قال: [حدثنا أبو الخطاب زياد بن يحيى الحساني حدثنا محمد بن أبي عدي عن حميد -وهو ابن أبي حميد الطويل - عن ثابت بن أسلم البناني عن أنس: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلاً من المسلمين قد خفت فصار مثل الفرخ). خفت يعني: ضعف وهزل، لم يبق إلا قليل من الجلد على العظم من فرط ما نزل به من ضر ومرض حتى صار كالفرخ. [فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل كنت تدعو بشيء أو تسأله إياه -وهذا علم من أعلام النبوة- قال: كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا)]. هذا بيت القصيد وموطن الفرج. [قال النبي عليه الصلاة والسلام: (سبحان الله! سبحان الله! لا تطيقه). فهذا اعتداء في الدعاء، وقال: (لا تطيقه) يعني: لو كان ربنا تقبل منك دعاءك والله لا تطيقه في الدنيا. وفي رواية: (لا تستطيعه) ثم أخذ يعلمه كيف يدعو. [قال: (أفلا قلت: اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار)]. فدعا الرجل بها فشفاه الله. أي: فدعا الرجل المريض بهذا الدعاء: (اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار)، فشفاه الله عز وجل. [حدثنا عاصم بن نضر التيمي حدثنا خالد بن الحارث حدثنا حميد بهذا الإسناد إلى قوله: (وقنا عذاب النار). ولم يذكر الزيادة. وحدثني زهير بن حرب حدثنا عفان بن مسلم الصفار حدثنا حماد أخبرنا ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على رجل من أصحابه يعوده وقد صار كالفرخ. بمعنى حديث حميد غير أنه قال: (لا طاقة لك بعذاب الله). ولم يذكر. فدعا الله له فشفاه]. وفي هذا الحديث: النهي عن الدعاء بتعجيل العقوبة، بل يطلب من الله العفو والعافية. وفيه: فضل الدعاء بهذا الدعاء الثابت: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار). وفيه: جواز التعجب بقول: (سبحان الله). وفيه: استحباب عيادة المريض والدعاء له. وفيه: كراهة تمني البلاء؛ لئلا يتضجر منه ويسخطه، وربما شكا الله عز وجل لخلقه: وأظهر الأقوال في تفسير الحسنة في الدنيا: أنها العبادة والعافية. وتفسير: (وفي الآخرة حسنة) الجنة والمغفرة، هذا أصح الأقوال فيها، وإلا ففيها أقوال كثيرة جداً منها: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة) أي: الزوجة الصالحة، (وفي الآخرة حسنة) يعني: الجنة والمغفرة. والمختلف فيه هو الحسنة في الدنيا. قيل: هي الزوجة الصالحة. وقيل: هي التقوى. وقيل: هي العلم. وقيل: هي العافية. وقيل: هي الطاعة، ولا يمنع أن تحتمل الآية جميع هذا.

باب فضل الدعاء بـ (اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)

باب فضل الدعاء بـ (اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) قال: [حدثني زهير بن حرب حدثنا إسماعيل -يعني: ابن علية - عن عبد العزيز بن صهيب البصري عن أنس أو قال: (سأل قتادة أنساً: أي دعوة كان يدعو بها النبي صلى الله عليه وسلم أكثر؟)]. يعني: ما هي أكثر دعوة كان يدعو بها النبي عليه الصلاة والسلام، يسأل أنساً؛ لأنه كان خادم النبي عليه الصلاة والسلام وهو أعلم بحال مخدومه. قال: [(كان أكثر دعوة يدعو بها يقول: اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار. قال: وكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة دعا بها فإذا أراد أن يدعو بدعا -أي: بدعاء كثير- دعا بها فيه أدخل هذا الدعاء في دعائه). وحدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي قال: حدثنا شعبة عن ثابت عن أنس كان النبي صلى الله وعليه وسلم يقول: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار)].

باب فضل مجالس الذكر

باب فضل مجالس الذكر قال: [حدثنا محمد بن حاتم بن ميمون حدثنا بهز - وهو ابن أسد العمي - حدثنا وهيب - وهو ابن خالد - حدثنا سهيل بن أبي الصالح السمان عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن لله تبارك وتعالى ملائكة سيارة)] يعني: سياحاً يسيرون في الأرض ويسيحون فيها. قال: [(إن لله تبارك وتعالى ملائكة سيارة فضلاً)] ومعنى فضلاً أي: غير مكلفين بمهمة معينة، فلا هم من ملائكة الحساب، ولا كُتَّاب الأعمال، ولا من المكلفين بالجبال ولا المطر ولا غير ذلك، فهم فضلة الملائكة، أخذوا على أنفسهم أن يسيحوا في الأرض فإذا وجدوا مجلس علم اجتمعوا فيه. قال: [(فضلاً يتبعون مجالس الذكر)]. وفي رواية: (يبتغون) أي: يطلبون مجالس الذكر ويبحثون عنها. قال: [(فإذا وجدوا مجلساً فيه ذكر قعدوا معهم)]. ليس كذكر الصوفية والدروشة والتمائم والتبختر، بل هو ذكر الله تعالى. أي: بالعلم النافع والعمل الصالح. قال: [(فإذا وجدوا مجلساً فيه ذكر قعدوا معهم، وحف بعضهم بعضاً بأجنحتهم حتى يملئوا ما بينهم وبين السماء الدنيا)]. أي: أن هذا الحف رأسي. أي: يقعدون بعضهم فوق بعض حتى يكون أعلاهم عند أول سماء الدنيا، كل هذا من أجل مجلس علم، حتى تعرفوا منزلة العلم، فهو أشرف مطلوب يمكن أن يطلبه الإنسان، فطلب العلم له مناقب وشمائل لا يمكن أن تجتمع في أي شيء آخر. قال: [(فإذا وجدوا مجلساً فيه ذكر قعدوا معهم، وحف بعضهم بعضاً بأجنحتهم؛ حتى يملئوا ما بينه وبين السماء الدنيا)]. قرأها بعض الرواة: (وحض) أي: وحض بعض الملائكة بعضاً. والحض: الحث على الحضور، وفي رواية: (وحط) يعني: حط بعضهم على بعض حتى بلغوا السماء الدنيا، كل هذا لفضل العلم وأهله. قال: [(فإذا تفرقوا)] أي: فإذا تفرق الناس عن مجلس العلم [(عرجوا وصعدوا إلى السماء -أي: الملائكة- فيسألهم الله عز وجل وهو أعلم بهم)] بعد أن يلتقوا بمجلس العلم وطلابه يلتقون بالله عز وجل. قال: [(فيسألهم -وهو أعلم بهم- من أين جئتم؟ فيقولون: جئنا من عند عباد لك في الأرض يسبحونك ويكبرونك ويهللونك ويحمدونك ويسألونك. قال: وماذا يسألونني؟ قالوا: يسألونك جنتك -اللهم إنا نسألك الجنة- قال: وهل رأوا جنتي؟ قالوا: لا. أي رب! قال: فكيف لو رأوا جنتي؟ قالوا: ويستجيرونك)] يعني: يستعيذون بك، ويطلبون منك الأمان. قال: (ممَّ يستجيرونني؟ قالوا: من نارك يا رب! قال: وهل رأوا ناري؟ قالوا: لا. قال: فكيف لو رأوا ناري)] اللهم إنا نعوذ بك من النار. [(قالوا: ويستغفرونك. قال: فيقول: قد غفرت لهم)] اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا [(فيقول: قد غفرت لهم. فأعطيتهم ما سألوا وأجرتهم مما استجاروا. قال: فيقولون: رب! فيهم فلان عبد خطاء)]. هؤلاء كلهم صالحون فيهم واحد شقي، خطاء [(إنما مر فجلس معهم)] أي: كان يمشي فجلس معهم. قال: [(فيقول الله: وله غفرت. هم القوم لا يشقى بهم جليسهم)]. يقول الإمام: (في هذا الحديث فوائد: منها: فضيلة الذكر. وفضيلة مجالس الذكر، والجلوس مع أهله وإن لم يشاركهم في الذكر، وفضل مجالسة الصالحين وبركتهم). وقوله: (وبركتهم) هذا مذهب مرجوح إن لم يكن فاسداً. قال: (قال القاضي عياض: وذكر الله تعالى ضربان -يعني: نوعان- إما ذكر بالقلب، وإما ذكر باللسان، وذكر القلب إما أن يكون سراً أو جهراً أحدهما -وهو أرفع الأذكار وأجلها-: الفكر في عظمة الله تعالى، وجلاله وجبروته وملكوته وآياته في سماواته وأرضه). ثم يقول: (ويشهد لذلك حديث: (خير الذكر الخفي)). لكنه حديث ضعيف. قال: أحسن أنواع الذكر هو: ذكر بالقلب على جهة التدبر والتأمل في ملكوت الله عز وجل، في سماواته وأرضه ونجومه وقمره وشمسه: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] ومن يتدبر في آيات الله عز وجل وفي خلقه وفي كونه يوقن أن لهذا الكون إلهاً مدبراً؛ لأنه لا يمكن أن يأتي هكذا بالصدفة كما يقول الدهريون، فالخالق هو الله عز وجل، وهذا الخلق كله بصنع الله عز وجل وخلقه وتدبيره، فالذي يتدبر في الكون يجد العجائب. أذكر أنه كان لديَّ سلحفاة، وكنت أكره وجودها في البيت، لكن الأولاد يحبونها، وكنت مشفقاً عليها من الجوع والعطش، فبينما أنا كذلك أخذت أقرأ في كتاب عن حياة السلحفاة فوجدت أن السلاحف تستطيع أن تمتنع عن الطعام والشراب من أربعة أشهر إلى ستة أشهر!

كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار - باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر

شرح صحيح مسلم - كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار - باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر للذكر فضل عظيم عند الله تعالى، فإن الله يضاعف به الحسنات ويمحو به السيئات، والاجتماع على الذكر وتلاوة القرآن له أيضاً فضل عظيم وفوائد جمة، فهو سبب لتنزل الرحمات، وحضور الملائكة لتلك الجلسات، ومباهاة الله عز وجل ملائكته بأولئك القوم الذين انقطعوا لذكره، ومن أوى إليهم آواه الله، فهم القوم لا يشقى بهم جليسهم.

فضل التهليل والتسبيح والدعاء

فضل التهليل والتسبيح والدعاء الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه وسلم تسليماً كثيراً، وبعد: ففي الدرس الماضي تكلمنا عن الباب العاشر وهو في فضل التهليل والتسبيح والدعاء، وفيه: [عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، وحطت عنه -أو ومحيت عنه- مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك. ومن قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر)]. وفي رواية: قال: (من قال حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله وبحمده مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحداً قال مثلما قال أو زاد عليه). والزيادة إما أن تكون في العدد أو في الوقت. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير عشر مرار كان كمن أعتق أربع أنفس من ولد إسماعيل) عليه السلام. وقال النبي عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم). هذا آخر حديث في صحيح البخاري، ختم به البخاري صحيحه، وفيه: من تعظيم الله تعالى وتنزيهه وتسبيحه وتوجيه الحمد إليه دون سواه سبحانه وتعالى. وفيه غير ذلك من الفوائد وقد ذكرناها في الدرس الماضي. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: [(لئن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر أحب إلي مما طلعت عليه الشمس)]. وجاء في حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: [(أن أعرابياً قال للنبي عليه الصلاة والسلام: علمني كلاماً أقوله. قال: قل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله رب العالمين، لا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم. قال الأعرابي: هؤلاء لربي فما لي؟)]. أي: هذه الكلمات مدح وثناء وتمجيد وتعظيم لله، فهذا حق الله علي، فماذا لنفسي؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: [(قل: اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني)]. وفي حديث سعد بن أبي وقاص أيضاً قال: [(كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيعجز أحدكم أن يكسب في كل يوم ألف حسنة؟ قالوا: يا رسول الله! كيف يكسب أحدنا ألف حسنة؟ قال: يسبح مائة تسبيحة فيكتب له ألف حسنة، أو يحط عنه ألف خطيئة)].

باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر

باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر الباب الحادي عشر: قال الإمام النووي: (باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر):

شرح حديث: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا)

شرح حديث: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا) قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يحيى بن يحيى التميمي وأبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن العلاء الهمداني -واللفظ لـ يحيى - قال يحيى: أخبرنا وقال الآخران: حدثنا أبو معاوية -وهو محمد بن خازم الضرير - عن الأعمش -وهو سليمان بن مهران الكوفي - عن أبي صالح] وهو ذكوان السمان، فلقب بـ السمان؛ لأنه كان يجلب السمن والزيت من المدينة فيبيعه في الكوفة، فلقب بصنعته وعمله. [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه)]. هذا حديث عظيم، وهو أصل من أصول الإسلام، مطلعه يدل دلالة عظيمة صريحة أن الجزاء دائماً يكون من جنس العمل إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، فقال النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب الآخرة). وفي رواية: (من كرب الدنيا والآخرة). يجعل الله تعالى جزاء تنفيس هذا العبد لكرب إخوانه أن ينفس عنه كربه أو كرب الدنيا والآخرة. وهذا المقطع من الحديث جليل القدر جداً؛ ولذلك لا يعرف معناه إلا من وقع في الكرب العظيم، أما من كان في حال السلامة والأمان فإنه لا يشعر بقيمة ولذة هذا الكلام، فإذا وقع الواحد منا في كرب عظيم لا مخرج له إلا أن يقيض الله تعالى له رجلاً ينفس هذه الكربة على يديه، فحينئذ يستشعر رحمة الله عز وجل، ورحمة الإسلام، وعظمة الإسلام، فلذلك كان غير واحد من السلف يقول: لئن أمشي في حاجة أخي لقضائها وتنفيسها أحب إلي من ألف ركعة. أي: من النوافل. ودائماً تفضيل الأعمال الصالحة على الصلاة يستثنى منه المكتوبات. وبعضهم يستثني منه الرواتب. أي السنن الراتبة. وإنما كلامهم -أي: مذهب الجمهور- في تفضيل الأعمال على الصلوات. أي: صلاة النافلة المطلقة بخلاف الفريضة وما يلزمها، وما شرع لها من صلاة راتبة قبلها أو بعدها.

معنى قوله: (من نفس عن مؤمن كربة)

معنى قوله: (من نفس عن مؤمن كربة) قوله عليه الصلاة والسلام: (فمن نفس عن مؤمن) هذا قيد يخرج به غير المؤمن، وأنتم تعلمون أن الإيمان إذا أطلق يشمل معه الإسلام، وإذا إطلق الإسلام شمل معه الإيمان، وإذا ذكر الإيمان والإسلام في دليل واحد كان لكل واحد منهما مدلول يدل عليه، كما سأل جبريل عليه السلام النبي عليه الصلاة والسلام: (ما الإسلام؟ قال: الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً). وفي حديث وفد عبد القيس الذي أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما أنهم قالوا: (يا رسول الله! بيننا وبينك كفار مضر، ولا يمكن أن نصل إليك إلا في الأشهر الحرم فمرنا بأمر نعمل به ونأمر به من وراءنا. قال: آمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع، آمركم بالإيمان، أتدرون ما الإيمان؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: أن تشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وتقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، وتصوموا رمضان، وتودوا الخمس من المغنم). فعرف النبي عليه الصلاة والسلام الإيمان في هذا الحديث بما عرف به الإسلام في حديث جبريل، فدل هذا على أن الإيمان والإسلام إذا اجتمعا في دليل واحد كان لكل واحد منهما مدلول يدل عليه، كما قال له: (وما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر والقدر خيره وشره). مع أن مدلول الإيمان هنا وأصول الإيمان هنا لم تكن هي نفس أصول الإيمان في حديث وفد عبد القيس، بل جعل الإيمان في وفد عبد القيس هو الإسلام؛ لأنه لم يذكر الإسلام. فهذا يبين لنا معنى كلام الفقهاء: الإسلام والإيمان إذا اجتمعا في دليل افترقا في المدلول، وإذا افترقا في الأدلة شمل كل واحد منهما الآخر، وهذا معنى قولهم: (إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا). مثل المسكين والفقير، عند إطلاق المسكين يشمل معه الفقير، لكن إذا كان المسكين والفقير في نص واحد فالفقير له مدلول، والمسكين له مدلول آخر. قال: (من نفس عن مؤمن كربة). الكربة هي أي هم وحزن وغم يدخل على المرء، سواء كان ذلك في دينه أو في ماله أو في أهله أو في أولاده أو في عمله أو في أي شيء يتعلق بهذا المؤمن، وتقييد الدليل لهذا بالإيمان -أي: بالمؤمن- إنما هو احتراز من تفريج الكرب عن الكافر. فهذا فيه فضيلة تفريج الكرب عن أهل الإيمان والإسلام على السواء. قال: (نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة). والأمر شديد جداً، وربما لا نستشعر شدة الموقف إلا إذا كنا في موقف الحشد والحساب والجزاء. ولذلك جاء في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يجاء بالعبد يوم القيامة فيقف بين يدي الله عز وجل ليس بينه وبينه ترجمان، فتنشر له صحيفة مد بصره، قد ملئت بالسيئات، فالله عز وجل يقول له: عبدي! أتذكر ذنب كذا؟ أتذكر ذنب كذا؟ أتذكر ذنب كذا؟ والعبد يقول: نعم يا رب! نعم يا رب! حتى إذا ظن العبد الهلكة). أي: ظن أنه ليس بناج لكثرة ما سمعه مما قد عمله آنفاً في حياته الدنيا فيقول الله عز وجل -وهذا من فضل رحمته- (وأنا قد سترتها عليك في الدنيا وأغفرها لك اليوم). لكن هذا الدليل وغيره من أدلة الرجاء لا تجعل أحدنا يركن إليها؛ لأن الواحد منا لا يأمن مكر الله عز وجل، وإذا أخذك الله تعالى بفضله فهذا له سبحانه، وإذا أخذك بعدله هلكت، وهو غير ظالم لك، فاحذر أن يعاملك الله تعالى بعدله، كما ينبغي أن تعلم إذا كنت من أصحاب الكبائر فأنت في مشيئة الله إن شاء عذبك وإن شاء عفا عنك، ويكفيك وجلاً وخوفاً ورعباً أنك في مشيئة الله.

معنى قوله: (من يسر على معسر يسر الله عليه)

معنى قوله: (من يسر على معسر يسر الله عليه) قال: (ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة) الله تعالى يقول: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280]. إذا كان المدين معسراً ليس مماطلاً، فهذا له حكم الإعسار في الشرع وهو الإنظار إلى حين ميسرة. أي: إلى أن يتيسر أمره، والعفو لمن ملكه أفضل. ولذلك جاء في الصحيح: (أن رجلاً كان يداين الناس، وكان يرسل غلامه ويوصيه: يا بني! أنظر المعسر أو تجاوز). يعني: لا تأخذ منه شيئاً، برئت ذمته وساحته. (فجيء بهذا العبد يوم القيامة فوقف بين يدي الله عز وجل، قال: يا عبدي! ما الذي حملك على ما صنعت؟ قال: يا رب! قلت: أجود بمال الله على عباد الله! قال: أتجود على عبادي وأنا الجواد؟ لقد عفوت عنك). وهذا الرجل لم يعمل خيراً قط إلا هذا العمل، وهو من أمة سابقة على أمة النبي عليه الصلاة والسلام؛ حتى لا يقول أحد هذا العبد دخل بغير صلاة ولا صيام ولا شيء من هذا، فهذا في شرع من قبلنا؛ ولذلك تجاوز الله عز وجل عنه لهذا العمل. وكما تعلمون (أن امرأة دخلت النار في هرة حبستها، لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض). فهي دخلت النار؛ لأجل أنها عذبت نفساً محترمة، وكان بإمكانها أن ترعاها وأن تصونها إما بإطعامها أو بتركها تأكل من هوام الأرض، ولكنها لم تفعل ذلك. وتعلمون (أن امرأة بغياً -أي: امرأة زانية- دخلت الجنة لأجل نجدتها لكلب كان يلعق الثرى من شدة العطش، وكانت هذه البغي قد مرت بهذه الحالة من العطش، فلما رأت ما نزل بالكلب من عطش خلعت خفها فنزلت البئر وملأته ماءً وقدمته للكلب، فشكر الله تعالى لها صنيعها). وهذا يفسر قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله). ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: (وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن العبد ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها). وقال عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالخواتيم). أي: بقدر ما يختم لك بها. وقال عليه الصلاة والسلام: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة). قال: (ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة). أما إذا كان مماطلاً فإنما يكفيه قول النبي عليه الصلاة والسلام الذي أخرجه مسلم وأحمد في مسنده أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (مطل الغني ظلم). قال العلماء: الغني: هو من ملك أداء الدين. ولا يلزم من ذلك: أن يكون صاحب ملايين، أو صاحب عمارات وعقارات، بل يثبت له حكم الغنى إذا كان يملك مقدار الدين الذي عليه. وأنتم تعلمون خطورة الدين، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (يغفر للشهيد كل شيء إلا الدين). وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لما جاء برجل بين يديه ليصلي عليه الجنازة قال: أعليه دين؟ قالوا: نعم يا رسول الله! قال: هل ترك ما يوفى به دينه؟ قالوا: لا يا رسول الله. فقال: دونكم صاحبكم صلوا عليه. فقام رجل من أصحابه وتحمل حمالته. فقال: يا رسول الله! صل عليه وعلي دينه، فصلى عليه النبي عليه الصلاة والسلام) لما في صلاته على أصحابه وأمته من البركة والخير، لقوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} أي: وادع لهم- {إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103]. (ثم لما جن الليل رأى هذا الذي قد تحمل الحمالة فقال: يا فلان؟ أقضيت عن صاحبك؟ قال: لا يا رسول الله! إنما هما ديناران، والأمر عجل). يعني: القصة كلها وقعت هذا اليوم. فقال: (يا فلان! اذهب فاقض عن صاحبك، فذهب الرجل فلقيه النبي عليه الصلاة والسلام في صلاة الغداة) أي: في صلاة الصبح من اليوم الثاني: (فقال: يا فلان!) أو قال: (أين فلان! قال: أنا يا رسول الله! قال: هل قضيت عن صاحبك؟ قال: نعم يا رسول الله. قال النبي عليه الصلاة والسلام: الآن بردت عليه جلده). تصور أن القبر يحمى على رجل عليه ديناران، فما بالكم بمن يرتع في أموال الناس يمنة ويسرة، يأخذها لا يبالي بردها، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله). لم يقل: أتلف ماله، وإنما قال: أتلفه الله.

معنى قوله: (من ستر مسلما ستره الله)

معنى قوله: (من ستر مسلماً ستره الله) قال: (ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة). (ومن ستر مسلماً): لا بد للصحوة أن تقف عند هذا النص، فما أسرع الغيبة والنميمة في الصحوة الإسلامية وما أفشاها وما أكثرها! ولذلك فإن مجتمع الصحوة مجتمع منفتح إلى أعلى مستوى، وإلى أقصى حد بخلاف عامة الناس الذين ربما لا يصلون ولا يصومون ولا يدرون في أي شهر نحن، ولا كيف أيامنا، ولا كيف نسير، ولا لماذا خلقوا، ومع هذا تجدهم في غاية الأدب والاحترام، فهم يكفون ألسنتهم، لا يتكلم أحد في عرض صاحبه، ولا في عرض جاره، ومهما ظهر على جاره من نعيم الدنيا وملذاتها لا يخطر على باله أن يسأل جاره من أين لك هذا؟ ولا يخطر على باله حتى أن يبارك له؛ لأن كل منهم في حاله، لكن مجتمع المناطق الشعبية، ومجتمع الصحوة على جهة الخصوص مجتمع قد امتلأ حقداً وحسداً وضغينة وهتكاً للأعراض وسلباً لعدالة الثقات العدول، وغير ذلك من هذه الأمراض الفتاكة التي تمر بها الصحوة الإسلامية اليوم، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من ستر مسلماً) أي: على خزية وقع فيها أو منقصة. ولو أن رجلاً اليوم وقع في معصية لانتشر صيت هذه المعصية في ملأ الصحوة كسرعة البرق. ونحن مأمورون أن نستر عليه، وأنتم تعلمون قصة ماعز الأسلمي الذي زنى، واستدرجه سيده ومولاه، قال: اذهب بنا إلى النبي عليه الصلاة والسلام حتى ينزل فيك قرآن بالتوبة، وهو يريد أن يقام عليه الحد، وأنتم تعلمون أن القصة طويلة، فلما أقيم عليه الحد التفت النبي عليه الصلاة والسلام إلى نعيم بن هزال وهو سيد ماعز وقال: (ويحك يا نعيم) أي: ويل لك. (لو سترته لكان خيراً لك) وهذا زنا، وهو كبيرة من الكبائر. قال: (لو سترته بثوبك) يعني: الواحد ممكن يرى رجلاً يزني فيخلع له ثوبه ويستره. هذا ظاهر الحديث. وما الذي يمنعك من ذلك والشرع قد أتى بكل خير وحث على الستر؟ ولذلك فإن هذه المجلات والصحف التي تذكر الحوادث لم تعالج ظاهرة الفساد في المجتمع بل كانت سبباً في انتشار الجريمة أكثر، وتجد الرجل يدخل السجن بجريمة واحدة ويخرج منه مجرماً حقيقياً. وجدت ولداً عمره اثنا عشرة سنة، يحوم حول سيارة، فراقبته من بعيد حتى فتح باب السيارة، فلما وضع يده على المسجلة أخذته برقبته، فقال: والله ما عملت شيئاً. فقلت له: المسجلة في يدك. فقال: سيارة أبي نفس السيارة هذه. فقلت له: اتحاد السيارة يعني اتحاد المسجلة. ثم قلت له: على أية حال أنا سأتركك؛ لأنك لو دخلت السجن ستخرج مجرماً كبيراً، ليس سارق تسجيلات أو شيء تافه، ستخرج من السجن وستمارس سرقة الفلل والقصور؛ لأنك ستجد العمد كلهم والبهوات الكبيرة والمتخصصين على أعلى مستوى داخل السجن. ثم أخذته معي المسجد وأعطيته عصيراً وباسطته، وأخذت منه المسجلة وذهبت بها لصاحب السيارة وقلت له: هذه المسجلة لكم؟ قال: ما كنت أظن أن شيخاً يسرق؟ فقلت له: لو أن الشيخ سرق فلماذا يرجعها لك؟ فقصصت عليه الحكاية فقال لي: أعطني الولد. قلت له: أنا سأضبط المسألة. ثم إن هذا الولد -الحمد لله تعالى- يتردد الآن على المسجد، ويأتي من أماكن بعيدة، ويركب مواصلات من أجل أن يصلي ويثبت لي أنه على خير وأنه يأتي المسجد. والبارحة قلت له: ما هي الأخبار. قال لي: والله ما أفعلها إلا إذا كنت محتاجاً. لكني أريد أن أقول: الإخوة أحياناً يكون العلم وبالاً عليهم، إذا لم يكن فيه إخلاص وتقوى وتطبيق للعلم في قلب صاحبه يصير وبالاً عليه، فيقف عند حد الشبهات دائماً، ويعمل مثل الثعبان أو الحرباء يتلون ويتشكل على قدر مصلحته. قال: (ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة). المسلم لما يعمل شيئاً الأصل فيه الستر حتى لا تتفشى الرذيلة في المجتمع، وتأمره وتنهاه سراً، ولا تذهب تفضحه. والبعض من الصحابة رضي الله عنهم وقعوا في الكبائر، ومع هذا رضي الله عنهم ورضوا عنه، ولست بذلك أهون من شأن المعصية، والذي وقع في المعصية وجاء خبره في القرآن والسنة تاب الله عز وجل عليه بتوبته، بل ربما بدل سيئاته حسنات بحكم التوبة، ولذلك لما جيء برجل من الصحابة اتهم باللواط مع طفل، جاءوا به إلى عمر، فقال عمر: يؤخذ كل شاهد على حدة. فيقال لكل منهم: هل رأيت؟ يقول: والله يا أمير المؤمنين لقد رأيت ذكره في دبره. فلما جيء بالرابع قال: عمر: يا فلان! اتق الله ولا تشهد إلا بما رأته عيناك، أرأيت ذكره في دبره؟ قال: لا يا أمير المؤمنين ولكني رأيتهما ملتحفين واللحاف يرتفع وينخفض، فقال أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه: الله أكبر، وأقام حد القذف في ظهر الثلاثة الأول، مع أن كل واحد منهم أقسم أنه قد رأى بعينيه، لكن هذه الشهادة على هذا الحد لم تكتمل النصاب، وأنتم تعلمون أن النصاب فيه أربعة شهود. فلما أتى هذا الشاهد الرابع بما لا يقام به الحد كان يلزم أمير المؤمنين أن يقيم حد القذ

معنى قوله: (من سلك طريقا يلتمس فيه علما)

معنى قوله: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً) قال: (ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة). أي: من سلك طريقاً يطلب فيه العلم لله تعالى، فإن الله يجعل له طريقاً مسلوكاً إلى الجنة، وهذا في العلم الشرعي على جهة الخصوص، كما قال النووي وغيره. قال: (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله). ولا يلزم أن يكون هذا الاجتماع في بيت الله عز وجل، بل هذا لا مفهوم له من جهة النص، والأصل عدم القيد. أي: وما اجتمع قوم على كتاب الله يتلونه ويتدارسونه فيما بينهم بل تثبت هذه الفضيلة لكل اجتماع على كتاب الله وعلى سنة رسوله وعلى ذكر الله تعالى. قال: (يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة). قال بعض أهل العلم: السكينة هي الرحمة وهذا غلط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وغشيتهم الرحمة). فلما كانت المغايرة بين السكينة والرحمة باجتماعهما في الدليل دل على أن السكينة غير الرحمة؛ ولذلك يقول أهل العلم: السكينة هي الطمأنينة، وهذا مصداق قول الله تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]. وأعظم الذكر: تلاوة القرآن، فهي المحادثة مع الله عز وجل بتلاوة كلامه الذي أنزله من السماء. قال: (وحفتهم الملائكة). قال العلماء: حفتهم الملائكة رأساً وأفقاً أم رأساً فقط، أم أفقاً فقط، كما جاء في الحديث: (من سلك طريقاً يطلب فيه علماً أو يلتمس فيه علماً إلا نزلت عليهم الملائكة فوجاً يتلوه فوج حتى يبلغوا السماء الدنيا). إذاً: الملائكة أفواج الفوج الأول فوق الثاني فوق الثالث حتى يكونوا طبقات، ويكون نتاج هذا الاجتماع ظلة تظل طلبة العلم ومجلس العلم كهذا المجلس، نسأل الله أن نكون منهم. فتصور أن هذا المجلس تحفه الملائكة وتنزل فيه السكينة وتغشاه الرحمة، ويباهي بنا الله تعالى أهل السماء، ومعظمنا إنما آثر أن يأتي في هذا المجلس بدل أن يجلس في الياهو، ولذلك جاء في الحديث: (إن فيهم فلاناً ليس منهم). أي: فيهم واحد ليس منهم، غير أنه رأى الناس أعلنوا عن الدرس فقال: أجلس أسمع الدرس من أهل السنة هؤلاء، وهذا الرجل من أشقى الخلق، ومع هذا قال النبي عليه الصلاة والسلام عن ربه: (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم). يعني: هذا الرجل الذي ليس منهم، إنما يحظى ببركة هذا المجلس وتصيبه النفحات الربانية في هذا المجلس، وهذا ليس فضلاً للرجل وإنما هو فضل مجلس العلم، وفضل الاجتماع على كتاب الله وعلى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم. قال: (ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه). أي: من كان حسيباً أو نسيباً، فقصر في العمل لم ينفعه ذلك. يعني: نسبك وحسبك ومالك وجاهك وسلطانك لا يغني عنك من الله شيئاً، إنما الذي يغني عنك هو العمل، فإذا قصرت في العمل فلا تنفعك حظوظ الدنيا بأسرها وإن حزت عليها، لا أبوك ولا أمك ولا جدك ولا عمك ولا خالك ولا الأزهر كله بمشيخته أو غير مشيخته، حتى وإن كنت ابن أمير المؤمنين، وإن كنت ابن نبي، ولذلك فإن نوحاً عليه السلام لم يغن عن ولده شيئاً، ولوطاً لم يغن عن امرأته شيئاً، ونوحاً لم يغن عن امرأته شيئاً، وامرأة فرعون لم تغن عن فرعون شيئاً، فمن بطأ به عمله لا ينفعه النسب ولا الحسب، ولا الجاه ولا السلطان ولا الوزارة، ولا الرئاسة، ولا الحكم ولا الخلافة؛ وفي القبر يأتيك العمل الصالح فيمثل لك على صورة رجل قد امتلأ نوراً فتقول: من أنت يرحمك الله؟ هذا الوجه الذي يبشر بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح. أما إذا كنت غير ذلك -والعياذ بالله- فيمثل لك هذا العمل في صورة رجل على أقبح صورة تراها.

ذكر لطيفة إسنادية في رواية حديث: (من نفس عن مؤمن كربة)

ذكر لطيفة إسنادية في رواية حديث: (من نفس عن مؤمن كربة) [حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير قال: حدثني -أو حدثنا- أبي وحدثناه نصر بن علي الجهضمي حدثنا أبو أسامة -وهو حماد بن أسامة - قال: حدثنا الأعمش قال: ابن نمير]. يعني: أن الأعمش روى عن تلميذه، وهذا من باب رواية الأكابر عن الأصاغر، وأنتم تعرفون أن هذه المسألة واردة في في مصطلح الحديث. الأعمش يقول: [حدثنا ابن نمير عن أبي صالح]. وفي حديث أبي أسامة [حدثنا أبو صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخر الحديث]. فابن نمير يطلق على محمد بن عبد الله بن نمير وعلى عبد الله بن نمير ومسلم يروي عن محمد بن عبد الله بن نمير وعن أبيه عبد الله بن نمير [حدثنا نصر بن علي الجهضمي حدثنا أبو أسامة -الذي هو حماد بن أسامة - قالا -أي: عبد الله بن نمير وحماد بن أسامة - حدثنا الأعمش]. إذاً: عبد الله بن نمير عن الأعمش وحماد بن أسامة عن الأعمش، والأعمش يقول: عن أبو صالح. وممكن أن يشرك في ابن نمير ثلاثة أشخاص: محمد بن نمير، وعبد الله بن نمير، وابن نمير آخر. الإسناد الأول انتهى عند عبد الله بن نمير، والإسناد الثاني انتهى عند حماد بن أسامة كلاهما يرويان عن الأعمش، فـ الأعمش ليست له رواية عن عبد الله بن نمير، وعبد الله بن نمير تلميذ الأعمش وهو الذي يروي عنه، والإسناد يتوقف عند الأعمش، ومسلم هو الذي يقول: وفي طريق ابن نمير قال عن أبي صالح. أي: قال الأعمش: عن أبي صالح. فيكون هذا هو التقدير. فحديث ابن نمير له طريقان: طريق عبد الله بن نمير وطريق أبي أسامة، أما ابن نمير فقال: حدثنا الأعمش عن أبي صالح وأما أبو أسامة فقال: حدثنا الأعمش: حدثنا أبو صالح. إذاً: التقدير هكذا: قال مسلم: حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، قال: حدثنا أبي حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة. وفي طريق حماد بن أسامة قال: حدثنا الأعمش قال: حدثنا أبو صالح. فالحديث هذا روي بإسنادين: الإسناد الأول: قال مسلم: حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير قال: حدثنا أبي، ثم مرة أخرى يقول: حدثنا نصر بن علي الجهضمي قال: حدثنا أبو أسامة. فالأول: انتهى عند عبد الله بن نمير، والثاني: انتهى عند حماد بن أسامة، وكلاهما يرويان عن الأعمش، وقال الأعمش في طريق ابن نمير: عن أبي صالح، ولم يقل حدثنا أبو صالح، وفي طريق أبي أسامة قال: حدثنا أبو صالح. إذاً: مسلم صنع هذا من أجل أن يبين أن الأعمش في طريق ابن نمير لم يصرح بالسماع من أبي صالح، وفي طريق أبي أسامة قال: حدثنا أبو صالح. إذاً: مرة لم يصرح بالسماع، ومرة صرح بالسماع، وأنتم تعرفون أن الأعمش يدلس، فيريد الإمام مسلم أن يقول لك: إذا كان الأعمش في طريق ابن نمير لم يصرح بالسماع من أبي صالح عن أبي هريرة فقد صرح في طريق أبي أسامة، فقال: حدثنا أبو صالح. قال: [حدثنا أبو صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل حديث أبي معاوية، غير أن حديث أبي أسامة ليس فيه ذكر التيسير على المرء].

شرح حديث: (لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفتهم الملائكة)

شرح حديث: (لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفتهم الملائكة) قال: [حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار -وهو محمد بن بشار الملقب بـ بندار - قال: حدثنا محمد بن جعفر -الملقب بـ غندر - قال: حدثنا شعبة: سمعت أبا إسحاق -وهو السبيعي - يحدث عن الأغر أبي مسلم] الذي هو المديني نزيل الكوفة. هناك فرق بين نسبة الراوي المديني والمدني، فالمديني نسبة إلى المدائن، مدينة في طهران، أو في بلاد فارس سابقاً اسمها المدائن، والنسبة إلى هذه المدينة مدائني أو مديني، أما المدني فنسبة إلى المدينة فقط. ومعلوم أن الكوفة جوار المدائن، وقد كان يطمع خميني إيران في الكوفة والبصرة، وكان يقول: هذه بلادنا الأصلية. [أنه قال: (أشهد على أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما أنهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده)]. فالذكر هنا بمعنى دراسة العلم، وأهل السنة لهم منهج في موضوع الذكر، فالذكر في القرآن والسنة يعني: الاستغفار والتسبيح والتدبر في آلاء الله عز وجل، أو قراءة القرآن ودراسته، وقراءة السنة ودراستها وغير ذلك من علوم الشرع. أما الدروشة والتمايل يمنة ويسرة وغير ذلك من هذه الأذكار المبتدعة التي أتى بها الصوفية فليست من دين الله لا من قريب ولا من بعيد. [وحدثنيه زهير بن حرب - أبو خيثمة النسائي نزيل بغداد- قال: حدثنا عبد الرحمن]. وزهير بن حرب أبو خيثمة النسائي. يعني: من بلد اسمها نسا. والنسبة إليها نسائي وهي في أعالي العراق من جهة فارس. وزهير بن حرب هو أبو خيثمة النسائي نزيل بغداد، وعبد الرحمن إمام بغداد في زمانه هو عبد الرحمن بن مهدي، وزهير بن حرب معروف بالرواية عن ابن مهدي.

شرح حديث أبي سعيد في مباهاة الله ملائكته بعباده الذاكرين

شرح حديث أبي سعيد في مباهاة الله ملائكته بعباده الذاكرين قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا مرحوم بن عبد العزيز عن أبي نعامة السعدي عن أبي عثمان]، وأبو عثمان من المخضرمين، أبو عثمان النهدي اسمه عبد الرحمن بن مل. [عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه -وهو سعد بن مالك بن سنان - قال: (خرج معاوية على حلقة في المسجد)] أي: خرج معاوية بن أبي سفيان على حلقة في المسجد قد اجتمعوا، [(فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله. قال: آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟)] يعني: أستحلفكم بالله ما جلستم إلا لهذا الغرض أي: لذكر الله تعالى. [(قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك. قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم)]. يعني: أنا ما طلبت منكم أن تحلفوا اتهاماً لكم. [(وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل عنه حديثاً مني)]، هذا فيه إثبات عظم صحبة معاوية رضي الله عنه للنبي عليه الصلاة والسلام، وأنه من جملة الصحابة، بل إن معاوية كان من كتبة الوحي للنبي عليه الصلاة والسلام، وهو بالمنزلة العظمى والمكانة الأسمى والمنزلة العظيمة في الدين وكذلك في الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. والأصل في الخلاف الذي دار بين الصحابة أنه يطوى ولا يروى، وإذا روي يروى بين الخاصة مع الكراهة فلا يروى على العامة كما فعله أخونا طارق السويدان لما تكلم عن التاريخ الإسلامي ذكر الفتنة التي دارت بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، ولم يكن موفقاًَ في ذلك، فضلاً أن طارق السويدان إنما يميل إلى التشيع. أردت التنبيه بذلك لما أعلمه عنه من إنحراف عن عقيدة السلف، ومن خلط في مسائل التاريخ الإسلامي وغيره من المسائل، بل قد قال أكثر من ذلك صراحة لما قلت له: إن الشيعة يخالفون أهل السنة في أصول المعتقدات فكيف تدعو إلى التقريب بين أهل السنة والشيعة؟ قال: إذا كان الشيعة قد أخطئوا فيما ذكرت فإن عند أهل السنة من الخطأ أعظم مما عند الشيعة. وهذا الكلام لا يخرج إلا من إنسان قد فقد عقله، ولم يعرف عن أهل السنة ولا عن عقيدتهم شيئاً، وغير ذلك من الكلام الكثير، وقد التقيت به في الكويت في شهر أغسطس الماضي. وهو على أية حال متشدد جداً لجماعته وجماعته لا يفرقون بين هذه العقائد الفاسدة وبين عقيدة أهل السنة والجماعة في الغالب. قال: [(وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام، ومن به علينا)] أي: نشكره على هدايته إيانا للإسلام والإيمان. قال: [(آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك. قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله عز وجل يباهي بكم الملائكة)]. انظروا إلى فضيلة طلب العلم وذكر الله عز وجل. يعني: الواحد منا يحتقر نفسه، ولا بد له أن يحتقر نفسه؛ لأننا في حقيقة الأمر لسنا على شيء، ولكن هو من باب التحدث بنعمة الله عز وجل أن هدانا للإسلام، وأن عصمنا بالإسلام والسنة، وهو السبيل الأوحد والصراط المستقيم، وإن كان فينا عيب وتقصير ونقص وخلط في الأعمال والسلوك، لكن حسبنا أن الله هدانا وبين لنا الطريق، وأضل غيرنا وربما هداهم للإسلام ولكنه لم يمن عليهم بطريقة سليمة صحيحة في الإسلام. ولذلك يقول ميمون بن مهران وغيره من أهل العلم من التابعين: لا ندري أي النعمتين علينا أعظم، أن هدانا الله للإسلام أم عصمنا في الإسلام بسنة وسبيل. يعني: الواحد لما يكون مسلماً على نهج النبوة وأهل السنة والجماعة بخلاف أن يكون مسلماً شيعياً أو رافضياً أو قدرياً أو معتزلياً أو أشعرياً أو غير ذلك من هذه الانحرافات الضالة عن عقيدة أهل السنة والجماعة. أما أن يكون مسلماً منحرفاً أو كافراً كفراً بواحاً، فبعض الشر أهون من بعضه كما يقول ابن تيمية وغيره من أهل العلم. لكن فضل الله عز وجل عظيم جداً أن هداك للإسلام أو أنبتك في بيئة إسلامية، وأن هداك من وسط هذه البيئة -التي لا تعرف من دين الله إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه- لمعرفة الطريق الحق. قال: (ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله عز وجل يباهي بكم الملائكة) فتصور أن الله تعالى يباهي ويفاخر بنا ملائكة السماء، مع أن هؤلاء الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فهم مفطورون على التكبير والتسبيح والتهليل والذكر وغير ذلك، لم يقترفوا معصية قط، وليست المعصية طريقهم، ومع هذا فالله تعالى لا يباهي بنا العصاة، ولا يباهي بنا الكفار، ولا يباهي بنا من انشغل أو غفل عن الذكر، وإنما يباهي بنا من كانت حياته من أولها إلى آخرها ذكر وتسبيح لله عز وجل. ولذلك ا

باب استحباب الاستغفار والإكثار منه

باب استحباب الاستغفار والإكثار منه قال: (باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه) الاستغفار أن تقول: أستغفر الله. أي: أطلب مغفرتك يا رب! لما قد بدر مني من معاص وذنوب وهفوات وغفوات، وغفلات وانشغالات عن ذكرك وطاعتك.

شرح حديث: (وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة)

شرح حديث: (وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة) قال: [حدثنا يحيى بن يحيى وقتيبة وأبو الربيع جميعاً عن حماد بن زيد عن ثابت بن أسلم البناني عن أبي بردة الأشعري عن الأغر المزني -وكانت له صحبة- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنه ليغان على قلبي)] أي: يغشى قلبي ويعلو قلبي، ويفتر قلبي، (وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة)]. وفي رواية: (وإني لأستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة) وليس بين الروايتين تعارض؛ لأن الذي يستغفره أكثر من سبعين مرة لا يمنع أن تكون هذه الكثرة مائة مرة، فالجمع بين الروايتين: أنه لا يمنع أن تكون الكثرة قد بلغت مائة مرة. وقيل: إن سبب هذا الغين هو اشتغاله بالنظر في مصالح أمته وأمورهم، ومحاربة العدو ومداراته، وتأليف المؤلفة قلوبهم، ونحو ذلك، فيشتغل بذلك من عظيم مقامه، فيراه ذنباً بالنسبة إلى عظيم منزلته. مثلما تقول الصوفية وإن كان كلاماً يحتمل: حسنات الأبرار سيئات المقربين. يعني: الذي أعمله أنا وأنت هذا بالنسبة للمقربين سيئات وليس بحسنات، لأنهم يعبدون الله بمنتهى الشفافية. ولذلك أنس رضي الله عنه يخاطب تابعي أهل البصرة، يخاطب الحسن البصري، ومحمد بن سيرين، وقتادة، وعبد العزيز بن صهيب، وغيرهم من أئمة البصرة، يقول: إنكم لتعملون أعمالاً ترونها أدق من الشعرة كنا نعدها على عهد النبي عليه الصلاة والسلام من الكبائر. أنس رضي الله عنه يقول هذا الكلام للحسن البصري الذي علم الأمة كلها الزهد، وقتادة الذي ضرب في الزهد بأعظم باع، فإذا كان هؤلاء بهذا الوصف، فماذا سيكون حالنا؟! (والنبي عليه الصلاة والسلام كان إذا دخل الخلاء قال: أعوذ بك من الخبث والخبائث، وإذا خرج قال: غفرانك). ومعنى (غفرانك) أنه انقطع عن الذكر في أثناء وجوده في الخلاء؛ لأن هذا المقام لا يتناسب مع ذكر الله، فانقطع ذكره لله على قدر بقائه في الكنيف أو في الحمام أو في الخلاء، فاستغفر ربه بعد خروجه من الحمام لما فرط وقصر من استغفار وذكر وتلاوة. ولما نرى حالنا نجد أن الواحد يدخل في الصلاة التي هي أصل الذكر ويخرج منها كما دخل. فالأوقات التي جعلت للذكر لا نذكر الله فيها إلا قليلاً، أما أوقات السلف رضي الله عنهم فقد كانت كلها لله عز وجل، وأما حياة الأنبياء فأسطورة في ذكر الله عز وجل، لا يمكن لأحد قط أن يصل إلى ما وصلوا إليه. وعمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يريد أن يسابق أبا بكر في ذكر الله عز وجل وفي الطاعات وأعمال الخير، فعجز أن يساويه في منزلته، فقال: والله يا أبا بكر! لا أسابقك إلى خير قط، فما سابقتك إلا سبقتني. يعني: عمر عرف قدره، مع أنه كان إذا ذكر ذكر العدل كله، كان علامة على العدل، وعلامة على الفتوحات، وعلامة على انتصار الإسلام، وعلامة على الصبر، وعلامة على الحلم، وعلامة على كل مكارم الأخلاق. وعمر رضي الله عنه يقول له: ليتني شعرة في صدرك يا أبا بكر! وهذا من أدب عمر رضي الله عنه، فقد تربى بتربية النبي عليه الصلاة والسلام. وإذا كان يغان على قلبه عليه الصلاة والسلام لانشغاله بمصالح المسلمين، وقتاله في غزوة بدر وغزوة أحد وخيبر والخندق وغيرها من الغزوات، فينشغل في أثناء الجهاد عن ذكر الله بلسانه وقلبه، لكنه دائماً في طاعة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول هذا الكلام فقط من أجل أن يعلم الأمة الأدب، ويربيها أحسن تربية، يقول لهم: أنا في أثناء انشغالي في مصالح الأمة كذلك أنسى أو يذهب عن خاطري أن أذكر الله تعالى بلساني وقلبي، مع أنه ما انشغل قط صلى الله عليه وسلم عن ذكر ربه. والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إن عيني تنامان ولا ينام قلبي). يعني: حتى في لحظة النوم أو في وقت النوم قلبه يذكر الله عز وجل. إذاً: لا يمكن أن ينشغل في أثناء يقظة عينيه عن ذكر الله تعالى، فكيف بالجهاد وقتال العدو والدفاع عن دين الله، فلا يقال عنه: انشغل عن طاعة الله أو عن ذكر الله، وإنما أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يعلم الأمة كيف تتربى وكيف تتعامل مع ربها. وعائشة رضي الله عنها استغربت اجتهاد النبي عليه الصلاة والسلام في طاعة ربه، وقيامه حتى تورمت قدماه، فقالت له: (رفقاً بك يا رسول الله! إن الله تعالى قد غفر لك من ذنبك ما تقدم وما تأخر) مع أنه أول من تنشق عنه الأرض، ولا يدخل أحد الجنة إلا بعد دخوله. وعددت من مناقبه عليه الصلاة والسلام، وهو يسمع، ثم قال لها: (أفلا أكون عبداً شكورا). وهذا يدل على أن عبادته لله كانت عبادة شكر وليس عبادة إلزام كحالي أنا وأنت، نحن نعبد

الحث على المسارعة في التوبة

الحث على المسارعة في التوبة [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا غندر عن شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي بردة قال: سمعت الأغر وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يحدث ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس! توبوا إلى الله فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة)]. قال: [عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه)] وهذه التوبة يسميها العلماء: التوبة العامة؛ لأن التوبة توبة خاصة وتوبة عامة، التوبة الخاصة توبة تخص كل إنسان على حدة، وهذه تنقطع بالغرغرة، (إن الله يقبل التوبة عن عبده ما لم يغرغر). أما التوبة العامة فبابها مفتوح حتى تطلع الشمس من مغربها، وهذه من علامات الساعة الكبرى، فحنيئذ {لا يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158]. ولذلك التوبة العامة بابها يغلق بطلوع الشمس من المغرب، حتى لو تاب الإنسان وآمن في ذلك الوقت فهذا لا ينفع، كما لم ينفع إيمان فرعون قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90] لا يا عدو الله، في هذه اللحظة لن تنفعك التوبة؛ لأن هذه لحظة الغرغرة ولحظة الموت، وهذه التوبة الخاصة التي أغلقت دونك. إذاً: كل إنسان له توبة، وتوبته قبل الغرغرة، إذا أيقن بالهلاك، ورأى مقعده من الجنة ومقعده من النار أغلق باب التوبة، أما باب التوبة العامة فهو لكل الأمة ولجميع الخلائق وإنما يكون مردها ومآلها إلى أحد أشراط الساعة وهو طلوع الشمس من المغرب. أما قوله: (يا أيها الناس! توبوا إلى الله فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة) قال العلماء: للتوبة ثلاثة شروط: أن يقلع عن المعصية، وأن يندم على فعلها، وأن يعزم عزماً جازماً ألا يعود إليها، أو إلى مثلها أبداً. هذا بالنسبة لتوبة العبد في حقوق الله عز وجل.

كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار - باب استحباب خفض الصوت بالذكر - التعوذ من شر الفتن

شرح صحيح مسلم - كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار - باب استحباب خفض الصوت بالذكر - التعوذ من شر الفتن لقد شرع سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين عبادته ومناجاته والتقرب إليه بالذكر والدعاء، فالدعاء هو العبادة، وما من باب من الأبواب العبودية والحياتية إلا وله ذكر مخصوص، أو دعاء يناسب مقامه، وما ذاك إلا من عناية الشارع بما يصل بين العبد وربه في سائر أحواله، وفق آداب معلومة، وصفات شرعية محفوظة.

باب استحباب خفض الصوت بالذكر

باب استحباب خفض الصوت بالذكر الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فمع الباب الثالث عشر من كتاب الذكر والدعاء: قال الإمام النووي: (باب استحباب خفض الصوت بالذكر). أي: باب استحباب إذا ذكر أحد ربه أن يخفض صوته بالذكر؛ لأن الله تبارك وتعالى سميع عليم.

شرح حديث: (أيها الناس! أربعوا على أنفسكم)

شرح حديث: (أيها الناس! أربعوا على أنفسكم) قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا محمد بن فضيل وأبو معاوية -وهو محمد بن خازم الضرير، بالخاء المعجمة الموحدة- عن عاصم -وهو ابن سليمان الأحول - عن أبي عثمان] وهو عبد الرحمن بن مل النهدي، سكن الكوفة ثم البصرة، وهو مخضرم، ومعنى مخضرم: أنه أسلم في حياة النبي عليه الصلاة والسلام ولم يره، لكن عبد الرحمن بن مل أعظم من ذلك بدرجة، وهو أنه رحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفي أثناء رحلته إلى المدينة توفي النبي عليه الصلاة والسلام، وما سمع بوفاته إلا بعد أن دخل المدينة، وهذه حسرة عظيمة جداً. قال: [عن أبي موسى الأشعري -وهو عبد الله بن قيس - قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فجعل الناس يجهرون بالتكبير)]. أي: يرفعون أصواتهم بالتكبير، وأنتم تعلمون أن السنة للراكب أو السنة للمسافر إذا صعد شرفاً -مكاناً عالياً- أن يقول: الله أكبر، وإذا نزل أن يقول: (سبحان ربي الأعلى). وهذه سنة ثابتة. وأدلتها في الصحيحين وغيرهما. فلو صعدت ثنية أو شرفاً أو مكاناً مرتفعاً أو كبري أو غير ذلك ففي أثناء صعودك سواء كنت راكباً أو ماشياً فقل: الله أكبر، وإذا نزلت فقل: سبحان ربي الأعلى، ولو كنت غير مسافر. قال: [(فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أيها الناس! أربعوا على أنفسكم -أي: رفقوا بأنفسكم ولا تكلفوها فوق طاقتها- إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً)]. أي: مهما أسررتم وأخفيتم الذكر والتكبير فإن الله تعالى يسمعه ويعلمه. قال: [(إنكم تدعون سميعاً قريباً وهو معكم)]. وفي ذلك إثبات السمع لله عز وجل، كما أن من أسماء الله عز وجل: القريب، فهو أقرب إلى أحدنا من خطام ناقته، ومن حبل الوريد الذي هو داخل في تكوين الإنسان، فالله تعالى أقرب إلى العبد من كل شيء، والله تعالى أقرب من كل قريب من عباده سبحانه وتعالى. قال أبو موسى الأشعري: [(وأنا خلف النبي عليه الصلاة والسلام أقول: لا حول ولا قوة إلا بالله)]. أي: لما كان الصحابة رضي الله عنهم مشغولين بالتكبير عند ارتفاعهم أو صعودهم شرفاً أو ثنية أو غير ذلك كان أبو موسى خلف النبي عليه الصلاة والسلام يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: [(يا عبد الله بن قيس! -وهو أبو موسى الأشعري - ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ فقلت: بلى يا رسول الله! قال: قل: لا حول ولا قوة إلا بالله)]. مع أنه كان يقولها، لكن هذا تأكيد لأهمية هذا القول. أعني: الحوقلة كما يسميها الفقهاء، فيريد النبي عليه الصلاة والسلام أن يبين لـ أبي موسى قيمة ما يقول، وفضل ما يقول، وأن هذه الكلمة كنز من كنوز الجنة، وأنتم تعلمون أن الكنز هو ما يخزنه صاحبه لعظيم قيمته، وهذا إذا كان متاعاً من أمتعة الدنيا، فما بالكم بكنوز الآخرة، بل بكنوز الجنة على جهة الخصوص؟! فلا حول ولا قوة إلا بالله إنما هي كنز من كنوز الجنة، بل ثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يكثر من هذا القول في ليله ونهاره، وكان دائماً ما يُسمع النبي عليه الصلاة والسلام مستغفراً أو تائباً أو محوقلاً.

كلام النووي في شرح حديث: (أيها الناس أربعوا على أنفسكم)

كلام النووي في شرح حديث: (أيها الناس أربعوا على أنفسكم) يقول الإمام النووي عليه رحمة الله: معنى: (أربعوا). أي: ارفقوا بأنفسكم واخفضوا أصواتكم، فإن رفع الصوت إنما يفعله الإنسان لبعد من يخاطبه ليسمعه. يعني: أن الإنسان يضطر إلى رفع صوته حتى يسمعه من يخاطبه. ثم قال: وأنتم تدعون الله تعالى وليس هو بأصم ولا غائب -وليس ببعيد عنكم- بل هو سميع قريب، وهو معكم بالعلم والإحاطة. وقول النووي: وهو معكم بالعلم والإحاطة، هذا القول منه رحمه الله تعالى عض عليه بالنواجذ؛ لأنه رحمه الله في الغالب يؤول أو ينقل قول المتأولة من الأشاعرة ثم لا ينكره، بينما في هذا القول وافق منهج أهل السنة وبعض أهل العلم ينسب النووي لمذهب الأشاعرة وليس كذلك، بل الإمام النووي لم يتأهل جيداً لمسائل الاعتقاد، ولذلك أحياناً ينقل كلام السلف ويستحسنه، وأحياناً ينقل كلام الخلف ويسكت، وأحياناً ينكر، وقلما ينكر. فهنا في المعية نقل كلام أهل العلم من السلف والصحابة وغيرهم بأن معية الله عز وجل لعباده إنما هي معية سمع وعلم وإحاطة وغير ذلك، أما معية الذات فلم يقل بها إلا الخلف؛ لأن السلف إنما يثبتون لله عز وجل الفوقية والعلو، فالله تبارك وتعالى استوى على العرش. ومعنى استوى: علا وارتفع. فالله تبارك وتعالى ينزل في ثلث الليل الآخر، أو إذا بقي ثلث الليل الآخر فينادي عباده، ونزوله سبحانه للسماء الدنيا نزولاً يليق بجلاله وكماله، والسلف يعتقدون أن نزول الرب تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا لا يستلزم خلو العرش منه، كما أنه لا يستلزم الانتقال والحركة؛ لأن النزول في حق الرب تبارك وتعالى يختلف عن النزول في حق المخلوقين، فإذا نزل أحدنا من الدور الثاني إلى الدور الأول فإنما هذا نزول يعرفه البشر، كما أنه يستلزم خلو المكان الأول منه، ويستلزم الانتقال والحركة، وكل هذا في قوانين البشر معقول، أما في القانون السماوي الإلهي وفيما يتعلق بالذات العلية فإنه لم يقل بذلك أحد من السلف رضي الله عنهم أجمعين.

ذكر بعض طرق حديث: (أربعوا على أنفسكم)

ذكر بعض طرق حديث: (أربعوا على أنفسكم) قال: [حدثنا ابن نمير -وهو محمد بن عبد الله بن نمير - وإسحاق بن إبراهيم -المعروف بـ ابن راهويه - وأبو سعيد الأشج جميعاً عن حفص بن غياث، عن عاصم -وهو الأحول- بهذا الإسناد، نحوه. أي: عن عاصم، عن أبي عثمان، عن أبي موسى بمثل الحديث السابق. حدثنا أبو كامل -وهو فضيل بن حسين الجحدري - حدثنا يزيد بن زريع]. وهو إمام أهل البصرة في زمانه، قال الإمام أحمد: هو ثقة ثقة، شرف أهل البصرة، لم تنجب البصرة في زمانه أفضل منه. [قال: حدثنا التيمي]. التيمي يطلق على سليمان بن طرخان التيمي، ويطلق على ولده المعتمر، لكن عند إطلاق التيمي فيطلق على الأب سليمان، وخاصة إذا كان في طبقة التابعين أو تابعي التابعين. قال: [حدثنا سليمان التيمي عن أبي عثمان -وهو النهدي - عن أبي موسى الأشعري: (أنهم كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يصعدون في ثنية -أي: في مكان مرتفع في الجبل- فجعل رجل كلما علا ثنية نادى: لا إله إلا الله والله أكبر)]، يقدم كلمة التوحيد ثم يثني بالتكبير، والله تبارك وتعالى واحد أحد، وهو الكبير المتعال سبحانه وتعالى، فهذا الرجل كلما صعد ثنية وحد الله تعالى وناداه باسم من أسمائه سبحانه وتعالى، فقال: الله أكبر، أو والله أكبر. قال: [(فجعل نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنكم لا تنادون أصم ولا غائباً)]. أي: لا تدعون أصم ولا غائباً، فلا تكلفوا أنفسكم رفع الصوت، وإنما يكفيكم أن تذكروا الله تبارك وتعالى ولو بصوت يسمعه من قرب منكم من صاحبه، فلا داعي أن تشقوا على أنفسكم بالنداء ورفع الصوت. قال: [فقال: (يا أبا موسى! -أو يا عبد الله بن قيس! - ألا أدلك على كلمة من كنز الجنة؟ قلت: ما هي يا رسول الله؟ قال: لا حول ولا قوة إلا بالله).

معنى حديث: (فإن الله خلق آدم على صورته)

معنى حديث: (فإن الله خلق آدم على صورته) وحدثناه محمد بن عبد الأعلى، حدثنا المعتمر عن أبيه -وهو سليمان التيمي - حدثنا أبو عثمان، عن أبي موسى قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فذكر نحوه]. وأنتم تعلمون أن قول الراوي: (نحوه) يختلف عن قوله: (مثله). إذ إن المثلية تستلزم المطابقة، وأما النحوية فتستلزم أن تكون هذه الرواية بمعنى الرواية السابقة، وذلك كقولنا: فلان مثل فلان في الكرم. فلا يلزم منه أن تكون المثلية في كل شيء. وكما في الحديث في الصحيحين: (لا تضربوا الوجه ولا تقبحوه، فإن الله خلق آدم على صورته). وفي رواية خارج الصحيحين: (فإن الله خلق آدم على صورة الرحمن) فيها إشكال. يعني: أن ربنا شابه آدم! وقوله: (لا تضرب الوجه ولا تقبح، فإن الله خلق آدم) كلام موجه لـ معاوية بن الحكم السلمي لما لطم جاريته، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تضرب الوجه ولا تقبح، فإن الله خلق آدم على صورة الرحمن). وأضعف الأقوال في معنى هذا الحديث: أن الإضافة هنا إضافة تشريف، لكن في الحقيقة فيها شبهة تشبيه كذلك. أي: تشبيه الله عز وجل بآدم. وأقوى قول لأهل العلم في هذه المسألة كقول النبي عليه الصلاة والسلام: (هل ترون القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ قالوا: نعم يا رسول الله! قال: إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس في رابعة النهار، أو كما ترون القمر في ليلة البدر ليس دونها سحاب). فهنا تشبيه الرؤية بالرؤية لا المرئي بالمرئي. يعني: مثلما ترون الآن القمر ليس دونه سحاب أو ضباب أو إشكاليات تمنعكم من رؤية القمر فإنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، وسترون ربكم تماماً كما ترون هذه الشمس. يعني: ليس فيه أي غبش يمنعكم من رؤية الله عز وجل، ولا يحصل لكم ضيم ولا وهم ولا شك ولا ريب ولا غير ذلك. إذاً: هذا تشبيه الرؤية بالرؤية. أما أن تقول: إن الحديث يستلزم أن الله تعالى شبه القمر أو شبه الشمس فلا؛ لأنه سيكون عندئذ تشبيه المرئي بالمرئي، وليس مقصوداً في الروايات، وإنما المقصود أنكم كما ترون القمر صحواً جميلاً مدوراً نيراً لا يمنعكم من رؤيته غيم ولا ضباب ولا شيء من هذا، فكذلك لا يمنعكم من رؤية الله عز وجل شيء. أما قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله خلق آدم على صورته)، فاختلف أهل العلم في عود الضمير، فقالوا: (الهاء) في (صورته) يعود على المضروب، فإن الله خلق آدم على صورة المضروب. والكلام هذا لا تساعده الأدلة النقلية ولا كلام العرب؛ لأن المشبه إنما يلحق بالمشبه به غالباً، ولا يلحق المشبه به بالمشبه. يعني: لما أقول: إن الله خلق آدم على صورته. وأقول: إن الضمير يعود على المضروب، فهذا الكلام لغة لا يستقيم، مثل أن أقول: إن هذا الرجل يشبه ابنه، أو هذا الولد يشبه أباه، لكن لا يصح أن أقول للأخ الكبير: أنت تشبه أخاك الصغير الذي هو أصغر منك بعشر سنوات، فضلاً أن يكون ذلك في الأب، وآدم أبو البشر، فلما أشبه آدم بأحد لا يصح، لكن ممكن أشبه الناس بآدم؛ لأنه الناس من آدم، وآدم هو أبو البشر. وقال بعض أهل العلم من المحققين من السلف: إن لله تبارك وتعالى ذات، وهذه الذات موصوفة بصفات، فإذا كانت ذات لها صفات فلا بد أن تكون لها صورة، والله تبارك وتعالى خلق الخلق على صور كما أنه سبحانه وتعالى ذات له صورة، وصورة المولى تبارك وتعالى لا يعلم كيفيتها إلا هو سبحانه، أما صور المخلوقين فمعلومة، فهذا تشبيه الصورة بالصورة. بمعنى: كما أن لله تعالى ذات فله صورة وكذلك مخلوقاته عبارة عن صور وذوات، فهذا تشبيه لصورة بصورة، لا تشبيه للمصور بالمصور، ولا تشبيه للعبد بالخالق تبارك وتعالى. إذاً: كما أن لله تعالى ذاتاً موصوفة بصفات ولها صورة، فكذلك آدم أبو البشر له ذات لها صفات ولها صورة، فهنا في هذا الحديث: إثبات الصورة لله عز وجل وإثبات الصورة للمخلوقين، لكن إثبات الصورة لله وللمخلوقين لا يستلزم المشابهة والمماثلة أبداً، بل يستحيل إثبات المماثلة والمشابهة في كل شيء بين الخالق وبين المخلوق. إذاً: الذين تكلفوا رد حديث: (إن الله خلق آدم على صورة الرحمن) واكتفوا بذكر عود الضمير إلى آدم، إنما تكلفوا ما لا طاقة لهم به؛ لأن الحديث بلفظ: صورة الرحمن، صحيح بغير إشكال. ثم ما الذي يمنعنا أن نؤمن بأن لله تعالى صورة كما آمنا بكل أسمائه وصفاته، وأن نفوض كيفية الصورة لله عز وجل، أما صورة المخلوقين فنحن نعرفها.

لطيفة إسنادية في روايات حديث: (أربعوا على أنفسكم)

لطيفة إسنادية في روايات حديث: (أربعوا على أنفسكم) قال: [حدثنا خلف بن هشام وأبو الربيع -وهو سليمان بن داود العتكي - قالا: حدثنا حماد بن زيد عن أيوب -وهو أيوب بن أبي تميمة كيسان السختياني البصري - عن أبي عثمان، عن أبي موسى قال: (كنا مع النبي عليه الصلاة والسلام في سفر) فذكر نحو حديث عاصم]. من الذي ذكر؟ أنا لما أقول: روى فلان مثل فلان، أو نحو حديث فلان، إذاً لا بد أنه يكون هناك اختلاف في الإسناد، فمن الذي روى الحديث؟ أبو موسى الأشعري، والذي روى عن أبي موسى في كل الأسانيد التي مرت هو: أبو عثمان النهدي، وأبو عثمان النهدي مرة لقي عاصماً، ومرة لقي أيوب. إذاً: لما يأتي هنا يذكر الحديث من طريق أيوب ويقول: فذكر نحو حديث عاصم، فالذي ذكر نحو حديث عاصم هو: أيوب.

شرح حديث (والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته)

شرح حديث (والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته) قال: [وحدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي - ابن راهويه - أخبرنا الثقفي - وهو عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي - حدثنا خالد الحذاء]. وهو خالد بن مهران الحذاء، وقيل: الحذاء هو لقب له، ولقب بهذا لأنه كان يجالس الحذائين، مع أنه عالم كبير، وقد روى له الشيخان في صحيحيهما، ومع هذا كان عنده من التواضع ما يجعله يجالس الحذائين، وليس فقط كان يذهب مثلاً كل شهر مرة، بل ما لقب بهذا إلا لكونه كان يكثر من مجالسة الحذائين. وقيل: هو نفسه كان حذاءً، وكان لا يقرأ ولا يكتب، فإذا اجتمع عليه طلاب العلم بعد الصلاة لقنهم العلم وهو يصلح النعل، لكن هذا الكلام ضعيف. وأرجح الأقوال فيه: إما أنه كان يجالس الحذائين، أو أنه كان مشهوراً بقوله إذا سئل عن مسلك أو مشرب أو خلق أو عقيدة أو غير ذلك، كان ينصح السائل فيقول له: احذ حذو فلان. سواء في الأخلاق، أو السلوك أو العقيدة أو غير ذلك. قال: [عن أبي عثمان عن أبي موسى قال: (كنا مع رسول الله عليه الصلاة والسلام في غزاة). فذكر الحديث -أي: ذكر الحديث السابق- وقال فيه: (والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته)]. أي: إذا كان العبد أو الراكب لهذه الدابة يظن أن عنق الراحلة قريباً منه، فالله تبارك وتعالى أقرب إلى أحدنا من عنق راحلته. [قال: وليس في حديثه ذكر: لا حول ولا قوة إلا بالله. قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا النضر بن شميل، حدثنا عثمان بن غياث، حدثنا أبو عثمان، عن أبي موسى الأشعري قال: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أدلك على كلمة من كنوز الجنة -أو قال:- على كنز من كنوز الجنة؟ فقلت: بلى. فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله)]. أي: هي كنز من كنوز الجنة. ففي هذا الحديث الندب إلى خفض الصوت بالذكر، إذا لم تدعو حاجة إلى رفعه، فإنه إذا خفضه كان أبلغ في توقيره وتعظيمه. أي: الذي يخفض صوته بذكر الله عز وجل أبلغ في تعظيم الله عز وجل وتوقيره وإجلاله، إلا إذا دعت الضرورة والحاجة، أو لم يتمكن الإنسان من خفض الصوت، فلا بأس أن يرفع بذلك صوته ولا حرج عليه، فخفض الصوت بالذكر مندوب وليس واجباً، فإذا دعت حاجة إلى الرفع رفع كما جاءت بذلك الروايات. أما قوله: (والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته)، فهو بمعنى ما سبق، ومعناه المجاز، كقوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16]. أي: نحن أقرب إلى المحتضر من حبل الوريد الذي هو داخل في رقبته. والمراد: تحقيق سماع الدعاء. فالله تبارك وتعالى يعلم السر وأخفى، بل يعلم السر الذي يسره الإنسان لأخيه، ويعلم كذلك ما تحدث به نفس الإنسان قبل أن يتكلم به مع أي أحد، بل قبل أن يجهر به مع نفسه، فالله تبارك وتعالى يعلمه، بل ويعلم ما هو أخفى من ذلك، يعلم الذي سيفكر فيه العبد، والذي سيعمله العبد، ومصير العبد بين يديه سبحانه وتعالى، فإذا كان الله تعالى يعلم كل ذلك، الحاصل منه وغير الحاصل، الماضي منه والمستقبل، الذي يسره الإنسان والذي يجهر به، الذي لم يفكر فيه الإنسان أصلاً، فهذا يحقق أن الله تعالى أقرب إلى أحدنا من حبل الوريد، وهو تحقيق سماع الدعاء.

معنى قوله: (لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة)

معنى قوله: (لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة) أما قوله: (لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة). قال العلماء: سبب ذلك أنها كلمة استسلام وانقياد وإذعان لله عز وجل. ومعناها: لا حول ولا حيلة ولا طاقة لنا في فعل شيء أو ترك شيء أو إتيان طاعة أو الوقوع في معصية إلا بإذن الله تعالى، وأنتم تعلمون أن الخير والشر من الله تعالى، أما الخير فإنه إرادة الله تعالى الشرعية التي مبناها على المحبة والرضا، وأما الشر فإنه لا يقع في الكون إلا ما أراد الله عز وجل، إرادة شرعية دينية، أو إرادة كونية قدرية، فالشر وإن لم يكن من شرع الله عز وجل ولا واقعاً تحت مرضات الله عز وجل، لكن العبد لا يمكن له أن يأتي بعمل إلا إذا أذن الله تبارك وتعالى فيه من جهة الخلق والإيجاد. قال العلماء: سبب ذلك: أنها كلمة استسلام وتفويض إلى الله تعالى. يعني: تفويض الأمر إلى الله عز وجل، كما في قوله تعالى: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي} [غافر:44]، حتى لا تظنوا أن هذا من باب التفويض المذموم الذي هو صرف النص عن ظاهره فيما يتعلق بصفات الله عز وجل. قال: واعتراف بالإذعان له، وأنه لا صانع غيره، ولا راد لقضائه وأمره، وأن العبد لا يملك شيئاً من الأمر. ومعنى الكنز: أنه ثواب مدخر في الجنة، وهو ثواب نفيس كما أن الكنز هو أنفس أموالكم. قال أهل اللغة: الحول: الحركة والحيلة. أي: لا حركة لنا ولا استطاعة لنا ولا حيلة لنا إلا بمشيئة الله تعالى. وقيل: معناه: لا حول في دفع شر ولا قوة في تحصيل خير إلا بالله تعالى. وقيل: لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله للعبد، ولا قوة للعبد على طاعة الله إلا بمعونته سبحانه وتعالى. وحكي هذا عن ابن مسعود رضي الله عنه وكله متقارب. يعني: كل هذه المعاني والتفسيرات متقاربة المعنى كما قال أهل اللغة. ويعبر عن هذه الكلمة بالحوقلة والحولقة.

شرح حديث أبي بكر: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا)

شرح حديث أبي بكر: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً) قال: [حدثنا قتيبة بن سعيد الثقفي، حدثنا ليث -وهو الليث بن سعد المصري - ح وحدثنا محمد بن رمح، أخبرنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب -وهو المصري- عن أبي الخير -وهو مرثد بن عبد الله اليزني - عن عبد الله بن عمرو، عن أبي بكر رضي الله عنهما]. وهنا نقطة عظيمة وهي: مدى حرص الصديق على الخير، إذ يطلب من النبي عليه الصلاة والسلام -وهو من هو في المكانة والإمامة والمنزلة- أن يعلمه دعاءً، أو كلاماً يدعو به في صلاته، [فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كبيرا -وفي رواية: كثيراً- ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم)]. إذا العبد يقول هذا الكلام في صلاته، فياحبذا لو كان ذلك في سجوده؛ (لأن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد. قال: فأكثروا فيه الدعا)؛ لأن السجود هو حالة من العبد يبرهن بها عن مزيد ذله وخضوعه لله عز وجل، إذ إنه يأتي بهامته التي هي أعلى شيء وأشرف شيء في بدن الإنسان فيضعها في الوحل والتراب والرغام لله عز وجل من جهة الحب أو على جهة الحب والعبادة والقرب، فإذا كان العبد يحقق هذا لله عز وجل، فياحبذا لو أنه دعا بدعاء بين يدي الله عز وجل في هذا الموطن وافتقر إلى الله تعالى على نحو قوله: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم). وفيها: إثبات أن الله تبارك وتعالى غفور رحيم، كما أن فيها صحة مناسبة ذكر هذه الأسماء مع الدعاء، فمثلاً لا يقول العبد: اغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك العزيز القوي المنتقم الجبار. لا يصلح هذا الكلام، وإنما يصلح أن يسم الله تبارك وتعالى بأسماء تتناسب مع أصل الدعاء. فمثلاً: لا يصح أن يقول أحدهم: اللهم انتقم من فلان الذي ظلمني إنك أنت الغفور الرحيم. كيف يتناسب هذا مع هذا؟! إذاً: أنت تذكر من أسماء الله تعالى ما يتناسب مع أصل الدعاء، قال: (إنك أنت الغفور الرحيم)

لطيفة إسنادية في حديث (اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا)

لطيفة إسنادية في حديث (اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً) قال: [وحدثنيه أبو الطاهر، أخبرنا عبد الله بن وهب، أخبرني رجل سماه]. إذاً: الإسناد هذا ضعيف؛ لأن عبد الله بن وهب لما سمى الرجل لم نعرفه نحن، وجهالة الراوي سبب في ضعف الإسناد. فمثلاً: عندما أقول لك: أخبرني فلان من الناس، ستقول: لا يصح ذلك؛ لأن فلاناً قد يكون ضعيفاً، وفي هذه الحالة إما أن نسميه وبعد تسميته وتحديد عينه يعرف بالتوثيق، وإلا فإن الإسناد ضعيف للجهالة. أي: جهالة الراوي، وهذا ليس انقطاعاً، إذ الجهالة تختلف عن الانقطاع. قال: [أخبرنا عبد الله بن وهب، أخبرني رجل سماه، وعمرو بن الحارث]. إذاً عمرو بن الحارث متابع لرجل مجهول، وبالتالي لابد أن أنظر في ترجمة عمرو بن الحارث، هل هو ثقة أو ليس بثقة؟ فإن كان ثقة فأنا أعتبر هذا الرجل المجهول كأنه لم يكن؛ لأن عمرو بن الحارث يحل محله، فسواء ذكر اسمه أو لم يذكر اسمه. فجهالة الراوي في كل طبقات الإسناد تضر بثبوت الإسناد، وتضر بثبوت الحديث ويكون ضعيفاً، إلا في طبقة واحدة وهي طبقة الصحابة، كأن يقول التابعي: حدثني رجل من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، فإن ذلك لا يضر؛ لأن الصحابة كلهم عدول رضي الله عنهم. قال: [أخبرني رجل سماه، وعمرو بن الحارث]. وكلاهما في طبقة واحدة، فيغني عن المجهول المعلوم، وهو عمرو بن الحارث، وهو ثقة.

تواضع الصديق رضي الله عنه في طلب العلم

تواضع الصديق رضي الله عنه في طلب العلم قال: [عن يزيد بن أبي حبيب المصري، عن أبي الخير أنه سمع عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: (إن أبا بكر الصديق قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: علمني يا رسول الله دعاءً أدعو به في صلاتي وفي بيتي)]. هذا الدعاء إما أن يحمل على أنه في الصلاة في المسجد -أي: في صلاة الفريضة- وفي بيته في صلاة النافلة، وإما أن يدل هذا الحديث على استحباب هذا الدعاء في الصلاة وفي غيرها، وأشد استحباباً أن يكون في الصلاة وفي البيت. وانظروا إلى تواضع وأدب أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فقد بلغ من السن ما بلغ، ومن المنزلة ما بلغ، ومع هذا يأتي بلغة صبي الكتاب بين يدي شيخه ويقول: (يا رسول الله! علمني). ولم يستأنف ولم يستنكف عن طلب العلم، مع علو منزلته وعظيم شرفه، ومع ذلك فقد طلب من النبي عليه الصلاة والسلام في حضرة عبد الله بن عمرو بن العاص، وأنتم تعلمون أن عبد الله بن عمرو من صغار الصحابة، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه أكبر الصحابة، ولم يستنكف أبو بكر في هذا الموطن أن يقول أمام طفل من أطفال الصحابة: (يا رسول الله! علمني). ما قال له: أنا والله كنت أريدك منفرداً حتى لا يعلم هذا الطفل الصغير، لا؛ لأنه لا يتعلم العلم مستح ولا متكبر، وهذا الأثر ذكره الإمام البخاري في كتاب العلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. فالعلم إنما يحول بينك وبينه الكبر والحياء؛ ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها: رحم الله نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين. والمقصود: حياء المرأة الطبيعي الذي يجعل المرأة تستحي دائماً من كل شيء، وأن تسأل عن أي شيء، لكن نساء الأنصار بالذات علمن النساء المهاجرات أنه لا حياء في طلب العلم. وهذا يرد به على القول المشهور المعروف: لا حياء في الدين. فهذا القول خطأ. والصواب: أن الدين كله حياء وصواب ذلك: أنه لا حياء في الطلب؛ لأن الحياء في الطلب ليس حياءً حقيقياً، وإنما هو عجز وضعف، فالحياء كل الحياء أن تطلب العلم، وتستحي من نفسك وأنت جاهل. قال: [(إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال لرسول الله عليه الصلاة والسلام: علمني يا رسول الله دعاءً أدعو به في صلاتي وفي بيتي). ثم ذكر بمثل حديث الليث، غير أنه قال: (ظلماً كثيراً)]. ومعظم الروايات التي روي بها هذا الحديث إنما أفادت لفظ: (كثيراً) بدل (كبيراً).

باب التعوذ من شر الفتن وغيرها

باب التعوذ من شر الفتن وغيرها الباب الرابع عشر: (باب التعوذ من شر الفتن وغيرها). أي: من الفتن كلها، لكن التعوذ من شر الفتن أعظم من التعوذ من مجرد الفتنة. يعني: مثل أن أقول: هناك شيء شر، وهناك شيء أشر منه.

شرح حديث (اللهم فإني أعوذ بك من فتنة النار وعذاب النار)

شرح حديث (اللهم فإني أعوذ بك من فتنة النار وعذاب النار) وفي كتاب الصلاة وغيره: (بيان تعوذه عليه الصلاة والسلام من فتنة القبر)، وفتنة القبر هي فتنة منكر ونكير؛ لأن فتنة القبر غير عذاب القبر، ففتنة القبر إنما تكون حين سؤال الملكين للرجل، من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فإذا كان العبد من أهل الإيمان والعمل والتوحيد سدد ووفق وثبت في الإجابة عن هذا السؤال، قال: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد عليه الصلاة والسلام. وإذا لم يكن العبد من أهل الإيمان والتوحيد ولم يكن عاملاً، بل كان عاصياً مستهتراً، أو كان جاحداً منكراً أو منافقاً أو كافراً قال: (لا أدري، وجدت الناس أو سمعت الناس يقولون: كذا فقلت كذا). وفي رواية يقول: (ها ها لا أدري). كالمشدوه الذي ظن أنه لا يقف هذا الموقف قط، فالمنكرين الآن لعذاب القبر وفتنة القبر، والمكذبين الآن لسؤال منكر ونكير لا بد أنهم سيفاجئون بذلك؛ لأنه لم يكن هذا في ظنهم في الدنيا، بل جحدوا ذلك وأنكروه، ولذا فإنهم سيفاجئون في قبورهم حين نزولهم وإغلاق القبر عليهم بمنكر ونكير، والذي قلما يثبت بأس المرء وقلب المرء أمام منظريهما، إلا من ثبته الله تعالى؛ ولذلك الصحابة رضي الله عنهم الذي بلغوا في العلم والفضل والتقوى والورع والمنزلة مبلغاً عظيماً جداً كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول إذا دفن أحدهم: (أدعو لأخيكم فإنه الآن يسأل). لأنه أحوج ما يكون إلى الدعاء بالتثبيت، وهو في أمس الحاجة لدعاء إخوانه وهو يسمع قرع نعالهم في الخارج. وهنا: إثبات استحباب الدعاء والقيام على القبر مدة من الزمان تكفي لنحر جزور وسلخه وتوزيع لحمه أو تفريق لحمه، وهذه المدة التي يبقى فيها منكر ونكير مع هذا المقبور حديثاً. أما عذاب القبر فإنما مثله كما مر النبي عليه الصلاة والسلام بقبرين فقال: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستنزه من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بين الناس بالنميمة). فهناك بعض الأعمال يعاقب الله عليها العبد في الدنيا، وبعضها يعاقب عليها في القبر، وهي الدار الثانية، وبعضها يعاقب عليها في الدار الآخرة سبحانه وتعالى. وقد شرحنا الكلام هذا وقلنا: فيه خمسة عشر قولاً لأهل العلم، وأرجح الأقوال في قوله: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير). أي: هذا العمل الذي يعذب المخلوق بسببه لم يكن شديداً ولا قاسياً عليه في الدنيا، إذ كان بإمكانه أن يحترز منه، لكنه لما فرط وأهمل عذب بسبب التفريط في قبره. قال: (أما فتنة المسيح الدجال، فأنتم تعلمون أنه لن تكون فتنة أعظم منذ أن خلق الله تعالى آدم إلى قيام الساعة من فتنة المسيح الدجال، وقد تكلمنا عن المسيح مراراً وتكراراً بما يغني عن إعادته الآن. قال: أما غسل الخطايا بالماء والثلج فهذا تشبيه المراد منه: شدة التنقية أو شدة النقاء، فتقول: اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد. وكأن التقدير: اللهم اغسلني. أي: اللهم اغسل لي خطاياي واجعلني نقياً نقاءً تاماً منها كما إذا غسل الثوب الأبيض بالماء أو الثلج أو البرد. وفي تكملة الحديث: (ونق قلبي من الخطايا)، أي: اجعله طاهراً مطهراً كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، أي: من الوسخ. وأهل القبور لا يفتنون بـ الدجال؛ لأن الدجال يبعث قبل قيام الساعة، وأن من مات لا يبعث إلا مع البعث العام، ولا يكون البعث إلا بعد موت الدجال، بل وموت الخلائق جميعاً حتى الملائكة، وأول من تنشق عنه الأرض هو النبي عليه الصلاة والسلام، على خلاف بينه وبين موسى عليه السلام. والراجح: أن الأرض أول ما تنشق عن نبينا عليه الصلاة والسلام، فيجد موسى عليه السلام عند العرش فيقول النبي عليه الصلاة والسلام: (فلا أدري أصعق قبلي، أو أفاق من الصعقة قبلي؟). لكن الراجح من أقوال المحققين: أن الأرض أول ما تنشق عن نبينا عليه الصلاة والسلام. قال: [(ونق قلبي من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس)]، فانظر إلى النبي عليه الصلاة والسلام وهو الذي يدعو بهذا الدعاء: [(اللهم اغسلني من ذنوبي بالماء والثلج والبرد، ونق قلبي من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس)]، وقلبه منقى عليه الصلاة والسلام، وقصة شق الصدر التي هي من معجزاته عليه الصلاة والسلام ليست بخافية عنا، فقد انتزع من قلبه حظ الشيطان وملئوه إيماناً، فليس فيه إلا الإيمان بالله تعالى، لكن النبي عليه الصلاة والسلام الذي كان يدعو بهذا الدعاء، ويستمر على هذا الدعاء إنما يتأدب مع ربه بإظهار الذل والخضوع والانكسار بين يديه سبحانه وتعالى. كما أن من الفوائد في هذا الحديث: أن النبي عليه الصلاة والسلام لما كان هو القدوة والإسوة أراد أن يدعو بهذا الدعاء ليعلم الأمة كيف تدعو الله تعالى، فقال: [(وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب)]. فهنا مجاز أيضاً، وهو أن النبي عليه

شرح الإمام النووي لحديث (اللهم فإني أعوذ بك من فتنة النار)

شرح الإمام النووي لحديث (اللهم فإني أعوذ بك من فتنة النار) قال: (وأما الكسل: فهو عدم انبعاث النفس إلى الخير وقلة الرغبة مع إمكانه). أي: هو ممكن أن يفعل الخير، لكن نفسه كسولة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من ذلك. قال الخطابي: (إنما استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من الفقر الذي هو فقر النفس لا قلة المال. قال القاضي: وقد تكون استعاذته من فقر المال والمراد الفتنة في عدم احتمال هذا المال وقلة الرضا به؛ ولذا قال: فتنة القبر، ولم يقل: الفقر، وقد جاءت أحاديث كثيرة في الصحيح بفضل الفقر). قال: (وأما العجز فهو: عدم القدرة على إتيان الفعل. وقيل: هو ترك ما يجب فعله والتسويف به، وكلاهما يستحب الاستعاذة منه). وأما استعاذته عليه الصلاة والسلام من الهرم فالمراد به الاستعاذة من الرد إلى أرذل العمر. أي: لو أن واحداً بلغ من العمر (60) أو (70) سنة، فإنه يستطيع أن يخدم نفسه، لكن في (80) أو (90) أو (100) يعجز حتى عن خدمة نفسه، فيحتاج إلى من يطعمه ويسقيه ويحمله ويقضي له حاجته وغير ذلك، وهذا بلا شك ثقل عظيم جداً، أسأل الله تعالى ألا يردنا وإياكم إلى أرذل العمر، قال: (وسبب ذلك ما فيه من الخرف واختلال العقل والحواس والضبط والفهم وتشويه بعض المناظر والعجز عن كثير من الطاعات والتساهل في بعضها. قال: (وأما استعاذته من المغرم وهو الدين فقد فسره صلى الله عليه وسلم في الأحاديث السابقة في كتاب الصلاة أن الرجل إذا غرم حدث فكذب، ووعد فأخلف. أي: إذا كان الرجل مديناً فإنه إذا حدث كذب). فيقول للدائن مثلاً: والله العظيم أنا لي فلوس عند فلان، فإذا أعطاني سأعطيك، وهو في الحقيقة ليس له عند فلان شيئاً، وربما إذا أتاه الدائن وطرق بابه قال لولده أخرج فقل له: أبي ليس موجوداً، فيخرج الابن فيقول له: أبي يقول لك: هو ليس في البيت! فالولد صادق لا يعرف الكذب، فهو ينقل الكلام حرفياً؛ لأنه ملتزم بالأمانة. قال: (إن الرجل إذا غرم حدث فكذب، ووعد فأخلف؛ ولأنه قد يمطل المدين صاحب الدين؛ ولأنه قد يشتغل به قلبه، وربما مات قبل وفائه فبقيت ذمته مرتهنة به) أي: بهذا الدين. وأما استعاذته عليه الصلاة والسلام من الجبن والبخل فلما فيهما من التقصير عن أداء الواجبات، والقيام بحقوق الله تعالى، وإزالة المنكر، والإغلاظ على العصاة -لا يستطيع أن يفعل ذلك لأنه جبان- ولأنه بشجاعة النفس وقوتها المعتدلة تتم العبادات، ويقوم بنصر المظلوم والجهاد، وبالسلامة من البخل يقوم بحقوق المال وينبعث للإنفاق والجود ولمكارم الإخلاق، ويمتنع من الطمع فيما ليس له. قال العلماء: (واستعاذته عليه الصلاة والسلام من هذه الأشياء كلها لتكمل صفاته في كل أحواله وشرعه أيضاً تعليماً). أي: أنه قال ذلك من باب التعليم للأمة كي يدعون الله تعالى. قال: (وفي هذه الأحاديث دليل لاستحباب الدعاء والاستعاذة من كل الأشياء المذكورة وما في معناها، وهذا هو الصحيح الذي أجمع عليه العلماء وأهل الفتاوى في الأمصار، وذهبت طائفة من الزهاد وأهل المعارف إلى أن ترك الدعاء أفضل؛ استسلاماً للقضاء). وهذا تنطع لا يكون إلا من الزهاد، إذ إنه أحياناً تأخذهم غفلة الزهد أن يتكلموا بالحق، فيتكلمون بغيره ظناً منهم أنه دين، كما يقول الصوفية مثلاً: حمل المتاع في الأسفار قادح في التوحيد. يعني: أنا ممكن أن أسافر من هنا إلى مكة من أجل أن أحج، وأوقن بأن الله تعالى سيطعمني ويسقيني في الطريق، وأنا راكب على دابتي فلماذا أمشي راجلاً؟ هل هذا دين؟! هم يقولون هذا. كما يقولون: حمل الأزواد في الأسفار مخل بالتوكل! إذاً فأين الأخذ بالأسباب؟! قال: (وذهبت طائفة من الزهاد وأهل المعارف إلى أن ترك الدعاء أفضل؛ استسلاماً للقضاء). مع أن الدعاء عبادة، وهو من قضاء الله تعالى وقدره، فكيف نتركه؟! (وقال آخرون منهم: إن دعا للمسلمين فحسن، وإن دعا لنفسه فالأولى تركه). لكن النبي صلى الله عليه وسلم في نفس الأحاديث كان يدعو لنفسه. قال: (وقال آخرون منهم -أي: من الزهاد-: إن وجد في نفسه باعثاً للدعاء استحب وإلا فلا). أي: عندما ينشط يدعو وإلا فلا. قال: (ودليل الفقهاء -أي: القائلون باستحباب الدعاء-: هو ظواهر القرآن والسنة في الأمر بالدعاء وفعله، والأخبار عن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين بفعله).

باب التعوذ من العجز والكسل وغيره

باب التعوذ من العجز والكسل وغيره قال الإمام النووي: الباب الخامس عشر: (باب: التعوذ من العجز والكسل وغيره).

شرح حديث التعوذ من فتنة المحيا والممات

شرح حديث التعوذ من فتنة المحيا والممات [حدثنا يحيى بن أيوب، حدثنا ابن علية -هو إسماعيل بن إبراهيم بن علية، وعلية أمه- قال: وأخبرنا سليمان التيمي، حدثنا أنس بن مالك قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والهرم، والبخل، وأعوذ بك من عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات)]. ونحن قد ذكرنا كل الكلام في شرح الحديث السابق عدا فتنة المحيا والممات، وفتنة المحيا -أي: فتنة الحياة- إما أن تكون في الدين أو في الدنيا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ أن يفتن في حياته فتنة تتعلق بالدين أو تتعلق بالدنيا، فمثلاً: حبك للمال وشغفك وطلبك وانشغالك به فتنة من فتن الدنيا، فإذا حزت المال بين يديك فانشغلت به عن طاعة الله فهو من فتن الدنيا، وهكذا في كل فتنة نقول هذا الكلام. وأما فتنة الممات فقيل: المقصود بها: فتنة القبر، أو عذاب القبر، أو عذاب ما بعد الممات من فتنة البعث والنشور، والحساب، والجنة والنار، وغير ذلك. وقيل: -وهو الراجح- أن فتنة الممات هي: رؤية العبد مكانه من الجنة أو النار في لحظة الاحتضار، وهي أعظم فتنة يتعرض لها العبد، وهي آخر فتنة على الإطلاق يتعرض لها العبد قبل وفاته وقبل خروج الروح، فيرى مكانه من النار فيفتن فيه. ثم يقال له: هذا مكانك لولا أن الله أبدلك مكانه في الجنة. ويرى مكانه من الجنة فيسعد بذلك ويفرح فيقال له -أي تقول له الملائكة-: (هذا مكانك لولا أنك عملت كذا وكذا فقد أبدلك الله مكانه من النار). ثم يرى مكانه من النار، فحينئذ يكره لقاء الله تعالى فيكره الله تعالى لقاءه كما مر بنا، فهذه فتنة المحيا وتلك فتنة الممات، عصمنا الله تعالى وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن.

لطيفة إسنادية في حديث الاستعاذة من فتنة المحيا والممات

لطيفة إسنادية في حديث الاستعاذة من فتنة المحيا والممات قال: [وحدثنا أبو كامل الحجدري، حدثنا يزيد بن زريع، وحدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا معتمر -وهو ابن سليمان التيمي - كلاهما عن التيمي -أي: سليمان - عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله. غير أن يزيد ليس في حديثه قوله: (ومن فتنة المحيا والممات). قال: حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء الهمداني، أخبرنا ابن المبارك -وهو عبد الله بن المبارك المروزي - عن سليمان التيمي، عن أنس بن مالك: (عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه تعوذ من أشياء ذكرها. والبخل)]. أي: استعاذ بالله أن يكون بخيلاً. قال: [حدثنا أبو بكر بن نافع العبدي، حدثنا بهز بن أسد العمي، حدثنا هارون] وهو ابن موسى النحوي الأزدي العتكي؛ لأن هناك هارون من الطبقة السابعة، وهذا بصري والآخر كوفي، وكلاهما أعور، فالذي معنا هو: هارون بن موسى الأعور أخرج له البخاري ومسلم. وهناك هارون بن سعد الأعور أخرج له مسلم فقط. وكلاهما في طبقة واحدة، وهذا كوفي وذاك بصري. وهارون بن موسى النحوي الأزدي العتكي مولاهم البصري، ثقة، عالم بالقراءات، لكنه رمي بالقدر. وهارون بن سعد الأعور رمي بالرفض. يعني: كلاهما مرمي بشيء. وهكذا نفرق بينهم بالرواة وبالشيوخ والتلاميذ، وهذا رمي بالرفض، ولذا ليس من الإنصاف أن ترد أقوال المبتدعة، إنما الإنصاف إذا وافق قولهم الحق قبلناه، ومثله إذا وافق قول الكفار الحق قبلناه، وهذا مذهب السلف. والمبتدع يقبل قوله بشروط: الشرط الأول: ألا تكون بدعته مكفرة. الشرط الثاني: ألا يكون داعية إلى بدعته. أي: لا يكون رائداً في البدعة. الشرط الثالث: ألا تكون روايته خادمة لبدعته قط. والكلام فيه تفصيل، لكن على أية حال يكفي هذا. قال: [حدثنا شعيب بن الحبحاب -وهو أبو صالح البصري - عن أنس قال: (كان النبي عليه الصلاة والسلام يدعو بهؤلاء الدعوات: اللهم إني أعوذ بك من البخل والكسل وأرذل العمر)]. أي: أن يرد إلى عمر طويل جداً فيعجز معه عن خدمة نفسه. قال: [(وعذاب القبر، وفتنة المحيا والممات)].

باب في التعوذ من سوء القضاء ودرك الشقاء وغيره

باب في التعوذ من سوء القضاء ودرك الشقاء وغيره (باب في التعوذ من سوء القضاء ودرك الشقاء وغيره).

شرح حديث الاستعاذة من سوء القضاء

شرح حديث الاستعاذة من سوء القضاء قال: [حدثنا عمرو الناقد وزهير بن حرب، قالا: حدثنا سفيان بن عيينة، حدثني سمي -مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن هشام - عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من سوء القضاء، ومن درك الشقاء، ومن شماتة الأعداء، ومن جهد البلاء)]. (جَهد) بفتح وضم الجيم، والأولى: (جَهد البلاء) بالفتح. [قال عمرو -أي: عمرو الناقد - في حديثه: قال سفيان بن عيينة: أشك أني زدت واحدة منها]. أي: أن سفيان بن عيينة كان يقول: أنا لست متأكداً، يمكن أني زدت واحدة، لكن لا أعرف ما هي، وربما لم أزد، وإنما هو مجرد شك، وهذا الكلام نستفيد منه دقة المحدثين فيما يروونه. أي: أنه لا يستجيز أحدهم لنفسه أن يتكلم عن النبي عليه الصلاة والسلام بكلمة وهو يشك أنه قال أو لم يقل، إلا أن يبين أنه يشك أو غير ذلك.

شرح حديث: (من نزل منزلا ثم قال: أعوذ بكلمات الله التامات)

شرح حديث: (من نزل منزلاً ثم قال: أعوذ بكلمات الله التامات) قال: [حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا ليث، حدثنا محمد بن رمح -واللفظ له- أخبرنا ليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن الحارث بن يعقوب]. وهو الأنصاري مولاهم، والد عمرو بن الحارث، شيخ الليث، لكن الذي تخرج على يديه -أي: على يدي عمرو بن الحارث - هو عبد الله بن وهب. والحارث بن يعقوب والد عمرو هو مصري، لكنه نزل المدينة فقيل عنه: مولى الأنصار، وهو ثقة من عباد أهل مكة. قال: [أن يعقوب بن عبد الله -وهو يعقوب بن عبد الله بن الأشج، أبو يوسف المدني مولى قريش- حدثه أنه سمع بسر بن سعيد المدني العابد يقول: سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: سمعت خولة بنت حكيم السلمية]. وهي التي وهبت نفسها للنبي عليه الصلاة والسلام، وكانت تحت عثمان بن مظعون رضي الله عنه قبل وفاته. قال: [سمعت خولة -وقيل: خويلة بالتصغير- تقول: سمعت النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من نزل منزلاً -أي: دخل مكاناً آمناً آو غير آمن- ثم قال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك)]. هذا الكلام يريد رجالاً يعتقدون أن قوى الدنيا بأسرها لا يمكن أن تفعل شيئاً، إذ إن العقيدة دائماً تحتاج إلى رجل يقرأ ويخزن ما يقرأ في قلبه وليس في لسانه، أو يحفظ في عقله، فيقرأ الأثر من قلبه فيعقد عليه قلبه وعزمه، وإن وقع به مكروه فهو إما لخلل في اعتقاده، وإما ابتلاء من الله تعالى ليكفر عنه ذنباً وقع منه قبل هذا، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يعرف ذلك ويقوله، لكن ما حصل له هو ابتلاء من الله تعالى، ولذا إذا نزل أحدنا منزلاً، أو دخل خربة، أو مكاناً مظلماً، أو أتى إلى أحبابه وأصحابه فقال هذا الدعاء بعقيدة، فإنه لا يمكن أبداً أن يمد أحدهم يده عليه، أو يطول لسانه عليه إلا بقدر، والقدر هذا إذا تم يكون من أجل شيئين: إما مغفرة للذنب ولخلل في علاقته بالله عز وجل، فأراد الله تعالى أن يطهره منه، وهذا منزلة عظيمة كذلك، أو أن الله تعالى ابتلاه حتى يرفع درجاته. لكن الأصل أنك إذا نزلت منزلاً فقل: (أعوذ بكلمات الله التامة من شر ما خلق). أي: من شر كل مخلوق، ثم اعقد قلبك على أنه لا يستطيع أحد أن يمسك بشيء إلا بشيء أريد بك في السماء لرفع الدرجات أو لمغفرة الذنوب.

ذكر روايات وطرق أخرى لحديث الاستعاذة بكلمات الله التامات من شر ما خلق

ذكر روايات وطرق أخرى لحديث الاستعاذة بكلمات الله التامات من شر ما خلق قال: [وحدثنا هارون بن معروف وأبو الطاهر كلاهما عن ابن وهب -واللفظ لـ هارون -حدثنا عبد الله بن وهب قال: وأخبرنا عمرو بن الحارث، أن يزيد بن أبي حبيب والحارث بن يعقوب حدثاه عن يعقوب بن عبد الله بن الأشج، عن بسر بن سعيد، عن سعد بن أبي وقاص، عن خولة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا نزل أحدكم منزلاً فليقل: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، فإنه لا يضره شيء حتى يرتحل منه). قال يعقوب: وقال القعقاع بن حكيم الكناني المدني، عن ذكوان السمان أبي صالح، عن أبي هريرة أنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! ما لقيت من عقرب لدغتني البارحة). أي: لقد نزلت البارحة منزلاً فلدغتني عقرب، فهو يقول له: أنت لم تعرف الذي حصل البارحة؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: [(أما لو قلت حين أمسيت: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم تضرك)]. يعني: لا يمكن أن تلدغك. وتصور أن واحداً من الصحابة رضي الله عنه يقول هذا وهو معتقد أن العقارب والخفافيش وحشرات الأرض وهوامها ودوابها لا يمكن أن تقربه إلا بإذن الله، لذا فقد كان معظم الصحابة أهل بادية، والبادية معروفة بالحشرات السامة القاتلة، فالواحد منهم كان يقول كلمة ثم ينام على عقيدة أنه لا يمكن لأي شيء يأتيه. قال: [وحدثني عيسى بن حماد المصري، أخبرني الليث، عن يزيد، عن جعفر] رجال السند كلهم مصريون، فـ عيسى مصري، والليث مصري، ويزيد مصري، وجعفر وهو ابن ربيعة بن شرحبيل بن حسنة مصري. قال: [عن يعقوب أنه ذكر له أن أبا صالح السمان مولى غطفان أخبره أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رجل: (يا رسول الله! لدغتني عقرب). بمثل حديث ابن وهب]. قوله: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ من سوء القضاء، ودرك الشقاء، وشماتة الأعداء، وجهد البلاء) أما درك الشقاء فهو إدراك ما يشقى به المرء، والاستعاذة من سوء القضاء يدخل فيها سوء القضاء في الدين والدنيا والبدن والمال والأهل، وقد يكون ذلك في الخاتمة، وأما درك الشقاء فيكون أيضاً في أمور الآخرة والدنيا. ومعناه: أعوذ بك أن يدركني شقاء. أما شماتة الأعداء فهي: فرح العدو ببلية تنزل بعدوه. يقال: شمت -بكسر الميم وفتحها- فهو شامت واشمته غيره. وأما جهد البلاء فروي عن ابن عمر أنه فسره بقلة المال وكثرة العيال. وقال غيره: هي الحالة الشاقة. أما قوله: (أعوذ بكلمات الله التامات) قيل: معناه: الكاملات. أي: أعوذ بكلمات الله الكاملات التامات التي لا يدخلها نقص ولا عيب. وقيل: أعوذ بكلمات الله النافعة الشافية المانعة، والمراد بالكلمات هنا: القرآن الكريم. وفي هذا جواز الاستعاذة أو التعوذ أو الرقية بكلام الله عز وجل.

كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار - آداب النوم وأذكاره

شرح صحيح مسلم - كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار - آداب النوم وأذكاره لقد جاءت الشريعة الإسلامية بآداب وسنن على المسلم الحرص عليها، ومن ذلك ما جاءت به من سنن للنوم وأذكار، فليحرص كل مسلم على نيل ما ورد فيها من فضائل، وبذلك يحقق المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أمور حياته.

باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع

باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أما بعد: فما زال الكلام موصولاً عن الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، جعلنا الله تعالى وإياكم من أهلها، ومع الباب السابع عشر: قال الإمام النووي عليه رحمة الله: (باب: ما يقول عند النوم وأخذ المضجع). أي: ما يقول من أراد أن ينام ويأخذ مضجعه. والمضجع: هو المكان الذي يريد الإنسان أن ينام فيه.

شرح حديث البراء بن عازب فيما يقال عند النوم

شرح حديث البراء بن عازب فيما يقال عند النوم قال المصنف رحمه الله: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم -واللفظ لـ عثمان - قال إسحاق: أخبرنا، وقال عثمان: حدثنا جرير عن منصور عن سعد بن عبيدة -وهو أبو حمزة السلمي الكوفي - قال: حدثني البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أخذت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة)]. يعني: إذا أردت أن تنام فتوضأ وضوءك للصلاة. وقوله: (وضوءك للصلاة) يدل على أن المراد الوضوء الاصطلاحي لا الوضوء اللغوي؛ لأن الوضوء اللغوي هو الغسل، فلو أنك غسلت كفيك فقط لصح في اللغة أن يقال: إنك توضأت، ولو أنك غسلت وجهك فقط لصدق في اللغة أن يقال: إنك توضأت. وأما قوله: (فتوضأ وضوءك للصلاة) يعني: أن تتوضأ الوضوء الاصطلاحي المعروف، الذي تتوضأه لأجل الصلاة، ولا يلزم منه الصلاة، فلا يلزم من إحداث الوضوء إحداث الصلاة؛ لأن الوضوء عبادة مستقلة عن الصلاة، وهو شرط في صحتها. قال: [(ثم اضطجع على شقك الأيمن)]، يعني: نم على جنبك الأيمن. وهذا هو الأدب الثاني. فأول أدب: أن تكون على وضوء. والأدب الثاني: أن تنام على جنبك الأيمن. قال: [(ثم قل: اللهم إني أسلمت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت. واجعلهن من آخر كلامك، فإن مت من ليلتك مت وأنت على الفطرة)]، وفي رواية بزيادة: (وإن أصبحت أصبت خيراً). وفي رواية: (وإن أصبت أصبت خيراً). يعني: إن أصبت في نومك أو في يقظتك فهذه الإصابة خير من عند الله عز وجل. [قال -أي البراء بن عازب -: (فرددتهن لأستذكرهن)]. يعني: أراد أن يحفظ هذه الكلمات، فرددهن أمام النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه -أي: النبي عليه الصلاة والسلام- يخاطب البراء بن عازب ويقول له: إذا أخذت يا براء! مضجعك فافعل كيت وكيت وكيت، فأراد البراء ألا ينصرف من حضرة النبي عليه الصلاة والسلام إلا بعد أن يحفظ هذه الكلمات، فقال: (فرددتهن لأستذكرهن. فقلت: آمنت برسولك الذي أرسلت)]. مع أن النبي عليه الصلاة والسلام حفظه أولاً: (وبنبيك الذي أرسلت). فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا). أي: أنا ما قلت هذا. [(قل آمنت بنبيك الذي أرسلت)]، لا برسولك الذي أرسلت.

شرح روايات وطرق أخرى لحديث البراء فيما يقال عند النوم

شرح روايات وطرق أخرى لحديث البراء فيما يقال عند النوم قال: [وحدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا عبد الله -وهو ابن إدريس الأودي أبو محمد الكوفي - قال: سمعت حصيناً -وهو حصين بن عبد الرحمن السلمي أبو الهذيل الكوفي - عن سعد بن عبيدة عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر هذا الحديث، غير أن منصوراً -أي: في الطريق الأول- أتم حديثاً]. يعني: حديثه أطول من هذا الحديث. [وزاد في حديث حصين -أي: من طريقه-: (وإذا أصبح أصاب خيراً)]. يعني: إذا نام على هذه الكلمات وعلى هذه الهيئة والكيفية فإذا مات من ليلته مات على الفطرة. أي: على فطرة الإسلام والتوحيد، (وإذا أصبح أصاب خيراً) يعني: وفق لفعل الخير. قال: [وحدثنا محمد بن مثنى حدثنا أبو داود -وهو أبو داود الطيالسي - حدثنا شعبة -وهو ابن الحجاج العتكي البصري - ح وحدثنا ابن بشار -وهو محمد بن بشار المعروف بـ بندار - حدثنا عبد الرحمن وأبو داود -وعبد الرحمن هو ابن مهدي، وأبو داود الطيالسي - قالا -أي كلاهما-: حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة قال: سمعت سعد بن عبيدة يحدث عن البراء بن عازب: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر رجلاً إذا أخذ مضجعه من الليل)]، وفي طريق منصور قال: (يا براء! إذا أخذت مضجعك)، ولا يمنع أن يكون هذا القول وجه لغير البراء في حضرة البراء، كما أنه لا يمنع أن يكون البراء هو الذي سأل ماذا يقول وماذا يفعل إذا أراد أن ينام، فبين له ذلك النبي عليه الصلاة والسلام. فهذا الحديث ورد في نوم الليل؛ لقوله: (إذا أخذ مضجعه من الليل)، يعني: في الليل، وأما في نوم النهار فلا، ولقوله في الرواية الأولى: (فإن مت من ليلتك). فهذا يدل على أنه نوم الليل وإن لم يصرح في أول الرواية بأنه نوم الليل. قال: [(أن يقول: اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وألجأت ظهري إليك، وفوضت أمري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبرسولك الذي أرسلت)]. وهنا قال: (وبرسولك الذي أرسلت). وهذا يدل على تعدد الحوادث؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أنكر على البراء قوله: (وبرسولك الذي أرسلت)؛ لأنه علمه وبنبيك الذي أرسلت، ثم علم النبي عليه الصلاة والسلام غير البراء رواية: (وبرسولك الذي أرسلت). والمعلوم قطعاً أن كل رسول نبي وليس العكس، فليس كل نبي رسولاً، فالرسالة أعم من النبوة؛ ولذلك أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يوقف البراء على حقيقة لفظه الذي أراد أن يعلمه إياه، فلما أخطأ في ذلك رده وأنكر عليه، والنبي عليه الصلاة والسلام قد شهد له القرآن والسنة أنه رسول نبي. قال: [(فإن مات مات على الفطرة)]. ولم يذكر ابن بشار في حديثه: (من الليل)]. قال: [وحدثنا يحيى بن يحيى قال: أخبرنا أبو الأحوص -وهو سلام بن سليم الحنفي - عن أبي إسحاق -وهو السبيعي - عن البراء بن عازب قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل: يا فلان! إذا أويت إلى فراشك)]. أي: إذا ذهبت إلى فراشك. أي: فراش نومك. [بمثل حديث عمرو بن مرة]. وفسرناه بالنوم لأنه مذكور في الرواية الصريحة، والغالب لا يؤخذ به إلا عند الخلاف، فإذا جاءت الرواية توقفنا عندها. [غير أنه قال: (وبنبيك الذي أرسلت، فإن مت من ليلتك مت على الفطرة، وإن أصبحت أصبت خيراً)]. أي: وإن أصبحت حياً لم تمت فإن الله تعالى يوفقك إلى فعل الخير. [وحدثنا ابن المثنى وابن بشار -وهما محمد بن المثنى ومحمد بن بشار - وهما فرسا رهان في السبق والعلم والفضل وغير ذلك من أعمال البر والخير، والرواية كذلك. [قالا: حدثنا محمد بن جعفر -وهو المعروف بـ غندر البصري - حدثنا شعبة عن أبي إسحاق -وهو السبيعي - أنه سمع البراء بن عازب يقول: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً)، بمثله ولم يذكر: (وإن أصبحت أصبت خيراً)].

كلام النووي في حديث البراء فيما يقال عند النوم

كلام النووي في حديث البراء فيما يقال عند النوم يقول الإمام النووي: ((إذا أخذت مضجعك) معناه: إذا أردت النوم في مضجعك، فتوضأ). قال: (وفي هذا الحديث ثلاث سنن مهمة مستحبة ليست بواجبة: إحداها: الوضوء عند إرادة النوم، فإن كان متوضئاً كفاه ذلك الوضوء)، يعني: أنه لا يلزمه وضوء للنوم؛ لأنه إذا كان قد صلى العشاء مثلاً وهو باق على وضوئه الذي صلى فيه العشاء، فإن ذلك يكفيه؛ لأن الغرض أن ينام على طهارة، لا أن يخص النوم بوضوء، ويسميه وضوء نوم، بل إذا أراد النوم ولم يكن على وضوء توضأ، وإذا كان متوضئاً كفاه. قال: (لأن المقصود: النوم على طهارة مخافة أن يموت في ليلته، ولا شك أن من مات على طهارة خير وأفضل ممن مات على غير طهارة، وليكون أصدق لرؤياه)، والإنسان إذا نام متوضئاً ورأى رؤيا فإنها تكون صادقة بقدر الإمكان، يعني: رؤيا حقيقية. قال: (وهي أبعد من تلعب الشيطان به في منامه وترويعه إياه)؛ لوجود الطهارة، وذلك أنه إنما نام على سنة، وسيقوم عليها بإذن الله. قال: (الثانية: -أي: السنة الثانية- النوم على الشق الأيمن؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يحب التيامن)، وذلك في أمره كله صلى الله عليه وسلم، كما في حديث عائشة: (كان يحب التيامن في تنعله وترجله وفي أمره كله). وقوله: في تنعله: أي إذا لبس النعل والحذاء بدأ اللبس برجله اليمنى، وإذا أراد أن يخلع بدأ باليسرى، (وإذا رجل شعره -أي: سرح شعره- سرح الشق الأيمن أولاً). كما كان عليه الصلاة والسلام يحلق شقه الأيمن أولاً قبل الأيسر، وذلك لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يحب التيامن. قال: (ولأنه أسرع إلى الانتباه)، يعني: أن الشخص إذا نام على جنبه الأيمن كان أسرع انتباهاً من الذي ينام على شقه الأيسر، فمن نام على شقه الأيسر كان نومه ثقيلاً جداً، فما بالكم بمن ينام على بطنه؟ وقد (دخل النبي عليه الصلاة والسلام مسجده فوجد رجلاً قد اضطجع أو انبطح على بطنه فضربه بقدمه وقال: من هذا؟ قالوا: هذا فلان يا رسول الله! قال: أما علمت أن هذه ضجعة الشيطان). أي: هذه نومة الشيطان وليست نومة بني آدم، فمن نام على بطنه ففيه شبه من الشيطان في هديه في نومه. قال: (الثالثة: ذكر الله تعالى؛ ليكون خاتمة عمله). يعني: لا ينام المرء إلا على ذكر، حتى يكون آخر عمله الذي عمله مؤخراً ثم مات بعده من ليلته هو ذكر الله تعالى، والأعمال بالخواتيم، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالخواتيم). وقد قرأت بحثاً علمياً لأحد الأطباء المبرزين ذكر فيه: أن النوم على الشق الأيسر يضر بالقلب. وقال: من أخطر الأشياء إسراعاً لفساد القلب أو تضرره هو النوم على الشق الأيسر؛ لأن هذا لا يجعل القلب يعمل بصورة طبيعية، وإنما يتأثر بضغطه في الفراش. ولا بأس من ضم هذا الكلام إلى كلام أهل العلم في شرح هذا الحديث. النائم ينادي ويناجي ربه بكلمات مباركات، وهي: (إني أسلمت وجهي إليك). وفي رواية: (أسلمت نفسي إليك). فالوجه والنفس سواء؛ لأن الوجه يدل على النفس، والنفس تدل على الوجه، فكلاهما بمعنى واحد. (أي: استسلمت وجعلت نفسي منقادة لك، طائعة لحكمك. قال العلماء: يقال: سلم وأسلم واستسلم بمعنى واحد). قال: (ومعنى: (ألجأت ظهري إليك). أي: توكلت عليك واعتمدتك في أمري كله كما يعتمد الإنسان بظهره إلى من يسنده). يعني: يا رب! ليس لي سواك، وكل اعتمادي وتوكلي عليك. قال: (وقوله: (رغبة ورهبة إليك) أي: طمعاً في ثوابك وخوفاً من عذابك)، والعبد لا ينجو بين يدي الله عز وجل إلا بهذين، بأن يعبد ربه بجناحي الخوف والرجاء، الخوف من عقابه وناره وعذابه، والرجاء لرحمته وسعة فضله وجنته وثوابه في الدنيا والآخرة، وغير ذلك مما يرجوه العبد من ربه. وهذا يُرد به على من قال من الصوفية: إنه لم يعبد ربه إلا بجناح الرجاء، وأنه لا يخاف الله تعالى؛ لأن الله تعالى حبيبه، والحبيب لا يعذب حبيبه، وقال: إن الخوف نقص في العبادة. والذي قال هذا هي رابعة العدوية، ثم ذكرت لهذا مثلاً وقالت: إن الولد إذا خاف من أبيه فإن تبجيله وتعظيمه لأبيه لا يكون تبجيلاً وتعظيماً صحيحاً. فقاست الخوف من الله عز وجل على الخوف من المخلوقين، والقياس غير صحيح؛ لوجود الفارق، وهذا الفارق هو تماماً نفس الفارق بين الخالق والمخلوق. والنبي عليه الصلاة والسلام هو الذي كان يقول هذا الكلام إذا أخذ مضجعه، فقد كان يقول: (رهبة ورغبة إليك). فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يخاف الله تعالى، كما أنه كان يرجو الله تعالى، وعلى من دون النبي عليه الصلاة والسلام رابعة وخامسة وسادسة وغيرها أن تكون أشد خوفاً من الله عز وجل من النبي عليه الصلاة والسلام، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أما إني أخشاكم لله وأتقاكم له)، وفي رواية: (إني أعرفكم بالله وإني أخشاكم لله وأتقاكم له). وكلما ازداد المرء علماً بالله عز وجل ازداد منه خوفاً وقرباً

شرح حديث: (أن النبي كان إذا أخذ مضجعه قال: اللهم باسمك أحيا)

شرح حديث: (أن النبي كان إذا أخذ مضجعه قال: اللهم باسمك أحيا) [حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي وهو معاذ بن معاذ العنبري حدثنا شعبة عن عبد الله بن أبي السفر -وهو الثوري الكوفي - عن أبي بكر بن أبي موسى -وهو الأشعري أخو أبي بردة الأشعري - عن البراء بن عازب: (أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا أخذ مضجعه قال: اللهم باسمك أحيا وباسمك أموت)]. هذا هو الذكر الثاني فقد كان هو نفسه عليه الصلاة والسلام إذا أخذ مضجعه يعني: آوى إلى فراشه. [قال: (اللهم باسمك أحيا وباسمك أموت، وإذا استيقظ قال: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور)]؛ لأن النوم هو الموتة الصغرى؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (باسمك اللهم أموت). يعني: أنام. (وباسمك أحيا) إن أردت لي الحياة. (وإذا قام من نومه قال: الحمد لله الذي أحيانا -يعني: من الممات- بعدما أماتنا). فشبه النوم في أوله وآخره بأصل الخلق والبعث بعد الموت، ثم أجزل اللفظ فقال: (وإليك النشور). والنشور هو البعث بعد الموت، فشبه النبي عليه الصلاة والسلام النوم بالموت، وأن المرء إذا نام ثم استيقظ فكأنه مات ثم بُعث يوم القيامة للحساب والنشر والجزاء والعقاب والثواب، قال: (الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور). وهذا وارد في أذكار الليل؛ ولذلك بوب عليه الإمام النووي بقوله: (ماذا يقول من أراد أن يأخذ مضجعه) يعني: من الليل.

شرح حديث: (اللهم أنت خلقت نفسي وأنت توفاها)

شرح حديث: (اللهم أنت خلقت نفسي وأنت توفاها) قال: [حدثنا عقبة بن مكرم العمي وأبو بكر بن نافع قال: حدثنا غندر حدثنا شعبة عن خالد -وهو خالد بن الحارث بن عبيد الهجيمي أبو عثمان البصري - قال: سمعت عبد الله بن الحارث -وهو أبو الوليد البصري نسيب ابن سيرين - يحدث. عن عبد الله بن عمر أنه أمر رجلاً إذا أخذ مضجعه قال: (اللهم خلقت نفسي وأنت توفاها)]. وهذه هي العبودية، فهي إثبات أن الله تعالى هو الرب الخالق المحيي المميت، لا خالق غيره، ولا يحيي ولا يميت غيره سبحانه وتعالى، وفيه إثبات أن الله تعالى هو الذي خلق الأنفس، وهو الذي يتوفاها، أي: ينيمها أو يميتها. قال: [(وأنت توفاها، لك مماتها ومحياها)]. أي: لك ما تعمله في حياتها وما تعمله في مماتها، أي: في نومها، وهذا يشهد له قول إبراهيم عليه السلام الذي جاء في كتاب الله عز وجل في قوله تعالى: {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء:81]. قال: [(إن أحييتها فاحفظها)]، أي: إن كتبت لها الحياة بعد الموت -أي: اليقظة بعد النوم- والاستيقاظ من هذا النوم فاحفظها، وفي رواية: (فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين). قال: (وإن أمتها فاغفر لها)، أي: وإن أمت نفسي فاغفر لها، [(اللهم إني أسألك العافية)]. والعافية عند الاطلاق تشمل الدين والدنيا، فالعافية في الدين أن يعان المرء على طاعة الله عز وجل، والعافية في الدنيا أن يجتنب المرء الحرام ويحرص على الحلال. [(فقال له رجل: أسمعت هذا من عمر؟)] يعني: قال أحدهم لـ عبد الله بن عمر: أهذا الكلام الذي أمرت به فلاناً من الناس سمعته أنت من أبيك؟ أي: من عمر -[(فقال: من خير من عمر، من رسول الله صلى الله عليه وسلم)]، يعني: ما سمعت هذا الكلام من عمر، وإنما سمعته من رجل هو أخير وأفضل من عمر، بل ومن ملء الأرض من مثل عمر وأبي بكر؛ لأنه خير الخلق أجمعين عليه الصلاة والسلام. وهذا يدل على تمام وكمال إيمان عبد الله بن عمر؛ لأنه يحب النبي عليه الصلاة والسلام أكثر من حبه لنفسه ولأبيه وماله وولده والناس أجمعين، كما قال عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده وماله والناس أجمعين). وكان بإمكانه أن يقول: لا، بل سمعته من النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما أراد أن يثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام خير وأحب إلى قلبه من أبيه، وفي ذلك إثبات لكمال إيمان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. [قال ابن نافع في روايته عن عبد الله بن الحارث: ولم يذكر: سمعت].

شرح حديث أبي هريرة فيما يقال عند النوم

شرح حديث أبي هريرة فيما يقال عند النوم قال: [حدثني زهير بن حرب حدثنا جرير عن سهيل -وهو ابن أبي صالح السمان - قال: (كان أبو صالح يأمرنا إذا أراد أحدنا أن ينام)]. وهنا نكتة ظريفة جداً: وهي أن سهيل بن أبي صالح هو ابن لـ أبي صالح السمان المسمى بـ ذكوان كان يقول: كان أبو صالح إذا أراد أحدنا أن ينام -يعني: إذا أراد أحد أبنائه أن ينام- أمره بكيت وكيت وكيت وهذا يدل على قيام السلف الصالح رضي الله عنهم بحسن تربية أبنائهم، وعدم تركهم حتى في لحظة نومهم، فكان أبو صالح السمان يأمر بنيه إذا أرادوا أن يناموا أن يناموا على السنة، وإذا قاموا أن يقوموا كذلك على السنة وعلى توحيد لله عز وجل. قال سهيل: كان أبو صالح -أي: كان أبوه- إذا أراد أحدهم أن ينام [يأمره أن يضطجع على شقه الأيمن، ثم يقول: (اللهم رب السماوات ورب الأرض ورب العرش العظيم)]. وكل هذه مخلوقات، فالسماوات مخلوقة، والأرضين السبع مخلوقة، وكذلك عرش الرحمن تبارك وتعالى مخلوق، ولا خالق إلا الله عز وجل، فكأنه أراد أن يثبت في هذا الحديث كمال الربوبية لله عز وجل، وأن الله تعالى هو رب كل شيء ومليكه، وأن كل ما دون الله عز وجل مخلوق وخالقه هو الله. وقوله: (اللهم رب السماوات السبع والأرضين ورب العرش العظيم)، كأن التقدير: رب السماوات وما فيهن والأرضين وما فيهن ومن فيهن، فإن الله تبارك وتعالى هو الذي خلق الخلق جميعاً. قال: [(ربنا ورب كل شيء)]، والشيء يطلق على العاقل وغير العاقل، يعني: أن الله تعالى هو الذي خلق الخلق أجمعين. قال: [(فالق الحب والنوى)]، أي: الخالق للحب والنوى، والمدبر لكل شيء مهما دق وجل، يعني: مهما كان صغيراً دقيقاً، وربما لا يكاد يُرى إلا بأحدث المناظير؛ فإن الله تبارك وتعالى هو الذي خلق كل هذا. قال: [(ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان)]. فالله تبارك وتعالى هو الذي أرسل الرسل، وأنزل معهم الكتب، فأنزل مع موسى عليه السلام التوراة، وأنزل الإنجيل مع عيسى، وأنزل الفرقان مع محمد عليه الصلاة والسلام. قال: [(أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته)]، وفي رواية: (من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها)، يعني: أنت قادر عليها ومتحكم فيها، وأنتم تعلمون أن الله تعالى على كل شيء قدير، فعلى العبد أن يستجير بربه أن ينجيه من شر كل ذي شر، والله تبارك وتعالى قادر عليه وآخذ بزمام أمره ومالك لناصيته، فإن هذه الثعابين والحشرات والعقارب والحيات وغيرها أشياء، وهي كذلك ذوات، وبإمكانها أن تؤذي هذا النائم، ولو قال المرء هذا قبل نومه فإن هذه الأشياء لو رتعت حوله بعد ذكره لهذا الدعاء فإنها إن شاء الله تعالى لا تضره. وقوله: (أعوذ بك) أي: ألجأ إليك يا رب! أن تنجيني من شر كل شيء أو دابة أنت آخذ بناصيته أو بناصيتها. [(اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء)]، أي: أنت الأول قبل أن تخلق الخلق، وقبل أن تخلق السماوات والأرض، فإن الله تبارك وتعالى أول بلا ابتداء، أي: لا بداية له؛ لأن كل شيء له بداية، مخلوق وحادث، والله تبارك وتعالى لا يلحقه الحدث، وهذا قول: لا يرضاه السلف، وكذلك لا نرضاه نحن، فإن كل ما لا يرضاه السلف لا نرضاه نحن كذلك في ديننا ولا دنيانا، ولكني أردت مزيد بيان أن كل شيء له أول وله بداية فإنما هو مخلوق، إلا الله عز وجل، فإنه الأول بلا ابتداء، وهو الآخر كذلك بلا انتهاء، وهو الظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء. قال: (وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين وأغننا من الفقر). وقد ورد في بعض روايات هذا الحديث: أن من قال هذا الحديث قضى الله تعالى عنه دينه، ولم يحوجه إلى أحد. يعني: أغناه عن الناس. [وكان يروي ذلك عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم]، أي: أن الذي يروي هذا عن أبي هريرة هو أبو صالح السمان، وكأن السند عن سهيل عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (اللهم رب السماوات ورب الأرض ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين وأغننا من الفقر). وأبو صالح السمان كان يأمر أولاده إذا أرادوا أن يناموا أو يأخذوا مضجعهم أن يقولوا هذه الكلمات ولا يتركهم ينامون حتى يقولوها؛ ليحفظهم الله عز وجل بهذه الكلمات المباركا

شرح روايات وطرق أخرى لحديث أبي هريرة فيما يقال عند النوم

شرح روايات وطرق أخرى لحديث أبي هريرة فيما يقال عند النوم قال: [وحدثني عبد الحميد بن بيان الواسطي قال: حدثنا خالد الطحان عن سهيل عن أبيه أبي صالح السمان عن أبي هريرة قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أمراً إذا أخذنا مضجعنا أن نقول:) ثم ذكر الحديث بمثل حديث جرير -السابق- وقال: (من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها)، يعني: لم يقل: (من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته). والمعنى واحد. [وحدثنا أبو كريب محمد بن العلاء الهمداني الكوفي حدثنا أبو أسامة - حماد بن أسامة الكوفي -، ح وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالا: حدثنا ابن أبي عبيدة -وهو محمد بن أبي عبيدة بن معن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود الهذلي المسعودي، واسم أبيه عبد الملك - قال: حدثنا أبي -أي: عبد الملك - كلاهما عن الأعمش، يعني: عبد الملك وأبي أسامة كلاهما يروي عن الأعمش، وهو سليمان بن مهران الكوفي، وهذا الإسناد كله كوفي إلا أبي صالح مدني، وأبو هريرة كذلك دوسي مدني، ولكن الحديث انتقل إلى أهل الكوفة عن طريق رحلة أبي صالح من المدينة إلى الكوفة؛ لأن أبا صالح السمان إنما لُقب بالسمان لأنه كان يجلب السمن والزيت من المدينة ويبيعه في الكوفة، وكان إذا نزل الكوفة نزل في بيت الأعمش، فهو من أجل شيوخ الأعمش. [عن أبي هريرة قال: (أتت فاطمة النبي صلى الله عليه وسلم تسأله خادماً]. وفاطمة ابنة النبي عليه الصلاة والسلام، وكانت متزوجة علي بن أبي طالب رضي الله عنه. [(فقال لها: قولي: اللهم رب السماوات السبع)]، إلى آخر الحديث. وعندما كنت طفلاً في الابتدائية كان أحد الجيران في قريتي أخرساً لا يسمع ولا يتكلم، وكان ينام في بيته المجاور لنا، وفي أحد الأيام خرج عليه ثعبان عظيم جداً وأحاط برقبته، ولم يستطع أحد أن يتعامل معه، وظل هذا الثعبان يشتد عليه ويشتد حتى مات، وقد تذكرت هذه القصة اليوم، فأيقنت -وأنا موقن من غير عمل. أي: من غير تجارب- ببركة قول الله عز وجل وقول نبيه عليه الصلاة والسلام، فقلت: سبحان الله! لو كان أحداً علم أهل القرى والريف كيف ينامون وكيف يستيقظون لما حدث مثل هذا. [(إذا أوى أحدكم إلى فراشه فليأخذ داخلة إزاره فلينفض بها فراشه وليسم الله، فإنه لا يعلم ما خلفه بعده على فراشه)]، أي: لا يعلم ماذا ترك في فراشه الذي نام فيه آنفاً. (فإذا أراد أن يضطجع فليضطجع على شقه الأيمن وليقل: سبحانك اللهم ربي، بك وضعت جنبي وبك أرفعه)، أي: كأنه أراد أن يقول: يا رب! لا حول لي ولا قوة إلا بك، بك وضعت جنبي وبك أرفعه، فلا يمكن أبداً لمن أراد أن يضع جنبه بغير إرادة الله أن يضعه، كما أن من نام وأراد أن يقوم في ساعة معينة، والله لم يرد له القيام في هذه الساعة لا يستطيع أن يقوم. وقوله: (بك وضعت جنبي)، أي: بحولك وقوتك وطولك وضعت جنبي لا بحولي؛ لأنه لا حول لي ولا قوة لي ولا طول لي إلا حولك وقوتك وطولك. قال: [(إن أمسكت نفسي فاغفر لها)]، أي: وإن قبضتني وأمتني فاغفر لي أو لها. (وإن أرسلتها)، أي: وإن أرسلت نفسي. [(فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين)]، وقيد العبادة هنا بالصالحين؛ ليطلب من الله عز وجل أن يعامله معاملة أهل الصلاح. [وحدثنا أبو كريب حدثنا عبدة -وهو ابن سليمان - عن عبيد الله بن عمر العمري بهذا الإسناد، وقال: (ثم ليقل: باسمك ربي وضعت جنبي، فإن أحييت نفسي فارحمها)].

شرح حديث أنس فيما يقال عند النوم

شرح حديث أنس فيما يقال عند النوم قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة عن ثابت البناني -أي: ابن أسلم البناني - عن أنس رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه قال: الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا، فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي)]. وهذا يقال كذلك بعد الفراغ من الطعام، وبعد الفراغ من الشراب، وعند النوم. وأعظم كلمة يتقرب بها العبد إلى مولاه كلمة الحمد؛ ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام في الصحيح: (إن الله تعالى ليرضى من عبده -واللام للتوكيد- أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، وأن يشرب الشربة فيحمده عليها). فشكر الطعام الحمد، وشكر الشراب الحمد؛ ولذلك سن النبي عليه الصلاة والسلام لمن فرغ من طعامه أن يحمده، وأن يقول فقط: (الحمد لله)، يعني: إذا وضع أمامك أشهى المأكولات وأفضل الأطعمة فإن الله تعالى ينتظر منك كلمة واحدة فقط، وهي أن تحمده على هذه النعمة؛ لأن الحمد إقرار بأن النعم من عند الله عز وجل، وهذا هو مراد الله تعالى من خلقه أن يقروا له بأنه الخالق الباري. [(وكان إذا أوى إلى فراشه قال: الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا)]. لأن الطعام من عند الله عز وجل وكذلك الشراب. (وكفانا). أي: كفانا الشر، أو كفانا مئونة الحياة، أو كفانا الأذى، أو كفانا كل شيء، أي: في ديننا ودنيانا. (وآوانا) أي: رحمنا، أو تكون بمعنى المأوى وهو السكن، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: [(فكم ممن لا كافي لهم ولا مؤوي)]، يعني: كم من الخلق، وهذا والله صحيح، فلو دخلت محطة قطار مثلاً أو شيئاً من هذا القبيل، فإنك تجد الناس كلهم ينامون على الرصيف، وأنت عندك بيت، فإذا ركبت سيارة ففي خمس دقائق تكون في البيت، وتنام على السرير مرتاحاً، أفلا تستشعر نعمة الله عليك؟ وهناك من الشباب من يرى نفسه جميلاً وشعره ناعماً، وربما يكون أصفر وعينيه خضراوين، ويقول: السنة أن أسرح شعري على اليمين والشمال وأعمل فارقاً في نصف رأسي، ونحن سنوافقه على ذلك إذا كانت نيته صالحة، وينوي الاتباع، ولكن إذا كانت نيته الاتباع فليكمل الاتباع بلبس العمامة. فعلى الشخص أن يستشعر نعمة الله عز وجل عليه، وأنه مكفي وغيره غير مكفي، وأنه له مأوى وغيره لا مأوى له. وأذكر أني مرة في سنة (1978هـ) جئت إلى القاهرة، وكان لي أقارب، فذهبت إلى أخي الذي كان يسكن في كلية دار العلوم، فوجدته قد كتب ورقة على الباب أنه مسافر وسيأتي بعد ثلاثة أيام، وكتب تاريخ ذلك اليوم، مما يعني: أني سأنتظر ثلاثة أيام، فذهبت إلى عمتي، فوجدت عمتي قد كتبت ورقة على الباب بأنها سافرت، فعدت إلى بعض أصحاب أخي الذين يعرفونه، فلم أجد أحداً، وكنت أريد أن أنام بأي شكل، فجئت إلى ابن عمتي وكان يعمل في شيراتون، وكتب أنه ذهب إلى العمل، وسيأتي الساعة العاشرة صباحاً، وأنا لم أنم إلى تلك اللحظة، فصعدت إلى الدور الأخير في الطالبية في شارع صبري، فوجدت شقة جديدة لازالت تتشطب وبها رمل، وكان معي شنطة فيها كتب، فقلت: أعمل هذه الكتب وسادة وأمهد هذا الرمل على شكل سرير، وأنام على الرمل وأضع كتبي تحت رأسي، ورضيت بهذه الحال، فجاء صاحب العمارة وهي مفتوحة وليس فيها أبواب، وقال لي: يا فلان! قلت له: نعم، قال: أتظن أننا فتحنا العمارة لوكندة أو ماذا؟ قلت له: أصل الحكاية. قال لي: لا أريد أن أسمع، انزل، فنزلت، وذهبت إلى مسجد عباد الرحمن الذي هو على نفس الشارع، قبل صلاة العشاء، ولم أكن ناوياً صلاة المغرب ولا العشاء؛ لأنني لا أستطيع نهائياً، وقلت: بعد أن آخذ قسطاً من النوم -وأنا على سفر- أقوم وأجمع، فنزلت قبل العشاء بحوالي نصف ساعة، فصليت المغرب وأسندت ظهري على الحائط كي أرتاح ونمت، فجاء الرجل الخادم وقال: هل ستصلي أم لا؟ فقلت له: نعم، فقمت وتوضأت وصليت العشاء مع الناس، وبعد العشاء ذهبت إلى هذا الرجل وقلت له: أغلق علي باب المسجد، قال لي: لماذا؟ قلت له: أريد أنام هنا إلى الفجر، أصلاً أنا. قال لي: لا لا، لا أصل ولا فصل، فمن يضمن لي، أخشى إن تركتك أن آتي وقد سرقت الميكرفون، وسرقت الأشرطة، وسرقت كذا. قلت له: يا عم! والله أنا لست من هذا الصنف أبداً، أنا رجل محترم وابن ناس، قال لي: أنا لا أعرف، ولا يمكن أبداً. فخرجت من المسجد وأنا لا أستطيع أن أضع رجلي على الأرض، فاستأجرت سيارة من موقف السيارات إلى أن وصلت إلى مسجد الحسين كي أنام لا لأصلي، فذهبت إلى هناك ونمت إلى الفجر، ولما بدأ المقرئ يقرأ استيقظت، فالمسجد مفتوح طوال الليل، وكنت أتصور أن الحمامات داخل المسجد، فدخلت الغرفة المباركة على اعتبار أنها حمامات، لأنني أبحث عن الحمام، فإذا بقلبي ينقبض، وخرج لي شخص ذراعه لا يقل عن مائة وخمسين كيلو، فقلت له: أين الحمامات؟ فقال: الحمامات في الخارج، اخرج، فخرجت وأنا خائف منه، ولما كنت خارجاً أمسكني في رقبتي مسكة أفقدتني النور تماماً

باب التسبيح أول النهار وعند النوم

باب التسبيح أول النهار وعند النوم

شرح حديث علي فيما يقوله إذا أخذ مضجعه

شرح حديث علي فيما يقوله إذا أخذ مضجعه قال: [عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (أن فاطمة اشتكت ما تلقى من الرحى في يدها)، يعني: من طحن الحب بالرحى، فقد كانت تجد صعوبة أو أذى في يدها. [وأتى النبي صلى الله عليه وسلم سبي فانطلقت فلم تجده]، أي: فانطلقت فاطمة فلم تجده، (ولقيت عائشة)، أي: في بيته عليه الصلاة والسلام، (فأخبرتها، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته عائشة بمجيء فاطمة إليها، فجاء النبي عليه الصلاة والسلام إلينا -أي: في بيت علي بن أبي طالب - وقد أخذنا مضاجعنا -يعني: قد تهيئا للنوم- فذهبنا نقوم)]، أي: هممنا أن نقوم لاستقباله عليه الصلاة والسلام، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: [(على مكانكما -يعني: على ما أنتما عليه- فقعد بيننا حتى وجدت برد قدمه)]. وفي رواية البخاري: (حتى وجدت برد قدميه على صدري)، ثم قال: [(ألا أعلمكما خيراً مما سألتما؟ قالت: بلى يا رسول الله! قال: إذا أخذتما مضاجعكما أن تكبرا الله أربعاً وثلاثين)] وفي الرواية الأولى: (قولي: اللهم رب السماوات السبع ورب الأرض)، إلى آخر الحديث، وهنا يعلمهما أدباً آخر وذكراً آخر يختلف عن الذكر السابق [(أن تكبرا الله أربعاً وثلاثين، وتسبحاه ثلاثاً وثلاثين، وتحمداه ثلاثاً وثلاثين، فهو خير لكما من خادم)]. بنفس الترتيب أو يختلف؛ لأنه قد ورد في رواية أخرى باختلاف، فقال: (أن تسبحا ثلاثاً وثلاثين، وتحمدا ثلاثاً وثلاثين، وتكبرا أربعاً وثلاثين). فإما أن يسبق التكبير أو الحمد، وقد جاء في حديث النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا إله إلا الله، كلمات أربع لا يضرك بأيهن بدأت). ولكن هذا في الذكر بعد الصلاة وليس في النوم. وأما ذكر النوم فيختلف عن الذكر بعد الصلاة بأن التكبير فيه أربع وثلاثون، وأما التكبير في أذكار ما بعد الصلاة فهو ثلاث وثلاثون، وتمام المائة هو التهليل لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وفي رواية بغير قوله: يحيي ويميت. والشاهد من هذا: أن النبي عليه الصلاة والسلام علم ابنته وزوج ابنته -وهو ابن أخيه علي رضي الله عنه- أن التكبير والتحميد والتسبيح عند أخذ المضجع هو خير لهما من خادم، مع أن الظاهر للناس أن الخادم يريح المخدوم، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن استعمال الذكر خير من استعمال الخادم. وفي رواية: [(إذا أخذتما مضجعكما من الليل)]، وهذا يدل على أنه ذكر من أذكار النوم بالليل. وعن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو حديثه السابق، وفيه: [(قال علي: فما تركته منذ سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم)]، يعني: ما تركت هذا الذكر منذ أن نصحنا وأمرنا به النبي عليه الصلاة والسلام. [قيل له: (ولا ليلة صفين؟)] يعني: ما تركته حتى في ليلة الحرب التي كانت بينك وبين أهل الشام في موقعة صفين؟ قال: (ولا ليلة صفين). وهذا يدل على شدة تمسك الصحابة رضي الله عنهم بالذكر والدعاء حتى في أحلك المواقف. والنبي عليه الصلاة والسلام كان أحياناً يرشد في معمعة الجهاد والقتال وبريق السيوف بسنن لو أننا نصحنا بها الآن في وقت السلم لقيل لنا: إن هذه من توافه الأمور، وليس في الدين توافه ولا قشور ولا لباب، فدين الله تبارك وتعالى كله دين، وهو على مراتب وشعب، وبعضها أعلى من بعض كما في حديثه عليه الصلاة والسلام: (الإيمان بضع وستون -أو بضع وسبعون- شعبة أعلاه لا إله إلا الله، وأدناه إماطة الأذى عن الطريق). فليحذر الإنسان أن يستهين بقول لله تعالى أو بقول للرسول صلى الله عليه وسلم. [وعن أبي هريرة: (أن فاطمة أتت النبي صلى الله عليه وسلم تسأله خادماً، وشكت العمل، -يعني: اشتكت من شدة عملها أو قسوة عملها- فقال: ما ألفيته عندنا)، يعني: نحن لا يوجد عندنا شيء، قال: (أولا أدلك على ما هو خير لك من خادم؟ تسبحين ثلاثاً وثلاثين، وتحمدين ثلاثاً وثلاثين، وتكبيرين أربعاً وثلاثين حين تأخذين مضجعك -وفي رواية-: من الليل)]. هذه بعض أذكار الليل. وعند البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة)، أي: كان يحافظ ويواظب على هذا الذكر بالذات، ويفعله في كل ليلة، (جمع كفيه -يعني: ضم كفيه- ثم نفث فيهما)، والنفث: هواء يخرج بشدة وهو دون التفل وفوق النفس العادي، يعني: ينفخ بشدة في كفيه، (ثم يقرأ: {

فضل قراءة آية الكرسي عند النوم

فضل قراءة آية الكرسي عند النوم آية الكرسي أعظم آية في كتاب الله عز وجل، حتى بشهادة إبليس، فإنه لما كان أبو هريرة حارساً وقائماً على بيت المال أتاه الشيطان واشتكى الفقر والعيال، وهو كذاب، فقال له: أنا عندي عيال ولا يوجد لدي عمل ولا مال ولا غير ذلك، وكلما أذهب إلى عمل أطرد منه، فأعطني أنا وعيالي، فأعطاه في اليوم الأول فذهب، ثم أتى أبو هريرة إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فبادره النبي بقوله: ماذا فعل صاحبك؟ قال: يا رسول الله! اشتكى فقراً أو عالة وعيالاً. فقال: سيأتيك غداً، ثم أتاه في اليوم الثاني فاشتكى نفس الشكوى، فأعطاه نفس العطاء، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ماذا فعل صاحبك اليوم؟ قال: أتاني واشتكى عالة وعيالاً، قال: سيأتيك غداً، فبدأ أبو هريرة يشك في هذا الأمر؛ لأنه أتى له في صورة آدمي، وجاء له في صورة إنسان، وليس في صورة شيطان، فلما أتاه في اليوم الثالث رفض أن يعطيه شيئاً، فلما أصر أبو هريرة على عدم العطاء قال له الشيطان -وهو في صورة الإنسان-: أو لا أدلك على آية في كتاب الله هي أعظم آية؟ وإذا قرأتها إذا أخذت مضجعك كان عليك من الله حافظ حتى تصبح واجتنبك الشيطان؟ فالشيطان أدرى بنفسه، قال أبو هريرة: بلى، قال الشيطان: قل: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255]، ثم أعطاه، وأتى أبو هريرة إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال: (ماذا فعل صاحبك اليوم؟ قال: يا رسول الله! أتاني فامتنعت عليه -يعني: لم أعطه شيئاً- فقال: أو لا أدلك على خير آية أو أفضل آية في كتاب الله إذا قلتها حين أخذت مضجعك كان عليك من الله حافظ ولم يضرك الشيطان حتى تصبح؟ قلت: بلى، قال: قل: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255]، قال النبي عليه الصلاة والسلام: صدقك وهو كذوب)، يعني: في هذه بالذات هو صادق، والأصل فيه أنه كذاب. فاتخاذنا لهذه العبادة عند النوم بقراءة وتلاوة آية الكرسي بإقرار النبي عليه الصلاة والسلام، فلا يقولن شخص: كيف نقتدي بالشيطان؟! لأن العبرة هنا بإقرار النبي عليه الصلاة والسلام له.

فضل قراءة الآيتين الأخيرتين من سورة البقرة عند النوم

فضل قراءة الآيتين الأخيرتين من سورة البقرة عند النوم في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه). وهاتان الآيتان هما من أول قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ} [البقرة:285]، إلى آخر السورة، فمن قرأهما في ليلة كفتاه. والعلماء اختلفوا في قوله: (في ليلة)، وهل هو قبل النوم أم هو من أذكار المساء؟ فمن قال: بأن أذكار المساء لا تقال إلا بعد غروب الشمس قال: إن قراءة أواخر سورة البقرة من أذكار المساء لا من أذكار النوم، ومن جوز -وهم الجمهور- أن أذكار المساء تقرأ بعد العصر أو قبيل المغرب جعل هذا الذكر من آداب النوم. والذي يترجح لي مشروعية الذكر بعد الغروب، ومن أتى بها قبل الغروب فلا حرج عليه. واختلف أهل العلم في معنى (كفتاه) هل هي كفاية من الشر، أو كفاية من العذاب، أو كفاية من هواجس الشيطان في أثناء نومه. وقيل: كفتاه من قيام الليل، وقيل: كفتاه من عمل الطاعة؛ لأنها أعظم طاعة، وقيل: كفتاه ثواباً، يعني: من أثيب بقراءة هاتين الآيتين كان في غنى لمزيد ثواب هاتين الآيتين إلى غير ذلك من أقوالهم رحمهم الله تعالى ورضي عنهم. وإذا تقلب النائم ليلاً. يعني: إذا كان شخص يتقلب من جنب إلى آخر، أو من مكان إلى مكان، أو من موضع في الفراش إلى موضع آخر فإنه يقول: (لا إله إلا الله الواحد القهار، رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار). ويقول هذا وهو يتقلب.

بيان ما يقول من استيقظ ليلا

بيان ما يقول من استيقظ ليلاً نختم بحديث عظيم جداً يتعلق بالنوم، وهو قول النبي عليه الصلاة والسلام كما أخرجه البخاري من حديث عبادة بن الصامت مرفوعاً: (من تعار من الليل -أي قام- فقال حين يستيقظ فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير). وفي رواية: (يحيي ويميت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: اللهم اغفر لي أو دعا استجيب له)، يعني: الذي يقوم من النوم بالليل يقول هذا الدعاء: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له). وفي هذا إثبات الإلهية لله عز وجل، وأنه واحد في الإلهية والربوبية، كما أنه واحد في أسمائه وأفعاله. وفي قوله: (ثم قال: اللهم اغفر لي أو دعا استجيب له). وهذه مكافأة وهدية ربانية لو قال هذه الكلمات التي كلها توحيد وإثبات البعث والحساب والنشور، وإثبات التهليل والتسبيح وغير ذلك لله عز وجل، وكلها تدل على شدة الذل والعبودية لله عز وجل، فلو قال العبد ذلك، ثم قال: (اللهم اغفر لي) غفر الله له، أو دعا استجاب الله تبارك وتعالى لدعائه. ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: (فإن قام فتوضأ وصلى قبلت صلاته). ونحن نصلي بالليل والنهار ولا نعلم أهي مقبولة أم لا، وأما في هذه الحالة فإنك على يقين من أن الله تعالى يقبل صلاتك، وأنت لست أفضل من عبد الله بن عمر رضي الله عنهما الذي قال: لو أني علمت أن الله تقبل مني ركعتين كفاني ذلك، قيل له: كيف ذلك يا أبا عبد الرحمن؟! قال: ألم تقرءوا قول الله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]. يعني: لو أنه علم أن الله عز وجل قبل منه ركعتين فقط لأحس بالاطمئنان قليلاً أنه من أهل التقوى ومن المتقين. أسأل الله تعالى أن يتقبل مني ومنكم صالح الأعمال والأقوال؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله على نبينا محمد.

الأسئلة

الأسئلة

من رأى في المنام أنه يحج

من رأى في المنام أنه يحج Q رأيت في المنام أني أحج أكثر من مرة، فما تفسير هذه الرؤيا؟ A أنا لا أعبر الرؤى، ولا أحسن هذا الباب، غير أني أعلم بعض أحكام الرؤى والأحلام، ولا أستطيع أن أقول في هذه الرؤيا غير أنها من مبشرات الخير؛ لأنه رأى أنه على طاعة، فأسأل الله تعالى أن يمكنه منها في اليقظة. ولكن قوله: (رأيت في المنام أني أحج أكثر من مرة) أرجو ألا يكون هذا الحج في العام الواحد؛ لأنه لا يكون الحج إلا مرة واحدة في كل عام.

حكم حلق بعض الرأس وترك البعض الآخر

حكم حلق بعض الرأس وترك البعض الآخر Q ما حكم الكابوريا، أحلال أم حرام؟ A الكابوريا من حيث كونها حيوانات بحرية حلال، وأما من حيث كونها حلاقة وهيئة في الرأس فهي حرام، وهذا هو المعني في السؤال، وفي الشرع اسمها: القزع. وقد نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن القزع، وهو حلق بعض الرأس وترك البعض الآخر. وبعض أهل العلم حدد القزع بترك قص مقدم الرأس، مثلما كنا نعمل في الماضي ونحن نرعى الأغنام، فقد كنا نحلق الرأس كله ونترك مقدمة الرأس، ومع انتشار هذه السنة الكفرية في شباب المسلمين يعجبني القول الذي يعمم النهي بحلق بعض الرأس وترك البعض الآخر في أي موطن كان هذا القزع، فسواء حلق فوق أذنه وترك أم رأسه أو حلق أم رأسه وترك الذي فوق أذنه، أو حلق الرأس من الخلف وترك المقدمة، أو حلق المقدمة وترك الخلف كل هذا يسمى بالقزع، وقد ذكر اللغويون أن القزع يصدق على كل هذه الهيئات، والذي وقع في زمنه عليه الصلاة والسلام (أنه رأى غلاماً قد حلق رأسه إلا مقدمه -أي: إلا مقدم الرأس- فنهى عن ذلك عليه الصلاة والسلام). ولا يصح لشباب المسلمين أن يتشبهوا بغيرهم من أصحاب الملل الأخرى، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من تشبه بقوم فهو منهم).

حكم إسبال الثياب

حكم إسبال الثياب Q ثوب الأخ الذي عن يمينك تكلم فيه أهل العلم، وأقل ما قالوا: إنه مكروه، وقال البعض: حرام لاسيما في الصلاة، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة؟ A ليس معلوماً هذا الأخ بعينه، وهذا أمر يصلح لنا جميعاً، وهو إسبال الإزار، وأظن أن السؤال يعني هذا، وإسبال الإزار كبيرة من الكبائر، والذين صنفوا في الكبائر عدوا منها الإسبال؛ لما ورد في حقه من النهي والوعيد الشديد، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول كما في صحيح مسلم: (ثلاثة لا ينظر الله تعالى إليهم ولا يكلمهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب). وقال عليه الصلاة والسلام كما في حديث البراء بن عازب وغيره: (إزرة المؤمن إلى منتصف الساق، فإن أبى ففوق الكعبين). وقوله: (إزرة المسلم) يعني: إزاره أياً كان هذا الإزار، وهو ما يلبس في أسفل البدن، سواء كان ثوباً أو بنطلوناً أو سروالاً أو غير ذلك، فلابد أن يكون فوق الكعبين، فقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (ما أسفل من الكعبين ففي النار)، أي: من القدم، وهذا تهديد ووعيد لصاحب الإسبال. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه دخل على النبي عليه الصلاة والسلام مرة وهو مسبل فأمره أن يرفع ثوبه، فما نزل ثوب عبد الله بن عمر عن منتصف ساقه قط، ولا يحتج أحد بحديث أو فعل أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأنه قال: (إن ثوبي ينزل، غير أني أتعاهده أو أتعهده). فليس في هذا الحديث ما يدل على أنه كان مسبلاً؛ لأنه كان يحرص دائماً على رفعه، ولذلك لما علم ذلك منه النبي عليه الصلاة والسلام وأنه لم يكن مسبلاً عمداً وإنما هو يتعهده بالرفع حتى يوافق في ذلك السنة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لست منهم يا أبا بكر!)، أي: لست ممن يفعله خيلاء. ولذلك أهل العلم يقولون: إسبال الإزار على سبيل الخيلاء والفخر وغير ذلك حرام، وإسباله ليس على سبيل الخيلاء والبطر مكروه كراهة شديدة.

بيان حال رابعة العدوية

بيان حال رابعة العدوية Q هل كانت رابعة العدوية صوفية؟ A رابعة العدوية مختلف فيها، فبعضهم غالى تماماً فيها وأثبت أنها من أئمة الصوفية، والبعض جافى عنها تماماً وقال: إنها عبارة عن شخصية وهمية، والأمر ليس كذلك، بل هي شخصية حقيقية، وقد ترجم لها الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء، وقد كانت من أبناء القرن الثاني الهجري؛ لأنها عاصرت سفيان الثوري، وهي صوفية، وكان سفيان يكثر زيارتها ويذم عندها الدنيا، فقالت: يا سفيان! دع عنك هذا، فإن من أحب شيئاً أكثر ذكره. أي: لو كنت لا تحبها لما ذكرتها أبداً. وهذا كلام جميل، ورابعة كغيرها من نساء الأمة ورجالها، فإذا أصابت فإصابتها على العين، وإذا أخطأت فيرد عليها خطؤها.

حكم التقبيل والمعانقة في السلام

حكم التقبيل والمعانقة في السلام Q هل من السنة معانقة الرجل أخاه وتقبيل الكتفين والمصافحة بالضغط على الأصابع فترة من الزمن؟ A لقد زاد الناس في هيئات وكيفيات السلام والتحية هيئات كثيرة جداً، وهذه الهيئات تختلف من بلد إلى بلد، ومن قطر إلى قطر، وترك التقبيل أولى من التقبيل، فإن فعلته فلا حرج عليك، خاصة وأن النبي عليه الصلاة والسلام قبل جعفر بن أبي طالب، وكان مالك لا يقبل مطلقاً، وكان الشافعي رحمه الله يقبل، وكان أبو حنيفة يقبل. وقد صنف ابن الأعرابي رسالة لطيفة جداً سماها: (القبل والمعانقة والمصافحة)، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يقبل كذلك محارمه من البنات والبنين، فقد كان يقبل الفضل بن العباس وعبد الله بن عباس، وقد ثبت التقبيل في غير ما حديث، وما ورد أنه قبل الحسن في فمه فإنما فعل ذلك لعلة ذكرها بعد ذلك، وقبل الفضل بن العباس بين عينيه. يعني: في جبهته وبين عينيه. فالتقبيل جائز، وتركه أولى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يداوم على ذلك، وقد ورد النهي عن التقبيل، وحمله العلماء على كراهة التنزيه. والله أعلم.

كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار - التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل

شرح صحيح مسلم - كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار - التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل إن وقوع العبد في المعصية ومقارفته للخطأ من سمات البشر التي جبلهم الله عليها، وكما أن الشارع بين للعبد ما يأتي به من أذكار وأدعية للاستغفار والتوبة عما قارفه من المعاصي، أرشد كذلك إلى أدعية وأذكار للاستعاذة من الوقوع في الذنب والمعصية ابتداءً، وهذا فضل من الله عز وجل تفضل به على الأمة المحمدية.

باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل

باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه وسلم تسليماً كثيراً. وبعد: فمع باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل.

شرح حديث عائشة: (اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت)

شرح حديث عائشة: (اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت) قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يحيى بن يحيى وإسحاق بن راهويه واللفظ لـ يحيى قالا: أخبرنا جرير عن منصور عن هلال عن فروة بن نوفل الأشجعي]. والصحيح أنه ليس صحابياً، وإنما الصحبة ثابتة لأبيه بلا نزاع، أما هو فمن كبار ثقات التابعين. [قال: (سألت عائشة عما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو به الله)]. لم يسألها عن الدعاء عند الطعام ولا عند الكرب ولا عند نزول المطر، ولا في المساء والصباح، وإنما سألها سؤالاً عاماً كأنه كان يسأل عن معظم دعائه عليه الصلاة والسلام، أو: ما هو الدعاء المعتاد الذي كان يدعو به النبي عليه الصلاة والسلام؟ سأل عائشة رضي الله عنها خاصة ليطلع على أقواله الإيمانية عليه الصلاة والسلام في بيته، فلا شك أنه يسأل الخبيرة بذلك. [قالت: (كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت ومن شر ما لم أعمل)]. يعني: يستعيذ الله تبارك وتعالى ويستغفره لما يمكن أن يكون بدر منه، ولما يمكن أن يقع منه في المستقبل، وهذا محمول منه عليه الصلاة والسلام على الهفوات والهنات. أما الكبائر فإن الأنبياء جميعاً معصومون من الوقوع فيها، وما وقع من الكبائر على يد الأنبياء إنما ذلك كان قبل البعثة وقبل النبوة، كما وقع من موسى عليه السلام، وأنه قتل رجلاً من بني إسرائيل، وهذا القتل كان قبل مبعثه عليه الصلاة والسلام. أما الهفوات والصغائر فإن المحققين من أهل العلم، ومن أهل الأصول والحديث يقولون بجوازها على الأنبياء؛ ولذلك قوله هنا: (اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت) أي: من الصغائر والهفوات والهنات واللمم. أي: الشيء الصغير جداً الذي يلم بالفرد دون قصد منه. فالنبي عليه الصلاة والسلام يستعيذ بالله مما يمكن أن يكون وقع منه في أيامه الأولى قبل البعثة أو بعد البعثة مما وقع فيه من هنات وزلات يسيرة جداً، أعقبها استغفاراً وتوبة وإنابة إلى الله عز وجل، أو أنه عليه الصلاة والسلام أراد أن يدعو بهذا الدعاء لعلمه اليقيني بأن الدعاء هو العبادة، فهو أراد أن يتقرب إلى ربه ومولاه وسيده بهذا الدعاء؛ لأن الدعاء عبادة، أو أراد عليه الصلاة والسلام بهذا الدعاء: التواضع، وأن يعلم أمته كيف يدعون الله عز وجل، وغير ذلك من التأويلات الكثيرة التي قالها أهل العلم في شرح هذا الحديث وغيره.

شرح روايات وطرق أخرى لحديث عائشة: (اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت)

شرح روايات وطرق أخرى لحديث عائشة: (اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت) قال: [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة. وهو الكوفي، الإمام الكبير صاحب المصنف -وأبو كريب - وهو محمد بن العلاء الهمداني قالا: حدثنا عبد الله بن إدريس عن حصين -وهو ابن عبد الرحمن السلمي أبو الهذيل الكوفي - عن هلال بن يساف عن فروة بن نوفل، قال: (سألت عائشة عن دعاء كان يدعو به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت ومن شر ما لم أعمل)]. أما قول فروة بن نوفل: (سألت عائشة عن دعاء كان يدعو به) يعني: يستمر على الدعاء عليه، ويواظب عليه. ومن الأخطاء الفادحة جداً: تحريف الكلم عن مواضعه بغير قصد، أما إذا كان بقصد فهذا كفر بواح؛ وهو أني سمعت أحد الخطباء يقول: كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملتَ ومن شر ما لم أعمل). فالنسبة لفعل الشر هنا لله عز وجل، وهذا بلا شك خطأ فادح جداً وإن لم يكن مقصوداً، لكن على أية حال يقلب المعنى رأساً على عقب، كما لو قال في الصلاة: صراط الذين أنعمتُ عليهم، مع أن الآية: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ} [الفاتحة:7] وهذا بلا شك تحريف للكلم، وهذا الذي يسميه أهل العلم اللحن الجلي الذي تبطل به الصلاة؛ لأنه يغير المعنى تماماً، ولذلك تبطل به صلاة الإمام وصلاة المأمومين كذلك. [حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار] ومحمد بن المثنى ومحمد بن بشار كلاهما فرسا رهان عالمان جليلان، وفي كل وجوه الترجيح يثبت أنهما سواء، فهما في جهة العدالة سواء بغير ترجيح، وفي جهة الضبط والإتقان سواء بغير ترجيح، وهذا الذي يسميه العلماء كفرسي رهان. يعني: أن الفرسين ينطلقان سوياً ويصلان سوياً في توقيت واحد، فكذلك محمد بن المثنى العنزي البصري أبو موسى ومحمد بن بشار المعروف بـ بندار، هما كفرسي رهان، يعني: ليس بينهما أي وجه من وجوه الترجيح؛ لأنهما في كل زاوية من زوايا الترجيح سواء. قال: [حدثنا ابن أبي عدي -وهو محمد بن إبراهيم بن أبي عدي - ح وحدثنا محمد بن عمرو بن جبلة حدثنا محمد يعني: ابن جعفر كلاهما عن شعبة]، محمد بن جعفر المعروف بـ غندر تلميذ شعبة بل وربيبه، لأن شعبة تزوج أمه بعد وفاة أبيه. وقوله: كلاهما عن شعبة. أي: ابن أبي عدي ومحمد بن جعفر، فـ ابن أبي عدي ومحمد بن جعفر كلاهما يرويان عن شعبة [عن حصين بهذا الإسناد]. أي: بالإسناد السابق مثله تماماً. غير أن محمد بن جعفر في حديثه: (ومن شر ما لم أعمل). [وحدثنا عبد الله بن هاشم] وهو ابن حيان العبدي أبو عبد الرحمن الكوفي، سكن نيسابور. [حدثنا وكيع -هو ابن الجراح العتكي الكوفي - عن الأوزاعي عبد الرحمن بن عمرو عن عبدة بن أبي لبابة عن هلال بن يساف عن فروة بن نوفل عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه: (اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت، وشر ما لم أعمل)].

شرح حديث ابن عباس: (اللهم لك أسلمت وبك آمنت)

شرح حديث ابن عباس: (اللهم لك أسلمت وبك آمنت) قال: [وحدثني حجاج بن الشاعر قال: حدثنا عبد الله بن عمرو أبو معمر] وهو التميمي المقعد، هكذا لقبه. قال: [حدثنا عبد الوارث وهو عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان البصري، أحد الأعلام، حدثنا أبو عبيدة العنبري التميمي قال: حدثنا الحسين -وهو ابن ذكوان المعلم البصري - قال: حدثني ابن بريدة -وهو عبد الله بن بريدة - عن يحيى بن يعمر البصري عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت، أن تضلني أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون)] هذا دعاء رائع جداً وجميل، وفيه ما يلي: أولاً: فيه الإذعان والاستسلام لله عز وجل؛ لأنه في أوله كان يقول: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت) فيقول: لك أسلمت. أي: انقدت إليك وأذعنت واستسلمت وخضعت ولا أومن إلا بك. ومن سياق الكلام لم يقل: اللهم إني أسلمت لك. ولكنه قال: (لك أسلمت). وهذه شبه جملة، مكونة من الجار والمجرور تفيد الحصر والقصر، فكأنه يقول: لك أسلمت لا لغيرك، وبك آمنت لا بغيرك، فهو يقصر الإيمان على الله عز وجل والإسلام لله عز وجل، كما أنك تقرأ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، فلو قلت: نعبد إياك ونستعين إياك لجاز أن يقال: نعبد إياك وغيرك، ونستعين إياك وغيرك، لأن الجملة حينئذ لا تفيد الحصر، فيجوز أن نعبد الله ونعبد غيره، ويجوز أن نستعين بالله ونستعين بغيره؛ لأن الجملة لا تفيد الحصر. أما قولك: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5] أي: العبادة مقصورة على الله عز وجل، لا تصرف إلا لله، وكذلك الاستعانة مقصورة ومحصورة فيه سبحانه وتعالى، فلا يجوز صرفها لغير الله. قال: (وعليك توكلت). ولم يقل: (توكلت عليك). إلى آخر الحديث؛ ليدل على حصر هذه العبادات كلها في جنب الله عز وجل، وأنه لا يجوز صرف شيء منها لغير الله، ولو صرف شيء منها لغير الله لوقع الفاعل في الشرك؛ لأن هذه كلها عبادات. وهذا الحديث كذلك يبين الفرق بين الإيمان والإسلام؛ لأنه لم يقل: لك أسلمت وآمنت، وإنما قال: (لك أسلمت وبك آمنت)، ليدل على أن الإسلام له مدلول وأن الإيمان له مدلول آخر. فهذا الحديث قد بين الفارق بين الإيمان وبين الإسلام، وأنتم تعلمون أن كل مؤمن مسلم ولا بد، وليس كل مسلم مؤمناً، كما أن كل محسن مؤمناً ولا بد، ومن باب أولى أن يكون مخلصاً، ولا يلزم أن يكون المؤمن محسناً؛ لأن الإحسان أعلى مرتبة من الإيمان، كما أن الإيمان أعلى مرتبة من الإسلام، فالأعلى يشمل الأدنى وليس العكس. قال: (وإليك أنبت) أي: رجعت. (وبك خاصمت) المخاصمة هي: المحاججة؛ ولذلك يقال: فلان دخل مع فلان في خصومة. أي: ليس في خصام، وإنما في مناظرة، في لجاج، في حجاج، في بيان مسألة الحجة بالحجة، فالمخاصمة هي: المجادلة بالحق، فقوله هنا: (وبك خاصمت) أي: استعنت بك في سرد الأدلة من كلامك، ومن كلامي الذي تلهمني به، وكأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول لربه: لا حول لي ولا قوة مع أعدائي إلا بك. (وبك خاصمت) أي: لا أستطيع أن أخاصم ولا أن أجادل ولا أن أحاجج إلا بك يا رب. (اللهم إني أعوذ بعزتك) الاستعاذة هي اللجوء والتضرع، فالنبي عليه الصلاة والسلام يتضرع إلى الله عز وجل بعزته، والعزة من صفات الله عز وجل. قال بعض أهل العلم: لا يجوز القسم إلا بالله أو باسم من أسمائه أو صفة من صفاته، وما دون ذلك فهو شرك. ولا يجوز نداء الصفة، كما تقول: يا عزة الله، يا رحمة الله، يا قدرة الله، يا ملك الله، ونداء الصفة شرك بالله عز وجل؛ لأنك تنادي الصفة لا تنادي الموصوف، فدخلت الشبهة على بعض السامعين لذكر عزة الله عز وجل، كما في هذا الحديث. والنبي عليه الصلاة والسلام يقول في هذا الحديث: (اللهم إني أعوذ بعزتك) فهو استعاذ بصفته تعالى وهي العزة، فهنا استعاذة بعزة الله، والاستعاذة بعزة الله عز وجل ليست نداءً، لأنها مسبوقة بقوله: اللهم، فالنداء أولاً لله عز وجل، ثم أعقب النداء لله عز وجل بالاستعاذة بعزته، فليس هذا باب شبهة قط فيما يتعلق بنداء الصفة. قال: (اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني) وهذا يثبت أن الخير والشر بإذن الله عز وجل؛ لأنه قال: اللهم إني أعوذ بعزتك. وقوله: (لا إله إلا أنت) جملة اعتراضية، ففيها إثبات وحدانية الله عز وجل وإلهيته، وأن الخير والشر بيديه. أما قوله عليه الصلاة والسلام: (والخير في يديك، والشر ليس إليك). أي: الشر المحض الذي لا خير فيه. فإنه ليس من أفعال الله عز وجل، لكن الشر الذي يحمل معه الخير هو من فعل الله عز وجل. فالشر الذي في ظاهره شر ولكنه يحمل معه الخير هو من فعل الله عز وج

شرح حديث أبي هريرة: (سمع سامع بحمد الله وحسن بلائه علينا)

شرح حديث أبي هريرة: (سمع سامع بحمد الله وحسن بلائه علينا) [حدثني أبو الطاهر أخبرنا عبد الله بن وهب أخبرني سليمان بن بلال المدني عن سهيل بن أبي صالح المدني عن أبيه وهو أبو صالح ذكوان السمان عن أبي هريرة رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا كان في سفر وأسحر)] وأسحر أي: بلغ وقت السحر، إما نام وقام وإما سار بالليل حتى وقت السحر. يعني: كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا كان في سفر فنام من ليله ثم قام في وقت السحر الذي هو لون الفجر أو أنه سار بالليل، والمعلوم المسنون هو السفر بالليل، ولا يمنع أن يكون السفر بالنهار، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام إنما سن وفضل السفر بالليل لا بالنهار، على خلاف عادة الناس، وعلى خلاف ما يحب الناس الآن، فإنهم يحبون أن يسافروا في الصباح، حيث الضوء وكشف الطريق وغير ذلك، وحتى يأمنوا الحوادث بالليل. ولكن النبي عليه الصلاة والسلام بين أن الأرض تطوى بالليل دون النهار، وربنا الذي يعرف ذلك، ونحن قد آمنا بأن الأرض تطوى بالليل، أليست الأرض والسماوات في قبضة الملك سبحانه وتعالى؟ والله يستطيع أن يكور السماوات والأرض، ولا يمنع القادر على أن يكور السماوات والأرض، بل هو القادر على ما هو أعظم من ذلك، وهو قادر على كل شيء سبحانه وتعالى أن يضم الأرض بعضها إلى بعض فتقصر المسافة. فالنبي صلى الله عليه وسلم بين أن الأرض تطوى بالليل، وتقصر، والمسافر بالليل لا يجد عناء السفر بالنهار، والسفر بالليل أحب إلى قلبي من السفر بالنهار، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل) والدلوج هو الانطلاق في السير في أول الليل، وإذا أدلج على هذا النحو بلغ هدفه. وكان من عادته عليه الصلاة والسلام أنه يسافر بالليل، ويقطع طريقه في أول الليل، فإذا تعبت دابته استراح، فربما نام وربما استراح شيئاً يسيراً يصلي فيه ثم ينطلق حتى يسحر. فهنا قال: (كان إذا كان في سفر وأسحر) أي: بلغ وقت السحر إما ماشياً وإما بعد نومه. قال: [(سمع سامع بحمد الله وحسن بلائه علينا، ربنا صاحبنا وأفضل علينا عائذاً بالله من النار)] وسمع بمعنى شهد وإما سمع أي: أخبر مخبر عن الله عز وجل أن الله تعالى يسمع حمد من حمده وشكر من شكره على حسن بلائه الذي نزل به. ثم يقول عليه الصلاة والسلام: (ربنا صاحبنا وأفضل علينا). ومعنى صاحبنا أي: احفظنا وأحطنا واكلأنا وأفضل علينا بجزيل نعمك، واصرف عنا كل مكروه. كما أنك تقول: اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في المال والأهل. (اللهم أنت الصاحب) يعني: أنت الحافظ، وأنت المعين، وأنت الميسر، وأنت المتفضل، وأنت المحيط بنا، الذي تكلؤنا. قال: [(عائذاً بالله من النار)] أي: أقول هذا في حال استعاذتي واستجارتي بالله تعالى أن أعذب بالنار.

شرح حديث: (اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري)

شرح حديث: (اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري) [حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري حدثنا أبي -وهو معاذ العنبري - حدثنا شعبة عن أبي إسحاق وهو السبيعي عن أبي بردة -وهو ابن أبي موسى الأشعري - عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو بهذا الدعاء]، وهذا دعاء عام ليس مخصوصاً بوقت دون وقت، وإنما هذا من الأدعية العامة. يقول: [(اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي)]. وأهل اللغة يفرقون بين الخطأ والخطيئة، فيقولون: الخطيئة للذنب العظيم، كما في قول الله تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} [نوح:25] ولم يقل: من خطاياهم، أو من خطئهم، وإنما قال: (خَطِيئَاتِهِمْ) فالخطيئة بمعنى الذنب العظيم. والنبي عليه الصلاة والسلام لم يرتكب ذنباً عظيماً، وإنما عد النبي عليه الصلاة والسلام عدم بعض الكمال والتمام في حقه ذنباً عظيماً، كما تقول الصوفية: إن حسنات الأبرار سيئات المقربين. يعني: حسنات قوم هي عند قوم سيئات. ونحن لا نقول بهذا القول، لكن أردت بأن أقرب المعنى. والنبي عليه الصلاة والسلام قد وقع في هفوة أو في شيء من هذا كقوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس:1]، والعبوس لو صدر من واحد منا لا حرج عليه، وهو باب من أبواب سوء الخلق وانتهت القضية على هذا، ولو قابلتك وقلت لك: سامحني ما كنت أعرفك، والذي لا يعرفك لا يقدرك، أو كلام من هذا، انتهت القضية. لكن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر هذا في حق نفسه كبيرة من الكبائر، مع أنها ليست كبيرة، ولكنها هفوة وزلة صغيرة استغفر منها النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا الفارق بيننا وبين الأنبياء، أن الواحد منا يقع في الذنب ولا يعقبه بتوبة، وربما يقع في كبيرة أو كبائر ولا يعقبها بتوبة، بخلاف الأنبياء يقعون في اللمم ثم سرعان ما ينتبهون فيعودون إلى الله عز وجل ويستغفرونه ويتوبون مما بلغ منهم، وهذا فارق عظيم جداً ليس بالأمر الهين. فهكذا النبي عليه الصلاة والسلام اعتبر أن ما بدر منه من هفوات هي خطيئات مع أنها خطايا، وذنوب صغيرة. وفي الحديث عند البخاري وكذا مسلم: (أن المؤمن يعد ذنبه كالجبل). يعني: المؤمن يعتبر ذنبه الصغير كالجبل وهو واقف تحته يخشى أن ينهار عليه. أما الفاجر فإن كبائر الذنوب عنده ليست إلا كذبابة وقعت على أنفه فقال بها هكذا فطارت. يعني: أشار إليها بيده ثم طارت بعد ذلك؛ لأنه مستهتر ومستهين. إذا كان هذا في حق المؤمن والفاجر، فما بالكم إذا كان المؤمنون في صعيد والنبي عليه الصلاة والسلام في صعيد آخر يعتبر أن أقل ما يمكن أن يلام فيه أنه خطيئة، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل هذا إلا كما يفعله أقرب المقربين الأتقياء. تصور لو دخل علينا رجل نعرف عنه الفساد والضلال، وهو زعيم قوم أو أمير قوم، ودخل وهو يضرب به المثل في الضلال، فأنا أرجو الخير له أن يدخل في الإسلام إن كان كافراً أو غير ذلك، وسأترك الدرس وأجلس أتكلم معه، ولو كلمني أحدكم أو كلكم. وهكذا. لما دخل أشراف قريش على النبي عليه الصلاة والسلام يناقشونه ويجادلونه فأتاهم ابن أم مكتوم رجل أعمى رضي الله عنه ولكنه مؤمن، وكانت له عند النبي صلى الله عليه وسلم حاجة، وسؤال، فلما دخل والنبي صلى الله عليه وسلم يكلم أشراف قريش آثر استمرار الكلام معهم وتأخير ابن أم مكتوم، فأنزل الله عز وجل فيه العتاب كما في قوله: {وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:28]. يعني: لا تصرف بصرك ووجهك وقلبك يا محمد عن أصحابك مهما كانوا فقراء، أذلة، ضعفاء، قلة، ولا تغتر بأشراف القوم، فإنهم لا خير فيهم. فهو مجرد عتاب، ولكن تصور أن هذا العتاب واللوم البسيط اعتبره النبي عليه الصلاة والسلام كالجبل من المعاصي، فيقول: (اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي). والجهل ضد الحلم لا العلم، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا خرج من بيته: (اللهم إني أعوذ بك أن أجهل أو يجهل علي). يعني: أن أنتقم لنفسي، أو أثأر لنفسي، (أو يجهل علي). يعني: أعوذ بك أن تسلط علي رجلاً غليظاً لا رحمة عنده ولا حلم، فالجهل هنا ضد الحلم وليس هو الذي يقابل العلم. (اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري). هو لم يسرف عليه الصلاة والسلام، لكن هذا أدب الدعاء، وما دمت تدعو الإله سبحانه وتعالى فيستحب لك أن تبين له أنك في منتهى الذل بين يديه، وأن تعد الصغائر بين يديه كبائر، لا أن تقول: يا رب! أنا لم أفعل شيئاً، والحمد لله، لا سرقت ولا زنيت ولا قتلت ولا، ولا، ولا وتعد الكبائر التي صنفها الذهبي وتقول الحكاية كلها بعض الصغائر كالشتم، والسب، وهوى الشيطان، هذه أمور بسيطة تتعالج. لا. أنا أريدك أن تعد الذنب وإن صغر كبيرة من

شرح حديث: (اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري)

شرح حديث: (اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري) قال: [حدثنا إبراهيم بن دينار، حدثنا أبو قطن عمرو بن الهيثم القطعي عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون عن قدامة بن موسى عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري)]. وانظر إلى هذا الدعاء فالنبي صلى الله عليه وسلم قدم الدين قبل الدنيا؛ لأن الدين دائماً قبل الدنيا، ولو أنك حزت الدنيا بحذافيرها وفقدت الدين فما حزت شيئاً قط، بل خسرت كل شيء. ولو أنك فزت بالدين وخسرت كل شيء بعده لفزت بكل شيء؛ ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام كان دائماً يبين لأصحابه هذه القاعدة، فيقول: (انظروا إلى من هو دونكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم؛ لئلا تزدروا نعمة الله عليكم). والعلماء يقولون في قوله عليه الصلاة والسلام: (انظروا إلى من هو فوقكم ولا تنظروا إلى من هو دونكم). أي: في الدين والخير والطاعة، لا تتأثر بمن هو دونك، لأنك لو تأثرت بمن هو دونك فستقف عند حد معين من الطاعة. أما إذا تأسيت وجدت أعظم أسوة هو النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام، ولذلك يقول ابن مسعود: من كان متأسياً فليتأس بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة. أي: من كان مقتدياً فليقتد بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، والأسوة المعصوم الذي لا يخطئ هو النبي عليه الصلاة والسلام. ولذلك القراءة في سيرة النبي عليه الصلاة والسلام وفي سيرة أصحابه الكرام تجعل الواحد دائماً يحتقر نفسه! اقرأ مثلاً في سير الصحابة رضي الله عنهم، اقرأ الثلاث المجلدات الأول في سير أعلام النبلاء، لترى كيف كانت عبادة الصحابة رضي الله عنهم؟ وكيف كان عملهم وجهادهم وصبرهم وجلدهم وإنفاقهم في سبيل الله عز وجل؟ والنساء يقرأن في حياة الصحابيات وحياة الصالحات من السلف رضي الله عنهن، فكل واحد أو واحدة منا لا بد وأنه سيحتقر نفسه ويحتقر عمله، بل ربما يصل الواحد فينا إلى درجة اليقين أنه هالك، والواحد منا يقول: لولا رحمة ربنا سندخل الجنة. ما هي مؤهلاتنا التي ممكن أن ندخل بها الجنة؟ إن للجنة مؤهلات، فمؤهلاتنا كلها غيبة ونميمة وتقصير في طاعة الله عز وجل، وخداع وغش وريبة وربا وتزوير وتمويه، فليس لنا مؤهلات تدخلنا الجنة إلا برحمة الله عز وجل. لما نقرأ في حياة السلف سنقول: أين نحن؟ وبعض المتبجحين منا والمقصرين والمفرطين جداً في طاعة الله عز وجل يطلبون الفردوس الأعلى، ومرافقة النبي صلى الله عليه وسلم، مع أننا ليس لدينا مؤهلات لدخول الجنة من الأصل، ولا لعبور الصراط، لكنها على أية حال رحمة الله عز وجل التي نرجوها. كان عليه الصلاة والسلام يقول: [(اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري). أول طلب يطلبه النبي عليه الصلاة والسلام ويقدمه على غيره من المطالب هو إصلاح الدين. أي: بإقامته على منهج الله عز وجل. [(وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي)] يعني: الدين ليس فيه إلا جنة أو نار، إنما الدنيا فيها المعاش، وأنت تعيش على الفول وغيرك يعيش على لحم الضأن، فأنتما سواء، هي عيشة وخلاص. يعني: هذه المعيشة ليست محل اهتمام ولا تعظيم ولا تفكير؛ إنما الذي يستحق التفكير والاهتمام هو الدين، والحديث: (انظروا إلى من هو دونكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم). العلة فيه: (لئلا تزدروا نعمة الله عليكم). فالفقير الذي يصلي ويصوم عند ما يزدري نعمة الله عليه حينما ينظر إلى ما أعطى الله للغني من نعيم فيقول: لماذا ربنا أعطى الرجل هذا، رغم أنه لا يستحق وحرمني وأنا أستحق؟ وهذا الغني الذي نتحدث عنه أفضل من هذا الرجل إذا قال هذا الكلام واعتقده؛ لأنه يعتقد أن الله تعالى غير حكيم في توزيع أرزاقه، والله هو الرزاق ذو القوة المتين، يرزق من يشاء، ويحرم من يشاء، ويعطي من يشاء، وإذا أعطى الله عز وجل عبداً فإنما يعطيه لحكمة، وإذا منع عبداً فإنما يمنعه لحكمة، فربنا سبحانه هو الحكيم. فالأصل أن الفقير لا يصاحب الغني، إذا كان سيؤثر عليه بأن يزدري نعمة ربنا عليه، وأحسن له أن يصاحب الفقراء من أهل الإيمان، من أجل يستمر شاكراً لنعمة الله عز وجل عليه. وكثير من الفقراء إذا صاحبوا الأغنياء تمردوا على أسرهم، بل وسعوا جاهدين لئن يكونوا مثلهم وأعلى منهم، وهذه المسألة في عامة الناس مذمومة، فما بالك في أهل العلم وطلاب العلم، فهي أكثر ذماً وقبحاً، بل هي تقدح في عدالة من فعل هذا، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (انظروا إلى من هو دونكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم). يعني: في الدنيا، (مخافة أن تحتقروا نعمة الله عز وجل التي أسداها لكم). قال: [(وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي)]، أي: رجوعي إليك. [(واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة ل

شرح حديث: (اللهم إني أسألك الهدى والتقى)

شرح حديث: (اللهم إني أسألك الهدى والتقى) قال: [حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار قالا: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص] وهو عوف بن مالك، أبو الأحوص عوف بن مالك لكن ليس الأشجعي؛ لأن الأشجعي صحابي، بينما هذا هو عوف بن مالك بن نضلة الجشمي الكوفي. [عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى)]. قوله: (اللهم إني أسألك الهدى). أي: الهداية. فالناس يتصورون أن العلم هو الهداية، أو المعرفة هي الهداية وليس هذا بصحيح، وإنما الهدى هو الإذعان والاستسلام والإيمان بالله عز وجل، ولذلك فالعلم لا يغني عنك من الله شيئاً إذا لم تعمل به، بل هو سبب إحراقك في النار إذا لم تعمل به أو لم تطلبه لله عز وجل. (والتقى) التقوى. (والعفاف) العفة. (والغنى) المقصود به غنى النفس، والغنى عما في أيدي الناس. يعني: رزق الكفاف؛ ولذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول في دعائه: (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً). وفي رواية: (كفافاً). وقوتاً يعني: قوت يوم بيوم. وكفافاً. يعني: ما يكفيهم في يومهم. ولو كان جمع الدنيا هو المراد لورد إلينا ولو مرة واحدة في نص إلهي أو نبوي طلب الدنيا، لكن النصوص الشرعية كلها تدل على ذم الدنيا، والنصوص التي مدحت الدنيا إنما مدحتها من باب أن صاحبها يستغلها في طاعة الله عز وجل، ويؤدي فيها حق الله تعالى، وحق الفقراء والمساكين، أما غير ذلك فهي مذمومة مسبقاً.

شرح حديث زيد بن أرقم: (اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل)

شرح حديث زيد بن أرقم: (اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل) وفي رواية زيد بن أرقم قال: [لا أقول لكم إلا كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، كان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل)]. العجز: الضعف. [(والجبن والبخل، والهرم)] الهرم الذي هو كبر السن [(وعذاب القبر، اللهم آت نفسي تقواها -يعني: ارزق نفسي التقوى- وزكها -أي: طهرها- أنت خير من زكاها)]. ليس معنى ذلك أن هناك من يزكي النفس دون الله عز وجل، لقوله: (أنت خيرٌ) أو أنت خير من زكاها. لا يعني: أن غيرك يزكيها لكن أنت أحسن من يزكيها، ليس هذا المعنى، إنما المعنى أنت المزكي لها لا غيرك. [(أنت وليها ومولاها)]. [(اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع)] مع أن النبي عليه الصلاة والسلام كان دائماً يحث على العلم وطلب العلم وفضل العلم، لكن النبي عليه الصلاة والسلام استعاذ من علم لا ينفع بين يدي الله، إما أن يكون هذا هو علم الشرع ولكن المتعلم أو الطالب له لم يتعلمه لله ولم يعمل به، فهذا علم ينقلب عليه وبالاً يوم القيامة؛ ولذلك أول من تسعر بهم جهنم ثلاثة: منهم: العالم الذي تعلم العلم ليقال فقط أنه عالم. يعني: طلبه للوجاهة أو الرئاسة، أو لحظ من حظوظ الدنيا وغير ذلك، فهذا سينقلب عليه علمه وبالاً. وكذلك العلوم التي لا تنفع: علم السحر والفلسفة والمنطق والدجل، وعلم النجوم وغير هذا من العلوم المحرمة، كل هذا من العلم الذي لا ينفع. [(اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع)] أي: نفس عندها نهم وشره، كلما وقعت العين على شيء اشتهته النفس واشتهاه القلب، وهذه آفة في النساء، ولا يمنع أن تكون في كثير من الرجال، امرأتك تمشي معك أو أختك أو أمك، كلما وقعت عينها على أشياء جميلة تريدها. قال: [(ومن دعوة لا يستجاب لها)]. وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: [كان قال النبي عليه الصلاة والسلام يقول إذا أمسى: (أمسينا وأمسى الملك لله، والحمد لله، ولا إله إلا الله وحده لا شريك له)]. على أية حال يا إخواني أظن أننا قد دخلنا في أدعية مخصوصة بأوقات معلومة؛ وهي أدعية اليوم والليلة، أو أدعية النهار والليل.

كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار - أذكار الصباح والمساء

شرح صحيح مسلم - كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار - أذكار الصباح والمساء إن العبد المسلم إذا أصبح كل يوم كان على كل سلامى منه صدقة، فإن أتى بأذكار الصباح والمساء وسائر الأذكار فإنه يكون قد أدى صدقة أعضائه، ثم يكون له بهذه الأذكار حصن من الشرور، وحماية من الشيطان وقبيله، وزيادة قرب له من ربه عز وجل الذي يذكر عباده بقدر ذكرهم له.

تابع باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل

تابع باب التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل

شرح حديث: (أمسينا وأمسى الملك لله)

شرح حديث: (أمسينا وأمسى الملك لله) الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وسلم تسليماً كثيراً. ثم أما بعد: إن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة، وبعد: فما زلنا مع كتاب الذكر. قال المصنف رحمه الله: [عن النبي عليه الصلاة والسلام: (أمسينا وأمسى الملك لله والحمد لله، ولا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم إني أسألك خير هذه الليلة، وأعوذ بك من شر هذه الليلة وشر ما بعدها، اللهم إني أعوذ بك من الكسل وسوء الكبر، اللهم إني أعوذ بك من عذاب في النار وعذاب في القبر)]. وهذا الدعاء يقال في أول الليل. وقوله: (اللهم إني أسألك خير هذه الليلة) جاء في رواية من طريق ابن سويد: (وخير ما بعدها، وأعوذ بك من شر هذه الليلة) أي: ما يقدر فيها من نزول الشر. والنبي عليه الصلاة والسلام أمر بإيكاء الأواني. أي: بتغطية الأواني التي فيها طعام أو شراب؛ لأن الداء ينزل في ليلة في السنة، فلا تدري لعل الليلة التي تركت فيها آنيتك مكشوفة هي الليلة التي وافقت نزول الشر والداء من السماء، فحينئذ يصيب هذا الشر الإناء أو الطعام فتأكله فيصيبك ما قدر الله عز وجل لك. فقوله عليه الصلاة والسلام: (اللهم إني أسألك خير هذه الليلة) أو من خير هذه الليلة، فكأنه عليه الصلاة والسلام سأل ربه أن يصيبه من خير هذه الليلة المقبلة عليه، أو يصيبه خيرها كله، فهو إما أن يسأله من بعض خير هذه الليلة أو يسأله الخير كله. قوله: (وأعوذ بك من شر هذه الليلة وشر ما بعدها، اللهم إني أعوذ بك من الكسل وسوء الكبر) بفتح الباء وكسر ما قبلها، وهو: وسوء العمر، وأن أرد إلى أرذل العمر. والكبر هو العمر المتقدم وهو السن. وفي رواية: (وسوء الكبر)، الذي هو غمط الناس. أي: ظلم الناس ورد الحق. قوله: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب في النار وعذاب في القبر). هذا دليل على أن القبر إما أن يكون روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، وأن عذاب القبر ثابت في كتاب الله عز وجل وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام. قال: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير -وهو ابن عبد الحميد الضبي الكوفي - عن الحسن بن عبيد الله عن إبراهيم بن سويد عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله بن مسعود قال: (كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا أمسى قال: أمسينا وأمسى الملك لله، والحمد لله، لا إله إلا الله وحده لا شريك له) قال: أراه قال فيهن]. أي: إبراهيم النخعي ينقل عن عبد الرحمن بن يزيد عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، رب أسألك خير ما في هذه الليلة، وخير ما بعدها، وأعوذ بك من شر هذه الليلة وشر ما بعدها، رب أعوذ بك من الكسل وسوء الكبر، رب أعوذ بك من عذاب في النار وعذاب في القبر)، وإذا أصبح قال ذلك أيضاً: (أصبحنا وأصبح الملك لله) إلى آخر الحديث وإذا قاله في المساء قال: (أمسينا وأمسى الملك لله والحمد لله، لا إله إلا الله وحده لا شريك له) إلى آخر الحديث، فهذا الدعاء يقال في كل صباح ومساء. وفي رواية قال: (كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا أمسى قال: أمسينا وأمسى الملك لله والحمد لله، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، اللهم إني أسألك من خير هذه الليلة وخير ما فيها، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها) ولم يقل: وشر ما بعدها، إنما قال: (وشر ما فيها) أي: من شر. (اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم وسوء الكبر). والهرم: الذي هو أرذل العمر. (وفتنة الدنيا وعذاب القبر). (فتنة) هنا اسم جنس، يشمل جميع الفتن التي يمكن أن يمر بها الإنسان في حياته، فتنة مال، فتنة نساء، فتنة جاه، فتنة سلطان، فتنة الدين، كلها فتن، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يستعيذ بالله عز وجل أن يقع في فتنة من فتن الدنيا أو الآخرة. وهذا إما أن يكون لتمام وكمال العبودية لله، فهو عليه الصلاة والسلام معصوم أن يقع في مثل هذا، أو لأنه أراد أن يعلم أمته كيف يدعون الله عز وجل. وفي رواية بزيادة: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير).

شرح حديث أبي هريرة: (لا إله إلا الله وحده)

شرح حديث أبي هريرة: (لا إله إلا الله وحده) قال: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثني الليث -وهو الليث بن سعد - عن سعيد بن أبي سعيد -وهو المعروف بـ المقبري، وهذا لقب له؛ لأنه كان يسكن بجوار البقيع- عن أبيه -وهو أبو سعيد المقبري - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا إله إلا الله وحده، أعز جنده)]، وجند الله هم أولياؤه وأنصاره، وهم المؤمنون الموحدون، فالله عز وجل أعزهم بعزته. [(ونصر عبده)] وهو محمد عليه الصلاة والسلام، فإما أن يكون هذا للعهد. أي: هذا العبد المعهود عليه العبودية لله عز وجل وهو النبي عليه الصلاة والسلام، وإما أن يكون هذا لبيان الجنس ليشمل جميع العباد الصالحين. قال: [(وغلب الأحزاب وحده فلا شيء بعده)]. وفي رواية: (وهزم الأحزاب وحده). والأحزاب: هم القبائل المتحزبون على حزب الإيمان. ومعنى (غلب الأحزاب وحده) أي: من غير قتال دار بينهم وبين أهل الإيمان، بل أرسل الله عز وجل عليهم ريحاً اقتلعت خيامهم حتى انهزموا بغير قتال دار بينهم وبين أهل الإيمان. أما قوله: (فلا شيء بعده) أي: فلا شيء سواه هزم الأحزاب، فهو سبحانه وتعالى وحده لا أحد معه هزم وغلب الأحزاب. قال: [حدثنا أبو كريب -وهو محمد بن العلاء الهمداني - قال: حدثنا ابن إدريس -وهو عبد الله - قال: سمعت عاصم بن كليب عن أبي بردة عن علي رضي الله عنه قال: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل: اللهم اهدني وسددني، واذكر بالهدى هدايتك الطريق والسداد سداد السهم)] أي: هدايتك الطريق حتى لا تنسى. فالنبي عليه الصلاة والسلام يعلم علياً دعاءً يدعو به دائماً في كل أحواله وأحايينه، وأتى له بأمارات من أجل لو نسي أصل الدعاء يذكر أن هداية الطريق هداية، فيقول: (اللهم اهدني وسددني) وأن سداده وحرصه على إصابة الهدف بالسهم سداد. والتقدير: فإذا نسيت هذا فاذكر بالهداية هدايتك الطريق وبالسداد سداد السهم.

باب التسبيح في النهار وعند النوم

باب التسبيح في النهار وعند النوم

شرح حديث: (لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات)

شرح حديث: (لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات) قال: [حدثنا قتيبة بن سعيد وعمرو الناقد وابن أبي عمر -واللفظ له- قالوا: حدثنا سفيان -وهو ابن عيينة - عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة، عن كريب -وهو مولى ابن عباس - عن ابن عباس رضي الله عنهما عن جويرية رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح)] بكرة. أي: في أول النهار؛ وحين صلى الصبح أي: بعد أن صلى الصبح في مسجده ثم دخل على امرأته جويرية رضي الله عنها فوجدها قد صلت وجلست في مصلاها تذكر الله تعالى، قال: [(خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح وهي في مسجدها -أي: في المكان الذي صلت فيه- ثم رجع بعد أن أضحى)] أي: بعد أن دخل وقت الضحى، أو بعد أن صلى الضحى وهي جالسة على حالها التي رآها عليها النبي عليه الصلاة والسلام [فقال: (ما زلت على الحالة التي فارقتك عليها؟)] يعني: أنت باقية لم تتحركي ولم تغادري هذا المكان منذ أن رأيتك بكرة. [(قالت: نعم يا رسول الله! فقال: لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن)]. يعني: أنا قلت أربع كلمات بعد أن غادرتك وتركتك على هذه الحال ورددتها ثلاث مرات، فهي تزن جميع أذكارك في يومك وليلتك. ومعنى (لو وزنت هذه الكلمات بما قلت لوزنتهن). أي: لفاقتهن في الفضل والثواب. قال: [(سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، وزنة عرشه، ورضا نفسه، ومداد كلماته)]. وسبحان الله وبحمده كلمة حبيبة إلى الرحمن، خفيفة على اللسان، ثقيلة في الميزان، كما جاء بذلك الحديث: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) وهو آخر حديث في صحيح البخاري. فالنبي عليه الصلاة والسلام بين لـ جويرية بالدرجة الأولى فضل هذه الكلمات؛ لأنها المخاطبة بهذا، والمخبرة بهذا الثواب وفضل هذه الكلمات وإن كان الخطاب والخبر للأمة إلى قيام الساعة. ولا يعني ذلك أنه عليه الصلاة والسلام سبح عدد الخلق؛ لأن عدد الخلق لا يمكن إحصاؤه، فلما غلب عليه الصلاة والسلام على الإحصاء لم يفكر فيه أصلاً؛ لأن الخلق نعمة من نعم الله عز وجل، والله تعالى يقول: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34]. فإذا كانت نعمة الخلق لا يمكن إحصاؤها فأراد النبي عليه الصلاة والسلام إجمال ذلك وبيان أنه يريد أن يسبح الله وأن يحمده عدد خلقه، وإن كان عدد الخلق بالنسبة إليه أمراً مجهولاً ولا يمكن إحصاؤه، فإنما أجمل الكلام إجمالاً؛ ولذلك سن للذاكر المتعبد أن يثني على الله عز وجل بما هو أهله، فلما عز الإنسان أن يثني على الله عز وجل بما هو أهله؛ لأن أحداً لا يكافئ الله عز وجل في الثناء والحمد والشكر والتمجيد، فسن أن نقول: (أنت كما اثنيت على نفسك) لأن أحداً لا يبلغ الثناء الكامل التام لله عز وجل. (لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك)، بعض الناس يقرؤها منقطعه؛ فيقول: (لا نحصي ثناءً عليك أنت) ويقف، ثم يقول: (كما أثنيت على نفسك)، فيصير المعنى غير مستقيم، ولكن القراءة الصحيحة التي يثبت بها الفهم الصحيح: (لا نحصي ثناءً عليك)، يعني: إذا أردنا إحصاء الثناء عليك فلا نقوى على ذلك، ولا نقدر عليه، (أنت كما أثنيت على نفسك)؛ لأن الله عز وجل أعلم بما له من ثناء وحمد وتمجيد، فإن العبد يثني على الله عز وجل بعظيم المحامد والثناء، ثم يرى أنه عاجز عن الوفاء بالحمد والشكر لله عز وجل، فيفوض الأمر إلى منتهاه، أو في منتهاه إلى الله عز وجل، يقول: يا رب! أنت تستحق أكثر من هذا الثناء والحمد، وأنت أعظم مما يمكن أن يتصوره المرء من ثناء وحمد، فأنت في النهاية كما أثنيت على نفسك، لكن ليس معنى هذا أنك تكل وتعجز عن الثناء والحمد، ولكن تحمد وتمجد وتعظم الله عز وجل. فهنا قال عليه الصلاة والسلام: (سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه) يعني: سبحانك وبحمدك حتى ترضى، أي: أسبحك وأحمدك حتى ترضى عني. وقوله: (وزنة عرشك) لا أحد يعمل زنة العرش إلا الله عز وجل؛ ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام ضرب مثلاً بالكرسي في العرش كحلقة في فلاة، قال: (السماوات السبع والأراضين السبع في الكرسي كحلقة في صحراء، والكرسي في العرش كحلقة في فلاة)، إذاً: زنة العرش فوق طاقة البشر، وفوق عقول البشر، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (سبحانك وبحمدك وزنة عرشك ومداد كلمات) يعني: أسبحك وأنزهك وأحمدك حمداً لا منتهى له. (ومداد كلماتك)، المداد الذي هو الحبر، لو أن الله عز وجل جعل الأشجار جميعاً أقلاماً، والبحار مداداً وجعل عباده يأخذون هذه

أحاديث صحيحة في أذكار الصباح والمساء

أحاديث صحيحة في أذكار الصباح والمساء هناك أحاديث أخرى كذلك صحت في أذكار الصباح والمساء، منها: ما أخرجه مسلم ولعله سبق من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال: (من قال حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله وبحمده مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحداً قال مثلما قال أو زاد عليه). وعند أبي داود والنسائي والترمذي بسند صحيح من حديث عبد الله بن خبيب قال: (خرجنا في ليلة مطر وظلمة شديدة نطلب النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي لنا، فلما أدركه ابن خبيب قال النبي صلى الله عليه وسلم له: قل، قال ابن خبيب: فلم أقل شيئاً، ثم قال: قل، قال: فلم أقل شيئاً، قال: قل، قلت: يا رسول الله! ما أقول؟ قال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1])، ليس على مذهب معمر القذافي الذي ألغى من كتاب الله عز وجل لفظ: (قل) قال: لأن الأمر موجه للنبي عليه الصلاة والسلام. وليس هناك حيوانات تجتهد إلا معمر القذافي وصدام حسين أو غيرهما. (قال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] والمعوذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاث مرات يكفيك من كل شيء). إما أن يقرأ (قل هو الله أحد) ثلاث مرات متتاليات، ثم (الفلق) ثلاث مرات متتاليات ثم (الناس) كذلك، وإما أن يقرأ (قل هو الله أحد) ثم (قل أعوذ برب الفلق)، ثم (قل أعوذ برب الناس)، وهذا أولى، ثم يعيد هذه السور الثلاث مرة ثانية وثالثة. إذا فعل العبد ذلك كفاه الله عز وجل شر يومه إلى المساء، وإذا قالها في المساء كفاه شر ليله حتى الصباح والناظر في كتب الأذكار إما في الصحيحين أو في كتب السنن، وإما في الكتب التي صنفت في الأذكار خاصة؛ يعلم أن حياة المسلم كلها ذكر لله عز وجل، فالشرع ما تركك قط بغير ذلك، لا في يقظتك وقومتك، ولا في نومك ولا في صباحك ولا في مسائك، ولا في صلاتك ولا في سائر عبادتك، حتى في أفعالك العادية التي تفعلها من باب العادة فيسن لك في كثير منها الدعاء، فطاعة تسلمك إلى طاعة، لتجد نفسك في النهاية ذاكراً لله تبارك وتعالى في كل أوقاتك وأحايينك. والنبي عليه الصلاة والسلام كان دائماً مسبحاً وذاكراً لله عز وجل، حتى قال: (إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة) وقال أبو هريرة: (وإنا لنعد عليه -عليه الصلاة والسلام- في المجلس الواحد مائة تسبيحة أو مائة استغفار). وذكر أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يعلم أصحابه: (إذا أصبح أحدكم فليقل: اللهم بك أصبحنا وبك أمسينا وبك نحيا وبك نموت). يعني: لا حول لنا ولا قوة في حياتنا ومماتنا، كلنا لله عز وجل، وكلنا في قبضة الملك تبارك وتعالى، اللهم بك أصبحنا، وبك أمسينا، لا يمكن لنا أن نصبح إلا بك، ولا نمسي إلا بك، ولا غنى لنا عنك طرفة عين، فصباحنا ومساؤنا بك. وهذا توكل كامل على الله عز وجل في الحياة والموت؛ ولذلك يسن لك إذا نمت أن تنام على خدك الأيمن وعلى جنبك الأيمن وتقول: (باسمك اللهم أموت وأحيا) يعني: أنام على اسم الله عز وجل، ولا يمكن أن أقوم من نومتي إلا بإذن الله عز وجل، وعلى اسم الله عز وجل. قال: (وإليك النشور). أي: البعث من هذا النوم الذي هو الموتة الصغرى، فشبه أهل العلم النوم بالموت، واليقظة بالبعث، ولذلك جاء في الحديث الصحيح: (إنكم تموتون كما تنامون وتبعثون كما تستيقظون) فشبه هذا بذاك، عندما الشخص يصحو يقول: (اللهم بك أصبحنا، وبك أمسينا)، وإذا أمسى قال: (اللهم بك أمسينا وبك أصبحنا)، وإذا كان في الصباح قال: (وإليك النشور)، الذي هو البعث والانتشار، وإذا كان في المساء قال في نهاية الدعاء: (وإليك المصير)، أي: نحن عائدون إليك، وصائرون إليك، وراجعون إليك.

سيد الاستغفار

سيد الاستغفار وعن شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سيد الاستغفار: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتنى وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك وأبوء لك بذنبى، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) هذا أحسن ذكر، لأنه يشمل التوحيد بجميع أقسامه: توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، وتوحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الأفعال؛ لأن الله تعالى واحد في ذاته، واحد في أسمائه وصفاته، واحد في أفعاله، والعبد يقر بين يدي الله عز وجل في صباحه ومسائه بهذا الحديث أنه عبد مذنب، وأنه راجع وصائر إليه، ومعترف بذنبه ومقر به، ومعتقد أن أحداً لا يقدر على مغفرة الذنوب إلا الله. تصور أن عبداً يقر لله تعالى في صباحه ومسائه بهذه التقريرات، ويقدم هذه الإيمانيات والعقائد الصحيحة من واقع هذا الدعاء، ويتبرأ من ذنبه بطلب التوبة والمغفرة من الله عز وجل، فسماه النبي صلى الله عليه وسلم لأجل هذا كله سيد الاستغفار. قال: (اللهم أنت ربي) أي: لا رب لي سواك، ولا إله لي غيرك، وأنت رب جميع المخلوقين، لا رب لهم غيرك، أنت الذي ربيتهم وخلقتهم ورزقتهم، وهديتهم وسويتهم، وقدرت عليهم، ولا يفعل أحد من خلقك شيء من هذا، فأنت متفرد في خلقك، وفي ربوبيتك، ومن ادعى أنه رب غيرك أو إله غيرك فإنما كل هؤلاء أرباب وآلهة كذابون أفاكون؛ لأنه لا رب على الحقيقة إلا الله عز وجل؛ لأنه رب جميع الخلائق، وهو رب جميع المخلوقات، لا رب لجميع المخلوقات غير الله عز وجل، فهنا قدم الإيمان بأن الله تعالى هو الرب لا رب سواه، ثم قال: (لا إله إلا أنت)، فأثبت صفة الإلهية لله عز وجل، والإله هو المألوه أو المتأله الذي يستحق الإلهية وحده، والعبادة وحده، لا يصرف شيء منها لغير الله عز وجل، فمن صرف شيئاً من العبادة الواجبة لله عز وجل لغير الله فكأنما اتخذ مع الله تعالى إلهاً غيره فيكون مشركاً بذلك، فكما أثبت النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الدعاء الربوبية لله عز وجل أثبت له كذلك الإلهية، فهو رب وحده وإله وحده، لا رب سواه ولا إله غيره، تصور أن عبداً يستيقظ من نومه بعد صلاة الفجر فيقدم بين يدي يومه هذا الدعاء، وهذا التقرير، قال: (خلقتني وأنا عبدك)، والخلق صفة للربوبية، فكما أقر بالربوبية بجميع صفاتها إجمالاً فصل بعد ذلك عليه الصلاة والسلام، قال: (أنت خلقتني)، والخلق صفة للرب تبارك وتعالى، فبعد أن قال: (اللهم أنت ربي) قال: (أنت خلقتني). ثم قال: (وأنا عبدك)، فالعبادة تصرف للإله الحق وهو الله سبحانه وتعالى، ولما كانت العبادة من خصائص الإلهية جمع النبي عليه الصلاة والسلام بين صفة الخلق وصفة العبادة، فالخلق من لوازم الربوبية والعبادة من لوازم الإلهية، فاعترف في هذا إجمالاً في الأول ثم فصل بعد ذلك، قال: (اللهم أنت ربي) أي: أنت خلقتني. (لا إله إلا أنت) وأنا عبدك، يعني: لا أصرف شيئاً من العبادة لغيرك؛ لأنك الإله الحق المستحق لهذه العبادة. قال: (وأنا على عهدك) يعني: لا أحيد عن العهد الأول والميثاق الإيماني الذي أخذه الله عز وجل على العباد أن يعبدوه وأن يوحدوه ولا يشركوا به شيئاً، وإقرارهم في الميثاق الأعظم في كتاب الله عز وجل؛ لأنهم قد آمنوا به إلهاً ورباً، والله عز وجل أشهدهم على أنفسهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:172] لأنه قد يكون منهم يوم القيامة منكر لهذا الميثاق وهذا العهد، فالنبي عليه الصلاة والسلام يذكر هذا ابتداءً من عنده فيقول: (وأنا على عهدك ووعدك) أي: أنا على العهد والميثاق والوعد الذي أخذه الله عز وجل على عباده، ولكنه عليه الصلاة والسلام قال: (ما استطعت). والطاعة والأمر يختلفان باختلاف الأشخاص، وباختلاف الأحوال والظروف؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه). يقول ابن تيمية وغيره من أهل العلم: إن الأمر بالطاعة يختلف بحسب أحوال الناس وظروفهم، فالله عز وجل أمرنا إذا صلينا أن نقوم في صلاتنا، فالقيام من واجبات الصلاة، أو من فرائض الصلاة، وتبطل صلاة الفرض إذا صلى الرجل قاعداً وهو قادر على القيام، لأن القيام واجب وفرض، وهو صلى جالساً بغير عذر. لكن إذا كان لديه العذر الذي يمنعه من القيام صلى جالساً ولا حرج عليه، وثوابه كثواب من صلى قائماً، بخلاف النافلة فللرجل القادر على أن يصلي النافلة قائماً أن يصليها قاعداً ولكن أجره على النصف من أجر صلاة القائم، وهنا كلام طويل قاله ابن القيم عليه رحمة الله في كتابه (الأذكار)، مرده إلى أن من الألفاظ المترادفة: العهد والوعد، قال: (وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت) يعني: آتي من الطاعات ما استطعت؛ لأن الطاعة أحياناً تكون فوق طاقة الإنسان؛ ولذلك فإن جرير بن عبد الله البجلي قال: (بايعت النبي

حديث أبي بكر: (اللهم عالم الغيب والشهادة)

حديث أبي بكر: (اللهم عالم الغيب والشهادة) وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: (يا رسول الله! علمني شيئاً أقوله إذا أصبحت وإذا أمسيت)، تصور أن السائل هو صديق هذه الأمة، فلما علم أهمية الذكر في طرفي النهار سأل عن ذلك، (فقال النبي عليه الصلاة والسلام: قل: اللهم عالم الغيب والشهادة). يعني: يا عالم الغيب والشهادة. والغيب هو الأمر الذي يغيب عن نظر المخلوقين، ولا يغيب عن الله عز وجل شيء؛ ولذلك أقر بين يدي الله عز وجل بأنه يؤمن أن الله تعالى يعلم الغيب كما يعلم الشهادة، والشهادة بمعنى المشاهد، فهذا الكأس مثلاً مشاهد، ولو أننا أخفيناه تحت الأرض لا يخفى على الله عز وجل. إذاً: الغيب والشهادة بالنسبة لله عز وجل شهادة يراها ويعلمها، فأقر بعلم الله عز وجل الذي لا يقاس عليه علم، لو أتينا بأعلم أهل الأرض فيكون علمه في علم الله عز وجل لا شيء، وأعلم أهل الأرض هو نبينا عليه الصلاة والسلام وعلمه في جنب علم الله لا شيء، بل المقارنة لا تصح. وكذلك السمع، تعرفون زرقاء اليمامة في البصر، لما جاءوا بـ زرقاء اليمامة المرأة التي كانت عيناها زرقاء وجميلة، وكان نظرها حاداً جداً، فكان بين قومها وبين أعدائهم حروب طاحنة، فقالوا: نأتي بـ زرقاء اليمامة تنظر إلى جهة العدو، واليمامة في نجد بجوار الرياض، فكانوا يخشون إغارة عدوهم، ولكن على أي حال تحزبوا واقتطعوا شجرة أو نخلة فجعلوها في وسط الجيش، وهم يمشون في الصحراء، فنزلت زرقاء اليمامة فقالت: أتاكم الجيش ومعه شجرة أو نخلة، قالوا: هذه المرأة مجنونة ولم يصدقوها، حتى فاجأهم وباغتهم الجيش ومعهم النخلة، فأقروا لها بحدة البصر. وأظن أن تاريخ البشرية لم يذكر امرأة أحد في النظر من زرقاء اليمامة، وماذا يكون نظرها في نظر الله عز وجل، وبصرها في بصر الله عز وجل؟ زرقاء اليمامة لو إبرة ألقيت في بحر لا تراها، لا ترى ما تحت عينها إذا ألقيت إبرة في فلاة أو في بحر لا تراها، والله عز وجل يعلم كل شيء، ما دق وجل، ما عظم وحصر، ما صغر وكبر، لا منتهى لصفاته سبحانه وتعالى؛ ولذلك نحن نقول: الله تعالى واحد في صفاته. يعني: متوحد ومتفرد في كل صفة أثبتها لنفسه أو أثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم، فالمخلوق يسمع، والله تعالى يسمع، لكن الله متفرد في سمعه، لو جمع أسماع جميع المخلوقين ما ساوت سمع الله تعالى، بل وما قورنت بسمع الله عز وجل، وجميع العلم عند الخلق على اختلاف ألوانهم وأشكالهم لو جمع في عقل واحد لا يساوي قط علم الله عز وجل، والله تعالى يقول: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85]، هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أعلم الخلق، ومع هذا يقول له: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85]، أي: في جنب علم الله عز وجل، والعلم الذي أوتيه الناس إنما هو من فضل الله عز وجل. إذاً: المقارنة غير صحيحة وجائرة وظالمة، ولذلك فالله سبحانه وتعالى واحد في أسمائه وصفاته وأفعاله. يعني: إذا فعل الله تعالى فعلاً لا يمكن أن يشبه هذا الفعل أفعال المخلوقين، أو أفعال المكلفين، ولا يمكن أن يخلق الخلق مجتمعون شيئاً يضاهون به خلق الله عز وجل، ولو أجمع الخلق أجمعون منذ أن خلق الله آدم إلى أن يرث الأرض ومن عليها لا يمكن أن يخلقوا ذبابة أو جناح ذبابة بنفس الكفاءة التي خلقها الله عز وجل. فلا يمكن للخلق أجمعين أن يفعلوا كفعل الله، وأن يخلقوا كخلق الله، وأن يسمعوا كسمع الله، وأن يبصروا كبصر الله، وأن يعلموا كعلم الله، فهو سبحانه وتعالى واحد في كل شيء، واحد في ذاته، فلا يمكن لجميع الذوات أن تشبه ذات الله عز وجل، واحد في أسمائه، هو السميع وأنا سميع، لكن الله تعالى متفرد في سمعه، أما أنا فلست متفرداً به، وهو من فضل الله، ويشبه سمعي سمع جميع المخلوقين، والحيوانات تسمع أحسن منا وأكثر منا، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إذا شيعت الجنازة فإن كانت صالحة قالت -أي: الجنازة تنطق- قدموني قدموني، وإذا كانت غير ذلك قالت: يا ويلها أين تذهبون بها بصوت يسمعه كل أحد إلا الإنسان ولو سمعه لصعق). أي: يسمعها كل شيء حتى الحيوانات والدواب والحشرات والطير إلا الثقلين: الإنس والجن. فقوله: (ولو سمعه لصعق) فلو سمعنا صوت الجنازة وهي تقول: يا ويلها أين تذهبون بها؟ لصعقنا، فلا أحد فينا يفكر أن يصلي بعد ذلك على جنازة أو يشيعها في يوم من الأيام، ولتركنا الموتى يعطبون في بيوتنا مخافة أن نصعق، فمن رحمة الله عز وجل بالآدمي أياً كان كافراً أو مسلماً، عاصياً أو طائعاً: أن يوارى الميت بالتراب حتى لا يتأذى الأحياء. قال: (قل: اللهم عالم الغيب والشهادة) يعني: الغائب والمشاهد، والغيب بالنسبة لله تعالى مشاهد؛ لأنه لا يغيب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض.

استحباب قول: (باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء) في الصباح والمساء

استحباب قول: (باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء) في الصباح والمساء وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما من عبد يقول في صباح كل يوم ومساء كل ليلة: باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، ثلاث مرات لم يضره شيء). وقال: (ما نزل أحدكم منزلاً -أي: يخشى منه- فيقول: باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات لم يضره شيء حتى يخرج) أي: حتى يخرج من هذا الذي يخافه، فلم يضره شيء حتى يصبح أو حتى يمسي. تصور أن أسداً يقابلك أو ذئباً أو كلباً أو عدواً خفت منه فقل: باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات، وهذا الأمر يحتاج إلى يقين أن هذا العدو لن ينالك بأذى، ولما تقول الكلام هذا وأنت ما عندك عقيدة راسخة يصيبك ما يصيبك، بسبب ضعف إيمانك، لكن أنا أعرف أن الكلام هذا حق وصدق، قاله النبي صلى الله عليه وسلم ويحتاج إلى قلوب مؤمنة قوية في إيمانها، وإن شاء الله تعالى لن يضرك، بل تكون أنت أمامه كالأسد. لا تقل هذا الدعاء شعرك واقف ونفسيتك تحت الأرض، وحالتك تغم، فربنا معك، سم الله وتوكل على الله، ولا يمكن مع ذكر الله أن يلحقك شيء أو يضرك أو ينالك أذى، إذا كنت تعتقد هذا وقلته ثلاث مرات لا يضرك شيء بإذن الله.

حديث أنس: (اللهم إني أصبحت أشهدك وأشهد حملة عرشك)

حديث أنس: (اللهم إني أصبحت أشهدك وأشهد حملة عرشك) وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال حين يصبح أو يمسي: اللهم إني أصبحت أشهدك وأشهد حملة عرشك وملائكتك وجميع خلقك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت، وأن محمداً عبدك ورسولك؛ أعتق الله ربعه من النار، ومن قالها مرتين أعتق الله نصفه من النار، ومن قالها ثلاثاً أعتق الله ثلاثة أرباعه من النار، فإن قالها أربعاً أعتقه الله من النار) الراجح أن هذا الحديث حسن بغير قيد بالليل والنهار، أما أنه من أذكار الصباح والمساء ففيه ضعف. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح). يعني: كان يداوم عليها في كل صباحه ومسائه. (اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي، وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي، وآمن روعاتي، اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي). يعني: الخسف. كما قال وكيع بن الجراح رحمه الله تعالى.

بعض الأحاديث الضعيفة الواردة في أذكار الصباح والمساء

بعض الأحاديث الضعيفة الواردة في أذكار الصباح والمساء هناك بعض الأحاديث الضعيفة التي وردت في أذكار الصباح والمساء، منها: حديث ثوبان رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من قال حين يمسي: رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً كان حقاً على الله أن يرضيه). هذا الحديث قال الترمذي فيه: حسن صحيح، وصححه جماعة عظيمة من أهل العلم. والذي يترجح لدي: تحسين هذا الحديث، وإن كان الشيخ الألباني عليه رحمة الله يضعف هذه الرواية. وحديث: عبد الله بن غنام رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قال حين يصبح: اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك، لك الحمد ولك الشكر، فقد أدى شكر يومه. ومن قال مثل ذلك حين يمسي فقد أدى شكر ليلته) أخرجه أبو داود وسنده ضعيف. والحديث الذي رواه طلق بن حبيب رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى أبي الدرداء رضي الله عنه فقال: يا أبا الدرداء! قد احترق بيتك، فقال أبو الدرداء: لم يكن الله ليفعل ذلك) ليحرق بيتي، (بكلمات سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، من قالها أول نهاره لم تصبه مصيبة حتى يمسي، ومن قالها آخر النهار لم تصبه مصيبة حتى يصبح: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، عليك توكلت وأنت رب العرش العظيم، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، أعلم أن الله على كل شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً، اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم). وهذا الحديث حديث ضعيف، وهناك أدلة أخرى وروايات متعددة في أذكار الصباح والمساء. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

الأسئلة

الأسئلة

حكم النظر إلى المخطوبة

حكم النظر إلى المخطوبة Q ما حكم الشرع في رؤية المخطوبة؟ وكم عدد مرات الرؤية الشرعية؟ A بمجرد أن رأيتها ووقعت في قلبك ليس لك أن تراها إلا بعد العقد، والرؤية ليست مرهونة بعدد معين، لا واحد ولا اثنين ولا ثلاثة ولا أربعة، وإنما أقل مجالس الرؤية واحد، رآها مثلاً ماشية في الشارع، كانت جارة له وترقبها حتى رآها هذا مأذون له شرعاً، كما فعل جابر، ومحمد بن مسلمة والمغيرة بن شعبة وغيرهم من الصحابة أنهم كانوا يختلسون النظر إلى المرأة، وهذا يجرنا إلى مسألة مهمة جداً، وهي: ماذا يرى الرجل من المرأة؟؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال لـ ابن مسلمة: (هل رأيتها؟ قال: لا. قال: انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئاً). وقال للمغيرة: (انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما فنظرت إليها حتى رأيت منها ما يسرني. وفي رواية: قال: فاختبأت لها فرأيتها من نخل) يعني: اختبأ في بستان حتى رآها. والمرأة في بيتها قد تكون لابسة ملابسها العادية وقد تكون كاشفة شعرها، والرقبة وشيئاً من الصدر، وقد تكون كاشفة الذراعين، أو كاشفة شيئاً من الساقين، فيجوز النظر إلى هذا، بل هذا هو المذهب الراجح في القضية، وجمهور الفقهاء يقولون: لا ينظر إلا إلى الوجه والكفين، ولا دليل معهم في ذلك. وهم يقولون: الوجه يدل على النضرة، واليد تدل على السمنة والنحافة؛ لأن جمال المرأة في وجهها في الغالب؛ لأن المرأة لو كان جسمها جميلاً لكنها دميمة الخلقة فإنها لا تعجب الرجال، فتبين أن جمال المرأة دائماً إنما هو في وجهها. المذهب الثالث في القضية هو مذهب الظاهرية: قالوا: للرجل أن يجردها -بالدال- لأن بعض أهل العلم صحفها إلى الباء، وهذه مصيبة سوداء، فقال: له أن يجربها، وهذا بلاء عظيم جداً، ولم ينتبه إلى هذا التصحيف، وهذا المذهب قد اعتمد على قصة أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب لما أرسلها علي إلى عمر ليراها، فكشف عمر عن ساقها، قالت: لولا أنك أمير المؤمنين لفقأت عينيك. وهذه البنت كان عمرها (10 - 11) سنة، وهذه الرواية غير صحيحة لا تثبت من جهة الإسناد، ولا من جهة المعنى، وإن هذه ليست أخلاق عمر رضي الله عنه، حتى لو كان هذا من حقه فالظن به أنه يتورع عن ذلك. أما من جهة الرواية والسند فإن السند إلى عمر منقطع، فيبقى أمامنا مذهبان: المذهب الأول: مذهب جماهير الفقهاء وهو: للخاطب أن يرى من مخطوبته الوجه والكفين، ولو طلب الخاطب أن يرى المرأة في حالتها الطبيعية في بيتها فله ذلك، وهذا الذي يترجح إلي من جهة الدليل، ولكني لو تعرضت لمثل هذا لرفضت وكرهت ذلك.

حكم المكالمات الهاتفية بين المخطوبين

حكم المكالمات الهاتفية بين المخطوبين Q هل يجوز في فترة الخطوبة الكلام بين العريس والعروس وهل يكون قليلاً في أول الأمر ويكثر بعد الخطبة أم لا؟ A الحقيقة أن فتوى الشيخ الألباني عليه رحمة الله، وقال بهذه الفتوى بعض أهل العلم كذلك: أن الخاطب لا يكلم مخطوبته بل ولا يراسلها عن طريق الخطابات والبريد، ولا يكلمها في الهاتف. هكذا سمعت الشيخ الألباني يشدد جداً في هذه القضية؛ لأن المخطوبة أجنبية. الأمر الثاني: أنه لا يصار إلى مثل هذا حتى لو قلنا بأنه ليس حراماً بل إنه شبهة لمنع بعض أهل العلم لذلك، ومن الورع ترك الشبهات.

معنى قوله عليه الصلاة والسلام (فإن في أعين الأنصار شيئا)

معنى قوله عليه الصلاة والسلام (فإن في أعين الأنصار شيئاً) Q ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (فإن في أعين الأنصار شيئاً)؟ A قوله عليه الصلاة والسلام (فإن في أعين الأنصار شيئاً) محل نزاع بين أهل العلم. (شيئاً) أي: ضيقاً، ونقل أن شيئاً هنا هو الاتساع، واتساع عين المرأة دليل جمالها، إما أن تكون عين المرأة واسعة بمعنى جريئة، وهذا ذم، أو تكون عين المرأة واسعة من جهة الخلقة فهذا مدح.

الحكم على الأحاديث الواردة في قراءة آية الكرسي دبر كل صلاة

الحكم على الأحاديث الواردة في قراءة آية الكرسي دبر كل صلاة Q نرجو بيان الحديث الواردة في قراءة آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة. A الحديث الوارد في قراءة آية الكرسي دبر كل صلاة حسنه ابن تيمية في الفتاوى، والراجح أنه حديث حسن.

حكم قول (فلان رحمه الله)

حكم قول (فلان رحمه الله) Q نعلم أن من معتقد أهل السنة والجماعة أنا لا نقطع لأحد بجنة ولا بنار، فما حكم من قال: (فلان رحمه الله)؟ A قولنا: فلان رحمه الله يشعر أنه في الجنة، ونحن لا نزكي على الله أحداً وإنا لنرجو له الجنة، وإنا نحسبه في الجنة كذلك، لكن لا نستطيع أن نقطع لأحد بعد النبي عليه الصلاة والسلام بجنة وكذلك ليس كل الصحابة مقطوعاً لهم الجنة، نحن نرجو الله عز وجل أن يكون جميع الصحابة من أهل الجنة، لكن لا نشهد لأحد بالجنة قطعاً حتى من أصحابه عليه الصلاة والسلام إلا من قطع له القرآن والسنة، فقولنا: فلان رحمه الله من باب الدعاء لا الخبر. وإلا فما يدريني أن الله تعالى قد رحمه، وبلا شك أن الورع عن هذه الألفاظ أولى، لكن أنا أريد أن أقول: إذا قيلت فالقصد منها الدعاء لا الخبر، والورع ترك ذلك؛ لأنك تقول: فلان شهيد، ومن المعلوم قطعاً أن الشهداء في الجنة إذا لم يأتوا ما يستوجب لهم النار كالغلول وغير ذلك من الأعمال التي تؤثر على الشهادة. فلو قلنا: فلان شهيد وقطعنا له بالشهادة الحقة فكأننا نقول: فلان في الجنة، ونتألى على الله عز وجل بهذا، فالأولى ترك هذه الألفاظ.

الأسباب المساعدة على اجتناب العادة السرية

الأسباب المساعدة على اجتناب العادة السرية Q ما هي الأسباب التي تساعد على عدم فعل العادة السرية؟ وكيف يمكن التوبة منها؟ A يا أخي الكريم! لا بد أن تعلم أن الأمر دائماً يتعلق بطاعة الله عز وجل أو بمعصيته، فكونك أدركت أن هذه معصية فهذا نصف العلاج، ولا بد أن تعلم أن المذهب الراجح في هذه القضية هو مذهب الشافعية أن الاستمناء أو العادة السرية أو اللعب بالقبل عند المرأة والرجل حرام، وهو أرجح المذاهب في هذه القضية، لقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:5 - 7]، أي: من فعل غير ذلك فهو معتد، ومعنى {الْعَادُونَ} [المؤمنون:7] أي: المعتدون الآثمون. فالذي يترجح لدي: حرمة الاستمناء، والاستمناء في الغالب لا يأتي إلا في وقت غفلة، وفي وقت تسلط شهوة، وإنما يكون هذا تأثير الشيطان على العبد في حال معصيته لله عز وجل وبعده عن قراءة القرآن والعلم ومصاحبة الخلان الذين يعينونه على طاعة الله عز وجل وغير ذلك. فلا بد لهذا العبد الذي يطلب التوبة النصوح أن يهتم بكتاب الله عز وجل، وأن يراجع نفسه دائماً في الحلال والحرام، وأن يخوف نفسه بآيات التخويف، وأن يقدم ذلك على باب الرجاء، بمعنى يغلبه على باب الرجاء ما دام واقعاً في هذه المعصية. الأمر الثاني: ألا ينفرد قط؛ لأن الذئب إنما يأكل من الغنم القاصية، يتسلط الشيطان على الشارد عن الجماعة؛ ولذلك أحد العلاجات أنك دائماً تكون في صحبة إخوانك، وألا تتركهم إلا في وقت لا بد لك من تركهم، أما ما دامت الصحبة ممكنة فلا تفرط فيها قط، ثم هذه المجلات وهذه الجرائد القومية وإن شئت فقل: الجنسية فحذاري أن تخالطها أو تخالطك فنحن قد انتقلنا نقلة سوداء في عام واحد في تصوير العرايا والمومسات والعاهرات على صفحات الجرائد. تصور لو أن شاباً في ريعان شبابه وثوران شهوته يغلق على نفسه باب مكتبه أو غرفته ثم هو معه من هذه المجلات، مجلة الكواكب ومجلة حواء وغيرها، فينظر في صورة هذه المرأة، وفي صورة هذه المرأة، وفي صورة هذه المرأة، فلابد أن شهوته تثور وتفور فيقع في المحظور، فالعبد لا يقتني هذا، وإن كان لابد له من قراءة هذه الجرائد لحاجة فليقرأ خارج بيته أو في بيته ثم يستغني عنها فوراً بالحرق أو الرمي أو غير ذلك، أما أن يحتفظ بها في مكانه الذي يأمن أنها في مكان معين يرجع إليها إذا اشتهى إلى هذه الصورة فإن هذا باب عظيم جداً من أبواب الشر. نكتفي بهذا، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار - أدعية وأذكار الكرب

شرح صحيح مسلم - كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار - أدعية وأذكار الكرب لقد ربطت الشريعة المسلم بدينه في كل أمور حياته وسائر حركاته، وجعلت لكل شأن من شئونه ذكراً يتعبد به المسلم لله عز وجل، لتظل حياته كلها مرتبطة بالله عز وجل، ومن ذلك ما جاءت به من أذكار يقولها إذا أصابه كرب أو هم أو حزن، وأذكار يقولها إذا أكل أو شرب أو أخذ مضجعه.

باب استحباب الدعاء عند صياح الديك

باب استحباب الدعاء عند صياح الديك الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، أما بعد: فمع الباب العشرون من كتاب الذكر والدعاء: (باب: استحباب الدعاء عند صياح الديك). أي: حين يصيح الديكة.

شرح حديث: (إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله)

شرح حديث: (إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله) قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثني قتيبة بن سعيد]. وهو ثقفي، وثقيف في الطائف، ولكنه رحل إلى مصر والبصرة والكوفة وبغداد وغيرها من سائر البلدان. قال: [حدثنا ليث]-وهو الليث بن سعد الفهمي، الإمام الكبير المصري- عن جعفر بن ربيعة]، وهو جفعر بن ربيعة بن شرحبيل بن حسنة الكندي، أبو شرحبيل المصري، وقد كان إماماً من أئمة المصريين. والليث وجعفر كلاهما مصري، وتلميذ الليث ثقفي، والأعرج وأبو هريرة مدنيان. والليث شهرته وسمعته فاقتا كل حد، وهما فوق كل تعريف، وأما جعفر بن ربيعة فهو وإن كان من أجلة علماء الحديث والفقه والعبادة كذلك، ومن المشهورين بالزهد إلا أن أحداً لا يعرف عنه شيئاً، وكثيراً ما يمر القارئ في كتب التراجم بأئمة لا يقلوا في العلم والورع والفضل عن أحمد بن حنبل ولا الشافعي ولا مالك ولا أبي حنيفة، وهم مع هذا مغمورون جداً حتى عند طلاب علم الحديث والمطلعين في كتب التراجم، وهذا بلا شك تفريط شديد جداً في حق أئمة العلم. وأنا أقترح أن ينشط طلاب العلم لإعداد بحث في أهل العلم من المحدثين الذين هم من أهل مصر أو وفدوا إليها، وليكن على الأقل ممن له رواية في الكتب الستة؛ حتى لا يخرجوا عن الكتب التي ترجمت لأصحاب الكتب الستة، وإلا فالذين نزلوا مصر والذي هم أهلها آلاف العلماء على مر التاريخ، ولو جعلنا البحث متعلقاً بتراجم أو برواة الكتب الستة فقط وإلى نهاية عصر التدوين -أي: نهاية القرن الرابع الهجري- لكان ذلك عملاً جيداً جداً ومفيداً خاصة لأهل مصر، وهذا ليس من باب التعصب لعلماء مصر ولا لمصر، وإنما هو من باب التعرف على علماء بلادنا قبل غيرهم. وجعفر بن ربيعة يروي عن الأعرج، وهو عبد الرحمن بن هرمز المدني، [عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله؛ فإنها رأت ملكاً، وإذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان؛ فإنها رأت شيطاناً)]. إذاً: العلة أن الديكة إذا صاحت فإنما تصيح لأنها رأت ملكاً، فالدعاء حينئذ مستجاب؛ لأن الملائكة تؤمن على دعاء الداعي، فإذا سمعت الديك يصيح فاسأل الله تعالى من فضله، فإما أن تقول: اللهم إني أسألك من فضلك، وإما أن تسأل الله تعالى بمطلق الدعاء من فضله سبحانه وتعالى، فإن فعلت ذلك أمن الملك الذي رآه الديك على دعائك، وهذا هو معنى قوله: (فاسألوا الله من فضله؛ فإنها رأت ملكاً). قال: (قال: القاضي عياض: سببه رجاء تأمين الملائكة على الدعاء) والحالة هذه (واستغفارهم وشهادتهم بالتضرع والإخلاص). أي: شهادة الملائكة عند الله عز وجل في ضراعة هذا العبد وإخلاصه لله عز وجل. قال: (وفي هذا الحديث استحباب الدعاء عند حضور الصالحين والتبرك بهم). ونحن دائماً نعلق على قول الإمام النووي في استحباب التبرك بآثار الصالحين: أن هذه المسألة محل خلاف ونزاع قديم بين أهل العلم، والذي أجمع عليه العلماء: استحباب التبرك بالنبي عليه الصلاة والسلام وآثاره حياً وميتاً، وأما التبرك بذات النبي عليه الصلاة والسلام بعد موته فشرك بالله العظيم، وأما التبرك بآثار الصالحين فإن بعض أهل العلم أجاز ذلك قياساً على التبرك بالنبي عليه الصلاة والسلام، وقالوا: إنما أجزنا ذلك لأنه عبد صالح. وجمهور أهل السنة والجماعة على ترك التبرك بآثار الصالحين؛ لأنه ذريعة إلى الدخول في الشرك، كما أنه افتئات على الله عز وجل في نسبة هذا العبد إلى الصلاح، وصلاح العبد لا يعلمه إلا الله عز وجل، والمقطوع بصلاحهم هم الأنبياء والمرسلون، فمنعوا التبرك حتى بـ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والمشهود لهم بالجنة من أصحابه عليه الصلاة والسلام؛ سداً للذريعة. وهنا شبهة يمكن أن تثار، وهي: إذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام مقطوعاً بصلاحه فكذلك أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وغير ذلك ممن شهد لهم القرآن والسنة بدخول الجنة، وعلى هذا فيشرع التوسل بهم. والجواب عند أهل السنة: أن هذا الباب قد سد بعد النبي عليه الصلاة والسلام؛ حتى لا يكون ذريعة للشرك. أي: الوقوع في الشرك. فهذه الجملة عند الحافظ النووي محل نظر عند أهل السنة.

باب دعاء الكرب

باب دعاء الكرب الباب الحادي والعشرون: (باب دعاء الكرب). يعني: إذا وقع الإنسان في كرب أو هم أو غم أو غير ذلك مما يؤثر على نفسه وبدنه وقلبه يستحب له أن يدعو بأدعية كثيرة منها: أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقول: (إذا حزب أحدكم أمر أو إذا نزل بأحدكم الهم -وفي رواية: الغم- فليقل: اللهم إني عبدك ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، وذهاب همي وحزني -وفي رواية: وذهاب همي وغمي- إلا أذهب الله همه وأبدله مكان حزنه فرحاً). وهذا حديث عظيم جداً، وجليل القدر، وفيه حكم عظيمة وفوائد جمة.

شرح حديث: (أن النبي كان يقول إذا أصابه كرب: (لا إله إلا الله العظيم الحليم)

شرح حديث: (أن النبي كان يقول إذا أصابه كرب: (لا إله إلا الله العظيم الحليم) قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثني محمد بن المثنى ومحمد بن بشار -الملقب بـ بندار - وعبيد الله بن سعيد]. وهو ابن يحيى اليشكري، أبو قدامة السرخسي. وبعض الطلاب ينطقها السرْخَسي، والأصل فيها السرَخْسي؛ لأن البلد اسمها سرَخْس، وليس سرْخَس، وإليها ينسب الإمام السرَخْسي، الإمام الكبير، وهو علم من أعلام الفقه الحنفي، وله كتاب عظيم جداً ضخم في المذهب الحنفي في الفقه اسمه (المبسوط). [قالوا جميعاً: حدثنا معاذ بن هشام]. وهو معاذ بن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي، وليس لـ هشام بن عروة ولد يسمى معاذاً، وإنما إذا ذكر معاذ بن هشام فهو معاذ بن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي، وأصله فارسي ولكنه نزل بغداد. [قال: حدثني أبي -وهو هشام بن أبي عبد الله الدستوائي - عن قتادة - وهو ابن دعامة السدوسي البصري -عن أبي العالية] وهو رفيع بن مهران الرياحي، معروف بكنيته أبو العالية الرياحي، وقد كان من أئمة العلم والزهد كذلك [عن ابن عباس رضي الله عنهما أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب -أي: إذا أصابه كرب أو غم أو هم-: (لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم)]. وقد كان ابن عباس يعجب أشد العجب من هذا الدعاء، ويوصي به دائماً، وهو الذي رواه عن النبي عليه الصلاة والسلام. قال الإمام النووي: (وهو حديث جليل ينبغي الاعتناء به). أي: ينبغي على كل مسلم أن يحفظه، وأن يدعو به إذا نزل به الكرب أو الهم أو الغم، وما أكثره خاصة في هذا الزمان. قال: (والإكثار منه عند الكرب والأمور العظيمة). أي: يسن ويستحب لك أن تكرره دائماً حتى يزول هذا الكرب وينكشف الغم. قال: (قال الطبري: كان السلف يدعون به -يعني: كان السلف يهتمون اهتماماً عظيماً جداً بهذا الدعاء- ويسمونه دعاء الكرب -أي: الدعاء الذي يزيل الكرب- فإن قيل: هذا ذكر وليس فيه دعاء). لأن الدعاء عبارة عن طلب، مثل: اللهم اكشف كربي وأزل همي وغمي وغير ذلك، وأما هذا فهو ذكر لله تعالى، فكيف نفهم أنه دعاء؟ قال الإمام النووي: (فجوابه من وجهين: أحدهما: أن هذا الذكر يستفتح به الدعاء). يعني: اجعل هذا الذكر دائماً في مقدمة دعائك، فإذا أردت أن تدعو الله أن يكشف عنك الهم والحزن فقدم بين يدي طلبك ودعائك هذا الذكر لله تعالى، وكأن هذا الذكر هو مفتاح الدعاء الذي إذا قدمته على الدعاء تقبل الله تعالى دعاءك. قال: (ثم يدعو بما شاء). (والثاني: جواب سفيان بن عيينة أنه قال: أما علمت قول الله تعالى في الحديث القدسي: (من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل مما أعطي السائلين)). يعني: لو أن العبد انشغل بذكر الله تعالى ولم ينشغل بالطلب والدعاء فهذا أولى وأفضل. ولكن هذا الحديث ضعيف، فيسلم لنا من هذين الوجهين الوجه الأول، وهو أن هذا الحديث إنما حثنا ودلنا على ذكر ولم يدلنا على دعاء، وجوابه عند الإمام النووي وغيره من أهل العلم: أن هذا وإن كان ذكراً إلا أنه كالمفتاح لدعائك الله تعالى برفع الهم وإزالة الغم وتفريج الكربات التي نزلت بك، فعلى الإنسان أن يقدم بين يدي دعائه هذا الذكر. قال: (وقال الشاعر: إذا أثنى عليك المرء يوماً كفاه من تعرضه الثناء) يعني: إذا ذكر المرء الله تعالى في يوم فإن هذا الثناء والذكر لله تعالى يغنيه عن طلب الدعاء أو عن طلب تفريج الهم والغم.

لطيفة حديثية وإسنادية في حديث ابن عباس فيما يقال عند الكرب

لطيفة حديثية وإسنادية في حديث ابن عباس فيما يقال عند الكرب قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع عن هشام -وهو هشام الدستوائي - عن قتادة عن أبي العالية عن ابن عباس]. فالراوي في الإسناد الأول عن هشام هو معاذ. وفي الإسناد الثاني: وكيع. وحديث معاذ عن هشام أتم، فهو قد ذكر الرواية تامة كاملة. وأما طريق وكيع فربما يكون قد ذكر جزءاً واحداً من الحديث أو جزئين أو ثلاثة. [(ح) وحدثنا عبد بن حميد]، وهو عبد الحميد، ولقبه عبد. [أخبرنا محمد بن بشر العبدي حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة]. وسعيد معروف بالرواية عن قتادة، وهو من أوثق الناس فيه، وإذا قيل: سعيد عن قتادة فهو ابن أبي عروبة، بفتح العين لا بضمها. [أن أبا العالية الرياحي حدثهم عن ابن عباس: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهن)]. والضمير هنا يعود على هذه الدعوات السابقات، فقد كان يقولهن عند الكرب. [فذكره بمثل حديث معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة، غير أنه قال: (رب السماوات والأرض)]. يعني: ولم يذكر كلمة رب الأرض، وإنما ذكر الأرض وعطفها على السماء. يقول العلماء: إن تعداد الأحاديث بلغ أكثر من (1. 200. 000)، مع أن كتب السنة كلها التي دونت الأحاديث لم تذكر هذا العدد الهائل، وإنما كانوا يعدون اختلاف الطرق التي روي بها الحديث، فلو أخذنا مثلاً حديث: (إنما الأعمال بالنيات) نجد أنه رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ورواه عن عمر علقمة بن وقاص الليثي، ورواه عن الليثي محمد بن إبراهيم التيمي، ورواه عن التيمي يحيى بن سعيد الأنصاري، فكل واحد منهم تفرد في طبقة، ثم حصل التواتر في الطبقة الخامسة من الإسناد، فرواه عن يحيى بن سعيد (200) وقيل: (700). كما قال الحافظ ابن حجر، وقد صح من مائتي طريق، فهي مائتي حديث؛ لأن النظر دائماً باعتبار الطرق وليس باعتبار المتن، ولذلك فأرجح الأقوال في تعداد أحاديث البخاري ومسلم أنها سبعة آلاف، مع أن المتون لا تعدوا كونها ثلاثة آلاف، ولكنها باعتبار اختلاف الطرق تبلغ سبعة آلاف. وقد قال الإمام أحمد بن حنبل: كنا نمر بالرجل يحفظ (20. 000) حديث لا نلقي له بالاً، مع أن البخاري كله (4000) حديث أو (3000) حديث، وهذا الذي يحفظ (20. 000) حديث قد يكون للحديث الواحد (100) طريق أو (200) طريق أو أكثر من ذلك، فيكون (20. 000) حديثاً عبارة عن (200) إلى (300) حديث، وهذا لا يساوي شيئاً بجوار أحمد بن حنبل الذي كان يحفظ (2. 000. 000) حديث. وابن عباس هنا يروي عنه أبو العالية، وعنه قتادة، ويروي عن قتادة في الإسناد الأول والثاني هشام بن أبي عبد الله الدستوائي، وفي الإسناد الثالث سعيد بن أبي عروبة، ورواه عن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي اثنان: ولده معاذ ووكيع. إذاً: هذا الحديث أخرجه مسلم من طريقين: الأولى: عن هشام عن قتادة عن أبي العالية عن ابن عباس. والثانية تابع فيها هشاماً سعيد بن أبي عروبة. [حدثنا محمد بن حاتم حدثنا بهز] وهناك بهز بن حكيم بن معاوية، وهو متقدم عن بهز هذا، فالأول هو بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة عن أبيه عن جده، وجده صحابي، وأما هذا الذي يذكر في طبقة شيوخ شيوخ مسلم فهو بهز بن أسد العمي -[قال: حدثنا محمد بن سلمة أخبرني يوسف بن عبد الله بن الحارث عن أبي العالية عن ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر)]. يعني: ألم به ونزل به أمر. أي: مصيبة أو غم أو كرب. [فذكر بمثل حديث معاذ عن أبيه، وزاد معهن: (لا إله إلا الله رب العرش الكريم)] فأحاديث رفع الكرب وردت في صحيحي البخاري ومسلم. وفي صحيح مسلم ورد الحديث من طريق ابن

باب فضل سبحان الله وبحمده

باب فضل سبحان الله وبحمده الباب الثاني والعشرون: (باب: فضل سبحان الله وبحمده).

شرح حديث: (أي الكلام أفضل)

شرح حديث: (أي الكلام أفضل) قال: [حدثنا زهير بن حرب - أبو خيثمة النسائي نزيل بغداد- حدثنا حبان بن هلال -بفتح الحاء، وهو أبو حبيب البصري - حدثنا وهيب -وهو ابن خالد بن عجلان البصري - حدثنا سعيد الجريري -وهو سعيد بن إياس أبو مسعود البصري - عن أبي عبد الله الجِسري -وهو إما بفتح الجيم أو كسرها- واسمه حمير بن بشير، وهو مشهور بكنيته ونسبته دون اسمه، عن ابن الصامت -وهو عبد الله بن الصامت - عن أبي ذر الغفاري]. وعبد الله بن الصامت غفاري من غفار، وهي قرية من قرى الشام، وكذلك أبو ذر، وكان أبو ذر من أئمة الشام في زمانه. [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: (أي الكلام أفضل؟ قال: ما اصطفى الله لملائكته أو لعباده: سبحان الله وبحمده)] أي: أفضل الكلام هو الذي اصطفاه الله تعالى لملائكته أو لعباده، وهو سبحان الله وبحمده، وبلا شك أنه لو تلا القرآن فالقرآن خير وأحب إلى الله تعالى؛ لأنه كلامه سبحانه وتعالى. إذاً: فقوله عليه الصلاة والسلام لما سئل عن أحب الكلام إلى الله؟ قال: (ما اصطفاه الله لملائكته أو لعباده: سبحان الله وبحمده) محمول على كلام العبد. يعني: أعظم وأفضل كلام يتكلم به العبد من عند نفسه التسبيح والتهليل لله عز وجل، وأن يقول: سبحان الله وبحمده، ولكن لو قرأ القرآن لكان أفضل. والرأي الثاني: أن قراءة القرآن مطلوب التعبد بها وتلاوتها في أوقات معينة، أو في أوقات مخصوصة، وأما تنزيه العبد لربه وتسبيحه وتحميده فذلك في كل وقت، كما قال الله عز وجل: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103]. فالصلاة لها وقت، وهو أحب الأوقات إلى الله عز وجل. وقد أخرج أبو داود أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من سمع النداء فلم يأته فلا صلاة له إلا من عذر). لأن هذا وقتها. والعمل المباح ربما يكون واجباً، فالعمل للتكسب والمعاش وغيرهما مباح، وربما يكون واجباً، وهو بلا شك واجب إذا قورن بضياع النفس ومن يعول. ومع اعتقادنا بأن العمل مشروع ومباح وربما يكون واجباً لكن وجوب العمل لا يدعو إلى ترك الصلاة، فإذا سمع النداء فلا بد أن يعلم أن ما بعد النداء تابع لعبادة أخرى، فلا بد أن نفرق بين العبادات، فوقت عبادة العمل تنتهي بدخول الوقت في الصلاة، وإذا فرغنا من الصلاة دخلنا في عبادة أخرى، وهي العمل، فلكل وقته، ولذلك قال الإمام النووي: (أما قوله: (أحب الكلام إلى الله: سبحان الله وبحمده)، وفي رواية: (أفضل الكلام) هذا محمول على كلام الآدمي، وإلا فالقرآن أفضل، وكذا قراءة القرآن أفضل من التسبيح والتهليل المطلق، فأما المأثور في وقت أو حال ونحو ذلك فالاشتغال به أفضل). يعني: أن النبي عليه الصلاة والسلام سن لنا في أدبار الصلوات أدعية لندعو بها، فالأفضل في هذا الوقت أن ندعو بهذه الأدعية؛ لأن هذا وقتها الذي شرعت له. قال: (وكذلك كل ما عين له الشرع وقتاً أو حالاً معيناً). وكذلك أذكار الصباح، فإذا فرغت من أذكار الصباح فاقرأ القرآن، ولا تقدم القرآن على أذكار الصباح؛ لأن هذا وقتها أيضاً.

شرح حديث: (إن أحب الكلام إلى الله: (سبحان الله وبحمده)

شرح حديث: (إن أحب الكلام إلى الله: (سبحان الله وبحمده) قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا يحيى بن أبي بكير الكوفي الكرماني عن شعبة عن الجريري -وهو سعيد بن إياس - عن أبي عبد الله الجَسري أو الجِِسري. وعن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر قال: (قلت: يا رسول الله! أخبرني بأحب الكلام إلى الله؟ فقال: إن أحب الكلام إلى الله سبحان الله وبحمده)]. ففي الإسناد الأول قال: (سئل النبي عليه الصلاة والسلام)، وهذا السائل هو أبو ذر بدليل أن الرواية الثانية صرحت أنه قال: عن أبي ذر قال: (قلت: يا رسول الله! أخبرني بأحب الكلام إلى الله)، يعني: هو السائل رضي الله عنه (فقال: إن أحب الكلام إلى الله سبحان الله وبحمده). و (سبحان): لفظ يفيد التنزيه، والله تعالى منزه عن جميع النقائص، ومتصف بجميع صفات الكمال والجلال سبحانه وتعالى.

باب فضل الدعاء للمسلمين بظهر الغيب

باب فضل الدعاء للمسلمين بظهر الغيب الباب الثالث والعشرون: (باب: فضل الدعاء للمسلمين بظهر الغيب). أي: في غيبة المدعو له، بحيث لا يسمع الدعاء، وظهر الغيب لا يتحقق إذا كان غيره يسمع، بل لابد أن تدعو له سراً ولا يسمع أحد لا المدعو له ولا غيره، على خلاف بين أهل العلم، والراجح أن الدعاء لأخيك في ظهر الغيب. أي: في غيبته وإن شهد الدعاء آخرون.

شرح حديث: (ما من عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب)

شرح حديث: (ما من عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب) قال: [حدثني أحمد بن عمر بن حفص الوكيعي حدثنا محمد بن فضيل -وهو محمد بن فضيل بن غزوان الضبي أبو عبد الرحمن الكوفي - حدثنا أبي -وهو فضيل - عن طلحة بن عبيد الله بن كريز عن أم الدرداء] وهذه هي أم الدرداء الأوصابية، واسمها جهيمة وقيل: هجيمة، إما بتقديم الجيم أو بتقديم الهاء. [عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا قال الملك: ولك بمثله)]. يعني: يقيض الله عز وجل ملكاً من ملائكته عند رأس الداعي إذا دعا لأخيه بظهر الغيب -وهذا شرط- لأنه أبلغ في الإخلاص والتجرد، ومن أغلق عليه بابه ثم دعا لإخوانه واستغفر لهم فلا شك أن هذا مبعثه الحب في الله عز وجل والإخلاص لهذا المدعو له، ولما كان الجزاء من جنس العمل، فإن الله يكافئه بأن يقيض له ملكاً من ملائكة السماء يقول: ولك مثله. ولما علم السلف رحمهم الله تعالى ورضي عنهم قيمة هذا الدعاء انشغلوا به جداً، وكان الواحد منهم إذا أراد لنفسه شيئاً دعا بهذا الشيء لإخوانه؛ حتى يؤمن الملك على ذلك، ثم يجعل له حظاً مثل حظ إخوانه، فكان الواحد -مثلاً- إذا أراد الزواج دعا في ظهر الغيب: اللهم زوج أخي. حتى يقول الملك: آمين ولك بمثله. وإذا كان بحاجة إلى شيء ما دعا لإخوانه بهذا الشيء في ظهر الغيب؛ حتى يقيض الله تعالى له ملكاً يقول: آمين ولك بمثله. وهذا احتيال مشروع، أو هو شدة الإلحاح على الله عز وجل بجميع الطرق، فبعد أن دعا لنفسه مباشرة ولم ير نتيجة فإنه يدعو لإخوانه، ثم إن الملك الذي وعد به النبي عليه الصلاة والسلام يقيض ويقول: آمين ولك بمثله. أي: استجيب الدعاء لأخيك في ظهر الغيب وسيرد إليك. وهذا الدعاء إذا دعوت لرجل واحد، أو لجماعة من المسلمين، أو للمسلمين عامة؛ لأن كل فرد من المسلمين هو أخ لك، والحديث يقول: (ما من عبد مسلم يدعو لأخيه). وسواء كان هذا لفرد أو جماعة، فالأمة كلها إخوة، وكما في الحديث: (وكونوا عباد الله إخوانا). والأمر هنا لكل مسلم. [حدثنا إسحاق بن إبراهيم -وهو المعروف بـ ابن راهويه - أخبرنا النضر بن شميل حدثنا موسى بن سروان المعلم حدثنا طلحة بن عبيد الله بن كريز قال: حدثتني أم الدرداء قالت: حدثني سيدي]، وسيدها زوجها أبو الدرداء، والسيد في اللغة هو البعل والزوج، وهو الحر، ولما تقرأ في ترجمة أم الدرداء تجد أنها ما كانت تقول قط لزوجها إلا يا سيدي، وهذا الأمر ليس عجيباً، وخاصة إذا كان من امرأة متربية مؤدبة، ومن بيت محترم، وقد كان عندنا إلى قبل زمن قريب كل زوجة تقول لزوجها: يا سيد فلان، وإذا نادته باسمه كسر رأسها؛ لأن هذه حقوق مستقرة، وتعارف عليها الناس. وأما هذا الوقت فإن الواحد مضطر لأن يقول لامرأته: سيدة فلانة! وإلا اشتكت به، وقالت: إنه يهينها إذا ناداها باسمها، مع أنها تناديه باسمه، وتقول: إن هذا ترخيم، أي: أن هذا ترخيم له عندما تناديه باسمه، وإذا كان اسمه بطيخ مثلاً فإنها تناديه: يا بطيخ! أمام الناس كلهم. [قالت -أي: أم الدرداء - حدثني سيدي أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من دعا لأخيه بظهر الغيب قال الملك الموكل به: آمين، ولك بمثله)]. وكلمة (الموكل به) فيها إشكالية، وهي هل هذا الملك الموكل بهذا الشخص يمشي معه دائماً في حله وترحاله وفي خلوته وجلوته وإلا هو ملك مخصوص ينزل للدعاء أو حين الدعاء؟ القول فيه على مذهبين عند أهل العلم، والراجح: أنه الملك الموكل. أي: المصاحب للعبد دائماً.

شرح حديث: (دعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة)

شرح حديث: (دعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة) [حدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا عيسى بن يونس -وهو ابن أبي إسحاق السبيعي - حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان عن أبي الزبير عن صفوان بن عبد الله بن صفوان وكانت تحته أم الدرداء قال: (قدمت الشام، فأتيت أبا الدرداء في منزله فلم أجده ووجدت أم الدرداء، فقالت: أتريد الحج العام؟)] يعني: تريد أن تذهب إلى الحج هذا العام؟ [(فقلت: نعم. قالت: فادعو الله لنا بخير، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثله)]. وفي قول صفوان: (أتيت أبا الدرداء في منزله فلم أجده ووجدت أم الدرداء فقالت: أتريد الحج العام؟) جواز محادثة النساء للرجال والرجال للنساء بشرطين: إذا دعت الحاجة إلى ذلك، وأمنت الفتنة. وهنا لا يوجد فتنة بين صفوان وأم الدرداء سيدة نساء الشام في زهدها وورعها وعبادتها، بل هي التي سألته، وقالت: (أتريد الحج العام؟ قال: نعم. قالت: فادعو الله لنا بخير). وفي هذا جواز طلب الدعاء من الأخ المسلم؛ لأن بعض الإخوة المتنطعين يقول: إن قول النبي عليه الصلاة والسلام لـ عمر بن الخطاب الذي أخرجه أبو داود في سننه: (فادع الله لنا يا أخي!) أو (لا تنسنا من دعائك يا أخي!) ضعيف وما دام ضعيفاً لا نعمل به، مع أن المسألة فيها عشرات الأحاديث، وعلى ذلك استقر عمل السلف في دعوة بعضهم لبعض وبطلب بعضهم من بعض الدعاء. فهذه أم الدرداء الفقيهة امرأة الفقيه تطلب الدعاء من صفوان بن عبد الله وتقول له: (فادع الله لنا بخير، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة). وهذا يدل على فضل الدعاء في ظهر الغيب، وأنه مستجاب، (وأن الله تعالى يوكل به ملكاً عند رأسه كلما دعا لأخيه بخير) والدعاء موصوف بأنه دعاء بالخير لا بالشر ولا قطيعة الرحم [(قال صفوان: فخرجت إلى السوق فلقيت أبا الدرداء فقال لي مثل ذلك، يرويه عن النبي عليه الصلاة والسلام)]. يعني: نفس الكلام الذي قالته أم الدرداء في البيت قاله أبو الدرداء في السوق لـ صفوان. وهذا يدل على أن السلف كانت حياتهم كلها واحدة، وكانوا يُعمِلون النصوص في كل موطن، ولا يفرطون في شيء من ذلك. [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا يزيد بن هارون عن عبد الملك بن أبي سليمان بهذا الإسناد مثله. وقال: عن صفوان بن عبد الله بن صفوان].

باب استحباب حمد الله تعالى بعد الأكل والشرب

باب استحباب حمد الله تعالى بعد الأكل والشرب الباب الرابع والعشرون: (باب: استحباب حمد الله تعالى بعد الأكل والشرب). يعني: أنه ليس واجباً، وإنما هو مستحب. قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وابن نمير قالا: حدثنا أبو أسامة - حماد بن أسامة - ومحمد بن بشر العبدي عن زكريا بن أبي زائدة عن سعيد بن أبي بردة] وهو ابن أبي بردة الأشعري. يعني: جده أبو موسى الأشعري [عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها)]. يعني: إذا أكلت أكلة عظيمة جداً شهية على مائدة وسفرة رائعة فإن الله تبارك وتعالى يرضى منك أن تقول: الحمد لله. فقط، وهذا من كرم ربنا الذي لا حد له، فإذا جلست على المائدة حتى امتلأ بطنك تماماً وعجزت عن الأكل حيث أنك لا تجد له مسلكاً، وإن كنت لا تتناول من كل صنف إلا لقمة واحدة لكثرة الأصناف فإن الله تعالى يرضى منك بكلمة تؤدي بها شكر هذه النعمة، وهي قولك: (الحمد لله). وجاء في صحيح البخاري صيغة هذا الحمد أنه قال: (الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، غير مكفي ولا مودع ولا مستغن عنه ربنا). وجاءت صفات وصيغ غير هذا للحمد بعد الطعام والشراب.

باب بيان أنه يستجاب للداعي ما لم يعجل

باب بيان أنه يستجاب للداعي ما لم يعجل الباب الخامس والعشرون: (باب: بيان أنه يستجاب للداعي ما لم يعجل). يعني: يستعجل ويستبطئ الإجابة. فمثلاً لو أن شخصاً يدعو على مدار السنة: يا رب! نجحني وهو لا يذاكر، ثم رسب، ثم لم يدعو في السنة التي بعدها وقال: قد دعوت مدة السنة ومع هذا رسبت فنقول له: إنك لم تأت بالسبب الذي يبلغك النجاح، وحتى لو أتى بالسبب ولم يقدر له النجاح فهذا من القدر الذي يجب على هذا العبد أن يؤمن به، وأن يحمد الله تعالى عليه في السراء والضراء، وإذا أصابته الضراء وقد اتخذ لها الأسباب فينبغي عليه أن يحمد الله تعالى. قال: حدثنا [يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك عن ابن شهاب عن أبي عبيد مولى عبد الرحمن بن عوف -واسمه سعد بن عبيد الزهري - عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، فيقول: قد دعوت فلا -أو- فلم يستجب لي)]. وقد قلنا: إن الدعاء قد يكون عبادة محضة؛ لأن الدعاء هو العبادة. يعني: أنه باب عظيم جداً من أبواب العبادة، حتى وإن كان الإنسان لا يريد أن يسأل، فيسأل في حال معين أو في وقت معين فيدعو في هذا الوقت إظهاراً للعبودية، وإن لم يكن له حاجة في هذا التوقيت بالذات، فإذا دعا في توقيت ليس له فيه مصلحة معينة مع خلو ذهنه وعدم انشغال قلبه بشيء معين فإن هذا الدعاء يكون محض العبادة، وهي صورة ظاهرة جداً في عبادة النبي عليه الصلاة والسلام، والعباد أحوج الخلق إلى طلب الحاجات من الله عز وجل في كل وقت وحين. [حدثنا عبد الملك بن شعيب بن الليث حدثني أبي عن جدي] وهؤلاء ثلاثة مصريون متتابعون، عبد الملك وشعيب والليث، فـ عبد الملك يروي عن أبيه عن جده [قال: حدثني عقيل، وعقيل نزل مصر. وقدم قدم أحد إخواننا خطة بحث لرسالة الدكتوراة في جامعة الأزهر، كلية أصول الدين، قسم الحديث في الرواة المصريين، والمادة طويلة، فهي تزيد عن (1500) ورقة تلسكاب، فإذا نشط أحدكم للبحث فسأدفع له خطط البحث التي قدمها هذا الباحث في الدكتوراة إلى جامعة الأزهر، والعجيب أن جامعة الأزهر رفضت هذا، ولم تبد أسباباً، مع أن أحداً لم يتعرض لهذا إلا الإمام السيوطي فله كتاب في مجلدين، ذكر فيه الصحابة المصريين والذين نزلوا مصر. [عن ابن شهاب أنه قال: حدثني أبو عبيد مولى عبد الرحمن بن عوف، وكان من القراء وأهل الفقه -فمع أنه مولى إلا أنه كان فقيهاً قارئاً للقرآن الكريم- قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل فيقول: قد دعوت ربي فلم يستجب لي)].

شرح حديث: (لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم)

شرح حديث: (لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم) قال: [وحدثنا أبو الطاهر أخبرنا ابن وهب]، وأبو الطاهر مصري، وكذلك ابن وهب مصري. [أخبرني معاوية بن صالح -ومعاوية نزل مصر - عن ربيعة بن يزيد الدمشقي]، ويمكن أن يدخل في هذا البحث أهل دمشق باعتبار أن الشام ومصر كانوا دولة واحدة قبل أن يصبحوا دولتين. [عن أبي إدريس الخولاني -وهو عائذ الله بن عبد الله، عالم الشام بعد أبي الدرداء - عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم)]. فمن موانع إجابة الدعاء: أن يدعو العبد بإثم أو قطيعة رحم، وهذا مشروط بألا يكون العبد الذي هو الداعي مظلوماً، فإن كان مظلوماً ودعا بإثم على المدعو عليه استجيب له. فلو دعا مثلاً: يا رب! احرم فلان هذا العلم، وارزقنيه بدلاً منه في الدعاء، ولو كان هذا الداعي من أهل العبادة والورع، فهذا الدعاء لا يستجاب، بل يأثم به الداعي. ولكن لو كان مظلوماً في مظلمة معينة عند فلان أو عند فلانة فقال: اللهم إن كنت تعلم أن حقي عنده أو عندها فافعل بها كيت وكيت وكيت، ويدعو عليها أو يدعو عليه، فهذا بلا شك دعاء مستجاب؛ لأن هذا دعاء المظلوم حتى وإن كان كافراً. قال: [(لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدعو بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستجعل. قيل: يا رسول الله! ما الاستعجال؟ قال: تقول: قد دعوت، قد دعوت، فلم أر يستجيب لي). أي: فلم أر الله تعالى يستجيب لي. (فيستحسر عند ذلك). ومعنى يستحسر: ينقطع عن الدعاء، قال الله تعالى: {لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} [الأنبياء:19]. أي: لا يملون ولا ينقطعون عن العبادة. قال: [(فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء)]. والمتعدي في الدعاء يأثم بالتعدي، ولا يوجد دليل يقول: إنه ينقلب عليه، وإنما الدليل قائم على أنه يأثم بذلك. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

الأسئلة

الأسئلة

نصيحة لطالب العلم المبتدئ

نصيحة لطالب العلم المبتدئ Q بماذا تنصح طالب علم الحديث المبتدئ؟ A أنصح إخواني جميعاً لا بطلب الحديث فحسب، ولا القرآن فحسب، ولا العقيدة فحسب: أن يقطفوا من كل بستان زهرة، خاصة بعد التقدم في السن، فإن الشخص قد يطلب الحديث مدة (10) سنين أو (15) أو سنة وعمره (50) سنة ثم أنه يحفظ شيئاً من القرآن الكريم، ولا يعرف شيئاً من العقيدة الصحيحة ولا غير ذلك، ولذلك أنصح إخواني بالدراسة في أي معهد من معاهد إعداد الدعاة المعتبر؛ حتى يتسنى له أن يطلب العلوم كلها. وهذا الكلام لمن لم يكن له طريق في طلب العلم الشرعي.

حكم الاستمناء في نهار رمضان

حكم الاستمناء في نهار رمضان Q ما حكم من استمنى متعمداً في نهار رمضان؟ وما كفارته؟ A هذا حرام، والاستمناء عموماً حرام، وهو في نهار رمضان أشد حرمة، فيجب على هذا المستمني أن يصوم يوماً مكان هذا اليوم، ويتوب إلى الله عز وجل من هذه الفعلة الشنعاء.

حكم أكل الميتة من البهائم

حكم أكل الميتة من البهائم Q هل يجوز أكل ما مات من البهائم بعد موته؟ وهل له مدة معينة بعد موته، وهل يكون هذا من الميتة؟ A هذا من الميتة، ولا يجوز لك أن تأكل منه شيئاً، لا كثيراً ولا قليلاً، لا بعد موته مباشرة ولا بزمن، وسواء طال الزمن أم قصر؛ لأن هذا ميتة، إلا إذا كنت تقصد بالموت الذبح.

حكم الاستنجاء للوضوء

حكم الاستنجاء للوضوء Q في أثناء الصلاة أخرجت ريحاً أو أحدثت فذهبت وتوضأت مرة ثانية ولم أدخل الحمام، هل علي إثم في ذلك؟ A لا، ليس عليك إثم، ولا يلزمك استعمال الماء، وفي حديث أبي هريرة: (أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر بالوضوء من الحدث. قيل: يا أبا هريرة! ما الحدث؟ قال: فساء أو ضراط). فليزمه أن يتوضأ ولا يلزمه غسل دبره بالماء.

حكم الصلاة خلف من يعمل في شركة دخان، وحكم الأكل من طعامه

حكم الصلاة خلف من يعمل في شركة دخان، وحكم الأكل من طعامه Q هل يجوز الصلاة وراء إمام يعمل في شركة الدخان؟ A يجوز ذلك؛ لأن عمله لا علاقة له بإمامته في الصلاة، وإن كنا نكره له ذلك، وننصحه بترك العمل في هذا المجال. مداخلة: ولو دعاهم إلى العقيقة؟ الشيخ: إذا كان له مال آخر غير ماله الذي يتقاضاه من الشركة فمن شاء ذهب ومن لم يشأ لم يذهب.

حكم اشتراط ولي المرأة على الزوج عدم انتقاد الزوجة

حكم اشتراط ولي المرأة على الزوج عدم انتقاد الزوجة Q هل يجوز لأبي البنت أن يأخذ علي ورقة بعدم انتقاد ابنته بعد الزواج؟ A إذا أراد ذلك وتعسر الزواج وكانت البنت من أهل الصلاح فلا بأس أن يعطيه الورقة، ولو خالفها بعد الزواج فهذا الإلزام لا عبرة به في الشرع أبداً، وإذا تزوج فهو حر في بيته، بل هو صاحب الولاية المطلقة على المرأة، وليس عليه إثم.

حكم البقاء في المحاضرة في الجامعة أثناء الصلاة

حكم البقاء في المحاضرة في الجامعة أثناء الصلاة Q أنا طالب في الجامعة ويؤذن المؤذن وأنا في محاضرة، فهل أترك المحاضرة وإن ترتب على ذلك ضرر، وجزاكم الله خيراً؟ A إذا لحق الضرر بك إذا تركت المحاضرة فإنه لا يجوز لك أن تترك المحاضرة، وصل في جماعة ثانية بعد انتهاء المحاضرة.

حكم الصلاة خلف من ينقر الصلاة نقرا

حكم الصلاة خلف من ينقر الصلاة نقراً Q ما حكم الصلاة خلف الإمام السريع في صلاته نقراً بحجة أن العمال يريدون هذا، علماً بأننا لا نقرأ الفاتحة في بعض الركعات؟ A هذه الصلاة باطلة، وقد جاء في حديث المسيء صلاته أنه دخل ونقر الصلاة نقراً ثم أتى فسلم على النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: (وعليك السلام، ارجع فصل فإنك لم تصل). لأنه كان لا يطمئن في ركوعه ولا سجوده ولا قراءته، فالذي يصلي سريعاً جداً لدرجة أن بعض المأمومين لا يتمكنون من قراءة الفاتحة خلفه فضلاً عن السورة، فهذا بلا شك مسيء صلاته. يعني: أن صلاته سيئة إلى أقصى حد، ولا أظن أن مسيء الصلاة الوارد في النص قد بلغ هذا المبلغ، وأنتم تعلمون أن الاطمئنان ركن في كل ركن. يعني: الاطمئنان ركن في القيام، وفي القراءة، وفي السجود، وفي الركوع، فإذا خالف المصلي في ركن متعمداً بطلت صلاته، وهذا قد خالف في ركن الاطمئنان، وهو ما يسمى المصلي السريع. ونحن في بلادنا رجل كبير جداً عمره فوق (90) سنة، وقد كان جدي يصلي خلفه، وقد مات، وأبي سيموت، وأنا سأموت، والرجل لا يزال يعيش، وهو الذي يصلي بالناس إلى اليوم، وقد انحنى ظهره في زاوية (45)، وقد زارني صاحب مرة فلم يجدني في البيت فقال: ما دام العصر قريباً فسأذهب أصلي في المسجد، فذهب وصلى هناك، ولما رجع وجدني، فقلت له: أين صليت؟ قال لي: في المسجد الكبير. قلت له: أنت صليت خلف الرجل الفلاني؟ قال: نعم. ثم قال: لقد قلت لما تقدم هذا الرجل: إن أكملنا الصلاة قبل المغرب فهذا جيد وإذ بالرجل يخيب أملي فيه تماماً وينقر الأربع الركعات في صلاة العصر في أقل من دقيقتين. قال: لقد أدهشني هذا الرجل بلياقته البدنية الهائلة، والناس كلها مبرمجة عليها، فبعد الصلاة قلت لهم: يا ناس! صلاة الرجل هذا غير صحيحة، فوافقني بعض الشباب، فقلت لهم: نقيم ونصلي صلاة ثانية، ولكن هؤلاء الشباب مبرمجين على هذا الرجل، فعندما أسجد أو أرفع من الركوع يسبقوني؛ لأنهم مبرمجين على هذا الرجل. يعني: لما يرفع من الركوع يسمع بعضهم قد وصل إلى الأرض، ولما يسجد يلاحظ بطرفه بعضهم قد سجدوا قبله؛ لأنهم تبرمجوا على صلاة هذا الأول، والأصل في الصلاة المتابعة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (وإنما جعل الإمام ليؤتم به).

مدى صحة نسبة القول بفناء النار إلى ابن تيمية وابن القيم

مدى صحة نسبة القول بفناء النار إلى ابن تيمية وابن القيم Q هل صحيح أن ابن تيمية وابن القيم يقولان بفناء النار؟ A ما نقل عن ابن تيمية وابن القيم أنهما قالا بفناء النار. غير صحيح، وقد كتبت رسالة دكتوراة من جامعة أم القرى منذ (3) أو (4) أعوام بينت مذهب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في بقاء النار وعدم فنائها.

حكم التعامل مع البنوك الإسلامية

حكم التعامل مع البنوك الإسلامية Q ما حكم التعامل مع البنوك الإسلامية إيداعاً ومرابحة؟ A الدكتور علي السالوس هو من أهل الذكر في هذه القضية، وهو إمام من أئمة الاقتصاد في البلاد، وهو يرى جواز التعامل مع المصرف الإسلامي الدولي، وبنك فيصل الإسلامي، ويقول: بجواز التعامل معهم إذا كان ذلك من باب الحساب الجاري بغير إشكال. أما إذا كان من باب حساب المرابحة فهو يقول: الأولى ترك ذلك. وقوله: (الأولى ترك ذلك) يدل على جوازه مع خلاف الأولى، أو مع الكراهة. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

كتاب الزهد والرقائق - أكثر أهل الجنة الفقراء - قصة أصحاب الغار

شرح صحيح مسلم - كتاب الزهد والرقائق - أكثر أهل الجنة الفقراء - قصة أصحاب الغار الجنة هي سلعة الله الغالية، والتي لا تتحصل بالمال والجاه وإنما بالعمل الصالح، وما وقر في قلب العبد من التقوى والإيمان، ومصداق ذلك أن أكثر أهل الجنة هم الفقراء، وهم يدخلون الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم من أيام الآخرة وهو خمسمائة سنة كما في بعض الآثار.

باب أكثر أهل الجنة الفقراء وأكثر أهل النار النساء

باب أكثر أهل الجنة الفقراء وأكثر أهل النار النساء الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، أما بعد:

شرح حديث: (قمت على باب الجنة فإذا عامة من دخلها المساكين)

شرح حديث: (قمت على باب الجنة فإذا عامة من دخلها المساكين) روى أبو عثمان النهدي -وهو عبد الرحمن بن مل، وقيل: ابن ملي وهو مخضرم ثقة من العباد الأثبات- عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: [قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قمت على باب الجنة فإذا عامة من دخلها المساكين -أي: اطلعت فيها- وإذا أصحاب الجد محبوسون، غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار، وقمت على باب النار فإذا عامة من دخلها النساء).

شرح حديث: (اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء)

شرح حديث: (اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء) قال: [حدثنا زهير بن حرب حدثنا إسماعيل بن إبراهيم -المعروف بـ ابن علية - عن أيوب بن أبي تميمة السختياني عن أبي رجاء العطاردي] وهو عمران بن ملحان، وهو مخضرم ومن الثقات الأثبات، وكان معمراً؛ مات عن عمر يناهز المائة وعشرين عاماً. [قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: قال محمد صلى الله عليه وسلم: (اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء -والفقراء بمعنى: المساكين كما في الرواية الأولى- واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء). وحدثناه إسحاق بن إبراهيم أخبرنا الثقفي - وهو عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي - أخبرنا أيوب - وهو ابن أبي تميمة السختياني البصري - عن أبي رجاء العطاردي عن ابن عباس بنحو الحديث السابق. وحدثنا شيبان بن فروخ قال: حدثنا أبو الأشهب - وأبو الأشهب هو جعفر بن حيان السعدي العطاردي البصري - قال: حدثنا أبو رجاء عن ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع في النار) فذكر الحديث كما في طريق أيوب السختياني.

شرح حديث: (إن أقل ساكني الجنة النساء)

شرح حديث: (إن أقل ساكني الجنة النساء) قال: [وحدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي - وهو معاذ العنبري - قال: حدثنا شعبة عن أبي التياح -وهو الضبعي البصري يزيد بن حميد - قال: كانت لـ مطرف بن عبد الله -وهو ابن عبد الله الشخير - امرأتان فجاء من عند إحداهما، فقالت الأخرى: جئت من عند فلانة؟ -أي: الزوجة الثانية- فقال: جئت من عند عمران بن حصين فحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أقل ساكني الجنة النساء)] يعني: وافق القدر أن يسمع من عمران بن حصين ما يكون سبباً لتأديب امرأته، أن النبي عليه الصلاة والسلام اطلع في النار فوجد أن أكثر أهلها النساء، وأنه أخبر أن أقل ساكني الجنة هم نساء الدنيا، فهو يثبت لها أن حظها في الجنة قليل إن لم تستقم، فما بالها تسأل هذا السؤال؟ وما سألته إلا على سبيل التبكيت والتقريع له، ولذلك ألقمها حجراً بما سمعه آنفاً من عمران بن حصين. قال لها: (لست من عندها أتيت، ولكني أتيت من عند عمران بن حصين رضي الله عنه، وحدثنا أن أقل ساكني الجنة النساء) فقد كلمها كلاماً جميلاً ما استطاعت أن تقول له: أنت تشتمني أو تسبني؛ لأنه سمع حقاً أن عمران بن حصين ذكر مرفوعاً: (أن أقل ساكني الجنة النساء). [وحدثنا محمد بن الوليد بن عبد الحميد - وهو المعروف أو الملقب بـ حمدان القرشي البصري - قال: حدثنا محمد بن جعفر -أي: البصري غندر - حدثنا شعبة عن أبي التياح قال: سمعت مطرفاً يحدث: أنه كانت له امرأتان. بمعنى الحديث السابق].

معنى قوله: (قمت على باب الجنة فإذا عامة من دخلها المساكين)

معنى قوله: (قمت على باب الجنة فإذا عامة من دخلها المساكين) أما قوله عليه الصلاة والسلام: (قمت على باب الجنة فإذا عامة من دخلها المساكين). فالمسكين هو: الخاشع المتذلل الفقير إلى الله عز وجل، وليس معناه أنه فقد كل متاع الدنيا، ويبين لنا ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين) فالمسكين بمعنى المتذلل الخاضع الخاشع في الدين القائم الصائم، وغير ذلك من أحوال التعبد والاجتهاد فيه. ولا يمنع أن يكون المسكين على هذا النحو فقيراً كذلك، فلو جمع إلى العبادة والخشوع والذل والخمول وترك الكبر والتكبر فقراً وقلة حاجة لكان هذا أولى له.

معنى قوله: (وإذا أصحاب الجد محبوسون)

معنى قوله: (وإذا أصحاب الجد محبوسون) قوله: (وإذا أصحاب الجد محبوسون). أصحاب الجد اختلف فيهم أهل العلم: هل هم أصحاب الولايات والسلطات والزعامات والإمارات أو أن الجد المقصود به المال؟ فإن كانوا أصحاب المال فهم محبوسون -أي: موقوفون- بين يدي الله عز وجل يسألهم عن أموالهم من أين اكتسبوها وفيما أنفقوها. وإذا كانوا أصحاب سلطة وإمارة فهم كذلك محبوسون وموقوفون بين يدي الله عز وجل، وإن الفقراء المساكين ليدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام. وإن كان يقصد بأهل الجد أصحاب الولايات والإمارات؛ فإنهم يسألون عن رعاياهم ماذا عملوا فيهم؟ هل قاموا لهم بواجب النصح والإرشاد والتعليم، وحملهم على طاعة الله عز وجل، وتأديبهم، وإقامة الحد فيهم على معصية الله عز وجل؟ أم أنهم لم يعنيهم دين الله عز وجل وإنما اعتنوا بجمع الأموال والحفاظ على كراسيهم. فأصحاب الجد إما أن يكونوا من أصحاب الولايات أو من أصحاب الأموال، وفي كلٍ ورد الخبر بأنهم محبوسون وموقوفون للسؤال عن ما كان منهم، إما عن أموالهم من أين اكتسبوها وفيما أنفقوها، وإما عن ولاياتهم ماذا عملوا فيها، وهل قاموا بواجب نصح الأمة أم لا.

خلاف العلماء في الأفضلية بين الغني الشاكر والفقير الصابر

خلاف العلماء في الأفضلية بين الغني الشاكر والفقير الصابر قال: وفي هذا الحديث: تفضيل الفقر على الغنى، وكذلك فضيلة الفقراء على الأغنياء، لكن بلا شك هذه مسألة خلافية قديمة بين أهل العلم، وقد اختلف اختلف العلماء: أيهما أفضل: الفقير الصابر أم الغني الشاكر؟ وقلنا: شكر الغنى هو مراعاة حق أصحاب الحق في هذا المال بإخراج الزكاة وصدقات التطوع وغير ذلك. ورجح شيخ الإسلام ابن تيمية: أن الغني الشاكر على هذا النحو أفضل من الفقير الصابر؛ لأن الفقير الصابر خيره ونفعه وعبادته لم تتعد إلى غيره وإنما اقتصرت عليه، فهو وحده المستفيد بهذا الصبر، أما الغني الشاكر فخيره متعد إلى الغير. هب أن رجلاً صائماً قائماً عابداً، ليس له شغل إلا هذا وليس له مال، فهو بخلاف الرجل الغني القائم الصائم الصابر الذي يعرف حق الله تعالى في هذا المال، فهو ينفق منه هكذا وهكذا ويقول به في كل ميدان، يجهز به الجنود والغزاة، ويساعد به الفقراء والأيتام والأرامل والمساكين وغير ذلك. فلا شك أن نفع هذا خير من نفع الرجل الصابر الفقير. قال: أما قوله: (إلا أصحاب النار فقد أمر بهم إلى النار). أي: من استحق من أهل الغنى النار لكفره وعناده وجحوده دخل النار، أو من كان من أهل الغنى ولكنه عاص واستوجب عصيانه دخول النار دخل النار.

شرح حديث: (اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك)

شرح حديث: (اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك) قال: [حدثنا عبيد الله بن عبد الكريم] وهو أبو زرعة الرازي الإمام الكبير وهو من أقران الإمام مسلم، وهو من أئمة الجرح والتعديل، بل الإمام مسلم لم يرو له في صحيحه إلا هذا الحديث مع أنه صاحب فضل على مسلم ومسلم كما يقول الإمام الذهبي: كان عنيداً جداً، وكانت به حدة العجم، فلهذا لم يرو عن البخاري حديثاً واحداً مع أن البخاري شيخه. وفي هذا قصة طويلة لعلكم سمعتموها: أن البخاري لما نزل نيسابور طريداً شريداً بسبب الوشايات التي حدثت عليه بسبب فتنة خلق القرآن، دعاه محمد بن يحيى الذهلي لأن يدخل نيسابور، فلما أشرف على الدخول خرجت إليه نيسابور برجالها ونسائها وأطفالها يملئون الطرقات والشوارع ومداخل البلد يستقبلون الإمام البخاري، فأنزلوه في دار، وإذا بهذه الدار تمتلئ بأهل البلد حتى صعد الناس السطوح فملئوها حتى لم يبق موضع قدم، وطلبوا من البخاري التحديث، فلما حدث ببضعة أحاديث اجتمعت البلد كلها للسماع من الإمام البخاري وفيهم مسلم، والإمام محمد بن يحيى الذهلي قد خلا مجلسه تماماً من الطلاب، فتحرك داعي الحسد في قلب محمد بن يحيى الذهلي وهو يعلم أن البخاري موقفه سليم في مسألة خلق القرآن ولكنه غلبه الشيطان في لحظة ضعف، فوشى بـ البخاري عند حاكم نيسابور وقال: إنه يقول: لفظي بالقرآن مخلوق. فطرد الإمام البخاري مرة ثانية من نيسابور بسبب هذه الفتنة، وكان الإمام مسلم من أجل تلاميذ محمد بن يحيى الذهلي، فلما انصرف البخاري بعد أن سمع منه مسلم جملة مستكثرة من الأحاديث لمدة دقائق في نيسابور انطلق مسلم ليسمع مرة أخرى من الذهلي، فلما رآه الذهلي شق عليه ذلك فقال: من كان يحضر مجلس البخاري ويقول بقوله لفظي بالقرآن مخلوق فليقم عن مجلسنا. فعلم مسلم أن هذه الرسالة موجهة إليه وكانت فيه حدة، فقام مغضباً من المجلس وانطلق إلى بيته وأرسل ما كان قد سمعه من كتبه عن محمد بن يحيى الذهلي، وكانت قد بلغت حمل بعير. فحملها كلها على ظهر البعير ثم أرسل بها إلى محمد بن يحيى الذهلي وقال: لا حاجة لنا في حديثك ولا نحدث كذلك عن البخاري. ولذلك خطَّأ كثير من أهل العلم الإمام مسلم في تركه الرواية عن الذهلي وعن البخاري في آن واحد. وقالوا: ولو روى عن الذهلي لروى إلينا علماً كثيراً غزيراً. وهو كذلك لم يرو عن أبي زرعة الرازي إلا هذا الحديث الذي بين أيدينا، مع أنه وإن كان قريناً له إلا أنه في منزلة شيخه. قال الإمام مسلم: لما صنفت الصحيح عرضته على أبي زرعة الرازي فما استبعده استبعدته، وما تركه أبقيته. فالإمام مسلم يعلم قدر أبي زرعة الرازي، وانفراده بالرواية عن أبي زرعة لهذا الحديث يعد دقيقة من دقائق الإسناد عند الإمام مسلم. قال: [حدثنا ابن بكير -وهو يحيى بن عبد الله بن بكير - حدثني يعقوب بن عبد الرحمن -وهو المدني القاري، نزيل الإسكندرية في مصر- عن موسى بن عقبة المدني - صاحب المغازي - عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر قال: (كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك)]. والفجاءة هي: البغتة. يعني يأتيك الأمر على غير توقع. فالإنسان الذي بلغ من العمر ستين أو سبعين أو ثمانين سنة وهو مريض فإنه يزار، فلو سمعنا أنه مات فليس في ذلك شيء من الفجأة؛ لأن الكل يتوقع موته. أما أن إنساناً شباباً يتحرك بكل حيوية وفتوة وفجأة سمعنا أنه سقط ميتاً، فلا شك أن هذا موت الفجأة وهو من علامات الساعة، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ بالله من هذا، وبين في أحاديث أخر أن هذا من علامات الساعة.

شرح حديث: (ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء)

شرح حديث: (ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء) قال: [حدثنا سعيد بن منصور حدثنا سفيان - وهو ابن عيينة؛ لأن سعيد بن منصور لا يروي إلا عنه- ومعتمر بن سليمان - وهو التيمي - عن سليمان التيمي - وهو سليمان بن طرخان التيمي - عن أبي عثمان النهدي عن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء)]. أعظم فتنة يمكن أن يمر بها الرجل هي فتنة النساء عموماً، فتنة النساء الأجانب وكذلك الزوجة، بل الفتنة غالباً إنما تأتي من قبل الزوجة أكثر من مجيئها من قبل النساء الأجنبيات، فيفتن المرء مع امرأته في معاملة أمه وأبيه مثلاً، أو في معاملة أهله وجيرانه، أو في معاملة أصدقائه وغير ذلك، ففتنة الزوجة أعظم بكثير من فتنة المرأة الأجنبية في الشوارع. حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري وسويد بن سعيد ومحمد بن عبد الأعلى جميعاً عن المعتمر قال ابن معاذ: حدثني المعتمر بن سليمان قال: قال أبي: حدثنا أبو عثمان عن أسامة بن زيد بن حارثة وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل - رضي الله عنهم -: أنهما حدثا عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال: (ما تركت بعدي في الناس فتنة أضر على الرجال من النساء)].

شرح حديث: (فاتقوا الدنيا واتقوا النساء)

شرح حديث: (فاتقوا الدنيا واتقوا النساء) قال: [وحدثنا ابن المثنى وابن بشار قالا: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي مسلمة - وهو سعيد بن يزيد الأزدي البصري الملقب بـ القصير - قال: سمعت أبا نضرة - وهو المنذر بن مالك بن قطعة - يحدث عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء). قال: (قوله: (إن الدنيا حلوة خضرة، فاتقوا الدنيا) معناه: تجنبوا الافتتان بها كما تتجنبوا الافتتان بالنساء، وتدخل في النساء: الزوجات وغيرهن، وأكثرهن فتنة الزوجات -كما قلنا- لدوام فتنتهن وابتلاء أكثر الناس بهن. وقوله: (الدنيا خضرة حلوة): يحتمل أن المراد به شيئان: أحدهما: حسنها للنفوس، ونضارتها ولذتها. فالنفس دائماً تميل وتركن إليها؛ لأن فيها المتع واللذات والشهوات وغير ذلك. قال: (كالفاكهة الخضراء الحلوة؛ فإن النفوس تطلبها طلباً حثيثاً فكذا الدنيا. والثاني: سرعة فنائها). والمعلوم أن كل أخضر مصيره إلى الجفاف والذبول واليبس، فكذلك الدنيا لا بد أن تفنى وأن تزول كما يزول الأخضر ويحل محله اليابس. قال: (ومعنى: مستخلفكم فيها) أي: يجعلكم في الدنيا خلفاً لمن سبقكم، ويجعل لكم خلفاً لمن تسبقونهم، لا أن الله تعالى استخلفنا فيها؛ لأن هذه القضية تحتاج إلى تحرير، وهذه مسألة متعلقة بالاعتقاد. وبعض أهل العلم يقولون: إن الخلف هنا لله عز وجل، فالله تعالى استخلفنا في الدنيا لنعمرها، ومعنى استخلفنا. أي: جعلنا نواباً ووكلاء عنه في عمارة الدنيا، وهذا بلا شك كلام خطير. قال: (ومعنى: (مستخلفكم فيها) أي: جاعلكم خلفاء للقرون الذين قبلكم، فأنا خلف لوالدي ووالدي خلف لوالده، وهكذا كل قرن يخلف قرناً. أي: جاعلكم قروناً يعقب بعضكم بعضاً ويخلف بعضكم بعضاً. وقوله: (فينظر كيف تعملون). أي: أتعملون بطاعته أم بمعصيته؟ فإن أهل الطاعة يجازيهم بأحسن مما كان منهم، وإن أهل المعصية يعاقبهم الله عز وجل أو يعفو عنهم بمشيئته ورحمته.

باب قصة أصحاب الغار الثلاثة والتوسل بصالح الأعمال

باب قصة أصحاب الغار الثلاثة والتوسل بصالح الأعمال قال: (باب قصة أصحاب الغار الثلاثة والتوسل إلى الله بصالح الأعمال). قال: [حدثنا محمد بن إسحاق المسيبي - وهو من نسل المسيب المخزومي المدني محمد بن عبد الرحمن - قال: حدثني أنس -يعني: ابن عياض المدني أبا ضمرة - عن موسى بن عقبة عن نافع الفقيه عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بينما ثلاثة نفر يتمشون)] والمقصود بالنفر هنا: الواحد. يعني: ثلاثة أشخاص، وإن كان النفر في اللغة يطلق على العدد من ثلاثة إلى تسعة، وقيل غير ذلك. [(بينما ثلاثة نفر يتمشون أخذهم المطر -يعني: اضطرهم المطر؛ لأن يدخلوا في مكان يأوون إليه- فأووا إلى غار في جبل -أي: مكان مظلم في داخل جبل له فوهة- فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل)] أي: وقعت صخرة كانت مهيأة للوقوع فوافق وقوعها فوهة الجبل فسدته تماماً حتى أنهم لم يروا شيئاً من السماء ولا شيئاً من الضوء. [(فانطبقت عليهم -أي: فانطبقت على فم الغار- فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالاً عملتموها صالحة لله فادعوا الله تعالى بها)] يعني: كل واحد منكم يتذكر أو يحاول أن يتذكر عملاً صالحاً قدمه لله عز وجل مخلصاً فيه غير مشرك به ليتوسل إلى الله عز وجل به أن يفرج عنا ما نحن فيه. وهذا يفيد جواز التوسل بالعمل الصالح، وأنه ليس فيه شيء من الشرك. وبعضهم قال: لا يفهم من الحديث جواز التوسل بالعمل الصالح؛ لأن كل واحد منهم قال: (يا رب! إن كنت تعلم أني عملت ذلك لك ففرج عنا ما نحن فيه). فكل واحد منهم لم يتوسل ولم يزك نفسه ولم يقطع بأن ما عمله صالحاً وإنما أرجع الأمر إلى الله عز وجل، فقال: (إن كنت تعلم يا رب أن هذا صالحاً ففرج عنا ما نحن فيه) فقال الذي يزعم أو ينكر التوسل بالعمل الصالح ليس في هذا الحديث حجة؛ لأنهم لم يقطعوا بصالح أعمالهم وإنما ذكروها فقط وأسندوا الأمر في صلاحها أو فسادها إلى الله عز وجل. وقالوا: لو كان عملاً صالحاً ففرج عنا ما نحن فيه، وزعموا أنهم توسلوا بالدعاء لا بذات العمل الذي ذكروه، وإنما اتخذوه سبباً للتقرب إلى الله عز وجل، وإنما أصل القربة إنما كان ذلك في دعائهم. وهذا على أية حال بعد وتكلف في رد ما أجمع عليه أهل السنة والجماعة من جواز التوسل بالعمل الصالح، أو الذي يغلب على ظن العامل أنه صالح، وكل إنسان أعلم برذائله، فكل إنسان يعمل عملاً صالحاً في الظاهر لكنه يوقن من نفسه أنه أخلص فيه لله أو أنه عمله رياءً وسمعة، فهؤلاء لما غلب على ظنهم أنهم عملوا هذا العمل لله عز وجل على الشرط الذي اشترطوه على أنفسهم: كل منكم ينظر في عمله، فمن عمل عملاً صالحاً خالصاً لله عز وجل فليذكره ليتوسل إلى الله به. والشاهد على ذلك: أنهم لما ذكروا هذه الأعمال وتوسلوا إلى الله عز وجل بها فرجت عنهم الصخرة على الحقيقة وفي الواقع، وهذا يدل على جواز التوسل إلى الله بالعمل الصالح. قال: (انظروا أعمالاً عملتموها صالحة لله فادعوا الله تعالى بها). أي: بهذه الأعمال. وهذا الحديث ورد في من كان قبلنا، ولذلك الذي ينكر التوسل بالعمل الصالح يقول: هذا الحديث ليس فيه حجة لما ذكرنا آنفاً، لأن هذا متعلق بمن كان قبلنا أو بشرع من كان قبلنا. وهذه مسألة خلافية بين الأصوليين: هل شرع من كان قبلنا شرع لنا أم لا؟ والجمهور على أن شرع من كان قبلنا ليس شرعاً لنا، وبعض أهل العلم قالوا: بل هو شرع لنا ما لم يخالف. وفي حقيقة الأمر: التوسل بصالح الأعمال في هذا الحديث لا علاقة له بشرع من قبلنا؛ لأن العبرة في هذا الحديث بسكوت النبي عليه الصلاة والسلام عنهم وإعجابه بهم، وهذا يدل على جواز الأمر واستحبابه لدى النبي عليه الصلاة والسلام، فنحن ما أخذنا الجواز من مجرد العمل أو الفعل ولكن أخذناه من مجرد الرواية التي رواها النبي عليه الصلاة والسلام عن الأمم السابقة وسكوته على ذلك وعدم الإنكار؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام روى عن الأمم السابقة شيئاً وأنكره، وروى شيئاً وسكت عنه، وروى شيئاً واستحسنه، فهذا مما استحسنه النبي عليه الصلاة والسلام فكان شرعاً لنا لاستحسان النبي عليه الصلاة والسلام لا بمجرد عمل القوم له. ولا يخفى للمتتبع لروايات هذا الحديث أن هؤلاء الثلاثة لم يذكروا على نسق واحد وترتيب واحد في كل الروايات، وإنما حصل تقديم وتأخير في الروايات، فصاحب الوالدين ذكر أولاً، ويذكر ثانياً وثالثاً في رواية أخرى، وصاحب المرأة يذكر أولاً وثانياً وثالثاً، وصاحب الأجير يذكر أولاً وثانياً وثالثاً، وهذا يدل على أن الرواة إنما تصرفوا في هذا الحديث بالمعنى ليدل على جواز الرواية بالمعنى عند السلف رضي الله عنهم أجمعين.

قصة الرجل البار بوالديه

قصة الرجل البار بوالديه قال: [(قال أحدهم -وهو الأول-: اللهم إنه كان لي أبوان)]، يطلق على الأب والأم أبوان من باب التغليب، كما يطلق العمران على أبي بكر وعمر وكذا الشيخان على أبي بكر وعمر، والقمران للشمس والقمر. [(شيخان كبيران)] وهذا من باب التغليب كذلك؛ لأن الأم لا يقال لها شيخة وإنما يقال لها: عجوز، كما لا يقال للرجل: عجوز وإنما يقال له: شيخ [(وامرأتي ولي صبية صغار أرعى عليهم)] يعني: أقوم على أمر رعايتهم وإطعامهم وغير ذلك مما يلزمهم. فهذا الرجل كان متكفلاً بوالديه وبامرأته وأولاده الصغار. قال: [(فإذا أرحت عليهم)] أي: فإذا روحت إليهم في نهاية اليوم بعد رعيي للغنم. [(حلبت)] أي: حلبت الغبوق، والغبوق إنما يقال لشراب الليل، بخلاف الصبوح؛ فإنه يقال لشراب الصباح صبوحاً، فاللبن يسمى في المساء غبوقاً ويسمى في الصباح صبوحاً. [(قال: فإذا أرحت عليهم حلبت فبدأت بوالدي فسقيتهما قبل بني)] يبدأ بوالديه يسقيهما قبل أن يسقي أولاده [(وأنه نأى بي ذات يوم الشجر)] أي: بعد بي مكان الرعي، لأنه لم يجد للمرعى والخضرة ليرعى فيه سائمته إلا في مكان بعيد جداً، فلما بعد به المكان رجع متأخراً وإذا بوالديه قد ناما. [(فلم آت حتى أمسيت فوجدتهما قد ناما، فحلبت كما كنت أحلب)] على عادته [(فجئت بالحلاب أو المحلاب)] وهو الإناء الذي يحلب فيه. أما اللبن فهو الحلاب أو المحلوب. قال: [(فقمت عند رءوسهما فكرهت أن أوقظهما من نومهما)] أي: فقام الرجل عند رأسي والديه انتظاراً لاستيقاظهما، وكره إيقاظهما؛ لأن المرء إذا نام يكره أن يوقظ قبل موعد استيقاظه. فهذا الرجل لما علم كراهة والديه أن يوقظا في غير موعد قد اعتادا أن يستيقظا فيه كره هو كذلك أن يفزعهما بالاستيقاظ في غير موعد يقظتهما. قال: [(وأكره أن أسقي الصبية قبلهما)] ويكره في الوقت نفسه أن يسبق أبناءه بالشرب قبل والديه. [(والصبية يتضاغون عند قدمي)] يتضاغون أي: يبكون ويصيحون عند قدميه، ربما يكون هذا من شدة الجوع، وربما يكون من غير جوع، وأنتم تعلمون أن الصبية إنما يبكون أحياناً بغير سبب، وأحياناً يبكون بسبب، وربما يكون هذا الوالد قد سقاهم ما يكفيهم من جهة سد الرمق ولكن أراد الأولاد أن يشربوا مزيداً عن الحاجة ومزيداً عن سد الرمق. على أية حال: هذا كلام أهل العلم، وربما يكون مقبولاً أو لا يكون مقبولاً عند البعض. قال: [(فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر)] يعني: لا يزال الوضع على هذا النحو أكره أن أوقظهم وأكره أن أسقي أولادي قبلهم، والأولاد يبكون ويتضاغون حتى انفلق الفجر. [(فإن كنت)] وهو يخاطب الله عز وجل. [(تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه. ففرج الله منها فرجة فرأوا منها السماء غير أنهم لا يستطيعون الخروج)]. هذه القصة فيها فضيلة بر الوالدين، وفيها كذلك فضيلة من قام بحسن الرعاية لمن يعولهم، لأن هذا الرجل كان دأبه أن يسرح في أول النهار وأن يروح في آخر النهار يحلب الشاة أو البقر أو الغنم ويسقي والديه وأبنائه.

حكم النفقة على الأبوين

حكم النفقة على الأبوين في الحديث مسألة: هل نفقة الأبوين واجبة على الابن؟ ربما نبادر القول بنعم، وأنه يجب على الابن أن ينفق على والديه ولا غضاضة في هذا التعجيل، لكن القضية إنما محلها إذا كان الولد ليس معه إلا ما يكفي امرأته وأولاده في سد الرمق، فهل يطالب الابن كذلك والحالة هذه برعاية والديه؟ السؤال بمعنىً آخر: إذا لم يكن مع الولد إلا ما يكفي للنفقة على والديه نفقة واجبة أو على قدر الكفاية أو النفقة على امرأته وأولاده، فأيهما تقدم: النفقة على أبويه أم على أولاده وامرأته؟ أنتم تعلمون النصوص التي وردت في قوله عليه الصلاة والسلام: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول) والمعلوم يقيناً أن النفقة على المرأة والأولاد داخلة في مسئولية الرجل في الدرجة الأولى، ووقع الخلاف بين أهل العلم في نفقة الأبوين، فأيهما يقدم الولد إذا لم يكن معه إلا ما يكفي لأحد الطرفين: والديه أم الزوجة والأبناء؟ وهل هذه القضية يحكمها قوله عليه الصلاة والسلام: (أنت ومالك لأبيك). وقوله عليه الصلاة والسلام: (إن خير أو أطيب ما أكل المرء من كسب يده وولده من كسبه) وغير ذلك من الأحاديث التي رواها أبو داود والترمذي وابن ماجة التي تفيد أن الوالد يملك الولد وما ملك من المال؟ هذه القضية يا إخواني! وقع فيها نزاع عظيم جداً، فقد قرأت منذ أكثر من خمسة عشر عاماً كلاماً لـ ابن القيم الجوزية وعلق في ذهني يقول فيه: لا يلزم الولد على هذا النحو أن ينفق على والديه، بل لوالديه أن يأخذا من مال الزكاة أو الصدقة المطلقة للإنفاق على أنفسهما، والولد إنما يعمل لينفق على زوجته وأولاده. وهذا الذي أحفظه جيداً منذ سنوات عدة وأردده على بعض المسامع، وقد راجعني أحد الإخوة الأفاضل من طلاب العلم في ذلك، وبمناسبة إعدادي لشرح هذا الحديث قلبت مكتبتي شرقاً وغرباً هذا اليوم حتى أحصل على هذا الكلام الذي قرأته لـ ابن القيم فلم أحصل عليه، وخير لي أن أنسب الوهم إلى نفسي، لكني على أية حال قرأت ذلك وربما يكون لغير ابن القيم، وربما يكون لـ ابن القيم في كتاب ليس بين يدي الآن، لأن كل كتب ابن القيم التي أملكها الآن بحثت فيها بحثاً حثيثاً منذ طلوع الفجر إلى ساعتي هذه ولم أجد شيئاً. فعلى أية حال: الرجوع عما كنت بثثته في الناس خير من التمادي فيه، وبل وخير من إثباته لإمام من أئمة الهدى مع احتمال طروء الوهم. وقد نظرت في الأحاديث التي كنت قد قرأت شرحها فيما يتعلق بأحاديث الباب عند أبي داود في باب: الرجل يأكل من مال ولده، عن عمارة بن عمير عن عمته: (أنها سألت عائشة رضي الله عنه في حجر يتيم أفآكل من ماله؟ فقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من أطيب ما أكل الرجل من كسبه وولده من كسبه). وهذا الحديث أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة، وقال الترمذي: هو حديث حسن. وهو كذلك. وعن النبي عليه السلام قال: (ولد الرجل من أطيب كسبه، فكلوا من أموالهم). وقال عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (إن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن لي مالاً وولداً، وإن والدي يجتاح مالي) يجتاح يعني: يستأصله. (قال: أنت ومالك لوالدك) مع قول الولد: يجتاح. (إن أولادكم من أطيب كسبكم فكلوا من كسب أولادكم). لما كنت طالباً في الجامعة وذلك قبل عشرين سنة، وكنت أسافر كل إجازة وإذا بوالدي منتظر لي في المطار من أجل يأخذ مني الفلوس، فكنت أعطي له البعض وأحتفظ بالبعض الباقي فكان يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنت ومالك لأبيك) فلم يحفظ من أحاديث السنة كلها إلا: (أنت ومالك لأبيك)، لم يحفظ أحاديث في الرحمة، وأحاديث في الرأفة، وأحاديث في الحرية وغيرها، فلما وقفت على كلام ابن القيم قلت له: اقرأ. فهذه الحادثة ما نسيتها؛ لأنه بسببها راحت كل أموالي، فإما أن أكون قرأت لـ ابن القيم في أحد الكتب أو قرأت في غير كتاب لـ ابن القيم نقلاً عن ابن القيم، وأنا مستعد أن أكون أنا وامرأتي وأولادي ملكاً لوالدي ولو فعلت لكان قليلاً، لكنني أردت أن أستدل لما كان من أمري. قال الإمام الخطابي: في هذا الحديث: أن نفقة الوالدين واجبة على الولد إذا كان واجداً لها. يعني: يعمل لينفق على امرأته وأولاده فما فضل وما تبقى من النفقة الواجبة فهو للوالدين بلا خلاف بين أهل العلم. والنفقة الواجبة هي سد الرمق وستر العورة. والعلماء يقولون في باب اللباس: يلزمه ثوبين في الصيف وثوبين في الشتاء. وفي باب الطعام والشراب: ما يقوم به البدن. قال: واختلفوا في صفة من تجب ل

قصة الرجل الذي عف عن الزنا مع القدرة عليه

قصة الرجل الذي عف عن الزنا مع القدرة عليه قال: [وقال الآخر: (اللهم إنه كانت لي ابنة عم أحببتها كأشد ما يحب الرجال النساء)] يعني: أحببتها حباً شديداً لم أره عند رجل أحب امرأة. [(وطلبت إليها نفسها)] أي: طلب أن يواقعها في الحرام. [(فأبت حتى آتيها بمائة دينار)] كأنها طلبت ذلك لتعجزه عن الحصول على هذه المائة دينار وإلا فهي امرأة عفيفة حرة تأبى أن تقع في الحرام، لكن لما طلبها وتمكن منها أرادت أن تهرب من الرذيلة بهذا الشرط. قالت: ائتني بمائة دينار. فذهب الرجل وتمكن من المائة دينار وزيادة، لأنه أعطاها مائة دينار وعشرين ديناراً من الذهب. [(قال: فأبت حتى آتيها بمائة دينار، فتعبت حتى جمعت مائة دينار، فجئتها بها، فلما وقعت بين رجليها)] أي: لما كنت منها كما يكون الرجل من المرأة [(قالت: يا عبد الله! اتق الله)] تذكره بالله عز وجل [(ولا تفض الخاتم إلا بحقه)] أي: بنكاح صحيح. وهذا للدلالة على أن هذه المرأة كانت بكراً. وقد ورد في بعض الروايات أنها كانت ثيباً أيماً. أي: مات عنها زوجها. والمعنى: لا يحل لك إيلاج الفرج إلا بحقه، فالخاتم هنا هو الفرج، والمراد فض بكارة البكر. قال: [(فقمت عنها)] أي: مخافة الله عز وجل. ولذلك العلماء يقولون: هذا الرجل أفضل الثلاثة، لأن الذي دفعه إلى ذلك هو خوف الله عز وجل، والله تعالى يقول: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46]. وقال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41]. فهذا الرجل أفضلهم لخشية الله عز وجل، كما أنه ترك الذهب لهذه المرأة، فنفعه تعدى إلى الغير، وكذلك هذه المرأة كانت ابنة عمه، وفيه صلة الرحم كذلك، وأن هذه المرأة ذهبت إليه -في أحد الروايات- تطلب منه طعاماً في سنة جدب وقحط وحاجة، فهذا الرجل ترك الذهب وترك الزنا مخافة الله عز وجل، وحافظ على عرض ابنة عمه من باب صلة الرحم كذلك، كما أنه ترك كل ذلك في سنة جدب وقحط، ولو كان إنساناً نذلاً كان من الممكن أن يستغل هذا الظرف، والأنذال كثير وأنتم تعلمون ذلك، لكن هذا الرجل مع الجدب والقحط الذي تمر به البلد كلها وما نزل بابنة عمه خاصة كان بإمكانه أن يشرط أن هذا مقابل ذاك، ولكنه إنما انتهى عن كل ذلك وترك كل ذلك لله عز وجل من باب خشية الله لما قالت له فقط: اتق الله. قال: [(فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا منها فرجة، ففرج الله تعالى لهم منها فرجة غير أنهم لا يستطيعون أن يخرجوا)].

قصة الرجل مع الأجير

قصة الرجل مع الأجير قال: [(وقال الآخر - هو الثالث -: اللهم إني كنت استأجرت أجيراً بفرق أرز)] الفرق هو الإناء الذي يسع ثلاثة آصع، والصاع أربعة أمداد، فهذا الرجل استأجر أجيراً بثلاثة آصع من الأرز. وفي رواية: (من الذرة. فلما قضى عمله قال: أعطني حقي. قال: فعرضت عليه فرقه فرغب عنه). جاء من حديث النعمان بن بشير أن سبب إعراض الرجل عن قبول أجرته وأخذها أن صاحب العمل استأجر أجراء على فرق من الأرز. وفي رواية: من الذرة. وأتاه آخر ضحىً وقال: تستأجرني؟ قال: نعم. قال: بكم؟ قال: إن شئت أعطيتك مثلما سأعطي هؤلاء. قال: كم أعطيتهم؟ قال: فرقاً من أرز، بأن يعملوا من أول النهار إلى آخره. قال: كم تعطيني؟ قال: أعطيك مثل ما أعطيهم. فعمل الرجل بجد فحصل من العمل ما لم يحصله من استأجرهم من أول النهار إلى آخره، فأعطاه الفرق فنظر إلى رجل ممن عمل من أول النهار إلى من عمل ضحىً، قال: (أتعطي هذا مثلما تعطيني وقد عملت من أول النهار؟ قال: يا عبد الله! إنما هو مالي أصنع فيه ما أشاء، فغضب الرجل غضباً شديداً وترك حقه أو فرقه وانصرف). ولو أنه أعطى الفرق لرجل في الشارع لم يعمل قط، فلا لوم عليه؛ لأن هذا ماله وهو حاكم فيه، ولم يظلمك، وإنما أعطاك ما كان متفقاً عليه بينك وبينه. وهذا الرجل كذلك -أي: صاحب العمل- إنما غضب لموقف هذا العامل غضباً شديداً فنهره. فقيل: إن الرجل إنما ترك ماله وانصرف غضباً للمساواة بينه وبين من عمل ضحىً. وقيل: إنه تركه لأن صاحب العمل نهره. أي: غضب في وجهه وصاح فيه. لا يهم أن يكون هذا أو ذاك، فمحصلة الأمرين: أن هذا الرجل ترك ماله وانصرف، وأتاه بعد مدة من الزمان. قال: [(فعرضت عليه فرقه فرغب عنه، فلم أزل أزرعه حتى جمعت منه بقراً ورعاء)] فالرجل المؤجر زرع هذا الفرق من أرز أو ذرة في الأرض، ومن الزرع اشترى بقراً وغنماً ورعاءً. أي: عبيداً ليرعوا هذه الأغنام وهذه الأبقار. قال: [(فجاءني)] أي: هذا المستأجر. [(فقال: اتق الله! ولا تظلمني حقي. قلت: اذهب إلى تلك البقر ورعائها فخذها. فقال: اتق الله ولا تستهزئ بي. فقلت: إني لا أستهزئ بك، فأخذه فذهب به. قال: فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، ففرج الله لهم ما بقي فخرجوا جميعاً يمشون)]. استدل الشافعية بهذا الحديث على أنه يستحب للإنسان أن يدعو في حال كربه وفي دعاء الاستسقاء وغيره بصالح عمله ويتوسل إلى الله تعالى به، لأن هؤلاء سألوه فاستجيب لهم، وذكره النبي عليه الصلاة والسلام في معرض الثناء عليهم وجميل فضائلهم.

فوائد من حديث قصة أصحاب الغار

فوائد من حديث قصة أصحاب الغار قال: (وفي هذا الحديث: فضل بر الوالدين وفضل خدمتهما وإيثارهما عمن سواهما من الأولاد والزوجة وغيرهم. وفيه: فضل العفاف والانكفاف عن المحرمات لا سيما بعد القدرة عليها والهم بفعلها، ويفعل ذلك خالصاً لله عز وجل. وفيه: جواز الإجارة، وفضل حسن العهد، وأداء الأمانة، والسماحة في المعاملة. وفيه: إثبات كرامات الأولياء، وهو مذهب أهل السنة).

شرح رواية ابن عمر لحديث أصحاب الغار الثلاثة

شرح رواية ابن عمر لحديث أصحاب الغار الثلاثة ورواية عبد الله بن عمر الأخيرة: [(انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم)]. وهذا يدل على أن ذلك كان في الأمم السابقة [(حتى آواهم المبيت إلى غار)]. أي: اضطروا أن يبيتوا في غار، لأجل المطر [(وقال رجل منهم: اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران فكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً)] والمال هنا بمعنى الرقيق، أي: لا أسقي أولادي ولا امرأتي ولا عبيدي شيئاً قبلهما. [(وقال الآخر: فامتنعت مني حتى ألمت بها سنة من السنين)] أي: ضائقة وجائحة. [(فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار. وقال الثالث: فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال فارتعجت)] أي: اضطربت القطيع من الأغنام والبقر من كثرتها. قال: احتج بهذا الحديث أصحاب أبي حنيفة وغيرهم ممن يجيز بيع الإنسان مال غيره والتصرف فيه بغير إذن مالكه إذا أجاز المالك بعد ذلك، وهذا ما يسمى ببيع الفضولي، وموضع الدلالة قوله: (فلم أزل أزرعه حتى جمعت منه بقراً ورعاءً). وفي رواية البخاري: (فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فقلت: كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق). وأجاب الشافعية على الأحناف وغيرهم ممن لا يجيزون التصرف المذكور: بأن هذا إخبار عن شرع من قبلنا. فالكلام هذا في شرع من قبلنا ولعله جائز في شرعهم وغير جائز في شرعنا، وفي كونه شرعاً لنا خلاف مشهور عند الأصوليين. فإن قلنا: ليس بشرع لنا فلا حجة فيه، وإلا فهو محمول على أنه استأجره بأرز في الذمة ولم يسلم إليه، بل عرضه عليه فلم يقبله لرداءته فلم يتعين من غير قبض صحيح فبقي على ملك المستأجر؛ لأن ما في الذمة لا يتعين إلا بقبض صحيح، ثم إن المستأجر تصرف فيه وهو ملكه فصح تصرفه سواء اعتقده لنفسه أم للأجير ثم تبرع بما اجتمع منه من الإبل والبقر والغنم والرقيق على الأجير بتراضيهما. ومن الفوائد أيضاً: أن هذا الرجل عمل في مقابل الثلاثة الآصع من رز أو قمح أو ذرة أو المال الرسمي، فلم يتعين حقه في الثلاثة الآصع بعينها، لو أنه أخذها عنده يصبح حقه تعين له، ولا يحل أخذه منه حتى لو أرسله، إذ لا بد من استئذانه ورضاه، وإذا لم أعطه له يصير في ذمتي ولو تمر عليه مائة سنة فإنها ثلاثة آصع فقط. لكن هذا المؤجر طابت نفسه أن يعين من ماله الثلاثة آصع وأن يزرعها بنية النماء لهذا الرجل، فهذا فضل من عنده. فهو هنا قد تصرف في مال الغير بغير إذنه؛ لأن الرجل عين هذا المال للغير، فكأنه دخل في ملكه وهو في حقيقة الأمر ليس ملكاً له على التعيين، وإنما هو له في ذمة المؤجر ثلاثة آصع، لكن ليست هذه بعينها. هذه الترجمة معقودة لما يسمى عند الفقهاء ببيع الفضولي، وقد مال البخاري فيها إلى الجواز؛ لأن بعض الشافعية أنكروها. وأورد في حديث ابن عمر في قصة الثلاثة الذين انحطت عليهم الصخرة في الغار، قول أحدهم: (إني استأجرت أجيراً بفرق من ذرة فأعطيته فأبى، فعمدت إلى الفرق فزرعته حتى اشتريت منه بقراً وراعيها). قال: فإن فيه تصرف الرجل في مال الأجير بغير إذنه، ولكن لما ثمره له ونماه وأعطاه أخذه ورضيه. وطريق الاستدلال به ينبني على أن شرع من قبلنا شرع لنا، والجمهور على خلافه، والخلاف فيه مشهور، لكن يتقرر بأن النبي صلى الله عليه وسلم ساقه مساق المدح والثناء على فاعله وأقره على ذلك، ولو كان لا يجوز لبينه النبي عليه الصلاة والسلام، فكونه سكت عنه دل على أن ما كان شرعاً لغيرنا هو شرع لنا إذا وافق النبي عليه الصلاة والسلام على ذلك واستحبه، فبهذا الطريق يصح الاستدلال به لا بمجرد كونه شرع من قبلنا. ويقول: وقد أجيب عن حديث الباب بأنه يحتمل أنه استأجره بفرق في الذمة، ولما عرض عليه الفرق فلم يقبضه استمر في ذمة المستأجر؛ لأن الذي في الذمة لا يتعين إلا بالقبض، أما قبل القبض فلا يتعين، إنما يجزئه أن يأخذ قدر ماله في الذمة بغير تعيين، فلما تصرف فيه المالك صح تصرفه سواء اعتقده لنفسه أو لأجيره، ثم إنه تبرع بما اجتمع منه على الأجير. يعني: تبرع من باب التفضل، فقد تبرع به على الأجير برضاً منه، والله تعالى أعلم. قال ابن بطال: وفيه دليل على صحة قول ابن القاسم: إذا أودع رجل رجلاً طعاماً فباعه المودع بثمن فرضي المودع فله الخيار، إن شاء أخذ الثمن الذي باعه به، وإن شاء أخذ مثل طعامه. واستدل به كذلك أبو ثور على أن من غصب قمحاً فزرعه فكلما أخرجت الأرض من القمح فهو لصاحب القمح. أما قول الثلاثة: (اللهم إن كنت تعلم) فيه إشكال؛ لأن المؤمن يعلم قطعاً أن الله يعلم، فلم قالوا: اللهم إن كنت تعلم مع أنه يعلم؟ أجيب: بأن هؤلاء ترددوا في عملهم، هل له اعتبار عند الله أم لا؟ ربما يكون له اعتبار عنده، لكن وقع حابطاً عند الله عز وجل، فكأنهم يقولون: اللهم إن كان قد سبق في علمك أن هذا ع

كتاب صفات المنافقين وأحكامهم - كتاب صفات المنافقين

شرح صحيح مسلم - كتاب صفات المنافقين وأحكامهم - كتاب صفات المنافقين لقد فضح الله تعالى المنافقين، وكشف مكايدهم وخططهم ومكرهم في حرب الإسلام والمسلمين، ووصفهم بصفات كثيرة؛ كي يحذر المؤمنون هذه الصفات، ويبتعدوا عنها، ولا يتصفوا بها.

صفات المنافقين وأحكامهم

صفات المنافقين وأحكامهم

سبب نزول سورة (المنافقون)

سبب نزول سورة (المنافقون) بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، أما بعد: فمع كتاب صفات المنافقين وأحكامهم. قال النووي: (كتاب صفات المنافقين وأحكامهم). قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا الحسن بن موسى -وهو الأشيب أبو علي البغدادي قاضي الموصل- قال: حدثنا زهير بن معاوية -وهو ابن معاوية بن حديج أبو خيثمة الجعفي الكوفي، وسماعه من أبي إسحاق السبيعي في آخره، وقد اختلط، ففي سماعه من أبي إسحاق نظر- قال: حدثنا أبو إسحاق أنه سمع زيد بن أرقم رضي الله عنه يقول: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر أصاب الناس فيه شدة، فقال عبد الله بن أبي بن سلول زعيم المنافقين لأصحابه: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله). قال زهير - وهو ابن معاوية - راوي الحديث: وهي قراءة من خفض: (حوله)] أي: كسر اللام في قوله: (حولِه). [وقال عبد الله بن أبي ابن سلول: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون:8]]. أي: كأنه يتوعد النبي صلى الله عليه وسلم، ويثبت في هذا القول أنه هو الأعز، ورسول الله هو الأذل، فهو يتوعد بإخراج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة. قال: {لَئِنْ رَجَعْنَا} [المنافقون:8] أي: من سفرنا هذا، ومن غزوتنا هذه {إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون:8]. [قال زيد بن أرقم: (فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك)] أي: فأخبرته بمقالة المنافق عبد الله بن أبي ابن سلول، [(فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبي فسأله -أي: عن هذه المقالة-: أأنت الذي قلت: لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا؟)] أي: حتى يتفرقوا من حوله [(وأنت الذي قلت: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون:8]؟ فاجتهد عبد الله بن أبي ابن سلول يمينه ما فعل)] يعني: حلف أيماناً مغلظة أنه ما قال ذلك. [فقال: (كذب زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم)] أي: فقال ابن أبي: كذب زيد بن أرقم على النبي صلى الله عليه وسلم بهذا، وما أراد إلا الفتنة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أصحابه. قال زيد بن أرقم: [(فوقع في نفسي مما قالوه شدة)] يعني: لما اتهم بالكذب وقد سكت النبي عليه الصلاة والسلام عن عبد الله بن أبي، وقع في نفس زيد بن أرقم شدة، يعني: حزن وهم وغم شديد؛ لأنه صارت صورته صورة كاذب ونمام يريد أن يوقع الفساد والشر بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أصحابه. قال: [(فوقع في نفسي مما قالوه شدة، حتى أنزل الله تصديقي)]. أي: في قوله: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} [المنافقون:1] إلى آخر الآيات. فهنا أثبت الله تبارك وتعالى صدق زيد بن أرقم، كما أثبت نفاق عبد الله بن أبي ابن سلول، وعبد الله لم يكن من عامة المنافقين، وإنما كان على رأس المنافقين، فهو إمام في الشر. قال زيد بن أرقم: [(ثم دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم ليستغفر لهم، قال: فلووا رءوسهم)] يعني: استنكفوا وأبوا أن يأتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلووا رءوسهم لي المعرض الجاحد المستغني. وقوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:4] أي: هؤلاء المنافقون. [وقال زيد بن أرقم: كانوا رجالاً أجمل شيء]، يعني: من جهة أبدانهم وجمال منظرهم كانوا في قمة الجمال، ولكن مخبرهم كان في قمة الفساد والضلال والنفاق والكفر. والكفر كفران، والفسق فسقان، وكذلك النفاق منه ما هو أكبر، ومنه ما هو أصغر، والأكبر منه هو المخرج عن الملة، وهو أن يبطن الإنسان الكفر ويظهر الإسلام؛ كحال المنافقين الذين كانوا على زمانه عليه الصلاة والسلام، وحال الملاحدة والعلمانيين في كل زمان ومكان إلى قيام الساعة، الذين يقولون: نحن علمانيون، ولا مانع قط أن يجتمع الإسلام مع العلمانية، وأن يجتمع الإسلام مع الإلحاد و

من صفات المنافقين إظهار الود لأهل الإسلام وإخفاء العداوة

من صفات المنافقين إظهار الود لأهل الإسلام وإخفاء العداوة والنبي عليه الصلاة والسلام أثبت معالم وصفات المنافقين في هذا النص، فلنأخذ من ذلك قول عبد الله بن أبي كما حكى الله عنه: {لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون:7] أي: من حوله. فهذه أول صفة من صفاتهم: أنهم يظهرون الود لأهل الإسلام، ويخفون العداوة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (هم حرب على أهل الإسلام، سلم لأعدائه). يعني: يسالمون أعداء الإسلام، ويودونهم ويوالونهم، لكنهم على أهل الإسلام وأبناء الإسلام حرب وعداوة قوية، فلا تكاد تمر بهم فتنة إلا وجروها إلى المسلمين. الأمر الثاني: أنهم أحياناً يصرحون بذلك، كما صرح هذا المنافق بقوله: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون:8]. فهم يتصورون باجتماعهم أنهم قوة لا يستهان بها، وأنهم لا يغلبون من قلة، وقد بين الله عز وجل هزيمتهم النفسية فقال: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14]؛ لأن القلب الذي اجتمع إلى شكله ومثله إن لم يكن هذا الاجتماع على الحب في الله، والموالاة فيه، والمعاداة لغيره، لا يمكن أبداً أن يتم الائتلاف، وإن وقع للحظات أو لأيام فإنه لا يستمر؛ لأنه ليس لله، وما كان لله دام واتصل، وما كان لغيره لابد أن ينقطع وينفصل. وهكذا المنافقون؛ فإنهم يتهمون أهل الإيمان بما عندهم من صفات وأخلاق، ويأتون بما عندهم من كذب وسحت في آبارهم فينضحون به على أهل الإسلام، ولذلك قال عبد الله بن أبي: (كذب زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ولم يكن هكذا، فـ زيد بن أرقم رضي الله عنه لم ينقل إلى النبي عليه الصلاة والسلام إلا ما كان حقيقة من عبد الله بن أبي ابن سلول لا يعلمه من قبل، والله عز وجل أخبره بالمنافقين جميعاً.

من صفات المنافقين إظهار الاستغناء عن أهل الإيمان والإعراض عنهم

من صفات المنافقين إظهار الاستغناء عن أهل الإيمان والإعراض عنهم الصفة الثانية: ولما دعاهم ليستغفر لهم لووا رءوسهم، فهم يظهرون الاستغناء عن أهل الإيمان بالإعراض، أو بصرف الخد، أو بالغمز واللمز، أو بالنظر الخفي الذي هو خافية الأعين، وكل هذه الصفات والعلامات إنما هي صفات وعلامات وأمارات للمنافقين. قال: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:4] (خشب) جمع: خشبة، أي: العظيمة من الخشب مسندة إلى الحائط، وكذلك كل من لم يكن مسلماً، {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14]. وربما خطر ببال أحد منكم سؤال وهو: لماذا نقل زيد بن أرقم هذا الكلام إلى النبي عليه الصلاة والسلام؟ أليست هذه من النميمة فعلاً، ونحن نعلم أن النميمة إنما هي نقل الكلام على جهة الإفساد؟ و A من وجهين: الوجه الأول: أن زيد بن أرقم إذا كان يعلم أن عبد الله بن أبي ابن سلول من المنافقين فيلزم من ذلك نقل الكلام إلى الأمين والسيد والسلطان والحاكم حتى يحذره، لغلبة الظن، ووقوع المضرة على أهل الإيمان، ولذلك زيد بن أرقم لم يخبر آحاد الناس، وإنما ذهب إلى الإمام المعظم صلى الله عليه وسلم وأخبره بما كان من أمر الجند من كلام يضر باستقامة الحال. الوجه الثاني: إذا كان لا يعلم سابقاً أنه من المنافقين فيكون قد غلب على ظنه لما سمع منه هذا القول أنه من المنافقين، فخشي ألا يكون النبي عليه الصلاة والسلام عنده علم بنفاق هذا المنافق، فأخبره حتى يحذره الإمام. وفي هذا مصلحة عامة للإسلام والمسلمين، ولا يمكن قط أن تدانيها أو تقاربها مضرة النميمة بين اثنين، ولذلك لما غلبت المصلحة كان يجب عليه إذا سمع هذا الأمر فيما يتعلق بالإمام أو نحوه من كبار ولاة الأمور، ويخاف الضرر على المسلمين أن يبلغ هذا الكلام؛ ليحترز منه الإمام. كما أن هذا الكلام فيه منقبة عظيمة جداً لـ زيد بن أرقم، وأن الله تبارك وتعالى أنزل تصديقه من فوق سبع سماوات، وبين براءته من الكذب، وأنه صادق مصدق، وتصديق الله تعالى لـ زيد بن أرقم دليل على محبة الله تبارك وتعالى لأصحاب نبيه، وأن محبة الله تعالى مع المؤمنين معية خاصة بالرعاية والعلم والسمع والبصر والإحاطة والنصرة والتأييد، كل ذلك إنما تم في لحظات في أثناء جهاده عليه الصلاة والسلام، وكان مع المجاهدين هؤلاء المنافقون.

سبب تكفين النبي لعبد الله بن أبي بقميصه لما مات

سبب تكفين النبي لعبد الله بن أبي بقميصه لما مات قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب وأحمد بن عبدة الضبي واللفظ للأول -أي: لـ أبي بكر بن أبي شيبة - قال ابن عبدة - وهو أحمد -: أخبرنا، وقال الآخران: حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو -إذا حدث سفيان بن عيينة عن عمرو فإنما هو عمرو بن دينار المكي - أنه سمع جابراً يقول: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم قبر عبد الله بن أبي فأخرجه من قبره، فوضعه على ركبتيه، ونفث عليه من ريقه، وألبسه قميصه، ثم قال: الله أعلم)]. إما أن يكون قوله: (الله أعلم) من قول مسلم، أو من قول جابر بن عبد الله الأنصاري. وهذا الحديث صحيح، وإن رده كثير من المؤمنين من جهة العاطفة، بمعنى أنهم ما كانوا يتمنون أن يفعل النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الكافر المنافق شيئاً من ذلك، وهذا يدل على عظيم رحمة النبي عليه الصلاة والسلام، وإن كان عبد الله بن أبي في الآخرة لا يرحم، ولا يرحم في قبره كذلك، لكن هذا العمل انطوى على حكمة عظيمة جداً في الدعوة إلى الله عز وجل، ولذلك ذهب النبي عليه الصلاة والسلام إلى قبر عبد الله بن أبي بن سلول وقد أعلمه الله أنه من المنافقين، فأخرجه من قبره -أي: بعد أن دفن، في اليوم الذي دفن فيه- ثم وضعه على ركبتيه -أي: في حجر النبي عليه الصلاة والسلام- ونفث عليه من ريقه الشريف، وألبسه قميصه صلى الله عليه وسلم، وأنتم تعلمون استحباب التبرك بآثار النبي عليه الصلاة والسلام، ولا خلاف بين أهل العلم في ذلك. وكون أحد يلبس لباس النبي عليه الصلاة والسلام، أو يأخذ عصاه، أو شيئاً من آثاره كشعره أو ظفره، أو غير ذلك مما يتعلق به ويختص به عليه الصلاة والسلام؛ هذا شرف عظيم جداً، ولكن القضية: أن النبي عليه الصلاة والسلام إنما فعل ذلك بهذا المنافق؛ وهو يعلم أنه منافق؛ إكراماً لابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول وكان رجلاً صالحاً، ففعل النبي عليه الصلاة والسلام ذلك إكراماً لولده، لا إكراماً له، هذا رأي. الرأي الثاني: أن الذي طلب منه ذلك هو عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول، فما أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يدخل الحزونة على قلب عبد الله بن عبد الله بن أبي برد طلبه، فأراد أن يكافئه على حسن إسلامه وصحبته. الثالث: أن النبي عليه الصلاة والسلام إنما ألبس عبد الله بن أبي ابن سلول قميصه؛ لأنه كان قد ألبس العباس عم النبي عليه الصلاة والسلام قميصاً له، وكان العباس في حاجة إليه، فأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يكافئه في الدنيا حتى لا يبقى له في الآخرة شيء، وهذا وجه عظيم جداً من وجوه التأويل. قال: [حدثنا أحمد بن يوسف الأزدي حدثنا عبد الرزاق - وهو ابن همام الصنعاني - أخبرنا ابن جريج وعبد الملك بن عبد العزيز الأموي أخبرني عمرو بن دينار قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: (جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبي بعدما أدخل حفرته) فذكر بمثل حديث سفيان بن عيينة السابق. وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة -وهو حماد بن أسامة - قال: حدثنا عبيد الله بن عمر -وهو العمري الإمام الكبير، أحد الفقهاء السبعة بالمدينة- عن نافع الفقيه - مولى ابن عمر - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (لما توفي عبد الله بن أبي ابن سلول) وكان حقه أن يكسر ابن سلول لأنه معطوف، وإنما ضم ابن سلول لأن أمه اسمها: سلول، ولم يكن جده بهذا الاسم، ولذلك ضم ابن قبل الاسم- جاء ابنه -أي: عبد الله بن عبد الله - إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه، فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم)] يعني: يجذبه إليه، ويمنعه وينهاه أن يصلي على هذا المنافق، وهذا يدل على اشتهار نفاق هذا بين الأصحاب. [فقال: (يا رسول الله، أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما خيرني الله فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة:80] ثم ق

سبب نزول قوله تعالى: (وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم

سبب نزول قوله تعالى: (وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم قال: [حدثنا محمد بن أبي عمر المكي حدثنا سفيان - وهو ابن عيينة - عن منصور بن المعتمر عن مجاهد بن جبر المكي عن أبي معمر -وهو عبد الله بن سخبرة الأزدي الكوفي - عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (اجتمع عند البيت ثلاثة نفر: قرشيان وثقفي، أو ثقفيان وقرشي)]. ومعنى (ثقفي) أي: من ثقيف، وثقيف قبيلة في الطائف بجوار مكة، أما قريش فهي أصل مكة. قال: [(قليل فقه قلوبهم، كثير شحم بطونهم)]. أي: من علامات المنافقين أنهم لا يكادون يفقهون نصاً؛ لأن عندهم عمى في بصيرتهم، فقد طمس الله على عيونهم، وغشى الران على قلوبهم، ومن علاماتهم أيضاً: كثير شحم بطونهم، وربنا حكى عنهم أنهم خشب مسندة. وقد نقل الإمام النووي عن القاضي عياض رحمه الله أنه قال: وهذا فيه تنبيه على أن الفطنة قلما تكون مع السمن، وهذا يعني أن الواحد يحرص أن يتخفف في طعامه؛ لأن الإنسان إذا أكل كثيراً نام كثيراً، وبالتالي ضاع منه العلم الكثير، والعلم مرتبط بالفقر والحاجة. ولذلك كان الإمام الشافعي يقول: لا يطلب العلم من ملك زاده، ولا يطلبه إلا من أحرق البن قلبه. قال الخطيب البغدادي: (البن): هو طعام كانت تصنعه العرب من كيت وكيت. والذي فهمته من تفسير (البن) أنه خبز يابس يبل بماء ثم يؤكل، بعض النساخ كتب (اللبن)، وأنتم تعلمون أن اللبن هو شراب الفطرة، وهو شراب مغذٍ جداً، فلا يستقيم أبداً أن يقول: لا يطلب العلم إلا من أحرق اللبن قلبه؛ لأن اللبن لا يحرق القلب. [(فقال أحد هؤلاء الثلاثة النفر: أترون الله يسمع ما نقول، فقال الآخر: يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا، وقال الثالث: إن كان يسمع إذا جهرنا فهو يسمع إذا أخفينا)] يعني: الذي يسمع مع الظاهر يسمع مع الإخفاء، [فأنزل الله عز وجل: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ} [فصلت:22]) إلى آخر الآيات]. أي: أنزل الله عز وجل تكذيب هؤلاء؛ لأن قولهم يدور بين التردد والشك في صفات الله عز وجل، وهذا على خلاف المؤمنون الذين يعتقدون اعتقاداً جازماً لا يسعهم غيره: أن الله تعالى منزه عن كل نقص، ومتصف بكل كمال. إن من أعبد العبادات أن تعبد الله تعالى بأسمائه وصفاته، فهؤلاء خفيت عليهم ذات الله عز وجل كما خفيت عليهم صفات الله تبارك وتعالى؛ لأنهم لو كانوا يعلمون ذات الإله حقاً؛ لعلموا أن هذه الذات متصفة بصفات الكمال، فهو يسمع ويرى. فأحد هؤلاء الثلاثة كان عنده تردد وشك في وصف الله تبارك وتعالى بصفات الكمال والجلال، وبعضهم كأنه أيقن أن الله تعالى لا يسمع كلامهم، ولا يرى مكانهم. قال: [وحدثني أبو بكر بن خلاد الباهلي حدثنا يحيى بن سعيد - وهو القطان - قال: حدثنا سفيان - وهو الثوري - حدثني سليمان - وهو سليمان بن مهران الأعمش، وإذا روى الثوري عن سليمان فاعلم أنه سليمان بن مهران الأعمش، وفي الغالب لا يقال الأعمش، وإنما يقال: سليمان، فهو الأعمش عن عمارة بن عمير عن وهب بن ربيعة الكوفي عن عبد الله بن مسعود]. ووهب بن ربيعة مقبول، ولم يوثقه غير ابن حبان، وتوثيق ابن حبان محل نظر عند أهل العلم، والمقبول إذا توبع كان حديثه حسناً، وإذا لم يتابع فحديثه ضعيف، لكنه هنا متابع، ولذلك يروي مسلم هذا الحديث بإسناد آخر فقال: [وحدثنا يحيى قال: حدثنا سفيان حدثني منصور عن مجاهد عن أبي معمر عن عبد الله بنحوه]. إذاً: فـ وهب بن ربيعة تابعه أبو معمر، وهما يرويان عن عبد الله بن مسعود في الإسناد الأول والإسناد الثاني، فـ أبو معمر في نفس طبقة وهب بن ربيعة، وأبو معمر متابع لـ وهب بن ربيعة، فكلاهما يروي عن ابن مسعود، وهذه متابعة تامة، والمتابعة التامة هي اشتراك راويين في شيخ واحد.

سبب نزول قوله تعالى: (فما لكم في المنافقين فئتين)

سبب نزول قوله تعالى: (فما لكم في المنافقين فئتين) قال: [حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري حدثنا أبي قال: حدثنا شعبة -وهو ابن الحجاج العتكي البصري - عن عدي بن ثابت -وهو الأنصاري الذي تحول إلى الكوفة واستوطنها- قال: سمعت عبد الله بن يزيد يحدث عن زيد بن ثابت: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد فرجع ناس ممن كانوا معنا]. ورجوع هؤلاء كان يقدر بحوالي ثلث الجيش، وذلك في العام الثالث من الهجرة، ورجع ثلث الجيش لا يبشر بخير، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم استبشر بذلك خيراً، لأن هؤلاء في وسط الصفوف لا يخدمون أهل الإيمان، ولا يخدمون حقيقة النصر، وإنما هم شر على من معهم، ووجود هؤلاء في الصف خذلان وليس نصراً. فكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في شأن هؤلاء فرقتين، أي: اختلف الثلثان الذين بقوا مع النبي عليه الصلاة والسلام في الثلث المنسحب إلى فرقتين وفريقين: فبعضهم يقول: نقتلهم، والبعض الآخر يقول: لا نقتلهم، فنزلت قوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} [النساء:88] يعني: فما لكم اختلفتم إلى فئتين في أمر المنافقين؟ فأثبت الله أن من رجع في هذه الغزوة كان منافقاً، وهذا شيء رائع أن يعرف المنافق، فالشيء الذي نغضب من أجله هو أنه لا يوجد وحي ينزل يقول لنا: فلان منافق، وفلان مؤمن، فالوحي انقطع بموت النبي عليه الصلاة والسلام. فنجد في هذا العصر أن بعض الناس يقول: إن النبي عليه الصلاة والسلام لم يسحر، ويرد الحديث الذي في البخاري ومسلم. والبعض الآخر ينكر الحديث الذي في البخاري بدعوى أنه يعارض العقل، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سقط الذباب في شراب أحدكم فليغمسه؛ فإن في أحد جناحيه داء، وفي الأخرى دواء). ويقول مثلاً: الصحابة بشر يصيبون ويخطئون. فيرد عليه: بأنه يلزم على قوله أن الصحابة والأمة كلها أجمعت على الباطل في هذا التواتر الذي نقل به العلم والوحي، وأنت الوحيد الذي جئت تكتشف هذا بعقلك! ولو كانت المسألة مسألة فهم وعقل؛ فهل عقلك وفهمك أولى من فهم أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والصحابة أجمعين والتابعين والأئمة المتبوعين؟ وتجد بعضهم يصلي ويصوم، لكنه يؤذي الجيران، فلو مات مات على معصية، ويثبت له إيمانه، وأما إذا ترك كل الطاعات فكيف يثبت له الإسلام؟! بل كيف يثبت له الإيمان؟! وكذلك الذي يقول: إن النبي عليه الصلاة والسلام كان في داره، وكان يغض الطرف عن عمر وهو يزني، فهذا كفر؛ لأنه اتهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. فنحن الآن في زمن ماجت فيه الفتن كموج البحر، فتجد أعمالاً ظاهرها الإيمان لكن القلوب أشد من قلب عبد الله بن أبي ابن سلول، وأنا في الحقيقة: في هذه المسائل كالصاروخ لا أتوقف، فمن أتى عملاً يكفر به فهو كافر، هذا هو دين الله تبارك وتعالى، ولم نأت به من عندنا، ومع هذا؛ نقسم بالله العظيم أننا في غاية التحري في مسائل الإيمان والكفر، ولما أقول على فلان: إنه كافر؛ وهو ليس كذلك حارت الكلمة علي، وأنا لا أتصدق بنفسي أبداً على أحد، ولا أجعل مصيري يوم القيامة هدية لأحد قط، لكن نتكلم بقال الله وقال رسوله، وفهم أئمة الدين، فإذا وقع إنسان في اعتقاد أو قول أو فعل يكفر به كفرناه، وعلى المسلم التوبة إلى الله عز وجل. قال: [قال الله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} [النساء:88]] يعني: يا أيها المؤمنون! ما لكم اختلفتم فيمن رجع في غزوة أحد إلى المدينة ولم يشارك في الغزو معكم، اختلفتم فيه إلى فرقتين؟ {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} [النساء:88] أي: والله خيب آمالهم، وأبطل سعيهم بما كسبوا، {أَتُرِيدُونَ} [النساء:88] أي: أيها المؤمنون {أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء:88].

سبب نزول قوله تعالى: (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا)

سبب نزول قوله تعالى: (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا) [حدثنا الحسن بن علي الحلواني ومحمد بن سهل التميمي قالا: حدثنا ابن أبي مريم -وهو أبو محمد المصري سعيد بن الحكم الثقة الثبت الفقيه الإمام- قال سعيد: أخبرنا محمد بن جعفر أخبرني زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري - سعد بن مالك بن سنان - رضي الله عنه: (أن رجالاً من المنافقين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم)]. يعني: يريدون أن يقولوا: نحن ضحكنا على النبي صلى الله عليه وسلم، فهو قد خرج إلى الغزوة ونحن قعدنا هنا، وفرحوا لأنهم تخلفوا عن رسول الله عليه الصلاة والسلام. قال: [(فإذا قدم النبي عليه الصلاة والسلام اعتذروا إليه، وقالوا: يا رسول الله! سامحنا، منعنا من الخروج معك الأولاد والعيال والمال والغيث والبيت، واعتذروا إليه وحلفوا، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فنزلت: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:188]). وحدثنا زهير بن حرب وهارون بن عبد الله واللفظ للأول، قال: حدثنا حجاج بن محمد عن ابن جريج قال: أخبرني ابن أبي مليكة أن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أخبره أن مروان بن الحكم قال: اذهب يا رافع -لبوابه- إلى ابن عباس فقل له: لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذباً؛ لنعذبن أجمعون]. أي: أخذ مروان بن الحكم هذا الكلام على ظاهره، وأجراه مجرى العموم، فالمرء يحب أن يمدح بما أتى، ويمدح بما لم يفعل، ففهم هذا على العموم فقال لـ رافع: قل لـ ابن عباس: لو أن الواحد فينا يحب أن يمدح بما لم يفعل ويفرح بما أتى فإننا كلنا معذبون. [فقال ابن عباس: إنما أنزلت هذه الآية في أهل الكتاب، ثم تلا ابن عباس: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187]. ثم تلا قوله تعالى: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} [آل عمران:188] الآية. سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، فخرجوا من عنده قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه]. وقد ذكر ذلك عبد الله بن سلام حبر اليهود في المدينة، فقد زنى رجل من اليهود بامرأة، فجاء اليهود بهذا الزاني ملطخاً وجهه بالسواد، وكانت هذه عقوبة الزاني يفعلها أهل الكتاب في المدينة، فإذا زنى أحدهم لطخوا وجهه بالسواد، وطافوا به في المدينة ليفضحوه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما بال هذا؟ قالوا: زنى يا محمد، فقال: لمَ لم ترجموه؟ قالوا: لم نؤمر برجمه) وهذا في حضرة عبد الله بن سلام الإسرائيلي، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (هل في كتاب الله الذي بين أيديكم رجمه يا ابن سلام؟ قال: يا رسول الله في كتابهم الرجم، قالوا: ليس في كتابنا الرجم، فأتى أحد ممن جاء بهذا الزاني بالتوراة فتلاها ووضع أصبعه على الرجم، فقال عبد الله بن سلام لرسول الله: مره يا رسول الله فليرفع يده، فلما رفع قرأ عبد الله بن سلام الرجم، فرجمهم النبي عليه الصلاة والسلام). فقد فرحوا أولاً بما أتوا، وأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا ما استخبرهم فإنهم يخبرونه حتى يخرجوا من عنده، فظنوا أنهم بذلك قد نجوا من بين يديه عليه الصلاة والسلام، وكتموا أمر الوحي الذي بين أيديهم، وأخبروه بغيره، فظنوا أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه صلى الله عليه وسلم.

عدد المنافقين في عهده صلى الله عليه وسلم

عدد المنافقين في عهده صلى الله عليه وسلم قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أسود بن عامر -المعروف بـ شاذان - حدثنا شعبة بن الحجاج عن قتادة عن أبي نضرة -وهو المنذر بن مالك بن قطعة - عن قيس -وهو ابن عباد أبو عبد الله البصري مخضرم- قال: (قلت لـ عمار: أرأيتم صنيعكم هذا الذي صنعتم في أمر علي أرأياً رأيتموه، أو شيئاً عهده إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟). أي: أن قيس بن عباد يقول لـ عمار بن ياسر: ما هي الحكاية التي بينكم وبين علي بن أبي طالب، فهل هذا الأمر هو اجتهاد منكم، أو أن هذا عهد أوصاكم به النبي عليه الصلاة والسلام؟ [فقال: (ما عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً لم يعهده إلى الناس)]. وهذا فيه رد على الشيعة الذين يقولون: بأن علي بن أبي طالب كانت معه صحيفة خصه بها النبي عليه الصلاة والسلام، ومن باب أولى تكذيب للشيعة القائلين بأن القرآن الذي بين أيدي أهل السنة لا يبلغ ثلث القرآن الذي كان بيد فاطمة رضي الله عنها. قال: [ولكن حذيفة أخبرني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (في أصحابي اثنا عشر منافقا ً)]. وإطلاق قوله عليه الصلاة والسلام: (أصحابي) ثم يذكر المنافقين هذا يدل على أن المنافقين إنما دخلوا في الظاهر في صحبة النبي عليه الصلاة والسلام، فهو ذكرهم من باب العرف أو التغليب. [قال صلى الله عليه وسلم: (في أصحابي اثنا عشر منافقاً، فيهم ثمانية لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط)]. يعني: لا يدخلون الجنة أبداً؛ لأنه لا يمكن أبداً أن يلج الجمل في سم الخياط، وسم الخياط خرم الإبرة، فهل يتصور أن يدخل البعير في خرم الإبرة؟ لا يمكن. فقال: [(فيهم ثمانية لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط، ثمانية منهم تكفيكهم الدبيلة)]. ثم فسر الدبيلة فقال: [(سراج من النار يظهر في أكتافهم حتى ينجم من صدورهم)] يعني يظهر ويعلم. الدبيلة هي: عبارة عن شعلة من النار تظهر في أكتافهم من الخلف حتى تخرج من صدورهم، فربنا سبحانه وتعالى قد كفى المؤمنين شر هؤلاء. فماتوا بهذه العلامة أمام أعين الأصحاب رضي الله عنهم، فهذا يقين أنهم من المنافقين حتى وإن لم يسموا لعامة الأصحاب، فإذا ماتوا بهذه العلامة تيقن الأصحاب أن هؤلاء من المنافقين. قال: [(لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط، ثمانية منهم تكفيكهم الدبيلة) وأربعة لم أحفظ ما قال شعبة فيهم]. وسم الخياط يقال فيه: سِم أو سُم. وهذا الحديث هو من مسند حذيفة بن اليمان رضي الله عنه. قال: [حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار واللفظ للأول، قال: حدثنا محمد بن جعفر -المعروف: بـ غندر - حدثنا شعبة عن قتادة عن أبي نضرة عن قيس بن عباد قال: قلنا لـ عمار: (أرأيت قتالكم أرأياً رأيتموه -أي: أهذا اجتهاد منكم؟ فإن الرأي يخطئ ويصيب- أو عهداً عهده إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ما عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً لم يعهده إلى الناس كافة). وقال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن في أمتي) قال شعبة وأحسبه قال: حدثني حذيفة، وقال غندر أنه قال: (في أمتي اثنا عشر منافقاً لا يدخلون الجنة، ولا يجدون ريحها)]. يعني: لا يشمون رائحة الجنة، [(حتى يلج الجمل في سم الخياط، ثمانية منهم تكفيكهم الدبيلة) وهي: سراج من النار يظهر في أكتافهم حتى ينجم يظهر ويعلو من صدورهم)]. أي: حتى يفضحهم في الدنيا والآخرة. قال: [حدثنا زهير بن حرب قال: حدثنا أبو أحمد الكوفي -وهو المشهور بـ أبي أحمد الزبيري، ولا يكنى في هذه الطبقة أبو أحمد من رجال مسلم غيره، وهو أبو أحمد الزبيري الكوفي محمد بن عبد الله بن الزبير الأسدي - قال: حدثنا الوليد بن جميع -وجميع جده، وهو ينسب لجده؛ لكثرة الملازمة، فهو الوليد بن عبد الله بن جميع الزهري المكي الكوفي - قال: حدثنا أبو الطفيل عامر بن واثلة -وهو آخر الصحابة موتاً على الإطلاق، فقد عُمَّر طويلاً- قال أبو الطفيل: كان بين رجل من أهل العقبة وبين حذيفة بعض ما يكون بين الناس]. العقبة اسم مكان قريب من تبوك، و

المنافق الذي لم يمتثل أمر النبي عليه الصلاة والسلام

المنافق الذي لم يمتثل أمر النبي عليه الصلاة والسلام قال: [حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري حدثنا أبي حدثنا قرة بن خالد عن أبي الزبير -وهو محمد بن مسلم بن تدرس - عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يصعد ثنية المراري)]. والثنية: هي الطريق بين الجبلين، وهي عند الحديبية، وسميت ثنية المراري؛ لأنه كان فيها شجر مر الطعم. قال: [(فإنه يحط عنه ما حط عن بني إسرائيل)]. يعني: من صعد هذه الثنية فإن الله عز وجل يحط عنه الخطايا كما حطها عن بني إسرائيل، ويغفر له ذنوبه. قال: [(فكان أول من صعدها خيلنا -أي: خيل بني الخزرج- ثم تتام الناس)] يعني: ثم صعد جميع الناس. [فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (وكلكم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر)]. وصاحب الجمل الأحمر ضاع منه جمله، فانشغل بالبحث عنه. [فقيل له: (تعال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لك، قال: والله لأن أجد ضالتي أحب ألي من أن يستغفر لي صاحبكم)]. ويا ليت جميع المنافقين في هذا الزمن يكون عندهم شجاعة أدبية فيقولون: نحن منافقون، فيريحونا، لكن في هذا الوقت الواحد منهم يقول كلاماً يكفره به من لا يتوقع كفره، ولا يختلف عليه اثنان، ومع هذا تجد من أهل العلم من يخالف ذلك. فتجد إنساناً يأتي بأفعال الكفر، ويتقول أقوال الكفر، ويقول كلاماً لا يبقى معه أصل الإيمان عنده، ومع هذا تجد أن بعض أهل العلم يقول: هذا رجل مؤمن، وهذا كله بسبب الجهل بقضايا الإيمان والكفر. قال: [(وكان رجل ينشد ضالة له)] يعني: يطلبها، قيل: إن هذا الرجل هو الجد بن قيس المنافق. وفي رواية: [(من يصعد ثنية المُرار، أو المِرَار، أو المِرِار) بمثل حديث معاذ السابق غير أنه قال: (وإذا هو أعرابي جاء ينشد ضالة له)].

المنافق الجاسوس لصالح اليهود

المنافق الجاسوس لصالح اليهود قال: [حدثنا محمد بن رافع حدثنا أبو النضر -وهو هاشم بن القاسم البغدادي، الملقب: بـ قيصر - قال: حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت بن أسلم البناني عن أنس بن مالك قال: (كان منا رجل من بني النجار قد قرأ البقرة وآل عمران -وبنو النجار هم أخوال النبي عليه الصلاة والسلام- فانطلق هارباً حتى لحق بأهل الكتاب)، انطلق هذا الرجل وترك النبي صلى الله عليه وسلم، وترك كتابة الوحي، وذهب إلى أهل الكتاب وهم اليهود. قال: [(فرفعوه وشرفوه، وقالوا: هذا كاتب وحي محمد)]، وهم لا يعترفون بنبوته، وهذا -يا إخواني- مما ينبغي لكم معرفته، وهو أن اليهود لما علموا أن هذا يحفظ البقرة وآل عمران، وأنه من كتاب وحي الله الذي ينزل على محمد؛ عظموه وشرفوه، ورفعوه فوق رءوسهم، وجعلوا له مكانة عظيمة. وهذا الموقف ينطبق تمام الانطباق مع ما يفعل بالدعاة والعلماء في هذا الزمان وفي غيره من الرفعة والتعظيم والشرف؛ بسبب دعوتهم إلى الله عز وجل، وتربيتهم للأجيال الناشئة، فالدعاة في صحة وأمان وعافية. [(فانطلق هارباً حتى لحق بأهل الكتاب، فرفعوه قالوا: هذا قد كان يكتب لمحمد فأعجبوا به، فما لبث أن قصم الله عنقه فيهم -يعني: مات- فحفروا له فواروه -يعني: دفنوه- فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها). وكأن الله تبارك وتعالى قد جعل لها أحاسيس، فتقبل أهل الإيمان، وتلفظ أهل النفاق والكفران. قال: [(ثم عادوا فحفروا له فواروه، فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، ثم عادوا فحفروا له فواروه، فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، فتركوه منبوذاً)]. وفي الحقيقة: أن أخلاق اليهود تختلف عن أخلاق النصارى والمشركين والمؤمنين، فالمؤمن يتجمل بمكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم، ويتعلمها من القرآن والسنة، وأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم الذي ضرب المثل الأعلى في الكمال البشري في كل شيء، فمهما فعلت لا يمكن أن تصل إلى خصلة واحدة مما تخلق به عليه الصلاة والسلام. وبعض الناس يظن أن اليهود أحسن من المسلمين، ولا يدري هذا المسكين أن له عندهم دوراً إذا انتهى هذا الدور كان حذاءً يلبس في أرجلهم! فالمنافق الذي يتجسس على المؤمنين، وعلى جيوش المسلمين لصالح الكفار وغيرهم؛ لابد أن يعلم أنه في نهاية أمره نعل يلبسه شارون وغيره، ولابد أن دوره سينتهي، وهناك أكثر من جاسوس قد اتخذوه في الدول الإسلامية، ولما انتهى دوره قتلوه أو نبذوه، لأنه تعدى الحدود التي رسمت له. وفي كتب الجاسوسية العالمية أخبار شنيعة جداً، فهم يمدحون ويرفعون الإنسان فوق السماء وفجأة يقتلونه؛ لأنه تعدى الحد. والسبب الثاني: أن معه أخبار قد كلف بتحصيلها وقد حصلها، وهم لا يأمنون منه فيقتلونه؛ خوفاً أن تتسرب الأخبار إلى الآخرين. فيأتي آخر فيقتل القاتل؛ مخافة أن تتسرب نفس الأخبار إلى خارج الدائرة المطلوبة انتشار الخبر وهكذا. ولا يرتاح قلب المرء إلا إذا كان عاملاً بالكتاب والسنة، فإذا قتل كان شهيداً، فهو يدور بين خيرين: إما عامل بالكتاب والسنة على منهاج النبوة، وإما شهيد، والمؤمن لا رغبة له إلا في هذين. قال: [حدثني أبو كريب - محمد بن العلاء الهمداني - حدثنا حفص بن غياث عن الأعمش عن أبي سفيان -وهو طلحة بن نافع الواسطي نزيل مكة- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم من سفر فلما كان قرب المدينة هاجت ريح شديدة تكاد أن تدفن الراكب). أي: من شدتها تكاد تدفن الراكب؛ لأنها أخذت الرمال والأتربة وغير ذلك، فكانت ريحاً شديدة وعاصفة قوية جداً حتى كادت أن تدفن الراكب على فرسه. (فزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بعثت هذه الريح لموت منافق)]. يعني أن البعض قال: إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ما بعثت هذه الريح إلا شماتة وفرحاً بموت فلان المنافق، وعقوبة له، وعلامة أن موته راحة للبلاد والعباد، وهذا مصداق قوله عليه الصلاة والسلام: (مستريح ومستراح منه، قالوا: يا رسول الله! ما مستريح وما مستراح منه؟ قال: إن العبد المؤمن إذا مات استراح من البلاد والعباد، وإن العبد الكافر أو المنافق إذا مات استراح منه البلاد والعباد والشجر والدواب). فحينئذ قامت هذه الريح الشديدة لما مات أحد المنافقين، هكذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في طريق السفر إلى المدينة، وهذا المنافق مات بالمدينة؛ ولذلك قال جابر: (فلما قدم المدينة فإذا منافق عظيم من المنافقين قد مات). وهذا من دلائل نبوته عليه الصلاة والسلام.

وعيد المنافقين يوم القيامة

وعيد المنافقين يوم القيامة قال: [حدثنا عباس بن عبد العظيم العنبري قال: حدثنا أبو محمد - النضر بن محمد بن موسى اليماني - حدثنا عكرمة حدثنا إياس -وهو ابن الصحابي الجليل سلمة بن الأكوع - قال: حدثني أبي، قال: (عدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً موعوكاً)]. (عدنا) يعني: زرنا (موعوكاً) يعني: مريضاً. قال: [(فوضعت يدي عليه فقلت: والله ما رأيتك كاليوم رجلاً أشد حراً)]. يعني: أن حرارتك قوية وعالية جداً، وأنا طوال عمري وحياتي ما رأيت أحداً حرارته مرتفعة كحرارتك. [فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بأشد حراً منه يوم القيامة؟ أولئك الرجلين الراكبين المقفيين، لرجلين حينئذ من أصحابه)]. فقوله: (أصحابه) يعني: ممن دخلوا في عموم الصحبة عرفاً، لكنهم في حقيقة الأمر ليسوا من أصحابه. فالنبي عليه الصلاة والسلام ذكر أن الرجلين الراكبين المقفيين -أي: اللذين قفاهما باتجاهنا- أنهما يوم القيامة أشد حراً من هذا. وهذا فيه بيان أن الله تعالى أطلع نبيه على المنافقين بأعيانهم وأسمائهم.

تشبيه المنافق بالشاة العائرة بين غنمين

تشبيه المنافق بالشاة العائرة بين غنمين قال: [حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير قال: حدثنا أبي، وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة - حماد بن أسامة - قال: حدثنا عبيد الله -وهو ابن عمر العمري -، وحدثنا محمد بن المثنى -واللفظ له- أخبرنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي قال: حدثنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين غنمين، تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة)]. أي: الشاة المتحيرة المترددة بين مجموعتين من الغنم، فالمنافق عنده حيرة، فلا يستريح ولا يهنأ له قلب ولا يطمئن، وهذا المثل لتقريب المعنى، وضربه من وحي البيئة العربية، فالمنافق مثله مثل الشاه العائرة، فهو يذهب إلى أهل الإيمان مرة، وإلى أهل النفاق مرة أخرى، ولا هو قادر يستمر مع هؤلاء، ولا قادر يستمر مع هؤلاء؛ لأنه منافق. وفي رواية ثانية: [(تكر في هذه مرة، وفي هذه مرة)]. والمعنى واحد، قال الإمام النووي: هي المترددة الحائرة لا تدري لأيهما تتبع؟ ومعنى: (تعير) أو (تكر) أي: تتردد وتذهب هنا مرة وهناك مرة أخرى. فهذه بعض أوصاف المنافقين التي ذكرها الله تعالى في كتابه، وذكرها رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام في صحيح سنته. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

كتاب صفات المنافقين وأحكامهم - من كتاب صفة القيامة والجنة والنار

شرح صحيح مسلم - كتاب صفات المنافقين وأحكامهم - من كتاب صفة القيامة والجنة والنار في يوم القيامة يمسك الله تعالى السماوات على أصبع، والأرضين على أصبع، والجبال والشجر على أصبع، والثرى على أصبع، وسائر الخلق على أصبع، فيهزهن تبارك وتعالى ويقول: أنا الملك، وفي ذلك إثبات لصفة الأصابع لله تعالى كما يليق بجلاله، كما أن أرض المحشر في ذلك اليوم العظيم يبسطها الله عز وجل حتى تكون كالقرص، ويجمع عليها الخلق منذ آدم عليه السلام وإلى آخر من قامت عليهم الساعة.

صفة القيامة والجنة والنار

صفة القيامة والجنة والنار بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أما بعد: (كتاب: صفة القيامة والجنة والنار).

شرح حديث: (إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة)

شرح حديث: (إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة) قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو بكر بن إسحاق -وهو محمد بن إسحاق الصاغاني - قال: حدثنا يحيى بن بكير -وهو يحيى بن عبد الله بن بكير، ينسب غالباً إلى جده- قال: حدثني المغيرة الحزامي عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة، اقرءوا إن شئتم: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف:105])]. والأخسرون أعمالاً هم الذين آثروا الكفر على الإيمان، فهذه الآية قد وردت في الكافرين: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ} [الكهف:105] أي: للكافرين {يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف:105] أي: لا نقيم لهم وزناً ولا قدراً ولا شرفاً، فمهما عظمت أبدانهم فإنهم لا يزنون عند الله - أي: في ميزان الحق - جناح بعوضة. وضرب الله عز وجل مثلاً لهذا بأحقر المخلوقات وهي: الذبابة، بل وضرب بأحقر شيء فيها وهو جناحها الذي لا يكاد يرى. ولذلك ورد في غير مسلم: (وإن الرجل العظيم السمين، الأكول الشروب) يعني: الضخم جداً في هيئته ومنظره، وطوله وعرضه، فهذا رجل إذا كان كافراً فإنه يأتي يوم القيامة وجناح البعوضة أثقل في الميزان منه، قال تعالى: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف:105].

شرح حديث: (جاء حبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم) وإثبات صفة الأصابع لله تعالى

شرح حديث: (جاء حبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم) وإثبات صفة الأصابع لله تعالى [حدثنا أحمد بن عبد الله بن رمح حدثنا فضيل بن عياض عن منصور بن المعتمر عن إبراهيم التيمي عن عبيدة السلماني عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (جاء حبر -والحبر: بفتح الحاء على الأفصح، وهو العالم من علماء اليهود- إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! أو يا أبا القاسم!) لأنه ليس له أن يقول: يا نبي الله؛ لأن هذا إقرار منه بنبوة محمد، والقضية كلها متعلقة بالإنكار بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام. قال: [(إن الله تعالى يمسك السماوات يوم القيامة على أصبع)] وهذا يدل على أنه كان يجد هذا الكلام في كتب أهل ملته. قال: [(والأرضين على أصبع، والجبال والشجر على أصبع، والماء والثرى على أصبع، وسائر الخلق -أي: مما لم يذكر آنفاً- على أصبع، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجباً مما قال الحبر). أي: ضحكه عليه الصلاة والسلام ليس إنكاراً وإنما كان تعجباً، ولو كان هذا الكلام باطلاً لغضب النبي عليه الصلاة والسلام على الفور؛ لأن هذا كلام يتعلق بالذات العلية، فليس هناك مجال للضحك، ولا على سبيل السخرية، أو الإنكار؛ لأن المؤمن لا يضحك إذا انتهكت حرمة من حرمات الله عز وجل، حتى ولو على سبيل الإنكار، أو السخرية والاستهزاء فإنه لا يضحك، وإنما يغضب ويتمعر وجهه، والنبي عليه الصلاة والسلام قد تغير وتمعر وجهه، واحمر كأنما فقئ فيه حب الرمان مما هو أقل من ذلك مما كان باطلاً، فضحك النبي عليه الصلاة والسلام من قول الحبر تعجباً وتصديقاً له، هذه الدلالة والقرينة الأولى. والدلالة والقرينة الثانية قال: [(وتصديقاً له على ما قال، ثم قرأ النبي عليه الصلاة والسلام: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67])]. فالشاهد الثاني: قول الراوي: (وتصديقاً له) أي: وتصديقاً للحبر. الشاهد الثالث: تلاوة النبي عليه الصلاة والسلام للآية، والتي معناها: ومع ذلك -أيها اليهود- فأنتم ما قدرتم الله حق قدره، وأنتم تعرفون أنه على كل شيء قدير، وأن كل شيء في قبضته وفي يمينه، ومع هذا فأنتم لم تؤمنوا به حق الإيمان. ثم بين النبي عليه الصلاة والسلام مصداق قول هذا الحبر من كتاب الله عز وجل فقال: [{وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67]]. فذكر من كلام الله عز وجل ما يشهد لكلام ذلك الحبر. وبعض أهل العلم قال: هذا الضحك كان على سبيل الإنكار، واستشهدوا لذلك بلغة العرب، وأن الشخص إذا أنكر شيئاً ضحك منه استهزاءً أو سخرية أو غير ذلك. والرد عليهم: إذا كان هذا في حق المخلوقين، فإنه لا يجوز ولا يحل في حق الأنبياء؛ خاصة الضحك إذا انتهكت الذات العلية، فضلاً عن هذه الشواهد السابقة التي ذكرتها، وكلها قاضية بأن الضحك كان للإقرار، ولذلك أخرج الترمذي في سننه عن ابن عباس: (أن حبراً من أحبار اليهود دخل على النبي عليه الصلاة والسلام وقال: يا محمد! إن الله يمسك السماوات. وفي رواية: يجعل السماوات على هذه، وأشار الحبر إلى الخنصر، ويجعل الأرض على ذه، وأشار إلى البنصر، ويجعل الجبال على ذه وأشار إلى الوسطى، حتى عد هذه المخلوقات وختم يده إلى الإبهام). والنبي عليه الصلاة والسلام لم ينكر على هذا الرجل أنه أشار إلى أصابعه في معرض كلامه عن أصابع المولى عز وجل، لأن الأمر مستقر عند النبي عليه الصلاة والسلام وعند هذا الحبر، وعند الصحابة الذين حضروا هذا المشهد أن أصبع اليهودي هو أصبعه، وأصبع المولى عز وجل هو أصبعه، وإذا كان هناك اتفاق فهو في مجرد الاسم لا في كيفية هذا المسمى. فالله تعالى له أصبع، ولليهودي وللنبي عليه الصلاة والسلام ولأصحابه وللخلق أصابع، لكن شتان ما بين أصابع الخلق وأصابع المولى عز وجل. فهذا اليهودي إنما أشار إلى أصابعه، ولم ينكر عليه النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن الأمر كان معلوماً ومستقراً أن البون شاسع بين صفات الخالق وصفات المخلوقين، واليهود يعلمون ذلك، والنصارى يعلمون ذلك، ولذلك ما أنكر عليهم. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب. وأجمع أهل العلم بالحديث على أن هذه الرواية رواية صحيحة لا مطعن فيها. فإذا قلت: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (خلق الله آدم على صورته)، وفي رواية: (على صورة الرحمن)، وكلاهما روايتان صحيحتان، فلا يعني أنك أنت على صورة الرحمن، أو أن الرحمن على صورتك، وإنما يعني هذا الحديث: أن الله تبارك وتعالى له صورة كما خلقك أنت على صورة، فلك صورة وللمولى عز وجل صورة، ولك يد وللمولى عز وجل يد، ولك ساق وللمولى عز وجل ساق، لكن شتان ما بين

شرح حديث: (يقبض الله تبارك وتعالى الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه)

شرح حديث: (يقبض الله تبارك وتعالى الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه) قال: [حدثني حرملة بن يحيى - وهو التجيبي المصري - قال: أخبرنا عبد الله بن وهب أخبرني يونس - وهو ابن يزيد الأيلي - عن ابن شهاب - أي: الزهري - حدثني ابن المسيب - يعني: سعيد - أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقبض الله تبارك وتعالى الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض؟)]. إذاً: فالأرض لا تقبض قبضاً تاماً كاملاً إلا في يوم القيامة، وأما قبضها وطيها جزئياً فإنه يكون قبل يوم القيامة، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يحب السفر أول الليل، وقال: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، فلما سئل عن ذلك قال: إن الله يطوي الأرض بالليل). وطي الأرض في الحياة الدنيا يختلف عن طيها وقبضها يوم القيامة. وفي الحديث السابق تهديد ووعيد للحكام والزعماء والأمراء وغير ذلك، وهو أنهم في قبضة المولى عز وجل، فإن أحسنوا فلهم ذلك، وإن أساءوا فعليهم ذلك. قال: [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة حماد بن أسامة عن عمر بن حمزة -وهو ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما-]. وعمر بن حمزة ضعيف إذا انفرد، فما بالك لو خالف؟! وهذا الكلام يعرفه طلاب علم الحديث: أن الراوي الضعيف تكون روايته عند المخالفة أشد نكارة؛ لأن الحديث الشاذ هو ما رواه الثقة مخالفاً لمجموع الثقات، أو ما رواه الثقة مخالفاً لمن هو أوثق منه، وأما الحديث المنكر: فهو ما رواه الضعيف إذا خالف فيه الثقات، فإذا خالف مجموع الثقات فيكون حديثه أشد نكارة، وهذا ما فعله عمر بن حمزة العدوي.

إثبات صفات الله على الوجه اللائق به سبحانه

إثبات صفات الله على الوجه اللائق به سبحانه [قال: حدثني سالم بن عبد الله - وسالم بن عبد الله بن عمر عم عمر بن حمزة بن عبد الله بن عمر - قال: أخبرني عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يطوي الله عز وجل السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك! أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله). والأرضين جمع: أرض، وهي الأرضون السبع. قال: [ثم يقول: (أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟)]. والنكارة في هذه الرواية هي في ذكر الشمال، والإمام مسلم قد روى في صحيحه عدة روايات تذكر أن كلتا يديه سبحانه يمين. والعلماء يقولون: يحرم التخيل في صفات الله، فإذا كان في حق المخلوقين ممكن؛ فإنه في حق الله غير ممكن قط، وقد يستحيل في حق بعض المخلوقات أن تتخيله، كما خلق الله تبارك وتعالى الملائكة أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع، يزيد في الخلق ما يشاء إلى ستمائة جناح، وجبريل له ستمائة جناح، والنبي صلى الله عليه وسلم رآه على هيئته التي خلقه الله عز وجل عليها مرتين، وفي كل مرة يراه قد سد الأفق، وهذا أحد مخلوقات الله عز وجل يسد الأفق، حتى أن الناظر إليه لا يرى شيئاً من السماء. فإذا كنت لا تستطيع أن تتصور جبريل بأجنحته الكاملة كما خلقه الله، فمن باب أولى أن تكف عن تصور صفات المولى عز وجل، ولله المثل الأعلى، كما قال الله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، وهذه الآية فيها إثبات ونفي، إثبات للصفات التي أثبتها لنفسه، وأثبتها له رسوله عليه الصلاة والسلام، ونفي لأمرين: نفي لمنهج الجهمية، وهو: التعطيل. ونفي لمنهج الأشاعرة والمعتزلة وهو: التأويل. والأمر كما قال ابن تيمية عليه رحمة الله: من عَبد الله عز وجل بالتمثيل فقد عبد صنماً، ومن عبده بالتعطيل فقد عبد عدماً. فلا تمثيل ولا تعطيل؛ لأن من عبد الله تعالى ممثلاً له فكأنما يعبد صنم، ولذلك فإن الفرق المنحرفة كلها التي أثبتت الصفات لله عز وجل على نحو ما يفهمون من صفات الخلق إنما بلغوا بالله عز وجل في نهاية المطاف إلى أنه رجل حسن! فقالوا: له يد هي كأيدينا لكنها أجمل من أيدينا، وله عين كأعيننا، ولكنها أجمل من أعيننا. وفي نهاية الأمر يلزمهم أن يقولوا: إن الله تعالى رجل قبيح! فإن بعض الفرق الضالة قالت: إن الله تعالى أنثى، حتى قال ذلك الكلام الكفري البواح بعض المعاصرين, وكتب ذلك في المجلات والصحف اليومية. فقال هنا: (يطوي الله عز وجل السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون، أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله)، واللفظ الصحيح الذي ورد في روايات أخرى: (ثم يطوي الأرضين بيده الأخرى، وكلتا يديه يمين، ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟). قال: [حدثنا سعيد بن منصور قال: حدثنا يعقوب - وهو ابن عبد الرحمن القاري - حدثنا أبو حازم سلمة بن دينار الأشجعي عن عبيد الله بن مقسم أنه نظر إلى عبد الله بن عمر كيف يحكي رسول الله صلى الله عليه وسلم]. يعني: أن عبيد الله بن مقسم كان ينظر إلى عبد الله بن عمر وهو يحاكي النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: يصف فعل النبي عليه الصلاة والسلام بفمه وبرأسه وبيده وبرجله، إذا كان يتكلم في قضية معينة. قال: [عن عبيد الله بن مقسم أنه نظر إلى عبد الله بن عمر كيف يحكي -أي: كيف يقلد النبي صلى الله عليه وسلم- قال: يأخذ الله عز وجل السماوات والأرضين بيديه فيقول: أنا الله). والحكاية هي: أن عبد الله بن عمر رأى النبي عليه الصلاة والسلام يقول بيديه هكذا: (إن الله تعالى يقبض السموات والأراضين بيديه هكذا) فرآه يقبض أصابعه ويبسطها]. وليس في هذا تمثيل للقبض بالقبض، ولا للبسط بالبسط، وقد ورد ذلك في السنة كثيراً، ومنه قول النبي عليه الصلاة والسلام: (أترون القمر ليلة البدر؟ قالوا: نعم يا رسول الله! قال: أترون الشمس في رابعة النهار؟ قالوا: نعم يا رسول الله! قال: إنكم سترون ربكم كما ترون القمر في ليلة البدر لا تضامون في رؤيته) أي: لا يحصل لكم ضيم ولا ريب ولاشك. فبعض من أنكر هذا الحديث قال: لا يمكن أن يكون الله تعالى كالقمر، ولا كالشمس، فكيف يمثل النبي عليه الصلاة والسلام الله عز وجل بالشمس والقمر؟! وفي حقيقة الأمر: أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يمثل الذات العلية بالشمس ولا بالقمر، وإنما مثل الرؤية بالرؤية بجامع الوضوح، والمعنى: كما أنكم ترون هذا القمر ولا تشكون في رؤيته فكذلك ترون الله عز وجل يوم القيامة، والكاف هنا: للتشبيه، أي: تشبيه الرؤية بالرؤية لا المرئ

شرح حديث ابن عمر: (يأخذ الجبار عز وجل سماواته وأراضيه بيديه)

شرح حديث ابن عمر: (يأخذ الجبار عز وجل سماواته وأراضيه بيديه) قال: [حدثنا سعيد بن منصور حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم قال: حدثني أبي - وهو سلمة بن دينار - عن عبيد الله بن مقسم عن عبد الله بن عمر قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وهو يقول: يأخذ الجبار عز وجل سماواته وأراضيه بيديه) ثم ذكر بمثل أو بنحو حديث يعقوب].

الكلام عن التفويض وبيان أنه ليس مذهب السلف

الكلام عن التفويض وبيان أنه ليس مذهب السلف والإمام النووي ذكر في هذا الباب كلاماً في غاية الغرابة، لكنه ليس غريباً منه؛ لأن الإمام النووي أكثر ما انشغل في حياته بالرواية والفقه، الرواية من جهة الشرح والثبوت والرد، وكذلك كان فقيهاً بارعاً، ولذلك هو الفقيه المعتمد لدى الشافعية. لكنه في دراسة علم الاعتقاد لم يتأهل التأهل الذي يسمح له في الدخول فيه، لكنه اضطر اضطراراً أن يتكلم فيما يتعلق بشرح الروايات المتعلقة بأحكام الاعتقاد، فأحياناً يوافق كلام الفلاسفة، وأحياناً يذكر الخلافات القوية فيقول: وهذا من الصفات، وأحياناً يقول: هذا من المشتبهات، فيذكر كلام أهل الباطل ويذكر كلام أهل الحق ويسكت. وأحياناً يرجح، وأحياناً يذكر كلام أصحاب الفرق ويؤيده، وأحياناً يذكره ويعارضه. فهذه الأحايين كلها في حق الإمام النووي تجعلنا نقول: إنه فعلاً لم يتضح له مذهب الحق فيما يتعلق بالأسماء والصفات. وهذا ديدنه ليس في كتاب صحيح مسلم فحسب، بل في غير ما كتاب، ولذلك بعد أن ذكر أحاديث الباب قال: هذا من أحاديث الصفات، ونحن متفقون على أن هذا الحديث من أحاديث الصفات. ثم قال: وقد سبق فيها المذهبان، المذهب الأول: التأويل، والثاني: الإمساك عنه مع الإيمان به، ومذهب السلف هو الإمساك عن كيفيته.

أنواع التأويل

أنواع التأويل والتأويل ينقسم إلى ثلاثة أنواع: تأويل العلم، وتأويل المعنى، وتأويل الكيف، ومذهب أهل البدع تفويض العلم والمعنى. فمثلاً: قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، يقول أهل البدع: الله أعلم بالاستواء، فهم لا يخوضون في معنى الاستواء، والله تعالى لا يخاطبنا قط بما لا علم لنا به، وإنما يخاطبنا بكلام له معنى في لغة العرب، ولذلك نقول: الاستواء معلوم، ومعنى الاستواء: العلو والارتفاع، وأما كيف علا وارتفع؟ فهذا هو الذي لا نعلمه، فنفوض الكيفية إلى الله تعالى. إذاً: علينا أن نعلم أن معاني الصفات معلومة، ولا نخوض في كيفيتها، لأنه إذا كنا لا نقوى ولا نقدر ولا نجسر أن نتكلم في الذات فالكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، فلا يحل لنا أن نتكلم في الصفات كذلك. إذاً: التفويض في العلم والمعنى منهج أهل البدع، والتفويض في الكيف منهج أهل الحق. قال النووي: وقد سبق فيها المذهبان: التأويل، والإمساك عنه مع الإيمان به، أي: الإمساك عن التأويل في الكيف مع الإيمان به على حقيقته اللائقة بالله عز وجل، وهذا مذهب أهل السنة. قال: مع اعتقاد أن الظاهر منها -أي: من الصفة- غير مراد. وهذا أيضاً كلام جميل، وإن كان السلف يسكتون عن هذا، لكن معناه: أننا نعتقد أن اليد إذا أطلقت في حق المولى عز وجل لا يراد بها اليد الجارحة التي هي للخلق، فنثبتها لله عز وجل على المعنى اللائق به سبحانه، ولا نخوض في كيفيتها، ونعتقد أن الظاهر من هذا اللفظ فيما نفهم نحن من أيدي المخلوقين، فليس مراداً في حق الله عز وجل. قال: فعلى قول المتأولين الذين يتأولون الأصابع هنا على الاقتدار -يعني يقولون: الأصابع معناها: القدرة- فنقول لهم: والقدرة ما معناها؟ فالذين يقولون: إن الأصابع هي القدرة، واليد هي القدرة، فمعنى ذلك هو تعطيل الصفة، وهذا منهج الجهمية في تعطيل الصفات، فعلى قول المتأولين الذين يتأولون الأصابع هنا على الاقتدار، أي: خلقها مع عظمها بلا تعب ولا ملل. والبعض الآخر يقول: إنها لمبالغة الاحتقار، فيقول أحدهم: بأصبعي أقتل زيداً، وفي الحقيقة: أنه لا يقتل زيداً بأصبعه، وإنما يقتله بيده كلها، فيقال هذا الكلام لاحتقار زيد ابتداءً. والأمر الثاني: المراد بالذات قوتك، وهذا الكلمة تجوز في حقك، ولا تجوز في حق المولى عز وجل، لأن القانون الذي يحكم صفات الخلق يختلف عن القانون الذي يحكم صفات الله عز وجل. قال: ويحتمل أن المراد أصابع بعض المخلوقات، مع أن الفاعل حقيقة هو الله سبحانه وتعالى الذي يحمل هذه المخلوقات. وظاهر الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم صدق الحبر في قوله: إن الله تعالى يقبض السماوات والأرضين والمخلوقات بالأصابع.

شرح حديث: (خلق الله التربة يوم السبت)

شرح حديث: (خلق الله التربة يوم السبت) وفي حديث آخر: [(خلق الله عز وجل التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الإثنين، وخلق المكروهات يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم عليه السلام آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل). قال إبراهيم -وهو ابن سفيان راوي صحيح مسلم -: وحدثنا البسطامي -وهو الحسين بن عيسى - وسالم بن عمار وإبراهيم بن بنت حفص وغيرهم عن حجاج بهذا الحديث]. يعني: يريد أن يقول: إنني شاركت مسلماً في رواية هذا الحديث، فـ مسلم يرويه عن سريج، وهارون، وأنا أرويه عن مسلم عن سريج وهارون، لكني اختصرت طريق مسلم، وارتقيت درجة فرويته بعلو، فأنا شريك لـ مسلم في هذه الطبقة. قال أبو هريرة: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي كالصاحب له، فقال: خلق الله عز وجل التربة يوم السبت)]. يعني: خلق الله الأرض يوم السبت، (وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الإثنين، وخلق المكروهات يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق، في آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل). أما قوله: (خلق المكروه يوم الثلاثاء) فالمكروه: هو ما يقوم به المعاش، ويصح به التدمير كالحديد وغيره من جواهر الأرض، وكل شيء يقوم به صلاح شيء فهو تقنه، ومنه: إتقان الشيء، وهو إحكامه. وهذا الحديث نازع في ثبوته كثير من المحدثين، وقالوا: إن الحديث ضعيف، وآخر المحدثين الذين حكموا على هذا الحديث بالضعف هو شيخنا الألباني رحمه الله مع أنه ثابت في الصحيح، وحجتهم في ذلك: ضعف أيوب بن خالد أحد رواة إسناد هذا الحديث. وفي الحقيقة: هذا الحديث كنت توقفت سنوات طويلة في ثبوته أو رده، حتى ترجح لدي أن أبا هريرة رضي الله عنه لم يأخذه عن كعب الأحبار، لأن حجة من قال برد هذا الحديث وعدم ثبوته: أن كعب الأحبار أخذه من كتب أهل الكتاب، وأخذه عنه أبو هريرة رضي الله عنه، وهذا الإسناد صريح في أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيد أبي هريرة وقال له: (خلق الله التربة يوم السبت). إلى آخر الحديث. فهذا الحديث صريح في الرفع إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وأنه من قوله لا من قول كعب الأحبار. لكن يبقى فيه علة أخرى وهي: ضعف أيوب بن خالد، لكن أيوب متابع، فقد تابعه غير واحد، وإن كانت المتابعات لا ترقى إلى مستوى التحسين بذاتها، إلا أن مجموع المتابعات يجعل النفس تطمئن إلى ثبوت هذا الحديث. وقد انتهزت الفرصة في مكالمة تلفونية بيني وبين الشيخ أبي إسحاق اليوم بعد صلاة العصر، فقلت له: ما قولكم في حديث: خلق التربة والأرض والجبال وغيرها؟ قال: قد أثبته في المجلد الثاني من تفسير ابن كثير وبينت أن المرفوع منه حديث صحيح. فلما وافقني الشيخ أبو إسحاق أحببت أن أخبركم باتفاقي معه واتفاقه معي في ثبوت هذا الحديث المرفوع، وأما ما يأتينا من طريق كعب المتعلق بالغيب فلا نأخذه، خاصة إذا انفرد به، والله تعالى أعلم.

البعث والنشور وصفة الأرض يوم القيامة

البعث والنشور وصفة الأرض يوم القيامة الباب الثاني: في البعث والنشور وصفة الأرض يوم القيامة. [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا خالد بن مخلد -وهو القطواني - عن محمد بن جعفر بن أبي كثير حدثني أبو حازم -وهو سلمة بن دينار - عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي، ليس فيها علم لأحد). قوله: (أرض بيضاء عفراء) هي الأرض التي تميل إلى الحمرة، فليست بيضاء نقية، وليست حمراء كالنار، وإنما هي كقرصة النقي، ليس فيها علم لأحد. يعني: كأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: الأرض يوم القيامة تبدل عن حالها، وتتغير عن وضعها في الدنيا، فالأرض في الدنيا فيها جبال، وأنهار، والعالي والنازل وفيها غير ذلك، وأما يوم القيامة فمبسوطة تماماً كالرغيف، فلا هي حمراء تماماً، ولا هي بيضاء تماماً، كما أنها ليس بها علامات لأحد، يعني: أنت تعرف بيتك في الدنيا بأنه في محل كذا وكذا، وإذا أردت أن تصف بيتك لأحد من الناس فإنك تصفه بعلاماته وأماراته، لكن يوم القيامة ليس في الأرض علامات ولا أمارات، والإنسان أول ما يبعث يقف على الأرض لا يعرف أين هو، وإنما يساق إلى المحشر والحساب والجزاء. وقوله عليه الصلاة والسلام: (ليس فيها علم لأحد) أي: ليس فيها سكنى ولا علامة ولا بناء ولا أثر. قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا علي بن مسهر عن داود بن أبي هند عن الشعبي -وهو عامر بن شراحيل -عن مسروق بن الأجدع عن عائشة رضي الله عنها قالت: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله عز وجل: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ} [إبراهيم:48] فأين يكون الناس يومئذ؟ قال: في الظلمة دون الجسر)]. أي: سألت عائشة: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات؟ فأجابها النبي عليه الصلاة والسلام: في الظلمة دون الجسر، وهو الصراط. وهذا يدل على عظم الصراط الذي يمر عليه الناس أجمعين، والعجيب أن أحد أساتذة الأزهر الكبار وهو أستاذ الحديث الذي له منزلة عظيمة في قلوب الشباب كان يشرح عن الصراط والميزان وغير ذلك، فقال: إن الله عز وجل خاطبنا بما نعقل وبما نفهم، فالميزان ليس ميزاناً حقيقياً، وإنما هو مجاز عن المحاسبة، والمقصود منه: أن الله تعالى يحاسب العبد إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. فقد تصور الشيخ أن وزن الأعمال من المعنويات لا من المحسوسات! لكن إذا أمرك الله عز وجل أن تؤمن به كان واجباً عليك أن تقول: سمعنا وأطعنا، وإلا فهل رأيت الله عز وجل؟ فإن قلت: لا، يلزمك أن تقول: أنا لا أتصور الله عز وجل، وبالتالي يكفر المرء ويخرج من الإيمان بالكلية. فالذي نقوله في ذات الإله عز وجل نقوله في كل أمر غيبي، أننا نؤمن به على مراد الله عز وجل به؛ لأنه أخبرنا به، فالميزان الذي توزن به الأعمال يوم القيامة ميزان حقيقي لا يشبه موازين الخلق، فالله تبارك وتعالى إما أن يزن الأعمال بعامليها، وإما أن يزن الأعمال على اعتبار أنها معنويات؛ لأنه على كل شيء قدير، أو يجعل المعنوية في صورة محسوس فيزنه، وهذا كلام علماء السلف فيما يتعلق بوزن الأعمال. فنحن في هذا الوقت نزن الهواء، فهو شيء محسوس يوزن، وكان الذين من قبلنا يقولون: الهواء شيء معنوي لا حسي، ونحن وصلنا إلى أن الهواء شيء محسوس، وبالتالي بدأنا نوزنه، فما المانع أن نسلم لله لأول وهله، ونقول: إن الله تعالى على كل شيء قدير؟! والموت في ذاته شيء معنوي، ومع هذا فإن الله تعالى يجسده يوم القيامة، فإذا فرغ من موت الخلق وصعقهم جميعاً أمر الموت، وهذا يدل على أن الموت يخاطب فيعقل، والله تعالى جعل الموت كبشاً يذبح على الصراط، فكيف نقول: إن الله تعالى لا يزن الأعمال؛ لأنها من المعنويات، بل هو على كل شيء قدير.

باب نزل أهل الجنة

باب نزل أهل الجنة قال: [باب نزل أهل الجنة]. والنزل: هو المكان المعد للضيف، أو للعسكر أو غيرهما ممن يستحق الضيافة والتكريم. قال: [حدثنا عبد الملك بن شعيب بن الليث قال: حدثني أبي عن جدي حدثني خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يكفؤها الجبار بيده)]. ومعنى (يكفؤها): يحركها ويميلها، ولله المثل الأعلى، فإنه يجعل الأرض يوم القيامة كخبزة واحدة فيها الخلق، يكفؤها ويميلها بيده. قال: (كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر). والكاف هنا للتشبيه؛ لأن خبز السفر غير خبز الحضر، وهذا الكلام قاله النبي عليه الصلاة والسلام على اعتبار أن ذلك معلوم لدى العرب المخاطبين: أن أحدهم لما يخبز خبزاً في الحضر فإنه يعتنى به، ويرققه ويساويه، بينما خبز السفر يكون ثخيناً؛ من أجل يبقى مدة طويلة من الزمان. فيحفرون حفرة في الأرض، فتضرم فيها النيران حتى تنطفئ، ثم يوضع العجين على النار، فتسويه حرارة النار، أو يسوى الخبز بالحر الشديد، فهذا الذي يسميه العرب: خبز السفر، بينما يكون خبز الحضر خبزاً أبيض. قال عليه الصلاة والسلام: [(تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يكفؤها الجبار بيده كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر؛ نزلاً لأهل الجنة، فأتى رجل من اليهود فقال: بارك الرحمن عليك يا أبا القاسم!)]. واليهود كانوا يسمون الله تعالى بالله والرحمن، ولذلك جاء عن عمر رضي الله عنه لما سألوه عن النبي عليه الصلاة والسلام، وكانوا يطمعون في ردته، وفي إزاحته عن الإسلام، قال: أي يمين فيكم تعظمون؟ قالوا: الرحمن. قال: والرحمن أقسم بما يعتقد اليهود، وهو كذلك في معتقد عمر بن الخطاب، ثم دخلت القضية التي هي محل النزاع. ولذلك قال الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110] فأثبت الله تعالى أن الله والرحمن من أسمائه الحسنى. قال: [(فأتى رجل من اليهود فقال: بارك الرحمن عليك يا أبا القاسم)] أي: لما سمع أن الأرض تكون يوم القيامة كخبزة أحدكم في سفره، فقال: [(بارك الرحمن عليك يا أبا القاسم ألا أخبرك بنزل أهل الجنة يوم القيامة؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: بلى. قال: تكون الأرض خبزة واحدة، فنظر إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ضحك حتى بدت نواجذه)] يعني: يريد أن يقول لهم: لقد سمعت من الحبر مثل الكلام الموحى إلي، وفي هذا قبول الحق من كل من أتى به حتى وإن كان يهودياً. قال: [(ألا أخبرك بإدامهم؟)] الإدام يعني: الطبيخ، [(قال: بلى، قال: إدامهم بالام ونون)]، وبالام كلمة فارسية معربة، والنون هو الحوت، [(قالوا: وما هذا؟ فقال: ثور ونون)] إذاً: الثور هو البالام، لكن على عادة اليهود أنهم يعمون المصطلحات والمسائل. قال: [(يأكل من زائدة كبدهما سبعون ألفاً)]. بعض أهل العلم ترجح لديه أن زيادة كبد الحوت، أو زيادة كبد البالام الذي هو الثور هي القطعة الزائدة الممتدة إلى الكبد، فهذه القطعة الزائدة يأكل منها سبعون ألفاً، ولذلك فإن عبد الله بن سلام سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن طعام أهل الجنة، وقد كان من أحبار اليهود يغترس أرضاً يزرعها وينميها ويصلحها، فلما سمع بمقدمه أتاه وقال: (يا محمد إني سائلك عن ثلاث مسائل فإن أجبت فأنت نبي، فإنه لا يعرفها إلا نبي، أو رجل أو رجلان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سل ما شئت يا ابن سلام، فقال له: ما أول علامات الساعة؟ وكيف ينزع الولد؟ وما طعام أهل الجنة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أول علامات الساعة نار تحشر الناس من المغرب إلى المشرق). وفي رواية: (من المشرق إلى المغرب، وإذا غلب ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد إليه، وإذا غلب ماء المرأة ماء الرجل نزع الولد إليها -أي: في الشبه- وأما طعام أهل الجنة فزيادة كبد الحوت. قال: صدقت فآمن)، فآمن عبد الله بن سلام، وكان من بين عشرة من أحبار اليهود وعظمائهم في زمن النبوة. ولذلك سيأتي معنا أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لو آمن بي عشرة من اليهود لآمن بي اليهود). والنبي عليه الصلاة والسلام إنما أراد: لو آمن بي هؤلاء العشرة الزعماء القادة الأحبار الذين هم فلان وفلان وفلان في زمن النبي عليه الصلاة والسلام من بني النضير وبني قينقاع وغيرهم من أحبار اليهود؛ لآمن اليهود في زمن النبوة جميعاً، حيث إنه لم يؤمن منهم إلا عبد الله بن سلام فقط لما أجابه النبي عليه الصلاة والسلام عن أسئلته، وقال: (يا رسول ا

الأسئلة

الأسئلة

حكم القرض الذي جر نفعا

حكم القرض الذي جر نفعاً Q هل: (غبن المسترسل ربا) حديث أم لا؟ A أنا لم أسمعه من قبل، والقاعدة الفقهية تقول: كل قرض جر منفعة فهو ربا. فقولهم: (جر نفعاً) احتراز من القرض الحسن، وإن كان الثواب أعظم نفعاً، فلو أني قلت لك: خذ هذه الألف الجنيه لمدة عام على أن تردها ألف جنيه ومائتين جنيه، فالمائتين هذه هي من النفع، وهذه المعاملة معاملة ربوية بحتة، وتسمى عند الفقهاء بربا النسيئة، أي: بربا التأخير في مقابل الزيادة، أو الزيادة في مقابل التأخير، يعني: الزيادة في المال في مقابل تأخير الزمن، فهذا يسمى: ربا النسيئة، بخلاف ربا الفضل كأن تبيع -مثلاً- كيلو تمر بكيلو ونصف أو أكثر، ولذلك (أمر النبي عليه الصلاة والسلام بلالاً أن يبيع رطلين من تمر رديء وأن يشتري بثمنهما تمراً جيداً، فذهب بلال فباع الرطلين من التمر الرديء برطل من التمر الجيد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كيف بعت وكيف اشتريت؟ قال: يا رسول الله! بعت الرطلين برطل جيد، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أوه! عين الربا، اذهب فبع تمرنا واشترِ بثمنه تمراً جيداً). وفي حديث عبادة قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والتمر بالتمر، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والملح بالملح)، فهذه أصناف الربا الستة التي ذكرها عليه الصلاة والسلام. والشاهد: أنه قال: (يداً بيد)، وهذا أخذ منه العلماء اشتراط اتحاد المجلس والتقابض. إذاً فالشرط الأول: اتحاد المجلس. والشرط الثاني: التقابض في المجلس يداً بيد، قال: (مثلاً بمثل)، وهذا شرط المثلية، فلا يصح بيع الجرام من الذهب بخمس جرامات. قال: (فمن زاد) أي: من عند نفسه، (أو استزاد) يعني: طلب الزيادة، فهذا الكلام موجه للبائع والمشتري على السواء، (فمن زاد - أي: من جهة البيع - أو استزاد - يعني: من جهة الشراء - فقد أربى) أي: فقد وقع في الربا. فربا النسيئة هو الذي تدل عليه الآيات في آخر سورة البقرة وغيرها، وربا الفضل ورد في السنة، وهما حرامان، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (أيما عبد أكل ديناراً من رباً وهو يعلم؛ فالجنة عليه حرام). وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (من أكل ديناراً من رباً وهو يعلم؛ فكأنما واقع أمه في الإسلام)، وغير ذلك مما ورد في كتاب الله عز وجل من أن الربا حرب بين العبد وبين الله عز وجل.

حكم البيع بالتقسيط

حكم البيع بالتقسيط Q ما حكم بيع التقسيط؟ A البيع بالقسط أو بالتقسيط جائز، وهو من صور الملكية، فيجوز مثلاً شراء ثلاجة بألف جنيه عاجلاً، وبألف ومائتين مؤجلة على أن تدفع كل شهر مائة جنيه مثلاً. والشيخ الألباني حرم ذلك، لكن جماهير العلماء سلفاً وخلفاً على أن هذه الصورة حلال وجائزة، ولا شيء فيها. وهذه الزيادة يسميها الفقهاء: مساومة في مجلس البيع، فالبيع لا يتم إلا بصورتين: إما حالاً أو آجلاً، وذلك في مجلس العقد، فيجوز بيع الثلاجة بألف ومائتين جنيه تقسيطاً على أن تضاف (6%) عن كل قسط يتأخر، وهذا لا يدخل في قوله عليه الصلاة والسلام: (نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن بيعتين في بيعة). فيجوز شراء ثلاجة بألف ومائتين مقسطة في سنة، وألف وأربعمائة في سنتين، وألف وخمسمائة في ثلاث سنوات.

حكم الزكاة في المال غير الفائض عن الحاجة

حكم الزكاة في المال غير الفائض عن الحاجة Q أنا قادم على الزواج ووجبت علي الزكاة -يعني: بلغ النصاب، وحال عليه الحول- فهل يحسب ما ينفقه في متطلبات الشقة والأثاث، وغير ذلك؟ A أنا مدرك أنك ممن تقرأ فقه السنة للشيخ سيد سابق رحمه الله حيث قال: لا تجب الزكاة إلا في المال الفائض عن الحاجة. وفي الحقيقة: هذا كلام في غاية الغرابة للشيخ سيد سابق رحمه الله، ولا أدري من أين أتى به، وأنا قد وقعت في تقليده لما كنا نشرح كتاب الزكاة في مسجد الهادي، لكن تبينت أن هذا القول هو قول الشيخ سيد سابق فقط، وأما أهل العلم فيقولون: إن الزكاة تجب في المال كله، سواءً كان صاحب المال في حالة دين، أو صاحب بيت أو غير ذلك، فالأخ الكريم السائل -الله تعالى يخلف عليه بخير- يؤدي الزكاة عن هذا المبلغ كله إذا حال عليه الحول وبلغ النصاب قبل أن يشتري الحاجات شراءً طبيعياً بغير تهرب ولا مكر، فإذا بلغ المال النصاب وحال عليه الحول يخرج زكاة ماله، ثم يجهز شقته وأثاثه لاستقبال زوجته، ثم بعد ذلك يسأل عن صداق المرأة؛ لأنه دين عليه.

حكم زكاة الدين

حكم زكاة الدين Q هل يجب على صاحب المال أن يؤدي زكاة ماله حتى وإن كان بيد الآخرين؟ A زكاة المال المدين ينظر فيه: هل هذا المال مضمون الأداء أو غير مضمون، فإن أموالاً عند بعض الناس تكون في حكم المعدوم، فالذي له مال عند الآخرين مضمون الأداء، ومضمون الرجوع له مرة ثانية، يجب عليه أن يؤدي زكاة ماله في كل عام. وإذا لم يكن مضمون الأداء فلا زكاة عليه، فإن رجع إليه فقد اختلف أهل العلم فيه: هل يؤدي زكاة السنوات الماضية، أم يكفيه سنة واحدة؟ والذي يترجح لدي أنه يدفع عنه زكاة ماله في العام الذي رجع فيه؛ لأن هذا هو العام الذي قد ضمن فيه صاحب المال ماله، والله تعالى أعلم.

كتاب صفات المنافقين وأحكامهم - يسألونك عن الروح

شرح صحيح مسلم - كتاب صفات المنافقين وأحكامهم - يسألونك عن الروح من طبائع اليهود العناد والسخرية، فقد كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم لا لأجل معرفة الحق واتباعه، وإنما استهزاءً وتعجيزاً له صلى الله عليه وسلم، مع علمهم بصدقه وصدق ما جاء به، ومع ذلك فقد أظهر الله نبيه عليهم، وأنزل عليه وحيه مجيباً لأسئلتهم، أما كفار مكة فكانوا أكثر عناداً وأصرح جهلاً من أولئك، فقد كانوا يسألون الله تعجيل نزول العذاب بهم إنكاراً لهذا الحق وجحوداً له.

باب سؤال اليهود النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح

باب سؤال اليهود النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71] أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، أما بعد: الباب الرابع من كتاب صفات المنافقين وأحكامهم: قال النووي: (باب سؤال اليهود النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح، وقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ} [الإسراء:85] إلى آخر الآية). قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي قال: حدثنا الأعمش -وهو سليمان بن مهران - حدثني إبراهيم بن يزيد النخعي عن علقمة النخعي عن عبد الله بن مسعود قال: (بينما أنا أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث)]، الحرث: هو الزرع. وفي رواية: (في خرب) وكأنها تصحيف للحرث، لأن لفظ الكلمة واحد في حرث وخرب، وإنما الاختلاف في الضبط والنقط، فتصحف على بعض الرواة، ولو قلنا بجواز الجمع بين الأمرين؛ لكان يمكن أن نقول: إن الخرابة يمكن أن تكون في الحرث، وإن الحرث يمكن أن يكون في مكان خرب، فالجمع بينهما ممكن. [(بينما أنا أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث وهو متكئ على عسيب)] أي: معتمد على جريد النخل. (إذ مر بنفر من اليهود) أي: مر النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ابن مسعود على نفر من اليهود. والنفر: هم الجماعة من الناس، قيل: من الواحد إلى التسعة، وقيل: من الثلاثة إلى التسعة. وقيل: من الواحد إلى العشرة. [(فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح)] أي: سؤال تعنت وجحود واستهزاء، [(فقالوا: ما رابكم إليه، لا يستقبلكم بشيء تكرهونه)] يعني: احذروا أن تسألوه عن الروح؛ حتى لا ينزل عليه وحي بشيء تكرهونه، فيكون في هذا شقة ومضايقة لكم، [(فأصر البعض فقالوا: بل سلوه، فقام إليه بعضهم فسأله عن الروح، قال: فأسكت النبي صلى الله عليه وسلم)]. وفي رواية: [(فأثكن النبي صلى الله عليه وسلم)] ومعنى: (فأسكت أو فأثكن) أي: انتظر قليلاً لم يرد عليهم النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن مسعود [: (فعلمت أنه يوحى إليه)] أي: في هذه المدة الزمنية التي سكت فيها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعطهم جواباً على سؤالهم؛ أيقن ابن مسعود أن الوحي نزل من السماء عليه فيما يتعلق بسؤال اليهود له عن الروح. قال: [(فقمت مكاني)] أي: لزمت مكاني، [(فلما انجلى الوحي) أي: فلما فارقه الوحي، قال النبي عليه الصلاة والسلام: ({وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85])]. فكان هذا هو وحي السماء إلى النبي صلى الله عليه وسلم جواباً على سؤال اليهود له. قال: [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو سعيد الأشج - وهو عبد الله بن سعيد الكندي - قال: حدثنا وكيع، وحدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي -وهو المعروف: بـ ابن راهويه - وعلي بن خشرم قالا: أخبرنا عيسى بن يونس كلاهما -أي: وكيع وعيسى - عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله بن مسعود قال: (كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث بالمدينة) ثم ذكر الحديث بنحو حديث حفص بن غياث المتقدم، غير أن في حديث وكيع: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ

باب في قوله تعالى: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم)

باب في قوله تعالى: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم) قال: [باب في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال:33]] أي: ما كان الله ليعذب المشركين يا محمد وأنت فيهم، [{وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33]]. والاستغفار: إما أن يكون هو مطلق الذكر، أو أن الاستغفار بمعنى الإيمان، أو بمعنى الصلاة. قال: [حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري حدثنا أبي قال: حدثنا شعبة عن عبد الحميد الزيادي أنه سمع أنس بن مالك يقول: قال أبو جهل: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32]]. هذا الكلام في غاية القسوة، وقلة العقل، وسفاهة الأحلام؛ لأنه كان ينبغي أن يقول: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه، أو ارزقنا اتباعه أو غير ذلك، ولكنه قال: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32]، فنزلت: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال:33]، يا محمد، {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الأنفال:33 - 34]. وهذا الباب في غاية الأهمية، والحافظ ابن كثير عليه رحمة الله قال في تفسير قول الله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا} [الأنفال:31] إذاً: فلم لم تقل؟ خاصة وأن القرآن قد تحداهم أن يأتوا بسورة أو بآية، فلم يأت أحدهم بشيء، قالوا: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الأنفال:31]. والأساطير: جمع الأسطورة، والأسطورة: هي الأكذوبة، أي: فهذه أكذوبات تلقاها محمد من الأولين، أي: من الكتب والصحف السابقة. {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:32 - 33]. قال الحافظ ابن كثير: يخبر الله تعالى عن كفر قريش وعتوهم وتمردهم وعنادهم، ودعواهم الباطل عند سماع آياته سبحانه وتعالى حين تتلى عليهم أنهم يقولون: {قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} [الأنفال:31] وهذا منهم قول بلا فعل، يعني: دعوى وزعم أنهم يمكن أن يأتوا بمثل هذا القرآن، ولم يأتوا بمثل شيء منه. والقائل لهذا: هو النضر بن الحارث -لعنه الله- كما قد نص على ذلك سعيد بن جبير، والسدي، وابن جريج وغيرهم، فإنه -لعنه الله- كان قد ذهب إلى بلاد فارس وتعلم من أخبار ملوكهم، ولما قدم وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث، وهو يتلو على الناس القرآن، فكان إذا قام النبي صلى الله عليه وسلم من مقامه جلس هذا اللعين مكان النبي عليه الصلاة والسلام يقص على الناس، ويقول: بالله عليكم أينا أحسن قصصاً أنا أم محمد؟ لأنه تعلم من أخبار فارس، ولذلك قتله النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر صبراً. وأما قوله: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32]، فقال الحافظ ابن كثير: هذا من كثرة جهلهم وعتوهم وعنادهم، وشدة تكذيبهم وهذا مما عيبوا به اعتبارهم عرباً، وكان الأولى لهم أن يقولوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأهدنا له، ووفقنا لاتباعه، ولكن استفتحوا على أنفسهم، واستعجلوا العذاب وتقديم العقوبة، كما قال تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى} [العنكبوت:53] أي: لولا أجل محتوم معلوم مؤقت لجاءهم العذاب، {وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [العنكبوت:53] أي: فجأة وهم لا يشعرون. وقال تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص:16] أي: ربنا عجل لنا العذاب قبل يوم الحساب. وقال الله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ} [المعارج:1] أي: من المشركين {بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} [المعارج:1] عن هذا العذاب الذي تزعم يا محمد أنه يمكن أن يقع عليهم، فلمَ لا يق

باب قوله تعالى: (كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى)

باب قوله تعالى: (كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى) قال: [باب قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7]. حدثنا عبيد الله بن معاذ -أي: العنبري - ومحمد بن عبد الله القيسي قال: حدثني المعتمر -هو: ابن سليمان بن طرخان التيمي - عن أبيه قال: حدثني نعيم بن أبي هند عن أبي حازم -وهو: سلمان مولى عزة - عن أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال أبو جهل: (هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟)]. أبو جهل يخاطب صناديد قريش: هل تتصورون أن محمداً يعفر جبهته أمامكم وبين أظهركم، أي: بالسجود لله عز وجل، وأنتم تنظرون إليه؟ [(قالوا: نعم، يفعل ذلك، فقال أبو جهل: واللات والعزى -يحلف بآلهته التي يعبدها من دون الله عز وجل- لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته)]. أي: لأدوسن على رأسه، أو لأعفرن وجهه بالتراب، يعني: يأتي إليه وهو ساجد ويمرغه في التراب، عليه لعنة الله. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فلما رآه ساجداً لله عز وجل في حجر الكعبة ذهب ليطأ على رقبة النبي عليه الصلاة والسلام، وصناديد الكفر والشرك ينظرون إلى أبي جهل ماذا سيصنع به؟ وما هو موقف محمد عليه الصلاة والسلام من هذا؟ قال: فما فجأهم إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقي بيديه، أي: فما لبثوا أن رأوا أبا جهل إلا وهو يرجع القهقرى مسرعاً خائفاً مرتعباً مرعوباً يتقي بيديه، كأن واحداً يضربه، وهو يتقي الضرب بيديه، يدفعه مرة عن رأسه، ومرة عن وجهه، ومرة عن بدنه وغير ذلك، وهم لا يرون أحداً، ولا يرون شيئاً، وإنما الذي رأى ذلك هو أبو جهل. فقيل له: ما لك يا أبا الحكم، فقال: إن بيني وبينه لخندقاً من نار، وهولاً وأجنحة. أي: حال بيني وبينه خندق من نار، وأجنحة الملائكة، وهذا مصداق قول الله تعالى لنبيه: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]، فالنبي عليه الصلاة والسلام معصوم. فقال النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه: [(لو دنا مني -أي: لو اقترب مني أبو جهل - لتخطفته الملائكة عضواً عضواً)] أي: لقطعته الملائكة عضواً عضواً، حتى يكون آخر ما ينزع منه الروح. [فأنزل الله عز وجل: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق:9 - 10]]. وقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى} [العلق:6] ولم يقل: (إن الكافر ليطغى) وإنما قال: (إن الإنسان) إشارة إلى أن الطغيان يقع من الكافر، ويقع من المسلم كذلك. والمسلم لو زادت عليه النعمة طغى إن لم يحذر، ويعلم أنها استدراج من الله عز وجل، فإذا لم يكن عنده يقين بذلك فلابد أنه سينحرف، والنبي عليه الصلاة والسلام معصوم من ذلك كله، وما دونه ليست له هذه العصمة. وأصحاب الجرائد في كل حين يخرجون علينا بأخبار يريدون أن يلصقوا التهم بأبناء الصحوة، وهيهات هيهات أن يكون ذلك، فمما يذكرون موضعها الزواج والطلاق، والمعلوم أنه كما أن للمرأة عدة، فكذلك الرجل له عدة، وعدة الرجل في حالتين: الحالة الأولى: لو أنه تزوج أربعاً من النسوة، وأراد أن يتزوج الخامسة ليس له ذلك إلا أن يطلق إحداهن، فإذا طلقها لا يحل له أن يعقد على خامسة إلا أن تنقضي عدة الرابعة التي طلقها، لأن هذه المطلقة الرابعة لا تزال زوجته، فله أن يرجعها في فترة العدة، ولذلك سماه الشرع طلاقاً رجعياً، أي: من حق الرجل أن يراجع امرأته إذا طلقها المرة الأولى، أو الثانية في مدة العدة، وهي ثلاثة قروء بغير إذنها وبغير إذن وليها؛ مما يدل على أن هذه المرأة محبوسة في هذا الرجل، فالمرأة في مدة العدة لا تزال زوجة لهذا الرجل حتى يطلق الثالثة، فإذا طلق الثالثة بانت منه بينونة كبرى، فتعتد هي بنفسها، وليست عليه عدة حينئذ. الحالة الثانية: الرجل إذا تزوج امرأة فماتت هذه المرأة، فله أن يتزوج أختها أو عمتها أو خالتها فوراً، لكن إذا طلقها طلاقاً رجعياً ليس له أن يتزوج أختها أو عمتها أو خالتها في فترة العدة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن الجمع بين المرأة وعمتها، أو خالتها أو أختها. وسيد رجاء ما كان يراعي هذا، ولقد نصح مرة واثنين وثلاث، ولكن لما كثر الإنكار عليه ما كان يأذن لأحد قط يعلم أنه داخل إليه لنصيحته، ولإيقافه عند حده. ومن السنن الكونية لمن يعرض عن شرع الله يسلط الله تبارك وتعالى عليه أسافل الخلق، فـ السيد رجاء لا ينسب إلينا، فليس منا ولسنا منه، وأيام أن كنت موظفاً في شركة الريان أتى سيد رجاء إلى الشركة في أواخر أيامها لما هددت وحوربت، وأخبر أن ضابط الأمن قال له: يا سيد أنت دورك آت،

الأسئلة

الأسئلة

حكم نقل المبيض من امرأة تنجب إلى امرأة لا تنجب

حكم نقل المبيض من امرأة تنجب إلى امرأة لا تنجب Q هل يجوز نقل مبيض من امرأة تنجب إلى رحم امرأة لا تنجب؟ A حرام حرام حرام، إنما ينسب الولد إلى الرحم، وإلى الماء والغذاء والدم، ولذلك يقال: هذا أخي في النسب، وأخي في الدم، والنسب والدم لا يطلقان إلا على رجل قد اجتمع فيه اللبن - أي: الماء - والرحم والدم، أي: تغذى وهو جنين على دم أمه، لا على دم امرأة أخرى، وهذا يختلف عن حكم الرضاع. ومسألة نقل مبيض امرأة تنجب إلى امرأة لا تنجب فيها خلاف بين المعاصرين؛ لأن هذا الفعل لم يكن معلوماً ولم يكن له وجود في السابق. فأنا أقول: الخلاف في هذه القضية خلاف ضعيف جداً، بل لا يكاد يعتبر، لأن الذي يترجح -إن لم يكن هو الراجح والصحيح-: أن ذلك يمنع ويحرم، وأما مسألة نقل الأعضاء فالخلاف فيها واسع جداً. وأما الكلام عن نقل الدم فالخلاف فيه ضعيف جداً، لأن الراجح أنه لا حرج في نقل الدم ابتداءً؛ لأنه لا ينفع الرحم، وليس شيئاً متصلاً بالبدن، بل هو منفصل عنه، كما أنه متجدد كل ثلاثة أشهر في بدن الإنسان، بل من مصلحة الإنسان أن يجدد دمه، أو أن يتبرع بشيء منه كل ثلاثة أشهر أو ستة أشهر. وقد قرأنا تقريرات لأطباء كثيرين في هذا الباب، وهذا يجعل القلب يطمئن بأن نقل الدم لا حرج فيه. أما نقل الأعضاء فقد اختلف فيه أهل العلم اختلافاً بيناً: فمنهم من يقول: بالجواز مطلقاً، ومنهم من يقول بالمنع مطلقاً، ومنهم من يشترط شروطاً. والذي يرتاح إليه قلبي: عدم جواز نقل الأعضاء، لأن الإنسان ليس حراً في بدنه، فإذا كان ليس حراً في بدنه في حياته، فمن باب أولى ألا يكون حراً بعد موته؛ لأنه لا تصرف له سليم بعد موته، هذا الذي يترجح عندي، والله تعالى أعلم.

حكم من شك هل سجد سجدتين أم سجدة

حكم من شك هل سجد سجدتين أم سجدة Q إذا شككت هل سجدت سجدتين أم واحدة، فماذا أفعل؟ A إذا كان هذا الشك بعد السجود وفي الجلسة التي بين السجدتين، أو كان ذلك في السجود أو بعد السجدة الثانية، فليسجد سجدة أخرى، حتى وإن كانت هذه السجدة في حقيقة الأمر هي الثالثة، فإنه لا يضره ذلك، وإذا فرغ من الصلاة سجد سجدتين للسهو بعد التسليم؛ لأن هذا الشك في الصلاة في الزيادة وليس في النقص. وأما إذا كان الشك في أثناء التشهد، أو سلم من صلاته وشك هل سجد سجدة أو سجدتين؟ فيأتي بركعة كاملة؛ لأن السجود ركن في الصلاة، وفوات الركن تبطل به الصلاة سواءً تعمد صاحبه أو سها، فإنه يستوي فيه المتعمد والساهي، لكن الساهي لا يأثم، وإنما يجبر صلاته بركعة، والمتعمد يجبر صلاته بركعة مع الإثم؛ لأنه تعمد فوات ركن في الركعة. وإذا قام إلى الركعة الثانية ثم تذكر أنه نسى السجدة الثانية فإنه يهوي فوراً إلى السجود.

حكم من قرأ في الصلاة قوله تعالى: (ولا الضالين) بدون مد

حكم من قرأ في الصلاة قوله تعالى: (ولا الضالين) بدون مد Q هل إذا قرأت: {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] بدون مد تكون الصلاة صحيحة أم باطلة؟ A الصلاة تكون صحيحة، لأن أحكام التجويد في أغلب أقوال أهل العلم مستحبة، وإنما تجب في صحة القراءة فقط، وأما إتقان القراءة فهذا شيء آخر بخلاف الصحة، ولذلك العلماء يقولون: قراءة القرآن قراءة صحيحة فرض عين، وأما تعلم أحكام التجويد فهو فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط عن الباقين. والمد في قوله تعالى: {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] مد لازم كلمي مثقل، والمد اللازم الكلمي المثقل محل نزاع بين أن يمد أربعاً، أو خمساً، أو ستاً، ولا أظن أن واحداً يقول: ولا الضالين يمد كذا أبداً.

حكم التوسل بأصحاب الأضرحة

حكم التوسل بأصحاب الأضرحة Q خرج على الناس بعض تلاميذ علي جمعة يقولون بالتوسل بأصحاب الأضرحة، بل وللرجل أن يسمي صاحب الضريح الذي يذهب إليه بعينه، وقاسوا ذلك على جواز التوسل بالأعمال الصالحة وهي مخلوقة، فكذلك صاحب الضريح مخلوق فما الفرق بين هذا وذاك، وزعموا أنهم مستعدون لمناظرة من يريد ذلك؟ A لسنا مستعدين لذلك، وهم ليسوا مستعدين، وللأسف الشديد لقد قلنا مراراً: إن علي جمعة إنسان منحرف عقدياً، وحذرنا الناس تكراراً، ولكن يبدو أن كل إنسان لابد أن يجرب بنفسه، فذهب بعض إخواننا الذين طلبوا العلم معنا منذ خمسة عشر عاماً في هذا المكان، وكانوا يطلبون معنا العلم في مسجد النصر، وفي مساجد الدعوة، ولكنهم أبوا أن يسمعوا الكلام وأن يسمعوا النصيحة، فذهبوا إلى هناك وهم الذين يقولون هذا الكلام. إن مسألة الأضرحة ليست مسألة بسيطة وسهلة، وأنه قد نعذر بها إذا قارناها ببقية المسائل التي تتعلق بذات الله تعالى وبأسمائه وصفاته، فعند علي جمعة الطامات تلو الطامات فيما يتعلق بذات الإله، وأسمائه وصفاته. وللأسف أن هنا أناساً مصرين على أن يحضروا مجالس علي جمعة، والله تعالى يعلم أننا لا ننصح أحداً إلا بالخير على الأقل فيما نظن ونعتقد أنه هو الخير، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من أشار على أخيه بشيء وهو يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه). فما استشارنا أحد -يعلم الله- في أمر نعلم أن الخير في باب من أبوابه إلا وأشرنا إليه، وليس لنا -والحمد لله تعالى- مصلحة من جاه ولا كرسي ولا سلطان ولا مال ولا شيء ممن حضر مجلسنا قط، والحمد لله فإن عز وجل قد أغنانا عن المستمعين وعن طلابنا. ولا حاجة لنا أن ننحرف بهم في النصيحة والاستشارة جانب الصواب، ولذلك هذا فضل الله تعالى ومنته علي وعلى من يتصدى للدعوة بإخلاص لله عز وجل، ولا نزعم أننا مخلصون. نسأل الله تعالى أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال والأقوال. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. وصلى الله على نبينا محمد.

كتاب صفات المنافقين وأحكامهم - الدخان وانشقاق القمر

شرح صحيح مسلم - كتاب صفات المنافقين وأحكامهم - الدخان وانشقاق القمر لقد اختلف سلف الأمة في الدخان المذكور في آية الدخان، فمنهم من قال: إنه ما رآه المشركون من كفار مكة عندما أصيبوا بالجوع والقحط، ومنهم من قال: إنه من علامات الساعة الكبرى التي ستكون في آخر الزمان. وأما انشقاق القمر فهو آية وقعت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم باتفاق العلماء.

باب الدخان

باب الدخان الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، أما بعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا جرير -وهو ابن عبد الحميد الضبي - عن منصور -وهو ابن المعتمر بن سليمان - عن أبي الضحى -وهو مسلم بن صبيح - عن مسروق - وهو ابن الأجدع - قال: كنا عند عبد الله جلوساً -أي: كنا جلوساً عند عبد الله بن مسعود - وهو مضطجع بيننا]. وفي هذا جواز أن يضطجع العالم في وسط تلاميذه وطلابه، وقد جاءت غير رواية أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يجلس متكئاً في وسط أصحابه، ومسنداً ظهره إلى الكعبة وغير ذلك، فهذه الصورة جائزة للعالم بين طلابه. وأما الطالب في مجلس العلم فإن من سوء الأدب أن يمد رجليه أو غير ذلك. قال: [فأتاه رجل فقال: يا أبا عبد الرحمن!] هذا السائل غير معروف، ولم تأت رواية فيها اسم هذا الراوي بسند صحيح. قال هذا الرجل لـ عبد الله بن مسعود: [إن قاصاً عند أبواب كندة يقص ويزعم: أن آية الدخان تجيء فتأخذ بأنفاس الكفار، ويأخذ المؤمنين منه كهيئة الزكام]. أي: علامة الدخان قبيل الساعة: أنها تأخذ بأنفاس الكفار حتى تخرج من أدبارهم، وتدخل من أدبارهم وأسماعهم وأفواههم وأنوفهم ومن كل المداخل الطبيعية في بدن الكفار، وتخرج منها. وأما المؤمنون فإن حظهم وقسطهم من هذه العلامة أنه يصيبهم الزكام فقط، فكأنهم زكموا من رائحة هذا الدخان، أي: لا تصيب المؤمن إلا على هذا القدر وهذا النحو.

حرمة القول على الله بغير علم

حرمة القول على الله بغير علم [فلما سمعه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه غضب لذلك غضباً شديداً، وجلس وهو مغضب وقال: أيها الناس! اتقوا الله]. وهذا الكلام وإن كان موجهاً إلى ذلك القاص إلا أنه يعم جميع الناس إلى قيام الساعة، فتقوى الله في باب العلم، وباب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تلزم المرء ألا يتكلم إلا بما علم، فالله تبارك وتعالى حرم القول عليه بغير علم، وقرنه بالشرك؛ للدلالة على خطورة هذا القول. قال الله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36]. وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33]. والآيات الزاجرة عن القول على الله بغير علم كثيرة جداً، والأحاديث أكثر من الآيات، وكلها تدل على حرمة القول على الله بغير علم، حتى كان الصحابة رضي الله عنهم يتورعون في باب رفع الأحاديث إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فالواحد منهم ينقل القول ولا يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول. وأتى التابعون من بعدهم فسلكوا نفس المسلك، فكانوا يقولون: قال أبو ذر، قال حذيفة، قال أبو قتادة، قال أبو هريرة ويتورعون أحياناً عن نسبة القول، أو عن وصل هذا القول إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فإذا سئلوا عن ذلك قالوا: إن كذباً على أصحابه ليس ككذب عليه عليه الصلاة والسلام، أي: أنهم في الأمر الذي لم يتأكدوا منه تماماً ويقيناً كانوا يوقفونه على الصحابة، وما كانوا يرفعونه إلى النبي عليه الصلاة والسلام؛ مخافة ألا يكون قد قاله حقيقة. فإذا كان السلف رضي الله عنهم قد سلكوا هذا المسلك، فحري بنا أن نتوقف في شيء سئلنا عنه ولا علم لنا فيه، وأن نقول: الله أعلم، ولذلك قال ابن مسعود: [يا أيها الناس! اتقوا الله! من علم منكم شيئاً فليقل بما يعلم، ومن لم يعلم فليقل الله أعلم]، أي: فإنه أرفق بأحدكم أن يقول لما لا يعلم: الله أعلم، [فإن الله عز وجل قال لنبيه: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86]].

ما أصاب قريش من قحط وبلاء بسبب عنادهم

ما أصاب قريش من قحط وبلاء بسبب عنادهم ثم قال: [(إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى من الناس إدباراً)]. أي: لما رأى من كفار قريش إدباراً وإعراضاً وجحوداً، بل واستهزاءً بهذه الدعوة، وسباً لصاحبها عليه الصلاة والسلام بقولهم: إنه ساحر، وإنه شاعر، وإنه مجنون، فلما رأى منهم ذلك [قال: (اللهم سبع كسبع يوسف)]. أي: أرسل على قريش سبع سنين جدب وقحط يهلكوا فيها كما هلك أهل مصر في زمن يوسف عليه السلام بهذه السبع السنوات العجاف القحط. قال: [(فأخذتهم سنة حصت كل شيء)]، فدعاء الأنبياء مستجاب، والسنة بمعنى: الجدب والقحط، وحصت كل شيء أي: استأصلت كل شيء، لم يعد عندهم خير حتى كانوا يأكلون أبعار البهائم، ويأكلون العظام والخشب، ويأكلون جلود الأسماك إذا جفت، وهذا من شدة ما نزل بهم من قحط وجدب، حتى أكلوا التراب الذي تحت أرجلهم. قال: [(فأخذتهم سنة حصت كل شيء حتى أكلوا الجلود والميتة من الجوع، وينظر أحدهم إلى السماء فيرى كهيئة الدخان)] أي: ينظر أحدهم إلى السماء فمن فرط الجهد والتعب والجوع يرون وكأن السماء قد امتلأت دخاناً، وهي ليست كذلك. ولذلك جاء في الرواية أنه قال: (فيرى كهيئة الدخان) ولم يقل: رأى الدخان، يعني: يخيل إلى أحدهم أن السحابة التي فوقه هي عبارة عن دخان، وهذا أمر يراه الواحد منا إذا جهد وتعب تعباً شديداً وشق ذلك عليه، فإذا نظر إلى السماء ربما يرى الأمر كما نقول نحن: خمسات وعشرات. فكان ينظر أحدهم إلى السماء وكأنها مليئة بالدخان، فهذه الحالة إنما أصابت قريشاً بسبب الجهد والجوع الذي نزل بهم، وليس بلازم أن هذا التخيل والتهيء والتصور الذي يراه أحدهم وهو الدخان في السماء أن تكون السماء فيها دخان حقيقة. قال: [(فأتاه أبو سفيان -وكان كافراً في ذلك الوقت- فقال: يا محمد! إنك جئت تأمر بطاعة الله، وبصلة الرحم، وإن قومك قد هلكوا، فادع الله لهم -أي: فادع الله أن يمطر السماء عليهم- قال الله عز وجل: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الدخان:11 - 12] إلى قوله: {إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان:15]، أفيكشف عذاب الآخرة؟)]. أي: أن عبد الله بن مسعود يسألهم سؤال استنكار فيقول لهم: إن الدخان هذا ليس دخان الآخرة، وإنما هو الدخان الذي أصاب قريشاً، بدليل قول الله تعالى: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ} [الدخان:16]: {يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الدخان:11]. وهذا يشمل جميع الناس ولا يشمل واحداً بعينه، فيقول: لا يمكن في يوم القيامة إذا أنزل الله عذاباً أن يكشفه، والآية أثبتت أنه يكشف العذاب قليلاً، فهذا لا يكون يوم القيامة، وإنما هذا يدل على أن الدخان الذي أصاب قريشاً هو المعني في سورة الدخان. قال: [{يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ} [الدخان:16]، فالبطشة الكبرى يوم بدر، قال: وقد مرت آية الدخان والبطشة واللزام وآية الروم]. واللزام هو ملازمة العذاب للكافرين، وآية الروم هي آية غلبت الروم.

أنواع تفسير القرآن

أنواع تفسير القرآن قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية ووكيع، وحدثني أبو سعيد الأشج أخبرنا وكيع، وحدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير كلهم عن الأعمش. وحدثنا يحيى بن يحيى وأبو كريب قالا: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن مسلم بن صبيح -وهو المعروف في الرواية الأولى: أبو الضحى - عن مسروق قال: جاء إلى عبد الله رجل فقال: تركت في المسجد رجلاً يفسر القرآن برأيه]. هذا الرجل يتهم ذلك القاص، وسياق الرواية تقول: إن هذا الرجل لما نقل كلام القاص إلى عبد الله بن مسعود لم يكن يعرفه؛ بدليل أنه استنكر كلامه فذهب إلى عبد الله بن مسعود ليسأل عن صحة هذا الكلام الذي سمعه، ثم هو يغمزه في الرواية الثانية ويقول: سمعت رجلاً في المسجد يقص أو يفسر القرآن برأيه، وتفسير القرآن بالرأي مذموم، بينما التفسير الممدوح هو تفسير القرآن. والنوع الثاني: تفسير القرآن بسنة النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا الذي يسميه العلماء بالتفسير النبوي. ثم النوع الثالث: تفسير القرآن بكلام العرب؛ لأن القرآن عربي. والرابع: تفسير القرآن بالرأي، وهو مذموم. ولذلك غمزه هذا الرجل فقال: سمعت رجلاً في المسجد -أي: في مسجد بني كندة- يفسر القرآن برأيه. قال: [قال في قوله تعالى: {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان:10] أي: يأتي الناس يوم القيامة دخان، فتأخذ بأنفاس الكفار عامة، أما المؤمنون فتصيبهم على هيئة الزكام. فقال عبد الله بن مسعود: من علم علماً فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، فإن من فقه الرجل أن يقول لما لا علم له به: الله أعلم. إنما كان هذا أن قريشاً لما عصت النبي عليه الصلاة والسلام دعا عليهم النبي عليه الصلاة والسلام بسنين كسني يوسف، فأصابهم قحط وجدب حتى جعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد، وحتى أكلوا العظام، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: محمد! استغفر الله لمضر فإنهم قد هلكوا]. ومضر هم أشد الناس عداوة وبراءة من الإسلام. وفي رواية البخاري: (استسق لمضر). وبعضهم يقول: إن لفظة (استغفر) خطأ من الراوي، وبعضهم يقول: إنما هي تصحيف؛ لأن (استغفر) و (استسق) مسمع واحد. والإمام النووي نازع في ذلك وقال: والروايتان صحيحتان، (استسق) أي: اطلب السقيا وهو المطر، (واستغفر) أي: ادع الله لهم بالهداية، ثم استسق لهم بعد ذلك. فقد جمع بين القولين حتى لا يضطر إلى رد إحدى الروايتين. [فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لمضر؟! إنك لجريء، قال: فدعا الله لهم فأنزل الله عز وجل: {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان:15])]. أي: رغم أني رفعت عنكم البلاء إلا أنكم بعد قليل ستعودون إلى ما كنتم عليه من إيذاء وجحود ونكران. قال: [(فمطروا -أي: بسبب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لهم- فلما أصابتهم الرفاهية واخضرت الأرض، عادوا إلى ما كانوا عليه، فأنزل الله عز وجل: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ} [الدخان:16] يعني: يوم بدر)].

اختلاف العلماء في الدخان المذكور في الآية

اختلاف العلماء في الدخان المذكور في الآية قال: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا جرير عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله بن مسعود قال: خمس قد مضين -يعني: خمس علامات وأمارات قد مضت وانتهت-: الدخان، واللزام، والروم، والبطشة، والقمر، أي: انشقاق القمر. وعن أبي بن كعب في قول الله تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ} [السجدة:21] أي: العذاب الأدنى هو مصائب الدنيا، والروم والبطشة أو الدخان، شعبة هو الذي شك في البطشة، أو الدخان]. أنتم تعلمون أن الدخان من علامات الساعة، والراجح من أقوال أهل العلم: أنه من العلامات الكبرى، والله تعالى يقول: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ * أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ * إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ * يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ} [الدخان:10 - 16]. قال ابن كثير: يقول تعالى: بل هؤلاء المشركون في شك يلعبون، أي: قد جاءهم الحق اليقين وهم يشكون فيه ويمترون، ولا يطبقون به. ثم قال تعالى متوعداً لهم ومتهدداً: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان:10]. ثم ذكر رواية مسلم من طريق عبد الله بن مسعود، ورواية أخرى كذلك من طريق ابن مسعود في الصحيحين بنحو الرواية الأولى في هذا الباب. قال ابن كثير: وقد وافق ابن مسعود على تفسير هذه الآية بهذا التفسير، وأن الدخان قد مضى، وأن الدخان هو العلامة التي عاقب الله تعالى بها مشركي مكة؛ وافقه على ذلك التفسير، جماعة من السلف كـ مجاهد وأبي العالية الرياحي، والضحاك، وعطية العوفي، وهو اختيار ابن جرير. إذاً: هل الدخان من العلامات التي كانت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، أو أنها ستأتي في آخر الزمان؟ محل نزاع بين أهل العلم، فمذهب ابن مسعود وبعض السلف: أنها التي كانت في سنين القحط والجدب على مشركي مكة.

قول منكر لعبد الرحمن الأعرج أن الدخان المذكور في الآية كان يوم فتح مكة

قول منكر لعبد الرحمن الأعرج أن الدخان المذكور في الآية كان يوم فتح مكة وفي رواية عبد الرحمن الأعرج أنه قال: {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان:10] قال: كان ذلك يوم فتح مكة، وهذا القول منكر جداً وغريب جداً، فلا عبرة به. أما الرأي الثاني: أن آية الدخان لم تمض بعد، وإنما ستأتي إن شاء الله في آخر الزمان، وهي من أمارات الساعة كما تقدم في حديث حذيفة بن أسيد الغفاري قال: (أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من غرفة ونحن نتذاكر الساعة، فقال: لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات: طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدابة، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج عيسى ابن مريم، والدجال، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس -أو تحشر الناس- تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا). فذكْر الدخان مع هذه العلامات يدل على أنه سيكون في آخر الزمان؛ لأن هذه العلامات كلها لم تظهر بعد، فكيف تكون علامة الدخان في زمنه عليه الصلاة والسلام وبقية هذه العلامات كلها في آخر الزمان مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: (لا تقوم الساعة إلا إذا رأيتم عشر آيات) وعد منها: الدخان؟! فهذا يدل على أن الدخان سيكون في آخر الزمان. وأنتم تعرفون ابن صياد، وقد قيل: إنه المسيح الدجال، وقيل: هو غير المسيح الدجال، وكلام أهل العلم فيما يتعلق بـ ابن صياد سيأتي معنا إن شاء الله تعالى في نهاية كتاب الفتن من صحيح مسلم. وقد جاء في غير ما حديث أنه دجال، وكان كثير من الصحابة يعتقدون أن ابن صياد هو المسيح الدجال، وقد جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم له: (إني خبأت لك خبأً، فقال ابن صياد: هو الدخ)، وهذا كلام السحرة والكهان والدجالين كلهم يقولون هذا، ولذلك إذا قرأت الحجاب الذي يعمله السحرة فإنك لا تكاد تقف على حقيقة أمره؛ لأن من شأن السحرة والكهان والعرافين أن يجيبوا على بعض الكلمة فيأتون بها مقطعة، وأحياناً يأتون بها مقطعة الحروف، أو يجيبون بحرف، ويتركون الحرف الثاني، فهم لا يكتبون كلمة كاملة، ولذلك أدرك النبي عليه الصلاة والسلام أن هذا الدجال وهو ابن صياد عرف ما خبأه له، وهذا إنما يكون بوحي الشيطان إليه. وهذه العلامة التي هدده بها النبي عليه الصلاة والسلام إنما هي سورة الدخان، ولذلك عبر عنها ابن صياد بالدخ، فالنبي صلى الله عليه وسلم فهم ذلك فقال له: (اخسأ عدو الله فلن تعدو قدرك). يعني: ما قد قدره الله تعالى فيك لابد أنه كائن، والوعيد والتهديد الشديد الذي جاء في سورة الدخان سيصيبك منه لا محالة، حتى وإن كنت عارفاً بما خبأته لك، ولذلك قال: (اخسأ عدو الله فلن تعدو قدرك)، وقد خبأ له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان:10]. قال ابن كثير: وهذا فيه إشعار بأن الدخان هو المنتظر لا أنه قد وقع فيهم بالفعل. وابن صياد كاشف -أي: كاهن- على طريقة الكهان بلسان الجان، وهم يقرطمون العبارة، يعني: يقطعونها تقطيعاً، ولهذا قال: هو الدخ، يعني: الدخان، فعندها عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم مادة ابن صياد أنها مادة شيطانية قال له: (اخسأ فلن تعدو قدرك). وقد أورد ابن جرير حديثاً طويلاً عن حذيفة لكنه موضوع، وابن كثير يقول: لو صح هذا الحديث لكان فاصلاً، لأن الحديث صريح، والأحاديث الأخرى منها ما هو صحيح لكنه ليس صريحاً في الباب، ولذلك وقع الخلاف. واختلف أهل العلم في الدخان إلى مذهبين؛ خلافاً لمذهب عبد الرحمن الأعرج حيث قال: الدخان هو ما كان يوم فتح مكة، وهذا مذهب منكر جداً لم يوافقه عليه أحد، وليس كلاماً صحيحاً، لكن الخلاف المعتبر: هل الدخان هو الذي كان في سنوات القحط والجدب على أهل مكة، أم أنه الذي سيكون في آخر الزمان؟ فـ ابن مسعود ومن معه يذهبون إلى أن هذا الدخان هو الذي وقع في سنوات الجدب والقحط على أهل مكة. وجمهور السلف على أن آية الدخان وعلامتها إنما تكون في آخر الزمان.

قول ابن كثير بأن العلامة من علامات القيامة يمكن أن تقع مرتين

قول ابن كثير بأن العلامة من علامات القيامة يمكن أن تقع مرتين وابن كثير توسط في الأمر فقال: لا مانع أن تقع العلامة والأمارة مرتين، كما تقع المعجزة مرتين. يعني: كقصة شق الصدر فقد وقعت مرتين: مرة والنبي صلى الله عليه وسلم طفل، ومرة بعد البعثة وقبل ذهابه لرحلة الإسراء والمعراج. وانشقاق القمر حصل مراراً، فالذي كان في شأن المشركين في مكة ربما يكون دخاناً وربما يكون غيره، وهب أنه دخان فلا يلزم منه عدم وقوع الآية في آخر الزمان، ولا بأس أن يشتمل هذا التهديد والوعيد ما نزل بكفار قريش، وهذا ما توسط به الحافظ ابن كثير. لكن أورد حديثاً موضوعاً ثم قال: إن أول الآيات الدخان، والصحيح أن أول الآيات الدجال، ونزول عيسى بن مريم، ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر تقيل معهم حيث قالوا، والدخان. ولذلك تكرر الدخان في أول الحديث وآخره، وهذا الحديث عند الترمذي أيضاً: أن أول الآيات الدجال وهو الصحيح، وإن كنا نحب الترتيب لكن الحديث موضوع.

الأحاديث والآثار التي هي على خلاف قول ابن مسعود في آية الدخان

الأحاديث والآثار التي هي على خلاف قول ابن مسعود في آية الدخان قال حذيفة: (يا رسول الله! وما الدخان؟ فتلا هذه الآية: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان:10]) أي: يملأ ما بين المشرق والمغرب، ويمكث أربعين يوماً وليلة). فأما المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكمة، وأما الكافر فيخرج من منخريه وأذنيه ودبره. وهذا الحديث صريح، لكنه غير صحيح، وأنتم تعلمون أن الحجة لابد أن تكون صريحة وصحيحة، ولذلك قال ابن جرير: لو صح هذا الحديث لكان فاصلاً، وإنما لم أشهد له بالصحة. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يهيج الدخان بالناس، فأما المؤمن فيأخذه كالزكمة، وأما الكافر فينفخه حتى يخرج من كل مسمع منه) أي: من الفم والأنف والعين وغير ذلك. وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن ربكم أنذركم ثلاثاً: الدخان يأخذ المؤمن كالزكمة، ويأخذ الكافر فينتفخ حتى يخرج من كل مسمع منه، والثانية: الدابة، والثالثة: الدجال). وعن علي رضي الله عنه قال: لم تمض آية الدخان بعد. وهذا الكلام منافي لقول ابن مسعود: خمس مضين: البطشة، واللزام، والروم والقمر، والدخان. ومعنى ذلك: أن آية الدخان عند ابن مسعود قد وقعت ومضت، وعلي بن أبي طالب يرفض هذا، وليس وحده فمعه ابن عباس، وغير واحد من السلف، فإنهم يذهبون إلى هذا المذهب، حتى إن العاد لهذا الرأي يجد أنهم جمهور السلف. قال علي رضي الله عنه: لم تمض آية الدخان بعد، يأخذ المؤمن كهيئة الزكام، وتنفخ الكافر حتى ينفد. وعن ابن عمر قال: يخرج الدخان فيأخذ المؤمن كهيئة الزكام، ويدخل في مسامع الكافر والمنافق حتى يكون كالرأس الحنيذ، أي: المشوي على الفحم. ولم تنقل إلينا الروايات أن هذا الدخان أخذ برأس الواحد منهم كهذه الصورة التي صورها ابن عمر، وهذا يدل أن الدخان آية لم تمض بعد. وعبد الله بن أبي مليكة قال: غدوت إلى ابن عباس رضي الله عنهما ذات يوم فقال: ما نمت الليلة حتى أصبحت، قلت: ولم؟ قال: قالوا: طلع الكوكب ذو الذنب، فخشيت أن يكون الدخان قد طرق. وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس حبر الأمة، وترجمان القرآن، وهذا القول وافقه عليه جمع من الصحابة والتابعين، وتدل عليه الأحاديث المرفوعة الصحاح والحسان التي أوردناها، والتي فيها دلالة ظاهرة على أن الدخان من الآيات المنتظرة. وأقصى ما يقال عن كلام ابن مسعود السابق أنه اجتهاد منه، لما قال: الدخان هو الجدب والقحط الذي نزل على كفار قريش، وهذا كلام مرفوع إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وإذا قال الصحابي قولاً لم يخالفه فيه أحد من الصحابة وانتشر هذا القول كان كالإجماع، إن لم يكن إجماعاً على الحقيقة. وأما إذا خالفه صحابي آخر فليس في قول واحد منهما حجة فضلاً أن يخالفه جمهور الصحابة، فإذا خالف جمهور الصحابة ابن مسعود فيما يتعلق بالدخان، فيقدم قول جمهور الصحابة، والدليل على ذلك: موافقة علماء الأمة الذين أتوا من بعدهم من التابعين وغيرهم إلى يومنا هذا أن الدخان آية مرتقبة. ولذلك يخطئ بعض العلماء إذا اغبرت السماء، أو أصابها دخان أو غير ذلك قال: هذه آية الدخان المرتقبة، ثم نفاجئ بأن بعض هؤلاء يذيعون في خطبهم ودروسهم ومنازلهم أننا نمر بآية اليوم، أو قد مررنا بها بالأمس أو غير ذلك، وهذا كلام خطأ؛ لأن السنة بينت أن آية الدخان لا تكون إلا بعد آية الدجال، إلا إذا كان هذا الخطيب يعتقد أن الدجال موجود، فهذا شيء آخر؛ لكثرة الدجاجلة. وفي مرة من المرات دخل الشيخ سيد سابق الله يرحمه ويحسن إليه المسجد فصلى ركعتين قبل صلاة المغرب، فأنكر عليه أحد الأشخاص إنكاراً شديداً جداً؛ كيف تصلي ركعتين في وقت الكراهة؟ فبعد أن صلى ركعتين، قصد المجلس واستمر في الدرس، ولما جاء المغرب صلى، ثم صلى صلاة العشاء بعد أذان العشاء، ثم أدنى هذا الذي أنكر عليه منه وقال له: أين قرأت أن الصلاة في وقت الكراهة لا تجوز؟ قال: قرأت في كتاب كذا وكذا، وذكر من بين الكتب فقه السنة، قال له: أتعرف فقه السنة؟ قال: نعم للشيخ سيد سابق، وهو لا يعرف أن هذا الشيخ هو سيد سابق، فقال له: أنا سيد سابق، فوضح له الخلاف الذي بين أهل العلم، ورجح أن الصلاة في وقت الكراهة تجوز إذا كانت لسبب، وهذا مذهب الشافعية، وحملوا النهي على مطلق التنفل، وأما ما كان من الصلاة لها سبب كتحية المسجد أو غير ذلك فلا بأس بذلك. فبهذا نعرف سبب نهي ابن مسعود وإنكاره على هذا القاص، فإنه أنكر لما استقر في علمه أن هذا هو الحق، ولذلك

باب انشقاق القمر

باب انشقاق القمر (باب انشقاق القمر). قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عمرو الناقد وزهير بن حرب قالا: حدثنا سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد - وهو مجاهد بن جبر المكي -عن أبي معمر عن عبد الله قال: (انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بشقتين -يعني: فلقتين- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: اشهدوا)]. أي: انظروا إلى القمر وقد انشق. قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب وإسحاق بن إبراهيم جميعاً عن أبي معاوية - محمد بن خازم الضرير - وحدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي، كلاهما عن الأعمش ح وحدثنا منجاب بن حارث التميمي واللفظ له، أخبرنا علي بن مسهر عن الأعمش عن إبراهيم عن أبي معمر عن عبد الله بن مسعود قال: (بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى)]. وفي رواية: [(بمكة)]. ولا تعارض بين الروايتين، وليست الروايتان تدلان على انشقاق القمر مرتين في زمنه عليه الصلاة والسلام، والجمع بينهما: أن منى من مكة، فقول الراوي: (كنا معه بمنى) أي: كنا معه بمكة. قال: [(إذ انفلق القمر فلقتين - يعني: شقتين - فكانت فلقة وراء الجبل، وفلقة دونه، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: اشهدوا)]. يعني: انشق القمر فلقتين: فلقة منه سقطت حتى واراها جبل حراء، والثانية كانت فوق الجبل، وهم ينظرون إليها. قال: [حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري حدثنا أبي حدثنا شعبة عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبي معمر عن عبد الله بن مسعود قال: (انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقتين، فستر الجبل فلقة -وهي التي ذهبت خلف الجبل- وكانت فلقة فوق الجبل -أي: ينظرون إليها- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: اللهم اشهد)]. وفي رواية ابن أبي عدي قال: [(اشهدوا اشهدوا)] يعني: انظروا يا معشر قريش! [حدثني زهير بن حرب وعبد بن حميد قال: حدثنا يونس بن محمد حدثنا شيبان -وهو النحوي - قال: حدثنا قتادة عن أنس: (أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية)]. إذاً: السبب هو: أن أهل مكة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أرنا آية، فهم هنا كبني إسرائيل حينما طلبوا ذلك من موسى وعيسى. قال: [(فأراهم انشقاق القمر مرتين)].

اختلاف العلماء في مرات انشقاق القمر

اختلاف العلماء في مرات انشقاق القمر قال بعض العلماء: انشق القمر في زمنه صلى الله عليه وسلم مرتين، وبعض العلماء حمل المرتين على الفلقتين، والذي يترجح من أقوال أهل العلم أن القمر انشق في زمانه عليه الصلاة والسلام مرتين. قال: [وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا محمد بن جعفر -وهو المعروف بـ غندر - وأبو داود -وهو الطيالسي -، وحدثنا ابن بشار حدثنا يحيى بن سعيد ومحمد بن جعفر وأبو داود كلهم عن شعبة عن قتادة عن أنس قال: (انشق القمر فرقتين)]. وبعضهم يقول: (مرتين) تصحيف فرقتين أو فلقتين، والصواب: أن الرواية صحيحة. وفي حديث أبي داود: [(انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم)]. وفي حديث ابن عباس قال: (إن القمر انشق على زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم).

انشقاق القمر من أمهات معجزات نبينا، والرد على المنكرين

انشقاق القمر من أمهات معجزات نبينا، والرد على المنكرين قال القاضي عياض: انشقاق القمر من أمهات معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم. ومعجزات النبي عليه الصلاة والسلام بلغت أكثر من ألف معجزة، منها المعجزات المادية، ومنها المعجزات المعنوية، وانشقاق القمر من كبريات معجزات نبينا عليه الصلاة والسلام، وقد رواها عدة من الصحابة رضي الله عنهم، مع ظاهر الآية الكريمة: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]. قال الزجاج: وقد أنكرها بعض المبتدعة المضاهين المخالفين أمر الله، وذلك لأن الله أعمى قلوبهم، ولا إنكار للعقل فيها؛ لأن القمر مخلوق لله تعالى يفعل فيه ما يشاء، كما يثنيه ويكوره يوم القيامة، فالله تعالى يكور الشمس والقمر، ويثنيهما، ويثني جميع الخلائق فيقضي عليها بالموت، والقمر والشمس مخلوقتان، وجميع هذه المخلوقات مسخرة بأمره، يفعل فيها ما يشاء، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. وأما قول بعض الملاحدة: لو وقع هذا لنقل إلينا بالتواتر، فنقول: ألا يكفي في انشقاق القمر أنها آية عامة يراها كل من كان في مكة، وفي خارجها، المؤمن والكافر المسافر والحاضر، وذلك مثل حديث: (إنما الأعمال بالنيات)، فلم يروه إلا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولم يروه عن عمر إلا علقمة بن وقاص الليثي، ومع ذلك فهو حديث متواتر. قال: وأما قول بعض الملاحدة، لو وقع هذا لنقل متواتراً، واشترك أهل الأرض كلهم في معرفته، ولم يختص به أهل مكة. فأجاب العلماء: بأن هذا الانشقاق حصل في الليل، ومعظم الناس نيام غافلون، والأبواب مغلقة، وهم متغطون بثيابهم، فقل من يتفكر في السماء أو ينظر إليها إلا الشاذ النادر، ومما هو مشاهد معتاد أن كسوف القمر والشهب العظام وغير ذلك مما يحدث في السماء ليلاً لا يتحدث به إلا آحاد من الناس وليس كل الناس. وما يحدث في الإرصاد والصحافة والإذاعات من معرفة وقوع الشيء قبل أن يقع ليس من باب علم الغيب؛ لأن الغيب غيبان: غيب يعلمه بعض الناس، وغيب لا يعلمه إلا الله، فهذا من الغيب المعلوم الذي يعلمه بعض الناس. فانشقاق القمر ليس بلازم أن يراه كل الناس، خاصة وأنه وقع بالليل والناس نيام، والذي ليس نائماً قد لا ينظر إلى السماء. قال الإمام النووي: وكان هذا الانشقاق آية حصلت في الليل لقوم سألوها، واقترحوا رؤيتها، فلم يتنبه لها، قالوا: وقد يكون القمر حينئذ في بعض المجاري والمنازل التي تظهر لبعض الآفاق دون بعض، كما يكون ظاهراً لقوم غائباً عن قوم آخرين. كما قد يجد الكسوف أهل بلد دون بلد آخر، وأحياناً لا تطلع الشمس عند قوم البتة، وأعجب ما رأيت في أمريكا أن النهار أربع ساعات والليل عشرون ساعة، وهذا في نهاية الجنوب، وأنا الآن لا أذكر اسم الولاية أو البلد، فكانوا يسألونني عن الصيام وعن الصلاة، فاتصلنا بالشيخ عبد العزيز بن باز فقال: قدروا للصلاة والصيام قدرهما، وصلوا وصوموا باجتهاد. فهذا يعني أن هذه الظواهر الكونية الطبيعية تختلف من بلد لآخر.

بعض الأحاديث الواردة في انشقاق القمر

بعض الأحاديث الواردة في انشقاق القمر قال: ابن كثير رحمه الله في قول الله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]: يخبر تعالى عن اقتراب الساعة وفراغ الدنيا وانقضائها، كما قال تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1]، وقال: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1]. وقد وردت الأحاديث بذلك: منها: حديث عند أحمد من طريق ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم والشمس على قعيقعان -أي: على جبل قعيقعان- بعد العصر، فقال: ما أعماركم في أعمار من مضى إلا كما بقى من النهار فيما مضى منه). وهذا كان بعد صلاة العصر، ولو أنا قلنا: إن عُمْر الدنيا يساوي نهاراً، فما بقي من عُمْر الدنيا إلا ما يساوي من صلاة العصر إلى صلاة المغرب، وأما ما سبق من أعمار الأمم قبلكم فهو مثل ما بين الفجر إلى العصر. وأعظم ما يمكن أن نستفيد من هذا الحديث هو اقتراب الساعة، وانقضاء الدنيا، وأنتم تعلمون أن هذا الحديث وغيره مما سار في فلكه قد استخدمه أقوام في تحديد وقت الساعة. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (بعثت والساعة هكذا وأشار أو وجمع بين السبابة والوسطى). وقدم أنس بن مالك على الوليد بن عبد الملك فسأله: ماذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر به الساعة؟ قال: سمعته يقول: (أنتم والساعة كهاتين). ومن أسمائه عليه الصلاة والسلام الحاشر، قال: (أنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمه) يعني: لا نبي بعدي. وعند أحمد من حديث خالد بن عمير قال: خطب عتبة بن غزوان فقال: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد: فإن الدنيا قد آذنت بصرم) يعني: لم يبق منها إلا الشيء اليسير، فقد أعلمت وأخبرت أنها مولية، (وولت حذاء، ولم يبق منها الا صبابة كصبابة الإناء يتصابها صاحبها، وإنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها، فانتقلوا بخير ما بحضرتكم) يعني: استغلوا هذه الدنيا بالأعمال الصالحة والطاعة، (فإنه قد ذكر لنا أن الحجر يلقى من شفير جهنم فيهوي فيها سبعين عاماً ما يدرك لها قعراً، والله لتملؤنها، أفعجبتم؟! والله لقد ذكر لنا أن ما بين مصارع الجنة مسيرة أربعين عاماً، وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام). وقال الإمام ابن كثير في انشقاق القمر: قد وقع في زمانه عليه الصلاة والسلام، كما ورد ذلك في الأحاديث المتواترة بالأسانيد الصحيحة، وقد ثبت في الصحيح عن ابن مسعود أنه قال: (خمس قد مضين: الروم، والدخان، واللزام، والبطشة، والقمر). قالوا: أما انشقاق القمر فهذا أمر متفق عليه بين العلماء أنه قد وقع في زمان النبي عليه الصلاة والسلام، وأنه أحد المعجزات الباهرة، وهذا ليس محل خلاف مثل الدخان. ثم قال: ذكْر الأحاديث الواردة في انشقاق القمر: ومنها: سؤال أهل مكة النبي عليه الصلاة والسلام أن يريهم آية، قال: فانشق القمر بمكة مرتين. وعند البخاري: (أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية، فأراهم القمر شقين حتى رأوا حراء بينهما). ورواية جبير بن مطعم عند الإمام أحمد قال: (انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار فلقتين: فلقة على هذا الجبل، وفلقة على هذا الجبل، فقالوا: سحرنا محمد، ثم قالوا: إن كان سحرنا فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم). ولذلك جاء في رواية: (فاسألوا المسافرين، فلما قدم المسافرون سألوهم، فقالوا: رأينا الذي رأيتم). وجاء عن ابن مسعود: (انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت قريش: هذا سحر ابن أبي كبشة) والمقصود به: النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا لقب له؛ لأن جده من جهة أمه كان ملقباً بـ أبي كبشة أو كنيته أبو كبشة. (ثم قالوا: انظروا ما يأتيكم به المسافرين، فإن محمداً لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم، فجاء المسافرون فقالوا: نحن رأينا أن القمر انشق نصفين). وعن عبد الله قال: (انشق القمر بمكة حتى صار فلقتين فقال كفار قريش: هذا سحر سحركم به ابن أبي كبشة، ثم قالوا: فإن كانوا رأوا ما رأيتم فقد صدق، وإن كانوا لم يروا مثل ما رأيتم فهو سحر سحركم به، فسألوا المسافرين الذين قدموا من كل وجهة -من الشمال والجنوب والشرق والغرب- فقالوا: نحن رأيناه كذلك، فسكت أهل مكة). لأن المماحل والمناظر والمجادل يجادل عن رأيه وهواه إلى آخر نفس يتنفسه، وكنت متوقعاً أن أهل مكة سيقولون

كتاب صفات المنافقين وأحكامهم - مثل المؤمن كالنخلة

شرح صحيح مسلم - كتاب صفات المنافقين وأحكامهم - مثل المؤمن كالنخلة المؤمن في هذه الحياة معرض للابتلاء؛ وذلك لتكفير سيئاته، أو لرفعة درجاته، وذلك يتطلب منه الصبر والاحتساب لكي ينال هذه الفضائل. وأما الكافر فإنه يتقلب في نعيم الدنيا، ويستدرجه الله تعالى بالنعم ليأخذه في النهاية ولا يفلته. والإنسان في هذه الدنيا له قرين من الجن، وقرين من الملائكة، فذاك يؤزه على الشر، والآخر يحذره منه، وقد أيس الشيطان أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكنه يسعى بينهم بالتحريش.

باب مثل المؤمن كالزرع ومثل الكافر كالشجر الأرز

باب مثل المؤمن كالزرع ومثل الكافر كالشجر الأرز الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. الباب الرابع عشر: مثل المؤمن كالزرع، ومثل الكافر كشجر الأرز: الأرز هو شجر الصنوبر أو ما يشبهه.

شرح حديث: (مثل المؤمن كمثل الزرع)

شرح حديث: (مثل المؤمن كمثل الزرع) قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الأعلى عن معمر عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة -إذا روى سعيد عن أبي هريرة فهو سعيد بن أبي سعيد - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمن كمثل الزرع لا تزال الريح تميله)]. وفي رواية: [(تفيئه)]، أي: تميله، فهما لفظان معناهما واحد. والفيء: هو ظل القائم إذا زالت الشمس، فلو جعلت شيئاً عمودياً على الأرض في وقت الظهيرة فإنه لا يكون له ظل إلا إذا زالت الشمس، والفيء هو ظل ما بعد الزوال، وأما ما قبل الزوال فلا يسمى فيئاً. ومعنى الحديث: أن الريح تجعل للزرع فيئاً وظلاً لأنها تؤثر في صفاته، فتحركه وتميله. قال: [(ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء)]. والبلاء: سمة في الإيمان دائماًَ؛ ولذلك يضرب النبي عليه الصلاة والسلام المثل الأعلى للأنبياء وهم أفضل الخلق على الإطلاق، ومع هذا فهم أكثر الناس بلاءً؛ لإثبات السنة الكونية في أهل الصلاح، وأهل العلم، وأهل الاستقامة: أن البلاء يصب عليهم صباً، فإما أن تكون عندهم هفوات من الذنوب؛ فتكفرها هذه البلايا، وإما ألا يكون عندهم معصية ولا هفوة؛ فإذا كان الأمر كذلك فإن الله تعالى يبتليهم حتى يرفع درجتهم.

فوائد البلاء الذي يحل بالمؤمن

فوائد البلاء الذي يحل بالمؤمن فالبلايا والأمراض وسائر الهموم والغموم التي تنزل بالعبد المؤمن لها فائدتان: الأولى: إن كان العبد صاحب ذنب؛ فالله تعالى يرسل إليه البلاء ليغفر له ذنبه، وأنتم تعلمون أن كل هم أو غم أو نصب أو وصب ينزل بالمرء إلا كفر الله تعالى به من خطاياه. الثانية: فإن لم يكن له خطيئة، وقل أن يكون عبد كذلك، وربما ينزل البلاء وحجمه أعظم من حجم الذنب، فيغفر الذنب، ويرفع الدرجات. قال: [(ومثل المنافق كمثل شجرة الأرز لا تهتز حتى تُستحصد)]. يعني: تختلع من جذورها، فالمنافق تنزل عليه البلايا لكنها لا تكفر ذنبه، ولا درجة له حتى ترفعها. فالنبي عليه الصلاة والسلام يعقد مقارنة بين المؤمن والكافر، أو المنافق، والمنافق كافر، فبعض النصوص ذكرت أنه منافق، والبعض الآخر ذكرت أنه كافر، فالمقارنة والموازنة الآن بين المؤمن وبين الكافر.

عدم نزول البلاء بالعبد ليس دليلا على محبة الله له

عدم نزول البلاء بالعبد ليس دليلاً على محبة الله له وليس عدم نزول البلاء بالعبد دليل على محبة الله تعالى، يقال: فلان لم يمرض قط فلان لم يشف قط فلان لم يتعب قط، ويقولون: هذا دليل على محبة الله له، فهذا ليس دليلاً، ولا يصلح أن يكون دليلاً، كما أن نزول البلاء باستمرار على العبد ليس دليلاً على غضب الله تبارك وتعالى على العبد، بل ربما يكون علامة من علامات محبة الله له، فهو يكفر عنه ذنبه في الدنيا؛ حتى يأتي إلى ربه يوم القيامة وليس عليه ذنب. وإن المؤمن ليبتلى، ثم يبتلى، ثم يزاد له في البلاء، ثم يصب عليه البلاء صباً؛ حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة، فليس نزول البلاء علامة بغض الله لهذا العبد، كما أن الصحة والعافية والسعة في الرزق والمال والدنيا ليست علامات على محبة الله لهذا العبد، بل ربما تكون على عكس ذلك، ففي هذا الحديث الموازنة بين العبد المؤمن وبين العبد الكافر. فالعبد المؤمن ينزل عليه البلاء دائماً، فكلما قام من بلاء وقع في بلاء آخر، وكلما نجا من مصيبة وقع في مصيبة أخرى، وهذا هو حال المؤمن عند الله عز وجل. وأما المنافق فربما لا يصيبه شيء من ذلك، فيعيش في عافية وصحة ورغد من العيش؛ حتى إذا أخذه الله تعالى لم يفلته، بل يستأصل شأفته مرة واحدة؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ومثل المنافق كمثل شجرة الأرز)، لأنها ثابتة في الأرض، لا يؤثر فيها الهواء ولا الرياح ولا شيء من هذا، حتى يأتيها الحاصد فيحصدها مرة واحدة. قال: (لا تهتز حتى تُستحصد، أو تَستحصد). فشجرة الأرز لا تتغير حتى تنقلع مرة واحدة، كالزرع الذي انتهى يبسه، وأما الزرع فإن الرياح تميله يمنة ويسرة فوق وتحت.

شرح حديث: (مثل المؤمن كمثل الخامة)

شرح حديث: (مثل المؤمن كمثل الخامة) قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الله بن نمير ومحمد بن بشر العبدي قالا: حدثنا زكرياء بن أبي زائدة عن سعد بن إبراهيم المدني قال: حدثني ابن كعب بن مالك عن أبيه كعب، وكعب بن مالك هو أحد الثلاثة الذين تخلفوا، وقد سمعتم من قبل توبته، وابنه: إما أن يكون عبد الله، وإما أن يكون عبد الرحمن، وكلاهما قد روى هذا الحديث عن أبيه عن النبي عليه الصلاة والسلام. [قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع)]. الخامة: هي القصبة اللينة، أو العود اللين، فإذا أتته الرياح تؤثر فيه يمنة ويسرة فوق وتحت. [(تفيئها الريح، تصرعها مرة وتعدلها أخرى)]. تصرعها، يعني: تخفضها الريح مرة، فمثلاً أعواد القمح تأتي الريح بها هكذا مرة، وتأتي بها هكذا مرة، بخلاف شجرة الأرز التي هي الصنوبر؛ فإنها صلبة جامدة منتصبة غير نائمة، لا تؤثر فيها الرياح. قال: [(حتى تهيج)]، يعني: حتى تيبس، ويأتي أوان قطافها وجمعها. [(ومثل الكافر كمثل الأرزة المجذبة على أصلها، لا يفيئها شيء)]، ومعنى (المجذبة)، أي: الثابتة في الأرض المنتصبة، التي لا تتأثر بالرياح، ولا غيرها. قال: [(حتى يكون انجعافها مرة واحدة)]. (انجعافها) يعني: حصادها وانقلاعها من الأرض مرة واحدة.

كثرة نزول البلاء بالمؤمن دون الكافر

كثرة نزول البلاء بالمؤمن دون الكافر قال: [حدثني زهير بن حرب حدثنا بشر بن السري -وهو المعروف بـ أبي عمرو الأفوه البصري، نزيل مكة وسكنها، طعن فيه برأي جهم، ولكنه اعتذر عن هذا الرأي وتاب منه- وعبد الرحمن بن مهدي قالا: حدثنا سفيان -وهو الثوري - عن سعد بن إبراهيم عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع، تفيئها الرياح، تصرعها مرة وتعدلها -أي: أخرى- حتى يأتيه أجله)] أي: حتى تيبس ويأتيها ميعاد حصادها، [(ومثل المنافق مثل الأرزة المجذبة التي لا يصيبها شيء حتى يكون انجعافها مرة واحدة)]. وفي رواية: [(ومثل الكافر كمثل الأرزة)] بدل: (مثل المنافق)، والمعنى واحد؛ لأن المنافق كافر؛ لأنه أظهر الإسلام، أو عمل بمقتضيات الإسلام الظاهرة، ولكنه لم يعمل بمقتضياته الباطنة، بمعنى: أنه أبطن الكفر وأظهر الإسلام، وعمل بجوارحه، فظاهره الإسلام، ولكنه ليس مسلماً في الحقيقة. قال العلماء: معنى هذا الحديث: أن المؤمن كثير الآلام في بدنه أو أهله أو ماله؛ وذلك مكفر لسيئاته، ورافع لدرجاته، مكفر لسيئاته إن كانت عنده سيئات، ورافع لدرجاته إن لم يكن عنده سيئات. وأما الكافر فقليل الآلام في نفسه وأهله وماله؛ ولذلك تجد الواحد من الكفار، خاصة في أوربا أو أمريكا تراه مثل العجل، كما قال ربنا عنهم: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:4]، فهو يمسك السندوتش بيده اليمين، والعصير بيده الشمال، والكوب العصير فيه حوالي خمسة لتر، حتى إنك تتعجب وتقول: هل يستطيع أن يشرب هذا الكوب كله؟ فقد ألفوا أن يأكلوا هذا السندوتش، وأن يشربوا هذا المشروب. فهم في الطول، وجمال المنظر، وجمال الشعر والعين وغير ذلك بالمحل المعروف لدى الجميع، ولكن الله تبارك وتعالى حكم عليهم بأنهم قليلو الآلام في أبدانهم وأنفسهم وأموالهم وأهليهم، وإن وقع أو نزل بالكافر أو بالمنافق بلاء فإنه لا يكفر من سيئاته؛ لأن الكفر عائق دون الكفارة والكفر عائق دون تكفير ذنوبه، بل يأتي بها يوم القيامة كاملة، وإذا كان في نعيم ففي مقابل عمله الصالح في الدنيا، فالله تعالى ينعم عليه حتى يأتي يوم القيامة وليس له أجر.

الفرق بين البلاء والابتلاء

الفرق بين البلاء والابتلاء والفرق بين البلاء والابتلاء خلاف لفظي، وإن كان بعض أهل العلم قد فرق بين البلاء والابتلاء، فالابتلاء ينزل على المؤمن حتى يختبره الله عز وجل، وضربوا لذلك أمثلة ومن ذلك: أن الله تعالى لما أمر إبراهيم عليه السلام أن يذبح ولده؛ لم يرد الله تعالى من ذلك إنفاذه، بل كان للابتلاء والاختبار، ولو أن هذا الأمر أراد الله تعالى إنفاذه كان لا بد أن ينفذ، ولم يدرك الله إسماعيل بهذا الكبش الفداء. وكذلك موسى عليه السلام لما فقأ عين ملك الموت، عندما قال ربنا لملك الموت: انزل فاقبض روح عبدي فلان، كان هذا أمر للابتلاء والاختبار، ولذلك لم يتمكن ملك الموت من قبض نفس موسى عليه السلام في أول مرة، ولو أن الله تعالى أراد بهذا الأمر أولاً الإنفاذ دون الابتلاء؛ فإنه كان لا بد أن ينفذ. فالابتلاء يراد به الاختبار، فالمصائب التي تنزل بالعبد المقصد منها النظر هل يصبر العبد أو لا يصبر؟ وهل يشكر أو لا يشكر؟ وهل يحمد الله تعالى على ما نزل به من ضر أو لا يفعل؟ وهل يتضجر؟ وهل يسخط؟ وغير ذلك. وأما البلاء فإن البلاء ينزل على المؤمن والكافر.

باب مثل المؤمن مثل النخلة

باب مثل المؤمن مثل النخلة الباب الخامس عشر: باب مثل المؤمن مثل النخلة. اختلف العلماء هل النخل من جنس الشجر، أو ليس من جنسه؟ وهل يطلق على غير نخل البلح أو التمر، أو الرطب، ولو من باب المجاز، أم أن كل ذلك أشجار إلا نخل البلح أو الرطب؛ فإنه يطلق عليه نخل؟ والراجح: أن لفظ النخلة يطلق مجازاً على الأشجار، كما أن نخلة البلح يطلق عليها شجرة أحياناً، وهذا قد ورد في لسان العرب مراراً.

شرح حديث: (إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم)

شرح حديث: (إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم) قال: [حدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة بن سعيد وعلي بن حجر السعدي -واللفظ لـ يحيى، أي: لـ يحيى بن أيوب - قالوا: حدثنا إسماعيل بن جعفر أخبرني عبد الله بن دينار أنه سمع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم)]. وفي رواية: [(مثل المؤمن فحدثوني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البوادي)]، أي: اختلفت أقوال الناس: فقيل: هي شجر الزيتون شجر الرمان شجر المانجو شجر الخوخ شجر كذا شجر كذا، أي: اختلفت أقوالهم وتضاربت أي شجرة هي؟ خاصة: وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: (إن من الشجر شجرة)، ولم يقل: نخلة، ولو قال: نخلة؛ لأجاب عنه أصغر أهل المجلس؛ لأن الغالب أن النخلة عند الإطلاق تطلق على نخل البلح؛ ولذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام إنما استخدم التمويه في هذا السؤال؛ حتى يختبر ذكاء وأفهام الحاضرين، فقال: [(إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وأنها مثل المسلم فحدثوني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبد الله: ووقع في نفسي أنها النخلة)]. أي: حدثتني نفسي أنها النخلة، [(فاستحييت)] أي: لصغر سنه، وكان كبار الصحابة موجودين، وكان فيهم أبو بكر وعمر، ولم يجيبا على هذا السؤال، أفيطلع عبد الله بن عمر ابن العشر سنوات يجيب على هذا السؤال؟! فسبب استحيائه أن أكابر الناس سناً وفضلاً وعلماً كانوا موجودين، وهم أعلم بحال البادية وأشجارها، وحال الحيطان والبساتين، ومع هذا لم يجيبوا بشيء، ولا أظن أن أبا بكر وعمر امتنعا عن الجواب لأنهما لم يعلما ذلك، وإنما لعلمهم أن النبي عليه الصلاة والسلام إنما طرح هذا السؤال ليستحث أفهام الحاضرين، أو بعض الحاضرين. ولذلك ربما يسأل عالم سؤالاً في مجلس من المجالس، وفيه من أهل العلم من فيه، فإذا أراد أحد أهل العلم أن يجيب على السؤال قال السائل: أنت تعلم أني ما قصدتك، وإنما قصدت أن يتعلم من لم يكن متعلماً، يعني: قصدت أن يجيب غبراء أهل المسجد وعامة أهل المجلس، وأما أنت فيقيناً أنك تعلم ذلك، وأن هذا السؤال ليس موجهاً إليك؛ ولذلك لا يسمع منه الإجابة، فربما يكون كبار أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام امتنعوا عن ذلك لهذا السبب. فـ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما إنما فهم أنهما لم يجيبا، أو أن الكبار لم يجيبوا عن هذا السؤال؛ فاستحيا لأنهم لم يجيبوا، كما أنه استحيا أن يتقدم بين يدي كبار الصحابة بالجواب.

استحباب إلقاء العالم المسألة على المتعلم ليختبر فهمه، وتوقير الصغير للكبير

استحباب إلقاء العالم المسألة على المتعلم ليختبر فهمه، وتوقير الصغير للكبير قال: [(ووقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييت، ثم قالوا: يا رسول الله! حدثنا ما هي؟ قال: هي النخلة، قال عبد الله: فذكرت ذلك لـ عمر -أي: لأبيه- قال: لئن تكون قلت: هي النخلة أحب إلي من كذا وكذا). يعني: يا ليتك يا عبد الله! قلت: إنها النخلة، ولم تبال بالأكابر الموجودين. وفي هذا جواز ضرب الأمثال والأشباه، واستحباب إلقاء العالم المسألة على المتعلم ليختبر أفهامهم، ويرغبهم في الفكر والذكر والاعتناء بطلب العلم. كما أن فيه توقير الكبار؛ لفعل عبد الله بن عمر، حيث إنه لم يتكلم في حضرة الكبار، خلافاً لما يفعله كثير من الإخوة، فلو أن سائلاً سأل أحد أهل العلم فإنك تجد أن كثيراً ممن يقف ويلتف حول الشيخ المفتي يجيب عن المسألة بجواب يختلف عن جواب صاحبه، والمفتي لم يتكلم ولم يجب بشيء في المسألة، ويسمع من هذا ومن ذاك، ولا يرضى لا بإجابة هذا ولا بإجابة ذاك، وفي هذا من سوء الأدب ما فيه. وفيه سرور الإنسان بنجابة ولده وذكائه وتوقده وحسن فهمه، فقول عمر رضي الله عنه: (لئن تكون قلت: هي النخلة أحب إلي من كذا وكذا) أراد بذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو لابنه، ويعلم حسن فهمه ونجابته.

فضل النخل، ووجه الشبه بين المسلم والنخلة

فضل النخل، ووجه الشبه بين المسلم والنخلة كما أن هذا الحديث فيه إثبات فضل النخل، وذلك هو وجه الشبه بين النخلة وبين المسلم أو المؤمن، قال النووي: قال العلماء: شبه النخلة بالمسلم لكثرة خيرها، ودوام ظلها، وطيب ثمرها، ووجوده على الدوام، فإنه من حين يطلع ثمرها لا يزال يؤكل منه حتى ييبس، وبعد أن ييبس يتخذ منه منافع كثيرة، ومن خشبها وورقها وأغصانها، فيستعمل جذوعاً وحطباً وعصياً ومخاصر وحصراً وحبالاً وأواني وغير ذلك. ثم آخر شيء منها: نواها ينتفع به علفاً للأبل، ثم جمال نباتها، وحسن هيئتها، فهي منافع كلها وخير وجمال. كما أن المؤمن خير كله من كثرة طاعاته، ومكارم أخلاقه، ومواظبته على صلاته وصيامه وقراءته، وذكره والصدقة والصلة وسائر الطاعات، وغير ذلك؛ فهذا هو الوجه الصحيح في تشبيه النخلة بالمسلم. كما أن المؤمن نفعه دائم، مثل النخلة التي لا يسقط ورقها، أي: لا يقل نفعها، فنفعها دائماً على مدار العام والعمر، وكذلك المؤمن دائم النفع وكثير النفع ونفعه متعدٍ.

شرح تشبيه المسلم بالنخلة من طريق أخرى

شرح تشبيه المسلم بالنخلة من طريق أخرى قال: [حدثني محمد بن عبيد الغبري حدثنا حماد بن زيد حدثنا أيوب -وهو ابن أبي تميمة السختياني البصري - عن أبي الخليل الضبعي وهو صالح بن أبي مريم البصري] وثقه ابن معين والنسائي، ولكن ابن عبد البر جازف على غير عادته، وقال: لا يحتج به، وابن معين معلوم أنه من المتشددين جداً في النقد، والنسائي أشد منه، حتى قيل: إن للنسائي في سننه شرطاً هو أقوى من شرط البخاري في صحيحه؛ ولذلك العلماء مختلفون: هل سنن أبي داود مرتبتها بعد الصحيحين أو النسائي؟ فجماهير المحدثين على أن سنن النسائي في المرتبة والقوة بعد الصحيحين، وقبل سنن أبي داود؛ لأن النسائي له شرط في كتابه أسدُّ وأشدُّ وأقوى من شرط أبي داود، بل من شرط البخاري ومسلم، لكنه يخالف ذلك كثيراً، وعلى أية حال: هو لم يشترط على نفسه الصحة، ولم يسم كتابه بالصحيح. قال: [عن أبي الخليل الضبعي عن مجاهد -وهو مجاهد بن جبر المكي تلميذ ابن عباس رضي الله عنهما- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً لأصحابه: (أخبروني عن شجرة مثلها مثل المؤمن؛ فجعل القوم يذكرون شجراً من شجر البوادي، قال ابن عمر: وألقي في نفسي أو رُوعي)]، وليس رَوعي؛ والرُّوع بضم الراء هو النفس، وأما الرَّوع فهو الرعب والفزع. [(قال ابن عمر: وألقي في نفسي أو رُوعي أنها النخلة، فجعلت أريد أن أقولها)] يعني: يهم أن يقول: هذه النخلة، [(فإذا أسنان القوم)] يعني: أكبر الناس سناً [(فأهاب أن أتكلم)] يعني: كلما أراد أن يتكلم ويقول: يا رسول الله! هي النخلة، يرى أسنان القوم فيرجع عن ذلك، ويهاب أن يتكلم في حضرتهم، فلما سكتوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [(هي النخلة)].

حكم الأخذ من بستان الغير

حكم الأخذ من بستان الغير قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وابن أبي عمر قالا: حدثنا سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: (صحبت ابن عمر إلى المدينة فما سمعته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا حديثاً واحداً)]. يعني: في طول الرحلة هذه لم يسمعه يحدث إلا بحديث واحد. [قال: (كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتي بجمار) فذكر الحديث بطوله]. الجمَّار: هو عبارة عن شحم لين يكون في داخل النخل، وهو مما يؤكل، وهذا الجمار يسمى كذلك: كثر بالثاء، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا قطع في ثمر ولا كثر) أي: لا قطع لليد في ذلك. فإذا نزلت في بستان أحد الناس وأكلت من ثمره حتى ولو زاد المأكول عن ربع دينار؛ فإنه لا تقطع يدك فيه، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا قطع إلا في ربع دينار فصاعداً). وفي رواية: (لا قطع في أقل من ربع دينار). فتبين أن حد السرقة الذي يستوجب قيام الحد على السارق أن يكون ربع دينار، يعني: حوالي خمسين جنيهاً مصرياً، والدينار من الذهب، فلا قطع في أقل من خمسين جنيه. فمن نزل أرضاً فيها بستان وأكل منه ما قيمته ربع دينار فصاعداً لا قطع عليه، لكنه لا يحمل معه شيئاً؛ لأن الشرع نهانا أن نحمل شيئاً من أرض الغير إلا بإذن صاحب الأرض، فإذا لم يكن صاحب الأرض موجوداً، أو لا إذن؛ فيحل لي أن آكل من هذه الأرض، شريطة ألا أحمل معي، لا أنا ولا من معي. فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا قطع في ثمر ولا كثر) يعني: لو أن واحداً في هذا الوقت أخذ هذا الكثر أو هذا الجمار من النخل، حتى وإن زاد ثمنه عن ربع دينار عن دينار، فلا قطع فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الجمار مشاعاً للناس.

اعتبار القرائن في الشريعة

اعتبار القرائن في الشريعة وفي هذا الحديث اعتبار القرائن، فعندما ترى شخصاً أو أخاً من الإخوة يدخل عمارة فيها امرأة معروفة بالبغاء، وهذا الأخ يبدو منه التفريط في الذكر والتفريط في العبادة وغيرهما من علامات التفريط الكثيرة في جوانب من العلم والعمل، ثم هو يختم ذلك بأنه يدخل هذا البيت المشبوه لأن فيه امرأة بغياً معلومة البغاء، وقد ذاع أمرها، وانتشر صيتها بين الناس أنها امرأة بغي، فهذه قرائن، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لو كنت مقيماً الحد على أحد بغير بينة؛ لأقمته على هذه) وأشار إلى امرأة؛ لأن الشهرة قامت مقام الرؤية العينية. وفي هذا جواز انتشار الأمر والتحدث عن أهل المعاصي والفسوق؛ ولا يقوم مقام الحد؛ لأن الحد يحتاج إلى رؤية، فالمعصية هنا ثبتت في انتشارها وذيوعها بالقرائن. فيجوز أن أقول: هذا الأخ إنسان مشبوه، وأحذر منه أصحابه الذين لا يعلمون عنه شيئاً من ذلك، وهو معلن بفسقه، ومقصر في عبادته، ولا يبالي بذلك؛ فيجوز أن نجهر في وجه هذا العاصي أو الفاسق. فإذا كان الأمر كذلك؛ فقد أحذر من فلان، فقد كان يحضر معنا الجماعة وفجأة قطع الجماعة، وكان يقرأ القرآن ويختمه في كل شهر، أو في أقل من ذلك أو أكثر، وصارت له مدة من الزمان لم يفعل شيئاً من ذلك، وكان مصاحباً لأهل الإيمان والتقى المعروفين بالصلاح وغير ذلك، وترك صحبتهم بغير عذر، ثم صاحب الفسَّاق، وصاحب فلاناً وفلاناً، ثم في آخر الأمر يدخل بيتاً مشبوهاً، وقد بحثنا فلم نجده دخل شقة من الشقق التي في العمارة إلا هذه، فهذه كلها قرائن، وأنا لا أثبت أنه زان، ولكني أثبت أنه قد انحرف. ولذلك لما جيء للنبي عليه الصلاة والسلام بجمار قال: (إن من الشجر شجرة مثلها مثل المسلم). إذاً: فلابد للمستمع أن يربط السؤال بالقرينة مباشرة، لماذا الجمار بالذات عندما وضع أمام النبي عليه الصلاة والسلام قال النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه ذلك، والجمار لا يطلع في أي شجرة من الأشجار إلا في شجر النخل؟ إذاً: ففي هذا الحديث إثبات جواز بل استحباب واستحسان الاعتماد على القرائن في إثبات صحة الأمر أو نفيه. قال: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أخبروني بشجرة كالرجل المسلم لا يتحات ورقها)]، يعني: لا يسقط ورقها. [(قال ابن عمر: فوقع في نفسي أنها النخلة، ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان؛ فكرهت أن أتكلم أو أقول شيئاً، فقال عمر: لئن تكون قلتها أحب إليَّ من كذا وكذا)].

باب تحريش الشيطان

باب تحريش الشيطان الباب السادس عشر: باب تحريش الشيطان، وبعثه سراياه لفتنة الناس، وأن مع كل إنسان قريناً. إن مع كل إنسان قريناً بل قرينان: قرين من الشيطان، وقرين من الملائكة، فهما قرينان يتدافعانه، والمرء أحياناً يشعر في نفسه بالقرينين، فمثلاً قد تمشي في الشارع فترى امرأة جميلة، فيدعوك قرين السوء إلى النظر إليها، ويمنعك واعظ الإيمان والتقوى في قلبك، والذي يحركه ويذكره فيك قرين الخير من الملائكة، فهو الذي ينهاك عن ذلك، فأنت أحياناً تشعر بالصراع الداخلي أمام المعصية، فتارة تقبل عليها وأنت نادم متحسر مستح، تتمنى لو أن الله تعالى صرفك عن ذلك، وهذا التحسر والندم وتمني الانصراف عن هذه المعصية إنما هو بدافع من الملك القرين الذي معك. قال: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم، قال إسحاق: أخبرنا، وقال عثمان: حدثنا جرير -وهو ابن عبد الحميد الضبي - عن الأعمش - سليمان بن مهران الكوفي - عن أبي سفيان طلحة بن نافع الواسطي -من واسط في العراق، ولكنه نزل مكة، وتتلمذ على يد جابر بن عبد الله الأنصاري - عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب)]. يعني: أن الشيطان مل وتعب من أن يوقع الموحدين في جزيرة العرب في الشرك، وأن يسجدوا له، أو يصلوا له، أو غير ذلك. [(ولكن بالتحريش بينهم)]، يعني: هو لما أيس من الشرك رضي منهم بالتحريش.

مداخل الشيطان على العبد

مداخل الشيطان على العبد وبعض علمائنا يقول: مداخل الشيطان إلى العبد من ثلاثة محاور: فهو يجتهد عليه بالشرك، فإن وجد هذا الباب مغلقاً في وجهه، وأن العبد عنده من التوحيد ما يحرسه ويحميه في هذا الباب؛ اجتهد عليه في باب البدعة؛ لأن البدعة هي الطريق إلى الشرك، فهو لما فشل أن يوقعه في الشرك مباشرة؛ لف له من طريق خلفي؛ ليوقعه في الشرك أيضاً، وهو باب البدع. فإذا عجز أن يدخل للعبد من باب البدع، فهو صاحب سنة قائم بها وعليها، وحريص على نفسه أن يقع في شيء من هذا؛ اجتهد عليه في باب المعاصي. فالمحاور ثلاثة: المحول الأول: الشرك. الثاني: البدعة. الثالث: المعصية الكبيرة والصغيرة. ومعنى هذا الحديث: أنه أيس أن يعبده أهل جزيرة العرب، ولكنه سعى في التحريش بينهم بالخصومات والشحناء والبغضاء والحروب والفتن وغيرها.

سلامة جزيرة العرب من انتشار الشرك فيها

سلامة جزيرة العرب من انتشار الشرك فيها وهذا الحديث من أعلام نبوة النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن التحريش هو الموجود في الأمة، ولا يوجد في جزيرة العرب من يعبد الشيطان، والذي يعبد الشيطان موجود هنا بمصر، وأما جزيرة العرب فلا، فهي محمية ومحروسة بتوحيد الله عز وجل، ودعوة التوحيد فيها ظاهرة، فلما أيس الشيطان هناك جنح إلى هنا، فوجدنا أناساً طيبين وطبائعنا سهلة، فضحك علينا في كل واد، فلا يطلب شيئاً إلا ونحن طوع بنانه قبل أن يتكلم، فنحن أناس مسالمون حتى مع الشيطان.

فتنة الشياطين للناس

فتنة الشياطين للناس [وقال جابر: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن عرش إبليس على البحر، فيبعث سراياه فيفتنون الناس، فأعظمهم عنده أعظمهم فتنة)]. فأحسن واحد عند إبليس هو أعظمهم فتنة للناس، وأعظم فتنة بلا شك هي الشرك. وفي هذا الحديث أمور: أولاً: أن العرش هو سرير الملك، فيقال: عرش الملك الفلاني، أي: كرسي الملك الذي يجلس عليه، ومقعده الخاص به، ومعناه: أن مركز إبليس هو البحر، فيجلس على سطح الماء، ثم يوزع سراياه وبعوثه وجيوشه في نواحي الأرض. قال: [وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن إبليس يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة)]. يعني: يدني منه ويقرب منه أعظم الأبالسة والشياطين فتنة. [(يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا؛ فيقول: ما صنعت شيئاً)]. يعني: ما جئت به، وما أنت فخور به لا يساوي شيئاً. قال: [(ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته، قال: فيدنيه منه ويقول: نعم أنت!)]. يعني: أنت أحسن واحد؛ ولذلك العلماء يقولون: الأصل في النكاح الدوام، وأن الطلاق مكروه إلا لعلة، فأما أن نأخذ الكراهة من حديثه عليه الصلاة والسلام: (إن أبغض الحلال إلى الله الطلاق)، فهذا حديث ضعيف، والحديث السابق يحل محل الحديث الضعيف ويغني عنه. [قال الأعمش: أراه قال: (فيلتزم) يعني: يحضنه ويقبله ويدنيه ويقربه منه؛ لأنه استطاع بحيله وألاعيبه أن يفرق بين الرجل وبين امرأته. قال: [حدثني سلمة بن شبيب حدثنا الحسن بن أعين حدثنا معقل -ومعقل بن عبيد الله الجزري أبو عبد الله العبسي - عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يبعث الشيطان سراياه فيفتنون الناس، فأعظمهم عنده منزلة أعظمهم فتنة)].

مع كل إنسان قرين من الجن

مع كل إنسان قرين من الجن قال: [وعن سالم بن أبي الجعد عن أبيه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا وقد وكِّل به قرينه من الجن)]، (وكِّل) بمعنى كلف. [(قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: وإياي! إلا أن الله أعانني عليه فأسلم؛ فلا يأمرني إلا بخير)]. من العلماء من قال: (فأسلم) من الإسلام، أي: أن الله تعالى أعان نبيه على قرينه من الشيطان حتى أسلم، أي: دخل في الإسلام؛ فهو حينئذ لا يأمره إلا بخير، هذا على تقدير فتح الميم في كلمة: (أسلم)، فحينئذ هو لا يأمرني إلا بخير، وهذا هو الراجح من الكلام. وهناك تقدير ثان: (إلا أن الله أعانني عليه فأسلمُ)، أي: فأسلمُ من شروره، أي: من السلامة، لا من الإسلام، أي: فإنني حينئذ أسلم من شروره. ومنهم من قال: (أسلم)، بمعنى استسلم، خاصة وأن بعض الروايات -ومنها رواية عند البخاري - أنه قال: (إلا أن الله أعانني عليه فاستسلم)، ومعنى (استسلم): انقاد وأذعن وأسلم إسلاماً حقيقياً، وليس إسلاماً ظاهرياً كإسلام الكثير من الناس. وفي هذا الحديث إشارة إلى التحذير من فتنة القرين، ووسوسته، وإغوائه، فأعلمنا صلى الله عليه وسلم بأن القرين وهو الشيطان معنا؛ لنحترز منه بقدر الإمكان، والأمة مجمعة على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من الشيطان في جسمه وخاطره ولسانه، فلا يصيبه شيء من ذلك. وفي رواية أخرى قال: [(وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة)]، أي: ما منا من أحد إلا ومعه قرينان: قرين من الجن، وقرين من الملائكة. قال: [وعن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها حدثت عروة بن الزبير: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من عندها ليلاً، قالت: فغرت عليه)]، أي: أصابتها الغيرة. [(فجاء فرأى ما أصنع، فقال مالك يا عائشة! أغرت؟ فقلت: وما لي لا يغار مثلي على مثلك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقد جاءك شيطانك؟)]. وهذا الحديث لعله هو المتمم لحديث: (أحشيا رابية)، (فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة عائشة إلى المقابر ظنت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قد خرج إلى إحدى نسائه، فخرجت خلفه وتبعته حتى أتى المقابر في ظلمة الليل، فرأى كالشبح، قالت: فدنوت منه حتى أتى المقابر فرفع يديه وظل يدعو لأهل البقيع فأسرع النبي عليه الصلاة والسلام خلف هذا الشبح، حتى دخل في بيت عائشة، فوجدها قد نامت في فراشها، ولكن فراشها يرتفع وينخفض)، وليس هذا شأن إنسان نائم، ولذلك أيقن النبي صلى الله عليه وسلم وأدرك فوراً أن عائشة هي الشبح الذي كان قد رآه في الطريق، (فنهزها في صدرها نهزة وقال: أحشيا رابية، أتظنين أن يحيف الله عليك ورسوله؟)]، يعني: هل أنت متصورة أنني سأظلمك فأتركك وأذهب عند غيرك؟! فلعل هذا الحديث من هذا الباب. قال: [(قالت: يا رسول الله! أومعي شيطان)]، أي: هل زوجة النبي وبنت الصديق معها شيطان؟! [(قال: نعم، قلت: ومع كل إنسان؟ قال: نعم، قلت: ومعك يا رسول الله؟! قال: نعم، ولكن ربي أعانني عليه حتى أسلم)]. أي: على تقدير الروايتين: حتى أسلمَ أو أسلمُ.

باب لن يدخل أحد الجنة بعمله، بل برحمة الله تعالى

باب لن يدخل أحد الجنة بعمله، بل برحمة الله تعالى الباب السابع عشر: لن يدخل أحد الجنة بعمله، بل برحمة الله تعالى. إن الذي يدخل النار إنما يدخلها بعمله، والذي يدخل الجنة إنما يدخلها برحمة الله، والعمل سبب في ذلك، الله تبارك وتعالى قبل أن يخلق الخلق علم أن من عباده من يدخل الجنة، ومن عباده من يدخل النار، ولذلك خلق الله تعالى الجنة وخلق النار، فجعل لأهل الجنة قسماً، وجعل لأهل النار قسماً. وقال: (يا أهل النار! خلود فلا موت، ويا أهل الجنة! خلود فلا موت). فالله عز وجل علم ذلك أزلاً، وأما العمل الذي يعمله الإنسان فلا يستحق به النعيم في الجنة، ولو قلت: أنا رجل أصلي وأصوم وأزكي وأعمل كل الطاعات، وأترك كل المعاصي، فنقول: إن العمل وحده لا يكفي لدخول الجنة. ولو عمِّر عبد ستين عاماً، وكتب الله تعالى له عبادة ستين عاماً منذ أن ولد وإلى أن مات، وأنه من أهل الطاعات، ولم يقترف ذنباً قط؛ فالمعادلة التي يعرفها الناس: أنه يتنعم ستين سنة ثم يخرج، حتى وإن خرج لا إلى نعيم ولا عذاب، وهذا الأصل، ولما يعمل شخص لك خدمة، فإنك ستعمل له أنت أيضاً خدمة، فإذا قال لك: أنا خدمتك، فإنك تقول له: وأنا أيضاً قد خدمتك، وانتهت القضية على هذا، لكن تصور لو أن عبداً كافراً نطق بالشهادتين ثم مات بعدها فوراً، ولم يدرك صلاة ولا صياماً ولا زكاة ولا حجاً ولا شيئاً من الطاعات مطلقاً، فإنه يدخل الجنة، ويتنعم فيها نعيماً أبدياً سرمدياً لا نهاية له، لأنه قال: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، ثم مات بعدها مباشرة، فهل كلمته هذه تساوي ذلك النعيم السرمدي الأبدي؟ A لا، لأن هذا العمل أو هذه الكلمة كانت سبباً في نجاته من النار ودخوله الجنة، وأما النعيم الذي يلقاه الإنسان في الجنة فهو فوق عناء الطاعة، وصبره على الامتناع عن المعاصي وغير ذلك، فهو مجرد سبب، وأما التنعم فهذا فضل الله تعالى.

لا يلزم من وجود السبب وجود المسبب

لا يلزم من وجود السبب وجود المسبب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحدٌ الجنة بعمله) أي: لا يستحق الجنة بمجرد العمل، والعمل سبب، والسبب قد يتخلف، ولكن فضل الله تبارك وتعالى هو الذي يعم عباده، والإنسان الذي يضع البذرة في الأرض لا يلزم من ذلك أن تنبت هذه البذرة، وربما تموت، والذي يميتها هو الله عز وجل، وربما تحيا، والذي يحييها هو الله عز وجل، فوضع البذرة في الأرض سبب في الإنبات والثمر، وليس وحده بكاف في وجود الثمر، لماذا؟ لأن الله تعالى إذا أراد أن يرزق عبده الثمر بغير بذر لفعل ذلك، فهو على كل شيء قدير سبحانه وتعالى. ولو أراد الله تعالى أن يرزقك الولد من غير زواج لفعل؛ لأنه على كل شيء قدير، ولو أراد الله تبارك وتعالى أن يشبعك بغير طعام، وأن يرويك بغير شراب لفعل، فهو مريد لذلك، وقادر عليه سبحانه وتعالى. ولذلك أحياناً الإنسان قد يأكل ولا يشبع، وقد يشرب الماء ولا يرتوي، وقد يرتوي ثم هو سرعان ما يشعر بأنه قد عطش مرة أخرى. إذاً: فالسبب قد يتخلف، فشخص يذاكر طوال السنة لأجل أن ينجح، لكن لا يلزم أن ينجح، مع أنه هنا قد حصل سبب النجاح والتفوق، فقد يمرض في ليلة من ليالي الامتحان، فيتخلف عن الامتحان، أو يذهب إلى الامتحان ولم يفتح عليه. وكذلك الإنجاب يحتاج إلى نكاح، ويحتاج إلى رجل وامرأة، ومع ذلك فالله تبارك وتعالى خلق آدم بلا أب ولا أم، وخلق حواء من غير امرأة، خلقها من ضلع آدم. وكذلك خلق الله تعالى عيسى من امرأة بغير نكاح ولا رجل، مع أن الأسباب لا بد منها، لكن ذلك ليس بلازم في قدرة الله عز وجل، فلا يدخل أحدنا عمله الجنة، وإنما العمل سبب لدخول الجنة. وعند الحاكم (أن رجلاً عبد الله خمسمائة سنة، فلما جيء به بين يدي الله قال: ادخلوا عبدي الجنة برحمتي، قال: بل بعملي يا رب!). فلما حصلت الموازنة بين نعمة الله عليه، وبين عبادته، وضعوا نعمة البصر فقط في كفة، والعبادة كلها في كفة ثانية؛ طاشت هذه العبادة، وغلبتها وثقلت بها نعمة واحدة من نعم الله وهي نعمة البصر، ثم إن الذي قوى ذلك على العبادة هو الله عز وجل، فلا منة على الله، {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17].

شرح حديث: (لن ينجي أحدا منكم عمله)

شرح حديث: (لن ينجي أحداً منكم عمله) قال: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث عن بكير -وهو بكير بن عبد الله الأشج - عن بسر بن سعيد المدني العابد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لن ينجي أحداً منكم عمله، قال رجل: ولا إياك يا رسول الله؟! قال: ولا إياي! إلا أن يتغمدني الله منه برحمة، ولكن سددوا)]. يعني: إذا لم تبلغوا الكمال في العبادة فلا أقل من أن تقتربوا منه؛ ولذلك جاء في رواية: [(فسددوا وقاربوا)]. والسداد هو سداد التوفيق، أو قمة التوفيق في العبادة، يعني: احرصوا على أن تبلغوا أعلى درجات الكمال في العبادة والعلم والعمل، فإن لم تبلغوا هذه المرتبة؛ فلا أقل من أن تجتهدوا في الوصول إليها. قال: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أحد يدخله عمله الجنة، فقيل: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا! إلا أن يتغمدني ربي برحمته)]. معنى (يتغمدني) أي: يعمني ويشملني برحمة منه وفضل ومغفرة كما في روايات مختلفة، وفي رواية: [(إلا أن يتغمدني الله منه بمغفرة ورحمة)]. [وقال ابن عون بيده هكذا وأشار على رأسه (ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله منه بمغفرة ورحمة)]. أي: يعمني، وأشار إلى رأسه للدلالة على أن المغفرة والرحمة تعم جميع البدن. وفي رواية: [(ليس أحد ينجيه عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا! إلا أن يتداركني الله منه برحمة)]. ومعظم الروايات هي كهذه الرواية، وفي رواية بالزيادة [(ولكن سددوا وقاربوا، وأبشروا)]، (سددوا) أي: ابلغوا السداد، فإن لم تستطيعوا فلا أقل من أن تقتربوا منه، وإذا بلغتم مرحلة السداد أو الاقتراب من السداد؛ فأبشروا برحمة من الله وفضل. قال: [وعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يدخل أحداً منكم عمله الجنة، ولا يجيره من النار، قال: ولا أنا إلا برحمة من الله). وفي حديث عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها كانت تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سددوا وقاربوا وأبشروا، فإنه لن يدخل الجنة أحداً عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا! إلا أن يتغمدني الله منه برحمة، واعلموا أن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل) -أي: الذي يديم عليه صاحبه- وفي رواية: (أحب العمل إلى الله ما ديم عليه)] أي: ما داوم عليه صاحبه وإن كان قليلاً. وماذا ينفعك عملك طول الليل وأنت قائم تصلي، أو تقرأ القرآن، وقبيل الفجر غلبك النوم فنمت؟ وأي الأعمال أحب إلى الله: أن تنام ثم تقوم فتدرك الفجر وهو الفرض، أو أن تصلي النافلة على هذه الشاكلة، وعلى هذا النحو حتى يفوتك الفرض؟ فأحب الأعمال إلى الله العبادة، والاقتصاد في العبادة لا يقال إلا للمجتهد الذي أنهك نفسه. فالذي يصلي ركعتين فقط يومياً في قيام ليل، والوتر بعد ذلك، ويداوم على ذلك؛ فهذا أحب إلى الله عز وجل من إنسان يصلي إحدى عشرة ركعة في ليلة، ويترك الصلاة لمدة أسبوع أو شهر، فالأول مداوم وإن كان عمله قليلاً، فهو أحب إلى الله تعالى.

اتخاذ الأسباب المعينة على الشيء وقدح ترك الأسباب في التوحيد

اتخاذ الأسباب المعينة على الشيء وقدح ترك الأسباب في التوحيد والإنسان عندما يتخذ الأسباب المعينة لصلاة الفجر، ومع هذا يغلبه شيطانه، أو يغلبه النوم؛ فلا حرج عليه حينئذ، لكن يحصل هذا من المرء مرة، أو مرتين، أو ثلاث مرات، وأما الذي يسترسل فهو مخطئ. وهذا الحديث يبين أن العمل ما هو إلا سبب لدخول الجنة، لكن في حقيقة الأمر: ليس هذا السبب كفيلاً بدخول الجنة، والله تعالى هو الذي جعله سبباً لدخول الجنة، كما جعل العمل السيئ سبباً لدخول النار. والعلماء يقولون: إن الاعتماد على الأسباب شرك، وترك الأسباب قدح في التوحيد. فالذي يقول: أنا أريد ولداً، يقال له: تزوج، فيقول: لا أريد أن أتزوج، فربنا قادر على أن يأتي لي بولد من غير أن أتزوج، يقال له: هذا كلام صحيح، ونحن نؤمن معك على أن الله تعالى قادر على ذلك، بل على ما هو أعز وأصعب من ذلك، فلو أراد الله تبارك وتعالى أن يجمع الدنيا والآخرة فيجعلها في هذا الكأس لفعل، وهذا هو التوحيد، لكن الله تبارك وتعالى بين لنا أنه لا يفعل ذلك، مع أنه الذي قضى في كتابه أنه على كل شيء قدير. وكلمة: (شيء) تفيد العموم، فالدنيا شيء، والآخرة شيء، والجنة شيء، والنار شيء، فلو أراد الله جمع ذلك كله في أقل من هذا الكأس لفعل. فإذا قال شخص: أنا عملت العمل الفلاني، ولا بد أن تكون نتيجته كذا، فهذا كلام غير صحيح؛ لأن المرء يتزوج ولا ينجب، مع أن الزواج هو السبب الموصل إلى الإنجاب وإلى الولد، ولا يلزم منه الولد، فقد تصبح المرأة عقيمة أو الرجل عقيماً، أو لا عقم عند الرجل ولا عند المرأة لكن لا ولد، مع أن المرأة لا شيء فيها يمنع من الحمل، والرجل لا بأس فيه، إذاً: السبب قائم، ونتائجه غير لازمة. وقد تكون المرأة عندها عقم، ومع هذا لما طلقت من هذا وتزوجت بآخر أنجبت، مع أن العلة كانت عندها. إذاً: فالاعتماد على الأسباب شرك بالله عز وجل، وترك الأسباب قدح في التوحيد.

ثبوت الثواب والعقاب بالعقل وعدمه وخلاف أهل السنة مع المعتزلة

ثبوت الثواب والعقاب بالعقل وعدمه وخلاف أهل السنة مع المعتزلة والإمام النووي يقول: اعلم أن مذهب أهل السنة أنه لا يثبت بالعقل ثواب ولا عقاب، ولا إيجاب ولا تحريم. فالثواب والعقاب، والجنة والنار، والواجب والمحرم، والمكروه وغير ذلك، يثبت عند المعتزلة بالعقل، فما حرمه العقل فهو الحرام، وما أحله العقل فهو الحلال، وما أوجبه العقل فهو الواجب، وما أباحه العقل فهو المباح، لأن العقل عند المعتزلة قاض وحاكم على النص، فالعقل أصل والنص فرع. وأما أهل السنة والجماعة فليسوا كذلك، فالثواب عندهم لا يثبت إلا بنص، فالنص عندهم هو الأصل، ولا بد أن يتمشى العقل مع النص، وإذا حصل خلل وعدم توافق واتزان بين العقل والنص فالعلة في أحد أمرين لا ثالث لهما: إما أن النص غير ثابت، وإما أن العقل لم يدرك مراد الله تعالى بالنص، والعقل قاصر، فإذا أدرك معنى هذا النص؛ فربما عجز عن إدراك المراد من النص الثاني، وغير ذلك. فالإمام النووي يقول: اعلم أن مذهب أهل السنة أنه لا يثبت بالعقل ثواب ولا عقاب، ولا إيجاب ولا تحريم، ولا غيرهما من أنواع التكليف، ولا تثبت هذه كلها ولا غيرها إلا بالشرع. والشرع عبارة عن: قال الله قال رسوله، وقد أجمع أهل العلم على أن أدلة الشرع هي: القرآن والسنة والإجماع. ومذهب أهل السنة والجماعة أيضاًَ أن الله تعالى لا يجب عليه شيء، تعالى الله عن ذلك، خلافاً للمعتزلة فهم يقولون: بل هذا واجب على الله، ويستدلون بحديث معاذ بن جبل الذي يقول فيه: (أتدري ما حق الله على العباد؟ حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً)، وهذا حق. ثم قال: (أتدري ما حق العباد على الله إذا هم فعلوا ذلك؟ أن يدخلهم الجنة). فالمعتزلة يقولون: إذا وحد العبد ربه؛ يجب على الله أن يدخله الجنة. فهم يوجبون على الله عز وجل، وأما أهل السنة فلا يقولون بهذا الوجوب، بل يقولون: لا يحل لعبد أن يوجب على الله تعالى شيئاً، وأما قضية أن الله أوجب على نفسه ذلك فهذه قضية ثانية، ولذلك يقول: (أتدري ما حق العباد على الله إذا هم فعلوا ذلك؟). والذي أثبت هذا الحق على نفسه هو الله عز وجل، وأما المعتزلة فيقولون: للعبد أن يوجب على الله تعالى ما هو الأصلح. وهذه المسألة محل نزاع عند المعتزلة، هل يجب على الله الصالح أم الأصلح؟ فقوله عليه الصلاة والسلام: (ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت حسنة، وإن عملها كتبت سيئة)، وأما إذا عمل حسنة فله عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف. فالمعتزلة يقولون: العشر حسنات في مقابل الحسنة هذا صالح، لكن الأصلح منه: سبعمائة، وإذا كانت الحسنات للحسنة التي عملها العبد تتراوح ما بين عشر وسبعين؛ فيجب على الله تعالى أن يعطيه السبعين؛ لأن السبعين هي الأصلح للعبد. والذي قرره ربنا في باب الحسنات: أن الحسنة هي الحسنة نفسها، لكن ربنا جعل أدناها عشراً، والله تبارك وتعالى بعدله جعل السيئة بسيئة. وأيضاً تفضل على عبده أنه إذا هم بها فلم يعملها؛ كتبت له حسنة، مع أنه في باب المباح لا له ولا عليه، ومع هذا تمنن الله تبارك وتعالى وتحبب إليه بأن جعل ذلك له حسنة مع أنه لم يعملها. فقول المعتزلة بوجوب الأصلح على الله عز وجل؛ يلزم منه أن يعطي في مقابل الحسنة سبعمائة حسنة، ومذهب أهل السنة أن الله تعالى لا يجب عليه شيء تعالى الله عن ذلك، بل العالم ملكه، والدنيا والآخرة في سلطانه، يفعل فيهما ما يشاء، فلو عذب المطيعين والصالحين أجمعين وأدخلهم النار؛ كان عدلاً منه، وإذا أكرمهم ونعَّمهم وأدخلهم الجنة؛ فهو فضل منه، وإن عذبهم فليس بظالم لهم، ولو نعم الكافرين وأدخلهم الجنة كان له ذلك؛ لأنه ملكه، يفعل فيه ما يشاء، ولكنه أخبر -وخبره الصدق- أنه لا يفعل ذلك. فعندما يأتي شخص ويقول: أليس في ملك ربنا يوم القيامة أن يتوب على الكافرين ويدخلهم الجنة؟ A نعم بيده ذلك؛ لأن الملك ملكه، فهو بيده كل شيء يفعل ما يشاء سبحانه وتعالى، لكن الله تبارك وتعالى الذي بيده كل شيء هو الذي أخبر أنه لا يغفر لهؤلاء، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]. فما دون الشرك كالكبائر والصغائر والبدع ما لم تبلغ مرحلة الكفر، فكل ذلك في مشيئة الله تعالى، فإن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم، وأما الشرك فإن الله تعالى قضى في كتابه، وأخبر رسوله في سنته أنه لا يغفره ألبتة، مع أنه بإمكانه أن يغفره كبقية الذنوب، لكن الله تعالى استثناه من عموم المغفرة، فالأخبار تحتاج منا إلى تصديق، والآيات تحتاج منا إلى تنفيذ وعمل، فالله تعالى أخبر أنه لا يغفر للمشرك؛ فيجب علينا تصديق ذلك الخبر. ولو أنعم على الكافرين وأدخلهم الجنة كان له ذلك، ولكنه أخبر -وخبره صدق- أنه لا يفعل هذا، بل يغفر للمؤمنين ويدخلهم الجنة برحمته، ويعذب المنافقين والكفار ويخلدهم في النار؛ عدلاً منه سبحانه. وأما المعتزلة فيثبتون الأحكام بالعقل لا بالشرع، هذا واجب

باب الإكثار من الأعمال والاجتهاد في العبادة

باب الإكثار من الأعمال والاجتهاد في العبادة باب: إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة. قال: [عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى حتى انتفخت قدماه)، وفي رواية: (تورمت قدماه)]، وفي رواية: [(انفطرت أو تفطرت قدماه)]. ومعنى: (تفطرت)، أي: تشققت بسبب طول العبادة، صلى الله عليه وسلم. [(فقيل له: أتكلف هذا)]، يعني: لم تتكلف هذا؟ [(وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً)]. يعني: ألا أقابل نعم الله تعالى علي بالشكر والحمد! [وعن المغيرة قال: (قام النبي صلى الله عليه وسلم حتى ورمت قدماه، قالوا: قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر! قال: أفلا أكون عبداً شكوراً). وعن عائشة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام حتى تفطر رجلاه، قالت عائشة: يا رسول الله! أتصنع هذا وقد غُفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فقال: يا عائشة، أفلا أكون عبداً شكوراً)]. قال القاضي عياض: الشكر: معرفة إحسان المحسن، والتحدث به، يعني: أنت أحسنت إلي؛ فمن باب شكري لك على هذا الإحسان أن أذكر هذا الإحسان للناس، فالتحدث بإحسان المحسنين من أبواب الشكر، وسميت المجازاة على فعل الجميل شكراً؛ لأنها تتضمن الثناء عليه، وشكر العبد لله تعالى: هو اعترافه بنعمه، وثناؤه عليه، وتمام مواظبته على طاعته. وأما شكر الله تعالى لأفعال عباده، ولعبادة العباد فذلك بأن يجازيهم عليها إحساناً ومعروفاً وتوفيقاً وسداداً، وأن يضاعف لهم الثواب، وأن يثني عليهم بما أنعم عليهم؛ لأن الله تعالى هو المعطي سبحانه، والشكور من أسماء الله سبحانه وتعالى.

باب الاقتصاد في الموعظة

باب الاقتصاد في الموعظة باب الاقتصاد في الموعظة. قال: [عن شقيق أبي وائل الكوفي قال: (كنا جلوساً عند باب عبد الله ننتظره، فمر بنا يزيد بن معاوية النخعي، فقلنا: أعلمه بمكاننا)]، يعني: أخبره أننا في الخارج ننتظره، [(فدخل عليه فلم يلبث أن خرج علينا عبد الله فقال: إني أخبر بمكانكم)]. أي: أنا عارف أنكم قاعدين تنتظروني، وكانوا يتأدبون مع المشايخ، وينتظرون في الخارج إلى أن يخرج إليهم، من دون أذية أو مناداة أو طرق للأبواب. قال: [(فما يمنعني أن أخرج إليكم إلا كراهية أن أملكم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتخولنا بالموعظة في الأيام مخافة السآمة علينا)]. يعني: مخافة أن نسأم وأن نمل، وفي رواية عن شقيق أبي وائل قال: [(كان عبد الله يذكرنا كل يوم خميس)]. ومن غفلة الصالحين في هذه الأيام: أن بعض إخواننا من الزهاد والعباد يقولون: أي موعظة في غير يوم الخميس بدعة؛ لأن عبد الله بن مسعود كان لا يذكر قومه إلا يوم الخميس، قلت: هذا مما اتفق للناس، ولا يوجد نص أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يذكر أصحابه إلا يوم الخميس، قالوا: عبد الله بن مسعود كان من ألزم الناس لسنة رسول الله، فقلت: هل هذا الكلام غير مقبول أبداً. قال: [(كان عبد الله يذكرنا كل يوم خميس، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن! إنا نحب حديثك ونشتهيه -يعني: نريد أن نسمع منك في كل وقت- ولوددنا أنك حدثتنا كل يوم، فقال: ما يمنعني أن أحدثكم إلا كراهية أن أملكم -أي: حتى لا تملوا كلامي- إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتخولنا بالموعظة -يعني: يجعلها كل فترة- في الأيام؛ كراهية السآمة علينا)].

كتاب الحدود - حد السرقة ونصابها

شرح صحيح مسلم - كتاب الحدود - حد السرقة ونصابها لقد جاء الإسلام باحترام المال وملكية الأفراد، فحرم الاعتداء على مال الغير، وشرع الحدود، ومنها حد السرقة، فأمر بقطع يد السارق، ولكنه لم يترك الأمر على إطلاقه دون شرط أو قيد، بل لابد من توافر شروط في السارق والمسروق لإقامة حد القطع، فبين تلك الشروط ووضحها، ثم أناط تنفيذ الحد بالحاكم وولي الأمر لتحقيق الحفاظ على أموال الناس والحياة الهادئة المطمئنة.

باب حد السرقة ونصابها

باب حد السرقة ونصابها بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وبعد: فمع كتاب جديد وهو كتاب الحدود.

تعريف الحد

تعريف الحد والحدود: جمع حد. والحد في الأصل: هو الشيء الحاجز بين شيئين، تقول: بنيت السور حداً بين أرضي وأرض فلان. أي: فاصلاً بين أرضي وأرض فلان. ويقال: الحد: هو ما ميز الشيء عن غيره. والمعنى واحد، ومنه حدود الدار، وحدود الأرض، وغير ذلك. أي: أن الدار يحدها من جهة الشرق كذا، ومن جهة الغرب كذا، ومن جهة الشمال كذا، ومن جهة الجنوب كذا، فهذه حدود الدار، وكذلك الأرض وغير ذلك. وهو في اللغة بمعنى: المنع. ونحن دائماً نقول في المصطلحات الشرعية: لها معنىً لغوي ومعنى شرعي، ونقول: شرعي أو اصطلاحي، وفي الغالب بين المعنيين ارتباط وثيق. فالحد في اللغة بمعنى: المنع، وسميت عقوبات المعاصي حدوداً؛ لأنها في الغالب تمنع العاصي من العود إلى تلك المعصية التي حد لأجلها، كما يطلق الحد على نفس المعصية ونفس الجريمة ونفس الكبيرة أحياناً فنقول: الخمر حد، والسرقة حد، والزنا حد، كما قال الله تعالى بعد أن عدد هذه الكبائر: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [البقرة:230] مع أنها ليست حداً، وهذا من باب إطلاق اللازم على لازمه. والحد في الشرع: هو عقوبة مقررة لأجل حق الله عز وجل. فيخرج بذلك التعزير؛ لأن الفارق بين الحد والتعزير كبير. قال المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب الحدود باب حد السرقة ونصابها]. فبدأ بذكر السرقة ونصابها. أي: النصاب اللازم لاعتبار أن هذه الجريمة سرقة من عدمها.

الأحاديث الواردة في قطع يد السارق في ربع دينار فأكثر

الأحاديث الواردة في قطع يد السارق في ربع دينار فأكثر قال: [حدثنا يحيى بن يحيى وإسحاق بن إبراهيم وابن أبي عمر - محمد بن يحيى العدني - واللفظ لـ يحيى قال ابن أبي عمر: حدثنا، وقال الآخران: أخبرنا سفيان بن عيينة - عن الزهري عن عمرة] وهي بنت عبد الرحمن الأنصارية المدنية تلميذة وخريجة عائشة رضي الله عنها، تروي عن أستاذتها عائشة بنت الصديق رضي الله عنها. [قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع السارق في ربع دينار فصاعداً)]. أي: تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً. يعني: لم يثبت عنه عليه الصلاة والسلام بنص صحيح أنه أقام الحد على من سرق أقل من ربع دينار، ولذلك شتان ما بين هذا النص وبين قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا) هذا الأسلوب يستلزم الحصر وهو من أساليب البيان عند اللغويين، قال: (لا يقطع إلا في ربع دينار) (لا) و (إلا) كما لو قلت: لا إله إلا الله، (لا) نفي لجميع الآلهة، (إلا) إثبات لإله واحد. فقوله: (لا قطع إلا في ربع دينار) يستلزم أنه يحرم القطع في أقل من ربع دينار، فهذا أسلوب حصر لأدنى نصاب السرقة التي تستوجب الحد. والذي يسرق البيضة الصغيرة يقال له: سارق. والذي يسرق السواك الذي لا قيمة له يقال له: سارق، لكن لا يقام عليهما الحد؛ لأن هذه السرقة ليست في شيء ذي بال وليس لها كبير قيمة حتى في العرف، فالذي يسرق البيضة والذي يسرق السواك والذي يسرق الورقة الواحدة أو عدة أوراق أو غير ذلك من الأشياء التافهة إنما يعزر ولا يقام عليه الحد. ولك أن تفهم من هذا الكلام: أن ما لم يبلغ النصاب فيه التعزير دون الحد. قال: [وحدثنا إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد قالا: أخبرنا عبد الرزاق -وهو ابن همام الصنعاني اليمني - قال: أخبرنا معمر -وهو ابن راشد البصري اليمني -. وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة -أي: عبد الله الكوفي - قال: حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا سليمان بن كثير - وهو أبو داود العبدي البصري - وإبراهيم بن سعد المدني كلهم يروون عن الزهري]-أي: معمر وسليمان بن كثير وإبراهيم بن سعد يروون عن الزهري قال: [بمثله في هذا الإسناد] أي: بمثل الحديث الماضي من قول عائشة: (كان النبي عليه الصلاة والسلام يقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً). تخبر بلسانها عن فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه كان عليه الصلاة والسلام يفعل كذا وكذا. ولكن النص الذي سيأتي معنا هو نص من قوله عليه الصلاة والسلام، لا من قول أحد، ولا من قول زوجه حكاية عنه عليه الصلاة والسلام قولاً أو فعلاً. قال: [وحدثني أبو الطاهر وحرملة بن يحيى. وحدثنا الوليد بن شجاع -واللفظ للوليد وحرملة - قالوا: حدثنا ابن وهب - عبد الله بن وهب المصري - أخبرني يونس عن ابن شهاب. ويونس إذا كان بين ابن وهب وابن شهاب فإنه يونس بن يزيد الأيلي. قال: [عن عروة وعمرة -أي عن عروة بن الزبير وعمرة بنت عبد الرحمن - عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال] يصير هذا الحديث من قوله عليه الصلاة والسلام، بخلاف الحديث الأول فإنه حكاية عن النبي عليه الصلاة والسلام من لفظ عائشة رضي الله عنها. [قال: (لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً)] بخلاف اللفظ الأول قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع السارق في ربع دينار فصاعداً) حكاية تحكيها عن النبي عليه الصلاة والسلام من فعله. أما الحديث الذي معنا فإنه من قوله عليه الصلاة والسلام، كأنه يأمر الأمة فيقول: لا تقطعوا يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً. أي: لا تقطعوا يد السارق إلا إذا سرق ربع دينار أو ما يوازيه ويساويه من الأشياء المتقيمة والمتمولة. قال: [وحدثني أبو الطاهر وهارون بن سعيد الأيلي وأحمد بن عيسى -واللفظ لـ هارون وأحمد - قال أبو الطاهر: أخبرنا، وقال الآخران: حدثنا ابن وهب -أخبرني مخرمة عن أبيه-] ومخرمة هو ابن ب

شرح حديث: (لم تقطع يد السارق في عهد رسول الله في أقل من ثمن المجن)

شرح حديث: (لم تقطع يد السارق في عهد رسول الله في أقل من ثمن المجن) قال: [وحدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي عن هشام بن عروة عن أبيه عروة بن الزبير عن عائشة قالت: (لم تقطع يد السارق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في أقل من ثمن المجن)]. أي: لم تقطع يد سارق في زمن النبوة في أقل من ثمن المجن. والمجن: هو اسم لكل ما يمكن أن يستتر به مستتر، كالخوذة والدرع والحجفة أو الترس الذي يتترس به المرء، وكل هذه من أدوات القتال والحرب، وهي أسماء لبعض عدد الحرب سواء كانت المجن أو الحجفة أو الترس أو الخوذة أو الدرع أو غير ذلك، فلم تقطع يد سارق في زمن النبي عليه الصلاة والسلام في أقل من ثمن المجن الذي يستتر به المرء. قال: [(حجفة أو ترس، وكلاهما ذو ثمن)] فالحجفة والترس كلاهما ذو ثمن، يعني: متقوم، متمول. يعني: له قيمة مالية تقدر بربع دينار فصاعداً. فالنبي عليه الصلاة والسلام لم يقطع يد السارق الذي سرق ربع دينار أمراً لازماً، وإنما يقطع يد من يسرق ربع دينار أو ما يعادله من أشياء أخرى، لكن لا بد أن تكون هذه الأشياء متقومة أو متمولة وليست مما حرمها الله عز وجل. قال: [وحدثنا عثمان بن أبي شيبة أخبرنا عبدة بن سليمان وحميد بن عبد الرحمن. وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الرحيم بن سليمان -وهو الكناني أبو علي الشامي المروزي نزيل الكوفة- وحدثنا أبو كريب - محمد بن العلاء الهمداني - حدثنا أبو أسامة -وهو حماد بن أسامة - كلهم عن هشام -وهو هشام بن عروة الذي يروي عن أبيه عن عائشة بهذا الإسناد- أي بالإسناد السابق. وفي حديث عبد الرحيم وأبي أسامة قالا: (وهو يومئذ ذو ثمن)] أي: هذا المجن كان في زمن النبي عليه الصلاة والسلام ذو ثمن. يعني: له قيمة.

شرح حديث القطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم

شرح حديث القطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم قال: [حدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك -وهو مالك بن أبي عمرو الأصبحي الإمام الفقيه المعروف سيد أهل المدينة في زمانه- عن نافع -وهو نافع الفقيه مولى ابن عمر - عن ابن عمر: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع سارقاً في مجن قيمته ثلاثة دراهم)] والدينار: اثنا عشر درهماً. قال: [وحدثنا قتيبة بن سعيد وابن رمح عن الليث بن سعد. وحدثنا زهير بن حرب وابن المثنى قالا: حدثنا يحيى القطان. وحدثنا ابن نمير قال: حدثنا أبي - عبد الله بن نمير - وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا علي بن مسهر. كلهم عن عبيد الله]. يعني: هؤلاء الأربعة يروون عن عبيد الله، وهو ابن عمر العمري الإمام الكبير أحد الفقهاء السبعة في المدينة. قال: [وحدثني زهير بن حرب حدثنا إسماعيل -يعني: ابن علية وهذا الأول- وحدثنا أبو الربيع وأبو كامل قالا: حدثنا حماد -وهذا الثاني- وحدثني محمد بن رافع قال: حدثنا عبد الرزاق أخبرنا سفيان عن أيوب السختياني وأيوب بن موسى وإسماعيل بن أمية - أيوب وأيوب وإسماعيل - وحدثني عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي أخبرنا أبو نعيم - وهو الفضل بن دكين الكوفي - قال: حدثنا سفيان - وهو الثوري - عن أيوب بن أبي تميمة السختياني وإسماعيل بن أمية وعبيد الله وموسى بن عقبة. وحدثنا محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج أخبرني إسماعيل بن أمية. وحدثني أبو الطاهر أخبرنا ابن وهب عن حنظلة بن أبي سفيان الجمحي وعبيد الله بن عمر ومالك بن أنس وأسامة بن زيد الليثي كلهم عن نافع]. كل هؤلاء -حوالي عشرة- يروون عن نافع ابتداءً من أول ما وقفنا عند عبيد الله بن عمر العمري، وانتهاءً بما انتهى به كل إسناد حتى آخر إسناد، فإنهم جميعاً يروون عن نافع مولى ابن عمر. قال: [عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديث يحيى بن يحيى عن مالك] الإسناد المتقدم، غير أن بعضهم قال: (قيمته) وبعضهم قال: (ثمنه ثلاثة دراهم).

شرح حديث لعن السارق

شرح حديث لعن السارق قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالا: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده)]. (لعن الله السارق) ونحن نعلم أن من علامات الكبائر: اللعن، فإذا أتى نص يلعن فاعلاً فعل شيئاً فهذا يدل على أن هذا الفعل كبيرة، سواء استلزم هذا الفعل إقامة الحد أم لم يستلزم، فقال عليه الصلاة والسلام: (لعن الله السارق). ماذا يسرق؟ قال: (يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده). والإسناد الثاني يقول: [حدثنا عمرو الناقد وإسحاق بن إبراهيم وعلي بن خشرم كلهم عن عيسى بن يونس - وهو ابن أبي إسحاق السبيعي - عن الأعمش بهذا الإسناد مثله، غير أنه يقول: (إن سرق حبلاً وإن سرق بيضة)] يعني: لعن الله السارق إن سرق بيضة أو إن سرق حبلاً، والمعلوم أن البيضة والحبل لا يساويان ربع دينار. وهذه الأموال المذكورة في النصوص مردها إلى أصل الصرف في لغة العرب وهما الذهب والفضة. يعني: إذا ذكرت النصوص القرآنية أو النبوية مثل هذه الأموال كالدينار والدرهم وغيرها مما هو معروف أنه مال فإنما المقصود والمراد بذلك: الذهب والفضة، فالمقصود بالدينار: الدينار الذهب، والمقصود بالدرهم: الدرهم الفضة. هكذا أجمع أهل العلم على ذلك؛ لأنهما أصل الصرف في لغة الشرع. وقد سمعت أحد العلماء المتخصصين في علوم الشرع -صنف رسالة عظيمة جداً في المكاييل والمعايير والموازين والمسافات وغير ذلك، وهي رسالة سديدة في بابها- سمعته يقول: الدينار حوالي (160) جنيهاً، وعلى ذلك يكون القطع في (40) جنيهاً فلو زدنا قليلاً يصير (50) جنيهاً. إذاً: هل يصح القطع في أقل من خمسين؟ A لا. وإنما يجب القطع إذا بلغ السلطان في خمسين وما زاد على ذلك، هذا إذا كان الجنيه المصري له قيمة الآن، لكن على أية حال هذه المسألة مردها إلى معرفة عين المال وقيمة المال في العرف.

الجمع بين حديث: (لعن الله السارق) والنهي عن اللعن

الجمع بين حديث: (لعن الله السارق) والنهي عن اللعن الحديث الأخير يقول: [(لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده)]. هذا الحديث فيه مبحثان: الأول: مسألة اللعن، وقد وردت نصوص كثيرة جداً بإثبات اللعن، كما وردت أيضاً نصوص كثيرة جداً بالنهي عن اللعن، فكان لابد من الجمع بين النصين لوجود التعارض بينهما: نص يأمر باللعن أو يلعن ونص آخر ينهى عن اللعن، فما هو التوفيق وما هو السداد في هذا؟ قال أهل العلم في الجمع بين ذلك: لا بأس بلعن معين، فإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله السارق) فهذا يعني: جواز لعن السارق بعينه إذا سرق. وهذا الرأي إن لم يكن مرجوحاً فهو ضعيف. والمذهب الحق -وهو ما عليه جمهور أهل السنة- أن لعن المعين لا يصح ولا يجوز، فلا يجوز أن أقول: لعن الله زيداً لأنه سرق، وإنما أقول: لعنة الله على السارق، لعنة الله على الظالم، لعنة الله على الفاسق، وغير ذلك مما هو لعن للوصف لا للفرد، فقولي: لعنة الله على الظالمين لعن للوصف، لكني لو قلت: لعن الله فلاناً لأنه ظالم فهذا لعن للفرد. ولعن الكافر فيه نزاع بين أهل العلم، والإمام النووي نقل مذهب كثير من العلماء: أنه لا يجوز لعنه إلا إذا مات على الكفر؛ لأن اللعن هو الطرد من رحمة الله عز وجل، وربما إذا لعنت الكافر دخل في الإسلام فكنت أنت في مأزق، لكنك لو قلت: لعن الله الكافرين؛ لكان هذا أولى وأحوط؛ ولذلك قال الإمام النووي في قوله عليه الصلاة والسلام: (لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده) قال: هذا دليل جواز لعن غير المعين من العصاة. إذاً: لعن المعين لا يجوز، فإذا كان في هذا الحديث جواز لعن غير المعين من العصاة، فمفهوم المخالفة منه أيضاً: أنه لا يجوز لعن المعين من العصاة؛ لأن لعن غير المعين من العصاة هو لعن للجنس لا للمعين، كما قال الله عز وجل: {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18] فهذا لعن لجنس الظالمين، وليس لظالم معين بذاته، وأما المعين فلا يجوز لعنه. قال القاضي: وأجاز بعضهم لعن المعين ما لم يحد -أي: ما لم يقم عليه الحد- فإذا حد لم يجز لعنه، فإن الحدود كفارات لأهلها. قال القاضي: وهذا التأويل باطل للأحاديث الصحيحة في النهي عن اللعن، فيجب حمل النهي على المعين ليجمع بين الأحاديث. إذاً: يجوز لعن الصفة لا لعن الموصوف. والأصل: أن القول مقدم على الفعل، فقوله عليه الصلاة والسلام مقدم على فعله لكن هذا عند الخلاف، فإذا وقع خلاف بين قوله وبين فعله عليه الصلاة والسلام فمع وجود الترجيح يقدم القول؛ لأن القول أمر أو نهي للأمة. أما إذا لم يكن هناك اختلاف فقد جرت عادة المصنفين على تقديم القول أو تقديم الفعل كلاهما سواء، ولا خلاف هنا، لكن لفظ النبوة أضبط؛ لأنه أحصر لمسائل الباب من قول عائشة رضي الله عنها؛ فهي حكت فعله وهو وجه أمره أو نهيه للأمة، فلا خلاف بين النصين.

معنى قوله في الحديث: (يسرق البيضة) (أو يسرق الحبل) وتأويل ذلك

معنى قوله في الحديث: (يسرق البيضة) (أو يسرق الحبل) وتأويل ذلك المبحث الثاني في هذا الحديث قوله: (يسرق البيضة فتقطع يده، أو يسرق الحبل فتقطع يده). في الحقيقة أن البيضة لا يبلغ ثمنها ثلاثة دراهم وكذلك الحبل، فكيف يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يسرق البيضة فتقطع يده)؟ هناك تأويلات. قالوا: المراد بها: بيضة الحديد، وحبل السفينة وكل واحد منهما يساوي أكثر من ربع دينار، وبيضة الحديد هي الدرع الذي يتخذه المجاهد للدفاع عن نفسه، يقال: فلان حمته بيضته. يعني: درعه الذي يتوقى به الضربات. ونقول: فلان استأصل بيضة فلان. أي: ضربه حتى أخذ منه عدة سلاحه، فقوله: (يسرق البيضة) أي: بيضة الحديد، وهي تبلغ أكثر من ثلاثة دراهم. وكذلك حبل السفينة وهو الحبل العظيم الذي تربط به السفينة في مرساها، لكن المحققين أنكروا هذا التأويل وضعفوه وقالوا: بيضة الحديد وحبل السفينة لهما قيمة ظاهرة، وليس هذا السياق موضع استعمال القيمة الظاهرة، لأنه بداهة كما أقول: لعن الله السارق يسرق البقرة فتقطع يده، فمن المعلوم أن البقرة لها قيمة أكثر من ربع دينار بل أكثر من دنانير كثيرة، فالنص إنما ورد للزجر الشديد عن أن تمتد اليد إلى غير مالها وإن دق أو قل، فلا يستوي أن يكون هذا الزجر مع الشيء الذي له قيمة ظاهرة كحبل السفينة وبيضة الحديد. هكذا قال المحققون. وقالوا: بل بلاغة الكلام تأباه؛ لأنه لا يذم في العادة من خاطر بيده في شيء له قدر وإنما يذم من خاطر بها فيما لا قدر له، فهذا موضع تقليل لا تكثير. وقد يعمل الإنسان عملاً صغيراً في نظر العرف وهو عند الله عظيم، وقد يعرض نفسه لعذاب مهين بسبب عود من أراك، أو شملة غلها من الغنيمة قبل أن توزع، أو عباءة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (كلا والذي نفس محمد بيده، إني لأرى الشملة تشتعل عليه ناراً) مع أنه كان مجاهداً وكان معرضاً نفسه للقتل في ساحة الوغى، لكن نفسه الضعيفة في لحظة غفلة أمرته أن يأخذ عباءة من الغنائم قبل أن توزع فمنعته هذه العباءة رغم رداءتها وقلة نفاستها أن يكون مع أول الداخلين إلى الجنة، وكانت سبباً في تعذيبه وهلاكه؛ ولذلك قال الصحابة: (إنه في الجنة)، وأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك لحسن ظنهم في أخيهم، فقالوا كان خادماً للنبي عليه الصلاة والسلام ومولى له: (إن مولىً لرسول الله استشهد فدخل الجنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا، إنه قد غل شملة وإني لأراها الآن تشتعل عليه ناراً) سبحان الله! رداء حقير، ومع هذا يشتعل عليه ناراً. وكذلك السارق يعرض نفسه إلى قطع يده في شيء ليس محل استنكار العرف، وهناك من يعرض نفسه للهلاك أو القتل أو الرجم أو غير ذلك بسبب شيء تافه، ولا شك أن الشيء الكبير محل ذم، لكن القليل الذي يعرض صاحبه للحد أكثر ذماً، والله أعلم. قال الإمام النووي: (الصواب أن المراد: التنبيه على عظم ما خسر -وهي يده- في مقابلة حقير من المال وهو ربع دينار، فإنه يشارك البيضة والحبل في الحقارة). فالبيضة في وسط البيض شيء حقير، والحبل في وسط الحبال شيء حقير، كذلك الربع دينار في وسط الدنانير شيء حقير. هذا تأويل. قال: (أو أراد جنس البيض وجنس الحبل). فالذي يسرق بيضة إن تيسر له أن يسرق بيضاً سرق، والذي يسرق الحبل إن تيسر له أن يسرق حبالاً سرق، فأطلق النبي صلى الله عليه وسلم الجزء وأراد الكل بإرادة الجنس لا إرادة هذا الشيء المذكور، فقوله: (يسرق البيضة) أي: جنس البيض. وقوله: (يسرق الحبل) أي: جنس الحبل، فيحد حينما يسرق ببيض متقوم بربع دينار فصاعداً، أو بحبال متقومة بربع دينار فصاعداً. قال النووي: (أو أنه إذا سرق البيضة فلم يقطع جره ذلك إلى سرقة ما هو أكثر منها فقطع). وهناك مثل يقول: الذي يسرق البيضة يسرق الجاموسة. يعني: يجره سرقة القليل إلى سرقة الكثير، فإذا كنت تسرق البيضة ولا تقطع يدك فإنه سيأتي عليك اليوم الذي تسرق ما هو أعظم من البيضة ويقدر بنصاب القطع فتقطع يدك فيه؛ وذلك لأنك ألفت السرقة من أول الأمر. قال: (فكانت سرقة البيضة هي سبب القطع). أي: هي السبب لمبدأ السرقة لا لمبدأ أنه سرق بيضة. قال: (أو أن المراد به: قد يسرق البيضة أو الحبل فيقطعه بعض الولاة سياسة). لكن هذا كلام فيه شذوذ شرعي. قال: (وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا عند نزول آية السرقة مجملة من غير بيان نصاب فقاله على ظاهر اللفظ، والله أعلم). يعني: لما أنزل الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} [المائدة:38] فقطع النبي أول الأمر في أقل السرقة أو في كل ما هو سرقة، ثم أتاه الوحي بعد ذلك أنه لا قطع في أقل من ربع دينار، وهذا أيضاً بعيد.

الحكمة من مشروعية قطع يد السارق

الحكمة من مشروعية قطع يد السارق قال النووي رحمه الله: قال القاضي عياض: (صان الله تعالى الأموال بإيجاب القطع على السارق). فأنتم تعلمون أن الأغراض الأساسية للشرع خمسة، وهي: الدين، العرض، المال، النفس، العقل، وهذا الحد -وهو حد السرقة- من باب الحفاظ على المال. قال: (ولم يجعل ذلك في غير السرقة كالاختلاس والانتهاب والغصب -والغش وغير ذلك- لأن ذلك قليل بالنسبة إلى السرقة). يعني: هذه الجرائم وإن كانت كلها اعتداء على المال إلا أنه يمكن تداركها ومعرفتها وإقامة البينة عليها بخلاف السرقة، فإنها تتم خفية. قال: (ولأنه يمكن استرجاع هذا النوع بالاستدعاء إلى ولاة الأمور). يعني: الغصب والاختلاس والانتهاب وغير ذلك يمكن لولي الأمر أن يقيم البينة على المغتصب أو المنتهب أو المختلس. قال: (وتسهل إقامة البينة عليه بخلاف السرقة؛ فإنه تندر إقامة البينة عليها؛ فعظم أمرها واشتدت عقوبتها؛ ليكون أبلغ في الزجر عنها).

ذكر إجماع الأمة على قطع يد السارق في الجملة واختلافهم في فروعه

ذكر إجماع الأمة على قطع يد السارق في الجملة واختلافهم في فروعه قال: (أجمع المسلمون على قطع السارق في الجملة). أي: أجمع المسلمون على وجوب قطع يد السارق في الجملة. قال: (لكنهم اختلفوا في فروع هذا الحد). يعني: أجمعوا واتفقوا على أن يد السارق تقطع، وهذا هو الأصل، لكنهم اختلفوا في شروط السرقة أو في شروط المسروق أو في شروط الحرز؛ وذلك لأنه من أساسيات الحدود أن يقيمها الوالي ولا يقيمها عامة الأفراد، بخلاف التعزير فلعامة الأفراد أن يعزروا، فللسيد أن يعزر عبده، وللزوج أن يعزر امرأته، وللوالد أن يعزر ولده، وكل شخص يعزر من تحته حسب ما يتراءى له ما لم يبلغ أكثر التعزير أقل الحد، كما قال عليه الصلاة والسلام: (لا حد في أقل من عشرة أسواط) يعني: فالإنسان لما يعزر لا يضرب أكثر من عشر جلدات؛ لأن التعزير قد يكون بالكلمة أو بالوعظ أو بالتوبيخ أو بالهجر أو بالتقريع أو غير ذلك، فالفارق الجوهري بين الحد والتعزير: أن الحد يقيمه الحاكم، والتعزير للحاكم ولغيره من الناس؛ لأن الحد الشرعي له ضوابط وأصول وظروف، وأقل شبهة يدرأ بها الحد. مثال ذلك: شخص يعمل في محل، فأكل صاحب المحل عليه راتبه الشهري ومقداره (500) جنيه، ومن عادة صاحب المحل أن يأخذ المال ويضعه في خزينة، وهذه الخزينة مغلقة بمفتاح، فإنه يكفي أن تسمى هذه الخزينة حرزاً، لكن هذا العامل كسر القفل وفتح الخزينة وأخذ منها (500) جنيه، فهو في هذه الحالة سارق؛ لأنه أخذ مالاً محرزاً بغير إذن. فنقول: هذا فيه شبهة تمنع إقامة الحد عليه، وهي أنه لم يسرق إلا ماله الذي أكله عليه صاحب المحل، فهذه الشبهة يدرأ بها الحد، ولو أن إقامة الحد موكولة إلى الناس لأقام عليه الحد صاحب المحل. فلو أن كل إنسان يسمح لنفسه بإقامة الحد على من ظن أنه ارتكب جرماً يستوجب إقامة الحد، فلن يكون هذا المجتمع محترماً؛ ولذلك الحدود لا يقيمها إلا الحاكم. ولو أن ولداً زنى وبلغ الخبر إلى أبيه وقال له: يا ولدي! أنت زنيت؟ فقال له: لا أجمع على نفسي معصيتين الكذب والزنا، نعم، أنا زنيت. فهل يجوز للوالد أن يقول: نحن في زمن ترك الحدود وأنا أتقرب إلى الله بإقامة الحد عليك يا بني، ويتمثل قول إبراهيم عليه السلام لما أراد أن يقتل ولده بأمر الله عز وجل؟! هذا لا يمكن أن يكون ديناً أبداً، حتى الوالد لا يقيم على ولده الحد، ولا الزوج يقيم على زوجه الحد، إنما يقيم الحد الحاكم أو من ينوب عنه، فإقامة الحدود لها شروط، وهناك زوايا متعددة في هذه الجريمة، كما أن المسروق فيه شروط ومحل السرقة -وهو الحرز- له شروط.

ذكر أقوال العلماء وخلافهم في نصاب حد السرقة

ذكر أقوال العلماء وخلافهم في نصاب حد السرقة قال: (أجمع العلماء على قطع يد السارق كما سبق، واختلفوا في اشتراط النصاب وقدره، فقال أهل الظاهر: لا يشترط نصاب، بل يقطع في القليل والكثير). واحتجوا بعموم قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38]. فهي مطلقة بغير قيد. واستدلوا أيضاً بحديث: (لعن الله السارق، يسرق البيضة ويسرق الحبل) فالبيضة المراد بها: البيضة التي تؤكل، لكن جماهير العلماء قالوا: لا تقطع اليد إلا في نصاب، وحجتهم هذا الحديث الظاهر: (لا قطع إلا في ربع دينار - أي ذهب - فصاعداً) واعتبروا أن عموم الآية مخصص بهذا الحديث. وهناك مسألة نزاعية أخرى: هل السنة تخصص القرآن؟ A نعم. وهذا مذهب أهل السنة، وذهب بعض أهل الانحراف إلى أن السنة لا تخصص القرآن، وهذا كلام فاسد. قال: قال الشافعي: النصاب ربع دينار ذهباً أو ما قيمته ربع دينار، سواء كانت قيمته ثلاثة دراهم أو أقل أو أكثر، ولا يقطع في أقل منه. وبهذا قال الأكثرون، وهو قول عائشة وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي والليث وأبي ثور وإسحاق وغيرهم، وروي أيضاً عن داود. وقال مالك وأحمد وإسحاق في رواية: تقطع في ربع دينار أو ثلاثة دراهم أو ما قيمته أحدهما، ولا قطع فيما دون ذلك. وقال سليمان بن يسار وابن شبرمة وابن أبي ليلى والحسن في رواية عنه: لا تقطع إلا في خمسة دراهم- واستندوا إلى حديث ضعيف- وهو مروي عن عمر بن الخطاب. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا تقطع إلا في عشرة دراهم أو ما قيمته ذلك، واستندوا كذلك إلى حديث ضعيف. قال النووي: (وحكى القاضي عن بعض الصحابة: أن النصاب أربعة دراهم). واستندوا كذلك إلى نص غير صحيح. قال: (وعن عثمان البتي: أنه درهم. وعن الحسن: أنه درهمان. وعن النخعي: أنه أربعون درهماً أو أربعة دنانير). والصحيح ما قاله الشافعي وموافقوه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صرح ببيان النصاب في هذه الأحاديث من لفظه وأنه ربع دينار. قال النووي: (أما باقي التقديرات فمردودة لا أصل لها، مع مخالفتها لصريح هذه الأحاديث). أما رواية: (أنه صلى الله عليه وسلم قطع سارقاً في مجن قيمته ثلاثة دراهم) فمحمولة على أن هذا القدر كان ربع دينار فصاعداً، وهي قضية عين لا عموم لها. فالنبي صلى الله عليه وسلم قطع في مجن قيمته ثلاثة دارهم أو ربع دينار، وهذه حادثة عين تحفظ ولا يقاس عليها أي مجن آخر؛ وذلك لأن المجن ليس هو الضابط في إيقاع الحد على السارق، إذ إن المجن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم يساوي ثلاثة دراهم، لكن بعد زمن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا يساوي درهمين، وفي زماننا هذا لا يساوي شيئاً. إذاً: هذه حادثة عين تحفظ ولا يقاس عليها، وقلنا: (تحفظ) لأنها كانت ذات قيمة تستوجب إقامة الحد. قال النووي: (فلا يجوز ترك صريح لفظه عليه الصلاة والسلام في تحديد النصاب لهذه الرواية المحتملة) أي: هذه الرواية بربع دينار. (بل يجب حملها على موافقة لفظه). قال: (ولا بد من هذا التأويل ليوافق صريح تقديره صلى الله عليه وسلم. وأما ما يحتج به بعض الحنفية وغيرهم من رواية جاءت (قطع في مجن قيمته عشرة دراهم) وفي رواية (خمسة) فهي ضعيفة لا يعمل بها لو انفردت فكيف وهي مخالفة لصريح الأحاديث الصحيحة. والله تعالى أعلم.

شروط إقامة حد القطع في السرقة

شروط إقامة حد القطع في السرقة قال الإمام النووي في هذا الباب: (قال العلماء: والحرز مشروط، فلا قطع إلا فيما سرق من حرز) فمن الشروط: أن القطع لا يكون إلا إذا كانت السرقة من حرز؛ لأن المسروق من غير الحرز لا قطع فيه، ويعرف الحرز بالعرف؛ وذلك لأن الأحراز مختلفة من سلعة إلى أخرى ومن بضاعة إلى أخرى. مثال ذلك: شخص يبيع ملابس وأحذية في سيارة، فلما سمع الأذان أدخل الأثواب والأحذية السيارة وأغلقها ودخل المسجد، فهذا يسمى حرزاً في العرف، فلو جعل الأحذية أو الأثواب على ظهر السيارة ووضع عليها عباءة فإن هذا لا يسمى حرزاً في العرف، ومن وضع نقوده في درج له مفتاح وأغلقه فقد حرز، وإذا لم يغلق ذلك الدرج لم يحرز، فلابد من اشتراط الحرز، وهذا مذهب الجماهير. والمعتبر في معرفته حرزاً أم لا هو العرف، لكن داود الظاهري قال: أي سرقة من حرز أو من غير الحرز فيها قطع. وهذا مذهب مردود، ويكاد يكون الإجماع في اشتراط الحرز عرفاً، ولا تعتبر مخالفة داود الظاهري مخالفة مؤثرة فيما اتفق عليه أهل العلم. ومن الشروط أيضاً: ألا يكون للسارق في المسروق شبهة، كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أنت ومالك لأبيك)، فالأب إذا سرق مال ولده باعتباره المالك فهذا المسروق فيه شبهة. ومن الشروط أيضاً: أن يطالب المسروق منه بالمال. أي: أن الذي سرق منه المال لابد أن يطالب به.

بيان كيفية القطع في حد السرقة

بيان كيفية القطع في حد السرقة قال: (وأجمعوا -أي: العلماء- على أنه إذا سرق أولاً قطعت يده اليمنى). قال الشافعي ومالك وأهل المدينة والزهري وأحمد وأبو ثور وغيرهم: فإذا سرق ثانياً قطعت رجله اليسرى. مع أن الله يقول: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38]، لكن الجمهور على قطع اليد اليمنى الأول، ثم تقطع الرجل اليسرى. يعني: تقطع الأيدي والأرجل من خلاف: اليمنى في اليد مع اليسرى في الرجل، ثم اليسرى في اليد مع اليمنى في الرجل. قال: (فإذا سرق ثالثاً قطعت يده اليسرى، فإن سرق رابعاً قطعت رجله اليمنى، فإن سرق بعد ذلك عزر). قال: (قال الشافعي وأبو حنيفة ومالك والجماهير: تقطع اليد من الرسغ وهو المفصل بين الكف والذراع، وتقطع الرجل من المفصل بين الساق والقدم). وهذا طبعاً المذهب الحق وعليه العمل. قال: (لكن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: تقطع الرجل من شطر القدم. وبه قال أحمد وأبو ثور. وقال بعض السلف: تقطع اليد من المرفق. وقال بعضهم من المنكب. والمذهب الراجح هو المذهب الأول: أن قطع اليد من الكف - أي: من الرسغ- وكذلك قطع القدم. أقول قولي هذا وأستغفر الله تعالى لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

كتاب الحدود - تكملة حد السرقة ونصابها

شرح صحيح مسلم - كتاب الحدود - تكملة حد السرقة ونصابها المال هو عصب الحياة، وبه تقوم الحضارات وترتقي الأمم، وهو أحد الضرورات الخمس التي جاءت الشريعة الإسلامية بحفظها، فقد بينت الشريعة حق الأفراد في أموالهم، وشرعت القوانين دون انتهاكها والانتقاص منها، وحكمت على من سرق مال الغير بحد القطع مهما كان حجم السرقة إذا بلغ النصاب الذي حددته الشريعة.

الحكمة من مشروعية القطع في حد السرقة

الحكمة من مشروعية القطع في حد السرقة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وصلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. إن الإسلام قد احترم المال من حيث أنه عصب الحياة، واحترم ملكية الأفراد سواء كانت امرأة أم رجلاً، وجعل حقهم فيه حقاً مقدساً لا يحل لأحد أن يعتدي عليه بأي وجه من الوجوه؛ ولهذا حرم الإسلام السرقة والغصب والاختلاس والخيانة والربا والغش والخداع والرشوة، والتطفيف بالكيل والوزن، واعتبر كل مال أخذ بغير سبب مشروع بمثابة أكل للمال بالباطل. وشدد الإسلام في السرقة، فقضى بقطع يد السارق التي من شأنها أن تباشر السرقة، وفي ذلك حكمة بينة، إذ إن اليد التي امتدت إلى أموال الناس بغير حق هي كالعضو المريض في البدن يجب استئصاله وإلا فسيضر بالبدن كله، وبهذا تحفظ الأموال وتصان، كما قال الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة:38]. أما الحكمة في تنزيل العقوبة في السرقة وتشديدها دون غيرها من جرائم المال كالغصب والاختلاس والربا والغش والتلاعب بالكيل والوزن وغير ذلك، فكما قال النووي نقلاً عن القاضي عياض وقد ذكرناه في الدرس الماضي: (أن الله تعالى جعل ذلك صيانة للمال بإيجاب القطع على السارق، ولم يجعل ذلك غير السرقة كالاختلاس والانتهاب والغصب؛ لأن ذلك قليل بالنسبة إلى السرقة؛ ولأنه يمكن استرجاع هذا النوع بالاستدعاء إلى ولاة الأمور). يعني في بقية أنواع أخذ المال بغير الحق كالغصب والنهبة وغير ذلك، بإمكان ولي الأمر أن يسترد هذا المال من الغاصب أو المنتهب لصاحب المال. ولـ ابن القيم كلام عظيم جداً إذ يقول: وأما قطع يد السارق في ثلاثة دراهم، وترك قطع المختلس والمنتهب والغاصب فمن تمام حكمة الشارع أيضاً. قال القاضي: (فإن السارق لا يمكن الاحتراز منه، فإنه ينقب الدور ويهتك الحرز). يعني: أنه يخرم الديار خرماً سواء كانت جُدُراً أم أسقفاً أم غير ذلك، كما أنه يهتك الحرز بهتكه أو كسر القفل أو غير ذلك، ولا يمكن لصاحب المتاع الاحتراز بأكثر من ذلك، فيضع صاحب البيت متاعه في حرز داخل بيت، فيأتي السارق يكسر باب البيت ثم يدخل فيكسر باب الحرز، فماذا يصنع صاحب المال أكثر من ذلك؟ فقد حرز ماله، ومع هذا دخل السارق خلسة وبعد أن انتهك هذه الحرمات كلها في الطريق إلى إيقاع السرقة أو إلى أخذ المال فإنه حينئذ لا يمكن الاحتراز منه، بخلاف بقية الأنواع فيمكن الاحتراز منها؛ ولذلك شدد الشارع جداً فيما يتعلق بسرقة المال على جهة الخصوص.

تعريف السرقة وذكر أنواعها وشروطها

تعريف السرقة وذكر أنواعها وشروطها السرقة نوعان: نوع يجب فيه إقامة الحد إذا بلغ السلطان، وهو ما زاد على سرقة ربع دينار فصاعداً، وما دون الربع دينار ففيه التعزير. أما تعريف السرقة فقد قال العلماء هي: أخذ الشيء في خفية. وفي القاموس: السرقة والاستراق: المجيء متستراً لأخذ المال -أي: لأخذ مال الغير- من حرز. وهذا تعريف أشمل وأعم من الأول، والتعريف الثالث هو تعريف ابن عرفة قال: السارق عند العرب هو: من جاء مستتراً. فالشرط الأول: من جاء في خفية. إذاً: الشرط الأول في تحقق أن هذه الحادثة سرقة يجب فيها إقامة الحد: أن يأتي السارق خفية. الشرط الثاني والثالث: أن يأخذ مال الغير من حرز. ومن تعريف المصطلح الشرعي بأنه كيت وكيت وكيت، لابد أن نستنتج من هذا التعريف شروط المعرف، فإذا قلت: السرقة هي أن يأتي السارق خلسة أو خفية أو مستتراً ليأخذ مال الغير من حرز، فأقول: هذا التعريف بيَّن لي شروط السرقة التي تستوجب إقامة الحد، ومنها: أن يأتي السارق خلسة، فلو دخلت بهيمة بيتك؛ وكسرت الباب ثم كسرت القفل وأكلت الأوراق ولم تعلم بها إلا وهي خارجة من البيت، فهل يقام عليها الحد؟ A لا يقام عليها الحد؛ لأنها ليست سارقة، فمن شروط السرقة: أن يدخل السارق خلسة، إذاً: الشرط الأول منعدم هنا. مثال آخر: شخص لم يأت بيتاً متستراً، وإنما دخل وهو شاهر سيفه، وقال: أعطني مالك وإلا قتلتك، فهذا إما غاصب وإما صائل باغ ظالم معتد، فهذا تطبق عليه حدود أخرى لا حد السرقة. إذاً: لابد أن يأتي السارق خلسة ليأخذ مال الغير، فلو فرضنا أنه أتى خلسة، ولكنه يعتقد أن المال الذي سيأخذه هو ماله الشخصي، وأن هذا الرجل الذي أخذ منه المال، إنما سرقه أو اختلسه أو غصبه، وذهب ليسترد هذا المال عنوة، ولكنه ذهب متستراً متخفياً لغلبة الظن أنه لا يحصل على ماله إلا بهذا الطريق، إذاً: هذا الرجل أخذ مال الغير، وفي نظره أنه يأخذ ماله، مع أنه هناك طرق أخرى مشروعة لأخذ ماله واسترداده، لكن ألا تعدون أن هذه شبهة؟ بلى. وأنتم تعلمون أن الحدود تدرأ بالشبهات، فهو يقول: أنا لست سارقاً، لكن الشرع يعده سارقاً؛ لأنه دخل خفية، وأخذ المال من حرز، وهو مقر بأنه أخذ المال من حرز، لكنه لا يقام عليه الحد، لم؟ لأن هذا المال الذي أخذه ليس مال فلان، وإنما هو ماله؛ ولذلك الإمام الشافعي كان يسمي هذا السارق السارق الظريف؛ لأنه إذ إنه إذا أقيمت عليه الحجة، وثبتت عليه السرقة وقدم للقطع قال: هذا المال مالي، فبعد أن كانت عليه الدفة كلها حولها إلى خصمه المسروق. قال: هذا المال أخذه مني عنوة، وأنا أردت استرداد مالي الذي أخذه مني عنوة، فالإمام الشافعي يسميه السارق الظريف، ويدرأ عنه الحد بهذه الشبهة. إذاً: السرقة هي: أخذ مال الغير، وأن يكون هذا الأخذ على جهة التخفي والاستتار، وأن يكون المال محرزاً، فإذا فقد أي شرط من هذه الشروط فلا تعد القضية مطروحة على القضاء سرقة، ولكنها تدخل تحت باب آخر؛ ولهذا لا يعتبر الخائن ولا المنتهب ولا المختلس سارقاً ولا يجب على واحد منهم القطع، وإنما يجب التعزير. وضربت لك في الدرس الماضي مثلاً بإنسان قد عملت عنده، وقد حرز ماله في المحل، وهذا من جهة العرف حرز؛ لأن العرف هو الذي يحكم ما إذا كان هذا حرزاً أم لا، فالحرز هو: ما يمكن حفظ الشيء فيه عرفاً. إذاً: العرف هو القاضي على كثير من المصطلحات الشرعية، كالسفر مثلاً، العرف هو القاضي بما إذا كان هذا سفراً أم لا، فإذا قال العرف: هذه المسافة مسافة سفر وإن قلت عن (80) كيلو فللمسافر فيه أن يستخدم الرخصة، وإن بعدت عن (100) كيلو ولكن العرف لا يعدها سفراً فلا يحل لواحد أن يستخدم فيها الرخص، فالعرف يقضي على كثير من المصطلحات الشرعية، وذلك إذا كانت مما يختلف باختلاف الزمان والمكان.

حكم جحد العارية

حكم جحد العارية مسألة: جحد العارية مسألة فرعية من فرعيات السرقة: وصورتها: أنك أعرتني شيئاً وأنا جحدته، ولما طالبتني بعاريتك قلت: ما أخذت منك شيئاً. فهل هذا يعد سرقة؟ A اختلف الفقهاء في حكم ذلك، فجمهور العلماء قالوا: لا يقطع من جحد العارية؛ لأنه لم يأخذها في خفية ولم يذهب متستراً، إنما صاحب المال هو الذي أعاره واستأمنه على هذا الشيء، والقرآن والسنة أوجبا القطع على السارق، وليس جاحد العارية بسارق. وذهب الإمام أحمد وإسحاق وزفر والخوارج وأهل الظاهر: إلى أنه يقطع؛ لما جاء في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده)، انظر الكلام الجميل! المتاع يكون عندها فإذا طولبت به قالت: ما أخذت من أحد شيئاً، وهذا جحود. قال: (فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها، فأتى أهلها أسامة بن زيد رضي الله عنه فكلموه، فكلم النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أتشفع في حد من حدود الله عز وجل؟ وقام النبي عليه الصلاة والسلام خطيباً فقال: أيها الناس! إنما هلك من كان قبلكم -أي: من بني إسرائيل- أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه، والذي نفسي بيده، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها). فبعض العلماء يقولون: هذا الحديث الذي فيه الزيادة: (هذه الزيادة التي فيها: أن امرأة مخزومية كانت تستعير المتاع فتجحده فأمر النبي عليه الصلاة والسلام بقطعها) حديث شاذ وإن كان في مسلم. وهو الباب الثاني في كتاب الحدود. والبعض يقول: هذا الحديث ليس شاذاً، وإنما أخبر الحديث أن هذه المرأة كان من صفاتها وأخلاقها أنها تجحد العارية، فذكروها بأحد صفاتها الذميمة، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها لا لكونها كانت تجحد العارية، وإنما لسبب آخر وهو السرقة؛ ولذلك أورد مسلم هذا الحديث بهذه الزيادة: (أنها كانت تستعير المتاع وتجحده) ضمن الحديث من طريق واحد، فالحديث من عدة طرق ليس فيه هذه الزيادة؛ وذلك ليبين أن الحديث إن ثبت على هذا النحو وبهذه الزيادة فالمقصود به: ذكر إحدى صفات المرأة، لا أنها قطعت لأنها تجحد العارية، وإنما قطعت لسبب آخر قد ورد في بقية طرق الحديث عن المرأة المخزومية، وقد صرح الرواة بأنها امرأة مخزومية سرقت، فالقطع ليدها كان لأجل السرقة لا لأجل أنها كانت تجحد العارية. والشاهد من هذا الباب كله: أن جاحد العارية قد اختلف فيه العلماء، والذي يترجح لدي أن جاحد العارية وإن كان ظالماً وآثماً يعزر ويحمل على رد العارية إلى صاحبها إلا أنه لا يقطع.

حكم النباش الذي ينبش القبور

حكم النباش الذي ينبش القبور النباش: هو الذي ينبش القبر ويأخذ الكفن. فعندما تنظر في كتب الفقهاء عن النبش والنباش تجد النبش في حياة السلف لا يتعدى سرقة، أما الآن فإنهم لم يعودوا بحاجة إلى نبش القبر وأخذ بعض الجثة أو الجثة كلها؛ لأن الجثة لا تخرج إلا هيكلاً خارجياً من المستشفيات العامة أو الخاصة، فقد صارت أعضاء الخلق مسلمين وغير مسلمين تجارة رابحة جداً يدخل فيها الطبيب الفقير من باب ويخرج من باب آخر وقد حقق الملايين من الجنيهات، فإن نفعه هذا في الدنيا فإنه إن شاء الله لن ينفعه بين يدي الله عز وجل. وفي الحقيقة الطب تجارة من التجارات عند جميع العاملين به إلا من رحم الله عز وجل، ومن بر واتقى وعلم أن هذه أمانة هو مسئول عنها بين يدي الله عز وجل، وقليل ما هم، فعامة الأطباء -خاصة الجراحون منهم والجراحات- قد اتخذوا تجارة الأعضاء بضاعة سائغة؛ رائعة لتحقيق عرض من أعراض الدنيا وهو زائل لا محالة، واستندوا في ذلك إلى فتوى لبعض من ينتسب إلى أهل العلم، وهذه الفتوى لا علاقة لها البتة بهذا الإجرام الذي يتم في المستشفيات، ونحن لا نميل إلى هذه الفتوى قط، فالمرء لا يجوز له التبرع ببعض أعضائه حتى وإن كان ذلك بعد موته. والأطباء المتخصصون يقولون: إذا مات الميت وبرد جلده فإنه لا ينتفع منه بجزء من أجزاء بدنه، بل لابد أن يؤخذ الجزء المراد من بدن الميت قبل الموت ولو بلحظة، يعني: لا ينتزع إلا العين أو الكلى؛ لأن هذين هما العضوان اللذان يعملان بشكل جيد، فيؤخذ هذان العضوان من الرجل إذا غلب على ظن الطبيب أنه سيموت. وقد حدثني طبيب في مستشفى القصر العيني بأن مشاجرة عظيمة جداً تمت بين طبيبين كبيرين في غرفة العناية المركزة، إذ دخل شخص العناية المركزة فاحتجزه الطبيب وهو يقول: هذا لي، يعني: لا يحل لأحد من الأطباء أن يأخذ منه شيئاً؛ لأنه هو الذي سيأخذ منه، فقام الطبيب الآخر في غياب الطبيب الأول بأخذ الكليتين، ومات الشخص ولابد أن يموت، وهذا يسمونه الموت الطبي وليس الموت الشرعي. فهذا المريض حياته (90%) ميئوس منها، فيقولون: إذاً: ننتفع منه بما يمكن الانتفاع به. ونحن نذكر بدر الدين العيني الإمام الكبير شارح البخاري، وكان صاحب قصر، وكان من علماء الدنيا في زمانه، فسمي القصر باسمه؛ لأن القصر كان ملكاً له، وكان هذا الرجل فوق الأمير وفوق السلطان، إذ كانت الدنيا تدار بأمره، وكانت إليه الرحلة في زمانه، وقد اتخذ هذه الدار لسكن الطلاب الذين يأتونه من آسيا وأفريقيا وغيرها من بلاد العالم ليتعلموا العلم على يديه، وله كتاب عظيم جداً في شرح صحيح البخاري اسمه عمدة القاري، وهو أعظم من الفتح للحافظ ابن حجر في باب، والفتح للحافظ أعظم منه في باب آخر، أما القبول فهذا رزق من الأرزاق، فكتاب عمدة القاري لا يستغني عنه عالم قط، ولا يستغني عنه من له عناية بصحيح البخاري وبعلم الحديث كله، وللأسف الشديد هذا المكان المبارك الذي بدأ بإيواء أهل العلم في العالم كله على ضفاف النيل صار مكاناً لسرقة الأعضاء وبيعها في سوق النخاسة. وعوداً على بدئ فقد جرى في شأن النباش الخلاف بين أهل العلم، وهو الذي يسرق أكفان الموتى، فذهب الجمهور إلى أن عقوبته قطع يده؛ لأنه سارق حقيقة، والحرز هو القبر؛ ولأنه في الغالب يأتي خلسة وخفية ويسرق مال الغير. والكفن مال مملوك للغير، وبعضهم نازع وقال -كالأحناف والأوزاعي والثوري: لا عقوبة عليه إلا التعزير؛ لأنه نباش وليس سارقاً، فلا يأخذ حكم السارق؛ ولأنه أخذ مالاً غير مملوك لأحد؛ لأن أولياء الميت لا يزعمون أن هذا الكفن ملكاً لهم، كما أن الميت لا يملك، فهذه الشبهة درأت الحد عن النباش، وينبغي تعزيره وزجره حتى ينزجر أمثاله.

ذكر الشروط التي يجب توافرها في السارق لإقامة الحد عليه

ذكر الشروط التي يجب توافرها في السارق لإقامة الحد عليه جناية السرقة لها ثلاثة أطراف: سارق، ومسروق، وحرز، وهناك شروط يجب توافرها في السارق، وشروط يجب توافرها في المسروق، وشروط يجب توافرها في الحرز، فما هي الشروط أو الصفات التي يجب اعتبارها في السارق؟ أولاً: أن يكون مكلفاً. السارق يجب أن يكون إنساناً بالغاً عاقلاً مكلفاً، والعاقل احتراز من المجنون؛ لأن المجنون لو سرق فإنه ليس أهلاً للتكليف ولا محلاً له؛ ولا يشترط فيه الإسلام؛ لأن الذمي إذا سرق حُد، والمرتد كذلك. الشرط الثاني: الاختيار. وهذا احتراز من الإكراه. الشرط الثالث: ألا يكون للسارق فيما سرق شبهة، كشبهة الملك مثلاً، كما قلنا في الدرس الماضي: لو أن أباً سرق مال ولده فإنه يدفع الحد عنه بقوله عليه الصلاة والسلام: (أنت ومالك لأبيك) فهذه شبهة، وكذلك لا يقطع الابن بسرقة مال أبيه، ولا يقطع السيد بسرقة مال العبد إذا كان للعبد مال؛ لأن الابن في الغالب يتبسط في مال أبيه وأمه، فكما لا يقطع الأب في مال الابن كذلك لا يقطع الابن في مال أبيه.

حكم من سرق مصحفا

حكم من سرق مصحفاً فإن قيل: لو أن واحداً سرق المصحف هل يحد فيه أم لا يحد؟ A منهم من قال: إذا بلغت قيمته ربع دينار أو ثلاثة دراهم فأكثر يحد. ومنهم من قال: لا يحد للشبهة. قالوا: لأن كتاب الله تعالى لكل شخص فيه الحق، وهذا قد أخذ المصحف الذي له فيه بعض الحق، فلو أتى إليك السارق وقال لك: لا، أتحدني على المصحف؟ صحيح أن المصحف يباع بـ (50) جنيهاً ففيها حد السرقة، لكن المصحف هو كلام الله عز وجل، وقد أخذته لأنتفع به، باعتباري أنني مسلم ولي فيه الحق؛ ولذلك لم يختلفوا على حد الذمي إذا سرق مصحفاً تبلغ قيمة أوراقه نصاب السرقة، بخلاف المسلم. قالوا: المسلم فيه شبهة.

حكم من سرق من بيت المال

حكم من سرق من بيت المال إذا سرق المسلم من بيت المال مبلغاً بلغ النصاب، فهذا يجري حكم التعزير فقط؛ لأن بيت المال هذا هو بيت مال المسلمين، والسارق مسلم. إذاً: له حظ ونصيب في هذا المال، وربما منعه الحياء أن يخبر الناس أنه فقير أو غير ذلك، مما حدا به أن يمد يده فيأخذ بنفسه من هذا المال. قال: وأنا أعتقد أن المال الذي أخذته إنما هو لي؛ لأنني فقير، ولكن منعني الحياء أن أقول: إنني فقير؛ فأخذته بنفسي.

حكم من سرق من مال له فيه شركة أو من مدين مماطل

حكم من سرق من مال له فيه شركة أو من مدين مماطل كذلك لو سرق من مال له فيه شركة لا يقام عليه الحد لوجود الشبهة. قال: (ولا يقطع من سرق من المدين المماطل في السداد) يعني: أنت عليك دين لي، وأنا لا أستطيع أن آخذه مع أنك موسر ولست معسراً، لكنك مماطل، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (مطل الغني ظلم)، والعلماء يعرفون الغني: بأنه من ملك مبلغ الدين. يعني: ليس شرطاً أن يكون مليونيراً، لا فأنت عليك عشر جنيهات لي، وهي معك؛ فيجب عليك دفعها لي فوراً؛ لأن هذا مالي أنا، فإذا لم تدفعها إلي كنت مماطلاً في نظر الشرع، فلو أني أخذت هذا المال منك سرقة باعتبارك مديناً غنياً ومماطلاً فلا يجب في ذلك إقامة حد السرقة؛ لأن ذلك استرداد للدين وإن كان الأولى ترك ذلك؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك)، فهذا وإن كان خائناً فلا تحملك خيانته على أن تخون أنت كذلك.

حكم من سرق مالا مسروقا

حكم من سرق مالاً مسروقاً قال: ومن غصب مالاً وسرقه وأحرزه فسرقه منه سارق. مثال ذلك: أنا أعلم أنك سرقت مال زيد ولا تملك إلا المال المسروق، فقمت أنا عليه فسرقته، وبعد ذلك تقول لي: تعال! أنت سارق وينبغي أن تحاسب. أقول لك: لا. أنا سرقت من سرقتك أنت، فهذا المال ليس مالك؛ لأنه ينبغي أن تكون أنت مالكاً له، وهذا المال الذي سرقته منك هو مال زيد وليس مالك، وأنا قد سرقته منك لأدفعه لزيد، فهذه شبهة بصرف النظر عن تحقيق ما إذا كانت الحادثة سرقة أم لا. إذاً: الصفات التي يجب اعتبارها في السارق: أن يكون مكلفاً، أن يكون مختاراً، ألا يكون له فيه شبهة.

ذكر الشروط التي يجب توافرها في المال المسروق

ذكر الشروط التي يجب توافرها في المال المسروق

الشرط الأول: أن يكون مما يتمول ويملك

الشرط الأول: أن يكون مما يتمول ويملك أولاً: أن يكون مما يتمول ويملك. ومعنى متمول: أي: له قيمة مالية محترمة في الشرع، فهناك مال ليس محترماً في الشرع، كالخمر والخنزير والكلب وثمن البغي والطنبور وآلات المعازف والموسيقى، كلها أموال غير محترمة، فلو أنك سرقت زجاجة خمر من نصراني أو يهودي وكسرتها وأرقت ما فيها، وطالبك الذمي بدفع قيمة هذا الخمر، فهل يجوز للقاضي أن يحكم عليك بذلك؟ A لا؛ لأن هذا المال مال غير متمول وغير متقوم، كما أنه لا يمثل نسبة مالية في الإسلام، وإن كان يتكلف في الصناعة، لكنها في الشرع ليست بفلس واحد ولا تساوي شيئاً؛ لأنها مال قد حرمه الإسلام. كما يجب أن يكون هذا المال مما يحل بيعه، فالخنزير لا يحل بيعه، حتى في دين النصارى لم يصح الإذن لهم بأكل الخنزير، وكذلك الكلب لا يجوز بيعه باتفاق، ولكن يجوز اقتناء كلب الصيد أو الحراسة أو الماشية، فالاقتناء شيء وشراء الكلب المأذون فيه شيء آخر، فلا يحل لأحد أن يبيع الكلب المأذون فيه شرعاً، فكلب الحرث والصيد والماشية يجوز اتخاذه واقتناؤه، ولكن لا يجوز شراؤه، فشراء الكلاب شيء، والإذن باتخاذ بعض أنواع الكلاب شيء آخر. قال أشهب من المالكية: يقطع سارق الكلب المأذون باتخاذه، ولا يقطع في كلب آخر. وقال أصبغ من المالكية في لحوم الضحايا: إن سرق الأضحية قبل الذبح قطع، وإن سرقها بعد الذبح لا يقطع. هذا كلام جميل جداً له مخارج، يريد أن يقول لك: أن سارق الأضحية قبل الذبح كالبهيمة أو الشاة أو البقرة أو الناقة تقطع يده؛ لأنه سرق الحيوان، وإذا سرقها بعد الذبح لحماً فإنه لا يقطع لوجود الشبهة، والشبهة هي أن ثلث الأضحية سيوزع على الفقراء، والثلث الثاني هدايا للأغنياء، فهذا السارق قد يعتبر نفسه من الأغنياء الذين لهم حق في الهدايا أو من الفقراء الذين لهم حق في الصدقة؛ فلا يقطع لوجود الشبهة. وأما سرقة الماء والثلج والكلأ، فأنتم تعلمون أن الناس شركاء في الماء والثلج والكلأ؛ لأن هذه من الأموال العامة، ولكن للأسف الشديد تغير الزمان على البشر، حتى صاروا يبيعون الماء لبعضهم وبأغلى الأسعار، مع أن هذه أيها الإخوة من مسائل المروءات، وكذلك الهواء، فقد كان أصحاب إطارات السيارات وغيرهم عندما تعطيه مالاً مقابل نفخ الإطار يقول لك: أعوذ بالله! من الذي قال لك: أننا نبيع الهواء؟ إنه حق الله. والآن الحكومة تبيع لك الماء والنور والهواء، فالماء بلترات معينة ولابد أن تدفع وإلا سيقطعون عليك الماء بواسطة العداد، بل حتى بعد قطع العداد لابد من الدفع. أقول: فهل سرقة الماء والثلج والكلأ والملح والتراب فيها قطع؟ قال صاحب المغني ابن قدامة: وإن سرق ماء فلا قطع فيه؛ لأنه مما لا يتمول عادة. قال: ولا أعلم في هذا خلافاً. فالماء ليس له قيمة مالية معتبرة في الشرع؛ لأن الشرع جعل الخلق جميعاً المؤمن والكافر سواء في حقهم بالانتفاع بالماء، ومادام أن المسألة استقرت عرفاً صار هذا من المال العام الذي لا يحل أخذه إلا أن ينم ذلك عن سوء معتقد الآخذ. إذاً: من الشروط التي يجب اعتبارها في المال المسروق: أن يكون مما يتمول ويملك ويحل بيعه وأخذه، بخلاف الخمر والخنزير، حتى لو كان المالك غير مسلم؛ لأن الله حرم ملكيتهما والانتفاع بهما، والمسلم والذمي على السواء. وكذلك لا قطع على سرقة أدوات لا يجوز استعمالها عند عامة أهل العلم.

الشرط الثاني: أن يبلغ المسروق النصاب الشرعي

الشرط الثاني: أن يبلغ المسروق النصاب الشرعي الشرط الثاني الذي يجب توفره في المال المسروق: أن يبلغ المسروق النصاب الشرعي. وهناك خلاف بين العلماء فيما يتعلق بتحديد النصاب، ومذهب جماهير العلماء -وهو المذهب الراجح الذي عليه الأدلة- أن يبلغ المسروق ربع دينار فصاعداً. يُذكر أن أبا العلاء المعري عليه من الله ما يستحق قد اعترض على الشرع يوماً فقال: يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار دية اليد إذا قطعها إنسان أن يدفع (500) دينار، فـ أبو العلاء المعري يقول: إذا كانت اليد ديتها (500) دينار فكيف تقطع في ربع دينار فقط؟ فهذا تناقض، ويقصد أن هذا التناقض مصدره الشرع، وهذا كفر بالله! تناقض ما لنا إلا السكوت له ونستجير بمولانا من العار ولذلك رد عليه إمام السنة في زمانه الإمام الشافعي فقال: عز الأمانة أغلاها وأرخصها ذل الخيانة فافهم حكمة الباري أي: لما كانت أمينة كانت ثمينة، فلما خانت هانت فافهم حكمة الباري. فالحكمة في أنها تودى بـ (500) دينار؛ لأنها يد أمينة ينبغي المحافظة عليها، فإذا وقع عليها اعتداء فديناها بأعظم مبلغ (500) دينار، فلما تركت الأمانة وارتكبت الخيانة وهانت على نفسها وعلى صاحبها تقطع في أقل من ذلك وهو ربع دينار.

وقت تقدير المال المسروق

وقت تقدير المال المسروق مسألة: متى يقدر المسروق بأنه بلغ ربع دينار أم لم يبلغ بعد؟ وهل يكون هذا التقدير وقت السرقة أم وقت القطع؟ منهم من قال: وقت السرقة. ومنهم من قال: وقت القطع. والذي يترجح لدي: أن المال المسروق يقدر في وقت السرقة لا وقت القطع، خاصة في هذا الزمان، وهذا طبعاً على افتراض حسن النية وأن هناك حدوداً تقام بإذن الله؛ لأنك ربما تسرق الشيء اليوم وبعد (25) سنة يتذكر القاضي أن هناك قضية سرقة مطروحة عليه فيقضي فيها، فلا يكون في وقت القضاء والحكم والقطع لهذا المسروق قيمة ولا وزن.

حكم سرقة الجماعة

حكم سرقة الجماعة مسألة: لو أن جماعة سرقت، ومجموع المسروق قد بلغ النصاب، كعشرة سرقوا ربع دينار فهل يقام على العشرة الحد أم لا؟ هذا محل نزاع بين العلماء، فمنهم من قال: كل واحد يحد قطعاً في هذا المال؛ لأنه بمثابة السارق لوحده لهذا المال؛ لأن الذي يشارك في إيقاع الجريمة كمن باشرها بنفسه. وهذا مذهب كثير من أهل العلم. أما مذهب الجمهور فإنه لا قطع إلا على من سرق مبلغاً يساوي النصاب في حقه هو. يعني: لو أن عشرة سرقوا دينارين ونصف، فإن نصيب كل سارق سيكون ربع دينار. إذاً: العشرة يحدون؛ لأن نصيب كل سارق في هذا المسروق قد بلغ النصاب على حدة، وهذا لا نزاع فيه، لكن النزاع قائم في الصورة الأولى التي ذكرناها.

ذكر الشروط التي يجب توافرها في المسروق منه

ذكر الشروط التي يجب توافرها في المسروق منه الشروط التي يجب توافرها في المسروق منه هو شرط واحد: ينبغي أن يكون حرزاً، والحرز مداره على العرف، والحرز: هو الموضع المعد لحفظ الشيء مثل الدار والدكان والإسطبل والمراح والجرين ونحو ذلك، ولم يرد فيه ضابط من جهة الشرع ولا من جهة اللغة، وإنما يرجع فيه إلى العرف. فإذا سرق شخص من الدكان فقد سرق من حرز، أو سرق من الدار كذلك سرق من حرز، لكن يشترط أن يكون الدار بابها مغلق، وكذلك من سرق الماشية من الإسطبل، فالإسطبل يعد بالنسبة للدواب والحيوانات حرزاً. والجرين هو الجُرن، وهو المكان الفسيح الذي يقوم المزارع أو الفلاح بحرثه أو بثمره، والعلماء يسمونه الجرين تصغير الجرن؛ لأن الجرن هو المكان الفسيح جداً، فحينئذ لو أن واحداً سرق من الزرع في سنبله وهو في الأرض فإنه لا يحد، لأن الأرض ليست حرزاً، ولو أنه سرق من الجرين أو من الجرن فإنه يعد حرزاً؛ فمن سرق من الجرين أو من الجرن مالاً أو ثمراً أو زرعاً يبلغ النصاب يقام عليه الحد. والعلماء مجمعون على أن الإنسان حرز لنفسه، وقد كان العرب في القدم إذا أرادوا أن يخبئوا شيئاً خبئوه في أكمامهم، حتى أهل العلم أنفسهم كانوا يخبئون الدفاتر في الأكمام ويربطونها كما ورد في ترجمة الحافظ ابن حجر والإمام العراقي والزبيدي وغيرهم، كان الواحد منهم يضع الدفتر فيه مائة ألف حديث في كمه، ويربط عليها، ويأخذها من مصر القديمة إلى منطقة الإمام الشافعي، أو من منطقة الإمام الشافعي إلى منطقة المنيل حيث موطن الحافظ ابن حجر رحمه الله، فكان الواحد منهم يضع كتبه في كمه ويربطها ويجري إلى أن يصل إلى حلقة الشيخ، ففي هذه الحالة كان الواحد منهم يضع ماله في كمه، والآن أصبح عندنا جيوباً أمامية وخلفية وجانبية. ويقال: فلان هذا شاطر. يعني: سارق، يشطر جيوب الناس بالمشطرة، وهي الموس أو السكينة أو الخنجر، ويخرج منها ما فيه ويذهب، والحد يثبت بالإقرار، أو بشهادة عدلين، ويتوقف على طلب المسروق، وهذا مذهب جماهير العلماء.

حسم يد السارق والتنكيل به

حسم يد السارق والتنكيل به وحسم يد السارق إذا قطعت أمر قد جاء به الشارع في أكثر من دليل، فعندما تقطع اليد من الرسغ تربط من هاهنا أولاً، ثم تقدم للقطع فإذا قطعت حسمت بالزيت أو النار، وكان من عادة العرب في أول الإسلام أنهم إذا قطعوا اليد وضعوها في الزيت المغلي حتى تلتحم العروق، فالقطع عذاب والواضع في الزيت عذاب، كل ذلك بسبب ربع دينار، فهذا إنسان فاقد لعقله، حين يعرض نفسه للعذاب من أجل ربع دينار، وإنما يفعل الإسلام ذلك لأجل الحفاظ على الأموال. وقد جاءت السنة كذلك بمزيد من التنكيل والتقريع للسارق أنه إذا سرق علقت كفه المقطوعة المحدودة في عنقه، وإذا كان مجاهراً بسرقته ومعصيته فلا بأس أن يطاف به وقد علقت كفه في رقبته ويقال: هذا سارق لمال فلان.

بيان أن السارق لا يضمن ما سرق

بيان أن السارق لا يضمن ما سرق مسألة: إذا اجتمع الضمان والحد، فإذا كان المسروق قائماً رد إلى صاحبه. يعني: هل السارق يضمن رد المسروق وقيام الحد عليه كذلك؟ A لا يضمن السارق المسروق إذا كان قد أنفقه، أما إذا كان بين يديه ضمن وحد. أي: إذا كان المال المسروق لا يزال في حوزة السارق رد إلى المسروق منه، وعوقب السارق بالحد. أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

كتاب الحدود - قطع السارق الشريف وغيره والنهي عن الشفاعة في الحدود

شرح صحيح مسلم - كتاب الحدود - قطع السارق الشريف وغيره والنهي عن الشفاعة في الحدود إنما أهلك من قبلنا أنهم كانوا يقيمون الحدود على الضعيف ولا يقيمونها على القوي، وجاء الإسلام فسوَّى بين الناس، فأقام حد السرقة على الشريف كما أقامه على الوضيع، ونهى عن الشفاعة في الحدود إذا وصلت إلى ولي الأمر.

الفرق بين الحد والتعزير

الفرق بين الحد والتعزير الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. الباب الثاني من كتاب الحدود: [باب قطع السارق الشريف وغيره، والنهي عن الشفاعة في الحدود] أي: باب وجوب قطع السارق الشريف كما يجب قطع السارق الوضيع، فكلاهما في الحكم سواء إذا بلغ الحد السلطان. قال: [والنهي عن الشفاعة في الحدود]. وهذا فارق جوهري بين الحد والتعزير: فهما يشتركان في جواز الشفاعة ما لم يصل الحد إلى السلطان، فإذا وصل الحد إلى السلطان فإنه يحرم على كل أحد أن يشفع لدى السلطان في زوال هذا الحد أو عدم إقامته أو تخفيفه. هذا فارق بين الحد والتعزير. فارق ثان: أن الحد مقدر، بخلاف التعزير؛ فإنه يرجع إلى اجتهاد المعزر، فإذا كان الحد ثمانين جلدة فلا يصح أن يكون أقل من ذلك ولا أكثر، إلا إن مات المحدود في أثناء قيام الحد عليه. مثال ذلك: لو أن الحد مائة جلدة، فمات المحدود في السبعين أو الستين أو العشرة الأولى؛ فيحرم ضربه بعد ذلك، ويحرم جلده؛ لأنه لا عبرة ولا فائدة من ضرب الميت، بل تثبت له حرمة الأموات بعدم المساس أو الضرب أو الكسر، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (كسر عظم الميت ككسره حياً) فالميت له حرمة كما أن الحي له حرمة. فالحدود مقدرة، فإذا أقمناها فيجب إقامتها بغير زيادة ولا نقصان خلافاً للتعزير، كما أن الحد منصوص عليه وهو نفس المعنى، أما التعزير فيرجع إلى اجتهاد المعزر. ويحرم على السلطان أو من ينوب عنه أن يتنازل عن إقامة الحد، أو أن يعفو عنه؛ خلافاً للتعزير، فإن التعزير يراعى فيه أصحاب الهيئات وأصحاب المروءات، كما يراعى فيه الوسيلة الأنجع والأحسن والأفضل في حق المعزر، فربما ارتكب ما يستوجب التعزير اثنان: أحدهما معروف بالشر، والآخر من أصحاب الهيئات كالعلماء والمشايخ والوزراء والأمراء والسلاطين، أو رجل له منزلة في قلوب الخلق، أو رجل يشار إليه بالبنان بالجود والكرم أو العلم، أو غير ذلك من ذوي الهيئات، وقد مضت السنة على إقالة ذوي الهيئات عثراتهم؛ خلافاً لمن كان معروفاً بالشر والفساد، فإنه إذا وقع فيما يستوجب التعزير فإن قدر له المعزر أقصى العقوبة التعزيرية فيكون هذا مخالفاً إذا ارتكب نفس الفعل رجل من أصحاب الهيئات، فإنما يكفي معه مجرد اللوم أو التوبيخ أو المعاتبة الرقيقة اللطيفة؛ لأنهما لا يستويان في المكانة والمنزلة، كما أن هذا ارتكب الفعل لأول مرة، وهذا ارتكبه عشرات المرات أو مئات المرات فلا يستويان. فالشاهد هنا: أن الحدود منصوص عليها ومقدرة، ولا يجوز العفو عنها إذا بلغت السلطان خلافاً للتعزير في كل هذه المسائل، كما أنه لا يجوز الشفاعة في الحدود، وتجوز الشفاعة في التعزير خاصة لأصحاب الهيئات. والعرب قبل الإسلام كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه بغير توبيخ أو لوم أو عتاب، بخلاف الوضيع الذي لا يؤبه له وليس له قبيلة تحترم ولا مكانة لها بين القبائل، فكانوا إذا سرق فيهم من هذا حاله أنهالوا عليه تقريعاً أو ضرباً بالنعال أو توبيخاً أو غير ذلك.

باب قطع السارق الشريف وغيره، والنهي عن الشفاعة في الحدود

باب قطع السارق الشريف وغيره، والنهي عن الشفاعة في الحدود

شرح حديث شفاعة أسامة في المخزومية التي سرقت من طريق قتيبة بن سعيد وابن رمح

شرح حديث شفاعة أسامة في المخزومية التي سرقت من طريق قتيبة بن سعيد وابن رمح قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث بن سعد (ح) وحدثنا محمد بن رمح أخبرنا الليث عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة: (أن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت)] هي امرأة مخزومية من قريش سرقت فاغتم أهلها لهذه الجناية التي وقعت منها؛ لأنهم يعلمون أن هذه الجناية تستوجب القطع، لكنها شريفة فكيف تقطع هذه المرأة؟! هذا عار على أهلها! قالت: [(فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟)] يعني: من يشفع في العفو عن القطع عند النبي عليه الصلاة والسلام؟ قالت: [(قالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة)] أي: من يقوى على ذلك ويقدر عليه إلا أسامة. وهذا من باب الدلال؛ وذلك لأن أسامة هو ابن زيد بن حارثة، حب رسول الله عليه الصلاة والسلام وابن حبه، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقولها: (فقالوا: من يجترئ عليه) من جهة الإدلال ومن جهة عظيم الخاطر والمنزلة، وفي هذا منقبة عظيمة لـ أسامة، حيث إنهم لم يختاروا أحداً إلا أسامة ليشفع لهذه المرأة القرشية المخزومية أن يعفو النبي صلى الله عليه وسلم عن إقامة الحد عليها. قالت: [(فكلمه أسامة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أتشفع في حد من حدود الله؟)] وفي هذا إثبات أن هذا إنكار على أسامة، كما أنه إثبات لعدم جواز الشفاعة في الحدود. قال: [(ثم قام فاختطب فقال)] أي: قام النبي عليه الصلاة والسلام فخطب الناس، فكان مما قال عليه الصلاة والسلام: [(أيها الناس! إنما أهلك الذين قبلكم -كأنه يقصد بني إسرائيل- أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد)] فبين عليه الصلاة والسلام أن ترك الحدود هلكة. هذا الكلام يوحي أن عدم العدل والمساواة بين الشريف والوضيع إذا أتيا ما يستوجب الحد في حقيهما سبب للهلاك، مع أن الحد يقام، لكنه يقام على قوم ولا يقام على آخرين، وهذا ما يعرف في هذا الزمان بالمحسوبية، فلان لا يضرب ولا يحبس ولا تصل إليه الأيدي؛ لأن قريبه الوزير الفلاني، أو الوالي الفلاني، أو فلان الفلاني، أو من له المكانة والمنصب، أو هو صاحب جاه أو مال أو رئاسة أو منصب أو غير ذلك، فهذا لا يجوز لأحد أن يقترب منه لمكانته الاجتماعية. أما الوضيع فإنه أول من يُطبق عليه الحد، وكلمة الوضيع ليست إهانة، إنما هو مصطلح وضع لمن لم يكن له أهل أو منصب أو قبيلة، أو ليس لديه مال أو غير ذلك، أما ميزان التفضيل في لسان الشرع فهو بتقوى الله عز وجل، فكم من إنسان يظن أنه عالي المنزلة مرموق المكانة لكنه لا يزن عند الله جناح بعوضة! وكم من إنسان لا يؤبه له ولا يلتفت إليه، لكنه في أعلى عليين عند رب العالمين سبحانه وتعالى! والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى). وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]. وقال عليه الصلاة والسلام: (رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره) فميزان الشرع هو الميزان العدل، إذ إن المرء يوزن بتقواه، وما دون ذلك لا وزن له عند الله عز وجل. قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله) هذا قسم، وكأنه يقول: والله، مع أنه لم يستقسم، وإنما أقسم عليه الصلاة والسلام من غير أن يستقسمه أحد؛ لبيان أهمية الأمر وخطورته والتأكيد عليه. قال: (وايم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها). وفي هذا إثبات القدوة والأسوة، إذ إنه عليه الصلاة والسلام يبدأ بنفسه أولاً، وليس هذا الأمر موجهاً للأمة فحسب، بل الأولى به نبينا عليه الصلاة والسلام، وهو في المكانة والمنزلة التي لا تخفى على أحد. وفي حديث ابن رمح - أي: محمد بن رمح - (إنما هلك الذين من قبلكم).

شرح حديث شفاعة أسامة بن زيد في المخزومية التي سرقت من طريق أبي الطاهر وحرملة

شرح حديث شفاعة أسامة بن زيد في المخزومية التي سرقت من طريق أبي الطاهر وحرملة قال: [وحدثني أبو الطاهر وحرملة بن يحيى - واللفظ لـ حرملة - قالا: أخبرنا ابن وهب - عبد الله بن وهب المصري - قال: أخبرني يونس بن يزيد الأيلي عن ابن شهاب الزهري قال: أخبرني عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: (أن قريشاً أهمهم شأن المرأة التي سرقت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: حبيبه- فأتي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه فيها أسامة بن زيد، فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: تغير وتمعر وغضب- فقال: أتشفع في حد من حدود الله؟ -على سبيل الإنكار- فقال له أسامة: استغفر لي يا رسول الله!)]؛ لإدراك أسامة أنه ما كان ينبغي أن يكون ذلك منه، فإنه لما أنكر عليه النبي عليه السلام تنبه لخطئه؛ فطلب الاستغفار من النبي عليه الصلاة والسلام، وفي هذا بيان أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا أسرع الخلق توبة واستغفاراً، وكانوا يطلبون ذلك من النبي عليه الصلاة والسلام؛ لعلمهم أن دعاءه مستجاب، فقال: (استغفر لي يا رسول الله!). قالت: [(فلما كان العشي -أي: لما كان وقت المساء- قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختطب -أي: فخطب الناس- فأثنى على الله بما هو أهله)]. وهذه سنن لمن أراد أن يبدأ بحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يثني على الله خيراً. قالت: [(ثم قال: أما بعد)] وفي هذا استحباب إذا فرغ الخطيب من مقدمة كلامه أن يفصل بينها وبين الموضوع بكلمة: أما بعد. أي: بعد فراغي من هذه المقدمة التي اشتملت على الحمد والثناء والتمجيد والصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام وغير ذلك أدخل في الموضوع. قالت: [(قال: ثم أما بعد: فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وإني والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها. ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها)] بعد أن بين النبي عليه الصلاة والسلام أن الناس في الحدود سواء قطع يدها. [(قال يونس: قال ابن شهاب: قال عروة: قالت عائشة: فحسنت توبتها بعد)]؛ لأن حدها قطع يدها وليس رجمها؛ لأنها لم تكن زانية وإنما كانت سارقة، فلما قطعت يدها حسنت توبتها جداً بعد إقامة الحد عليها. قالت: [(وتزوجت، وكانت تأتيني بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)] عائشة رضي الله عنها تقول: حسنت توبتها بعد إقامة الحد عليها وتزوجت وكانت تأتي عائشة في بيتها، فتقص حاجتها إلى عائشة، وعائشة ترفع هذه الحاجة إلى النبي عليه الصلاة والسلام. والمعلوم أن النبي عليه الصلاة والسلام بالنسبة لنساء الأمة ليس كغيره من بقية الرجال مما حدى ببعض أهل العلم إلى أن يقولوا: أن النبي محرم لجميع نساء الأمة، وليس على ذلك دليل صريح ولا صحيح، وإنما هو قول لبعض فقهاء الشريعة، قالوا: النبي صلى الله عليه وسلم محرم لنساء الأمة، وهذا كلام هو إلى الرد أقرب، قال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:6] لكن هذا شيء، وإثبات أنه محرم لنساء الأمة شيء آخر؛ ولذلك لم يثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام دخل على امرأة ليس عندها محرم. وحديث أم التيهان: أن النبي عليه الصلاة والسلام ذهب إليها هو وأبو بكر وعمر فقال: (السلام عليكم يا أهل البيت! ثلاث مرات، ثم انصرف عليه الصلاة والسلام، فأسرعت في طلبه أم التيهان قالت: يا رسول الله! والله إني لأسمع سلامك وأرد عليه بصوت منخفض رجاء أن تزيدنا سلاماً، فتفضل يا رسول الله! حتى يأتي أبو التيهان. قال: أين هو؟ قالت: ذهب ليسقي لنا) يأتينا بالماء. فلم يدخل النبي عليه الصلاة والسلام حتى أتى أبو التيهان. ولو كان محرماً لـ أم التيهان عليه الصلاة والسلام لدخل وما كان في ذلك أدنى حرج. أما دخوله عند أم سليم وغيرها من النساء فهن قريباته رضي الله عنهن وهن محارمه، فله أن يدخل وأن يخرج عليهن ولا حرج في ذلك. فتقول عائشة: (فحسنت توبتها بعد وتزوجت، وكانت تأتيني بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى النبي عليه الصلاة والسلام). رب سائل يسأل فيقول: ولم لم ترفع حاجتها إلى الن

شرح حديث: (كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده)

شرح حديث: (كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده) قال: [وحدثنا عبد بن حميد أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: (كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده). يعني: تستعير الشيء الذي يكون فيه الاستعارة بين النساء وتنكره إذا جاءت صاحبة ذلك الشيء تطلبه، وكانت هذه المرأة شريفة من علية القوم، لكن فيها هذه الخصلة: أنها تستعير الشيء وتجحده، وتقول: ما أخذت شيئاً. لكن اعلم -رحمك الله- أن إقامة الحد عليها كان للسرقة لا لأجل أنها تجحد العارية، وهذا محل نزاع بين أهل العلم، والراجح: أن جاحد العارية لا يقام عليه الحد، فجحد العارية ليس سرقة، ففيه التعزير دون الحد، وذكر عائشة رضي الله عنها لهذه الخصلة إنما هو ذكر لأحد صفاتها المعروفة بها. إذاً: القطع كان لأجل السرقة وليس لجحد العارية، وذكر جحدها للعارية وصف لها لا أنه سبب القطع. قالت: [(فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تقطع يدها، فأتى أهلها أسامة بن زيد فكلموه فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم)].

شرح حديث جابر في قصة المخزومية التي سرقت

شرح حديث جابر في قصة المخزومية التي سرقت قال: [وحدثني سلمة بن شبيب قال: حدثنا الحسن بن أعين. وهو الحسن بن محمد بن أعين ينسب غالباً إلى جده، وهو أبو علي القرشي الحراني، وحران قرية بدمشق. [قال: حدثنا معقل بن عبيد الله الجزري عن أبي الزبير محمد بن مسلم بن تدرس عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما: (أن امرأة من بني مخزوم سرقت فأتي بها النبي صلى الله عليه وسلم فعاذت بـ أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم)] لجأت إليها ولاذت بجنابها حتى تشفع لها عند النبي عليه الصلاة والسلام، (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والله لو كانت فاطمة لقطعت يدها، فقطعت)].

باب حد الزنا

باب حد الزنا الباب الثالث: [باب حد الزنا].

شرح حديث: (قد جعل الله لهن سبيلا)

شرح حديث: (قد جعل الله لهن سبيلاً) قال المصنف رحمه الله تعالى: [وحدثنا يحيى بن يحيى التميمي أخبرنا هشيم]-وهو ابن بشير بن القاسم السلمي أبو معاوية الواسطي - عن منصور - وهو ابن زاذان الواسطي أبو المغيرة الثقفي - عن الحسن البصري -سيد من سادات التابعين- عن حطان بن عبدالله الرقاشي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاًَ، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم)]. قال عليه الصلاة والسلام: (خذوا عني خذوا عني) أي: تحملوا هذا العلم عني وتلقوه مني، فإنه وحي السماء. وكرر ليؤكد أهمية الكلام، فقال: (قد جعل الله لهن سبيلاً) (لهن) ضمير يعود على النسوة، كأن الأمر قبل ذلك لم يكن لهن سبيلاً، حتى جعل الله على لسان رسوله سبيلاً لمن وقع من النساء في الزنا. قال: (قد جعل الله لهن سبيلاً) ما هو هذا السبيل؟ قال: (البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام) أو تغريب سنة. قال: (والثيب بالثيب جلد مائة والرجم) والمعلوم المشهور الذي عليه العمل ويعرفه القاصي والداني: أن البكر يجلد مائة ولا يعرف أكثر الناس التغريب، كما أن أكثر الناس يعرفون أن الثيب ترجم ولا تجلد؛ ولذلك هذه المسألة كانت محل نزاع كبير جداً بين أهل العلم؛ إذ إن العمل على أن البكر يجلد بغير نفي، والثيب ترجم بغير جلد. قال: [وحدثنا عمرو الناقد حدثنا هشيم أخبرنا منصور بهذا الإسناد مثله. حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار جميعاً عن عبد الأعلى - وهو ابن عبد الأعلى - قال ابن المثنى: حدثنا عبد الأعلى حدثنا سعيد عن قتادة]. إذا روى سعيد عن قتادة فإنما هو سعيد بن أبي عروبة البصري وقتادة إذا روى عن الحسن فهو الحسن البصري، فـ سعيد وقتادة والحسن كلهم بصريون، قال: [عن قتادة عن الحسن عن حطان بن عبد الله الرقاشي عن عبادة بن الصامت قال: (كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه كُرِب لذلك وتربد له وجهه)] يعني: أصابه كرب وهم وضيق. وتربد: تغير وتلون وجهه صلى الله عليه وسلم لشدة هذا الأمر، كيف لا والله تعالى يقول: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:5] فالقرآن والوحي ثقيل جداً؛ ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يشتد عرقه في الليلة الشديدة البرد إذا نزل عليه الوحي. قال: [(قال: فأنزل عليه ذات يوم -أي: وحي- فلقي كذلك -أي: تغير وجهه- فلما سري عنه)] أي: لما كشف عنه وارتفع عنه الوحي وصعد جبريل إلى ربه، [(قال: خذوا عني. قد جعل الله لهن سبيلاً)] وفي هذا إثبات أن السنة وحي من عند الله عز وجل؛ لأن هذه صورة الوحي التي كان ينزل بها جبريل عليه السلام، فلما فرغ النبي عليه الصلاة والسلام من الحالة التي كان عليها قال: (خذوا عني) فلم يذكر قرآناً وإنما ذكر سنة، وفي هذا دليل على أن القرآن والسنة وحيان من عند الله عز وجل، وبينهما أوجه اتفاق وأوجه افتراق في الخصائص. قال: [(خذوا عني. فقد جعل الله لهن سبيلاً، الثيب بالثيب والبكر بالبكر، الثيب جلد مائة ثم رجم بالحجارة، والبكر جلد مائة ثم نفي سنة). وحدثنا محمد بن المثنى وابن بشار قالا: حدثنا محمد بن جعفر - المعروف بـ غندر - حدثنا شعبة وحدثنا محمد بن بشار حدثنا معاذ بن هشام - وهو ابن أبي عبد الله الدستوائي - عن أبيه كلاهما - أي: شعبة وهشام الدستوائي - عن قتادة بهذا الإسناد - أي: عن قتادة عن الحسن عن حطان عن عبادة [غير أن في حديثهما: (البكر يجلد وينفى -ولم يذكر سنة- والثيب يجلد ويرجم). لا يذكران سنة ولا مائة] لم يذكرا: (جلد مائة)، فهذا لفظ عام يحمل على الألفاظ السابقة.

كلام النووي في أحاديث باب حد الزنا

كلام النووي في أحاديث باب حد الزنا

بيان أن حد الزنا هو السبيل الناسخ للحبس والأذى

بيان أن حد الزنا هو السبيل الناسخ للحبس والأذى قال الإمام النووي: (أما قوله صلى الله عليه وسلم: (فقد جعل الله لهن سبيلاً) فإشارة إلى قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء:15] فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا هو ذلك السبيل). وهذه الآية في سورة النساء، قال الله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء:15] والفاحشة هي: الزنا. {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء:15] يعني: يشهد على وقوع الفاحشة من هذه المرأة أربعة من المسلمين. {فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء:15] وهذا كان في أول الأمر، إذ كانت التي تزني تحبس في البيت حتى تموت في حبسها، ولا تخرج من بيتها أبداً، أو ينزل الله تعالى فيها قرآناً يحكم فيها بحكم. ثم قال تعالى: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا} [النساء:16] أي: الفاحشة. {مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} [النساء:16] لم يقل: فأقيموا عليهما الحد؛ لأنه لم ينزل الحد بعد، والإيذاء يكون بالشتم والضرب بالنعال والفضيحة والتعيير وغير ذلك. قال تعالى: {فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا} [النساء:16] أي: بعد الأذى {فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء:16]. قال الإمام ابن كثير: كان الحكم في ابتداء الإسلام أن المرأة إذا زنت فثبت زناها بالبينة العادلة حبست في بيت، فلا تمكن من الخروج منه إلى أن تموت؛ ولهذا قال: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ} [النساء:15] يعني: الزنا. {مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء:15] فالسبيل الذي جعله الله هو الناسخ لذلك. وحد الزانية إذا كان ثيَّباً أتينا به من السنة، وإذا كانت بكراً فحدها مذكور في القرآن: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]. أما القرآن فهو المنسوخ لفظاً ولم ينسخ حكماً، كما في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (كان فيما أنزل الله عز وجل في القرآن: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة). قوله: (ارجموهما البتة) يعني: حتى يموتا. فهذه آية نزلت من السماء في كتاب الله عز وجل، فرفع الله تعالى لفظها ولم يرفع حكمها، وسنأتي بالأدلة على ذلك بإذن الله. الشاهد الثاني على أننا علمنا أن حكم الثيب من السنة: (والثيب بالثيب جلد مائة والرجم). وإذا كان القرآن ليس فيه الرجم فهذا دليل على أن السنة تستقل بأحكام ليست في القرآن، وهذا رد على من يزعمون أنهم قرآنيون ويطالبوننا أن نأتي لهم بكل حكم من القرآن الكريم، فهؤلاء هم أبعد الناس عن القرآن الكريم، كما أنهم أبعد الناس عن سنة النبي الأمين عليه الصلاة والسلام.

إثبات أن السنة تنسخ القرآن

إثبات أن السنة تنسخ القرآن وفي هذا إثبات أن السنة تنسخ القرآن كما أن القرآن ينسخ السنة، وهذا مذهب جماهير العلماء. فالسبيل في قوله تعالى: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء:15]. هو قوله عليه الصلاة والسلام الموحى إليه من السماء: (البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم)، وهذا السبيل نسخ قول الله عز وجل: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} [النساء:15] فالتي تزني يقام عليها الحد بكراً كانت أم ثيباً، أما الإمساك في البيوت فهذا حكم صار منسوخاً، وفي هذا إثبات أن السنة تنسخ القرآن. قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان الحكم كذلك حتى أنزل الله سورة النور فنسخها بالجلد أو الرجم. وهو قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]. وأخرج الإمام أحمد هذا الحديث الذي أخرجه مسلم عن عبادة بن الصامت: (كان إذا نزل عليه الوحي أثر عليه وكرب لذلك وتربد وجهه)، ثم ذكر الترمذي كذلك هذا الحديث: (خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم). وكذلك عند أبي داود الطيالسي حديث عبادة الذي ذكرناه هذا: (خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة). وذكر الحجارة في الحديث ليس على سبيل القيد؛ لأن إجماع العلماء منعقد على أن الرجم يجوز بأي شيء غير الحجارة، كما في الاستجمار تماماً، والاستجمار قد ورد في النصوص بأنه بالحجارة، لكن إن تم الاستجمار بغير الحجارة جاز.

رجم الزاني الثيب

رجم الزاني الثيب قال: وقد ذهب الإمام أحمد بن حنبل إلى الجمع بين الجلد والرجم في حق الثيب الزاني. يعني: مذهب الحنابلة الجمع بين الجلد والرجم في حق الثيب الزاني، خلافاً للجمهور يرى أن الثيب الزاني إنما يرجم فقط من غير جلد، أي: أخذوه بأقصى العقوبتين، فأقصى العقوبة الرجم. قال: قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزاً والغامدية واليهوديين ولم يثبت أنه جلدهم قبل الرجم. وإنما رجمهم مباشرة، ففعله عليه الصلاة والسلام ناسخ عند الجمهور لقوله: (وجلد مائة). قال: أما قوله تعالى: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} [النساء:16] أي: واللذان يفعلان الفاحشة فآذوهما. قال ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير وغيرهما: أي: أوذوهما. وقال عبد الله بن كثير: نزلت في الرجل والمرأة إذا زنيا. وقال السدي: نزلت في الفتيان من قبل أن يتزوجوا. وقال مجاهد: نزلت في الرجلين إذا فعلا ـ يعني: اللواط. وقيل غير ذلك في هذا النص. قال: وقوله: {فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا} [النساء:16] أي: أقلعا ونزعا عما كانا عليه وصلحت أعمالهما وحسنت. {فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} [النساء:16] أي: لا تعنفوهما بكلام قبيح بعد ذلك. لأنه لا يحل لأحد قط أن يعير أحداً وقع في ذنب فتاب منه، وأنتم تعلمون حديث المحاجة بين آدم وموسى، فحاج آدم موسى؛ لأن موسى عيره بذلك بعد أن تاب، والله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء:16]. قال الإمام النووي عليه رحمة الله: (اختلف العلماء في هذه الآية: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} [النساء:15] فقيل: هي محكمة، وهذا الحديث مفسر لها. وقيل: بل منسوخة بالآية التي في سورة النور: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور:2]. وقيل: إن آية النور في البكرين وهذه الآية في الثيبين).

وجوب جلد الزاني البكر وذكر الخلاف في نفيه ورجم الثيب وجلده

وجوب جلد الزاني البكر وذكر الخلاف في نفيه ورجم الثيب وجلده أجمع العلماء على وجوب جلد الزاني البكر مائة، ليس هناك خلاف على هذا، ولكن الخلاف: هل ينفى أو لا؟ فالإجماع منعقد على أن البكر إذا زنى يجلد مائة جلدة، ووقع الخلاف في حقه في التغريب، وانعقد الإجماع في حق الثيب بالرجم، ووقع الخلاف في جلده مائة. قال النووي: (ولم يخالف في هذا أحد من أهل القبلة، إلا ما حكى القاضي عياض وغيره عن الخوارج وبعض المعتزلة كـ النظام وأصحابه؛ فإنهم لم يقولوا بالرجم. وهذا رأي في غاية الشذوذ). قال: (واختلفوا في جلد الثيب مع الرجم) لأن الرجم لا خلاف عليه، لكنهم اختلفوا في إلحاق الجلد بالرجم. (فقالت طائفة: يجب الجمع بينهما فيجلد ثم يرجم). وهذا مذهب الحنابلة كما قلنا. (وبه قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه والحسن البصري وإسحاق بن راهويه وداود وأهل الظاهر وبعض أصحاب الشافعي. وقال جماهير العلماء: الواجب الرجم وحده). الرجم فقط هو الواجب، ولا بأس أن يجلد لكن الجلد ليس بواجب. إذاً: هم لم يختلفوا في إيقاع الجلد، وإنما اختلفوا في تأكيد وحكم الجلد، فبعض أهل العلم قال: يجب الجمع بين الجلد والرجم، والبعض الآخر قال: بل الرجم هو الواجب والجلد جائز، ولكنه ليس واجباً. وهذا مذهب الجماهير. قال: (وحكى القاضي عن طائفة من أهل الحديث: أنه يجب الجمع بينهما إذا كان الزاني شيخاً ثيباً) أي: أن المقصود: أن هذا رجل ثيب متزوج من قبل، وأيضاً شيخ كبير قد انطفأت فيه نار الشهوة، ومع هذا يزني، فيصير هذا أشد بغضاً؛ ولذلك شددوا عليه من العقوبة؛ لأن هذه الجريمة منكرة من كل من أتى بها ثيباً كان أم بكراً، لكنها أشد نكارة إذا أتت من امرأة كبيرة شمطاء عجوز محصنة أو أتى هذا الجرم من رجل كبير شيخ قد انطفأت نار شهوته، فلا يمكن أبداً أن يستوي في القبح فعله مع فعل الشاب الذي تثور شهوته؛ ولذلك قالت طائفة من أهل الحديث: يجب الجمع بين الجلد والرجم إذا كان الزاني شيخاً ثيباً، فإذا كان شاباً ثيباً اقتصر على الرجم. وهذا مذهب باطل لا أصل له. هذا كلام الإمام النووي؛ لأن هذا التفريق ليس عليه دليل. قال: (وحجة الجمهور: أن النبي صلى الله عليه وسلم اقتصر على رجم الثيب في أحاديث كثيرة، فهنا قصة ماعز وقصة المرأة الغامدية. وكذا قصة اليهوديين حيث احتكم اليهود إلى النبي عليه الصلاة والسلام أن يقيم فيهم شرع الله فحكم برجمهما، ولم يثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر بجلدهما، فتبين أن الجلد ليس بحتم، بدليل: أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله ولكنه لم يعمل به. قال: (وأما قوله في البكر: (نفي سنة) ففيه حجة للشافعي والجماهير أنه يجب نفيه سنة رجلاً كان أو امرأة). وقال الحسن: لا يجب النفي. وإنما هو جائز، فكما قلنا في جمع الجلد مع الرجم في حق الثيب نقول كذلك في النفي مع الجلد في حق البكر. وقال مالك والأوزاعي: لا نفي على النساء؛ لأن هذا ينافي الطبيعة التي خلقت لأجلها النساء، إذ إن المرأة لا تخرج من بيتها، وصلاتها في بيتها أحب إلى الله عز وجل من صلاتها في المسجد، فهذا يتنافى مع تغريب المرأة. قال: (وقال علي بن أبي طالب: لا نفي على النساء؛ لأنها عورة، وفي نفيها تضييع لها وتعريض لها للفتنة؛ ولهذا نهيت عن السفر إلا مع محرم). قال: (وحجة الشافعي: (البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة)). وهذا نص عام يشمل البكر من الرجال والنساء.

معنى قوله: (البكر بالبكر والثيب بالثيب)

معنى قوله: (البكر بالبكر والثيب بالثيب) قال الإمام النووي رحمه الله: أما قوله: (البكر بالبكر والثيب بالثيب) فليس هو على سبيل الاشتراط). حتى لا يفهم أحد أن الثيب إذا زنى بثيب يرجم الاثنان، وإذا زنى بكر ببكر يجلد الاثنان، فالمقصود: أن عقوبة البكر سواء زنى ببكر أو زنى بثيب الجلد، وعقوبة الثيب إذا زنى بثيب أو زنى ببكر الرجم. قال: (بل حد البكر الجلد والتغريب سواء زنى ببكر أم بثيب، وحد الثيب الرجم سواء زنى بثيب أم ببكر؛ فهو شبيه بالتقييد الذي يخرج على الغالب). قال: (واعلم أن المراد بالبكر من الرجال والنساء: من لم يجامع في نكاح صحيح وهو حر بالغ عاقل). أي: أن البكر: هو من لم يجامع، والثيب: هو من جامع، وشرط الثيب أن يجامع في نكاح صحيح، لا وطء بشبهة ولا نكاح فاسد، بل نكاح صحيح قد اكتملت شروطه وأركانه، هذا الذي يسمى فيه صاحبه ثيباً، فلو أن رجلاً دخل بامرأة وهو مجبوب أو عنين لا يقوى على إتيان النساء وظلت سنوات ولم يفض بكارتها ثم زنت، هل يقام عليها حد الثيب أو البكر؟ A يقام عليها حد البكر، فالضابط في اعتبار الثيوبة والبكارة ليس هو البناء، وإنما هو الجماع. كذلك لو زنت البكر قبل البناء، ثم زنت بعد ذلك هل يعتبر زناها الأول رافعاً لوصف البكارة؟ A لا يعتبر، وإن زنت قبل الإحصان مراراً وتكراراً فهي بكر. إذاً: الضابط في حق من بني بها: الجماع، والضابط في حق من لم تتزوج الزواج الصحيح. فهاتان قاعدتان ينبغي حفظهما جيداً، بل ينبغي أن يكون المحدود بالغاً؛ لأن غير البالغ ليس مكلفاً، كما أنه ينبغي أن يكون عاقلاً احترازاً من المجنون، وينبغي أن يكون حراً، والرجل والمرأة في هذا سواء، وسواء في كل هذا المسلم والكافر والرشيد والمحجور عليه لسفه أو غيره. أستغفر الله تعالى لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد.

كتاب الحدود - رجم الثيب في الزنا

شرح صحيح مسلم - كتاب الحدود - رجم الثيب في الزنا لقد شرع الله تعالى لعباده أحكاماً، وحد لهم حدوداً يحفظون بها دماءهم وأموالهم وأعراضهم؛ وذلك لتستقيم حياتهم، ويفوزوا بالسعادة في الدارين، ومن هذه الحدود حد الزنا، وهو الجلد للبكر وتغريب عام، والرجم للزاني المحصن، وقد جعل الله سبحانه هذه الحدود كفارة لمن تعداها وتجاوزها، فمن أقيم عليه الحد فلا يلعن ولا ينتقص؛ لأن الحدود كفارات لأصحابها.

باب رجم الثيب في الزنا

باب رجم الثيب في الزنا بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وبعد: فما زال الكلام في الزنا موصولاً -نسأل الله تعالى لنا ولكم العافية- فالباب الرابع باب: [رجم الثيب في الزنا]. والثيب: هو المحصن سواء كان رجلاً أو امرأة. والمحصن: هو الناكح أو المنكوح -الرجل الناكح والمرأة هي المنكوح- بعقد صحيح. ونحن قلنا في الدرس الماضي: أن الإحصان يجب أن يكون في عقد أو زواج صحيح لا فاسد ولا وطء بشبهة.

شرح حديث عمر بن الخطاب في رجم الزاني المحصن

شرح حديث عمر بن الخطاب في رجم الزاني المحصن والآن مع باب رجم الثيب في الزنا. قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثني أبو الطاهر وحرملة بن يحيى قالا: حدثنا ابن وهب - عبد الله بن وهب المصري - أخبرني يونس عن ابن شهاب]. وقلنا مراراً: أن يونس إذا أتى بين ابن وهب وابن شهاب فإنما هو يونس بن يزيد الأيلي. قال: [أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة المسعودي أنه سمع عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يقول: (قال عمر بن الخطاب وهو جالس على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله قد بعث محمداً بالحق صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل عليه آية الرجم قرأناها ووعيناها وعقلناها، فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله؛ فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله عز وجل، وإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف)] حديث جميل ورائع جداً، وفيه فوائد عظيمة. قوله: (قال عمر رضي الله عنه ذات يوم وهو جالس على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم). وهذا يدل على أن الأمر كان شائعاً بين الصحابة بغير استنكار، وإلا لو كان كلام عمر فيه ما ينكر لأنكر عليه السامعون، وهم من هم في العلم والإمامة والسيادة، ولا يخشون في الله لا عمر ولا غير عمر، فلو كان في كلام عمر ما لا يشهد له الكتاب ولا السنة لأنكر عليه جمع من أصحابه، فلما لم ينكر عليه أحد دل ذلك على أن عمر رضي الله عنه إنما خاطب الصحابة رضي الله عنهم بأمر كان مستقراً لديهم، وكانوا يعرفونه سلفاً. فكان مما قال عمر رضي الله عنه: (إن الله قد بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق) وهذا حق لا مرية فيه. قوله: (وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل عليه آية الرجم) أي: كان مما أنزل على النبي محمد في القرآن الكريم آية الرجم التي هي: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة) وهذا كلام الله عز وجل قد جاء به جبريل من السماء وحياً إلى النبي عليه الصلاة والسلام. قوله: (الشيخ والشيخة) أي: المحصن والمحصنة. قوله: (إذا زنيا فارجموهما ألبتة) يعني: ارجموهما حتى الموت. ولكن هذه الآية نسخت تلاوة ولم تنسخ حكماً، فحكمها باق إلى قيام الساعة، أما لفظها في كتاب الله فمنسوخ، والنسخ في القرآن إما نسخ لفظي مع بقاء الحكم كما هو الحال في هذه الآية، وإما نسخ الحكم وبقاء اللفظ كما هو الحال في الكثير من الآيات وهو ما يعرف عند أهل العلم بالناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم، وإما أن تنسخ الآية تلاوة وحكماً. فهذه الثلاثة أنواع من النسخ في كتاب الله عز وجل. والقرآن ينسخ بعضه بعضاً، كما أن القرآن ينسخ السنة، والسنة تنسخ بعضها بعضاً، كما أن السنة تنسخ القرآن أيضاً. قوله: فقال عمر: (فكان مما أنزل عليه آية الرجم، قرأناها) أي: في حضرة النبي عليه الصلاة والسلام. (ووعيناها) وعياً أكيداً. قال: (وعقلناها، فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده). بعد بيان أن آية الرجم منسوخة انتقل بعد ذلك إلى السنة العملية للنبي صلى الله عليه وسلم فبين أنه قد رجم، وأن الصحابة رضي الله عنهم قد رجموا من بعده، رجم أبو بكر ورجم عمر ورجم عثمان ورجم علي رضي الله عنهم أجمعين. وأنتم تعلمون أننا مأمورون باتباع سنة الخلفاء الراشدين، وأنهم راشدون مهديون، وقد أمرنا أن نتمسك بسنتهم، وأن نعض عليها بالنواجذ؛ لأنها دين، ويكاد إجماع الخلفاء الأربعة يكون إجماعاً معتبراً، لولا أن بعض أهل العلم قالوا: إجماع الأربعة ليس إجماعاً، إنما الإجماع المعتبر هو إجماع الصحابة رضي الله عنهم. قال: (فأخشى إن طال بالناس زمان) يعني: أخشى إن طال بالناس العهد وطالت بهم الأيام. (أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله) إنما الذي نجده في كتاب الله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2] فالجلد في كتاب الله، أما الرجم فليس في كتاب الله. والخوارج وبعض فرق الضلال قالوا: لا نجد في كتاب الله الرجم. وقال ذلك من بعدهم ورثة الأسافل والأراذل المسمون بالقرآنيين في هذا الزمان. قالوا: ما وجدنا في كتاب الله حلالاً حللناه، وما وجدنا في كتاب الله حراماً حرمناه. والنبي عليه الصلاة والسلام قد أخبرنا عن هؤلاء. قال: (لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته شبعان يأتيه الأمر

كلام النووي على حديث عمر بن الخطاب في الرجم

كلام النووي على حديث عمر بن الخطاب في الرجم بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وبعد: فما زال الكلام في الزنا موصولاً -نسأل الله تعالى لنا ولكم العافية- فالباب الرابع باب: [رجم الثيب في الزنا]. والثيب: هو المحصن سواء كان رجلاً أو امرأة. والمحصن: هو الناكح أو المنكوح -الرجل الناكح والمرأة هي المنكوح- بعقد صحيح. ونحن قلنا في الدرس الماضي: أن الإحصان يجب أن يكون في عقد أو زواج صحيح لا فاسد ولا وطء بشبهة.

بيان عقوبة الزاني

بيان عقوبة الزاني قال: (أجمع العلماء على أن الرجم لا يكون إلا على من زنى وهو محصن) أجمع العلماء على أن الرجم لا يكون إلا في حق الزاني المحصن، وأما غير المحصن فيكون في حقه الجلد، والخلاف قائم بين أهل العلم فيما يتعلق بعقوبة الزاني سواء كان محصناً أو غير محصن. فإذا كان محصناً فمنهم من قال: عليه جلد مائة والرجم. وهذا ظاهر النصوص. ومنهم من قال: بل عليه الرجم دون الجلد؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام رجم دون أن يجلد، وهو الذي أمر بالجلد وتركه عليه الصلاة والسلام. أما غير المحصن فإنه يجلد مائة ويغرب عاماً. ومنهم من قال: يجلد بغير تغريب. وقد فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً. قال: (كما أجمع أهل العلم على أنه إذا قامت البينة بزناه وهو محصن يرجم). يعني: البينة لا خلاف عليها، فإذا قامت البينة رجم بالإجماع.

وجوب إقامة البينة لإقامة حد الزنا

وجوب إقامة البينة لإقامة حد الزنا قال: (وأجمعوا على أن البينة أربعة شهداء ذكور عدول). وهذا احتراز من القلة وليس من الكثرة، فلا يمنع أن يشهد خمسة أو ستة أو عشرة، بل هذا أوكد لتيقن وقوع الجريمة، لكنه لو شهد ثلاثة أو اثنان وإن كانوا من أعدل الناس لا يقام الحد إلا على زان شهد عليه أربعة، وهؤلاء الأربعة ذكور؛ احترازاً من النساء. ولم يخالف في ذلك إلا ابن حزم. قال: لا بأس أن يشهد رجلان وأربع نسوة، أو يشهد ثلاثة وامرأتان، أو واحد وست من النساء، أو ثمان من النساء. وهذه مظاهرة، إذا إن القرآن حدد أربعة شهداء والسنة حددت أربعة شهود، والشاهد يشترط فيه أن يكون ذكراً، كما يشترط فيه أن يكون عدلاً؛ احترازاً من شهادة الفاسق أو الكافر من باب أولى. فشهادة الفاسق لا تصح وليس عليها العمل في هذا الجرم أو في هذه الفاحشة، فإنه يشترط فيها العدالة, والعدالة باختصار هي: ملكة في النفس تحمل صاحبها على ملازمة التقوى والمروءة. ومنهم من عرف العدالة بعدم اقتراف كبائر الذنوب، وترك الإصرار على الصغائر. يعني: لا يكون قد ارتكب كبيرة ولا أصر على صغيرة. هذا تعريف آخر للعدالة، وهناك تعريفات أخرى غير ما ذكرناه، وأرجح التعريفات فيها: أنها ملكة تحمل صاحبها على ملازمة التقوى والمروءة. وهذا تعريف الحافظ ابن حجر لمعنى العدالة. قال: (وأجمعوا على أن البينة أربعة شهداء ذكور عدول، هذا إذا شهدوا على نفس الزنا). يعني قالوا: رأينا بأعيننا الإيلاج؛ فإنه لا يكفي أن رجلاً قبَّل امرأة، ولا يلزم من هذا أنه يكون قد باشرها أو جامعها، ولو فاخذها ولو نام معها في لحاف واحد لا يلزم من ذلك أن يكون قد جامعها، وهذا شيء في غاية القبح وفي غاية الخسة والنذالة، لكن هناك فارق عظيم جداً بين هذا الشيء القبيح وبين ترتب إقامة الحد عليه؛ لأن إقامة الحد لا يقام إلا على من زنى حقيقة، وشهد الشهود أنه قد أولج في المرأة حقيقة، وأنهم رأوا ذلك بأعينهم. فمثلاً: هب أن ثلاثة شهدوا عند القاضي أو الوالي أو النائب أنهم قد رأوا الإيلاج بأعينهم، فعلى القاضي أن يقيم على الشهود حد القذف؛ لأن النصاب لم يجتمع، وأعراض الناس مصانة أن تدنس، وهذا فيه أعظم زاجر للناس ليكفوا ألسنتهم عن الخوض في أعراض الآخرين حتى ولو كانوا كفاراً؛ لأنه لا يحل لنا أن نتهم الكفار بتهمة لم يرتكبوها، وهذا من عدالة الإسلام؛ فإنه لم يأذن بذلك.

وجوب رجم المحصن إذا أقر بالزنا

وجوب رجم المحصن إذا أقر بالزنا قال: (هذا إذا شهدوا على نفس الزنا، ولا يقبل دون الأربعة وإن اختلفوا في صفاتهم). قال: (وأجمعوا على وجوب الرجم على من اعترف بالزنا وهو محصن يصح إقراره بالحد). إذا أتى إنسان وأقر بين يدي الوالي أو الحاكم وقال: أنا زنيت، وشهد على ذلك واعترف وأقر أقيم عليه الحد، ولكنهم اختلفوا في إقرار السكران، وهل يلزم أن يعترف الزاني أربع مرات عند القاضي أنه قد زنى؟ الحقيقة أن من قالوا بلزوم تكرار الإقرار بين يدي القاضي أقام كل إقرار مقام الشاهد، وقالوا: لا بد من أن يشهد وأن يقر بين يدي القاضي أربع مرات. وإنما قالوا ذلك قياساً على الشهود، فقالوا: كل إقرار يحل محل الشاهد. كما أنه قد ورد في بعض الروايات التي تحدثت عن جريمة الزنا التي وقعت من ماعز بن مالك الأسلمي أنه أقر بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام أربع مرات. قال: (وأجمعوا على وجوب الرجم على من اعترف بالزنا وهو محصن يصح إقراره بالحد، واختلفوا في اشتراط تكرار إقراره أربع مرات، وسنذكره قريباً إن شاء الله تعالى).

اختلاف العلماء في جعل الحبل لغير ذات الزوج أو السيد بينة

اختلاف العلماء في جعل الحبل لغير ذات الزوج أو السيد بينة الحبل إذا ظهر على امرأة لها زوج أو سيد لا يقام عليها الحد بالإجماع، فكيف يقام عليها الحد وهي حاملة من زوجها وهي امرأة ذات رجل، فلا يقام عليها الحد إلا إذا أنكر زوجها فبينهما ما يسمى باللعان؟ قال: (أما الحبل وحده فمذهب عمر رضي الله عنه وجوب الحد به إذا لم يكن لها زوج ولا سيد، وتابعه مالك وأصحابه فقالوا: إذا حبلت ولم يعلم لها زوج ولا سيد، ولا عرفنا إكراهها لزمها الحد) وهذا شيء ثالث: إذا كانت هذه المرأة لا زوج لها ولا سيد، ولا علمنا أن أحداً أكرهها -لأن المرأة إذا أكرهت على الزنا لا يقام عليها الحد- حدت. قال: (وقال الشافعي وأبو حنيفة وجماهير العلماء: لا حد عليها بمجرد الحبل سواء كان لها زوج أو سيد أم لا، سواء الغريبة وغيرها، وسواء ادعت الإكراه أم سكتت، فلا حد عليها مطلقاً إلا ببينة أو اعتراف) فلم يعتبروا الحبل كافياً في إقامة الحد عليها. قال: (لأن الحدود تسقط بالشبهات).

مسألة: زنا الجني بالمرأة من الإنس

مسألة: زنا الجني بالمرأة من الإنس لعلكم تعلمون أن بعض النساء في هذا الزمان يظهر عليها الحبل وليس لها زوج، فإذا سئلت عن ذلك قالت: إنما يجامعني القرين. أي: يجامعني الشيطان، أو يجامعني جني قد لبسني وعشقني وعشقته، وهذا مزلق خطير جداً تدندن به الفاجرات صويحبات الفاحشة ومن درجت على البغاء، وتستند إلى أنها مصروعة أو ملبوسة وأن من صرعها أو لبسها هو الذي يجامعها، ولو فتح هذا الباب على مصراعيه، لادعت كل امرأة أرادت البغاء أن الجني هو الذي يعاشرها وأن هذا فوق طاقتها. فكيف سيكون الحال؟! فهذا كلام مرفوض، وكلام غير صحيح، فلو أن امرأة واحدة زنت واحتجت بالجن وأقيم عليها الحد لفكرت كل امرأة ألف مرة أن تسلك هذا المسلك أو أن تعتمد على أن الجني هو الذي يجامعها. وأنتم قد سمعتم هذا، وأنا سمعته مراراً وتكرراً، فلا شك أن هذا باب عظيم جداً وسبب في من أبواب الفاحشة، ولو صدقناه وآمنا به لكان هذا باباً عظيماً جداً وسبب في انتشار الفاحشة في المجتمع. وعلى أية حال: عقيدتنا أن الجن يصرع الإنس، وأن الإنس يستعينون بالجن فيزيدهم الجن رهقاً، وأننا نؤمن بالجن كما قد آمنا بالإنس، وأن الاتصال قائم بين الإنس والجن ولكن ليس على أساس شرعي. وهناك فارق عظيم جداً بين إمكانية وقوع الشيء وبين مشروعية هذا الشيء، فإمكانية الفجور بين الإنس والجن قائمة، ويمكن أن يتصل الإنسي بالجني أو الجني بالإنسي، ويكون بينهما من الزنا والفواحش كما بين الجن والجن وكما بين الإنس والإنس، لكن هذا غير مشروع، ونحن نؤمن بالصرع كما نؤمن أن علاجه في كتاب الله وفي سنة الرسول عليه الصلاة والسلام. إذاً: هناك فارق بين إمكانية الوصال والفجور بين الإنس والجن وبين مشروعية ذلك، فنقول: إن عالم الإنس له خصائصه وله أصوله وله مادته التي تكون منها، وهي تختلف عن مادة الجن، فالله تعالى خلق الجن من نار، وخلق الإنس من الطين، وخلق الملائكة من النور، فهذه ثلاثة مصادر أصيلة مختلفة بعضها عن بعض في أصل تكوين هؤلاء الخلق، فالجن لا يتصلون بالإنس اتصالاً مشروعاً بما يسمى النكاح لاختلاف الطبيعة. وأما زعم من يزعم أنه متزوج بجنية أو جني يزعم أنه متزوج بفلانة من الإنس فهذا كلام يمكن وقوعه لكنه غير مشروع، كما أن الزنا بين الرجل والمرأة يمكن وقوعه لكنه أمر غير مشروع، ففارق عظيم بين المشروعية وبين إمكانية الوقوع، فالوقوع ممكن، بل ممكن أن تتم الفاحشة بين إنسان وأنثى الكلاب وأنثى الحمير وأنثى الطير وأنثى الوحوش والسباع، لكنه غير مشروع. فلو زعم إنسان أنه قد تزوج أنثى الكلاب فهذا لا يصح لاختلاف الطبيعتين، ولو زعم أحد أن ذكر الفهد تزوج بأنثى الحمار فهذا غير صحيح لاختلاف الطبيعة، وهكذا اختلاف الطبيعة بين الإنس والجن. والأصل في الجن الكذب، فلا يُصدقون لأول وهلة، وقد مررنا بأحوال وأطوار كثيرة جداً، وكان من أطرف هذه الأحوال: أن شيخنا الألباني عليه رحمة الله ذهب إليه أحد أصحابنا -وهذا في سنة (1984م) أو (1985م) - وقال: يا شيخ! أنا أدعوك لعقد نكاحي على امرأة من الجن، فنصحه الشيخ بأن هذا لن يتم ولن يرضى الجن بذلك. فقال الرجل: بل يرضون، وقد أخذت عليها العهود والمواثيق وغير ذلك. فقال: إذاً: على بركة الله، شريطة أن تظهر لنا وأن نناقشها وتناقشنا. فقال: والله أنا أعرض الموضوع عليها وإن شاء الله يكون خيراً، وحدد موعد العقد، وحضرت العروس ولم يرها من الحاضرين أحد قط، فقال هذا الزوج: يا شيخ! والله هي كلما قابلتني أو قابلتها طلبت مني أن أقرأ عليها قرآناً؛ لتسمع وتنعم بالقرآن الكريم. فقال الشيخ الذكي رحمه الله: ليست العبرة بأن تسمع القرآن إنما العبرة بأن تقرأ هي القرآن، فإذا كانت تتحرج أن تظهر علينا فلا أقل من أن تقرأ هي ونسمع نحن صوتها. فانصرفت هذه الجنية إلى غير رجعة. إذاً: بالنسبة للحبل اختلف فيه أهل العلم، فذهب الجماهير إلى أن الحبل وحده لا يقام به الحد سواء كان لها زوج أو سيد، أو ليس لها، وسواء كانت غريبة أو من أهل البلد. وأما مالك وأصحابه ومن قبلهم عمر بن الخطاب فقالوا: إن الحبل يقوم مقام البينة، أو يقوم مقام الإقرار، وبالتالي يقام عليها الحد، وهذا الذي يترجح لدي: أن المرأة إذا ظهر عليها الحبل ولم يكن لها زوج ولا سيد أقيم عليها الحد.

باب من اعترف على نفسه بالزنا

باب من اعترف على نفسه بالزنا الباب الخامس: (باب من اعترف على نفسه بالزنا) يعني: أقر على نفسه بجريمة الزنا.

قصة رجم ماعز في الزنا برواية أبي هريرة

قصة رجم ماعز في الزنا برواية أبي هريرة قال المصنف رحمه الله تعالى: [وحدثني عبد الملك بن شعيب بن الليث بن سعد حدثني أبي عن جدي قال: حدثني عقيل - وهو عقيل بن خالد بن عقيل الرحالة - عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف وسعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (أتى رجل من المسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فناداه فقال: يا رسول الله! إني زنيت -أي: بصوت مرتفع- فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم)] فلما أعرض عنه جاءه من قبل وجهه وقال: (يا رسول الله! إني زنيت) فأشاح بوجهه الناحية الأخرى، فأتاه من قبل وجهه عليه الصلاة والسلام من الناحية الثانية وقال: (يا رسول الله! إني زنيت) فأشاح عنه ناحية اليمين فأتاه من قبل وجهه وقال: (يا رسول الله! إني زنيت) فأشاح عنه جهة الشمال، فأتاه من جهة الشمال فقال: (يا رسول الله! إني زنيت) أي: أربع مرات. قال: [(فأعرض عنه حتى ثنى ذلك عليه أربع مرات، فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أبك جنون؟ قال: لا. قال: فهل أحصنت؟ قال: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهبوا به فارجموه)]. لما أقر على نفسه أربعاً، سأله النبي عليه الصلاة والسلام: (أبك جنون؟) أي: هل أنت مجنون؟ لأن إقرار المجنون لا عبرة به؛ لأنه ليس مكلفاً، فهو فاقد الأهلية. والجنون: آفة تلحق العقل فتغيبه وتجعل المرء يخرف أو يهرف بما لا يعرف. فقال: لا. لست مجنوناً. قال: (فهل أحصنت) أي: هل تزوجت؟ قال: (قال: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهبوا به فارجموه). ورجم بالحجارة. وأعداء الإسلام يقولون: هذا دين الوحشية ودين الدماء، المهم أنهم في كل قضية يلفقونها في الإسلام يقعون في أفحش منها. يقولون: كيف يجعل الإسلام للرجل أربع نسوة؟ فنقول: المرأة عندكم تتخذ مائة خليل، والرجل يتخذ مائة خليلة، وهذا عندكم لا ينكر؟! إذا كان اليهود ينقمون على نبينا أنه تزوج تسعاً من النسوة فإن داود عليه السلام تزوج العدد الهائل من النساء، وسليمان تزوج العدد الهائل من النساء صلى الله عليهما وسلم، وهذا أمر نحن نقبله ونحبه لأنه بشرع السماء، لكنكم تنكرون علينا شيئاً هو بعض ما عندكم، والفرق بيننا وبينكم أنه عندنا بإذن الشارع وأنه عندكم بغير إذن الشارع، وإنما هو معصية لله عز وجل إذ تتخذون الخليلات والعشيقات.

شرح حديث جابر بن عبد الله في رجم ماعز بن مالك

شرح حديث جابر بن عبد الله في رجم ماعز بن مالك قال: [قال: ابن شهاب: (فأخبرني من سمع جابر بن عبد الله يقول: فكنت فيمن رجمه، فرجمناه بالمصلى، فلما أذلقته الحجارة -أي: لما مسه أذى الحجارة- هرب منا، فأدركناه بالحرة فرجمناه)]. والحرة: مكان عند بقيع الغرقد، وهي المكان الذي يتكون من الحجارة السود، فلما هرب منهم توجه نحو الحرة فأدركوه فأقاموا عليه الحد هناك حتى قتلوه. وفي رواية: (أن رجلاً قابله عند الحرة فضربه بوظيف كان معه فقتله)، المهم أن هذا الرجل قتل عند الحرة. قال: [ورواه الليث أيضاً عن عبد الرحمن بن خالد بن مسافر عن ابن شهاب بهذا الإسناد. مثله]. قال: [وحدثنيه عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي حدثنا أبو اليمان - الحكم بن نافع الحمصي - أخبرنا شعيب - وهو ابن أبي حمزة الحمصي - عن الزهري بهذا الإسناد أيضاً، وفي حديثهما جميعاً قال ابن شهاب: أخبرني من سمع جابر بن عبد الله كما ذكر عقيل]. والمرء ربما يُقبل امرأة فيرى أن ذلك زنا، صحيح أنه زنا، لكنه ليس من الزنا الذي يقام عليه الحد، كما قال عليه الصلاة والسلام: (كتب على ابن آدم حظه من الزنا فهو مدركه لا محالة، فالعين تزنيان وزناهما النظر، واليدان تزنيان وزناهما البطش وغير ذلك. ثم قال: والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه). يعني: إقامة الحد كلها مترتبة على الفرج، وإن كانت هذه المعاصي التي تؤدي إلى الزنا تسمى زنا، لكنها ليست من النوع الذي يقام فيه الحد، ولذلك استفرغ النبي عليه الصلاة والسلام وسعه في درء الشبهات عن هذا المحدود وعن هذا المعترف المقر، يقول له: (لعلك لامست أو فاخذت أو قبلت) أي: لعلك فعلت ذلك وأنت متصور أن هذا هو الزنا الذي يقام به الحد، لكنه أقر أنه زنى (قال: نعم. يا رسول الله! قال: أقيموا عليه الحد) فبعد ذلك ليس هناك أدنى شبهة لدرء الحد عنه.

رواية جابر بن سمرة لقصة رجم ماعز بن مالك الأسلمي

رواية جابر بن سمرة لقصة رجم ماعز بن مالك الأسلمي قال: [وحدثني أبو كامل فضيل بن حسين الجحدري حدثنا أبو عوانة - الوضاح بن عبد الله اليشكري - عن سماك بن حرب عن جابر بن سمرة قال: (رأيت ماعز بن مالك حين جيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم) -والقصة التي مضت هي قصة ماعز - وهو رجل قصير أعضل)] أعضل أي: صاحب عضلات مفتولة، رجل قوي شديد الخلقة. قال: [(ليس عليه رداء)] الرداء: هو ما يلبس في أعلى البدن، والذي يلبس في أسفل البدن يسمى الإزار. قال: [(فشهد على نفسه أربع مرات أنه زنى)] فالذي يقول: لا بد من الإقرار أربع مرات يقف عند هذا الحديث ويستشهد به. قال: [(فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلعلك؟)] أي: اختصر. والمقصود: لعلك قبلت أو فاخذت أو لامست. وقد ساقه أبو داود في سننه صريحاً. قال: [(قال: لا والله! إنه قد زنى الأخر)] الأخر يعني: الأرذل أو السفيه أو الأبعد أو الغشيم، فهذا رجل يدعو على نفسه، وهكذا كان العرب إذا وجهوا سؤالاً عن أنفسهم واحتقروا أنفسهم بوقوعهم في معصية أو ذنب قالوا ذلك، كما جاء عن الرجل الذي أفطر في نهار رمضان بسبب جماع أهله، فقال: (يا رسول الله! هلك الأبعد -يقصد نفسه- قال: وما ذاك؟ قال: وقعت على امرأتي في نهار رمضان. قال: هل عندك رقبة؟ قال: لا. قال: فصم شهرين متتابعين. قال: وهل أوقعني فيما وقعت فيه إلا الصيام، لا أقوى على الصيام. قال: أطعم ستين مسكيناً. فقال: لا أجد يا رسول الله! فدخل النبي بيته وأتى بمكتل عظيم ممتلئ تمراً فأعطاه إياه وقال: أطعم منه ستين مسكيناً. قال: يا رسول الله! وهل تجد بين لابتيها -أي: جبليها. جبلي المدينة- أفقر مني ومن أهل بيتي. قال: اذهب فاجعلها في بيتك وفي أهل بيتك). الشاهد: أنه قال: (هلك الأبعد يا رسول الله!). وهنا قال: (إنه قد زنى الأخر. قال: [قال: فرجمه)] أي: بعد أن اعترف أربع مرات. قال: [(ثم خطب فقال: ألا كلما نفرنا غازين في سبيل الله خلف أحدهم له نبيب كنبيب التيس)] يعني كلما خرجنا للغزو يتخلف منكم واحد مع النساء أو العيال (له نبيب كنبيب التيس) أي: له صوت حين وقوع الجريمة منه كصوت التيس. وهذا تقريع وتوبيخ من النبي عليه الصلاة والسلام لمن همت به نفسه أن يباشر مثل هذه الفاحشة. قال: [(يمنح أحدهم الكثبة، أما والله إن يمكني من أحدهم لأنكلنه عنه)] يعني: لو أن الله تعالى مكنني من واحد يفعل هذا لنكلت به تنكيلاً. أي: لآذيته وضربته وقرعته وأقمت عليه الحد حتى يعتبر هو ومن معه. قال: [وحدثنا محمد بن المثنى وابن بشار -واللفظ لـ ابن المثنى - قالا: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن سماك بن حرب قال: وفي رواية: سمعت جابراً يقول: (أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل قصير أشعث ذي عضلات عليه إزار وقد زنى، فرده مرتين ثم أمر به فرجم)] انظروا إلى قوله: فرده مرتين، لم يرده في هذه الحالة أربعاً وإنما رده مرتين. وفي رواية: (فرده مرتين أو ثلاثاً). وهذا حجة الجمهور بأن الإقرار ولو مرة واحدة يكفي في إقامة الحد، وأنه لا يلزم الإقرار أربع مرات. قال: [(فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلما نفرنا غازين في سبيل الله تخلف أحدكم ينب نبيب التيس يمنح إحداهن الكثبة)] أي: يعطي المرأة لبنه وماءه. وهذا كناية عن الزنا. فقوله: (يمنح إحداهن) أي: يزني بالمرأة فيعطيها لبنه ويعطيها ماءه. قال: [(إن الله لا يمكني من أحد منهم) أي فعل ذلك (إلا جعلته نكالاً) أي: جعلته عبرة وعظة لمن همت به نفسه أن يصنع مثل صنيعه. قال: [فحدثته سعيد بن جبير فقال: (إنه رده أربع مرات)]. وفي رواية جابر كذلك قال: [(فرده مرتين)]. وفي رواية أبي عامر العقدي: (فرده مرتين أو ثلاثاً).

شرح حديث ابن عباس في رجم ماعز بن مالك

شرح حديث ابن عباس في رجم ماعز بن مالك أيضاً: في حديث ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ ماعز بن مالك: أحق ما بلغني عنك؟ قال: وما بلغك عني؟ قال: بلغني أنك وقعت بجارية آل فلان. قال: نعم يا رسول الله. فشهد أربع شهادات ثم أمر به فرجم). ولا تعارض بين هذه الرواية وبين الرواية السابقة: أنه هو الذي أتى إلى النبي وقال: (يا رسول الله! إني زنيت. أربع مرات)؛ وذلك لأن أصل القصة قد ورد مطولاً عند أبي داود في كتاب الحدود من طريق نعيم بن هزال وهو سيد ماعز، لما زنى ماعز رفع الأمر إلى سيده وقال: لقد زنيت. فاستدرجه سيده إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اذهب بنا إلى النبي لعله ينزل فيك قرآن) يعني: بالتوبة. فـ ماعز لم يأت إلى النبي عليه الصلاة والسلام ليقام عليه الحد، وإنما أتى بناءً على قول سيده وطمعاً في رحمة الله، وأن ينزل الله فيه قرآناً بالتوبة. ثم أوقف ماعزاً ودخل على النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! لقد زنى ماعز. ثم دخل ماعز فقال: يا رسول الله! إني زنيت، فأشاح عنه أربع مرات) حتى أقر عنده أربع مرات أو ثلاثاً أو اثنتين، ثم بدأت بعد ذلك أسئلة درء الحدود وإزالة الشبهات. قال: (لعلك قبلت، لعلك فاخذت) لعلك، لعلك لعلك، وهو يقول: (لا يا رسول الله!) حتى قال: (أبك جنون؟ قال: لا. قال: أأنت محصن؟ قال: نعم. قال: انظروا هل سكر صاحبكم؟) أي: هل هو سكران شارب خمر؟ قال: (فاستنكهه رجل من قومه -يعني: دنا من فمه حتى شم رائحته. قال:- يا رسول الله! والله ما به من سكر) فلما أزيلت هذه الشبهات كلها بقي إقامة الحد، لكن لما جيء بالرجل هذا قال: (يا رسول الله! أنا زنيت، فأشاح بوجهه الناحية الثانية) وكان بإمكان ماعز أن يرجع وحينئذ لا يسأله النبي عليه الصلاة والسلام، ولا يسأله، ولا يدرأ عنه الشبهات. وأنتم تعلمون أن النبي ما بدأ بدرء الشبهات إلا بعد الإقرار أربعاً، فقال: (أحق ما بلغني عنك؟ قال: وما بلغك عني؟ قال: بلغني أنك وقعت بجارية آل فلان. قال: نعم. قال: فشهد أربع شهادات ثم أمر به فرجم).

شرح حديث أبي سعيد الخدري في رجم ماعز بن مالك في الزنا

شرح حديث أبي سعيد الخدري في رجم ماعز بن مالك في الزنا أيضاً: وفي حديث أبي سعيد الخدري: [(أن رجلاً من أسلم - هو ماعز - يقال له: ماعز بن مالك، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أصبت فاحشة فأقمه علي)] يعني: فأقم علي الحد. قال: [(فرده النبي صلى الله عليه وسلم مراراً. قال: ثم سأل قومه فقالوا: ما نعلم به بأساً)] هل هذا مجنون؟ قالوا: لا. ما نعلم به جنوناً ولا بأساً ولا علة ولا آفة. قال: (إلا أنه أصاب شيئاً) يعني: هذا الرجل كان على الستر والسلامة وكان من الصالحين، وما ارتكب شيئاً يشينه إلا هذا الشيء. قال: [(يرى أنه لا يخرجه منه إلا أن يقام فيه الحد)] يعني: هذا الرجل لا نعلم عنه إلا خيراً، غير أنه قد ارتكب الفاحشة، وهو يرى أنه لا يخرج من هذا الذنب إلا بإقامة الحد عليه. قال: [(قال: فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمرنا أن نرجمه)] وليس في هذا الحديث ذكر أنه أقره أربعاً وإنما مرة واحدة. قال: [(فانطلقنا به إلى بقيع الغرقد)] وهو مكان بين البقيع وبين المسجد النبوي، فالمنطقة التي بين المسجد النبوي وبين بقيع الغرقد كانت منطقة يقام فيها الحدود، وتصلى فيها الأعياد، ويصلى فيها الاستسقاء وغير ذلك، فقد كانت خلاء أهل المدينة، وهي خلاء حقاً؛ لأنها صحراء فقد كان هذا المكان لصلاة العيد والاستسقاء والمحافل التي يجتمع لها الناس كصلاة الجنازة وغيرها؛ ولذلك يطلق عليه بعض أهل المدينة إلى يومنا هذا: (مصلى الجنائز)، مع أن الجنائز هناك يصلى عليها في المساجد الآن، لكن بعض أهل المدينة القدامى الذين أدركوا صلاة الجنازة خارج المسجد -وهو السنة- لا يزالون يطلقون على الساحة التي بين بقيع الغرقد وبين المسجد: مصلى الجنائز. فقوله: (فانطلقنا به إلى بقيع الغرقد) أي: إلى مصلى الجنائز. قال: [(فما أوثقناه ولا حفرنا له)] يعني: ما ربطناه بالحبال كي نقيم عليه الحد ولا يهرب، والسنة أن يحفر للرجل كما يحفر للمرأة، المرأة يحفر لها إلى صدرها فتوضع في الحفرة وترجم بالحجارة حتى تموت، وهذا أستر لها حتى لا تنكشف عورتها. أما الرجل فإنه يحفر له إما حفرة عظيمة أو حفرة يسيرة؛ ولذلك جاء في حق ماعز روايتان: رواية بين أيدينا: (فما أوثقناه ولا حفرنا له). ورواية: (فحفرنا له وأقمنا عليه الحد) وكلا الروايتين صحيحة، والجمع بينهما: أن قوله: (حفرنا له) أي: حفرة يسيرة وليست حفرة عميقة، بل يمكن الهرب منها؛ ولذلك هرب منهم إلى الحرة فتبعوه حتى قتلوه هناك. ومعنى: (فما أوثقناه ولا حفرنا له). أي: ما ربطناه ولا حفرنا له حفرة عظيمة كما حفرنا لغيره ممن أقمنا عليه الحد. قال: [(فرميناه بالعظم والمدر والخزف)] يعني: ما بكل شيء يمكن به الرمي، وهذا يدل على أن الحجارة غير متعينة. يعني: لا يلزم أن نرجم بالحجارة، المهم أي شيء يحدث إزهاق الروح مما يمكن إلقاؤه، فإقامة الحد بالسيف ليس من السنة، لكن بالحجارة وما يقوم مقامها كالخشب ونحوه، كما أن الاستجمار ورد النص فيه أنه بالحجارة إلا أن الحجارة غير متعينة، وإنما الاستجمار بالحجارة وما يقوم مقامها. قال: [(فاشتد واشتددنا خلفه)] يعني: أسرع يعدو هارباً. قال: [(واشتددنا خلفه)] يعني: أيضاً نحن جرينا وراءه وما تركناه. قال: [(حتى أتى عرض الحرة)] يعني: جانباً من جوانب الحرة. قال: [(فانتصب لنا فرميناه بجلاميد الحرة)] والجلاميد: جمع جلمود، وهي الحجارة العظيمة. قال: [(حتى سكت)] وفي رواية: (حتى سكن) والمعنى المراد: أنه مات. قال: [(ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً من العشي)] يعني: في الليلة هذه قام النبي خطيباً عليه الصلاة والسلام. [فقال: (أوكلما انطلقنا غزاة في سبيل الله تخلف رجل في عيالنا)] يعني: يبقى رجل في النسوة والأطفال وغير هؤلاء. قال: [(له نبيب كنبيب)] أي: طلباً للفاحشة والزنا كطلب التيس. قال: [(علي أن لا أوتى برجل فعل ذلك إلا نكلت به. قال: وما استغفر له ولا سبه)].

بيان العلة من ترك النبي الصلاة على ماعز وصلاته على الغامدية

بيان العلة من ترك النبي الصلاة على ماعز وصلاته على الغامدية لو قيل: لماذا لم يستغفر له وقد تاب بإقامة الحد عليه؟ ف A حتى لا يكون استغفار النبي صلى الله عليه وسلم ذريعة لغيره من الأحياء في طلب الاستغفار من النبي صلى الله عليه وسلم إن وقع فيما وقع فيه ماعز. إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم ترك الاستغفار له؛ مخافة أن يقع في مثل فعله الآخرون طلباً لاستغفار النبي عليه الصلاة والسلام. قال: (ولا سبه). فإن قيل: ولم لم يسبه وقد ارتكب الزنا؟ A لأنه قد تاب بإقامة الحد عليه. وأنتم تعلمون أن من تاب من الذنب كمن لا ذنب له، فكيف يسب من لا ذنب له؟ فترك النبي الاستغفار له كما ترك سبابه وشتمه، ولم يصل عليه، وإنما صلى على الغامدية، وذلك من باب الزجر للأحياء عن ذلك. وصلى على الغامدية للفارق بين ما كان من أمر ماعز وما كان من أمر الغامدية، فهناك أمور دعت النبي عليه الصلاة والسلام إلى ألا يصلي على ماعز. يقول العلماء: لأن ماعزاً فر لما مسه العذاب، والغامدية لم تفر، وماعز أقر في مجلس واحد أربع مرات، فحكم النبي عليه الصلاة والسلام في نفس المجلس بالرجم، أما الغامدية أتت وقالت: (إني فجرت، فلا تردني كما رددت ماعزاً بالأمس) أي: فلا تفعل معي وتقرني أربع مرات كما فعلت مع ماعز بالأمس. وقالت له: (وأنا حبلى من الزنا. قال: ارجعي حتى تضعي حملكِ. فرجعت. فلما وضعت حملها أتت به -وكل هذا والصحابة ينظرون- فقال: ارجعي حتى تفطميه، فرجعت حتى فطمته، ثم أتت به إلى النبي عليه الصلاة والسلام وفي يده كسرة خبز) وكل هذا شواهد قوية على أن المرأة قد تابت قبل إقامة الحد عليها، ولو أن المرء أقيم عليه الحد وإن لم يتب من الذنب فالحد كفارة. إذاً: إذا أقيم الحد على محدود فمجرد الحد كفارة لذنبه، فما بالك لو جمع المحدود إلى الحد توبة قبل إقامة الحد عليه؟ وهذا فارق جوهري بين ما كان من أمر ماعز وما كان من الغامدية؛ ولذلك ترك النبي عليه الصلاة والسلام الصلاة على ماعز. قيل: لأجل هذه الفروق. وقيل: ربما لبعض ضعاف النفوس من المنافقين أو حديثي العهد بالإسلام أو غير ذلك، فهو بذلك ترك الصلاة للمصلحة الشرعية على ماعز، ولم تتهيأ هذه الظروف في وقت إقامة الحد على المرأة الغامدية؛ ولذلك ترك الصلاة على ماعز وصلى على الغامدية. وقيل غير ذلك. وفي رواية أخرى: [(فقام النبي صلى الله عليه وسلم من في العشي فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد. فما بال أقوام إذا غزونا يتخلف أحدهم عنا له نبيب كنبيب التيس. ولم يقل: في عيالنا)]. وفي رواية سفيان قال: [(فاعترف بالزنا ثلاث مرات)] ولم يقل: أربعاً.

شرح حديث بريدة بن الحصيب في رجم ماعز بن مالك

شرح حديث بريدة بن الحصيب في رجم ماعز بن مالك قال: [وحدثنا محمد بن العلاء الهمداني حدثنا يحيى بن يعلى -وهو ابن الحارث المحاربي - عن أبيه عن غيلان؛ لأن يحيى بن يعلى ليست له رواية عن غيلان، إنما هو يروي عن أبيه وعن زائدة بن قدامة، وقد روى غير واحد هذا الحديث من طريق يحيى بن يعلى عن أبيه عن غيلان وهو الصواب، وغيلان هو ابن جامع المحاربي. قال: [عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه -أي: بريدة بن الحصيب - قال: [(جاء ماعز بن مالك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! طهرني)]. وهذا يدل على أن إقامة الحد طهارة من الذنب، وهي طهارة تامة كاملة. قال: [(فقال: ويحك! ارجع فاستغفر الله وتب إليه)] (ويحك): كلمة رحمة، كما قال الحسن البصري. وأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالاستغفار قبل أن يسمع منه الجريمة. قال: [(فرجع غير بعيد -رجع مرة ثانية إلى النبي عليه الصلاة والسلام- وقال: يا رسول الله! طهرني. قال: ويحك! ارجع فاستغفر الله وتب إليه. قال: فرجع غير بعيد ثم جاء فقال: يا رسول الله! طهرني فقال النبي مثل ذلك، حتى إذا كانت الرابعة قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيم أطهرك؟)] (فيم) هنا سببية. أي: بسبب ماذا أطهرك؟ أو ما هي الجريمة التي أطهرك منها؟ قال: [(فقال: من الزنا. فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبه جنون؟ فأخبر أنه ليس بمجنون. فقال: أشرب خمراً؟ فقام رجل فاستنكهه -يعني: شم رائحته- فلم يجد منه ريح خمر. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أزنيت؟ قال: نعم. فأمر به فرجم، فكان الناس فيه فرقتين -أي: اختلف الناس وصاروا فريقين- قائل يقول: لقد هلك، لقد أحاطت به خطيئته. وقائل آخر يقول: ما توبة أفضل من توبة ماعز)] يعني: فريق يقول: لم يخرج من خطيئته حتى بعد قيام الحد عليه. وطائفة أخرى تقول: ليست هناك توبة أفضل من توبة ماعز [: (أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده في يده ثم قال: اقتلني بالحجارة. قال: فلبثوا بذلك يومين أو ثلاثة، ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم جلوس فسلم ثم جلس فقال: استغفروا لـ ماعز بن مالك. قال: فقالوا: غفر الله لـ ماعز بن مالك. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم)]. وفي رواية قال: (أتسبونه وإني لأراه الآن يسبح في أنهار الجنة؟) كلام جميل جداً.

الأحكام المستنبطة من قصة رجم ماعز بن مالك الأسلمي

الأحكام المستنبطة من قصة رجم ماعز بن مالك الأسلمي احتج بهذا الحديث أبو حنيفة وسائر الكوفيين وأحمد وموافقوهما على أن الإقرار بالزنا لا يثبت ويرجم به المقر حتى يقر أربع مرات. وقال مالك والشافعي وآخرون: يثبت الإقرار به بمرة واحدة. أخذوا ذلك من حديث عن النبي عليه الصلاة والسلام: (لما أتاه رجل وقال: يا رسول الله! إن ابني هذا كان أجيراً أو عسيفاً -أجيراً- عند فلان فزنا بامرأته، فأخبروني أن على ولدي الرجم فافتديت منه بمائة ناقة أو بمائة شاة، فاحكم بيننا يا رسول الله! قال: أما الشاة فهي رد عليك) ترجع لك ثانية. (وأما ولدك فعليه جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس! -أي: اذهب يا أنيس - إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها) لم يقل: فإن اعترفت أربعاً أو فإن أقرت أربعاً ارجمها، وإنما قال له: (فإن اعترفت - أي: مرة واحدة - فارجمها) فهذا الحديث يؤخذ منه أن الإقرار مرة واحدة يكفي لإقامة الحد. وقوله (فإن اعترفت فارجمها) يدل على أن المرأة كانت محصنة. وحديث الغامدية ليس فيه إقرارها أربع مرات. واشتراط ابن أبي ليلى وغيره من العلماء إقراره أربع مرات في أربع مجالس متعددة مذهب بعيد. أما قوله: (أبك جنون) قاله ليتحقق حاله، فإن الغالب أن الإنسان لا يصر على الإقرار بما يقتضي قتله. والعجيب أن النبي عليه الصلاة والسلام يتمنى لو أنه يرجع عن إقراره، يعني: مرة ومرتين وثلاثة وأربعة؛ يدرأ عنه الشبهات، ثم يكون بعد ذلك القضاء الشرعي. ومن هنا نعلم أنه لابد من الحفاظ على الدماء بقدر الإمكان، والحفاظ على الأعراض بقدر الإمكان، واحترام آدمية الآدمي إلى أقصى حد. فالإسلام احترم العوالم الأخر: عالم الحيوانات والطير والسباع حتى الحيتان في البحر، فما من مخلوق إلا وقد احترمه الإسلام وجعل له حقوقاً وعليه واجبات، لا كما يفعله القضاء اليوم. وشتان بين نظام العدل الوضعي وبين نظام العدل الذي شرعه الله عز وجل وطبقه النبي عليه الصلاة والسلام عملاً، وطبقه الصحابة وخلفاؤه الراشدون، وشتان بين أخلاق الأمة في سالف أمرها وفي حاضر أمرها. والحسن البصري يقول: أعمالكم عمالكم. أي: على قدر أعمالكم يسلط عليكم العمال والأمراء والسلاطين والحكام، فنحن منهم وهم منا، فعلى قدر أعمالنا سلط الله تعالى علينا هؤلاء، وتسليط هؤلاء علينا أرحم بنا بكثير جداً من تسليط وزارة الأوقاف علينا. إي والله! نستطيع أن نتعامل مع ضباط الأمن، ولا نستطيع أن نتعامل مع إمام في مسجد فضلاً عن شخصية مرموقة في وزارة الأوقاف، وما ذلك إلا لأخلاقهم المنافية للالتزام، فترى كل واحد منهم يشرب سيجارة وبجانبه امرأة متبرجة، ويشير إليها بالعشق والهيام، ويشير إلى غيرها باللمز والغمز والهمز، وتجد الواحد منهم قد ظهرت فيه السمنة، ومعلوم أن الإنسان كلما امتلأت بطنه فرغ عقله؛ ولذلك يقول الإمام الشافعي: لا أعلم عيباً على محمد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة إلا أنه سمين. فقد كان السلف يعيبون السمنة, وأنتم تعرفون أن الإمام الشافعي كان تلميذ محمد بن الحسن، وقد تلقى الحديث على يديه، وكان عالماً جهبذاً ينصر مذهب الحنفية قبل أن يتحول عنه، ويأخذ بالدليل، فقد كان يقلد أبا حنيفة من قبل. أما قوله عليه الصلاة والسلام: (اذهبوا به فارجموه) ففيه جواز استنابة الإمام من يقيم الحد. قال العلماء: لا يستوفي الحد إلا الإمام أو من فوض ذلك إليه، فلا يقيم الحد إلا المسئول، أما آحاد الناس فليس لهم ذلك. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

الأسئلة

الأسئلة

الحكم على حديث: (مجلس علم خير من عبادة ستين عاما)

الحكم على حديث: (مجلس علم خير من عبادة ستين عاماً) Q ما حكم حديث: (مجلس علم خير من عبادة ستين عاماً)؟ A هذا حديث موضوع. لكن العلم باتفاق العلماء أفضل من العبادة، بل العلم في ذاته عبادة، وذلك إذا نوى به الطالب أو المتعلم التقرب إلى الله عز وجل. وقد كان السلف يقدمون طلب العلم على العبادة؛ ولذلك قام رجل من مجلس مالك بعد أن أذن المؤذن ليصلي ركعتين، فقال مالك: ماذا تصنع؟ قال: قمت لأصلي ركعتين، أما سمعت المؤذن يا إمام؟! قال: والله إن ما كنت فيه خير مما قمت إليه. يعني: الذي كنت فيه أولاً من طلب العلم وسماعه خير مما قمت إليه وهو صلاة ركعتين. والمقصود: أن مجلس علم خير من سائر نوافل العبادات لا الفرائض.

بيان أن إقامة الحد ليس شرطا من شروط التوبة

بيان أن إقامة الحد ليس شرطاً من شروط التوبة Q إذا تاب رجل من الزنا هل يقام عليه الحد؟ وهل هذا من شروط التوبة؟ A ليس بلازم، إذا تاب العبد بينه وبين الله عز وجل فإن هذه التوبة تجب ما كان قبلها.

وجوب ستر العبد لنفسه والمبادرة بالتوبة من المعصية

وجوب ستر العبد لنفسه والمبادرة بالتوبة من المعصية Q من فعل الزنا في هذا الزمن الذي لا يطبق فيه شرع السماء، هل عليه أن يتوب ويرجع إلى الله ويستر نفسه؟ A نعم. عليه ذلك، يجب عليه أن يبادر بالتوبة، وأن يستر نفسه ولا يحدث به الآخرين.

التوبة من اللواط

التوبة من اللواط Q هل لمن فعل اللواط من توبة؟ A نعم. كل ذنب له توبة حتى الشرك، فلو أن عبداً أشرك أو ارتد فله توبة، وباب التوبة مفتوح حتى تطلع الشمس من مغربها، وهذا باب التوبة العامة، أما باب التوبة الخاصة المتعلق بكل مكلف فإنه مفتوح حتى تبلغ الروح الحلقوم.

حكم الالتفات في الصلاة لضرورة

حكم الالتفات في الصلاة لضرورة Q هل يجوز الالتفات في الصلاة لضرورة؟ A الالتفات في الصلاة إنما هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة ابن آدم، وإنما له أن يلتفت شيئاً يسيراً ليتفل عن يساره ثلاثاً إذا وسوس إليه الشيطان. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

كتاب الحدود - تابع رجم الثيب في الزنا

شرح صحيح مسلم - كتاب الحدود - تابع رجم الثيب في الزنا جاء الإسلام بالحفاظ على الحرمات، ومن ذلك حرمة العرض، فحرم الزنا وحد له حدوداً تقام على الزاني بالإقرار منه أو البينة عليه، فإذا كان بكراً فإنه يجلد مائة ويغرب عاماً، وإن كان محصناً يرجم، كما في كتاب الله تعالى، وسنة رسوله، وقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في ماعز والغامدية والأعراب واليهود، فالرجم ثابت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

تابع باب من اعترف على نفسه بالزنا

تابع باب من اعترف على نفسه بالزنا بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وصلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وبعد: فما زال الكلام موصولاً عن حديث ماعز الأسلمي، ومعه حديث المرأة الغامدية في باب: من اعترف على نفسه بالزنا، وكنا قد أخذنا شطر الحديث الأول فيما يتعلق بزنا ماعز، واليوم نتمم الحديث فيما يتعلق بالمرأة الغامدية.

شرح حديث بريدة بن الحصيب في رجم الغامدية

شرح حديث بريدة بن الحصيب في رجم الغامدية قال: [(ثم جاءته امرأة من غامد من الأزد -والأزد: هو بطن من غامد- فقالت: يا رسول الله! طهرني. فقال: ويحكِ! ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه. فقالت: أراك تريد أن تردني كما رددت ماعز بن مالك)] أي: بالأمس أتاك ماعز فقال: إني زنيت فأعرضت عنه، ثم أتاك فقال: إني زنيت فأعرضت عنه أربع مرات، وكأني يا رسول الله! أشعر أنك تفعل معي اليوم ما فعلت مع ماعز بالأمس، فأرجو ألا يكون هذا منك. ومعنى كلامها: أنها زنت، وأنها تعلم معنى الزنا، وكأنها تقول: وعلامة ذلك يا رسول الله! أني حبلى من الزنا فطهرني، فقال لها النبي عليه الصلاة والسلام: [(ويحكِ! ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه. فقالت: تريد أن تردني كما رددت ماعز بن مالك. قال: وما ذاك؟)] هنا شبهة وهي: أن النبي عليه الصلاة والسلام لما أتت هذه المرأة وقالت: (يا رسول الله! أذنبت ذنباً فطهرني، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ويحكِ، ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه) رب قائل يقول: هذه المرأة أتت إليه مذنبة والنبي عليه الصلاة والسلام هو المسئول الأول في زمنه عن إقامة الحد ومع هذا قال لها: (ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه) وليس في هذا الحديث عند التحقيق شبهة؛ لأن هذه المرأة لما أتت وقالت: يا رسول الله! طهرني، لم تبين نوع ذنبها ولم تقل: إني زنيت، أو إني فجرت أو سرقت أو غصبت أو شيء مما رتب الله عز وجل عليه حداً في كتابه، أو رتب عليه نبيه حداً في سنته، وإنما قالت: (يا رسول الله! إني أذنبت ذنباً فطهرني) والمعلوم أن الطهارة من الذنب تكون في الكبائر والصغائر، فحمل النبي صلى الله عليه وسلم أمرها على أحسن المحامل، وأنها ما وقعت في كبيرة وإنما وقعت في صغيرة؛ فأرادت أن تتطهر من ذنبها حتى وإن كان صغيراً؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (ويحكِ! ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه) قبل أن يعلم شيئاً، فلما قالت له: (يا رسول الله! أراك تردني كما رددت ماعز بن مالك. فقال: وما ذاك؟) أي: وما هذا الذنب الذي تريدين أن تتطهري منه. قال: [(قالت: إني حبلى من الزنا)] هنا أول إعلام للنبي صلى الله عليه وسلم بنوع الذنب. قال: [(فقال: أأنتِ -يعني: أأنتِ التي وقعتِ في الزنا- قالت: نعم. فقال لها: حتى تضعي ما في بطنك)] أي: لا أقيم عليكِ الحد حتى تضعي ما في بطنكِ. قال: [(فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت -كفلها أي: قام على حاجتها، واستوصى بها خيراً- فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قد وضعت الغامدية)] هذا الكفيل الذي كفل المرأة هو الذي أتى إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: يا رسول الله! المرأة التي كفلتها وضعت حملها. قال: [فقال: (إذاً: لا نرجمها وندع ولدها صغيراً ليس له من يرضعه)] المرة الأولى امتنع عن إقامة الحد لوجود الحمل؛ لأنه لو أقام عليها الحد وهي حامل ربما قتل جنينها بغير جريرة ارتكبها، ثم من الشفقة -أي: شفقة الإسلام على الرضيع- أن نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن إقامة الحد على المرضع إلا أن تجد مرضعاً أخرى ترضع هذا الرضيع، لذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: [(إذاً: لا نرجمها وندع ولدها صغيراً ليس له من يرضعه، فقام رجل من الأنصار فقال: إلي رضاعه يا نبي الله! قال: فرجمها)] يعني: أنا يا رسول الله! أتكفل برضاعه، فرجمها النبي عليه الصلاة والسلام. قال: [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الله بن نمير (ح) وحدثنا محمد بن عبد الله بن نمير - وتقاربا في لفظ الحديث - قال ابن نمير: حدثنا أبي حدثنا بشير بن المهاجر قال: حدثنا عبد الله بن بريدة عن أبيه بريدة بن الحصيب: (أن ماعز بن مالك الأسلمي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني قد ظلمت نفسي وزنيت، وإني أريد أن تطهرني. فرده، فلما كان من الغد أتاه فقال: يا رسول الله! إني قد زنيت. فرده الثانية، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه فقال: أتعلمون بعقله بأساً تنكرون منه شيئاً؟ -أي: هل هو مجنون أو سكران؟ - فقالوا: ما نعلمه إلا وفي العقل -أي: عقله كامل لا بأس به، ليس مجنوناً- من صالحينا فيما نرى)] أي: الذي نظنه أنه من أهل الصلاح والتقوى. قال: [(فأتاه -أي: ماعز - الثالثة، فأرسل إليهم أيضاً فسأل عنه فأخبروه أنه لا بأس به ولا بعقله، فلما كان الرابعة حفر له حفرة ثم أمر به فرجم. قال: فجاءت الغامدية فقالت: يا رسول الله! إني قد زنيت فطهرني، وإنه ردها -عليه الصلاة والسلام- فلما كان الغد قالت: يا رسول الله! لم تردني؟ لعلك أن تردني كما رددت ماع

شرح حديث عمران بن حصين في رجم الغامدية وصلاة النبي عليها

شرح حديث عمران بن حصين في رجم الغامدية وصلاة النبي عليها قال: [حدثني أبو غسان -وهو المسمعي مالك بن عبد الواحد - قال: حدثنا معاذ بن هشام - وأبوه هو هشام بن أبي عبد الله الدستوائي - قال معاذ: حدثني أبي عن يحيى بن أبي كثير اليماني حدثني أبو قلابة - عبد الله بن زيد الجرمي البصري - أن أبا المهلب حدثه عن عمران بن حصين: (أن امرأة من جهينة أتت نبي الله صلى الله عليه وسلم وهي حبلى من الزنا، فقالت: يا نبي الله! أصبت حداً فأقمه علي)] يعني: قارفت ذنباً عظيماً استوجب الحد، فطهرني منه. قال: [(فدعا نبي الله صلى الله عليه وسلم وليها فقال: أحسن إليها)] وهذا على غير عادة الناس فإنهم إذا زنت امرأة آذاها قومها وأولياؤها، والنبي عليه الصلاة والسلام أمر بالإحسان إلى هذه المرأة رغم أنها زانية، فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يأمر بالإحسان إلى أصحاب الكبائر فما بالك بإحسانه عليه الصلاة والسلام مع أفاضل الصحابة كـ أبي بكر وعمر. [(قال: أحسن إليها، فإذا وضعت فائتني بها. ففعل، فأمر بها نبي الله صلى الله عليه وسلم، فشكت عليها ثيابها)] يعني: فشدت عليها ثيابها خلافاً للرجل، فإن الرجل حين إقامة الحد عليه لا يشد عليه ثوبه، إنما المرأة يشد عليها ثوبها ويحفر لها إلى صدرها وترجم وهي جالسة خلافاً للرجل، فالرجل يقام عليه الحد وهو قائم أو جالس، أما المرأة فإنه يقام عليها الحد وهي جالسة. قولاً واحداً. قال: [(ثم أمر بها فرجمت، ثم صلى عليها)]. والله تعالى يقول: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103] فرحمة الله عز وجل في صلاة نبيه أمر معلوم يقيناً، لا أمر مظنون كما هو الحال في سائر الناس دون النبي عليه الصلاة والسلام. قال: [(فقال له عمر: تصلي عليها يا نبي الله وقد زنت؟)] وهذا القول من عمر يرد به على من قال: إن صلاة النبي عليها إنما هي الصلاة اللغوية بمعنى الدعاء، ولو كانت الصلاة في الحديث هي الدعاء دون الصلاة المشروعة وهي صلاة الجنازة لما كان لإنكار عمر على النبي وجه. وهذا يدل على أنه عليه الصلاة والسلام صلى عليها صلاة الميت. قال: [(فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لقد تابت توبة لو قسمت -أي: وزعت- بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم)] أي: لكفتهم حتى وإن كانوا أصحاب ذنوب وكبائر. والمعلوم أن النبي عليه الصلاة والسلام قال في الأنصار قولاً عظيماً، وأثبت فضل الأنصار عموماً، وأثبت فضل كل أنصاري خصوصاً، وأثبت فضل كبار الأنصار من الأوس والخزرج، فكل واحد من فضل كبار القوم له مناقب شتى وجمة منها ما هو في الصحيحين ومنها ما هو في غيرهما، والنبي عليه الصلاة والسلام يعلم منزلة المهاجرين الأنصار في الإسلام، فقال عليه الصلاة والسلام في هذه المرأة الغامدية: [(لقد تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة -أي: من الأنصار- لكفتهم، وهل وجدت -يا عمر - توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى)] يعني: هل هناك دليل على صدق توبة التائب من أنه يأتي ويجود بنفسه وهو يعلم يقيناً أنه سيرجم وأنه سيموت؟ هذه المرأة أصرت على التطهير وقيام الحد عليها بدليل أنها أتت مرة وقالت: (يا رسول الله! إني أصبت حداً). فلما أمرها بالتوبة والرجوع إلى الله والاستغفار قالت: (يا رسول الله! لا تردني كما رددت ماعزاً بالأمس، إني زنيت، وإني حبلى من الزنا، قال: لا نقيم عليكِ الحد وأنتِ حبلى حتى تضعي) فرجعت المرأة، وأتت مرة أخرى وكان بإمكانها ألا تأتي، ولكن لصدق توبتها لفت وليدها في خرقة وأتت به إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: (لا نقيم عليكِ الحد حتى تفطميه؛ فرجعت). والمعلوم أن مدة الفطام طويلة تبلغ سنتين، فذهبت المرأة حتى أرضعت وليدها وفطمته، ثم أتت به وفي يده كسرة خبز؛ دليل على أنه الآن يأكل ويشرب ويعتمد على نفسه، وقد استغنى عن لبن أمه. فكل هذه أدلة تشهد بصدق توبة المرأة، ولا عليها أنها زنت في لحظة ضعف تسلط الشيطان عليها، أو أن الأجواء هيأت الوقوع في المعصية فوقعت فيها، لكنها سرعان ما فاءت ورجعت إلى ربها، فهل على المذنب من بأس أو حرج إذا كان هذا شأنه وحاله؟ A ليس عليه من حرج، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (والذي نفس محمد بيده، لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وأتى بقوم غيركم يذنبون فيستغفرون الله تعالى، فيغفر الله لهم). وقوله: (فيذنبون) كلام عام يشمل كبائر الذنوب وصغائرها. فهذه المرأة أذنبت وماعز أذنب، لكننا لا نحتج بالقدر على المعصية إلا إذا تاب المذنب من ذنبه،

كلام النووي في أحاديث رجم الغامدية

كلام النووي في أحاديث رجم الغامدية

بيان أن الحبلى لا تحد حتى تضع

بيان أن الحبلى لا تحد حتى تضع ذكر الإمام النووي عليه رحمة الله حديث رجم الغامدية فقال في قوله: (حتى تضعي ما في بطنكِ): (فيه: أنه لا ترجم الحبلى حتى تضع، سواء كان حملها من زنا أو غيره، وهذا أمر مجمع عليه؛ لئلا يقتل جنينها -بقيام الحد عليها- وكذا لو كان حدها الجلد وهي حامل لم تجلد بالإجماع حتى تضع). يعني: لو كانت امرأة ثيباً أو بكراً ووقعت في الزنا فالإجماع منعقد على أنها إذا حملت من الزنا وتبين حملها في بطنها لا ترجم ولا تجلد حتى تضع حملها؛ حفاظاً على جنينها.

رجم المرأة المحصنة إذا زنت

رجم المرأة المحصنة إذا زنت قال: (وفيه: أن المرأة ترجم إذا زنت وهي محصنة كما يرجم الرجل). لا خلاف بين الرجل والمرأة من جهة الإحصان والرجم. قال: (وهذا الحديث محمول على أنها كانت محصنة؛ لأن الأحاديث الصحيحة والإجماع متطابقان على أنه لا يرجم غير المحصن). فهذه المرأة الغامدية التي زنت لم يذكر في الحديث أنها محصنة أو غير محصنة، لكننا استفدنا إحصانها من الرجم، ولو كانت غير محصنة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بجلدها، فلما أمر بالرجم تبين لنا أنها امرأة محصنة.

ثبوت أن الحمل قرينة على وقوع الزنا

ثبوت أن الحمل قرينة على وقوع الزنا قال: (وفيه: أن من وجب عليها قصاص وهي حامل لا يقتص منها حتى تضع، وهذا أمر مجمع عليه، ثم لا ترجم الحامل الزانية ولا يقتص منها بعد وضعها حتى تسقي ولدها اللبن، ويستغنى عنها بلبن غيرها. وفيه: أن الحمل يعرف ويحكم به). وهذا كلام درسناه في الدرس الماضي، وقلنا: الجريمة تثبت بالإقرار والبينة والحمل، وذكرنا خلاف العلماء هناك وقلنا: الراجح: هو مذهب الجمهور أن الحمل قرينة على وقوع الزنا لامرأة لا زوج لها أو لأمة لا سيد لها.

حكم حد المرضع

حكم حد المرضع قال: (قوله: (فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت) أي: قام بمؤنتها ومصالحها، وليس هو من الكفالة التي هي بمعنى الضمان؛ لأن هذا لا يجوز في الحدود التي هي لله تعالى. قوله: (لما وضعت قيل: قد وضعت الغامدية. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذاً لا نرجمها وندع ولدها صغيراً ليس له من يرضعه، فقام رجل من الأنصار فقال: إلي رضاعه يا نبي الله! قال: فرجمها). وفي الرواية الأخرى: (أنها لما ولدت جاءت بالصبي في خرقة قالت: هذا قد ولدته. قال: فاذهبي فأرضعيه حتى تفطميه، فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز، فقالت: يا نبي الله! هذا قد فطمته، وقد أكل الطعام، فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين، ثم أمر بها فرجموها) فهاتان الروايتان ظاهرهما الاختلاف). في الرواية الأولى قال النبي عليه السلام: (اذهبي حتى تضعي الحمل) فلما وضعت أتت النبي عليه الصلاة والسلام فأقام عليها الحد ولم يردها لأجل الرضاع. وفي الرواية الثانية: أنه ردها لأجل الرضاع، فهنا تعارض في الظاهر. إذاً: يجب تأويل الرواية الأولى وحملها على وفق الثانية؛ لأنها قضية عين واحدة. يعني لو قلنا: أن الحالة المعروضة أمامنا هذه متعددة لقلنا: أتت إليه امرأة في أول الأمر فأقام عليها الحد، وأتت إليه امرأة ثانية فأرجأها وأخرها حتى تفطم ولدها، لكن ما العمل إذا كانت القصتان هما قصة واحدة، وأن المرأة في الروايتين هي امرأة واحدة؟ وإذا صح الحديث فلا بد من الجمع بين الروايتين، وإن لم تجمع بين الروايتين الصحيحتين لا بد أن تقول بأن إحداهما شاذة، وهذه نتيجة حتمية، وفي هذه الحالة لا يكون لك بينة، وإما أن تؤلف بينهما، أي: أن تحمل إحداهما على الأخرى أو تؤول إحداهما بحيث تتفق مع تأويل الأخرى، وإلا فإنك سترد إحدى الروايتين، وأهل العلم يقولون: العمل بالدليلين خير من إهمال أحدهما. وهذا في حالة إمكانية الجمع، أما إذا كان الجمع مستحيلاً فلا بد من ثبوت رد إحدى الروايتين. قال: (فإن الثانية -أي: الرواية الثانية- صريحة لا يمكن تأويلها)؛ لأن المرأة أتته الأولى والثانية والثالثة، فهي رواية صريحة جداً. أما الرواية الأولى فليست صريحة، فيتعين تأويل الرواية الأولى: (قام رجل من الأنصار فقال: إلي رضاعه) إنما قاله بعد الفطام) لا في المرة الأولى، ولكن الراوي اختصر الرواية. (وأراد بالرضاعة: كفالته وتربيته، وسماه رضاعاً مجازاً). قال: (واعلم أن مذهب الشافعي وأحمد وإسحاق والمشهور من مذهب مالك: أنها لا ترجم حتى تجد من يرضعه). وهذا مذهب الجمهور، لا يجوز رجم الزانية حتى تجد من يرضع وليدها. قال: (فإن لم تجد أرضعته حتى تفطمه ثم رجمت. وقال أبو حنيفة ومالك -في رواية عنه-: إذا وضعت رجمت ولا ينتظر حصول مرضعة). وهذا كلام يخالف ظاهر الدليلين. قال: (وأما هذا الأنصاري الذي كفلها فقصد مصلحة، وهو الرفق بها ومساعدتها على تعجيل طهارتها بالحد -بقيام الحد عليها- لما رأى بها من الحرص على تعجيل ذلك). قال: (قوله عليه الصلاة والسلام: (إما لا فاذهبي حتى تلدي) أي: حيث إن الأمر كذلك فاذهبي حتى تضعي حملك. ومعناه: إذا أبيتِ أن تستري على نفسكِ وتتوبي وترجعي عن قولك، فاذهبي حتى تلدي فترجمين بعد ذلك. قوله عليه الصلاة والسلام: (فتنضح الدم على وجه خالد) معناه: ترشش وانصب). يعني: انصب على ثوبه.

حكم أخذ المكوس وبيان عظيم شأنها

حكم أخذ المكوس وبيان عظيم شأنها قال: (قوله: عليه الصلاة والسلام: (لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له) فيه أن المكس من أقبح المعاصي) هذا حكم جديد، وصاحب المكس عموماً هو آخذ أموال الناس بغير حق، وخصوصاً جامع الضرائب والجمارك، صاحب المكس هو الذي يأخذ أموال الناس ظلماً وعدواناً تحت باب الضرائب أو الجمارك على الحدود وغيرها، حتى تعلموا أن هذا العمل أشد في الحرمة عند الله من الزنا، قال صلى الله عليه وسلم عن هذه المرأة: (لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس)، فصاحب المكس مطالب أمام الله عز وجل بأن يتوب توبة أعظم من توبة الزانية أو أعظم من توبة الزاني؛ وذلك لأنه يأخذ أموال الناس بغير حق، أما لو أخذ أموال الناس بحق فلا يدخل تحت هذا، فالذي يرسل إلى الناس ليجمع زكاة أموالهم يحرم عليه أن يأخذ أحسن أموالهم، ولا يأخذ من أموالهم إلا أواسط الأموال لا الدرنة ولا القرناء ولا العجفاء ولا الكسيرة ولا الكسيحة، كما أنه لا يأخذ أفاضل الأموال، وهذا طبعاً في الماشية والزرع وغير ذلك. أما في الذهب والفضة فإنه يأخذ من أي الأموال شاء؛ لأنه لا فرق في الذهب بين بعضه البعض ولا في الفضة بين بعضها البعض كذلك. إذاً: صاحب المكس هو جامع الضرائب، وعمله حرام، ودليلنا في الحرمة هو هذا الحديث وعموم الأحاديث التي وردت في تحريم أخذ أموال الناس بالباطل، لكن هذا الحديث أصرح حديث في حرمة الجمارك وحرمة الضرائب، وبالتالي الأسئلة تكثر، ومرد هذه الأسئلة إلى سؤال واحد: هل يجوز التهرب من الضرائب والجمارك؟ أنا أقول بالجواز قولاً واحداً، فإذا استطعت من غير مضرة تنزل بك، بل كدت أن أصل بالحكم إلى وجوب الهروب من الضرائب والجمارك؛ لأن هذا مالي وأنا لا آذن لأحد قط أن يأخذه مني، عندما آتي بغسالة أو ثلاجة أو كناسة من الخارج فهو مالي قد اشتريت به حلالاً سلعة من بلد معين، أريد إدخالها للانتفاع بها في بلدي، أو بيعها والاتجار فيها، فكيف يؤخذ مني مال فوق ثمن هذه السلعة؟ كما أن هذا ضرب للاقتصاد المصري أو غيره أياً كان هذا الاقتصاد؛ لأني لو أتيت بالسلعة قيمتها (100) جنيه لبعتها بـ (110)، لكن لو أخذ مني جمارك بعتها بـ (200) فهذا تخريب للاقتصاد وليس فيه أدنى منفعة للبلد، فالتجارة لا تروج إلا إذا رفعت الحكومة أيديها عن الناس وعن أبنائها وعن مواطنيها يتاجرون حيث شاءوا، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض). فلا يحل للحكومة التدخل إلا إذا كنت أتاجر في سلعة حرمها الشرع، أما التسعير فليس لها علاقة بذلك؛ ولذلك لما قالوا للنبي عليه الصلاة والسلام: (يا رسول الله! سعر لنا. قال: إن الله هو المسعر)، (سعر لنا) يعني: حدد لنا السعر. قال: (إن الله هو المسعر) وليس هذا من أسماء الله، ولكن التسعير يقع بقدر الله، هذا معنى الحديث: (إن الله هو المسعر) أي: أن التسعير يقع بقدر الله عز وجل؛ ولذلك لا يزال العامة قبل الخاصة يحفظون أن التجارة عرض وطلب. والذي يعمل في التموين ويجلس في المسجد معنا ويقول: الحمد لله، أنا ليس لي علاقة بالحرام، إنما أنا أجمع ضرائب، نقول له: عملك أنت كذلك فيه شيء من الحرمة وشيء كبير وليس بسيطاً، فأصل عملك في التموين الحل؛ لأن موظف التموين ما هو إلا رقيب على جودة السلعة من رداءتها، لكن قيامك كل شهر على هذه المحلات اكتسبت أنت بها الحرمة، فيصير أصل العمل حلالاً، وأنت جعلته بدل الحل حراماً؛ فأنت الآن لا يضرك أن تكون البضاعة كاسدة أو رابحة. هذا أمر لا يعنيك، إنما الذي يعنيك أن تأخذ مال هذا الرجل حراماً فتأكله، فهذا أمر مدفوع الثمن، وأنت لا تعيب عليه شيئاً من ذلك، فإذا ذهب هذا الموظف الذي يعمل في وزارة التموين إلى المحلات، ليأخذ المعلوم الشهري فليعلم أن هذا المعلوم إنما هو نار الله الموقدة يأكلها في بطنه، فلا هنيئاً ولا مريئاً، وليعلم أن صاحب هذا المال وإن هش وبش في وجهه هو والله غير راض عن هذا، وأعظم دليل على ذلك أنه لو أمن جانبك ما أعطاك شيئاً. وأعجب من ذلك: أنك تجد موظف التموين يشرط على أصحاب المحلات والأعمال والتجارات مبلغاً معلوماً في كل شهر، وهذا مبلغ نقدي خلافاً للمبلغ العيني، فمن الناس من يكون معه دكان فيه بضاعة قيمتها عشرة آلاف جنيه، وهو يكسب في الشهر مثلاً خمسمائة جنيه، يأكل منها ويشرب، فإذا به يطالب بأنه يدفع نصف المبلغ لموظف التموين. تصور أن موظفاً هذا حاله قد شقي عمره السابق كله لأنه وأباه وأمه وجده لا يملكون قوت يومهم، فتاريخهم الأسود طويل لا نهاية له، وموظف التموين في غمضة عين يركب أضخم السيارات، ويسكن في أحسن العمارات، وينتقل في معيشته انتقالة يلحظها القاصي والداني، ولو أنه طلب حلالاً وترك حراماً لكانت سيرته امتداداً لسيرة أبيه وجده. تصور موظف ينزل في حي -مثلاً- من الأحياء الشعبية يمر على أربعمائة محل كل شهر، يأخذ من كل محل (250) جنيهاً، اضرب أربعمائة محل في عشرة جنيهات، وأظن هذا أقل الف

حكم الصلاة على المقتول حدا

حكم الصلاة على المقتول حداً قوله (فصلى عليها ثم دفنت فيه) مسألة: الصلاة على المقتول في حد، وهي محل نزاع بين أهل العلم، فالنبي عليه الصلاة والسلام لم يصل على ماعز الأسلمي وصلى على المرأة الغامدية، فهل يصلى على المحدود أو لا يصلى؟ العلماء في ذلك على مذاهب: المذهب الأول: لا يصلى عليه. والمذهب الثاني: يصلى عليه. وهو الصحيح؛ لأن المقتول في حد لا يزال مسلماً، كما أن الذي قتل نفسه لا يزال مسلماً، والذي انتحر لا يزال مسلماً، لكن يفضل ألا يصلي عليه الإمام أو من يشار إليه بالبنان، أو أصحاب الفضل والعلم من باب الزجر لأمثالهم ألا يعملوا عمله؛ ولذلك رأى النبي عليه الصلاة والسلام من المصلحة الشرعية ألا يصلي على ماعز، حتى لا يبادر آحاد الناس أن يقعوا فيما وقع فيه ماعز، فيحظوا باستغفار النبي صلى الله عليه وسلم لهم والصلاة عليهم، وعلم عليه الصلاة والسلام أن المصلحة الشرعية تقتضي الصلاة على الغامدية التي زنت بعد ماعز حتى لا يقول الناس بعد ذلك إجماعاً: لا يصلى على المحدود أو على الزاني وإن حد؛ لذلك صلى عليها النبي صلى الله عليه وسلم، فجمع بين المصلحتين: جواز صلاة الإمام على أصحاب الذنوب والمعاصي إن تابوا منها وأقيم الحد عليهم، ويترك ذلك أحياناً لزجر الأحياء ألا يقعوا في مثل هذه الجرائم والمهلكات. فالراجح: النظر إلى المصلحة، إن دعت إلى الصلاة صلى الإمام، وإن دعت إلى ترك الصلاة ترك الإمام الصلاة وأمر الناس أن يصلوا، لكن في كل الأحوال يصلى على المحدود؛ لأنه لا يزال مسلماً، ولكن الخلاف قوي في: هل يصلي الإمام عليه أم يأمر الناس أن يصلوا ويدع الصلاة هو؟ وهذا ينظر فيه إلى مصلحة الأحياء، لا إلى مصلحة الميت فحسب، والله تعالى أعلم.

شرح حديث: (الوليدة والغنم رد عليك وعلى ابنك جلد مائة)

شرح حديث: (الوليدة والغنم رد عليك وعلى ابنك جلد مائة) قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث -وهو ابن سعد - (ح) وحدثناه محمد بن رمح أخبرنا الليث عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن أبي هريرة رضي الله عنه وزيد بن خالد الجهني أنهما قالا: (إن رجلاً من الأعراب أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله)] هذا أعرابي، والأعراب فيهم من الغلظة والجفاء ما فيهم؛ ولذلك أتى هذا الأعرابي بشيء من الجفوة وقال: (يا رسول الله! أنشدك الله) يعني: أحلف عليك بالله أن تقضي بيننا بكتاب الله. أي: بحكم الله، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يحكم إلا بحكم الله فما الداعي إلى أن يقول هذا الرجل مثل هذا القول؟ قال: [(فقال الخصم الآخر وهو أفقه منه: نعم. فاقض بيننا بكتاب الله وائذن لي)] يعني: ائذن لي يا رسول الله! أن أتكلم، وكان هذا الخصم أكثر أدباً من الأعرابي، وإن كان في كلامه بعض الجفوة كذلك. قال: [(فقال النبي عليه الصلاة والسلام: قل. قال: إن ابني كان عسيفاً على هذا فزنى بامرأته)] أي: ابني كان أجيراً عند هذا الرجل فزنى بامرأته، فهذه المرأة محصنة، أما هذا الرجل الذي زنى فكان بكراً. قال: [(إن ابني كان عسيفاً على هذا فزنى بامرأته، وإني أخبرت أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة ووليدة)] والوليدة: ابنة الناقة. أي: ما دام ابني سيرجم لا ترجموه، وخذوا مني بدل الرجم هذا مائة شاة ووليدة. قال: [(فسألت أهل العلم فأخبروني أنما على ابني جلد مائة وتغريب عام)]. هذا كلام أهل العلم، فهو لما قص عليهم القصة قالوا: لا. ليس عليه الرجم، ولا يصح منك الافتداء بمائة شاة ولا وليدة. وإنما على ابنك جلد مائة وتغريب عام. وهذا يدل على جواز استفتاء أهل العلم في حضرة النبي عليه الصلاة والسلام، أي: في زمنه. كما يدل على جواز استفتاء المفضول في حضرة الفاضل. وهذا الكلام محل اتفاق وليس عليه خلاف. قال: [(فسألت أهل العلم فأخبروني أن ما على ولدي جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم)] فجواب أهل العلم دل على أن الزاني بكر، وأن الزانية محصنة. قال: [(فقال النبي عليه الصلاة والسلام: والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله، الوليدة والغنم رد)] أي: الوليدة والغنم رد عليك حتى بعد قضاء القاضي. وهذا يدل على وجوب أن يرجع القاضي في قضائه إذا تبين خطؤه، لا يقول: انتهى الأمر. المحكمة حكمت بالإعدام. وإن قيل: ما زال الرجل لم يعدم. قالوا: لا. لا نحرج على القاضي. فإن قيل: وتقتلون نفساً بريئة حتى لا تحرجون على سيادة القانون؟ إن هذا القانون صنم يعبد من دون الله عز وجل، ولأجل سيادة القانون تراق الدماء ولا حرج. قال: [(قال: والذي نفسي بيده، لأقضين بينكما بكتاب الله: الوليد والغنم رد)] أي: ترد إلى صاحبها حتى وإن حكم بها. قال: [(وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام)] فوافق النبي عليه الصلاة والسلام أهل العلم في هذا الحكم. قال: [(قال: واغد يا أنيس!)] وهو أنيس بن الضحاك الأسلمي، صحابي مشهور من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام. قال: [(واغد يا أنيس! إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها)]، فاعترفت، فجيء بها إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فأمر برجمها فرجمت. قال: [(فغدا عليها فاعترفت -أي: أتاها أنيس فاعترفت- فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت)]. قال: [وحدثني أبو الطاهر وحرملة قالا: أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس -فـ عبد الله بن وهب يروي عن يونس بن يزيد الأيلي - (ح) وحدثني عمرو الناقد حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد المدني قال: حدثنا أبي عن صالح - وهو ابن كيسان المدني - (ح) وحدثنا عبد بن حميد أخبرنا عبد الرزاق بن همام الصنعاني عن معمر بن راشد البصري الصنعاني كلهم -يروي- عن الزهري بهذا الإسناد نحوه].

باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنا

باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنا (باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنا). يعني: باب وجوب رجم اليهود إذا كانوا أهل ذمة ولجئوا إلى القاضي المسلم ليفصل بينهم، فهناك يهود ليسوا أهل ذمة وإنما هم محاربون، مثل اليهود في فلسطين، فهم يهود، لكن لا ذمة لهم ولا عهد بيننا وبينهم، لكن لو كان هناك عهد أو ميثاق بيننا وبين بعض اليهود فإنه لا يجوز قتلهم ولا قتالهم إلا إذا نقضوا العهد والميثاق، فإذا نقضوا العهد والميثاق لم يكن لهم عندنا عهد ولا ذمة؛ لأنهم هم الذين نقضوا العهد أولاً. قال: (باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنا) وهذا الباب مبني على أمرين: الأمر الأول: أنهم لجئوا إلينا للفصل في هذه الحدود. الأمر الثاني وهو محل نزاع عظيم جداً بين علماء الأصول: هل الكفار مطالبون بفروع الشريعة أم لا؟ أي: هل هم مطالبون بفروع شريعة الإسلام من صلاة وصيام وزكاة والتزام للحلال وابتعاد عن الحرام؟

مسألة: هل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة

مسألة: هل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة هذه المسألة محل نزاع طويل عند علماء الأصول، والراجح: أنهم مطالبون بفروع الشريعة؛ وذلك لأنهم مطالبون اتفاقاً بأصول الشريعة، وأصول الشريعة هي التوحيد والإيمان، وأن شرع الله عز وجل طالب الناس جميعاً بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، وطالبهم بالإسلام، ولذلك اتفق أهل العلم على أن اليهود والنصارى والكفار عموماً مطالبون بأصول الشريعة، وأن شرع الله عز وجل شرع عام للعالمين جميعاً لعالم الإنس مؤمنهم وكافرهم وعالم الجن مؤمنهم وكافرهم. ووقع الخلاف في فروع الشريعة فيما يتعلق بالكفار هل هم مطالبون؟ قال بعض أهل العلم: ليسوا مطالبين بفروع الشريعة ولم يحققوا أصولها، فكيف يطالبون بالفرع ولم يحققوا الأصل؟ وقال جمهور الأصوليين والعلماء: هم مطالبون بفروع الشريعة وإن لم تقبل منهم إلا بعد أن يحققوا أصول الشريعة. وهذا هو الرأي الراجح؛ ولذلك لما لجأ اليهودي واليهودية إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليقضي بينهما بكتاب الله عز وجل في حد الزنا قضى عليهما بالرجم، والعجيب أن عند اليهود في توراة موسى التي نزلت عليه -عليه السلام- أن حد الزنا للمحصن الرجم، ولكنهم أرادوا إخفاء ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، ففضحهم عبد الله بن سلام الحبر الأعظم من أحبار اليهود، فلما تليت التوراة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وضع القارئ من اليهود أصبعه على آية الرجم فقال عبد الله بن سلام: (يا رسول الله! مره فليرفع يده عن هذه الآية. فأمره النبي صلى الله عليه وسلم فرفع يده فإذا تحتها الرجم)، وهذا يدل على اتفاق شريعة اليهود مع شريعة محمد عليه الصلاة والسلام في أن من زنى وهو محصن فعليه الرجم، وقضى النبي عليه الصلاة والسلام في اليهودي واليهودية بالرجم قضاءً مبرماً في شرعنا. وهذا يؤخذ منه: أن أهل الذمة إذا لجئوا إلى القاضي المسلم ليحكم بينهم وجب عليه أن يحكم بينهم بشرعنا لا بشرعهم.

قضاء النبي صلى الله عليه وسلم في اليهودي واليهودية اللذين زنيا

قضاء النبي صلى الله عليه وسلم في اليهودي واليهودية اللذين زنيا قال: [أن عبد الله بن عمر أخبره: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بيهودي ويهودية قد زنيا، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء يهود فقال: ما تجدون في التوراة على من زنى؟)] لم يذهب النبي عليه الصلاة والسلام ليستخبرهم ولا ليقضي بين هذين بشريعة اليهود، وإنما ليثبت أن شريعة موسى التي لم تحرف موافقة لشريعته. قال: [(قالوا: نسود وجوهمما ونحملهما)] يعني: نلطخ وجوه الزناة بالسواد ونحملهما على الجمل. وفي رواية: (ونجملهما) ومعنى نجملهما: نجعلهما على الجمل. قال: [(ونخالف بين وجوههما)] أي: نجعل ظهر الرجل على دبر الجمل أو الحمار، والمرأة ظهرها إلى قبالة الجمل أو الحمار، بحيث يصير الزاني والزانية كلاهما يركبان دابة واحدة، وكل واحد ينظر للثاني، ويطوفون بهما المدينة، ويفضحونهما بين الناس. فقالوا: يا محمد نفعل هذا بالزناة، وهذا الذي نجده في توراة موسى التي نزلت عليه. قال: [(قالوا: ويطاف بهما. قال: فأتوا بالتوراة إن كنتم صادقين)] إذا كنتم صادقين في حكمكم هذا وأنكم تجدون حد الرجم على من زنى عندكم أنكم تلطخونه بالسواد، وتخالفون بين وجوههم على الدابة وتطوفون بهم وتفضحونهم فقط؛ فهاتوا التوراة نقرؤها إن كنتم صادقين. قال: [(فجاءوا بها فقرؤوها، حتى إذا مروا بآية الرجم وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم، وقرأ ما بين يديها وما وراءها)]. يعني: التي قدامها والتي وراءها ولم يقرأ الآية نفسها. قال: [(فقال له عبد الله بن سلام وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: مره فليرفع يده. فرفعها فإذا تحتها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما)]. قوله: (فرجما) يدل على أنهما كانا محصنين. [(قال عبد الله بن عمر: كنت فيمن رجمهما. فلقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه)]. فانظر إلى العشق ما يفعل بأصحابه، فهما في الحفرة يذوقان الموت، ومع هذا يدافع عن عشيقته ومحبوبته حتى في لحظة الموت! قال: [وقال ابن وهب: (أخبرني رجال من أهل العلم منهم مالك بن أنس)]. وهذا الحديث ليس فيه جهالة؛ لأنه قال: أخبرني رجال من أهل العلم منهم مالك بن أنس، كما لو قال: أخبرني مالك بن أنس، فلو قال ابن وهب: أخبرني رجال من أهل العلم عن فلان فإنه يصير في الحديث جهالة؛ وبالتالي يصير ضعيفاً؛ وذلك لأن هذا المجهول لا نعلم عينه وبالتالي لا نعلم حاله، فإذا جهلنا عين الراوي جهلنا ما إذا كان ثقة أو غير ثقة، عدلاً أو غير عدل، ضابطاً أو غير ضابط، وإذا قال الراوي: حدثني الثقة عن فلان، اختلف أهل العلم في مثل هذا، فبعضهم قال: يصحح الحديث على مسئولية هذا الراوي الذي وثق شيخه وإن أخفى علينا عينه، لكن الراجح وهو مذهب جماهير المحدثين: أن قول الراوي: حدثني الثقة إسناد ضعيف؛ للجهالة؛ لأنه إذا كان عنده ثقة فلم لم يسمه؟ وربما يكون ثقة عنده، ولكنه ضعيف عند غيره وعند التحقيق والتدقيق؛ ولذلك لا بد من التصريح بعين الراوي حتى نعلم حاله. فقول ابن وهب هنا: أخبرني رجال من أهل العلم. لو اكتفى بهذا لقلنا: هذا الإسناد ضعيف. لكنه قال: [منهم مالك]، ومالك ثقة، ويصح به الإسناد وحده، فما بالك وقد حدث ابن وهب أناس آخرون من أهل العلم متابعون لـ مالك بن أنس؟ قال: [أن نافعاً أخبرهم عن ابن عمر: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجم في الزنا يهوديين: رجلاً وامرأة زنيا، فأتت اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهما) وساقوا الحديث بنحوه] أي: بمثل الحديث الأول. فإن قيل: كيف رجم اليهوديان بالبينة أم بالإقرار؟ قلنا: ربما كان ذلك بالبينة أو بالإقرار، ولا حرج أن يقام الحد بالبينة أو الإقرار.

شرح حديث البراء بن عازب في رجم اليهودي الذي زنى

شرح حديث البراء بن عازب في رجم اليهودي الذي زنى قال: [عن البراء بن عازب قال: (مر على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمماً مجلوداً -يعني: مسوداً وجهه بالفحم مجلوداً- فدعاهم صلى الله عليه وسلم فقال: هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قالوا: نعم. فدعا رجلاً من علمائهم فقال: أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى! أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قال: لا)] النبي عليه الصلاة والسلام يقول له: أستحلفك بالله يا رجل! فأنت حبر من أحبار اليهود، هل في كتابكم حد الزاني المحصن أنكم تسودون وجهه وتجلدونه؟ هل هذا حد الزنا عندكم؟ فأجاب: لا. وهذا يدل على أن يهود الزمن الماضي أفضل من شارون القذر الوسخ ومن معه؛ لأن اليهود لو تستحلفهم مليون مرة يكذبون، ولكن كان جواب اليهودي للنبي صلى الله عليه وسلم يقول له: (لا. ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك) يعني: الأصل فيه الكذب. قال: [(ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجده الرجم)] أي: يا محمد! نجد في كتابنا الرجم. قال: [(ولكنه كثر في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد؛ فقلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع)] بدلاً من أن نقيم الحد على الوضيع ونترك الشريف نتفق على عقوبة يستوفيها الشريف والوضيع. قال: [(فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه، فأمر به فرجم، فأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [المائدة:41] إلى قوله: {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} [المائدة:41] الآية في سورة المائدة. يقول: ائتوا محمداً صلى الله عليه وسلم، فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه)] لماذا؟ لأن هذا يوافق ما افتريتموه، وحاشا النبي عليه الصلاة والسلام أن يوافقهم. قال: [(وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا أن تأخذوه)]؛ لأنه سيردكم إلى ما كان من أمركم الأول. قال: [(فأنزل الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47])] هذه ثلاث آيات في كتاب الله في سورة المائدة نزلت خاصة في اليهود، لكن مذهب جماهير العلماء أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهذه الآيات في المسلم كما أنها في الكافر على تفصيل طويل ليس هذا محله.

حديث جابر وابن أبي أوفى في الرجم

حديث جابر وابن أبي أوفى في الرجم قال: [أخبرني أبو الزبير عن جابر قال: (رجم النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من أسلم ورجلاً من اليهود وامرأته)] معنى (امرأته): التي زنى بها، يعني: خليلته وعشيقته وليست امرأته. ولذلك أتى في رواية أخرى: (رجم النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من أسلم ورجلاً من اليهود وامرأة) ولم يقل: وامرأته. فالمقصود: صاحبته التي زنى بها. قال: [عن أبي إسحاق الشيباني قال: (سألت عبد الله بن أبي أوفى: هل رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قال: قلت: بعدما أنزلت سورة النور أم قبلها؟ قال: لا أدري)] عبد الله بن أبي أوفى هذا صحابي مصري كبير، من أجلاء علماء مصر، ومع هذا يقول فيما لا يعلمه: لا أدري. والعلماء يقولون: من أخطأ كلمة (لا أدري) فيما لا يعلم فقد أصيبت مقاتله. أي: فقد قتل نفسه؛ لأنه قال على الله تعالى بغير علم، وهذا حرام. قال: [عن أبي هريرة أنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها -بالإقرار أو بالحمل- فليجلدها الحد ولا يثرب عليها -يعني: لا يسبها ولا يشتمها ولا يعيرها- ثم إن زنت فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر)]. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

كتاب الحدود - إذا زنت الأمة فتبين زناها

شرح صحيح مسلم - كتاب الحدود - إذا زنت الأمة فتبين زناها لقد أوجب الإسلام حد الزنا على الزاني سواء كان حراً أم عبداً، إلا أنه خفف الحكم في حق العبد فجعله نصف ما على الحر، وأسقط عنه حد الرجم، فيجلد نصف الحد خمسين جلدة، ولا يرجم لأن في رجمه إهداراً لمال سيده، كما أباح الدين للسيد إقامة الحد على عبده أو أمته إذا ثبت منهما الزنا، ونهى عن التثريب، كما أمر أيضاً بتأخير الحد على النفساء والمريضة إلى البرء.

تابع باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنا

تابع باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنا إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وبعد فما زلنا في باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنا.

شرح حديث أبي هريرة: (إذا زنت أمة أحدكم فليحدها الحد ولا يثرب)

شرح حديث أبي هريرة: (إذا زنت أمة أحدكم فليحدها الحد ولا يثرب) قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثني عيسى بن حماد المصري أخبرنا الليث -وهو ابن سعد المصري - عن سعيد بن أبي سعيد] وهو المقبري. لقبه: المقبري، وكذلك هذا اللقب ثابت لأبيه، قيل: لأنه كان بين بيته وبين المسجد مقبرة، فكان إذا ذهب إلى المسجد مر بها، وقيل: لأنه كان يسكن بجوار المقابر فلقب بـ المقبري تمييزاً لمن سمي (سعيد) في ذاك الزمان، وفي ذلك المكان، فهو سعيد بن أبي سعيد المقبري [عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمعه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها -يعني: ثبت زناها بالبينة- فليجلدها الحد ولا يثرب عليها)] يعني: لا يشتمها ولا يسبها ولا يعيرها ولا يفضحها؛ ولذلك قال يعقوب عليه السلام لبنيه: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [يوسف:92] يعني: لا لوم ولا توبيخ ولا مؤاخذة ولا عتب، فكذلك هذا السيد إذا زنت أمته فتبين له زناها -أي: ثبت بالبينة- فما عليه إلا أن يجلدها الحد. قال: [(ثم إن زنت -أي الثانية- فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إن زنت -الثالثة- فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر)].

شرح حديث أبي هريرة في بيع الأمة إذا تكرر زناها

شرح حديث أبي هريرة في بيع الأمة إذا تكرر زناها وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم جميعاً عن ابن عيينة -وهو سفيان (ح) -يبدأ إسناد جديد- وحدثنا عبد بن حميد أخبرنا محمد بن بكر البرساني أخبرنا هشام بن حسان كلاهما عن أيوب بن موسى]. كلاهما أي: ابن عيينة وهشام بن حسان، ابن عيينة في الإسناد الأول، وهشام بن حسان في الإسناد الثاني، كلاهما يروي عن أيوب بن موسى. انتبه إلى هذين الإسنادين، فقد التقيا عند أيوب بن موسى؛ لأن أيوب بن موسى سيتابعه كثرة من الرواة. قال: [(ح) وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة - حماد بن أسامة - وابن نمير] محمد بن عبد الله بن نمير، ومن قبل قلت: إذا قال مسلم: حدثنا ابن نمير فهو محمد بن عبد الله بن نمير، وإذا كان ابن نمير في طبقة شيوخ الإمام مسلم سيكون هو الوالد، هو اسمه عبد الله بن نمير. قال: [عن عبيد الله بن عمر]. وهذا هو الثاني المتابع لـ أيوب بن موسى. إذاً أيوب بن موسى في الإسنادين الأولين وأنهما التقيا عنده، وفي الإسناد الثاني عبيد الله بن عمر العمري. قال: [(ح) وحدثني هارون بن سعيد الأيلي حدثنا ابن وهب حدثنا أسامة بن زيد الليثي]. وهذا هو الثالث. إذاً: أيوب وعبيد الله العمري وأسامة بن زيد الليثي. قال: [(ح) وحدثنا هناد بن سري وأبو كريب - محمد بن العلاء الهمداني - وإسحاق بن إبراهيم -المعروف بـ ابن راهويه - عن عبدة بن سليمان عن محمد بن إسحاق] الإمام الكبير صاحب المغازي. هؤلاء الأربعة: أيوب وعبيد الله العمري وأسامة بن زيد الليثي ومحمد بن إسحاق إمام المغازي قال الإمام: كل هؤلاء -أي: الأربعة الذين ذكرناهم- عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة. يعني: بالإسناد الثالث عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهو معروف بـ سعيد بن أبي سعيد المقبري أو يدعى سعيد المقبري، وأحياناً يقول الرواة: حدثنا المقبري. فإن كان في طبقة نازلة فهو سعيد، وإن كان في طبقة عليا فهو أبو سعيد. قال: [عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن ابن إسحاق -أي: كل هؤلاء يروون الحديث على نحو واحد إلا ابن إسحاق - قال في حديثه عن سعيد عن أبيه -فـ سعيد بن أبي سعيد يروي عن أبيه- عن أبي هريرة]، ويروي عن أبي هريرة، وهذه في الحقيقة مسألة قد أخذها علماء النقد وانتقدوا هذه الروايات، هل هي راوية سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة، أم روايته مباشرة عن أبي هريرة؟ فرواية سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة، أو روايته عن أبي هريرة مباشرة محل نزاع بين أهل العلم؛ ولذلك هذا الإسناد ليس على شرط البخاري إنما هو على شرط مسلم، ولو رجعت لترجمة سعيد، أو ترجمة أبيه عن أبي هريرة لوجدت تفصيلاً يغني طالب العلم فيما يتعلق بروايته والحكم عليها، وعلى أية حال هي في مرتبة الحسن لذاته ولا تقل عن ذلك. قال: [غير أن ابن إسحاق قال في حديثه: عن سعيد عن أبيه -ولم يقل: عن سعيد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم- قال في جلد الأمة إذا زنت ثلاثاً: (ثم ليبعها في الرابعة)]. إذاً: هذه رواية أيوب بن موسى ورواية عبيد الله العمري ورواية أسامة بن زيد الليثي ورواية الليث بن سعد، فهذه الرواية الأولى في الحديث من طريق الليث بن سعد، والليث بن سعد متابع لهؤلاء الأربعة. فـ أيوب والليث بن سعد وعبيد الله وأسامة بن زيد هؤلاء جميعاً قالوا: (فليبعها ولو بحبل من شعر) بعد الثالثة، وابن إسحاق قال: (فليبعها ولو بظفي

كلام النووي في أحاديث حد الأمة إذا زنت فتبين زناها

كلام النووي في أحاديث حد الأمة إذا زنت فتبين زناها إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وبعد فما زلنا في باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنا.

اشتراط الرؤية أو الثبوت لإقامة الحد على الأمة

اشتراط الرؤية أو الثبوت لإقامة الحد على الأمة قال الإمام النووي رحمه الله: (قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها) التثريب: التوبيخ واللوم على الذنب، ومعنى (تبين زناها) أي: تحققه، إما بالبينة وإما برؤية أو علم عند من يجوز القضاء بالعلم في الحدود). بعض الناس يقول: الحد يثبت بالعلم مطلقاً ولا يلزم فيه الرؤية، فإذا كان المراد بالعلم الإقرار فهذا كلام مستقيم، وإذا كان المراد بالعلم: غير الإقرار -أي: مجرد الأخبار التي تتناقل هنا وهناك واستقرار ذلك وقيامه مقام البينة- فهذا كلام غير سديد؛ ولذلك من قال: إن الحدود تثبت بالعلم مطلقاً فكلامه يحتاج إلى نظر؛ لأنه كلام غير صحيح ولا دليل عليه، والنبي عليه الصلاة والسلام لما سمع بإشاعة الناس عن فلانة أنها بغي وأنها زانية قال: (لو كنت مقيماً الحد على أحد بغير بينة لأقمت الحد على فلانة -أو قال-: على هذه) أي: على هذه المرأة التي تتحدثون عنها ويتحدث الناس كلهم عنها أنها زانية؛ وذلك لأن هذا العلم قام حتى استفاض وتواتر واشتهر بين الناس أن هذه المرأة بغي وزانية، وأنتم تعلمون أن البغايا في زمن الجاهلية وقبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام -كما هو الشأن في بيوت الدعارة في هذه الأيام- يطلبن الرجال صراحة، بل كانت عناقاً في زمن الجاهلية تقف وتضع علماً على صدرها، ويعرف أهل مكة أن عناق إذا وضعت العلم فإنما تطلب رجلاً، فإن استعصى عليها الرجال دعتهم إلى ضيافتها وإلى الوقاع بها صراحة. هذا الكلام ليس غريباً أن يكون في الجاهلية؛ لأنه مجتمع جاهلي، وهذا الكلام يدار في هذا الزمان -لا أقول: في بلاد أوروبا وبلاد الكفر- بل في بلاد المسلمين، بل أكثر من ذلك أن هذه البيوت وهذه الخرابات مرخصة، وقد اتخذت لها الاحتياطات الكاملة للتأكد من سلامة وصحة هذه البغي. قال: (تحققه إما بالبينة أو بالرؤية). هل يشترط في رؤية الزنا بالإماء أربعة؟ A لا يشترط ذلك، بل لو رآها سيدها فقط ولم يرها معه أحد كان له أن يقيم عليها الحد، وهذا معنى قوله: (فتحقق -أي: زناها- إما بالبينة وإما بالرؤية)؛ لأن بعض الناس يتصور أن أحكام الإماء كأحكام الحرائر سواء بسواء، فالأمة والحرة بينهما فروق، من هذه الفروق: أن الأمة إذا رآها سيدها تزني أقام عليها الحد، وهو الذي يقيم عليها الحد، ولا بأس أن يقيم السلطان الحد عليها، لكن لو أقام السيد على عبده أو أمته الحد فهذا ليس مخالفاً للسنة، وإذا رآها غير سيدها إن أنكرت لا يقام عليها الحد، وإن أقرت فيقام عليها الحد بإقرارها. هذا كلام الإمام ابن قدامة في المغني.

وجوب إقامة حد الزنا على الإماء والعبيد

وجوب إقامة حد الزنا على الإماء والعبيد قال: (وفي هذا الحديث دليل على وجوب حد الزنا على الإماء والعبيد). وقد كان العرب يعتبرون زنا الإماء والعبيد ليس شيئاً؛ بخلاف الحرائر، فالحرة لا تزني لأن هذا عين العيب، لكن لو رأوا أمة تزني فكأنهم لم يروا شيئاً؛ لأن الأمة ليست كالحرة، ولذلك كان زنا الحرائر عيباً شديداً جداً بخلاف زنا الإماء والعبيد.

حكم إقامة السيد الحد على أمته

حكم إقامة السيد الحد على أمته قال: (وفيه أن السيد يقيم الحد على عبده وأمته. وهذا مذهبنا ومذهب مالك وأحمد وجماهير العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم. وقال أبو حنيفة في طائفة ليس له ذلك). أي: ليس للسيد أن يقيم الحد على عبده وأمته.

سقوط عقوبة الرجم عن العبد والأمة

سقوط عقوبة الرجم عن العبد والأمة قال: (وهذا الحديث صريح في الدلالة للجمهور) أي: والرد على أبي حنيفة: (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها) أي: فليجلدها هو الحد. قال: (وفي هذا الحديث دليل على أن العبد والأمة لا يرجمان سواء كانا مزوجين أو لا؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها) ولم يفرق بين مزوجة وغيرها). وربنا يقول: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} [النساء:25] يعني: تزوجن {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ} [النساء:25] يعني: زنين بعد هذا الإحصان الذي هو الزواج {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء:25] فكيف ينصف الرجم والرجم موت؟ وهل يمكن أن يموت الشخص نصف موت؟ إذاً: الذي ينصف هو الجلد. وذكر أن مصطفى محمود جاء مرة وكتب عدة مقالات في الجريدة. قال: أخبروني عن تفسير هذه الآية: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء:25] قال: فأنا أريد أن أفهم هذا الكلام، وهو لا يريد أن يفهم بل هو يتحدى، ويشكك في السنة، فأسياده في الغرب انتهى معين بحورهم النكدة إلى توجيه الشبه لسنة النبي عليه الصلاة والسلام وتفكيك المسلمين والشباب في دينهم وعقيدتهم، فلم يبق أمام مصطفى محمود إلا كلام الله عز وجل، وصدق الله إذ يقول: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82] فلما انتهت حججه وشبهه في سنة النبي عليه الصلاة والسلام استدار بعد ذلك إلى كتاب الله عز وجل. قال: هذه الآية تقول: إن الإماء إذا أحصن تزوجن فعليهن نصف ما على المحصنات الحرائر من العذاب فكيف ذلك؟ الجلد ينصف؛ لأن الحرة البكر إذا زنت تجلد مائة جلدة وتغرب أو لا تغرب على الخلاف المشهور الذي أخذناه من قبل. هب أن الراجح: الجلد دون التغريب. إذاً: الأمة إذا زنت وهي بكر فعليها نصف ما على المحصنة من العذاب، فتجلد خمسين، وإذا أحصنت الأمة وزنت فكيف يكون عليها نصف عذاب الحرة؟ لأن الحرة المحصنة إذا زنت رجمت حتى الموت، فكيف ينصف هذا بالنسبة للأمة المحصنة المزوجة؟ فأراد مصطفى محمود أن يشكك في هذه الآية، وما علم أن إجماع الأمة منعقد على أنه لا رجم على الأمة ولا على العبد، إنما عليهما الجلد، والجلد إما أن يكون قبل الإحصان، فتجلد الأمة، ويجلد العبد بغير عدد ولا يبلغ الخمسين، فإذا أحصن العبد وأحصنت الأمة وزنيا فعليهما نصف ما على الأحرار والحرائر من العذاب، فإذا كانت الحرة قبل الإحصان تجلد مائة فالأمة بعد الإحصان تجلد خمسين، وإذا زنت الأمة قبل الإحصان والزواج فلا عذاب عليها إلا من باب اللوم والتوبيخ والتعزير لا من باب الحد، وهذا التأديب والتعزير يصدر من السيد إلى عبده وأمته، فلا يكون الحد في حق الإماء والعبيد إلا بعد الإحصان، ولا يزيد عن خمسين جلدة. هذا في المرة الأولى والثانية والثالثة واختلف في بيعها بعد ذلك. هل تباع بعد الثالثة أم بعد الرابعة؟ على الشك الوارد في الروايات هنا، فإذا قلنا: تباع بعد الثالثة فهذا ظاهر الروايات وإذا قلنا: تباع بعد الرابعة فهذا أمر يرجع إلى اجتهاد السيد وأخذه بأحد القولين، وإذا باعها يبيعها بأبخس الأثمان ويعرِّف المشتري ببيعها. قال: (وفي هذا الحديث دليل على أن العبد والأمة لا يرجمان سواء كانا مزوجين أم لا، لقوله عليه الصلاة والسلام: (فليجلدها الحد) ولم يفرق بين مزوجة وغيرها. وفي هذا الحديث أنه لا يوبخ الزاني بل يقام عليه الحد فقط)، لا يوبخ أياً كان حراً أو عبداً لا يوبخ؛ لأنها معصية ارتكبها في وقت غفلة، وهي من باب إعانة الشيطان عليه، وأنتم تعلمون أن النبي عليه الصلاة والسلام لما رجم الغامدية سبها خالد وقال فيها قولاً شديداً، وفي إحدى الروايات لما رجع عليه الدم قال: يا زانية! فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تفعل) أي: لا تقل ذلك، فإنها تابت توبة لو تابها سبعون من أهل المدينة لوسعتهم. ففي هذا: إثبات رحمة النبي عليه الصلاة والسلام لأصحاب المعاصي واحترام آدميتهم وكرامتهم وتقدير توبتهم، وأنهم يغسلون من هذا الذنب غسلاً كأنه لم يكن، وأن الله تعالى لا يحاسبهم على ذلك يوم القيامة؛ لأنكم تعرفون أن مرتكب الكبيرة ليس كافراً كما هو مذهب الخوارج، بل لا تسلب عنه الأخوة الإيمانية؛ لأن الأخوة الإيمانية ثابتة للفاسق الملي كما عبر بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في الواسطية فقال: (لا يسلب اسم الإيمان عن الفاسق الملي) أي: على من كان على ملة النبي عليه الصلاة والسلام ودينه، فإنه يفسق بكبيرته، ويثبت له الإيمان على قدر ما عنده من إيمان، فمرتكب الكبيرة عند أهل السنة مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، خلافاً للمعتزلة الذين جعلوه في الدنيا في منزلة بي

حكم من تكرر منه ما يستوجب الحد

حكم من تكرر منه ما يستوجب الحد قال: (قوله عليه الصلاة والسلام: (إن زنت فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر) فيه أن الزاني إذا حد ثم زنا ثانياً يلزمه حد آخر). وهذا في كل الحدود، فالسارق إذا سرق تقطع يده اليمنى، فإذا سرق الثانية تقطع اليسرى، فإذا سرق الثالثة تقطع رجله اليمنى، فإذا سرق الرابعة تقطع اليسرى، وكالذي شرب الخمر مرة وجاء وأقر أو رآه الناس يشرب الخمر فأقيم عليه حد الخمر، فرجع فشرب مرة أخرى فأقيم عليه مرة ثانية، ورجع فشرب ثالثاً فأقيم عليه الحد، وفي الرابعة خلاف بين أهل العلم، وأرجح الأقوال فيه: أنه إذا شرب الرابعة يقتل؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا شرب فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد في الرابعة فاقتلوه)، وأنتم تعرفون الشيخ أحمد شاكر عليه رحمة الله، له كتاب رائع جداً، اسمه: (قتل مدمني الخمر) واعتبر أن العود للسكر والشرب مرة ثالثة ورابعة إدمان، والنص صريح في مسند الإمام أحمد: (إذا شرب فاجلدوه، ثم إذا عاد فاجلدوه، ثم إذا عاد فاجلدوه، ثم إذا عاد في الرابعة فاقتلوه). والشيخ أحمد شاكر صحح هذه الرواية، ثم انطلق بعد ذلك إلى الحياة العملية للإفتاء، وأنتم تعرفون أن الرجل هذا كان قاضياً شرعياً، وكان من القضاة المرموقين في زمانه، وكان جريئاً في الحق لا يخشى في الله لومة لائم، فقال: الحكم الشرعي في مدمن الخمر: القتل وهذا الذي تطمئن إليه النفس لصحة الدليل وقوته وصراحته؛ لأنه لا يحتاج إلى تأويل، فكذلك الذي يرتكب أي حد من حدود الإسلام يطبق عليه فإن عاد يطبق. فإن قيل: شخص زنا ثم زنا ثم زنا ثم أتى فأقر بين يدي القاضي قال: أنا يا سيدي القاضي! زنيت مائة مرة، فهل نقيم عليه الحد مائة مرة؟ إذا جاز هذا عقلاً في غير المحصن؛ فإنه لا يجوز عقلاً ولا شرعاً في المحصن، فالمحصن لو جاء وقال: أنا متزوج، وقد زنيت أربع مرات فهل يقول القاضي: نرجمك أربع مرات؟ فلما اتفق أهل العلم على أن من ارتكب ما يستوجب الحد أقيم عليه فإن عاد أقيم عليه ثانياً، لكن إذا ارتكب ما يستوجب الحد عدة مرات فلا يقام عليه الحد إلا مرة واحدة، سواء كان محصناً أو غير محصن. قال: (الزاني إذا حد ثم زنا ثانياً يلزمه حد آخر، فإن زنا ثالثة لزمه حد ثالث، فإن حد ثم زنا لزمه حد رابع وهكذا أبداً، قال: وأما إذا زنا مرات ولم يحد لواحدة منهن فيكفيه حد واحد للجميع، فإذا شرب مراراً ولم يحد في واحدة فإنما يلزمه حد واحد).

الحث على ترك مخالطة الفساق

الحث على ترك مخالطة الفساق قال: (وفي هذا الحديث ترك مخالطة الفساق وأهل المعاصي وفراقهم؛ وهذا البيع المأمور به مستحب ليس بواجب عندنا وعند الجمهور). أخذنا هذا من قوله: (فإذا زنت الثالثة فليبعها ولو بضفير) يعني: يتخلص منها، وأنتم تعلمون أن مرتكب الكبيرة فاسق، وهذا الحديث يقول: وفي هذا استحباب التخلص من صحبة ومخالطة الفساق بترك صحبتهم وفراقهم، وهناك آيات وأحاديث كثيرة جداً تحث على صحبة أهل الإيمان، وعلى ملازمة أهل الإيمان وخاصة أهل العلم؛ لأنهم أعلم الناس بالله وأعلم الناس بكلامه وبكلام رسوله عليه الصلاة والسلام وأحواله وسننه وأيامه، وهم الذين يناط بهم في الدرجة الأولى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصلاح العباد والبلاد وغير ذلك، فمخالطتهم أنفع لمن خالطهم.

حكم بيع الأمة إذا تكرر زناها

حكم بيع الأمة إذا تكرر زناها قال: (وهذا البيع المأمور به مستحب، وليس بواجب عندنا وعند الجمهور. وقال داود الظاهري: هو واجب). ولم يصرفه صارف. والصارف عند الجمهور: أن هذا العبد أو تلك الأمة ملك لسيدها، والمعلوم أن المالك لا يحمل على بيع ما يملك؛ لأن هذا أمر مستقر، فأنت تملك الكتاب الذي معك وليس لأحد قط أن يحملك على بيع هذا الكتاب الذي معك؛ لأنه ملكك، ولو كانت ملكيتك للكتاب مشروطة بأن تبيعه لأول آمر يأمرك ببيع هذا الكتاب فلا تكون الملكية لهذا الكتاب ملكية حقيقية؛ ولذلك حمل الجمهور الأمر للسيد ببيع أمته الزانية على أنه أمر استحباب وندب، وليس أمر وجوب؛ حتى لا يتعارض هذا مع الملكية الحقيقة لهذه الأمة. والله أعلم. قال: (وفي هذا الحديث جواز بيع الشيء النفيس بثمن حقير)، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (فليبعها ولو بضفير). أي: بعها ولو ببسيط. يعني أي: أنصحك تتخلص منها ولو بأقل الأثمان. قال: (وفيه جواز بيع الشيء النفيس بثمن حقير، وهذا مجمع عليه إذا كان البائع عالماً به). يعني: البائع يعرف أنه يبيع سلعة غالية فيبيعه بأبخس الأثمان؛ إذلالاً واحتقاراً لهذا الشيء رغم أنه في نفسه ثمين. قال: (فإن كان جاهلاً فعند الجمهور جهله وعلمه سواء). واحد اشترى أمة بـ (100) جنيه، ولما فعلت فعلتها كان ثمنها عند الناس (1000) جنيه، وهو لا يعرف شيئاً عن هذا الغلاء. فلما باعها بـ (100) جنيه فوجئ بعد بيعها أنها صارت عند الناس بألف، فعند الجمهور سواء، سواء علم بغلائها أو برخصها أو جهل غلاءها. قال: (ولأصحاب مالك فيه خلاف). أي: في هذه المسألة لـ مالك خلاف مشهور معروف (وهذا المأمور به يلزم صاحبه أن يبين حالها للمشتري؛ لأن هذا عيب في السلع)، فالعبيد والإماء يملكها الأسياد، ومن أراد أن يبيع سلعة يجب أن يبين عيبها إذا كان يغلب هذا العيب على السلعة، وهذا ليس فيه فضح للأمة إذا زنت؛ لأنه يخبر المشتري الذي تكون له ولاية عليها بعد الشراء، فلابد أن يعلم عيبها، إذا إن عيبها عيب خفي والعيب الخفي حكمه: أن يبينه البائع، فإن قبل المشتري أن يشتري السلعة بهذا العيب فليس للمشتري أن يرجع ويقول: أنت أعطيتني أمة زانية؛ لأن البائع قد أخبره أنها زانية، فليس للمشتري أن يرجع، لكن إذ كان هذا العيب خفياً وأخفاه البائع، ثم تبين للمشتري بعد ذلك أن هذه الأمة زانية أو أنها صرحت لسيدها الثاني أن سيدها الأول باعها لأجل الزنا، فله أن يرجع؛ لأن البائع أخفى عيباً لا يظهر في الغالب، لكن إنما إذا كان العيب من العيوب الظاهرة فليس من حقه أن يرجعه، كالعبد الأعمى الذي يباع، فليس للمشتري حق في إرجاعه وإلا أصبح أعمى مثله! لأنه كيف يشتري عبداً من غير أن ينظر فيه؟ قال: (فإن قيل: كيف يكره شيئاً ويرتضيه لأخيه المسلم؟) يعني: كيف يكره لنفسه أن يمسك هذه الأمة عنده ويبيعها له؟ مع أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) وهو نفسه الذي يقول: (فإن زنت الثالثة فبعها ولو)؟ A النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أمرنا بالبيع، لكن بشرط إظهار العيب، فالناس درجات ومراتب.

بيان معنى إحصان الأمة والرد على شبهة مصطفى محمود في ذلك

بيان معنى إحصان الأمة والرد على شبهة مصطفى محمود في ذلك قال: (وفي الحديث الآخر: (أن علياً رضي الله تعالى عنه خطب فقال: (يا أيها الناس أقيموا على أرقائكم الحد، من أحصن منهن ومن لم يحصن). قال الطحاوي: وفي الرواية الأولى لم يذكر أحد من الرواة قوله: (ولم يحصن) غير مالك وأشار بذلك إلى تضعيفها. وأنكر الحفاظ هذا على الطحاوي. قالوا: بل روى هذه اللفظة أيضاً: ابن عيينة ويحيى بن سعيد عن ابن شهاب كما قال مالك، فحصل أن هذه اللفظة صحيحة، وليس فيها حكم مخالف؛ لأن الأمة تجلد نصف جلد الحرة، سواء كانت الأمة محصنة بالتزويج أم لا. وقوله هنا: (محصنة بالتزويج) من أجل أن يبين أن الإحصان المذكور في الآية وهو التزويج؛ لأن بعض أهل العلم قال: الإحصان هو الإسلام، فبين هنا أن القول الراجح من أقوال المفسرين: أن الإحصان المقصود به: التزويج. قال: (وفي هذا الحديث بيان من لم يحصن، وقوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء:25] فيه بيان من أحصنت، فحصل من الآية الكريمة والحديث بيان أن الأمة المحصنة بالتزويج وغير المحصنة تجلد -إذاً: الأمة سواء كانت محصنة أو غير محصنة فالحكم فيها الجلد- وهو معنى ما قاله علي رضي الله عنه وخطب الناس به قال: (أقيموا على أرقائكم الحد من أحصن منهن ومن لم يحصن) -أي: الاثنين سواء- فإن قيل: فما الحكمة في التقييد في قوله تعالى: (فإذا أحصن) مع أن عليها نصف جلد الحرة سواء كانت الأمة محصنة أم لا؟ ف A أن الآية نبهت على أن الأمة وإن كانت مزوجة لا يجب عليها إلا نصف جلد الحرة). يعني: ألا تعرفون أن الأمة إذا لم تتزوج تجلد على النصف من جلد الحرة؟! وهذا أحد المناهج، فإذا كنتم تعلمون ذلك فاعلموا أن هذا حكم جار حتى في حق الإماء بعد الإحصان، وهذا الذي نبهت عليه الآية. قال: (لأنه الذي ينتصف -أي: الجلد دون الرجم- وأما الرجم فلا ينتصف، فليس الرجم مراداً في الآية بلا شك، فليس للأمة المزوجة الموطوءة في النكاح حكم الحرة الموطوءة في النكاح، فبينت الآية هذا؛ لئلا يتوهم أن الأمة المزوجة ترجم). وبهذا نكون رددنا على شبهة مصطفى محمود. قال: (وقد أجمع أهل العلم على أنها لا ترجم سواء كانت محصنة أو غير محصنة، وأما غير المزوجة فقد علمنا أن عليها نصف جلد المزوجة بالأحاديث الصحيحة، منها حديث مالك هذا، وباقي الروايات المطلقة: (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها) وهذا يتناول المزوجة وغيرها. وهذا الذي ذكرناه من وجوب نصف الجلد على الأمة سواء كانت مزوجة أو لا، وهو مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد وجماهير علماء الأمة. وقال جماعة من السلف: لا حد على من لم تكن مزوجة من الإماء والعبيد، ممن قاله: ابن عباس وطاوس وعطاء وابن جريج وأبو عبيدة). إذاً: الأمة غير المحصنة إذا زنت عقابها توبيخ ولوم وتأديب -أي: من باب التعزير- وهذا مذهب ثالث. وهذه المذاهب الثلاثة قد ذكرها الإمام ابن كثير عليه رحمة الله بالتفصيل في شرح هذه الآية من سورة النساء، فيمكنك الرجوع إليها.

باب تأخير الحد عن النفساء

باب تأخير الحد عن النفساء قال: (باب: تأخير الحد عن النفساء) النفساء هي: المرأة حديثة الولادة، أو المرأة التي وضعت. والنفاس يختلف عن الحيض، إذ إن الحيض: هو العادة الشهرية التي تحدث للمرأة، أما النفاس: فهو المدة الزمنية التي تقضيها المرأة غير طاهرة بعد الولادة، وأقصاها عند عامة النساء: أربعون يوماً، كما في حديث أم سلمة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن مدة النفاس أربعون يوماً)، وهذا الأصل العام لا يمنع أن يقل النفاس عن هذه المدة أو يزيد أو ينقطع في أثناء هذه المدة ثم يعود، لكن الغالب عند عامة النساء أن هذه المدة أربعون يوماً. قال الإمام: (باب تأخير الحد عن النفساء). يعني: لا تحد الزانية في نفاسها، كما أنها لا تحد في أثناء حملها، وهذا بالاتفاق، أما الحد في الرضاع فمحل نزاع، فبعضهم يعتمد على حديث الغامدية ويقول: لا تحد في الرضاع مطلقاً. والبعض يقول: تحد في الرضاع إذا كان هناك من يرعى هذا الرضيع. قال: [حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي حدثنا سليمان أبو داود الطيالسي حدثنا زائدة بن قدامة عن السدي عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن. قال: خطب علي رضي الله عنه فقال: (يا أيها الناس! أقيموا على أرقائكم الحد. من أحصن منهم ومن لم يحصن، فإن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت، فأمرني أن أجلدها، فإذا هي حديث عهد بنفاس فخشيت إن أنا جلدتها أن أقتلها؛ فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: أحسنت) إذاً: الحجة في تقرير النبي عليه الصلاة والسلام. قال: [وحدثناه إسحاق بن إبراهيم أخبرنا يحيى بن آدم حدثنا إسرائيل عن السدي بهذا الإسناد، ولم يذكر: (من أحصن منهم ومن لم يحصن). وزاد في الحديث: (اتركها حتى تماثل)] يعني: تعافى من هذا الداء ويذهب داؤها وعلتها. قال الإمام النووي: (في هذا الحديث: أن الجلد واجب على الأمة الزانية، وأن النفساء والمريضة ونحوهما يؤخر جلدهما إلى البرء، والله أعلم). وأنتم تعلمون أن الغرض من الجلد ليس الموت، وإنما هو تطهير المرء من الذنب.

الأسئلة

الأسئلة

تقييم كتاب الروح لابن القيم

تقييم كتاب الروح لابن القيم Q ما رأيك في كتاب الروح لـ ابن القيم وهل تنصح بقراءته؟ A الحقيقة الكتاب ممتع جداً في الجملة، وذكر مسائل في غاية الأهمية، لكنه خلط وأساء غاية الإساءة في مواطن في أثناء الكتاب، ولذلك العلماء يقولون: هذا الكتاب ليس شبيهاً بكلام الإمام ولا بقلمه ولا بعلمه الراسخ، فمنهم من يقول: ابن القيم ألفه في أول عمره العلمي. وفي هذا إشارة إلى أن الطالب في أول الطلب لا ينبغي له أن يكتب، وكثير من الشباب يتفرع جداً في هذا الباب، ويكتب كلاماً، ويتصور أن هذا دين ربنا تبارك وتعالى، وأن هذا ليس باباً من أبواب الهوى. ولا يزال الشيطان ينفخ فيه حتى يطبع ما كتب ويعرض فيه عقله، فعندما يكبر ويعرف العلم على حقيقته يأتي فينظر لكتبه فيتمنى لو أن الأرض تنشق وتبلعه، وقد قعد سنين يعادي من نصحه في أول الأمر بألا يطبع. وأذكر في هذه المناسبة قصة للشيخ الألباني سنة (1985م): دفع إلينا كتاباً فيه ثمانون ورقة، وقد ألفه وله من العمر ثمانية عشر عاماً. فسألناه: لم لم تطبعه يا شيخ؟! قال: تركته من أجل أن أريكم وأقول لكم: إنه من العيب على الشخص أن يؤلف كتاباً وهو ما زال عظمه طرياً، فلا بد أن يجيزك أهل العلم أولاً؛ لأن ما كتبت سيقابل ملايين العقول، وكل عقل له منهج في طريقة تفكيره، فكتابك هذا سيمر على كل هذه العقول، فكيف تسوغ لنفسك أن تكتب وأنت ما زلت في مقتبل العمر؟ إذاً: العلماء يقولون: إن صح نسبة كتاب الروح لـ ابن القيم فهو من أخطائه العظيمة جداً، وأحسن العذر أنه ألف ذلك في أول حياته وما طُبع ونشر للناس إلا بعد موته؛ لأن معظم كتب أهل العلم ما طبعت إلا بعد موتهم، فأنا في الجملة لا أنصح بقراءة هذا الكتاب مطلقاً إلا لطالب علم راسخ في عقيدة السلف، خاصة الطالب الذي قرأ في كتب الاعتقاد، وعلم أين مستقر أرواح الكافرين وأرواح المؤمنين وأرواح الشهداء وأرواح الأنبياء، فإذا استقرت هذه العقيدة فلا حرج حينئذ أن تقرأ في كتاب الروح، فإنك بعد استقرار العقيدة في هذه المسألة ستعرف مباشرة أن هذا غلط، لكن حينما يأتي شخص لا يعرف أي شيء عن الروح ويقرأ هذا الكتاب فإنه سيقع في المحذور.

الحكم على حديث: (الكيس من دان نفسه) وحديث: (الحجر الأسود يمين في الأرض)

الحكم على حديث: (الكيس من دان نفسه) وحديث: (الحجر الأسود يمين في الأرض) Q بالنسبة لحديث: (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت) وحديث: (الحجر الأسود يمين الله في الأرض) أرجو الإفادة في درجة هذين الحديثين وجزاكم الله خيراً، علماً بأن الشيخ الألباني ضعفهما؟ A في الحقيقة الشيخ محمد عمرو عبد اللطيف عمل رسالة لطيفة جداً منذ حوالي (15) سنة تقريباً اسمها (القسطاس في تصحيح حديث الأكياس)، والمقصود به: جمع كيس، وقد صحح هذا الحديث. وهذا الكتاب قد أتى فيه الشيخ بقواعد حديثية تنبئ عن تبحره في هذا الفن، لكن للأسف الشديد أن هذه الفرحة لم تستمر؛ لأن الشيخ غير منهجه في مبدأ ترقية الحديث الضعيف إلى الحسن، فبعد أن صنف هذا الكتاب وأثبت أن هذا الحديث صحيح ذهب مرة أخرى إلى ما يخالف ذلك، ورأينا أن الحجج التي انقلب بها الشيخ على هذا الأصل حجج غير قوية، وأن الحجج الأولى أقوى مما هو عليه الآن؛ ولذلك نحن لا زلنا نعتقد أن حديث: (الكيس من دان نفسه) حديث حسن. أما حديث: (الحجر الأسود يمين الله في الأرض) فهو ضعيف. وأنا أنسحب من كلامي عندما قلت: إنه حديث صحيح أو حسن؛ وذلك لأنني ذهبت إلى مكتبتي وبحثت الحديث بجدية فإذا بالحديث لا يرتقي قط إلى الحسن.

حكم البحث عن الزاني إذا أقرت المرأة بالزنا

حكم البحث عن الزاني إذا أقرت المرأة بالزنا Q هل يقاطع الناس المرأة الزانية ويبحثون عمن زنى بها حتى يقام عليه الحد؟ A أنتم تعلمون أن المرأة الغامدية لما اعترفت بالزنا لم يسألها النبي صلى الله عليه وسلم عمن زنى بها، وإنما أخذها بإقرارها على نفسها لا على غيرها، لكن إذا اتفق عند القاضي إقرار بذكر اسم الزاني طالبه القاضي بالإقرار، فإن أقر أقام عليه الحد، وإن أنكر لم يقم عليه الحد، وإنما يقيم على من أقر. وأنتم تعلمون أن رجلاً كان له ولد أجير عند فلان فزنى بامرأته، فأفتوه أناس بفتاوى، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: اقض فينا بكتاب الله عز وجل قال: (نعم. الغنم والوليدة رد عليك، وعلى ابنك جلد مائة والرجم، واذهب يا أنيس إلى امرأة هذا فإن هي اعترفت فارجمها، فذهب أنيس إليها فاعترفت فرجمها). ومفهوم المخالفة: فإن لم تعترف لا ترجمها. ومن هنا يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ما أرسل إلى هذه المرأة إلا لما ذكر له أن الزنا وقع بها، وأنها امرأة هذا الرجل الذي جاء إليه يطلب قضاءه، فعندما يذهب شخص إلى القاضي ويقول: أنا زنيت، فيقول له: بمن؟ فهذا قاضٍ جاهل لا يعرف شيئاً عن القضاء.

حكم الأخذ من اللحية

حكم الأخذ من اللحية Q هل يجوز الأخذ من اللحية؟ A من حيث الجواز يجوز، وقد فعله كثير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كـ أبي هريرة وسلمان وأبو الدرداء وعبد الله بن عمر، وكان عبد الله بن عمر إذا حج أو اعتمر -وهو راوي أحد الأحاديث في وجوب إطلاق اللحية- قبض على لحيته فأخذ ما فضل. وكان هذا يعرف من ابن عمر؛ ولذلك الشيخ الألباني رحمه الله كان يذهب في أول الأمر إلى وجوب إطلاق اللحية وحرمة الأخذ منها. وأنا ليس لي علاقة بفعل عبد الله بن عمر؛ لأن السنة تقول: أطلقوا أعفوا أرخوا وهذه كلها تدل على الإطلاق بلا قيد، حتى اللغة تدل على عدم الأخذ، إنما كون عبد الله بن عمر خالف ذلك بأن أخذ من لحيته ففعله هذا يدخلنا في مسألة أصولية وهي: لو أن صحابياً روى شيئاً فخالفه فالحجة بروايته أم بفعله؟ A الحجة في روايته. ومذهب آخر يقول: الحجة في فعله. قالوا: لأنه لابد أن يكون عنده ناسخ لهذا القول أو مبيح أو مجيز، وإلا فظاهر الصحابة أنهم لا يخالفون سنة النبي عليه الصلاة والسلام. ورد الجمهور عليهم وقالوا: لا. ما خالف روايته إلا لغلبة الظن أنه قد نسي الرواية فعمل بخلافها، والنسيان لا يقدح في عدالة الراوي. فأقول: هذه محل نزاع بين أهل العلم، والشيخ الألباني رحمه الله بعدما كان متشدداً جداً في حرمة الأخذ من اللحية الآن يذهب إلى وجوب الأخذ من اللحية، والعجيب أنه يذهب للوجوب، فلو قال: (الجواز فقط) لا بأس؛ لأن الوجوب يقتضي إثم من لم يأخذ من لحيته شيء فلو قال الشيخ الألباني بجواز الأخذ من اللحية لكان الكلام مستقيماً، لكن الشيخ يقول بالوجوب وهذا ما لم يوافقه عليه أحد، وله حجج كلها عقلية، وأما حجة شرعية، أو نص ثابت في إثبات الوجوب وحرمة الإطلاق فهيهات أن يكون هناك دليل على هذا الكلام!

حكم من دخل المسجد وصلى وهو جنب

حكم من دخل المسجد وصلى وهو جنب Q ما حكم الدين في رجل دخل المسجد وهو جنب، وهو يعلم ذلك، وصلى مخافة أن يقول عليه الناس: (إنه لا يصلي)، فهل عليه كفارة لهذا الذنب؟ A هذا قد جعل الله تعالى أهون الناظرين إليه، يخاف من الناس ولا يخاف من الله، ويقف بين يديه وهو جنب! هذا الفعل محرم، وعلى صاحبه أن يتوب إلى الله عز وجل منه. وقد استقر في أذهان العوام: أن الشخص لو ذهب إلى بيت واحد من أصحابه وأجنب يصلي وهو جنب ولا يطلب الغسل؛ لكي لا يسيء صاحب البيت به الظن!! وهذا لا يصح، فهذه حدود وهذا شرع ربنا تبارك وتعالى. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

كتاب الحدود - حد الخمر [1]

شرح صحيح مسلم - كتاب الحدود - حد الخمر [1] الخمر ما خامر العقل وغطاه، وقد جاء تحريم الخمر في كتاب الله عز وجل، وجاءت السنة ببيان حده، فجلد النبي صلى الله عليه وسلم فيها أربعين جلدة، وجلد بعده الصديق مثل ذلك، فلما كان في عهد عمر جلد فيها ثمانين جلدة، وكل ذلك سنة.

باب حد الخمر

باب حد الخمر بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. فمع الباب الثامن من كتاب الحدود وهو باب: حد الخمر. والخمر هو: كل ما خامر العقل. أي: ستره وغطاه. وهذا طبعاً عند جماهير العلماء، خلافاً للأحناف؛ فإنهم يقولون: إن الخمر لا يكون إلا من عصير العنب فقط، أما عند جماهير العلماء هو كل ما أسكر أو كل ما خامر العقل.

شرح حديث أنس بن مالك في جلد شارب الخمر

شرح حديث أنس بن مالك في جلد شارب الخمر قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار قالا: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة قال: سمعت قتادة يحدث عن أنس بن مالك: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل قد شرب الخمر فجلده بجريدتين نحو أربعين)]. فالذي يجلد بجريدة أربعين جلدة يكون قد جلد أربعين، والذي يجلد بجريدتين أربعين يكون قد جلد ثمانين، والذي يجلد بثلاث جرائد يكون قد جلد مائة وعشرين وهكذا، كما قال الله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [ص:44] والضغث: هو حزمة من شماريخ النخل، وهي متشعبة جداً. فلما أقسم أيوب عليه السلام أن يضرب امرأته مائة ضربة وشق عليه ذلك أنزل الله تعالى التخفيف فقال: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} [ص:44] أي: من هذه النخلة. قال: {فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [ص:44] أي: فاضرب به حتى لا تحنث في يمينك. فالذي يضرب بشيئين يكون قد ضرب ضربتين، والذي يضرب بثلاث يكون قد ضرب ثلاثاً، فهنا لما جيء برجل قد شرب الخمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ضربه بجريدتين أربعين. وفي هذه الرواية: (نحو أربعين) يعني: تقريباً. وكلمة: (نحو) تدل على أن العادَّ لم يُحص العد على وجه الدقة والحساب، وإنما قدر ذلك تقديراً، فكان نحو أربعين. قال: [قال: (وفعله أبو بكر)]، والضمير يعود على هذا العقاب الذي أوقعه النبي عليه الصلاة والسلام بشارب الخمر. (وفعله) أي: فعل هذا الحد أبو بكر الصديق رضي الله عنه. قال: [(فلما كان عمر استشار الناس، فقال عبد الرحمن - وهو ابن عوف -: أخف الحدود ثمانين، فأمر به عمر)]. والحدود التي أمر الله عز وجل بها في كتابه منصوص عليها، كحد الزنا مائة جلدة لغير المحصن، وحد السارق قطع اليد، وأخف هذه الحدود حد القذف؛ فإن حد القذف المنصوص عليه في القرآن ثمانون جلدة، فلما استشار عمر أصحابه: كيف يحد شارب الخمر؟ قالوا: يا أمير المؤمنين! حده بأخف الحدود المنصوص عليه في القرآن الكريم. فأخف الحدود حد القذف وهو ثمانون جلدة، فأنفذها عمر رضي الله عنه في حق شارب الخمر. قال: [وحدثنا يحيى بن حبيب الحارثي قال: حدثنا خالد - يعني: ابن الحارث - حدثنا شعبة حدثنا قتادة قال: سمعت أنساً يقول: (أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل) فذكر نحو الحديث السابق. حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا معاذ بن هشام - وهو ابن أبي عبد الله الدستوائي - يحدث عن أبيه عن قتادة عن أنس بن مالك: (أن نبي الله صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر بالجريد والنعال)]. يعني: يضرب الحد بالنعل كما يضربه بالجريد والعصي. قال: [(ثم جلد أبو بكر أربعين، فلما كان عمر ودنا الناس من الريف والقرى)]. حيث سيلان الماء وكثرة الزرع وظهور التمر والعنب واتخاذ الخمر منهما ومن غيرهما كاتخاذه من الشعير والبر وغير ذلك؛ فإنه لما كثرت الفتوحات في زمن عمر وامتدت الرقعة الإسلامية شرقاً وغرباً وكثر الخير وكثر الزرع والثمار اتخذ الناس الخمر من سائر أنواع الزروع والثمار، فكان يجاء بهم إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه. قال: [(فلما دنا الناس من الريف والقرى قال عمر رضي الله عنه -لأصحابه -: ما ترون في جلد الخمر؟)] يعني: هل نتشدد فيه أم نبقيه على أمره الأول؟ فبعضهم أقر عمر أن يجلد ثمانين، أقره علي بن أبي طالب كما أقره عبد الرحمن بن عوف. قال: اجلدهم ثمانين. مع أن النص الوارد عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه جلد في الخمر نحو أربعين، وجلد على هذا النحو أبو بكر الصديق رضي الله عنه. قال: [(قال: ما ترون في جلد الخمر؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: أرى أن تجعلها كأخف الحدود. قال: فجلد عمر ثمانين)] وهذا حد القذف. قال: [حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا يحيى بن سعيد - وهو القطان - قال: حدثنا هشام - وهشام هو ابن أبي عبد الله الدستوائي - بهذا الإسناد مثله]. أي: بنفس الإسناد السابق. قال: [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع عن هشام عن قتادة عن أنس

شرح حديث جلد عثمان بن عفان للوليد بن عقبة في شربه الخمر

شرح حديث جلد عثمان بن عفان للوليد بن عقبة في شربه الخمر قال: [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب وعلي بن حجر قالوا: حدثنا إسماعيل] وهو ابن إبراهيم بن مقسم الأسدي الضبي البصري، أمه اسمها علية. مشهور بالنسبة إليها، يقال: إسماعيل بن علية. قال: [عن ابن أبي عروبة]. بفتح العين وهو سعيد ابن أبي عروبة لا غيره، وهذا ليس اسماً له كما قال أحد الرواة: حدثنا فلان وفلان وفلان وعدة، فقام إليه أحد الطلاب وقال: (عدة) ابن من؟ قال: عدة ابن فقدتك. يعني: عدمتك. قال: [عن عبد الله الداناج]. و (الداناج) كلمة فارسية معناها: العالم، وهو عبد الله بن فيروز مولى ابن عامر المعروف بـ الداناج. [وحدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي واللفظ له أخبرنا يحيى بن حماد حدثنا عبد العزيز بن المختار حدثنا عبد الله بن فيروز مولى ابن عامر الداناج حدثنا حضين بن المنذر] حضين وليس حصين، وهو الوحيد في الكتب الستة اسمه حضين، كنيته: أبو ساسان. قال: [شهدت عثمان بن عفان وأتي بـ الوليد]. وهو الوليد بن عقبة بن أبي معيط وكان أخاً لـ عثمان من أمه، وكان يشرب الخمر وحد فيه مراراً، وكان يشربها حتى يهذي، فإذا هذى افترى. وأعظم ما ورد عنه من افتراء: أنه صلى الصبح بهم أربعاً وكان إمام المدينة في زمانه، فقالوا له: صليت الصبح أربعاً؟! قال: وما في ذلك، إن شئتم زدتكم. فالخمر هي أشد شيء يحط من كرامة الإنسان، بل حتى قبل الإسلام تنبه لخطورتها بعض من كانوا في الجاهلية فلم يشربوها؛ لعلمهم أنها تحط من كرامتهم، فلم يثبت قط أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يشربها، ولم يكن يجلس مجلساً يدار عليه الخمر، وكان يتعجب من عاقل يدله عقله على إباحة شرب الخمر، وكان هذا قبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام. قال: [(شهدت عثمان بن عفان، وأتي بـ الوليد قد صلى الصبح ركعتين ثم قال: أزيدكم؟ فشهد عليه رجلان)]. أي: أنه كان مخموراً. وفي رواية: أنه صلى الصبح أربعاً. ذكرها الإمام الذهبي في كتابه: سير أعلام النبلاء في ترجمة الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وذكر أنه كان فاسقاً. وهذا ليس طعناً في الصحبة وليس طعناً في عدالة هذا الرجل، فيكفيه إثبات للشرف أنه صحب النبي صلى الله عليه وسلم، وأظن أن الإمام الذهبي تجاوز حده في إثبات الفسق لهذا الصاحب، وكان ينبغي أن يحمل ما وقع من الوليد على حسن توبته، وأنه مات تائباً من هذا الذنب، أو أن هذا الذنب يعافى من إثمه ما دام قد كان يقام عليه الحد، أو أن لهذا الصاحب من الحسنات والفضائل ما يمحو جبالاً من السيئات؛ لأن بعض الناس سألني هذا Q كيف يقول الذهبي عن أحد أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام: أنه صحابي فاسق؟ A كلام الذهبي له وجه قوي، وأنتم تعلمون أن صاحب الكبيرة لا يكفر وإنما يفسق بها، وشرب الخمر كبيرة من الكبائر، والصحابة مثل غيرهم في سائر الكبائر، من وقع منهم في كبيرة كان فاسقاً بكبيرته حتى يتوب منها أو يقام عليه الحد، وكل ما هنالك: أن الإمام الذهبي أطلق الفسق عليه لثبوت شربه الخمر وعدم ثبوت التوبة، والذي يترجح لدي -إحساناً للظن بأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام- أنهم ما فعلوا كبيرة إلا وقد تابوا منها، فأنتم تعلمون عموماً أن مرتكب الكبيرة والمصر على الصغيرة كلاهما فاسق وليس بكافر، فإن أقيم عليه الحد فهو كفارته، وإن تاب تاب الله عز وجل عليه، وإن مات مصراً غير مستحل فهو في مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه. قال: [(فشهد على الوليد رجلان أحدهما حمران - وهو مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه - أنه شرب الخمر، وشهد آخر أنه رآه يتقيأ)] فالشهادة على إقامة حد الخمر تكون بشاهدين، فلا بد أن يشهد عند القاضي أو الوالي والسلطان اثنان: أن فلاناً شرب الخمر. أما حمران فقد رآه يشرب الخمر، وأما الآخر فلم يره يشرب الخمر وإنما رآه يتقيأ. فهذه ليست شهادة على شرب الخمر وإنما هي قرينة تدل على شرب الخمر، والحدود إنما تقام بإثبات شهادة الشهود أو الإقرار، ولا تقام بهذه القرائن التي احتفت بإثبات القضية؛ ولذلك اجتهد عثمان بن عفان رضي الله عنه لما يعلمه من حال الوليد من قبل، فـ حمران مولاه شهد عنده أنه قد رأى الوليد يشرب الخمر، والثاني قال: وأنا رأيته يتقيأ، فـ

شرح حديث علي بن أبي طالب في ديته لشارب الخمر إذا جلد فمات

شرح حديث علي بن أبي طالب في ديته لشارب الخمر إذا جلد فمات قال: [حدثني محمد بن منهال الضرير حدثنا يزيد بن زريع البصري حدثنا سفيان الثوري عن أبي حصين] عن أبي حَصِين مكبراً، وهو عثمان بن عاصم الأسدي الكوفي. قال: [عن عمير بن سعيد عن علي رضي الله عنه قال: (ما كنت أقيم على أحد حداً فيموت فيه فأجد منه في نفسي إلا صاحب الخمر؛ لأنه إن مات وديته)]. أي: إن مات في أثناء الحد غرمت ديته. يعني: ألزمت نفسي بدفع الدية. قال: [(لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسنه)]. وهذا كلام يحتاج إلى وقفة وبيان، فالنبي جلد أربعين -لفظاً صريحاً- بالجريد والنعال، وجلد نحو أربعين، وجلد بجريدتين أربعين. فكأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: لعل النبي صلى الله عليه وسلم كان يضرب الشارب من باب التعزير لا من باب الحد، وذلك لأن قوله: (نحو أربعين) لا يدل على أنه حد، فلو كان حداً لا نقول فيه: نحو ثمانين ولا نحو أربعين ولا نحو عشرة؛ لأنه لا بد أن يكون الحد محدداً بيناً واضحاً، والنبي صلى الله عليه وسلم ضرب بالجريد أو بالنعال أربعين، وعمر رضي الله عنه ضرب ثمانين، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين) وعمر منهم رضي الله عنه؛ ولذلك قال علي رضي الله عنه: (جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وجلد عمر ثمانين، وكل سنة). لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين) ولم يعترض على عمر أحد من الصحابة، فـ عمر لم ينكر عليه علي، بل أقره على ذلك، وكل ما هنالك أن أحب الجلد إليه الجلد الأول؛ ولذلك يقول العلماء في هذه المسألة الخلافية: الخلاف فيها معتبر ومحترم، فلا يقول العلماء: هذا خطأ وهذا صواب، وإنما يقولون: راجح ومرجوح، وإلى يومنا هذا يترجح لدى بعض أهل العلم أن الثلاث طلقات تقع ثلاثاً، عملاً بسنة عمر رضي الله عنه، والجماهير على أن الثلاث تقع واحدة؛ عملاً بالأصل الذي كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام وأبو بكر، وعليه عمر في صدر خلافته. فـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: (ما كنت أقيم على أحد حداً فيموت فيه فأجد منه في نفسي - يعني: أجد في نفسي حرجاً من هذا الموت - إلا صاحب الخمر. قال: لأنه إن مات وديته). يعني: دفعت إليه الدية. وعلل ذلك بأن عقوبة شارب الخمر قد لا تكون من باب الحد ولعلها وقعت في الشرع من باب التعزير. وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول ذلك؛ لأنه شك أن تكون العقوبة وقعت في الصدر الأول من الإسلام على شارب الخمر من باب التعزير والتأديب لا من باب الحد. ولو اعتبرنا أن أقل الأقوال هو أن الضرب كان من باب التعزير لا من باب الحد، فلو مات المعزر بسبب حد التعزير أو بسبب أسواط التعزير وجبت ديته، بخلاف المحدود، فلو مات المحدود في الحد فلا تجب له الدية، ولا دية له أصلاً، لكن المعزر إذا مات في أثناء التعزير أو بسبب التعزير فإنه يودى، والذي يوديه السلطان من بيت المال. وهذا أرجح الأقوال. وقيل: بل من مال الأمير نفسه. وقيل: لا يودى. وقيل: ديته على عاقلة المعزر. أي: الجلاد. وللجلاد عند جلده شروط، منها: ألا ترتفع يده عن كتفه، حتى إن بعض أهل العلم غلا في ذلك وقال: ألا يغادر عضده إبطه. قال: (لأن رسول الله لم يسنه) يعني: لم يترك لنا فيه سنة واضحة بينة. وعلى أية حال: هذا اجتهاد من سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أن النبي لم يسن حداً مقدراً معيناً لشرب الخمر. وهذا الذي قاله علي بن أبي طالب خالفه فيه أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام. فقالوا: إن النبي عليه الصلاة والسلام جعل حد الشارب للخمر أربعين. وفي هذا الحديث: أن فعل الصحابي سنة يعمل بها، وهو موافق لقوله صلى الله عليه وسلم: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ) في حديث العرباض بن سارية عند الترمذي وغيره.

كلام النووي في أحاديث باب حد الخمر

كلام النووي في أحاديث باب حد الخمر بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. فمع الباب الثامن من كتاب الحدود وهو باب: حد الخمر. والخمر هو: كل ما خامر العقل. أي: ستره وغطاه. وهذا طبعاً عند جماهير العلماء، خلافاً للأحناف؛ فإنهم يقولون: إن الخمر لا يكون إلا من عصير العنب فقط، أما عند جماهير العلماء هو كل ما أسكر أو كل ما خامر العقل.

نقل الإجماع على تحريم شرب الخمر ووجوب حد شاربه

نقل الإجماع على تحريم شرب الخمر ووجوب حد شاربه قال النووي: (وأما الخمر فقد أجمع المسلمون على تحريم شرب الخمر، وأجمعوا على وجوب الحد على شاربها سواء شرب قليلاً أو كثيراً). أي: سواء سكر أو لم يسكر، فالعبرة بمجرد الشرب لا بحجم المشروب ولا بأثر المشروب، فحجم المشروب قليلاً كان أو كثيراً سواء، فهو شارب للخمر، وسواء سكر من هذا الشراب أو لم يسكر.

حكم قتل شارب الخمر

حكم قتل شارب الخمر قال: (وأجمعوا على أنه لا يقتل بشربها). إجماع أهل العلم على أن شارب الخمر لا يقتل بشربها لكنه يحد، كما قال تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] فالثيب الزاني يرجم حتى الموت، والتارك لدينه المفارق للجماعة يرجم حتى الموت، أما شارب الخمر فإنه يحد أربعين. وهذا الراجح وهو الأحوط. وما زاد على ذلك فهو راجع إلى اجتهاد الإمام، إن شاء زاد من باب التعزير لا من باب الحد، وإن شاء توقف عند الحد الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو أربعون جلدة. والإجماع المنعقد على أن شارب الخمر لا يقتل بها يرد على الحديث الذي عند أحمد وغيره: (من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد - في الرابعة - فاقتلوه). وإجماع المحدثين على أن هذا الحديث صحيح، ولكن الإجماع منعقد على أن هذا الحديث منسوخ. وذهب الشيخ أحمد شاكر رحمه الله إلى عدم ثبوت النسخ في حق هذا الحديث، وأن الحديث محكم غير منسوخ، وأن من شرب الخمر ثم حد، ثم رجع فحد، ثم عاد فحد، ثم شرب الخمر الرابعة فليقتل حينئذ، والمسألة محل نزاع. قال: (وأجمعوا على أنه لا يقتل بشربها وإن تكرر منه). هكذا حكى الإجماع فيه الإمام الترمذي وخلائق. وحكى القاضي عياض رحمه الله تعالى عن طائفة شاذة أنهم قالوا: يقتل بعد جلده أربع مرات). يعني: إذا جلد في الخمر أربع مرات يقتل في الخامسة. قال: (للحديث الوارد في ذلك). وهذا القول باطل مخالف لإجماع الصحابة ومن بعدهم على أنه لا يقتل وإن تكرر منه أكثر من أربع مرات. فـ الوليد بن عقبة كان يشرب الخمر كل يوم حتى ضجر الناس منه، وذهبوا إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقولون: يا أبا عبد الرحمن! ألا تنصح صاحبك في أخيه؟ يعني: لماذا لا تكلم عثمان بن عفان في موضوع أخيه هذا، يخلصنا منه ويريحنا منه. قال: ما لنا فيه بد، ما رأينا شيئاً وإنما الناس بظواهرهم، فإذا بدا لنا منه شيء أخذناه به، وقد نهانا الله عن التجسس. فأبى رضي الله عنه. ولما حملوا أبا عبد الرحمن على نصيحة عثمان في أخيه قال: أتظنون أنا لا ننصحه سراً؟ والله ما كنا لننصح الأمير علناً قط، وقد بذلنا له النصيحة غير مرة سراً. فنصح الأمراء والوجهاء وذوي الهيئات لا يتم علناً، وإنما يتم سراً؛ حفاظاً على وجاهتهم ومكانتهم خلافاً لسائر الناس. قال: (وهذا الحديث منسوخ. قال جماعة: دل الإجماع على نسخه). يعني: هذا منسوخ بدلالة الإجماع لا بنص ناسخ له. يعني: أجمعت الأمة كلها، فإننا لم نسمع في زمن من الأزمنة من لدن النبي عليه الصلاة والسلام حتى يومنا هذا أن واحداً شرب الخمر أربع مرات فقتلوه في الخامسة، وهذا يشعر بإجماع الأمة على أن شارب الخمر لا يقتل بشربه إنما يحد فقط. قال: (وقال بعضهم: نسخه قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة)).

اختلاف العلماء في مقدار حد الخمر

اختلاف العلماء في مقدار حد الخمر قال: (واختلف العلماء في قدر حد الخمر. فقال الشافعي وأبو ثور وداود - الظاهري - وأهل الظاهر: حده أربعون. قال الشافعي رحمه الله: وللإمام أن يبلغ به ثمانين). أي: وللإمام أن يبلغ بحد الشرب ثمانين. قال: (وتكون الزيادة على الأربعين تعزيرات على تسببه في إزالة عقله، وفي تعرضه للقذف والقتل، وأنواع الإيذاء وترك الصلاة وغير ذلك). هذا مذهب الشافعي وأهل الظاهر: أن الحد أربعون، والزيادة موكول أمرها للإمام على حسب حال هذا المحدود. قال: (ونقل القاضي عياض عن الجمهور -جماهير أهل العلم- من السلف والفقهاء منهم مالك وأبو حنيفة والأوزاعي والثوري وأحمد وإسحاق رحمهم الله تعالى أنهم قالوا: حده ثمانون). هذا مذهب الجمهور، أن حد الشارب ثمانون؛ خلافاً للشافعي وأهل الظاهر. قال: (واحتجوا بأنه الذي استقر عليه إجماع الصحابة). أتوا بهذا الإجماع من فعل عمر وعدم ظهور المخالف له، فحد شارب الخمر ثمانون؛ لأن هذا الذي حده عمر؛ واستقر عليه العمل بدليل أن أحداً لم ينكر على عمر رضي الله تعالى عنه. قال: (واحتجوا كذلك أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن للتحديد). فالنبي لما جلد الشارب أربعين لم يقصد تحديداً، ولذلك جاء في رواية: أنه جلد نحو أربعين، وأنه جلد بجريدتين. قال: (وحجة الشافعي وموافقيه - من أهل الظاهر - أن النبي إنما جلد أربعين كما صرح به في الرواية الثانية. وأما زيادة عمر تعزيرات، والتعزير إلى رأي الإمام، إن شاء أنفذه وإن شاء تركه بحسب المصلحة في فعله وتركه، فرآه عمر ففعله، ولم يره النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا علي فتركوه. أما الأربعون فهي الحد المقدر الذي لا بد منه. والفرق بين الحد والتعزير: أن الإمام ليس حراً في تنفيذ الحد لا سلباً ولا إيجاباً، كما أنه ليس حراً في تخفيضه، لكنه حر في تخفيض التعزير من عشرة إلى خمسة إلى ثلاثة، وقد يترك الضرب مطلقاً ويكتفي بالتوبيخ واللوم والمعاتبة وغير ذلك على حسب حال المعزر، أما الحد فإذا بلغ السلطان فلا بد من إقامته كما جاء به الكتاب والسنة. قال: (ولو كانت الزيادة حداً لم يتركها النبي عليه الصلاة والسلام ولم يتركها وأبو بكر رضي الله عنه ولم يتركها كذلك علي رضي الله عنه بعد فعل عمر؛ ولهذا قال علي رضي الله عنه: وكل سنة. معناه: الاقتصار على الأربعين وبلوغ الثمانين. فهذا الذي قاله الشافعي رضي الله عنه، وهو الظاهر الذي تقتضيه هذه الأحاديث ولا يشكل شيء منها. ثم هذا الذي ذكرناه هو حد الحر، أما العبد فدائماً حد العبد على النصف من حد الحر كما في الزنا والقذف). كما أن حد الأمة على النصف من حد الحرة أيضاً. قال: (وأجمعت الأمة على أن الشارب يحد سواءً سكر أم لا). فالعبرة بالشرب.

اختلاف العلماء في حكم شرب النبيذ

اختلاف العلماء في حكم شرب النبيذ قال: (واختلف العلماء في من شرب النبيذ). والنبيذ: هو كل ما ينتبذ من سوى العنب. لأن الذي يتخذ من العنب لا خلاف في أنه الخمر، فالعرب لم تكن تطلق مصطلح الخمر إلا على ما يتخذ من عصير العنب، وما يتخذ من غير العنب لا يقولون عنه: خمر، إنما يقولون عنه: نبيذ. والنبيذ: هو النقع؛ ولذلك: (نهى النبي عليه الصلاة والسلام أن ينبذ التمر مع البسر، وأن ينبذ البسر مع الجنيب، وأن ينبذ الجنيب مع الرطب في إناء واحد)، (وكانت عائشة رضي الله عنها تنبذ التمر للنبي عليه الصلاة والسلام فيأكله في اليوم الأول، ويأكله في اليوم الثاني، ويطرحه في الثالث). أي: لا يشرب منه في اليوم الثالث. وفي حديث أنس من طريق المختار بن فلفل عند النسائي في سننه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الخليطين) أي: من الثمر. وفي رواية: (نهى أن ينبذ شيئان في إناء واحد). يعني: لما تأتي بالتمر مع الزبيب وتنبذهما جميعاً هذا خمر، وذهب أهل العلم إلى حرمة ذلك أو كراهته، على خلاف بين أهل العلم هل هذا مكروه أو محرم؟ حتى قال الإمام النووي في المجموع وكذلك الإمام الشوكاني في كتاب نيل الأوطار في باب الأشربة والأطعمة في آخر مجلد: واختلف أهل العلم: هل هذا الحديث على ظاهره وإن لم يسكر، أو يجوز أن ينبذ كل صنف لوحده، فإذا أراد الشارب أن يشرب خلطهما فشربهما؟ يعني: لو أني في رمضان أتيت بالزبيب ونقعته في آنية على حدة، ثم جئت بالتمر ونقعته كذلك في آنية مستقلة، ولما أُذِّن للمغرب خلطت منقوع التمر مع منقوع الزبيب وشربته، هل هذا العمل مشروع؟ A غير مشروع، فإما أن يكون تمراً لوحده كما يفعل عامة الناس، وإما أن يكون أي نوع من أنواع الثمار. وبعض الناس لديهم أكلة يسمونها سلطة الفواكه: يأتون بالموز والعنب والتمر والتفاح والخوخ وغيرها من الفواكه ثم يقطعونها ليصنعوا منها سلطة فواكه بشكل جميل، وهي بغير ماء، فلا بأس بذلك؛ لأنه لا يقال للنبيذ نبيذاً إلا بالنقع، والنقع لا يكون إلا في الماء، فإذا وضعت هذه الثمار مجتمعة في ماء فهو نبيذ يحرم عليك أكله أو يكره على خلاف بين أهل العلم، وإذا قطعت وخلطت هذه الثمار بغير نقع -أي: لم توضع في ماء- ولم تخرج هي ماءها فتنتبذ فيه فلا حرج في ذلك. وكذلك العصائر من عدد من ثمار الفواكه وما نسميه نحن بالكوكتيل، فهو عصير، والعصير هذا هو أصل مادة النقع وليس منقوعاً ولا منتبذاً. ومن أراد أن يراجع المسألة فليرجع إلى نيل الأوطار في كتاب باب: ما جاء النهي عن الخليطين. وقبله بأبواب وبعده بأبواب، فالمسألة مبحوثة على أعلى مستوى عند الفقهاء. قال: (واختلف العلماء في من شرب النبيذ وهو ما سوى عصير العنب من الأنبذة المسكرة، فقال الشافعي ومالك وأحمد رحمهم الله وجماهير العلماء من السلف والخلف: هو حرام يجلد فيه كجلد شارب الخمر). كل العلماء قالوا: النبيذ مثل الخمر بالضبط. ومعلوم أن الخمر: ما اتخذ من العنب؛ ولذلك الأحناف يقولون: الخمر لا يكون إلا من العنب. والجمهور على خلاف ذلك، وردوا على الأحناف في ذلك: أن معنى كلمة خمر: التغطية والستر، ومن هنا سمي الخمر خمراً؛ لأنه يستر العقل ويغطيه، فيستوي أن يكون هذا من العنب أو من التمر أو من البر أو الشعير، فالعلة واحدة. والأحناف لم يوافقوا الجمهور على ذلك. وأدنى ما قيل من متأخري الحنفية أنهم قالوا: الخمر حرام أصلاً، وأنها من العنب، وغيرها من الخمر يقاس عليها. ويفهم من قولهم: أن بقية أنواع الخمور ليست حراماً لذاتها وإنما هي حرام بالقياس. يعني: ليست حراماً بالنبذ وإنما هي حرام بالقياس على الأصل الأصولي وهو: أن ما كان حراماً بالنص تقدم حرمته على ما كان حراماً بالقياس. فنحن نقول: السجائر حرام. ونقول: الخمر حرام. فحرمة الخمر ثابتة بالنص، أما السجائر فثبتت حرمتها بالقياس. وقد جاء في الأثر: أن أم يعقوب الأسدية أتت عبد الله بن مسعود تقول له: بلغني أنك تلعن كيت وكيت -يعني: الواشمة والمستوشمة والواصلة والمستوصلة والمتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله- قال: وما لي لا ألعن من لعنه الله ورسوله. قالت: لقد قرأت ما بين الدفتين -أي: القرآن كله- فما وجدت فيه. قال: لو كنتِ قرأتيه لا بد أن تجدي ذلك فيه. قالت: أين أجده؟ قال: أما قرأتِ قول الله عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]؟ قالت: بلى. قال: إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لعن الله الواصلة والمستوصلة) الواصلة: هي التي تصل الشعر. والمستوصلة: هي الطالبة لذلك. قال: (والواشمة والمستوشمة) وهي التي تضع الكحل الأخضر تحت جلدها من أجل أن يظهر في وسط بياضها الشاهق لون مخالف أخضر، وهو ل

كتاب الحدود - حد الخمر [2]

شرح صحيح مسلم - كتاب الحدود - حد الخمر [2] جاء الشرع بالتدرج في تحريم الخمر، وبعد أن استقر الأمر على التحريم فرض حداً على شاربها، فجلد النبي صلى الله عليه وسلم وجلد من بعده أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وفي هذا رد على من أنكر حد الخمر من المغمورين المفتونين، والذين زعموا أن القرآن إنما جاء بتحريمها دون بيان الحد على شاربها.

كلام النووي في أحاديث باب حد الخمر

كلام النووي في أحاديث باب حد الخمر بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وبعد: فما زال الكلام عن الخمر موصولاً، وفي الدرس الماضي سردنا الأحاديث المتعلقة بحد الخمر، وذكرنا طرفاً من كلام الإمام النووي عليه رحمة الله في معرض كلام علي بن أبي طالب: (ما كنت أقيم على أحد حداً فيموت فيه فأجد منه في نفسي -أي: أجد منه حرجاً في نفسي- إلا صاحب الخمر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مات ولم يسنّه). وقال علي: وصاحب الخمر إذا مات وديته. أي: غرمت ديته.

حكم من حد في شرب الخمر فمات

حكم من حد في شرب الخمر فمات قال النووي في قوله: (لأن النبي صلى الله عليه وسلم مات ولم يسنّه) معناه: (لم يقدر فيه حداً مضبوطاً). وقلنا: اختلف أهل العلم في حد شارب الخمر، فمنهم من قال: أربعين. ومنهم من قال: ثمانين. ومنهم من قال: حد النبي صاحب الخمر بنحو أربعين، وكلمة (نحو) تفيد أن الحد غير مضبوط، لكن الغالب -وهو مذهب جماهير الفقهاء- أن حد شارب الخمر أربعون جلدة، وما زاد على ذلك -كما فعل عمر رضي الله عنه: أنه حد شارب الخمر بثمانين جلدة. ووافقه علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما في بعض الروايات- فهو من باب التعزير. إذاً: الاتفاق بين جماهير العلماء: أن الحد أربعون، وأن الزيادة على الأربعين هي من باب التعزيز مردها إلى الإمام. ولذلك قال النووي: (وقد أجمع العلماء على أن من وجب عليه الحد جلده الإمام أو جلاّده الحد الشرعي). يعني: إما أن يباشر الجلد الإمام أو القاضي أو الجلاّد أو من ينوب عن الإمام عموماً، ولو أنه باشر الحد بنفسه أو بنائبه، فمات المحدود فلا دية له ولا كفارة عليه. لو أن السلطان قال مثلاً: هذا شرب الخمر فأقيموا عليه الحد. فبينما الجلاد يجلده مات أثناء إقامة الحد. فهل له دية؟ أو هل على الأمير أو الجلاد كفارة؟ قال جماهير العلماء: ليس على الإمام ولا على جلاّده ولا على بيت المال كفارة ولا دية. يعني: لا تلزم الجلاّد ولا الأمير كفارة ولا دية، لا من ماله ولا من بيت مال المسلمين. والمعلوم أن هذا لو تم فإنه قتل على سبيل الخطأ لا العمد؛ فإذا حُد فلان من الناس في جناية ارتكبها فمات في أثناء الحد، فالذي كان يقيم عليه الحد لا يقصد بإقامة الحد قتله، إلا أن يكون الحد الرجم، فإنما قصد الراجم إزهاق المرجوم؛ لأن الشرع أذن بذلك. أما إذا كان الحد جلداً فالمعلوم أن الجلاد لا يقصد بذلك القتل، فلو وقع القتل يكون خطأً، ودية القتل الخطأ يكون على العاقلة. وأما قتل العمد، فإنه إذا تنازل أولياء المقتول عن القصاص -أي: النفس بالنفس- ستكون الدية في مال القاتل إذا كان القتل عمداً، أما إذا كان خطأً فقولاً واحداً: أن الدية تلزم العاقلة. والعاقلة: هم عصبة القاتل، فالدية تلزم من مالهم: وأنتم تعرفون الفرق بين الحد والتعزير، فالحد: ذكر في القرآن أو ذكر في السنة حداً محدوداً بأعداد معدودة ومضبوطة بغير زيادة ولا نقصان، ولذلك من الفروق بين التعزير وبين الحد: أن الحد إذا بلغ أمره إلى السلطان فلا شفاعة فيه، ولا اختيار للسلطان فيه، بل لا بد أن يقيمه بغير زيادة ولا نقصان، فالزاني غير المحصن يجلد مائة جلدة، فلا يمكن أن يجلد تسعاً وتسعين جلدة، بل لا بد أن يكون مائة جلدة، ولا يمكن أن تكون مائة جلدة وجلدة؛ لأن الشرع سماها حدوداً. أي: محدودة، ومفروضة، ومضروبة على نحو واحد وجهة واحدة، فلا يجوز الزيادة فيها ولا النقصان عنها بخلاف التعزير، إذ إن التعزير راجع إلى المعزر أياً كان: السلطان، أو الزوج على زوجه، أو الوالد على ولده، فابنك إذا أخطأ خطأً ليس لك أن تضربه أكثر من عشر ضربات؛ لأنه لا يضرب أكثر من ذلك إلا في حد من حدود الله عز وجل، فأقصى حد للتعزير من جهة الضرب عشر جلدات، وما زاد على ذلك فهو إثم للضارب أو المعزر، ولك أن تعدل إلى أقل من ذلك، بل لك أن تعدل عن الضرب كله وتكتفي بتوجيه اللوم والتوبيخ والتقريع، وتستمر في تأنيبه النهار كله؛ وذلك لأنه بهذه الطريقة يصلح وينضبط، فمن الناس من لا يحب أن يشتم أو يهان، ولكنه ينصاع بالعتاب الرقيق، ومن الناس من ينصاع وينضبط بنظرة، عندما تنظر إليه نظرة استنكار يرجع عما فعل، وإن كانت المرأة لا يجدي معها إلا الضرب فتضرب ضرباً لا يكسر عظماً ولا يسيل دماً كما قال عليه الصلاة والسلام. إذاً: التعزير راجع إلى اجتهاد المعزِّر ونظرته إلى المعزر، وأي وسائل التعزير تنفعه.

حكم من مات من عقوبة التعزير

حكم من مات من عقوبة التعزير مسألة: من مات من التعزير. منهجنا وجوب ضمانه بالدية والكفارة. وفي محل ضمانه قولان للشافعية: أصحهما: تجب الدية على عاقلة الإمام، والكفارة في ماله. والثاني: تجب الدية في بيت المال. وفي الكفارة على هذا وجهان لأصحابنا -أي: الشافعية- أحدهما: في بيت المال أيضاً. والثاني: في مال الإمام. وهذا مذهب الشافعي. وقالت جماهير العلماء: لا ضمان فيه على الإمام ولا على عاقلته ولا في بيت المال. وهذا هو الراجح: أن المعزر كالمحدود لا ضمان ولا كفارة، إذ كيف يضمن الإنسان نتيجة فعله الشرعي، وأنتم تعلمون أن الشرع أخباره أوامر. أي: أخبار تتطلب منا التصديق الجازم واليقين التام، وأوامر تحتاج منا إلى تنفيذ، فالشرع أمرني أن أضرب هذا مائة جلدة؛ لأنه زانٍ، وفي أثناء الضرب مات. فما بالي أضمن هذا الموت وأضمن هذه الحياة؟ كيف ذلك؟! وكذلك التعزير، فإنني لم أضرب ولدي أو من كنت سلطاناً عليه إلا لأجل التأديب، فلم أرد انتقاماً، فضلاً عن أنه مات بعدم إراداتي، فكيف أضمن روحه والذي فعلته أنا أمر شرعي؟ فالذي يترجح لدي هو مذهب جماهير العلماء: أنه لا ضمان فيه ولا كفارة.

أقوال العلماء في ما يمكن اتخاذ الخمر منه

أقوال العلماء في ما يمكن اتخاذ الخمر منه جماهير العلماء يقولون: كل ما أذهب العقل فهو خمر؛ لأن الخمر لغة: هو ما خمر العقل وستره وغطاه، فكل مُذهِب للعقل ومسكر حرام؛ لأنه خمر، قال عليه الصلاة والسلام: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام). وفي رواية البخاري ومسلم: (كل مسكر حرام)، سواءً كان خمراً أو ليس بخمر، فالمسألة محل نزاع بين أهل العلم، لكن الإمام أبا حنيفة قال: إنما الخمر من العنب، وما دون ذلك ليس عنده بخمر، وهذا يكاد يكون كلاماً فاسداً أو باطلاً، والصحيح هو مذهب جماهير العلماء. وأما ما يذكره العامة على ألسنتهم إذا أرادوا أن يبالغوا في ذكر شيء أو في إثباته فيقولون: فلان يقول في فلان ما قال مالك في الخمر. فهذا الكلام يشعر أن مالكاً تفرد بقول دون جماهير العلماء في الخمر، وما قال مالك في الخمر إلا ما قاله جماهير العلماء، فقد قال مالك إن الخمر يتخذ من كل شيء، من جميع الثمار. والإمام أبو حنيفة هو الذي انفرد في ذلك فقال: لا يكون إلا من العنب. فينبغي أن يكون المثل السائر على لسان الناس: (قال فلان في فلان ما قال أبو حنيفة في الخمر)، وليس كما قال مالك في الخمر؛ لأن مالك لم يقل شيئاً شاذاً ولا منكراً. إذاً: أهل العلم متفقون على وجوب حد شارب الخمر، وعلى أن حده الجلد، ولكنهم مختلفون في مقداره، فذهب الأحناف ومالك إلى أنه ثمانون جلدة، والشافعي إلى أنه أربعون. وجاءت عن الإمام أحمد روايتان كما في المغني لـ ابن قدامة إحداهما: ثمانون. وقال علي بن أبي طالب لما استشاره عمر: إذا سكر هذي -أي: قال كلاماً غير مفهوم ولا قيمة له- وإذا هذي افترى -أي: تعدى وظلم- فحده حد المفتري، وأنتم تعلمون أن حد المفتري ثمانون جلدة. فهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوافق عمر رضي الله عنه في إحدى الروايتين عنه.

حد الخمر والرد على الملاحدة في إنكارهم ثبوت حد شارب الخمر

حد الخمر والرد على الملاحدة في إنكارهم ثبوت حد شارب الخمر مسألة: حد الخمر. مسألة محل نزاع؛ ولذلك الملاحدة يقفون عند حد الخمر بالذات ويقولون: لم يرد في القرآن الكريم سوى ذكر تحريم الخمر، أما حده فلم يرد كالسرقة. قال الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} [المائدة:38]. A هذا كلام عام، فالله تعالى قال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38]، فمن أين تقطع اليد؟ فالكف يطلق عليها اليد، والساعد يد، والعضد يد، والمنكب يد، وكل هذا في اللغة، وفي الاصطلاح يسمى يداً، فلو أننا قطعنا يد السارق من منكبه لغة نكون قد أخطأنا؛ لأن السنة بينت أن القطع من الرسغ: الفاصل الذي بين الكف والساعد. وقال عليه الصلاة والسلام: (لا قطع في أقل من ربع دينار). وفي رواية الصحيحين يقول: (لا قطع إلا في ربع دينار فصاعداً)، والربع الدينار (50) جنيهاً تقريباً، وقد يكون الربع دينار (100) جنيه، لكن نحن نقول: (50) جنيهاً، حتى لا نشجع الناس على السرقة. وقال عليه الصلاة والسلام: (لا قطع في ثمر ولا كثر)، والكثر: هو جمار النخل، فلو أن الواحد منا يمشي في طريقه فنزل بستاناً فإن له أن يأكل منه بشرط ألا يحمل معه منه شيئاً. هب أنه أكل من هذا البستان بما يزيد على (50) جنيهاً، فهل لصاحب البستان أن يقول له: أنت أكلت شجرة كاملة وهذه إنتاجها عندي معدود وموزون، تساوي (100) جنيه، فأنت الآن سارق؟ وهل يقام عليه الحد أو لا؟ مثال آخر: لو أن واحداً في عام قحط وجدب سرق ليأكل هو وأولاده، فكانت نسبة المسروق أكثر من حد القطع هل يقام عليه الحد حينئذٍ؟ هل تجدون هذه الاستثناءات كلها في كتاب الله؟ A لا. إذاً: قولهم: لا نجد حد الخمر في كتاب الله نرد عليهم فنقول لهم: ولا تجدون كذلك بقية الحدود كلها في كتاب الله عز وجل، فلمَ التمسك إذاً والتشدق بأنكم قرآنيون، وأنكم مستعدون لتلقي الأوامر عن الله لا عن رسوله عليه الصلاة والسلام؟ خاصة وأن الله تعالى جعل طاعة الرسول عليه الصلاة والسلام هي عين طاعته سبحانه وتعالى، وجعل معصية الرسول صلى الله عليه وسلم هي عين معصية الله عز وجل. والنبي عليه الصلاة والسلام قد حذر من هؤلاء وأنبأ بوجودهم، فقال: (لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته شبعان، يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: دعونا من هذا. ما وجدنا في كتاب الله حلالاً حللناه، وما وجدنا في كتاب الله حراماً حرمناه، ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه). قال ذلك ثلاثاً. والسنة هي الحكمة المذكورة في القرآن الكريم، قال تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34]. وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة:2]. وغير ذلك من الآيات. قال الشافعي: (أجمع كل العلماء أن الحكمة في كتاب الله عز وجل هي سنة النبي عليه الصلاة والسلام، ولا خلاف بين السلف في وجوب الاحتجاج بسنة النبي عليه الصلاة والسلام متى صحت).

الحالات التي يثبت بها الحد

الحالات التي يثبت بها الحد قال الإمام تحت باب: ما يثبت به الحد. ويثبت بالإقرار أو بالشهادة، وهذا ليس خاصاً بشرب الخمر. الرجل إذا أقر وهو سكران هل يقام عليه الحد؟ A شهادته غير معتبرة. أي: أن إقراره غير معتبر مع أن الحالة بينة، لأننا لا ندري هل شرب الخمر مختاراً أم مكرهاً؟ وهل هو لما نطق بالشهادة أو أقر بين يدي القاضي كان عقله ذاهباً أم حاضراً؟ A كان ذاهب العقل، وذاهب العقل إقراره أو شهادته غير معتبرة، فلو أنك قلت: إن إقرار الشارب معتبر في حال شربه وحال سكره فلا بد أن تقول: إن شهادة السكران بين يدي القاضي في حال سكره معتبرة؛ لأن الشهادة والإقرار هما من باب البينة، ولا بد أن يكون المبين عاقلاً مدركاً لما يقول، وأن يكون بالغاً غير صبي. فإذا أتى الرجل وهو سكران بين يدي القاضي وقال: شربت خمراً فأقم علي الحد. لا يقام عليه الحد فإقراره ليس معتبراً؛ وذلك لأنه أقر في حال سكره وذهاب عقله. وإقراره معتبر بعد ذهاب سكره وإتيانه مختاراً إلى القاضي، وقال: لقد شربت خمراً فأقم علي الحد. فإذا فعل ذلك وأصر على هذا الإقرار فيجب على القاضي أن يعتبر هذا الإقرار ويقام عليه الحد، وإذا رجع عن هذا الإقرار قبل قيام الحد عليه فليس للقاضي أن يقيم عليه الحد؛ لأن المقر حر في الرجوع حتى يقام عليه الحد، فإذا أقيم عليه الحد فلا عبرة برجوعه، فإذا كان الحد رجماً فرجم مات، فلا مجال للرجوع، وإذا كان جلداً يجلد. إذاً: الحد يثبت بالإقرار، وشهادة شاهدين عدلين في الخمر وأربعة في الزنا. بعض أهل العلم يقيمون الحد بالعلم لا بالشهادة، كـ الوليد بن عقبة بن أبي معيط كان معلوماً شربه الخمر، فلما جيء به إلى عثمان بن عفان شهد عند عثمان رجلان، أما أحدهما فقال: قد رأيته يشرب الخمر. وأما الثاني فقال: رأيته يتقيأ. فقال عثمان: لولا أنه شرب لم يتقيأ. فـ عثمان بن عفان اعتبر أن علامة الشرب هي القيء. وهذه العلامة محل نزاع؛ فكلنا نتقيأ بغير شرب للخمر! وقد يشرب شخص الخمر ولكنه لا يتقيأ. إذاً: لا يلزمه أن يتقيأ إذا كان ما شربه خمراً، ولكن عثمان بن عفان رضي الله عنه كان يعتمد العلم في قيام الحد؛ لذلك فإن بعض أهل العلم يأخذ بالإقرار والشهادة، وهذا مذهب الجماهير، وبعض أهل العلم يعتبر العلم في الحد كالشهادة والإقرار. مثال ذلك: شخص يقول لك: إن ابنك عمل كذا وكذا. تقول: صحيح هو فعلاً عمل ذلك؛ لأنه معلوم عنه أنه يفعل ذلك كثيراً. وهذا الرجل الذي اشتكى من ولدي أنا على يقين أنه صادق، كما أني على يقين أن ولدي فعل ذلك؛ لأنني أعلم أن ولدي يفعل ذلك دائماً. فلما جيء بـ الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى عثمان وشهد لديه شاهد واحد أنه رآه يشرب الخمر، وأما الثاني فقال: أنا ما رأيته يشرب، ولكن رأيته يتقيأ- أقام عليه عثمان الحد وقال لـ علي: قم يا أبا الحسن! فأقم على الوليد الحد، فأمر علي ولده الحسن، فأبى فأمر عبد الله بن جعفر رضي الله عن الجميع فجلده وعلي بن أبي طالب يعد. فـ عثمان رضي الله عنه كان ممن يذهب إلى أن العلم اليقيني أو غلبة الظن تقوم مقام الشهادة؛ لأن الوليد محدود عدة مرات من قبل ذلك في شرب الخمر، وهو رجل مشهور بذلك. وأنا قلت لكم في الدرس الماضي: إن الإمام الذهبي قال: هو صحابي فاسق. يعني: ممن كان يقيم على المعصية ويشرب الخمر ولم يتب منها. فهذا الذي غلب على ظن الإمام الذهبي حتى تجرأ على القول بذلك في هذا الصحابي. وأنتم تعلمون أن عقيدة أهل السنة والجماعة تابعة للصحابة رضي الله عنهم، والإيمان بحبهم إلى قيام الساعة، وأن مرتكب الكبيرة فاسق بكبيرته مؤمن بإيمانه، وأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام كلهم مؤمنون موحدون، ومنهم الوليد غير أنه ابتلي بشرب الخمر وأقيم عليه الحد غير مرة. اختلف الفقهاء في ثبوت الحد بالرائحة، وأنتم تعلمون قصة ماعز لما أتى إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (يا رسول الله! زنيت فأقم علي الحد، فقال: لعلك فاخذت لعلك قبلت قال: يا رسول الله! زنيت. حتى قال له: أتدري ما الزنا؟ قال: نعم. يا رسول الله! قال: أدخل هذا منك في ذاك منها كما يدخل الرشاء في البئر؟ قال: نعم. يا رسول الله!) إذاًَ هو يفهم معنى الزنا وقد أقر على نفسه أربع مرات، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى قومه وقال: (أبه جنون؟). وهذا من موانع قيام الحد. قالوا: (لا يا رسول الله! ما علمنا عليه من مس) فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (أسكر صاحبكم؟). يعني: هذه الشهادة والإقرار على نفسه ربما يكون في حال سكره، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (

شروط إقامة الحد

شروط إقامة الحد شروط إقامة الحد: فأول شرط منها: أن يكون عاقلاً، وهذا احتراز من الجنون، فلو أن مجنوناً وجد زجاجة خمر وشربها فإننا لا نقيم عليه حد السكر؛ لأنه غير مكلف؛ لزوال عقله، ويلحق به المعتوه عند كثير من أهل العلم. الشرط الثاني: البلوغ، وهذا احتراز من الصبا، فلو شرب الصبي الصغير الذي لم يبلغ الخمر أو زنى لا يقام عليه الحد؛ فلا حد -مطلقاً- على الصغير، ولكن يمكن تعزيره؛ للتدريب والتعليم. الشرط الثالث: الاختيار. يعني: أشرب الخمر مختاراً لها مقبلاً عليها غير مكره، والإكراه له شروط، وأول شرط في الإكراه الشرعي الصحيح: أن يكون المكره قادراً على تنفيذ ما أكره، كأن يهددك سلطان قوي وأنت على يقين أنه قادر على هذا التهديد، ولذلك الإمام مالك لما سئل: عن رجل أجبر على طلاق امرأته، قال: الطلاق ليس معتبراً مع الإكراه، فكذلك إذا أجبرني السلطان على شرب الخمر وإلا أوقع بي كيت وكيت وكيت، ويبلغ ضرره فوق ضرر شرب الخمر، كأن يقول: إما أن تشرب الخمر أو أقتلك ويخرج أمامي سيفاً، وأنا على يقين أنه لا يتورع عن القتل، ولا يحاسبه أحد، فهذا مكره قادر على تنفيذ ما أكره، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) أو: (وما أكرهوا عليه). وإذا كان الإثم مرفوعاً مع الإكراه فمن باب أولى أن يرفع معه الحد. يعني: إذا كان المرء بالإكراه غير آثم عند الله فمن باب أولى أن يرتفع عنه الحد في الدنيا. وكذلك حالة الاضطرار، أنتم تعلمون أن الخمر يقوم مقام الماء أحياناً، كما أن الخنزير يقوم مقام الطعام أحياناً، فلو أن شخصاً عطش وليس أمامه إلا الخمر فإما أن يشرب الخمر وإما أن يهلك عطشاً ويموت، فإنه يجب عليه أن يشربها، وإلا مات منتحراً، لكنه يشرب منها ما يسد الرمق أو يبل الريق. يعني: لا يشرب حتى يروى؛ لأن شرب الخمر استثنائي والاستثناء يقدر بقدره، فشارب الخمر في حال الاضطرار لا يقام عليه الحد. الشرط الرابع: العلم. أن يعلم الشارب أنه يشرب خمراً، فلو أن شخصاً قال لك: تفضل. اشرب هذا المشروب الغازي، وإذا بالذي داخل الزجاجة هو خمر، وأنت لا تعرف الخمر ولا تعرف طمعها، فلما شربتها سكرت؛ لأنها كانت خمراً؛ والشركة تصنع الخمر وتصنع المشروب الغازي وحصل خطأ في العبوات، فوضعت زجاجات المشروب الغازي بدلاً من زجاجات الخمر، ووضعت زجاجات الخمر بدلاً من زجاجات المشروب الغازي، فهل يقام عليك الحد حينئذٍ؟ لا يقام عليك الحد. وإذا تناول من الشراب ما هو مختلف في كونه خمراً بين الفقهاء فإنه لا يقام عليه الحد؛ لأن للخلاف شبهة. إذا كان أهل العلم اختلفوا في مسألة على قولين أو أكثر، ومدار اختلافهم على فهم الدليل فالأصل احترام رأي الآخر، وإن كنت مخالفاً؛ لأنك في الحقيقة لست صاحب الحق البحت؛ لأن الدليل واحد، والكل يفهمه فهماً يختلف عن فهم الآخرين، فبالتالي لا ينبغي للإنسان أن يعتبر أن فهمه لهذا الدليل هو أصح الأفهام. هذا إذا كان الخلاف معتبراً. أما إذا كان الخلاف غير معتبر فإنه لا عبرة بمن خالف الدليل. قال: (الحد على من تناول الخمر وهو غير عالم بالتحريم إذا كان في دار الحرب أو قريب عهد بالإسلام). مثال ذلك: شخص في أمريكا أسلم وكان يشرب الخمر قبل الإسلام وشربها بعد الإسلام. هل يقام عليه الحد؟ A لا يقام عليه الحد؛ لأنه قريب عهد بإسلام وهو في ديار كفر، فلا يقام عليه الحد؛ لجهله بالتحريم. وقد نقلت إليكم ذات مرة أننا التقينا بامرأة أسلمت حديثاً في إحدى الولايات وهي باقية على الزنا، كل ما فيها أنها تعد الزنا فعلاً قبيحاً لكن لا علم لها بالتحريم، فهي نفسياً ليست مطمئنة للفعل، لكن لا تعلم بتحريمه في الشرع، وفوجئت بالتحريم لأول مرة لما وقفنا نتكلم معها.

اشتراط الحرية والإسلام في قيام الحد على شارب الخمر

اشتراط الحرية والإسلام في قيام الحد على شارب الخمر هل يشترط في الذي يقام عليه الحد أن يكون حراً أم أن هذا يشمل العبيد والإماء؟ A يشمل العبيد والإماء، وكذلك لا يلزم أن يكون مسلماً؛ لأن المتيقن أن الله تبارك وتعالى ما أحل على لسان رسول قط الخمر، فإنه لا يتصور أن الله تعالى -مثلاً- أحل الخمر على لسان موسى أو على لسان عيسى أو على لسان إبراهيم! وغير الحر طبعاً في جميع الحدود يقام عليه نصف الحد. قال تعالى: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء:25]، فالكتابيون من اليهود والنصارى الذين يتجنسون بجنسية الدولة المسلمة ويعيشون معهم مثل أقباط مصر، وكذلك الكتابيون أهل الذمة الذين يقيمون مع المسلمين بعقد أمان كالأجانب يقام عليهم الحد؛ لأن لهم ما لنا وعليهم ما علينا. قال: (ولأن الخمر محرمة في دينهم، وكذلك لسوء آثارها وضررها البالغ في الحياة العامة والخاصة، والإسلام يريد صيانة المجتمع الذي تظله راية الإسلام، ويحتفظ به نظيفاً قوياً متماسكاً لا يتطرق إليه الضعف من أي جانب)، لا من ناحية المسلمين ولا من ناحية غير المسلمين وهذا مذهب جماهير الفقهاء، والأحناف فقط هم الذين خالفوا وقالوا: غير المسلمين لهم أن يشربوا الخمر في بلاد المسلمين. وهذا مذهب مردود.

حكم التداوي بالخمر

حكم التداوي بالخمر مسألة: حكم التداوي بالخمر: التداوي بالخمر محل خلاف، فمذهب الجماهير -وهو الراجح- على أن التداوي بالخمر غير جائز؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن التداوي بالخمر وقال: (إنها داء وليست بدواء). وقال: (إن الله أنزل الداء والدواء، فجعل لكل داء دواء فتداووا عباد الله ولا تتداووا بحرام). وقد روى أبو داود: (أن ديلم الحميري سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إنا بأرض باردة نعالج فيها عملاً شديداً وإنا نتخذ شراباً من هذا القمح نتقوى به على أعمالنا وعلى برد بلادنا؟ قال رسول الله: هل يسكر؟ قال: نعم. قال: فاجتنبوه. فقال الرجل: فإن الناس ليسوا بتاركيه. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إن لم يتركوه فقاتلوهم). وبعض أهل العلم أجاز التداوي بالخمر بشرط عدم وجود دواء من الحلال يقوم مقام الحرام، وهذا مذهب مرجوح. ومثَّل الفقهاء لذلك بمن غص بلقمة في حالة الاضطرار فكاد يختنق ولم يجد ما ينزلها سوى الخمر فله أن يأخذ شربة من الخمر أو من أشرف على الهلاك من البرد ولم يجد ما يدفع به هذا الهلاك سوى جرعة من خمر فله ذلك؛ لأن الهلاك من البرد متيقن. أو من أصابته أزمة قلبية وكاد يموت؛ فأخبره الطبيب الحاذق أنه لا يجد ما يدفع به الخطر سوى شرب مقدار معين من الخمر؛ فهذا من الضرورات التي تبيح المحظورات، وإلا فلا.

باب قدر أسواط التعزير

باب قدر أسواط التعزير قال الإمام في الباب التاسع: (باب: قدر أسواط التعزير). لم يرد كيفية معينة في ضرب الحد أو التعزير، لكنه ضرب وسط بين الشدة والرخاوة، ومثَّل الفقهاء بنوع هذا الضرب بألا يغادر العضد الإبط. وبعضهم قال: عليه أن يرفع عضده حتى لا يرتفع على منكبه. أي: يضرب ضرباً معتدلاً، كما قال عليه الصلاة والسلام: (لا يشج رأساً ولا يكسر عظماً). وكذلك هذا القدر في الحد والتعزير.

شرح حديث: (لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط)

شرح حديث: (لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط) قال: [حدثنا أحمد بن عيسى حدثنا ابن وهب - وهو عبد الله بن وهب المصري - عن عمرو بن وهب - وهو عمرو بن الحارث المصري عن بكير بن عبد الله بن الأشج قال: بينما نحن عند سليمان بن يسار إذ جاءه عبد الرحمن بن جابر فحدثه، فأقبل علينا سليمان فقال: حدثني عبد الرحمن بن جابر عن أبيه عن أبي بردة الأنصاري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله)] والأسواط: جمع سوط. إذاً: هذا أقل حد في الحدود، والحديث هنا يقول: (لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله). والمقصود: أن حد التعزير أقصاه عشرة أسواط، ولا يضرب المرء أكثر من عشرة ابتداءً من أربعين فما فوقها إلا في حد من حدود الله عز وجل.

حكم الزيادة على عشرة أسواط في التعزير

حكم الزيادة على عشرة أسواط في التعزير وقد اختلف العلماء في التعزير: هل يقتصر فيها على عشرة أسواط فما دونها ولا تجوز الزيادة أم تجوز الزيادة؟ فقال ابن حنبل وبعض من المالكية والشافعية: لا تجوز الزيادة على عشرة أسواط. أما جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم فذهبوا إلى جواز الزيادة. ثم اختلف هؤلاء فقال مالك وأصحابه وأبو يوسف ومحمد وأبو ثور والطحاوي: لا ضبط لعدد الضربات. يعني: هم قالوا بجواز الزيادة فقط، واختلفوا في الضابط في ذلك، فلم يذكروا عدداً معيناً، بل ذلك راجع إلى رأي الإمام، وله أن يزيد على قدر الحدود، كما أنهم استندوا إلى فعل سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما حد صاحب الخمر ثمانين، ونحن نعلم أن الحد المضبوط الذي حده علي بن أبي طالب، وحده من قبله النبي عليه الصلاة والسلام وأبو بكر هو أربعون، أما عمر فحد ثمانين، يعني: عزر بأربعين، وجمع بين الحد والتعزير في مجلس واحد، وربما زاد على ذلك؛ لحديث النبي عليه الصلاة والسلام: (جلد النبي صلى الله عليه وسلم شارب الخمر نحواً من أربعين)، يعني: قريباً من أربعين. والقريب من هذا سبعة وثلاثون، ثمانية وثلاثون، وربما يكون اثنين وأربعين، أو ثلاثاً وأربعين جلدة زائدة. وهذا مذهب جماهير العلماء: أن التعزير ربما يبلغ الحد وزيادة. قال الجمهور: لأن عمر رضي الله عنه ضرب من نقش على خاتمه مائة، وضرب صبياً أكثر من الحد، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: (لا يبلغ به أربعين؛ لأنه أقل الحد). وقال ابن أبي ليلى: (خمسة وسبعون)، وهي رواية عن مالك وأبي يوسف وعن عمر: لا يجاوز به ثمانين، يعني: يضرب الحد، لكن لا يبلغ به ثمانين. وعن ابن أبي ليلى في رواية أخرى: (هي دون المائة)، وهو قول ابن شبرمة، وقال ابن أبي ذئب وابن أبي يحيى: (لا يضرب أكثر من ثلاثة في الأدب)، يعني: في التأديب والتعزير لا يضرب أكثر من ثلاث. وقال الشافعي والجمهور من أصحابه: لا يبلغ تعزير كل إنسان أدنى حدوده فلا يبلغ بتعزير العبد عشرين، أي: نصف حد الخمر؛ لأن العبد إذا شرب الخمر حد على نصف حد الحر، فإذا كان حد الحر أربعين فحد العبد عشرون، ولا يبلغ تعزير الحر أربعين، وقال بعض أصحابنا: لا يبلغ بواحد منهما أربعين، وقال بعضهم: لا يبلغ بواحد منهما عشرين، وأجاب أصحابنا عن الحديث: بأنه منسوخ؛ وإلا فإن الحديث سيهدم هذه الآراء كلها؛ لأنه لا اجتهاد مع وجود النص والاجتهاد مع وجود النص باطل. فقال: أجابوا عن هذا الحديث بأنه منسوخ، واستدلوا بأن الصحابة رضي الله عنهم جاوزوا عشرة أسواط، وتأوله أصحاب مالك على أنه كان مختصاً بزمن النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه كان يكفي الجاني منهم هذا القدر، وهذا التأويل ضعيف. ولذلك مذهب من قال: بأن هذا النص منسوخ وأن الزيادة جائزة في التعزير عن عشرة أسواط رأي ضعيف وإن كان رأي الجمهور، فمذهب الجمهور: جواز الزيادة، والحقيقة أن النص قاضٍ عليهم. وصلى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات - باب القسامة

شرح صحيح مسلم - كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات - باب القسامة القسامة هي الأيمان في الدماء، وصورتها أن يوجد قتيل بموضع لا يعرف من قتله، ولا بينة، ويدعي وليه قتله على شخص أو جماعة، وتوجد قرينة تشعر بصدقه، فيحلف على ما يدعيه خمسين يميناً ويحكم له بالدية أو القصاص، وقد كان أهل الجاهلية يعملون بالقسامة فأقرها الإسلام كما في حديث مقتل عبد الله بن سهل، فهو أصل من أصول الشرع وقاعدة من قواعد الأحكام، وركن من أركان مصالح العباد، به أخذ العلماء كافة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وقد بسط أهل العلم مسائل هذا الباب، وأجمعوا على أنه لا قصاص ولا دية بالدعوى المجردة حتى تقترن بشبهة يغلب الظن بها.

باب القسامة

باب القسامة إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، أما بعد: كتاب القسامة، والمحاربين، والقصاص، والديات. الباب الأول وهو: (باب القسامة):

شرح حديث قتل عبد الله بن سهل في خيبر

شرح حديث قتل عبد الله بن سهل في خيبر قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث -وهو الليث بن سعد المصري - عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن بشير بن يسار الحارثي -مولى الأنصار وهو مدني ثقة، فقيه- عن سهل بن أبي حثمة]-وهو ابن سعيد بن عامر الأنصاري الحزرجي المدن وهو صحابي صغير، ولد سنة ثلاث من الهجرة-[قال يحيى -أي: الأنصاري - وحسبت قال- وعن رافع بن خديج] يعني: سهل بن أبي حثمة ورافع بن خديج [أنهما قالا: (خرج عبد الله بن سهل بن زيد ومحيصة بن مسعود بن زيد -وهما أبناء عمومة- حتى إذا كانا بأرض خيبر تفرقا في بعض ما هنالك - أي: تفرقوا في النخل والبساتين، هذا ذهب من جهة والآخر ذهب في ناحية أخرى - ثم إذا محيصة يجد عبد الله بن سهل قتيلاً، فدفنه ثم أقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وحويصة بن مسعود، وعبد الرحمن بن سهل، وكان أصغر القوم)]. القصة باختصار: أن عبد الله بن سهل بن زيد ومحيصة بن مسعود بن زيد ذهبا إلى أرض خيبر، فلما وصلا إلى خيبر تفرقا، وسار كل منهما في طريق، فإذا بـ محيصة قد وجد عبد الله بن سهل بن سعد بن زيد قتيلاً، فرجع أي: محيصة إلى المدينة وقبل أن يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أخاه حويصة، وأخبر كذلك أخا القتيل واسمه عبد الرحمن بن سهل بن زيد. فهذه القصة فيها أربعة أشخاص: محيصة، وحويصة، وعبد الله، وعبد الرحمن فذهبوا جميعاً -أي: الثلاثة- إلى النبي صلى الله عليه وسلم. [(فذهب عبد الرحمن ليتكلم -أي: مع النبي عليه الصلاة والسلام قبل صاحبيه- أي: قبل ابني عمه حويصة ومحيصة - لأنه شقيق المقتول، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: كبر)] أي: ما دام حويصة أكبر منك سناً فلا ينبغي لك أن تتقدم بين يديه بالكلام؛ لأنه أكبر منك. [(فصمت - أي: سكت - فتكلم صاحباه وتكلم معهما - أي: بعدهما - فذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مقتل عبد الله بن سهل، فقال لهم: أتحلفون خمسين يميناً فتستحقون صاحبكم)] يعني: أتحلفون خمسين يميناً بالله أن فلاناً قتله؟ أتتهمون أحداً بعينه؟ أيغلب على ظنكم أن فلاناً قتل أخاكم؟ إذا كنتم تشكون أو تظنون أو يغلب على ظنكم هذا فاحلفوا خمسين يميناً وحينئذ أقضي لكم بالقصاص منه أو بالدية. قال: [(أتحلفون خمسين يميناً فتستحقون صاحبكم أو قاتلكم؟ قالوا: وكيف نحلف ولم نشهد) أي: نحن لم نشهد القتل، وإنما بيننا وبين خيبر عهد وميثاق كما تعلم، وأهل خيبر يهود، واليهود أنقض الناس للعهود وأغدر الناس ولذلك نحن نتوقع أن يكونوا هم الذين قتلوا أخانا عبد الله بن سهل. قال: [(قالوا: وكيف نحلف ولم نشهد -أي: لم نر بأعيننا، ولم نشاهد القتل بأنفسنا- قال النبي عليه الصلاة والسلام: فتبرئكم يهود بخمسين يميناً)] أي: يحلف اليهود خمسين يميناً فتبرأ ساحتهم من دم أخيكم. [(قالوا: وكيف نقبل أيمان قوم كفار)] هؤلاء يهود يا رسول الله وهم كفار فكيف نقبل أيمانهم وهم كفار [(فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى عقله)] أي: دفع لهم الدية. ومعنى عقله. أي: ربط الإبل بعقلها في ساحة أولياء القتيل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في القتل الخطأ: (وديته على العاقلة) والعاقلة هم أولياء القاتل؛ لأنهم يعقلون الإبل التي تدفع دية لأولياء القتيل، يعقلونها في ساحة أولياء القتيل، ولذلك سميت الدية على هذا النحو (عاقلة). لما رأى النبي عليه الصلاة والسلام قوماً يأبون الحلف؛ لأنهم لم يشهدوا، ولم يقبلوا أيمان الآخرين؛ لأنهم كفار، فأراد أن يطيب خاطرهم بأن ساق الدية من عند نفسه عليه الصلاة والسلام.

شرح حديث: (يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته)

شرح حديث: (يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته) قال: [وحدثني عبيد الله بن عمر القواريري حدثنا حماد بن زيد حدثنا يحيى بن سعيد -وهو الأنصاري - عن بشير بن يسار عن سهل بن أبي حثمة ورافع بن خديج: (أن محيصة بن مسعود وعبد الله بن سهل انطلقا قبل خيبر -أي: ناحية خيبر- فتفرقا في النخل -أي: في البساتين- فقتل عبد الله بن سهل فاتهموا اليهود، فجاء أخوه عبد الرحمن وابنا عمه حويصة ومحيصة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فتكلم عبد الرحمن في أمر أخيه، وهو أصغر منهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كبر الكبرى - يعني: كبر الكبير - أو قال: ليبدأ الأكبر -أي: بالكلام- فتكلما في أمر صاحبهما - أي: حويصة ومحيصة -. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقسم خمسون منكم على رجل منهم)]، والمعلوم أنه لا يقسم إلا صاحب الولاية، وابن العم ليس ولياً، والخطاب لهؤلاء الثلاثة [(قال: يقسم خمسون منكم)] وإجماع أهل العلم أنه لا يجب القسم إلا على الوارث، والوارث هنا واحد وهو عبد الرحمن أخو عبد الله. فقوله: [(يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته)] البرمة هو: الحبل الذي يربط به الرجل، فيساق إلى ساحة القصاص. قال النبي عليه الصلاة والسلام: [(يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته -أي: يأخذ هذا الذي أقسم أنه قاتل، من رقبته حتى يوضع في المكان الذي يقام عليه فيه الحد- قالوا: أمر لم نشهده، كيف نحلف يا رسول الله؟ قال: فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم)] يعني: إما أن تحلفوا فتستحقوا، وإما ألا تحلفوا فيحلف اليهود فتسقط عنهم الدية والقصاص، وكذلك يبرءونكم من اليمين الذي لا يغلب على ظنكم أو لا تظنوا ظناً ينبني عليه العمل أنهم قد قتلوا أخاكم. [(قالوا: يا رسول الله! قوم كفار -أي: كيف نقبل أيمانهم- قال: فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبله)] أي: فدفع له الدية من عند نفسه. [قال سهل: فدخلت مربداً لهم يوماً -والمربد: هو المكان الذي تربط فيه الإبل- فركضتني ناقة من تلك الإبل ركضة برجلها. قال حماد: هذا أو نحوه]. سهل بن أبي حثمة يقول: وأنا قد حفظت هذا الحديث حفظاً جديداً لا أخرم منه حرفاً. أي: أرويه كما لو أن الحادثة تمت الآن، فدلل على ذلك بأمارة وهي أن الإبل التي دفعها النبي عليه الصلاة والسلام دية لأولياء القتيل قد دخلت أنا مربدها فبعير أحمر منها رفسني رفسة أوجعتني، أو أصابتني، أو آلمتني.

شرح الأحاديث في مقتل عبد الله بن سهل ودية الرسول صلى الله عليه وسلم له من عنده

شرح الأحاديث في مقتل عبد الله بن سهل ودية الرسول صلى الله عليه وسلم له من عنده قال: [وحدثنا القواريري حدثنا بشر بن المفضل -وهو ابن لاحق الرقاشي أبو إسماعيل البصري - حدثنا يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار عن سهل بن أبي حثمة عن النبي صلى الله عليه وسلم: نحو هذا الحديث وقال في حديثه: (فعقله رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده)] أي: أعطاه العاقلة من عنده. يعني: الدية. ولم يقل في حديثه: فركضتني ناقة. حدثنا عمرو بن الناقد، حدثنا سفيان بن عيينة (ح) وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الوهاب -وهو ابن عبد المجيد الثقفي - جميعاً عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار عن سهل بن أبي حثمة بنحو حديثهم]. [حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي حدثنا سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار: (أن عبد الله بن سهل بن زيد ومحيصة بن مسعود بن زيد الأنصاريين ثم من بني حارثة خرجا إلى خيبر في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي يومئذ صلح، وأهلها يهود)] وهذا الصلح مع اليهود لم يتم إلا بعد فتح خيبر. وهذا يدل على أن هذه الحادثة إنما حدثت في مدة الصلح التي كانت بين المسلمين وبين اليهود: أن يزرع اليهود خيبر على أن يكون للمسلمين نصيب من هذا الثمر، فهذه الحادثة تمت في مدة الصلح الذي كان بين اليهود والمسلمين. قال: [(فتفرقا في حاجتهما، فقتل عبد الله بن سهل فوجد في شربة مقتولاً)] والشربة هي: الحوض الصغير بجوار النخل، [(فدفنه صاحب)] الذي كان معه هو محيصة. [(ثم أقبل إلى المدينة -أي: رجع إلى المدينة- فمشى أخو المقتول عبد الرحمن بن سهل ومحيصة وحويصة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم شأن عبد الله وحيث قتل فزعم بشير وهو يحدث عمن أدرك من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لهم: تحلفون خمسين يميناً وتستحقون قاتلكم)] أي: لو أنكم حلفتم خمسين يميناً على واحد منهم لأتينا به لتقتلوه قصاصاً. [(قالوا: يا رسول الله! ما شهدنا ولا حضرنا. فزعم أنه قال: فتبرئكم اليهود بخمسين)] أي: بخمسين يمين [(فقالوا: يا رسول الله! كيف نقبل أيمان قوم كفار، فزعم بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عقله من عنده). وحدثنا يحيى بن يحيى أخبرنا هشيم عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار: (أن رجلاً من الأنصار من بني حارثة يقال له: عبد الله بن سهل بن زيد انطلق هو وابن عم له يقال له: محيصة بن مسعود بن زيد) وساق الحديث بنحو حديث الليث بن سعد إلى قوله: (فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده). قال يحيى: فحدثني بشير بن يسار قال: أخبرني سهل بن أبي حثمة قال: لقد ركضتني فريضة من تلك الفرائض بالمربد]. والفرائض هنا: جمع فريضة، والفريضة هو الشيء المحدد بتحديد الشرع، فرض الله صلاة الظهر أربع ركعات. أي: حدد الله تعالى عدد ركعات الصلاة بأربع، وفرض الله عز وجل على كل مسلم رجل أو امرأة، عبد أو حر، كبير أو صغير، صدقة الفطر صاعاً من تمر، أو من بر، أو من شعير، أو من زبيب، أو من أكل، ففرض بمعنى حدد، وفرض الله عليكم الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، أي: حدد الله عز وجل لكم هذه الفرائض. فقوله هنا: لقد ركضتني فريضة أي: بعير من الإبل المحددة لهذه الدية، وليس الفريضة بمعنى الهرمة كما في قوله تعالى: {لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة:68]، لا فارض بمعنى الهرمة، ولا بكر بمعنى الصغيرة، فهناك فارق بين الفارض والفريضة، فالفارض الهرم، والكبير، والعجوز، أما الفريضة فهي الشيء المحدد بتحديد الشرع، فهو يريد أن يقول: أن بعيراً من إبل الدية قد رفسني وركضني في موضع من بدني، وهذا الذي ركضني إنما هو من إبل الدية.

شرح حديث: (فوداه بمائة من إبل الصدقة)

شرح حديث: (فوداه بمائة من إبل الصدقة) قال: [حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا أبي حدثنا سعيد بن عبيد وهو الطائي حدثنا بشير بن يسار الأنصاري عن سهل بن أبي حثمة الأنصاري أنه أخبره (أن نفراً منهم انطلقوا إلى خيبر فتفرقوا فيه)]. والنفر يطلق على الواحد وعلى الجماعة، قال تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122] قال العلماء بالإجماع: النفر يطلق على الواحد كما يطلق على الجماعة، والنفر هم من بني حارثة. قال: [(فوجدوا أحدهم قتيلاً) وساق الحديث. وقال فيه: (فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبطل دمه)] يعني: كره أن يجعل دمه هدراً؛ ولو جعله هدراً لكان محقاً، ولم يجعله هدراً لأنهم لم يحلفوا؛ كما أنهم أبوا أن يقبلوا يمين الكفار، (قالوا: هم يهود يا رسول الله، كيف يحلفو) فلما كره النبي عليه الصلاة والسلام أن يهدر دمه وداه من عند نفسه [(فوداه مائة من إبل الصدق)] قوله: (إبل الصدقة) لا بد من تأويله وإلا فقد حكم كثير من المحدثين والشراح بأن هذه اللفظة وهم من الرواة، لأن هذا هو السياق الوحيد الذي يثبت أن الإبل كانت من إبل الصدقة، أما بقية الروايات فمجمعة على أن النبي إنما وداه من عند نفسه، وسنعرف الفارق بين أن تكون الدية من إبل الصدقة، أو من عند الآخرين، وهو فارق جوهري عظيم سنتعرض له بإذن الله تعالى.

شرح حديث: (إما أن يدفعوا الدية لكم أو يأذنوا بحرب)

شرح حديث: (إما أن يدفعوا الدية لكم أو يأذنوا بحرب) قال: [حدثني إسحاق بن منصور -المعروف بـ الكوسج - أخبرنا بشر بن عمر -وهو ابن الحكم الزهراني أبو محمد البصري - قال: سمعت مالك بن أنس يقول: حدثني أبو ليلى عبد الله بن عبد الرحمن بن سهل عن سهل بن أبي حثمة أنه أخبره عن رجال من كبراء قومه: (أن عبد الله بن سهل ومحيصة خرجا إلى خيبر من جهد أصابهم فأتى محيصة فأخبر أن عبد الله بن سهل قد قتل وطرح في عين أو فقير)]، العين ضد الفقير؛ لأن العين فوهتها ضيقة وقعرها بعيد، بخلاف الفقير: فهي سهلة الإدراك، لو وضعت رجلك فيها ربما لا يبلغ ماؤها إلى الركبة، وعينها واسعة جداً، كحفرة على سطح الأرض. [(قال: قتل عبد الله بن سهل وطرح في عين أو فقير، فأتى يهود فقال: أنتم والله قتلتموه. قالوا: والله ما قتلناه، ثم أقبل حتى قدم على قومه فذكر لهم ذلك، ثم أقبل هو وأخوه حويصة وهو أكبر منه وعبد الرحمن بن سهل فذهب محيصة ليتكلم -وهو الذي كان بخيبر- فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ محيصة: كبر كبر)] أي: ليتكلم أخوك وهو حويصة، يريد أنه أحق بالكلام منه لكبر سنه. [(فتكلم حويصة، ثم تكلم محيصة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إما أن يدوا صاحبكم، وإنما أن يؤذنوا بحرب)] أي: إما أن يدفعوا الدية لكم، أو يؤذنوا بحرب، لأنهم بقتلهم عبد الله بن سهل فقد نقضوا العهد، وإذا نقض العهد أحد الطرفين في صلح أو معاهدة فقد استوجب الحرب [(فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم بذلك)] أي: كتب إلى اليهود، إما أن تدفعوا الدية أو الحرب. [(فكتبوا إليه: إنا والله ما قتلناه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لـ حويصة ومحيصة وعبد الرحمن: أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم)]. أي: إذا حلفتم خمسين يميناً فقد استحققتم قاتلكم قصاصاً أو دية على خلاف سيأتي معنا بإذن الله. [(قالوا: لا)]. أي: ما شهدنا يا رسول الله! كيف نحلف على أمر نشك فيه [(قال: ستحلف لكم يهود. قالوا: ليسوا بمسلمين، فواده رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة ناقة حتى أدخلت عليهم الدار)]، الضمير يعود على دار أولياء عبد الله المقتول. [فقال سهل: فلقد ركضتني منها ناقة حمراء].

شرح حديث: (أن رسول الله أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية)

شرح حديث: (أن رسول الله أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية) قال: [وحدثنا أبو الطاهر وحرملة بن يحيى، قال أبو الطاهر: حدثنا، وقال حرملة: أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس بن يزيد الأيلي عن ابن شهاب الزهري أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري وسليمان بن يسار مولى ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها، وهي زوج النبي صلى الله عليه وسلم: (عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية)] يعني: موضوع القسامة بخمسين يمين كان موجوداً في الجاهلية والنبي عليه الصلاة والسلام أقره وأبقاه في الإسلام. فمن الأحكام ما كان موجوداً قبل الإسلام وبعد الإسلام.

قضاء النبي صلى الله عليه وسلم بين الأنصار واليهود بالقسامة

قضاء النبي صلى الله عليه وسلم بين الأنصار واليهود بالقسامة قال: [حدثنا محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا ابن جريج حدثنا ابن شهاب بهذا الإسناد مثله وزاد: (وقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ناس من الأنصار في قتيلاً ادعوه على اليهود)] وهي نفس القصة التي معنا. [وحدثنا حسن بن علي الحلواني حدثنا يعقوب -وهو ابن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم المدني الزهري - حدثنا أبي عن صالح -وهو ابن كيسان المدني - عن ابن شهاب الزهري - أن أبا سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار أخبراه عن ناس من الأنصار عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديث ابن جريج]. انتهت أحاديث الباب عند الإمام مسلم.

كلام النووي في شرح أحاديث القسامة

كلام النووي في شرح أحاديث القسامة قال النووي: [قال القاضي عياض: حديث القسامة أصل من أصول الشرع، وقاعدة من قواعد الأحكام) فكان من حق هذا الحديث أن يضم إلى جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام. ومعنى جوامع الكلم أي: الكلام القليل الذي تنبني عليه أحكام عدة، وهو قليل جداً في مبناه، كثير في معناه، كما قال عليه الصلاة والسلام: (البينة على المدعي واليمين على من أنكر). فهذا من جوامع الكلام، وموجود في الأربعين النووية، وفي جامع العلوم والحكم، فكل قضية، أو نزاع، أو خصومة، إنما يجب على المدعي أن يقدم بينة فإن عجز عن تقديم البينة وجب على المدعى عليه أن يحلف اليمين. هذا أصل في كل قضية من القضايا، الذي يزعم أنه صاحب حق فهو مدع يجب عليه أن يقدم البينة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (البينة على المدعي). فإن عجز عن تقديم البينة فالمتهم أو المدعى عليه يجب عليه أن يحلف اليمين، فإن حلف وإلا ثبتت عليه التهمة. وإجماع الأمة أن حديث (البينة على المدعي واليمين على من أنكر) أصل من أصول الإسلام، وقاعدة عظيمة جداً من قواعد الأحكام وهو كذلك. وكان ينبغي أن يضم هذا الحديث عقب ذاك الحديث، لأن حديث القسامة على العكس تماماً من حديث البينة، فاليمين هناك على المدعي، والبينة على المدعي في حديث البينة، واليمين على المدعي في حديث القسامة، بل في القسامة اليمين على الطرفين، فهذا الحديث أي: حديث القسامة كالمتمم، والمكمل لقواعد الخصومات بين يدي القاضي فيما يتعلق بالأيمان، والديات، والقصاص، فكان ينبغي أن يكون هذان الحديثان في مكان واحد، وهما من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم. (قال القاضي عياض: حديث القسامة أصل من أصول الشرع، وقاعدة من قواعد الأحكام، وركن من أركان مصالح العباد، وبه أخذ العلماء كافة من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم من علماء الأمصار الحجازيين، والشاميين، والكوفيين، وغيرهم رحمهم الله تعالى، وإن اختلفوا في كيفية الأخذ بهذا الحديث، فهم متفقون ومجمعون على وجوب الأخذ بحديث القسامة).

خلاف العلماء في كيفية الأخذ بحديث القسامة

خلاف العلماء في كيفية الأخذ بحديث القسامة (أما كيفية الأخذ والتطبيق العملي فمحل نزاع بينهم، وروي عن جماعة إبطال القسامة قالوا: نحن لا نأخذ بهذا الحديث ولا نعمل به، وممن قال بهذا سالم بن عبد الله بن عمر وسليمان بن يسار والحكم بن عتيبة، وقتادة، وأبو قلابة، ومسلم بن خالد الزنجي، وابن علية، والإمام البخاري وغيرهم. وعن عمر بن عبد العزيز روايتان كالمذهبين). يعني: قال باعتبارها. والرأي الثاني: بعدم اعتبارها والأخذ بها. قال: (واختلف القائلون بالقسامة واعتبارها إذا كان القتل عمداً هل يجب القصاص بها أو الدية؟ فقال معظم الحجازيين: يجب القصاص. وهو قول الزهري وربيعة الرأي وأبي الزناد ومالك وأصحابه والليث والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وداود. كل هؤلاء قالوا بوجوب القصاص إذا كان القتل عمداً. وهو قول الشافعي في مذهبه القديم، وروي عن ابن الزبير، وعمر بن عبد العزيز. قال أبو الزناد: قلنا بها وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوفرون. يعني: قلنا: إن القصاص يجب في القسامة إذا كان القتل عمداً. قال: وإني لأرى أنهم ألف رجل فما اختلف منهم اثنان). هذا المذهب الأول. المذهب الثاني: قال: (وقال الكوفيين والشافعي رضي الله عنه في أصح قوليه: لا يجب بها القصاص وإنما تجب الدية). ودليل الجمهور هو هذا الحديث، ولا دليل لمن أبطل القسامة، بل أدلتهم كلها شبهات مردودة مدفوعة فيكون الرأي الصحيح عندي هو القول بالقسامة مثل الرأي الثاني. واختلف القائلون بالقسامة في كيفية تطبيق هذا الحديث أو هذا الحكم، فمنهم من قال: إذا كان القتل عمداً وجب القصاص وهم الجمهور. ومنهم من قال وهم الكوفيون أي: أصحاب الرأي وهم الأحناف، والشافعية في أصح القولين عنهم أنهم قالوا: (لا يجب القصاص بل تجب الدية. وهو مروي عن الحسن البصري، والشعبي، والنخعي، وعثمان الليثي، والحسن بن صالح. وروي أيضاً عن أبي بكر وعمر، وابن عباس، ومعاوية رضي الله عنهم أجمعين). قالوا: تجب الدية ولا يجب القصاص حتى لو كان القتل عمداً.

خلاف العلماء في من يحلف القسامة

خلاف العلماء في من يحلف القسامة قال: (واختلفوا فيمن يحلف في القسامة) يعني: من يبدأ بالحلف بالقسامة، وسميت قسامة؛ إما لكثرة القسم، وإما لوجوب القسم على الطرفين؛ لأنه في أي خصومة أخرى فإن القسم على المدعى عليه، وهو المتهم، أما في القسامة فالقسم على المتهم وهو المدعى عليه أو على المدعي، فإما أن يكون لكثرة القسم وأنه ليس يميناً واحداً ولا ثلاثة بل خمسين يميناً، وإما أن ذلك لوجوب القسم على الطرفين فسمي قسامة. أما من الذي يحلف: (قال مالك والشافعي والجمهور: يحلف الورثة -يعني: كل من وجب له الإرث- ويجب الحق بحلفهم خمسين يميناً). ولو أن أولياء القتيل خاصة وهم الورثة حلفوا خمسين يميناً فقد استوجبوا واستحقوا صاحبهم -أي: القاتل- فإن عفوا عن القصاص فلهم الدية. وهذا الحديث فيه التصريح بالابتداء بيمين المدعي، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لهم: (احلفوا خمسين يميناً)، فلم يطالبهم بالبينة، وإنما طالبهم بالقسم، فإذا أقسموا استحقوا صاحبهم وإلا حلف صاحبهم فبرأت ساحته، وهذا عند النكول عن القسم والامتناع، أما إذا أقسم أولياء القتيل أو الورثة فقد استحقوا حق صاحبهم. قال الجمهور: (يحلف الورثة، ويجب الحق بحلفهم خمسين يميناً، واحتجوا بهذا الحديث الصحيح، وفيه التصريح بالابتداء بيمين المدعي وهو ثابت من طرق كثيرة صحاح لا تندفع. قال مالك: الذي أجمعت عليه الأئمة قديماً وحديثاً أن المدعين -أي: أولياء القتيل- يبدءون في القسامة؛ لأن جنبة المدعي صارت قوية باللوث) أي: بالأمارات وشبه الدلالات، ولأنهم أصحاب دعوى ليسوا محل تهمة، وأعظم دليل على ذلك ما سماه العلماء هنا باللوث، واللوث هو الطي، واللي، والشر، والجراحات، واللوث عند الشافعي رحمه الله تعالى هو: شبه الدلالة. واللوث في حديث القسامة: أن يشهد شاهد واحد على إقرار المقتول قبل أن يموت أن فلاناً قتلني. فهذا اللوث هو الشاهد الوحيد الذي يشهد بيمينه على إقرار المقتول قبل أن يموت، أو يشهد الشاهدان على عداوة بينهما أيضاً، وهذا لوث إيضاً، وهو شبه دلالة، أو إشكال أو أمارة أن القاتل هو فلان، للعداوة التي كانت بينهما أو تهديد منه له قبل أن يموت أو نحو ذلك، كما في قصة قتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما قتله غلام المغيرة بن شعبة أبو لؤلؤة المجوسي عليه لعنة الله لما طعن عمر، قال عمر: من قتلني؟ مع أنه لم يقتل بعد. قالوا: غلام المغيرة أبو لؤلؤة. قال: الحمد لله الذي جعل قتلي على يد رجل لم يسجد لله. أي: الحمد لله الذي جعل قتلي على يد شخص مشرك. ثم قال: لقد هددني العلج آنفاً، والعلج: الغلام القبيح. وقصة التهديد: أن غلام المغيرة لما جاء إلى عمر وهو أمير المؤمنين يشكو إليه الخراج الذي فرضه عليه مولاه وسيده المغيرة، قال له عمر: كم تدفع؟ قال: ثلاثة دنانير. قال: ماذا تعمل؟ قال: أصنع الرحى، وأصنع كذا وكذا، فقال عمر: ما خراجك بكثير. يعني: لم يظلمك المغيرة. اصنع لنا رحى يا أبا لؤلؤة. فقال أبو لؤلؤة: سأصنع لك رحى تتكلم عنها العرب والعجم. فهذا كلام حمال يحمل على أني سأصنع لك رحى هي من الأعاجيب في الدنيا، يتمناها كل الناس، أو سأجعلك تدور في بركة دمائك، فلما طعن عمر من الغد قال: لقد هددني العلج آنفاً. يعني: قد أنفذ ما هددني به البارحة، ففهم عمر رضي الله عنه بسرعة الدلالة من كلامه السابق فكان فيها لوث. (قال القاضي: وضعف هؤلاء رواية من روى الابتداء بيمين المدعى عليهم، قال أهل الحديث هذه الرواية وهم من أحد الرواة؛ لأنه أسقط الابتداء بيمين المدعي ولم يذكر رد اليمين؛ لأن الروايات كلها متفقة على أن الذي يبدأ اليمين في القسامة هو المدعي، ثم إذا نكصوا ونكلوا عن القسامة رد اليمين إلى المدعى عليه). يعني: تحول اليمين إلى المدعى عليه. (ولأن من روى الابتداء بالمدعي معه زيادة، ورواياتها صحاح من طرق كثيرة مشهورة فوجب العمل بها ولا تعارضها رواية من نسي وقال: كل من لم يوجب القصاص واقتصر على الدية يبدأ بيمين المدعي، أو المدعى عليه إلا الشافعي وأحمد فقالا بقول الجمهور أن يبدأ بيمين المدعي فإن نكل ردت على المدعى عليه.

الإجماع على أنه لا قصاص ولا دية بمجرد الدعوى

الإجماع على أنه لا قصاص ولا دية بمجرد الدعوى قال: (وأجمع العلماء على أنه لا يجب قصاص ولا دية بمجرد الدعوى). يعني: قبل اليمين، فمن قال لشخص أنت قاتل أبي، لا يثبت بهذا حق، بل هذا مجرد ادعاء، فلا يدخل في حد التنفيذ إلا إذا أقسم المدعي خمسين يميناً أن المدعي عليه هو القاتل، أو يحلف خمسين يميناً أنه لم يقتل، حينئذ تبرأ ساحته، فإجماع العلماء أنه لا يجب قصاص ولا دية بمجرد الدعوى. أي: الدعوى المجردة عن اليمين. قال: (حتى تقترن بها شبهة يغلب الظن بها. واختلفوا في هذه الشبهة المعتبرة الموجبة للقسامة لها سبع صور).

صور الشبهة المعتبرة الموجبة للقسامة

صور الشبهة المعتبرة الموجبة للقسامة

الصورة الأولى: أن يقول المقتول في حياته: دمي عند فلان

الصورة الأولى: أن يقول المقتول في حياته: دمي عند فلان قال: (الصورة الأولى: أن يقول المقتول في حياته: دمي عند فلان، وهو قتلني أو ضربني وإن لم يكن به أثر، أو فعل بي هذا من إنفاذ مقاتلي أو جرحني. ويذكر العمد فهذا موجب للقسامة عند مالك والليث، وادعى مالك رضي الله عنه أنه مما أجمع عليه الأئمة قديماً وحديثاً. قال القاضي: ولم يقل بهذا من فقهاء الأمصار غيرهما، ولا روي عن غيرهما، وخالف في ذلك العلماء كافة فلم ير أحد غيرهما في هذا قسامة. واشترط بعض المالكية وجود الأثر والجرح في كونه قسامة). قالوا: من أجل أن ننفذ القسامة في هذا الباب لا بد من وجود الأثر أو الجرح. (واحتج مالك في ذلك بقضية بني إسرائيل في قول الله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى} [البقرة:73]. قالوا: فأحيا الله الرجل فأخبر بقاتله). لكن هذا استشهاد بعيد، وهذا تم من باب الإعجاز الحسي في بني إسرائيل، أما عندنا فيكفي الدليل العقلي. (واحتج أصحاب مالك أيضاً بأن تلك حالة يطلبها غفلة الناس، فلو اشترطنا الشهادة وأبطلنا قول المجروح أدى ذلك إلى إبطال الدماء غالباً). فالقاتل إنما ينتهز فرصة تفرد أو غياب المقتول عن أعين الناس، فيطعنه، أو يضربه، فلو أبطلنا قوله لأبطلنا أحكام كثيرة. قوله: بأن تلك الحالة حالة يطلب فيها غفلة الناس، يعني: القاتل ينتهز فرصة غفلة الناس عن الإيقاع بالمقتول، فلو اشترطنا الشهادة وأبطلنا قول المجروح أدى ذلك إلى إبطال الدماء غالباً. يريد أن يقول: لا بد من اعتبار قول المجروح: أن فلاناً هو الذي قتلني. أو أعان على قتلي، ولو قلنا: لا بد أن يشهد شاهدان أو أكثر فمعناه: أننا سنجعل قول المجروح هدراً، وأدى ذلك إلى إبطال الدماء غالباً. يعني: من جانب القاتل أن القاتل ينتهز خلوة، فينقض على غريمه، فلو أن غريمه قال: قتلني فلان فلا بد من اعتبار القول؛ وإلا فسيؤدي عدم اعتبار قوله إلى إبطال كثير من الدماء. الحجة الثانية: أن المقتول يغلب عليه في هذه الحالة الصدق؛ لأنه يعلم أنه مفارق لدنياه ذاهب إلى الآخرة فلا ينفعه إلا الصدق، ولا مصلحة له في أن يتهم فلاناً أو فلاناً ممن لم يضربه ولم يجرحه؛ ولأنه في حالة قرب من الله عز وجل، فهو يتحرى ويتقرب بالصدق إلى الله عز وجل، ويتجنب الكذب والمعاصي، ويتزود البر والتقوى فوجب قبول قوله. (واختلف المالكية في أنه هل يكتفي في الشهادة على قوله بشاهد أو لا بد من اثنين؟) فمنهم من قال: يكتفي على قول المجروح بشاهد. ومنهم من قال: لا بد من شاهدين. والصواب: أنه يكتفي مع قول المجروح وإقراره بشاهد واحد. والمجروح لو قال: قتلني فلان ولم يسمعه أحد فإن قول المجروح لا يصل إلى القاضي؛ إلا عن الذي يبلغ إقرار المجروح، فلذا يكفي في ذلك شاهد واحد.

الصورة الثانية: اللوث من غير بينة على معاينة القتل

الصورة الثانية: اللوث من غير بينة على معاينة القتل (الصورة الثانية: اللوث من غير بينة على معاينة القتل. وبهذا قال مالك والليث والشافعي. ومن اللوث: شهادة العدل ولو كان واحداً. وكذا قول جماعة ليسوا عدولاً). واللوث الذي هو شبه الدلالة يتحقق بشهادة رجل واحد عدل أو جماعة وإن كانوا فساقاً، أو كفاراً، فلو أن مسلمين يمشيان في الشارع بينهما خصومة ونزاع ودار بينهما شجار فقتل أحدهما الآخر في حضرة عشرة من النصارى، فأتى النصارى العشرة إلى القاضي وقالوا: شهدنا أن هذا يقتل ذاك. تقبل شهادتهم مع أن الشاهد ينبغي أن يكون عدلاً لكن ليس في كل قضية تلزم عدالة الشاهد، لأن هذه قضية لم يرها إلا فاسق أو كافر، والخلاف إنما دار في شهادة الفاسق وحده أو الكافر وحده، لكن لو شهد جماعة من الفساق أو جماعة من الكفار قبلت شهادتهم؛ لحديث: (صدقك وهو كذو) فأثبت له الصدق في هذه القضية؛ لأنه لا مصلحة له في الكذب حينئذ، فهو في هذه القضية صدق مع أن الأصل فيه الكذب.

الصورة الثالثة: إذا شهد عدلان بالجرح فعاش بعده أياما ثم مات قبل أن يفيق منه

الصورة الثالثة: إذا شهد عدلان بالجرح فعاش بعده أياماً ثم مات قبل أن يفيق منه الصورة الثالثة: إذا شهد عدلان بالجرح فعاش بعده أياماً ثم مات قبل أن يفيق منه. قال مالك والليث: هو لوث. وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا قسامة هنا بل يجب القصاص بشهادة العدلين). يعني: إذا شهد عدلان فقالا: ضرب فلان فلاناً فجرحه فأغمي عليه، ومات بسبب هذا الجرح قبل أن يفيق من جرحه، لكنه في الغالب ليس من باب القسامة لشهادة الشاهدين العدليين.

الصورة الرابعة: أن يوجد المتهم عند المقتول أو قريبا منه ومعه آلة القتل

الصورة الرابعة: أن يوجد المتهم عند المقتول أو قريباً منه ومعه آلة القتل (الصورة الرابعة: يوجد المتهم عند المقتول أو قريباً منه أو آتياً من جهته، ومعه آلة القتل). يعني: تصور لو أنك دخلت حارة فوجدت رجلاً يجري أمامك وفي يده سكين والدم يقطر منها، وبعد ذلك رفع السكين فوقك وأنت تركته، ومشيت إلى آخر الطريق فوجدت شخصاً ملقى على الأرض مقتول ودمه ينزف، فالذي قتله هو الرجل الذي كان يجري وبيده سكين، ومع ذلك فإنك لن تحلف أنه هو الذي قتل، لأنك لم تر القاتل، ولم تشاهد، لكن هناك لوث وقرينة قوية على أنه هو القاتل. وصاحب السيارة إذا أخذ شخصاً كان في الطريق، وقدر الله عليه بحادث فمات الراكب، فالقانون الوضعي يحمل صاحب السيارة المسئولية، هذا بخلاف القوانين الشرعية التي أمرتنا بالاعتصام، والتقارب، والتلاحم، والود، وغير ذلك.

الصورة الخامسة: أن تقتتل طائفتان فيوجد بينهما قتيل

الصورة الخامسة: أن تقتتل طائفتان فيوجد بينهما قتيل (الصورة الخامسة: أن تقتتل طائفتان فيوجد بينهما قتيل فإن كان من أحد الطرفين ففيه القسامة، وعند مالك في رواية عنه والشافعي وأحمد وإسحاق: لا قسامة فيه بل الدية على الطائفة الأخرى، وإن كان المقتول من غيرهما فعلى الطائفتين ديته).

الصورة السادسة: وجود الميت في زحمة الناس

الصورة السادسة: وجود الميت في زحمة الناس (الصورة السادسة: وجود الميت في زحمة الناس. قال الشافعي: تثبت فيه القسامة، وتجب بها الدية، وقال مالك: هو هدر أي: لا دية له. وقال الثوري وإسحاق: تجب الدية من بيت المال، وروي مثله عن عمر وعلي).

الصورة السابعة: أن يوجد القتيل في محلة قوم أو قبيلتهم أو مسجدهم

الصورة السابعة: أن يوجد القتيل في محلة قوم أو قبيلتهم أو مسجدهم (الصورة السابعة: أن يوجد في محلة قوم أو قبيلتهم أو مسجدهم). يعني: شخص من القبيلة الأولى وجد مقتولاً في القبيلة الأخرى، وكلاهما معاد للأخرى، فمن الطبيعي جداً أن الذي قتله هم أهل القبيلة الثانية. (فقال مالك والليث والشافعي وأحمد وداود وغيرهم: لا يثبت بمجرد هذا قسامة، بل القتل هدر؛ لأنه قد يقتل الرجل الرجل ويلقيه في محلة الطائفة الأخرى لينسب إليهم. قال الشافعي: إلا أن يكون في محلة أعدائه لا يخالطهم فيها غيرهم، فيكون كالقصة التي جرت بخيبر، فحكم النبي صلى الله عليه وسلم بالقسامة لورثة القتيل، لما كان بين الأنصار وبين اليهود من العداوة، ولم يكن هناك سواهم، وعن أحمد نحو قول الشافعي. وقال أبو حنيفة والثوري ومعظم الكوفيين: وجود القتيل في المحلة والقرية يوجب القسامة، يعني: بمجرد وجوده في قرية العدو يوجب القسامة، والدية على العدو. ولا تثبت القسامة عندهم في شيء من الصور السبع السابقة إلا في هذه الصورة السابعة فقط؛ لأنها عندهم هي الصورة التي حكم فيها النبي صلى الله عليه وسلم بالقسامة، ولا قسامة عندهم إلا إذا وجد القتيل وبه أثر. قالوا: فإن وجد القتيل في المسجد حلف أهل المحلة، ووجبت الدية في بيت المال، وذلك إذا ادعوا على أهل المحلة. وقال الأوزاعي: وجود القتيل في المحلة -يعني: في الحي- يوجب القسامة وإن لم يكن عليه أثر، وروي نحو ذلك عن داود الظاهري، وهذا كلام القاضي عياض رحمه الله والله أعلم).

استحباب تقديم الأكبر في السن والعلم والمنزلة

استحباب تقديم الأكبر في السن والعلم والمنزلة أما قوله: (فذهب عبد الرحمن يتكلم قبل صاحبه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: كبر كبر) يعني: قدم الكبير في السن أن يتكلم، وفي الحقيقة فإن كثيراً من الإخوة أو كثيراً من المسلمين يتصورون أن التقدم دائماً لمن كان على اليمين في الدخول، أو الخروج، أو الطعام، والشراب وغير ذلك، وليس هو كذلك، بل ورد في السنة أحاديث كثيرة جداً تدل تارة على أن التقدم لمن كان على اليمين، أو التقدم لكبير السن، أو التقدم لكبير الشأن، فليس التقدم على نسق واحد يتعلق بالسن، بل قال عليه الصلاة والسلام: (البركة مع أكابرك) وقال: (أمرني جبريل أن أكبر) يعني: أقدم الكبير. أي: في الطعام، والشراب، والتقدم والمشي وغير ذلك. قال مالك بن مغول كنت أمشي مع طلحة بن مصرف فصرنا إلى مضيق -يعني: إلى طريق ضيق لا يأخذنا جميعاً وإنما يتقدم أحدنا دون الآخر- فتقدمني ثم قال لي: لو كنت أعلم أنك أكبر مني بيوم ما تقدمتك. وهذا يدل على جواز التقدم لمن كان كبير السن وإن كان على جهة الشمال. وعن الفضل بن موسى قال: انتهيت -أي: وصلت- أنا وابن المبارك إلى قنطرة -أي: معبر طريق- فقلت له: تقدم. وقال لي: بل تقدم أنت. فحاسبته فإذا أنا أكبر منه بسنتين. والسلف كان بينهم من اللطائف أمر عجيب جداً. وأيضاً: لو كان التقدم من جهة اليمين مستقر عند السلف ولا شيء غيره لم يكن هناك حاجة إلى حساب السن، حتى لو كان أفضل منه في العلم، ولما لم يكن هذا مستقراً لدى السلف وأن التقدم على أنحاء كثيرة فكان أحدهما حين يتقدم على الآخر إما لعلمه، أو فضله، أو لمكانته ومنزلته، وأحياناً بعضهم يتقدم لسنه. وانتهى الحسن بن عمارة وأبو حنيفة إلى قنطرة فقال أبو حنيفة للحسن: تقدم. قال الحسن: بل تقدم أنت، أنت أفقهنا، وأعلمنا، وأفضلنا، فالتقدم يكون لأهل العلم، والفقه، والفضل. وقال يعقوب بن سفيان الفسوي: بلغني أن الحسن بن صالح وعلي بن صالح كانا توأمين، فنزل الحسن قبل علي فما تقدم عليه علي قط ولا تكلم في مجلس فيه الحسن احتراماً للحسن، مع أن علي من الثقات الأثبات الفقهاء، وكلامهما مشهور بالعبادة، والزهد، والصلاح. يعني: يريد أن يقول لك: لم يكن بينهما نصف ساعة. الحسن نزل من بطن أمه أولاً ومن بعده علي فهما توأمان، لكن علي يحفظ هذا التقدم في السن ولو كان نصف ساعة، وغير ذلك مما كان هو محل مفاضلة بين أهل العلم من السلف فليس بلازم أن تكون أنت على اليمين فيثبت لك الحق المطلق فربما يكون من كان على الشمال هو أولى منك بهذا الحق كأن يكون عالماً أو جواداً سخياً يجود على الناس وينفعهم وأنت لست كذلك، أو يكون والدك، أو عمك، أو جدك، أو معلمك أو مدرسك، أو غير ذلك فكل هؤلاء لهم الحق عليك في التقدم، وفي الشراب، وفي الكلام والمحادثة وغير ذلك، إذا وجدت واحداً من هؤلاء فقدمه على نفسك، وهذا من باب الأدب. ونحن نعرف أن عبد الرحمن بن سهل بن زيد أخو القتيل، أما محيصة وحويصة فكلاهما ابن عم له، وابن العم ليس وارثاً ولا ولياً، إنما وليه عبد الرحمن، فـ عبد الرحمن هو الوحيد الذي له الحق في أن يرث عبد الله وله الحق في أن يتكلم، فلما استخدم هذا الحق في طرح القضية وعرضها على النبي عليه الصلاة والسلام، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال له: (كبر)، لأن محيصة أصغر من حويصة، فـ حويصة هو الذي يتكلم أولاً، وإذا أراد محيصة أن يتكلم فليفعل بعد أخيه، أما عبد الرحمن فآخر من يتكلم؛ لأنه الصغير، مع أنه صاحب الحق الأول وهؤلاء لا حق لهم، فلما قدم النبي عليه الصلاة والسلام حويصة على عبد الرحمن إنما أمر بذلك؛ ولم يكن المراد بكلامه حقيقة الدعوى بل سماع القصة، والنبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يعرف القضية ما هي؟ وما هو الذي حصل؟ ليس في معرض تحقيق وتفصيل القضية، وإثبات الحق لفلان ونفيه عن فلان، أو اتهام فلان وثبوت الحق لفلان، وإنما يريد أن يفهم ما الذي حصل؟ فالنبي عليه الصلاة والسلام إنما حرم عبد الرحمن من الابتداء بالكلام رغم أنه صاحب الحق في الولاية لمعرفة صورة القضية، لا لتحقيق الحق وإثبات التهمة، لكن إذا قلنا تكلم عن الحق ونحكم فيه بالدية أو القصاص أو غير ذلك فإن صاحب الحق عبد الرحمن، ويحتمل أن عبد الرحمن وكل حويصة في الدعوى ولكنه استشرفت نفسه بمساعدته،

بيان كيفية يمين القسامة وردها على الطرف الآخر

بيان كيفية يمين القسامة وردها على الطرف الآخر أما قوله عليه الصلاة والسلام: (أتحلفون خمسين يميناً فتستحقون صاحبكم أو قاتلكم). قد يقال: كيف عرضت اليمين على الثلاثة مع أن حويصة ومحيصة، لا يجب عليهما اليمين، بل لا يشرع لهما، وإنما يكون اليمين للوارث خاصة الذي هو عبد الرحمن لأنه أخو القتيل، وأما الآخران فابنا عم لا ميراث لهما مع الأخ؟ A أنه كان معلوماً عندهم، أن صورة الخطاب للعموم لكن المعلوم عند المخاطبين أن الذي سيحلف واحد منهم، وأما الآخران فابنا عم لا ميراث لهما مع الأخ، فاليمين تختص بالوارث، فأطلق الخطاب لهما، والمراد: من تختص به اليمين، أي: الذي تلزمه اليمين، واحتمل ذلك لكونه معلوماً للمخاطبين، كما سمع كلام الجميع في صورة قتله، وكيفية ما جرى له. يثبت الحق قصاصاً كان أو دية بعد الحلف عليه، واختلف العلماء في ذلك: فمنهم من قال: قصاص. ومنهم من قال: الدية. ومنهم من قال: هدر لا قصاص ولا دية. واعلم أنهم إنما يجوز لهم أن يحلفوا خمسين يميناً إذا علموا يقيناً أن فلاناً قتل ولا إشكال هنا، ويجوز لهم أن يحلفوا خمسين يميناً مع غلبة الظن مع القرائن الدالة كاللوث. ولا يجوز لأحد أن يقسم هذه الأيمان في القسامة بمجرد الظن، أو الظن المجرد، بل لا بد من ظن مقترن بقرائن، أما مجرد الظن أو مطلق الظن فلا يستوجب اليمين، ولا يجوزها من باب أولى، وإنما عرض عليهم النبي صلى الله عليه وسلم اليمين إن وجد فيهم هذا الشرط، وليس المراد بالإذن لهم بالحلف من غير ظن، ولهذا قالوا: (كيف نحلف ولم نشهد). أما قوله لما قالوا: (كيف نحلف ولم نشهد يا رسول الله، قال: فتبرئكم يهود بخمسين يميناً) أي: ترد اليمين إلى الطرف الآخر وإن كانوا يهوداً فيحلفون خمسين يميناً، فإن فعلوا ذلك برئت ساحتهم بمجرد هذه الأيمان. وقيل معناه: يخلصنكم من اليمين بأن يحلفوا فإذا حلفوا انتهت الخصومة، ولم يثبت عليهم شيء، وخلصتم أنتم من اليمين. وفي هذا الحديث دليل لصحة يمين الكافر والفاسق، وهذا بخلاف الشهادة، فإنه يشترط فيها العدالة إلا في مواطن، أما القسامة فيصح فيها يمين الكافر ويمين الفاسق من باب أولى، وإنما وداه رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعاً للنزاع، وإصلاحاً لذات البين، فإن أهل القتيل لا يستحقون إلا أن يحلفوا، أو يستحلفوا المدعى عليهم وقد امتنعوا من الأمرين. يعني: أهل القتيل قالوا: لا نحلف، ولا نقبل اليهود أن يحلفوا؛ فأراد صلى الله عليه وسلم جبرهم وقطع المنازعة وإصلاح ذات البين بدفع الدية من عنده. أما قوله: (فوداه من إبل الصدقة) جمهور المحدثين على أنه وهم من الراوي؛ لأن مجموع الروايات تقول: إنما وداه من عنده، ومن عند نفسه. أي: من ماله الخاص عليه الصلاة والسلام، وربما جمعنا بين اللفظين أن هذا كان من مال الصدقة عامة، فلما وزع مال الصدقة اشتراه النبي عليه الصلاة والسلام من مالكه بعد توزيعه عليه، لأن بعض الناس يتصور أن هذا إنما تم توزيعه من زكاة المال ولا يصح ذلك؛ لأن الديات ليست من مصارف الزكاة.

فوائد من أحاديث باب القسامة

فوائد من أحاديث باب القسامة (وفي هذا الحديث: أنه ينبغي للإمام مراعاة المصالح العامة والاهتمام بإصلاح ذات البين. وفيه: إثبات القسامة. وفيه: الابتداء بيمين المدعي في القسامة لا المدعى عليه. وفيه: رد اليمين على المدعى عليه إذا نكل المدعي في القسامة -أي: رفض الحلف- وفيه: جواز الحكم على الغائب وسماع الدعوى في الدماء من غير حضور الخصم. يعني: الحكم الغيابي. وفيه: جواز اليمين بالظن وإن لم يتيقن. وهذا مشروط بالقرائن. وفيه: أن الحكم بين المسلم والكافر يكون مرده إلى الشريعة الإسلامية). ومن أبواب الضلال والانحراف التي يعيشها المسلمون في بلاد أوروبا وأمريكا وغيرها أن الدعاوى والخصومات بشأن النكاح والأحوال الشخصية تتم في الكنائس، وفي مسألة الأحوال الشخصية يتم بلاء عظيم جداً، فالمسلم يسافر من بلاد المسلمين للحصول على الشرف السرمدي كما يزعمون، ولا يحصل عليه إلا بالزواج، ولما تسمع كلمة زواج تعرف أنها النطيحة، والمتردية، والموقوذة، وما أكل السبع، فيقال: الأخ الفلاني تزوج امرأة أمريكية، فهي من قلة الأزواج والعشاق تزوجت شخصاً مسلماً يريد أن يحصل على الشرف، أو امرأة مريضة عليلة لا تقوم من الفراش المهم أنها تكون أمريكية تحت أي علة لا تتزوج شخصاً أجنبياً وإن شئت فقل مسلماً للأسف الشديد، وهو يقبل هذا أحياناً، تجد الشخص يجلس معها ويقول لها: هذا الزواج هو صوري في مقابل أن لك كذا، والقضية لا تتم بهذا الشكل، بل لا بد أن الزواج يتم في المحكمة ويوثق هناك، والقاضي يعرف هذه الأشياء، يعرف أن المصريين بالذات يعملون هذه الأمور. فإنه سيقول للرجل المسلم: أنت متزوج هذا المرأة؟ يقول له: نعم. يقول له: قبلها. فيقبلها. ثم يقول له: احضنها، فيحضنها، ثم يأخذها القاضي على جنب ويقول لها: هو يستخدم معجون أسنان أو لا؟ هو يريد أن يتأكد أنهم جالسين مع بعض في شقة واحدة أم لا. تقول له: نعم. فيقول لها: ما لونه؟ فتقول له: أبيض، ثم يأخذه على جنب ويسأله عن معجون الأسنان؟ وما لونه؟ فيقول له: أحمر. فيبطل القاضي الزواج وصاحبنا يكون قد قبلها وحضنها. فهم يجعلون هناك عراقيل في إتمام النكاح؛ لأنهم لم يرون أنه ليس شرفاً لأمريكا أن أحداً من المسلمين ينسب إليها، والواحد منا يعتبر أن الشرف كل الشرف أنه يحصل ولو على تأشيرة من السفارة الأمريكية، وهذا ما وصل إليه الكفار من عز، وما وصل إليه المسلمون من انهزام نفسي، فهذا أمر مخجل جداً، وموجع للقلوب والرؤوس. قال: (وفي هذا الحديث أن القسامة إنما تكون على واحد فقط، وبه قال مالك وأحمد، وقال أشهب وغيره يحلف الأولياء على ما شاءوا ولا يقتلون إلا واحداً). أي: الواحد بواحد. يعني: يقتل المسلم بالمسلم والنفس بالنفس. (ولا يجوز قتل المسلم بالكافر، وهذه المسألة محل نزاع، ومذهب الجماهير فيها وهو الراجح إن لم يكن هو الصحيح أن المسلم لا يقتل بكافر قط لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يقتل مسلم بكافر)). وقال الشافعي رضي الله عنه: إن ادعوا -أي: أولياء القتيل- على جماعة حلفوا عليهم وثبتت عليهم الدية على الصحيح، وفي قول أنه يجب القصاص عليه وإن حلفوا على واحد استحقوا عليه وحده، والمقصود بذلك أن أولياء المقتول إذا حلفوا على جماعة أنهم قتلوا قتيلهم استحقوا قتل واحد دون الجماعة، وإذا حلفوا على قوم أنهم قتلوا قتيلهم أخذوا الدية ولم يقتل واحد منهم، وهذه مذاهب العلماء في ذلك). ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام: (إما أن يدوا صاحبكم، وإما أن يؤذنوا بحرب) معناه: إن ثبت القتل عليهم بقسامتكم لو أنكم حلفتم وثبت عليهم القتل، فإما أن يدفعوا لكم ديته، وإما أن يعلمونا أنهم متنعون من التزام أحكامنا والانصياع لشرعنا فينتقض عهدهم ويصيرون حرباً لنا. وفي هذا دليل لمن يقول: الواجب في القسامة الدية دون القصاص. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات - حكم المحاربين والمرتدين

شرح صحيح مسلم - كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات - حكم المحاربين والمرتدين ذكر الله تعالى في كتابه أن جزاء المحاربين لله ورسوله والذين يقطعون طريق الناس ويخوفونهم ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا إذا قتلوا النفس بغير حق، أو يصلبوا وتقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إذا قتلوا النفس وأخذوا المال، أما إذا أخذوا المال فإنه تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض، ويعزروا إذا قطعوا الطريق وأخافوا السبيل ولم يقتلوا ولم يأخذوا المال.

باب حكم المحاربين والمرتدين

باب حكم المحاربين والمرتدين إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]، وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، أما بعد: فمع كتاب المحاربين. قال الإمام النووي: (باب حكم المحاربين والمرتدين).

تعريف المحاربة

تعريف المحاربة المحاربة: هي المضادة والمخالفة، وهي صادقة على الكفر؛ لأن من كفر فقد حاد الله ورسوله، وشاق الله ورسوله، كما أن من ارتد بعد إيمانه وإسلامه فقد حاد الله ورسوله، وضاد الله ورسوله، فكذلك المحاربة تصدق على الردة، وعلى الكفر الأصلي، كما تصدق كذلك على قاطع الطريق. فلو أن رجلاً انطلق خارج المصر فاتخذ له طريقاً غير مسلوكة، أو طريقاً مهجوراً، يخيف الناس، ويأخذ متاعهم، ويزهق أرواحهم، فلا شك أن هذا محارب، وعلى هذه الصورة ينطبق كلامنا في هذه الليلة، وكذلك من أخاف السبيل، أو أفسد في الأرض. وبعض أهل العلم يعتبر أن أي إفساد في الأرض سواء كان في المصر أو خارجه من المحاربة. والنبي عليه الصلاة والسلام يقول في الحديث الذي هو غصة في حلوق كثير من العلمانيين: (من بدل دينه فاقتلوه). وتبديل الدين يعني: الردة. أي: من ارتد عن دين الإسلام فاقتلوه. وقال عليه الصلاة والسلام: (لا يحل قتل مسلم بغير حق). وفي رواية: (إلا بثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه). أي: الذي ارتد عن دينه. والعلمانيون يوردون على هذا الحديث شبهاً ويقولون: إذا كان قوله عليه الصلاة والسلام: (من بدل دينه فاقتلوه) فإن النصراني إذا أسلم فقد بدل دينه، وإن اليهودي إذا أسلم فقد بدل دينه، حتى وإن كان هذا التبديل إلى الإيمان والتوحيد، فيجب قتله حينئذ. والرد على هذه الشبهة وإن كانت لا تحتاج إلى رد؛ لأن هذا من كيس العلمانيين والملاحدة، الرد عليهم أن نقول: إن الدين عند الله الإسلام، فكل من كان على دين غير دين الإسلام فهو على دين الكفر عياذاً بالله، وإنما مهمة الأنبياء والرسل إخراج الناس من الكفر إلى الإيمان، فلما كان عيسى عليه السلام، أو موسى عليه السلام، أو نوح عليه السلام، أو غيرهم من الأنبياء في أزمانهم وجب على الناس اتباع كل نبي أرسل فيهم، فحينئذ لا يحل لهم تبديل ديانتهم مع وجود أنبيائهم أو مع عدم إرسال رسول آخر غيره. أما وقد أرسل الله نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في العالمين فوجب على كل صاحب رسالة وشريعة ومتبع لنبي سابق أن يترك ذلك كله، وأن يكون تابعاً لنبينا عليه الصلاة والسلام، فمدار الأمر كله على ترك كل ديانة أو شريعة سبقت، واتباع شريعة محمد عليه الصلاة والسلام، فيكون قوله: (من بدل دينه) أي: من بدل إسلامه وإيمانه بمحمد عليه الصلاة والسلام فإنما هو مرتد وقد استوجب القتل بهذه الردة، والخطاب موجه إلى أصحابه بالدرجة الأولى، وهو عام للأمة إلى قيام الساعة. والمعنى: يا معشر الصحابة! من بدل دين الإسلام بعد أن دخل فيه فإنما حده القتل، وهو ضربة بالسيف.

شرح حديث أنس بن مالك في قصة العرنيين

شرح حديث أنس بن مالك في قصة العرنيين قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يحيى بن يحيى التميمي وأبو بكر بن أبي شيبة كلاهما عن هشيم -وهو ابن بشير بن القاسم السلمي أبو معاوية الواسطي - واللفظ لـ يحيى ومعناه لـ أبي بكر بن أبي شيبة قال هشيم: أخبرنا أو عن عبد العزيز بن صهيب -وهو البناني البصري - وحميد -وهو ابن أبي حميد الطويل - عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن ناساً من عرينة)] وعرينة وعكل، وبجيلة، أسماء قبائل في البحرين. [(قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فاجتووها)]. أي: أصابهم بها داء يسمى داء الجوى، وهو داء يغير لون الجلد، والوجه، ويجعل البطن منتفخة. قال الأطباء: الجوى داء يصيب الجوف، يؤثر على الجلد، ويؤثر على لون الوجه. ومنهم من قال: الجوى داء يصيب الصدر، والأمر قريب بين الجوف والصدر. [فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن شئتم أن تخرجوا إلى إبل الصدقة فتشربوا من ألبانها وأبوالها)]. أي: فافعلوا. وإبل الصدقة كانت على مشارف المدينة أو على مداخل المدينة. والنبي عليه الصلاة والسلام أمرهم أن يشربوا من ألبان وأبوال إبل الصدقة، وربما يقول قائل: وهل هذا جائز أن يشرب الناس من أبوال وألبان الإبل، أو أن يأكلوا، ويشربوا من عموم أموال الصدقة؟ A أن ذلك جائز، خاصة إذا كانوا فقراء كهؤلاء الذين أتوا من عرينة وعكل، فالنبي عليه الصلاة والسلام إنما أذن لهم باعتبارهم فقراء، وباعتبارهم أبناء سبيل. وإبل الصدقة كان يقوم عليها مولىً لرسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه يسار، ولما رأى رسول الله من صلاحه، وحسن صلاته ما رأى أعتقه وجعله على إبل الصدقة، وكان مع إبل الصدقة العامة للمسلمين إبلاً أخرى للنبي عليه الصلاة والسلام. أي: هذه الإبل كان معظمها إبل الصدقة، وهذا لا يمنع أن يكون فيها بعض الإبل للنبي عليه الصلاة والسلام. قال: [(ففعلوا)] أي: ذهبوا إلى هناك، فشربوا من ألبانها وأبوالها. وهذا دليل للقائل أن بول وسؤر ما يؤكل لحمه طاهران. وهذا أمر محل نزاع بين أهل العلم. فمنهم من قال أنه طاهر. ومنهم من قال أنه نجس. فمن قال: إن بول ما يؤكل لحمه طاهر فلا إشكال عنده حينئذ أن يتداوى به. وأما من قال: إن بول ما يؤكل لحمه نجس فيجعل هذا حادثة عين خاصة للمرض وللتطبيب، وهذا أمر جائز عند جمهور أهل العلم، أنه يجوز التداوي بالنجاسات أو بالنجس ما لم يكن خمراً، ومعظم الأدوية التي يتعاطاها الناس الآن الله أعلم بحالها ففيها من النجاسات والأخباث والأجناس ما فيها، ومع هذا يتعاطاها الناس الآن بغير نتيجة. قال: [(ففعلوا فصحوا)]. أي: فبرءوا من علتهم ودائهم؛ لما شربوا أبوال وألبان الإبل. [(ثم مالوا على الرعاة فقتلوهم)] أي: ثم قاموا على يسار ومن معه من الرعاة فقتلوهم وارتدوا عن الإسلام. لا بد أن تعرف جناية القوم: أولاً: لما صحوا وبرءوا من علتهم قاموا على الرعاة فقتلوهم، وارتدوا عن الإسلام، وفي رواية: [(فلما صحوا ارتدوا وقتلوا الرعاة، وجعلوا الشوك في أعينهم)]. يعني: بعد أن قتلوا الرعاة، غرزوا العيدان -الشوك- في أعين الرعاة، وهذا ما يسمى بالتسمير، أو التسميل. قال: [(وساقوا ذود رسول الله صلى الله عليه وسل)]. أي: ساقوا الإبل التي شربوا ألبانها وأبوالها أمامهم في انطلاقهم إلى بلادهم. أي: إلى البحرين. وجنايتهم: أنهم ارتدوا عن الإسلام، وقتلوا الرعاة، وسملوا أو سمروا أعينهم، وسرقوا الإبل، فهذه جنايات متعددة. [(فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث في إثرهم)] أي: أرسل قوماً من الأنصار في طريق هؤلاء ليدركوهم ويأتون بهم إلى النبي عليه الصلاة والسلام. قال: [(فأتي بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم)] ابتداءً قطع أيديهم وأرجلهم [(من خلاف، وسمل أعينهم، وتركهم في الحرة حتى ماتوا)] والحرة: اسم مكان لجبل حجارته سوداء حامية. ومعنى (من خلاف) أي: يقطع القدم اليمنى مع اليد اليسرى، واليد اليمنى مع القدم اليسرى. ومعنى سمل أعينهم: أي: فقأها، وأذهب ما فيها. مثلما نقول: سخت عينه.

شرح حديث أبي قلابة في قصة العرنيين

شرح حديث أبي قلابة في قصة العرنيين [حدثنا أبو جعفر -وهو الدولابي البزاز البغدادي ثقة حافظ اسمه محمد بن الصباح - وأبو بكر بن أبي شيبة واللفظ لـ أبي بكر قال: حدثنا ابن علية - إسماعيل - عن حجاج بن أبي عثمان -وهو أبو الصلت البصري - قال: حدثني أبو رجاء مولى أبي قلابة -واسمه سلمان، ليس له في الصحيحين حديث إلا هذا الحديث- عن أبي قلابة -وهو عبد الله بن زيد الجرمي البصري - قال: حدثني أنس: (أن نفراً من عكل)]. والحديث الأول أنهم كانوا من (عرينة)، وهنا أنهم من (عكل) وفي رواية (من بجيلة)، ووجه الجمع أن هذه كلها قبائل من البحرين انتدبت أناساً منهم فاجتمعوا جميعاً فأتوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام. قال: [(أن نفراً من عكل ثمانية قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعوه على الإسلام)] في هذه الرواية إثبات أنهم أسلموا. وفي الحديث الأول إثبات أنهم ارتدوا. قال: [(فاستوخموا الأرض وسقمت أجسامهم)]. استوخموا أي: أصابهم الوخم، وهو داء يصيب البدن يجعل الإنسان كالتالف لا يقدر أن يقوم من مقامه، فهو إنسان كسول، ويحس بالفتور والخمول، والوخم، لا يستطيع أن يزاول عمله، ولا أن يعود إلى نشاطه، وهذا داء يصيب الإنسان إذا غير أرضاً إلى أرض، أو مكاناً إلى مكان، أو جواً إلى جو، ولذلك نحن في تغير الفصول يكون الشخص يشعر بالكسل، وهو تالف، وجسمه مكسر، وغير ذلك؛ لأن هذا انتقال من فصل الشتاء إلى فصل الصيف، فالمدينة ومكة بالذات هما البلدان اللذان يحس الداخل فيهما لأول مرة بهذا الداء، فيشعر بالوخم، وأنه غير قادر على المشي، ولا على الحركة والنشاط. ومعنى: وسقمت أجسامهم. أي: مرضت واعتلت. [(فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: ألا تخرجون مع راعينا في إبله فتصيبون من أبوالها وألبانها؟ فقالوا: بلى يا رسول الله! فخرجوا فشربوا من أبوالها وألبانها فصحوا)] أي: زالت علتهم ووخمهم [(فقتلوا الراعي، وطردوا الإبل)]. وفي رواية: (وأطردوا النعم). أي: ساقوها أمامهم في طريق عودتهم إلى بلادهم. [(فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث في آثارهم)] أي: خلفهم على نفس الطريق الذي صاروا فيه. [(فأدركوا، فجيء بهم، فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم، وسمر أعينهم، ثم نبذوا في الشمس حتى ماتوا)]. قال ابن الصباح في روايته: (وأطردوا النعم) أي: ساقوها أمامهم. وقال: (وسمرت أعينهم) أي: دكت بالمسامير المحمية، وهذا الذي يعرف في الشرع بالمثلة. والتمثيل بجثة الإنسان: أن يجدع أنفه، أو تقطع أذنه، أو يقطع له أي عضو، أو تسمل أو تسمر عينه بالمسامير والشوك وغير ذلك. ومعلوم أن (النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن المثلة)، ومع هذا قد مثل بهؤلاء؟ وجواب ذلك: إما أن يكون مثل عليه الصلاة والسلام قبل النهي، ومذهب الجماهير أن النهي عن التمثيل إنما هو نهي تنزيه وكراهة، وليس نهي حرمة. وبعضهم قال: إنما فعل النبي عليه الصلاة والسلام بهؤلاء كما فعلوا قصاصاً. وهو الراجح. والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا يحرق بالنار إلا رب النار). وهذا نهي شديد وزجر أكيد عن الحرق والإيذاء بالنار، لكن لو أن واحداً أحرق غيره بالنار، فيجوز حرق هذا الحارق بالنار قصاصاً. أي: يستثنى من النهي القصاص؛ لأن هذا خالف النهي، وارتكب الإثم، فأحرق غيره بالنار، فالقصاص يستوجب أن من قتل يقتل بالكيفية التي قتل بها. قال: [حدثنا هارون بن عبد الله، حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد عن أيوب -وهو ابن أبي تميمة السختياني - عن أبي رجاء سلمان مولى أبي قلابة قال: قال أبو قلابة: حدثنا أنس بن مالك قال: (قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم من عكل أو عرينة فاجتووا، فأمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بلقاح)]. واللقاح هي الناقة ذات الدر، الناقة التي تحلب [(وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها) وذكر الحديث بمعنى حديث حجاج بن أبي عثمان السابق. قال: (وسمرت أعينهم، وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون)]. وقوله: (يستسقون فلا يسقون) ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بألا يستجيب أحد لسقايتهم، كما أنه ليس فيه أنه نهى عن سقيهم. (قال القاضي عياض: وقد أجمع المسلمون على أن من وجب عليه القتل فاستسقى لا يمنع الماء قصداً -أي: لا يتعمد أحد منع الماء عنه- فيجمع عليه عذابين: عذاب القتل، وعذاب منع السقاية). قلت: قد ذكر

شرح حديث أبي قلابة وعنبسة في قصة العرنيين

شرح حديث أبي قلابة وعنبسة في قصة العرنيين قال: [وحدثنا محمد بن المثنى - العنزي البصري - حدثنا معاذ العنبري، (ح) وحدثنا أحمد بن عثمان النوفلي، حدثنا أزهر بن سعد السمان - أبو بكر الباهلي البصري - قال: حدثنا ابن عون، حدثنا أبو رجاء مولى أبي قلابة عن أبي قلابة قال: كنت جالساً خلف عمر بن عبد العزيز فقال للناس: ما تقولون في القسامة؟ فقال عنبسة: قد حدثنا أنس بن مالك كذا وكذا. فقلت: إياي حدث أنس -يعني: وأنا كذلك حدثني أنس - قدم على رسول الله قوم. وساق الحديث بنحو حديث أيوب وحجاج. قال أبو قلابة: فلما فرغت قال عنبسة: سبحان الله! قال أبو قلابة: أتتهمني يا عنبسة؟ قال: لا. هكذا حدثنا أنس بن مالك: لن تزالوا بخير يا أهل الشام ما دام فيكم هذا أو مثل هذا. وحدثنا الحسن بن أبي شعيب الحراني، حدثنا مسكين -وهو ابن بكير الحراني - أخبرنا الأوزاعي -إمام الشام الجبل الأشم العظيم-. (ح) وحدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي أخبرنا محمد بن يوسف عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي قلابة عن أنس قال: (قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية نفر من عكل، بنحو حديثهم السابق وزاد في الحديث: ولم يحسمه)]. والحسم هو الكي، وهو في حد الحرابة، وحد السرقة، وغيرها إذا قطعت الأيدي، أو الأيدي والأرجل من خلاف، كان من عادة أهل الإسلام الأوائل أنهم إذا أقاموا الحد لقطع اليد كانوا يربطونها من بعد القطع أو من قبل القطع، إذا قطعت اليد من الرسغ ربطوها من قبل القطع مباشرة وكووها في الزيت، أو في الماء الساخن المغلي، حتى تلتحم العروق ولا ينزف الدم كله، حتى لا يموت المحدود. والنبي عليه الصلاة والسلام لم يحسمهم، أي: لم يكو جروحهم، بل وتركهم ينزفون في الحرة تحت حرارة الشمس حتى ماتوا.

شرح طرق وروايات أخرى لحديث أنس في قصة العرنيين

شرح طرق وروايات أخرى لحديث أنس في قصة العرنيين قال: [وحدثنا هارون بن عبد الله قال: حدثنا مالك بن إسماعيل، حدثنا زهير حدثنا سماك بن حرب عن معاوية بن قرة عن أنس رضي الله عنه قال: (أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر من عرينة فأسلموا وبايعوه، وقد وقع في المدينة الموم)] وهو البرسام، وهو اسم فارسي معرب وهو نوع من اختلال العقل، ويطلق على ورم الرأس وورم الصدر، وهو يشبه سرطان المخ، أو شيء من هذا. قال: [ثم ذكر نحو حديثهم وزاد: (وعنده شباب من الأنصار قريب من عشرين)] أي: النبي عليه الصلاة والسلام لما سمع بما فعل هؤلاء بالرعاة وبالإبل التفت إلى من بجواره فوجدهم قرابة عشرين شاباً من الأنصار. [(فأرسلهم إليهم وبعث معهم قائفاً يقتص أثرهم)] والقائف: هو من ألحق الشبه بشبهه، والمثيل بمثيله، والأثر بالمؤثر، فهو الذي يعرف الأشباه والنظائر. أما علمتم حديث النبي عليه الصلاة والسلام في أمر زيد بن حارثة وولده أسامة، وكان زيد أبيض وأسامة أسود أو العكس على ما أذكر، وكانت العرب تقول: إن أسامة ليس أبناً لـ زيد، فقد كانوا يرمون أمه بالزنا رضي الله عنها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتأذى بكلام العرب، أو بغمز بعض المسلمين في هذا الأمر، فجاء أعرابي قائف إلى بيت النبي عليه الصلاة والسلام وعنده زيد وأسامة نائمان قد بدت أرجلهما -يعني: هو لا يعرف لا أسامة ولا يعرف زيداً فضلاً أنهما نائمان ومغطيان ولم يبد منهما إلا أطراف الأقدام- فقال الرجل لنبي الله عليه الصلاة والسلام: يا رسول الله! إن هذه الأقدام بعضها من بعض. يعني: هذا أبو ذاك أو ذاك ولد هذا. ففرح بذلك النبي عليه الصلاة والسلام وقال لـ عائشة (أما سمعت ما قال الرجل في زيد وابنه أسامة إن هذه الأقدام بعضها من بعض). فالقائف هو الذي يعرف الآثار في الصحراء، ويفرق بين أثر قدم الشاة والغنم مع أنهما متحدتان، لكنه إذا نظر في الأثر عرف أنها شاة، أو معز أو خف بعير. أنتم تعلمون أن قريشاً ما تتبعت أثر خروج النبي عليه الصلاة والسلام هو وأبو بكر لما خرج إلى غار ثور إلا بآثار البعيران اللذان رباهما أبو بكر رضي الله عنه في هذه الرحلة. قال: (وبعث معهم قائفاً يقتص أثرهم)، فالقائف مهمته هي معرفة الطريق الذي صاروا فيه. قال: [حدثنا هداب بن خالد، حدثنا همام -وهو ابن يحيى بن دينار - قال: حدثنا قتادة عن أنس. (ح) وحدثنا ابن المثنى -وهو محمد - حدثنا عبد الأعلى، حدثنا سعيد عن قتادة -وسعيد الذي يروي عن قتادة هو سعيد بن أبي العروبة - عن أنس وفي حديث همام: قدم على النبي صلى الله عليه وسلم رهط من عرينة. وفي حديث سعيد: من عكل وعرينة، بنحو حديثهم. وحدثني الفضل بن سهل الأعرج حدثنا يحيى بن غيلان حدثنا يزيد بن زريع عن سليمان بن طرخان التيمي عن أنس قال: (إنما سمل النبي صلى الله عليه وسلم أعين أولئك؛ لأنهم سملوا أعين الرعاء)]. أي: الجزاء من جنس العمل، مع أنه نهى عن المثلة؛ فإنه سمل أعين الرعاة قصاصاً.

كلام الإمام النووي في أحاديث باب حكم المحاربين والمرتدين

كلام الإمام النووي في أحاديث باب حكم المحاربين والمرتدين الإمام النووي قال في حديث العرنيين: (فيه حديث العرنيين أنهم قدموا المدينة وأسلموا واستوخموها، وسقمت أجسامهم، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج إلى إبل الصدقة -يشربوا من أبوالها وألبانها- فخرجوا فصحوا، فقتلوا الراعي، وارتدوا عن الإسلام.

حكم قتل الجماعة بالواحد

حكم قتل الجماعة بالواحد معلوم أن القاتل رجل واحد، ولو تمالأ أهل بلد على قتل واحد قتلوا به جميعاً، وهذه مسألة محل نزاع بين الفقهاء، لو أن قوماً اجتمعوا على قتل واحد، هل يقتلون جميعاً به؟ أما يقتل به الذي باشر القتل وحده؟ فلو اتفق واجتمع العدد الكثير على قتل واحد قتلوا به جميعاً. وهذه مسألة معروفة في الحدود، أما إذا قتل الجماعة الواحد أو الواحد الجماعة، فسيأتي معنا بإذن الله في الحدود. فسواء كان هو يسار الراعي، أو كان معه رعاة آخرون، فالحكم سواء؛ لأن الجماعة لو تمالأت واتفقت واجتمعت على قتل الواحد قتلوا به جميعاً حتى وإن لم يباشر القتل إلا البعض، أو واحداً منهم. قال: (وارتدوا عن الإسلام، وساقوا الذود، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم، وتركهم في الحرة يستسقون فلا يسقون، حتى ماتوا جميعاً).

بيان حد الحرابة

بيان حد الحرابة قال: (هذا الحديث أصل في عقوبة المحاربين، وهو موافق لقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة:33]). ذكر لهم أربع عقوبات، {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة:33 - 34] أي: الجماعة هؤلاء الذين تابوا وجاءوا إلى المصر، ودخلوا على السلطان أو الوالي، أو الأمير، أو الحاكم، وقالوا: نحن قطاع الطريق، نحن محاربون، ولكننا تبنا إلى الله عز وجل وأتينا إليكم على حال توبتنا، {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:34] يعني: لا سبيل لكم عليهم. وهذا الحديث، وهاتان الآيتان إنما يحكمان في الحدود ما يسمى بحد الحرابة، وسمي بذلك؛ لأن الله صدر الأمر بذكر أوصافهم، فقال: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ} [المائدة:33]، فسمي هذا الحد حد الحرابة، وحد الحرابة القتل، أو تقطيع الأيدي والأرجل، أو النفي من الأرض، أو الصلب، حتى يموتوا صبراً.

خلاف العلماء في المراد بقوله تعالى: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله)

خلاف العلماء في المراد بقوله تعالى: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله) قال: (واختلف العلماء في المراد بهذه الآية الكريمة). فمنهم من قال: نزلت في قوم مشركين. ومنهم من قال: بل نزلت عتاباً للنبي عليه الصلاة والسلام أنه سمل أعينهم، وليس هذا براجح، إنما الراجح أن هذه الآية وإن نزلت قبل هذه الحادثة إلا أنها صالحة للعمل إلى قيام الساعة، فهي من باب عموم اللفظ، والأصل الأصيل: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهذه الآية محكمة وليست منسوخة، وعليها العمل، وقد عمل بها السلف، خاصة الصحابة، والخلفاء الراشدون، وكلهم يقولون: هذه الآية عامة. وفيما يتعلق بسبب نزولها أو ببقائها فهي غير منسوخة أي: محكمة إلى قيام الساعة. قال: (واختلف العلماء في المراد بهذه الآية، فقال مالك: هي على التخيير). يعني لو جيء بالمحارب إلى السلطان فهو مخير بين أن يقتل، أو يصلب، أو يقطع، أو ينفي من الأرض، لأن الآية ذكرت التخيير: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة:33] فـ (أو) عند مالك وغيره أنها للتخيير، فيخير الإمام بين هذه الأمور، إلا أن يكون المحارب قد قتل فيتحتم على الإمام قتل هذا المحارب. (وقال أبو حنيفة وأبو مصعب المالكي: الإمام بالخيار وأن قتلوا). وهذا رأي ضعيف جداً. (وقال الشافعي وآخرون: هي على التقسيم). وهو الراجح وهو مذهب الجماهير وعلى رأسهم الإمام الشافعي: أن العقوبة على التقسيم لا على التخيير. (فإن قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا). والمحارب هو شخص شرد عن الجماعة واتخذ له طريقاً غير مسلوكة، بعيداً عن البلد، وتسلح استعداداً لقتال وحرب كل من مر به وأخذ متاعه حتى وإن أدى ذلك إلى قتله وإزهاق روحه، فإذا تصرف قوم على هذا النحو واجتمعوا، وقاموا على الإمام، أي: يحاربون أهل البلد، ويحاربون الإمام، وجب على الإمام أن يقاتلهم وإن قتلهم جميعاً، وإن لم يكونوا قد ارتدوا؛ لأن المحارب ليس مرتداً، أما النفر من عرينة وعكل فهؤلاء قتلوا ردة؛ لأنهم ارتدوا عن الإسلام، لكن حديث عكل وعرينة موافق للآية فيما يتعلق بأحكام المحاربين. أما المحاربون المسلمون إن قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا قصاصاً، وإن قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا، فالقتل من القتل، والصلب لأخذ المال، فإن أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، بأن تقطع يده اليمنى مع الرجل اليسرى، والعكس بالعكس. قال: (فإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا شيئاً ولم يقتلوا طلبوا حتى يعزروا -أي: ينفوا من الأرض- وهو المراد بالنفي عند الشافعية). (قال: قال أصحابنا -أي الشافعية- لأن ضرر هذه الأفعال مختلف فكانت عقوباتها مختلفة). أي: لأن ضرر الحرابة مختلف؛ فالضرر منه القتل، ومنه أخذ المال وغير ذلك فتنوعت كذلك العقوبة لتنوع الضرر. فهذه حجة الشافعية. قال: (لما نوع الله تعالى العقوبة دل ذلك على تنوع الضرر، فناسب أن يكون لكل ضرر عقوبة). فقول الشافعية هو أرجح الأقوال وهو: إن قتلوا فقط قتلوا، وإن قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا، وإن أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإن أخافوا السبيل ولم يأخذوا شيئاً ينفوا من الأرض. قال: (ولم تكن (أو) لتخيير، وتثبت أحكام الحرابة في الصحراء). وهذا بخلاف القرية أو المصر أو المدينة، ولذلك العلماء يقولون: شرط الحرابة أن تتم خارج المصر لا في داخل المصر.

مسألة: هل تثبت الحرابة في المصر؟

مسألة: هل تثبت الحرابة في المصر؟ قال: (وهل تثبت في الأمصار؟) فيه خلاف بين أهل العلم، والراجح أنها لا تثبت في المصر، إنما تثبت في الصحراء. قال أبو حنيفة: لا تثبت الحرابة في المصر إنما تثبت في الصحراء، وقال مالك والشافعي: تثبت كذلك في الأمصار. قال القاضي عياض رضي الله عنه ورحمه: اختلف العلماء في معنى حديث العرنيين. قال بعض السلف: كان هذا قبل نزول الحدود، وآية المحاربة، والنهي عن المثلة، فهو منسوخ. وقيل: ليس منسوخاً. وفيهم نزلت آية المحاربة، وإنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بهم ما فعل قصاصاً؛ لأنهم فعلوا بالرعاة مثل ذلك، وقد رواه مسلم في بعض طرقه، فرواه ابن إسحاق وموسى بن عقبة، وأهل السير، والترمذي، وقال بعضهم: النهي عن المثلة نهي تنزيه ليس بحرام). من الناس من يأخذ حديثاً سمعه بطريق مستقيم فيجعله من حديث أناس آخرين. يعني: لو أن محمداً يروي عن عمرو وزيد بإسناد عمرو وبإسناد زيد فإنه يأخذ حديثه الذي سمعه من زيد فيجعله من طريق عمرو؛ لأنه يعرف أن طريق زيد ضعيف، فهو يسرق الحديث من طريق زيد ويقول: حدثني عمرو، وليس هذا الحديث من طريق عمرو وإنما هو من طريق زيد، فتحويل الحديث من طريق إلى طريق عمداً هو سرقة الحديث، وهو شر أنواع التدليس, وهو فوق التدليس بكثير. نكتفي بهذا القدر، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

الأسئلة

الأسئلة

الرد على شبهة هدم الأصنام في أفغانستان

الرد على شبهة هدم الأصنام في أفغانستان Q هناك شبهة في أمر هدم الأصنام التي يفعلها إخواننا في أفغانستان وهي: (لماذا لم يهدم الصحابة عند دخول مصر أبا الهول؟) وجزاكم الله خيراً. A هم يقولون القطعة التي ذهبت من أنف أبي الهول إنما هي بسبب فعل الحملة الفرنسية لما دخلت مصر، أرادت أن تتخلص من الأصنام؛ لأن هذا شرك. هم يقولون في التاريخ المزور: إن الحملة الفرنسية لم تأت إلا لتكتشف حجر رشيد، وهذا تزوير في وجه التاريخ، والمعلومة التي يجب أن تعرفها تماماً: هي أن الفرنسيين نصارى، ربما يقدسون أبا الهول، ويعتبرونه إلهاً معبوداً. فهل يتصور أن يقوموا عليه ويجدعوا أنفه، أو يكسروه، أو يدفنوه؟ إن الذي فعل ذلك هم أوائل المسلمين لما دخلوا مصر، تعرضوا لهدم الأهرامات كما تعرضوا لتكسير وتحطيم أبي الهول، لكن هذه المحاولات لم تتم. تصور أن هذه القطعة من الحجارة التي كسرت كانت بعد محاولات استمرت ثلاثة أشهر، فكيف بتحطيم أبي الهول كله؟ بل كيف بتحطيم الأهرامات كلها؟ فهذا أمر بلا شك يذهب الغالي والنفيس في دولة في طور تكوينها، فأيهما أولى: ترك ذلك وبناء الدولة؟ أما تخريب الدولة من الداخل بإنفاق اقتصادها وأموالها في تكسير حجر، ليس معبوداً في ذلك الوقت؟ بلا شك أن المصالح والمفاسد تقول: بناء الدولة مقدم. الرد الثاني: أن عمرو بن العاص رضي الله عنه لما نزل مصر، كان موطنه في الفسطاط -أي: مصر القديمة- ولم يكن هناك بلد تسمى الجيزة، وكانت من الفسطاط إلى الأهرامات صحراء قاحلة لا زرع فيها ولا ماء، فـ عمرو بن العاص رضي الله عنه اعتبر أن بعد الأهرامات وبعد أبي الهول وعدم اكتراث واهتمام الناس بزيارة هذه الأماكن أمر يشرع معه تأخير تكسير مثل هذه الأصنام، ولذلك هل ثبت أن صنماً من الأصنام كان في المدينة وتركه عمرو؟ هل كان هناك صنم في البنيان والعمران وتركه عمرو بن العاص ومن معه من المسلمين؟ فهذا رد عن الشبهة في تكسير الأصنام في مصر. أما حكم ما يفعله إخواننا هناك في هذا المعبود المزيف، فهو أمر مشروع اتفاقاً، ومن نطح في ذلك فإنما ينطح فيه بهوى أو خوف، وإن كان توقيت ذلك عندي فيه نظر، لكن هذا النظر يدفعه أن هؤلاء ممكنون في أفغانستان فلم التأخير إذاً؟ وهذا الصنم إنما يعبد من دون الله عز وجل، ولذلك أرى من الحكمة أنهم هدموا هذا الصنم ولم يهدموا القباب والقبور مع أنها تعبد من دون الله هناك. وحجتهم في ذلك: أن القباب تحتاج إلى فترة لتعليم الناس؛ لأنهم درجوا على الصلاة في هذه المساجد التي بها قبور، أما (بوذا) فإنه يعبد من بعض أهل البلد، ومن القادم من الخارج خصيصاً؛ لأنه عندهم إله. أما المقبورون فإنهم لا يمثلوا هذه الدرجة عند من اتخذهم، أو توسل بهم، أو غير ذلك وإن كانت كل هذه مظاهر من مظاهر الشرك. تصور لو أنك في بيتك وقد اتخذ ولدك حجراً يعبده من دون الله عز وجل فإنك ممكَّن حينئذ من تكسير هذا الإله. ولو أنك تخلفت عن هذا ولم تفعل أثمت بذلك، لأنك ممكن، فهؤلاء رأوا أنهم ظاهرون ممكنون، وأنهم أصحاب نجدة. وقد اتخذ القوم إلهاً في بلدهم يعبد من دون الله عز وجل، فلما علموا ذلك من أنفسهم قاموا فاقتلعوا هذا الإله من جذوره، ودمروه تدميراً، فجزاهم الله تبارك وتعالى على ما صنعوا خيراً. أما الشبهة أن هذا أمر يعطي صورة سيئة عن الإسلام للعالم كله، فهذا كلام لا يقوله إلا الملاحدة أو الجهلة من المسلمين؛ لأن الشريعة لو طبقت في العالم كله إلا في بلاد أوروبا وأمريكا وكسر وهشم بوذا لكانت نفس الشبهة باقية وقائمة، تردد حتى على ألسنة بعض المتدينين في مصر بلد الإسلام، وبلد الأزهر. ونرد عليهم بأن النبي عليه الصلاة والسلام لما رجع إلى مكة فاتحاً كسر الأصنام؛ لأنه قادر ممكن، ولأن الدولة صارت دولة إسلامية، والبلد فتح فما الحجة في تأخير تكسير ثلاثمائة وستين صنماً حول الكعبة تعبد من دون الله عز وجل؟ فقد كسرها النبي عليه الصلاة والسلام وهو يتلو قول الله عز وجل: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]. أي: ضعيف لا أوتاد له، ولا أساس له. فلماذا لم يقل المشركون الذين لم يدخلوا في الإسلام بعد في ذلك الوقت: إن فعل محمد وأصحابه بهذه الأصنام يعطي صورة سيئة عن الإسلام، وعن الدين الجديد؟ فمرد هذه الشبهة إلى العلمانيين والملاحدة في هذا البلد، أو في غيره من البلدان. أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد.

كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات - الصائل على نفس الإنسان أو عضوه إذا دفعه المصول عليه لا ضمان عليه

شرح صحيح مسلم - كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات - الصائل على نفس الإنسان أو عضوه إذا دفعه المصول عليه لا ضمان عليه الصائل هو الظالم الباغي المعتدي، ومن اعتدي عليه فله أن يدفع المعتدي بما يندفع به تدرجاً، وإن لم يندفع إلا بتلف عضو من أعضائه أو قتله فهو هدر لا ضمان عليه ولا دية ولا قصاص، والضمان والدية والقصاص لا تكون إلا عند المبالغة في دفع الصائل بما يمكن أن يندفع بما هو دونه يقيناً.

باب الصائل على نفس الإنسان أو عضوه إذا دفعه المصول عليه فأتلف نفسه أو عضوه لا ضمان عليه

باب الصائل على نفس الإنسان أو عضوه إذا دفعه المصول عليه فأتلف نفسه أو عضوه لا ضمان عليه الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أما بعد: فمع الباب الرابع من كتاب القسامة: (باب الصائل على نفس الإنسان أو عضوه إذا دفعه المصول عليه فأتلف نفسه أو عضوه لا ضمان عليه). أي: دفع الظالم أو الباغي المعتدي بغير حق على الآخرين، وهو المعروف بالصائل؛ لأن الصائل هو الظالم. ولو أن واحداً اعتدى عليك في نفسك، أو مالك، أو عرضك، فدفعته فمات من هذه الدفعة، أو أتلفت عضواً من أعضائه، فهل تضمن أنت هذا التلف؟ هذا التلف إما أن يكون حدث في النفس. بمعنى: أنك لو دفعته قتل من هذه الدفعة. أو مات من هذه الدفعة، أو كان لا يمكن دفعه إلا بالقتل؛ لأن العلماء مجمعون على أن الصائل لا يدفع بأكثر من الوسيلة المطلوبة في دفعه، فلو أن واحداً اعتدى عليك فدفعته بيدك فاندفع فلا يجوز دفعه بالسوط، وإذا كان يمكن دفعه بالسوط فدفعته بعصا فهذا لا يشرع لك ولا يحل، وإذا كان يمكن الفرار منه بعدم الإتلاف أو بعدم تمكنه من الظلم بأن هربت منه فلا يجوز لك أن تتعرض له؛ لأنك لو عرضت نفسك له فإنما أوقعت نفسك في التهلكة. فالشاهد من هذا: أن الإسلام يدعو إلى الحفاظ على النفس، والعرض، والمال بأي وسيلة مشروعة متاحة كانت، فلو أن ظالماً أو معتدياً أو صائلاً سطا أو ظلم وبغى على النفس أو المال أو العرض فيجب دفعه بالوسيلة المتاحة التي يمكن بها دفعه، نبدأ بالأقل، ثم الأكثر، ثم الزيادة، ولا يمكن قط أن يأذن الشرع لمن وقع عليه الضرر -أي: للمصول عليه- أن يدفع الصائل بوسيلة هي أعظم من مجرد جرم هذا الصائل، فلو أن واحداً سطا عليك في بيتك في الليل أو في النهار فكان يمكن أن يدفع هذا الصائل بمجرد التخويف فلا يجوز دفعه بالضرب، وإذا كان لا يندفع إلا بالضرب فلا يجوز القتل وغير ذلك. أما أن يفكر المصول عليه في قتل الصائل أولاً وابتداءً فهذا يجب عليه أن يضمن ما أتلف، سواء أتلف النفس، أو المال، أو أتلف عضواً من أعضائه فإنما لا يضمنه إذا كان لا يمكن الدفع إلا بالقتل، أو ليس بين يدي المصول عليه إلا وسيلة يقتل بها، أو غلب على ظن المصول عليه أنه لا يمكن دفع هذا إلا بالقتل أو الجرح، أو قطع عضو من أعضاء الصائل فإنه حينئذ لا ضمان عليه، لأن هذا الصائل لا يدفع إلا بهذه الوسيلة، وهي المتاحة، ولذلك بوب النووي هنا وقال: (باب الصائل على نفس الإنسان أو عضوه). فلو أن شخصاً شهر سيفه وغلب على ظنك أنه لا بد أن يقتلك فلا شك حينئذ أنك لو قتلته فإن قتله غير مضمون عليك. بمعنى: أنك لا تكلف به قصاصاً، ولا دية، لأنه لا يمكن والحالة هذه دفعه إلا بالقتل، إما إذا كان بإمكانك أن تدفعه بغير القتل وهذا معلوم من ظروف وملابسات الواقعة؛ فإنك تضمنه إذا أتلفت روحه. وكذلك لو قال لك إنسان: مد إلي يدك لأقطع كفك، لا سبيل لك إلا ذلك، فابتدرته لما علمت أنه فاعل ما يهدد به فقطعت يده التي يهدد بها؛ فإن لم يمكنك قطع يده إلا أن تقطع رقبته فلا حرج عليك حينئذ ولا تضمن. أما إذا صال عليك صائل، وبغى عليك ظالم ثم بمجرد التهديد أو التخويف أو علمه أنك في البيت، بأن سمع صوتك، أو أنك تنحنحت، أو تكلمت، فعلم أن في البيت رجل يكف عن هذه الصيالة فحينئذ اندفع وهرب فلا يجوز لك أن تعدو خلفه فتقتله؛ فإن قتلته فأنت ضامن، لأنه اندفع بأقل من ذلك، واندفع بالفعل، فلم تعديت أنت حد الصيالة حينئذ؟! وهكذا يقول الإمام النووي: (باب الصائل على نفس الإنسان أو عضوه) ولو أن ظالماً ظلمك في نفسك أو في أحد أعضائك إذا دفعه المصول عليه فأتلف نفسه أو عضوه لا ضمان عليه.

شرح حديث: (أيعض أحدكم كما يعض الفحل لا دية له)

شرح حديث: (أيعض أحدكم كما يعض الفحل لا دية له) قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار قالا: حدثنا محمد بن جعفر -وهو المعروف بـ غندر - حدثنا شعبة عن قتادة عن زرارة وهو ابن أوفى عن عمران بن حصين قال: قاتل يعلى بن منية أو ابن أمية رجلاً]. منية هي أم يعلى، وأمية هو أبو يعلى، فيصح أن يقال فلان بن فلانة، أو فلان بن فلان، أما في الآخرة فإنه لا يدعى إلا فلان بن فلان باسم أبيه. وما ورد عند الطبراني وغيره: (أن المرء في يوم القيامة ينادى باسم أمه) فهذا غير صحيح، بل هو حديث باطل. قال: [(قاتل يعلى بن منية أو ابن أمية رجلاً فعض أحدهما صاحبه، فانتزع يده من فمه فنزع ثنيته)]. أي: فانكسرت أسنان العاض. وقال ابن المثنى: ثنيتيه. [فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أيعض أحدكم كما يعض الفحل؟! لا دية له)]. مع أن الله تعالى يقول: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة:45]. وهذا الذي نزع يده من فم العاض إنما أسقط ثنيتيه، ومع هذا لم يحكم النبي عليه الصلاة والسلام بالقصاص، ولا بالدية، لأن الذي عض ابتدأ الظلم، وهو في حكم الصائل. أي: الظالم المعتدي بغير حق.

شرح حديث: (أن رجلا عض ذراع رجل فجذبه فسقطت ثنيتيه فرفع إلى النبي فأبطله) وذكر رواياته وطرقه

شرح حديث: (أن رجلاً عض ذراع رجل فجذبه فسقطت ثنيتيه فرفع إلى النبي فأبطله) وذكر رواياته وطرقه قال: [وحدثنا محمد بن المثنى وابن بشار قالا: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن قتادة عن عطاء عن ابن يعلى عن يعلى عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله. وحدثنا أبو غسان المسمعي -واسمه عبد الواحد - حدثنا معاذ -وهو ابن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي - قال: حدثني أبي عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن عمران بن حصين: (أن رجلاً عض ذراع رجل فجذبه -أي: فجذب ذراعه من فمه- فسقطت ثنيته فرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأبطله)] يعني: جعله هدراً لا قصاص ولا دية. [(وقال: أردت أن تأكل لحمه؟!)]. أي: أردت أيها العاض أن تأكل لحم أخيك؟ كأنه يوبخه ويقول له: أتريد أن أقضي لك وأنت قد أردت ابتداءً أن تأكل لحم أخيك فماذا أقضي لك؟ وكيف تأمرني أن أقضي لك؟ فأبطل حقه عند صاحبه. قال: [وحدثنا أبو غسان المسمعي حدثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة عن بديل -وهو ابن ورقاء - عن عطاء بن أبي رباح عن صفوان بن يعلى (أن أجيراً لـ يعلى بن منية عض رجل ذراعه فجذبها، فسقطت ثنيته فرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأبطلها وقال: أردت أن تقضمها كما يقضم الفحل)] وهو البعير. [حدثنا أحمد بن عثمان النوفلي حدثنا قريش بن أنس عن ابن عون عن محمد بن سيرين عن عمران بن حصين: (أن رجلاً عض يد رجل فانتزع يده فسقطت ثنيته أو ثناياه فاستعدى رسول الله صلى الله عليه وسلم)]. يعني: طلب منه أن يكون بجواره، وهذا من سوء الأدب أن يذهب أحد الخصوم إلى حاكم أو قاض في غير مجلس القضاء والخصومة، وأن يحكي له الحكاية حتى يستعديه على الطرف الآخر بغير أن يسمع القاضي من الطرف الآخر، فهذا من سوء الأدب في القضاء ابتداءً، بل هذا لا يصح في الأذهان أن يذهب أحد الخصوم لمن يظن أنه يقضي له، أو يستميل قلبه ليتألب على الطرف الآخر ويكون رأياً قبل سماع الطرف الآخر. فاستعدى رسول الله صلى الله عليه وسلم أي: فطلب منه أن يعادي الآخر، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما تأمرني؟) كلام للتوبيخ والتقريع. [(ما تأمرني؟! تأمرني أن آمره أن يدع يده في فيك تقضمها كما يقضم الفحل)]. أي: أنت ماذا تتصور؟ وأنت ماذا تريد مني؟ أتريد مني أن أقضي لك أن يبقي خصمك يده في فمك تأكل لحمه وعظمه؟ [(قال: ادفع يدك حتى يعضها ثم انتزعها)] إذا كنت متصور أنني سأقضي لك فإنما أقضي لك بنحو أن يقع عليك منه كما وقع عليه منك، فاذهب فضع يدك في فمه ومكنه أن يقضمها كما قضمت يده فحينئذ لا قصاص ولا دية، أما أن تتصور أنني أحكم لك مع أنك الباغي، والصائل، والمتعدي، والظالم فهذا لا يصح لا شرعاً ولا عقلاً. قال: [(ما تأمرني؟ تأمرني أن آمره أن يدع يده في فيك - أي: في فمك - تقضمها - أي: تعضها - كما يقضم الفحل ادفع يدك حتى يعضها ثم انتزعها)] أي: ثم انتزعها أنت من فمه حتى تسقط أسنانه فحينئذ يكون السن بالسن، والعضة بالعضة، إذا كنت تريد عدلاً فهو هذا، وهذا الكلام بلا شك خرج مخرج التقريع وليس المراد بتمكينه يده ليعضها وإنما معناه الإنكار عليه. أي: أنك لا تدع يدك في فيه يعضها فكيف تنكر أن ينتزع يده من فيك وتطالبه بما جنا في جذبه بذلك. قال: [حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا همام -وهو ابن يحيى بن دينار - حدثنا عطاء وهو ابن أبي رباح عن صفوان بن يعلى بن منية عن أبيه قال: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل وقد عض يد رجل فانتزع يده فسقطت ثنيتاه قال: فأبطلها النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أردت أن تقضمه كما يقضم الفحل). حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة حماد بن أسامة أخبرنا ابن جريج -وهو عبد الملك بن عبد العزيز الأموي - قال: أخبرني عطاء -وهو ابن أبي رباح - أخبرني صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه قال: غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك، قال: وكان يعلى يقول: تلك الغزوة أوثق عملي عندي -يعني: أرجى عمل لي عند الله عز وجل- فقال عطاء: قال صفوان: قال يعلى: كان لي أجير فقاتل إنساناً فعض أحدهما يد الآخر، قال: لقد أخبرني صفوان أيهما عض الآخر، فانتزع المعضوض يده من في العاض

باب إثبات القصاص في الأسنان وما في معناها

باب إثبات القصاص في الأسنان وما في معناها الباب الخامس: (باب إثبات القصاص في الأسنان وما في معناها) أي: فيما دق وجل من بدن الإنسان، كل عضو من أعضاء الإنسان ما دام عضواً منفصلاً له اسم ووقع عليه اعتداء أو صيالة، أو بغي فيثبت فيه القصاص.

شرح حديث: (القصاص القصاص)

شرح حديث: (القصاص القصاص) قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عفان بن مسلم -وهو المعروف بـ الصفار - قال: حدثنا حماد أخبرنا ثابت عن أنس: (أن أخت الرُبيع وهي أم حارثة جرحت إنساناً فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: القصاص القصاص)] يعني: أدوا القصاص، ومكنوا من جرحتموه أن يجرحكم كما جرحتموه؛ لأن هذا هو الحكم في كتاب الله تعالى، قال الله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45]. (فقالت أم الرُبيع: يا رسول الله أيقتص من فلانة، والله لا يقتص منها. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: سبحان الله! - كلمة تعجب أو إنكار - يا أم الرُبيع القصاص كتاب الله - يعني: هذا حكم الله تعالى فيما وقع من فلانة أنه يقتص منها - قالت: لا والله لا يقتص منها أبداً. قال: فما زالت حتى قبلوا الدية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره)] يعني: أبر الله تعالى قسمه، وهذه المرأة ليست معترضة على الله عز وجل، وليست رادة لحكم الله ولا لكتاب الله عز وجل.

كلام النووي في حديث الباب

كلام النووي في حديث الباب

مخالفة مسلم للبخاري في رواية حديث الباب

مخالفة مسلم للبخاري في رواية حديث الباب ولذلك يقول الإمام النووي: الإمام البخاري خالف مسلماً في هذه الرواية فرواها عن أنس أن عمته الرُبيع كسرت ثنية حارثة وطلبوا إليها العفو فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبوا إلا القصاص. (فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص، فقال أنس بن النضر: يا رسول الله أتكسر ثنية الرُبيع؟ لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كتاب الله القصاص، فرضي القوم فعفوا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره). وهذا لفظ البخاري، فحصل الاختلاف بين رواية البخاري ورواية مسلم في موطنين: الأول: أن في رواية مسلم أن الجارحة أخت الرُبيع، وفي رواية البخاري أنها الرُبيع نفسها. والاختلاف الثاني: أن في رواية مسلم أن القائل: لا تكسر ثنيتها هي أم الربيع. وفي رواية البخاري أنه أنس بن النضر. ولذلك قال العلماء: المعروف في الروايات رواية البخاري، وقد ذكرها البخاري من طرق صحيحة كما ذكرنا هنا، وكذا رواه أصحاب كتب السنن. والإمام النووي يقول كذلك في هذا الباب: إنهما قضيتان لا قضية واحدة: أما الرُبيع الجارحة في رواية البخاري وأخت الجارحة في رواية مسلم فهي بضم الراء وفتح الباء يعني الرُبَيع. وأما في رواية مسلم فيها الربيع لا الرُبَيع.

معنى قوله: (القصاص القصاص)

معنى قوله: (القصاص القصاص) قال: (أما قوله: (القصاص القصاص) بالفتح. يعني: أدوا القصاص وسلموه إلى مستحقيه. وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (كتاب الله القصاص) في الرواية الثانية. أي: حكم الله وحكم كتاب الله وجوب القصاص في السن، وهو قوله تعالى: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة:45]).

معنى قوله: (والله لا يقتص منها)

معنى قوله: (والله لا يقتص منها) قال: (وأما قولها: والله لا يقتص منها. فليس معناه رد حكم النبي صلى الله عليه وسلم، ولا الرد على الله تعالى، ولا على كتابه بل المراد به الرغبة إلى مستحق القصاص أن يعفو، إما بعرض الدية عليه). وكثير من الناس يقبل الدية ولا يقبل القصاص؛ لأنه لا غنى في القصاص، إنما الغنى في الدية. تصور لو أن واحداً قتل آخر خطأً، فالمعلوم أن القتل الخطأ إنما تجب فيه الدية، فلو أن الناس أخذوا الدية ومقدار الدية مائة بعير، وقلنا في الدرس الماضي أن قيمتها في هذا الزمان تقريباً أربعمائة ألف أو خمسمائة ألف جنيه، فلو أن أسرة فقيرة أخذت هذا المبلغ لصارت غنية بعد فقر، وعزيزة بعد ذل، فالدية أنفع لهم من القصاص، وماذا ينتفعون بإهراق دم القاتل؟ خاصة لو كان القتل على سبيل الخطأ ليس متعمداً، فبلا شك أن الدية فيها غنىً لأصحاب المقتول أو لأولياء المقتول. فقال هنا: (بل المراد به الرغبة إلى مستحق القصاص أن يعفو وإلى النبي صلى الله عليه وسلم في الشفاعة إليهم في العفو). يعني: نذهب إليه يا رسول الله ونكلمه وتشفع معنا عنده أن يتنازل من القصاص إلى الدية. (وإنما حلف الحالف ثقة بهم أنهم لا يحنثوه). حلف الحالف وقال: والله لا يقتص من فلانة. أي: بعد شفاعتك يا رسول الله فإنهم لا يردوا هذه الشفاعة، فاذهب معنا لتشفع. والمعلوم أن الحدود لا شفاعة فيها، فكيف أقسم هؤلاء على النبي عليه الصلاة والسلام أن يشفع لدى أصحاب هذا الذي كسرت ثنيته؟ وما هو وجه الجمع؟ في الحقيقة أنتم تعلمون أن الحد في مثل هذا إما القصاص وإما الدية، فالدية هي الحد، وهؤلاء لم يطالبوا بشفاعة النبي عليه الصلاة والسلام لإلغاء الحد، وإنما لانتقال القصاص إلى البدل، والبدل حد، فلم يطالبوا بشفاعة النبي عليه الصلاة والسلام لإلغاء الحد كما في قصة أسامة بن زيد رضي الله عنهما، وإنما طالبوا الانتقال من درجة إلى أخرى في ذات الحد، والمعلوم أن الحدود لا شفاعة فيها. أي: لا شفاعة تبطلها، بخلاف التعزير فإن الشفاعة فيه قائمة. قال: (وإنما حلف ثقة بهم ألا يحنثوه، أو ثقة بفضل الله ولطفه ألا يحنثه بل يلهمهم العفو، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام لما قبلوا الدية وتنازلوا عن القصاص قال: (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره)) يعني: من عباد الله عباداً لو أقسموا على الله تعالى لأبر الله تعالى قسمهم، لما لهم من منزلة بحسن تقواهم وعبادتهم لله، وقربهم منه سبحانه وتعالى أنهم لو أقسموا على الله تعالى لأبر الله تعالى وألان قلوب الآخرين لقبول شفاعتهم أو قبول معذرتهم. والنبي عليه الصلاة والسلام يبين ويبرر هذه القاعدة بحديث آخر، لما رأى رجلاً من أصحاب الوجاهة والسؤدد والسيادة في المجتمع يمر في مجلس المدينة والنبي عليه الصلاة والسلام قائم بين أصحابه قال: (ما تقولون في هذا الرجل؟ قالوا: يا رسول الله والله إنه لحري إذا تكلم أن يسمع له، وإذا نكح أن ينكح). وذلك لأنه وجيه وعظيم في قومه، فإذا تكلم لا بد للناس جمعياً أن يسمعوا له، وإذا ذهب إلى بيت أحد لينكح أي: ليخطب ابنتهم أو يتزوج لحري به أن يقبل طلبه وألا يرد. (ثم مر آخر) وهو من أهل الابتذال والمسكنة والفقر (فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ما تقولون في هذا الرجل؟ فقالوا يا رسول الله: والله إنه لحري إذا تكلم ألا يسمع، وإذا نكح ألا ينكح. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أشهد أن هذا خير من ملء الأرض من ذاك). أي: أشهد أن هذا الفقير المبتذل خير من ملء الأرض من الرجل الأول الذي قلتم عنه إنه لحري إذا تكلم أن يسمع، وإذا نكح أن ينكح؛ لأن المفاضلة بين الخلق في الدنيا والآخرة إنما هي بتقوى الله عز وجل، وكان هذا من عباد الله، بخلاف الأول. وقد قرر القرآن الكريم هذه القاعدة بقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] لا أوجهكم، ولا أغناكم، ولا أكثركم مالاً، ولا وجاهة ولا حسباً، ولا نسباً، وإنما الخيرية في الدنيا والآخرة متعلقة بتقوى المرء وحسن عبادته، وأن الله تعالى يكرم العباد كما قال عليه الصلاة والسلام والحديث في الصحيحين كذلك: (رب رجل أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره). أي: رب رجل أشعث أغبر لو أنه ذهب إلى قوم لدفعوه عن بابهم، وعن بيتهم، لا يريدونه؛ لأنه معرة بالنسبة لهم. أيقال: فلان المبتذل الفقير دخل عند فلان؟ هذا العبد عنده بين جنباته من الإيمان والتقوى ما يزن الجبال، ولذلك فضله الله تعالى على كثير، وجعل له كرامة وعلامة تدل على تقواه وهي: (أنه لو أقسم على الله لأبره). وهذا أمر لا يحتاج إلى تجربة وإن كان مجرباً: يوم ما كنا في الأردن كان معنا شخص اسمه شريف السبع من دمياط وكان رجلاً حقيقة أشعث أغبر لكنه كان من أهل التقوى، يعرفها في وجهه من نظر إليه، وأقسم بالله أني كنت ألجأ إلى هذا وأطلب منه أن يدعو ب

حكم الحلف على الشيء المظنون

حكم الحلف على الشيء المظنون قال: (وفي هذا الحديث من الفوائد: جواز الحلف فيما يظنه الإنسان). أي: يجوز أن يحلف المرء على شيء مظنون، وهذا أمر مستقر لا خلاف عليه؛ لأن المرء إذا غلب على ظنه وليس هذا الظن من باب الخبط والتخمين، وإنما هو الظن الذي تنبني عليه الأحكام الشرعية.

حكم الثناء على كل من لا يخاف عليه الفتنة

حكم الثناء على كل من لا يخاف عليه الفتنة قال: (ومنها: جواز الثناء على كل من لا يخاف عليه الفتنة بذلك). والنبي عليه الصلاة والسلام أثنى على كثير من أصحابه في حضورهم وفي غيبتهم، كما أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن المدح، ونهى عن الإطراء، أما في حق نفسه عليه الصلاة والسلام فقد قال: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم وإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله). وهذا محمول منه على الورع الذي يناسب منزلة النبوة. أما النهي كما قال عليه الصلاة والسلام: (إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب). أي: إذا رأيتم المداحين الذين يمدحون من يخاف عليه الفتنة، أما إذا رأيت رجلاً لا يتأثر بهذا المدح بل المدح والذم عنده سواء، فلا بأس بذكر ما فيه من شمائل، ومكارم الأخلاق، وهذا بيت القصيد فيه: أنك لا تخاف عليه الفتنة.

استحباب العفو عن القصاص والشفاعة في ذلك

استحباب العفو عن القصاص والشفاعة في ذلك قال: (ومنها: استحباب العفو عن القصاص) قال تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة:178] أي: من القصاص إلى الدية {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ} [البقرة:178] يعني: أداء في الدية إليه {بِإِحْسَانٍ} [البقرة:178]. ومنها: استحباب الشفاعة في العفو مع بقاء وثبوت الحد.

بيان أن الخيرة في القصاص والدية لمستحقه لا المستحق عليه

بيان أن الخيرة في القصاص والدية لمستحقه لا المستحق عليه قال: (ومنها: أن الخيرة في القصاص والدية إلى مستحقه لا إلى المستحق عليه)، وهذا باب من أبواب القضاء، يفهمه كثير من الناس على غير وجه شرعي، إذا كانت هناك خصومة بين اثنين شخص عليه مثلاً مائة جنيه للآخر، والآخر يطالب بالمائة جنيه؛ فيذهبا إلى المحكمة، والمحكمة تقضي له بثمانين جنيهاً.

إثبات القصاص بين الرجل والمرأة

إثبات القصاص بين الرجل والمرأة قال: (ومنها: إثبات القصاص بين الرجل والمرأة). يعني لو أن امرأة كسرت ثنية رجل تكسر ثنيتها قصاصاً، ولو أن رجلاً كسر ثنية امرأة تكسر ثنيته بها، وإن كانت هذه المسألة محل نزاع بين أهل العلم وفيها ثلاثة مذاهب: الأول: أنه لا قصاص بينهما في نفس ولا طرف، وهذا مذهب الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح المكي؛ لأنه لا يقتل رجل بامرأة، ولا امرأة برجل، وكذلك لو أن امرأة قطعت ذراع رجل لا يقطع به ذراعها، والعكس بالعكس، ومذهب عطاء والحسن مذهب فاسد. ثم قالا: بل تتعين دية الجناية تعلقاً بقوله: {وَالأُنثَى بِالأُنثَى} [البقرة:178]. والمذهب الثاني: وهو مذهب جماهير العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم، وهو ثبوت القصاص بينهما في النفس وفيما دونها، أي: مما يمكن القصاص فيه، وهذا هو المذهب الحق، أن المرأة لو قتلت رجلاً قتلت به، أو قطعت منه عضواً قطع عضوها به، والعكس بالعكس. واحتج الجمهور بقول الله تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] هذا وإن كان شرعاً لمن قبلنا، وفي الاحتجاج به خلاف مشهور للأصوليين فإنما الخلاف إذا لم يرد شرعنا بتقريره وموافقته، وقد ورد في شرعنا هذا. أما المذهب الثالث: فهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه: يجب القصاص بين الرجال والنساء في النفس، ولا يجب فيما دون النفس، وهي الأطراف: كالذراع والعين، والسن، والقدم، وغير ذلك.

وجوب القصاص أو الدية في السن

وجوب القصاص أو الدية في السن قال: (ومنها: وجوب القصاص في السن وهو مجمع عليه). يعني: لا خلاف بين أهل العلم في أن واحداً لو كسر سنة آخر أن يكسر سنه بسنه الذي كسر. يعني: لو أنك ضربت شخصاً بلكمة في أسنانه فسقطت فلا بد من تمكينه من أنه يلكمك بأسنانك حتى يسقط منها ما سقط منه، وهذا بالإجماع بين أهل العلم، لكن إن عفا صاحب القصاص عن القصاص وقبل الدية تقوم السن بالدية وتدفع له. قال: (ومنها وجوب القصاص في السن وهو مجمع عليه، فإن كسر بعضها ففيه وفي كسر سائر الأعضاء خلاف مشهور للعلماء، والأكثرون على أنه لا قصاص فيه إنما تجب فيه الدية). والدية في السن عشرة من الإبل، وهذا من باب حفاظ الإسلام على كرامة الإنسان.

ما يباح به دم المسلم

ما يباح به دم المسلم الباب السادس: (ما يباح به دم المسلم).

شرح حديث ابن مسعود: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث)

شرح حديث ابن مسعود: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث) قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا حفص بن غياث وأبو معاوية -وهو محمد بن خازم الضرير - ووكيع بن الجراح - العتكي الكوفي - عن الأعمش - سليمان بن مهران الكوفي - عن عبد الله بن مرة عن مسروق بن الأجدع عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله)]. وهذا يبين أن المرء لا يثبت له الإسلام إلا بالشهادتين. قال: [(إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزان)] والأرجح (الثيب الزاني) بإضافة الياء، وإن كان هذا له وجه صحيح فصيح كما في قول الله تعالى: {الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد:9] ولم يقل المتعالي. فقال: (الثيب الزاني) لأن الثيب إذا زنا فحكمه الرجم حتى الموت، وهذا إجماع أهل العلم أن الثيب إذا زنا رجم حتى الموت، ولا تصح الشفاعة هنا بأنه يدفع الدية، لأن الزنا ليس فيه دية، أما في القتل والجرح فإنه يجوز أن ننزل من القصاص إلى الدية؛ لأننا لا زلنا في حد الشرع وحكم الشرع، أما في الزنا فإن الشرع لم يشرع أكثر ولا أقل من الرجم للثيب، والثيب هو كل من نكح، والنكاح بمعنى البناء، سواء طلق أو لم يطلق، فلو أن شخصاً تزوج امرأة وبنا بها ثم طلقها يقال عنه ثيب، ويعتبر ثيباً حتى وإن وقع منه الزنا في وقت لم تكن تحته زوجة، المهم أنه باشر النساء بنكاح صحيح، ولذلك هذه المباشرة هي الموجبة للرجم، أما عدم المباشرة فهي الموجبة للجلد أو التغريب على اختلاف بين أهل العلم. ولذلك إذا عقد إنسان عقد نكاح ولم يبن ثم زنا. أي بغير المعقود عليها؛ لأن المعقود عليها لا يسمى زنا بل هي زوجته وإن كان لا ينبغي له إتيان هذه المرأة، فهذا أمر مخل بالمروءة والأدب، ومناقض ومناهز لأعراف المجتمعات الإسلامية. فإذا زنا العاقد بغير المعقود عليها فإنه يجب عليه الجلد، لأنه لم يبن بهذه المرأة المعقود عليه. قال: [(والنفس بالنفس)]. يعني: من قتل يقتل، النفس بالنفس، ويستثنى منها: نفس الكافر، والمرتد، والمحارب؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا يقتل مسلم بكافر). وهذا المذهب الذي رجحناه من أقوال أهل العلم في الدرس الماضي. قال: [(والتارك لدينه المفارق للجماعة)]. التارك لدينه. أي: المرتد. أما المفارق للجماعة فهذا يمكن أن يكون المقصود به هم البغاة. وقوله: (المفارق للجماعة) ليست للتوكيد، فالتارك لدينه تعني المرتد، وأما المفارق للجماعة فإن مذهب الجماهير أن المفارق هو من فارق جماعة المسلمين، واتخذ طريقاً ليقطع الطريق، والخلاف قائم بين العلماء في (التارك لدينه المفارق للجماعة) هل هما بمعنى واحد ينطبق على عدة أعيان؟ أو أنهما عين واحد؟ ولو اطلعت على كلام الإمام النووي لوجدت الخلاف، لكن الخلاف عند البخاري في هذه المسألة واسع جداً. والتارك لدينه في حقيقة الأمر هو مفارق للجماعة، فلا يمكن أن يكون واحداً من المسلمين قولاً واحداً. لكن قيل: المفارق للجماعة هم البغاة. وقيل هو: الصائل إذا بغى. يعني: هو الصائل أي الظالم إذا اتخذ طريقاً مهجوراً وقطع الطريق. وقيل: بل هو قاطع الطريق خاصة. وقيل: هو الباغي الذي تميز؛ بخلاف الباغي في المصر والحي لكنه لم يخرج عن عموم جماعة المسلمين، فالبغاة المميزون كالخوارج مثلاً، فإنهم تميزوا وتحيزوا واتخذوا لهم مصراً وأعلنوا الحرب على الإمام، فحينئذ وجب على الإمام أن يقاتلهم لا لأنهم كفار وإنما لأنهم فارقوا الإمام وبغوا عليه.

شرح روايات وطرق حديث الباب

شرح روايات وطرق حديث الباب قال: [حدثنا ابن نمير حدثنا أبي عبد الله بن نمير (ح) وحدثنا ابن أبي عمر محمد بن يحيى حدثنا سفيان بن عيينة (ح) وحدثنا إسحاق بن إبراهيم وعلي بن خشرم قال: أخبرنا عيسى بن يونس -وهو ابن أبي إسحاق السبيعي - كلهم عن الأعمش بهذا الإسناد مثله. حدثنا أحمد بن حنبل ومحمد بن مثنى واللفظ لـ أحمد قالا: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله بن مسعود قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (والذي لا إله غيره لا يحل دم رجل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا ثلاثة نفر: التارك الإسلام - يعني: المرتد - المفارق للجماعة، والثيب الزاني، والنفس بالنفس) قال الأعمش: فحدثت به إبراهيم -يعني النخعي - فحدثني عن الأسود -يعني ابن يزيد النخعي - عن عائشة بمثله]. فهذا الحديث ثابت من طريق عبد الله بن مسعود ومن طريق عائشة. قال: [وحدثني حجاج بن الشاعر والقاسم بن زكريا قالا: حدثنا عبيد الله بن موسى عن شيبان -وهو ابن عبد الرحمن النحوي - عن الأعمش بالإسنادين جميعاً نحو حديث سفيان ولم يذكرا في الحديث قوله: (والذي لا إله غيره)].

كلام النووي في شرح حديث الباب: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث)

كلام النووي في شرح حديث الباب: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث)

إثبات قتل الزاني المحصن

إثبات قتل الزاني المحصن قال الإمام النووي: (في هذا الحديث إثبات قتل الزاني المحصن. والمراد: رجمه بالحجارة حتى يموت، وهذا بإجماع المسلمين). لأنه لم ترد آية في كتاب الله تدل على الرجم، وإنما الرجم منسوخ تلاوة وكتابة.

ثبوت القصاص بشرطه

ثبوت القصاص بشرطه قال: (وأما قوله: (والنفس بالنفس) فالمراد به: القصاص بشرطه). يعني: القصاص إذا توفرت شروطه. (وقد يستدل به أصحاب أبي حنيفة في قولهم: يقتل المسلم بالذمي). لأن الآية عامة، (النفس بالنفس)، والكافر نفس، فلو أن مسلماً قتل كافراً قتل المسلم بهذا الكافر، لأن المسلم نفس والكافر نفس، والله تعالى يقول: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] فأخذوا الآية على عمومها. (أما جمهور العلماء فعلى خلاف ذلك). وقالوا: هذه الآية مخصصة بقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يقتل المسلم بكافر).

حكم التارك لدينه المفارق للجماعة

حكم التارك لدينه المفارق للجماعة قال: (وقوله: (والتارك لدينه المفارق للجماعة) فهو عام في كل مرتد عن الإسلام بأي ردة كانت، سواء كانت ردته اعتقاداً، أو قولاً، أو عملاً، أما إذا ارتد في اعتقاده مع بقائه على أحكام الإسلام الظاهرة فهذا عند الله كافر أما عند العباد فمسلم، وهذا شأن المنافقين، أما إذا ارتد قولاً أو ارتد فعلاً فلا شك أنه يجب على أولياء الأمور الحكم بردته وقتله، كما قال عليه الصلاة والسلام: (من بدل دينه فاقتلوه) فسواء كان تبديل هذا الدين أي الردة بالقول، أو العمل، أو الاعتقاد، أما الاعتقاد فإنه لا سبيل للعباد عليه، لأنه أمر قلبي لا اطلاع لأحد عليه، أما إذا أظهر ردته بالقول أو العمل فوجب على أولياء الأمور أن يأخذوه به، ويجب قتله إن لم يرجع إلى الإسلام. (قال العلماء: ويتناول أيضاً كل خارج عن الجماعة ببدعة، أو بغي، وغيرها، وكذا الخوارج). لأن الخوارج الذين خرجوا على علي بن أبي طالب بغاة، والباغي ليس كافراً، ولذلك لما سئل علي بن أبي طالب: أهؤلاء كفاراً أم ماذا؟ مع أنهم تميزوا وقاتلوا علياً وهو الإمام، فقال: من الكفر فروا. يعني: ليسوا كفاراً، مع أن عملهم يعتبر خروجاً عن الإمام الحق، ومع هذا لم يكفرهم الإمام. كذلك ما وقع من الذين خرجوا على عثمان بن عفان حتى قتلوه، وهذا في دفع الصائل كذلك، يعني هذه الأحكام فيما يتعلق بـ علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان وغيرهما ممن وقع عليهم الظلم والبغي والصيالة، كانوا يدعون إلى عدم المقاتلة حتى لا يظن الظان أن المقاتلة إنما كانت بسبب الردة والكفر؛ لأن الباغي ليس كافراً. ثم سئل علي رضي الله عنه عن الخوارج: إذاً فمن هم؟ قال: هم إخواننا بالأمس بغوا علينا اليوم. والله تعالى يقول: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الحجرات:9] ماذا حدث بينهم؟ {اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9]، فسمى الله تعالى الطائفتين مؤمنتين، كما قال الله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ} [البقرة:178]، ولم يقل: من قاتله، أو من القاتل الكافر، وإنما قال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ} [البقرة:178]. فأثبت له أخوة الإيمان، وهذا يدل على أن مرتكب الكبيرة ليس كافراً بكبيرته، وإن كانت من أعظم الكبائر. أما ما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: ليس لقاتل المؤمن عمداً توبة. فقد ثبت رجوعه عن ذلك، وإن لم يثبت فلا عبرة بخلافه لمجموع الصحابة رضي الله عنهم؛ لأن هذه المسألة -أي: الحكم على القاتل بالكفر- مسألة يردها الكتاب والسنة، كما تردها السنة العملية للصحابة ومن بعدهم إلى يومنا هذا أن القاتل ليس كافراً وإنما ارتكب جرماً عظيماً جداً، وهو على خطر بين يدي الله عز وجل إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، وإن أقيم عليه الحد فالحد كفارته؛ لأن الحدود كفارات لأهلها، وإن تاب منها تاب الله عز وجل عليه، والله أعلم. أما قوله عليه الصلاة والسلام: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)؛ فالسب فسق، لكنه لا يخرج به من الملة، كما أن قتال المؤمن أو قتال المسلم كذلك كفر وهو عند الإطلاق كفر عملي، ما لم يستحله مع قيام الحجة عليه، فإذا استحله مع قيام الحجة عليه وأن هذا مما حرمه الله، فأقدم على القتل وهو يعلن أن هذا دمه حلال بغير بينة ولا حجة فلا شك أنه يكفر بذلك ويخرج من الملة، لا لعين القتل، وإنما لكونه أحل ما حرمه الله. قال: (قوله: (التارك لدينه المفارق للجماعة) هو عام في كل مرتد عن الإسلام بأي ردة كانت فيجب قتله إن لم يرجع إلى الإسلام. قال العلماء: ويتناول أيضاً كل خارج عن الجماعة ببدعة، أو بغي، وغيرهما، وكذا الخوارج. واعلم أن هذا عام يخص منه الصائل، الذي هو المفارق للجماعة، فيباح قتله في الدفع). كما قلنا في الباب قبل الماضي أن الصائل إذا لم يندفع إلا بالقتل قتلناه، لا لكونه مرتداً وإنما لكونه لا يدفع إلا بهذه الوسيلة، فيباح قتله في الدفع. قال: (وقد يجاب عن هذا بأنه داخل في المفارق للجماعة) ليس لأنه مفارق للإسلام، وإنما هو مفارق للجماعة. (أو يكون المراد لا يحل تعمد قتله قصداً إلا في هذه الثلاث). يعني: لا يحل قتل المؤمن عمداً إلا في هذه المسائل الثلاث، والله تعالى أعلم. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

الأسئلة

الأسئلة

بيان الكفر الاعتقادي والعملي

بيان الكفر الاعتقادي والعملي Q ما هو الكفر الاعتقادي والعملي؟ A الكفر الاعتقادي موطنه القلب. أما الكفر العملي إما أن يكون باللسان أو بعمل الجوارح، حتى وإن أعلن خلاف ما يعتقد. يعني: لو أن واحداً سب دين الله عز وجل، أو سب الرسول صلى الله عليه وسلم. وتحققت فيه الشروط من العقل، والقدرة، وغير ذلك، وانتفت عنه الموانع. أي: موانع الإكراه، والجهل وغير ذلك، مع أن هذه المسائل لا يعذر فيها الإنسان بجهله فسب الله وسب الدين وغير ذلك ليس فيها إعذار، فهذا الإنسان يكفر ويخرج عن الملة؛ لأنه ارتد ردة قولية، وهو كفر اعتقادي، وهو في الوقت نفسه كفر عملي، لأنه باشره باللسان. أما إذا جاء رجل بكتاب الله عز وجل ووطأه بقدمه، وهو بالغ، عاقل، راشد، ليس مجنوناً، ولا سفيهاً، ولا مكرهاً، وهو يقول: أشهد أن هذا هو كلام الله عز وجل المنزل من فوق سبع سماوات على محمد عليه الصلاة والسلام بواسطة جبريل عليه السلام، وأنا أومن بذلك إيماناً جازماً، ومع هذا هو مستمر في وطئ المصحف وتقطيعه، وتمزيقه، وإلقائه في المزابل، فإنه يكفر. فهذا كفر عملي وإن كان يصرح بخلاف ذلك، وهذا الكفر العملي يخرجه عن الملة.

حكم من أقسم بغير الله أو بالخروج من دين الإسلام وكفارة ذلك

حكم من أقسم بغير الله أو بالخروج من دين الإسلام وكفارة ذلك Q ما هي كفارة من أقسم بغير الله، أو بالخروج من الإسلام على ترك معصية وعاد لها؟ A بلا شك أن هذا لا يكفر، وإن كان كذلك فقد دخل في خطر عظيم جداً، لأنه أقسم بغير الله عز وجل، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من أقسم بغير الله فليقل: لا إله إلا الله) فدل على أن هذا كفارة ذلك. وقال عليه الصلاة والسلام: (من أقسم بغير الله فقد كفر أو أشرك) وهذا الكلام قد استوعبناه بحثاً في كتاب الأيمان، فلا داعي للإطالة فيه. أو قال الإنسان: أكون بريئاً من دين الإسلام لو أني فعلت كذا، أو لو ثبت علي كذا. فلا شك أنه لا يقصد الخروج من الملة وإنما قصد نفي التهمة عنه، أو قصد أن يحمل فلاناً على فعل كذا أو ترك كذا فإن بر قسمه فلا شك أنه على خطير عظيم جداً ولا يعود لذلك. وإن حنث فلا شك أنه يلزمه كفارة اليمين مع بقاء الخطر الأول. والله تعالى أعلم.

كيفية حثي التراب في وجوه المداحين

كيفية حثي التراب في وجوه المداحين Q حديث: (إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب) كيف يحثى التراب في وجوه المداحين؟ A كان عبد الله بن عمر يفعل ذلك حقيقة، إذا مدحه إنسان تناول كفاً من حصى وألقاه في وجه المادح، وإن كان مذهب جماهير الصحابة وغيرهم من علماء الأمة بحثو الوجه بالتراب هو الزجر الشديد للمادحين، وإثبات أن هذا الأمر لا ينبغي للمسلم أن يقدم عليه، فالحديث محمول على الزجر الشديد، ولكن بعض أهل العلم كالظاهرية ذهبوا إلى وجوب إلقاء التراب في وجوه المداحين.

حكم ما يفعله بعض الناس من خوارق العادات، وتوبة الساحر

حكم ما يفعله بعض الناس من خوارق العادات، وتوبة الساحر Q هل للساحر توبة، مع العلم أن هذه الظاهرة انتشرت في بعض الشباب حيث يأتون ببعض الأعمال الخارقة للعادة؟ A بلا شك أن الشباب الذين يفعلون ذلك أو يأتون بشيء خارج عن عادة الخلق وهي المعروفة بالخوارق، ينظر إلى عمل هذا الذي جرت على يديه الخارقة؛ فإن كان من أهل الإيمان والتقوى فالمعلوم أن هذه كرامة من الله عز وجل، وأما إذا كان غير ذلك فهو استدراج من الشيطان، ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إذا رأيتم عمل العامل خارق للعادة فلا تحكموا عليه حتى تنظروا إلى عمله، وهذا الفارق بين عباد الرحمن وأولياء الشيطان، وقد ذكر الفروق بينهما شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه: (الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان) فيرجع إليه. أما الأمر الثاني: هل للساحر توبة؟ ف A نعم، السحر وإن كان ضرباً من ضروب الكفر والردة، إلا أن الساحر لو تاب لتاب الله عز وجل عليه، ولا يزال باب التوبة مفتوحاً حتى تطلع الشمس من مغربها.

الحكم على حديث أن النبي عليه الصلاة والسلام كان له جار يهودي يضع القاذورات على بابه

الحكم على حديث أن النبي عليه الصلاة والسلام كان له جار يهودي يضع القاذورات على بابه Q ما حكم الحديث الذي يحكي أن يهودياً كان جاراً للنبي عليه الصلاة والسلام يضع على بابه قاذورات وفي يوم من الأيام لم يجد النبي عليه الصلاة والسلام هذه القاذورات فسأل عن هذا اليهودي؟ فقالوا: إنه مريض، فذهب إليه ليعوده؟ A على أية حال هذا ليس حديثاً من الأصل، وإنما هي حكاية تروى عن أبي حنيفة، أنه كان له جار يهودي إلى آخر القصة، أما أنه حديث مرفوع فليس عندي به علم، وأغلب الظن أنه حديث موضوع.

الحكم على حديث: (قلب القرآن يس)

الحكم على حديث: (قلب القرآن يس) Q ما صحة حديث: (إن لكل شيء قلب وقلب القرآن (يس) لا يقرأها رجل يريد الله ورسوله والدار الآخرة إلا غفر له، اقرؤها على موتاكم)؟ A على أية حال هذه الأحاديث وغيرها مما جاء في فضل سورة (يس) لا يصح منها حديث واحد، وليس معنى ذلك أن (يس) ليس لها فضل، فهي كلام الله عز وجل، ولكننا نتكلم عن مبدأ ثبوت هذه الروايات، فهذه الروايات غير ثابتة، ويدور أمرها بين الضعف الشديد والوضع، وليس منها حديث ضعيف فحسب بل الأحاديث الواردة في هذا وفي كثير من السور أحاديث كلها موضوعة وضعها رجل يسمى بـ نوح الجامع، وهو المعروف بأنه جمع كل شيء إلا الصدق، أخذ القرآن من أوله إلى آخره مائة وأربع عشرة سورة، ووضع في كل سورة حديثاً، فأنبته نفسه بعد ذلك، فقال: ليس معقولاً أن أضع في سورة البقرة حديثاً واحداً، وسورة الإخلاص حديثاً واحداً، فوضع في البقرة ما يناسبها حجماً، فوضع ثمانية وعشرين حديثاً، وبعد ذلك ثمانية عشر، وبعد ذلك خمسة عشر، من أجل قسمة العدل بين أحجام السور.

حكم العمل في البنوك الربوية في الأقسام التي لا يكون التعامل فيها بتداول المال

حكم العمل في البنوك الربوية في الأقسام التي لا يكون التعامل فيها بتداول المال Q هل يجوز العمل في البنوك الربوية في الأماكن التي لا يكون التعامل المباشر فيها بتداول المال؟ A في الحقيقة -أخي الكريم- وإن جوز بعض أهل العلم العمل في البنوك في الأماكن التي لا تباشر الربا ولا تعانيه، فلا يبقى إلا أن نقول: إن هذا العمل مشبوه. يعني: إن لم يكن هناك جزم بحرمته فلا أقل من الحكم بأنه عمل فيه شبهة عظيمة، فإذا كنت على البر -يعني لم تعمل- فابحث عن عمل آخر، والله تعالى ييسر لك أمرك، (ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه).

حكم تارك الصلاة

حكم تارك الصلاة Q ما حكم تكفير تارك الصلاة؟ A أنا ما ترددت في مسألة من مسائل الشرع كترددي في تكفير تارك الصلاة؛ لأن خلاف أهل العلم في هذه القضية خلاف قوي جداً، فأحياناً يترجح لدي تكفيره، وأحياناً يترجح لدي عدم تكفيره، وأنا الآن يترجح لدي التكفير.

حكم الشيعة

حكم الشيعة Q هل الشيعة كفار؟ A لا يصلح توجيه هذا السؤال على هذا النحو ابتداءً؛ لأن قوله عليه الصلاة والسلام في حديث الفرق: (كلها في النار إلا واحدة) لا يلزم منه الخلود الأبدي السرمدي، كما أنهم إذا دخلوا النار فلا يلزم أن يكون دخولهم في النار بسبب كفرهم، وإلا فالنبي عليه الصلاة والسلام في أول الحديث قال: (وستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين)، فهل أحد من أمته كافر؟ فالذي يترجح لدي أن هؤلاء يدخلون النار بسبب بدعتهم، كما أنه لا يمكن النظر إلى هذه الفرق باعتبار أنها مبتدعة بدعة لا تخرجها من الملة، أو أنهم جميعاً خارجون عن الملة؛ لأن هذا وذاك يصطدمان مع حديث النبي عليه الصلاة والسلام، إنما ينظر لكل أحد مبتدع على حدة، ويفرق بين الداعية إلى البدعة العالم بها وبين عامة الناس ورعاع الناس، فيفرق مثلاً بين عامة الخوارج وبين زعماء وقادة الخوارج، ومنظري الخوارج، كما أنه كذلك لا يمكن أن يستوي قط رجل يمشي في شوارع إيران لا يعرف الخمسة من الطمسة وهو شيعي، وبين الخميني، لا يستويان قط، فهذا عالم وذاك جاهل نشأ في بيئة متشيعة فتشيع بتشيعها، لأنه ليس من أهل العلم، ولا يطلب العلم، إنما هو من رعاع هذه الفرقة، وقد تكلمنا عن الخوارج والشيعة وغيرهما من الفرق فنقيس هذا الكلام عليهما.

الكلام في نسبة كتاب الروح لابن القيم

الكلام في نسبة كتاب الروح لابن القيم Q هل كتاب الروح من تأليف الإمام ابن القيم؟ A كتاب الروح محل نزاع، والنزاع فيه يدور بين أمرين: الأول: إما أن ابن القيم كتب كتاب الروح قبل أن يتأهل لذلك. يعني: في مبدأ طلبه، وفي أيام صغره وشبابه. الثاني: وإما أن هذا الكتاب منسوب له زوراً، ليس كتابه؛ لأنه فعلاً فيه كلام لا يتوافق قط مع علم ابن القيم، ولا مع منهجية ابن القيم في الدعوة، والعلم، والعمل.

معنى قوله: (ليس بحادث)

معنى قوله: (ليس بحادث) Q ما معنى: ليس بحادث؟ A سميت الحوادث بهذا الاسم لأنها حدثت بعد أن لم يكن لها وجود. يعني: الحادث هو من لم يكن موجوداً فوجد، أما أن تكون هناك حوادث لا أول لها -يعني أزلية- فهذا لا يمكن أن ينسب إلا إلى الله تعالى؛ لأن الله تعالى هو الأول بلا ابتداء، وليس حدثاً سبحانه وتعالى، وهذا الكلام كلام تمقته النفس والقلب جداً ولكني أردت أن أبين سؤال الأخ الكريم.

حكم المسح على العمامة

حكم المسح على العمامة Q ما حكم المسح على العمامة؟ A المسح على العمامة أمر مشروع، إن كانت العمامة تعم جميع الرأس فيمسح عليها، ولا يلزم فيها ما يلزم المسح على الخف؛ لأن المرء إذا مسح على العمامة جاز له أن يخلعها حتى وإن نقض وضوءه ثم لبسها لا يلزمه أن يخلعها حين الوضوء فيمسح رأسه، بل إذا توضأ وأدرك الوضوء وهو لابس عمامته فلا بأس أن يمسح عليها حتى وإن كان نزعها وقت نقضه لهذا الوضوء خلافاً للخف أو للجورب، وإذا كانت العمامة في بعض الرأس دون البعض فإنما يمسح على الشعر المكشوف -أي: في مقدم رأسه- ويتم المسح على بقية العمامة، والرجل والمرأة في ذلك سواء.

حكم رفع اليدين في التكبير بعد الانتهاء من التشهد الأوسط وهو قاعد لم يقم

حكم رفع اليدين في التكبير بعد الانتهاء من التشهد الأوسط وهو قاعد لم يقم Q ما حكم رفع اليدين في التكبير بعد الانتهاء من التشهد الأوسط والمصلي جالس ولم يقف بعد؟ A فعل ذلك النبي عليه الصلاة والسلام أحياناً، أما غالب أحيانه عليه الصلاة والسلام أنه ما كان يرفع يديه إلا بعد الانتقال، يعني ما كان يرفع يديه إلا بعد أن يقف، كما جاء عند الحاكم وابن خزيمة وغيرهما (أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا قام إلى الثالثة كبر ورفع يديه، وكان يرفع يديه وهو جالس أحياناً قبل أن يقوم) فكلمة أحياناً تدل على أن الأصل أنه ما كان يرفع يديه إلا بعد القيام.

كيفية تحريك السبابة في التشهد

كيفية تحريك السبابة في التشهد Q كيف يكون الوضع الصحيح لسبابة اليمنى أثناء التشهد؟ A المسألة هذه فيها نزاع على اعتبار شذوذ زيادة زائدة بن قدامة من عدمها، فمن قال بزيادة زائدة بن قدامة مع أنها في صحيح مسلم وشذوذها يقول: السنة في الأصبع أو السبابة اليمنى الإشارة فقط. ومن قال بأن هذه الزيادة زيادة ثقة قال بجواز رفع السبابة والخفض، فتكون اليد على الفخذ والإشارة بها على المذهب الأول وهو الذي يترجح لدي، أما بعض الناس فيتكلف هيئات أخرى للإشارة بالسبابة لا دليل عليها. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات - بيان إثم من سن القتل

شرح صحيح مسلم - كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات - بيان إثم من سنّ القتل القتل من الكبائر والجرائم التي حرمتها كل الشرائع، فمن قتل نفساً فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً، وأول ما يحاسب عليه المرء يوم القيامة الصلاة والدماء، وقد بين الشرع أن لولي القتيل الخيار بين أن يقتص من القاتل عمداً أو يأخذ الدية أو يعفو، والعفو خير له.

باب بيان إثم من سن القتل

باب بيان إثم من سن القتل الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، أما بعد: فمع الباب السابع من كتاب القسامة والمحاربين (باب بيان إثم من سن القتل). أي: باب إثم من أحدث القتل أولاً.

شرح حديث: (لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها)

شرح حديث: (لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها) قال المصنف رحمه الله: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن عبد الله بن نمير واللفظ للأول -أي: لـ أبي بكر - قالا: حدثنا أبو معاوية -وهو محمد بن خازم الضرير - عن الأعمش - سليمان بن مهران الكوفي - عن عبد الله بن مرة عن مسروق بن الأجدع عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها؛ لأنه كان أول من سن القتل)] أي: أحدثه. أول مخلوق أحدث القتل هو قابيل، حينما قتل أخاه هابيل، ظلماً بغير حق. ومعنى (كفل من دمها). أي: حظ ونصيب؛ لأنه كان أول من سن القتل وأحدثه واخترعه. قال: [وحدثناه عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير -وهو ابن عبد الحميد الضبي - وحدثنا إسحاق بن إبراهيم -المعروف بـ ابن راهوية - أخبرنا جرير وعيسى بن يونس -وهو ابن أبي إسحاق السبيعي - وحدثنا ابن أبي عمر - محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني نزيل مكة- قال: حدثنا سفيان]. وإذا حدث العدني عن سفيان فإنما هو ابن عيينة [كلهم عن الأعمش] يعني: جرير وعيسى بن يونس وسفيان بن عيينة كلهم يروون عن الأعمش [بهذا الإسناد]، عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن ابن مسعود. [وفي حديث جرير وعيسى بن يونس (لأنه سن القتل) وليس فيه (أول). ] أي: ولم يذكرا لفظ (أول) وإنما (لأنه سن القتل). أي: لأنه أول من سن القتل.

كلام النووي في حديث الباب

كلام النووي في حديث الباب قال النووي: في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها؛ لأنه كان أول من سن القتل). قال: الكفل هو الجزء والنصيب. يعني: لا بد أنه يأخذ شيئاً وحظاً ونصيباً من كل أحداث القتل التي تكون إلى قيام الساعة؛ لأنه هو الذي لفت أنظار الخلق إلى هذا الجرم العظيم، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها -أي اقتدى به فيها- لا ينقص ذلك من أوزارهم شيء). وهذا إلى قيام الساعة. كما (أنه من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً). وكذلك هذا إلى قيام الساعة. فالذي يسن خيراً له نصيب ممن اقتدى به؛ لأنه سبب ذلك، وهو الذي سن الخير، والذي يسن شراً لا بد أن له نصيباً من هذا الشر. لأنه أول من أحدث الشر. وقال عليه الصلاة والسلام: (الدال على الخير كفاعله، والدال على الشر كفاعله وإن لم يفعل). لأن الدلالة على الشر قامت مقام الفعل، فلو أنك أعطيت سكيناً لرجل وقلت له: اذهب فاقتل فلاناً فأنت قاتل وإن لم تباشر القتل بنفسك؛ لأنك متواطئ على القتل. ولذلك قيل لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لم يقتلها فلان وفلان. قال: ألم يتواطئوا على قتلها؟ قالوا: بلى. قال: لو تمالأ وتواطأ أهل اليمن على قتلها لقتلتهم بها. وهذا مذهب جماهير العلماء: أن العدد الكثير يقتل بالواحد إذا تواطئوا على قتله، فلو تواطأ جماعة على قتل رجل قتلوا به. والمعلوم أنه قتل بضربة واحد لا بضربة المجموع، ولكنهم لما تواطئوا، واتفقوا واتخذوا لذلك الوسائل لإزهاق الروح كانوا في حقيقة أمرهم قتلة، وإن لم يباشروا جميعاً القتل. قال النووي: (هذا الحديث من قواعد الإسلام). أي من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام. (وهو أن كل من ابتدع شيئاً من الشر كان عليه مثل وزر كل من اقتدى به في ذلك العمل إلى يوم القيامة، ومثله من ابتدع شيئاً من الخير كان له مثل أجر كل من يعمل به إلى يوم القيامة، وهو موافق للحديث الصحيح (من دل على خير فله مثل أجر فاعله) وللحديث الصحيح: (ومن سن سنة حسنة). (ومن سن سنة سيئة) وللحديث الصحيح (ما من داع يدعو إلى هدى). (وما من داع يدع إلى ضلالة)] إلا كان له حظ من الهدى، وكان له حظ من الضلالة، والأحاديث كلها في هذا الباب تدور في فلك واحد. ولا يفهم من حديث (أن من سن سنة حسنة في الإسلام له أجرها) أنه يبتدع أو أنه يجوز له أن يبتدع في دين الله الشيء الحسن؛ لأن الحسن ما حسنه الشرع، والقبيح ما قبحه الشرع، فلا يمكن أن يؤذن أو يسمح لأحد من أهل الإسلام أن يأتي بشيء يدخل به على الإسلام وليس منه، ونعده حينئذ من باب الحسنات، أو من باب السنن الحسنة؛ لأننا لا بد أن ننظر إلى مناسبة هذا الحديث: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً). وهو (أن قوماً من مضر أتوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام مجتابي النمار) أي: قتلهم الهزال، والضعف، والجوع، والحاجة، (فلما رآهم النبي عليه الصلاة والسلام تمعر وجهه). يعني: تغير وجهه وحزن وغضب لما نزل بهم من فقر وحاجة (فعرف ذلك أحد أصحابه فقام فأتى بما عنده) أي: من طعام أو شراب أو كسوة (فلما رآه أصحابه قد فعل ذلك وسر النبي عليه الصلاة والسلام بفعل هذا الصاحب، قام كل واحد منهم إلى بيته فمنهم من أتى بكسرة خبز، ومنهم من أتى بطعام، ومنهم من أتى بشراب، ومنهم من أتى بملبس، فوضعوه في نطع ثم حملوه، والنطع هو الفرش من الجلد، فحملوه حتى كادت أيديهم أن تكل - أي تعجز عن حمل هذا النطع بل قد كلت، فأتوا به إسعاداً لنبي الله عليه الصلاة والسلام ومساعدة لهؤلاء الفقراء المحتاجين - فلما رأى النبي عليه الصلاة والسلام من أصحابه ذلك أراد أن يكافئ من سن هذه السنة الحسنة أولاً فقال: من سن في الإسلام سنة حسنة) فلو أننا نظرنا إلى أصل هذا الحديث لوجدنا أن هذا الصاحب الأول قد فعل شيئاً يأذن به الشرع؟ فإنه الذي ذهب إلى بيته فأتى بما عنده مع قلته، فهو ما ابتدع في الإسلام شيئاً، بل إنه قرر مبدأً عظيماً، أو مبادئ عظيمة في الإسلام وهو مبدأ مواساة الفقراء والمحتاجين، وهذا أصل أصيل في الإسلام، وخدمة الفقراء، وإعانة الملهوفين، وإغاثتهم كل هذا إنما فعله هذا الصاحب؛ لأن الإسلام قد سنه أولاً فهو ما زاد على أنه ذكَّر الأصحاب بواجبات شرعية قد أذن وأمر وحث عليها الشرع، فلم يأت بجديد. ولو نظرت إلى مجموع البدع التي أحدثت في الإسلام لوجدت أنها في مجموعها أمور خيرية لا بأس بها إذا لم تفعل على أنها من الدين، أما لو فعلت على أنها دين فهذا هو الابتداع؛ لأن خطر الابتداع يكمن في اتهام الله عز وجل، واتهام الرسول عليه الصلاة والسلام

باب المجازاة بالدماء في الآخرة

باب المجازاة بالدماء في الآخرة الباب الثامن: (باب المجازاة بالدماء في الآخرة). المجازاة: المقاصة. أي: تقتص ممن أسال دمك، وأزهق روحك، فالجزاء بمعنى المقاصة، وأنها أول ما يقضى فيه بين الناس يوم القيامة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (أول ما يحاسب عليه المرء يوم القيامة: صلاته فإن صحت صح ما بعدها، وإن فسدت فسد ما بعدها). وهنا يبين هذا الحديث أن أول شيء يقضى فيه بين العباد يوم القيامة هو الدماء، فظاهر الأمر التعارض بين الحديثين، ولا يمكن أن يقال: (من أول ما يقضى فيه بين العباد الدماء). فلا يمكن إدخال (من) التي هي للتبعيض أو للتجزئة، ولا يستقيم المعنى، فإذا كان الحديث الأول يقول: (أول ما يقضى فيه بين العباد يوم القيامة الدماء). والحديث الثاني يقول: (أول شيء يحاسب عليه المرء يوم القيامة الصلاة). فهنا يكون التعارض. وأهل العلم يقولون: عند تعارض ظواهر النصوص لا بد من بحث مسألة أولية وهي: إثبات صحة هذه الأدلة، فإن تبين لنا أن أحد الأدلة ضعيف والآخر صحيح لم يبق حينئذ إشكال؛ لأن الضعيف يكفي في رده أنه ضعيف، ويسلم لنا دليل واحد فلا يكون حينئذ في القضية أي تعارض، لكن المشكل إذا صح الدليلان وظاهرهما التعارض فلا بد من إضافة مسألة اعتقاديه في هذا المقام وهي: أن هذان الدليلان إذا صحا فلا بد من القول بأنهما قد خرجا من مشكاة واحدة، إما أن يكون الذي قال هذا هو الله عز وجل، أو أنه رسوله عليه الصلاة والسلام، وقول الرسول وحي بلا خلاف عند أهل السنة، والله تعالى يقول: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، فإن كنا نؤمن أن كل الوحي المتلو وغير المتلو هو من عند الله عز وجل، وأن الذي يأتي من قبل الله عز وجل لا يمكن أن يكون فيه تعارض فلا بد أن نرجع على أنفسنا فوراً بالاتهام بقصور الفهم. نقول: هذان الدليلان وإن كان ظاهرهما التعارض إلا أن هذا التعارض فيما يبدو للناظر ليس في أصل الخبرين؛ لأنك لو قلت: إن التعارض في النص لا بد أنك ستتهم الله تعالى، أو تتهم الرسول عليه الصلاة والسلام، وأنتم تعلمون أن هذا كفر لا نزاع فيه، فإذا ثبت صحة الدليلين فإما أن نقول بأن أحدهما سابق والآخر لاحق، وهذه المسألة يتطرق إليها ما يسمى عند العلماء بالنسخ. أي: أن أحد الدليلين ناسخ للآخر، لكننا لا نذهب إلى النسخ إلا إذا استحال الجمع؛ لأن الأصل أن إعمال الدليلين خير من إهمال أحدهما، فأن أعمل بالنصين خير من أن أرد نصاً بغير بينة ولا حجة، وأعمل بالنص الآخر، فإعمال الدليلين وذلك بمحاولة التأليف بين النصين للعمل بهما معاً أفضل، فمثلاً: حديث طلق بن علي رضي الله عنه: (لما سأل النبي عليه الصلاة والسلام يا رسول الله! أنتوضأ من مس الذكر؟ قال: لا. إنما هو بضعة منك). أي: جزء منك مثل الساق، ومثل القدم، ومثل بقية أعضائك. وفي حديث بسرة قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من مس ذكره فليتوضأ). فلا شك أن التعارض ظاهر، والخطوة الأولى التي اتفقنا عليها، وهي أنهما صحيحان. الخطوة الثانية: لا يمكن مع ثبوت صحة الدليلين أن يكون النبي عليه الصلاة والسلام أخطأ في أحدهما، فمن اعتقد ذلك فقد كفر. الثالثة: إذا أمكننا الجمع بين هذين النصين وإلا صرنا إلى النسخ، ولذلك بعض العلماء ذهب إلى النسخ مباشرة وقال: إذا ثبت عندنا السابق واللاحق صرنا إلى النسخ، ولا حاجة بنا إلى تكلف الجمع. وعلامة النسخ: هو ظهور الاختلاف في النصين، وأن طلق بن علي أسبق إسلاماً من بسرة، فيكون حديثه هو المنسوخ، وحديث بسرة هو الناسخ، وحديث طلق (إنما هو بضعة منك) جاء في أول الإسلام، وأن من مس ذكره في أول الإسلام لا وضوء عليه، لكن لما استقر الأمر وتفقه الناس قال عليه الصلاة والسلام: (من مس ذكره فليتوضأ). هكذا ذهب جماهير العلماء. والأحناف ومن معهم قالوا: لا نسخ في هذه القضية؛ لأن الجمع ممكن؛ لأن الأصل الأصيل: إعمال الدليلين خير من إهمال أحدهما. قالوا: لا نسخ في القضية. والدليل: أن حديث طلق بن علي مع حديث بسرة محمولان على أن من مس ذكره بشهوة. وهذا مقصود النبي عليه الصلاة والسلام، فمن فعل ذلك فعليه الوضوء، ومن مس ذكره بغير شهوة فلا وضوء عليه. نرجع إلى أصل موضوعنا: (أول ما يقضى فيه بين العباد هو الدماء)، هذا فيما يتعلق بالقضاء والفصل في المنازعات بين الخلق؛ لأنها من حقوق العباد، فأول ما يقضى فيه من حقوق العباد هو الدماء، أما الصلاة فإنها من حق الله تعالى ولذلك أول ما يحاسب عليه المرء يوم القيامة فيما يتعلق بحق الله هو الصلاة، فلم يبق في هذين الحديثين تعارض.

شرح حديث: (أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء)

شرح حديث: (أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء) قال: [حدثنا عثمان بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم بن راهويه ومحمد بن عبد الله بن نمير جميعاً عن وكيع -هو ابن الجراح - عن الأعمش، (ح) وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبدة بن سليمان ووكيع عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله -إذا روى أبو وائل عن عبد الله فإنما هو عبد الله بن مسعود قولاً واحداً- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء)] والقيد هنا: بين الناس. أما إذا ورد القضاء مطلقاً فيكون بين العباد وبين الله عز وجل. قال: [وحدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي (ح) وحدثني يحيى بن حبيب الحارثي حدثنا خالد بن الحارث (ح) وحدثني بشر بن خالد -وهو أبو محمد العسكري الفرائضي نزيل البصرة- حدثنا محمد بن جعفر - غندر - (ح) وحدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار -وهما فرسي رهان- قالا: حدثنا ابن أبي عدي كلهم عن شعبة عن الأعمش عن أبي وائل -وهو شقيق بن سلمه الكوفي - عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله غير أن بعضهم قال عن شعبة يعني: (أول ما يقضى) وبعضهم قال: (يحكم بين الناس)] والقضاء شعبة من شعب الحكم.

باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال

باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال الباب التاسع: (باب تغليظ تحريم الدماء، والأعراض، والأموال). والشرع إنما جاء لحفظ خمسة أشياء: حفظ الدماء، والأعراض، والأموال، والعقل، والدين. وحفظ وهدف الإسلام الدماء بتحريم القتل. إذا: الأغراض الأساسية للتشريع خمسة: حفظ الدماء بحرمة القتل، وحفظ الأعراض بحرمة الزنا، وحفظ الأموال بحرمة السرقة، وحفظ العقل بحرمة الخمر، وحفظ الدين بحرمة الردة. هذه الخمسة الأشياء ينبغي على كل طالب علم أن يحفظها؛ لأنها هي الأغراض الأساسية لدين الله عز وجل. أما هذا الحديث فإنه تناول أغراضاً من أغراض الشرع، وهي: حفظ الدماء، والأموال، والأعراض، حتى وإن كانت أموال الكفار، وأعراض الكفار، فلا يجوز الاعتداء على أموالهم والسطو عليها، ولا يجوز انتهاك أعراضهم بالزنا، ولا يقول بجواز ذلك إلا إنسان قد ذهب عقله، فدماؤهم محفوظة وأموالهم محفوظة، وأعراضهم محفوظة كحفظ دماء وأعراض وأموال المسلمين تماماً بتمام، ولا تستباح دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، وسيأتي هذا معنا بإذن الله في كتاب الجهاد.

شرح حديث: (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض)

شرح حديث: (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض) [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ويحيى بن حبيب الحارثي وتقاربا في اللفظ، قالا: حدثنا عبد الوهاب -وهو ابن عبد المجيد الثقفي - عن أيوب -وهو ابن أبي تميمة كيسان السختياني البصري - عن ابن سيرين -وهو محمد - عن ابن أبي بكرة وهو عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبي بكرة الثقفي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض)]. أي: كيوم خلق الله السماوات والأرض. يعني: هذا التبديل والتغيير في أشهر الله تعالى إنما أحدثه الخلق، أما الله تعالى فقد خلق الأيام والشهور، وخلق السموات والأرض على غير ما أحدثه وابتدعه المبتدعون وبدلوا فيه وغيروا وحرفوا، فوافق دخول النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع مكة المكرمة استقامة الدنيا، واستقامة السموات والأرض على نحو ما خلقها الله منذ أول يوم، وسيأتي مناسبة ذلك. قال: [(السنة اثنا عشر شهراً)] وهي في كل الأحوال اثنا عشر شهراً. يعني: المبدلون والمغيرون لم يستطيعوا أن يجعلوا السنة إحدى عشر أو ثلاث عشر، لكن التبديل والتغيير إنما جعل في ترحيل شهر مكان شهر، وتبديل شهر مكان شهر. قال [(منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات)] يعني: ثلاثة أشهر متواليات شهر بعد شهر، وإن كانت في سنتين، وهي: (ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم) مع أن الاثنين الأولين في سنة والثالث أول السنة التالية. ثم قال: [(ورجب مضر)] سمي بذلك لأن قبيلة مضر كانت تعظم هذا الشهر، لا تتطرق إليه بنسيئة. يعني: لا تبدله ولا تأخره ولا تغيره، بخلاف غيرها من قبائل العرب. وسميت بالأشهر الحرم؛ لأن الله تعالى حرم فيها القتل والحرب، وكان هذا معروفاً معلوماً في الجاهلية قبل الإسلام، وقد كان العرب لا يقاتلون فيها، وينتظرون مرور هذه الأشهر في أمان وسلام وإعداد للقتال، وبعد مرور هذه الأشهر يقع القتل والحرب والخراب بين القبائل أو العشائر، أما في هذه الأشهر فأمر محال أن يحدث، ولكنهم احتالوا على حرمة هذه الأشهر كما احتال اليهود على السبت، لما حرم الله تعالى عليهم صيد البحر في السبت ورموا الشباك يوم السبت ورفعوها في يوم الأحد. وهذه حيلة لا تخفى على الله؛ لأن الله تعالى لا يخفى عليه شيء، فكذلك هؤلاء الوثنيون العرب احتالوا على حرمة الأشهر، لا بأنهم اعدوا عدتهم في هذه الأشهر فقاتلوا بعدها كما فعلت اليهود بل كانوا شراً من ذلك، لأنهم رحلوا الشهر نفسه إلى شهر آخر، فجعلوا شهر المحرم ينتقل إلى صفر، ويحل صفر مكانه، فيقاتلون بعضهم البعض في شهر محرم ويزعمون أنهم يقاتلون في شهر صفر، وفي العام المقبل ينتقل صفر إلى شهر أسبق أو ألحق، وهكذا حتى إذا كان صفر هو الشهر الثاني في السنة فربما يكون في سنة هو الأول، وربما يكون في سنة هو الثالث، أو هو الرابع، أو الخامس، وهكذا حرم الله تعالى عليهم النسيئة، وهو: التأخير. أي: تأخير أشهر الحرم حتى يتسنى لهم القتل بزعمهم في أشهر ليست حرماً، وظلوا على هذا النحو حتى كان شهر المحرم في عام هو الشهر الثاني، وفي العام الذي بعده هو الثالث، أو الرابع، أو الخامس، حتى مرت الأيام ورجع شهر المحرم إلى موطنه الذي جعله الله فيه وهو الشهر الأول في السنة، فلما كان حجة الوداع ناسب ذلك، ووافق ذلك ترتيب الشهور على النحو الذي خلقها الله عز وجل عليه في أول الأمر، فقال النبي عليه الصلاة والسلام حينئذ: (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض). يعني: هذه السنة التي نحن حججنا فيها حجة الوداع قد رجعت إلى أصلها وهو الترتيب الطبيعي للأشهر الذي رتبه الله عز وجل؛ لأن هؤلاء قد أحدثوا، وابتدعوا في ترتيب الأشهر ما لم يأذن به الله عز وجل. قال: (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ثلاثة متواليات) وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم (ورجب الفرد). سمي رجب الفرد؛ لأنه انفرد، ولم يكن تابعاً ولا متوالياً مع هذه الأشهر، فهو يسمى رجب الفرد أو رجب مضر. قال: [(ورجب شهر مضر، الذي بين جمادى وشعبان)]. لأن رجب هو الذي يسبق شعبان ويلحق جمادى الآخر. [ثم قال: (أي شهر هذا؟)]، المعلوم أن النبي عليه الصلاة والسلام إنما وضع لهم أصل القضية الأولى وهي أن الله سبحانه وتعالى خلق السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم، والنبي عليه الصلاة والسلام يخطب في منى في المنحر، ومعلوم أنه لا يخفى على الصحابة في حجة الوداع أن المكان هذا اسمه منى، أو البلد الحرام، وأن الحج في شهر ذي الحجة، ولا بد أن يبدأ من يوم التروية، وهو يوم الثامن، وينتهي إما في الثالث عشر، أو الرابع عشر، فهذه المسألة ثابتة، فكان النبي عل

معنى قوله: (ألا ليبلغ الشاهد الغائب)

معنى قوله: (ألا ليبلغ الشاهد الغائب) قال: [(قال: ألا ليبلغ الشاهد الغائب)] وفي هذا: إثبات أن الدعوة إلى الله عز وجل فرض كفائي إذا فعله البعض سقط عن الباقين. يقول جمهور العلماء: وهذا فيما يتعلق بمسائل الاجتهاد. أي: المسائل التي تحتاج إلى علم وبصيرة وأدلة. أما المسائل العامة التي لا تحتاج إلى دليل فإن تبليغها واجب على كل إنسان، كالصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، وتحريم الفواحش، وحل الطيبات، فهذا كل الناس يعلمونه، حتى الكافر يعلم ذلك، فإنه إذا رأى إنساناً يمد يد العون والصدقة، أو يغيث الملهوف أو غير ذلك لإنسان آخر فإنه لا يخفى عليه أن هذا عمل صالح. ولو أن كافراً رأى مسلماً يزني، أو يسرق، أو يشرب الخمر، فقال له: اتق الله هذا مما حرمه الله؛ لأن الله تعالى حرم ذلك حتى على اليهود والنصارى، فهل يقول له المسلم: أنا لا أقبل منك؛ لأنك كافر. لا يحل له ذلك، والنبي عليه الصلاة والسلام قال لـ أبي هريرة عن الشيطان: (صدقك وهو كذوب). فقد صدقه في هذا الموطن؛ لأنه لا حاجة له تدعوه إلى الكذب، فأحياناً الصدق والحق والخير يأتي من الكافر، والعدل قامت عليه السماوات والأرض، والحكمة هي ضالة المسلم فإنه يلتمسها حتى وإن كانت على يد كافر. والنبي عليه الصلاة والسلام أمر أصحابه ومنهم جعفر بن أبي طالب بالهجرة إلى الحبشة؛ لأن ملكها النجاشي رحمه الله لا يظلم عنده إنسان. هذه هي العلة. ولذلك لما ذهب عمرو بن العاص قبل إسلامه وكان داهية من دواهي العرب إلى الحبشة، قال للنجاشي: إنهم يقولون في عيسى قولاً عظيماً. فلم يرد على قول عمرو ابتداءً، ويقل له: أنت كذاب، وأنت مفتر، بل أمر بأن يحضر جعفر ومن معه فقال له: ماذا تقولون في عيسى؟ وماذا قال نبيكم وقرآنكم في عيسى؟ فقرأ عليه آيات من سورة مريم. فقال النجاشي حينئذ: والله لا يعدو قول عيسى هذا العرجون، وتناول عصاً من الأرض، والعصا تسمى في لغة الحبشة العرجون. قال: والله ما فارق أمر عيسى هذا العرجون. يعني: القرآن الذي جاء الله به على لسان نبيكم وحي السماء، ليس أكثر ولا أقل منه في شأن عيسى، ولذلك نخر البطارقة الذين حضروا هذا المشهد نخراً عظيماً، وعلت أصواتهم كأنهم ينكرون على النجاشي أمره. قال: والله لا يعدو أمر عيسى هذا العرجون مهما نخرتم وارتفعت أصواتكم. لأنه رجل عدل، فإذا جاءتنا النصيحة ولو من مشرك كافر وثني قبلناها، وإذا جاءنا الشر من أعبد الخلق رددناه عليه. الواحد منا إذا أتاه خبر من محب قبله، وإن كان شراً ستره ولم يفضحه؛ وهذا شيء طيب، لكن الذي يحتاج إلى تقويم هو أننا نرد الشر على من جاء به وإن كان محباً، ونقبل الخير ممن جاء به، ولو كان كافراً، ودائماً نقول: الحق يقبل من كل من جاء به، والشر يرد على كل من جاء به. نحن قد وصلنا في وقت من الأوقات أننا لا نقبل أي شيء نهائياً من الأزهر، ومبرر ذلك أن علماء الأزهر هؤلاء علماء سلطة، علماء مال، نعم هم كذلك لكن ليس كلهم، فإن فيهم أناساً أفاضل. وبعض الناس يقول: لو أن الأزهري قرأ القرآن سوف أتهمه. وهذا بصراحة بغض مفرط جداً بصراحة، وغلو شديد جداً، وأنا شخصياً من سألني في مسألة الطلاق أقول له: اذهب إلى الأزهر، فإن هذه المسألة من مسائل الطلاق بعيدة عن الأموال والسياسة، ليس لهم فيها مصلحة، فإنهم يفتون بشرع الله، ففي هذه المسائل هم علماء فيها، وأساتذة كبار، حتى أنني مرة من المرات ذهبت مع شخص طلق زوجته فذهبت به إلى شيخ أزهري، فسأله الشيخ أسئلة كانت لا يمكن أن تخطر ببالي، تصور أنني قد عقدت في نفسي حكماً معيناً لهذه القضية المطروحة، ولما ذهبت وجلست بين يدي هذا الشيخ غيرت رأيي في القضية بناءً على إجابة هذا الإنسان السائل لأسئلة هذا الشيخ. قال: [(ألا فليبلغ الشاهد الغائب)]. هذا فيه: حجة لجماعة التبليغ، فهم يحتجون بآيات القرآن الكريم التي تتكلم عن الجهاد أنه جهاد الدعوة، الدعوة نوع من أنواع الجهاد لكنها واجبة على أهل العلم، هم لا يقولون أنهم أهل علم، وفي حقيقة الأمر هم لا يسمحون لأحد قط أن يلقي درساً بين أيديهم، إنما الذي يلقي الدرس والذي يلقي البيان والذي يعمل كل شيء، والذي يقوم في الناس ويكلمهم يكون منهم. تصور أن شخصاً منهم كان يشرب الخمر، ويقطع الصلاة ثم يهتدي ويدخل المسجد ثم يلقي البيان، ويحتج بقول النبي عليه الصلاة والسلام: (بلغوا عني ولو آية). والمراد بـ (بلغوا عني ولو آية) يعني بلغوا العلم، ليس المقصود عين الآية، أو المقصود عين المسألة العلمية، إذا سألتني فيها وأنا على علم بها وجب علي البلاغ والإخبار. إذاً: هذا الكلام كله الذي يستشهد به جماعة التبليغ من الكتاب والسنة على صحة منهجهم ليس استشهاداً صحيحاً في محله، إنما هو في غير محله، ومراد الله تعالى، ومراد الرسول عليه الصلاة والسلام من هذه الآيات وهذه الأحاديث ليس هو منهج جماعة التبليغ،

باب صحة الإقرار بالقتل

باب صحة الإقرار بالقتل الباب العاشر (باب صحة الإقرار بالقتل). يعني: لو أتى شخص وقال: أنا قتلت. صح إقراره، ويثبت عليه الحكم؛ لأن الإقرار سيد الأدلة، فهذا الإقرار وإن كان كلاماً ليس منصوصاً عليه في الشرع لكنه على أية حال كلام شرعي. والإقرار له شروط: أن يكون المقر بالغاً، عاقلاً، سليماً من الآفات. فلا يصح إقرار المجنون على نفسه أنه قاتل؛ لأن المجنون يقول كلاماً يضره وهو لا يدري أنه يضره، فالإقرار إما ابتداءً أو ادعاءً. ابتداءً يعني: هو لما قتل أتى إلى القاضي وقال: أنا قتلت. مثل المرأة الغامدية لما زنت، أتت من طور إراداتها، وقالت: يا رسول الله! فجرت فلا تفعل معي كما فعلت بـ ماعز بالأمس. يعني: لا تقررني مثلما قررت ماعزاً بالأمس، أنا أتيت أقول لك: أنا فجرت فطهرني، وأعرف ما معنى أني فجرت، وأيضاً أنا حبلى من الزنا. والنبي عليه الصلاة والسلام لم يفعل معها كما فعل مع ماعز. قال لها: اذهبي حتى تضعي الحمل. لم يقل: ما هذه الفضيحة؟ وزوجها سوف يطلقها، وبيتها سوف يخرب، والعائلة سوف تتشرد، أو لا بد أن تذهب إلى دكتور يجهضها. لا. إنما حافظ النبي على حرمة الجنين حتى وإن كان ماؤه هدراً -لأنه من زنا- فأمر ووصى أولياء المرأة بالمحافظة على المرأة وعدم المساس بها أو التعرض لها بأذى حتى تضع الحمل. فرجعت مرة ثانية، وهذا من إصرارها على التوبة، فأتت بولدها بعد عامين وفي يده كسرة خبز، وقالت: أقم علي الحد، حينئذ أقام النبي عليه الصلاة والسلام عليها الحد، وأثبت المغفرة لها، وأنها من أهل الجنة فقال: (لقد تابت توبة لو تابها سبعون من أهل المدينة لقبل منهم). ومعلوم أن الله تعالى يقبل توبة من تاب، فحينئذ لو أقر الإنسان ابتداءً بين يدي الحاكم أو القاضي أو السلطان، أو من أنيط به إقامة الحد وفصل المنازعات ووضع القضاء، وقال له: أنا فعلت كيت وكيت. فالواجب على الحاكم فقط أنه يتأكد أن عقله سليم أم لا، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال عن ماعز: (أبه جنون؟ قالوا: والله ما به جنون. قال: لعله سكر -أي: الرجل ممكن أنه كان سكران- ثم أدناه النبي منه حتى استنكهه). يعني: شم ريحة فمه بنفسه عليه الصلاة والسلام من أجل أن يتأكد أنه خالٍ من العوارض كلها، فإن خلا من العوارض قامت عليه بعد ذلك الحجة، ولزمه إقراره. والإقرار ابتداءً، هو من غير أي دعوى، كأن يذهب إلى الحاكم ويقول له: أنا حصل مني كيت وكيت، ويطلب منه أن يقيم عليه الحد، وهذا إقرار ابتدائي. أما الإقرار الدعوي فهو لم يقر إلا بعد أن أقيمت عليه الدعوى، ففي هذه الحالة الإقرار معتبر في كل الأحوال. وفي سحب الإقرار نزاع بين أهل العلم، كأن يقر شخص أنه قتل وحكم عليه بالإعدام، لكن عند التنفيذ العملي لما رأى حبل المشنقة، قال: لست قاتلاً، إنما القاتل فلان، وسأورد لكم الأدلة. في هذه الحالة الإقرار غير معتبر، وهذا هو الراجح من أقوال أهل العلم، إذا رجع المقر عن إقراره وأقام البينة على ذلك لم يكن هناك اعتبار لإقراره الأول، لكن بشرط البينة والأدلة، وهذا الكلام سوف نأتي إليه بإذن الله. فقوله هنا: (وتمكين ولي القتيل من القصاص). أي: إنما يقتله السلطان، ولا بأس أن يقتل ولي القتيل القاتل، لكن ذلك لا يكون إلا بأمر السلطان؛ لأن القتل له مؤهلاته، وله أسبابه وفقهه، وله أحكامه، فقد يكون القاتل مجنوناً فمن قتله ثأراً فإنما هو قتل غير شرعي، والذي يعمل في الصعيد نوع من هذا، وهو من الهمجية، وإن كانت الهمجية القديمة أحسن مما نحن فيه، فالهمجية التي تكون بحكم القبائل فيها شيء من الشرع، بخلاف الذي نحن عليه ليس فيه رائحة الشرع، فالناس لا يلتزمون بالشرع في الغالب، إنما يلتزمون بظواهر الشرع، أما بواطن الشرع وحقيقة الشرع في المعاملات، والأخلاق والسلوك والآداب وغيرها فلا، فحقيقة الأمر: نحن بعيدون كل البعد عن الشرع، ولا نتمسك إلا بظواهر الشرع، وهذا أمر يحتاج منا إلى وقفة مع الذات ووقفة مع النفس. قال: (واستحباب طلب العفو منه). أي: من القصاص إلى الدية، ومن الدية إلى العفو.

شرح حديث: (إن قتله فهو مثله)

شرح حديث: (إن قتله فهو مثله) [حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري حدثنا أبي حدثنا أبو يونس عن سماك بن حرب أن علقمة بن وائل] وهو وائل بن حجر الحضرمي الكوفي. وقيل: أن علقمة لم يسمع من أبيه. والصواب أنه سمع بدليل أنه قال: إن أباه حدثه. فحدثه هنا تصريح بالسماع. [قال وائل بن حجر: (إني لقاعد مع النبي عليه الصلاة والسلام إذ جاء رجل يقود آخر بنسعة)]. وهو الحبل المفتول من جلد. وفي هذا: جواز إذلال صاحب المعصية بما يرده عن معصيته ويردعه. [فقال يا رسول الله: (هذا قتل أخي. فقال رسول الله: أقتلته؟ قال: إنه لو لم يعترف أقمت عليه البينة)]. يعني: ولي القتيل لما سمع النبي عليه الصلاة والسلام وهو يسأل القاتل قال له: لو لم يعترف لأقمت عليه البينة. وهذا الأصل الأصيل، قال عليه الصلاة والسلام: (البينة على المدعي واليمين على من أنكر). لكن لا بأس أن المدعى عليه يقر فإذا أقر ارتفع النزاع، فإذا لم يقر وجب على المدعي أن يقيم البينة ولا يقبل منه يمين؛ لأن يمينه لا يحل محل البينة من المدعى عليه، ولا ينتقل حق المدعى عليه إلى المدعي، والبينة على المدعي، وهذا الكلام من أعلام النبوة، وكلام من جوامع الكلم عليه الصلاة والسلام، فقال: (البينة على المدعي). فالنبي عليه الصلاة والسلام يسأل المدعى عليه يقول له: هل أنت قتلته. قال له: يا رسول الله هذا لو لم يعترف وأقر أنا أقيم عليه البينة. [(فقال: نعم قتلته)]. وهذا بالإقرار. [قال: (كيف قتلته؟ قال: كنت أنا وهو نختبط)] الخبط عند العرب لم يكن من أجل الثمر نفسه بل ربما يكون للورق يتخذونه أعلافاً لدوابهم، كانوا يخبطون الأشجار، فتنزل الأوراق فيطعمون بها الدواب. [(قال: يا رسول الله كنت أنا وهو نختبط من شجرة فسبني فأغضبني، فضربته بالفأس على قرنه فقتلته)]. والقرن هو ناحية الرأس وليس وسط الرأس، فضربه به فقتله [(فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: هل لك من شيء تؤديه عن نفسك)]. لأن هذا قتل عمد، فإنه قصد قتله بما يقتل غالباً وهو الفأس. قال: [(قال: ما لي مال إلا كسائي وفأسي)] يعني: هو ليس له مال غير الكساء الذي هو يلبسه والفأس فقط. قال [(قال: فترى قومك يشترونك)] أي: الأصل في قتل العمد القصاص، لكن لو أنا شفعت لك ونزلوا من القصاص إلى الدية فهل أهلك ممكن أن يدفعوا الدية عنك؟ قال: [(فقال: أنا أهون على قومي من ذاك)] أي: لا يوجد أي شخص يحترمه، هم يريدون أن يتخلصوا منه وربما نازعوا في مسألة الدية، وطالبوا بالقصاص، من أجل أن يتخلصوا منه بالكامل. قال: [(فرمى إليه بنسعته)] يعني: رمى الحبل من يده وسلمه لولي المقتول، وبعد ذلك ولي القتيل حس أن النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يشفع له من القصاص إلى الدية، والقاتل ليس عنده شيء، ولا أهله مستعدون أن يساعدوه، بل يريدون أن يتخلصوا منه [(فرمى إليه بنسعته وقال: دونك صاحبك، فانطلق به الرجل فلما ولى -أي: لما ذهب- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن قتله فهو مثله. قال: فرجع إليه الرجل، فقال: يا رسول الله! إنه بلغني أنك قلت: إن قتله فهو مثله، وأخذته بأمرك)] أي: أنت الذي أعطيتني الحبل وقلت لي: خذه وتصرف فيه، وأنت حر فيه. [(فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ألا تريد أن يبوء بإثمك وأثم صاحبك)] أي: أما تريد أنت يا صاحب الحق أن يتحمل عنك هذا القاتل ذنوبك الكثيرة، كما يتحمل ذنوب أخيك الذي قتله؟! بلا شك أن الواحد يتمنى ذلك. وهذه شفاعة لكنها في صورة دلال وحب زائد، فالنبي يقول له: أنا أنصحك مع ثبوت الحق لك -أي: الحق ثابت لك في القصاص- فإن شئت أن تنزل إلى الدية فهو أفضل، لكن الأفضل من ذلك أن تعفو لأنك لو قتلته ستكون مثله، وإن لم تقتل سيتحمل ذنوبك، وذنوب أخيك الذي قتله. وهذه درجة عظيمة جداً وثمرة طيبة للعفو. قال: [(قال: يا نبي الله بلى)]. أي: أنا أريد شخصاً يحمل عني [(قال: فإن ذاك كذاك)] يعني: لو أنك عفوت عنه باء بإثمك وإثم القتيل. قال: [(فرمى بنسعته وخلى سبيله)]. قال له: بما أن وعد النبي صلى الله عليه وسلم لي أنك سوف تحمل عني وعن أخي عفوت عنك.

كلام النووي في حديث (إن قتله فهو مثله)

كلام النووي في حديث (إن قتله فهو مثله) أما قوله عليه الصلاة والسلام: (إن قتله فهو مثله) فالصحيح في تأويله أنه مثله في أنه لا فضل ولا منة لأحدهما على الآخر؛ لأنه ليس هناك فضل؛ لأنه استوفى حقه منه بخلاف ما لو عفا عنه، فحينئذ يكون له العفو والمنة واليد عليه طول حياته. وقيل وهو الرأي الثاني: هو مثله في أنه قاتل، وإن اختلف في الحكم، والحل، والحرمة، هذا قاتل وهذا قاتل، لكن الأول قتل ظلماً، والثاني قتل حقاً. فحينئذ هو مثله وإن اختلف الحكم، لكنهما استويا في طاعتهما الغضب، فالأول حمله الغضب من السب والشتم على القتل، والثاني حمله الغضب من القتل الذي وقع على أخيه أنه تشفى بالقصاص، فهما سواء في طاعتهما الغضب ومتابعة الهوى، لاسيما وقد طلب النبي عليه الصلاة والسلام منه العفو. وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا اللفظ الذي هو صادق فيه لإيهام مقصود صحيح وهو أن الولي ربما خاف فعفا، والعفو فيه مصلحة للولي والمقتول، كما أن فيه مصلحة للقاتل أنه بقيت حياته، ومصلحة لولي القتيل لذهاب الإثم والحرج عنه، وتحمل الآخرين عنه ذنوبه، وهذا معنى قوله: (يبوء بإثمك وإثم صاحبك) أي: وإثم أخيك. قال: (وقد قال الضمري: يستحب للمفتي إذا رأى مصلحة في التعريض للمستفتي أن يعرض تعريضاً يحصل به المقصود، مع أنه صادق) لأن المعاريض يلزم فيها الصدق؛ والمعاريض كلمة تحتمل وجهين المراد الوجه البعيد، والمقصود هو الوجه القريب. فلو جاء إليك شخص وقال لك: أنا سوف أقتل فلاناً فهل لي من توبة؟ فقد صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لا توبة للقاتل. وهو رأي باطل مردود. وقيل: إنه رجع عنه. والصواب هو مذهب الجماهير الذين قالوا: إن القتل ذنب، وكبيرة من الكبائر، فيأخذ حكم بقية الكبائر، فحينئذ لو أنك عرضت لمثل هذا بقول ابن عباس ردعاً له عن اقتراف الذنب أكنت محقاً في ذلك أم مبطلاً. لو أتى ألي هذا الوقت شخص وقال: يا شيخ السكينة في يدي وشخص من الإخوة الذين يحضرون معك قد أخذ مالي فإن لم يعطني مالي الآن أنا سوف أقتله هذا الوقت، فهل لي من توبة لو قتلته؟ أقول له: ليس لك توبة؛ لأن ابن عباس قال: لا توبة لقاتل. مع أنني لا أعتقد صحة هذا القول، لكنني صادق في نقل كلام ثبت عن ابن عباس، فحينئذ يجوز المعاريض لدفع البلاء، يجوز لشخص أن يعرض بقول هو صادق فيه لدفع بلاء أعظم من هذا التعريض. وفي الأثر: إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب. أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه وسلم.

كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات - في دية الجنين

شرح صحيح مسلم - كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات - في دية الجنين لقد فرضت الشريعة الدية على قتل الخطأ، سواء كان المقتول رجلاً أو امرأة أو طفلاً أو حتى جنيناً في بطن أمه، وجاء التفصيل في دية الجنين، فإن خرج الجنين ميتاً كانت ديته غرة عبداً أو أمة، وإن استهل ثم مات فديته دية كاملة إما ذكراً وإما أنثى.

باب في دية الجنين ووجوب الدية في قتل الخطأ وشبه العمد على عاقلة الجاني

باب في دية الجنين ووجوب الدية في قتل الخطأ وشبه العمد على عاقلة الجاني بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أما بعد: فمع الباب الحادي عشر والأخير من كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات وهو (باب: في دية الجنين ووجوب الدية في قتل الخطأ وشبه العمد على عاقلة الجاني). الدية تكون في القتل العمد على القاتل إذا عفا أهل القتيل عن القصاص، بخلاف القتل الخطأ أو شبه العمد فإن الدية على العاقلة، وسميت العاقلة بهذا الاسم؛ لأنها تأتي بالدية وتعقلها في دار أولياء القتيل. فقوله: (باب دية الجنين). أي: باب إثبات دية الجنين ووجوب الدية في القتل الخطأ، إلا أن يعفو الأولياء. وكذلك وجوب الدية في شبه العمد على عاقلة الجاني. وهناك فرق بين قتل العمد، وشبه العمد، والخطأ؛ لأن هذه الصور الثلاث يتم بها القتل، فمنه ما يكون عمداً كأن يقصد قتل فلان بمحدد، أو بمثقل، أو بآلة من شأنها القتل، فيضربه بها فيقتله، ويزداد هذا العمد بظروف أخرى ربما يكون لها تأثير فيما يسمى عند الفقهاء بالإصرار على القتل، كأن يحمل معه آلة من شأنها القتل كالسكين، أو غير ذلك، أو أن يتلصص أو يختبأ للمجني عليه في مكان يعلم يقيناً أن المجني عليه يمر به عادة الساعة الفلانية أو في الوقت الفلاني، أو أن يكون الظرف يساعد على إيقاع الجريمة كالليل مثلاً، سواء كانت جريمة قتل أو جريمة سرقة أو غير ذلك. وشبه العمد: هو استخدام آلة غير قاتلة ووقع بها القتل، هو أراد أن يضرب فلاناً لا أن يقتله، فلما ضربه بآلة ليس من شأنها القتل قتل، وربما أراد أن يقتل فلاناً من الناس فضربه بسهم فأصاب السهم رجلاً آخر. فهذه صورة الخطأ لا تنفي عنه عقوبة شبه العمد؛ لأنه تعمد القتل عموماً، ولكنه لم يقتل من تعمده إنما قتل شخصاً آخر، ويميز هذا من ذاك الآلة التي استخدمها، وهذا قد تكلمنا فيه بالتفصيل في الدروس الماضية.

شرح حديث أبي هريرة في قضاء النبي في الجنين بغرة

شرح حديث أبي هريرة في قضاء النبي في الجنين بغرة أما دية الجنين فقد قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك عن ابن شهاب -أي: الزهري - عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن امرأتين من هذيل -وهي اسم قبيلة- رمت إحداهما الأخرى)] أي: رمتها بحديدة، أو بحجر، أو بعمود فسطاط أو غير ذلك [(فطرحت جنينها)] أي: المضروبة طرحت جنينها فسقط ميتاً [(فقضى فيه النبي صلى الله عليه وسلم بغرة)]. والغرة بينها النبي عليه الصلاة والسلام بأنها عبد أو أمة، وكلاهما من الرقيق، فالعبد من الذكور والأمة من الإناث، فالنبي عليه الصلاة والسلام جعل دية الجنين غرة. [وحدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث -وهو ابن سعد - عن ابن شهاب عن ابن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتاً بغرة عبد أو أمة)] هذا الحكم والقضاء منه عليه الصلاة والسلام في الحادث الذي عرض عليه، وهو أمر المرأتين أحدهما من لحيان والثانية من هذيل، وكانتا تحت رجل واحد، فكلاهما ضرة للأخرى، فقامت إحداهما إلى الثانية فضربتها فسقط الجنين ميتاً، فقضى فيه النبي صلى الله عليه وسلم بأن جعل ديته غرة عبد أو أمة، ثم إن المرأة التي قضي عليها بالغرة توفيت. (عليها هنا بمعنى لها). أي: قضي لها بالغرة، وهي أم الجنين، فالمجني عليها هي التي ماتت لا الجانية. [(فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ميراثها لبنيها وزوجها)]. أي: ميراث هذه الأم وهي المجني عليها لأولادها وزوجها. [(وأن العقل على عصبتها)]. والضمير في عصبتها يعود إلى الجانية، وهذه الرواية ظاهرها مشكل جداً لكن هذا هو التأويل الصحيح الذي يوافق الرواية الصحيحة التي جاءت عند البخاري (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتاً بغرة عبد أو أمة، ثم إن المرأة التي قضي لها بالغرة توفيت) أي: فكانت هي وجنينها في عداد الموتى. (فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: فحكم- بأن ميراثها لبنيها وزوجها -أي: لأولادها وزوجها- وأن العقل -أي: أن الدية- على عصبة القاتلة) وجعل الدية على العصبة؛ لأنها لم تتعمد القتل ولو تعمدت لوجبت الدية في مالها دون عصبتها. قال: [حدثنا أبو الطاهر قال: حدثنا ابن وهب (ح) وحدثنا حرملة بن يحيى التجيبي قال: أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس -وهو ابن يزيد الأيلي - عن ابن شهاب عن ابن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: (اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها -يعني: هي وجنينها- فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها، وورثها ولدها ومن معه)]. الضمير في قوله: (ورثها) يرجع إلى المقتولة. أي: جعل ميراثها خاص بزوجها وأبنائها. [فقال حمل بن مالك بن النابغة الهذيلي: (يا رسول الله كيف أغرم من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل، فمثل ذلك يطل)] فـ حمل بن النابغة يعترض على النبي عليه الصلاة والسلام، وهو من عصبة القاتلة، فهو يقول: كيف أدفع دية الأم ودية الجنين لزوج المقتولة وإخوة الجنين والذي سقط ميتاً، فلا هو أكل، ولا شرب، ولا استهل صارخاً. يعني: لم ينزل صارخاً، أو متحركاً، أو ضاحكاً، ولم تكن فيه حياة قط. ثم قال: ومثل ذلك يطل. ومعنى يطل. أي: يهدر ولا يضمن. كأنه قال له: مثل هذا الذي ينزل ميتاً لا دية له، فكيف تحملني أن أدفع ديته غرة، وأن أدفع الدية كاملة لأمه التي ماتت فقال النبي عليه الصلاة والسلام: [(إنما هذا من إخوان الكهان من أجل سجعه الذي سجع)] والسجع هو: موافقة أطراف الكلام أو أطراف الجمل، ووزن السجع جميل لكنه أقبح ما فيه أنه اعتراض على النبي عليه الصلاة والسلام ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إنما هذا -أي: حمل بن النابغة - من إخوان الكهان). من أجل سجعه الذي سجع. قال: [حدثنا عبد بن حميد قال: أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: (اقتتلت امرأتان) وساق الحديث بقصته السابقة ولم يذكر (وورثها ولدها ومن معه) وقال: (وقال قائل)] الذي هو

شرح حديث المغيرة بن شعبة: (وجعل النبي صلى الله عليه وسلم غرة لما في بطنها)

شرح حديث المغيرة بن شعبة: (وجعل النبي صلى الله عليه وسلم غرة لما في بطنها) قال: [حدثنا إسحاق بن راهويه أخبرنا جرير -وهو جرير بن عبد الحميد الضبي - عن منصور بن المعتمر عن إبراهيم بن يزيد النخعي عن عبيد بن نضيلة الخزاعي عن المغيرة بن شعبة قال: (ضربت امرأة ضرتها بعمود فسطاط وهي حبلى، فقتلتها)] يعني: أنهما كانتا زوجتان لرجل واحد، فضربت إحداهما الأخرى بعمود فسطاط، وهو الذي تقام به الخيمة، فالقاتلة من هذيل، والمقتولة من بني لحيان. قال: [(فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم دية المقتول على عصبة القاتلة)] لأن الأم ماتت هي والجنين، فلها ديتها الكاملة لكنها على العاقلة، لأن هذه الضرة بضربها لضرتها لم تقصد قتلها، لكنها ماتت بفعل هذا الضرب، وهذا قتل خطأ، ولذلك لم يجعل النبي صلى الله عليه وسلم ديتها من مال القاتلة نفسها وإنما من مال العاقلة. أي: العصبة. [(وجعل النبي صلى الله عليه وسلم غرة لما في بطنها -والغرة هي: عبد أو أمة- فقال رجل من عصبة القاتلة -الذي هو حمل - أنغرم دية من لا أكل، ولا شرب، ولا استهل، فمثل ذلك يطل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسجع كسجع الأعراب؟ قال: وجعل عليهم الدية)] يعني: فرضها عليهم. [وحدثني محمد بن رافع حدثنا يحيى بن آدم حدثنا مفضل عن منصور عن إبراهيم عن عبيد بن نضيلة عن المغيرة بن شعبة: (أن امرأة قتلت ضرتها بعمود فسطاط، فأتي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى على عاقلتها بالدية، وكانت حاملاً فقضى في الجنين بغرة. فقال بعض عصبتها: أندي من لا طعم، ولا شرب، ولا أكل، ولا استهل، مثل ذلك يطل)]. ومعنى (أندي) من الدية. يعني: كيف نجعل له دية وهو لم يأكل ولم يشرب ولم ينطق ولم يستهل حياً. يعني: لم يعطس ولم يضحك، ولم يصرخ، ولم يتحرك. فهذه علامات الحياة، فكيف ندفع له الدية وقد نزل ميتاً؟ [فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (سجع كسجع الأعراب)] فهو ينكر على هذا السجع. قال: [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن المثنى وابن بشار قال: حدثنا محمد بن جعفر - غندر - عن شعبة عن منصور بإسنادهم الحديث بقصته غير أن فيه: (فأسقطت -أي: المرأة المضروبة أسقطت جنينها- فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى فيه بغرة وجعله على أولياء المرأة)] أي: على أولياء القاتلة. وهم الذين يسمون بالعصبة. ولم يذكر في الحديث دية المرأة استغناءً لما ذكره في بقية الطرق، أو أن السائل إنما سأل عن حكم الجنين إذا سقط ميتاً بأذىً وقع على أمه فذكر الشاهد من الحديث ولم يذكر الحديث بتمامه.

شرح حديث استشارة عمر بن الخطاب الناس في ملاص المرأة

شرح حديث استشارة عمر بن الخطاب الناس في ملاص المرأة قال: [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب وإسحاق بن إبراهيم واللفظ لـ أبي بكر قال إسحاق: أخبرنا، وقال الآخران: حدثنا وكيع عن هشام بن عروة عن أبيه عن المسور بن مخرمة قال: استشار عمر بن الخطاب الناس في ملاص المرأة]. هذا الإسناد مما استدركه الدارقطني على الإمام مسلم وقال: هو مما أخطأ فيه مسلم؛ لأن الصواب هو: عن هشام بن عروة عن أبيه: أن عمر سأل الناس. إلى آخر الحديث. وقال الدارقطني: الصواب عدم ذكر المسور بن مخرمة، وإنما هو من طريق المغيرة بن شعبة وهو محفوظ للمغيرة. وقال: وهذا الإسناد على جهة الخصوص هو من طريق هشام بن عروة عن أبيه: أن عمر سأل الناس، فعلى هذا يكون هذا من المراسيل، أو الإسناد المنقطع؛ لأن عروة بن الزبير لم يدرك عمر؛ لأنه كان صغيراً، فليس لـ عروة رواية عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. والإمام النووي دفع هذا القول للدارقطني وقال: هذا لا يصح. والصواب: أن هشام بن عروة حفظ ذلك من طريق المسور بن مخرمة، ولا يستقيم الإسناد إلا بذكر المسور حتى لا يكون هناك انقطاع، وإن كان فإن هذا أمر لا يعنينا. ولو رجعت إلى كتاب العلل للإمام الدارقطني ستجد كلاماً طويلاً جداً في إسناد هذا الحديث، أخذاً ورداً في هذا الإسناد. والحقيقة أن كثيراً من الإخوة دائماً يكتبون لي رسائل فيها مسائل في الفقه تقول: عند شرحك للحديث تذكر الفوائد التي فيه، وليس هذا مجال التعمق في دراسة هذه المتون؛ لأن الدرس ليس درس فقه، ولا تشرح الأسانيد ولا تتكلم عن العلل وعن الرواة جرحاً وتعديلاً. وهذا صحيح، فأنا فعلاً أفعل هذا، وذلك لأني لا أستوعب الكلام عن الإسناد، كما أني لا أغوص في شرح هذه النصوص، والعلة تكمن فيكم أنتم؛ لأننا لما فعلنا ذلك في مكان ما من الأماكن، وتكلمنا عن ثلاثة أسانيد أكثر من ثلاثة أشهر، نتكلم عن الرواة جرحاً وتعديلاً، ونتكلم عن العلل وغيرها، فأبى هؤلاء أن يحضروا بعد ذلك، وقالوا: لا حاجة لنا أن نسمع ساعتين كاملتين في ترجمة راوٍ واحد، فـ وكيع بن الجراح رجل ثقة ويكفي، وسفيان الثوري لا يحتاج إلى كلام، فإنه وسفيان بن عيينة كلاهما اتهما بالتدليس. ولما يقول ابن منده: البخاري مدلس، فإننا نقف عند هذه العبارة وندفع قول من قالها أو اتهمه بتدليس، لكن لا بد أن ندفع هذه التهمة بأدلة وإلا فلا يصح دفعها، وهذا من باب حب البخاري، وإلا فالتأصيل العلمي لا يعرف للعاطفة سبيلاً. [قال المسور بن مخرمة: استشار عمر بن الخطاب الناس في ملاص المرأة -والملاص هو الجنين الذي يسقط قبل أوانه- فقال المغيرة بن شعبة: (شهدت النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضى فيه بغرة عبد أو أمة) فقال عمر: ائتني بمن يشهد معك، فشهد له محمد بن مسلمة]. يعني: شهد في مجلس عمر مع المغيرة بن شعبة أن النبي قضى في الجنين بغرة عبد أو أمة.

كلام النووي في شرح أحاديث باب دية الجنين

كلام النووي في شرح أحاديث باب دية الجنين

معنى قوله: (غرة عبد أو أمة)

معنى قوله: (غرة عبد أو أمة) قال العلماء: قوله عليه الصلاة والسلام: (عبد أو أمة) هنا (أو) ليست للشك وإنما هي للتقسيم. والمراد بالغرة: العبد أو الأمة، فالغرة اسم لكل واحد منهما سواء كان ذكراً أو أنثى. قال: (قال الجوهري: كأنه عبر بالغرة عن الجسم كله). لأن الأصل في الغرة هي في الجبهة، والنبي عليه الصلاة والسلام لما أراد بهذه الدية الغرة لم يرد بها جبهة العبد أو جبهة الأمة، وإنما عبر عن الكل بالجزء، أو أطلق الجزء وأراد الكل، كما في عتق رقبة. وأصل الغرة بياض في الوجه. ولهذا قال أبو عمرو: المراد بالغرة: الأبيض منهما خاصة. يعني: سواء كان ذلك عبداً أو أمة، لأنه لو كان الأسود مراد النبي عليه الصلاة والسلام فلا قيمة أن يذكر الغرة، وسوف يقول: دية الجنين عبد أو أمة. وإنما قال: (غرة عبد أو أمة) ليثبت أن المراد هو الحسن والجمال في العبد أو الأمة الذي جعل دية لهذا الجنين. قال أبو عمرو: ولا يجزئ الأسود، ولولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد بالغرة معنى زائداً على شخص العبد والأمة لما ذكرها. فالمعنى الزائد هو: أن يكون عبداً أبيضاً مليحاً، أو أمة بيضاء أو حسناء، أو زهية، أو غير ذلك، لأن الفرس الأغر هو الفرس الذي في وجهه بياض، كما جاء في الحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام زار المقبرة فقال: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمؤمنات يغفر الله لنا ولكم، ليتنا نرى إخواننا. فقالوا: يا رسول الله أولسنا إخوانك؟ قال: بل أنتم أصحابي، وإخواني يأتون من بعدي يؤمنون بي ولا يروني) نسأل الله أن نكون كذلك، وألا نكون مبدلين ولا مغيرين فنطرد عن الحوض. (قالوا: يا رسول الله! كيف تعرفهم؟ قال: يأتون غراً محجلين). فالغرة بياض في الجبهة. والتحجيل بياض في الساق. (من آثار الوضوء). أي: بسبب الوضوء (فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل). ولذلك أبو هريرة رضي الله عنه كان إذا توضأ شمر عن عضديه وساقيه فجعل الماء يبلغ إبطه. يعني: كان يغسل ذراعه إلى حد الإبط، وكان يتخبأ إذا فعل ذلك، وكان يغسل رجليه حتى يبلغ ركبتيه، فلما رآه أو اطلع عليه أحد أصحابه قال: يا أبا هريرة ماذا تصنع؟ قال: أو قد رأيتني، إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (تبلغ الحمية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء) والحمية أي: تبلغ الغرة والتحجيل من المؤمن حيث يبلغ الوضوء. فـ أبو هريرة ما ترك ذلك قط بعد أن سمع هذا الحديث من النبي عليه الصلاة والسلام، والشاهد من ذلك كله: أن الغرة بياض في الوجه، ولولا أن النبي عليه الصلاة والسلام أراد اختيار الأمة الحسناء أو العبد الجميل المليح أن يكون دية للجنين الذي مات بسبب الاعتداء على أمه لما كان لقوله: (غرة) معنى؛ فدل ذلك على أن المراد بالغرة معنى زائد على مجرد أن هذا عبد أو أمة، وهو الحسن، أو الشيء النفيس. قال الإمام النووي: وهو خلاف ما اتفق عليه الفقهاء. يعني: أبو عمرو يقول: لا يجزئ الأسود بل لا بد أن يكون صاحب حسن، وجمال. لكن الإمام النووي يقول: هذا القول من أبي عمرو خلاف ما اتفق عليه الفقهاء أنه يجزئ فيها السوداء ولا تتعين البيضاء، وإنما المعتبر عندهم أن تكون قيمتها عشر دية الأم. ونحن نعرف أن دية المرأة على النصف من دية الرجل، وإذا كانت دية الرجل مائة بعير فدية المرأة خمسين بعيراً، فإن دية الجنين عُشر دية الأم. أي: خمسة أبعرة. قال: (وإنما المعتبر عندهم أن تكون قيمتها عشر دية الأم، أو نصف عشر دية الأب. قال أهل اللغة: الغرة عند العرب هي أنفس الشيء وأطلقت هنا على الإنسان؛ لأن الله تعالى خلقه في أحسن تقويم، وأما ما جاء في بعض الروايات في غير الصحيح (بغرة أمة، أو عبد، أو فرس، أو بغل) فرواية باطلة، وقد أخذ بها بعض السلف. وحكي عن طاوس وعطاء ومجاهد: أنها عبد، أو أمة، أو فرس. وقال داود: كل ما وقع عليه اسم الغرة يجزئ؛ فالغرة هي: عبد، أو أمة. ومن قال أنها فرس أو بغل فهذا قول لم يصح به الدليل، حتى وإن أخذ به بعض أهل العلم.

بيان دية الجنين

بيان دية الجنين واتفق العلماء على أن دية الجنين هي الغرة، سواء كان الجنين ذكراً أو أنثى؛ وهذا مذهب الجماهير: أن الدية تجب للجنين إذا نزل ميتاً، حتى وإن لم يظهر له إلا بعض أمارات التخلق كالأصابع أو غير ذلك؛ ولم يكن مخلقاً كاملاً، وسواء كان الجنين ذكراً أم أنثى. قال العلماء: وإنما كان كذلك؛ لأنه قد يخفى فيكثر فيه النزاع. أي: لم يعرفوا هو ذكر أو أنثى، لأنه لم يتحدد، فهذا أمر يخفى على المتخصصين، ولذلك العبرة أن يكون جنيناً، وليست العبرة بالذكورة أو الأنوثة، فلما كان يمكن أن يخفى على المتخصصين في معرفة الذكورة والأنوثة جعل الشرع ضابطاً لذلك يقطع النزاع وهو أنه جنين سواء كان خلقه كامل الأعضاء أم ناقص الأعضاء، أو كان مضغة تصور فيها خلق آدمي، ففي كل ذلك الغرة بالإجماع، والمضغة ما سميت مضغة إلا لأنها على القدر الذي يوضع بين الأضراس فتمضغها، ومن المعلوم أن المضغة لا يمكن معرفة كونها ذكراً أم أنثى، فلما كان ذلك خافياً جعل الشرع ضابطاً محكوماً لا يتزعزع وهو أن كون الجنين ساقطاً. أي: في جميع مراحله.

ذكر من يرث دية الجنين

ذكر من يرث دية الجنين قال: (وهذا شخص يورث ولا يرث). يعني: هو لا يرث من أحد وإنما الآخرين يرثون منه. وهذه حالة فريدة لا يقاس عليها إلا عبد بعضه حر وبعضه عبد. (وحكى القاضي عن بعض العلماء: أن الجنين كعضو من أعضاء الأم فتكون ديته لها خاصة؛ لأنه انسلخ عنها فكان كما لو وقع الاعتداء على ذراعها فقطع، أو أذنها، أو أنفها، أو أي جزء أو عضو من أعضائها). لكن مذهب الجمهور هو الصواب: أن الجنين عضو منفصل عن الأم. والقول فيه أو في ديته: أن الورثة يرثونها. واعلم أن المراد بهذا كله إذا انفصل الجنين ميتاً؛ أما لو نزل حياً ثم مات فإن فيه دية كاملة، وهي مائة من الإبل؛ لأن هذا اعتداء على نفس حية، فلو أنه استهل صارخاً، أو متحركاً، أو باكياً، أو غير ذلك وعلمت حياته ثم مات بسبب الضربة ففي هذه الحالة سيأخذ الدية كاملة؛ لأنها دية النفس. فلو أن شخصاً ضربك بسكين فقعدت أربعة أيام في المستشفى وبعد ذلك مت، وقرر الأطباء أنه بسبب الضربة، فإنه يعد قتل عمد، والقتل العمد فيه قصاص. وإذا نزل الجنين حياً ثم مات فتجب فيه الدية كاملة، فإن كان ذكراً وجب مائة بعير، وإن كان أنثى وجب خمسون بعيراً، وهذا مجمع عليه.

وجوب الغرة دية للجنين على العاقلة

وجوب الغرة دية للجنين على العاقلة قال: (ومتى وجبت الغرة فهي على العاقلة لا على الجاني. وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وسائر الكوفيين. وقال مالك والبصريون: تجب على الجاني. وقال الشافعي وآخرون: يلزم الجاني الكفارة. وهي: صيام شهرين. وقال بعضهم: لا كفارة عليه، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة والله أعلم). والدية التي هي الغرة تكون على العاقلة، واختلاف الفقهاء فيما يتعلق بأنها على الجانية نفسها لا على العاقلة، لأن مذهب الجمهور أن هذه المرأة لما ضربت الأخرى على بطنها فأسقطت جنينها ميتاً لم تكن تقصد القتل. الجمهور قالوا: الأصل عدم توجه الإرادة والقصد إلى قتل الجنين، بل هي من العداوات التي تكون بين الضرائر، والقانون المصري يعتبر أن من ضرب شخصاً على ظهره فمات أن هذا قتل شبه عمد، وهذا من الإجرام، أنهم لم يعتبروه قتل خطأ وإنما قتل شبه عمد، وهذا بصراحة إجرام لا يمكن أن يكون هذا دين أبداً، هذا قتل خطأ، غير متعمد للقتل، ولم تتوجه الإرادة لقتله وإنما ضربه لينفعه فضره بذلك بغير قصد. وحجتهم أنهم قالوا: كان ينبغي أنه يتوقع أنه سيموت من هذه الضربة، مثل المرأة لما تمسك فسطاط حديد أو تأتي بحجر وتضرب به ضرتها، لكن ربما لم تقصد أنها تضربها في بطنها، ربما أرادت أن تضربها في ظهرها فأدارت جسمها فوافق الحجر إليها فأصاب بطنها مع أنها قصدت أن تضربها في ظهرها، لكنها ابتداءً تعمدت وقوع الضرر والأذى، لكن قصدها ونيتها لم تنصرف إلى قتل الأم ولا إلى قتل الجنين، فكيف يتفق أن تكون هذه الصورة شبه عمد؟ ولذلك الذي يترجح هو المذهب الأول: أن المرأة التي ضربت ضرتها إنما قصدت إيقاع الضرر الذي يكون بين الضرائر لا أنها قصدت بضربها أن تسقط الجنين، أو أن تميته في بطنها. والذي يترجح: أن هذا القتل الذي تم لهذا الجنين ونزل ميتاً إنما تجب فيه الدية، وديته على العاقلة؛ لأن القتل قتل خطأ، وليس كل ضرب بحديد أو بحجر يقصد الضارب إيقاع القتل به، لا يلزم منه ذلك، ولذلك قد ورد في طرق هذه الروايات أن الأم وجنينها قد ماتا، أما الأم فديتها كاملة وهي خمسين بعيراً، وتجب على العاقلة. ومنهم من قال: بل تجب على الجانية. أما الجنين فالقول الراجح فيه: أن دية الجنين على العاقلة؛ لأن الضارب أو الضاربة لم يقصدا إحداث الموت، وإزهاق الروح. قال: (متى وجبت الغرة فهي على العاقلة لا على الجاني. وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وسائر الكوفيين).

معنى قوله: (فضربتها بعمود فسطاط)

معنى قوله: (فضربتها بعمود فسطاط) وقوله: (فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية المرأة على عاقلتها) لأن القتل خطأ. وفي الرواية الأخرى (أنها ضربتها بعمود فسطاط) قال العلماء: هذا محمول على عمود صغير لا يقصد به القتل غالباً. أي: ليس من شأنه إحداث القتل غالباً. فلو أن شخصاً معه سيف فضرب به رجلاً فمات فإنه قتل عمد؛ لأن الآلة المستخدمة في سبيل ذلك من شأنها غالباً إحداث القتل. أما لو ضربه بحديدة صغيرة فمات فهذا قتل خطأ لأنه ابتداءً لم يقصد إيقاع القتل وإزهاق الروح، لأن هذه الحديدة الصغيرة أو الحجر الصغير ليس من شأنه إحداث القتل فيكون القتل خطأً. قال: (فيكون شبه عمد تجب فيه الدية على العاقلة، ولا يجب فيه قصاص، ولا دية على الجاني. وهذا مذهب الشافعي والجماهير).

معنى قوله: (سجع كسجع الأعراب)

معنى قوله: (سجع كسجع الأعراب) أما قوله عليه الصلاة والسلام لهذا الرجل الذي اسمه حمل بن النابغة الهذلي لما قال: (يا رسول الله! كيف أغرم من لا شرب، ولا أكل، ولا نطق، ولا استهل، ومثل ذلك يطل) يعني: أنه هدر. وفي رواية: (مثل ذلك بطل) يعني: هدر. ومعنى يطل: أي: هدر غير مضمون. فهذا صورته صورة اعتراض على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى حكمه الذي نطق به وحي السماء، فقال النبي عليه الصلاة والسلام فيه: (هذا سجع كسجع الأعراب) وفي رواية قال: (إنما هذا من إخوان الكهان. من أجل سجعه الذي سجع). وقوله هذا عند العلماء على وجهين: الوجه الأول: أنه عارض به حكم الشرع، ورام إبطاله. وقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إنما هذا من إخوان الكهان) يحتمل معنيين: المعنى الأول: أنه اعترض على النبي صلى الله عليه وسلم في حكمه ورام إبطال الشرع في هذه القضية. المعنى الثاني: أنه تكلف في مخاطبته، وربما لم يقصد الرجل إبطال الشرع وإنما قصد إلحاق السجع أو إيجاده، فعابه النبي عليه الصلاة والسلام عليه؛ لأنه تكلفه، والسجع المتكلف مذموم، بخلاف السجع الذي ليس فيه تكلف، وفي القرآن من السجع الذي لا تشعر فيه بالتكلف، وفي كلام النبي صلى الله عليه وسلم من الكلام الذي هو مسجوع بغير تكلف الشيء الكثير، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن يحسن قرض الشعر، وإنما كان أحياناً إذا أراد أن يقول شعراً صحح شعره أبو بكر الصديق، فيرد عليه ويقول له: لا يا رسول الله! الأمر ليس على ما قلت، الأمر كذا وكذا، فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتكلف الشعر، ولم يتعمد إيجاد السجع، وإنما كان أحياناً في كلامه سجع غير متكلف. ولذلك قال: (وهذان الوجهان من السجع المذمومان، أحدهما الذي فيه تكلف، وأما السجع الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوله في بعض الأوقات وهو المشهور في الحديث فليس من هذا؛ لأنه لا يعارض به حكم الشرع ولا يتكلف). إذاً: السجع في الشعر المذموم هو الذي يدعو إلى الرذيلة، أو يكون متكلفاً فيه السجع، أو يعارض الشرع، أما الشعر الذي يدعو إلى الفضيلة ويثبت الأحكام، أو يشهد للقرآن أو السنة فهذا كلام جميل، وهو من كلام العرب، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يقال بين يديه الشعر الجميل الحسن فلا ينكر ذلك، بل طلب عليه الصلاة والسلام من حسان بن ثابت أن يقوم فيرد على المشركين قولهم، فقام وقرأ الشعر بين يديه، وفي هذا إقرار النبي عليه الصلاة والسلام لـ حسان بن ثابت وغيره. أما قوله عليه الصلاة والسلام: (إن من البيان لسحرا) البيان هو الفصاحة، والشعر باب من أبواب البيان، فيشهد لما قلناه. أما قوله عليه الصلاة والسلام: (لئن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلئ شعراً) المراد به: الشعر المتكلف الذي يدعو إلى الرذيلة، أو يعارض به حكم الشرع، وهذا جمع بين الروايات التي وردت تمدح الشعر في ناحية، وتذم الشعر في ناحية أخرى، فلا بد أن يحمل المدح على الشعر الهادف الذي يدعو إلى مكارم الأخلاق وغير ذلك، ويحمل الذم على الشعر المتكلف المسجوع بغير فائدة، الذي يعارض به حكم الشرع أو يدعو إلى الرذيلة. هذا هو وجه الجمع بين هذه الروايات. أما قوله: (سجع كسجع الأعراب) أي: هذا كلام متكلف مسجوع، أشار إلى أنه مذموم، وأنه كسجع الأعراب المذموم.

بيان أن دية الخطأ على العاقلة دون أصول وفروع القاتل

بيان أن دية الخطأ على العاقلة دون أصول وفروع القاتل (أما قوله: (ضربت امرأة ضرتها) قال أهل اللغة: كل واحدة من زوجتي الرجل ضرة للأخرى، سميت بذلك لحصول المضارة بينهما في العادة، وأن كل واحدة منهما تتضرر بوجود الأخرى؛ لأنها شريكة لها. قوله: (فجعل النبي صلى الله عليه وسلم دية المقتول على عصبة القاتل) هذا دليل لما قاله الفقهاء أن دية الخطأ على العاقلة إنما تختص بعصبات القاتل سوى أبنائه وآبائه؛ لأن الأبناء والآباء في حكم الشخص نفسه، ونحن نعرف أن أصحاب الأصول وإن علوا، والفروع وإن نزلوا هم أصحاب الفرائض، أما العصبات فهم ما دون ذلك من الورثة، ولذلك الدية تجب على العصبات لا على أصحاب الفروض. يقول في باب دية الجنين:

بيان دية الجنين إذا انفصل عن أمه

بيان دية الجنين إذا انفصل عن أمه (إذا مات الجنين بسبب الجناية على أمه عمداً أو خطأً ولم تمت أمه وجب فيه غرة سواء انفصل عن أمه وخرج ميتاً أم مات في بطنها -أي: الأمرين سواء- وسواء كان ذكراً أم أنثى، أما إذا خرج حياً ثم مات ففيه الدية كاملة، فإن كان ذكراً وجبت مائة بعير. وإن كان أنثى وجب خمسون بعيراً. وتعرف الحياة بالعطاس، أو التنفس، أو البكاء، أو الصياح، أو الحركة أو غير ذلك مما يدل على أن الجنين نزل حياً. واشترط الشافعي في حالة ما إذا مات في بطن أمه أن يعلم بأنه قد تخلق وجرى فيه الروح، وفسره بما ظهر فيه من صورة الآدمي كظهور اليد والأصبع، وأما مالك فإنه لم يشترط هذا الشرط بل قال: كل ما طرحته المرأة من مضغة أو علقة مما يعلم أنه ولد ففيه الغرة). وهذا الكلام هو مذهب الجمهور ليس كلام مالك فحسب. ويرجح رأي الشافعي بأن الأصل براءة الذمة، وعدم وجود الغرة، فإذا لم يعلم تخلقه فإنه لا يجب شيء، وقدر الغرة في دية الجنين هي غرة عبد، أو أمة، أو فرس، أو بغل، أو غير ذلك، وهذا كله بالنسبة لجنين المسلمة.

بيان دية جنين الذمية

بيان دية جنين الذمية قال: (وأما جنين الذمية -أي: التي بين المسلمين وبينهم عهد ذمة وأمان، أو أنهم أهل الذمة من اليهود والنصارى- قال: فقد قال صاحب بداية المجتهد: قال مالك والشافعي وأبو حنيفة فيه عشر دية أمه، لكن أبا حنيفة على أصله في أن دية الذمية هي دية المسلمة، فجنين المرأة الذمية عند الجمهور على العشر من دية أمه، ودية المرأة الذمية على النصف من دية المرأة المسلمة ومعلوم أن دية المرأة المسلمة خمسين بعيراً، فدية المرأة الذمية خمسة وعشرون بعيراً كما أن دية الأمة المسلمة على النصف من دية الحرة. أي: خمسة وعشرين بعيراً. وهذا فيه تساوٍ بين دية المرأة الكافرة بدية الأمة المسلمة، مع أن بعض أهل العلم يقول بذلك، لكن الذي يترجح لدي: أن دية الذمية على النصف من دية الأمة المسلمة، فتكون دية الذمية اثنا عشر ونصف، ودية ولد الذمية عشر دية أمه الذمية. قال: (والشافعي قال: دية الذمي هي ثلث دية المسلم. ومالك قال: دية الذمي نصف دية المسلم). يعني: المسألة فيها خلاف. أما مسألة على من تجب الدية فعند مالك وأصحابه والحسن البصري أنها تجب في مال الجاني. لكن الجمهور يقولون: تجب على العاقلة، وهي جناية خطأ فوجبت على العاقلة، وهذا هو الراجح. وأما مالك والحسن فقد شبهاها بدية العمد إذا كان الضرب عمداً. ولكن الأول أصح، فالدية للورثة على قدر حصصهم، والرأي الثاني تجب للأم على اعتبار أن الجنين عضو من أعضائها، والراجح أنها دية للورثة.

حكم الكفارة في قتل الجنين خطأ

حكم الكفارة في قتل الجنين خطأً واتفق العلماء على أن الجنين إذا خرج حياً ثم مات ففيه الكفارة مع الدية، وهي: صيام شهرين، وأما وجوب الكفارة مع الغرة إذا خرج ميتاً ففيه نزاع، قال الشافعي وغيره: تجب؛ لأن الكفارة عنده تجب في الخطأ والعمد. وقال أبو حنيفة: لا تجب. لأنه غلب عليه حكم العمد، والكفارة لا تجب في العمد عنده. واستحب مالك الكفارة؛ لأن ضرب الجنين وسقوطه ميتاً أمر متردد بين الخطأ وبين العمد. انتهى الكلام في كتاب القصاص والقسامة، ونتوقف إن شاء الله تعالى في الكلام على كتاب الحدود، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

كتاب الإيمان - معنى شهادة التوحيد

شرح صحيح مسلم - كتاب الإيمان - معنى شهادة التوحيد توحيد الله عز وجل أعظم وأكبر فرض في دين الإسلام، ولا يمكن لإنسان أن يكون مؤمناً بالله عز وجل حتى يأتي به، وتوحيد الله عز وجل أقسام، أعظمها توحيد الألوهية، وهو الذي أنكره المشركون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوا أن يقروا به، وينبغي الحذر مما يناقض التوحيد من الأمور المخالفة له، والتي تخرج الإنسان من دائرة الإيمان بالله عز وجل.

تعريف الإسلام

تعريف الإسلام الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أما بعد: (قال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لجبريل لما سأله: يا محمد! ما الإسلام؟ -وفي رواية: أخبرني عن الإسلام؟ - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً). وقد بينا في المحاضرة السابقة معنى الإسلام، وقلنا: إن معناه في اللغة: الاستسلام والإذعان والانقياد، أي: التسليم المطلق لله عز وجل ولأوامره وأحكامه، وأما من حيث المعنى الاصطلاحي لهذه الكلمة فقلنا: إنه إذا ذكر منفرداً فيعنى به الإيمان والإسلام على حد سواء، وإذا ذكر مقروناً مع الإيمان كان له مدلول غير مدلول الإيمان، بمعنى: أن له فرائض وأحكاماً غير فرائض وأحكام الإيمان. وقد عرف النبي عليه الصلاة والسلام هنا الإسلام بفرائضه، فقال: (الإسلام أن تشهد)، يعني: الإسلام هو أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ثم عدد باقي الفرائض.

توحيد الاتباع

توحيد الاتباع وسنعيش في هذا الدرس مع أول فرض من فروض الإسلام، وهو أعظمها على الإطلاق، وهو توحيد الله عز وجل، وقد عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام بقوله: (الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله). وهذا التعريف أفاد موضوعين: الموضوع الأول: توحيد المعبود سبحانه وتعالى، وأنه لا إله غيره ولا رب سواه. والموضوع الثاني: توحيد المتبوع صلى الله عليه وسلم، فإنه لا متبوع غيره، وكل من هو دون النبي صلى الله عليه وسلم غير معصوم، سواء كان من الصحابة أو من التابعين أو من الأئمة المتبوعين أو غيرهم، وصدق مالك وغيره من علماء السلف رحمهم الله عندما أشاروا إلى قبر النبي عليه الصلاة والسلام وقالوا: كل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: عليكم بالأمر العتيق -أي: الأمر القديم-. وقال: إذا كان أحدكم مستناً فليستن بمن قد مات، ولا يستن بمن هو حي، فإن الحي يقول القول اليوم ويرجع عنه غداً، وأما الذي مات فقد انقطع كلامه وأثره، ويبقى الكلام المسطور حجة له أو عليه، فإن أصاب الكتاب والسنة فهو حق، وإن خالف الكتاب والسنة فيرد، سواء كان لقائله أجر واحد، أو مع تأثيمه إن كان من أهل البدع والضلال. والله عز وجل قد فرض توحيده عز وجل، كما فرض اتباع نبيه صلى الله عليه وسلم دون غيره؛ لأن الله عز وجل خص الأنبياء بما حرم منه البشر جميعاً، فخصهم بالعصمة في أمور الشريعة، وما أمروا بتبليغه للخلق، وهذه العصمة هي التي تجعل المقلد للرسول الله صلى الله عليه وسلم والمتبع له مطمئن القلب إلى تقليده واتباعه؛ لأنه معصوم عن الخطأ والنسيان في بيان الشريعة، والأنبياء غير معصومين في أمور الدنيا، بل يصيبون ويخطئون، وأما ما أمروا بتبليغه لأقوامهم فإنهم معصومون فيه بكل حال، فما من نبي إلا وقد بلغ أمته ما أمره الله عز وجل به وما أنزله عليه، ولم يقصر أحد منهم في البلاغ ولا في البيان، وهذه هي العقيدة الصحيحة في النبوة، فما من نبي إلا وقد بلغ ولم يقصر، والأمم إما متبعة وإما مبتدعة وإما محاربة لأنبيائها، كبني إسرائيل، وأما هذه الأمة المباركة فإنها في غالب أحوالها متبعة لنبيها، وقد ظهرت البدع والضلالات بعد وفاة نبينا صلى الله عليه وسلم مع ظهور الفتن. فالشاهد هنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله). وهذا فيه بيان توحيد الله عز وجل وتوحيد المتبوع، وهو النبي صلى الله عليه وسلم المعصوم المأمون خطؤه وزلَلُهُ، ولذلك قال الله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]، ولم يقل: فيه وفي أصحابه أو في صالحي الأمة، وإنما خص نبيه بهذا، فالأسوة مخصوصة بنبينا صلى الله عليه وسلم.

التوحيد العلمي الاعتقادي

التوحيد العلمي الاعتقادي والتوحيد أنواع: توحيد العبادة: وهو توحيد القصد والطلب، وهو الذي يعبر عنه بتوحيد الألوهية أو توحيد الإلهية.

إثبات الأسماء والصفات لله تعالى

إثبات الأسماء والصفات لله تعالى والتوحيد الاعتقادي العلمي، وهو الذي يختص بأسماء الله وصفاته. والمقصود به: إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من أسماء وصفات؛ لأنها توقيفية. فلا يجوز لأحد أن يسمي الله تعالى أو يصفه بغير ما سمى أو وصف به نفسه، أو بغير ما سماه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، بل نثبت لله ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تمثيل ولا تكييف، أي: من غير أن نمثل الله تعالى بشيء من خلقه، ولا نكيفه تكييفاً، كما قال الإمام مالك ومن قبله أم سلمة وشيخه ربيعة الرأي - ربيعة بن أبي عبد الرحمن - وقد كان فقيه أهل المدينة، وإمام الرأي فيها لما سئل عن قول الله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، ثم أمر بإخراج ذلك السائل من المسجد؛ لأنه سأل تعنتاً ولم يسأل تعلماً. فقال: الاستواء معلوم، أي: أنه معلوم في لغة العرب، فالاستواء بمعنى: العلو والارتفاع، فالله عز وجل مستو على عرشه، بائن من خلقه، بمعنى: أنه عال ومباين لخلقه. وأما آيات وأحاديث المعية فهي محمولة على معية العلم والسمع والبصر، {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7]. فمعية الله عز وجل لخلقه هي معية علم وسمع وبصر وإحاطة، وأما الله عز وجل فقد استوى على عرشه، فالاستواء معلوم عند سلفنا، بل وفي لغة العرب، ويعلمه البدوي والحضري على السواء. ثم قال: والكيف مجهول، أي: مجهول للخلق، ولا يجهل الله عز وجل ذاته وكنهه، كما قال بعض الأساتذة: الكيف مجهول على الله، وهذا في حد ذاته قول كفر، فإن الكيف مجهول على الخلق لا على الخالق سبحانه وتعالى. وقوله: الاستواء معلوم، أي: معلوم بأنه الارتفاع والعلو، والكيف مجهول. وكان السلف يفوضون الكيف لا المعنى، ولا العلم؛ لأن صفات الله عز وجل معلومة بمعانيها، وأما كيفيتها فلا يعلمها إلا الله عز وجل. قال: والسؤال عنه بدعة، أي: السؤال عنه تعنتاً لا تعلماً، ومن أراد أن يعرف كيفية الاستواء فاعلم أنه صاحب قلب مريض؛ لأنه لا يمكن تشبيه الخالق سبحانه وتعالى بالمخلوق. قال: وينفي عن الله عز وجل ما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، كما قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]. فنفى مثلية الله عز وجل لخلقه ومشابهة الخلق له سبحانه وتعالى، ثم أثبت لنفسه بعض الصفات حتى يرد على المثبتة أو المجسمة ويرد على النفاة. فهذه الآية ترد من جهة إثبات الله عز وجل لأسمائه وصفاته على النفاة، كما ينفي الله عز وجل عن نفسه ما قاله عنه المجسمة، فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]. مع الإيمان بمعاني ألفاظ هذه النصوص وما دلت عليه.

حكم التمثيل والتعطيل والتأويل في الأسماء والصفات

حكم التمثيل والتعطيل والتأويل في الأسماء والصفات والتمثيل والتعطيل في أسماء الله عز وجل وصفاته كفر، وأما التحريف الذي يسميه أهل البدع تأويلاً من الأشاعرة وغيرهم فمنه ما هو كفر كتأويلات الباطنية الإسماعيلية، ومنه ما هو بدعة ضالة، كتأويلات نفاة الصفات، ومنه ما يقع خطأً من صاحبه، كما قلنا من قبل في ترجمة الحافظ النووي والحافظ ابن حجر عليهما رحمة الله، فإنه قد وقع في بعض كلامهما تأويل على سبيل الخطأ، لا على سبيل البدعة والضلالة، ولا على سبيل الكفر والجحود. وكذلك وحدة الوجود، واعتقاد حلول الله عز وجل في شيء من مخلوقاته فإن هذا كفر، والقائل به مع علم كافر، فإن من قال إن الله تعالى متحد بخلقه أو حل في الخلق حتى كان الخالق كالمخلوق، أو أن الله تعالى لما حل في الخلق صار الخالق والمخلوق شيئاً واحداً فقد كفر، فإن هذا لم يقل به إلا الحلولية من غلاة الصوفية وغيرهم، ولا شك أن هذا قول كفر.

الإيمان بأركان الإيمان في كلياتها وجزئياتها

الإيمان بأركان الإيمان في كلياتها وجزئياتها والإيمان بالملائكة الكرام إجمالاً، وأما تفصيلاً فبما صح به الدليل من أسمائهم وصفاتهم وأعمالهم بحسب علم المكلف. وكذلك الإيمان بالكتب المنزلة جميعها، وأن القرآن الكريم أفضلها وناسخها، وهو المهيمن والمسيطر على هذه الكتب التي سبقته، وأما ما قبله فقد طرأ عليه التحريف والتبديل، ولذلك وجب اتباعه دون غيره من الكتب السابقة؛ لأنه ناسخ لجميع الكتب السابقة عليه. والإيمان بأنبياء الله عز وجل ورسله صلوات الله وسلامه عليهم، وأنهم أفضل ممن سواهم من البشر، ومن زعم غير ذلك فقد كفر. فمن قدم علياً على النبي عليه الصلاة والسلام وفضله عليه فلا شك أنه كافر بنبي الله صلى الله عليه وسلم، وما صح به الدليل بعينه فيهم -أي: في الأنبياء- وجب الإيمان به على جهة التعيين. ويجب الإيمان بسائرهم إجمالاً، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم أفضلهم وآخرهم، وأن الله تعالى أرسله للناس جميعاً. والإيمان بأن الوحي قد انقطع بموت نبينا صلى الله عليه وسلم، وأنه خاتم الأنبياء والمرسلين، ومن اعتقد خلاف ذلك فهو كافر بالله العظيم، ومن اعتقد أن الوحي لا يزال مستمراً وأن النبوة لم تنقطع بموت نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقد كفر بالله العظيم. وكذلك الإيمان باليوم الآخر، وكل ما صح فيه من الأخبار وبما يتقدمه من العلامات والأشراط. والإيمان بالقدر خيره وشره من الله تعالى؛ وذلك بالإيمان بأن الله تعالى علم ما يكون قبل أن يكون وكتب ذلك في اللوح المحفوظ، وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون إلا ما يشاء، والله تعالى على كل شيء قدير، وهو خالق كل شيء وفعال لما يريد. والإيمان بما صح الدليل به من الغيبيات، كالعرش والكرسي، والجنة والنار، ونعيم القبر وعذابه، والصراط والميزان والحشر والحساب، وغيرها، دون تأويل شيء من ذلك، إلا ما صح فيه الدليل. والإيمان بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وشفاعة الأنبياء والملائكة والصالحين وغيرهم يوم القيامة، كما جاء تفصيله في الأدلة الصحيحة، وأن المؤمنين يرون ربهم عز وجل يوم القيامة، كما يرون القمر ليلة البدر، وهذا في الجنة وفي المحشر. والمحشر حق، ومن أنكر الرؤية أو أولها فهو زائغ ضال، وهي غير ممكنة في الدنيا بحال، فمن ادعى أنه قد رأى الله عز وجل في الدنيا فلا شك أنه ضال مضل، وهذا يرد به على الفرية القائلة بأن الإمام أحمد بن حنبل رأى ربه تسعاً وتسعين مرة، وهذا افتراء على الإمام رضي الله تعالى عنه ورحمه. كما أن من أجزاء الإيمان، الإيمان بمعجزات الأنبياء، وكرامات الأولياء والصالحين، وكل ذلك حق، وليس كل أمر خارق للعادة كرامة، بل قد يكون استدراجاً من الله عز وجل، وقد يكون من تأثير الشياطين والمبطلين، والمعيار في ذلك هو موافقة الكتاب والسنة، فإذا رأيت رجلاً يطير في الهواء أو يمشي على الماء فلا تحكم بأنه ولي من أولياء الله عز وجل، أو أنه شيطان حتى تنظر إلى عمله، فإن كان عمله موافقاً للكتاب والسنة فاعلم أن ذلك كرامة من الله عز وجل له، وإذا كان مخالفاً للكتاب والسنة فاعلم أنه استدراج من الله عز وجل، وأن ذلك من فعل الشياطين وتأثيرهم. والمؤمنون كلهم أولياء لله عز وجل، وكل مؤمن فيه من الولاية بقدر إيمانه، فمن كان إيمانه زائداً وكاملاً كان كامل الولاية لله عز وجل، ومن كان إيمانه ينقص عن ذلك ففيه من الولاية بقدر ما فيه من الإيمان.

توحيد الألوهية

توحيد الألوهية وأما التوحيد الإرادي الطلبي فهو توحيد الألوهية، وهو: إفراد الله عز وجل بالوحدانية والربوبية، فلا يعبد غيره؛ لأنه لا إله غيره، فهو لا شريك له في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وهو رب العالمين المستحق لجميع أنواع العبادة، كالدعاء والاستغاثة والاستعانة والنذر والذبح والتوكل والخوف والرجاء والحب ونحوها، وصرف شيء منها لغير الله عز وجل شرك أكبر. ومن أصول العبادة أن الله تعالى يعبد بالحب والخوف والرجاء، فلا يعبد بالرجاء وحده؛ لأن من عبد الله بالرجاء وحده قصر في العمل وأرجأ فيه، فإذا قلت له: صل يا فلان! قال: إن رحمة الله واسعة، وإذا قلت: صم يا فلان! قال: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء:147]. وأنا -الحمد لله- أقول في كل دقيقة: اللهم لك الحمد والشكر، وأنا مؤمن بالله، لكني مقصر ومفرط. فمن عبَد الله بالرجاء -أي: طمع في رحمته وعفوه وغفرانه فقط- ولم يخش الله عز وجل وقع في التفريط العظيم، وهذا يؤدي بالعبد إلى الكفر بالله عز وجل، ومن خاف الله عز وجل وحده ولم يرجه وقع في الإياس من رحمة الله عز وجل، ولا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون. وقال بعض العلماء: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ. وهذا التوحيد يستلزم: التسليم والرضا والطاعة المطلقة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وكل ذلك من الإيمان به رباً وإلهاً، فلا شريك له في حكمه وأمره، كما قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف:40]. فصرف شيء من الحكم لغير الله كفر بالله عز وجل.

التحاكم إلى غير الله عز وجل وتقسيم الدين إلى حقيقة وشريعة

التحاكم إلى غير الله عز وجل وتقسيم الدين إلى حقيقة وشريعة قال: وتشريع ما لم يأذن به الله والتحاكم إلى الطاغوت، واتباع غير شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، وتبديل شيء منها كل ذلك كفر، ومن زعم أن أحداً يسعه الخروج عن هذه الشريعة وهذه العبودية فلا شك أن هذا أيضاً كفر. والحكم بغير ما أنزل الله كفر أكبر، وقد يكون كفراً أصغر إذا كان العدول عن شرع الله عز وجل في واقعة معينة لهوى مع الاعتقاد بأن شرع الله عز وجل مقدم على غيره من بقية الضلالات والأحكام، ولا شك أن مخالفة شرع الله عز وجل وحكمه وتقديم حكم غير الله عز وجل على حكم الله كفر، فإن فعل هذا عن اعتقاد بأن حكم الله عز وجل أفضل الأحكام على الإطلاق وأن غيره ضلال، ولكنه مع هذا وقع في التحاكم إلى غير شرع الله فهذا كفر أصغر. وأما من تحاكم إلى الطاغوت محباً لذلك ومستحسناً له ومقدماً إياه على حكم الله وعلى شرعه فلا شك أن هذا خارج عن ملة الإسلام ولا كرامة. قال: وتقسيم الدين إلى حقيقة يتميز بها الخاصة، وشريعة تلزم العامة دون الخاصة لا شك أنه من بدع الصوفية، فهم الذين قسموا الدين إلى حقيقة وإلى شريعة، وقالوا: الحقيقة مختصة بأقطاب الصوفية، وأما الشريعة فإنها خاصة بأهل الظاهر، وهذا كلام من أبطل الباطل وأفسد الفساد. وكذلك فصل السياسة عن الدين، كقول القائل: لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة، وهذا القول قائله من أكفر الكفار؛ لأنه خالف ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وما كان عليه أصحابه، بل خالف صريح الكتاب والسنة. وقوله: وكل ما خالف الشريعة من حقيقة أو سياسة أو غيرها فهو إما كفر وإما ضلال بحسب درجته من الجحود والإنكار أو من البدعة والخطأ.

الإيمان بالغيب من أجزاء توحيد الألوهية

الإيمان بالغيب من أجزاء توحيد الألوهية ومن أجزاء هذا التوحيد الإيمان بأن الله تعالى هو المتفرد بعلم الغيب وحده، فلا يعلم الغيب إلا هو سبحانه وتعالى، واعتقاد أن أحداً غير الله تعالى يعلم الغيب كفر بالله، مع الإيمان بأن الله يطلع بعض رسله على شيء من الغيب، فالغيب غيبان: غيب لا يعلمه إلا الله، وغيب أطلع الله عز وجل بعض رسله عليه. ومن أجزاء هذا التوحيد أن اعتقاد صدق المنجمين والكهان مناف لهذا التوحيد، وهو كفر، فمن ذهب إلى الساحر وصدقه أو إلى الكاهن وصدقه فلا شك أنه يكفر بالله العظيم، وإتيانهم والذهاب إليهم مع عدم تصديقهم كبيرة من الكبائر، فمن ذهب إليهم ولم يصدقهم لم يقبل الله تعالى منه صلاة أربعين يوماً.

التوسل والوسيلة

التوسل والوسيلة الوسيلة المأمور بها في القرآن هي ما يقرب إلى الله تعالى من الطاعات المشروعة. والتوسل كذلك ثلاثة أنواع: إما توسل مشروع، أو توسل بدعي، أو توسل شركي. والتبرك من الأمور التوقيفية، فلا يجوز التبرك إلا بما ورد به الدليل، فالتبرك بذوات الأشخاص لا يجوز إلا في حق الأنبياء. والتبرك بذوات الأنبياء أو بآثارهم مشروع اتفاقاً. وأما التبرك بذوات الأشخاص من غير النبي صلى الله عليه وسلم أو بآثارهم ففيه نزاع طويل، والراجح من الأدلة عدم جوازه. وأفعال الناس عند القبور وزيارتها ثلاثة أنواع: منه ما هو مشروع، كقول النبي عليه الصلاة والسلام: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها؛ فإنها تذكر الآخرة). فالزيارة المشروعة هي ما كان القصد منها تذكر الآخرة. ومنها ما هو بدعي، ومنها ما هو شركي ينافي التوحيد، وهو صرف شيء من أنواع العبادة لصاحب القبر، كدعائه من دون الله عز وجل أو الاستعانة به أو الاستغاثة به كذلك، أو الطواف حوله أو الذبح أو النذر له، ونحو ذلك. والوسائل لها حكم المقاصد والغايات، وأما المثل القائل: الغاية تبرر الوسيلة فهو من أبطل الباطل، وهو اعتقاد غير اعتقاد المسلمين؛ لأن الله عز وجل افترض علينا أن تكون الوسيلة مشروعة كما أن الغاية مشروعة، فلا يسلك أحد مسلكاً يخالف الشرع ثم يقول: أنا غرضي في الآخر شريف أو نبيل، أو أني سلكت هذا المسلك لأصل إلى أمر مشروع، وذلك مثل التي ترقص وتغني مثلاً وتقول: من أجل أن تسدد ديون مصر، فالغرض سليم، ولكن الوسيلة غير مشروعة.

توحيد الألوهية والربوبية بين جاهلية الأمس وجاهلية اليوم

توحيد الألوهية والربوبية بين جاهلية الأمس وجاهلية اليوم وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب عليه رحمة الله تكلم عن توحيد الألوهية، وأكد عليه كغيره من العلماء الذين سبقوه والذين أتوا من بعده؛ لأنه بيت القصيد ومربط الفرس، فقال: اعلم رحمك الله أن التوحيد هو إفراد الله بالعبادة، وهو دين الرسل جميعاً، فما من نبي أتى إلا ودعا قومه أن يفردوا الله عز وجل بالعبادة دون سواه. والله عز وجل أرسلهم به إلى عباده، فأولهم نوح عليه السلام، أرسله الله إلى قومه لما غلوا في الصالحين: ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر. وآخر الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الذي كسر صور الصالحين، فقد أرسله الله إلى قوم يتعبدون ويحجون ويتصدقون ويذكرون الله كثيراً، ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله، {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، أي: نحن نعلم أنهم ليسوا آلهة ولا شيء من ذلك، ولكنهم أناس طيبون وصالحون، وهم واسطة بيننا وبين الله، وهذا ضرب من ضروب الكفر الذي ما أرسل الله عز وجل نبيناً إلا وحاربه، وأهل الجاهلية كانوا يعلمون جيداً أن النافع الضار هو الله عز وجل الذي في السماء، ولما أتاه أحد الجاهليين قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (كم تعبد؟ قال: سبعة، واحد في السماء وستة في الأرض)، يعني: حتى أهل الجاهلية كانوا يقرون بأن الله تعالى في السماء، بخلاف الموجودين في هذه الأزمان. فالمسلمون الآن يقولون: الله موجود في كل مكان، وأهل الجاهلية المشركون الكفار كانوا يوقنون بأن الله تعالى في السماء، (قال: إلى من تلجأ إذا نزل بك الضر؟ قال: إلى الذي في السماء)؛ لأنه يعلم أنه لا يصرف الضر ولا يفرج الهم إلا الله. قال: ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله، يقولون: نريد منهم التقرب إلى الله، يقربونا إلى الله عز وجل، ونريد شفاعتهم عنده، مثل: الملائكة، وعيسى ومريم وأناس غيرهم من الصالحين، فبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم يجدد لهم دين أبيهم إبراهيم عليه السلام، الذي أرسله الله بالحنيفية السمحة، ويخبرهم أن هذا الاعتقاد محض حق الله تعالى، لا يصلح منه شيء لغير الله، لا لملك مقرب ولا لنبي مرسل فضلاً عن غيرهما.

إقرار أهل الجاهلية الأولى بتوحيد الربوبية

إقرار أهل الجاهلية الأولى بتوحيد الربوبية وهؤلاء المشركون مقرون أن الله تعالى هو الخالق وحده لا شريك له، ويشهدون بذلك. وتوحيد الربوبية هو: اعتقاد أن الله تعالى الخالق البارئ المصور المهيمن المدبر لأمر الخلائق المحيي المميت؛ وكل هذا كان يعتقده أهل الجاهلية، بخلاف ما عليه المسلمون اليوم، فإنهم يعتقدون أن الرازق الله وغير الله، ولذلك تجد أحدهم يقول: إن رزقي عندك، أو إن رزقي عند هذا المدير، أو عند رئيس مجلس الإدارة، أو إن أكلي وأكل أولادي في يده، وكل هذا شرك في الربوبية. قال: وأنه لا يرزق إلا هو، ولا يحيي إلا هو، ولا يميت إلا هو، ولا يدبر الأمر إلا هو، وأن جميع السماوات السبع ومن فيهن والأرضين السبع ومن فيهن عبيده، وتحت تصرفه وقهره وتدبيره. فأهل الجاهلية كانوا يعتقدون ذلك، ولم يكونوا يشركون مع الله عز وجل في ربوبيته أحداً. وإذا أردت الدليل على أن هؤلاء المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يشهدون بهذا، ويقرون بتوحيد الربوبية فاقرأ قول الله عز وجل: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} [يونس:31]، فهم يردون ويقولون: الله هو الذي يملك هذا كله، {فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [يونس:31]. وقوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون:84 - 89]. فكل هذه الآيات وغيرها من الأحاديث تدل على أن أهل الجاهلية المشركين ما كانوا يشركون في ربوبية الله عز وجل، وإنما كان شركهم في العبادة، فقد كانوا يشركون مع الله عز وجل في العبادة آلهة غيره. فإذا تحققت أنهم مقرون بهذا، وأنه لم يدخلهم في التوحيد الذي دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرفت أن التوحيد الذي جحدوه هو توحيد العبادة، كما كانوا يدعون الله سبحانه ليلاً ونهاراً، ثم منهم من يدعو الملائكة لأجل صلاحهم وقربهم من الله ليشفعوا له، أو يدعو رجلاً صالحاً مثل اللات والعزى، أو نبياً مثل عيسى، وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم على هذا الشرك، ودعاهم إلى إخلاص العبادة لله وحده كما قال تعالى: {فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18]. وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} [الرعد:14]، وتحققت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم ليكون الدعاء كله لله عز وجل، فلا يدعى غيره سبحانه وتعالى، وأن يكون النذر كله لله، فمن نذر لغير الله فقد عصى الله عز وجل وأشرك، وأن يكون الذبح كله لله تعالى، لا لملك مقرب ولا لنبي مرسل ولا لأحد الصالحين، ولا استعانة إلا بالله عز وجل، وجميع أنواع العبادة كلها لله يجب صرفها لله عز وجل، فمن صرف شيئاً مما يجب صرفه لله عز وجل لغير الله فلا شك أنه قد أشرك مع الله عز وجل إلهاً غيره. فإذا عرفت أن إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام، وأن قصدهم الملائكة أو الأنبياء أو الأولياء إنما كان لأجل أنهم يريدون شفاعتهم والتقرب إلى الله بذلك، وأنه هو الذي أحل دماءهم وأموالهم، عرفت حينئذ التوحيد الذي دعت إليه الرسل، وأبى عن الإقرار به المشركون، وهذا التوحيد هو معنى قولك: لا إله إلا الله، أو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله). فإن الإله عندهم هو الذي يقصد لأجل هذه الأمور، سواء كان ملكاً أو نبياً أو ولياً أو شجرة أو قبراً أو جنياً، ولم يريدوا أن الإله هو الخالق الرازق المدبر، فإنهم يعلمون أن ذلك لله وحده، يعني: هم لا يشركون في الربوبية، وإنما يشركون في العبادة والألوهية. فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم ليدعوهم إلى كلمة التوحيد، وهي قوله: لا إله إلا الله.

أسباب امتناع المشركين من الإقرار بكلمة التوحيد

أسباب امتناع المشركين من الإقرار بكلمة التوحيد والمراد من هذه الكلمة معناها لا مجرد التلفظ بها، ولو كان المطلوب هو مجرد التلفظ بها لما كان هناك حرب ضروس على مدار هذه القرون الطويلة، ولما حارب النبي عليه الصلاة والسلام أحداً؛ لأنه كان بإمكان كل أحد أن يقولها، ولذلك كان العرب في زمن النبي عليه الصلاة والسلام -المشركون واليهود وغيرهم- يعلمون جيداً قيمة قولهم: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وكانوا يعلمون ما تحمل هذه الكلمة في طياتها من معان وتكاليف وأحكام، ومن تغيير لما هم عليه من عقيدة فاسدة، ولذلك امتنعوا عن التلفظ بها، لأنهم يعلمون معنى هذه الكلمة. قال: والكفار الجهال يعلمون أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة هو إفراد الله تعالى بالتعلق، فلا يتعلق قلبك ولا بدنك إلا بالله عز وجل إذا نطقت بهذه الكلمة، والكفر بما يعبد من دون الله عز وجل والبراءة منه، فإنه لما قال لهم قولوا: لا إله إلا الله قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]، أي: أجعل الآلهة التي نعبدها هذه كلها إلهاً واحداً؟! وكان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً، وهذه أصنام عامة، وقد كان لكل واحد أن يعبد ما شاء من هذه الأصنام، وكان لكل واحد في بيته إله من عجوة أو من خشب أو من حديد، فقد كان لكل واحد منهم إله مخصوص وإله عام، والإله المخصوص هو الذي كان يصنعه بيده، وأما الإله العام فقد كانت تشترك فيه القبائل، إما في صنعه وإما في دفع ثمنه للصانع، وربما يأتي شخص بعجوة أو بأي شيء ويصنع منه إلهاً، ويجعل له عينين ويعبده، وهو الذي عمله! وهذا هو الخبل والغباء. فإذا عرفت أن جهال الكفار يعرفون ذلك فالعجب ممن يدعي الإسلام وهو لا يعرف من تفسير هذه الكلمة ما عرفه جهال الكفار، بل يظن أن ذلك هو التلفظ بحروفها من غير اعتقاد القلب لشيء من المعاني، والحاذق منهم يظن أن معناها: أنه لا يخلق ولا يرزق إلا الله، ولا يدبر الأمر إلا الله، ولا يعرف أن هذا هو توحيد الربوبية، وأن المطلوب منه شيء آخر، وهو توحيد الألوهية، ولا خير في رجل جهال الكفار أعلم منه بمعنى لا إله إلا الله.

الفرق بين المشركين في عهد الرسالة ومشركي هذا الزمان

الفرق بين المشركين في عهد الرسالة ومشركي هذا الزمان اعلم أن شرك الأولين أخف من شرك أهل هذا الزمان بأمرين، يعني: أن المشركين الأولين كانوا أحسن من الذين يشركون اليوم لأمرين: الأمر الأول: أن الأولين ما كانوا يشركون ويدعون الملائكة والأولياء والأوثان مع الله إلا في فترة الرخاء. بل إن فرعون الذي هو أكفر أهل الأرض عندما أدركه الغرق قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ} [يونس:90]. ولكن هذا لم ينفعه؛ لأنه وصل إلى الغرغرة، ولم يقلها إلا في هذا الوقت، وقد قال جبريل عليه السلام للنبي عليه الصلاة والسلام: (لو رأيتني لما غرق فرعون أجيء بالطين فأضعه في فيه مخافة أن تدركه رحمة الله)، يعني: حتى جبريل كان لا يتمنى له أبداً أن يؤمن، وخاصة بعد أن ادعى الألوهية وقال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51]، وقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]. بل إن هلاكه أفضل. قال: لكن إذا اشتدت عليهم الأمور، أي: إذا نزلوا البحر وجاءهم الموج لجئوا إلى الله عز وجل، والآن تجد السفينة في البحر وعليها الخمر والزناة والسكارى، وجميع أنواع الفساد، والسفينة تغرق والذي يزني يزني، والذي يشرب الخمر يشرب، والوضع كما هو عليه. وإلى الله المشتكى. قال: وأما في الشدة فيخلصون لله الدين. هؤلاء هم المشركون الأولون، ففي الشدة يخلصون لله الدعاء، وأما في الرخاء فيشركون بالله، كما قال الله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء:67]. وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:40 - 41]. وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا} [الزمر:8]، أي: راجعاً إليه أواباً مخبتاً، إلى قوله تعالى: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [الزمر:8]. وقال تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [لقمان:32]. فمن فهم هذه المسألة التي وضحها الله في كتابه، وهي أن المشركين الذي قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يدعون الله تعالى ويدعون غيره في الرخاء، وأما في الضر والشدة فلا يدعون إلا الله تعالى وحده لا شريك له، وينسون ساداتهم تبين له الفرق بين شرك أهل زماننا هذا وشرك الأولين، ولكن أين من يفهم قلبه هذه المسألة فهماً جيداً راسخاً؟ هذه المسألة الأولى. الأمر الثاني الذي يتميز به المشركون الأوائل عن مشركي أهل هذا الزمان: أن الأولين كانوا يدعون مع الله أناساً مقربين عند الله -يعني: يدعون أناساً صالحين- إما أنبياء وإما أولياء وإما ملائكة، أو غيرهم ممن أطاع الله عز وجل وظهرت طاعته لله عز وجل. ومن يفعل هذا فإنه يكفر بذلك، ولكنه أحسن ممن يدفن حماراً في قبر ويطوف حوله، أو يعبد كافراً، أو يواليه. وفي الأسبوع الماضي وأنا مسافر إلى المنصورة ركبت مع سائق فقال لي: أتعلم يا شيخ! ما الذي عملوا في رابين؟ فقلت له: وما الذي يحزنك؟! قال: موت هذا الرجل خسارة، قلت له: خسارة ماذا؟! فقال: إنه كان ينشر السلام، فقلت: سلام ماذا؟! قال لي: ألا تقرأ الجرائد؟ قلت له: أنا لا أقرأ جرائد، فقال لي: إنه كان محترماً، نشكو إلى الله الذين قتلوه، قلت له: أتحبه؟! قال: نعم، والله أحبه، فقلت له: ألا تعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من أحب قوماً فهو معهم)، أي: يحشر معهم، قال لي: يا ليت! فقلت له: الأخ نصراني أو مسلم أو كافر أو ماذا؟ واستمر الكلام بيننا حتى وصلنا المنصورة، وبمجرد أن وصلت قلت له: أوقف السيارة، قال: لماذا؟ قلت له: كي أستريح، فأوقف السيارة، فقلت له: كم تريد؟ قال: ستة جنيهات، قلت له: تفضل، وإن أردت أن أزيدك إلى العشرة سأفعل، ولكن انصرف عني فقد أزعجتني، وأنا أريد أن أذهب إلى محاضرة، ولا أريد أن أذهب وقد اغتظت منك، فذهب مسافة قصيرة ثم عاد فقال: لا يصح أن أتركك يا شيخ! المعذرة، فقلت له: إذا أردت أن تأخذني فلا تزعجني بالأغاني وبأمثالها من المعاصي، أو بمثل ذاك الحديث، فقال: هناك أغانٍ سيئة وأغانٍ ليست بسيئة. فهؤلاء الناس أصبحت عندهم المعاصي لا شيء؛ لأنهم تعودوا عليها. وأنت إذا رأيت امرأة متبرجة ولكن ليست مواكبة لموضة هذه الأيام فإنك تتضايق من هذه الفتنة، بينما كثير من الناس ينظرون إليها نظرة احتقار، وكأنها أتت من الريف، ولا تعرف الموضة وال

التوحيد هو أعظم ما فرضه الله على عباده

التوحيد هو أعظم ما فرضه الله على عباده ومعلوم أن التوحيد هو أعظم فريضة جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أعظم من الصلاة والزكاة والصوم والحج، ومعلوم أنه من جحد شيئاً من هذه الأشياء -أي: من الصلاة أو الصوم أو الزكاة- فقد كفر، وخرج بهذا الجحود من ملة الإسلام، فكيف بمن يجحد ما هو أعظم من الزكاة والصيام والصلاة والصدقة وغيرها، وهو إفراد الله عز وجل بالعبادة؟ فمن جحد التوحيد الذي هو دين الرسل كلهم كفر، ولو عمل بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فمن جحد توحيد الله عز وجل سواء كان توحيد الربوبية أو الألوهية فهو كافر بالله العظيم، وما أكثر الجهال الذين يشركون مع الله عز وجل في العبادة غيره، وفي الربوبية غيره كذلك، ومشركو العرب سابقاً ما كانوا يشركون في الربوبية، واليوم المسلمون -فضلاً عن المشركين- يشركون في الربوبية والألوهية على حد سواء.

نواقض الإسلام

نواقض الإسلام اعلم أيها الأخ المسلم أن الله سبحانه أوجب على جميع العباد الدخول في الإسلام والتمسك به، والحذر مما يخالفه، وبعث نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم للدعوة إلى ذلك، وأخبر عز وجل أن من اتبعه فقد اهتدى، ومن أعرض عنه فقد ضل، وحذر في آيات كثيرة من أسباب الردة وسائر أنواع الشرك والكفر. وذكر العلماء رحمهم الله تعالى في باب حكم المرتد أن المسلم قد يرتد عن دينه بأنواع كثيرة من النواقض.

الشرك بالله عز وجل

الشرك بالله عز وجل ومن أعظم هذه النواقض وأخطرها: الشرك بالله عز وجل، وهو شرك العبودية، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء:48]، وقوله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] يدل على أن من أتى بالأصل نفعه المقتضى، ومن لم يأت بالأصل لم ينفعه المقتضى، فمن أتى بالتوحيد الكامل نفعه بعد ذلك واجبات الشرع، من الصلاة والصيام والزكاة والحج وغيرها، ونفعته النوافل والسنن، ومن أتى بكل الفرائض والنوافل والسنن وأشرك مع الله عز وجل إلهاً غيره لا ينفعه ذلك ألبتة. وهذا فيه رد على سؤال من يسأل: لو أن رجلاً صلى قبل أن ينطق بالشهادتين هل لا يعتبر مسلماً، رغم أنه يتشهد في الصلاة، ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ ونقول: هذه الصلاة باطلة، ولا يدخل في الإسلام بها؛ لأنها انعقدت في حال كفره وشركه بالله، فيبقى على كفره، فهي غير صحيحة ولا مقبولة؛ لأنها انعقدت في أولها والمرء غير مسلم، والله تعالى يقول: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:72]. ومن أنواع الشرك بالله دعاء الأموات، أي: أن يدعو المسلم رجلاً ميتاً، سواء كان صالحاً أو غير صالح، أو أن يستغيث به أو ينذر له أو يذبح له؛ لأن هذه العبادات لا يجوز صرفها إلا لله عز وجل، فالذبح عبادة، والاستعانة عبادة، والاستغاثة عبادة، والدعاء عبادة، والخوف عبادة، والرجاء عبادة، وسائر أصناف العبادة إذا صرف منها شيء لغير الله فقد وقع الصارف في الشرك بالله عز وجل.

اتخاذ الوسائط بين العبد وبين ربه

اتخاذ الوسائط بين العبد وبين ربه والناقض الثاني: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة ويتوكل عليهم، ومن فعل هذا فقد كفر إجماعاً، فدعاء غير الله عز وجل -كدعاء الحسين أو البدوي أو عائشة أو نفيسة أو غير ذلك من سائر المدعوين من دون الله عز وجل- شرك. ونحن نرى كثيراً من الناس يأتون من أطراف الدنيا ويحضرون معهم العجول من أجل أن يذبحوها عند السيد البدوي، وهناك عربات في القطار مخصصة لهذه العجول، فيدخلونها إلى العربة ويكتبون على كتاب معلق في عنقها هذه ذبيحة السيد البدوي قدمها فلان، فإذا وصل إلى القاهرة نزل وأخذ عجله وركب أي سيارة حتى توصله إلى السيد البدوي أو الحسين أو غيره ويذبح عجله، وهذا كفر؛ لأنه يذبح لغير الله عز وجل، فهو مثل الذبح للنصب والأصنام وغيرها.

عدم تكفير الكافر أو الشك في كفره

عدم تكفير الكافر أو الشك في كفره الناقض الثالث: من لم يكفر المشركين، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم، فمن فعل ذلك فهو كافر. وهناك مسألة مشهورة عند الناس وهي: أن من لم يكفر الكافر فهو كافر، وهذا الكلام يصدق في حالتين دون الثالثة، وهاتان الحالتان هما: الحالة الأولى: الكافر كفراً أصلياً، يعني: من لم يدخل في الإسلام ألبتة، فالذي لا يكفر المجوس ولا اليهود ولا النصارى ولا غير المسلم فلا شك أنه كافر بذلك؛ لأنه يجب على المسلم أن يكفر الكافر، وإذا لم يكفره فقد خالف الكتاب والسنة، ورد حكم الله عز وجل؛ لأن الله تعالى كفرهم في كتابه، والنبي صلى الله عليه وسلم كفرهم في سنته، فلابد أن تكون متبعاً لكتاب الله ولسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا خالفت ذلك فأنت كافر؛ لردك لكتاب الله ولسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. الصورة الثانية: من ارتد وعلمت ردته واتفق على كفره، بمعنى أنه كان مسلماً، ثم ارتد ردة صريحة عن الإسلام، وتحققت فيه الشروط وانتفت عنه الموانع، ولم يكن جاهلاً ولا مكرهاً ولا غاضباً، أي: أنه لم يقل الكفر في حال غضبه، كما ألقى موسى الألواح {وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ} [الأعراف:154]، وغير ذلك من الموانع التي تمنع من تكفيره. فمن ارتد عن دين الله عز وجل ردة صريحة واتفق على أنه كافر خارج عن ملة الإسلام فقد وجب عليك أن تكفره، وإن لم تفعل فأنت مثله في الحكم. الصورة الثالثة التي تأخذ حكماً مخالفاً: من كان مسلماً ولكنه فعل أفعالاً جعلت أهل العلم يختلفون فيه، فمنهم من كفره، ومنهم من لم يكفره، فاختلاف أهل العلم فيه لا يوجب عليك أن تقطع له بأحد القولين، فعليك أن تكل أمره إلى الله عز وجل، وإذا ترجح لديك أحد القولين فقل به، ولا بأس عليك ولا حرج؛ لأنك مسبوق إلى هذا القول. إذاً: قول القائل: من لم يكفر الكافر فهو كافر متعلق بالكافر الأصلي، والذي ارتد عن دين الإسلام وأجمع على كفره أهل الإسلام، وأما الذي لم يحصل بشأنه إجماع وكان فعله يحتمل الكفر وغيره فأنت في حل من شأنه.

اعتقاد أن هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم أكمل وأحسن من هديه صلى الله عليه وسلم

اعتقاد أن هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم أكمل وأحسن من هديه صلى الله عليه وسلم الناقض الرابع: من اعتقد أن هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه وأحسن منه. وهذا لا شك أنه كافر، راد لكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، فمن قدم هدي غير النبي عليه الصلاة والسلام على هديه فهو كافر بذلك، أو اعتقد أن حكم غيره أحسن من حكمه -كالذين يفضلون حكم الطواغيت على حكمه- فهو كافر، أو تحاكم إلى غير شرع الله وإلى غير ما أنزل الله عز وجل وبإمكانه أن يحصل على حقه دون اللجوء إلى هذه القوانين والطوغيت، فمن هذا حاله فهو مستحسن لغير شرع الله، ومقدم له على شرع الله عز وجل. ويدخل في هذا من اعتقد أن الأنظمة والقوانين التي يسنها الناس أفضل من شريعة الإسلام، وتجد الناس إذا كان القانون في صالحهم يلهجون بالثناء عليه وتعظيمه وإن كان مخالفاً لشريعة الإسلام، وهم بذلك يردون حكم الله عز وجل. والأصل في المسلم أن يقدم شرع الله عز وجل حتى وإن خالف هواه؛ لأن شرع الله عز وجل مصلحة كله، وما خفي أن فيه مصالح البشرية الآن فلا بد أن تظهر مصالحه فيما بعد، وما تكرهه الآن تظهر لك مصالحه بعد ذلك، فينبغي عليك أن تقبل شرع الله عز وجل، وإن استثقلت بعض أحكامه عليك الآن فينبغي عليك أن تراجع إيمانك، وأن تقبل شرع الله عز وجل كله بحذافيره. أو يعتقد أن نظام الإسلام لا يصلح تطبيقه في القرن العشرين. وهذه الكلمة نسمعها اليوم كثيراً، فهناك من يقول: كان الإسلام ينفع البدو في القرون الأولى، وكان جميلاً جداً، وعندما كان مناسباً للعصر والمكان والزمان ساد الأمم كلها، ولكنه لا ينفع الآن في المدنية وفي النظام العالمي الواحد، ومع الطائرات والصواريخ والتكنولوجيا، ومن قال هذا وقدم غير شرع الله عز وجل فهو كافر بالله، وهذا لابد أن يكون عقيدة مستقرة، يعني: صلاح شرع الله عز وجل للحياة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها لابد وأن يكون من البديهيات التي لا تحتاج منا إلى إقرار، فلا ينبغي السؤال هل الشريعة صالحة الآن أو غير صالحة؟ والجواب بأنها صالحة، فهذا الكلام خطأ؛ لأن هذا لا بد أن يكون عقيدة مستقرة في قلبك، كما استقر في قلبك أنه لا يستحق العبادة إلا الله عز وجل. وهناك رأي شر من الرأي الأول، وهو يقول: إن سر التخلف الذي نحن فيه هو الإسلام. وقائل هذه الكلمة قد خرج من ملة الإسلام بلا شك ولا ريب. وهناك من يقول: الإسلام في المسجد فقط، وأما الشارع فله قوانين أخرى تحكمه، وقائل هذا يشبه الإسلام بالكنيسة في العصور الوسطى، فقد حجر على النصرانية وجعلت في الكنيسة فقط، وكأن الزمن يدور الآن، وإذا دار الزمان فدر مع القرآن حيث دار، وهكذا يكون المسلم.

بغض شيء مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم

بغض شيء مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم الناقض الخامس: من أبغض شيئاً مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولو عمل به فقد كفر؛ لقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:9]. فلو قال قائل: هذه القضية لابد أن أحكم فيها بالقانون -وإن كان الشرع فيها واضحاً وبيناً جداً- لأن حكم القانون هنا أحب إلي من حكم الرسول صلى الله عليه وسلم أو من حكم الله عز وجل فهو كافر. ولا يأتي شخص بعد أن نذكر هذه المكفرات ويقول: إنك مكفر، فأنا أكفر بالكتاب والسنة، وليس هناك مشكلة.

الاستهزاء بشيء من الدين

الاستهزاء بشيء من الدين الناقض السادس: من استهزأ بشيء من دين الله عز وجل. والاستهزاء ليس له علاقة بالجهل ولا بالإكراه ولا بشيء أبداً. والموانع التي تمنع من لحوق الحكم بالقائل أو الفاعل ليس لها علاقة أبداً بالاستهزاء، فالاستهزاء كله كفر، وقد ثبت عن الإمام أحمد بن حنبل أنه قال: من قال لعمامة الرجل: عُميمة -والتصغير للتحقير- احتقاراً لسنيتها فقد كفر. وقال الإمام النووي عليه رحمة الله تعالى في أحد كتبه في شرح حديث النبي عليه الصلاة والسلام في فضل الذي يخرج من بيته في طلب العلم: إن بعض الناس رأوا طالب علم خرج من بيته مسرعاً فاعترضوه، وقالوا له: ارفع قدمك حتى لا تكسر أرجل ولا أجنحة الملائكة -يستهزءون به- فأصبحوا مكسوري الأيدي والأرجل والظهور. فعاقبهم الله عز وجل بنفس صنيعهم، والجزاء من جنس العمل. فمن استهزأ بشيء من شرع الله عز وجل ومن دين الله عز وجل، أو من الثواب والعقاب فإنه كافر بذلك، والله عز وجل يقول: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ} [التوبة:65 - 66]. فسمى الاستهزاء كفراً.

السحر

السحر الناقض السابع: السحر، وبعض الناس يقولون: هذا الساحر يعلم الغيب، وهذا خروج من ملة الإسلام؛ لأنه صرف لما يجب لله عز وجل لغيره عز وجل، فقد ادعى أن غير الله يعلم الغيب، ولا يعلم الغيب إلا الله، والله عز وجل يقول: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102]. أي: أن تعلم السحر كفر.

موالاة الكافرين على المسلمين

موالاة الكافرين على المسلمين الناقض الثامن: مظاهرة المشركين، يعني: معاونتهم ومساندتهم وموالاتهم على المسلمين، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]. فمن كان ظهيراً ومساعداً ومسانداً ومحباً وموالياً للكفار فليعلم أنه منهم، ومن أحب قوماً فهو معهم، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51].

اعتقاد أن هناك من يسعه الخروج عن شريعة الإسلام

اعتقاد أن هناك من يسعه الخروج عن شريعة الإسلام الناقض التاسع: من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فقد كفر؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85].

الإعراض عن تعلم الدين والعمل به

الإعراض عن تعلم الدين والعمل به الناقض العاشر: الإعراض عن دين الله عز وجل، بحيث لا يتعلمه ولا يعمل به، والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} [السجدة:22]، أي: أعرض عن الذكر وعن العمل، وعن السماع، فهو يعرض عن ذكر الله عز وجل وعن أحكامه وآياته، وعما يجب عليه أن يعتقده في ذات الله عز وجل وفي أسمائه وصفاته. ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازئ والجاد، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (وإن أحدكم ليتكلم بالكلمة من سخط الله أو من غضب الله يهوي بها في النار سبعين خريفاً، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله عز وجل يدخل بها الجنة). هذه بعض المسائل التي تتعلق بتوحيد الله عز وجل وبتوحيد اتباع النبي صلى الله عليه وسلم.

الأسئلة

الأسئلة

الحكم على حديث: (لا تلقوا السلام على يهود أمتي) وبيان معناه

الحكم على حديث: (لا تلقوا السلام على يهود أمتي) وبيان معناه Q ما مدى صحة حديث: (لا تلقوا السلام على يهود أمتي، قلنا: يا رسول الله ومن يهود أمتك؟ قال: تاركو الصلاة)؟ A حديث: (لا تلقوا السلام على يهود أمتي، قلنا: يا رسول الله! ومن يهود أمتك؟ قال: تاركو الصلاة)، غير صحيح، وليس معناه أن من يريد ترك الصلاة يتركها.

حكم الحجامة والشروط التي يجب توافرها في الحجام

حكم الحجامة والشروط التي يجب توافرها في الحجام Q هل الحجامة مشروعة، وما هي الشروط التي يجب أن تتوافر فيمن يزاول هذه الصنعة؟ A ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى الحجام ديناراً، والصحابة احتجموا من بعده. والحجامة هي أحد وسائل علاج الأبدان. وقد كان العرب إذا وجد أحدهم مرضاً في رأسه أو صداعاً يحتجم، فيحلق بعض رأسه في مكان الصداع أو قريباً منه حتى يبدو جلد الرأس، ثم يأتي بإناء أو كوب ويشعل فيه النار، ثم يضع الكوب مقلوباً على ذلك المكان، وبمجرد وضعه تنطفئ النار، ويخرج دخان، وينحبس هذا الدخان داخل الكوب، ويتجمع على الجلد فيجذبه إلى داخل الكوب، ثم ينتظر حتى لا يشعر بألم، ثم يرفع الكوب فيجد أن المكان الذي جذبه الكوب لونه مختلف عن بقية الرأس بتأثير الدخان والنار، فيأتي بمشرط مطهَر ويجرح به ذلك المكان عدة جرحات بطرف المشرط، وعندما ينزل منها الدم يعيد العملية من جديد، فيشعل النار في الكوب ثم يضعه في نفس المكان من الرأس، فيسحب الكوب الدم كله. وهذا الدم هو الذي سبب له هذا الصداع. وبعد أن يمتلئ الكوب ينزعه ثم يغتسل ويستريح وينام، ويذهب الصداع من رأسه. هذه هي صورة الحجامة. ويفضل أن يكون الذي يصنع الحجامة رجلاً له علاقة بالطب، وعندما كنا في الأردن سنة 1983م عمل شخص حجامة لأخيه في السكن، فقطع شرايينه وعروقه وأوردته، وجلس في المستشفى سنة كاملة. فلا بد أن يكون الذي يعمل الحجامة له علاقة بالطب، من أجل أن يكون عالماً، هل المكان الذي سيحجمه فيه شريان أو عروق أو لا؟ ويشرط بحذر شديد جداً، مثل الأطباء عندما يشرطون بحذر شديد، ولا يشترط أن يكون طبيباً، وإنما أن يكون فاهماً لهذا الأمر. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. وصلى اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

كتاب الإيمان - شروط لا إله إلا الله السبعة

شرح صحيح مسلم - كتاب الإيمان - شروط لا إله إلا الله السبعة لا تتم شهادة أن لا إله إلا الله إلا بشهادة أن محمداً رسول الله، ولا تتم محبة الله إلا بمحبة رسوله، فالشهادتان متلازمتان، ولا يكفي فيهما النطق المجرد باللسان، بل لابد من العلم بمعناهما والقبول والانقياد لمقتضاهما، إلى غير ذلك من الشروط التي يجب توافرها في قائلهما.

شروط كلمة التوحيد

شروط كلمة التوحيد الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أما بعد: في الدرس الماضي تكلمنا عن أهم ركن من أركان الإسلام، وهو شهادة التوحيد، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله)، وتكلمنا عن معنى الشهادة، وأنها الركن الركين في أركان الإسلام، وأعلاها وأعظمها وأهمها، وأن من أتى بهذا الأصل ربما نفعه المقتضى، ومن أتى بدونه لم ينفعه المقتضى، ولا يصح عمل المرء وإن أتى بالطاعات والصالحات جميعاً حتى يدخل من هذا الباب الأساسي، وهو توحيد الله عز وجل. وشروط توحيد الله عز وجل هي ما جاء في قول الناظم عليه رحمة الله: وبشروط سبعة قد قيدت وفي نصوص الوحي حقاً وردت فإنه لم ينتفع قائلها بالنطق إلا حيث يستكملها العلم واليقين والقبول والانقياد فادر ما أقول والصدق والإخلاص والمحبة وفقك الله لما أحبه هذه هي الشروط السبعة لقول لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. الأول: العلم، والثاني: اليقين: والثالث: القبول، والرابع، الانقياد، والخامس: الصدق، والسادس: الإخلاص، والسابع: المحبة. وقول الناظم هنا: (وبشروط سبعة قد قيدت)، أي: قولك لا إله إلا الله محمد رسول الله، مقيد بهذه الشروط السبعة، وقد جاء ذلك في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وفي قوله: (وفي نصوص الوحي حقاً وردت)، أي: هذه الشروط أتت في كتاب الله عز وجل، وفي سنة نبيه الصحيحة. والدليل حتى يصح لابد أن يتوفر فيه شرطان: الشرط الأول: أن يكون هذا الدليل صحيحاً. والشرط الثاني: أن يكون هذا الدليل صريحاً في المسألة، فإذا احتججت بحديث صحيح في غير بابه، فنقول: نعم، إن هذا الحديث صحيح، ولكنه لا يصلح للاحتجاج به في هذه المسألة؛ لأنه يتكلم في باب، والنزاع في باب آخر. فالدليل حتى يصح الاحتجاج به لابد أن يكون صحيحاً وصريحاً في محل النزاع، فإذا احتججت بحديث ضعيف في محل النزاع، قلنا: إن هذا الحديث لا يقوى على حل النزاع حتى وإن كان صريحاً في المسألة، لأنه غير صحيح. فالأدلة التي يجوز الاحتجاج بها لابد أن تكون صحيحة من جهة، وصريحة من جهة أخرى. قال الناظم: (فإنه لم ينتفع قائلها)، أي: لم ينتفع المتلفظ والناطق بالشهادتين إلا باستكمال هذه الشروط، وباجتماعها في القائل وفي الناطق بها. وقوله: (بالنطق إلا حيث يستكملها)، أي: إلا إذا اجتمعت فيه، واستكمل هذه الشروط السبعة. ثم بدأ يعدد هذه الشروط، فقال: (العلم واليقين والقبول والانقياد فادر ما أقول)، أي: اسمع وأنصت إلى ما أقوله. (والصدق والإخلاص والمحبة وفقك الله لما أحبه)، آمين. فهذه الشروط السبعة لابد من توفرها فيمن وحد الله عز وجل، حتى يوحد الله عز وجل على علم وبصيرة وانقياد واستسلام وإخلاص ومحبة.

العلم

العلم قوله: (والعلم)، هذا أول شرط فيمن يوحد الله عز وجل، فلابد أن يوحد الله عز وجل على علم لا جهل فيه، والمقصود: بالعلم أي: بمعنى لا إله إلا الله محمد رسول الله، ولا شك أن العلم بلا إله إلا الله معناه: أنك لابد وأن تعلم يقيناً أن الإله الحق هو الله عز وجل وحده، وما عداه فإنما هي آلهة باطلة وطواغيت من دون الله عز وجل. ولا بد من العلم بمعناها المراد منها نفياً وإثباتاً؛ لأن الكلمة في حد ذاتها تشمل النفي والإثبات، فقولك: لا إله نفي لجميع الآلهة، وإلا الله إثبات لإله واحد ورب لجميع من ادعى أنه إله من دون الله عز وجل. فهذه الكلمة في حد ذاتها تشمل نفي جميع الآلهة، وإثبات إله وحد، وفي البلاغة تفيد الحصر؛ فهي هنا تفيد حصر الألوهية في الله عز وجل، وتنفي الألوهية عما عداه، كقول الله عز وجل: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} [آل عمران:144]، فهي تفيد حصر الرسالة في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وليس معنى ذلك نفي الرسالة عمن عداه من إخوانه من المرسلين والأنبياء، وإنما هذا كلام خاص بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وإثبات أنه مبعوث مرسل من عند الله عز وجل. وقال الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19]. وبوب الإمام البخاري في كتاب العلم، باب: العلم قبل القول والعمل، وقد أراد الإمام البخاري بهذا أن يبين أنه لا يصح قول ولا عمل إلا بعلم، وأنه لابد لكل قائل وكل عامل أن يكون قوله وعمله صادراً عن علم بالله عز وجل، وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فمن عمل بغير علم فهو شبيه بالنصارى؛ لأن العمل بغير علم ضلال. والتقول على الله عز وجل إنما هو من غضب الله عز وجل على المرء، ولذلك في أواخر سورة الفاتحة، يدعو المؤمنون الله عز وجل أن يهديهم الصراط المستقيم، لا صراط الذين غضب الله عليهم ولا الضالين، وهم اليهود والنصارى. وقال تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} [الزخرف:86]، أي: بلا إله إلا الله، فشهادة الحق هي لا إله إلا الله، قال: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86]، أي: يعلمون بقلوبهم معنى لا إله إلا الله، وما نطقت به ألسنتهم. وقال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18]، فالله عز وجل والملائكة وأولو العلم جميعاً شهدوا بأنه لا إله إلا هو العزيز الحكيم. وقال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9]. وقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، فكلما ازداد العبد علماً بالله عز وجل كلما ازداد منه خشية، ولذلك لما نودي الأعمش، أو شعبة أيها العالم! قال: إنما العالم من يخشى الله. وأعلى مراتب العلم بالله عز وجل خشيته عز وجل. وقال تعالى: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43]. وفي الصحيح عن عثمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة)، وقد بوب الإمام النووي لهذا الحديث في صحيح مسلم بباب: الدليل على أن مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً.

اليقين

اليقين الشرط الثاني من شروط لا إله إلا الله: اليقين المنافي للشك، واليقين الذي لا شك فيه هو الاعتقاد الجازم أن الله تعالى إله واحد، بحيث لا يساور قائلها ريب ولا شك بمدلولها. والإيمان لا ينفع فيه إلا علم اليقين لا علم الظن، قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:15]، أي: لم يشكوا في الإيمان بالله تعالى وبرسوله صلى الله عليه وسلم، {وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات:15]. فاشترط الله عز وجل في صدق إيمانهم بالله ورسوله كونهم لم يرتابوا ولم يشكوا؛ لأن الارتياب صفة المنافقين والعياذ بالله تعالى، قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ} [التوبة:45]، أي: في التخلف عن الجهاد، {الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التوبة:45]، أي: في شكهم يتحيرون ويتيهون. وفي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة). فيشترط اليقين بالله عز وجل، وبأنه واحد أحد، فرد صمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، فمن شك في شيء من ذلك فإنه لم يحقق اليقين، وقد فقد شرطاً من شروط توحيد الله عز وجل، ولا شك أنه بفقد الشرط يفقد المشروط. وفي رواية: (لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما فيحجب عن الجنة). وعن أبي هريرة رضي الله عنه في حديث طويل: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه بنعليه وقال له: اذهب بنعليَّ هاتين، فمن لقيت خلف هذا الحائط -أي: خلف هذا البستان- يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة، فكان أول من لقي أبو هريرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فسأله عمر: ما هذان النعلان يا أبا هريرة؟! قال: هما نعلا رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني بهما - أي: كدلالة وعلامة على وجوده داخل الحائط والبستان - فقال: يا أبا هريرة! اذهب فمن لقيت خلف هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة، قال: فضربني عمر بين ثديي فخررت لاستي، ثم هرولت وأسرعت إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وفي أثري عمر - أي: وعمر خلفي مباشرة - حتى جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: يا رسول الله! إن عمر ضربني بين ثديي فخررت لاستي، فلما سأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك أقر بأنه قد فعل ذلك، فقال: ما الذي حملك على ذلك يا عمر؟! قال: يا رسول الله! لا تبشرهم فيتكلوا دعهم يعملون، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: دعهم يا عمر - أي: دعهم يعملون -) وأقره على فهمه واجتهاده رضي الله عنه. فاشترط النبي صلى الله عليه وسلم في دخول قائلها الجنة أن يكون مستيقناً بها قلبه غير شاك فيها، وإذا انتفى الشرط انتفى المطلوب.

القبول

القبول الشرط الثالث من شروط قول لا إله إلا الله محمد رسول الله: القبول لما اقتضته هذه الكلمة بقلبه ولسانه، وموافقة القلب للسان، يعني: أن يتوافق لسانك وقلبك سوياً على النطق بهذه الكلمة وعلى قبولها ومعرفة معناها واليقين بمدلولها، وقد قص الله عز وجل علينا من أنباء ما قد سبق من إنجاء من قبلها، وانتقامه ممن ردها وأباها، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الزخرف:23 - 25]. وقال الله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس:103]، يعني: من قبل هذه الكلمة سماه الله مؤمناً، ومن ردها فهو إما كافر وإما منافق، ومعلوم ما وقع بالكافرين والمنافقين ممن رد هذه الكلمة، وكذلك معلوم جزاء المؤمنين عند الله عز وجل في الدنيا والآخرة لقبولهم لهذه الكلمة والعمل بمقتضاها. وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]. وكذلك أخبرنا بما أعده لمن ردها من العذاب فقال تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات:22 - 24] إلى قوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات:35]، أي: يستكبرون عن قبولها ويردونها، {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات:36]، وهذا كأنه سؤال تعجب من هؤلاء الجهلة السفلة، وقد علموا أنه ليس بشاعر ولا مجنون. فجعل الله تعالى علة تعذيبهم وسببه هو استكبارهم عن قول لا إله إلا الله، وتكذيبهم من جاء بها، فلم ينفوا ما نفته، ولم يثبتوا ما أثبتته، بل إنهم قالوا إنكاراً واستكباراً: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} [ص:5 - 6]. وسبحان الله! {أَتَوَاصَوْا بِهِ} [الذاريات:53]. والله عز وجل في هذه الآية يصور المعركة بين أهل الإيمان وأهل الكفر والنكران، فقال تعالى: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}. وهذا قول أهل الكفر والجحود والنكران في ميدان عام التقى فيه أهل الإيمان وأهل الكفر، فقال أهل الكفر: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا} [ص:5 - 6]، أي: امشوا من أمام أهل الإيمان والعلم والحجة والبيان خشية أن تصابوا بما أصيبوا به، وانصرفوا من أمامهم حتى لا يصيبكم ما أصابهم، {وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} [ص:6] أي: وتمسكوا بآلهتكم، {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [ص:6]، أي: يراد بكم، {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [ص:7]، أي: ابتداع ابتدعوه من عند أنفسهم واصطنعوه، تعالى الله عز وجل عن قولهم علواً كبيراً. وقالوا هنا: {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات:36]. فكذبهم الله عز وجل ورد عليهم ما اتهموا به رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:37]، أي: بل جاء النبي عليه الصلاة والسلام بالحق من عند الله عز وجل، ((وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ))، أي: ووافقت دعوته دعوة المرسلين من قبله، فلم يكن هذا اختلاقاً ولا ابتداعاً ولا اصطناعاً، وإنما هو موافق لأهل التوحيد من الأنبياء والمرسلين قبله، فلم يكن بدعاً من الرسل صلى الله عليه وسلم، فدعوته هي دعوة لتوحيد الله عز وجل، وتوحيد الطريق الموصل إلى الله عز وجل، كدعوة غيره من الأنبياء كذلك. ثم قال في شأن من قبلها وأثنى عليهم الله عز وجل: {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات:40]، أي: الذين عبدوا الله تعالى بإخلاص، {أُوْل

الانقياد

الانقياد الشرط الرابع: الانقياد والإذعان والاستسلام لله عز وجل، يعني: الانقياد لكل ما أمر الله عز وجل به، والانتهاء عن كل ما نهى الله عنه؛ فلا يجدك الله عز وجل حيث نهاك، ولا يفقدك حيث أمرك، قال الله عز وجل: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} [الزمر:54]، أي: وارجعوا إلى ربكم، {وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر:54]. وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [النساء:125] ومعنى: {وَهُوَ مُحْسِنٌ} أي: وهو موحد، ومعنى: {أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ}، أي: انقاد لله عز وجل وهو موحد. وقال تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [لقمان:22]، أي: بلا إله إلا الله، والعروة الوثقى هي: العقد الأوثق المتين بينك وبين الله عز وجل في الدين، والسبب الموصل لرب العالمين. فهي العروة الوثقى التي لا انفصام لها ولا انقطاع لها. {وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [لقمان:22]، ومعنى: ((يُسْلِمْ وَجْهَهُ))، أي: ينقاد لله عز وجل، ((وَهُوَ مُحْسِنٌ))، يعني: موحد، ومن لم يسلم وجهه إلى الله ولم يك محسناً فإنه لم يستمسك بالعروة الوثقى، وهذا هو المقصود بقول الله عز وجل بعد ذلك: {وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ} [لقمان:23]، أي: ومن لم يستمسك بهذه العروة الوثقى وبهذا العقد المتين في الدين بينه وبين الله فاعلم أنه قد آثر الكفر على الإيمان وفضل الضلالة على الهدى، والعمى على البصيرة، ولهذا قال الله عز وجل ذاماً لهم: ((وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ))، وفي هذا سلوى للنبي عليه الصلاة والسلام، وأنه لا يضره كفر من كفر، كما لا ينفعه كذلك إيمان من آمن، {إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} [لقمان:23 - 24].

الصدق

الصدق الشرط الخامس من شروط لا إله إلا الله: الصدق في هذه الكلمة؛ فتكون صادقاً مع الله عز وجل ومع نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ومع نفسك في إيمانك كذلك، فيكون نطقك لهذه الكلمة بكل صدق وإخلاص. فمن شروط هذه الكلمة: الصدق المنافي للكذب، أي: الصدق الذي ليس معه أدنى كذب، وهو أن يقولها صدقاً من قبله، ويوافق قلبه لسانه، يعني: يتفق ما يخرج من لسانه مع ما يعتقده ويستقر في قلبه، قال الله عز وجل: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:1 - 2]، فلابد من الفتنة حتى يعلم الله عز وجل الصادق من الكاذب، وحتى يميز الخبيث من الطيب، {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:3]، إلى آخر الآيات. وقال تعالى في شأن المنافقين الذين قالوها كذباً وزوراً وبهتاناً: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8]. و (ما) هنا نافية، فقولهم لا يوافق ما في قلوبهم من كفر ونفاق وضلال، وإنما: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:9]، والله عز وجل لا يخدعه خادع ولا يمكر به ماكر، {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:9 - 10]، يعني: ليسوا صادقين في ادعائهم الإيمان وإنما هم كاذبون، ففضحهم الله عز وجل في مثل هذا الموطن وفي غيره كذلك. وقد ذكر الله تعالى شأنهم، وكشف أستارهم وهتكها وأبدى فضائحهم في غير ما موضع من كتابه، كسورة البقرة وآل عمران والنساء والأنفال والتوبة، وخصص لهم سورة كاملة في كتابه، وهي سورة المنافقون. وفي الصحيحين عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من أحد يشهد أن لا إله إلا وأن محمداً عبده ورسوله صدقاً من قلبه). فلابد من موافقة ومواطأة ما يخرج من اللسان مع ما هو مستقر في القلب، فلا بد أن يكون صادقاً من قلبه من يقول: لا إله إلا الله، فإن قالها كذباً فإنما هو من الكافرين أو المنافقين، والحال لا يختلف كثيراً بينهما. قال: (ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله صدقاً من قلبه إلا حرمه الله تعالى على النار). فاشترط في إنجاء من قال هذه الكلمة من النار أن يقولها صدقاً من قلبه، فلا ينفعه مجرد التلفظ بها بدون مواطأة القلب لذلك. وفيهما -أي: البخاري ومسلم - من حديث أنس بن مالك وطلحة بن عبيد الله الأنصاري رضي الله عنهما: (في قصة الأعرابي -وهو ضمام بن ثعلبة وافد بني سعد- لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن شرائع الإسلام، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، قال: هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع، قال: والله لا أزيد عليها ولا أنقص منها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلح إن صدق)، وفي رواية: (أفلح وأبيه إن صدق)، وفي بعض الروايات: (إن صدق ليدخلن الجنة)، أي: إن صدق في هذه الكلمة وطابق لسانه قلبه فالله عز وجل يدخله الجنة، والنبي عليه الصلاة والسلام أكد ذلك بمؤكدين هنا: بلام التوكيد ونون التوكيد، فقال: (إن صدق ليدخلن الجنة)، ولم يقل: إن صدق دخل الجنة، ولكنه قال: ليدخلن، فاللام والنون المشددة لبيان التأكيد والوعد الحتمي، فاشترط في فلاحه ودخوله الجنة أن يكون صادقاً.

الإخلاص

الإخلاص الشرط السادس من شروط قول لا إله إلا الله محمد رسول الله: الإخلاص، وهو تصفية العمل بصالح النية، فلابد أن تكون نيتك خالصة لله عز وجل، والله تعالى لا يقبل العمل إلا إذا توفر فيه شرطان: الشرط الأول: أن يكون خالصاً لله عز وجل، بحيث لا يبتغي بالعمل إلا وجه الله عز وجل. الشرط الثاني: متابعة النبي عليه الصلاة والسلام في هذا العمل، ولذلك قلنا في تعريف قول لا إله إلا الله: هو توحيد المعبود، وفي قول: وأن محمداً رسول الله: هو توحيد المتبوع صلى الله عليه وسلم، وتوحيد الطريق الموصلة إلى الله عز وجل، ولابد أن يكون ذلك من خلال متابعة النبي صلى الله عليه وسلم، فمن تعدى حد العبودية لله عز وجل وقع في الكفر، ومن تعدى حد اتباع النبي صلى الله عليه وسلم واجتهد في العبادة من عند نفسه أو بوصية شيخ أو طريقة أو غير ذلك، كان عمله غير مقبول ومردود على صاحبه؛ لأنه وقع في الابتداع، وقد جاء في الصحيح من حديث عائشة مرفوعاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، وفي اللفظ الآخر قال: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد)، أي: مردود عليه، ولا يؤجر عليه، وإنما هو مأزور. قال: الإخلاص هو تصفية العمل بصالح النية عن جميع شوائب الشرك، قال الله تعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3]. والدين هنا بمعنى العبادة، وقد عرف شيخ الإسلام ابن تيمية العبادة بقوله: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله تعالى ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة. فالخوف والرجاء والتوكل والرهبة والرغبة، والخشوع والخشية والإنابة والخضوع، والاستعانة والاستغاثة والنذر عبادة، لابد أن تؤدى لله عز وجل، فلا تشرك في هذه العبادة مع الله عز وجل أحداً غيره. وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة:5]. وقال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر:2]. وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر:11]. وقال تعالى: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} [الزمر:14]. وقال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:145 - 146]. وغير ذلك من الآيات. وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أسعد الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه، أو قال: خالصاً من نفسه). فليس هناك شريك لله ولا ند ولا مثيل. وفي الصحيح عن عتبان بن مالك أيضاً أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله عز وجل)، أي: لا يبتغي بذلك جاهاً ولا عرضاً. ولا غير ذلك مما يمكن أن يعترضه في حياته الدنيا.

المحبة

المحبة والشرط السابع والأخير من شروط لا إله إلا الله: المحبة، أي: المحبة لهذه الكلمة ولما اقتضته ودلت عليه، ولأهلها والعاملين بها من الملتزمين لشروطها، وبغض ما ناقض ذلك، أي: حب الله عز وجل وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، وعقد الولاء على الحب والبغض في الله عز وجل. قال الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54]. فأخبرنا الله عز وجل أن عباده المؤمنين أشد حباً له؛ وذلك لأنهم لم يشركوا معه في محبته أحداً، كما فعل مدعو محبته من المشركين الذين اتخذوا من دونه أنداداً يحبونهم كحبه، وعلامة حب العبد ربه: تقديم محابه وإن خالفت هواه وشهوته، وبغض ما يبغضه الله عز وجل وإن مال إليه هواه، وموالاة من والى الله تعالى ورسوله، ومعاداة من عاداه، واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، واقتفاء أثره، واتباع هديه، وكل هذه علامات وشروط في المحبة لا يتصور وجود المحبة بدونها. قال الله تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان:43]. وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية:23]؟ فكل من عبد مع الله غيره، فهو في الحقيقة عبد لهواه، بل كل ما عصي الله عز وجل به من الذنوب سببه تقديم العبد هواه على أوامر الله ونواهيه. وقال الله تعالى في شأن الموالاة والمعادة: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4]. وقال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22]. فلا يمكن أن يجتمع أبداً محبتك لمن حاد الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم ومحبة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ} [المجادلة:22]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [التوبة:23]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1]. إلى آخر السورة، وهي سورة الممتحنة. وقال الله تعالى في اشتراط اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران:31]. قال الحسن البصري: ما ابتلي المحبون بمثل هذه الآية، فكل من ادعى محبة الله عز وجل ابتلي بمتابعة النبي عليه الصلاة والسلام واتباعه عليه الصلاة والسلام، فمن كان مدعياً محبة الله عز وجل فليكن متبعاً لنبيه صلى الله عليه وسلم. وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:31 - 32]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله تعالى منه كما يكره أن ي

أهمية الإخلاص والمتابعة في قبول الأعمال

أهمية الإخلاص والمتابعة في قبول الأعمال واستكمالاً لشروط لا إله إلا الله نقول: اعقل وتوكل وبادر وانهض إلى المعالي، واطلب ولا تبالي، واحذر من التواني، والعيش في الأماني، وإن كنت تطلب الوصول إلى الغايات فأخلص واعمل بغير تواني. وجناحان لا ينفكان: إخلاص لله ومتابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تحليق بواحد منهما، قال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود:7]، ولما سئل الفضيل بن عياض عليه رحمة الله عن هذه الآية قال: لا يكون العمل مقبولاً إلا إذا جمع العبد بين الإخلاص وبين المتابعة، هذا إحسان العمل، فمن عمل بدونهما فهو من المنقطعين الهالكين، ومن عمل بهما وقال لم ترد قولته، ومن تكلم بهما علت على الخصوم كلمته، فهما روح الأعمال ومحك الأحوال، وفي أيام الفتن لا يثبت إلا أصحابهما المخلصون العاملون المتبعون، ويشرفون بنصر الله وتمكينه لهم في الأرض؛ ليجعلهم أئمة ويجعلهم الوارثين، ووالله ما منح العبد منحة أفضل من منحة القول الصادق الصالح الثابت.

الهمة العالية في اتباع الدين

الهمة العالية في اتباع الدين ويروى أن أحد الجواسيس الفرنجة توغل داخل بلاد المسلمين في الأندلس، فرأى طفلاً من أطفال المسلمين يبكي تحت شجرة، فسأله: ما يبكيك يا بني! قال: لأنني لم أستطع إصابة الهدف الذي حدد لي، وهو صيد العصفور فوق الشجرة، فقال الجاسوس: هون عليك أيها الطفل وعاود الكرة مرة أخرى، فقال الطفل المسلم: إن الذي يبكيني أعمق من صيد العصفور فوق الشجرة؛ يبكيني أنني قلت في نفسي: إن لم أستطع صيد العصفور بسهم واحد فكيف أستطيع أن أقتل عدوي وعدو الله غداً؟ فهذا إخلاص وصدق عند هذا الطفل؛ فدهش الجاسوس وبلغ الخبر إلى ملك الفرنجة، فقال ملكهم: الرأي عندي إن كنتم تأخذون برأيي ألا تعترضوهم؛ فإنهم كالسيل يحمل من يصادفه، أي: من وقف أمامه حمله، وهذا لا يتوفر ولا يتحقق إلا في أهل الإيمان المخلصين الصادقين، قال: ولهم نيات تغني عن كثرة العدد، وقلوب تغني عن حصانة الدروع، وواحد كألف، وصدق وهو كذوب. فانصب وجهك لله، واملأ قلبك بحب الله وخشيته، واجعل همك مرضاة الله تعالى لا مرضاة عباده، فإنك إن فعلت ذلك كفاك الله مئونة الخلق. لا لك الدنيا ولا أنت لها فاجعل الهمين هماً واحداً إني لأربأ بك واربأ بنفسك أيها الأخ المسلم! أن ترى في المسجد مصلياً خاشعاً ثم ترى في السوق مرابياً، أو ترى في البيت والشارع والمنتدى غير محكم لشرع الله في نفسك أو أهلك أو ولدك أو من تعول، وكيف يليق بك أن تنظم الحياة من حولك ثم تترك الفوضى في قلبك. ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس وفي الحديث: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسادكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)، وايم الله لو مرضت قلوبكم وصحت أجسامكم لكنتم أهون على الله من الجعلان والخفافيش. فكيف يصنع من أقصاه خالقه لا ليس ينفعه طب الأطباء من غص داوى بشرب الماء غصته فكيف يصنع من قد غص بالماء إن الفيصل استقامة السر، فمتى استقام باطنك - أيها الأخ! - استقامت لك الأمور، وصدق عندها الفعل والقول في العلانية والسر، والمشهد المغيب، فإذا أنت بسام بالنهار بكاء بالليل، كاللؤلؤة أينما كانت فحسنها معها، وكسبيكة الذهب إن نفخت عليها النار احمرت، وإن وزنتها لم تنقص، ولسان الحال يقول: دع الذي يفنى لما هو باقٍ. يا طالب العلم! إني أعوذك بالله أن تكون في عينيك عظيماً وعند الله وضيعاً حقيراً، وأن تتزين بما ليس فيك، ثم أعيذك أخرى أن تجمع الإخلاص مع حب المدح والثناء، فإنهما ضدان لا يجتمعان أبداً، يقول ابن القيم عليه رحمة الله: لا يجتمع الإخلاص في القلب مع حب المدح والثناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء والنار، فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص فأقبل على الطمع فاذبحه بسكين اليأس، وأقبل على المدح والثناء فازهد فيهما، فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء سهل عليك الإخلاص، فإن قلت: وما الذي يسهل علي ذبح الطمع والزهد في الثناء، قلت -والقائل هنا هو ابن القيم، وأما نحن فلا ينبغي لنا أن ننصح في هذا، ففاقد الشيء لا يعطيه، فنحن نشكو مما تشكون منه-: أما ذبح الطمع فيسهله عليك علمك اليقيني أنه ما من شيء يطمع فيه إلا وبيد الله تعالى خزائنه، فإذا كان كل شيء خزائنه بيد الله عز وجل فعلام الطمع فيما في أيدي الناس؟ وصدق ابن القيم رحمه الله، فالقناعة بما يكفي وترك التطلع إلى الفضول هو أصل الأصول، والعز ألذ من كل لذة، وهل عز أعز من القناعة؟ ولما دخل أحدهم البصرة، قال: من سيد هذه القرية؟ قالوا: الحسن البصري، قال: بم ساد على هؤلاء القوم؟ أو بم ساد أهل البصرة؟ قالوا: احتجنا إلى دينه واستغنى عن دنيانا. مر الحياة لمن يريد فلاحاً حلو ويفلح من يريد فلاحاً وأما الزهد في الثناء فيسهله عليك علمك أن أحداً لا ينفع مدحه ويزين ويضر ذمه ويشين إلا الله عز وجل، فازهد في مدح من لا يزينك مدحه وذم من لا يشينك ذمه، وارغب فيمن كل الزين في مدحه، وكل الشين في ذمه، ولن تقدر على ذلك إلا بالصبر واليقين، فإذا فقدتهما كنت كمن يريد السفر بلا دابة. يقول مالك بن دينار: إن الصدق يبدو في القلب ضعيفاً كما يبدو نبات النخلة، أي: ينبت في القلب نباتاً ضعيفاً، كما يبدو نبات النخلة، فهي تبدو غصناً واحداً؛ فيسقى فينتشر، ثم يسقى فينتشر، حتى يكون لها أصل أصيل عظيم يوطأ، وظل يستظل به، وثمرة يؤكل منها، كذلك الصدق مع الله عز وجل يَنبت في القلب ضعيفاً أولاً، ويتفقده صاحبه ويزيده الله تعالى، حتى يجعله الله تعالى بركة على نفسه، فيكون كلامه دواء للخاطئين، ويحيي الله تعالى به الفئام من الناس، وربما صاحبه لا يعلم بذلك. ويروى أن قاصاً كان بقرب محمد بن واسع عليه رحمة الله تبارك وتعالى يقول: ما لي أرى القلوب لا تخشع والعيون لا تدمع والجلود لا تقشعر؟ فقال ابن واسع: ما أرى القوم أوتوا إلا من قبلك، ما أرى القوم بمثل ما تنقصتهم به إلا من قبلك؛ إن الذكر إذا خرج من القلب وقع عل

الأسئلة

الأسئلة

حكم الوديعة إذا سرقت

حكم الوديعة إذا سرقت Q استودعت وديعة فسرقت مني، فهل علي ضمانها؟ A هذا فيه تفصيل، فإن كانت السرقة بإهمال منك وتفريط فلا شك أنك ضامن لها، وإن أحرزتها وحفظتها ثم تسللت إليها الأيدي العابثة رغماً عنك فلا ضمان عليك، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا ضمان على مؤتمن). وفي حديث: (من أودع وديعة فلا ضمان عليه). وهذا محمول على أنه حافظ عليها ولم يفرط فيها، وأما حديث أنس: أن عمر بن الخطاب استودعه وديعة فسرقت هذه الوديعة من بين مال أنس فغرمه عمر بن الخطاب ثمنها فمحمول على أن أنساً رضي الله عنه فرط في حفظها وصيانتها. والله تعالى أعلم.

حكم تكفير المجتمع

حكم تكفير المجتمع Q هناك من يقول: إن المجتمع كافر إلا من رحمه الله، فهل هذا صحيح؟ A العلماء في كل مساجد السنة يقولون: إن المجتمع ليس كافراً؛ وإن حكم بأحكام الكفر، ولا أرى إلا أن هذا بوابة إلى التكفير.

ضابط قاعدة: (من لم يكفر الكافر فهو كافر)

ضابط قاعدة: (من لم يكفر الكافر فهو كافر) Q هل علي أن أكفر المجتمع، وإن لم أفعل أكون مثلهم، لأن من لم يكفر الكافر فهو كافر؟ A هذا في الكفر الأصلي لا الكفر المختلف فيه.

الحكم على حديث (الصلاة بعمامة أفضل من خمسين صلاة بلا عمامة)

الحكم على حديث (الصلاة بعمامة أفضل من خمسين صلاة بلا عمامة) Q روى ابن عساكر عن ابن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة تطوع أو فريضة بعمامة تعدل خمسين صلاة بدون عمامة، وجمعة بعمامة تعدل سبعين بدون عمامة)، ما صحة هذا الحديث؟ A هذا حديث موضوع، لا يصح نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم ألبتة.

معنى معية الله لخلقه

معنى معية الله لخلقه Q أليس اعتقاد المصلي في الصلاة بأنه واقف بين يدي الله عز وجل، أو أن الله تعالى معه، يتعارض مع الاعتقاد بأن الله تعالى مستوٍ على العرش في السماء؟ A لا تعارض؛ لأن معية الله تعالى لخلقه إنما هي معية علم وسمع وإحاطة وبصر.

معنى إطلاق الشارع لفظ الكفر على بعض الأعمال

معنى إطلاق الشارع لفظ الكفر على بعض الأعمال Q يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: إطلاق الشارع لفظ الكفر لا يعني الخروج من الملة، واستدل لذلك بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً)، وقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، ومعاملة النبي صلى الله عليه وسلم للمنافقين على أنهم مسلمون رغم قولهم الكفر، وتكفير الله لهم في القرآن الكريم، فهل يستقيم هذا المعنى أم لا؟ A إطلاق لفظ الكفر لا يعني الخروج من الملة إلا بالنظر إلى الفعل وإلى الفاعل كذلك، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)، لا يعني أن من حلف بالنبي صلى الله عليه وسلم مثلاً أو بغير الله عز وجل أنه كافر وخارج عن ملة الإسلام، فهذا كفر دون كفر، فإطلاق الكفر من الشارع لا يعني أنه المخرج من الملة، فربما يكون كفراً دون كفر.

كيفية جهاد المنافقين

كيفية جهاد المنافقين Q ذكرت أن المنافقين لهم حكمان، حكم في الدنيا وحكم في الآخرة، وهم معصومون -أي: معصومو الدم في الدنيا - لأنهم أقروا باللسان، فهل هذا يتعارض مع قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73]؟ A لا تعارض بين ما قررناه وبين قول الله عز وجل: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ)). قال ابن مسعود: بيده، أي: واغلظ على المنافقين بيدك، فإن لم تستطع فلتكفهر في وجوه المنافقين. وقال ابن عباس: أمره الله تعالى بجهاد الكفار بالسيف، والمنافقين باللسان، وذهاب الرفق عنهم. وقال مجاهد: مجاهدة المنافقين بالكلام، وكذا قال قتادة والربيع ومقاتل، ولا منافاة بين هذه الأقوال؛ لأنه تارة يؤاخذهم بهذا وتارة بهذا حسب الأحوال. وقال ابن جرير: إذا أظهروا النفاق جاهدهم بالسيف، وهذا شرط، وأما إذا كانوا مستورين فيتعامل معهم كما تعامل معهم النبي صلى الله عليه وسلم.

تقييم كتاب الإتحافات السنية في الأحاديث القدسية، وبعض المراجع المفيدة في الأحاديث القدسية

تقييم كتاب الإتحافات السنية في الأحاديث القدسية، وبعض المراجع المفيدة في الأحاديث القدسية Q كتاب الإتحافات السنية في الأحاديث القدسية للشيخ العلامة محمد المدني صححه وعلق عليه محمود أمين، فهل هذا التخريج للكتاب موافق لتخريج أهل الحديث؟ A الشيخ محمود أمين لم يبذل جهداً في هذا الكتاب، والذي بذل جهداً فعلاً في انتقاء هذه الأحاديث القدسية أخونا عصام الصابطي صاحب كتاب مجموعة الأحاديث القدسية، وهو في ثلاثة مجلدات، طبعة مؤسسة الريان، وهناك أيضاً كتاب صحيح الأحاديث القدسية لأخينا الشيخ مصطفى العدوي، وهناك غيرهما من الكتب، فبإمكانك أن تقتني هذه الكتب وتستعين بها في طلبك للعلم.

الحكم على حديث: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من سوء القضاء)، ومعنى سوء القضاء

الحكم على حديث: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من سوء القضاء)، ومعنى سوء القضاء Q يقول: ما مدى صحة الدعاء المأثور عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من درك الشقاء وشماتة الأعداء وسوء القضاء)، وما المقصود بسوء القضاء؟ A هذا الحديث صحيح، وهو متفق عليه بين البخاري ومسلم. والمقصود بسوء القضاء سوء المقضي لا سوء القضاء نفسه؛ لأنه ما من قضاء يقضيه الله عز وجل إلا وهو حسن كله، وخيره كله.

كتاب الإيمان - بيان أركان الإسلام - ترجمة زهير بن حرب

شرح صحيح مسلم - كتاب الإيمان - بيان أركان الإسلام - ترجمة زهير بن حرب معرفة أسماء الرواة وأنسابهم وألقابهم من أهم علوم مصطلح الحديث، فبه يمكن التمييز بين الرواة وطبقاتهم، وقد تفرع عن هذا أحكام ومسائل كثيرة، مثل وصف الرواة بصفة نقص أو نسبتهم إلى أمهاتهم، وغيرها من المسائل، وقد بين العلماء أحكام هذه المسائل جميعها وأصلوا قواعد هذا العلم بما لم يدع زيادة لمستزيد.

أهمية دراسة مصطلح الحديث

أهمية دراسة مصطلح الحديث إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: دراسة الأحاديث مباشرة دون دراسة أصول علم الحديث أمر يصعب معه معرفة علم الحديث، ولذا آثرنا أن نتعرض لمسائل هذا العلم -علم المصطلح- كلما دعت الضرورة إلى ذلك، ولن نحاول أن نستقصي هذه المسائل في دروس متتالية أو متتابعة حتى لا يمل كثير من السامعين، وإنما سنعرج على ذلك في أثناء تعرضنا لشرح الأسانيد والتعليق على الرجال وكذا المتون؛ حتى لا يمل السامع؛ لأنها مسائل لابد منها، وكل علم لم تعرف أصوله لا يعرف عنه شيء، وإذا بدأنا بعلم المصطلح لطال هذا الأمر جداً، وقد شرحناه في أماكن أخرى في ثلاث سنوات أو أكثر، فمن أراد الرجوع إلى الأشرطة فليفعل، ومن لم يرد فليحرص على أن يتابع معنا الكلام على أصول وفروع هذا العلم من خلال تعرضنا للأسانيد والمتون.

متن حديث جبريل في بيان مراتب الدين

متن حديث جبريل في بيان مراتب الدين قال المصنف رحمه الله: [حدثني أبو خيثمة زهير بن حرب حدثنا وكيع عن كهمس عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر (ح)، وحدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري وهذا حديثه، حدثنا أبي -وهو معاذ العنبري - حدثنا كهمس عن ابن بريدة]. ولم يقل: عن عبد الله بن بريدة؛ لأنه قال في الإسناد السابق: عن عبد الله بن بريدة، فيستوي هنا أن يقول: عن عبد الله بن بريدة أو يقول ابن بريدة؛ لأنه قد علم من الإسناد السابق أنه عبد الله وليس سليمان؛ لأن ابن بريدة إما أن يكون هو عبد الله أو سليمان، ولما كان الراوي لهذا الحديث هو عبد الله وقد بين في موطن لم يضر إبهامه في الموطن الثاني؛ لأنه قد علم سلفاً أنه عبد الله وليس سليمان، فأمن بذلك اللبس من أن يكون هو سليمان، وسليمان أوثق من أخيه عبد الله، وكلاهما ثقة، ولكن سليمان مقدم في الرواية على عبد الله. قال: [عن يحيى بن يعمر قال: كان أول من قال في القدر بالبصرة]، أي: أول من قال: لا قدر وأن الأمر أنف، وأن الله تعالى لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها، وأما قبل وقوعها فلا. قال: [معبد الجهني -عليه من الله ما يستحق-، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري -أي: من البصرة- حاجين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر]، يعني: يا ليتنا نوفق أن نرى أحداً من علماء الصحابة فنكلمه عن هؤلاء القوم الذين ظهروا حديثاً وتكلموا بكلام لم نعهده من قبل. قال: [فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما]. وهو إمام جليل من أئمة الصحابة، ومن أكثر الصحابة التزاماً وفهماً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم. قال: [فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلاً المسجد -وهو مسجد مكة- فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي]. والظن هنا بمعنى: غلبة الظن، يعني: ترجح لدي أن صاحبي -وهو حميد بن عبد الرحمن - سيكل الكلام إلي، أي: سيوكلني في أن أتكلم وأعرض ما عندي على عبد الله بن عمر. قال: [فقلت: أبا عبد الرحمن!]. أي: يا أبا عبد الرحمن! ولكنه حذف حرف النداء (يا)، فقال: أبا عبد الرحمن! وهذا فيه تلطف عن ذكر حرف النداء، وفيه ود واسترعاء لأفهام المتكلم أو أفهام السامع. قال: [أبا عبد الرحمن! إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن ويتقفرون العلم]. فقوله: (إنه قد ظهر قبلنا) أي: ناحيتنا في جهة البصرة، وقوله: (ويتقفرون العلم) يعني: يطلبونه طلباً حثيثاً. قال: [وذكر من شأنهم -أي: وقص عليه من أخبارهم- وأنهم يزعمون أن لا قدر -يعني: يقولون: لا قدر- وأن الأمر أنف، قال: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم -والقائل هنا هو عبد الله بن عمر - أني بريء منهم -لأن هذا قول محدث في دين الله عز وجل- وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر - وعبد الله بن عمر لا يحلف إلا بالله وبأسمائه وصفاته- لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر]. لأن القدر من أعظم أركان الإيمان، وفي الحديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يؤمن بالقدر). قال رحمه الله: [ثم قال: حدثني أبي عمر بن الخطاب قال: (بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً، قال: صدقت، قال: فعجبنا له -والقائل هنا عمر - يسأله ويصدقه)]. لأن هذا على خلاف عادة السائل الجاهل، إذ إنه يسأل عما خفي عليه، فإذا علم الجواب أخذه وانصرف، وأما هذا السائل فهو يسأل السؤال ثم يقول للمجيب: أنت صادق في هذه الإجابة، أي: أنه عنده علم سابق، وسؤاله هذا ليس لغرض التعلم، وإنما له غرض آخر، وهو أن يعلم الحضور جواب هذا السؤال. قال: [(قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وم

سبب عدم إخراج البخاري لحديث جبريل

سبب عدم إخراج البخاري لحديث جبريل وهذا الحديث انفرد به مسلم دون البخاري، فلم يخرجه البخاري في صحيحه نظراً لخلاف وقع في إسناده، فآثر البخاري السلامة ولم يخرجه في صحيحه، وهو حديث صحيح ثابت بلا أدنى شك، ولكن البخاري عليه رحمة الله له شروط أشد من شروط مسلم، ولذلك لم يخرج هذا الحديث؛ لعلة لا تقدح في الإسناد ولا في صحة الرواية. وليس كل علة في الإسناد يرد بها الحديث برمته؛ لأن من العلل ما هو قادح ومنها ما ليس بقادح.

ترجمة زهير بن حرب شيخ الإمام مسلم

ترجمة زهير بن حرب شيخ الإمام مسلم والإمام مسلم بدأ هذا الحديث بذكر شيخ له أكثر عنه وهو زهير بن حرب رحمه الله تعالى، فقال: [حدثني أبو خيثمة زهير بن حرب]. وذكر أول شيخ له بكنيته واسمه سواء، فلم يقل: حدثني أبو خيثمة فقط، ولم يقل: حدثني زهير بن حرب فقط، ولكنه جمع بين الاثنين، ولو قال: حدثني أبو خيثمة لعلم أنه زهير بن حرب، ولو قال: حدثني زهير بن حرب لعلم أنه أبو خيثمة، ومع ذلك جمع بين الاثنين، بين الكنية وبين الاسم؛ لأن الرجل يعرف بأربع، إما بكنيته، وإما باسمه، وإما بلقبه، وإما بنسبه، فإذا قال الإمام مسلم: حدثني أبو خيثمة فليس في طبقة شيوخ مسلم وهم الطبقة العاشرة من يكنى بهذه الكنية إلا زهير بن حرب، وكان يكفي أن يقول: حدثني زهير بن حرب أو حدثني أبو خيثمة، ولكنه جمع بين الاسم وبين الكنية، وهذا فيه تعظيم للشيخ وإجلال له، وقد قال الخطيب البغدادي في كتاب الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع في الجزء الثاني: ويفضل أن يجمع الراوي بين كنية شيخه واسمه إجلالاً له وتعظيماً. وأبو خيثمة زهير بن حرب أصله من نسأ أو من نِسأ، فنسبته أنه نسائي أو نسوي، كالإمام النسائي، أو تقول: الإمام النسوي، والنسبة صحيحة في الحالين، وقد نزل بغداد فنسب إليها، فيقال: أبو خيثمة زهير بن حرب النسوي أو النسائي البغدادي. وهناك من يكنى بهذه الكنية أبي خيثمة، ولكنه متقدم على زهير بن حرب، وهو زهير أيضاً، ولكنه زهير بن معاوية بن حديج الكوفي، وهو من الطبقة السابعة، وليس شيخاً للإمام مسلم، وإنما هو فوق شيوخه بطبقة.

استحباب التكني للشخص ولو لم يكن له ولد

استحباب التكني للشخص ولو لم يكن له ولد وزهير بن حرب شيخ مسلم لم يكن له ولد يسمى خيثمة الذي تكنى به، وليس بلازم أن يكنى الرجل بولده، والمعلوم عند الكثير من الناس اليوم أنه لابد أن يكون للرجل ولد حتى يكنى به، ويا حبذا! لو كان ولده الأكبر، ولكن هذا ليس بلازم ولا بشرط، فالإمام زهير بن حرب لم يكن له ولد يسمى خيثمة حتى يقال: أبو خيثمة، بل للرجل والمرأة أن يكنيا أنفسهما حتى وإن لم يكن لهما ولد، وإن حرما الولد فيستحب للرجل والمرأة أن يتخذا لهما كنية، بل وأكثر من ذلك يستحب لك أن تكني أطفالك الصغار الذين لم يتزوجوا بعد، والذين لم يبلغوا أو يميزوا بعد، وقد روى النسائي من حديث أنس: أن أخاً له رضيع كان له نغير، وهو طائر صغير كالعصفور، وهو فوق العصفور ودون اليمامة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا زار أم سليم وأبا طلحة في بيتهما يداعب الأطفال ويلاعبهم. وكان من خلقه صلى الله عليه وسلم أنه يمازح الأطفال ويقضي حاجتهم، حتى كانت الجارية الصغيرة في السن تأخذ بيده وتنطلق به في سكك المدينة حتى تقضي حاجتها، ولا ينصرف عنها حتى تنصرف عنه صلى الله عليه وسلم، وليس في هذا أيضاً جواز مصافحة النساء، لأن الجارية المقصود بها هنا هي التي لم تبلغ بعد، وأما المصافحة فحرام وأدلتها كثيرة في الصحيحين وغيرهما. فالنبي صلى الله عليه وسلم عندما كان يزور أنساً أو أم سليم أو أبا طلحة في بيتهم كان يلاعب هذا الغلام أخو أنس من أمه أم سليم، وكان يقول له: (يا أبا عمير! ما فعل النغير؟) يعني: ما هي أخبارك مع العصفور، وهذا فيه مداعبة للأطفال، كما أن فيه أيضاً إثبات سنية واستحباب تكنية الأطفال؛ لأنه قال له: (يا أبا عمير!)، وهذا ليس اسم الغلام، وإنما هو كنية له كناه بها النبي صلى الله عليه وسلم، ونعم من كنى وسمى صلى الله عليه وسلم. وفي الحديث أيضاً فوائد أخرى كثيرة، وقد صنف أحد القدامى في فوائد حديث أبي عمير، وذكر فيه أكثر من ستين فائدة، وهذا الجزء مطبوع متداول. والنبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين وهي زوجه وليس لها ولد منه: (يا عائش! تكني بابن أختك عبد الله). وهو عبد الله بن الزبير ابن أسماء بنت أبي بكر الصديق، وقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عائش! تكني بـ أم عبد الله). فكانت كنية عائشة رضي الله عنها أم عبد الله.

توثيق الأئمة لزهير بن حرب

توثيق الأئمة لزهير بن حرب زهير بن حرب من الأئمة الثقات الأثبات الذين كان يضرب بهم المثل في الحفظ والإتقان، وقدمه النسائي وغيره على أبي بكر بن أبي شيبة، ولو عرفت محل أبي بكر بن أبي شيبة من العلم لعظم عندك مكانة أبي خيثمة زهير بن حرب، وأبو خيثمة صاحب مصنفات، كما أن أبا بكر بن أبي شيبة صاحب مصنفات عظيمة جداً، والتي من أعظمها مصنفه المعروف بمصنف ابن أبي شيبة. وزهير بن حرب من أكابر شيوخ الإمام مسلم، وقيل: إن مسلماً روى عنه ألف حديث، وسئل الإمام يحيى بن معين عن أبي خيثمة زهير بن حرب فقال: أبو خيثمة ثقة ثقة، يكفي قبيلة، يعني: يغني قبيلة بالتحديث والعلم والورع والزهد والإقبال على الطاعة والعبادة. وهذا القول من إمام فحل جليل كـ يحيى بن معين، كأنه انتزع من بين فكي أسد؛ لأن يحيى بن معين كان من قسم المتشددين والمتعنتين جداً في الكلام في الرجال، فما كان أحد يظفر من يحيى بن معين بثقة ولا بصدوق، حتى قيل: إن الرواة يمرحون ويلعبون ما داموا بعيدين عن يحيى، فإذا وقفوا أمامه أتى كل منهم بأحسن حديثه مخافة أن يقع لـ يحيى بن معين حديثهم الضعيف أو الواهي فيحكم عليهم بأنهم رواة الأباطيل، أو أنهم كذابون أو وضاعون أو ضعفاء، فكان الواحد منهم إذا وقف أمام يحيى بن معين كأنه في امتحان عسير صعب لا يكاد أن ينجو منه. فإذا قال هذا الإمام الذي هو بهذه المكانة من الشدة والعنت: ثقة ثقة، يكفي قبيلة، فاعلم مكانة زهير بن حرب. وكان الإمام أحمد وهو من أقرانه يجله ويعظمه ويفخم أمره ويرفعه على كثير من الناس، وكفى بـ زهير جلالة توثيق هؤلاء له. والإمام أحمد من فريق المعتدلين، وأما يحيى بن معين فمن فريق المتعنتين المتشددين في الرجال، واختلف في الإمام النسائي هل هو من المتشددين أو من المعتدلين؟ وبكل قول قال فريق من أهل العلم، والراجح على الإمام النسائي أنه من المتشددين أيضاً، ومع هذا فقد رفع شأن زهير بن حرب أبي خيثمة النسائي. ويؤخذ من هذا أيضاً أنه يستحب أن ينادى المسلم بكنيته؛ لأن الكنية فيها تعظيم وفيها إجلال وتفخيم لصاحب هذه الكنية، فيفضل أن تقول: يا أبا فلان! وإن سميته باسمه بعد ذكرك لكنيته فهو حسن، وإن كان يكره أن يذكر اسمه فينبغي عليك ألا تذكره إلا بالكنية فقط.

طرق معرفة الرجال من أسمائهم

طرق معرفة الرجال من أسمائهم الرجل يعرف بأربع: إما بكنيته، والكنية لابد وأن يسبقها حرف أبو، وإما باسمه ونسبه، فإذا قلت: سفيان فقيل: سفيان من؟ فقلت: ابن سعيد الثوري فقد عرف، وإن قلت: سفيان بن عيينة فقد عرف. فلابد في معرفة الرجل من ذكر اسمه مجرداً، وإن لم يكن علماً عليه فينبغي ذكر نسبه حتى يتميز عن غيره، خاصة وإن كان معه في الطبقة من يتسمى باسمه أيضاً؛ حتى لا يختلط بغيره. وإما بذكر لقبه أو نسبته سواء كانت نسبة بلد، فيقال: فلان المصري أو المكي أو العراقي أو الكوفي أو البصري، أو نسبته إلى حرفة كفلان الجزار أو الحداد، أو نسبته إلى صنعة، كفلان الحائك أو الصائغ، أو نسبته لمكان أو لغير ذلك. وأما الألقاب فمنها القبيح ومنها الجيد، فإذا كان اللقب جيداً فلا بأس به، ولا يحتاج هذا إلى إذن الملقب لندائه بهذا اللقب، وإذا كان قبيحاً فلا ينادى به، والأصل في ذلك قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} [الحجرات:11]. فهذا من التنابز بالألقاب، ولكنه يباح لضرورة، مثل النصيحة في الدين، أو لتمييزه إن لم يمكن تمييزه إلا بذكره بهذا اللقب، فإذا قيل مثلاً: حدثنا إسماعيل لقيل: من إسماعيل؟ فإذا قيل: هو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم وعددنا خمسة أسماء أو أكثر من ذلك لربما عسر على المستمع إدراك وتمييز من هذا الراوي، فلو قيل: حدثنا ابن علية لعرف، وعلية أمه، وهذا لقب له، فنسب إلى أمه، وكان يكره ذلك، ولكنه لا يعرف إلا بهذا، فيحرم ذكره بهذا اللقب على سبيل الذم والتنقص، ويجوز على سبيل المصلحة والتمييز والتعريف عن غيره. ويا حبذا قول الشافعي عليه رحمة الله! وهو الذي بلغ في الأدب مبلغاً عظيماً، فكان يجمع بين ذكر الراوي بلقبه والتبري من التنابز بالألقاب، فكان يقول: حدثنا إسماعيل الذي يقال له: ابن علية، يعني: لست أنا القائل، فهنا حصل التمييز وحصل التبري.

الجمع بين الكنية والاسم عند مخاطبة الشيخ

الجمع بين الكنية والاسم عند مخاطبة الشيخ يقول الإمام الخطيب البغدادي: والجمع بين اسم الشيخ وكنيته أبلغ في إعظامه وأحسن في تكرمته. وعن الحسن البصري قال: يجب للعالم ثلاث خصال: تخصه بالتحية، يعني: إذا دخلت مجلساً فيه رجل من أهل العلم فقل: السلام عليكم، ثم قل: السلام عليك أيها الشيخ! فتسلم على الناس ثم تخص الشيخ بالسلام، ولا تخصه بالسلام دون الناس، بل لابد من أن يشتمل سلامك على الناس، وإلا دخلت في شرط وعلامة من علامات الساعة، وهو التخصيص بالسلام، وفي حديث ابن مسعود: (أن رجلاً قال له وهو داخل المسجد معه أصحابه: السلام عليك يا أبا عبد الرحمن! قال: الله أكبر، سبحان الله! لقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن تسليم الخاصة من أشراط الساعة، وأنت سلمت علي وتركت أصحابي)، ولو سلم عليه وعلى أصحابه ثم خصه بالسلام لحصل المقصود بقول الحسن: ثم تخص الشيخ بالتحية. قال: وتعمه بالسلام مع الجماعة، ولا تقل: أخبرنا فلان، وقل: أخبرنا أبو فلان، يعني: تذكره بكنيته ولا تذكره باسمه. وعن العباس الدوري قال: رأيت أحمد بن حنبل في مجلس روح بن عبادة سنة خمس ومائتين يسأل يحيى بن معين عن أشياء يقول له: يا أبا زكريا! كيف حدثت كذا، وكيف حدثت كذا؟ يريد أحمد أن يتثبت منه في الحديث، ويتأكد من الحديث الذي عند يحيى بن معين، قال: وقلما سمعت أحمد بن حنبل يسمي يحيى بن معين باسمه، إنما كان يقول: قال أبو زكريا، دخل أبو زكريا، خرج أبو زكريا، فهذا أمر وسنة عظيمة قد ماتت عند الكثير، وبالذات من الشعب المصري، وإلا فهي بحمد الله موجودة في شعوب العرب، فقد كانوا يعرفون بعضهم البعض بكناهم، وربما يخفى عليهم أسماؤهم، ونحن نجد في الرواة من عرف بكنيته واختلف في اسمه على أكثر من ثلاثين قولاً كـ أبي هريرة رضي الله عنه، فقد كناه النبي عليه الصلاة والسلام بـ أبي هريرة، فاشتهرت هذه الكنية حتى طغت على اسمه، فاختلف من أتى من بعده في اسم أبي هريرة؛ لأنه عرف وعلم عند الناس بكنيته دون اسمه، وكذلك لو اقتصر على الاسم والنسب لكان هذا جائز.

ذكر الرواة بأسمائهم دون أنسابهم إن لم يشكل ذلك

ذكر الرواة بأسمائهم دون أنسابهم إن لم يشكل ذلك وهناك جماعة من المحدثين اقتصر في الرواية عنهم على ذكر أسمائهم دون أنسابهم، إذا كان ذلك لا يشكل، فلو قلت: حدثنا زهير بن حرب فلن تسأل عنه أبداً؛ لأنه واحد فقط، ولو قلت: عبد الله بن المبارك، فهو واحد فقط، ولو قلت: أحمد بن حنبل فهو واحد فقط، بل ربما لو ذكرته بكنيته لخفي أمره، فلو قلت: قال الفقيه أبو عبد الله لما عرفته؛ لأن الفقهاء كثير منهم تكنوا بهذه الكنية، ولو قلت: قال أحمد بن حنبل لعلم عند العوام قبل الخواص أنه الإمام الجليل المحدث الفقيه، فربما اقتصر على بعض ذكر أسماء المحدثين دون ألقابهم ودون كناهم؛ لتميزهم وأمن اللبس والاختلاط بغيرهم. وقد قال سلمة بن سليمان: أخبرنا عبد الله، فقال له رجل: عبد الله ابن من؟ فقال: يا سبحان الله! -فـ عبد الله الذي في طبقته هو عبد الله بن المبارك - أما ترضون في كل حديث حتى أقول: أخبرنا عبد الله بن المبارك أبو عبد الرحمن الحنظلي الذي منزله في سكة كذا؟ وهذا كالشيخ ابن عثيمين، مشهور في القصيم في عنيزة باسمه وليس بنسبته، فهو مشهور هناك بالشيخ محمد، فإذا ذكر هناك الشيخ محمد فلا يجوز لأحد أن يسأل: الشيخ محمد من؟ لأنه إذا ذكر الشيخ محمد فإنما هو علم على مسمى علم أيضاً، وهو الشيخ ابن عثيمين. فقال سلمة: إذا قيل بمكة عبد الله فهو ابن الزبير، يعني: إذا قيل عبد الله المكي فهو ابن الزبير، وإذا قيل بالمدينة فهو عبد الله بن عمر الصحابي، وإذا قيل بالكوفة فهو عبد الله بن مسعود الصحابي رضي الله عنه، وهو إمام أهل الكوفة، وإذا قيل بالبصرة فهو عبد الله بن عباس؛ لأنه رحل إليها، وإذا قيل بخراسان عبد الله فإنما هو ابن المبارك. وربما لم ينسب المحدث إذا كان اسمه مفرداً عن أهل طبقته، كـ مسلم بن خالد المكي الملقب بـ الزنجي، فلو قيل: حدثنا الزنجي، فإنه لا يوجد أحد اسمه الزنجي غير هذا، وقد قال عنه ابن أبي حاتم: مسلم بن خالد الزنجي إمام في الفقه والعلم، وكان أبيض مشرباً بحمرة، وإنما لقلب بـ الزنجي لمحبته التمر، قالت جاريته له ذات يوم: ما أنت إلا زنجي، يعني: أنت تحب التمر فقط وليس لك في العمل، وهذه النسبة فيها نظر كبير، والعرب لا تعرف هذا الأسلوب في النسبة، والراجح ما قاله سويد بن سعيد فقد قال: سمي مسلم بن خالد الزنجي؛ لأنه كان شديد السواد، وهذا هو الراجح، وإلى الآن يقال للسود زنوج، وليس هذا من باب التنابز بالألقاب وإنما من باب التمييز، فهؤلاء السكان في هذه البقعة تغلب عليهم السمرة، وليس هذا قادحاً فيهم، بل ربما يقدح فينا؛ لأنه ليس لأبيض على أسود ولا لعجمي على عربي فضل إلا بالتقوى.

بعض من غلب لقبه على اسمه من الرواة

بعض من غلب لقبه على اسمه من الرواة وقد غلبت بعض الألقاب على جماعة من أهل العلم على أسمائهم، فاقتصر الناس على ذكر ألقابهم في الرواية عنهم، فمنهم غندر وهو محمد بن جعفر البصري، فلو قلت: حدثنا محمد بن جعفر لسئلت: من محمد بن جعفر؟ ولو ذكرت اسم جده وجد أبيه ونسبه، ولكن لو قلت: حدثنا غندر، لعرف أنه محمد بن جعفر خاصة إذا كان هذا اللقب يذكر في إسناد أهل البصرة؛ لأن الملقب بغندر كثير، ولكنه إذا جاء في إسناد أهل البصرة فإنما هو محمد بن جعفر، والذي لقبه بهذا ابن جريج المدني، وابن جريج كان مدلساً، فنزل البصرة ذات مرة، فحدث بأشياء عن الحسن البصري، ومعلوم أن غندر أعلم بحديث الحسن من ابن جريج؛ لأنه بلده، فكلاهما بصري، فلما حدث ابن جريج عن الحسن بكلام لا يعرفه غندر كان يقاطعه، ويقول: يا شيخ! من أين أتيت بهذا، خاصة وأن ابن جريج مدلس، فكان كلما تكلم بكلام لا يعرفه محمد بن جعفر شغب عليه وشوش عليه وقال: من أين أتيت بهذا؟ فقال ابن جريج: اسكت يا غندر! أي: يا مشاغب! فلقب به، وأهل المدينة يقولون للمشاغب: غندر. ومنهم لوين وهو لقب، وهو محمد بن سليمان بن حبيب المصيصي، قال ابن جرير: إنما لقب المصيصي بـ لوين لأنه كان يبيع الدواب ببغداد، ويقول: هذا الفرس له لوين، هذا الفرس له قديد، فلما كثر قوله: هذا الفرس له لوين لقب بـ لوين. ومنهم مشكدانة، ومنهم عارم، وعارم هو شديد البأس والطيش، ومنهم سعدويه، وهو سعيد بن سليمان الواسطي، قال أحمد بن يونس بن سنان الرقي: قدمت العراق في طلب العلم فصرت إلى البصرة، ثم صرت إلى بغداد، ثم صرت إلى أبي نعيم -وهو الفضل بن دكين شيخ البخاري - في الكوفة، فقال لي أبو نعيم: ممن أنت؟ قال: قلت: من أهل الرقة، قال: فقال لي: وفيم قدمت؟ قال: قدمت إلى العراق في طلب العلم، قال: فقال لي: وإلى أين صرت؟ قال: قلت له: إلى البصرة، قال: فمن محدث البصرة؟ قال: قلت له: مسدد بن مسرهد بن مسربل بن مغربل بن مرعبل بن أرندل بن فرندل بن عرندل الأسدي البصري، أبو الحسن الحافظ، وقد قال الحافظ ابن حجر: ليس هذا اسمه ألبتة، ولكنه من صنع الذين يتفكهون، وإنما هو معلوم بأنه: مسدد بن مسرهد الأسدي البصري أبو الحسن، وبقية الأسماء غريبة جداً قال أبو نعيم: لو كان في هذه النسبة بسم الله الرحمن الرحيم لكانت رقية العقرب! يعني: لو أضفت إلى هذا بسم الله الرحمن الرحيم، لظن القارئ لها أنها تنفع من لدغة العقرب، وهذا استبعاد لأن يكون مسدد هذا اسمه. ثم قال لي: وإلى أين صرت؟ قال: إلى بغداد، قال: فمن محدث بغداد؟ قلت: سعدويه، قال: فمن قاضيهم؟ قلت: شعبويه -أي: الشعبي - قال: فمن قاصهم -أي: واعظهم-؟ قال: سيفويه. قال: سبحان الله! ويحك وتمطرون مع هذا؟! أي: وينزل عليكم المطر من السماء مع هذا كله؟ وهذا فيه جواز ذكر الرجل بلقبه إن لم يعرف إلا به. ومنهم صاعقة، وهو محدث كبير، واسمه محمد بن عبد الرحيم البغدادي أبو يحيى، قال الكرجي: سمي صاعقة؛ لأنه كان جيد الحفظ، وكان أستاذ ابن خراش، وابن خراش له مكان في العلم عظيم، وهذا كان أستاذه، ولقب بـ الصاعقة لأنه ما ناظر أحداً إلا وغلبه، كالإمام الشافعي قال عنه تلميذه الربيع: ما ناظر الشافعي أحداً إلا ورأيت أنه كالسبع يلتهمه. ومنهم مطين وهو لقب، فإذا ذكر فقد علم أنه محمد بن عبد الله الحضرمي قال أبو نعيم الحافظ: بلغني عن أبي جعفر الحضرمي قال: كنت ألعب مع الصبيان في الطين، وقد تطينت -أي: أصابني الطين والوسخ- وأنا صبي لم أسمع الحديث -أي: ما زلت صغير- إذ مر بنا أبو نعيم الفضل بن دكين وكان بينه وبين أبي مودة وصحبة، فنظر إلي فقال: يا مطين! قد آن لك أن تحضر المجلس لسماع الحديث، ثم حملت إليه بعد ذلك بأيام، فإذا هو قد مات. ومنهم نفطويه وهو أبو عبد الله إبراهيم بن محمد بن عرعرة النحوي إمام النحو، قال عنه الذهبي عليه رحمة الله في السير: العالم ال

بعض من غلبت عليه كنيته من الرواة

بعض من غلبت عليه كنيته من الرواة وأما أصحاب الكنى من المحدثين فهم جماعة اكتفى الرواة عنهم بذكر كناهم، أو ألقابهم إذا كانوا معلومين بذلك، كـ أبي الزناد، وأبي مسهر، وأبي معاوية الضرير، وأبي النضر، وأبي الوليد، وأبي خيثمة، وهو زهير بن حرب، وغيرهم من الرواة. فإذا ذكر أبو نعيم فإنما هو الفضل بن دكين في ذلك الزمان وفي ذلك العصر.

مواقف تظهر فكاهة الفضل بن دكين

مواقف تظهر فكاهة الفضل بن دكين فقال الباغندي: سمعت أبا نعيم، وقال له رجل من الواسطيين: يا أبا نعيم! ما الاسم؟ فتهكم عليه أبو نعيم وقال له: إذا أتيت أمك فأقرئها مني السلام كثيراً، وأنا يا بني! واثلة بن الأسقع. وواثلة بن الأسقع صحابي، فهو يتهكم عليه من وجهين، وقد كان أبو نعيم مشهوراً بالفكاهة والطرفة. وكانت له حوادث مع المحدثين يطول ذكرها يثبت فيها أنه كان صاحب فكاهة، ومنها أنه كان يحب أن يجلس في مكان مرتفع، ولما قفل أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأحمد بن منصور الرمادي من صنعاء من عند عبد الرزاق الصنعاني مروا على الفضل بن دكين، وكان يحيى بن معين فيه اختبار وامتحان للرواة؛ خشية أن يكونوا قد اختلطوا وتأثروا بعوارض الزمان، فقال يحيى بن معين لـ أحمد: تعال نختبر الفضل بن دكين أبو نعيم، قال له: هو ثبت ثقة، قال: لابد لي من ذلك، فلما لم يجد أحمد بد مشى معه، وكان الإمام أحمد مؤدباً بشدة عليه رحمة الله، وقد ترجم له ابن الجوزي في مجلد كبير جداً، وله ترجمة عظيمة جداً في سير أعلام النبلاء والتاريخ الكبير. فعمد يحيى بن معين إلى ثلاثين حديثاً من أحاديث أبي نعيم الفضل بن دكين وخالف في أسانيدهم من الأول إلى التاسع وأقام العاشر صحيحاً، ثم من الحادي عشر إلى التاسع عشر وأقام العشرين، وكذا فعل في رقم ثلاثين، وأعطى الورقة لـ أحمد بن منصور الرمادي، من أجل أن يكون بعيداً عن التهمة، ولكن هذا لم يخف على أبي نعيم، فلما جلس الثلاثة أمامه قرأ عليه الورقة، فقرأ الأول والثاني وعينا الفضل بن دكين شاخصة بشدة وقال: ليس هذا من حديثي فلما قرأ العاشر قال: أثبت هذا فإنه من حديثي، وكذا فعل في العشرين والثلاثين، ثم نظر إلى أحمد! وقال: أما أنت يا أحمد! فآدب من أن تفعل ذلك، أي: أدبك يمنعك، وأما أنت يا أحمد بن منصور! فأقل من ذلك -أي: لا تستطيع أن تعمل هذا- وأما أنت فأنت هو يا يحيى بن معين! ورفسه رفسة انقلب منها ثلاث مرات ولو أن شيخاً رفس أحدنا الآن وقال له: لماذا لم تحضر الدرس لقال: إن جئت فلنفسي وإن لم آت فلنفسي أيضاً. فقام يحيى بن معين وقبله بين عينيه، وقال: والله لهذه الرفسة أحب إلي من سفرتي. يقول زكريا بن يحيى المدائني: قال رجل لـ أبي نعيم الفضل بن دكين: يا أبا نعيم! أشتهي أن أكتب اسمك من فيك، فقال: واثلة بن الأسقع، قال علي بن القاسم: فحدثني شيخ من أصحابنا قال: رأيت شيخاً خراسانياً بمكة يحدث يقول: أخبرنا واثلة بن الأسقع، وبينه وبين واثلة بن الأسقع أربع طبقات، يقول الراوي لما سمع هذا: فعلمت أن مزاح الفضل بن دكين دخل على هذا الرجل ولم ينتبه له.

أدب طالب العلم في سؤاله شيخه عن اسمه

أدب طالب العلم في سؤاله شيخه عن اسمه وهناك أدب ينبغي أن يسلكه الطالب إذا أراد أن يعرف اسم شيخه، وهو ما حدث مع إسحاق بن إبراهيم الموصلي، قال: جلس إلي مدني ذات مرة فحدثته، فلما أراد الانصراف قال لي: أحب المعرفة، وأجلك عن المسألة عن اسمك، قال: أنا إسحاق بن إبراهيم الموصلي، فانظر إلى الأدب والتلطف، وقد قال إبراهيم عليه السلام عندما أتته الملائكة: {قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} [الذاريات:27]، وهذا فيه أدب وتلطف وليس مثل قوله: (كل)، وإن كانت (كل) أيضاً ثابتة في حديث أبي بكر الصديق، ولكن أفضل منها كلام إبراهيم الخليل، {فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} [الذاريات:27]. ففيها مودة وتلطف ورفع لشأن الضيف وإكرام، فلو أنكم أكلتم عندي فستكرموني بذلك. وقال أبو العيناء محمد بن القاسم: أتيت أبا الهذيل في أول يوم لقيته فتكلمت، فقال: أبو من لا عدمت كانياً، أي: لا عدمت مكنى، فخبرته، فقال لي: في المسألة عن الاسم بشاعة، يعني: لا أحب أن أقول: ما اسمك؟ ولكني إذا أردت أن أتعرف عليك أقول: أبو من أنت؟

بعض من نسب من الرواة إلى أمهاتهم وحكم ذلك

بعض من نسب من الرواة إلى أمهاتهم وحكم ذلك وإذا كان الراوي معروفاً باسم أمه وهو الغالب عليه جاز نسبته إلى أمه، مثل ابن بحينة، وهو عبد الله بن مالك وبحينة أمه، ولكنه مشهور ومعروف بنسبته لأمه، وكذلك عبد الله بن أم مكتوم، وقيل: هو عمرو بن أم مكتوم، وأم مكتوم أمه، فهو معروف بنسبته إليها، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يناديه بذلك، فدل ذلك على جواز أن يلقب الرجل بلقب وأن ينسب بنسبة لتمييزه، وهي وإن كانت في أصلها منقصة إلا أنه إذا كان الحامل عليها التمييز وبيان المصلحة فهذا أمر جائز. وكذلك يعلى بن منية ومنية هي جدته أم أبيه. ومعاذ بن عفراء هو معاذ بن الحارث، وعفراء أمه. وبشير بن الخصاصية، والخصاصية أمه، وهو بشير بن معبد بن شراحيل السدوسي. وشرحبيل بن حسنة، وحسنة أمه، وهو شرحبيل بن عبيد الله بن المطاع. وهؤلاء المذكورون كلهم من الصحابة، ومن بعدهم منصور بن صفية، وهو منصور بن عبد الرحمن الحدبي، وصفية أمه، وكذلك إسماعيل بن علية، وعلية أمه، وغيرهم. وقد قال الإمام أحمد بن حنبل لـ يحيى بن معين: يا أبا زكريا! بلغني أنك تقول: أخبرنا إسماعيل بن علية؟ فقال يحيى: نعم هكذا أقول، قال أحمد: فلا تقله، وقل: إسماعيل بن إبراهيم، فإنه بلغني أنه كان يكره أن ينسب إلى أمه. فقال يحيى لـ أحمد بن حنبل: قد قبلنا منك يا معلم الخير. وقد كان الإمام يحيى بن معين أكثر تقدماً وتفنناً من أحمد في علم الرجال، وأحمد أكثر تفنناً منه في جمع الروايات، وكلاهما كان إمام زمانه، وكانوا أقراناً، وكان أحمد أكبر سناً من يحيى بن معين، حتى استنكر عبد الله ابن الإمام أحمد تبجيل أبيه لـ يحيى بن معين ذات مرة، وقد كان أحمد يقيم الليل كله، فإذا زاره يحيى بن معين ترك أحمد قيام الليل، وأقبل على يحيى وهو نائم على ظهره رافع قدميه على الحائط ويجلس عند رأسه ويقول له الإمام أحمد: ما يقول الإمام في فلان؟ ما يقول الإمام في فلان بن فلان؟ وهو أصغر منه، ولكن هذا علم، فقال له عبد الله: يا أبت! إنك تترك قيام الليل إذا زارنا هذا فلم؟ قال: يا بني! إن قيام الليل يدرك بعد، وأما فوات الفائدة من هذا فلا تدرك. وهذا هو الأدب والتواضع في طلب العلم، فقد كان يطلب العلم ممن هو أصغر منه، ولا يرى بذلك بأساً، وقد ذكر أهل الحديث وعلماء المصطلح باباً يسمى رواية الأكابر عن الأصاغر، والآباء عن الأبناء، وهذا ليس بعيب، والعلم رزق كالطعام والشراب، فقد يجده عند من هو أعلى منه أو من هو مثله أو من هو دونه.

حكم تعريف المحدث بصفة نقص

حكم تعريف المحدث بصفة نقص وأما تعريف المحدث بصفات من صفات النقص كالعمى والبرص والعور ونحوها من الآفات فهو جائز إن لم يكن منه بد، ولم يختلف العلماء أنه يجوز ذكر الشيخ وتعريفه بصفته التي ليست نقصاً في خلقته كالطول، فالطول ليس صفة نقص، بل صفة كمال، فيقال في المثل: الطول هيبة وإن كان خيبة، وكذلك الحمرة والصفرة وغيرها، فهناك من يلقب حميد الطويل وإسحاق بن يوسف الأزرق، وحسين بن الحسن الأشقر، وجعفر بن زياد الأحمر، ومروان الأصفر وغير ذلك، وكلها ألوان، ولكنها ألوان جيدة. وكذلك يجوز وصفه بالعرج والقصر والعمى والعور والعمش والحول والاقعاد والشلل. وممن ذكر بذلك في الرواية عنه: عمران القصير، وأبو معاوية الضرير، وهارون بن موسى الأعور، وسليمان الأعمش الكوفي، وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج، وعاصم الأحول، وأبو معمر المقعد، ومنصور بن عبد الرحمن الأشل. ولم يعترض أحد على مناداتهم وذكرهم بهذه الألقاب التي هي ألقاب نقص إذا كان المقصود بها التمييز. قال وكيع: سمعت الأعمش الذي هو سليمان بن مهران يقول: أنا أعمش، وإبراهيم أعور، وعلقمة أعرج، والمغيرة أعمى، ومسروق مفلوج، والقاضي شريح سنوط، وسنوط: لا لحية له. وقال إسرائيل بن زياد: كان سعيد بن أبي عروبة إذا لقيني ومعي ألواح، يقول: ما تريد؟ قلت: أكتب الحديث، قال: اكتب أخبرنا الأعرج عن الأعمى عن الأعرج عن الأعمى، أي: سعيد بن أبي عروبة الأعرج عن قتادة الأعمى عن أبي حسان الأعرج عن ابن عباس الأعمى، وابن عباس رضي الله عنهما كف بصره في آخر حياته. وعن حفص بن عبد الرحمن قال: قال سعيد بن أبي عروبة: إذا حدثت عني فقل: حدثني سعيد الأعرج، فهو هنا راض بتلقيبه بهذا اللقب، وإذا كان راضياً فلا إشكال، وإذا لم يكن راضياً فقد ذهب جماهير المحدثين إلى جواز ذكره على جهة التمييز، وأما على سبيل الذم فحرام، وهو من باب التنابز بالألقاب. قال: إذا حدثت عني فقل: حدثني سعيد الأعرج عن قتادة الأعمى عن حسن الأحدب. وقال عارم: أخبرنا ثابت بن يزيد أبو زيد الأحول أخبرنا عاصم الأحول، ثم تبسم وضحك، فقيل له: ما يضحكك، قال: أنا أحول، وثابت أحول، وعاصم أحول، فاجتمعنا الثلاثة في الحول، وهذا أيضاً فيه رضاه بإطلاق اللقب. وعن عبدة بن سليمان قال: سمعت ابن المبارك وسئل عن فلان القصير وفلان الأعرج وفلان الأصفر وحميد الطويل، قال: إذا أراد صفته ولم يرد عيبه فلا بأس، أي: إذا أراد أن يميزه ولم يرد أن يعيبه بذكر هذا الوصف فلا بأس بذلك. فباب الألقاب باب واسع ينبغي التعرض له وذكره. وقد صنف فيه كثير من أهل العلم بلغوا خمسة، وأحسن من صنف فيهم هو الحافظ ابن حجر عليه رحمة الله، فقد صنف نزهة الألباب في الألقاب، وهو مجلدان، وقد طبع الكتاب منذ أعوام قلائل.

معنى حرف (ح) في أسانيد صحيح مسلم

معنى حرف (ح) في أسانيد صحيح مسلم قال: [حدثني أبو خيثمة زهير بن حرب حدثنا وكيع -وهو ابن الجراح - عن كهمس عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر]. ثم رسم حرف الحاء. وحرف الحاء يدل على تحويل الإسناد؛ ليبدأ المصنف إسناداً جديداً، أو أن حرف الحاء يعني لفظة الحديث، كما تقول: إلخ، أو تقول: قال الله تعالى وتذكر صدر الآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3] الآية، ثم تضع نقاطاً وتقفل القوس، وتقول بعد القوس: الآية، يعني: الآية بتمامها. فالحاء إما أن تفيد تحويل الإسناد وهو الراجح، وإما أن تفيد ذكر بقية الحديث، والفائدة الثالثة لمعنى الحاء هي ما قاله بعض أهل العلم: إنما هي بالخاء المعجمة وليس بالحاء المهملة، ومعناها: آخر الحديث، فيكون لفظة حاء هنا تفيد أي: إلى آخر الحديث كأنك تقول: إلخ. هذه ثلاثة تعريفات لحرف الحاء، ليبدأ إسناد جديد للإمام مسلم. قال فيه: [وحدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري].

الفرق بين حدثني وحدثنا عند مسلم

الفرق بين حدثني وحدثنا عند مسلم لو نظرت إلى الإسناد الأول والإسناد الثاني لـ مسلم في هذا الحديث لوجدت أن شيخه الأول زهير بن حرب، وشيخه الثاني هو عبيد الله بن معاذ العنبري، ولكنه لم يرو الحديث عنهما بصيغة واحدة، وإنما رواه عن الأول بقوله: حدثني زهير، ورواه عن الثاني بقوله: حدثنا عبيد الله، والإمام مسلم عليه رحمة الله امتاز عن الإمام البخاري بالدقة والتحري في الألفاظ والأداء والرواية، كقوله حدثنا وأخبرنا وأنبأنا، والتمييز بين اختلاف الروايات بعضها عن بعض في الإسناد الواحد. فقوله: حدثني يفيد عند علماء أصول الحديث أنه سمعه من لفظ الشيخ على حدة، يعني: حدثني وحدي، وإذا كان الراوي يحدث على ملأ من الناس وملأ ومن الطلبة، وأراد الطالب الذي سمع عنه في هذا المجلس أن يحدث عنه فيقول: حدثنا، واللغة تشهد بهذا، فحدثني يعني: على انفراد، وحدثنا يعني: في جماعة. وقد اختلف العلماء أيهما أقوى: حدثني أو حدثنا؟ فبعضهم قال: حدثني أقوى، وبعضهم قال: حدثنا أقوى، والذين قالوا: حدثني أقوى. حجتهم أن حدثني كلفظ سمعت من الشيخ، أي: أن هذا سماع من لفظ الشيخ مباشرة بدون واسطة، ثم إن القائل والمتحدث هو الشيخ وليس غيره، وأما لفظ حدثنا فممكن أن يكون من غير لفظ الشيخ؛ لأنه لم يكن هناك مكبرات صوت في ذلك الزمان، وكان يحضر مجلس التحديث آلاف الطلبة، وكان هناك مبلغون، وربما بلغ عدد المبلغين في المجلس الواحد عشرين أو أكثر، فإذا قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي فقد لا يكون عبد الرحمن بن مهدي هو الذي حدثه، وإنما سمعه من لفظ المبلغ، وربما يقع التصحيف أو التحريف في لفظ المبلغ، فيكون لفظ حدثني أقوى من لفظ حدثنا. ولو قال الراوي: حدثني، فيما ينبغي أن يقول فيه: حدثنا لكان هذا قادحاً في عدالته ونقله. ولفظ حدثني لابد فيه من سماع لفظ الشيخ، وأما لفظ حدثنا فلا يشترط فيه ذلك. ولذلك استخدم بعض أهل العلم لفظة حدثنا في الإجازة، كما استخدموها في العرض على الشيخ، وهذا أيضاً أحد صور التحمل؛ فبدلاً من أن يأتي الشيخ بنسخته والطلبة يكتبون، يقرأ أحدهم على الشيخ والطلبة يسمعون، فإذا سكت الشيخ فهذا يعني أنه راض ومقر بما يقرؤه هذا الطالب، فيجوز للذي سمع أن يقول: حدثنا الشيخ، فيستخدمون لفظ حدثنا في العرض على الشيخ، وأما لفظ حدثني فلا يستخدم أبداً إلا في السماع من لفظ الشيخ. فحدثني وسمعت أقوى من حدثنا وسمعنا، هذا الرأي الراجح. ومن الأدلة على ذلك أيضاً: أنه يمكن أن ينام الشيخ أثناء العرض عليه.

كتاب الإيمان - بيان أن القدر من أركان الإيمان - ترجمة وكيع بن الجراح

شرح صحيح مسلم - كتاب الإيمان - بيان أن القدر من أركان الإيمان - ترجمة وكيع بن الجراح وكيع بن الجراح أحد العلماء الأثبات الثقات، وقد أثنى عليه العلماء وعدلوه، وقد كان من الحفاظ الكبار، جامعاً للعلم والورع والعبادة والزهد، ولم يتلطخ بوظائف السلطان وأعماله. فرحمه الله تعالى.

ترجمة وكيع بن الجراح

ترجمة وكيع بن الجراح الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. وبعد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. قال المصنف رحمه الله: [حدثني أبو خيثمة زهير بن حرب حدثنا وكيع]، وهو وكيع بن الجراح بن مليح البهرامي الرؤاسي، أبو سفيان الكوفي الحافظ، روى عن الأئمة، وروى عنه أئمة.

علم وكيع بن الجراح

علم وكيع بن الجراح قال عبد الله ابن الإمام أحمد عن أبيه: ما رأيت أوعى للعلم من وكيع بن الجراح، ولا أحفظ له منه. وهذا الكلام له قيمته ووزنه، خاصة إذا صدر من مثل أحمد بن حنبل، مع كثرة شيوخ الإمام أحمد عليه رحمة الله، فهو له من الشيوخ الأجلاء الكثير والكثير، ولكنه يقول: ما رأت عيناي مثل وكيع بن الجراح. وقال: كان مطبوعاً على الحفظ، يعني: كان مجبولاً على الحفظ، إذا سمع شيئاً ولو مرة واحدة حفظه. قال: وكان وكيع حافظاً حافظاً، وكان أحفظ من عبد الرحمن بن مهدي كثيراً كثيراً. ولو عرفنا مناقب وترجمة عبد الرحمن بن مهدي لعلمنا قدر وكيع، فإن عبد الرحمن بن مهدي كان عظيم القدر عالي الكعب في هذا العلم، وكان وكيع أعظم منه وأكثر حفظاً وضبطاً، وإن كان يقع في الخطأ أحياناً، وقد قيل له: إنك حدثت بألف وخمسمائة فأخطأت في ثلاثة أحاديث، فقال: وهل يعد هذا خطأ!

موقف وكيع من السلطان

موقف وكيع من السلطان وقال أحمد: وكيع لم يتلطخ بالسلطان، وفي الحديث الحسن: (من اقترب من السلطان افتتن). فـ وكيع عليه رحمة الله لم يتقرب ولم يتزلف إلى سلاطين زمانه ألبتة. وما رأيت أحداً أوعى للعلم منه، ولا أشبه بأهل النسك منه، يعني: كان يجمع إلى العلم الورع والعبادة والزهادة والحفظ والإتقان وغير ذلك. وكان وكيع يحفظ ألف ألف حديث، أي: مليون حديث. ويقول: قد عرض على وكيع أن يعمل قاضياً للكوفة فامتنع وفر منه. وكان كثير من علماء السلف يهربون من هذه المناصب رغم أنها مناصب شرعية، إلا أنهم كانوا يفرون منها فرارهم من الأسد، وكانوا يفرون من هذه المناصب بقدر إقبالنا عليها الآن، وحرصنا على أن نحوز منها نصيباً ولو كان تافهاً أو بسيطاً أو حقيراً. وقد روي أن الوالي أرسل إلى سفيان الثوري فأتاه، فقال: يا سفيان! تول القضاء، فجعل سفيان الثوري نفسه معتوهاً لا يعرف أي شيء، وفتح فمه، فصدق ذلك السلطان وقال: هذا لا ينفع أن يكون قاضياً وهو بهذا الشكل، فقالوا: يا سلطان! إنه يفعل هذا لأجل أن يفر منه، فعندما تنبه السلطان قال: يا سفيان! إنك لن تلعب علينا، وإنك ستتولى القضاء، فلما لم يجد سفيان بداً من الحيلة احتال مرة أخرى، فقال له: يا سفيان! عدني أنك تعود مرة أخرى، فوعده، ثم لما خرج من عنده عاد في نفس الوقت؛ لأنه ترك نعله هناك، فرجع وأخذ النعل ومشى، فبعض الحاضرين أدرك المسألة فقال: يا سلطان! هذا لن يرجع إليك، فإنه قد رجع كما وعد، فأخذ نعله وانصرف. فكان السلف يهربون من هذه المناصب، وأما نحن الضعفاء المساكين فنقبل عليها إقبال الجريء الغبي الجاهل، ووكيع عرض عليه القضاء فلم يقبله أبداً.

ثناء العلماء على وكيع وتوثيقهم له

ثناء العلماء على وكيع وتوثيقهم له قال أحمد: ما رأيت رجلاً قط مثل وكيع في العلم والحفظ والإسناد والأبواب مع خشوع وورع، وكان يذاكر في الفقه فيحسن، ولا يتكلم في أحد، يعني: إذا ذاكر في الفقه كان فقيهاً يحسن أن يتكلم في الفقه، ولكنه كان لا يتكلم في أحد. وعن أحمد قال: كان وكيع إمام المسلمين في وقته. وعنه قال: عليكم بمصنفات وكيع. وأعظم ما كتب كتاب الزهد، وهذا الكتاب يعتبر أصلاً في هذا الباب، فهو أصل لمن كتب في الزهد والورع ممن أتى بعده. وقال ابن معين: الثبت بالعراق وكيع. ويحيى بن معين من المتشددين جداً في أمر الرجال، وإذا وثق المتشدد راوياً فعض عليه بالنواجذ، وإذا جرح فانظر هل وافقه أحد أو انفرد به؛ وهل هو عنده حجة أو ليس بحجة؟ فـ يحيى بن معين على تشدده وتعنته في التوثيق يقول: الثبت بالعراق وكيع، وكأنه يقول: ليس هناك من هو أثبت ولا أوثق في العراق من وكيع. وقال ابن معين أيضاً: ما رأيت أفضل من وكيع، قيل له: فـ ابن المبارك؟ يعني: ما رأيك في ابن المبارك؟ قال: قد كان له فضل، ولكن ما رأيت أفضل من وكيع، كان يستقبل القبلة ويحفظ حديثه ويقوم الليل ويسرد الصوم سرداً ويفتي بقول أبي حنيفة، ووالله ما رأيت أحداً يحدث لله تعالى غير وكيع، يعني: ما رأيت أحداً يحدث بإخلاص لله تعالى دون أن يصبو إلى غرض من أغراض الدنيا، وما رأيت أحفظ منه، ووكيع في زمانه كـ الأوزاعي في زمانه. وعن ابن معين قال: ما رأيت رجلاً يحدث لله تعالى إلا وكيعاً والقعنبي. وعن ابن معين قال: ما رأيت أحفظ من وكيع، قيل له: ولا هشيم؟ قال: وأين يقع؟ أي: وأين يقع هشيم من وكيع، يعني: إذا قرن به فلا يساوي شيئاً. وقال أبو نعيم الفضل بن دكين -وهو إمام جليل-: مادام هذا التنين حياً فلن يفلح أحد، أي: مادام وكيع حياً يرزق ويدرس وله حلقة فلن يفلح أحد من المحدثين. ولم ينصب وكيع حلقة للعلم إلا وأثرت على باقي حلقات أهل زمانه. وقال أحمد بن سيار عن صالح بن سفيان: قدم وكيع مكة فانجفل الناس إليه، أي: أتوا أفواجاً ودفعات، وحج تلك السنة غير واحد من العلماء، وكان ممن قدم عبد الرزاق الصنعاني، فقد أتى من اليمن ليحج، فلما وصل إلى الكعبة لم يجد أحداً سأل عنه، ولم يلتف حوله أحد من طلبة العلم، فأثر ذلك في نفسه، فلما رجع إلى بيته وحدث بأن وكيعاً في الحرم قال: هذا هو، أي: هذا الذي منع عني الطلاب والتلاميذ. قال: فخرج عبد الرزاق ونظر إلى مجلسه فلم ير أحداً فاغتم، ثم خرج فلقي رجلاً فقال: ما للناس؟ قال: قدم وكيع، قال: فحمد الله تعالى، وقال: ظننت أن الناس تركوا حديثي، أي: أنه ظن أن الناس لهم موقف من حديثه، ولكنهم لما قارنوه بـ وكيع قدموا وكيعاً، فعرف عبد الرزاق بيت القصيد، وأن الذي صرف الناس عنه إنما هو مجلس وكيع. قال: وأما أبو أسامة فخرج فلم ير أحداً، فقال: أين الناس؟ فقالوا: قدم أبو سفيان، فقال: هذا التنين لا يقع في مكان إلا أحرق ما حوله، يعني: إذا نزل وكيع في مكان كان كالنار التي تحرق ما حولها. وقال أبو هشام الرفاعي: دخلت المسجد الحرام فإذا عبيد الله بن موسى يحدث والناس حوله كثير، قال: فطفت أسبوعاً، ثم جئت فإذا عبيد الله قاعد وحده، فقلت: ما هذا؟ قالوا: قدم التنين فأخذهم، أي: وكيع بن الجراح. وقال علي بن خشرم: رأيت وكيعاً وما رأيت بيده كتاباً قط، إنما هو يحفظ، فسألته عن دواء الحفظ، فقال: ترك المعاصي، ما جربت مثله للحفظ. وقال هارون الحمال: ما رأيت أخشع من وكيع. وقال سعيد بن منصور: قدم وكيع مكة فقال له فضيل: ما هذا السمن؟ -يعني: ما لك ضخم يا وكيع! - وأنت راهب العراق؟ ومعلوم أن الراهب قليل الطعام، أي: أن هذا لا يستقيم مع ضخامة حجم وكيع، فقال له وكيع: هذا من فرحي بالإسلام. فليس كل سمن دال على أن صاحبه أكول، بل منه ما هو بسبب الأكل ومنه ما هو بسبب السرور، ومنهم من إذا غضب أو مرض نقص وزنه، فليس لازماً أن كل من سمن أن ذلك مصدره كثرة الطعام. وقال

طلب وكيع للحديث عند الأعمش

طلب وكيع للحديث عند الأعمش وقال أبو داود: كان الجراح بن مليح على بيت المال، فكان إذا روى عنه قرنه بآخر، يعني: أن وكيعاً كان إذا روى عن أبيه جعل له قريناً من أجل أن يمشي حديثه؛ لأن أباه لم يكن في مرتبة الحفظ والإتقان، فلم يكن يستحل أن يروي عن أبيه وحده. كان الجراح بن مليح الرؤاسي أميراً على بيت مال المسلمين في الكوفة، وكان له مع الأعمش سليمان بن مهران الكوفي موقف في غاية الطرافة والفكاهة، فـ الأعمش كان معروفاً عنه أنه شحيح الرواية، وقد جاءه قوم وقالوا له: يا إمام! حدثنا بعشرة أحاديث، قال: ولا بخمسة، قالوا: حدثنا بخمسة، قال: ولا باثنين، قالوا: حدثنا باثنين، قال: ولا بواحد، قالوا: حدثنا بحديث واحد، قال: ولا بنصف، قالوا: حدثنا بنصف حديث، قال: اختاروا إن شئتم حدثتكم سنداً أو حدثتكم متناً، يعني: إما أن أقول لكم: حدثني فلان عن فلان عن النبي عليه الصلاة والسلام ثم أتوقف، فإن وضعتم له متناً كنتم كذابين، وإما أن أحدثكم بالمتن فقط، فإن وضعتم له إسناداً كنتم كذلك كذابين. فقد كان شحيح الرواية جداً، وكان قائماً على تربية تلاميذه وطلابه. فأرسل الجراح بن مليح ابنه وكيعاً وهو حدث صغير السن إلى الأعمش، وقال له: اذهب إلى الأعمش فقل له: إن أبي أرسلني إليك لتحدثني، فذهب وكيع وهو لا يعلم من هو الأعمش، وقد كان الأعمش يصرف له راتبه من بيت المال، وكان الذي يصرف له هذا المال أبو وكيع، فأخر الجراح راتب الأعمش حتى يحدث وكيعاً، فلما أتى وكيع إلى الأعمش قال له: ما اسمك يا غلام؟! قال: وكيع، قال: اسم نبيل ما أحسب إلا سيكون لك نبأ، أين تنزل من الكوفة؟ قلت: في بني رؤاس، قال: أين من منزل الجراح بن مليح؟ قال: قلت: ذاك أبي -وكان على بيت المال- قال: فقال لي: اذهب فجئني بعطائي وتعال حتى أحدثك بخمسة أحاديث، قال: فجئت إلى أبي فأخبرته، فقال: خذ نصف العطاء فاذهب به، فإذا حدثك بالخمسة فخذ النصف الآخر فاذهب به حتى يكون عشرة، قال: فأتيته بنصف عطائه، فأخذه فوضعه في كفه، وقال: هكذا، ثم سكت، فقلت: حدثني، قال: اكتب، فأملى علي حديثين، قال: قلت: وعدتني خمسة، قال: فأين الدراهم كلها؟ أحسب أن أباك أمرك بهذا، ولم يعلم أن الأعمش مدرب، وهو معتاد على مثل هذا.

ترجمة كهمس بن الحسن البصري

ترجمة كهمس بن الحسن البصري قال: [عن كهمس]. وكهمس هو ابن الحسن البصري. وهذا الإسناد فيه لطيفة جميلة، وهو أن سنده عراقي، يدور بين الكوفة والبصرة. وكهمس هو ابن الحسن البصري وثقه غير واحد من أهل العلم، وسئل عنه أحمد بن حنبل: أثقة هو؟ قال: نعم وزيادة، يعني: وزيادة على كونه ثقة.

ترجمة عبد الله بن بريدة

ترجمة عبد الله بن بريدة قال: [عن عبد الله بن بريدة]. وبريدة هو بريدة بن الحصيب الصحابي رضي الله تبارك وتعالى عنه، وكان له ولدان يرويان عنه، عبد الله وسليمان، وكان أحمد بن حنبل يقدم سليمان على عبد الله، وكان أحفظ وأتقن منه، وإن كان التوثيق يشمل الاثنين.

ترجمة يحيى بن يعمر البصري

ترجمة يحيى بن يعمر البصري قال: [عن يحيى بن يعمر البصري]. ويحيى بن يعمر له مزية وفضل على كل من أتى بعده؛ وذلك أنه هو الذي نقط المصحف، وقد كان لغوياً بليغاً أديباً محدثاً حافظاً ثقة، وكلام أهل العلم فيه كثير جداً. ويحيى بن يعمر أخذ النحو واللغة عن شيخ النحو واللغة أبي الأسود الدؤلي، وقيل: إن الذي نقط المصحف هو أبو الأسود نفسه، والصحيح أنه يحيى بن يعمر، ونقطه بأمر أبي الأسود الدؤلي، والعمل ينسب للفاعل والآمر، كما يقال: انتصر فلان في غزوة كذا، وربما أن فلاناً هذا لم يمارس أو يعان أي جهد في المعركة، وإنما جنوده هم الذين عانوا الحرب وانتصروا، فنسب النصر إليه؛ لأنه المسئول عن ذلك أو الآمر بذلك، فـ أبو الأسود الدؤلي هو الذي أمر يحيى بن يعمر بنقط المصحف وتشكيله، والمخطوطات القديمة إنما هي خطوط وحروف فقط، وليس فوقها ولا تحتها ولا فيها نقط ولا حركات، فالشدة والفتحة والكسرة والضمة والسكون وغير ذلك لم يكن في عهد السلف، والكلمة في المخطوطات تقرأ على عدة أوجه، وقد أوقع هذا كثيراً من الناس في التصحيف، سواء في القرآن أو في الحديث. فـ يحيى بن يعمر له الفضل والمنة بعد الله عز وجل على كل من أتى بعده؛ لأنه هو الذي أقام وصحح القراءة بنقطه وضبطه وتشكيله لكتاب الله عز وجل، وكان لغوياً بليغاً، وكان آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، وكان يعيش في زمن الحجاج بن يوسف الثقفي عليه من الله تعالى ما يستحق؛ فهو الذي آذى الصحابة وقتل التابعين، ويكفيه عاراً وشناراً أنه قتل سعيد بن جبير وآذى أنس بن مالك وابن عباس وابن عمر، رضوان الله تبارك وتعالى عليهم جميعاً.

بين الحجاج ويحيى بن يعمر

بين الحجاج ويحيى بن يعمر أقبل الحجاج بن يوسف على يحيى بن يعمر بوجهه، وقال: يا يحيى! أتراني ألحن؟ يعني: أخطئ إذا تكلمت؟ قال: الأمير أجل من ذلك، أي: الأمير أجل من أن يلحن ويخطئ، فقال: عزمت عليك إلا أخبرتني، فقال: نعم تلحن، وعزائم الملوك كانت محل احترام عند السلف، قال: في أي شيء؟ قال: في كتاب الله تلحن. والحجاج ليس له حسنة إلا أنه كان يكرم القراء ويحب القرآن، فقال: في كتاب الله؟ قال: نعم، قال: ائتني، قال: إنك تقول: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم) إلى (أحبُّ إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله)، وهي: أحبَّ، فقال: نعم، لقد أثبت لي أني ألحن، ثم قال: يا يحيى! والله لن تسمعني بعد ذلك ألحن، فاستبشر يحيى بن يعمر خيراً وقال: سيتعلم اللغة أو شيئاً من العلم من أجل ألا يلحن، فإذا به ينفيه إلى مرو، فاستقبله قتيبة بن مسلم وجعله قاضياً على مرو. ثم أرسل الحجاج يزيد بن المهلب على رأس سرية إلى نيسابور ليقاتل هناك، فلما دارت المعركة قال الحجاج لـ يزيد: وافني بأخبار المعركة أولاً بأول، وكان يزيد بن المهلب جواداً سخياً، وهذا مشهور من سيرته، حتى قيل: إنه ذهب ليحج، وفي يوم النحر أعطى الحلاق الذي حلق رأسه ألف دينار، فقال الحلاق: والله لن أحلق لأحد بعدك، فقال: أعطوه ألفاً أخرى، قال: أذهب فأبشر أمي، قال: أعطوه ألفين، فأصبحت أربعة آلاف، فقال: امرأتي طالق إن حلقت لأحد بعدك، وكانت لغته ليست فصيحة، فلما وصف المعركة للحجاج كتب له أخبار المعركة كلها، وقال: والعدو في عرعرة من الجبل ونحن في الحضيض. فلما قرأ الحجاج قوله: عرعرة تساءل من أين أتى بهذا الكلام؟ فـ يزيد معروف أنه لا يعرف شيئاً، فمن أين أتى بهذه الكلمة؟ فلما سأل، قالوا: إن يحيى بن يعمر هناك، فقال: هذا هو، يعني: أنه أتى بهذا الكلام من عند يحيى بن يعمر؛ لأنه كان بليغاً، ويحيى بن يعمر أخذ اللغة عن أستاذها وعن مصدرها أبي الأسود الدؤلي.

أمثلة من تصحيفات القراء

أمثلة من تصحيفات القراء فـ يحيى بن يعمر له الفضل علينا جميعاً، فإذا قرأنا القرآن عرفنا النون من الباء ومن التاء ومن الثاء، وعرفنا الجيم من الحاء ومن الخاء، وعرفنا ننطق حروف القرآن كلها، وهذا أمر غلط فيه كثير من الناس في الأزمنة المتقدمة، حتى قيل: إن أحد الناس قرأ أمام أبيه القرآن فقال: الم ذلك الكتاب لا زيت فيه، فقال له: يا بني! على من قرأت؟ قال: لم أقرأ عند أحد، لقد قرأت واجتهدت، فقال له: دع الكتاب واذهب إلى الكُتَّاب، فأنت ليس لك أن تقرأ، ولذلك كان العلم عند السلف يؤخذ عن طريق التلقي، ولا يقرأ الشخص وحده من الكتاب إلا إذا لم يكن له باب إلا هذا، كأن يفقد الشيخ والمعلم، وأما إذا وجد الشيخ فكان يحرص على أن يبرك عند ركبه ويتعلم منه. وقد ذكر الحافظ البغدادي طرفاً من أخبار المصحفين في كتاب الله وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: عن أبي العباس بن عمار الكاتب: انصرفت من مجلس عبد الله بن عمر بن أبان القرشي المعروف بـ مشكدانة، قال: فمررت بـ محمد بن عباد بن موسى الذي هو سندولا، فقال: من أين أقبلت؟ قلت: من عند أبي عبد الرحمن مشكدانة، فقال: ذاك الذي يصحف على جبريل عليه السلام؟ يريد قراءته: ولا يغوث ويعوق وبشراً؛ لأن نسراً وبشراً لو حذفت النقاط من فوقها وتحتها فستنطق بشراً وتنطق نسراً. وهذا هو التصحيف. فالتصحيف هو بقاء الكلمة كما هي في الحروف، ولكن النقط يختلف، بخلاف التحريف. قال الحسن بن الحباب المقرئي: إن عبد الله بن عمر بن أبان مشكدانة قرأ عليهم في التفسير: ولا يغوث ويعوق وبشراً، فقيل له: إنما هو: {وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح:23]. فقال: هي منقوطة بثلاثة من فوق، فقيل له: النقط غلط، فقال: إذاً أرجع إلى الأصل الذي معي، لأرى وأراجع نفسي مرة أخرى، وهذا لا شك أنه كلام خرج مخرج الجهل بكتاب الله. وقال محمد بن جرير الطبري: قرأ علينا محمد بن حميد الرازي وهو ضعيف جداً في الرواية فضلاً عن القرآن الكريم، فقال: وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يجرحوك، وهي في القرآن: {أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال:30]. فحذف النقطة من فوق ووضعها تحت فقال: أو يجرحوك. وقرأ الباغندي قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان:63]، قرأها: هوياً. ولم يحك عن أحد من المحدثين أنه صحف أكثر مما حكي عن عثمان بن أبي شيبة، وعثمان بن أبي شيبة هو أخو عبد الله المعروف بـ أبي بكر بن أبي شيبة صاحب المصنف. وقيل: إنه لم يكن حفظ القرآن، وكانت هذه سبة في حقه. قال السبري: سمعت عثمان بن أبي شيبة يقرأ: فإن لم يصبها وابل فظل، وقرأ مرة: الخوارج مكلبين، وهي {الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة:4]، وقرأ مرة: وإذا بطاسيم طاسيم خبازين، فقيل له: أنه: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء:130]. وقال ابن المنادي: كنا في دهليز عثمان بن أبي شيبة فخرج إلينا فقال: {ن وَالْقَلَمِ} [القلم:1] في أي سورة هي؟ قال ابن أرومة الأصبهاني: قرأ عثمان بن أبي شيبة: وجعل السقاية في رجل أخيه، فقيل له: {فِي رَحْلِ أَخِيهِ} [يوسف:70]، فقال: تحت الجيم واحدة، -يعني: نقطة- فكيف أرجع إلى قولكم وأترك النسخة التي عندي؟! وقال إبراهيم الخصاف: قرأ علينا عثمان بن أبي شيبة في التفسير: فلما جهزهم بجهازهم جعل السفينة في رجل أخيه، فقيل له: إنما هي: {جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ} [يوسف:70]، فقال: أنا وأخي أبو بكر لا نقرأ لـ عاصم! وقرأ عثمان بن أبي شيبة: فضرب بينهم بسنور له ناب، فقال له بعض أصحابه: {بِسُورٍ لَهُ بَابٌ} [الحديد:13]، فقال: أنا لا أقرأ لـ حمزة، قراءة حمزة عندنا بدعة، فلم يستح ولم يخجل، مثل الذي حدث بأحاديث مكذوبة عن يحيى بن معين وأحمد بن حنبل، وظل يقول: حدثني يحيى بن معين وأحمد بن حنبل ويأتي من عنده بأحاديث موضوعة، ويحيى بن معين وأحمد بن حنبل في المجلس يسمعان، وكل واحد منهما ينظر إلى صاحبه باستغراب، ويقول: هل حدثته بهذا؟ فيقول: لا والله ولا أعلم عن هذا شيئاً، فلما أخذ النوال ممن سمع منه نادى عليه يحيى بن معين وأحمد بن حنبل

أول من أثبت حرف (ح) عند تحويل الإسناد

أول من أثبت حرف (ح) عند تحويل الإسناد ثم إن الإمام مسلماً صنع صنيعاً تفوق به على أقرانه ومن سبقوه، بل ومن أتوا من بعده، وهو أنه حول الإسناد بحرف الحاء، فكتب حرف حاء بعد يحيى بن يعمر، وهذا يفيد تحويل الإسناد، فهو اختصار لكلمة تحويل الإسناد، أو اختصار لكلمة الحديث، ليبدأ إسناد جديد للإمام مسلم مرة أخرى لهذا الحديث.

ترجمة عبيد الله بن معاذ العنبري

ترجمة عبيد الله بن معاذ العنبري قال: [(ح) وحدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري]. وهنا قال: حدثنا، وفي شيخه الأول الذي هو زهير بن حرب أبي خيثمة قال: حدثني، والفرق بين حدثني وحدثنا أن حدثنا في جماعة، وحدثني وحدي. وعبيد الله بن معاذ العنبري وثقه كثير من أهل العلم، إلا أن يحيى بن معين تكلم فيه بكلام لا يضره، ولا يؤثر في قبول روايته. قال: [وهذا حديثه]. وهنا فائدة لطيفة من لطائف تحويل الإسناد، فقد قال هنا: وهذا حديثه، ولم يقل هذا القول بعد كلام زهير بن حرب؛ لأن الإمام مسلماً له هنا شيخان، الأول زهير بن حرب، وهذا السياق الذي يسوقه الإمام مسلم لهذا الحديث ليس هو لفظ زهير، وإنما هو من لفظ عبيد الله بن معاذ العنبري، فدل ذلك على أن لفظ زهير بن حرب لا يطابق أو يماثل لفظ عبيد الله بن معاذ العنبري، فقوله: (وهذا حديثه) أو (وهذا لفظه) يدل على أن هذا السياق سياق عبيد الله، وسياق زهير بن حرب يكون بنحوه أو شبهه، وليس مثله؛ لأن المثلية تستدعي وتستلزم المطابقة، ولو كان لفظ زهير بن حرب هو نفس لفظ عبيد الله لكان قال: حدثني زهير بن حرب، ثم قال: وعبيد الله بن معاذ العنبري، ولم يقل: وهذا حديثه؛ لأنه في هذه الحال لا فائدة من ذكر هذه اللفظة أو الكلمة. فقوله: (وهذا حديثه) يدل على فائدة زائدة، وهي: أن اللفظ المسوق هو لفظ عبيد الله بن معاذ العنبري.

ترجمة معاذ بن معاذ العنبري

ترجمة معاذ بن معاذ العنبري قال: [حدثنا أبي]. وأبوه هو معاذ بن معاذ العنبري، قال أحمد: معاذ بن معاذ ثقة في الحديث. وقال في موضع آخر: إليه المنتهى في التثبت بالبصرة، أي: في الرواية والتثبت والإتقان في البصرة. وقال: وما رأيت أحداً أعقل من معاذ بن معاذ، وكان معاذ بن معاذ يشبه أحمد بن حنبل في الحياء والأدب. وقال يحيى بن سعيد القطان وهو من شيوخ أحمد عن معاذ بن معاذ: طلبت الحديث مع رجلين خالد بن الحارث ومعاذ بن معاذ وأنا مولى، فوالله ما استبقاني إلى محدث قط فكتبا شيئاً حتى أحضر، وما أبالي إذا تابعاني من خالفني من الناس. يحيى بن سعيد القطان كان من المتشددين جداً، والمتعنتين أيضاً في توثيق الرجال، فيقول: لو وافقني معاذ بن معاذ لا أبالي بعد ذلك من خالفني، وكأن هذا اللفظ هو أعلى درجات التعديل. قال: وكان شعبة يحلف لا يحدث فيستثنيهما، يعني: يستثني خالد بن الحارث ومعاذ بن معاذ، يعني: إذا حلف شعبة ألا يحدث أحداً، يقول: إلا خالد بن الحارث ومعاذ بن معاذ، وهذا يدل على مكانة معاذ وخالد بن الحارث. وقال أيضاً: سمعت يحيى يقول: ما بالبصرة ولا بالكوفة ولا بالحجاز أثبت من معاذ بن معاذ، ولا شك أن هذه البقاع الكوفة والبصرة والمدينة كانت في ذلك الزمان من أكثر البلدان محدثين ورواة، فقدم يحيى بن معين معاذ بن معاذ العنبري على كل من عاصره. فالشاهد هو بيان وذكر مكانة معاذ بن معاذ العنبري.

سبب عدم تحويل الإمام مسلم للإسناد قبل كهمس في حديث جبريل في مراتب الإيمان

سبب عدم تحويل الإمام مسلم للإسناد قبل كهمس في حديث جبريل في مراتب الإيمان قال: [حدثنا كهمس عن ابن بريدة عن يحيى بن يعمر]. نتوقف هنا لنبين تحويل الإسناد. وكهمس هنا هو الراوي المشترك بين الإسناد الأول والإسناد الثاني، والأصل إذا أردت أن أحول هذا الإسناد أن أضع حرف الحاء قبل كهمس؛ لأن كهمس هو الراوي المشترك، وبعد ذلك أقول: كهمس عن ابن بريدة عن يحيى بن يعمر، لكن الإمام مسلماً لم يضع حرف الحاء قبل كهمس لثلاث نكت يعرف منهن لماذا لم يتم اختصار الإسناد بطريقة أكثر اختصاراً من هذه الطريقة التي اختصرها بها مسلم، فقد وضع مسلم حرف الحاء بعد يحيى بن يعمر، رغم أن يحيى بن يعمر موجود في الإسنادين، فكان من الممكن أن يضعه قبل يحيى بن يعمر، وفيه كذلك عبد الله بن بريدة مشترك كذلك بين الإسنادين، لكن في الإسناد الأول قال: عبد الله بن بريدة، وفي الإسناد الثاني قال: ابن بريدة فقط، وبريدة رضي الله عنه كان له ابنان، سليمان وعبد الله، فلو وضع حرف الحاء قبل يحيى بن يعمر للزمه أن يروي الاسم على جهة واحدة، فإما أن يقول في الإسنادين عبد الله بن بريدة، فيكون قد كذب على الراوي؛ لأن أحدهم قال: عبد الله، والثاني قال: ابن بريدة، وممكن أن الراوي الثاني يقصد سليمان بن بريدة، خاصة وأن أبا داود روى هذا الحديث عن سليمان بن بريدة. وإما أن يقول: ابن بريدة في الحالين، فيكون قد أنقص عبد الله، وللمستمع أن يحمل ذلك على أنه سليمان لا عبد الله. فلم يضع حرف الحاء قبل كهمس؛ لأن الأمر سيكون فيه كذب؛ لأن وكيعاً عندما روى عن كهمس قال: عن كهمس، ومعاذ لما رواه عن كهمس قال: حدثنا كهمس، ومعلوم أن هناك فرقاً كبيراً جداً بين عن وبين حدثنا. وأما لماذا يضع حرف الحاء قبل يحيى بن يعمر مع أنه ليس هناك إشكال لأن يحيى بن يعمر في الإسنادين واحد فقد أجاب على هذا الإمام النووي فقال: ووقفت على طريق لهذا الحديث، وفيه: حدثنا يحيى ولم يذكر ابن يعمر ولم ينسبه، فناسب هذا الأمر عند مسلم أن يضع حرف الحاء بعد يحيى بن يعمر؛ لأنه قد ورد في طرق أخرى خارج الصحيح أنه يحيى غير منسوب، وهذه كلها لطائف. ثم اللطيفة الثالثة: أنه ميز بين رواية زهير بن حرب ورواية عبيد الله بن معاذ العنبري؛ لأنه ساق الحديث من لفظ عبيد الله، فناسب أن توضع الحاء بعد يحيى بن يعمر والله تعالى أعلم.

إنكار معبد الجهني للقدر

إنكار معبد الجهني للقدر قال: [قال يحيى بن يعمر: كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني]. ومعلوم أن القدر من أركان الإيمان، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا يؤمن أحدكم حتى يؤمن بالقدر)، والله عز وجل قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف عام، وله عز وجل العلم الأزلي، والعلم صفة من صفات الله عز وجل، فهو يعلم ما كان وما يكون وما سيكون، ولا يخفى عليه شيء من أمر العباد ولا من أمر الخلائق جميعاً. ومعبد الجهني قتله الحجاج صبراً، وهو القائل: إن الله تعالى لا يعلم الأمور إلا بعد وقوعها، ولم يقدر شيئاً على العباد، وإنما كل منهم يختار لنفسه، فإذا وقع الفعل من العبد علمه الله تعالى، وأما قبل ذلك فلا، وهذا معنى قوله: إن معبداً الجهني أول من قال في القدر، أي: أول من نفى إثبات القدر الذي عليه أهل السنة والجماعة، فهو الذي نفاه، وقال: إن الأمر أنف، يعني: لا يعلمه الله عز وجل إلا بعد وقوعه، تعالى الله عز وجل عن قوله علواً كبيراً، والنبي صلى الله عليه وسلم بين في غير ما حديث أن أركان الإيمان: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره. وهذا الحديث سيق هنا لأجل إثبات القدر. فـ يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن الحميري البصري لما ذهبا إلى مكة ولقيا عبد الله بن عمر حدثاه بأمر معبد الجهني ومن كان معه على هذا الفكر الضال من أهل البصرة، وليس من ساقطة في الأرض إلا ولها لاقطة، ومهما تكلم العبد بكلام حتى وإن كان خزعبلات وخرافات فلابد أن يجد له أنصاراً وأتباعاً. فلما تكلم معبد الجهني في القدر التف حوله كثير من الناس، وكان معبد الجهني يتعلم في حلقة الحسن البصري، وكان تلميذاً للحسن البصري حتى تكلم في القدر، فتكلم فيه الحسن، ثم صار له حلقة وأتباع يحملون منهجه وفكره في العقيدة. قال يحيى بن يعمر: [فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين]. والحميري هنا نسبة إلى شخص وليس إلى حمير. وحميد هذا يقول ابن سيرين عليه رحمة الله: حميد كان أفقه أهل البصرة.

وجوب سؤال الإنسان عما يشكل عليه حتى من عالم لمن هو أعلم منه

وجوب سؤال الإنسان عما يشكل عليه حتى من عالم لمن هو أعلم منه قال: [فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر]. وهذا فيه لطيفة: وهي أنه ينبغي على من خفي عليه أمر من أمور العلم أن يبحث عمن يعلم هذه الأمور، أو يبحث على من تفقه في دين الله عز وجل؛ ليطلب على يديه العلم، أو يطلب المزيد من العلم. وكذلك فيه جواز سؤال العالم حتى وإن كنت عالماً، لبيان الفائدة لمن هو دونك في العلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يطرح المسألة على أصحابه ليختبر بذلك ذكاءهم، وكذلك كان الواحد منهم يطرح السؤال على النبي صلى الله عليه وسلم لا لأجل أن يعلم الحق من الباطل، وحتى يعلم بقية الصحابة جواب النبي صلى الله عليه وسلم، كما فعل جبريل في هذا الحديث، فإنه أتى وسأل وهو يعلم، ومما يبين ذلك أنه قال: صدقت، عندما أجابه لما سأله عن الإسلام والإيمان والإحسان، حتى قال عمر: فعجبنا له يسأله ويصدقه؛ لأن هذا ليس من عادة العرب ولا من لسانهم أن يسأل السائل ويصدقه على الجواب؛ لأن الغالب أن السائل إذا سأل إنما يسأل للاستفادة لنفسه، أي: لينفي عن نفسه الجهل. فجاء يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن إلى مكة حاجين أو معتمرين، وهما يتمنيان لو وفق الله تعالى لهما من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام من يجيبهم على سؤالهم هذا، فهم يريدون أن يسألوا عما دار في بلدهم -أي: في البصرة- من أقوال هؤلاء المبتدعة الضالين، الذين أحدثوا كلاماً لا يعرفونه، ولم يعرفه من سبقهم من أهل زمانهم.

عدالة الصحابة، وسب الرافضة لهم

عدالة الصحابة، وسب الرافضة لهم قال: [فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب]. وقد اتفق أهل السنة والجماعة على أن الصحابة كلهم عدول بتعديل الله عز وجل لهم، وبتعديل الرسول صلى الله عليه وسلم لهم. ونحن نذكر تراجم الرواة؛ لأنهم يخضعون لقواعد علم الجرح والتعديل من تعديل وجرح، وأما الصحابة رضي الله عنهم فإنهم مبرءون من هذا؛ لأنهم عدول قولاً واحداً، إلا ما يقوله الرافضة عليهم من الله ما يستحقون من تكفير جل الصحابة إلا سبعة أو تسعة أو خمسة عشر؛ فقد كفروهم وأخرجوهم عن ملة الإسلام، فعجباً كل العجب لمن سب صحابياً فضلاً عن أن يكفره أو يخرجه من الملة، والنبي عليه الصلاة والسلام أوصى خيراً بأصحابه، فقال: (لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه). وكفى بالصحابة فخراً وجلالة أنهم تحملوا الكثير من الصعاب في نقل هذا الدين إلينا، وخاضوا لأجله الحروب، وسفكت دماؤهم وانتهكت أعراضهم، وتخلفوا عن زوجاتهم وأهليهم، وقتل أبناؤهم لأجل هذا، وضحوا بكل ذلك في سبيل إعلاء هذا الدين، فكيف يأتي بعد ذلك من بعدهم من يقول فيهم قولاً سيئاً فضلاً عمن يكفرهم ويخرجهم من الملة؟! ألا لعنة الله تعالى على الكافرين. والتعرض لذكر شيء من مناقب الصحابة أمر يطول، وقد سمعت شيخاً تكلم عن مناقب عمر ستة أشهر على المنبر، فكيف نتكلم نحن عنه الآن؟ ولكن يكفينا قول واحد، وهو أنه إذا ذكر عمر بن الخطاب ذكر العدل كله، وذكر الإنصاف كله، وذكرت القوة كلها، وذكر دحر الأعداء دحراً شديداً ورفع راية الإسلام عالية خفاقة، هذا قول مجمل في عمر. وأما ولده عبد الله فإنه من أكثر الناس رواية عن النبي عليه الصلاة والسلام بعد أبي هريرة رضي الله عنه، وقيل: إنه مقدم في الرواية على عائشة، وقيل: إن عائشة مقدمة عليه من حيث الكثرة، والأمر محل خلاف بين أهل العلم. وقد كان من أشد الناس تمسكاً بسنة النبي عليه الصلاة والسلام، حتى أنه كان يحاكيه فيما هو خاص من عادته صلى الله عليه وسلم، يعني: سنن العادة التي لم يكلف بها ولم تكلف بها الأمة كان عبد الله بن عمر يأخذ نفسه بها، فإذا سار في طريق سار فيه من قبل مع النبي عليه الصلاة والسلام كان يحاكي ويصنع مثلما كان يصنع النبي صلى الله عليه وسلم، وهو غير مكلف بذلك، ولكنه كان يحب أن يحاكي النبي صلى الله عليه وسلم في كل شيء.

حكم زيارة المسجد النبوي، وقبر الرسول صلى الله عليه وسلم

حكم زيارة المسجد النبوي، وقبر الرسول صلى الله عليه وسلم قال: [فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما داخلاً المسجد]. والمسجد هنا هو مسجد مكة، والذي يدل على أنه مسجد مكة قوله: حاجين أو معتمرين، وهذه المناسك موجودة في مكة، وأما المدينة ففيها الزيارة، وتكون الزيارة للمسجد نفسه، وأما القبر فلا يقصد أصلاً؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى). فلا تشد الرحال إلا إلى هذه الثلاثة مساجد، وأما زيارة قبر النبي عليه الصلاة والسلام فإنما تأتي تبعاً لزيارة مسجده، فلا يكون هو الباعث للذهاب إلى هناك، بل يكون الباعث للذهاب نية الصلاة في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام، ثم تأتي بعد ذلك لزيارة قبر النبي عليه الصلاة والسلام وتسلم عليه، ويستحب ألا تستقبل قبر النبي عليه الصلاة والسلام؛ للذب عن حياض التوحيد، وإن كنت سليم العقيدة؛ إذ لو رآك من هو دونك في العقيدة لظن أن عملك هذا مشروع، فوقف وتوسل، فسلم على النبي عليه الصلاة والسلام، ثم سلم على أبي بكر، ثم سلم على عمر وانصرف من هذا الموقف، ولا يكن فعلك كفعل الجهال أصحاب العقائد الفاسدة.

حرص السلف على طلب العلم

حرص السلف على طلب العلم قال: [فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله]. ولو أنك نظرت إلى هذا اللفظ لعلمت مدى ما كان عليه السلف من الحرص في طلب العلم، فوقف أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله حتى يسمعانه، وقوله: (فاكتنفته) س أي: وضعت كنفي في كنفه، يعني: كتفي في كتفه وذراعي في ذراعه، حتى يكون ذلك أوثق وأضمن للسماع. قال: [فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي]، ومعنى ظننت أي: ترجح في ظني أنه سيكلني في أن أتكلم مع عبد الله بن عمر. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

الأسئلة

الأسئلة

حكم العمل بالحديث المرفوع وغيره

حكم العمل بالحديث المرفوع وغيره Q ما حكم الأخذ بالأحاديث المرفوعة وغيرها؟ A الحديث المرفوع هو: ما أسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو: ما كان من كلام النبي عليه الصلاة والسلام، بخلاف الموقوف فإنه من كلام الصحابي، وبخلاف المقطوع فإنه من كلام التابعي، والمقطوع في غالب أقوال أهل العلم غير المنقطع؛ لأن المنقطع هو: ما سقط من إسناده راو أو أكثر على مدار الإسناد. والحديث المرفوع يحتج به إن صح السند إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وليس كل حديث مرفوع يحتج به ويعمل به، فمن المرفوع ما هو ضعيف، ومنه ما هو موضوع، ومنه ما هو حسن، ومنه ما هو صحيح، ومنه ما هو متواتر، فكل بقدره، فإذا صح المرفوع عمل به، وإلا فلا. وأما باقي الأحاديث فيقبل منها الصحيح والحسن، ويرد الضعيف بجميع أنواعه، فالمقبول يحتج به، والمردود لا يحتج به ولا حتى في فضائل الأعمال.

الحكم على أثر: (لا يتعلم مستح ولا متكبر)، والمقصود بالحياء الوارد فيه

الحكم على أثر: (لا يتعلم مستح ولا متكبر)، والمقصود بالحياء الوارد فيه Q أين نجد هذا الأثر: صناع العلم بين اثنتين: الكبر والحياء أو ما شابه ذلك؟ A صح عن ابن مسعود رضوان الله تبارك وتعالى عليه أنه قال: لا يتعلم مستح ولا متكبر، وهذا موجود في صحيح البخاري في كتاب العلم، ومعلوم أن هذا هو الحياء المذموم الذي يقصر بالعبد عن طلب الخير والصلاح والطاعة والفلاح. وأما الحياء فهو شعبة من شعب الإيمان، كما صح في الأخبار الكثيرة، وأما هذا فالمقصود به الحياء الذي يمنع صاحبه من تحصيل العلم، فإنه مذموم، وأما الحياء الذي يدفع صاحبه إلى طلب العلم وتحصيله فلا شك أنه من الحياء الممدوح، كما ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: رحم الله نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين. فالحياء الممدوح هو الذي يدفعك إلى أن تدفع عنك وعن نفسك الجهل بشرع الله عز وجل، وأما الحياء المذموم فهو الذي يقصيك ويبعدك عن مجالس العلم.

حكم تدريس الرجل للنساء

حكم تدريس الرجل للنساء Q شاب مجيد للغة العربية، هل يجوز له أن يعطي دروساً للفتيات في قريته، وهذا الشاب ملتزم؟ وهل يجعل ستارة بينه وبينهن، أو يتركها؟ A إذا كان هذا الشاب لا رغبة له في النساء، أو أنه متزوج، أو غير ذلك فأصل الأمر على الجواز، وتحدث الرجل مع النساء الأصل فيه أنه على الجواز إلا أن تخشى الفتنة، وكذلك إذا دعت الضرورة والمصلحة إلى ذلك، وأما مجرد الكلام هكذا فالأصل فيه المنع، يعني: الأصل في محادثة الرجال للنساء بغير ضرورة المنع، وإذا كان لضرورة فالأصل فيه الإباحة إلا أن تكون هناك فتنة، فإن كان الأمر هكذا فافعل، ولكن بشرط أن يكون هناك من يؤمن مع وجوده وقوع الفتنة أو ميل القلوب أو غير ذلك. ولو أردت رأيي فأنا أقول لك: لا داعي لهذا؛ لأنه لا يختم إلا بما لا يحمد عقباه. والله تعالى أعلم.

فضل العمرة في رمضان

فضل العمرة في رمضان Q هل يوجد حديث: (إن من اعتمر في رمضان له أجر حجة معي)؟ A نعم، قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عمرة في رمضان كحجة معي). والمقصود بهذا الحديث: أن له ثواب حجة مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا لا يسقط عنه حج الفريضة، بل لابد من الحج إن استطاع إلى ذلك سبيلاً.

مدى صحة الأحاديث الواردة في فضائل السور

مدى صحة الأحاديث الواردة في فضائل السور Q ما صحة الأحاديث التي وردت في فضائل بعض السور في القرآن الكريم، حيث إن بعض علماء الحديث قال: إنها موضوعة؟ A معظم الأحاديث التي وردت في فضائل سور القرآن الكريم هي أحاديث موضوعة. وميسرة بن عبد ربه التراس الأكول هو الذي كان يصنع هذه الأحاديث ويضعها في فضل القرآن الكريم، وقد وضع في فضل كل سورة حديثاً، وكان تراساً أكولاً، يعني: كان يأكل أكلاً لا يأكله حمار، وقد ذهب مرة إلى قوم يزورهم ومعه حماره، فلما استضافوه ونزل عن حماره ذبحوه وشووه وقدموه له، فأكله عن آخره، فلما أراد أن ينصرف أعطوه ثمنه. وكان يزوق سقوف البيوت هو وعمال آخرون، فقال له رجل: زوق سقف المطبخ لنا، وبينما هو يزوق السقف وجد أكلاً يكفي ثلاثين نفساً، فنزل فأكله، ثم صعد يعمل كأنه لم يعمل شيئاً، فدخل الرجل يريد أن يغرف أكلاً، فلم يجد الأكل، ووجد العظم، فقال: سبحان الله! والله إنه فعل الجن، وصار اضطراب واختلاف في الأصوات، وهاجت الناس وماجت، فنظر أحد العمال إلى ميسرة وقال: أوعندكم ميسرة بن عبد ربه؟ والله إنه الذي أكل الطعام، فدافع عنه صاحب البيت، وأقسم أنه ليس هو ميسرة، فقال ميسرة: يا عبد الله! لا تقسم، أنا الذي أكلت الطعام، وإن كنت لا تصدقني فاصنع مثله وانظر، يعني: اطبخ مرة أخرى، وانظر سآكله أم لا؟ ونذرت امرأة أن تشبع ميسرة إن فعل الله بها كيت وكيت، فأتت المرأة إلى ميسرة وقالت: يا ميسرة! اتق الله واقتصد وأوجز، قالت المرأة: فكان ما كفاه يكفي سبعين نفساً. ودخل رجل على ميسرة فقال: يا ميسرة! كم يشبعك؟ قال: من بيتي أم من بيت غيري؟ قال: من بيتك، قال: رغيف أو رغيفين، قال: من بيت غيرك، قال: اخبز واطرح، وأخبار ميسرة يطول ذكرها جداً، وقد كان وضاعاً، ومن فمن أراد ترجمته فليراجعها في ميزان الاعتدال في نقد الرجال للإمام الذهبي.

كتاب الإيمان - ما روي في أن أول من قال بالقدر معبد الجهني

شرح صحيح مسلم - كتاب الإيمان - ما روي في أن أول من قال بالقدر معبد الجهني الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان، لا يتم إيمان العبد حتى يأتي به، وقد أجمع العلماء على كفر منكره؛ لأن إنكاره يستلزم رمي الله عز وجل بالجهل. والإيمان بالقدر أنواع ومراتب، وقد أنكرت بعض الفرق بعض أنواعه، فبدعها العلماء وضللوها، وللإيمان بالقضاء والقدر فوائد كثيرة، تعود على العبد المؤمن بهما بالخير في الدنيا والآخرة.

مراتب القدر وعقيدة أهل السنة فيه

مراتب القدر وعقيدة أهل السنة فيه الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. [عن يحيى بن يعمر قال: أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلاً المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي، فقلت: أبا عبد الرحمن! إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن ويتقفرون العلم، أي: يجمعون العلم ويحرصون عليه ويهتمون به- وذكر من شأنهم، وأنهم يزعمون ألا قدر وأن الأمر أنف]. أي: أنهم يزعمون أنه لا شيء اسمه قدر، وأن الأمر أنف، وأن الله تعالى لا يعلمه إلا بعد وقوعه. قال: [فإذا لقيت أولئك فأخبرهم -وهذا قول عبد الله بن عمر - أني بريء منهم، وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر]. وسنبين هنا ما هو القدر، وما هو الذي أنكره معبد الجهني حتى استلزم أن يكفره عبد الله بن عمر ويتبرأ منه. ومراتب القدر أربع مراتب، المرتبة الأولى: العلم، والمرتبة الثانية: الكتابة، والمرتبة الثالثة: المشيئة، والمرتبة الرابعة: الخلق. فأوائل القدرية نفوا المرتبتين الأوليين، العلم والكتابة. وأول من قال بنفي القدر معبد الجهني، فقد ادعى أن الله عز وجل لا يعلم الأشياء قبل وقوعها، وأنكر أن الله تعالى أمر بكتابة القدر، وهذا بدعة في الدين. ويقال: القدَر والقدْر بفتح الدال وإسكانها لغتان مشهورتان، وحكاهما ابن قتيبة عن الكسائي وقالهما غيره. قال الإمام النووي: واعلم أن مذهب أهل الحق إثبات القدر، أي: أن الله تبارك وتعالى علم الأشياء قبل وقوعها، وكذا أمر بكتابتها قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة. ومعناه: أن الله تبارك وتعالى قدر الأشياء في القدم، وعلم سبحانه أنها ستقع في أوقات معلومة عنده سبحانه وتعالى، وعلى صفات مخصوصة، وفي أمكنة معلومة، فهي تقع على حسب ما قدرها الله سبحانه وتعالى.

الإيمان بالقدر بين القدرية والجبرية

الإيمان بالقدر بين القدرية والجبرية وأنكرت القدرية هذا، وزعمت أنه سبحانه وتعالى لم يقدرها ولم يتقدم علمه سبحانه وتعالى بها، وأنها مستأنفة العلم، أي: لا يعلمها إلا بعد وقوعها، وهذا معنى مستأنفة، أي: أن الله تعالى لا يعلم ما سيقع في ملكه إلا بعد أن يقع، تعالى الله عز وجل عن قولهم علواً كبيراً، أي: إنما يعلمها سبحانه بعد وقوعها، وكذبوا على الله سبحانه، وسميت هذه الفرقة قدرية لإنكارهم القدر. قال أصحاب المقالات من المتكلمين: وقد انقرضت القدرية القائلون بهذا، يعني: لم يبق منهم اليوم أحد يدعي أن الله تعالى لا يعلم الأشياء ولم يكتبها، وإنما القدرية الموجودة الآن -وهم بعض أهل الاعتزال- إنما يتعلق إنكارهم بالقدر بالمشيئة والخلق، وخاصة الخلق، ويقولون: الخير من الله والشر من غيره، فأشبهوا المجوس الذين قالوا بوجود إلهين، إله للخير وإله للشر، وإله للنور وإله للظلمة. حكى أبو محمد بن قتيبة في كتابه غريب الحديث وأبو المعالي وإمام الحرمين الإمام الجويني في كتابه الإرشاد في أصول الدين أن بعض القدرية قالوا: لسنا بقدرية، بل أنتم القدرية؛ لأنكم تثبتون القدر، فحق لكم أن تنسبوا إلى القدرية، وأما نحن فإننا ننفي القدر، والأصل فيه النفي، وهذا الكلام مردود عليهم، ولذلك سماهم النبي صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة؛ لأنهم تشبهوا بالمجوس القائلين بوجود إلهين خالقين؛ إله للظلمة وإله للنور، وإله للخير وإله للشر، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (القدرية مجوس هذه الأمة). وهذا الحديث حسن بمجموع طرقه. والحاكم أبو عبد الله أخرج هذا الحديث وقال: صحيح على شرط الشيخين، وليس كذلك، وإنما هو حديث حسن. قال الخطابي: إنما جعلهم صلى الله عليه وسلم مجوساً لمضاهاة مذهبهم مذهب المجوس في قولهم بالأصلين النور والظلمة، وزعمهم أن الخير من فعل النور، والشر من فعل الظلمة، فصاروا ثنوية. وكذلك القدرية يضيفون الخير إلى الله تعالى والشر إلى غيره، والله سبحانه وتعالى خالق الخير والشر جميعاً، ولا يكون شيء منهما إلا بمشيئته، فهما مضافان إليه سبحانه وتعالى خلقاً وإيجاداً، وهذه المرتبة الرابعة من مراتب الإيمان بالقدر، فإن الشر منسوب إلى الله عز وجل من جهة الخلق والإيجاد، وهو منسوب إلى العبد من جهة العمل والكسب، أي: أن الله تعالى أوجد هذا الشر وخلقه بإرادته الكونية، ولكن الفاعل الحقيقي لهذا الشر إنما هو العبد، فمسألة الشر التي ضل فيها متأخرو المعتزلة متعلقة بخلق الشر، فإنهم ينفون أن الله تعالى خلق الأفعال كلها. والخلق جميعه منسوب إلى الله عز وجل، فما من شيء من خير وشر إلا والله تعالى قد خلقه، فأما خلق الخير فلا إشكال فيه، وإنما الإشكال عند المعتزلة في خلق الشر، وهو كذلك منسوب إلى الله عز وجل من جهة الخلق والإيجاد والإتمام، ولكنه ينسب إلى العبد من جهة الكسب والعمل، أي: أن العبد هو الذي اكتسب وعمل هذا الفعل. قال: فهما مضافان -الخير والشر- إلى الله سبحانه وتعالى خلقاً وإيجاداً، وإلى الفاعلين لهما من عباده فعلاً واكتساباً. والله أعلم. قال الخطابي: وقد يحسب كثير من الناس أن معنى القضاء والقدر إجبار الله سبحانه وتعالى العبد وقهره على ما قدره وقضاه، وهذا كلام الجبرية، يعني: يقولون: إن العبد إنما أجبر على فعل الخير والشر، وبناء عليه فلا يحاسب، ولا يضره ما يأتيه من خير ولا شر. وليس الأمر كما يتوهمونه، وإنما معناه الإخبار عن تقدم علم الله سبحانه وتعالى بما يكون من اكتساب العبد وصدوره عن تقدير منه. قال: والقدر اسم لما صدر مقدراً عن فعل القادر سبحانه وتعالى، يقال: قدرت الشيء وقدرته بالتخفيف والتثقيل بمعنى واحد، والقضاء في هذا معناه الخلق، كقوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت:12]، أي: خلقهن. قلت: وقد تظاهرت الأدلة القطعيات من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأهل الحل والعقد من السلف والخلف على إثبات قدر الله عز وجل، وقد أكثر العلماء من التصنيف فيه، ومن أحسن المصنفات فيه وأكثرها فوائد كتاب الحافظ الفقيه أبي بكر البيهقي رضي الله عنه، وقد قرر الأئمة من المتكلمين ذلك أحسن تقرير، بدلائلهم القطعية السمعية والعقلية. والله أعلم.

سبب تكفير العلماء للقدرية

سبب تكفير العلماء للقدرية ومعنى براءة ابن عمر من هؤلاء تكفيرهم، وحق لـ عبد الله بن عمر أن يكفر هؤلاء؛ لأنهم أنكروا معلوماً من الدين بالضرورة، وهو إثبات علم الله عز وجل، وإثبات قدرة الله عز وجل على الكتابة القديمة الأزلية، فـ عبد الله بن عمر عندما تبرأ منهم دل ذلك على أنهم نفوا أصلين عظيمين كانا معلومين عند العامة والخاصة، وهما علم الله عز وجل وكتابته الثابتين في غير ما آية وحديث من أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، فبراءة عبد الله بن عمر منهم فيه تلميح وتلويح بتكفيرهم، وعلى هذا جمهور السلف في تكفير من أنكر علم الله عز وجل من القدرية أو من قال بمقولة معبد الجهني. ومسألة القضاء والقدر وإن كانت أصلاً عظيماً من أصول الإيمان كما ورد ذلك في كتاب الله عز وجل وفي غير ما حديث من أحاديثه صلى الله عليه وسلم إلا أنها أخذت بعداً عظيماً وأخذاً ورداً بين القدامى والمُحْدَثين، وهو أكثر ركن من أركان الإيمان أحدث اضطراباً وخللاً عظيماً، وذلك لما خفي على كثير من الناس من أن الإيمان بالقدر متعلق بأمر الهداية والإضلال، أو متعلق بأمر الإرادة الكونية والإرادة الشرعية، أو متعلق بمراتب القدر نفسها.

معنى القضاء في الكتاب والسنة

معنى القضاء في الكتاب والسنة جاء القضاء في القرآن الكريم وفي السنة بعدة معان، منها: الحكم، كما قال الله عز وجل: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ} [النساء:65]، أي: مما حكمت، {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]. وجاء بمعنى الأمر التكليفي التشريعي، مثل قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23]، ومعنى: ((قَضَى رَبُّكَ)) أي: أمر ربك أمراً شرعياً تكليفياً. وجاء بمعنى الإخبار والإعلام، كما في قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ} [الإسراء:4]، ومعناه: أعلمناهم وأخبرناهم أنهم يفسدون في الأرض مرتين. وجاء بمعنى الإنجاز والإتمام والانتهاء، مثل قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} [الجمعة:10]، أي: فإذا انتهت وتمت الصلاة، ومثل: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج:29]. وجاء بمعنى قضاء الله النافذ في خلقه الذي لا مرد له، كما جاء في قول الله تعالى: {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة:117]. وقوله: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} [مريم:21].

معنى القدر في الكتاب والسنة

معنى القدر في الكتاب والسنة وأما القدر فهو تقدير الله سبحانه وتعالى للأشياء تقديراً يبين هيئاتها ويحددها كماً وكيفاً، زماناً ومكاناً على حسب ما سبق في علم الله الأول، وتقدير الله للأشياء مسبقاً قبل أن توجد يشمل تحديد الأشياء من حيث هيئاتها وزمانها ومكانها، وهذا التقدير تم قبل أن يخلق الله الأرض والسماء بخمسين ألف سنة، وهذا يدل على عظمة الله وقدرته. يقول عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة). وهذا نص في إثبات الكتابة، وهي المرتبة الثانية من مراتب القدر، (وكان عرشه على الماء). وهذا الحديث عند مسلم في صحيحه. فكل شيء قد قدر زماناً ومكاناً كما أراد الله سبحانه، وقد جاء في آيات كثيرة من القرآن الكريم بيان ذلك، والمتأمل فيها يجد أن آيات القدر تحمل في طياتها بيان وإثبات عظمة الله وجلاله وقدرته، فمثلاً في أول سورة الفرقان أخبر الله سبحانه وتعالى أن كل شيء بقدر، وأنه قدر المخلوقات تقديراً، وقبل أن يثبت ذلك قدم له بقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1]، إلى أن قال الله سبحانه: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2]. فهو سبحانه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ولذلك لما جاء مشركو قريش يخاصمون الرسول صلى الله عليه وسلم في القدر نزل قول الله تعالى يرد عليهم إفكهم وافتراءهم وزورهم ويقول: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]. ثم عقب بما يبين عظمته وشمول قدرته فقال: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر:50]. والعقول القاصرة التي عجزت عن أن تفهم أن الله سبحانه محيط بكل شيء -بما كان وما سيكون- ليس لها من نور الإيمان بالقضاء والقدر نصيب، كما قال عبادة بن الصامت لابنه عند الموت: إنك لن تجد طعم حقيقة الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من مات على غير هذا فليس مني). وفي الحديث الآخر: (لا يؤمن أحدكم حتى يؤمن بالقدر)، أي: لا يؤمن على غير هذا الاعتقاد، وهو أن الله قدر كل شيء وأحاط بكل شيء علماً.

أنواع التقدير

أنواع التقدير والتقدير أنواع، وكل أنواعه سابقة في علم الله سبحانه وتعالى، وهو يحدث من أمره ما يشاء، ويكون إحداث الله للأشياء في الوقت الذي شاء الله سبحانه أن توجد فيه، فنجد مثلاً التقدير الأول، وهو ما قدره الله على جميع العباد قبل خلقهم وخلق السماوات والأرض من سعادة وشقاوة ونعيم وجحيم، كما جاء في الحديث: (كتب الله مقادير الخلائق)، الحديث، وهو تقدير الله عز وجل التقدير العام لجميع المخلوقات قبل أن يخلق السماوات والأرض، فإن الله عز وجل قد علم كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض. وأما التقدير الثاني فهو الذي يكون لكل إنسان وهو في بطن أمه، وهو تقدير خاص لكل إنسان على حدة، وهو يحدث للجنين في بطن أمه. قال: فحينما تحمل المرأة وتمضي فترة معينة من الحمل يرسل الله سبحانه وتعالى ملكاً إلى الجنين، فينفخ فيه الروح، ويأمره أن يكتب سعادته وشقاوته ورزقه وأجله، وفي هذا جاء حديث الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم الذي رواه ابن مسعود وغيره، وفيه يقول: (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الله إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها). والعكس بالعكس. وهذا الحديث متفق عليه. وفي هذا الحديث الشريف بين النبي صلى الله عليه وسلم أن النطفة بعدما توضع في الرحم وتمر بهذه الأطوار الثلاثة -نطفة ثم علقة ثم مضغة- يرسل الله عز وجل ملكاً فيكتب رزقه وأجله وشقي أو سعيد. ثم أرشد الحديث إلى أن أقدار الله غالبة والعاقبة غائبة، فعلى الإنسان ألا يغتر بظاهر الحال، فقد يعمل الإنسان بعمل أهل السعادة وقد كتب من أهل الشقاء، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الشقاوة فيدخل النار، والعكس بالعكس كذلك، وهذا ما يعرف بسوء الخاتمة أو حسنها، نعوذ بالله من سوء الخاتمة. وقد كان السلف رضوان الله تبارك وتعالى عليهم يخافون من سوء العاقبة، وكانوا يسألون الله عز وجل أن يقيهم فتنة الممات وسكرات الموت، حتى لا يفتنون لحظة خروجهم من الحياة، وقد جاءت الأحاديث الصحيحة منبهة على أهمية كلمة التوحيد في هذا الوقت، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة). والتقدير الثالث: تقدير سنوي، وهو يحدث في كل عام في ليلة القدر، ولا يبتدئه الله ابتداء، وإنما هو تقدير تابع للعلم السابق الذي قدره الله عز وجل، وهذا التقدير يتم في ليلة القدر، قال الله تعالى: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [الدخان:1 - 5]. وأما التقدير الرابع: فهو التقدير اليومي، قال الله تعالى: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29]، يعني: يغفر ذنباً، ويفرج كرباً، ويرفع أقواماً، ويخفض ويضع آخرين، يغني فقيراً ويفقر غنياً، يذل أقواماً ويعز أقواماً، كل يوم هو في شأن سبحانه وتعالى.

وجوب الإيمان بمراتب القدر

وجوب الإيمان بمراتب القدر ومراتب الإيمان بالقضاء والقدر يجب على كل مؤمن أن يؤمن بها ويعتقدها حتى يكون مؤمناً بقضاء الله وقدره، وذكر علماء السلف أنها أربع مراتب، وأنه لابد من تحققها وتوفرها في كل عبد حتى يكون مؤمناً بقضاء الله وقدره. المرتبة الأولى: علم الله السابق وشموله لكل شيء، والمُحدَثُون يقولون: علم الله القديم، ولفظ القديم لم يكن يعرفه السلف، ومع حسن الظن بهم نقول: إن مقصود قولهم القديم أي: السابق الذي لم يسبقه شيء، وإلا ففي اللغة يدل لفظ القديم على أن هناك من هو أقدم منه، ولكنهم لما ذكروا هذا المصطلح الذي لم يعرفه السلف حملناه على حسن نيتهم من أنهم يقصدون العلم السابق الأولي لله عز وجل. والله عز وجل لا يوصف بكونه قديماً، وإنما يوصف بأنه الأول، فنقول: الأول والآخر والظاهر والباطن، ولا نقول: القديم سبحانه وتعالى. المرتبة الثانية من مراتب الإيمان بالقدر: كتابة المقادير كلها قبل خلق السماوات والأرض. المرتبة الثالثة: مشيئة الله الشاملة لكل ما يقع في الكون من خير وشر، والشر يتعلق بمشيئة الله وإرادته الكونية القدرية، والذي يقع من خير إنما هو متعلق بإرادته ومشيئته الشرعية الدينية. يقول: لا يكون في كونه من صغيرة ولا كبيرة، ولا تقع ورقة من شجرة ولا تتحرك نملة إلا بمشيئة الله تبارك وتعالى. المرتبة الرابعة: خلق الله سبحانه وتعالى لأفعال العباد، والخلق هنا بمعنى الإيجاد من العدم.

مرتبة العلم

مرتبة العلم المرتبة الأولى: علم الله السابق، وهذا أمر ينبغي أن يكون مسلماً ولا يجادَل فيه؛ لوضوحه وبيانه التام، وقد نص كثير من أهل العلم على أن منكري مرتبة العلم السابق لله عز وجل قد انقرضوا، وقد كان منهم معبد الجهني. قال: ومن أنكر علم الله السابق برئت منه ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين؛ لأنه بإنكاره يكون قد وصف الله عز وجل بالعجز؛ لأن الجهل صفة عجز، فالذي يقول: إن الله تعالى لم يكن يعلم إنما ينسب النقص والعجز لله عز وجل، تعالى عن قوله علواً كبيراً. والله سبحانه وتعالى أخبر عن علمه السابق للأشياء كلها في آيات كثيرة من القرآن الكريم، قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة:30 - 31]. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان:34]. وآيات كثيرة تثبت علم الله عز وجل السابق الأولي. فالذي ينكر العلم إنما ينكر آيات كثيرة من كتاب الله عز وجل وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، فما من صغيرة ولا كبيرة إلا والله قد أحاط بها علماً، ومن كان عنده شيء من العلم فليعلم أن الله فوقه: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76]. هذه مرتبة العلم الثابتة لله عز وجل أولاً.

مرتبة الكتابة

مرتبة الكتابة المرتبة الثانية: مرتبة الكتابة، وهي تعني: أن الله سبحانه وتعالى كتب كل ما سيكون إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105]. وقال: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:12]، أي: في كتاب مبين، والرسول صلى الله عليه وسلم أخبر: (أن الله لما قضى الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي، أو إن رحمتي سبقت غضبي). والشاهد: أن الله سبحانه كتب كل شيء كما في الحديث الصحيح: (كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء). وكتب في الذكر أي: في الكتاب كل شيء، والإمام البخاري عليه رحمة الله تبارك وتعالى كان في غاية التوفيق عندما عقد باباً في كتاب القدر بعنوان: باب: جف القلم على علم الله تعالى، ولقد أمر الله تعالى القلم بالكتابة، فكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة، كما في حديث عبادة بن الصامت، وفي حديث: (إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، قال: وماذا أكتب؟) وهذا فيه نقاش وجواب وكلام بين الله عز وجل وبين القلم، (اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة). وأكد الله ذلك في القرآن الكريم، فنص على أنه كتب كل شيء، فقال: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22]. فقوله سبحانه: ((مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ))، أي: إلا في كتاب قد سبق أولاً، وهو مكتوب، فكل مصيبة أصابتك في نفسك أو ظهرت في الأرض أو البر فإن الله عز وجل قد كتبها في كتاب، ((مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا)) أي: من قبل أن نخلقها، ((إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)). وجاء ختام الآية هكذا حتى لا تضل العقول وتظن أن هذا أمر صعب أو مستحيل. فالله سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ومن ذلك كتابة ما سيكون، وهو أمر يسير على الله تبارك وتعالى الخبير العليم، ((إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)). والكتابة كتابتان: كتابة لا تتبدل ولا تتغير، وهي المكتوبة في اللوح المحفوظ عند الله عز وجل، فلا يلحقها محو ولا إثبات، وأما الذي يحدث فيه التغيير والتبديل فهو الكتاب الذي مع الملائكة، ولذلك قال الله عز وجل: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39]. فقوله: ((يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ)) هذا في الكتب التي مع الملائكة، وأما أم الكتاب فليس فيها محو ولا إثبات، ولا يلحقها المحو والإثبات.

مرتبة المشيئة

مرتبة المشيئة والمرتبة الثالثة: مرتبة مشيئة الله سبحانه وتعالى الشاملة العامة لكل شيء، وتسمى المشيئة أو الإرادة، فالله سبحانه وتعالى شاء كل ما يقع في هذا الملكوت مشيئة مطلقة، وليست مشيئة خاصة، فلا يقع في ملكه إلا ما شاء، والمشيئة مشيئتان، والإرادة إرادتان، إرادة شرعية متعلقة بالمحبة والرضا، أي: بمحبة الله عز وجل ورضاه عن هذا الفعل، وتشريعه إياه وإلزامه العباد به، وإرادة كونية قدرية، أي: أنه لا يقع في الكون ما لا يرضاه الله عز وجل، ولا يقع في ملكه إلا ما يريد وقوعه، ولكنها إرادة ومشيئة كونية، لا إرادة ومشيئة شرعية دينية. قال: فالله سبحانه وتعالى شاء كل ما يقع في هذا الملكوت مشيئة مطلقة، حتى كفر الكافر شاءه الله عز وجل كما قال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [الأنعام:35]. وقال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} [هود:118]. وشاء ذلك لحكمة يعلمها، أي: شاء الله عز وجل مشيئة قدرية كونية أن يكفر الكافر وأن يفسق الفاسق لحكمة يعلمها هو سبحانه وتعالى، فشاء تعالى وقوع المعاصي في الأرض لحكمة علمها من علمها وجهلها من جهلها. وقد اشتبه هذا الأمر عند بعض الناس فقالوا: كيف يشاء الله الكفر ويشاء العصيان، وهو يقول: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205]، ويقول: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7]؟ و A أن المحبة في قوله: ((وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ)) محبة شرعية دينية، وأما قوله: ((وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ)) أي: أن الله تعالى كره الكفر وذمه، وكره الفساد وذمه وحذر منه، ووقوعه في ملكه يدل على أن الله تعالى إنما أذن في وقوعه إذناً كونياً قدرياً لا إذناً شرعياً دينياً. وعقيدة أهل السنة والجماعة أن الله سبحانه وتعالى له مشيئة عامة لكل ما يقع في الكون، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]. وقال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29]. وحتى أنت -أيها الإنسان! - لك مشيئة ولكنها مندرجة ومرتبطة بمشيئة الله عز وجل، ومشيئة الله فوق مشيئتك، وإذا لم يؤمن العبد بذلك لا يعد من المؤمنين بالقضاء والقدر.

مرتبة الخلق

مرتبة الخلق والمرتبة الرابعة: مرتبة الخلق، أي: مرتبة خلق أفعال العباد، وهذه المرتبة من المراتب التي اشتبهت على بعض الناس، وضلت فيها المعتزلة، الذين قالوا بعدم خلق أفعال العباد، أي: أن الله تعالى لا دخل له في خلق أفعال العبد، وأن العبد يخلق فعله. وهؤلاء أكثر من الثنوية ضلالاً، وأكثر ضلالاً من الذين قالوا بوجود إله للخير وإله للشر، لأنهم نفوا تماماً الخلق عن الله عز وجل، وقالوا: إن الله تعالى لا دخل له أبداً بخلق هذه الأفعال، وإنما الذي خلقها هو العبد. فالذي يقول بأن العبد يخلق فعله لازم كلامه أن هناك آلهة متعددة، وإذا كان العبد هو الذي يخلق فعله لكان كل مخلوق خالقاً في الوقت نفسه، وهذا يرد عليه بمعتقد أهل السنة المستند إلى أدلة كثيرة، منها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى خالق كل صانع وصنعته)، أي: وما يعمل، أي: أن الله تعالى خالق كل مخلوق وما يصدر عن هذا المخلوق من أعمال وأقوال.

اختلاف الفرق حول مسألة خلق الله لأفعال العباد

اختلاف الفرق حول مسألة خلق الله لأفعال العباد وهذه المرتبة ضلت فيها فرق كثيرة وعلى رأسها المعتزلة، وقد تحدث السلف في كتبهم عن مسألة خلق أفعال العباد، وصنف الإمام البخاري كتاباً مستقلاً سماه خلق أفعال العباد. والحق: أن الله تعالى خالق لأفعال العباد جميعها من خير وشر، فالمعصية التي يقوم بها العبد خلقها الله تعالى وكتبها وقدرها عليه؛ لأنه لا يكون في ملكه إلا ما يريد، ولا شيء إلا والله تعالى خالقه، والمسلمون تفرقوا في هذه المسألة فرقاً كثيرة، ولم يستطيعوا بعقولهم القاصرة بعد ابتعادهم عن القرآن والسنة أن يفهموا أن الله تعالى خالق لأفعال العباد. ونجى الله تعالى سلف هذه الأمة من كل شر، ووقاهم الانحراف والوقوع في البدع والضلالات، فهم أسعد الناس بالحق، وأشد الناس حرصاً عليه وتمسكاً به، وقد فهموا هذه المسألة وآمنوا بها متبعين لا مبتدعين. يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: كل شيء بقدر الله حتى العجز والكيس. ومسائل الإيمان بالقضاء والقدر مسلمة عند عامة المسلمين، فهم يؤمنون بها، إلا مسألة خلق الفعل، فهم فيها في اضطراب عظيم. ويرد على الذين اضطربوا واختلفوا في مسألة الإيمان بخلق الله عز وجل لأفعال العباد أن الفعل له جهتان، جهة قائمة بالرب سبحانه وتعالى، وهي علمه وقدرته ومشيئته وخلقه وإيجاده؛ أي: علمه سبحانه وتعالى بأن هذا العبد سيفعل كذا في يوم كذا وعلى هيئة كذا وبصفة كذا، وأن الله تعالى قدر ذلك عليه إما تقديراً شرعياً أو كونياً، وشاء ذلك وخلقه، وأوجده من جهة العبد، والجهة الثانية متعلقة بالعبد، وهي فعله وكسبه. فالفعل الذي يفعله العبد له متعلقان: متعلق بالله عز وجل من جهة الإرادة والعلم والمشيئة والخلق والإيجاد؛ لأنه لا يكون في ملك الله إلا ما يريد ويشاء، وقد علمه قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة. وهذا متعلق بجميع مراتب القدر، العلم والكتابة والمشيئة والخلق، فالفعل له تعلق بالله عز وجل من هذه الجهات الأربع، وأما تعلقه بالعبد فمن جهة العمل والكسب، أي: أن العبد هو الفاعل حقيقة لما فعل، بخلاف الجبرية الذين يقولون: إن الفاعل الحقيقي للفعل هو الله، وهذا كلام باطل ومردود، ويقولون: لا دخل للعبد ألبتة بالفعل لا من جهة الخير والشر، ولا من جهة الثواب والعقاب، وهذا كلام في غاية التناقض، فإن العبد هو الذي اكتسب الفعل وعمله بجوارحه القلبية أو الظاهرة، فهو من كسب العبد وعمله. ومثال لذلك: قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس:22]. فالله سبحانه هو الذي يسيرنا، ونحن نقوم بأداء الفعل وهو السير، فالذي يسير في البحر هو العبد، والذي أراد هذا السير وخلقه وأوجده ووفق العبد له هو الله عز وجل، وقد علم هذا السير وكتبه في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة. ولو أن رجلاً زنى أو سرق، فالزاني والسارق هو العبد، فهو الذي اكتسب هذا الفعل وعمله بجوارحه، فهو متعلق به من جهة الكسب ومن جهة العمل، والله عز وجل هو الذي قدره عليه؛ لأنه لا يقع في ملك الله عز وجل إلا ما أراده الله عز وجل، ومن قال: إنه يقع في ملك الله ما لا يريده فقد كفر. والله عز وجل إذا شاء وقوع فعل فلابد أن يقع وإن اجتمع الخلق جميعاً على عدم إيقاعه، والعكس بالعكس. وإذا زنى العبد فإن الله عز وجل يكره هذا، وقد حرمه ونهى عنه، والله لا يحب الفساد، وهذا فساد وإفساد في الأرض، والله عز وجل يحب الطهارة، وقد أمر بها وحض عليها، وهو تعالى يحب المتطهرين حباً شرعياً دينياً، ويكره الزنا والخبث، وقد نهى عنه وحذر منه تحذيراً شرعياً. والذي يقع فيما يكرهه الله ويبغضه قد علم الله تعالى سلفاً وأولاً أنه سيقع فيه، والله عز وجل قد نهاه عنه نهياً شرعياً، وحذره منه تحذيراً شرعياً، ووقوع العبد فيه وقوع كوني، أي: متعلقاً بالكون وبقدر الله عز وجل الذي كتبه على العبد قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة. وأما الإرادة الشرعية فهي متعلقة بكل ما يحبه الله تعالى ويرضاه، وهو شرع الله عز وجل الذي أمر به وحض عليه وحث عليه الناس جميعاً. فمن أتى ما أمر الله عز وجل به نقول: إنه وافق فيه إرادة الله الشرعية الدينية، فالله عز وجل أمر بتوحيده، وبالصلاة والصيام والزكاة والحج، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمن أتى فعلاً من هذه الأفعال فقد وافق إرادة الله الشرعية الدينية، وأما الذي يسرق ويزني ويفسد في الأرض فنقول: إنه وافق إرادة الله الكونية القدرية، أي: المتعلقة بما يقع في الكون كله، أي: المتعلقة بإرادة الله المطلقة التي تشمل الشرعية والقدرية، وأما إرادة الله الشرعية فإنها لا تنصب إلا على ما يحبه الله تعالى ويرضاه.

الرد على من يحتج بالقدر على ترك العمل

الرد على من يحتج بالقدر على ترك العمل وبعض الناس يقول: إذا كانت هذه المسائل مكتوبة، وأن الله تعالى قدر وعلم وكتب هذه الأعمال كلها قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة فلم العمل؟ ونقول: لابد أن تعمل؛ لأن كل مخلوق ميسر لما خلق له، وأعظم جواب يرد به على هذا القائل: أنه لا يعلم ما الذي كتب له؛ لأنه مخفي عنه، فلابد من العمل، والله عز وجل ييسره للعمل، فإن كان من أهل الشقاوة يسره الله لعمل أهل الشقاوة، وإن كان من أهل السعادة يسره الله لعمل أهل السعادة. قال: وقد يظن بعض الناس أن العمل لا فائدة منه مع الإيمان بهذه المراتب، وهذا كلام من أبطل الباطل، وقد وضح الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الأمر أتم توضيح وأبينه، وأزال كل الالتباس، وبين أن الإيمان بالقضاء لا يتنافى مع العمل، ففي حديث علي بن أبي طالب في الصحيحين قال: (كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه مخصرة، فجعل ينكس أو ينكت بمخصرته في الأرض، ثم قال: ما من نفس منفوسة إلا كتب مكانها من الجنة والنار)، أي: أن الله تعالى علم عن كل نفس منفوسة من أول الأمر أنها من أهل الجنة أو من أهل النار، وكذلك كتب هذا الأمر أنه من أهل الجنة أو من أهل النار. قال: (إلا وقد كتبت شقية أو سعيدة، فقال رجل: يا رسول الله! أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ فقال: لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم قول الله عز وجل: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:5 - 10]). ومن هذا يظهر بوضوح أن الله تعالى شاء كل شيء، وخلق جميع أفعال العباد، وأوجدها من خير وشر، والعبد يقوم بفعل ما خلقه الله فيه وأوجده، وقد جاء عن عبد الله بن عباس مرفوعاً: (الله خالق كل صانع وصنعته). وقد جاء في القرآن الكريم ما يؤيد ذلك أيضاً في قوله تعالى: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:95 - 96]، أي: أتنحتون هذه الآلهة من هذه الحجارة ثم تعبدونها، والله عز وجل خلقكم وما صنعتم، أي: أن الله تعالى هو الذي خلقكم وأوجدكم، وكذلك خلق وأوجد ما صنعتم بأيديكم، فكل ذلك من خلق الله عز وجل، يعني: أن الله تعالى خلقكم وما تعملون من نحت وغيره. قال: وهذه القضية يجب على كل مسلم أن يوقن بها، ويعلم أنه يعمل فيما قدر عليه وفرغ منه.

منشأ ضلال المعتزلة في قولهم بعدم خلق أفعال العباد

منشأ ضلال المعتزلة في قولهم بعدم خلق أفعال العباد وطائفة الاعتزال هي التي ابتدعت القول بأن العبد يخلق فعل نفسه، وقد تصدى لهم أهل السنة والجماعة، وبينوا ضلالهم في ذلك، وأطلقوا عليهم مجوس هذه الأمة، والشبهة التي أوقعتهم في ذلك وجعلتهم ينفون خلق الله لأفعال العباد ما رأوه من شر وعصيان؟ وكفر يقع في ملكوت الله عز وجل، فقالوا: كيف يريد الله عز وجل الكفر والشر والعصيان؟ فأرادوا بزعمهم تنزيه الله عز وجل عن ذلك، والذي أوقع المعتزلة في هذا الضلال هو أنهم لم يفرقوا بين الإرادة الشرعية والإرادة القدرية الكونية، ولذلك استعظموا جداً أن ينسب الشر إلى الله، فقالوا: إن الله عز وجل لم يخلق أفعال العبد أبداً، لا خير ولا شر، وكانوا يريدون القول بأن الله تعالى إنما خلق الخير فقط دون الشر، ولكنهم خافوا أن يطالبوا بالدليل على هذه التفرقة، فقالوا: إن الله تعالى لم يخلق أفعال العباد، وإنما الذي خلقها هو العبد نفسه، فانحرفوا عن عقيدة السلف الصالح، ولقد رد عليهم إمام أهل السنة والجماعة الإمام أحمد بن حنبل في رسالة تسمى السنة، وهي من أعظم الرسائل في الرد على هؤلاء؛ لأن المجوس قالوا بوجود إلهين أحدهما للخير والثاني للشر، ومن هنا لحقت المعتزلة بهم. والله سبحانه وتعالى إله واحد، والإله له ذات، وهذه الذات متصفة بصفات الجلال والكمال.

الرد على المعتزلة في قولهم بعدم خلق الله لأفعال العباد

الرد على المعتزلة في قولهم بعدم خلق الله لأفعال العباد و A على هذا الإشكال الذي ابتدعته المعتزلة بالتمييز والتفريق بين الإرادة الكونية القدرية المتعلقة بكل ما يقع في الكون من خير وشر، وأن الله تعالى أراد الشر إرادة كونية ليس لها تعلق بالمحبة والرضا، وبين الإرادة الشرعية المتعلقة بالمحبة والرضا. يقول: إرادة كونية قدرية، وهذه الإرادة شاملة وعامة لكل ما يقع في الكون، قال الله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:107]، أي: من خير وشر. وقال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125]. فهذه إرادة كونية، فالله سبحانه وتعالى قال: ((فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ))، فهو يريد الهداية ويأمر بها، وهي إرادة شرعية، وقال: ((وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ))، وهذه الإرادة إرادة كونية قدرية، ومعنى أراده أي: أن الله عز وجل علم أن العبد سيختار الضلال على الهداية، كما قال تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17]. فهم الذين استحبوا واختاروا العمى على الهدى، والله عز وجل علم أولاً وأزلاً أن هؤلاء القوم سيختارون الضلال على الهدى ويفعلونه، فعلمه سابقاً ثم كتبه في اللوح المحفوظ. فالله سبحانه وتعالى خلق الشر كما خلق الخير، بمعنى: أنه أوجده وشاءه وأراده إرادة كونية قدرية، بخلاف الإرادة الشرعية. قال: ولكنه ليس من صفاته، أي: هذا الشر ليس من صفات الله عز وجل، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (والشر ليس إليك)، أي: ليس من صفات الباري سبحانه وتعالى. وهو لا يدخل في أفعاله، وإنما يدخل في مفعولاته بطريق العموم، كما في قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:1 - 2]. فقد خلق الشر، وأمر بالاستعاذة منه، فالخير بيديه والشر ليس إليه. ونسأل الذين ينكرون خلق الله لأفعال العباد لهذه الشبهة سؤالاً: من الذي خلق إبليس وهو رأس الشر؟ وهم لا يترددون في أن الله عز وجل خلق إبليس، فالله خالق كل شيء من خير ومن شر، وإذا أنكروا أن الله تعالى خلق إبليس فقد كفروا وخرجوا من الملة، وإذا قالوا: إن الله تعالى هو الذي خلق إبليس قلنا لهم: نردكم إلى قولكم وإنكاركم بأن الله تعالى خلق الشر كذلك؛ لأنه خلق رأس الشر، وهو إبليس عليه لعنة الله تبارك وتعالى.

أنواع الإرادة

أنواع الإرادة والإرادة إرادتان، الأولى: الإرادة الدينية الشرعية وهي المتضمنة للمحبة والرضا، وهي المتضمنة لما أمر الله عز وجل به وشرعه على عباده، قال الله تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء:27]. فهذه إرادة شرعية؛ لأن إرادة التوبة إرادة شرعية. وقال الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]. وإرادة العسر إرادة قدرية كونية، وأما إرادة اليسر فهي إرادة شرعية دينية. والثانية: الإرادة الكونية القدرية، وهي تستلزم وقوع المراد، أي: لابد أن تقع كما أراد الله عز وجل؛ لأنه لا يمكن أن يقع في ملك الله ما لا يريده الله عز وجل، والإرادة المطلقة متضمنة للإرادة الكونية والإرادة الشرعية في الوقت نفسه. قال: ولا تستلزم المحبة، يعني: الإرادة الكونية القدرية تستلزم وقوع المراد ولا تستلزم محبة المراد، أي: ولا تستلزم محبة الفعل، فمثلاً: لا يمكن للعبد أن يزني إذا لم يقدر الله عليه ذلك، ولا يمكن أن يقع في ملك الله ما لا يريده حتى الكفر نفسه، ومن قال بذلك فهو كافر، والله عز وجل لا يحب الكفر، ولا يرضاه لعباده. فالإرادة الكونية القدرية لا تعلق لها بالرضا، بخلاف الإرادة الشرعية فلها تعلق بالرضا والمحبة، فلو أن العبد أطاع وآمن فقد وافق إرادة الله الشرعية المتضمنة والمستلزمة لمحبته ورضاه، وأما إذا اختار الكفر على الإيمان فقد وافق إرادة الله القدرية الكونية التي لا تستلزم محبة الله عز وجل ورضاه، بل تستجلب سخطه وغضبه سبحانه وتعالى. قال: الإرادة الكونية القدرية تستلزم وقوع المراد، ولا تستلزم محبته، فيدخل فيها إرادة الإيمان والكفر وغيرهما، وأما الإرادة الثانية فلا تستلزم وقوع المراد وتستلزم محبته، وهي الإرادة الشرعية. وهذا يفسر لنا قول الذي يقول حينما يشاهد رجلاً يقترف معصية: هذا يفعل ما لا يريده الله ولا يرضاه. ولو رأيت شخصاً يسرق مثلاً فقلت له: يا فلان! إن الله تعالى لا يريد هذا ولا يرضاه ولا يحبه، فمعنى كلامك: أن الله تعالى لا يريد هذا إرادة شرعية، ولكنه أراده إرادة كونية؛ لأنه لا يقع في ملكه إلا ما يريد، أي لا يريده إرادة شرعية دينية، وهي المتعلقة بالمحبة والرضا؛ لأن الله لا يحب الفساد، وإن كان الله تعالى أراده إرادة كونية قدرية؛ لأنه لا يكون ولا يقع إلا ما يريد، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. والله سبحانه وتعالى يهدي من يشاء ويضل من يشاء، فيهدي من يشاء هداية شرعية دينية، ويضل من يشاء ضلالاً قدرياً كونيناً، كما جاء في القرآن الكريم: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [النحل:93]، أي: أراد الهداية والضلال إرادة عامة كونية قدرية، وهو لا يريد الضلال ديناً وشرعاً، وإنما يريد الهداية ديناً وشرعاً؛ لأن الهدى متعلق بالإرادة الشرعية، والضلال متعلق بالإرادة الكونية القدرية.

أنواع الهداية

أنواع الهداية والهداية لها أنواع كثيرة، منها هداية عامة للكون جميعاً، وهي الهداية العامة، فقد خلق الله الكون وهداه إلى ما ينظم به حياته، قال الله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى:1 - 3]. وقال تعالى: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50]. والنوع الثاني من أنواع الهداية: هداية البيان والإرشاد والدلالة، فقد أنزل الله عز وجل الكتب وأرسل الرسل لتبين للناس وترشدهم، قال تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17]، أي: أما ثمود فبينا لهم وأرشدناهم ونصحناهم إلى طريق الهداية، وميزنا لهم بين الضلال والحق، ولكنهم تركوا الحق واختاروا الضلال. وهداية البيان والإرشاد ثابتة للرسول صلى الله عليه وسلم كما أنها ثابتة لله عز وجل، كما قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52]، أي: إنك لتبين وترشد إلى الصراط المستقيم وإلى طريق الصالحين. النوع الثالث من أنواع الهداية: هداية التوفيق، أي: توفيق العبد إلى طريق الهدى، فهذه الهداية متعلقة بإرادة الله عز وجل وحده، وليس لأحد فيها نصيب ولا حتى الأنبياء، فقال الله عز وجل: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [النحل:93]. ومن هذه الهداية: تحبيب الإيمان وتزيينه في قلوب المؤمنين، وهذه الهداية منفية عن جميع الخلق حتى عن الرسول صلى الله عليه وسلم كما قلت، قال الله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]. وهداية التوفيق متعلقة بالله عز وجل دون أحد من خلقه، لا نبي مرسل ولا ملك مقرب. وقال الله تعالى: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ} [النحل:37]، وهذا الكلام موجه إلى النبي عليه الصلاة والسلام، {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [النحل:37]، يعني: رغم حرصك يا محمد! صلى الله عليه وسلم على هداية هؤلاء فإن الله تعالى لا يهدي من كتب عليه الضلال، وعلم أنه سيختار الضلال في الأزل. النوع الرابع من أنواع الهداية: هداية المؤمنين إلى الجنة والكافرين إلى النار، قال الله تعالى عن المؤمنين بعد دخولهم الجنة: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} [الأعراف:43]. فهذا إقرار واعتراف بأن الهادي إلى الجنة هو الله عز وجل، قال: {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43].

حكم من أنكر القدر

حكم من أنكر القدر وكان أول من قال بنفي القدر هو معبد الجهني، وقد أخذ ذلك عن شيخه سوسن النصراني، فقد كان رجلاً نصرانياً بالبصرة يقول بالقدر ويعتقده، فتلقاه عنه معبد الجهني، ومن بعده ظهرت الفتنة، وكل فرقة من الفرق فيها غلاة وفيها أتباع ورعاع، وقد حكم العلماء على معبد الجهني وغيره بالكفر؛ لأنه أنكر معلوماً من الدين بالضرورة. وقد حكم عليهم عبد الله بن عمر بالكفر، ولا يزال أهل السنة يتشبثون بحكمه إلى يومنا هذا وما بعده إن شاء الله تعالى، فالقائل بنفي القدر عن الله عز وجل، وأن الله تعالى لا يعلم الأشياء ابتداء، وأنه لم يكتبها ولم يقدرها ابتداء قد أنكر معلوماً من الدين بالضرورة.

فوائد الإيمان بالقدر

فوائد الإيمان بالقدر والثمرة المرجوة والمسلك العملي الذي يعود على من آمن بقدر الله: الإلحاح في دعاء لله عز وجل بأن يهدينا إلى صراطه المستقيم، وأن يحبب إلينا الإيمان ويزينه في قلوبنا، ويكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، فإذا علمتُ أن هدايتي وضلالي بيد الله عز وجل، وأن الجنة والنار والخير والشر بيد الله عز وجل فهذا يدعوني لأن أضرع إلى الله عز وجل وأستغيث وأستعيذ بالله عز وجل من كل شر، وأن يجعلني من أهل الصلاح والفلاح والهداية، ومن أهل الجنة في الآخرة، ومن أهل السعادة في الدنيا والآخرة. وكذلك الجدية في العمل والمسارعة إلى الخيرات، كما جاء في الحديث: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له). فنسأل الله حسن الخاتمة؛ لأن أقدار الله غالبة، والعاقبة غائبة -أي: غائبة عنا-، فعلى العباد الاجتهاد كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ونصح به. فإذا كان أمري معلوماً عند الله عز وجل يقيناً وأنا لا أعلمه فإن ذلك يدفعني إلى الاستزادة من العمل الصالح؛ رجاء أن يتقبل الله عز وجل هذا العمل مني، وأن يجعلني من أهل الصلاح والفلاح. وكذلك التسليم الكامل لما قدره الله وقضاه؛ لأنه لا يجوز أبداً الاحتجاج بالقدر على المعاصي، وإنما الواجب الاحتجاج بالقدر على المصائب، فإذا نزلت بك مصيبة بعد أن اتخذت كامل الأسباب وعوامل الاحتياط في دفعها، فقل: إنا لله وإنا إليه راجعون، قدر الله وما شاء فعل. وهذا كلام المؤمنين النابع من إيمانهم بقدر الله عز وجل فإذا وقعت المصائب بأحدهم كالمرض مثلاً أو كالسقوط أو وقوع الجدار أو نزول أي بلية بعد أخذ الاحتياط اللازم لدفعها فعليه أن يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى، ثم يصبر بعد ذلك ويحتسب، وهذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزلت به المصيبة. ولا يجوز الاحتجاج بالقدر على المعاصي، وإنما على المصائب، وهذا لا يكون أيضاً إلا بعد اتخاذ الأسباب، فقل: قدر الله وما شاء فعل، وهنا يظهر الإيمان بالقدر، فإذا مات والدك فلا تصح وتبكي وتلطم خدك وتشق جيوبك مدة ثلاثة أو أربعة أشهر، ثم تقول: أستغفر الله العظيم، قدر الله وما شاء فعل، إنا لله وإنا إليه راجعون. فالإيمان بالقدر يظهر في وقته، فتقول في نفس الوقت: إنا لله وإنا إليه راجعون، إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى. ووقوع الخير أو وقوع الشر في العباد له منافع، فمثلاً المرض فيما يبدو للعبد شر، ولكنه في علم الله عز وجل خير، وإن بدا لنا أنه شر، حتى إن بعض الأطباء يقولون: إن هناك جراثيم لا يمكن أبداً أن يقتلها دواء أو غيره، ولا يقتلها إلا مرض أو أمراض معينة تصيب العبد، فالمرض وإن كان شراً للعبد إلا أن الله عز وجل قد خبأ له الخير. والزنا شر، والله عز وجل فرض حداً على العبد الزاني إما جلد مائة وتغريب عام، أو الرجم، فلو أن الزاني رجم في ميدان عام، وتفرج العالم على هذا الحد فلاشك أن من يريد الزنا سيراجع نفسه ألف مرة قبل أن يقدم عليه. وهذا خير. فالخير والشر من الله عز وجل خلقاً وإيجاداً، ولكنه من العبد اكتساباً وفعلاً. ومن فوائد الإيمان بالقدر أنه يورث التسليم الكامل بما قدره الله عز وجل وقضاه، فإذا وقعت مصيبة بالعبد سلم أمره إلى مولاه دون جزع، وقد قال بعض السلف: القدر يحتج به في المصائب ولا يحتج به في المعايب، فإذا أذنب العبد ذنباً استغفر، ولا يجوز له الاحتجاج بالقدر؛ لأن الله تعالى خلقه وهداه، وجعل له مشيئة، كما قال: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير:28]. ولما زنى عبد في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه جيء به إلى عمر فقال: ما الذي حملك على هذا؟ قال: القدر، فأمر برجمه، فقال: يا أمير المؤمنين! أترجمني في شيء قدره الله تعالى علي؟ قال: نعم، فإنما وقعت فيما وقعت فيه بقدر الله، وإنما نعاقبك بقدر الله عز وجل، يعني: العقاب نفسه من قدر الله عز وجل، بل هو من قدر الله الشرعي الذي أمر به وأحبه، وحث عليه في كتابه وفي سنة نبيه، وأما الذي وقعت فيه فإنما هو من قدر الله الكوني القدري. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. وصلى اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

كتاب الإيمان - حديث جبريل عليه السلام يعلم الصحابة دينهم

شرح صحيح مسلم - كتاب الإيمان - حديث جبريل عليه السلام يعلم الصحابة دينهم حديث جبريل عليه السلام في بيان مراتب الدين حديث عظيم، فقد اشتمل على أركان الدين الثلاثة: الإسلام والإيمان والإحسان، وبين بعض علامات الساعة، وهو حديث ذو فوائد جمة، وقد اشتمل على مسائل مهمة، ولذلك توسع العلماء في شرحه وإيضاح ما يتعلق به من أركان الدين.

شرح حديث جبريل عليه السلام في بيان مراتب الدين

شرح حديث جبريل عليه السلام في بيان مراتب الدين الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. وبعد: قال المصنف رحمه الله: [قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: حدثني أبي عمر بن الخطاب قال: (بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر -وفي رواية: لا نرى عليه أثر السفر- ولا يعرفه منا أحد)]. وهذا الذي دعا عمر بن الخطاب إلى أن يستنكر الأمر، لأن هذا الرجل ليس معروفاً عندهم في المدينة، فهو ليس من أهل المدينة ولا مما جاورها، وهو لا تبدو عليه علامات المسافر، فإن المسافر يكون في الغالب أشعث أغبر متسخ الملابس، وهذا الرجل الذي دخل عليهم كان شديد سواد الشعر، أي: ليس على شعره تراب، بل مرجل الشعر، وشديد بياض الثياب، ومعلوم أن المسافر يكون على غير هذه الهيئة والصفة.

صفة جلوس المتعلم بين يدي شيخه

صفة جلوس المتعلم بين يدي شيخه قال: [(حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه)]، أي: جعل هذا الرجل ركبتيه بمحاذاة ركبتي النبي صلى الله عليه وسلم. قال: [(ووضع كفيه على فخذيه)]. والضمير هنا يعود على جبريل نفسه، أي: أنه وضع يديه على فخذيه هو، وليس على فخذي النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا لكان وضعاً من أوضاع سوء الأدب بين التلميذ وشيخه، فهذا جبريل عليه السلام جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمحاذاته وقبالة وجهه، ثم وضع يديه على فخذي نفسه على هيئة جلسة المتعلم بين يدي شيخه وأستاذه.

بيان معنى الإسلام والإيمان في حديث جبريل عليه السلام

بيان معنى الإسلام والإيمان في حديث جبريل عليه السلام قال: [(ثم قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد! أخبرني عن الإسلام؟ -أي: قل لي: ما الإسلام وما فرائضه وأركانه؟ - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله)]. والنبي صلى الله عليه وسلم عدد له هنا فرائض الإسلام، وإلا فالإسلام بمعناه اللغوي والشرعي أكثر من ذلك، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم عد الفرائض فقط، ولم يعد باقي الخصال، كما لم يعدها أيضاً في بقية السؤالات على الإيمان والإحسان وأشراط الساعة، وإنما ذكر أشهر الأمور والفرائض. قال: [(فقال صلى الله عليه وسلم: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً. قال: صدقت -أي: صدقت يا محمد! - فقال عمر بن الخطاب: فعجبنا له يسأله ويصدقه)]؛ لأن هذا أمر مثير للعجب؛ لأن السائل من شأنه أنه يسأل ليتعلم، ولا يسأل لأجل أن يصدق على كلام المجيب. قال: [(ثم قال الرجل: أخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره)].

مذاهب العلماء في معنى الإسلام والإيمان

مذاهب العلماء في معنى الإسلام والإيمان وسنبحث هنا في معنى الإسلام والإيمان؛ لأنهما اشتملا على مباحث كثيرة، وهذه المباحث هي: أولاً: بيان ماهية الإيمان والإسلام. ثانياً: الفرق بين مطلق الإسلام ومطلق الإيمان. ثالثاً: هل الإيمان يزيد وينقص أم لا؟ رابعاً: هل الأعمال داخلة في مسمى الإيمان أم لا؟ خامساً: بم يدخل الكافر في الإسلام؟ سادساً: الاستثناء في الإيمان وكذا في الكفر. سابعاً: حكم مرتكب الكبيرة، وهل هو من أهل القبلة أم لا؟ وهذه المباحث السبعة ذكرها الإمام النووي في شرحه لمقدمة هذا الحديث عند ذكر الإسلام والإيمان، ولكنه داخل بين كل مبحث من هذه المباحث مع بقية المباحث، ونحن نلتزم ترتيبه، ونبين كلامه ونشرحه، وعلى الله التكلان. يقول الإمام النووي عليه رحمة الله: (أهم ما يذكر في الباب اختلاف العلماء في الإيمان والإسلام وعمومهما وخصوصهما -أي: عموم الإيمان والإسلام وخصوص الإيمان والإسلام- وأن الإيمان يزيد وينقص أم لا؟ وأن الأعمال من الإيمان أم لا؟ وقد أكثر العلماء رحمهم الله تعالى من المتقدمين والمتأخرين القول في كل ما ذكرناه). ثم يقول: (وأنا أقتصر على نقل أطراف من متفرقات كلامهم يحصل منها مقصود ما ذكرته مع زيادات كثيرة). هنا يذكر الإمام النووي كلام الأئمة الذين تقدموا عليه وسبقوه، وعادة النووي في شرحه للصحيح أنه يعتمد النقل عن غيره، وقلما يتكلم من عند نفسه. قال: (قال الإمام أبو سليمان -وهو الإمام الخطابي أبو سليمان أحمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي البستي الفقيه الأديب الشافعي المحقق رحمه الله تعالى- في كتابه معالم السنن: ما أكثر ما يغلط الناس في هذه المسألة -أي: مسألة الإيمان والإسلام- فأما الزهري فقال: الإسلام الكلمة، والإيمان العمل] والزهري من فحول كبار أهل السنة والجماعة وفحولهم، ولم يخالف أهل السنة ولو في خردلة، إلا هذا القول فيه مخالفة لأهل السنة، ولم يثبت عن الزهري قط، بل له كلام في الإيمان والإسلام والإحسان يخالف ما نقله النووي عن الخطابي أنه قال: الإسلام الكلمة، والإيمان العمل. وقوله: الإسلام الكلمة، أي: أن تقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. والإيمان العمل، أي: أن الأعمال هي حقيقة الإيمان، وليس الأمر كذلك، وهذا لم يثبت عن الزهري؛ لأنه قد ثبت عنه خلافه، وهذا النقل إما أن فيه تصحيفاً وتحريفاً عليه ويكون المعنى: قال الزهري: الإسلام: الكلمة والإيمان والعمل، وحذف الواو هنا أدى إلى هذا المعنى المختلف، فقد فرق بين الإسلام والإيمان، فأصبح النقل: الإسلام: الكلمة، والإيمان: العمل، ولكن النقل الصحيح الذي يوافق ما ثبت عنه في مناسبات أخرى وفي كتب أخرى: أن الإسلام هو كالإيمان من حيث الكلمة ومن حيث العمل. قال: (وذهب غيره -أي: غير الزهري - إلى أن الإسلام والإيمان شيء واحد). وهذا الغير قد يقصد به أهل السنة، فأهل السنة عندهم أن الإسلام والإيمان شيء واحد عند الإفراد والتفرق لا عند الاقتران، وأما عند الاقتران فلكل منهما معنى ومسمى مغاير لمعنى الآخر ومسماه. ثم قال: (واحتج بقوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:35 - 36]. قال الخطابي -أي: بعد نقله لكلام الزهري -: وقد تكلم في هذا الباب رجلان من كبراء أهل العلم، وصار كل واحد منهما إلى قول من هذين -أي: إلى قول من هذين القولين السابقين- ورد الآخر منهما على الأول، وصنف عليه كتاباً يبلغ عدد أوراقه المئين -يعني: عدة مئات-. قال الخطابي: والصحيح من ذلك أن يقيد الكلام في هذا)، يعني: إذا أردنا أن نعرف ماهية الإسلام والإيمان واختصاص كل واحد منهما بأمر لا يندرج تحت المسمى الآخر فينبغي أن يقيد الكلام، ولا يطلق في تحديد ماهية الإسلام وماهية الإيمان. قال: (وذلك أن المسلم قد يكون مؤمناً في بعض الأحوال، ولا يكون مؤمناً في بعضها)، يعني: أن المسلم إذا حافظ على طاعة الله عز وجل، ولم يرتكب كبيرة ولم يصر على صغيرة فلا شك أنه في هذه الحالة مسلم ومؤمن، وإذا ارتكب كبيرة أو أصر على صغيرة فإنه يبقى على إسلامه وينتفي عنه الإيمان، أو يقال: إنه مؤمن عاص، أو مؤمن فاسق، ولا غضاضة في الجمع بين الاثنين، أي: في الجمع بين الإيمان والفسق. قال: (والمؤمن مسلم في جميع الأحوال -حتى وإن ارتكب المعاصي- فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمناً)، يعني: بينهما عموم وخصوص، فكل مؤمن يلزم منه أن يكون مسلماً، ولا يلزم من كونه مسلماً أن يكون مؤمناً، أي: لا يلزم من ثبوت الإسلام للمرء ثبوت الإيمان له؛ لأن الإيمان درجة أعلى، فإذا ثبت له الأدنى لم يلزم من ذلك ثبوت الأعلى، وإذا ث

معنى الإسلام والإيمان في اللغة

معنى الإسلام والإيمان في اللغة قال: (وأصل الإيمان التصديق). وهذا القول هو قول أهل اللغة، فقد قالوا: إن أصل الإيمان التصديق، وهو معنى قول إخوة يوسف: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:17]. أي: وما أنت بمصدق لنا، أي: أنت لا تصدق كلامنا وإن صدقناك القول. واعترض بعض أهل العلم على هذا التعريف، وقال: أصل الإيمان الإقرار، وهذا الاعتراض وإن كان وجيهاً إلا أن الراجح قول أهل اللغة، والمعترض على أن أصل الإيمان هو التصديق قال: لا يستوي أبداً أن تقول: آمنت بكذا أي: صدقت به؛ فإن قولك: آمنت بكذا يفيد الاطمئنان والإقرار القلبي، وأما قولك: صدقت بكذا فلا يفيد هذا المعنى. وهذا هو قول الشيخ ابن عثيمين. ثم قال - الخطابي -: (أصل الإيمان: التصديق، وأصل الإسلام الاستسلام والانقياد -أي: في اللغة- فقد يكون المرء مستسلماً في الظاهر -في أعمال الجوارح- غير منقاد في الباطن -وهذا نسميه مسلماً- وقد يكون صادقاً في الباطن غير منقاد في الظاهر). وهذا نسميه مسلماً عاصياً، فهذا مؤمن من داخله ولكنه غير منقاد، يعني: أنه مسلم بكل ما قال الله وقاله رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكنه قائم على معصية الله عز وجل وغير منقاد في الظاهر، ويأتي بجوارحه ما يغضب الله عز وجل، فمثل هذا يقال عنه: مسلم عاص. فمعنى الإسلام في اللغة: الاستسلام والانقياد، ومعنى الإيمان في اللغة: التصديق، أو الإقرار على مذهب.

معاني الإسلام والإيمان إذا اجتمعا أو افترقا

معاني الإسلام والإيمان إذا اجتمعا أو افترقا والإسلام إذا اقترن مع الإيمان افترق عنه، وكان له مدلول خاص، وكذلك الإيمان، وإذا انفرد عن الإسلام شمله، كما أن الإسلام إذا انفرد عن الإيمان شمله، فلو قلنا مثلاً: الإسلام وسكتنا فهذا يدل على أننا سنتكلم عن الإسلام والإيمان، وإذا قلنا: الإيمان فقط فإننا نتكلم عن الإيمان والإسلام، وإذا جمعنا بين اللفظين الإسلام والإيمان فيكون لكل منهما مدلوله الذي يغاير مدلول الثاني. وفي هذا الحديث -حديث عمر بن الخطاب - اجتمع الإسلام والإيمان، فقد سأله عن الإسلام ثم سأله عن الإيمان، وقد أجاب النبي عليه الصلاة والسلام بمدلول لمعنى الإسلام وفرائضه، وأجاب بمدلول آخر لمعنى الإيمان وفرائضه، ولذلك يقول أهل العلم: الإسلام والإيمان إذا اجتمعا افترقا، وإذا افتقرا اجتمعا، يعني: إذا اجتمع مصطلح الإسلام والإيمان دلا على أن كل واحد منهما له مدلول يختلف عن المدلول الآخر، وأما إذا انفرد أحدهما عن الآخر فإن كل واحد منهما يشمل الآخر في طياته.

حكم إطلاق وصف الإيمان على من أتى ببعض شعبه

حكم إطلاق وصف الإيمان على من أتى ببعض شعبه قال الإمام الخطابي في شرح حديث (الإيمان بضع وسبعون شعبة): (في هذا الحديث بيان أن الإيمان الشرعي اسم لمعنى ذي شعب وأجزاء، له أعلى وله أدنى)، لأنه قال: (أعلاه لا إله إلا الله، وأدناه إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من شعب الإيمان). قال: (والاسم يتعلق ببعضها كما يتعلق بكلها)، يعني: لو أن رجلاً أتى بجميع هذه الشعب فإننا نسميه مؤمناً، ولو أن رجلاً أماط الأذى عن الطريق لقلنا: هذا رجل مؤمن؛ لأنه أتى بشعبة من شعب الإيمان، فالاسم يتعلق بالجزء كما يتعلق بالكل، ولكن الحقيقة لا تثبت إلا لمن أتى بالكل، ولا يثبت الإيمان المطلق إلا لمن أتى بجميع شعب الإيمان وفرائضه. وهناك فرق بين الإيمان المطلق ومطلق الإيمان، فالإيمان المطلق هو الإيمان الكامل، وهذا لا يثبت إلا لمن أتى بجميع شعب الإيمان وفرائضه، وأما مطلق الإيمان فهو أصل الإيمان الذي هو التصديق والإقرار.

حكم الاتصاف بالإيمان الكامل

حكم الاتصاف بالإيمان الكامل قال: (والحقيقة تقتضي جميع شعبه)، أي: أن حقيقة كمال الإيمان إنما تتعلق بجميع الشعب وتقتضي جميع أجزائه، وأنت إذا رأيت رجلاً واقفاً بين يدي الله عز وجل يقرأ فاتحة الكتاب تقول: هذا الرجل يصلي، مع أنك لم تر كل أجزاء الصلاة، ولكن لا تثبت له حقيقة الصلاة إلا بالإتيان بها كلها، فلا يكون مصلياً إلا إذا استكمل جميع أجزاء الصلاة. وكذلك الإيمان، يثبت ولو بشعبة واحدة من شعب الإيمان، أي: يثبت أصله للمسلم إذا أتى ولو بشعبة واحدة، وأما كماله وتمامه فلا يثبت إلا بالإتيان بجميع أجزاء وشعب الإيمان، وهو الذي يعبر عنه أهل العلم بحقيقة الإيمان، أي: الإتيان بجميع الشعب. ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: (الحياء شعبة من الإيمان).

تفاضل الناس في الإيمان

تفاضل الناس في الإيمان وفي هذا الحديث أيضاً إثبات التفاضل في الإيمان، يعني: أن بعض الناس أفضل من بعض، فليس إيمان النبيين كإيمان أتباعهم، وليس إيمان المرسلين كإيمان غيرهم، ولا شك أن إيمان النبيين أعلى من كل إيمان البشر، وقد ورد أنه لو وضع إيمان أبي بكر الصديق في كفة وإيمان الأمة في كفة لرجحت كفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وهذا يدل على أن الناس يتفاضلون ويتفاوتون في مراتب الإيمان، فبعضهم أعلى من بعض وبعضهم أدنى من بعض.

الدين يطلق على الإسلام والإيمان

الدين يطلق على الإسلام والإيمان قال: (وقال الإمام أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي الشافعي رحمه الله في حديث سؤال جبريل صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام وجوابه، قال: جعل النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام اسماً لما ظهر من الأعمال)، أي: جعله اسماً لمسمى الأعمال الظاهرة؛ لأنه لما قال له: (ما الإسلام؟ قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله). وهذا أمر ظاهر نسمعه نحن إذا نطق بلسانه، إلا أن يمنعه خرس أو غيره، فقال: (الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله). وهذا من عمل اللسان الظاهر، قال: (وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً). وكل هذه أعمال ظاهرة، فنسب الإسلام إلى أعمال ظاهرة أي: يأتيها المرء بجوارحه. قال: (وجعل الإيمان اسماً لما بطن من الاعتقاد)؛ لأنه قال: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره). وكل هذا إنما هو من أعمال القلب لا من أعمال الجوارح. قال: (وليس ذلك لأن الأعمال ليست من الإيمان، والتصديق بالقلب ليس من الإسلام، بل ذلك تفصيل لجملة هي كلها شيء واحد، وجماعها الدين، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ذاك جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)). فسمى هنا الدين بالأعمال الظاهرة والأعمال الباطنة، فالدين هو اسم يشتمل على الأعمال الظاهرة والأعمال الباطنة، وليس معنى ذلك أن ما يطلق عليه الإسلام لا يطلق عليه الإيمان، أو أن ما يطلق عليه الإيمان لا يطلق عليه الإسلام، بل كلاهما عند الافتراق يطلق على مسمى ومدلول الاسم الآخر، فإن فرائض الإسلام وأركانه يطلق عليها الإيمان، وكذلك الإيمان يطلق على مسمى الإسلام، والكل يسمى ديناً.

معاني الدين في القرآن

معاني الدين في القرآن والدين قد ورد في الكتاب إما على سبيل الجزاء، وإما على سبيل العمل، فمما ورد بمعنى الجزاء قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4]، أي: مالك يوم الجزاء والحساب والعقاب والجنة والنار، فهنا لفظ الدين بمعنى الجزاء. وكذلك قول الله تعالى: {ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} [الانفطار:18]. فيوم الدين هنا بمعنى الجزاء. وقد ورد أيضاً الدين بمعنى العمل، كما في قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]. فالدين هنا بمعنى العمل بالإيمان والعمل بالإسلام. وقال الله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا} [آل عمران:85]، أي: عملاً يتقرب به إلى الله تعالى، {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85]. فقوله: ((وَمَنْ يَبْتَغِ)) أي: ومن يتحرى غير الإسلام عملاً لم يأمر به الله عز وجل ولا رسوله صلى الله عليه وسلم يتقرب به إلى الله عز وجل فقد دخل في حد البدعة، ولن يقبله الله تعالى منه. وقال تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، أي: عملاً تتقربون به إلى الله عز وجل، فأخبر سبحانه وتعالى أن الدين الذي يرضاه ويقبله من عباده هو الإسلام، ولا يكون الدين في محل القبول والرضا إلا بانضمام التصديق إلى العمل؛ لأننا لو قلنا في معنى قول الله عز وجل: ((وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا))، وقوله: ((إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ))، وقوله: ((وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ)): إن الدين هنا بمعنى العمل لاستلزم ذلك أن الله تعالى لا يقبل العمل هذا إذا لم يكن نابعاً من تصديق قلبي، وهذا يدل على أن الإسلام في هذه الآيات يشمل العمل الظاهر والباطن، والعمل الظاهر هو الذي ورد في الحديث في مراتب وفرائض الإسلام، والإيمان ورد في مراتب وفرائض الإيمان الباطنة المتعلقة بالقلب.

زيادة التصديق ونقصانه والرد على من أنكر ذلك

زيادة التصديق ونقصانه والرد على من أنكر ذلك قال: (قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن محمد بن الفضل التميمي الأصبهاني الشافعي رحمه الله في كتابه التحرير في شرح صحيح مسلم: الإيمان في اللغة هو التصديق، فإن عنى به ذلك فلا يزيد ولا ينقص)، أي: أن الأصبهاني يقول: إن كانوا يزعمون أن الإيمان الذي لا يزيد ولا ينقص هو مجرد التصديق فنحن نوافقهم على هذا. والصواب: أنه حتى لو كان الإيمان هو التصديق فهو أيضاً يزيد وينقص؛ لأننا نقول: إن إيمان أبي بكر أفضل من إيمان عمر بن الخطاب، وإيمان عمر أفضل من إيمان عثمان، وإيمان عثمان أفضل من إيمان علي، وهكذا الناس يتفاضلون، والأنبياء أعظم تصديقاً من غيرهم من الناس ومن الأتباع، فإذا كان الإيمان هو مجرد التصديق فإنه كذلك يزيد وينقص. يقول: (لأن التصديق ليس شيئاً يتجزأ حتى يتصور كماله مرة ونقصه أخرى). ونقول: صحيح أنه لا يلزم منه أن يتجزأ، ولكن يلزم منه الكمال وغير الكمال، ويلزم منه الأدنى والأعلى، وأنت تمر بهذا في حياتك اليومية، فإذا حدثك رجل ثقة عندك بخبر من الأخبار فإنك تصدقه، فإن أتاك آخر وشهد بهذا الخبر عندك ازداد تصديقك، فإن أتاك جماعة كبيرة بلغ عندك درجة اليقين، ولذلك هناك علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين، وهذه مسائل معلومة، فالتصديق أيضاً على مراتب، فإن الرجل الذي آمن بالله رباً، وآمن بأن في يده الجزاء والعقاب، والثواب والحسنات، وأراد الإقدام على معصية ثم استشعر وجود الله عز وجل ومراقبته فإن ذلك يمنعه من اقتراف المعصية، والرجل الذي هو مصدق بوجود الله وبالإيمان به عز وجل وغير ذلك ولكنه غافل فإنه يقدم على المعصية. فالإيمان إذا كان بمعنى التصديق فإنه أيضاً يزيد وينقص. وإبراهيم عليه السلام قال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة:260] وقد كان مصدقاً بالله عز وجل، وبأن الله تعالى يبعث الميت بعد أن يموت، وكان مؤمناً بالله عز وجل حق الإيمان، ولكنه أراد مزيداً على ما عنده من الإيمان. وهذا أيضاً مما يستدل به على زيادة الإيمان سواء في حقيقته الشرعية أو في أصله اللغوي. فقال له ربه: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} [البقرة:260]، أي: أولم تصدق بوعدي؟ {قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260]. ومعنى: ((لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)) أي: بزيادة الإيمان لا بأصل الإيمان، ولو قلنا: إن الإيمان ليس إلا مرتبة واحدة لكان هذا طعناً في إبراهيم عليه السلام، وحاشاه أن يشك في ربه عز وجل. قال: (والإيمان في لسان الشرع: هو التصديق بالقلب والعمل بالأركان، وإذا فسر بهذا تطرق إليه الزيادة والنقصان)؛ لأن الأعمال هنا تدخل في مسمى الإيمان، فإذا ازداد المرء من الأعمال الصالحة وأعمال الطاعات زاد إيمانه، وإذا نقص منها نقص إيمانه. قال: (وهذا مذهب أهل السنة).

حكم إيمان من لم يأت بأي عمل مع التصديق

حكم إيمان من لم يأت بأي عمل مع التصديق قال: (فالخلاف في هذا على التحقيق إنما هو: أن المصدق بقلبه إذا لم يجمع إلى تصديقه العمل بموجب الإيمان هل يسمى مؤمناً مطلقاً أم لا؟)، أي: إذا لم يأت بالعمل مع التصديق، يعني: إذا اكتفى بالتصديق فقط، ولم يأت بأعمال البر والطاعة هل يسمى مؤمناً مطلقاً أم لا؟ فهذا يثبت له مطلق الإيمان، أي: أصل الإيمان الذي هو التصديق؛ لأن مطلق الإيمان غير الإيمان المطلق، فالإيمان المطلق هو كمال الإيمان وتمامه، وأما مطلق الإيمان فهو أصل الإيمان، وهو التصديق، وهذا لم يأت مع التصديق بالعمل، مع أن هناك بعض الأعمال اختلف أهل العلم إذا لم يأت بها المرء هل يخرج عن ملة الإسلام أم لا؟ قال: (والمختار عندنا: أنه لا يسمى به). والصواب أنه يسمى به، ويثبت له مطلق الإيمان. قال: (قال صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) الحديث؛ لأنه لم يعمل بموجب الإيمان، فيستحق هذا الإطلاق. هذا آخر كلام صاحب التحرير).

مذهب أهل السنة والجماعة في الإيمان

مذهب أهل السنة والجماعة في الإيمان قال: (وقال الإمام أبو الحسن على بن خلف بن بطال المالكي المغربي في شرح صحيح البخاري: مذهب جماعة أهل السنة من سلف الأمة وخلفها: أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، والحجة على زيادته ونقصانه، قول الله عز وجل: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4]. وقال تعالى: {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13]. وقول الله تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم:76]. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد:17]. وقوله تعالى: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر:31]. وقوله تعالى: {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [التوبة:124]. وقوله تعالى: {فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} [آل عمران:173]. وقوله تعالى: {وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22]. قال ابن بطال: فإيمان من لم تحصل له الزيادة ناقص -لأنه إن لم يزدد في إيمانه فلابد أن يستلزم ذلك النقصان- قال: (فإن قيل: الإيمان في اللغة: التصديق؟ ف A أن التصديق يكمل بالطاعات كلها، فإذا ازداد المؤمن من أعمال البر كان إيمانه أكمل، وبهذه الجملة يزيد الإيمان وبنقصانها ينقص). وهذا كلام في غاية المتانة والجودة، فالإيمان عند أهل السنة قول وعمل، يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وهذا الكلام ينبغي حفظه والعض عليه بالنواجذ. قال: (فمتى نقصت أعمال البر نقص كمال الإيمان). ولم يقل: ينقص أصل الإيمان؛ لأن الأعمال هي المنسوب الذي به يزيد الإيمان وينقص، وكأن الأعمال لا علاقة لها بأصل الإيمان؛ لأن الأصل هو عقد القلب على الإقرار والتصديق، وأما الأعمال فإنما تأثيرها في الزيادة والنقصان. قال: (ومتى زادت زاد الإيمان كمالاً، هذا توسط القول في الإيمان. وأما التصديق بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فلا ينقص)، يعني: إن التصديق نفسه لا يزيد ولا ينقص، وقد قدمنا أنه يزيد وينقص حتى في أصل التصديق على المذهب الراجح. قال: (ولذلك توقف مالك رحمه الله تعالى في بعض الروايات عن القول بالنقصان؛ إذ لا يجوز نقصان التصديق). فهم قد تأولوا كلام الإمام مالك هكذا، والإمام مالك لم يتكلم عن نقصان التصديق أو زيادته حتى لا يشتبه قوله بقول الخوارج. قال: (إنما توقف مالك عن القول بنقصان الإيمان خشية أن يتأول عليه موافقة الخوارج الذين يكفرون أهل المعاصي من المؤمنين بالذنوب، وقد قال مالك بنقصان الإيمان مثل قول جماعة أهل السنة. قال عبد الرزاق: سمعت من أدركت من شيوخنا وأصحابنا سفيان الثوري ومالك بن أنس وعبيد الله بن عمر والأوزاعي ومعمر بن راشد وابن جريج وسفيان بن عيينة يقولون: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، وهذا قول ابن مسعود وحذيفة والنخعي والحسن البصري وعطاء وطاوس ومجاهد وعبد الله بن المبارك، فالمعنى الذي يستحق به العبد المدح والولاية من المؤمنين هو إتيانه بهذه الأمور الثلاثة، التصديق بالقلب، ثم الإقرار باللسان، والعمل بالجوارح). فلا بد من اجتماع هذه الثلاثة، التصديق بالقلب والإقرار باللسان والعمل بالجوارح والأركان، وعمل الجوارح والأركان سماه النبي صلى الله عليه وسلم إسلاماً، والإقرار باللسان أيضاً داخل في مسمى الإسلام، ثم التصديق بالإيمان في القلب هو الذي يسمى الإيمان، والإيمان يزيد وينقص، فيزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. قال: (وذلك أنه لا خلاف بين الجميع أنه لو أقر وعمل -أي: لو صدق وعمل- على غير علم منه ومعرفة بربه لا يستحق اسم مؤمن. ولو عرفه وعمل وجحد بلسانه وكذب ما عرف من التوحيد لا يستحق اسم مؤمن، وكذلك إذا أقر بالله تعالى وبرسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ولم يعمل بالفرائض لا يسمى مؤمناً بالإطلاق، وإن كان في كلام العرب يسمى مؤمناً بالتصديق). وكأن الإمام النووي أراد أن يقول: لابد من اجتماع هذه الثلاثة حتى يسمى الرجل مسلماً مؤمناً. قال: (فذلك غير مستحق في كلام الله تعالى؛ لقوله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [الأنفال:2 - 3]]. فهو هنا يتكلم عن صفات المؤمنين، وأدخل

مذهب المرجئة والكرامية في الإيمان والرد عليهم

مذهب المرجئة والكرامية في الإيمان والرد عليهم قال: (وإنما أراد الرد على المرجئة في قولهم: إن الإيمان قول بلا عمل)؛ لأن المرجئة يؤخرون العمل عن مسمى الإيمان، ويقولون: لا علاقة للعمل بمسمى الإيمان، وعندهم أن أطوع الناس لله كأفجر الناس وأفسقهم، فالطائع عندهم كالعاصي تماماً، فكلاهما يسمى مؤمناً؛ لأن الإيمان عندهم هو التصديق فقط، ولا علاقة للعمل بمسمى الإيمان، فأراد البخاري أن يرد على المرجئة الذين يقولون: إن الإيمان قول بلا عمل، وأن يبين غلطهم وسوء اعتقادهم، ومخالفتهم للكتاب والسنة ومذاهب الأئمة. قال: (ثم قال ابن بطال في باب آخر: قال المهلب: الإسلام على الحقيقة هو الإيمان). يعني: الإيمان والإسلام في حقيقة الأمر اسمان لمعنى واحد ومسمى واحد، وهو الدين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعدما سأله جبريل عن الإسلام والإيمان والإحسان وأشراط الساعة وأجابه قال: (أتاكم يعلمكم دينكم). قال: (الذي هو عقد قلب المصدق لإقرار اللسان الذي لا ينفع عند الله تعالى غيره. وقالت الكرامية وبعض المرجئة: إن الإيمان هو الإقرار باللسان دون عقد القلب). يعني: لو قال شخص: أنا مؤمن بالملائكة، أو أنا مؤمن بالله فإنهم يقولون: هو مؤمن، حتى وإن لم يكن ذلك في حقيقة قلبه، ويقولون: إن هذا هو الإيمان، فهم يقولون: ليس الإيمان هو التصديق، وإنما هو الإقرار باللسان، فمن أقر بلسانه كان مؤمناً حقاً، وهذا قول باطل، ولو كان كلامهم صحيحاً فليس على وجه الأرض كافر، واليهود الذين حاربوا النبي عليه الصلاة والسلام في المدينة كانوا يعترفون ويقرون في أنفسهم أن محمداً صلى الله عليه وسلم مرسل من عند ربه. قال: (ومن أقوى ما يرد به عليهم إجماع الأمة على إكفار المنافقين). فالمنافقين في حقيقتهم بينهم وبين الله تعالى كفار، ولكنهم معصومو الدم؛ لأنهم أقروا بألسنتهم، فلهم حكم في الدنيا وحكم في الآخرة، فنحن نعاملهم على أنهم مسلمون، وهم عند الله تعالى كفار، ونمتنع من مقاتلهم؛ لأنهم يقرون بألسنتهم بأنهم مسلمون. فهو هنا يقول: الرد على المرجئة وعلى الكرامية بأن الإقرار باللسان لا يكفي لإثبات حقيقة الإيمان، وإجماع أهل السنة والجماعة أن المنافقين ليسوا مؤمنين. قال: (وإن كانوا قد أظهروا الشهادتين، قال الله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة:84]-فسمى المنافقين كفاراً- إلى قوله تعالى: {وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:55]. هذا آخر كلام ابن بطال).

ما يثبت به الإسلام للشخص

ما يثبت به الإسلام للشخص قال: (وقال الشيخ الإمام أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: (الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتى الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً والإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره)، هذا بيان لأصل الإيمان، وهو التصديق الباطن، وبيان لأصل الإسلام، وهو الاستسلام والانقياد في الظاهر. وحكم الإسلام في الظاهر ثبت بالشهادتين، وإنما أضاف إليهما الصلاة والزكاة والحج والصوم لكونها أظهر شعائر الإسلام وأعظمها، وبقيامه بها يتم استسلامه وانقياده، وتركه لها يشعر بانحلال قيد انقياده أو اختلاله)، يعني: أن النبي عليه الصلاة والسلام لما ذكر الإسلام والإيمان، ذكر شعب وفرائض وأركان كل منهما؛ ليدل على أن أصل الإسلام هو الاستسلام والانقياد، على أن أصل الإيمان هو التصديق في الباطن، وأما بقية هذه الشعب أو الأركان أو الفرائض فمن لوازم الإسلام أو الإيمان وأنه بانخرام واحدة ينخرم الأصل الذي عنده، والحقيقة أنه ينخرم الكمال، ولا ينخرم الأصل الموجود لديه.

العلاقة بين الإسلام والإيمان

العلاقة بين الإسلام والإيمان قال: (ثم إن اسم الإيمان يتناول ما فسر به الإسلام -أي: أن الإيمان والإسلام بمعنى واحد، فهو يقول: اسم الإيمان يتناول ما فسر به الإسلام- في هذا الحديث وسائر الطاعات؛ لكونها ثمرات للتصديق). فمثلاً لا يمكن لرجل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر أن ينكر الصلاة؛ لأن الأعمال الظاهرة إنما مبعثها الإيمان بالله عز وجل، وانقيادك في الظاهر يدل على حسن باطنك مع الله عز وجل. فالعلاقة وثيقة جداً بين مسمى الإيمان والإسلام، الذي هو عمل الباطن وعمل الظاهر، وأنت لن يبدو عليك ظاهر الإسلام إلا إذا كان هذا منبثقاً عن حسن اعتقادك في الله، وحسن ما تبطن تجاه الله عز وجل من إقرارك وعقد قلبك وتصديقك بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، وغير ذلك من فرائض الإيمان، وأنت لا تؤمن بهذا إلا إذا دفعك إلى حسن العمل في الظاهر، فالعلاقة وثيقة جداً بين الإيمان وبين الإسلام. قال: (لكونها ثمرات للتصديق الباطن الذي هو أصل الإيمان ومقويات ومتممات وحافظات له، ولهذا فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان في حديث وفد عبد القيس). فلما أتى وفد عبد القيس إلى النبي عليه الصلاة والسلام قالوا: (يا رسول الله! إن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، وإنا لا نأتيك إلا في شهر الله الحرام، فمرنا بأمر نعمل به ونلزم به من بعدنا أو من خلفنا، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع) والحديث سيأتي في صحيح مسلم، وهو عند البخاري أيضاً قال: (آمركم بالإيمان، أتدرون ما الإيمان؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: الإيمان أن تشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وأن تقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، وتصوموا رمضان، وتحجوا البيت). فهنا عرف الإيمان بالإسلام؛ لأنه لم يتكلم عن الإسلام وإنما تكلم عن الإيمان فقط، فعرف الإيمان بشعائر الإسلام، ولو أنهم سألوه عن الإسلام أو أمرهم بالإسلام لعرفهم على مسمى الإيمان والإسلام معاً، ولا يفهم من هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد أن يخبرهم بشعائر الإسلام دون شعائر الإيمان ومراتبه، وإنما إذا ذكر الإسلام وحده شمل معه الإيمان، وإذا ذكر الإيمان وحده شمل معه الإسلام، وإذا ذكرا معاً كان لكل واحد منهما مدلوله، كما هو الحال والشأن في الحديث الذي بين أيدينا حديث عمر بن الخطاب. قال: (كما ورد في حديث وفد عبد القيس بالشهادتين والصلاة والزكاة وصوم رمضان وإعطاء الخمس من المغنم، ولهذا لا يقع اسم المؤمن المطلق على من ارتكب كبيرة أو بدل فريضة) -فلا نثبت له الإيمان المطلق، وإنما نثبت له مطلق الإيمان، وهو أصل الإيمان- لأن اسم الشيء مطلقاً يقع على الكامل منه، ولا يستعمل في الناقص ظاهراً إلا بقيد، ولذلك جاز إطلاق نفيه عنه في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن)). وكلمة حين أي: وقت ارتكاب المعصية، فدل ذلك على أن الإيمان يثبت له قبل ذلك وبعد ذلك، وأما وقت ارتكاب المعصية فلا يثبت له مطلق الإيمان، أي: لا يثبت له كمال الإيمان وتمامه، وإنما يثبت له أصل الإيمان. قال: واسم الإسلام يتناول أيضاً ما هو أصل الإيمان، وهو التصديق الباطن، ويتناول أصل الطاعات، فإن ذلك كله استسلام لله عز وجل. قال: فخرج مما ذكرناه وحققنا: أن الإيمان والإسلام يجتمعان ويفترقان). بمعنى: إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، أي: إذا ذكر كل واحد منهما على حدة فإنما يشمل الآخر، وإذا ذكرا معاً كان لكل منهما مدلوله. قال: (وأن كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمناً. قال: وهذا تحقيق وافر بالتوفيق بين متفرقات نصوص الكتاب والسنة الواردة في الإيمان والإسلام، التي طالما غلط فيها الخائضون، وما حققناه من ذلك موافق لجماهير العلماء من أهل الحديث وغيرهم. هذا آخر كلام الشيخ أبي عمرو بن الصلاح عليه رحمة الله تبارك وتعالى). وإذا سمعت في شرح صحيح مسلم قال أبو عمرو بن الصلاح أو قال القاضي عياض فانتبه جيداً، وخاصة لكلام القاضي عياض في غير كتاب الإيمان؛ لأن كلامه كالمسمار في الصاج، فهو كلام متين في غاية المتانة، وأبو عمرو بن الصلاح من أعاظم وفحول المحققين، وكان أستاذ التأويل والجمع بين الروايات والأقوال، وعندما يتكلم النووي عن مسألة ويذكر فيها عشرة أقوال فإنك تتحير أمام هذه الأقوال أيها الراجح وأيها المرجوح، فإذا قال لك: وقال أبو عمرو بن الصلاح فاعلم أنك قد أصبحت في بر الأمان مباشرة. فـ أبو عمرو بن الصلاح لا يستهان به، ولا بأقواله قط، وكذلك القاضي عياض في غير التأويل، والإمام النووي كان يعتمد على القاضي عياض، وكان عنده أشعرية، عليه رحمة الله تبارك وتعالى. قال: (فإذا تقرر ما ذكرناه

من الأدلة على نقصان الإيمان

من الأدلة على نقصان الإيمان ومما يدل على نقصان الإيمان حديث حنظلة: (نافق حنظلة). وهذا حديث جيد في إثبات الزيادة والنقصان. وكذلك حديث: (يا معشر النساء! تصدقن، فإني رأيتكن أكثر أهل النار، قلن: ولم يا رسول الله؟! قال: لأنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير)، ثم قال: (وما رأيت أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن، يحسن إليها الدهر كله) إلى آخر الحديث، وفي الحديث الآخر قال: (أليس إذا حاضت تركت الصلاة فذلك نقصان دينها، أليس شهادتها على النصف من شهادة الرجل، وهذا نقصان عقلها)، والحديث الأول يدل على نقصان الدين، وهذا الحديث يثبت النقصان.

الرد على المتكلمين إنكار زيادة الإيمان ونقصانه

الرد على المتكلمين إنكار زيادة الإيمان ونقصانه قال: (وأنكر أكثر المتكلمين زيادة الإيمان ونقصانه، وقالوا: متى قبل الزيادة كان شكاً وكفراً)، يعني: بعض المتكلمين وبعض علماء المسلمين الذين تأثروا بالفلسفة قالوا: الإيمان لا يزيد ولا ينقص؛ لأنه لو قبل الزيادة لقبل النقصان، وإذا قبل النقصان كان شكاً، ويقولون: إن الإيمان هو التصديق، فلو قبل النقصان لكان شكاً، ومن شك في الله كفر، وهذا القول مردود؛ لأننا نتكلم عن زيادة الإيمان ونقصانه غير المتعلق بأولى المنازل التي هي التصديق، ومعلوم أن الإيمان منازل ومراتب، فأول منزلة فيه التصديق، ثم بعد ذلك يزيد مراتب متعددة على حسب الطاعات والأعمال الصالحة وأعمال البر، والإيمان بهذا يقبل الزيادة والنقصان. وهم عندما يقولون: إن الإيمان إذا قبل النقص صار شكاً، إنما يتكلمون عن أصل الإيمان وهو التصديق بالله عز وجل وبفرائض الإيمان، ونحن إن وافقناهم على أن أصل الإيمان والمرتبة الأولى هي التصديق إلا أنا نقول: إنها تزيد وتنقص، ونقصان التصديق لا يلزم منه وقوع الشك؛ لأن التصديق نفسه مراتب، ولا يلزم من نزول الشخص من مرتبة إلى مرتبة في داخل المنزلة الأولى من منازل الإيمان -وهي التصديق- أن يكون شاكاً في الله عز وجل، ولو قلنا: إن نقصان التصديق يستلزم الشك لقلنا: إن إبراهيم كان شاكاً في الله عز وجل، وهذا محال. فالرد عليهم: أن الإيمان يزيد وينقص، حتى وإن كانت هذه الزيادة والنقصان في أصل الإيمان والمنزلة الأولى منه، وهي التصديق، وذلك لا يستلزم شكاً؛ لأن هذه المنزلة الأولى على مراتب أيضاً عند أهل السنة والجماعة، فليس إيمان النبيين كإيمان الصديقين، ولا كإيمان الشهداء، فكل له مرتبة ومنزلة. قال: (قال المحققون من أصحابنا المتكلمين -أي: الشافعية- نفس التصديق لا يزيد ولا ينقص -وعندنا أن نفس التصديق يزيد وينقص- والإيمان الشرعي يزيد وينقص -فهو يتكلم هنا عن الإيمان الشرعي باعتبار العمل يزيد وينقص- بزيادة ثمراته -أي: بزيادة أعمال الطاعات والبر ونقصانها- قالوا: وفى هذا توفيق بين ظواهر النصوص التي جاءت بالزيادة وأقاويل السلف، وبين أصل وضعه في اللغة وما عليه المتكلمون، وهذا الذي قاله هؤلاء وإن كان ظاهره حسناً إلا أن الأظهر والله تعالى أعلم أن نفس التصديق -والكلام للإمام النووي - يزيد بكثرة النظر وتظاهر الأدلة -أي: يزيد بكثرة النظر والتفكر في آلاء الله عز وجل، وتظاهر الأدلة- ولهذا يكون إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم؛ بحيث لا تعتريهم الشبه). ولو جلست مع رجل من أهل البدع وألقى عليك شبهة فإنك ستتزعزع، مع أن عندك شيئاً من أصل التصديق، فالتصديق نفسه يزيد وينقص. قال: (ولا يتزلزل إيمانهم بعارض، بل لا تزال قلوبهم منشرحة نيرة، وإن اختلفت عليهم الأحوال. وأما غيرهم من المؤلفة ومن قاربهم ونحوهم فليسوا كذلك -وإن كان مسمى الإيمان يشمل الجميع- فهذا مما لا يمكن إنكاره، ولا يتشكك عاقل في أن نفس تصديق أبي بكر الصديق رضي الله عنه لا يساويه تصديق آحاد الناس، ولهذا قال البخاري في صحيحه: قال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل).

إطلاق الإيمان على الأعمال عند أهل السنة

إطلاق الإيمان على الأعمال عند أهل السنة قال: (وأما إطلاق اسم الإيمان على الأعمال فمتفق عليه عند أهل الحق)، يعني: أهل السنة والجماعة يطلقون على الأعمال الإيمان، ويطلقون على الإيمان الأعمال، فالأعمال هي حقيقة الإيمان، وهي ثمرة من ثمراته. قال: (ودلائله في الكتاب والسنة أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تشهر، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143]). وإجماع المفسرين على أن هذه الآية نزلت لما وجل الصحابة من تغيير القبلة، فخافوا على صلاتهم السابقة هل قبلت أم لا؟ فأنزل الله عز وجل لما سألوا نبيه عن ذلك، قال: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ))، أي: صلاتكم السابقة محسوبة لكم عند الله تعالى يجازيكم بها خيراً، فسمى هنا العمل إيماناً. فالصلاة عمل، وقد سماها الله تعالى إيماناً؛ لأنها من لوازم الإيمان الباطن، وبين الإسلام والإيمان علاقة وثيقة جداً، فإذا ذكر أحدهما دل على الآخر، وإذا افترقا افترقا في المدلول. وقد عرف النبي صلى الله عليه وسلم تارة الإيمان بالإسلام، وعرف الإسلام بالإيمان، وكذلك ورد في غير ما آية من كتاب الله عز وجل تعريف الإيمان بالإسلام، وتعريف الإسلام بالإيمان، كما أن الله تعالى أثبت أن الأعمال هي الإيمان أو من ثمرات الإيمان، كما قال: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ))، أي: صلاتكم وأعمالكم. قال: (وأما الأحاديث فستمر بك في هذا الكتاب كثيرة).

صفة المؤمن الذي يحكم له بأنه من أهل القبلة ولا يخلد في النار

صفة المؤمن الذي يحكم له بأنه من أهل القبلة ولا يخلد في النار قال: (واتفق أهل السنة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين على أن المؤمن الذي يحكم بأنه من أهل القبلة ولا يخلد في النار لا يكون إلا من اعتقد بقلبه دين الإسلام اعتقاداً جازماً خالياً من الشكوك)؛ لأن من شك كفر، فمن شك في وجود الله عز وجل يكفر، ومن شك في أن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم يكفر كذلك، فالمؤمن الذي يدخل الجنة ولا يخلد في النار الذي آمن بجميع فرائض الإيمان والإسلام من غير شك. قال: (ونطق بالشهادتين).

حكم إسلام من نطق بإحدى الشهادتين دون الأخرى

حكم إسلام من نطق بإحدى الشهادتين دون الأخرى قال: (فإذا اقتصر على إحداهما). أي: لو قال: أشهد أن لا إله إلا الله، ولم يقل: أشهد أن محمداً رسول الله، هل يحكم له بالإسلام أو لا يحكم له؟ اختلف الفقهاء في ذلك. قال: (فإن اقتصر على إحداهما لم يكن من أهل القبلة أصلاً)، يعني: لو قال: أشهد أن لا إله إلا الله، ولم يقل: وأشهد أن محمداً رسول الله لم يكن من أهل القبلة من الأصل، أي: لا يدخل بهذا في الإسلام. قال: (إلا إذا عجز عن النطق لخلل في لسانه، أو لعدم التمكن منه لمعاجلة المنية). يعني: لو قال: أشهد أن لا إله إلا الله ثم مات، فهذا يحكم له بالإسلام، أو على الأقل نتوقف فيه، والراجح أنه يحكم له بالإسلام، ولو قال رجل: أشهد أن لا إله إلا الله فأصابه الخرس بعد أن نطق بها، ولم يستطع أن ينطق بالشهادة الثانية حكمنا له بالإسلام في الظاهر وأمره إلى الله، وإن لم يعترضه عارض وعلة تمنعه من النطق بالشهادتين حكم عليه بالكفر.

حكم اشتراط التلفظ بالبراءة مما خالف دين الإسلام لمن دخل في الإسلام

حكم اشتراط التلفظ بالبراءة مما خالف دين الإسلام لمن دخل في الإسلام قال: (أما إذا أتى بالشهادتين فلا يشترط معهما أن يقول: وأنا بريء من كل دين خالف الإسلام)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في غير ما حديث قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله)، ولم يقل: وأن يتبرءوا من الكفر، وإنما سكت عن هذا. قال: (إلا إذا كان من الكفار الذين يعتقدون اختصاص رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى العرب خاصة). فإذا كان يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أرسل إلى العرب على جهة الخصوص كما كان كل نبي من قبل يرسل إلى قومه فقط وجب عليه أن يقول: وأنا بريء من كل دين يخالف دين الإسلام. هذا رأي. والراجح لمطلق النصوص وظاهرها أنه يكفيه للحكم عليه بالإسلام أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. قال: (وأما إذا اقتصر على قوله: لا إله إلا الله، ولم يقل: محمد رسول الله، فالمشهور من مذهبنا ومذاهب العلماء أنه لا يكون مسلماً، ومن أصحابنا من قال: يكون مسلماً ويطالب بالشهادة الأخرى، فإن أبى جعل مرتداً، ويحتج لهذا القول بقوله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا اله إلا الله، فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم))، أي: باعتبار أن هذا الحديث لم يذكر الشهادة الثانية، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم اكتفى بإحدى الشهادتين عن ذكر الأخرى؛ لأنها من لوازمها، فليس في هذا حجة، ولا يثبت إيمان المرء إلا بالإتيان بالشهادتين على السواء.

حكم إسلام من أتى بالعمل دون النطق بالشهادتين أو العكس

حكم إسلام من أتى بالعمل دون النطق بالشهادتين أو العكس قال: (أما إذا أقر بوجوب الصلاة أو الصوم أو غيرهما من أركان الإسلام وهو على خلاف ملته التي كان عليها، فهل يجعل بذلك مسلماً؟)، يعني: لو قال شخص: إن الله عز وجل قد افترض الصلاة، وأنا موقن بذلك، هل يثبت له الإسلام بهذا؟ لا يثبت له الإسلام إلا إذا أتى بالشهادة، ولو أتى بجميع فرائض الإسلام بدون الشهادتين فلا يحكم له بالإسلام. وإن أتى بالشهادتين وترك العمل فقد اختلف أهل العلم في تكفيره بترك الأعمال أو عدم تكفيره.

الاستثناء في الإيمان والتكفير

الاستثناء في الإيمان والتكفير قال: (واختلف العلماء من السلف وغيرهم في إطلاق الإنسان قوله: أنا مؤمن، أو قوله: أنا مؤمن إن شاء الله). وهذه المسألة تعرف بمسألة الاستثناء في الإيمان، وقد قال الله عز وجل: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32]. فيجوز للمرء أن يقول: أنا مؤمن إذا كان يقصد مطلق الإيمان، وهو التصديق، ولا يجوز له أن يقول: أنا مؤمن إذا كان القصد منه الإيمان المطلق؛ لأنه في هذه الحالة يزكي نفسه، أو أنه يجوز ذلك من باب الإخبار، فيجوز أن يخبر عن نفسه وعن حقيقة قلبه بأنه يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره؛ لأن من لم يكن كذلك فليس من المؤمنين. وأما الاستثناء فباعتبار الخاتمة والعاقبة، يعني: باعتبار أنه لا يعلم ما سيختم له به، فالاستثناء هنا جائز، ولا يجوز الاستثناء في الإيمان إلا بهذا الاعتبار، أي: باعتبار الخاتمة والعاقبة؛ لأنه لا يدري ما يختم له به. قال: (وأما الكافر ففيه خلاف غريب لأصحابنا، منهم من قال: يقال: هو كافر، ولا يقال: إن شاء الله، ومنهم من قال: هو في التقييد كالمسلم على ما تقدم، فيقال على قول التقييد: هو كافر إن شاء الله؛ نظراً إلى الخاتمة وأنها مجهولة. وهذا القول اختاره بعض المحققين). والمذهب الراجح أن الكافر لا يستثنى فيه، فالكافر يقال: إنه كافر، حتى وإن أسلم بينه وبين نفسه إن لم يظهر هذا الإسلام، فيجوز للمسلمين أن يطلقوا عليه لفظ الكفر، مادام قد أخفى إيمانه، وأخفى الأعمال التي تدل على إسلامه أو إيمانه. ويجوز للمسلم أن يطلق عليه لفظ الكفر ولا يستثني في ذلك، فيكون كافراً عند الناس، ويكون عند الله تعالى مؤمناً. وهذه الشبهة دخلت على بعض المحققين من الاستثناء في إطلاق الكفر، أي: هل نقول للكافر في الظاهر: أنت كافر، أو نقول له: أنت كافر إن شاء الله؟ فقالوا: نحن لا ندري ما حقيقة أمره بينه وبين الله، ولا ما الخاتمة التي يختم له بها، ولذلك اختار بعض المحققين أن يقال: هو كافر إن شاء الله، وهذا قول مرجوح، والراجح أن الكافر إذا لم يعلن إسلامه وإيمانه أنه يقال فيه: كافر دون استثناء، وأما عاقبته فبينه وبين الله عز وجل.

مذهب أهل السنة في التكفير بالذنب

مذهب أهل السنة في التكفير بالذنب قال: (واعلم أن مذهب أهل الحق أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب). وقد أطلق المسألة هنا؛ لأن الذنوب منها ما يكفر به صحابه، فلو سب رجل مسلم الله عز وجل، أو استهزأ بالرسول فإنه يكفر بهذا. فينبغي تقييد هذا الذنب، فنقول: أهل الحق وأهل السنة لا يكفرون أحداً من أهل القبلة بذنب إلا ذنباً يخرج من الملة. قال: (ولا يكفر أهل الأهواء والبدع -أي: أهل السنة لا يكفرون أهل الأهواء والبدع إلا ببدعة يكفرون بها- وأن من جحد ما يعلم من دين الإسلام بالضرورة حكم بردته وكفره، إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام أو نشأ ببادية بعيدة ونحوه ممن يخفى عليه فيعرف ذلك). يعني: لو جاء أعرابي من البادية لا يعرف أي شيء عن فرائض الإسلام، حتى الصلاة فيعرف بذلك، وهذه المسألة ليست بعيدة، وهناك أناس في جنوب أفريقيا إلى الآن لا يعرفون أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل ولا أن اسمه محمد، وقد حدثني أحدهم في مكة العام الماضي أنه مصري، ولقي رجلاً من مصر دعاه إلى التوحيد وإلى الإيمان وإلى الإسلام، قال: وهذه أول مرة أسمع أن هناك نبياً أو رسولاً اسمه محمد، فإذا أسلم هذا الرجل فلا شك أنه لا يعرف في أول الأمر أركان الإيمان والإسلام، وشرائع الإيمان والإسلام، فمثل هذا الرجل لابد وأن يعلم أولاً، ولا يبادر بتكفيره، ولا بتفسيقه، فإن تعلم ما هو معلوم من الدين بالضرورة، ثم أنكر بعد قيام الحجة الرسالية عليه فإنه يكون مرتداً كافراً خارجاً عن ملة الإسلام. قال: (فإن استمر حكم بكفره، وكذا حكم من استحل الزنا)؛ لأنه لا يخفى على مسلم أن الزنا حرام، وهذا معلوم من دين الله بالضرورة، فمن استحل ما حرم الله فهو كافر بعد أن يعلم، ومن حرم ما أحل الله فهو أيضاً كافر إذا كان هذا أمراً معلوماً بالضرورة، فالذي يحرم ما أحل الله، أو يحرم ما أحل الله خارج عن دائرة الإسلام إذا كان أمراً معلوماً بيناً عنده. قال: (فهذه جمل من المسائل المتعلقة بالإيمان قدمتها في صدر الكتاب تمهيداً لكونها مما يكثر الاحتياج إليه، ولكثرة تكرارها وتردادها في الأحاديث، فقدمتها لأحيل عليها إذا مررت بما يخرج عليها. والله أعلم بالصواب). فأهل السنة لا يكفرون أحداً من أهل القبلة بذنب إلا ذنباً يكفر به، معنى ذلك: فالزاني لا يكفر عندهم، ولا يلزم من حديث: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، أن يكون كافراً، بل إنه يكون في لحظة هذا الفعل وارتكاب هذا الإثم على إسلامه وعلى أصل التصديق، وينفى عنه زيادة الإيمان وكماله وتمامه. فأهل السنة لا يكفرون أحداً بذنب من أهل القبلة، وإنما يثبتون له الإسلام وأصل الإيمان، ولا يكفرون إلا من استحل ما حرم الله، أو حرم ما أحل الله بعد قيام الحجة عليه.

مذهب أهل السنة في مرتكب الكبيرة

مذهب أهل السنة في مرتكب الكبيرة وأهل السنة والجماعة يقولون: من ارتكب كبيرة من الكبائر فأقيم عليه الحد فإن الله لا يحاسبه على هذه الكبيرة، فمن سرق وأقيم عليه حد السرقة وقطعت يده لا يحاسبه الله تعالى؛ لأن الحدود كفارات لأهلها، وإذا لم يقم عليه الحد وتاب تاب الله عليه، كما قال تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70]. فمن تاب إلى الله تاب الله عليه، وهذا وعد الله، ووعد الله لا يتخلف، والله تعالى إن شاء أنفذ وعيده وإن شاء عفا عنه. وهذا معتقد أهل السنة والجماعة في الوعد والوعيد. وأما إذا لم يقم عليه الحد، ولم يتب من هذا الذنب، وكان مصراً عليه ومات على هذا الإصرار، وهو يعلم أنه مذنب فهو هنا تحت مشيئة الله.

كتاب الإيمان - ركن الإيمان بالله عز وجل

شرح صحيح مسلم - كتاب الإيمان - ركن الإيمان بالله عز وجل وجود الله عز وجل تشهد به العقول والفطر المستقيمة، كما يشهد به الحس أيضاً، وقد جاء الشرع بذلك. والإيمان بالله عز وجل له أركان وشروط لا يكون العبد مؤمناً إلا بتحقيقها واستيفائها، ومن لم يحققها لم يكن مؤمناً بالله عز وجل.

ما يستلزمه الإيمان بالله

ما يستلزمه الإيمان بالله إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله هي الركن الركين والأصل الأصيل في أركان الإسلام. فقد قال لما سئل: (ما الإسلام؟ قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله)، ثم عدد بعد ذلك فرائض الإسلام، فقال: (وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً). وسنؤخر الكلام عن بقية الشرائع؛ لأنه سيأتي لها كلام مستفيض من خلال تعرضنا لشرح الفقه من صحيح مسلم، فهناك أبواب خاصة بالصلاة، وأخرى بالزكاة، وأخرى بالصوم والحج كذلك. ثم سأل جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، فقال: (ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وأن تؤمن بالقدر خيره وشره)،. وسنتعرض هنا لأول ركن من أركان الإيمان، وهو الإيمان بالله عز وجل، وأركان الإيمان -كما هو معروف- ستة: الإيمان بالله، والإيمان بالملائكة، والإيمان بالكتب، والإيمان بالرسل، والإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره. والإيمان بالله يستلزم أمرين: الأمر الأول: الإيمان بوجود الله عز وجل. والأمر الثاني: الإيمان بتوحيد الله عز وجل. ولابد من هذين الركنين حتى يستقيم الإيمان بالله عز وجل، فلابد من الإيمان بوجود الله تعالى، ثم توحيده عز وجل، فهذان ركنان ركينان لابد منهما، ولا يستقيم إيمان العبد بواحد منهما دون الآخر، فمن آمن بوجود الله عز وجل ولم يوحده فليس بمؤمن، ومن وحد الله عز وجل ولم يكن مؤمناً بوجوده عز وجل فلا شك أنه يجري خلف سراب، وقد ركب مركباً صعباً، إذ كيف يوحد عدماً أو سراباً؟! فلا يستقيم توحيد العبد لله عز وجل إن لم يكن مؤمناً بوجود الله عز وجل. وأما الركن الثاني فهو توحيد الله عز وجل، وهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية، وتوحيد الإلوهية أو الإلهية، وتوحيد الأسماء والصفات. فمن لم يؤمن بوجود الله عز وجل فليس بمؤمن، ومن آمن بوجود الله ولم يؤمن بانفراده بالربوبية فليس بمؤمن كذلك، ومن آمن بالله وأنه منفرد عز وجل بالربوبية ولكنه لم يؤمن بألوهية الله عز وجل فليس بمؤمن كذلك. وتوحيد الألوهية هو الذي أرسل الله عز وجل من أجله الرسل وأنزل عليهم الكتب؛ حتى يقام توحيد الله عز وجل، وتوحيد الإلهية يسمى كذلك توحيد العبادة، ومن آمن بالله وانفراده بالربوبية والألوهية ولم يؤمن بأسمائه وصفاته فليس بمؤمن.

الأدلة على وجود الله تعالى

الأدلة على وجود الله تعالى السؤال عن وجود الله عز وجل لا يصدر من أهل التوحيد والإيمان، ولكنه قد يصدر من أهل الشرك والكفران والجحود، أو من المنافقين الشاكين المرتابين، أو من جهال المسلمين كذلك، وهذا ليس على سبيل إنكار وجود الله عز وجل، ولكن ربما يكون هذا السؤال مفاده معرفة الله عز وجل بالأدلة القطعية. ولو كان هذا السؤال صادراً من أهل الشرك والكفران والجحود والنفاق فإننا نقول لهم: معرفة وجود الله عز وجل ثابتة بالعقل والحس والفطرة والشرع. ولم نقدم هذه الثلاثة على الشرع لأن الشرع يستحق التأخير، بل الشرع مقدم على كل شيء، ولكن قدمناها على الشرع لأننا نرد على إنسان لم يؤمن بالله عز وجل، ومن الصعب أن نحاجه بآيات الله عز وجل وبأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، فينبغي أن نخاطب عقله وحسه وفطرته، ثم بعد ذلك نقول له: إن الذي ثبت عندك من خلال العقل والحس والفطرة قد ورد به الشرع، ثم نسرد له بعد ذلك الأدلة على وجود الله عز وجل.

أولا: دلالة العقل على وجود الله تعالى

أولاً: دلالة العقل على وجود الله تعالى فأما دلالة العقل على وجود الله عز وجل فنقول: هل هذه الكائنات الموجودة وجدت بنفسها وبذاتها، أو وجدت هكذا صدفة؟ وهذا سؤال يطرح على أصحاب العقول؟ فإن قال ذلك المسئول: وجدت بنفسها؟ ف A أن ذلك مستحيل عقلاً مادامت معدومة، وإذا كانت هي في أصلها معدومة فكيف وجدت؟ وكيف تكون موجودة وهي معدومة؟ فالمعدوم ليس بشيء حتى يوجد، فضلاً عن أنه يوجد غيره. وإن قال: وجدت صدفة فنقول: أيضاً هذا يستحيل، ثم نسأل هذا الجاحد: هل ما أنتج من الطائرات والصواريخ والسيارات والآلات وأنواعها من زخارف الدنيا وجدت بنفسها أو وجدت هكذا مصادفة؟ فلا شك أنه سيقول: إن لها صانعاً، فيقال له: لا يمكن أن يكون غير ذلك، وكذلك هذه الجبال والشمس والقمر والنجوم والشجر والرمال والبحار وغير ذلك لا يمكن أن توجد هكذا صدفة أو أن توجد نفسها. وقد قيل: إن طائفة من أهل الهند أتوا إلى أبي حنيفة رحمه الله -وكان أبو حنيفة رحمه الله من أذكياء العالم في ذلك الزمان- يسألونه عن وجود الله عز وجل، وقد كانوا جاحدين ومنكرين لوجود الله، وأصل الشرك ظهر في الهند، وسيطر الشيطان من أول أمره على بلاد الهند في عبادة غير الله عز وجل، فقال أبو حنيفة: ائتوني بعد يوم أو يومين، فلما جاءوه قالوا: ماذا قلت، أو ماذا فعلت؟ قال أبو حنيفة: أنا أفكر في سفينة مملوءة بالبضائع والأرزاق جاءت تشق عباب الماء حتى أرست في الميناء وأنزلت الحمولة ثم ذهبت وليس فيها قائد ولا حمالون، فقالوا له: أتفكر في هذا وأنت إمام المسلمين؟ قال: نعم، قالوا: إذاً: ليس لك عقل، فهل يعقل أن سفينة تأتي بدون قائد وتنزل وتنصرف بدون قائد ولا حمال، فهذا ليس بمعقول، فقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: كيف لا تعقلون هذا وتعقلون أن هذه السماوات والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب والناس كلها بدون صانع ومدبر وخالق لها؟! فعرفوا أن الرجل خاطبهم بعقولهم وعجزوا عن جوابه. والجاحد لآيات الله عز وجل ولوجوده لابد أن يخاطب بما يفهمه، أو بما تفنن فيه وتخصص فيه، ولذلك العرب الذين كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم تحداهم القرآن أن يأتوا بمثل القرآن أو بعشر سور، أو حتى بسورة واحدة، وقد كانوا أهل بلاغة وفصاحة، وحتى الذي كان منهم يفتري على الله عز وجل الكذب، ويأتي بآيات من عنده مفتراة ومكذوبة كان أصحابه يعلمون أنه يكذب، ويعلمون أن كلامه كلام بشر، وليس كلام الله عز وجل. وقيل لأعرابي من البادية: بم عرفت ربك؟ فقال: الأثر يدل على المسير. وقد كان العرب ينظرون في الصحراء إلى أثر الأقدام، ويعرفون المار من خلال آثار الأقدام، وقد بلغوا في هذا مبلغاً عظيماً، فقد كانوا يقولون: صاحب هذا القدم هو ابن لصاحب هذا القدم. قال الأعرابي: الأثر يدل على المسير، والبعر يدل على البعير -أي: أن البعرة على الأرض إنما هي نتاج طعام وشراب لبعير كان هناك- فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ألا تدل على السميع البصير؟ ولهذا قال الله عز وجل ذاماً وموبخاً للمكذبين الضالين: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35]. ومعنى الآية: هل خلقوا صدفة؟ أم هم الذين أوجدوا أنفسهم؟ وهذا الكلام خرج مخرج التوبيخ والتقريع لهؤلاء المكذبين الضالين. فدلالة العقل دلالة قطعية على وجود الله عز وجل.

ثانيا: دلالة الحس على وجود الله عز وجل

ثانياً: دلالة الحس على وجود الله عز وجل وأما دلالة الحس على وجود الله عز وجل فإن الإنسان يدعو الله عز وجل ويقول: يا رب! ويدعو بشيء ويستجاب له في هذا الشيء الذي دعا ربه به. وهذه دلالة حسية يراها الإنسان بعيني رأسه، ويرى إجابة الله تعالى لسؤاله ودعائه، فهو لم يدع إلا الله وقد استجاب الله له، وقد رأى ذلك رأي العين، وكذلك نسمع عمن مضى وعمن هو موجود ممن دعا واستجاب الله تعالى لدعائه وآتاه سؤاله، وقد صنف الحافظ ابن أبي الدنيا كتاباً بعنوان: مجابو الدعوة، وكثير من الصحابة رضي الله عنهم كانوا مجابي الدعوة، وكذلك الأنبياء كلهم بلا استثناء كانوا مجابي الدعوة. وقد دخل أعرابي والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب الناس يوم الجمعة فقال: هلكت الأموال يا رسول الله! وانقطعت السبل، وهلك الضرع والزرع -فشكا هذا الأعرابي القحط والجدب بسبب ارتفاع المطر وعدم نزوله، حتى كادت المدينة أن تهلك- فادع الله عز وجل أن يغيثنا بالمطر، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه إلى السماء ودعا الله عز وجل، يقول أنس: ووالله ما في السماء من سحاب ولا قزعة -أي: ولا قطعة سحاب ولا علامة سحاب- وما بيننا وبين سلع -وهو جبل في المدينة، تأتي من قبله السحب- من بيت ولا دار، أي: أننا لا يحجبنا عن المكان الذي يأتي منه السحاب بيت ولا دار، فكنا نرى السماء صافية تماماً، ولكن لما دعا النبي عليه الصلاة والسلام بهذه الأدعية نزل المطر ولم يكف مدة أسبوع كامل، فدخل ذلك الأعرابي في الجمعة المقبلة، وقال: يا رسول الله! هلك الزرع والضرع، أي: بسبب كثرة مياه الأمطار وغزارتها، فادع الله لنا. وهذا يدل على أن الله تعالى استجاب دعاء نبيه في الجمعة الأولى وفي الجمعة الثانية، وهذه دلالة حسية على وجود الله عز وجل، وهذا أمر واقع وموجود، وهو يدل على وجود الخالق دلالة حسية. وقال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]. وقال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186]. والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (دعاء المسلم بين ثلاث)، وفي رواية قال: (ما لأحدكم يدع الدعاء، يقول: دعوت ربي فلم يستجب لي؟ ودعاء المسلم بين ثلاث: إما أن يعجل الله تعالى له سؤاله في الدنيا -أي: بمجرد أن تسأل الله عز وجل يؤتيك سؤالك، ولعل هذا يكون أهونها، وأقلها فائدة لك- وإما أن يدفع عنه من البلاء مثله وأعظم، وإما أن يدخرها له في الآخرة فيكافئه الله بها)، وفي القرآن الكريم قال الله تعالى على لسان أيوب: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ} [الأنبياء:83]، أي: إذ دعا ربه {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83]. ونحن نعلم ما نزل بأيوب عليه السلام من البلاء والضر في بدنه وفي ماله وفي أهله وفي امرأته كذلك، حتى قيل: إن لحمه تساقط، ولم يبق في بدنه إلا العصب والعظم والقلب يسبح الله تعالى به، وتناثر لحمه، وخرجت رائحته، حتى كان لا يكاد أحد يجرؤ على أن يقترب منه من نتن هذه الرائحة، ولم يكن يقترب منه في ذلك الوقت إلا امرأته، وظل هذا البلاء بأيوب عليه السلام ثمانية عشر عاماً، وكان إخوانه وأصدقاؤه وأصحابه يقولون له: إن هذا البلاء ما نزل بك إلا بذنب، ورجوه في أول الأمر أن يدعو الله عز وجل أن يرفع عنه البلاء، فرفض في أول الأمر، ثم لما كانت فتنة عظيمة دعا ربه وقال: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83]. فالله عز وجل قال: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ} [الأنبياء:84]. وقد قيل: إن امرأته احتاجت إلى أن تعمل خادمة في البيوت حتى تعيل نفسها وتعيل أيوب عليه السلام، وكثرت الروايات في هذا، ومنها ما هو غريب، ومنها ما هو من الإسرائيليات وغيرها. ولم يثبت أن نبياً من الأنبياء أكل من تكفف الناس أو سؤالهم، فامرأة أيوب كانت تعمل عند الناس مقابل أجر، ولم تكن تتكفف الناس حتى يعيلوا أيوب، وإنما كانت تعمل وتأخذ أجرها فتنفق منه على أيوب عليه السلام في مرضه، قال تعالى: ((فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ)). فلما رجعت امرأته ذات يوم وجدت أيوب عليه السلام في أحسن صورة وأكمل هيئة، فتوارت عنه ولم تعرفه، حتى قال لها: أنا أيوب، قالت: سبحان الله! واستنكرت، فأخبرها أنه دعا ربه أن يرفع عنه الضر، فرفع عنه الضر، وأبدله صحة وعافية، وأرجع إليه أهله وماله وأولاده، {فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء:84]. وهذه دلالة أيضاً حسية على وجود الله عز وجل، وليس هو موجوداً من باب أنه اسم مفعول بمعنى مخلوق، فهذا كفر، وإنما موجود بمعنى واجد، فهو اسم مفعول على وزن فاعل.

ثالثا: دلالة الفطرة على وجود الله عز وجل

ثالثاً: دلالة الفطرة على وجود الله عز وجل والدلالة الثالثة على وجود الله عز وجل دلالة الفطرة، وكثير من الناس الذين لم تنحرف فطرهم يؤمنون بوجود الله عز وجل، حتى البهائم العجماوات تؤمن بوجود الله عز وجل. وروي عن أبي الصديق الناجي في قصة سليمان: أنه خرج بقومه يستسقون، فوجد نملة نائمة على ظهرها أو مستلقية رافعة يديها أو رجليها إلى السماء تستسقي الله عز وجل، فقال سليمان لقومه: ارجعوا فقد سقيتم بدعاء النملة. وهذه الرواية منقطعة بين أبي الصديق وسليمان عليه السلام، ولا تعرف هذه الرواية من قول النبي عليه السلام، ولا من قول أحد من أصحابه، وربما كانت من الإسرائيليات، وللإمام ابن القيم الجوزية عليه رحمة الله كلام كثير حول هذه الرواية في كتابه: اجتماع الجيوش الإسلامية. والفطرة مجبولة على معرفة الله عز وجل، ولا أدل على ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة -وفي رواية: إلا يولد على فطرة الإسلام- فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه). فهذا الحديث يدل على أن الجبلة والفطرة الأولى التي خلق الله تعالى عليها الخلق أولاً هي فطرة التوحيد وفطرة الإسلام، ثم يأتي اللوث والنجس والوسخ بعد ذلك بسبب الآباء والمجتمعات، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، أي: يجعلانه يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً. وهذا الحديث يبين أن اليهودية والنصرانية والمجوسية من الكفر، وأن الإنسان إذا لم يكن مسلماً فلا بد وأن يكون كافراً. وقد أشار الله عز وجل إلى دلالة الفطرة في قلب ابن آدم، فقال الله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172]. وهذه آية الميثاق التي أخذها الله عز وجل على ذرية آدم، فالله عز وجل أخرج هذه الذرية من ظهر آدم وصلبه وأشهدهم على أنه تعالى هو ربهم وإلههم، فشهدوا بذلك وأقروا به، فقال الله عز وجل: {قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف:172]، أي: فلو قلتم هذا فلن يقبل منكم هذا العذر {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} [الأعراف:173]. وهذا أيضاً عذر أقبح من ذنب، وهو غير مقبول ومردود عليكم، فمن أحسن فلنفسه ومن أساء فعليها. فالذي يأتي بإحسان وبإسلام إلى الله عز وجل يتقبل الله تعالى منه ويجازيه جزاء المحسنين، ومن أتى بكفر وشرك وضلال فإن الله تعالى يعاقبه في الأولى والآخرة.

رابعا: دلالة الشرع على وجود الله عز وجل

رابعاً: دلالة الشرع على وجود الله عز وجل وأما دلالة الشرع فهو ما جاءت به الرسل من شرائع الله عز وجل المتضمنة لجميع ما يصلح الخلق، وهذا يدل على أن الذي أرسلهم بها رب رحيم كريم عليم، ولاسيما هذا القرآن المجيد الذي أعجز الإنس والجن عن أن يأتوا بمثله.

أنواع التوحيد

أنواع التوحيد والأمر الثاني اللازم للإيمان بالله عز وجل هو توحيد الله عز وجل، وهو ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات.

أولا: توحيد الربوبية

أولاً: توحيد الربوبية فأما توحيد الربوبية فلم يكن محل إنكار عند المشركين أولاً، فقد كانوا يعلمون أن الله تعالى هو رب الأرباب، وهو الخالق الرازق المدبر لأمر خلقه وشئون كونه، ولكن اللوث دخل بعد ذلك. ومعنى توحيد الربوبية: إفراد الله عز وجل بالخلق والأمر والملك، والأمر بمعنى التدبير، أي: تدبير الكون والخلائق. فحتى تكون مؤمناً لا بد أن توقن بأن الله تعالى رب دون ما سواه، وأنه تعالى متفرد بالخلق، ولا خالق غيره، ومتفرد بالتدبير فلا مدبر غيره، ومتفرد بالملك فلا مالك على الحقيقة غيره، ودليل ذلك قول الله تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]. ووجه الدلالة من هذه الآية أنه لما قدم الجار والمجرور أفاد أن الخلق والأمر متفرد بهما الله عز وجل لا يشاركه فيهما غيره، ولو قلنا: الخلق والأمر لله لجاز أن نقول: لله ولغير الله، فتقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر، بمعنى: أنه لا يصرف شيء من هذا إلى غيره، وألا أداة تنبيه، فالله عز وجل يستجمع القلوب والحواس وينبههم إلى خطورة هذا الأمر، ثم قال: ((لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ))، فقدم له، والأصل أنه كان في الآخر، أي: الخلق والأمر له، فلما قدم هذا الجار والمجرور على أصل الجملة دل ذلك على أن الخلق والأمر منحصر لله تعالى، وهو المتفرد بهما، ولا يجوز لأحد أن يدعي الخلق أو يدعي الأمر. وأما الملك فدليله قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران:189]. ونقول في وجه الدلالة من هذه الآية ما قلناه في قول الله عز وجل: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]. أي: كان الأصل أن يقول: ملك السماوات والأرض لله، ولكنه قدم ما كان حقه التأخير فأفاد الحصر، أي: أن ملك السماوات والأرض لله وحده لا شريك له. إذاً: فالرب عز وجل منفرد بالخلق والملك والتدبير.

شبهة حول النصوص التي أثبتت خلقا لغير الله والرد عليها

شبهة حول النصوص التي أثبتت خلقاً لغير الله والرد عليها فإن قال قائل: كيف تجمع بين ما قررت وبين إثبات الخلق لغير الله؟ يعني: أن هناك من خلق الله عز وجل من أثبت الله تعالى له الخلق أو أثبت الرسول صلى الله عليه وسلم له الخلق، وقد ثبت هذا في قول الله عز وجل: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14]. وكلمة أحسن تفيد بظاهرها أن هناك خالق، ولكنه ليس بأحسن خلقاً من الله عز وجل، وإنما الله عز وجل أحسن الخالقين على الإطلاق، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في المصورين: (يقال لهم: أحيوا ما خلقتم)، وهذا كلام خرج على سبيل التقريع والتوبيخ للمصورين الذين ينحتون ويصورون الصور يضاهئون بها خلق الله عز وجل، ومثل قول الله تعالى في الحديث القدسي: (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي). و A أن يقال: إن الخلق في اللغة خلقان: خلق بمعنى الإيجاد والتكوين من العدم، وخلق بمعنى التحويل، والله عز وجل له الخلق المطلق، أي: الإيجاد والتكوين الأصلي، وأما الذي يطلق عليه خالق من دون الله عز وجل فإنما يطلق عليه ذلك مجازاً، فيقال للنجار الذي يصنع هذا الطاولة مثلاً: قد خلقها وصنعها وفطرها، وليس معنى ذلك أنه خلقها من عدم، فمادة هذه الطاولة هي من خلق الله عز وجل، ولو اجتمع أهل الأرض جميعاً على أن يصنعوا ويخلقوا هذا الخشب فلن يقدروا على ذلك؛ لأن هذا هو ما تفرد الله عز وجل به منذ الأزل. فالخلق نوعان: خلق بمعنى الإيجاد والتكوين والإحياء، وخلق بمعنى التحويل، فالنجار قام بتحويل هذا الخشب إلى دولاب أو طاولة أو كرسي أو غير ذلك من الأشياء التي ينتفع بها، فإذا قيل: إن النجار هو خالق ذلك الشيء الذي صنعه، فإنما ذلك من باب المجاز أو باعتبار التحويل الذي هو عليه في الواقع. وقد قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج:73]. فقوله: ((إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ)) (الذين) اسم موصول يشمل كل من دعي من دون الله عز وجل من ملائكة ومن أنبياء ورسل، ومن أولياء ومن شجر وحجر وشمس وغير ذلك، فكل من دعي من دون الله عز وجل يدخل تحت هذه الآية. فقول الله عز وجل: ((إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ)) كأنه تحد لهم، فلو كانوا يخلقون كخلق الله عز وجل فاجعلوهم وأمروهم أن يخلقوا ذبابة، والله عز وجل لما ضرب هذا المثال أراد به تعجيز من ادعى أنه يخلق كخلق الله عز وجل، فتحداهم أن يخلقوا أتفه وأصغر حشرة وهي الذباب، وإذا كانوا في حال اجتماعهم لا يقدرون على ذلك، فكيف بحال انفراد كل واحد منهم؟ ثم قال الله عز وجل: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ} [الحج:73]، أي: لو أن الذباب وقع على وجه ملك من ملوك الدنيا وأخذ منه شيئاً من طيبه أو من بدنه، فلن يستطيع ذلك الملك بجيوشه الجرارة أن يسترد من ذلك الذباب ما أخذه منه من طيب أو مسك أو غير ذلك. فانظر إلى تحدي الله عز وجل بأقل حشرة مما خلق الله عز وجل. ثم قال: {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73]. وهذه هي النتيجة، فالله تعالى هو الخالق المدبر لأمر الكون.

الجمع بين النصوص التي تثبت تفرد الله بالملك والنصوص التي تثبت ملكا وتدبيرا للمخلوق

الجمع بين النصوص التي تثبت تفرد الله بالملك والنصوص التي تثبت ملكاً وتدبيراً للمخلوق فإن قال قائل: كيف تجمع بين قولك: إن الله تعالى متفرد بالملك وبين إثبات الملك للمخلوقين، كما في قول الله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} [النور:61]، وقوله تعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون:6]؟ ف A أن الجمع بينهما من وجهين، الأول: أن ملك الإنسان للشيء ليس عاماً شاملاً، فلو أنك تملك كتابك فلا شك أنك لا تملك كتابي، فملك الإنسان قاصر عن ملك الله عز وجل؛ لأن ملك الله تعالى عام وشامل، وأما ملك الإنسان فمخصوص ببعض الأشياء، والخلائق وما يملكون ملك لله عز وجل. والثاني: أن ملك الإنسان للشيء ليس ملكاً حقيقياً، ولكنه ملك تصرف فقط، بدليل أنه لا يجوز له أن يتصرف فيما يملكه بدون شرع الله عز وجل، فإذا وهبه الله تعالى مالاً فليس حراً في إنفاق هذا المال فيما شاء، فليس حراً في أن يشرب به الخمر، ولا في إنفاقه في أي وجه إلا ما أمره الله عز وجل بإنفاقه فيه. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن علمه ماذا عمل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه). والبعض يقول: هذا بدني وأنا حر فيه، هذا عمري وأنا حر فيه، وهذا وقتي وأنا حر فيه، وهذا فهم قاصر، فهو ليس حراً في عمره ولا في شبابه ولا في بدنه، والمقصود بالشباب هنا البدن؛ لأنه قال: (وعن شبابه فيما أبلاه). وهذا يدل على أن البلى يقع على البدن، ولو كان الإنسان حراً في شبابه لجاز له قتل نفسه، أو التردي من جبل، أو شرب السم، ولكن من يفعل هذا فإنه يكون منتحراً قاتلاً لنفسه بغير حق، ولو أن الله تعالى وهب الشخص مالاً من حلال فأنفقه في حرام لحاسبه عليه. فملك الإنسان في الحقيقة ملك قاصر ومحدود، وأما من حيث إباحة التصرف فليس له مطلق التصرف إلا فيما أذن الله تعالى له فيه. وأما التدبير فللإنسان تدبير. والفرق بين تدبير الإنسان وتدبير الله عز وجل من وجهين كالوجهين المذكورين في الملك، فالإنسان لا يستطيع تدبير إلا ما كان تحت حيازته وملكه، ولا بد أن يكون تدبيره على وفق الشرع الذي أباح له هذا التدبير. وخلق الله تعالى وملكه وتدبيره عام مطلق لا يستثنى منه شيء. وهذا هو توحيد الربوبية.

أسباب نزول المرض بالعباد

أسباب نزول المرض بالعباد وقد ذكر هذا شيخ الإسلام ابن القيم، ومن قبله شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية عليهما رحمة الله تبارك وتعالى، فينزل المرض بالعبد الصالح حتى يرفع الله تعالى به درجاته، وينزل على العبد العاصي حتى يكفر الله تعالى عنه خطاياه، وينزل بالأنبياء لفوائد عديدة جداً، منها: حتى لا يبلغ بهم أتباعهم مبلغ الألوهية؛ لأن المرض صفة نقص تلحق الإنسان، والله تعالى لا يلحقه مرض ولا تعب ولا كلل ولا ملل؛ لأن هذه صفات نقص تلحق المخلوقين دون الخالق سبحانه وتعالى، فهو سبحانه وتعالى منزه عن كل صفات النقص. فالله عز وجل يبتلي الأنبياء حتى لا يبلغ بهم أتباعهم مبلغ الألوهية، كما بلغت النصارى بعيسى بن مريم عليه السلام، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل)، أي: ثم الأصلح فالأصلح، ولا يمنع هذا أن ينزل بلاء بأصحاب المعاصي، حتى يكفر الله عز وجل عنهم خطاياهم ومعاصيهم.

ثانيا: توحيد الألوهية

ثانياً: توحيد الألوهية القسم الثاني من أقسام التوحيد: توحيد الألوهية، وما من نبي أرسل في قومه إلا لأجل هذا التوحيد على جهة الخصوص، وكل العرب والمشركين والصابئة وغيرهم الذين كانوا في عهد إبراهيم ومن قبل إبراهيم عليه السلام كانوا يقرون بوجود الله عز وجل وأنه رب الأرباب، وأنه الخالق الرازق المدبر المحيي المميت، وغير ذلك من صفات الربوبية، ولكنهم كانوا يعبدون غيره، ومنهم من قال: إنه إله، وهو في السماء، ولا ينبغي أن ندخل عليه هكذا، وإذا كنا لا ندخل على الملوك دخولاً مباشراً فمن باب أولى -وهنا حكموا القياس والعقول- ألا ندخل على الإله وألا ندعوه إلا من خلال وسائط، وهذا تلبيس الشيطان عليهم. ويمكن مراجعة هذه المسألة في كتاب الداء والداء في منتصفه تقريباً لشيخ الإسلام ابن القيم. وقد فرض فرضاً فقال: إن المشركين لما عبدوا غير الله عز وجل واتخذوا الوسائط والشفعاء إلى الله عز وجل لم يكن قصدهم الشرك بالله، وإنما كان قصدهم تعظيم الله عز وجل وتبجيله، فكيف يعذبهم الله عز وجل ويعاقبهم على ذلك؟ ثم أجاب على ذلك جواباً متيناً جداً فيما يقرب من عشرين أو ثلاثين صفحة. فقد قسم الشرك إلى أنواع متعددة، شرك متعلق بذات الله عز وجل، وشرك متعلق بالعبادة، وشرك متعلق بالإرادة، وشرك متعلق بالأقوال والأفعال. ويمكن مراجعة هذا في الداء والدواء. فتوحيد الربوبية: هو إفراد الله عز وجل بالخلق والأمر الذي هو تدبير أمر الخلق والملك، الخلق المطلق، والتدبير المطلق، والملك المطلق. وأما خلق أو تدبير أو ملك المخلوق فليس مطلقاً، فإنك تقول: فلان رحيم، والله عز وجل تقول عنه: الرحيم، ورحمة المخلوق ليست كرحمة الخالق أبداً، وكما أنه لا نسبة أو قياس بين الخالق والمخلوق فكذلك لا يجوز قياس صفة من صفات المخلوق على صفة من صفات الخالق سبحانه وتعالى. وتوحيد الألوهية هو: إفراد الله عز وجل بالعبادة، يعني: ألا تصرف شيئاً من عبادتك إلى غير الله عز وجل، ولو صرفت شيئاً من العبادة إلى غير الله فإنك لا تكون موحداً ولا عابداً على الحقيقة لله عز وجل، فلا تكون عبداً لغير الله عز وجل، ولا تعبد ملكاً ولا نبياً ولا ولياً ولا شيخاً ولا أماً ولا أباً، ولا تعبد إلا الله تعالى وحده، فتفرد الله عز وجل وحده بالتأله والتعبد، ولهذا يسمى توحيد الألوهية، أي: أنك لا تعبد إلا إلهاً واحداً، فتتأله وتتعبد له وحده، ومن هنا سمي هذا التوحيد بتوحيد الإلهية، أو توحيد الألوهية، ويسمى أيضاً توحيد العبادة، فباعتبار إضافته إلى الله تعالى يسمى توحيد الإلهية، وباعتبار إضافته للفاعل يسمى توحيد العبادة.

أركان العبادة

أركان العبادة والعبادة مبنية على أمرين عظيمين وهما المحبة والتعظيم، والتعظيم يستلزم الخوف، ولو أنك نفذت أمراً من أوامر ملوك الدنيا فإن تنفيذك لهذا الأمر غير تنفيذك لأوامر الله عز وجل، فتنفيذ أوامر المخلوقين ربما يختل فيها شرط من هذين الشرطين، فلو أن جباراً من الجبابرة أمرك أن تفعل شيئاً لفعلته من باب الخوف، ولكنك لا تفعله من باب المحبة أبداً، والعبادة لابد أن تكون قائمة على محبة الله عز وجل والإقبال على هذه العبادة بحب وشغف، ولا بد أن تكون مقترنة بالتعظيم والخوف والرجاء لله عز وجل، فلا بد فيها من الخوف من الله عز وجل ومن عقابه ومن ناره، وكذلك الرجاء في رحمة الله عز وجل وفضله وثوابه وجنته وجزائه الأحسن في الدنيا والآخرة. قال الله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء:90]. فالرغب المحبة، والرهب التعظيم المستلزم للخوف والرجاء، فبالمحبة تكون الرغبة، وبالتعظيم تكون الرهبة والخوف، ولذلك كانت العبادة أوامر ونواه، أوامر مبنية على الرهبة وطلب الوصول إلى الآمر سبحانه وتعالى، ونواه مبنية على التعظيم والرهبة من هذا العظيم سبحانه وتعالى. فإذا أحببت الله عز وجل رغبت فيما عنده وفي الوصول إليه، وطلبت الطريق الموصلة إليه، ولا يمكن أن يكون هذا الطريق إلا من خلال النبي صلى الله عليه وسلم، فالطريق إلى الله هو طريق الأنبياء والرسل، وطريق نبينا صلى الله عليه وسلم نسخ جميع الطرق وجميع الكتب، فينبغي أن يوصل إلى الله عز وجل من خلال نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، والقيام بطاعته على الوجه الأكمل، فإنك إن عظمته خفت منه، وكلما هممت بمعصية استشعرت عظمة الخالق سبحانه وتعالى فنفرت منها، والله تعالى يقول: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} [يوسف:24]. وهذه نعمة من الله على العبد، فإنه إذا هم بمعصية وجد الله أمامه فهابه وخافه وتباعد عن المعصية؛ لأنه يعبد الله تعالى رغبة ورهبة. فالعبادة تستلزم شرطين: الشرط الأول: المحبة، والشرط الثاني: التعظيم.

مفهوم العبادة

مفهوم العبادة العبادة تطلق على أمرين: على الفعل وعلى المفعول، فهي تطلق على الفعل الذي هو التعبد، فلو أن رجلاً رآك وأنت تقوم وتركع وتسجد، لقال: إنك تعبد الله عز وجل بهذه الحركات التي تؤديها، فهي هنا تطلق على الفعل، وهو التعبد نفسه، كما تطلق على المفعول، وهو الذي تقربت به إلى الله تعالى، وهو التكاليف الشرعية من صلاة وصوم وزكاة وحج وغير ذلك. وقد عرفها شيخ الإسلام ابن تيمية فقال: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله تعالى ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة. وهذا التعريف ينصب على المفعول، أي: على أعمال الجوارح وأعمال القلوب، وأقوال الجوارح وأقوال القلوب، أي: معتقدات القلوب، فشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عرف العبادة بالمعنى الثاني، وهو إطلاقها على المفعول دون الفاعل.

الأدلة على تفرد الله تعالى بالألوهية

الأدلة على تفرد الله تعالى بالألوهية والدليل على أن الله تعالى متفرد بالألوهية قول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]. فالله تعالى واحد في ألوهيته. وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]. فالخلق إنما خلقوا لعبادة واحد فقط، وهو الله عز وجل، حتى تتعلق قلوبهم به تألهاً وتعظيماً وخوفاً ورجاء وتوكلاً ورغبة ورهبة، وحتى ينسلخوا عن كل شيء من الدنيا، والمخلوق لا بد أن يكون لخالقه قلباً وقالباً في كل شيء، وقد كانت دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام إلى هذا الأمر الهام العظيم عبادة الله وحده لا شريك له، ولم يكن الرسل الذين أرسلهم الله عز وجل إلى البشر يدعون إلى توحيد الربوبية بالدرجة الأولى، وإنما يدعون إلى توحيد الألوهية؛ لأن منكري توحيد الربوبية قليلون جداً، مثل فرعون لما قال لموسى: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23]. ففرعون أثبت لنفسه الربوبية والألوهية، فقد قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]. وقال: ((وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ)). وهذا كلام في معرض الإنكار على موسى عليه السلام. أي: أتدعي يا موسى! أن هناك رباً غيري؟ وقال: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} [غافر:36]، أي: من أجل أن أصعد وأنظر إلى إله موسى، {وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر:37]، أي: بل هو كذاب وضال. وقال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران:18]. فأول من شهد له بالألوهية هو الله عز وجل، فشهد الله أنه لا إله إلا هو، ثم ثنى بعد ذلك {وَالْمَلائِكَةُ} [آل عمران:18]، ثم قال: {وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران:18]. والقسط وهو: العدل، ولو ولم يكن لأهل العلم إلا هذه المنقبة لكفى. والله عز وجل أثنى على أهل العلم فقال: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]؟ وكلما ازداد الرجل علماً ازداد معرفة بخالقه ومولاه وإلهه، والعالم بالله عز وجل يعلم حقيقة ما يجب لله عز وجل، ولا شك أنه يفرق عن غيره من الزهاد وغيرهم. ثم قرر الله عز وجل هذه الشهادة بقوله: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18]. وهذا دليل واضح على أنه لا إله إلا الله عز وجل، وهذه الشهادة هي الشهادة الحق، وهي أعظم الشهادات.

شبهة حول تسمية القرآن لأصنام المشركين آلهة والرد عليها

شبهة حول تسمية القرآن لأصنام المشركين آلهة والرد عليها فإذا قال قائل: كيف تقرون هذه الشهادة مع أن الله تعالى في كتابه يثبت أن هناك آلهة أخرى غيره، كما قال تعالى: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الشعراء:213]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [المؤمنون:117]. قال: ((وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ))، أي: ومن يدع مع الله إلهاً آخر فإنما حسابه عند ربه؟ وقوله: ((لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ)) جملة خبرية اعتراضية، يقرر الله عز وجل فيها أن من عبد مع الله عز وجل إلهاً آخر لا يكون له عليه دليل ولا برهان، وبعض القراء يفهم من هذا أنه يجوز له أن يدعو مع الله عز وجل إلهاً آخر إذا كان له برهان، وهذا مثل الذين يؤولون ويحرفون الكلم عن مواضعه في قوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130]. فيقولون: نحن لا نأكله أضعافاً مضاعفة. وهذا فهم خاطئ لكلام الله عز وجل وآياته، وهو تحريف للكلم عن مواضعه. فقوله: ((وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ)) تقرير من الله عز وجل وإخبار بأن من دعا مع الله إلهاً آخر، فهذا الإله لا برهان له لا من جهة نفسه، ولا من جهة من ألهه وعبده، فلا يكون له دليل على صرف العبادة إلى غير الله عز وجل، ولذلك عقب الله تعالى بقوله: ((فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ))، أي: سيعاقبه عليه يوم القيامة، وأتبع ذلك بقوله: {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون:117]. وقال الله عز وجل: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [هود:101]، وقال تعالى على لسان إبراهيم: {أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} [الصافات:86]، أي: تبغون وتشرئب أعناقكم إليها، فأنتم تعبدون إفكاً وزوراً، وتعبدون التراب الذي صنعتموه بأيديكم، فتتوجهون إليه بالعبادة والتأله وأنتم قد صنعتموه بأيديكم، أفليس لكم عقل وفكر وقلوب واعية؟! ف A أن ألوهية ما سوى الله تعالى باطلة، وهي مجرد تسمية فقط، ولذلك قال سبحانه وتعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم:23]. فسماها الله تعالى آلهة باعتبار تسميتهم هم، ثم ذكرها في معرض النقص والذم والتوبيخ والعجز، وأنها لا تملك نفعاً ولا ضراً، وكل ذلك بيد الله عز وجل، فهي باطلة، وما عبدها وتأله إليها إلا من ضل فهي ليست أهلاً لأن تعبد، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} [لقمان:30]. وهذان النوعان من أنواع التوحيد -توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية- لم يكن يجحدهما ولا ينكرهما أحد من أهل القبلة المنتسبين إلى الإسلام من قبل، ولكن هناك الآن من ينكر توحيد الألوهية، وهناك من ينكر توحيد الربوبية، وهذه الأمة لن تعدم خيراً، ولن تعدم شراً كذلك، فهناك من بني جلدتنا من يتكلم بألسنتنا بل ويتكلم بالكتاب والسنة -عياذاً بالله- وينكر أموراً معلومة من الدين بالضرورة، ويزحزح ثوابت ثبتت في قلوب الأمة وفي عقولها. وحسبنا الله ونعم الوكيل. والهنود يعبدون البقرة، وهناك من يعبد الملائكة، وهناك من يعبد الشيطان، وهناك من يعبد الشجر والحجر والشمس والقمر، وغير ذلك من المعبودات التي هي من خلق الله عز وجل.

تأليه السبئية لعلي بن أبي طالب

تأليه السبئية لعلي بن أبي طالب وعبد الله بن سبأ اليهودي دخل الإسلام ليكيد للإسلام من باطنه، فادعى ألوهية علي بن أبي طالب، وقد دخل من بوابة التشيع وحب آل البيت، حتى بلغ إلى الرفض، ثم بلغ بعد ذلك إلى تأليه علي بن أبي طالب، ولما علم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بهذا أرسل في إثره يطلبه هو وأتباعه من السبئية الذين يتبعون عبد الله بن سبأ، ثم خد لهم علي بن أبي طالب الأخاديد وأجج فيها النيران؛ ليحرق هذه الفرقة الضالة التي زاغت عن سبيل الله عز وجل، وأدعت ألوهية غير الله عز وجل في أحد من خلقه وهو علي بن أبي طالب. وقيل: إن عبد الله بن سبأ هرب منه، فلم يستطع علي أن يمسك به، وحرق أتباعه، وهم السبئية. ولما حرق علي بن أبي طالب أصحاب عبد الله بن سبأ قال: الآن أيقنت أنك أنت الله، فلم يرجع عن معتقده الفاسد، بل قال: الآن أيقنت أنك أنت الله؛ لأنه لا يحرق بالنار إلا رب النار. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: لقد صنع عبد الله بن سبأ كما صنع بولس حين دخل في دين النصارى ليفسد دين النصارى. وهناك بين اليهود والنصارى من العداوة والخلاف ما الله به عليم، ولكنهم يجتمعون لأن العدو واحد، وهو الإسلام وأهله، ولكنهم لو فرغوا من هذا -وهذا أبعد عليهم والشمس أقرب إليهم من هذا- فإننا سنرى بعد ذلك العداوة البغيضة بين اليهود والنصارى، وبين طوائف النصارى ذاتها، وقريباً أسلم رجل فقلت له: أنت كنت أرثوذوكسياً؟ فقال: أعوذ بالله أنا كنت كاثوليكياً. وكله كفر. وقد قسم التوحيد إلى هذه الأنواع بعد الأئمة الأربعة، فهم لم يكن معلوماً عندهم هذا التقسيم، وإن كان صورته معلومة في قلوبهم كأي علم من العلوم.

ثالثا: توحيد الأسماء والصفات

ثالثاً: توحيد الأسماء والصفات توحيد الأسماء والصفات هو الذي كثر الخوض فيه، وهو بيت القصيد في خلاف الفرق الإسلامية. وتوحيد الأسماء والصفات اختلف فيه الناس إلى طرفين ووسط، فمنهم الممثل والمشبه، وهذا يدور أمره بين التكذيب والتحريف، وعلى النقيض -أي: وعلى الطرف المقابل- هناك المعطل، والتعطيل قرين الشرك، ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وكل معطل مشرك، فدل بهذا على أن التعطيل قرين الشرك. وهناك المعتدل وهم أهل السنة والجماعة.

أول ظهور بدعة الخوارج

أول ظهور بدعة الخوارج وأول بدعة ظهرت في هذه الأمة هي بدعة الخوارج الذين خرجوا على علي بن أبي طالب، وقد خرج زعيمهم على النبي عليه الصلاة والسلام، وهو ذو الخويصرة التميمي، عندما دخل على النبي عليه الصلاة والسلام وهو يقسم ذهبية أتت إليه من اليمن من عند علي بن أبي طالب، فقال: (يا محمد! اعدل، قال: ويحك، ومن يعدل إذا لم أعدل؟). وقد كان هذا أول خروج على الجناب النبوي، وهذه جرأة عجيبة وتبجح، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (سيخرج من ضئضئ هذا من يقاتل المسلمين)، أو قال: (من تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم وصيامكم إلى صيامهم، ثم قال: يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ولئن لقيتهم لأقتلنهم). ثم خرج أبناء ذلك الرجل التميمي ذي الخويصرة على علي بن أبي طالب وغيره، وقاتلوا المسلمين في عدة مواقع في الجمل وصفين وغيرها، وكانت لهم علامات وأمارات عرفوا بها، والنبي صلى الله عليه وسلم حددهم ووصفهم بأوصاف وأمارات، فظهروا بهذه العلامات التي وصفهم بها النبي صلى الله عليه وسلم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (سيخرج من ضئضئي هذا قوم تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم وصيامكم إلى صيامهم). أي: أنهم أصحاب عبادة، وقال كذلك: (يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم -أو قال: حناجرهم-).

العبادة على علم وبصيرة

العبادة على علم وبصيرة وليس كل من عبد الله عز وجل وفي قلبه زيغ وضلال تشفع له هذه العبادة. وقد تجد رجلاً من أهل البدع أو من الجهال أو العباد لا يحسن من دينه إلا العبادة فقط وبمجرد أن تلقى عليه شبهة يصدقها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة: (لا يزال الناس يسألونك عن العلم يا أبا هريرة! حتى يقول أحدهم: من خلق السماء؟ من خلق الأرض؟ من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول قائلهم: من خلق الله؟)، وهؤلاء هم أصحاب عبادة، قال أبو هريرة: (فإذا أنا ذات يوم في المسجد إذ دخل علي قوم من البادية، فقالوا: يا أبا هريرة! من خلق السماء؟ قلت: الله، قالوا: من خلق الأرض؟ قلت: الله، قالوا: من خلق كذا فظلوا يسألون عن العلم، قالوا: هذا الله خلق كل شيء، فمن خلق الله؟ فقال: فكان في يدي حصباء، أو قال: فتناولت كفاً من حصى فألقيته في وجوههم وقلت: قوموا عني صدق خليلي). وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر رواه البخاري ومسلم: (يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا، من خلق كذا؟ فتقولون: الله، فيقول: ومن خلق الله؟ فإذا بلغ بكم ذلك المبلغ فقولوا: أعوذ بالله من الشيطان، أو قال: فاستعيذوا بالله وانتهوا)، وفي رواية مسلم قال: (قولوا: آمنا بالله ورسوله). فلا يغرنك عبادة أهل البدع، فإنما في قلوبهم مرض، ولذلك كان علي بن أبي طالب يؤدب العباد ويأمرهم بأن يتعلموا العلم أولاً، وأن يقفوا على ما يجب لله وما لا يجب له، وما يستحيل عليه من صفات النقص وغير ذلك، وكان يأمرهم أن يتعلموا دينهم أولاً، ثم إذا أرادوا أن يتفرغوا للعبادة تفرغوا لها، وهذا الكلام ذكره الخطيب البغدادي في كتاب الفقيه والمتفقه، كما ذكره أيضاً ابن عبد البر في كتاب جامع بيان العلم وفضله، فمن أراد فليرجع إليه للاستزادة، فهو حسن إن شاء الله تعالى. فأول بدعة هي بدعة الخوارج، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل: من هي يا رسول الله؟! قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي). نسأل الله أن نكون منهم، وهم أهل السنة والجماعة. يقول الإمام ابن تيمية: إن هذه الفرق الكثيرة التي هي ثلاث وسبعون مدارها على أربع فرق أو خمس، الخوارج، والقدرية، والمرجئة، والمعتزلة، والأشاعرة. وهذا الكلام في الأجزاء الأول من الفتاوى، وهو كلام مبعثر في عدة مجلدات، وأحيلك على العشرة الأجزاء الأولى من الفتاوى، فارجع إليها واستفد من كلام شيخ الإسلام عليه رحمة الله، وإن شئت فارجع إلى كتاب الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

بدعة القدرية

بدعة القدرية ثم بعد الخوارج حدثت بدعة القدرية، وهم الذين قالوا: بنفي علم الله عز وجل، وبنفي كتابة الله عز وجل لما كان ولما سيكون إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها.

بدعة المرجئة

بدعة المرجئة ثم حدثت بعد ذلك بدعة الإرجاء، والمرجئة هم الذين قالوا بتأخير العمل عن مسمى الإيمان، وقالوا: العمل لا علاقة له بالإيمان؛ لأن الإيمان هو التصديق والإقرار، فمن قال: أنا مؤمن وإن كان من أفسق الناس وأضل الناس فإيمانه كإيمان جبريل وميكائيل، وهم القائلون: لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وقاسوا هذا في مقابلة ذاك، فقالوا: ما دام لا ينفع الكافر طاعة فكذلك لا يضر المؤمن معاصية، وإن سرق وزنى وقتل وارتكب جميع الموبقات والمحرمات والكبائر فلا يضره ذلك، ولا يخرجه عن إيمانه مادام أقر بأنه يؤمن بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. وهذا كلام مخالف لكلام أهل السنة والجماعة.

بدعة المعتزلة

بدعة المعتزلة ثم جاء قوم من الأذكياء بعد هذه الثلاث الفرق وهم المعتزلة، فأخذوا قليلاً من مذهب المرجئة، وقليلاً من مذهب الخوارج، وكونوا مذهباً جديداً، وقالوا: إن العقل مقدم على الوحي، والوحي ضلال. وسأذكر لك مثالاً ظريفاً جداً لتقديم العقل على النقل، حتى تعلم أن الذي يستمسك بالوحي يستمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، وأن الذي يعتمد على عقله لابد وأن يضل ويزل، ووقت الحاجة إليه لا يجده، ويفر منه فراره من الأسد. يقول صلاح الدين الصفدي في كتاب الوافي بالوفيات حاكياً عن شهاب الدين القرافي، وهو كان إماماً في المعقول، وكان كل شيء يعرضه على عقله، فإن وافق العقل قبله، وإن خالف العقل رده، وعن العلامة الإمام القرطبي صاحب التفسير عليه رحمة الله، وكان إماماً في الأثر، ومتمسك بالكتاب والسنة والأثر، قال: جمعت الرحلة بين القرطبي وبين شهاب الدين القرافي إلى الفيوم، قال: فلما دخلاها ارتادا مكاناً ينزلان فيه، فدلا على مكان، فلما أتياه قال لهما إنسان: يا مولانا! بالله لا تدخلاه؛ فإنه معمور بالجان، فقال القرافي: ادخلوا ودعونا من هذا الهذيان، ثم إنهما توجها إلى جامع البلد حتى يفرش الغلمان المكان، ثم عادا، فلما استقرا بالمكان سمعا صوت تيس من المعز يصيح من داخل الخرستان، وكرر ذلك الصياح، فامتقع لون القرافي، وخارت قواه وبهت، ثم إن الباب فتح، وخرج منه رأس تيس وجعل يصيح، فذاب القرافي خوفاً وارتمى على الأرض، وأما القرطبي فإنه قام إلى الرأس وأمسك بقرنيه وجعل يتعوذ ويبسمل ويقرأ قول الله عز وجل: {آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس:59]. ولم يزل كذلك حتى دخل الغلام ومعه حبل وسكين، وقال: يا سيدي! تنح عنه، فأخرجه وأنكاه -أي: وطرحه أرضاً- وذبحه، فقالا له: ما هذا؟ فقال: لما توجهتما إلى الجامع رأيته مع شخص فاسترخصته واشتريته؛ لنذبحه لكم ضيافة لتأكلاه، وأودعته في هذا الخرستان، فأفاق القرافي من حاله وقال: يا أخي! لا جزاك الله خيراً ما كنت قلت لنا وإلا طارت عقولنا، يعني: وقت احتياجه إلى العقل لا يجد العقل، ولكنك لو كنت مستمسكاً بالأثر وطلبت أن تحتاج إليه تجده إن شاء الله تعالى. ثم إن المعتزلة الذين يدعون أن العقل مقدم على الوحي قالوا قولاً بين قول المرجئة وقول الخوارج، فقالوا: الذي يفعل الكبيرة ليس بمؤمن -كما قال الخوارج- وليس بكافر -كما قال المرجئة- وإنما هو في منزلة بين منزلتين، كرجل سافر من مدينة إلى مدينة وهو في الطريق بين المدينتين، فلا هو في المدينة التي خرج منها، ولا هو وصل إلى المدينة التي هو ذاهب إليها، هذا في أحكام الدنيا، وأما في الآخرة فهو مخلد في النار. هذا كلام المعتزلة. وهو كلام كله تخبط وضلال.

بدعة الجهمية

بدعة الجهمية ثم حدثت بدعة الجهمية، وهم الجهم بن صفوان وأتباعه، وهذه البدعة لا تتعلق بمسألة الأسماء والأحكام، بل تتعلق بذات الخالق سبحانه وتعالى، فقد تدرجت البدع في صدر الإسلام، حتى وصلت إلى الخالق جل وعلا! وهذا لا يقبل العقل أن يتصف الله به. وصلى اللهم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

كتاب الإيمان - الإيمان بالملائكة

شرح صحيح مسلم - كتاب الإيمان - الإيمان بالملائكة الإيمان بالملائكة فرع عن الإيمان بالله تعالى، وركن من أركان الإيمان التي لا يقبل إيمان عبد إلا به، ويلزم منه الإيمان بأنهم خلق من خلق الله، خلقهم لعبادته، وتنفيذ أوامره في الكون، والتصديق بما يقومون به من أعمال، وكونهم من عالم الغيب لا يمنع من الإيمان الجازم الذي لا يخالطه شك بوجودهم.

خلق الملائكة وصفتهم

خلق الملائكة وصفتهم الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. وبعد: فالإيمان بالملائكة وبالكتب وبالرسل وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره فرع عن الإيمان بالله عز وجل. فإذا تكلمنا عن الإيمان بالملائكة فهذا يعني أننا نتكلم عن أحد فروع الإيمان بالله عز وجل؛ لأنا إذا أيقنا أن الملائكة رسل الله عز وجل استلزم هذا أن نؤمن بهم. الملائكة: جمع ملأك بالهمز، أو جمع ملاك بالتسهيل، وأصل ملأك مألك بالتقديم والتأخير في الهمز؛ لأنه من الأَلُوكة أو الأَلْوَكة، والألوكة في اللغة هي الرسالة، قال الله تعالى: {جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} [فاطر:1]. وهم عالم غيبي خلقهم الله عز وجل من نور، وجعلهم طائعين له متذللين، ولكل منهم وظائف خصه الله تبارك وتعالى بها، وقد خلقهم الله تبارك وتعالى من نور، وهذا مصداق ما رواه مسلم في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها من أن المادة التي خلقوا منها هي النور، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم)، يعني: من طين من حمأ مسنون، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين لنا أي نور هذا الذي خلقوا منه. ولذلك اختلفت الأقوال والآراء، هل هو من نور الصدر والذراعين، أو غير ذلك؟ فقد ورد عن ابن عمر وعطاء وغيرها، وهو غير صحيح عنهم، ولم يثبت عنهم ذلك. ونحن علينا أن نؤمن بأن الله تبارك وتعالى خلق الملائكة من نور ونسكت، ولا نؤول هذا النور بغير دليل واضح في هذا الأمر.

خلق الملائكة قبل البشر

خلق الملائكة قبل البشر الملائكة خلقوا قبل خلق البشر، قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30]. فهذا الخبر أخبر الله تبارك وتعالى به الملائكة قبل أن يخلق آدم، فقال: ((إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً))، أي: إني سأجعل في الأرض خليفة، وهذا يدل على أن الملائكة خلقوا قبل خلق آدم عليه السلام. وقال تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر:29].

عظم خلق الملائكة واختلاف شكلهم عن الآدميين

عظم خلق الملائكة واختلاف شكلهم عن الآدميين الملائكة من حيث الخلق أعظم خلقاً من الآدميين، يعني: أكبر حجماً -طولاً وعرضاً- من الآدميين، بل شكل الملائكة الطبيعي الذي خلقهم الله تبارك وتعالى عليه يختلف عن شكل الآدميين. قال الله تبارك وتعالى عن ملائكة النار: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، فوصف الملائكة هنا بأنهم غلاظ شداد، فطبيعة خلقهم ومادة خلقهم أشد من مادة وطبيعة خلق الآدميين. ومن الأمثلة على ذلك: عظم خلق جبريل عليه السلام، فقد روى الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن مسعود قال: (رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته وله ستمائة جناح، كل جناح منها قد سد الأفق -فالجناح الواحد يسد الأفق، أي: ما بين السماء والأرض- يسقط من جناحه التهاويل -وهي الأشياء المختلفة الألوان- من الدر واليواقيت). قال ابن كثير عليه رحمة الله: وفي سنن الترمذي: هذا حديث إسناده جيد، أي: رواية الإمام أحمد بن حنبل. وفي سنن الترمذي بإسناد صحيح أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في جبريل: (رأيته منهبطاً من السماء ساداً عظم خلقه ما بين السماء والأرض)، يعني: جبريل سد ما بين السماء والأرض لعظم خلقه. وقال الله تعالى في وصفه: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:19 - 21]. والمراد بالرسول الكريم هنا جبريل، وذي العرش أي: رب العزة سبحانه وتعالى. ومثال آخر يدل على عظم خلق الملائكة: روى ابن أبي حاتم وأبو داود عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أذن لي أن أحدث عن أحد حملة العرش أن ما بين شحمة أذنه وعاتقه مسيرة سبعمائة عام). فكيف بحجم بدنه كله؟! وفي رواية أخرى لـ ابن أبي حاتم: (لخفقان الطير) أو قال: (يخفق الطير -أي: يطير فيها الطائر- مسيرة سبعمائة عام). وروى الطبراني في معجمه الأوسط بإسناد صحيح عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أذن لي أن أحدث عن أحد حملة العرش رجلاه في الأرض السفلى وعلى قرنه العرش، وبين شحمة أذنيه وعاتقه خفقان الطير سبعمائة عام، يقول -أي: الملك-: سبحانك حيث كنت). والملائكة لها أجنحة كثيرة، فمنهم من له جناحان، ومنهم من له ثلاثة، ومنهم من له أربعة، ومنهم من له أكثر من ذلك إلى ستمائة جناح، وهذا يدل على أن الملائكة يتفاوتون أيضاً في الخلق وفي القدرة. قال الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} [فاطر:1]، يعني: يزيد بعد ذلك في أصل الخلق أو في الأجنحة، {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فاطر:1].

جمال الملائكة

جمال الملائكة خلق الله تبارك وتعالى الملائكة على أحسن صورة وأجملها، كما قال تعالى عن جبريل عليه السلام: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} [النجم:5 - 6]. ومعنى: ((ذُو مِرَّةٍ)) أي: ذو جمال وحسن منظر، كما ذكر ذلك ابن عباس، وقال قتادة: ((ذُو مِرَّةٍ)) أي: ذو خَلْق طويل حسن، وقيل: ((ذُو مِرَّةٍ)) أي: ذي قوة، واللغة تحتمل هذا وذاك، وقد تقرر عند الناس أنهم يصفون الجميل بأنه ملك من الملائكة، كما ذكر في قصة صواحب يوسف عليه السلام أنهن قلن: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف:31]. وقد قلن هذا لما رأين جمال يوسف عليه السلام وحسن منظره. والملائكة في أصل خلقتهم ليس بينهم وبين البشر شبه، فهم لا يشبهون بني آدم قط، وإنما يشبهونهم إذا تمثلوا في صورة آدميين، فهم لهم القدرة على التشكل والتلون، فإذا تشكلوا في صورة آدميين أشبهوهم، ومصداق هذا قول النبي عليه الصلاة والسلام: (رأيت جبريل فإذا أقرب من رأيت به شبهاً دحية)، أي: دحية بن الحارث الكلبي. وهذا الشبه بين صورة جبريل وصورة دحية الكلبي إنما هو في الصورة التي يكون بها جبريل عندما يتمثل في صورة دحية؛ لأن أصل خلقة الملائكة تختلف عن أصل خلقة الآدميين.

الملائكة متفاوتون في المقامات والخيرية

الملائكة متفاوتون في المقامات والخيرية للملائكة عند ربهم مقامات متفاوتة معلومة، ولذلك قالوا: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} [الصافات:164]. فليست مقامات الملائكة عند الله عز وجل يشبه بعضها بعضاً، وإنما هي متفاوتة ومختلفة، وقد قال الله تبارك وتعالى في جبريل: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير:19 - 20]، أي: له مكانة ومنزلة عالية رفيعة عند الله. وقيل: إن جبريل عليه السلام منزلته عند الله تبارك وتعالى أعلى من منزلة أي ملك من بقية الملائكة. وأفضل الملائكة كذلك هم الذين شهدوا وقعة بدر، كما ذكر ذلك البخاري في صحيحه من حديث رفاعة بن رافع: (أن جبريل جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما تعدون من شهد بدراً فيكم؟ قلت: خيارنا، قال: وكذلك من شهد بدراً من الملائكة هم عندنا خيار الملائكة).

الملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا يفترون

الملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا يفترون الملائكة لا يوصفون بالذكورة ولا الأنوثة، والمشركون هم الذين يذكرونهم بهذا أو ذاك، والخوض في هذا الغيب من أسباب ضلال بني آدم، وبعضهم يحاول إخضاع هذه العوامل لمقاييسه البشرية الدنيوية، وقد رأينا أحد هؤلاء يتعجب في مقال له في صحيفة منشورة من أن جبريل كان يصل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ثوان من إرساله إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ويتساءل كيف يأتي بهذه السرعة الخارقة، والضوء يحتاج إلى ملايين السنوات الضوئية ليصل إلينا بعضه؟ فهو أراد أن يطعن في سرعة الملائكة، ويقيسها على أكبر سرعة معلومة للعقل والعينين، وهو قياس فاسد. والملائكة كذلك لا يأكلون ولا يشربون، ولذلك ورد في قصة الملائكة الذين أتوا إبراهيم عليه السلام: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} [هود:70]، وهذا لما قرب إليهم العجل الحنيذ السمين. وكذلك الملائكة لا يملون ولا يتعبون، وإنما يقومون بعبادة الله تبارك وتعالى وطاعته وتنفيذ أوامره بلا كلل ولا ملل، ولا يدركهم ما يدرك البشر من ذلك، قال الله تبارك وتعالى في وصفهم: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:20]. والفتور هو الملل والكسل، فهذا لا يلحق الملائكة ألبتة. وقال تعالى في الآية الأخرى: {فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت:38]. ومعنى السأم أي: الملل، يقال: سئم شيئاً إذا مله.

مساكن الملائكة ونزولهم إلى الأرض

مساكن الملائكة ونزولهم إلى الأرض وأما منازل الملائكة ومساكنهم فهي السماء، كما قال الله تبارك وتعالى: {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [الشورى:5]. وقد وصفهم الله تعالى بأنهم عنده، فقال: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت:38]. ومعنى: فالذين عند ربك، أي: فالذين في السماء. وهم ينزلون إلى الأرض بأمر الله لتنفيذ مهمات نيطت بهم ووكلت إليهم، كما قال الله تبارك وتعالى على لسان جبريل: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم:64]. ويكثر نزولهم في مناسبات خاصة كليلة القدر، كما قال تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} [القدر:3 - 4]، والروح هو جبريل عليه السلام، {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} [القدر:4].

عدد الملائكة وأسماؤهم

عدد الملائكة وأسماؤهم والملائكة خلق كثير لا يعلم عددهم إلا الذي خلقهم، كما قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31]. ومما يدل على كثرتهم قول النبي صلى الله عليه وسلم عن البيت المعمور الذي هو في السماء السابعة: (فإذا هو يدخله في كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه آخر ما عليهم)، أي: لا يعودون إليه مرة أخرى. والحديث متفق عليه. وعند مسلم من حديث عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها). وعلى هذا فالذين يأتون بجهنم فقط يوم القيامة أربعة مليارات وتسعمائة مليون ملك. وإذا تأملت النصوص الواردة في الملائكة التي تقوم على الإنسان علمت مدى كثرتهم، فهناك ملك موكل بالنطفة، وملكان لكتابة أعمال كل إنسان، وملائكة لحفظه، وقرين ملكي لهدايته وإرشاده. وللملائكة أسماء، ونحن لا نعرف من أسماء الملائكة إلا القليل، كجبريل وميكال، قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:97 - 98]. وجبريل هو الروح الأمين المذكور في قوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ} [الشعراء:193 - 194]. وهو الروح المعني في قوله تبارك وتعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} [القدر:4]. وهو الروح الذي أرسله الله تبارك وتعالى إلى مريم، {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} [مريم:17]. وهو الموكل بالوحي ينزل به من الله تبارك وتعالى إلى الرسل، كما أن إسرافيل هو الذي ينفخ في الصور، فإسرافيل هو الموكل بالنفخ في الصور، وجبريل هو الموكل بالوحي، وميكائيل هو الموكل بالقطر من السماء والنبات في الأرض، ولذلك يقولون: إن هؤلاء الملائكة الثلاثة مختصون بالحياة، فجبريل عليه السلام اختص بالوحي، والوحي فيه حياة القلوب، وميكائيل عليه السلام موكل بالقطر من السماء، وبه ينبت الزرع والثمار والفواكه والأطعمة من الأرض، وبه تحيا الأجسام والأبدان. وأما إسرافيل عليه السلام فهو الموكل بالنفخ في الصور، أي: بإعادة الحياة إلى الأجسام البالية، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر هؤلاء الملائكة الثلاثة في دعائه في قيام الليل، فقد كان يقول: (اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم). فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتوسل في قيامه في الليل بربوبية الله تبارك وتعالى لهؤلاء الملائكة الثلاثة، جبريل وميكائيل وإسرافيل. وهنا أيضاً مالك خازن النار، قال الله تبارك وتعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77]. وهناك رضوان، وهو خازن الجنة، وقد جاء مصرحاً به في بعض الأحاديث. ومن الملائكة الذين سماهم الرسول صلى الله عليه وسلم منكر ونكير، وقد استفاض في الأحاديث ذكرهما في سؤال القبر. ومنهم ملائكة سياحون في الأرض يلتمسون حلق الذكر والعلم، فإذا رأوها جلسوا يحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، يعني: أن الملائكة تحف مجالس العلم ويصعد بعضهم فوق بعض حتى يكون هناك اتصال بين مجلس العلم في الأرض وبين السماء. ومنهم ملائكة يتعاقبون على بني آدم في الليل والنهار، كما قال الله تبارك وتعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11]. ومنهم ملائكة ركع وسجد لله في السماء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أطت السماء وحق لها أن تئط -والأطيط: هو صرير الرحل- ما من موضع أربع أصابع منها إلا وفيه ملك قائم لله أو راكع أو ساجد).

الملائكة مخلوقات لها أجساد وعقول

الملائكة مخلوقات لها أجساد وعقول فيجب علينا أن نؤمن بالملائكة، وأنهم عالم غيبي لا يشاهدون، وقد يشاهدون والأصل أنهم عالم غيبي، وهم مخلوقون من نور، ومكلفون بما كلفهم الله به من العبادات، وخاضعون لله عز وجل أتم الخضوع، كما قال تعالى: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} [التحريم:6]. فالملائكة جبلوا على عبادة الله تبارك وتعالى وعلى عدم المعصية؛ لأنهم ليس فيهم شهوة، وهذا هو الذي حدا ببعض أهل العلم إلى القول بأن الملائكة لم يكلفوا كما كلف بنو آدم؛ لأنهم ليست لهم شهوة، والصحيح أن الملائكة كلفوا تكليفاً خاصاً بهم من الله عز وجل، وهذا يظهر من قوله تعالى: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ}. والأمر تكليف؛ إذ إن التكليف أمر ونهي وخشية ورجاء، وغير ذلك، فقوله: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] يدل على أنهم مكلفون، ولكن قد تختلف طبيعة تكليفهم عن طبيعة تكليف الآدميين؛ لاختلاف ذات الملائكة عن ذات الآدميين. وهم أجساد بدليل قوله تعالى: {جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ} [فاطر:1]، يعني: أصحاب أجنحة وذوات أجنحة، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم -كما تقدم- جبريل عليه السلام وله ستمائة جناح قد سد الأفق، وهذا خلافاً لمن قال: إنهم أرواح، فهم أجساد نورانية. وقد أخطأ رجل من أكابر أهل العلم وأهل السنة فقال: الملائكة لا يعقلون؛ لأنهم أجساد نورانية، فليس لهم عقول، ونقول: قد قال الله تبارك وتعالى: ((لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ))، ومعلوم أن الأمر لا يكلف به إلا عاقل. وقال الله تبارك وتعالى: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:20]. فهل هؤلاء الذين يسبحون ليست لهم عقول؟ وهل يأتمرون بأمر الله، ويفعلون ما أمرهم الله به، ويبلغون الوحي وليس لهم عقول؟! فأحق من يوصف بعدم العقل من قال: إن الملائكة لا عقول لهم.

ملك الموت وقبض أرواح الموتى

ملك الموت وقبض أرواح الموتى هناك من يقول: إن ملك الموت هو عزرائيل، وهذا مذكور في بعض الكتب، إلا أنه ليس له أصل، فملك الموت اسمه ملك الموت، وإن كان له اسم آخر فالله تبارك وتعالى لم يطلعنا عليه ولم يخبرنا به، وإنما أخبرنا بأنه ملك الموت، والعوام يقولون: عزرائين بالنون، كما يقولون عن إسماعيل إسماعين، من باب التخفيف أو الإبدال. وملك الموت هو الذي وكل بقبض الروح، قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة:11]. ومعنى: ((يَتَوَفَّاكُمْ)) أي: يقبض أرواحكم. وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام:61]. وهنا إشكال، فقد قال في الآية الأولى: ((قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ))، فأخبر أن الذي يتوفى هو ملك الموت، وقال: ((حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا))، ولم يقل: توفاه ملك الموت، وقال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر:42]. فهذه ثلاث آيات، فهل الذي يتوفى الأنفس الله تبارك وتعالى، أم الرسل، أم ملك الموت؟ و A أنه لا منافاة بين هذه الآيات الثلاث؛ فملك الموت يخرجها من البدن ويكون معه ملائكة، فإذا أخرج الروح من البدن تلقفها الملائكة الذين بجوار ملك الموت، فإذا كان الرجل من أهل الجنة كان معهم حنوط من الجنة وأكفان من أكفان الجنة، فيأخذون هذه الروح الطيبة، ويجعلونها في هذا الكفن، ويصعدون بها إلى الله عز وجل، حتى تقف بين يدي الله، ثم يقول: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض، فترجع الروح إلى الجسد من أجل الاختبار في القبر، فيسأله الملكان: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ وإن كان الميت غير مؤمن -والعياذ بالله- فإنه ينزل إليه ملائكة معهم كفن من النار وحنوط من حنوط النار، فيأخذون الروح ويجعلونها في هذا الكفن، ثم يصعدون بها إلى السماء فتغلق أبواب السماء دونها وتطرح إلى الأرض، وهذا مصداق قول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31]. ثم يقول الله تبارك وتعالى: اكتبوا كتاب عبدي في سجين. نسأل الله تعالى السلامة والعافية. فهؤلاء الملائكة يأخذون الروح بعد أن يقبضها ملك الموت. فالذي يقبض الروح من أصلها هو ملك الموت، ثم يتسلمها منه هؤلاء الرسل الذين قال الله عنهم: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام:61]. فهؤلاء موكلون بأخذ الروح من ملك الموت إذا قبضها، وملك الموت هو الذي يباشر مسألة قبض الروح بنفسه، فلا منافاة بينهما. ولما كان الآمر بقبض الروح على الحقيقة هو الله تبارك وتعالى نسبت الوفاة إليه في قول الله تبارك وتعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر:42].

الملكان اللذان يسجلان أعمال العبد

الملكان اللذان يسجلان أعمال العبد ذكر بعض أهل العلم أن هناك ملكين يسمى أحدهما رقيباً والآخر عتيداً، والصواب: أنه ليس هناك من الملائكة من يسمى رقيباً ولا عتيداً، وقد أخذوا هذا من قول الله تبارك وتعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:17 - 18]. وما ذكروه غير صحيح، فالرقيب والعتيد هنا وصف للملكين اللذين يسجلان أعمال العباد، ومعنى رقيب وعتيد أي: ملكان حاضران شاهدان لا يغيبان عن العبد، وليس المراد أنهما اسمان للملكين.

موت الملائكة عند نفخة الصعق

موت الملائكة عند نفخة الصعق الملائكة يموتون كما يموت الإنس والجن، وقد جاء ذلك صريحاً في قول الله تبارك وتعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68]. والذين في السماء هم الملائكة، فالملائكة تشملهم هذه الآية لأنهم في السماء. يقول الحافظ ابن كثير عليه رحمة الله في تفسير هذه الآية: هذه هي النفخة الثانية وهي نفخة الصعق، وهي التي يموت بها الأحياء من أهل السماوات والأرض إلا من شاء الله، كما جاء ذلك مصرحاً به في حديث الصور المشهور، ثم يقبض أرواح الباقين حتى يكون آخر من يموت ملك الموت؛ لأنه موكل بقبض الأرواح، حتى إذا لم يبق روح إلا روحه هو قبض روح نفسه، وينفرد الحي القيوم الذي كان أولاً وهو الباقي آخراً بالديمومة والبقاء، ويقول: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر:16] ثلاث مرات، ثم يجيب نفسه فيقول: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16]. ومما يدل أيضاً على أنهم يموتون قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]. والوجه هنا تعبير عن ذات الله تبارك وتعالى. وأما هل يموت أحد منهم قبل نفخة الصور؟ فهذا ما لا نعلمه ولا يعلمه أحد من البشر، فهو مما استأثر الله تبارك وتعالى بعلمه.

صفات الملائكة الخلقية

صفات الملائكة الخُلُقية

الملائكة كرام بررة

الملائكة كرام بررة وأما عن الصفات الخلقية للملائكة فإن الله تبارك وتعالى وصفهم بأنهم كرام بررة في قوله: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس:15 - 16]، أي: القرآن بأيدي سفرة، والسفرة هم الملائكة الذين هم بمنزلة السفراء والرسل بين الله تبارك وتعالى وبين خلقه، وقد وصف الله تبارك وتعالى هؤلاء الملائكة بأنهم كرام بررة، أي: خلقهم كريم حسن شريف، وأخلاقهم وأفعالهم بارة طاهرة كاملة، ويؤخذ من هذا أنه ينبغي على حامل القرآن أن يكون في أفعاله وأقواله على السداد والرشاد. وقد روى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرؤه وهو عليه شاق فله أجران).

حياء الملائكة

حياء الملائكة ومن أخلاق الملائكة الحياء، فهم أشد حياء من بني آدم، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روى مسلم في صحيحه من حديث عائشة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مضطجعاً في بيتها رضي الله عنها كاشفاً عن فخذيه أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر، فأذن له وهو على تلك الحال -أي: لم يعتدل-، فتحدث، ثم استأذن عمر، فأذن له وهو كذلك، فتحدث، ثم استأذن عثمان، فجلس الرسول صلى الله عليه وسلم وسوى عليه ثيابه، فدخل فتحدث، فلما خرج قالت عائشة: دخل أبو بكر فلم تهتش له ولم تباله، ثم دخل عمر فلم تهتش له ولم تباله، ثم دخل عثمان، فجلست وسويت ثيابك؟ فقال: ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة؟). فهذا وصف لبيان أن الملائكة تستحي، والحياء خلق عظيم، وهو من أخلاق أهل الإيمان، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة: أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)، ثم خص الحياء من بين شعب الإيمان بالذكر، فقال: (والحياء شعبة من شعب الإيمان).

قدرة الملائكة على التشكل والانتقال بسرعة

قدرة الملائكة على التشكل والانتقال بسرعة وهب الله تبارك وتعالى الملائكة القدرة على التشكل والتلون، فقد أرسل الله تبارك وتعالى جبريل عليه السلام إلى مريم في صورة بشر، فقال: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم:16 - 17]، فقوله تعالى: ((فَتَمَثَّلَ لَهَا))، أي: صار مثل البشر، وتشكل في صورتهم، {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا} [مريم:18]. ومعنى الآية: قالت: إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً فابعد عني ولا تمسني بسوء وأذى؛ لأنها لما رأته في صورة بشر ظنته من البشر ولم تظنه جبريل ولا الروح الأمين، فاستعاذت بالله من شر الإنس، {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا} [مريم:19]. وإبراهيم عليه السلام جاءته الملائكة في صورة بشر، ولم يعرف أنهم ملائكة حتى كشفوا له عن حقيقة أمرهم. وجاءوا إلى لوط في صورة شباب حسان الوجوه، وضاق لوط بهم، وخشي عليهم قومه؛ لأنهم كانوا يأتون الذكران شهوة من دون النساء، والملائكة أحسن صورة من البشر، ولذلك خاف لوط عليه السلام أن يفضح بين أضيافه من فعل قومه، فقد كانوا قوم سوء يفعلون السيئات ويأتون الذكران من العالمين، كما قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود:77]، يعني: أن هذا اليوم لن يمر على خير إن رآكم قومي الذين أرسلت فيهم. يقول ابن كثير: تبدى لهم الملائكة في صورة شباب حسان امتحاناً واختباراً حتى قامت على قوم لوط الحجة، وأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر. وقد كان جبريل يأتي الرسول صلى الله عليه وسلم في صفات متعددة، فتارة يأتيه في صورة دحية بن خليفة الكلبي الصحابي، وقد كان جميل الصورة جداً، وتارة في صورة أعرابي كما في حديث عمر بن الخطاب رضي الله تبارك وتعالى عنه. وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فيما بعد أن السائل الذي جاءه وسأله هذه الأسئلة عن الإيمان والإحسان وأشراط الساعة، هو جبريل؛ ليعلمهم دينهم. وقد رأت عائشة الرسول صلى الله عليه وسلم واضعاً يده على معرفة فرس دحية الكلبي -أي: عرف الفرس- ودحية الكلبي راكب عليه يحدث النبي صلى الله عليه وسلم، فلما سألته عن ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: ذلك جبريل، وهو يقرئك السلام. فهي تصورت أنه دحية، ولكنه جبريل. وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده وابن سعد بسند حسن. وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، وأنه لما هاجر تائباً جاءه الموت في منتصف الطريق، وهو مسافر إلى الأرض التي هاجر إليها، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فحكموا بينهما ملكاً أرسله الله تبارك وتعالى إليهم في صورة آدمي، يقول عليه السلام: (فجاءهم ملك في صورة آدمي، فجعلوه بينهم، فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أدنى فهو لهم). وهم إنما حكموه بأمر الله تبارك وتعالى. والقصة في صحيح مسلم في باب التوبة. وكذلك جاء في قصة الثلاثة الأبرص والأعمى والأقرع الذين ابتلاهم الله تبارك وتعالى من بني إسرائيل أن الملك تشكل بصورة كل منهم، وأتى كل واحد منهم على حدة. وهذا يدل على أن الله تبارك وتعالى منح الملائكة القدرة على التشكل والتلون. وأما عن عظم سرعتهم فإنهم بلغوا الذروة في السرعة، فقد كان السائل يسأل النبي صلى الله عليه وسلم فينزل جبريل عليه السلام بالجواب من السماء قبل أن ينصرف السائل، وهذا قد ورد في مناسبات كثيرة جداً.

علم الملائكة

علم الملائكة الملائكة أعلم من بني آدم في العلم الذي علمهم الله تعالى، وبنو آدم أعلم من الملائكة في معرفة الأشياء، ولذلك قال الله تبارك وتعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ} [البقرة:31]، فآدم علم الأسماء أولاً قبل أن يعلم الملائكة ذلك: {فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا} [البقرة:31 - 32]. وهذا إقرار واعتراف بأن آدم عليه السلام أعرف من الملائكة بمعرفة الأشياء والتعرف عليها. فالإنسان يتميز بالقدرة على التعرف على الأشياء واكتشاف سنن الكون، والملائكة يعلمون ذلك بالتلقي المباشر عن الله تبارك وتعالى، ولكن الذي علمهم الله تبارك وتعالى إياه أكثر مما يعرفه الإنسان. وقد أعطوا علماً عظيماً وهو علم الكتابة، قال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:10 - 12]. والملائكة تتحاور فيما بينها فيما خفي عليها من وحي ربها، ويدور بينها مناظرات ومحاورات كما يدور أيضاً بين أهل العلم من البشر. ففي سنن الترمذي ومسند أحمد عن ابن عباس بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني الليلة ربي تبارك وتعالى في أحسن صورة) وهذا الحديث هو حديث اختصام الملأ الأعلى، وفيه إثبات أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه رؤية منامية. والكافرون محجوبون عن الله تبارك وتعالى، فلا يرونه حتى في يوم القيامة، ولا يدخلون الجنة حتى يرونه، وأما المؤمنون فإنهم يرون الله تبارك وتعالى في عرصات القيامة قبل أن يدخلوا الجنة، فإذا دخلوها رأوا الله تبارك وتعالى على رأس كل أسبوع في يوم المزيد الذي هو يوم الجمعة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم لما سئل: (هل نرى ربنا يا رسول الله؟! قال: هل تضامون في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ قالوا: لا، قال: فإنكم ترون ربكم -أي: في الجنة ويوم القيامة- كما ترون القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب). فكل من يدخل الجنة يرى الله تبارك وتعالى في يوم المزيد. فهنا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أتاني الليلة ربي تبارك وتعالى في أحسن صورة). وهذه الرؤية رؤية منامية، والنبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه عياناً في اليقظة قط، وإنما رآه في المنام. (فقال -أي: الله تبارك وتعالى-: يا محمد! هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا، فوضع يده بين كتفي، حتى وجدت بردها بين ثديي، فعلمت ما في السماوات وما في الأرض، فقال: يا محمد! هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: نعم، في الكفارات والدرجات، فأما الدرجات: فإطعام الطعام، وإفشاء السلام، والصلاة بالليل والناس نيام، وأما الكفارات: فانتظار الصلاة إلى الصلاة، والمشي على الأقدام إلى الجماعات، وإسباغ الوضوء في المكاره، قال: صدقت يا محمد! ومن فعل ذلك عاش بخير، ومات بخير، وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه، وقال: يا محمد! إذا صليت فقل: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وتتوب علي، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون). وهذا الحديث قال عنه ابن كثير رحمه الله: هو حديث المنام المشهور، ومن جعله يقظة فقد غلط في ذلك.

نظام الملائكة ودقتهم في تنفيذ الأوامر

نظام الملائكة ودقتهم في تنفيذ الأوامر الملائكة منظمون في كل شئونهم، فهم منظمون في عبادتهم، وقد حثنا النبي صلى الله عليه وسلم على الاقتداء بهم في ذلك، فقال: (ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ قالوا: وكيف يصفون عند ربهم؟ قال: يكملون الصفوف الأول فالأول، ويتراصون في الصف). رواه الجماعة إلا البخاري. وقد فضلنا الله على بقية الأمم بأن جعل صفوفنا كصفوف الملائكة، وهذا الحديث في صحيح مسلم من حديث حذيفة بن اليمان. وفي يوم القيامة كذلك تأتي الملائكة صفوفاً منتظمة، كما في قول الله تبارك وتعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22]. ويقفون صفوفاً بين يدي الله تبارك وتعالى، كما قال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ:38]. والروح هو جبريل عليه السلام. ونلاحظ دقة تنفيذ الملائكة للأوامر من الحديث الذي في صحيح مسلم ومسند أحمد عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (آتي باب الجنة فأستفتح، فيقول الخازن -واسمه رضوان-: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك). وفي حديث الإسراء جبريل كان يستأذن في كل سماء، ولا يفتح له إلا بعد الاستفسار، من أنت؟ ومن معك؟ وهل بعث؟ وهل أرسل؟ وغير ذلك.

عبادة الملائكة

عبادة الملائكة الملائكة مطبوعون مجبولون على طاعة الله تبارك وتعالى، وليس لديهم القدرة على العصيان، قال تعالى: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} [التحريم:6]، يعني: إذا وجه إليهم أمر فإنهم لا يعصون الله تبارك وتعالى، {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]. فتركهم للمعصية وفعلهم للطاعة جبلة جبلهم الله تبارك وتعالى عليها، وقد فطرهم وخلقهم على ذلك، فلا تكلفهم الطاعة أدنى مجاهدة؛ لأنهم لا شهوة لهم. ولعل هذا هو الذي دعا فريقاً من العلماء إلى القول: بأن الملائكة ليسوا مكلفين، ولا داخلين في الوعد والوعيد، ونحن نقول: إنهم ليسوا مكلفين بنفس التكاليف التي كلف بها بنو آدم، وأما القول بعدم تكليفهم مطلقاً فهو قول مردود، ترده الآيات والأحاديث، ومنها قول الله تبارك وتعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل:50]. فقد قال في الآية: إنهم يخافون ربهم، والخوف نوع من أنواع التكاليف الشرعية، بل هو من أعلى أنواع العبودية. وقال تعالى: {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:28]. والملائكة لهم مكانة عظيمة عند الله تبارك وتعالى، وهذا بخلاف ما افتراه المشركون في قولهم: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} [الأنبياء:26]، فرد عليهم سبحانه بقوله: {سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء:26] فالله تبارك وتعالى وصفهم بأنهم عباد مكرمون، فوصفهم بأنهم عباد، أي: حق العبودية، فهم يعبدون الله تبارك وتعالى حق العبادة، ويقدرون الله حق قدره، وهم كذلك مكرمون. ثم قال: {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:27 - 29]. فالملائكة عباد يتصفون بكل صفات العبودية، وهم قائمون بالخدمة، ومنفذون للأوامر، وعلم الله تبارك وتعالى بهم محيط، فلا يستطيعون أن يتجاوزوا الأوامر أو يخالفوا التعليمات الملقاة إليهم، بل هم خائفون وجلون، وعلى احتمال أن يتعدى أحدهم حده فإن الله تبارك وتعالى يعذبه جزاء تمرده. ومن تمام عبوديتهم لله تبارك وتعالى أنهم لا يتقدمون بين يدي ربهم مقترحين، ولا يعترضون على أمر من أوامره، بل هم عاملون بأمره، مسارعون مجيبون، {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء:27]. وهم لا يفعلون إلا ما يؤمرون به، فالأمر هو الذي يحركهم ويوقفهم، كما في صحيح البخاري عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: (ألا تزورنا أكثر مما تزورنا؟ -يعني: هل لك أن تزرونا أكثر من هذا؟ - فنزل قول الله تبارك وتعالى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64]. والشاهد من ذلك: أن الملائكة لا يصدر منهم فعل ولا قول ولا حركة ولا سكنة إلا بأمر الله تبارك وتعالى. والملائكة يسبحون الله تبارك وتعالى، ويذكرونه بالتسبيح والتهليل والتعظيم، كما قال تعالى عن حملة العرش: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [غافر:7]. وليس حملة العرش هم الذين يسبحون الله تبارك وتعالى فقط، بل التسبيح ورد في عموم الملائكة، كما قال تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [الشورى:5]). وتسبيح الملائكة لله تبارك وتعالى دائم لا ينقطع، لا في الليل ولا في النهار، قال تعالى: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:20]، أي: لا يملون ولا يسأمون. ولكثرة تسبيحهم كانوا هم المسبحون حقاً، وحق لهم أن يفخروا بذلك، وقد قالوا: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} [الصافات:165 - 166]. فلما اتصل تسبيحهم وذكرهم لله تبارك وتعالى ولم ينقطع، ولم يفتروا أو يسأموا من ذلك حق لهم أن يفخروا بأنهم هم المسبحون على الحقيقة؛ وغيرهم يعتريه الملل والسأم والكلل، فحق للملائكة أن ينسب إليهم أنهم هم المسبحون حقاً. والتسبيح أفضل الذكر، كما روى مسلم في صحيحه عن أبي ذر أنه قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذكر أفضل؟ قال: ما اصطفى الله لملائكته أو لعباده -أي: الذي اصطفى الله لملائكته أو لعباده، وما هنا اسم موصول بمعنى الذي والذي اصطفاه الله تب

حج الملائكة

حج الملائكة وأما حج الملائكة فإن لهم كعبة في السماء السابعة يحجون إليها، وهي التي أسماها الله تبارك وتعالى: البيت المعمور، وأقسم بها سبحانه كما في سورة الطور: {وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} [الطور:4]. قال ابن كثير عند تفسير هذه الآية: ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث الإسراء بعد مجاوزته السماء السابعة: (ثم رفع بي إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألفاً لا يعودون إليه آخر ما عليهم)، يعني: يتعبدون فيه، ويطوفون به كما يطوف أهل الأرض بكعبتهم، والبيت المعمور هو كعبة أهل السماء السابعة، وقد وجد النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج إبراهيم عليه السلام مسنداً ظهره إلى البيت المعمور؛ لأنه باني الكعبة الأرضية، والجزاء من جنس العمل، فلما بنى الكعبة لأهل الأرض أكرمه الله تعالى بدخول الكعبة التي هي في السماء السابعة. وذكر ابن كثير أن البيت المعمور بحيال الكعبة، أي: في موازاة ومحاذاة الكعبة، ولذلك ورد في الخبر أن البيت المعمور لو خر على الأرض لخر على الكعبة، أي: لسقط على الكعبة، فالبيت المعمور في السماء السابعة في مقابلة الكعبة، أي: فوقها، فلو وقع لوقع عليها. وذكر أن في كل سماء بيتاً يتعبد فيه أهلها، ويصلون إليه، والذي في السماء الدنيا يقال له: بيت العزة. وقد ثبت من حديث علي بن أبي طالب: (أنه سئل: ما البيت المعمور؟ قال: بيت في السماء يقال له: الضراح، وهو بحيال الكعبة من فوقها، حرمته في السماء كحرمة البيت في الأرض، يصلي فيه كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة، ولا يعودون فيه أبداً). وهذا موقوف على علي بن أبي طالب، وهو لا يقال من قبل الرأي، وهو إن كان فيه خالد بن عرعرة وهو مستور إلا أن له شاهداً مرسلاً من حديث قتادة بن دعامة، وهو (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوماً لأصحابه: هل تدرون ما البيت المعمور؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه مسجد في السماء تحته الكعبة، لو خر لخر عليها). قال الشيخ الألباني رحمه الله: وجملة القول: إن هذه الزيادة -أي: (حيال الكعبة) - ثابتة بمجموع طرقها، وهذا يدل على ثبوت الحديث.

خوف الملائكة من الله تبارك وتعالى

خوف الملائكة من الله تبارك وتعالى مما يبين شدة خوف الملائكة من الله تبارك وتعالى وخشيتهم له ما رواه النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله أن يوحي بالأمر أخذت السماوات منه رجفة -يعني: ترتجف السماوات وتهتز وترتج رجة عظيمة- أو قال: رعدة شديدة خوفاً من الله تبارك وتعالى، فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقوا وخروا لله سجداً -أي: صعقوا من رعدة السماء- فيكون أول من يرفع رأسه جبريل عليه السلام، فيكلمه الله تعالى من وحيه بما أراد). وعند الطبراني في الأوسط بسند حسن عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مررت ليلة أسري بي بالملأ الأعلى، وجبريل كالحلس البالي من خشية الله تعالى). والحلس البالي: هو الكساء الذي يبسط في أرض البيت، مثل السجادة عندما تصبح قديمة جداً ومهلهلة، فكذلك كان جبريل في حال خوفه من الله تبارك وتعالى. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. وصل اللهم على نبينا محمد.

الأسئلة

الأسئلة

المدة المطلوبة لشرح صحيح مسلم

المدة المطلوبة لشرح صحيح مسلم Q إذا استمررنا في الدراسة بهذه الطريقة فهل سنكمل كتاباً واحداً من صحيح مسلم في سنة، وقد قلت: إننا إن شاء الله تعالى سوف نكمل صحيح مسلم في أربع سنوات؟ A نحن لسنا في الجامعة، ولسنا مطالبين بمنهج نكمله في ستة أشهر، وأنا لم أقل: إنني سأنتهي من شرح صحيح مسلم في أربع سنوات، فقد تصحف عليك السماع، بل قلت: إنني الآن أشرح كتاب المساجد في مسجد الهدى في الهرم، وكتاب المساجد في الجزء الخامس من شرح صحيح مسلم، وقد بدأت في شرح صحيح مسلم هناك من قبل وقضيت هناك في كتاب الإيمان عاماً ونصف عام، وكان الدرس في يومي الأحد والأربعاء، ثم ائذن لي أن أسألك: ما الذي يضرك في هذا؟ وهل تهتم بالكم أو بالكيف؟ نحن نعلم أن حديث جبريل عليه السلام حديث يشمل الدين كله، وهناك مقولة لبعض أهل العلم تقول: ينبغي على من تعرض لشرح هذا الحديث أن يشرح الدين كله، ونحن لا نقوم بهذا ولا بعشره؛ لأننا لا نعلم من الدين عشره ولا أقل من ذلك، ولكنه جهد المقل، وإنما نجمع مقولات أهل العلم؛ لنبلغها لطلاب العلم والمحبين لهذا الدين. ونحن الآن نشرح كتاب الإيمان، ولابد من استقصاء الكلام في الإيمان الذي منه الإيمان بالله عز وجل، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله، وبيان معنى الإيمان والإسلام؛ لأننا بعد كتاب الإيمان سوف ندخل في الأحكام والفرائض والنوافل والسنن. وهذه فرصة للتعرف على الإيمان بأركانه وحقائقه ومذهب السلف في كل مسألة من مسائله من خلال شرحنا لكتاب الإيمان، الذي عموده حديث جبريل، وهذا الكلام الذي تسمعه 90% منه فوائد لي أنا، لم أكن وقفت عليها من قبل، فأنا أريد أن أبلغه إليك، ونحن إن شاء الله سنحاول إنها كتاب الإيمان في ثلاث سنوات.

حكم الصلاة والصيام عن الميت

حكم الصلاة والصيام عن الميت Q هل يصح الصيام والصلاة عن المتوفى، مع الدليل على ذلك؟ A الصلاة لا تجوز ولا تصح، وأما الصيام ففيه خلاف كبير بين أهل العلم، فالجمهور قالوا: لا يجوز الصيام عن الميت، وحملوا الأحاديث التي فيها قول النبي عليه الصلاة والسلام: (من مات وعليه صوم صام عنه وليه) على الإطعام عنه. وهذا تأويل يغاير ظاهر النص، ولا بأس بإجراء النص على ظاهره، وقد اختلف العلماء في هل يصوم عنه الفرض أو الواجب، فصيام النذر واجب، والراجح جواز الصيام عن الميت. والله تعالى أعلم.

كتاب الإيمان - الكلام في الأسماء والصفات

شرح صحيح مسلم - كتاب الإيمان - الكلام في الأسماء والصفات لقد تسمى الله عز وجل بأسماء، ووصف نفسه بصفات، ولما كانت هذه الأسماء والصفات غيباً عنا كان طريق إدراكها هو كتاب الله عز وجل، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو ما سلكه أهل السنة والجماعة في باب الأسماء والصفات، ووضعوا القواعد والأصول في هذا الباب على ضوئه، وقد ضل في هذا الباب طائفتان، طائفة غلت في إثبات الأسماء والصفات حتى شبهت الله بخلقه، وطائفة عطلتها، وحكموا أهواءهم وعقولهم في هذا الباب.

افتراق أهل القبلة في توحيد الأسماء والصفات

افتراق أهل القبلة في توحيد الأسماء والصفات الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أما بعد: الإيمان بالله يستلزم أمرين: الأمر الأول: الإيمان بوجود الله عز وجل، والأدلة على الإيمان بوجود الله هي العقل والفطرة والحس والشرع، ودليل الشرع قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25]. ودليل الحس إجابة الدعاء. ودليل الفطرة حديث: (ما من مولود يولد إلا ويولد على الفطرة)، وفي رواية: (إلا ويولد على هذه الملة)، وفي رواية: (إلا ويولد على ملة الإسلام)، أي: على فطرة الإسلام. وقيل: إن الفطرة ما كتبه الله عليه من الشقاء أو السعادة أو ما هيئ له. والراجح من الأدلة أن الفطرة هي فطرة الإسلام. والأمر الثاني: توحيد الله وإخلاص العبادة له. أنواع التوحيد ثلاثة، وهي: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات. ومعنى توحيد الربوبية: أن الله سبحانه وتعالى متفرد بالخلق والأمر والملك. والأمر هنا بمعنى التدبير. والفرق بين ملك الله عز وجل وملك العبد أن ملك الله عز وجل مطلق وهو عام وشامل، وأما ملك العبد فإنه مقصور ومحدود عليه. وتوحيد الألوهية هو: إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة والتوحيد والألوهية. افترقت فرق الإسلام في توحيد الأسماء والصفات على طرفين ووسط، فكانت المشبهة والممثلة والمجسمة والمنزهة على طرف، والمعطلة على طرف، وأهل السنة هم الوسط بين هؤلاء وهؤلاء. وكانت أول الفرق ظهوراً هي الخوارج، ثم حدثت بعد ذلك القدرية، ثم المرجئة، ثم المعتزلة، ثم الأشاعرة. انقسمت هذه الفرق في توحيد الأسماء والصفات أقساماً عديدة كالآتي: القسم الأول قالوا: لا يجوز أبداً أن نصف الله بوجود أو بعدم، ولا نثبت له الوجود ولا العدم؛ لأنه إن وصف بالوجود أشبه الموجودات، وإن وصف بالعدم أشبه المعدومات، قالوا: ومحال على الله عز وجل أن يوصف بالوجود أو بالعدم؛ لأنه يستلزم من وجوده أن يشبه الموجودات والمخلوقات. ومن أجل ذلك قالوا: يجب نفي الوجود والعدم عن الله عز وجل؛ لأنه لا ينبغي أن يشابه الموجودات ولا أن يشابه المعدومات. وحقيقة ما ذهبوا إليه هو أنهم شبهوا الخالق بالممتنعات والمستحيلات؛ لأن العدم والوجود لا يجتمعان ولا يرتفعان في الوقت نفسه، وكل عقول بني آدم تنكر هذا الشيء ولا تقبله، فهم فروا من شيء ووقعوا فيما هو شر منه وهذا عين الضلال. القسم الثاني قالوا: نصفه تعالى بالنفي ولا نصفه بالإثبات، فهم يقولون: ليس بميت، ولا يقولون: إنه حي سبحانه وتعالى، ويقولون: ليس بجاهل، ولا يقولون: عليم. مع أن الله تعالى أثبت لنفسه في الكتاب أكثر مما نفى، فلو أتينا إلى كتاب الله عز وجل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم لوجدنا أن الإثبات أكثر من النفي، وهؤلاء يثبتون النفي ولا يثبتون الإثبات، ولاشك أن هذا الرأي أيضاً مردود عليهم، ولو احتججت على هؤلاء بأن الله تعالى قال عن نفسه: سميع بصير، أو أن الله تعالى أثبت لنفسه صفات، لردوا عليك بأن هذه النسبة أو هذه الأسماء والصفات التي أثبتها الله تعالى إنما هي نسبة إضافة، وليست نسبة حقيقة لله عز وجل، فهم يقولون: ليس له سمع، ولكن له مسموع، والمسموع هو خلقه. ثم ظهر قسم آخر داخل هذا القسم يقول: هذه الأوصاف إنما هي لمخلوقاته وليست له، أما هو سبحانه وتعالى فلا نثبت له صفة. القسم الثالث قالوا: نثبت له الأسماء دون الصفات، فهم لا يثبتون له صفات، وإنما يثبتون له الأسماء فقط، وهؤلاء هم المعتزلة، فقد أثبتوا لله تعالى الأسماء فقط، وقالوا: إن الله قدير حكيم عليم، ولكن قدير بلا قدرة، وحكيم بلا حكمة، وعليم بلا علم. القسم الرابع قالوا: نثبت له الأسماء حقيقة -يعني: أن هذا الفريق وافق المعتزلة في إثبات الأسماء لله عز وجل- ونثبت له صفات معينة دل عليها العقل؛ لأن العقل يقبل نسبة هذه الصفات لله عز وجل، ولا يقبل نسبة غيرها من الصفات وهؤلاء هم الأشاعرة. فالمعتزلة والأشاعرة يلتقيان في تحكيم العقل في صفات الله عز وجل، وإن كان الأشاعرة أخف وطأة من المعتزلة. ومن أصول المعتزلة في هذا الباب: تقديم العقل على النقل. فالأشاعرة أخف وطأة من المعتزلة؛ لأن المعتزلة نفوا جميع الصفات، وأما الأشاعرة فأثبتوا منها سبع صفات؛ لأنها تتفق مع العقل، ونفوا الباقي، والصفات التي أثبتوها مجموعة في قول الشاعر: له الحياة والكلام والبصر سمع إرادة وعلم واقتدار أي: القدرة. فكأنهم آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعضه، ولكن هذا الكفر لم يكن كفر جحود ونكران، و

مذهب المعطلة في أسماء الله وصفاته

مذهب المعطلة في أسماء الله وصفاته والذين نفوا صفات الله عز وجل زعموا أن هذا تنزيه، فوقعوا في التعطيل. والجهمية أتباع الجهم بن صفوان ينكرون جميع صفات الله عز وجل، والغلاة منهم ينكرون الأسماء، ويقولون: لا يجوز أن نثبت لله تعالى اسماً ولا صفة، وهؤلاء هم غلاة الجهمية، وأما عموم الجهمية، فإنما يثبتون لله تعالى الأسماء دون الصفات. والغلاة منهم يقولون: إذا أثبت له اسماً شبهته بالمسميات، وإذا أثبت له صفة شبهته بالموصوفات. فهم لا يثبتون لله اسماً ولا صفة، وما أضاف الله إلى نفسه من الأسماء فهو من باب الإضافة المجازية، وليس من باب التسمي بهذه الأسماء. والجهمية والمعتزلة والأشاعرة يشملهم قسم التعطيل؛ لأنهم عطلوا الله عز وجل عن صفاته، وعطلوا الصفات عن الموصوف بها وهو الله عز وجل، ولكن بعضهم عطل تعطيلاً كاملاً كالجهمية، وبعضهم تعطيلاً نسبياً كالمعتزلة والأشاعرة، فالمعتزلة عطلوا الصفات، والأشاعرة عطلوا أكثرها وأثبتوا القليل منها.

مذهب أهل التمثيل في أسماء الله وصفاته

مذهب أهل التمثيل في أسماء الله وصفاته وأما أهل التمثيل -وهم المشبهة- فيثبتون لله تعالى الصفات، ويقولون: يجب أن نثبت لله الصفات؛ لأنه أثبتها لنفسه، لكن يقولون: إنها مثل صفات المخلوقين. ويقولون: نثبت لله تعالى اليد، ولكنها كيد المخلوق، ووجهاً كوجه المخلوق، ورجلاً كرجل المخلوق، وسمعاً كسمع المخلوق. وهكذا بقية الأسماء والصفات، تعالى الله عز وجل عن قولهم علواً كبيراً. ويقولون: إذا أثبتنا لله عز وجل الوجه فينبغي أن يكون هذا الوجه مشابهاً لوجه المخلوقين، وليس كأي وجه، وإنما نختار أجمل الناس وجهاً فنقول: وجه الله كهذا الوجه، وإذا أثبتوا لله تعالى السمع أتوا بأشد حاسة للسمع عند أي مخلوق وقالوا: إن الله تعالى يسمع كسمع هذا المخلوق، ويبصر كبصر هذا المخلوق، وهكذا، وهذا كله ضلال وكفر. فهو على زعمهم والعياذ بالله مثل أحسن شخص من الشباب الإنساني، ويدعون أن هذا هو المعقول، وليس هو بمعقول. فهؤلاء غلوا في الإثبات، وأهل التعطيل غلوا في التنزيه.

مذهب أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات

مذهب أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات وأما أهل السنة والجماعة فقالوا: نأخذ بالحق الذي مع الجانبين، أي: جانب أهل التعطيل وجانب أهل التمثيل والتشبيه، فنأخذ بالحق في باب التنزيه فلا نمثل، ونأخذ بالحق في جانب الإثبات فلا نعطل، بل إثبات بلا تمثيل وتنزيه بلا تعطيل. فكان أهل السنة والجماعة وسط في باب الصفات بين طائفتين متطرفتين، طائفة غلت في التنزيه والنفي، وهم أهل التعطيل من الجهمية وغيرهم، وطائفة غلت في الإثبات، وهم الممثلة. وأهل السنة والجماعة تمسكوا بالنصوص التي أثبتت ونفت، كقول الله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]. وهذا نفي للتشبيه، وبقوله تعالى: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ))، على أن الله تعالى لا يشابه أحداً من خلقه، و (شيء) هنا نكرة تفيد العموم، أي: ليس شيء من خلقه يشبهه في صفاته ولا في ذاته، فكما أن المخلوق يختلف عن الخالق في الذات فلابد وأن يختلف لزاماً في الصفات والأسماء كذلك. ثم قال تعالى: ((وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)). وهذا فيه إثبات الصفات والأسماء لله عز وجل. وخلاصة القول: إن أهل السنة والجماعة وسط بين هاتين الطائفتين، بين المعطلة وبين الممثلة والمشبهة، فلا يثبتون إثبات المشبهة، ولا ينفون نفي أهل التعطيل. والذي يطالع كتب القوم -أي: أهل الكلام والفلاسفة والذين تكلموا في العقائد- الذين اعتنوا بأقوال الناس في هذا الأمر يرى العجب العجاب. فهم يقولون في كتبهم: كيف يتفوه عاقل بإثبات صفات وأسماء الله عز وجل؟ ومن قرأ كتبهم فإنه يتعجب غاية العجب من نفيهم عن الله عز وجل ما أثبته لنفسه، ومن قولهم: إنما نثبت لله ما أثبته العقل وإن كان منفياً في الكتاب، وننفي عن الله تعالى ما ينفيه العقل وإن كان مثبتاً في الكتاب. فجعلوا العقل هو الميزان الأكبر الذي يوزن به أسماء الله تعالى وصفاته. والحقيقة أن الميزان الأكبر هو الكتاب والسنة، ولهذا ينبغي دائماً أن نسأل الله عز وجل الثبات على منهج أهل السنة والجماعة، وكثيراً ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك). وكان يقول: (اللهم يا مصرف القلوب! صرف قلبي إلى طاعتك). فينبغي على الإنسان الثبات على منهج أهل السنة والجماعة في كل أبواب العلم، وخاصة ما يتعلق بذات الإله سبحانه وتعالى، في أسمائه وصفاته وفي توحيد الربوبية والألوهية كذلك. ومن تمام مقتضى حكمة الله عز وجل أنه يقيض لهذا الدين من يذب عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، فالله عز وجل هو الذي تكفل بحفظ هذا الدين وبإظهاره على الأديان والشرائع كلها، قال الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]. فالله عز وجل هو الذي حفظ هذا الدين، فإذا تخلى رجل أو جماعة أو طائفة أو فرقة من أبناء هذه الملة عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم وعن طريق الكتاب العزيز، فإن الله تعالى يقيض له من يرده إلى الصواب، أو من يظهر الصواب والحق لبقية الأمة.

قواعد وأصول في الأسماء والصفات

قواعد وأصول في الأسماء والصفات هناك قواعد وأصول ينبغي حفظها واعتقادها ودراستها دراسة متأنية حتى يكون عندنا الإيمان الكامل التام بأسماء وصفات الله عز وجل، وسنعيش مع هذه القواعد ونذكر ما تيسر لنا منها.

الإيمان بالأسماء والصفات من لوازم الإيمان بالله

الإيمان بالأسماء والصفات من لوازم الإيمان بالله القاعدة الأولى: إن الإيمان بالأسماء والصفات من لوازم الإيمان بالله عز وجل، فإن ادعى رجل أنه يؤمن بالله عز وجل وأنه يوحده توحيد الربوبية والألوهية ولكنه لا يؤمن بالأسماء والصفات قلنا له: لست بمؤمن، فإن أنكر الأسماء والصفات إنكار جحود قلنا له: أنت كافر ولا كرامة، وإن كان ينكرها كما أنكرها الجهمية أو متأخرو الجهمية والمعتزلة والأشاعرة -أي: إنكار تأويل- فلا نكفره، ولكنا نقول له: إنك من أهل القبلة ولست من أهل السنة. ووجه ذلك: أن الإيمان بالله عز وجل يستلزم الإيمان بأسمائه وصفاته، فذات الله تعالى تسمى بأسماء وتوصف بأوصاف، ولا يتصور ذات مجردة عن الأسماء والصفات لا في الشرع ولا في العقل ولا في الواقع كذلك، فالإيمان بالله عز وجل يستلزم أن تؤمن بصفات الله عز وجل وأسمائه؛ لأنه سبحانه وتعالى ذات مسمى بأسماء وموصوف بأوصاف، فلا يتصور أبداً لا في العقل ولا في النقل أن تؤمن بذات الله ثم تنفي عنه الأسماء والصفات.

صفات الله من الأمور الغيبية

صفات الله من الأمور الغيبية القاعدة الثانية: صفات الله عز وجل من الأمور الغيبية، والواجب على الإنسان نحو هذه الأمور الغيبية أن يؤمن بها على ما جاء دون أن يرجع إلى شيء سوى النصوص، فالأمور الغيبية الفيصل في إثباتها وعدم إثباتها وجود النص، ولو اجتمعت الأمة كلها -بل لو اجتمع أهل الأرض- على أن يثبتوا أمراً غيبياً ليس عليه دليل لا من كتاب ولا من سنة فقولهم مردود؛ لأنه لا يعلم الغيب إلا الله، والله عز وجل لا يطلع على غيبه أحداً من خلقه لا من الملائكة ولا الرسل إلا من أراد إطلاعه على ذلك فضلاً منه ومنة. وإن ادعى رجل علم الغيب وأنه يأتيه وحي من الشيطان، وذكر أشياء فظهرت حقيقة بعد ذلك فهذا لا يخرجه عن كذبه وزوره وضلاله؛ لأننا عندنا أصل أصيل، وهو أنه لا يعلم الغيب إلا الله، ولما كانت ذات الله عز وجل غائبة عنا ويجب علينا الإيمان بذاته سبحانه وتعالى وبوجوده عز وجل لزم من ذلك أن نؤمن بأسمائه وصفاته، وكما أن الذات غائبة عنا فلابد وأن تكون الأسماء والصفات غائبة عنا، فلا نثبت منها لله تعالى اسماً أو صفة لم يثبته لنفسه، ولم يثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم. وفي المقابل لا ننفي عن الله عز وجل اسماً أثبته لنفسه، ولا ننفي عنه اسماً أثبته له النبي صلى الله عليه وسلم. فالأسماء والصفات من الأمور التوقيفية؛ لأنها عبادة، ومعنى أنها توقيفية: أننا نتوقف عن النفي والإثبات حتى يأتينا الدليل، فهي ليست محل اجتهاد الأمة؛ لأنها من الأمور الغيبية، فلا يجوز لنا أن نثبت ما لم يثبت، ولا أن ننفي ما هو ثابت لله عز وجل. قال الإمام أحمد بن حنبل عليه رحمة الله: لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله، لا يتجاوز القرآن والحديث، أي: لا يحل لنا أن نتجاوز في الإثبات والنفي ما جاء في كتاب الله عز وجل وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فلا نصف الله إلا بما وصف به نفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. ويدل على ذلك القرآن الكريم والعقل الصحيح الموافق للنقل الصريح، ففي كتاب الله عز وجل يقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33]. وفي هذا تحريم القول على الله تعالى بغير علم، فإذا كان هذا في الإفتاء وفي البلاغ وفي البيان فكيف بإثبات ما هو لازم لله عز وجل من أسمائه وصفاته؟ لا شك أن هذا أنكى وأشر. وقال الله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36]. ولو أننا أثبتنا لله تعالى ما نفاه عن نفسه، أو نفينا عن الله تعالى ما أثبته لنفسه فلاشك أننا قد قفونا ما ليس لنا به علم، والله تعالى سيحاسبنا على أقوالنا وأسماعنا وأبصارنا وغير ذلك، كما في قوله: ((إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا)). وأما الدليل العقلي في إثبات الأسماء والصفات لله عز وجل فهو: أن صفات الله عز وجل من الأمور الغيبية، ولا يمكن أن يدركها العقل، فلا نصف الله بما لم يصف به نفسه ولا نكيف صفاته؛ لأن ذلك غير ممكن لنا، وغير معقول كذلك في الفطر السليمة. ونحن الآن لا ندرك كيفية نعيم الجنة، رغم أن الجنة والنار مخلوقتان الآن، وهما لا تفنيان ولا تبيدان، والله عز وجل يقول في الحديث القدسي: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر). والنبي صلى الله عليه وسلم لما وصف لنا شيئاً من ذلك ما وصفه إلا بعد أن اطلع عليه ورآه في الجنة، ولكنه ليس وصفاً تفصيلياً، وإنما وصف مجمل، والله عز وجل يقول: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:17]. فالله تعالى أخفى علينا ما هو مخلوق الآن من نعيم الجنة وعذاب النار، وروحك التي بين جنبيك -والتي إذا خرجت منك صرت جثة هامدة- مخلوقة لله عز وجل، ولا يمكن وصفها رغم أنها موجودة في بدنك، فكيف نصف الله عز وجل ونشبهه بخلقه؟ فلابد من الإيمان بالأسماء والصفات كما جاءت، وهذا كان منهج السلف جميعاً، فقد كانوا يؤمنون بأسماء الله وصفاته، ويمرونها كما جاءت، ويؤمنون بها ولا يكيفونها، وإنا لنعلم قول أم سلمة وربيعة الرأي ومن بعدهم مالك لما سئل عن الاستواء قال: الاستواء معلوم -أي: في لغة العرب، وهو الارتفاع والعلو- والكيف مجهول. ومذهب أهل السنة والجماعة تفويض الكيف لا تفويض المعنى، ومن قال: إن السلف كانوا يكيفون المعنى فقد أعظم عليهم الفرية، فإن السلف لم يكونوا يكيفون، بل كانوا يفوضون الكيف دون المعنى. قال: الاستواء معلوم والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدع

الواجب تجاه صفات الله تعالى

الواجب تجاه صفات الله تعالى القاعدة الثالثة من قواعد الأسماء والصفات: هي أننا لا نصف الله تعالى بما لم يصف به نفسه، وإنما نثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه، وما أثبته له رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وننفي عنه عز وجل ما نفاه عن نفسه.

إجراء نصوص الكتاب والسنة في الأسماء والصفات على ظاهرها

إجراء نصوص الكتاب والسنة في الأسماء والصفات على ظاهرها القاعدة الرابعة: إجراء نصوص الكتاب والسنة على ظاهرها، لا نتعدى ذلك ولا نخوض فيه. فلا نقول: إن الله تعالى يسمع كسمعنا، ولا يبصر كبصرنا؛ لأن الله تعالى له سمع يختلف عن سمعنا، وبصر يختلف عن بصرنا، فكما أن أسماءه تختلف عن أسماء المخلوقين، فكذلك صفاته تختلف عن صفات المخلوقين، وقد وصف الله نفسه بأن له عيناً، كما في قوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39]، وقوله تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14]. فلا نقول: إن المقصود بالعين هنا الرؤية؛ لأننا بذلك نكون قد نفينا عن الله عز وجل صفة من صفاته وهي العين، وإذا قلنا: إن اليد المقصود بها القدرة فإننا نكون بذلك قد نسبنا كلام الله إلى الهزل، فإن الله تعالى قد أثبت لنفسه اليد، وأثبت القدرة، وهكذا تكلم الله عز وجل كلاماً على الحقيقة، وليس مخلوقاً له، وإنما هو كلامه الذي هو صفة من صفاته اللازمة لذاته سبحانه وتعالى منذ الأزل وإلى الأبد. والله تعالى لما أثبت لنفسه اليد والقوة والقدرة دل هذا على أن اليد شيء والقدرة شيء آخر. فتعدد الأوصاف يستلزم تباينها، فليست القدرة هي اليد، ولا اليد هي القدرة؛ لأن كلاً منهما ثابت لله عز وجل.

صفات الله عز وجل ذاتية وفعلية

صفات الله عز وجل ذاتية وفعلية القاعدة الخامسة: صفات الله عز وجل نوعان، صفات ذاتية وصفات فعلية. فالصفات الذاتية لم يزل الله عز وجل ولا يزال متصفاً بها، وهي كذلك نوعان: معنوية وخبرية. فالمعنوية: مثل الحياة والعلم والقدرة والحكمة وما أشبه ذلك من صفاته المعنوية. وأما الصفات الخبرية فمثل اليدين والوجه والعينين، وغير ذلك مما له نظير في الاسم فقط عند مخلوقاته، فجوارح المخلوقين مثل العين واليد والوجه وغير ذلك تسمى صفات خبرية لله عز وجل، ولكنها ليست جوارح لله عز وجل، فإن الله تعالى له يد لكنها ليست كأيدي المخلوقين، وله وجه ليس كوجه المخلوقين، وله عين ليست كعين المخلوقين. فهذه صفات خبرية لله عز وجل. والله تعالى لم يزل له يدان ووجه وعينان منذ الأزل وإلى الأبد، ولم يحدث له يدان وعينان ووجه بعد ذلك، تعالى الله عن ذلك. وهو سبحانه وتعالى لا ينفك عن شيء من هذه الصفات في المستقبل، أي: أن هذه الصفات الذاتية تظل باقية لله عز وجل؛ لأنها لازمة لذاته، وهذه الصفات مثل صفة الحياة والعلم والقدرة، فإن الله لم يزل حياً ولا يزال حياً، ولم يزل عالماً ولا يزال عالماً، ولم يزل قادراً ولا يزال قادراً، فلا تتجدد حياته كتجدد حياة المخلوقين، ولا تتجدد قدرته كتجدد قدرة المخلوقين، بل هو موصوف بهذا أزلاً وأبداً، وتجدد المسموع لا يستلزم تجدد السمع، فأنا مثلاً عندما أسمع الأذان الآن فهذا ليس معناه أنه حدث لي سمع جديد عند سماع الأذان، بل هو موجود منذ خلقه الله تعالى، ولكن المسموع يتجدد، يعني: ما دامت الأصوات موجودة فأنا أسمعها ما دامت هذه الحاسة لم تتعطل، وهذا يقال فيه: تجدد المسموع، وتجدد المسموع هذا إنما هو في حق المخلوق دون الخالق سبحانه وتعالى، فالله تعالى لا يزال سميعاً بصيراً، ولم يزل سميعاً بصيراً منذ الأزل وإلى الأبد. وقد اصطلح العلماء رحمهم الله تعالى على أن يسموا هذه الصفات صفات ذاتية؛ لأنها ملازمة للذات لا تنفك عنه سبحانه وتعالى. وأما الصفات الفعلية، فهي الصفات المتعلقة بمشيئة الله عز وجل، سواء المشيئة الشرعية أو القدرية الكونية، والصفات الفعلية المتعلقة بالمشيئة نوعان: صفات لها سبب معلوم، كالضحك والرضا والغضب والسخط. فكل هذه صفات لها سبب معلوم، فإذا أتيت ما يستوجب رضا الله عز وجل رضي عنك، وإذا أتيت ما يستوجب سخطه عز وجل سخط عليك وغضب عليك. قال الله تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7]. ومعنى ((وَلا يَرْضَى)) يعني: يسخط ولا يقبل ذلك ويرده على صاحبه. وقال: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر:7]، أي: وإن تؤمنوا ((يَرْضَهُ لَكُمْ)). ومعنى الشكر هنا: هو الإيمان؛ لأنه قال في أول الآية: ((إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ))، أي: وإن تؤمنوا بالله عز وجل وتشكروه على هذه النعمة يرضى ذلك منكم. فهذه الآية أثبتت الرضا والسخط لله عز وجل. وأما الصفات التي ليس لها سبب معلوم فكصفة النزول إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، وظاهر الروايات تدل على أن الله تعالى إنما ينزل رحمة بعباده، ولكن الله تعالى قادر على أن يرحمهم وهو في السماء السابعة مستو على عرشه، فالحكمة من نزول الله عز وجل لا يعلمها أحد من الخلق. ومن الصفات ما يجمع بين صفات الذات وصفات الفعل باعتبارين، فكلام الله عز وجل صفة فعلية لله عز وجل باعتبار آحاده، وهو في أصله صفة ذات، ومعنى ذلك: أن الله تعالى لم يزل متكلماً ولا يزال متكلماً، فهي بهذا الاعتبار صفة ذات، والله تعالى يتكلم إذا شاء ومتى شاء بما شاء، فتكون بهذا الاعتبار صفة فعل. والصفات الفعلية اصطلح العلماء على تسميتها صفات فعلية؛ لأنها من فعله سبحانه وتعالى، ولها أدلة كثيرة من كتاب الله عز وجل، مثل قول الله عز وجل: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22]. فهذه تثبت المجيء لله عز وجل. وقول الله عز وجل: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} [الأنعام:158]. والذي يقول: إتيان الرب هنا إنما هو إتيان أمره كلام باطل؛ لأن تعقيب هذا الكلام بقوله: {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام:158]، يدل على التباين بين الأمر وبين الرب سبحانه وتعالى، وأن الله تعالى إنما يأتي بذاته، وكذلك يأتي بأمره، فقوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام:158]، يدل على أن إتيان الأمر هو غير إتيان الرب سبحانه وتعالى. وقوله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة:119]، فيه إثبات صفة الرضا لله عز وجل، وهذه صفة فعل، وليست صفة ذات

لا مدخل للعقل في باب الأسماء والصفات

لا مدخل للعقل في باب الأسماء والصفات القاعدة السادسة: العقل لا مدخل له في باب الأسماء والصفات؛ لأن الأسماء والصفات من الأمور التوقيفية الغيبية، أي: التي نعتمد فيها على السمع دون سواه، ومعنى السمع: النقل، والنقل هو: الوحي الذي هو الكتاب والسنة، فصفات الله عز وجل وأسماؤه لا دخل للعقل فيها، والعقول لا تحكم على الله أبداً، وإنما المدار على السمع، خلافاً للأشعرية والمعتزلة وكذلك الجهمية وغيرهم من أهل التعطيل الذين جعلوا المدار في إثبات الصفات أو نفيها على العقل، وقالوا: ما اقتضى العقل إثباته أثبتناه سواء أثبته الله لنفسه أم لا، وما اقتضى نفيه نفيناه عن الله تعالى وإن أثبته لنفسه، وهذا رد صريح وتحريف للكلم عن مواضعه في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وما لا يقتضي العقل إثباته ولا نفيه فمعظم هذه الفرق من المعتزلة والأشعرية والجهمية ينفونه كذلك. فنفوا عن الله عز وجل صفات لم ينفها عنه العقل الذي يستندون إليه، وهذا يدل على أن من اعتمد على عقله ضل وزل، وحجتهم في ذلك: أن دلالة العقل إيجابية، فإن أوجب الصفة أثبتوها، وإن لم يوجبها نفوها. ومنهم من توقف في ذلك فلم يثبتها؛ لأن العقل لا يثبتها، ولم ينفها أيضاً؛ لأن العقل لا ينفيها، ويقول: نتوقف عن إثبات أو نفي ما لم يثبته العقل أو ما لم ينفه عن الله عز وجل، فصار هؤلاء يحكمون فيما يجب أو يمتنع على الله عز وجل، فما اقتضى العقل وَصْف الله تعالى به وُصِفَ به، وإن لم يكن في الكتاب والسنة، وما اقتضى العقل نفيه عن الله نفوه، وإن كان في الكتاب والسنة.

إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه في كتابه من الأسماء والصفات وما أثبته له رسوله

إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه في كتابه من الأسماء والصفات وما أثبته له رسوله القاعدة السابعة: أن نثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه في كتابه، والكتاب هو: كلام الله عز وجل الذي تكلم به على الحقيقة، وسمي كتاباً لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ، ومكتوب مع الحفظة البررة، ومكتوب في المصاحف التي بين أيدينا. فنثبت له ما تكلم به سبحانه وتعالى وأثبته لنفسه في كتابه وفي قرآنه، وكذلك نثبت له عز وجل ما أثبته له رسوله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما تكلم وفعل وأقر بالوحي، فنثبت لله تعالى ما أثبته له رسوله عن طريق القول وعن طريق الفعل وعن طريق الإقرار. فأما قوله صلى الله عليه وسلم فهو كثير جداً في السنة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (ربنا الله الذي في السماء). فهنا أثبت الفوقية والعلو لله عز وجل، (تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض). ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم عندما كان يحلف كان يقول: (لا ومقلب القلوب). وكان يقول: (قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء). فهذا فيه إثبات الصفات لله عز وجل من قول النبي صلى الله عليه وسلم. وأما الفعل فهو أقل من القول دائماً، وقد أثبت النبي صلى الله عليه وسلم لربه صفات عن طريق الفعل، وهي أقل من التي أثبتها عن طريق القول، وذلك مثل إشارته صلى الله عليه وسلم إلى السماء يستشهد الله على إقرار أمته بالبلاغ، فقد قال لهم في حجة الوداع في آخر الخطبة الطويلة: (وإنكم مسئولون عني فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: لقد بلغت وأديت يا رسول الله! فأشار إلى السماء بالسبابة، وقال: اللهم اشهد اللهم اشهد). فأشار إلى السماء إلى الله عز وجل ونكس بيده إلى الأرض إشارة على إقرار الأمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ الأمانة وأدى الرسالة، ورفع يده إلى السماء ثلاث مرات وقال: اللهم اشهد، أي: اشهد على هذه الأمة أن يقولوا يوم القيامة: ما أتانا من بشير، وما أتانا من نذير. فأثبت العلو والفوقية لله عز وجل عن طريق الإشارة. وجاءه رجل وهو يخطب على المنبر وقد أصاب المدينة قحط وجدب، فقال: (يا رسول الله! ادع الله لنا أن يغيثنا بالماء -أو قال: بالمطر- فقد هلك الزرع والضرع، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه إلى السماء يستمطر ويدعو الله عز وجل أن ينزل الغيث، فلما حضرت الجمعة المقبلة دخل ذلك الرجل وقال: يا رسول الله! ادع الله تعالى أن يرفع عنا ذلك، فقد هلك الزرع والضرع -أي: من كثرة الماء- فرفع يديه إلى السماء وفعل مثلما فعل في الجمعة الماضية، فما نزل حتى رفع الله تعالى الماء، وصارت السماء صحواً وفيها الشمس). فهذا يدل على إقراره عليه الصلاة والسلام أن الله تعالى في السماء، ولو كان الله تعالى في الأرض بذاته للزم من ذلك أن ينظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأرض. ولا يزال عوام الناس إذا دعوا الله عز وجل توجهوا إلى السماء. وفي حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه أنه لما لطم الجارية على خدها استعظم ذلك الأمر، فظن أن له توبة على يد النبي صلى الله عليه وسلم فذهب يسأله عن ذلك، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الجارية وقال لها: (أين الله؟ قالت: في السماء) فلم يقل لها: نعم، هو في السماء، وإنما سكت، وسكوت النبي صلى الله عليه وسلم إقرار؛ لأنه لا ينبغي للنبي صلى الله عليه وسلم أن يسكت على باطل؛ لأنه لو رأى رجلاً يتكلم أو رأى رجلاً يفعل فعلاً وسكت عنه فإن ذلك ينسب للنبي عليه الصلاة والسلام، ولذلك الصحابة كانوا يقولون: كنا نفعل كذا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وعلماء الحديث يقولون: إذا قال الصحابي: كنا نفعل كذا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فله حكم المرفوع، وكأنه من قول النبي عليه الصلاة والسلام أو من فعله عليه الصلاة والسلام؛ لأنه لا يسكت عن باطل أو منكر. فنثبت لله عز وجل ما أثبته لنفسه في كتابه وما أثبته له رسوله عن طريق القول والفعل والإقرار. وأسماء الله الحسنى هي التي أثبتها الله لنفسه وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، وآمن بها جميع المؤمنين، قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:180]. وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110]. وقال تعال: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه:8]. وقال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا

أسماء الله تعالى ليست محصورة في التسعة والتسعين اسما

أسماء الله تعالى ليست محصورة في التسعة والتسعين اسماً القاعدة الثامنة: أسماء الله تعالى ليست منحصرة في التسعة والتسعين اسماً، بل هي أكثر منها، والدليل على ذلك حديث ابن مسعود عند أحمد وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أصاب أحداً قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك). وهذا هو الشاهد، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يسأل الله تعالى بالأسماء التي استأثر بها في علم الغيب عنده، ولم يطلع عليها أحداً من خلقه، لم يعلمها أحداً منهم، ولا أنزلها في كتابه. وهذا يدل على أن هناك أسماء أخرى استأثر الله عز وجل بعلمها وجعلها من الغيب الذي لا يعلمه أحد. قال: (أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وهمي، إلا أذهب الله حزنه وهمه وأبدله مكانه فرحاً). يقول الإمام النووي رحمه الله أثناء شرحه لحديث: (إن لله تعالى تسعة وتسعين اسماً): اتفق العلماء على أن هذا الحديث ليس فيه حصر لأسمائه سبحانه وتعالى، وإنما هي أكثر من ذلك. قال: فليس معناه أنه ليس له أسماء غير هذه التسعة والتسعين، وإنما مقصود الحديث أن هذه التسعة والتسعين من أحصاها دخل الجنة، فكأن المراد الإخبار عن دخول الجنة بالإحصاء لا الإخبار بحصر أسمائه، وكأن هذا الحديث فائدته أنه يبين لك أنك لو أحصيت التسعة والتسعين اسماً دخلت الجنة، وليس فيه دلالة على أن أسماء الله تعالى منحصرة في التسعة والتسعين. فيكون المقصود الإخبار عن دخول الجنة بإحصاء هذه الأسماء، وليس المقصود الإخبار بحصر أسماء الله عز وجل في هذه التسعة والتسعين.

من أسماء الله ما لا يطلق عليه إلا مقترنا بمقابله

من أسماء الله ما لا يطلق عليه إلا مقترناً بمقابله القاعدة التاسعة: من أسماء الله عز وجل ما لا يطلق عليه إلا مقترناً بما يقابله، فهناك أسماء لا يجوز نسبتها لله عز وجل إلا بما يقابلها، فإذا أطلق عليه الاسم وحده أوهم نقصاً لله تعالى، فمنها المعطي والمانع، ومنها الضار والنافع، والقابض والباسط، والمعز والمذل، والخافض والرافع، فلا يطلق على الله عز وجل المانع الضار القابض المذل الخافض؛ لأن هذه الأسماء إذا أطلقت فإنها تحدث شبهة عند السامع بأن هذه الصفات صفات نقص، فلا يجوز أن تقول: إن الله هو المانع إلا إذا قلت: إن الله تعالى هو المعطي والمانع، ولا يجوز أن تقول: إن الله تعالى هو الضار إلا أن تقول: إن الله تعالى هو النافع الضار، ولا أن تقول: إن الله تعالى هو القابض إلا أن تقول: إن الله تعالى هو القابض الباسط، وكذلك الخافض الرافع، وغير ذلك. فلا يجوز إطلاق الاسم الذي يوهم النقص لله عز وجل إلا مقترناً بما يقابله من الاسم الذي أثبته لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، فلابد من ازدواجها، فهما لم يطلقا في الوحي إلا كذلك. ومن ذلك المنتقم وهي صفة لله عز وجل، فلا يجوز أن نقول: إن الله تعالى هو المنتقم؛ لأنها لم تأت في القرآن إلا مضافة أو مقيدة، فمثال ما أتت فيه مضافة قوله تعالى: {عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [آل عمران:4]، أي: صاحب انتقام. وتأتي مقيدة بالمجرمين، كقوله تعالى: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} [السجدة:22]، أي: أن الله تعالى ينتقم من المجرمين.

بعض أفعال الله أطلقها على نفسه على سبيل الجزاء والمقابلة

بعض أفعال الله أطلقها على نفسه على سبيل الجزاء والمقابلة القاعدة العاشرة: ورد في القرآن أفعال أطلقها الله عز وجل على نفسه على سبيل الجزاء العدل والمقابلة، بأنه لو فعل الإنسان كذا لفعل الله به كذا وكذا، فالله عز وجل لما أطلق على نفسه هذه الأفعال إنما أطلقها في مقابلة الجزاء العدل، وهي فيما سيقت فيه مدح وكمال، لكن لا يجوز أن يشتق له تعالى منها أسماء، ولا أن تطلق عليه تعالى في غير ما سيقت له. فلابد من شرطين لإطلاقها عليه تعالى: الشرط الأول: لا يجوز إطلاق هذه الأفعال على الله عز وجل إلا فيما سيقت له، وفي مناسبتها، فإذا أطلقت في غير ما سيقت له لكانت صفات نقص، والله عز وجل منزه عن كل نقص، ومتصف بكل كمال وجلال. وهذه الأسماء مثل قوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142]. فلا نثبت الخداع لله عز وجل إلا في مقابلة خداع المنافقين، ولا يجوز لنا أن نشتق من هذا صفة لله عز وجل أو اسماً، ولا يجوز أن نقول: إن الله مخادع؛ لأن هذه صفة فعل، يوصف بها الله عز وجل في مقابلة من استحق ذلك، أي: في مقابلة خداع المنافقين. ومنها قوله عز وجل: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران:54]. فلا يجوز أن نقول: إن الله تعالى هو الماكر، ولكن نقول: إن الله تعالى يمكر في مقابلة مكر الماكرين، ومكر الكافرين، ومهما مكروا فمكر الله تعالى أعظم من مكرهم. ومنها قوله تعالى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة:14 - 15]. فلا يجوز أن نقول: إن الله تعالى هو المستهزئ، ولكن نقول: إن الله تعالى يستهزئ في مقابلة استهزاء المنافقين، ونحو ذلك مما يتعالى الله تعالى عنه، ولا يقال: يستهزئ ويخادع ويمكر وينسى على سبيل الإطلاق، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. ولـ ابن القيم عليه رحمة الله كلام كثير وعظيم جداً في هذا، فهو يقول: إن الله تعالى لم يصف نفسه بالكيد والمكر والخداع والاستهزاء مطلقاً، ولا ذلك داخل في أسمائه الحسنى، ومن ظن من الجهال المصنفين في شرح الأسماء الحسنى أن من أسمائه تعالى الماكر المخادع المستهزئ الكائد فقد فاه بأمر عظيم -أي: تفوه بأمر عظيم- تقشعر منه الجلود، وتكاد الأسماع تصم عند سماعه، وغر هذا الجاهل أنه سبحانه وتعالى أطلق على نفسه هذه الأفعال فاشتق له منها أسماء. فالصفات تشتق من الأسماء، وليس العكس، فإننا نقول: إن الله تعالى حليم بحلم، فالحليم اسم والحلم صفة لله عز وجل، ونقول: عليم بعلم، وسميع بسمع، وبصير ببصر، وقوي بقوة. فالأسماء تستلزم الصفات، وأما الصفة فلا يشتق منها الاسم، ولذلك أخطأ كثير جداً ممن صنفوا في الأسماء والصفات، وهناك كتب كثيرة وقعت في الخطأ، ومنها: الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى، فقد ذكر فيه لله عز وجل أكثر من ثلاثمائة اسم؛ لأنه اشتق من الصفات أسماء، فقال مثلاً: إن الله تعالى هو المنتقم، وهو الماكر، وهو المخادع.

دلالة أسماء الله على حقيقتها دلالة مطابقة وتضمن والتزام

دلالة أسماء الله على حقيقتها دلالة مطابقة وتضمن والتزام القاعدة الحادية عشرة: دلالة أسماء الله تعالى على حقيقتها دلالة مطابقة وتضمن والتزام، فدلالة اسمه تعالى الرحمن على ذاته عز وجل دلالة مطابقة، يعني: أن الله تعالى هو الرحمن، فالرحمن هو الله، والله هو الرحمن، قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الإسراء:110]. ويدل على صفة الرحمة تضمناً؛ لأن الاسم إذا كان ثابتاً لله عز وجل فهو يتضمن أن يكون الله تعالى متصفاً بهذه الصفة. فليست الأسماء منفكة عن الله عز وجل، بل هي ملازمة لذاته سبحانه وتعالى، فإن الله تعالى هو الرحمن، فالاسم مطابق للذات، وهو يتضمن اتصاف الله تعالى بما يدل عليه هذا الاسم، فإذا أثبتنا أن الله تعالى هو الرحمن أثبتنا له الرحمة تضمناً. وهذا الاسم يدل على الحياة وغيرها التزاماً، فإذا أثبتنا أن الرحمة صفة لله عز وجل وأثبتنا أنه الرحيم ذاتاً فلابد أن نثبت له الحياة ذاتاً والتزاماً؛ لأنه لا يتسمى بالرحيم ولا يتصف بالرحمة إلا من هو حي، فأسماء الله عز وجل تدل على حقيقتها لله مطابقة وتضمناً والتزاماً.

أسماء الله تعالى غير مخلوقة

أسماء الله تعالى غير مخلوقة القاعدة الثانية عشرة: أسماء الله تعالى غير مخلوقة، وهذه مسألة عظيمة ضلت فيها الفرق وخاصة الجهمية، فإنهم قالوا: إن صفات الله تعالى حادثة، ومعنى حادثة: أنها كانت بعد أن لم تكن، أي: أنها حدثت لله عز وجل بعد أن لم تكن من قبل. وقد رد عثمان الدارمي عليه رحمة الله على بشر المريسي وغيره ممن قال: إن صفات الله تعالى مخلوقة، وأجاد في تبيين هذه القاعدة. والكلام صفة من صفات الله، وهذا القرآن الذي بين أيدينا صفة من صفات الله، وصفات الله عز وجل غير مخلوقة؛ لأنها أزلية وأبدية، يعني: لا يزال الله عز وجل متصفاً بها، فهو لا يزال متكلماً، ولو قلت: إن صفة الكلام حادثة لله عز وجل للزم من ذلك أن تقول: إن هذه الصفة مخلوقة، وكل مخلوق يطرأ عليه الفناء، فيلزم من قولك: إن صفات الله تعالى مخلوقة أن تقول: إن صفات الله تعالى لابد وأن تزول، ويلزم من ذلك أيضاً أن تقول: إذا كانت صفات الله تعالى مخلوقة أن تقول: إن الله تعالى لم يكن متصفاً بها منذ الأزل، وهذه صفة نقص، والعقلاء والمجانين جميعهم متفقون على أن الله تعالى متصف بصفات الكمال والجلال.

كتاب الإيمان - التحريف والتعطيل في الأسماء والصفات

شرح صحيح مسلم - كتاب الإيمان - التحريف والتعطيل في الأسماء والصفات يؤمن أهل السنة والجماعة بأسماء الله وصفاته الواردة في الكتاب والسنة، ويثبتونها لله عز وجل بدون تشبيه ولا تعطيل، ويفهمون معناها المراد منها، ويفوضون كيفيتها إلى الله عز وجل. وهم لا يشبهونها بصفات المخلوقين وأسمائهم، ولا يعطلون الخالق جل وعلا عنها، وإنما يؤمنون بها على مراد الله، ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، ويمرونها كما جاءت.

تعريف التحريف

تعريف التحريف إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. وبعد: فمن الإيمان بالله عز وجل الإيمان بما وصف الله تعالى به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. وأكاد أجزم بأن كثيراً من طلبة العلم، أو من يرتادون دروس العلم يحفظون هذه القيود الأربعة -التحريف والتعطيل والتكييف والتمثيل- ولا يعرفون معانيها. والتحريف في اللغة: التغيير، يقال: حرفت الشيء أي: غيرت شكله ومضمونه، وهو إما أن يكون في اللفظ أو في المعنى، والذي يلحق اللفظ إما أن يكون في نص الكلمة أو شكلها، مثل تحريف حمزة إلى جمرة، أو تحريف واصل الأحدب إلى عاصم الأحول، والعكس بالعكس. فالتغيير والتحريف اللفظي يلحق الكلمة إما في شكلها وإما في ضبطها. وهذا النوع اهتم به أهل العلم قديماً وحديثاً، حتى يضبطوا ويحرروا الألفاظ التي وردت إلينا في الكتاب والسنة، وقد تطرقنا إلى هذا النوع من قبل عندما تكلمنا عن تصحيفات بعض القراء لكتاب الله عز وجل. وقد تطرق الحافظ ابن كثير وابن الصلاح وكل من صنف في علم المصطلح إلى التصحيف والتحريف، وكان الأقدمون لا يرون فرقاً بين ما هو تصحيف وبين ما هو تحريف، وأول من فرق بينهما الحافظ ابن حجر عليه رحمة الله، فجعل التصحيف غير التحريف. وقد وقع من ذلك شيء كثير لجماعة من الحفاظ وغيرهم ممن تزيا بزي المحدثين وليس منهم، وقد صنف العسكري في التصحيف والتحريف مجلداً، وأكثر ما يقع ذلك لمن أخذ من الصحف. والتصحيف والتحريف يكون بكثرة عند من أخذ العلم من الكتاب دون الشيوخ وقد كان منهج أهل السنة والجماعة في العلم التلقي من شيخ حافظ.

بعض تصحيفات القراء والمحدثين

بعض تصحيفات القراء والمحدثين نقل كثير من الناس عن عثمان بن أبي شيبة أنه كان يصحف في قراءة القرآن، وهذا غريب جداً؛ لأن عثمان له كتاب في التفسير، ويمكن أن تحمل الغرابة هنا على أن عثمان بن أبي شيبة لم يكن له علم في أول حياته بالقراءة فكان يتصحف عليه القرآن، وتتصحف عنده الآيات، ولكنه بعد ذلك تفقه في كتاب الله حتى صار فيه إماماً مفسراً. وتصحيفات المحدثين منها ما يكاد اللبيب يضحك منها، كما حكي عن بعضهم أنه جمع طرق حديث: (يا أبا عمير! ما فعل النغير). وهو حديث في البخاري ومسلم. وهذا الحديث كان يقوله النبي صلى الله عليه وسلم ممازحاً ومداعباً لأخ لـ أنس بن مالك صغير، كان معه طائر صغير كالعصفور يسمى في أرض الجزيرة بالنغير، وهو تصغير نغر، فكان يقول له: (يا أبا عمير! ما فعل النغير)، يعني: ما هي أحوالك مع هذا الطائر الذي تلعب به؟ فلما جمع الحافظ طرق هذا الحديث تصحف عليه النغير، فكان يقول: يا أبا عمير! ما فعل البعير، ولو أنك حذفت النقط من على البعير أو النغير لكان الشكل واحداً، فكان يقول: يا أبا عمير ما فعل البعير؟ ثم تكلف تأويل هذا الحديث، ولم يفهم الحضور معنى هذا الحديث، حتى قال أحد التلاميذ لإخوانه وأقرانه: لقد تصحف هذا الحديث على الشيخ، وصوابه: (يا أبا عمير! ما فعل النغير؟). وكذا وقع لبعض مدرسي المدرسة النظامية في بغداد ففي أول يوم إجلاسه أورد حديث: (صلاة في إثر صلاة كتاب في عليين)، فتصحف عليه بدلاً من أن يقول: (كتاب في عليين) قال: كنار في غلس، فبدّل (كتاب) بقوله: (كنار)، وعليين ليس تحتها نقط، فتنطق عليين أو غلس أو علس أو شيء من هذا، فقال: كنار في غلس، فلما سئل عن معنى هذا الحديث، قال: هذا لمزيد الوضوح والإضاءة والبيان؛ لأن الغلس هو اختلاط الظلام بنور الصباح، فيكون الجو أغبش، فإيقاد النار في هذا الوقت تضيء المكان. وهذا كثير جداً عند المحدثين، وقد أورد ابن الصلاح عليه رحمة الله من هذا شيئاً كثيراً. وهذا النوع يسمى عند أهل المصطلح بالتصحيف والتحريف.

تفريق الحافظ ابن حجر بين التصحيف والتحريف

تفريق الحافظ ابن حجر بين التصحيف والتحريف وقد قسم الحافظ ابن حجر التصحيف إلى قسمين، فما تغير فيه حرف أو حروف بتغيير النقط مع بقاء صورة الخط سماه تصحيفاً، وما تغير في الشكل سماه تحريفاً، وهو اصطلاح جديد للحافظ ابن حجر، وهو اصطلاح جيد. فجعل تغيير شكل الكلمة مثل: كنار في غلس تحريفاً، وأما حمزة وجمرة فشكل الكلمتين واحد فيسميه تصحيفاً، والمتقدمون يعتبرون الأمرين شيئاً واحداً فيطلقون على التصحيف تحريفاً وعلى التحريف تصحيفاً، وهذا ما كان عليه الدارقطني والعسكري، وغيرهما ممن صنفوا في هذا الأمر.

منشأ التصحيف ومواطنه

منشأ التصحيف ومواطنه وقولهم: هذا صحفي دليل على أن هذا الخطأ إنما مبعثه ومنشؤه هو الأخذ من الصحف، فتشتبه عليه الحروف. وقال غير واحد: أصل هذا أن قوماً كانوا أخذوا العلم عن الصحف من غير أن يلقوا فيه العلماء، فكان يقع فيما يروونه التغيير والتحريف والتبديل، فكان يقال عنهم: قد صحفوا، فكانوا يطلقون التصحيف على التصحيف وعلى التحريف في الوقت نفسه، أي: أنهم رووا من الصحف، وهم مصحفون، والمصدر التصحيف. والتصحيف والتحريف قد يكون في الإسناد أو في المتن، والسند هو سلسلة الرواة الموصلة إلى المتن، والمتن هو ما انتهى إليه السند من الكلام، وسواء كان هذا المتن من كلام النبي عليه الصلاة والسلام أو من كلام غيره ممن دونه. وقد يكون التصحيف في السماع، فقد تجلس بجوار أخيك فيتكلم بكلام، فتسمعه مصحفاً، فتقول له: أنت قلت كذا؟ فيقول لك: إنما قلت كذا، ولم أقل ما سمعته أنت، فيكون هذا من باب تصحيف السماع، لا تصحيف الفهم ولا اللفظ؛ لأن اللفظ لابد أن يكون مكتوباً. قال: وقد يكون أيضاً في المعنى. وهذا هو الذي يعنينا في أسماء الله وصفاته. فهو تحريف المعنى وصرف النص عن ظاهره. وتحريف المعنى ليس من التحريف والتصحيف على الحقيقة، وإنما هو من باب الخطأ في الفهم.

الخطأ في الفهم أخطر من الخطأ في اللفظ

الخطأ في الفهم أخطر من الخطأ في اللفظ وخطأ الفهم أخطر بكثير جداً من الخطأ في اللفظ، ومن ذلك ما تصحف على يحيى بن معين في العوام بن مراجم القيسي الراوي عن أبي عثمان النهدي والذي روى عنه شعبة، فقال: يحيى بن معين: العوام بن مزاحم، بدلاً من أن يقول: العوام بن مراجم. وهذا تصحيف لغوي؛ لأنه غير في النص وفي الضبط، وأما شكل الكلمة فواحد، فهذا يقال له: تصحيف، ولا يقال له: تحريف؛ لأن التحريف في مصطلح الحافظ ابن حجر يلزم منه تغيير شكل الكلمة. ومنه حديث روي عن معاوية قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين يشققون الخطب تشقيق الشعر)، فصحفه وكيع فقال: الحطب، فقال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين يشققون الحطب تشقيق الشعر. وكان هناك بعض الملاحين فلما سمع ذلك قال: يا قوم! فكيف نعمل والحاجة ماسة؟ ومنه أيضاً ما ذكره بعض المؤلفين من تصحف خالد بن علقمة على بعض أهل العلم فقال: مالك بن عَرْفَصَة أو عُرْفُصة، وهذا تحريف؛ لأن شكل الكلمة نفسه تغير، وهذا يسمى عندهم تصحيف السماع أو تحريف السماع. ومن أمثلة تصحيف السماع تصحف عاصم الأحول على بعضهم فقال: عن واصل الأحدب، وهذا تحريف في السماع. قال ابن الصلاح: وقد ذكر الدارقطني أنه من تصحيف السمع لا من تصحيف البصر؛ لأن تصحيف البصر يلزم منه أن ترى الاسم مكتوباً في الورق، وليس هكذا. ومنه أيضاً: أن ابن لهيعة روى عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم في المسجد، والصواب: احتجر بالراء وليس بالميم، ومعنى احتجر أي: اتخذ له حجرة في المسجد من حصير، والحديث عند البخاري ومسلم. ومنه أيضاً: حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى عنزة)، وهي اسم قرية في بلاد نجد، واسم القرية عنزة بتسكين النون، ويطلق على فصيلة الشياه من المعز. وقوله صلى الله عليه وسلم إلى عنزة بفتح العين والنون والزاي، والعنزة: هي عصا كمؤخرة الرحل، كان النبي صلى الله عليه وسلم يغرزها أمامه فيتخذها سترة له إذا صلى في فضاء. ولما سمع بعض المحدثين من قرية عنزة من بلاد نجد هذا الحديث قال: الحمد لله نحن قوم لنا شرف، فقيل له: وما شرفكم؟ قال: وأي شرف بعد أن صلى النبي صلى الله عليه وسلم إلينا؟ أي: صلى إلى بلادنا، فتصحف عليه عَنَزة إلى عَنْزة وتصورها بلاده، فاشتبه عليه، وهو الحافظ أبو موسى محمد بن المثنى العنزي من قبيلة عنزة. وكان أبو طاهر بن لوقا يحدث يوماً أو يقرأ على الإمام الطبراني أبي القاسم ذات يوم حديث: (كان صلى الله عليه وسلم يغسل حصى جماره)، وهو حديث ليس بثابت ولا أصل له، ولكنه موجود في الكتب، فتصحف على الحافظ أبي طاهر بن لوقا وهو يحدث الإمام الطبراني فقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يغسل خطى حماره، فانتبه إلى ذلك الإمام الطبراني وأدرك هذا التصحيف، فقال: وما أراد بذلك يا أبا طاهر؟! أي: لماذا كان يعمل النبي صلى الله عليه وسلم هذا؟ قال: التواضع يا أبا القاسم! يعني: تكلف له تأويلاً، فتبسم الطبراني وقال: أنت ولدي يا أبا طاهر! قال: وأنت كذلك يا أبا القاسم! وعن رجل أنه حدث عن النبي عليه الصلاة والسلام فقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: قال جبريل عن الله عن رجل، وكان حاضراً بعض المحدثين فاستنكر الأمر جداً، قال: فنظرت من ذا الذي يستحق أن يكون شيخاً لله! وإذا بها عن الله عز وجل، فتصحف عليه (عز وجل) إلى (عن رجل)، فقال: عن الله عن رجل، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

بعض تصحيفات الفقهاء

بعض تصحيفات الفقهاء وقد صنف الإمام صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي كتاباً سماه: تصحيح التصحيف وتحرير التحريف، وذكر فيه جملة مستكثرة من تصحيف المحدثين والفقهاء. ومما قال فيه: وأما تصحيف الفقهاء فهو كثير أيضاً، ومن ذلك: قال يوماً بعض المدرسين: ولا يكون النذر إلا في قرية، والصواب: أنه لا يكون النذر إلا في قربة، أي: قربة إلى الله عز وجل، فتصحف عليه قربة إلى قرية، وشاهد هذا الكلام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه). فلابد أن يكون النذر في قربة لله عز وجل، فمن نذر أن يعصي الله عز وجل فليكفر عن يمينه ولا يعص الله عز وجل. وقال بعضهم: ويكره القرع، ويحب الخيار، والصواب: ويكره القزع، ويجب الختان، والقزع هو حلق بعض الرأس وترك البعض الآخر، أو ترك مقدم الرأس وحلق بقية الشعر، مثل ما يسمونه اليوم كبوريا. وقال بعضهم يوماً: قال الشافعي: ويستحب في المؤذن أن يكون صبياً، فقيل له: ولم ذاك؟ قال: ليكون قادراً على الصعود في درج المئذنة، وقد كانوا يبنون المآذن في المساجد، فإذا أراد المؤذن أن يؤذن صعد عليها، وإنما قال الشافعي: ويستحب في المؤذن أن يكون صيتاً، يعني: ذا صوت جميل، فتصحف عليه صيتاً إلى صبي.

بعض تصحيفات الكتاب

بعض تصحيفات الكتاب وأما الكتاب فقد صحف منهم جماعة بحضرة الخلفاء والملوك، فقد قرأ يوماً بعضهم: أبا معسر المتخم، والصواب إنما هو أبو معشر المنجم. وقرأ يوماً بعض كتاب المأمون قصة فقال: أبا ثريد بالثاء، فقال المأمون: كاتبنا اليوم جوعان؛ لأنه يفكر في الثريد، أحضروا له ثريداً، فأكل، فقرأ بعد ذلك: فلان الخبيصي بدل الحمْصي، فقال: هو معذور، ليس بعد الثريد إلا الخبيص، أحضروا له خبيصاً، فأكل منه. وكتب سليمان بن عبد الملك إلى ابن حزم أمير المدينة -وهو أبو بكر محمد بن عمرو بن حزم، وليس ابن حزم الفقيه المعروف- أن احص من قبلك من المخنثين، أي: عدهم، فصحف كاتبه -أي: كاتب سليمان بن عبد الملك - فقال: اخص بالخاء، فدعاهم الأمير وخصاهم أجمعين. ويقول الصفدي: وحكى لي بعض الأصحاب أن الأمير علاء الدين الطنبغا نائب حلب جاءته رسالة من بعض الولاة يذكر فيها أنه وجد في بعض الأماكن شخصاً مقتولاً، وخرجه تحت إبطه، والصواب: وجرحه تحت إبطه، فصحف الجرح إلى خرج. إلى غير ذلك من التصحيفات التي وقعت في الكلمات سواء في شكلها أو في ضبطها.

لا يحكم بالتصحيف إلا أهل العلم

لا يحكم بالتصحيف إلا أهل العلم وقد وقع في هذا كثير من أهل العلم، بل وقع فيه بعض الحفاظ الثقات المتقنين كـ يحيى بن معين وغيره، ولذلك لا ينبغي التقدم في هذا العلم بالتخطئة والتصويب إلا أهل العلم. ونحن نرى كثيراً من الناس المحققين يخرجون لنا عشرات بل مئات الكتب كل يوم، ويحكمون على النصوص بأنها تصحيف وتحريف، فيأتي المحقق يحقق كتاباً فيقف عند لفظة يخفى عليه معناها، بل ويستغربها ولا يهون عليه أن ينظر في معاجم اللغة أو الأدب أو غير ذلك، فيسرع إلى تخطئة هذا اللفظ ورمي المصنف بالتصحيف والتحريف، وقد كان العلماء يذكرون اللفظة كما هي، ثم يقولون: كذا في الأصل، ولا ندري معناه؛ لأن الذي خفي عليك معناه قد يظهر لغيرك، وقد حدث هذا مع كبار المحققين في هذا الزمان وقبل هذا الزمان. فالتحريف اللفظي هو: تغيير الشكل أو النص، وهو غالباً يقع من الجهال، وهو غير التحريف المعنوي الذي وقع فيه كثير من الناس بعمد أو بغير عمد، بتأويل أو بغير تأويل، بدليل أو بغير دليل، وهو الذي يعنينا في أسماء الله عز وجل وصفاته.

المحرفة في أسماء الله وصفاته بين التحريف والتأويل

المحرفة في أسماء الله وصفاته بين التحريف والتأويل قال: (أهل السنة والجماعة إيمانهم بأسماء الله تعالى وصفاته إنما يخلو من هذه المعايب الأربع التحريف والتعطيل والتكييف والتمثيل)، فهم وسط في أسماء الله عز وجل وصفاته بين المعطلة والمشبهة. وتغيير المعنى وتحريفه في أسماء الله وصفاته يسميه القائلون به تأويلاً، لأن التأويل منه ما هو سائغ ومنه ما ليس بسائغ، بل منه ما هو محمود وجيد وعليه دليل، ومنه ما ليس بمحمود ولا جيد وليس عليه دليل. وتسميتهم له تأويلاً إنما هو هروب من رد كلامهم، إذ لو سموه تحريفاً لنادوا على أنفسهم ببطلان كلامهم ورده، ولذلك سموه تأويلاً؛ لأن كلمة التأويل لها وقع على الأذن؛ لأن التأويل أيضاً بمعنى التفسير، وأما التحريف فلا يكون إلا باطلاً، ولذلك هربوا من قولهم: هذا تحريف، إلى قولهم: هذا تأويل، فكلمة التأويل تقبلها النفس، وتحتمل الصواب والخطأ، وهي في نظرهم تحتمل الصواب لا غير، ولذلك لجئوا إلى هذا المصطلح، وردوا اللفظ الآخر، وهو التحريف. والتعبير بالتحريف أولى من التعبير بالتأويل خاصة في أسماء الله عز وجل وصفاته، لعدة وجوه: الوجه الأول: أن هذا اللفظ وهو التحريف هو الذي جاء به القرآن الكريم، قال الله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء:46]، قال الحافظ ابن كثير عليه رحمة الله: أي: يتأولونه على غير تأويله، ويفسرونه بغير مراد الله عز وجل قصداً منهم وافتراء. والتحريف لا يطلق إلا على الأمور الباطلة، وصرف النص عن ظاهره إلى غير مراد الله عز وجل، وأما التأويل فمنه ما يكون على مراد الله، ومنه ما لا يكون على مراد الله عز وجل. والذين تعرضوا للتأويل والتحريف في صفات الله عز وجل، الأولى أن يطلق عليهم: محرفون، ولا يطلق عليهم مؤولون ولا متأولون؛ لأن هذا اللفظ والمصطلح إنما ورد في كتاب الله عز وجل في بني إسرائيل وهم اليهود، قال تعالى: ((مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ))، أي: يؤولونه ويصرفونه على غير مراد الله عز وجل. الوجه الثاني: أن المؤول بغير دليل محرف، والأولى به أن يسمى محرفاً لا مؤولاً؛ لأن الذين انحرفوا بأسماء الله وصفاته عن منهج أهل السنة والجماعة يسمون محرفين؛ لأنهم انحرفوا عن المنهج الحق وصراط الله المستقيم، وهذا من العدل، ومن وضع النقاط على الحروف. الوجه الثالث: أن التأويل بغير دليل باطل، ويجب البعد عنه والتنفير منه، وأما إذا استند إلى دليل فهو صحيح مقبول، وإطلاق التحريف أبلغ تنفيراً من التأويل، فلو قلت لرجل تأول بغير دليل: إنك محرف ومبدل ومغير لكان أبلغ من قولك: إنك متأول؛ لأن التأويل منه ما هو صحيح مقبول مستند إلى دليل، وأما التحريف: فلا يقبله أحد، بل ينفر الإنسان منه. وإذا كان كذلك فإن وصف طريق من خالف طريقة السلف بالتحريف أولى من وصفها بالتأويل. الوجه الرابع: أن التأويل ليس مذموماً كله، بخلاف التحريف، فالتحريف كله مذموم تأباه النفوس الطيبة التي جبلت على فطرتها السليمة، وأما التأويل فليس بمذموم كله، قال النبي صلى الله عليه وسلم في حق ابن عباس رضي الله عنهما: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل). والتأويل هو التفسير، ولذلك جاء في رواية البخاري صريحاً: (وعلمه الكتاب) أي: القرآن الكريم. وقد دل هذا أن التأويل في الرواية الأولى مقصود به تأويل الكتاب، أي: تفسير الكتاب. وقال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:7]. وعلى قراءة من أوجب الوقوف على العلم يكون المعنى: أن العلماء إنما عرفوا تأويل المشتبهات، والآية فيها خلاف، هل يجب الوقف على لفظ الجلالة {َالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:7]؟ فمنهم من يقف على قوله: ((وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ))، ثم يقرأ: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:7]. وهناك من يرى وجوب الوقف على العلم، أي: ((وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ))، ويقولون: إن الله تعالى لم يخاطبنا بمهمل، وإنما خاطبنا بما يفهمه ولو بعض الناس، وهم العلماء، فيجب الوقوف على لفظ العلم، ويكون التقدير: أي: وأهل العلم يعلمون تأويل المشتبهات في الأسماء والصفات وغيرها، وأن الله عز وجل امتدح أهل العلم بأنهم يعلمون التأويل.

معاني التأويل

معاني التأويل والتأويل له معان متعددة. فيأتي بمعنى التفسير، وبمعنى العاقبة والمآل، وبمعنى صرف اللفظ عن ظاهره. فقولك: تأويل هذه الآية كذا وكذا، أي: تفسير هذه الآية كذا وكذا؛ لأننا أولنا الكلام، أي: جعلناه يئول إلى معناه المراد به. وأما التأويل الذي هو بمعنى عاقبة الشيء فقد يكون في الطلب وقد يكون في الخبر. فمثال التأويل الوارد في الخبر قول الله عز وجل: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف:53]. فقوله: ((هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ)) أي: ما ينتظر هؤلاء إلا عاقبة ومآل ما يخبرون به، ويوم يأتي ذلك المخبر به {يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف:53]. ومنه قول يوسف لما خر له أبواه سجداً: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} [يوسف:100]، أي: هذا وقوع رؤياي؛ لأنه لم يقل هذا إلا بعد أن سجدوا له بالفعل. ومثاله في الطلب قول عائشة رضي الله عنها: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده بعد أن أنزل عليه قول الله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] إلى آخر السورة: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي، يتأول القرآن)، يعني: يعمل به. وإذا كان التأويل في معرض الطلب، والطلب للأمر كان التأويل بمعنى العمل به دون سواه. المعنى الثالث للتأويل: صرف اللفظ عن ظاهره، وهذا النوع ينقسم إلى محمود ومذموم، فإن دل عليه دليل فهو محمود؛ لأنه يكون بمعنى التفسير أو العاقبة أو المآل، وإن لم يدل عليه دليل فهو مذموم، ويكون من باب التحريف وصرف النص واللفظ عن ظاهره، وليس من باب التأويل. وهذا هو الذي درج عليه أهل التحريف في صفات الله عز وجل، وسار عليه من تنكب طريق السلف في صفات الله عز وجل، فكانوا يصرفون اللفظ عن ظاهره على غير مراد الله عز وجل. فمثلاً قول الله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]. فاستوى معلوم المعنى عند السلف وعند العرب في لسانهم؛ فهو بمعنى: علا وارتفع. وهم يقولون: استوى بمعنى استولى، ولا شك أن من يقول هذا يكون قد صرف اللفظ عن ظاهره بغير دليل، وهذا تحريف. والذي يحرف صفات الله عز وجل عن ظاهرها بغير دليل الأولى أن يقال عنه: إنه محرف. والذين يقولون: نحن نؤول كلام الله عز وجل حتى نفهمه، ونؤول صفات الله عز وجل حتى نفهمها إنما هم محرفون، وليسوا مؤولين. وأما صرف اللفظ عن ظاهره بدليل فمثل قول الله عز وجل: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1]. (فأتى) فعل ماض، (وأمر الله): الساعة، وهي لم تأت بعد، فيكون تفسير {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل:1] أي: سيأتي أمر الله، فيكون الله عز وجل عبر عن المستقبل بصورة الماضي، وهذا جائز على الله عز وجل. ومثل قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:23]. فكان تفيد الماضي في حق غير الله عز وجل، ولو كانت في غير كلام الله عز وجل لقلنا: إنها زائدة، لأن قوله: ((إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا)) بمعنى إن الله غفور رحيم، فحذف كان لا يغير المعنى ولا السياق. فيكون معنى قوله تعالى: ((أَتَى أَمْرُ اللَّهِ)) أي: سيأتي أمر الله، والدليل على ذلك تعقيبه بقوله تعالى: ((فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ))، ومعلوم أن الاستعجال على أمر قادم، وليس على أمر فائت، وهذا يدل على أن الله تعالى عبر عن المستقبل بصورة الماضي في قوله عز وجل: ((أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ)). ومثل قول الله عز وجل: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98]. والاستعاذة معلوم أنها في أول القراءة، وبهذا تكون الآية مصروفة عن ظاهرها، بدليل عمل النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، فقد كان إذا قرأ القرآن استعاذ بالله في أول القراءة. فيكون معنى قوله تعالى: ((فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ)) أي: فإذا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم. وهذا مثل حديث أنس بن مالك قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث). والخبث: ذكور الشياطين، والخبائث: إناثهم. فقوله: إذا دخل يعني: إذا أراد أن يدخل الخلاء قال: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث، أي: قبل أن يدخل؛ لأنه لا ينبغي أن يذكر الله عز وجل في مثل هذه الأماكن والأنتان والحش. وأما التأويل الذي ليس عليه دليل صحيح الأولى أن نسميه تحريفاً؛ لعلل، منها: أن لفظ التحريف قد جاء في كتاب الله عز وجل، ولأنه ألصق بطريق ال

أنواع التحريف وبيان الواقعين فيه

أنواع التحريف وبيان الواقعين فيه ومن الإيمان بالله عز وجل أن نؤمن بصفات الله عز وجل التي وصف الله تعالى بها نفسه، أو وصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف. والتحريف منه ما يكون في اللفظ ومنه ما يكون في المعنى، والتحريف الذي يلحق اللفظ إما أن يكون في الشكل أو في النقط، فيتغير إما شكل الكلمة وإما نطقها، وهذا النوع قليل جداً، ولا يصدر إلا من جاهل. وأما تحريف المعنى فشر أنواعه، وهو: صرف اللفظ عن ظاهره في أسماء الله تعالى وصفاته. وأصحاب هذا العمل يسمون بالمؤولة، ومعظمهم من الأشاعرة. ويتلوهم المعتزلة، والمعتزلة أسبق في التأويل من الأشاعرة، ولكن الأشاعرة غلو في التأويل.

التعطيل لأسماء الله وصفاته

التعطيل لأسماء الله وصفاته ثم يقول: (من غير تحريف ولا تعطيل). التعطيل في اللغة: التخلية والترك، تقول: عطلت كذا أي: تركته أو خليته، كقوله تعالى: {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ} [الحج:45]، أي: خالية متروكة. وهو في الاصطلاح: إنكار ما أثبت الله لنفسه من الأسماء والصفات، سواء كان هذا التعطيل والإنكار كلياً أو جزئياً. وهناك من الطوائف من أنكر أسماء الله تعالى وصفاته بالكلية، ومنهم من أثبت الأسماء وأنكر الصفات، ومنهم من أثبت الأسماء والصفات إلا سبع صفات. قال: (وهذا الإنكار لأسماء الله تعالى وصفاته إما أن يكون كلياً أو جزئياً)، وسواء كان ذلك بتحريف أو بجحود؛ لأنه لا يلزم من التحريف أن يكون بجحود، كما هو حال بني إسرائيل اليهود الذين حرفوا الكلم عن مواضعه جحوداً، فقد حرفوه وصرفوه عن ظاهره جحوداً وافتراء على الله عز وجل وعلى رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم. فهذا كله يسمى تعطيلاً، سواء كان هذا التعطيل جزئياً أو كلياً.

الشرك في ذات الله بتعطيل أسمائه وصفاته

الشرك في ذات الله بتعطيل أسمائه وصفاته وقد تكلم شيخ الإسلام ابن القيم عليه رحمة الله تبارك وتعالى عن التعطيل بأحسن كلام، وبينه وفصله تفصيلاً عظيماً جداً في كتاب الداء والدواء، فقال في باب الشرك: الشرك شركان -أي نوعان-: شرك يتعلق بذات المعبود وأسمائه وصفاته وأفعاله، أي: بذات الله عز وجل وبأسمائه وصفاته وأفعاله، وشرك في عبادته ومعاملته، وهذا هو الشرك في العبادة، أي: أن تصرف شيئاً مما وجب لله لغير الله، أو أن تتعامل مع الله أو مع الخلق رياء وسمعة. يقول: وهذا وإن كان صاحبه -أي: الذي أشرك في العبادة والمعاملة- يعتقد أنه سبحانه لا شريك له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله. والنوع الأول من الشرك هو الشرك في ذات الإله سبحانه وتعالى، كأن تعتقد أن لهذا الكون إلهين، مثل إله الظلمة وإله النور عند الثنوية، أو تعتقد أن هذا البلد مثلاً له إلهان؛ إله في السماء وإله في الأرض يشرع من دون الله عز وجل، فهذا كفر مخرج من الملة بالكلية؛ لأن هذا شرك في ذات الإله. وهذا هو النوع الأول من الشرك الذي تكلم عنه ابن القيم عليه رحمة الله، وهو الشرك في ذات المعبود. أي: تعطيل الله عز وجل عن أسمائه وصفاته وأفعاله. قال: (الشرك الثاني: أن تجعل لله نداً وهو خلقك) أي: أن تجعل مع الله إلهاً آخر. ثم تكلم عن الشرك في ذات الإله بتعطيل أسمائه وصفاته وأفعاله، إلى أن قال: وهو نوعان: شرك التعطيل، وهو أقبح أنواع الشرك، كشرك فرعون إذ قال: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23]؟ فقد كان فرعون ينكر على موسى عليه السلام ويسخر منه. أي أنه يقول له: ليس هناك رب غيري، كما قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]. وقال تعالى مخبراً عنه أنه قال لهامان: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر:36 - 37]. ومعنى أظن: أعتقد، والظن إما أن يأتي بمعنى الشك، وإما بمعنى القطع فقوله: ((وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا)) أي: وإني لأعتقد أنه كاذب.

تلازم الشرك والتعطيل

تلازم الشرك والتعطيل يقول ابن القيم: والشرك والتعطيل متلازمان، فكل مشرك معطل، وكل معطل مشرك. لكن الشرك لا يستلزم أصل التعطيل، فقد يكون المشرك مقراً بالخالق سبحانه وتعالى وصفاته، ولكنه عطل حق التوحيد، وهذا كمن يطوف حول قبر البدوي أو الحسين أو يستغيث بالسيدة نفيسة، ويذبح لفلان أو ينذر له ويقول: إنما هم وسائط وشفعاء إلى الله، وليس هناك إله يعبد إلا الله، فهذا جاهل وغبي وأحمق باتخاذه لهم وسائط وشفعاء، فيكون قد عطل الله عز وجل حقه الأعظم، وهو التوحيد، وصرف العبادة لغير الله عز وجل عندما نذر وذبح وطاف على غير مراد الله عز وجل، وقد صرف العبادة إلى غير الله، فهو قد عطل حق التوحيد الذي ينبغي صرفه لله دون سواه، ولكن لا يلزم من هذا الشرك التعطيل؛ لأنه مقر بالخالق سبحانه وتعالى، ولكنه عطل حق التوحيد. وأصل الشرك وقاعدته التي يرجع إليها هو التعطيل.

أقسام التعطيل

أقسام التعطيل والتعطيل أنواع وأقسام، الأول: تعطيل المصنوع عن صانعه، فلو قال شخص: إن هذا الرجل خلقته وصنعته الطبيعة لكنا قد عطلنا هذا المصنوع الحادث عن الله عز وجل الذي أحدثه وخلقه وصنعه. وهذا النوع لم يكن عند مشركي العرب، فإنهم كانوا مقرين بتوحيد الربوبية، وبأن الله تعالى هو الخالق المالك المدبر الرازق، وغير ذلك من صفات الله وأفعاله التي تدل على ربوبيته سبحانه وتعالى. الثاني: تعطيل الصانع سبحانه وتعالى عن كماله المقدس. والصانع ليس من أسماء الله عز وجل، ولكن العلماء من أهل السنة والجماعة تناولوا هذا الاسم في حق الله عز وجل من غير نسبته إلى الله عز وجل. قال: (تعطيل الصانع سبحانه عن كماله المقدس بتعطيل أسمائه وأوصافه وأفعاله). فلو قلنا: إن الله تعالى لا يتصف بالرحمة، أو أنه رحيم بلا رحمة، وعليم بلا علم، وسميع بلا سمع، وبصير بلا بصر لكنا قد عطلنا الله عز وجل عن صفاته. وهذا النوع هو الذي يتأوله المتأولون، وهم محرفون لا مؤولون. الثالث: تعطيل معاملته عما يجب على العبد من حقيقة التوحيد، وهو صرف العبادة إلى غير الله عز وجل، ومن هذا شرك طائفة أهل وحدة الوجود -وزعيمهم ابن عربي - الذين يقولون: ما ثم خالق ومخلوق، بل الخالق هو المخلوق والمخلوق هو الخالق. ويقولون: إن الحق المنزه هو عين الخلق المشبه، أي: إن الحق سبحانه وتعالى المنزه هو ذات وعين الخلق المشبه المرئي. ومنه شرك الملاحدة القائلين بقدم العالم وأبديته، وأنه لم يكن له أول، وليس له آخر. وهذه الأوصاف إنما تنطبق على الله عز وجل، وليس على كل حادث، والله عز وجل هو الأول والآخر والظاهر والباطن، وليس دونه ولا فوقه شيء. وهذا النوع هو نوع شرك الملاحدة الذين يعطلون أسماء الله تعالى وصفاته. قال: (وأنه لم يكن معدوماً من الأصل، بل لم يزل ولا يزال)، أي: هذه الدنيا كلها بأحداثها وبأجرامها والسماوات والأرضين أبدية وأزلية، لم يكن لها أول، وليس لها انتهاء. وهذا كلام في غاية البطلان. قال: والحوادث بأسرها مستندة عندهم إلى أسباب ووسائط اقتضت إيجادها يسمونها بالعقول والنفوس، ومن هذا شرك من عطل أسماء الرب تعالى وأوصافه وأفعاله من غلاة الجهمية والقرامطة، فلم يثبتوا له اسماً ولا صفة -يعني: عطلوا الأسماء والصفات عن ذات الإله سبحانه وتعالى- بل جعلوا المخلوق أكمل منه، إذ كمال الذات بأسمائها وصفاتها، أي: أن الذين يعطلون الأسماء والصفات عن الله عز وجل من الجهمية والقرامطة وغيرهم إنما يرفعون المخلوق على الخالق؛ لأنهم لما عطلوا الأسماء والصفات للمخلوق، فيكونون بذلك قد عطلوا أسماء الله تعالى وصفاته وأثبتوها للمخلوق، وبذلك يكونون قد رفعوا المخلوق على الخالق. ولا شك أن من عطل جحوداً ونكراناً ليس من أهل السنة.

شرك من جعل مع الله إلها آخر

شرك من جعل مع الله إلهاً آخر قال: (النوع الثاني: شرك من جعل مع الله إلهاً آخر، ولم يعطل أسماءه وصفاته وربوبيته، كشرك النصارى الذين جعلوه ثالث ثلاثة). وقد اختلف النصارى في ذات الإله على ثلاثة أقوال، فمنهم من جعله واحداً، ومنهم من جعله اثنين، ومنهم من جعله ثلاثة، فكانوا يقولون: إن الله ثالث ثلاثة، فجعلوا المسيح إلهاً، وأمه إلهاً، والله تعالى إلهاً، وجعلوا الله تعالى ثالث الآلهة وليس أولها. قال: ومن هذا شرك المجوس القائلين بإسناد حوادث الخير إلي النور وحوادث الشر إلى الظلمة. ومن هذا شرك القدرية القائلين بأن الحيوان هو الذي يخلق أفعال نفسه، أي: بدون علم الله وبدون تدخل منه عز وجل وبدون إرادة الله عز وجل.

الإقرار بالأسماء والصفات بين أهل السنة وبين المعتزلة والأشاعرة

الإقرار بالأسماء والصفات بين أهل السنة وبين المعتزلة والأشاعرة وأهل السنة والجماعة لا يعطلون أي اسم من أسماء الله عز وجل، بل يثبتونها لله عز وجل من غير تحريف ولا تعطيل. قال: (لا يعطلون أي صفة من صفات الله، ولا يجحدونها، بل يقرون بها إقراراً كاملاً)، ومعنى كاملاً أي: غير مقيد بقيد. والمعتزلة والأشاعرة يقيدون ذلك بما يقبله العقل ويتوافق معه، فقد قالوا: نثبت لله تعالى من الصفات ما يقره العقل ويقبله، وإن لم يكن موجوداً في الكتاب والسنة، وننفي عن الله عز وجل الأسماء والصفات إذا كان العقل لا يقبلها، وإن كانت موجودة في الكتاب والسنة، فجعلوا الميزان الأكبر الذي توزن به الأسماء والصفات هو العقل، والميزان الأعظم عند أهل السنة والجماعة هو كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

الفرق بين التعطيل والتحريف

الفرق بين التعطيل والتحريف والفرق بين التحريف والتعطيل أن التحريف في الدليل، والتعطيل يكون في المدلول والمعنى الذي يدل عليه الدليل. مثل قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64]، فالضمير عائد على الله عز وجل، فلو قلنا: أي: قوتاه، لكنا بذلك قد حرفنا في الدليل؛ لأن الله تعالى أثبت لنفسه اليد، وأثبت لنفسه القوة، وأثبت لنفسه القدرة، وأثبت لنفسه أنه المتين، فلو قلنا: إن اليد تعني القوة لكنا محرفين للدليل وصارفين له عن مراد الله عز وجل وعن ظاهره، وكذلك نكون معطلين للمراد الصحيح؛ لأن المراد هو إثبات اليد الحقيقية لله عز وجل، وعدم تشبيهها بأيدي المخلوقين، فنقول: إن لله تعالى يداً ليست كيد المخلوق، فنثبت اليد لله تعالى على الحقيقة؛ لأن الله تعالى أثبتها لنفسه. ولو قلنا: إن اليدين المعني بهما القوة لكنا قد عطلنا المعنى المراد وأثبتنا معنى غير مراد، وكذلك لو قلنا في قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] لا ندري ما معنى اليدين، ولكنا نفوض هذا الأمر إلى الله عز وجل فإنه يدري معنى ذلك؛ لكنا قد وقعنا في التعطيل، ومعلوم أن الله تعالى إنما خاطبنا بكلام نعرف معناه ولا نجهله، فلو قلنا: إننا نجهل معناه لتنافى هذا مع البيان الذي أمر الله عز وجل به نبيه صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89]. والتعطيل شر من التحريف.

الرد على من يقول: طريق السلف أسلم وطريق الخلف أعلم وأحكم

الرد على من يقول: طريق السلف أسلم وطريق الخلف أعلم وأحكم وأهل السنة والجماعة يتبرءون من الطريقين طريقة أهل التحريف وطريقة أهل التعطيل، ويثبتون اليد الحقيقية لله عز وجل، وهي غير القوة وغير النعمة، فعقيدة أهل السنة والجماعة بريئة من التحريف والتعطيل. وبهذا نعرف ضلال أو كذب من قالوا: إن طريقة السلف أسلم وستجد هذه الجملة في كتب كثيرة من كتب العقيدة، فبعضهم يقول: إن طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أحكم وأعلم. وهذا كلام خاطئ، وفي منتهى الخبث والضلال؛ لأن طريقة السلف لن تكون أسلم إلا بحكمة وعلم، فلا يمكن أن تكون سليماً إلا إذا كنت على بصيرة وهداية ونور وعلم، {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]. فالسلامة لا تكون إلا من خلال الحكمة والعلم، ولا يمكن أن يسلم المرء من غير حكمة ولا علم أبداً، ومن كان معه حكمة وعلم فلابد أن يكون سالماً ومستقيماً على الجادة. فالصواب أن يقال: إن طريقة السلف أسلم وأحكم وأعلم، وإن طريقة الخلف مخالفة ومنافية لما كان عليه السلف.

المقصود بالسلف والخلف

المقصود بالسلف والخلف والخلف هم الذين أولوا وصرفوا النص عن ظاهره، فكل من انحرف عن منهج السلف في أسماء الله عز وجل وصفاته وأفعاله فهو معدود في الخلف. وطريقة السلف في الأسماء والصفات أنهم يثبتونها لله عز وجل، ويعلمون معناها علماً حقيقياً، ويفوضون كيفية ذلك لله عز وجل، فهم لا يفوضون الإثبات ولا المعنى، وإنما يفوضون الكيف، فمن قال بغير ذلك ولو في القرن الأول فهو من الخلف، ومن قال بقول السلف ولو عند قيام الساعة فهو من السلف. فلا نظن أن السلف هم أصحاب القرون الأولى، والخلف هم من أتى بعد ذلك، وأن هناك حداً فاصلاً بين السلف والخلف، بل من قال بقول الصحابة والأئمة المتبوعين الذين وافقوا الصحابة في أسماء الله تعالى وصفاته وأفعاله فهو متبع للسلف، وإن كان في القرون المتأخرة التي لم تأت بعد.

ندم علماء الكلام في أواخر حياتهم على مخالفة منهج السلف

ندم علماء الكلام في أواخر حياتهم على مخالفة منهج السلف ومن علماء الخلف مثلاً الفخر الرازي الذي أفنى حياته في علم الكلام، وفي التفنن في تقرير منهج الخلف، ثم ندم قبل أن يموت وقال: لعمري لقد طفت المعاهد كلها وصيرت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعاً كف حائر على ذقن أو قارعاً سن نادم يعني: أصبح يعض على يديه؛ لأنه ما ترك سبيلاً من سبل الخلف إلا وسلكه، ولا مدرسة انحرفت عن منهج السلف إلا ودرس طريقتها، وأفنى حياته في الدفاع عن منهج الخلف وترك منهج السلف، فندم على أنه قضى حياته في مثل هذا، وتمنى لو أنه يرجع إلى منهج السلف. وهذه الطريقة التي سلكها يقول عنها: إنه ما وجد فيها إلا واضعاً كف حائر على ذقن، أي: لأنه ليس عنده علم، أو آخر قارعاً سن نادم، أي: لأنه لم يسلك طريق السلامة أبداً. وقال الرازي أيضاً: نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا وغاية دنيانا أذى ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا ومعلوم أن القيل والقال إذا لم يكن مستنداً إلى دليل من الكتاب والسنة لا ينفع صاحبه. ثم يقول الفخر الرازي: لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ووجدت أقرب الطرق طريقة القرآن. ثم يقول: اقرأ في الإثبات -أي: إثبات الصفات لله عز وجل والأسماء-: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]. {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10]. واقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، وقوله: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110]. ثم يقول: ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي. فهو قد أفنى عمره كله في الطرق الكلامية والفلسفية، ثم تاب إلى الله عز وجل في آخر حياته. وأنت إذا عرفت كلامهم هذا وأنت في مقتبل عمرك البحثي والعلمي فينبغي عليك أن تسلك مسلك السلف، وأن تنبذ بقلبك منهج الخلف؛ لأن فحول الخلف لما بلغوا ما بلغوا بعد أن قضوا أعمارهم وأفنوا حياتهم في هذا المنهج أدركوا في النهاية أن طريقة السلف هي أسلم وأحكم وأعلم. والإمام أبو المعالي الجويني وهو أيضاً مؤول من الخلف يقول: أتمنى أن أموت على عقيدة عجائز نيسابور، لأنهن يؤمن بالله عز وجل على فطرهن، فـ أبو المعالي الجويني الذي كان يجري كل الناس وراءه، وكان يشار إليه بالبنان في ذلك الزمان، وكان إمام الحرمين، أفنى حياته كلها في تقرير مذهب الخلف، وتقرير الطرق العقلانية والفلسفية والكلامية، ثم تمنى في آخر حياته أن لو مات على دين جدته وجده، والعجائز من عوام الناس، فهو تمنى أن يعود إلى الأمية، فهل يقال: إن هذا المذهب أعلم وأحكم؟!

مفاسد تفويض معاني الصفات ومجانبته لمذهب السلف

مفاسد تفويض معاني الصفات ومجانبته لمذهب السلف وطريقة التفويض -أي: تفويض المعنى- طريق خاطئ؛ لأنه يتضمن ثلاث مفاسد: الأولى: تكذيب القرآن؛ لأن صاحبه يضطر إلى رد الأسماء والصفات التي وردت في كتاب الله عز وجل. الثانية: تجهيل الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما خوطب بكلام يفهمه ويعقل معناه، ويعرف حقيقته، ولكنه يفوض كيفيته إلى الله عز وجل. الثالثة: أن ترفع الفلاسفة والمتكلمين على كتاب الله وعلى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم. والذين قالوا: إن طريقة السلف هي التفويض كذبوا على السلف؛ إلا إذا قصدوا بالتفويض تفويض الكيف. فهم قد اتهموا السلف بتفويض المعنى دون تفويض الكيف، والسلف يثبتون اللفظ والمعنى، ويقررونه ويشرحونه بأوفى شرح. وأهل السنة والجماعة لا يحرفون ولا يعطلون، ويقولون بمعنى النصوص الواردة في كتاب الله عز وجل، فقوله تعالى: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] بمعنى: علا عليه، وليس معناه: استولى، وقوله: ((بِيَدِهِ)) يثبت بها أهل السنة والجماعة اليد إثباتاً حقيقياً لله عز وجل، ولكنهم لا يخوضون في الكيف، ولا يقولون: المقصود بها القوة والنعمة، فلا تحريف عند أهل السنة ولا تعطيل. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

كتاب الإيمان - التكييف والتمثيل في الأسماء والصفات

شرح صحيح مسلم - كتاب الإيمان - التكييف والتمثيل في الأسماء والصفات يثبت أهل السنة والجماعة أسماء الله تعالى وصفاته كما جاءت في القرآن والسنة بدون تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، بخلاف غيرهم من الفرق التي ضلت في هذا الباب حينما حكمت عقولها في أسماء الله وصفاته فضلت وأضلت.

التكييف وموقف أهل السنة والجماعة منه

التكييف وموقف أهل السنة والجماعة منه الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. وبعد: ذكرنا في الدرس الماضي أن أهل السنة والجماعة يؤمنون بأسماء الله وصفاته من غير تحريف ولا تعطيل، وشرحنا معنى التحريف والتعطيل، وبقي معنا أنهم يؤمنون بها من غير تكييف ولا تمثيل، ونتكلم في هذه الليلة بعون الله تعالى على التكييف والتمثيل. لم يرد لفظ التكييف لا في الكتاب ولا في السنة، ولكن ورد ما يدل عليه، والتكييف هو الذي تسأل عنه بكيف، مثل قولك: كيف جاء زيد؟ فيكون A جاء راكباً، أو جاء راجلاً، أي: أنك تصف حاله حين المجيء. أهل السنة والجماعة لا يكيفون صفات الله عز وجل، فمثلاً: يقولون عن صفتي المجيء والنزول: إن الله تعالى ينزل، ويجيء، نزولاً ومجيئاً لا يعلم كيفيته إلا الله، ولكن المجيء والنزول وبقية صفات الله عز وجل معلومة من حيث اللفظ والمعنى، وأما الكيفية فلا نعلمها، بل نفوض أمرها إلى الله عز وجل، فهو الذي يعلم كيف يأتي، وكيف ينزل، وغير ذلك من الصفات. فأهل السنة والجماعة الذين هم على مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إنما يفوضون الكيف، ولا يفوضون المعنى، فإن المعنى ثابت كما ثبت اللفظ.

أدلة أهل السنة على تفويض الكيف

أدلة أهل السنة على تفويض الكيف

الأدلة النقلية لأهل السنة على تفويض الكيف

الأدلة النقلية لأهل السنة على تفويض الكيف ويستدل أهل السنة والجماعة على تفويض الكيف بأدلة من المنقول والمعقول، وكذلك من الفطرة، ومن أدلتهم: أن لفظ التكييف لم يرد في الكتاب والسنة، ولكن أتى ما يدل عليه نقلاً، وثبت عقلاً وفطرة، ومما يدل على تفويض الكيف وعدم الخوض فيه من كتاب الله عز وجل، قوله سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33]. فالشاهد في هذه الآية قوله تعالى: ((وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ))، فمن قال: إن الله تعالى ينزل كنزول هذا خطوة خطوة، من درج، أو من منبر أو غير ذلك، فإنه قد قال على الله تعالى بغير علم؛ لأنك لو سألته: هل أخبرك الله تعالى بأنه ينزل كنزولك هذا؟ لكان A لا، ولو قال: نعم، فلن يجد على قوله دليلاً لا في الكتاب ولا في السنة. فالذي يصف مجيء الله تعالى ونزوله إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل بصفة أو هيئة أو كيفية معينة فقد قال على الله تعالى ما لا علم له به، وأعظم على الله تعالى الفرية، ولذلك قال الإمام أبو شامة عليه رحمة الله -وهو من أجل علماء السنة-: من وصف الله تعالى بصفة من صفاته التي يجب فيها التفويض إليه سبحانه وتعالى ينبغي أن ينكل بمثل ما أتى، فمن قال: إن لله تعالى عيناً كعيني هذه، أو قال: إن له يداً كيدي هذه، أو قال: إن له رجلاً كرجلي هذه -هذا كلام أبي شامة رحمه الله- فنقول: تفقأ عينه، وتقطع يده ورجله؛ لأنه شبه الخالق بالمخلوق، ومثل الخالق بالمخلوق، وكيف الخالق بتكييفات المخلوق. سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً. فإذا جاء رجل وقال: إن الله استوى على العرش على هذه الكيفية، ووصف كيفية معينة كأن يجلس على كرسي ويقول: إن الله تعالى جلس على الكرسي فوق السماء السابعة كجلوسي هذا قلنا له: إن هذا تقول على الله ليس لك به علم، وهل أخبرك الله بأنه استوى على هذه الكيفية؟ فسيكون جوابه: لا؛ لأنه لو قال: نعم لقلنا له: أين الدليل؟ فالله تعالى لم يخبرنا كيف استوى، ونقول: هذا تكييف وقول على الله بغير علم، ولهذا قال بعض السلف: إذا قال لك الجهمي -والجهمي هو من يعطل الصفات-: إن الله ينزل إلى السماء، فكيف ينزل؟ فقل له: إن الله تعالى أخبرنا بأنه ينزل، ولم يخبرنا بكيفية النزول، وشعارنا أن نقول: سمعنا وأطعنا، وصدقنا وآمنا، فكل ما أخبرنا الله تعالى به وطلبه منا فعلينا أن نؤمن به، علمنا منه الحكمة أو لم نعلم ذلك، فإذا كان الله تعالى قد استأثر بعلم الكيفية وحده فلا يجوز لنا أن نخوض في بيانها ومعرفتها، بل نقول: إن الله استوى استواء يليق بجلاله، لا يشابه استواؤه استواء المخلوقين؛ لأنه لما كان الله تعالى مبايناً ومغايراً لخلقه في الذات فلابد أن يكون مبايناً ومغايراً لهم في الصفات، والاستواء صفة، فدل ذلك على أن استواء المخلوق غير استواء الخالق سبحانه وتعالى. ودليل آخر من المنقول وهو قول الله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36]، أي: لا تتبع نفسك ما ليس لك به علم، {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36]. الشاهد هنا: أنك لا تتبع ما ليس لك به علم؛ لأنك مسئول عن سمعك وقلبك وفؤادك.

الدليل العقلي عند أهل السنة على تفويض الكيف

الدليل العقلي عند أهل السنة على تفويض الكيف وأما الدليل العقلي على نفي التكييف فهو أن كيفية الشيء لا تدرك إلا بواحدة من ثلاث: إما مشاهدة الشيء نفسه حتى يتسنى لنا أن نكيفه، وإما مشاهدة نظيره ومثيله، وإما خبر الصادق به. فالتكييف من جهة العقل لا يمكن إلا بأحد ثلاثة أمور، الأول: أن ترى الشيء نفسه، والله عز وجل لم يره أحد من البشر، فكيف نصف النزول والمجيء والغضب والرضا وغير ذلك ونحن لم نره؟ والأمر الثاني: أن الله تعالى ليس له شريك ولا ند ولا مثيل حتى نقول: هذا المثيل والشريك والند مرئي لنا، حتى نقول عن صفة الغضب مثلاً: إن الله تعالى يغضب كغضب فلان. وهذا لما كان ممتنعاً ومستحيلاً دل ذلك على أن هذا الطريق أيضاً طريق مغلق، وأنه لا بد من تفويض الكيف؛ لأننا لا نرى الله مشاهدة بالعين في الدنيا، كما أنه ليس له مثيل حتى نقيس الله عز وجل عليه؛ لأن الله تعالى لا يقاس بشيء من خلقه. والأمر الثالث: أنه لم يأتنا خبر صادق عن الله ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم بكيفية النزول ولا المجيء ولا الاستواء وغير ذلك. لما امتنع هؤلاء الثلاثة دل ذلك على وجوب تفويض الكيف إلى الله عز وجل.

كيفية صفات الله لا يعلمها إلا هو سبحانه

كيفية صفات الله لا يعلمها إلا هو سبحانه ولهذا قال بعض العلماء في جواب لطيف على كيفية صفات الله عز وجل: إن معنى قولنا: بدون تكييف، أي: أننا نثبت الصفة لله عز وجل بدون تكييف، وليس معنى هذا أنه ليس لها كيفية، بل لها كيفية يعلمها الله عز وجل، فالله تعالى ينزل إلى السماء الدنيا بصفة وبكيفية معلومة له عز وجل، وليست معلومة لنا، فلا يجوز أن ننفي الكيفية عن صفة المجيء، ولا عن صفة النزول، ولا عن صفة الاستواء، ولا عن غيرها من الصفات، بل نثبت أن الله تعالى له صفات بكيفية معينة لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى، وإلا فنفي التكييف تماماً عن الصفة يستلزم العدم، فلو قلنا: إن الله تعالى يأتي بلا كيفية، أو ينزل بلا كيفية، أو يستوي بلا كيفية لكان هذا عدماً، ولكنه يستوي بكيفية، ويأتي بكيفية، وينزل بكيفية لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى، وهذه الكيفية استأثر الله تعالى بعلمها وأخفاها على خلقه.

شرح جواب الإمام مالك لمن سأله عن معنى الاستواء

شرح جواب الإمام مالك لمن سأله عن معنى الاستواء ولما سئل الإمام مالك عليه رحمة الله تبارك وتعالى عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، كيف استوى؟ أطرق برأسه إلى الأرض ثم رفعه وقال: (الاستواء غير مجهول)، وغير مجهول يساوي أنه معلوم، ومعنى أنه معلوم أي: معلوم المعنى. فالاستواء غير مجهول، أي: معلوم المعنى، ولا نقول: معلوم الكيف؛ لأننا نفوض الكيف إلى الله عز وجل، وأما معنى الاستواء فمعلوم عند العرب. وكلمة استوى لم تأت في لغة العرب إلا معداة بعلى، أي: استوى على، وعلى في اللغة تفيد العلو والارتفاع، فدل ذلك على أن معنى استوى في الكتاب والسنة بمعنى علا وارتفع. فمعنى الاستواء معلوم، وهو العلو والارتفاع، وهذا معنى قول الإمام مالك: الاستواء غير مجهول، أي: معلوم المعنى، وهو الارتفاع والعلو، فالاستواء غير مجهول. (والكيف غير معقول)، أي: أن العقول لا تدرك كيفية ذلك، ولذلك خبأها الله تعالى على الخلق رحمة بهم؛ لأن الله تعالى لو وصف لنا كيفية استوائه فإن بعض العقول ستصدق ذلك، وبعض العقول سترد ذلك، ولذلك فرض الله تعالى علينا أن نؤمن بأنه استوى، ولم يبين لنا الكيف؛ لأن العقل لا يدرك الكيف، فإذا انتفى الدليل السمعي والعقلي عن الكيفية وجب الكف عنها. ثم أتبع ذلك الإمام مالك بقوله: (والإيمان به واجب)، يعني: لابد من الإيمان باستواء الله عز وجل وبمجيئه ونزوله عز وجل وغير ذلك من الصفات كما جاءت، وإمرارها دون الخوض في تأويلها وتحريفها وتعطيلها؛ لأن الله أخبر به عن نفسه فوجب تصديقه. (والسؤال عنه بدعة)، أي: السؤال عن كيفية الاستواء أو عن كيفية النزول والمجيء وغير ذلك من الصفات إما أن يكون سؤال متعنت فهو بدعة، وإما أن يكون سؤال جاهل فينبغي أن يوجه إلى عدم السؤال عن هذين الأمرين، وأنه يحاسبه الله تعالى على عدم السؤال عليه، وإنما الذي يجب عليه أن يؤمن بأن الله تعالى يأتي وينزل ويستوي وغير ذلك، ويؤمن بهذه الصفات كما جاءت ويمرها، وهذا من فوائد الإيمان بالغيب. والله عز وجل افترض على أهل الإيمان أن يؤمنوا بالغيب، وصفات الله تعالى غيبية، وإن كان لا يؤمن الشخص بالغيب فكيف يؤمن بالصفة، فهذا ابتلاء واختبار من الله تعالى لينظر هل نؤمن بصفات الله عز وجل دون أن نخوض فيها أم لا، فينبغي علينا أن نقول: سمعنا وأطعنا، وآمنا بالله وصدقنا، وهذا قول أهل الإيمان. والصحابة رضي الله عنهم لم يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن كيفية أي صفة من صفات الله عز وجل، وهم أسوة وسلف وقدوة لنا بعد النبي عليه الصلاة والسلام، ولابد أن نكون مثلهم، خاصة في أمور الغيب. فهم لما سمعوا قول الله تعالى: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] عرفوا عظمة الله تبارك وتعالى، ولم يسألوا عن كيفية الاستواء؛ لأنهم عرفوا أن المقصود بهذه الآية هو العلو والعظمة والارتفاع. وكلام الإمام مالك رحمه الله تعالى ليس خاصاً بصفة الفوقية فقط، وإنما هو كلام عام وميزان أصيل توزن به جميع الصفات، لا تسأل عن الكيفية، ولكن سل لتعلم معنى الصفة، فلو قلت: ما معنى استوى؟ ف A علا وارتفع، ولو قلت: كيف استوى؟ لقلنا: إنك مبتدع أو جاهل. السؤال عن معنى صفات الله جائز، بل هو من أشرف العلوم وأعلاها؛ لأنه متعلق بعلم التوحيد وعلم العقيدة، وهو من أشرف العلوم وأعلاها؛ لأنه متعلق بذات الله عز وجل، ثم يتلوه في الفضل علوم القرآن؛ لأنها متعلقة بكلام الله عز وجل، وهو صفة من صفاته سبحانه وتعالى، فلما كان الله عز وجل أعلى كل شيء وأحسن من كل شيء دل ذلك على أن كل ما يتعلق بذاته وتوحيده يقدم على غيره من العلوم، ثم يتلوه كلام الله عز وجل، وهو كتابه القرآن الكريم، فكل ما يتعلق بالقرآن من تفسير وتلاوة وفك غريب وغير ذلك يأتي في المرتبة الثانية بعد ذات الله عز وجل؛ لأنه صفة من صفاته، والصفة تابعة للذات. ثم يأتي بعد ذلك علوم السنة، وهي في الفضل والعظمة تتلو علوم القرآن، ثم يأتي بعد ذلك علوم الآلة من اللغة وغيرها وبقية علوم السنة وأصول الفقه وأصول الحديث، وهي التي تخدم علم الكتاب والسنة، ثم يتلوها بعد ذلك علوم الدنيا الطبيعية وغيرها. فكلام الإمام مالك رحمه الله ميزان لجميع الصفات، فإن قيل لك مثلاً: إن الله ينزل إلى السماء الدنيا، كيف ينزل؟ فقل: النزول غير مجهول، أي: معلوم، فالله تعالى ينزل؟ والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، والذين يسألون: كيف يمكن النزول وثلث الليل ينتقل؟ فنقول: السؤال هذا بدعة، إذ كيف تجيز لنفسك أن تسأل سؤالاً لم يسأله الصحابة رضوان الله عليهم؟ فهم أحرص منا على الخير وعلى العلم بما يجب لله تعالى، ولسنا بأعلم من الرسول صلى الله عليه وسلم. والإمام مالك رحمه الله رد على ذلك الرجل؛ لأنه سأل تعنتاً، فقال: ما أراك إلا مبتدعاً، ثم أمر به فأخرج من المسجد؛ لأن السلف كانوا يكرهون أهل البدع وكلامهم واعتراضا

وجوب التسليم للنصوص في باب الأسماء والصفات

وجوب التسليم للنصوص في باب الأسماء والصفات عليك أيها المسلم التسليم المطلق لله عز وجل في هذا الباب، فمن تمام إسلامك لله عز وجل واستسلامك ألا تبحث في هذه الأمور، ولهذا أحذر نفسي وإياكم دائماً من البحث فيما يتعلق بأسماء الله عز وجل وصفاته على سبيل التعنت والتنطع، والشيء الذي ما سأل عنه الصحابة ينبغي ألا يسأل عنه أحد ممن أتى بعدهم، وينبغي أن يكون كلامنا: سمعنا وآمنا وصدقنا وأطعنا، أي: آمنا وصدقنا بالخبر، وأطعنا الطلب، وسمعنا القول حتى نسلم ويسلم لنا ديننا ودنيانا. فأي إنسان يسأل فيما يتعلق بصفات الله عز وجل سؤالاً ما سأل عنه الصحابة فهو كما قال مالك: ما أراك إلا مبتدعاً.

فهم السلف لمعاني الصفات

فهم السلف لمعاني الصفات ورد عن السلف ما يدل على أنهم يفهمون معاني ما أنزل الله على رسوله من الصفات، كما نقل عن الأوزاعي وغيره بأنهم قالوا في آيات الصفات وأحاديثها: أمروها كما جاءت بلا كيف، أي: لا تكيفوها، ولكن آمنوا بها على معناها الذي وردت به، ولا تخوضوا في الكيفية، ومعنى قولهم أنهم يمرونها بلا كيف، أي: أنهم يثبتون المعنى، ولو لم يكونوا يؤمنون بالمعنى لقالوا: أمروها كما جاءت معنى وكيفاً، ولكنهم لما قالوا: آمنوا بها وأمروها كما جاءت بلا كيف ولم يذكروا المعنى دل على ثبوتها عندهم. فكلامهم هذا يدل على أنهم يفهمون المعنى وذلك من وجهين: الوجه الأول: أنهم قالوا: أمروها كما جاءت، ومعلوم أنها ألفاظ جاءت لمعان؛ لأن الله تعالى يستحيل أن يخاطبنا بالكلام المجمل أو بكلام لا نفهمه نحن، ولا يفهمه أنبياؤه ورسله، وإلا لخاطبنا الله تعالى بالمجمل وبكلام لا معنى له، وهذا عبث ولعب نزه الله تعالى نفسه عنه، ونزهه أنبياؤه والمؤمنون. والأمر الثاني: قولهم بلا كيف، لأن نفي الكيفية يدل على فهم المعنى، أو على وجود المعنى؛ لأن نفي الكيفية عن شيء لا يوجد لهو وعبث. فكلام السلف هذا يدل على أنهم يثبتون لهذه النصوص معنى. والكيف هو ذكر صفة من الصفات بهيئتها وحالها وكيفيتها، كما تقول: جاء زيد راكباً، أو جاء زيد راجلاً، أي: يمشي على رجليه. فهذا بيان لصفة المجيء، والتكييف والحال والوصف بمعنى واحد.

العلاقة بين التكييف والتمثيل

العلاقة بين التكييف والتمثيل وأهل السنة يؤمنون بصفات الله عز وجل من غير تمثيل، فأهل السنة يتبرءون من تمثيل الله عز وجل بخلقه، سواء في ذاته أو في صفاته أو في أفعاله. فهو تعالى متفرد في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله، فلا يشاركه أحد في أفعاله، كما لا يشاركه أحد في صفاته ولا في ذاته. قال: (والتمثيل: هو ذكر المماثل للشيء، وبينه وبين التكييف عموم وخصوص مطلق)، يعني: بين التكييف والتمثيل عموم وخصوص مطلق؛ لأن كل ممثل مكيف، فلو قلت: مشي محمد كمشي أحمد، أو جلوسه كجلوس إبراهيم، أو قيامه كقيام عمرو فهذا تمثيل وتكييف؛ لأنني وصفت حال قيامك وجلوسك ومجيئك، وهذا تكييف، ولما ذكرت لك شبيهاً في القيام والقعود والمشي والمجيء والذهاب والإياب كان هذا تمثيلاً، فكل ممثل مكيف، وليس كل مكيف ممثلاً؛ لأن التكييف ذكر كيفية غير مقرونة بمماثل، مثل قولي: إن إتيانك إتيان جميل، فهذا تكييف، ولا يلزم أن يكون كإتيان إبراهيم مثلاً، وهذا يدل على أن كل مكيف لا يلزم منه أن يكون ممثلاً، ولكن كل ممثل يلزم منه أن يكون مكيفاً، فبين التمثيل والتكييف عموم وخصوص، يعني: اجتماع وافتراق، فالممثل لابد وأن يكون مكيفاً، ولا يلزم أن يكون المكيف ممثلاً.

إثبات أهل السنة صفات الله دون تمثيل

إثبات أهل السنة صفات الله دون تمثيل وأهل السنة والجماعة يثبتون لله عز وجل الصفات بدون مماثلة، فهم يقولون: إن الله تعالى استوى ولكن ليس كاستوائنا، ويأتي ولكن ليس كإتياننا، فهم يفوضون الكيف ويثبتون المعنى بدون تمثيل، بل يثبتون لله تعالى الصفات، ويقولون: ليس له مثيل ولا شريك، فإنه متفرد في وحدانيته وفي ذاته وفي أفعاله وفي صفاته. ويقولون: إن الله عز وجل له حياة ولكن ليست كحياتنا؛ لأن حياتنا يعتريها النقص والعلل والأمراض والأسقام، وأما حياة الله تعالى فهي منزهة عن هذا كله، فهم يثبتون لله تعالى الحياة، ولكن ليست كحياتنا، وكذلك سمعنا ليس كسمع الله، ولا علمنا كعلم الله، ولا إتياننا كإتيان الله، ولا مجيئنا كمجيء الله، ولا استواؤنا كاستواء الله، بل لما كانت الذات منافية للذات لابد أن تكون الصفات منافية للصفات.

أدلة أهل السنة والجماعة على نفي التمثيل

أدلة أهل السنة والجماعة على نفي التمثيل

الأدلة النقلية على نفي التمثيل

الأدلة النقلية على نفي التمثيل وقد استدل أهل السنة على نفي التمثيل عن الله عز وجل بالمنقول والمعقول، بل والفطرة، ومن الأدلة النقلية التي استندوا إليها قول الله تعالى -وهذا في الخبر-: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]. وهذا في التمثيل والتكييف، أي: أن الله تعالى لا يشبهه أحد من خلقه، فليس له من خلقه مثيل ولا شبيه، ولذلك قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}. وتنكير شيء في سياق النفي يفيد العموم، فلذلك قال: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ))، يعني: ما من شيء تذكره إلا والله تعالى مباين ومغاير له، فليس مثله شيء، ولا يشبهه شيء من خلقه. فالآية فيها نفي صريح للتمثيل، وقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65]. هذا إنشاء بمعنى الخبر، وهو استفهام بمعنى النفي يفيد التحدي، وقولك: ليس له سمي أقل بكثير من قول الله تعالى: ((هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا))؛ لأن الله تعالى استفهم بهذا استفهاماً في سياق الإنكار، وهذا السياق يفيد التحدي، فالله تعالى ليس له سمي، والقول بأن الله تعالى له سمي كذب وزور وافتراء، وهذا كله على نفي المماثلة. وأما الطلب فقول الله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا} [البقرة:22]. فهنا أمر الله ألا نجعل له نداً ولا شريكاً ولا مثيلاً، كما قال تعالى: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل:74]، يعني: لا تقل: الله مثل فلان، أو فلان مثل الله، وقد ورد في بعض كتب الأدباء: أن أديباً دخل على تلميذ له، وكان لتلميذه ثوب واحد قديم جداً، فقال: إن فيك صفتين من صفات الله الوحدانية والقدم، وهذا تمثيل وتكييف، وكل ممثل مكيف، فهذا مثل وكيف كالذي يستهزئ بآيات الله وبكتابه وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن فعل ذلك فقد كفر وخرج عن الملة، كما قال تعالى: {لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ} [التحريم:7]، وهذا لا شك أنه كافر وخارج من الملة؛ لأنه نازع الله تعالى أو وصف خلق الله بصفات الله عز وجل، فوحدانية الله عز وجل هي أعلى ما يتصف الله تعالى به من الصفات، فهو صاحب الوحدانية في الألوهية والربوبية والذات والصفات والأفعال، وغير ذلك مما يخص الله تبارك وتعالى من أسماء وصفات، فهو يقول له: إن فيك صفتين من صفات الله الوحدانية والقدم. ولا يجوز أن يوصف الله تعالى بالقديم ولا بالقدم؛ وإنما يوصف الله تعالى بالأول والآخر والظاهر والباطن، وأما اسم القديم فهو غير ثابت لله عز وجل. وأسماء الله تعالى توقيفية، أي: أننا نتوقف في إثبات الاسم إلى أن يأتي به الخبر الصحيح الثابت، فلا نثبت لله تعالى اسم القديم؛ لأنه لم يرد إلينا في النصوص. قال: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل:74]. فمن مثل الله بخلقه فقد كذب الخبر وعصى الأمر، ولهذا أطلق بعض السلف القول بتكفير من مثل الله بخلقه، ومن هؤلاء الأئمة نعيم بن حماد الخزاعي، وهو إمام جليل من أئمة أهل السنة، عاش في عصر الإمام أحمد بن حنبل، وكان شيخ البخاري، وقد تعرض لفتنة خلق القرآن، ووشى به إلى المعتصم أحمد بن أبي دؤاد عالم السلطان في ذلك الزمان، وهو من المعتزلة، وكان المعتزلة يقولون بخلق القرآن، فوشى أحمد بن أبي دؤاد إلى المعتصم بالإمام أحمد ونعيم بن حماد وغيرهما من أهل العلم من السلف، فعذبهم ونكل بهم نكالاً عظيماً، وكان من بين من نكل بهم نعيم بن حماد رحمه الله تبارك وتعالى، فقد سجنه المعتصم، حتى مات نعيم بن حماد في سجنه، فألقي في حفرة، ولم يكفن ولم يغسل ولم يصل عليه، رضي الله تبارك وتعالى عنه. فأهل العلم تحملوا المشاق العظام في سبيل أن يوصلوا إلينا هذا الدين، ولولا أن الله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها لقلنا: إن هؤلاء الناس تكلفوا فوق وسعهم. قال الإمام نعيم بن حماد: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف الله تعالى به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيهاً. يقول الذهبي بعد أن ذكر هذا القول في سير أعلام النبلاء في ترجمة نعيم بن حماد: هذا الكلام حق، نعوذ بالله من التشبيه، ومن إنكار أحاديث الصفات، فما ينكر الثابت منها من فقه، وإنما بعد الإيمان بها هناك مقامان مذمومان، أي: بعد أن تؤمن بصفات الله عز وجل اعلم أن هناك مقامين مذمومين. المقام الأول: تأويلها وصرفها عن موضوع الخطاب، أي: تأويل الصفة، وهذا التأويل هو التحريف. فالمقام المذموم الأول هو تحريف الصفة وصرفها عن موضوع الخطاب، مع أن السلف لم يؤولوا ولم يحرفوا ألفاظها عن مواضعها، بل آمنوا بها وأمروها كما جاءت. وأما المقام المذموم الثاني: فهو المبالغة في إثباتها، أي: لا نبالغ في إثبات الصفات التي أثبتها الله تعا

الأدلة العقلية على نفي التمثيل

الأدلة العقلية على نفي التمثيل وأما الأدلة العقلية على انتفاء التماثل بين الخالق والمخلوق فمن وجوه: الوجه الأول: أن صفات الخالق غير صفات المخلوق، فمثلاً صفة الوجود ثابتة لله عز وجل، وثابتة للإنسان، ووجود الله تعالى غير وجود الإنسان، فوجود الله تعالى واجب لذاته، وأما وجود المخلوق فجائز، فقياس صفات الخالق على صفات المخلوق قياس فاسد، بل أفسد القياس. فأنا أقول: أنا موجود والله تعالى موجود، ولكن وجودي غير وجود الله، فوجود الله تعالى واجب لذاته، وأما وجودي فممكن، والله تعالى وجوده منزه عن كل نقص، وأما وجودي فمعرض لكل نقص، فلا يمكن أن يكون الخالق مماثلاً للمخلوق عقلاً. الوجه الثاني: أننا نجد التباين العظيم بين الخالق والمخلوق في صفاته وفي أفعاله، فمثلاً الله تعالى يسمع كل صوت مهما بعد وخفي، وأما المخلوق فلا يسمع إلا ما هو حوله، وربما يكون الصوت حوله فيسمعه ولا يميزه، وربما لا يسمع الإنسان صوت الذي بجواره فيطلب منه إعادة الكلام، وهذا يدل على أن سمعه فيه نقص وعيب، والله تعالى يتكلم بلا عيب ولا نقص، ويسمع بلا عيب ولا نقص. وهذا يدل على أن صفة السمع عند المخلوق غير صفة السمع عند الله عز وجل، فسمعك ثابت وسمع الله ثابت، ولكن شتان بين السمعين، وقد قال تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة:1]. قالت: عائشة رضي الله عنها كما في البخاري: إن هذه المرأة أتت وجادلت النبي صلى الله عليه وسلم في جانب الغرفة وأنا في جانبها الثاني -يعني: في نفس الغرفة- ولكن خفي علي بعض حديثها، وسمعها الله تعالى من فوق سبع سماوات. فالمخلوق يشارك الله عز وجل في مجرد اسم الصفة فقط. الوجه الثالث: الله تعالى مباين ومغاير ومفارق للخلق بذاته؛ لأن الله تعالى معنا بسمعه وعلمه وإحاطته، وليس معنا بذاته؛ بل هو سبحانه وتعالى مستو على العرش فوق السماوات السبع، قال تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255]. وقال تعالى: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر:67]. ولا يمكن لأحد من الخلق أن يكون هكذا، فلا يمكن لأحد من الخلق أن يقول: أنا وسع كرسيي السماوات والأرض. وهذا يدل على أن الله تعالى مباين ومغاير لذات خلقه، والذي يدل عليه قول الله تعالى: ((وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)). فلا يمكن لأحد أن يدعي أن الأرض في قبضته يوم القيامة. والصفات تابعة للذات، فلما كان الخالق مبايناً للمخلوق في ذاته دل ذلك على أنه لا يمكن أن يتماثل الخالق والمخلوق في الصفات ولا في الأفعال ولا في الذات. الرابع: أننا نشاهد في المخلوقات أشياء تتفق في الأسماء وتختلف في المسميات، فنجد الناس يختلفون في صفاتهم، فهذا قوي البصر وهذا ضعيف، ويقال لكل منهما: بصير أو مبصر، وهذه العيوب التي تدخل على البشر لا يمكن دخولها على الله، وهذا يدل على أن المخلوق يشارك الخالق أصل التسمية، وأما في بقية فروع القياس فيستحيل؛ لأن سمعك غير سمع الله، وبصرك غير بصر الله عز وجل. وإذا كان التباين في المخلوقات التي هي من جنس واحد فما بالك بالمخلوقات المختلفة الأجناس، فالتباين بينها أظهر، فلا يمكن لأحد أن يقول: إن لي يداً كيد الجمل، أو كيد الحمار، أو كيد الشاة، مع أنها كلها أيدٍ؟ وكثير من الحيوانات ذوات الأربع وذوات الاثنتين لها يد ولها رجل، وإذا كان هذا التباين بين المخلوقات نفسها فما بالك في التباين بين الخالق والمخلوق سبحانه وتعالى؟ فإذا جاز التفاوت بين المسميات في المخلوقات مع اتفاق الاسم، فجوازه بين الخالق والمخلوق من باب أولى، بل هو واجب، فالتباين بين الخالق والمخلوق واجب لابد من التسليم به.

الدليل الفطري على نفي التمثيل

الدليل الفطري على نفي التمثيل وأما الدليل الفطري فهو أن الإنسان بفطرته يعرف الفرق بين الخالق والمخلوق، ولولا هذه الفطرة ما ذهب يدعو الخالق، فهو كلما نزل به كرب أو ضر أو مكروه رفع يده إلى السماء ودعا الله عز وجل، وهذا يدل على أنه مقر من داخله بأن الله تعالى مباين لخلقه بذاته وبأسمائه وصفاته وأفعاله، ولو كانت المماثلة حاصلة بين المخلوق وبين الخالق فكيف يدعو الخالق إذا كان هو مثل الله؟ فهذا يدل على وجود الفرق والمباينة والاختلاف. ومن هذا يتبين أن التمثيل بين الخالق والمخلوق مستحيل من جهة السمع ومن جهة العقل والفطرة كذلك.

الرد على من يقول بوجود التمثيل في حديث: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر)

الرد على من يقول بوجود التمثيل في حديث: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر) إذا قال قائل: إن هناك أحاديث ظاهرها يوحي بالمماثلة، أو يوحي بالتكييف والتشبيه مثل حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه لما سئل: هل نرى ربنا؟ قال: هل ترون القمر في ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ قالوا: نعم يا رسول الله! قال: إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب). فكما أنك ترى القمر ليلة البدر واضحاً إذا لم يكن هناك غيم ولا سحاب فإنك سترى الله عز وجل في الآخرة كما ترى القمر ليلة البدر. وقد يقول قائل: إن هذا فيه تمثيل، ونرد على هذا ببيان أصلين: الأصل الأول: أصل عام. والأصل الثاني: أصل خاص، وفيه الرد على هذه الشبهة. فالأصل العام: أن كل ما تكلم الله تعالى به حق وصدق، وليس هناك خلاف في ذلك، فكل ما جاء في كتاب الله عز وجل حق، وكذلك كل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم حق لا ينازع في شيء من ذلك إذا صح الدليل، وأما إذا كان الدليل ضعيفاً، فيجب رده، ولا نتكلف له التأويل، لا أن آتي بحديث صحيح يثبت صفة، وحديث ضعيف ينفي نفس الصفة وأقول: بينهما تعارض، وإنما أنظر إلى الدليلين هل هما ثابتان أم لا، فإن كان أحدهما ضعيفاً والآخر ثابتاً وجب رد الضعيف فيبقى الصحيح دون معارض، وإذا كان الدليل ثابتاً صحيحاً في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فينبغي أن نؤمن إيماناً قوياً متيناً من أعماق قلوبنا أن الله تعالى لا يتكلم بالمتناقض أبداً، وكذلك نبيه صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يتفوه بغير الحق. وإنما أتت هذه الشبهة من القصور في الفهم والعلم، فالذي أمرنا أن نؤمن بصفات الله من غير تكييف ولا تعطيل ولا تمثيل ولا تشبيه هو الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والذي قال: (إنكم سترون ربكم) هو الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن أن يكون هناك تعارض ولا تناقض بين أقواله، وهذه المسألة ينبغي أن نسلم بها، فالمشكاة التي خرج منها الكتاب والسنة مشكاة واحدة، وهي مشكاة الوحي، والوحي لا يمكن أن يخطئ؛ لأنه من عند الله، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]. وهذا يدل على أنه من عند الله فقط، سواء كان كتاباً أو سنة، قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]. وفي حديث عبد الله بن عمرو لما عيرته العرب بأنه يكتب عن النبي عليه الصلاة والسلام في وقت الغضب والرضا، فقال: (يا رسول الله! إن قريشاً تقول: إنك تكتب عن صاحبكم وهو بشر يتكلم في الغضب والرضا، قال: اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلا حقاً، وأشار إلى فيه صلى الله عليه وسلم). وهذا يدل على أنه لا يمكن أن يقع التعارض في النصوص الثابتة في كتاب الله أو في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما تأتي المشكلة من القصور في الفهم، وهنا يجب الرجوع إلى أهل العلم، {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]. وقد تعرض ابن خزيمة وابن قتيبة والإمام الشافعي رحمهم الله وغيرهم، للتأويل والتوثيق والجمع بين النصوص التي ظاهرها التعارض، ولذلك يجب عليك أن تقول: النصوص التي ظاهرها التعارض، لا النصوص المتعارضة؛ لأنها في حقيقة الأمر ليست متعارضة. فـ ابن خزيمة عليه رحمة الله يقول: ليس هناك في الكتاب ولا في السنة دليلان متعارضان، فمن وجود شيئاً من ذلك فليأتني بهما أؤلف له بينهما، فها هو جبل من الجبال ألا وهو الشيخ ابن خزيمة، فمن عنده إشكال فليذهب إليه، وابن خزيمة مات نعم، ولكن السنة موجودة وكلامه موجود، وما ترك شبهة إلا وتكلم فيها، فإذا عن لك شيء فكتب تأويل المتشابه مشهورة عند أهل العلم، فهناك تأويل الحديث لـ ابن قتيبة، وشرح مشكل الآثار للإمام الطحاوي، وهناك كتاب ابن خزيمة، وغيرها من الكتب التي تكلمت وجمعت وألفت بين النصوص التي ظاهرها التعارض، فإذا وجدت شيئاً من ذلك أو دخلت عليك شبهة، فالجأ إلى أهل العلم، وأحمد بن حنبل عليه رحمة الله إمام أهل السنة والجماعة رد على الزنادقة بكتاب سماه الرد على الزنادفة، وهو كتاب صغير الحجم لا يبلغ أكثر من خمسين صفحة، رد فيه على الزنادقة رداً في متشابه القرآن، وهو من أمتن وأقوى وأحسن ما تقرؤه في هذا الباب، ولو علمت قيمة العلم وأنت تقرأ تحس بحلاوة لا تجدها وأنت تأكل أشهى أكل عندك؛ لأن العلم له لذة، ولكن عند من يلتذ به، وهناك أناس لا يلتذون إلا بالشهوات والشبهات. الأصل الثاني عن قوله: (إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته)، أي: لا يحصل ضيم لكم في رؤيته، فإنكم ترون الله تعالى يوم القيامة، وترونه في الجنة كما ترون القمر ليلة البدر. فالكاف هن

الرد على من يستدل لجواز التمثيل بحديث: (خلق الله آدم على صورته)

الرد على من يستدل لجواز التمثيل بحديث: (خلق الله آدم على صورته) ويستدلون بشبهة أخرى في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى خلق آدم على صورته). والحديث صحيح، أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين، والصورة تعني لأول وهلة المماثلة، فلو أنك تصورت عند المصور ثم أطلعتني على الصورة، لقلت: هذه صورتك؛ لأنها مماثلة لك؛ لأن أوصافها مثلك تماماً. فالصورة تستدعي وتستلزم المماثلة، فقوله هنا: (إن الله تعالى خلق آدم على صورته)، هذا يستلزم المماثلة وإثبات الصورة لله عز وجل، وفي هذه الحالة يكون المعنى: إن الله تعالى خلق آدم على صورة الرحمن، وهذا تفسير جاء في بعض الروايات. والرواية التي فيها: (إن الله تعالى خلق آدم على صورة الرحمن) رواية منازع فيها بين الصحة والضعف، بل ضعف بعض أهل العلم الرواية التي في البخاري ومسلم: (إن الله تعالى خلق آدم على صورته)، وقالوا: إنها منكرة من جهة المتن لا من جهة السند. لو كان هذا الحديث ضعيفاً، لكفى ضعفه في رده، ولو كان صحيحاً وهو الراجح من أقوال أهل العلم والذي عليه الأدلة الكثيرة فينبغي تأويل هذا الحديث. وتأويل هذا الحديث على وجهين: الوجه الأول: ينبغي الرجوع في تأويل النص إلى المناسبة التي ورد فيها النص، والمناسبة هي أن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه لطم جاريته على خدها، ثم ندم فذهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام يستعتبه ويطلب منه لو أن هناك كفارة أو شيئاً من هذا، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم ألا يضرب الوجه ولا يقبح، ثم قال: (إن الله تعالى خلق آدم على صورته)، أي: أن الله تعالى خلق آدم على صورة المضروب، أي: فلا تقبح هذا الوجه ولا تضربه مرة ثانية، فإن الله تعالى خلق آدم على صورته، فالضمير هنا الذي في (صورته) يعود على المخلوق، هذا تأويل. وبعض أهل العلم قالوا: هذا الضمير يعود على الله؛ لأنه جاء في رواية أخرى صريحة: (إن الله تعالى خلق آدم على صورة الرحمن)، فحملوا الضمير في قوله صلى الله عليه وسلم (على صورته) على لفظ: (الرحمن)، فيكون الحديث: (إن الله تعالى خلق آدم على صورة الرحمن). والحذف في كتاب الله عز وجل وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم كثير، ومنه قوله تعالى على لسان مريم أم عيسى عليه السلام: {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا} [مريم:18]، فهذا على تقدير محذوف، وتأويله: قالت: إني أعوذ بالرحمن منك، ثم تقف، إن كنت تقياً فابعد عني، فهي تذكره بتقوى الله؛ لأنه عندما أتاها الملك في صورة بشر خشيت على عرضها وخافت، فقالت: إني أعوذ بالله منك، وتقدير الكلام: إن كنت تقياً فابعد عني، أو فانصرف عني، أو فإليك عني، ولما كان العرب يفهمون هذا أثبته الله تعالى من باب الإيجاز في الكلام وعدم الإطناب. فقوله هنا: (إن الله تعالى خلق آدم على صورته)، أي: على صورته التي خلقه الله تعالى عليها، ويكون التقدير أيضاً: إن الله تعالى خلق هذا المضروب على صورة آدم التي خلقه الله تعالى عليها، فلا يكون الأمر هنا فيه مماثلة بين وجه الخالق ووجه المخلوق. ويكون التقدير في قوله: (على صورة الرحمن): إن الرحمن خلق هذا الوجه على ما صوره الرحمن في آدم، وهذا على فرض ثبوت لفظ الرحمن، فينبغي ألا تضرب هذا الوجه ولا تقبحه ولا تلعنه، كما أنه يحرم عليك أن تقبح وجه آدم وأن تضربه وأن تلعنه. وبهذا تزول هذه الشبهة، والضمير يعود على أقرب مذكور، وهذا وجه آخر. والذين قالوا: الضمير عائد على الله قالوا: إن الضمير يعود على الصورة وليس على آدم، فالهاء تعود على الصورة؛ لأنها أقرب مذكور، والخلاف بين أهل العلم: ما هو أقرب مذكور للضمير الصورة أو آدم؟ وجواب آخر: وهو أن الإضافة من باب إضافة المخلوق إلى خالقه، فقوله: (على صورته)، مثل قول الله عز وجل في آدم: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر:29]، فليس المعنى: أن الله عز وجل أعطى آدم جزءاً من روحه، بل المراد إضافة الروح التي خلقها الله عز وجل في آدم إلى الله نفسه من باب التشريف، كما نقول: عباد الله، وبيت الله، وأمة الله، وعبد الله، وغير ذلك. فقوله: (خلق آدم على صورته)، يعني: على الصورة التي خلقه الله تعالى عليها، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [الأعراف:11]. والمصور آدم. فالله هو الذي صوره على هذه الصورة التي تعد أحسن صورة في المخلوقات، ولهذا قال: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4]، أي: في أحسن صورة، فإضافة الله الصورة إليه من باب التشريف، فكأنه عز وجل اعتنى بهذه الصورة، ومن أجل ذلك لا تضرب الوجه فتعيبه حساً، ولا تقبحه، فلا تقل: قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك، فتعيبه معنى؛ لأن هذه الصورة قد صورها الله وأضافها إلى نفسه تشريفاً وتكريماً،

صفات الله تعالى المثبتة كلها صفات كمال

صفات الله تعالى المثبتة كلها صفات كمال والله تعالى جمع لنفسه فيما وصف به نفسه وسمى به نفسه بين النفي والإثبات، والإثبات في الكتاب أكثر من النفي، فصفات الله عز وجل تنقسم إلى قسمين: صفات مثبتة، وصفات منفية، يعني: أثبت لنفسه صفات ونفى عن نفسه صفات، ولذلك أهل العلم يقولون: إن صفات الله تعالى إما صفات مثبتة، وإما صفات منفية -أو يقولون سلبية-، والسلب بمعنى النفي في اللغة، إلا أن النفي أحب إلى كثير من أهل العلم من لفظ السلب؛ لأن لفظ السلب فيه معنى الأخذ عنوة. والصفات المنفية عن الله عز وجل صفات نقص، فصفات الله عز وجل قسمان: مثبتة ومنفية، فالصفات المثبتة: هي كل ما أثبته الله تعالى لنفسه، وكلها صفات كمال ليس فيها نقص بوجه من الوجوه. ومن كمالها أنه لا يمكن أن يكون ما أثبته دالاً على التمثيل، فإذا أثبت الله تعالى لنفسه السمع دل ذلك على أن له مطلق السمع والسمع المطلق، بخلاف المخلوق فربما يكون سمع المخلوق معيباً، وربما يولد المخلوق لا سمع له ولا بصر له، فالصفات جائزة للمخلوق، كما أن وجود المخلوقين جائز، وأما وجود الخالق فواجب، وصفاته واجبة ولازمة له سبحانه وتعالى بكمالها وتمامها، ولا يلحقها عيب ولا نقص، وأما المخلوق فلما كان وجوده جائزاً كانت صفاته كذلك جائزة، فربما يولد سميعاً أو بدون سمع، وربما يولد سميعاً ويفقده بعد ذلك، وربما يستمر معه السمع. فإثبات الصفات لله لا يستلزم مماثلة للمخلوق، وقد ضل أهل التحريف الذين زعموا أن الصفات المثبتة تستلزم التمثيل؛ لأن الإثبات عندهم يساوي التمثيل، فلما فروا من ذلك وقعوا في التعطيل، وأما أهل السنة فقد حفظ الله تعالى بهم الملة، وحفظ بهم ما يجوز وما يجب وما يستحيل لله عز وجل، فأثبتوا لله تعالى أسماءه وصفاته من غير غلو في الإثبات ومن غير تعطيل.

مباحث في الأسماء والصفات

مباحث في الأسماء والصفات

أسماء الله تعالى وصفاته توقيفية

أسماء الله تعالى وصفاته توقيفية وأسماء الله تعالى توقيفية، فلا نثبت لله تعالى اسماً إلا ما أثبته له بنفسه، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، وقال بعض أهل العلم: إنها اجتهادية، وهذا الكلام يخالف ما عليه جمهور أهل العلم من السلف والخلف، فصفات الله تعالى توقيفية كالأسماء تماماً، فلا يجوز أن نثبت صفة لله عز وجل إلا ما أثبته لنفسه، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم.

أقسام الصفات الثابتة لله عز وجل

أقسام الصفات الثابتة لله عز وجل والصفات تنقسم إلى ثلاثة أقسام، صفات كمال مطلق، وصفات كمال مقيد، وصفة نقص، وهي الصفات المنفية أو الصفات السلبية؛ لأن الله تعالى لا يتصف بها ألبتة. فالله تعالى يتصف بنوعين من الصفات، صفات كمال مطلق، وصفات كمال مقيد. فأما صفات الكمال المطلق فإنها ثابتة لله عز وجل، كالكلام، قال الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]. وهذه صفة فعل، وليس في أسماء الله المتكلم، وإنما الكلام صفة من صفات الله عز وجل وهي ثابتة بالفعل، قال تعالى: ((وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا)).

قاعدة اشتقاق الصفات من الأسماء

قاعدة اشتقاق الصفات من الأسماء وليس كل صفة يشتق منها اسم، وهذه قاعدة مهمة جداً: فكل الأسماء يشتق منها صفات، وليس كل الصفات يشتق منها أسماء، ولو قلت: الصفات يشتق منها أسماء فسيلزمك أشياء كثيرة جداً؛ فيلزمك أن تقول: إن الله هو الماكر والمخادع والمستهزئ، ومن قال هذا فقد خرج من ملة الإسلام، فالأسماء يشتق منها صفات، فالحليم يشتق منه الحلم، والعظيم يشتق منه العظمة. وليس في أسماء الله الستار، وأما ستير فهو صفة، وقد وردت في قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله حيي ستير يحب الحياء والستر). فالأسماء يشتق منها صفات، فهناك تسعة وتسعون صفة، وهناك أيضاً صفات يشتق منها أسماء، ولو كانت الأسماء بقدر الصفات لقلنا بضرورة الأمرين، أي: أن الأسماء يشتق منها صفات، والصفات يشتق منها أسماء، ولكن الصفات أكثر من الأسماء، فكل اسم يدل على صفة، فإن الله حليم بحلم، عظيم بعظمة، كريم بكرم، قدير بقدرة، وهناك صفات زائدة على الصفات المشتقة من الأسماء، ولا يجوز أن نشتق منها أسماء لله عز وجل، وكأن بين الأسماء والصفات عموم وخصوص، فكل اسم يدل على صفة، وليست كل صفة تدل على اسم.

كتاب الجهاد والسير - مقدمة فضل الجهاد من القرآن والسنة

شرح صحيح مسلم - كتاب الجهاد والسير - مقدمة فضل الجهاد من القرآن والسنة الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الأمر، وهو من العبادات المعلومة من الدين بالضرورة، ولم يشرع الجهاد لإزهاق الأرواح، وإراقة الدماء، واحتلال البلاد، وإنما شرع لإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، وقد بين القرآن والسنة ما أعد الله للمجاهدين في سبيله من عز وتمكين في الدنيا، ونعيم مقيم في الآخرة.

أهمية الجهاد وفضله في كتاب الله عز وجل

أهمية الجهاد وفضله في كتاب الله عز وجل إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستغفره ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فقد توقفنا عند كتاب الجهاد، وهو من أوجب الواجبات على هذه الأمة في هذه الأيام، ويحسن أن نقدم للكلام عن أحكام الجهاد التي وردت في صحيح مسلم بمقدمة تبين أهمية الجهاد وفرضيته خاصة إذا احتاجت إليه الأمة في وقت من الأوقات، والأمة في حاجة إلى الجهاد حتى آخر لحظة من لحظات حياتها، كما أن هذه المقدمة تعالج عند كثير من الناس ما يشاع عن الجهاد في سبيل الله أو الحرب أو القتال أنه حرب مدمرة وخسارة. فنقول: لا يرتدع الظالم المعتدي إلا بهذا، فإذا كان ذلك وتعين فلا بأس به في لسان الشرع. فنقدم بمقدمة من كتاب الله عز وجل ثم من سنة النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن ندخل في ذكر تفاصيل أحكام الجهاد من خلال الأحاديث في صحيح مسلم.

آيات القتال في سورة البقرة

آيات القتال في سورة البقرة قال الله عز وجل: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ} [البقرة:154]؛ لأن الظاهر أن الذي يقتل في الجهاد أنه قد مات، والله عز وجل يضبط هذا الميزان ويقول: {بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} [البقرة:154] أي: هم عند الله تعالى أحياء حياة لا يعلمها إلا هو عز وجل. وقال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة:190]. وقال الله تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [البقرة:191] أي: وجدتموهم {وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:191] فالفتنة في الدين أشد من أن يقتل المرء لأجل دينه. قال تعالى: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:191] إلى آخر الآيات. وقال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة:193]. وقال الله عز وجل: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216] النفس بطبيعتها تكره ذلك، بل النفس تكره أي تكليف مهما كان يسيراً خفيفاً؛ لأنه تكليف؛ ولذلك قال الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] أي: في مقدورها. وقال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216]. وقال الله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217]. إذاً: الحرب لا يمكن أن تنتهي، ما دام على وجه الأرض كفر وإيمان فلا يمكن أن تنتهي هذه الحرب مطلقاً، قال تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:217].

آيات القتال في سورة آل عمران

آيات القتال في سورة آل عمران وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [آل عمران:156]. وقال تعالى: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [آل عمران:157]. الموت حق على كل نفس، فلأن يموت الإنسان في سبيل الله خير له من أن يموت وهو يجمع حطام الدنيا، قال تعالى: {وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} [آل عمران:158]. وقال تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:168] هو مدرككم في ساحة القتال أو في غيرها ولو كنتم في بروج مشيدة. قال تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران:169 - 170].

آيات القتال في سورة النساء

آيات القتال في سورة النساء قال تعالى: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:74]. وقال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا * الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:75 - 76]. وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ} [النساء:77] يخشون الناس بعد أن فرض الله تعالى عليهم القتال كما يخشون الله تعالى {أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء:77]. وقال تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا} [النساء:84]. وقال تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا} [النساء:89] أي الكفار يودون ويتمنون أن نكفر ككفرهم {فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [النساء:89].

آيات القتال في سورة الأنفال

آيات القتال في سورة الأنفال قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} [الأنفال:15]. فإذا لقيتم الأمريكان يزحفون إلى أرض الأفغان فلا تولوهم الأدبار. هذا معنى كلام الله عز وجل في واقعنا الذي نمر به؛ ولذلك يتعين القتال على أهل هذه المنطقة وعلى من تلاهم؛ حتى يردوا العدو إلى أرضه خاسراً خاسئاً، أو يقتلوه ويجعلوا أرض أفغانستان مقبرة للأمريكان. هذا هو الواجب على المسلمين في هذا الزمان، ومن استطاع أن يذهب إلى هناك بغير خسارة فقد تعين عليه الجهاد، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} [الأنفال:15 - 16] ويريد أن يقاتلهم من ناحية أخرى، أو أن يلحق بسرية أو كتيبة في مكان ولو كان بعيداً عن ساحة القتال، المهم أنه ما ولى الدبر إلا لأحد هذين الغرضين، وإلا {فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال:16]. قال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38] أي: إن دخلوا في الإسلام وتابوا من الكفر فإن الإيمان والإسلام يجب ما كان قبله {وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} [الأنفال:38]. وقال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال:39]. وقال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ} [الأنفال:47] بطراً: أشراً وعجباً ورياء {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [الأنفال:47]. وقال تعالى: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ} [الأنفال:57] أي: إذا وجدتهم يا محمد أنت ومن معك أنت وأمتك في الحرب فشرد بهم، قال تعالى: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال:57 - 58]. وقال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال:60]. ولم يقل: أعدوا لهم كما هي عدتهم، وتسلحوا لهم بسلاحهم، وإنما يكفي أهل الإيمان بأن النصر من عند الله عز وجل، ويجب عليك أن تلتمس الأسباب وإن كانت هذه الأسباب قليلة وضعيفة، المهم أن هذه الأسباب هي التي في مقدورك واستطاعتك، فأنت لا تكلف إلا أن تتخذ الأسباب المتاحة والمستطاعة، قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7]. قال تعالى: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [الأنفال:60] كان أعظم طاغوت قبل طاغوت الأمريكان هو طاغوت الروس، ومع هذا سقط هذا الطاغوت، وسقط التاج الذهبي من فوق رأسه في الوحل والطين على أرض الأفغان، وعلى أيدي أناس عزل لا يملكون شيئاً، وما كان معهم من سلاح إلى يومنا هذا إلا سلاح الغنيمة التي غنموها من أعدائهم، فهذا يدل على قوة الإسلام في حد ذاته. تصور أن رجلاً واحداً قد أضج مضاجع الكافرين في أوروبا وأمريكا، فلو أن الأمة كلها أسامة بن لادن فماذا كان يصنع الأمريكان أو أوروبا أو غيرهم من سائر ملل الكفر؟ ما كانوا يجرءون أن يتكلموا بكلمة واحدة بل انهزموا في عقر دارهم، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ونصرت بالرعب مسيرة شهر) أي: على بعد شهر، وقبل أن يخرج العدو من أرضه يغلب ويهزم وهو في أرضه بمجرد أن يسمع بـ أسامة بن لادن، فضلاً عن أن يسمع بالنبي عليه الصلاة والسلام أو الخلفاء الراشدين، أو الدولة الأموية، أو العباسية أو غيرها من هذه الدول القوية. والعجيب أن هذه التهمة لم تثبت إلى الآن، وكنا نتمنى أن تثبت، لكنه على أية حال -والواقع نمر به ونعيشه- شرف لا ندعيه، ويا ليته ثبت لكانت القضية حلت منذ أول لحظاتها، ولكنها الحرب بين الإيمان والكفر، أراد شارون الذي ينسب إلى حيي بن أخطب أن يشعل المنطقة العربية ناراً، وأن يفرّغ تلك البقعة الشامية له،

آيات القتال في سورة التوبة

آيات القتال في سورة التوبة قال تعالى: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً} [الأنفال:61] لا يراعون فيكم إلاً ولا ذمة {يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ} [الأنفال:61] كلام معسول جداً، فلا يتكلمون إلا عن السلام العادل والشامل {يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ * اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ * فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} [التوبة:8 - 12]. وهؤلاء القوم نكثوا أيمانهم وطعنوا في ديننا! قال تعالى: {أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ} [الأنفال:61] ما الذي يحجبكم عن قتالهم؟ الخشية؟ تخافونهم؟ {فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [التوبة:13]. وقال تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:14 - 15]. {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]. وقال تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:36]. وقال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ)) لم يقل: تثاقلتم، لكن قال: ((اثَّاقَلْتُمْ)) وهذا يدل على الخلود المتناهي في الأرض، وحب البقاء وترك الخير. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا} [الأنفال:61] أي: جاهدوا {فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ} [التوبة:38 - 39] يعذبكم أنتم {عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:39 - 40] لا بد أن تعتقد أن معية الله تبارك وتعالى ملازمة لك؛ لأنك في معسكر الإيمان، والله تعالى مع المؤمنين معية خاصة، قال: {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:40]. وقال تعالى: {انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} [التوبة:41] على الأقدام وركباناً، قلة أو كثرة {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة:41]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:123]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التحريم:9].

آيات متفرقة من كتاب الله في القتال

آيات متفرقة من كتاب الله في القتال قال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39]. وقال تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ} [محمد:4] أي أكثرتم القتل وأمعنتم القتل في رقابهم {فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد:4 - 6]. وقال تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} [محمد:20 - 21]. {رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [محمد:20] لا يحبون القتال، ويعتبرونه هلكة، وقد سمعنا تصريحات كثيرة تقول: حرب؟! لم الحرب؟! ثم يقول: الحرب ما شرعت إلا للسلام بعدها، وللكلام بعدها، وللاتفاق بعدها، فإذا كان يمكن الاتفاق والسلام والكلام قبلها فما قيمة الحرب حينئذ؟ ثم يقول بعد ذلك قائلهم: الحرب دمار وخراب! لماذا ينظر إلى الحرب على أنها دمار وخراب شامل للبلاد والعباد، والأموال والأنفس والأرواح؟ لماذا هذه النظرة المشئومة فقط، ولا ينظر إلى أن المؤمن في القتال ينتظر أحد أمرين: إما النصر وإما الشهادة؟ لماذا لا ينظر إلى القتال والحرب والجهاد على أنه عز أهل الإيمان وشرفهم، ومحافظة على الأوطان والبلدان؟ لماذا لا ينظر هذه النظرة؟ A لأنه أخلد إلى الأرض ورضي بالحياة الدنيا، بل رضي أن يعيش ذليلاً حقيراً. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4] تصور أن الله تعالى يحب أن نكون صفاً كالملائكة في الصلاة، وأن نكون صفاً في القتال كصفنا في الصلاة {كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف:10]؟ A { تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الصف:11]. هذه بعض الآيات التي إذا سمع المؤمن آية واحدة منها اشتاق إلى لقاء العدو طلباً لمغفرة الله عز وجل.

أهمية الجهاد وفضله في السنة النبوية

أهمية الجهاد وفضله في السنة النبوية صنف ابن أبي عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني كتاباً عظيماً جداً في الجهاد فقال في الباب الأول:

ما ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الجنة وحض عقب ذكرها على الجهاد

ما ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الجنة وحض عقب ذكرها على الجهاد (ما ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الجنة وحض عقب ذكرها على الجهاد). عن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم لأصحابه: (ألا هل من مشمر إلى الجنة؟ ألا هل من مشمر إلى الجنة؟ فإن الجنة لا خطر لها -أي: لا عوض لها ولا مثيل- هي ورب الكعبة نور يتلألأ، وريحانة تهتز، ونهر مضطرد، وقصر مشيد، وفاكهة كثيرة نضيجة، وحلل كثيرة، وزوجة حسناء جميلة في مقام أبداً، في حبرة ونعمة ونضرة، في دار عالية سليمة بهية. فقالوا: نحن المشمرون لها يا رسول الله! قال: قولوا: إن شاء الله. ثم ذكر الجهاد وحض عليه) أي: أنه لا ينال الجنة بهذه الأوصاف إلا رجل آمن بالله وجاهد في سبيل الله عز وجل.

بيان أن الجهاد من أفضل الأعمال عند الله

بيان أن الجهاد من أفضل الأعمال عند الله قال: وعن أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل: (أي الأعمال خير وأفضل يا رسول الله؟! قال: إيمان بالله ورسوله. قال: ثم أي؟ قال: ثم جهاد في سبيل الله، قيل: ثم أي؟ قال: حج مبرور). وهذا الحديث في الصحيحين من حديث أبي ذر بدون ذكر الحج. وعن سهل بن سعد الساعدي قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ساعتان لا تردان -أو قلما تردان- الدعاء عند النداء، وعند البأس). عند النداء أي: بين الأذان والإقامة. وعند البأس. أي: عند التقاء العدو. (يلحم بعضهم بعضاً). أي: يلتقي الصفان والمعسكران. وعن أبي عمرو الشيباني عن عبد الله بن مسعود قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة لوقتها. قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين. قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله عز وجل). وعن ماعز قال: (سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله. قال: ثم أي عمل يا رسول الله! أفضل؟ قال: الجهاد في سبيل الله). وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله! أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله وتصديق بكتابه وجهاد في سبيله). وفي رواية: (إيمان بالله وتصديق به وجهاد في سبيله). وفي رواية: (إيمان بالله وتصديق برسوله وجهاد في سبيله) فهذه أفضل الأعمال. وعن عبد الله بن حبشي الخثعمي رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان لا شك فيه، وجهاد لا غلول فيه). والغلول هو: الأخذ من الغنيمة قبل أن يوزعها الإمام، وهي كبيرة من الكبائر وإن غل عوداً من أراك، قال الله تعالى {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:161]. وعن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! علمني عملاً يعدل الجهاد) أي: أخبرني بعمل يساوي الجهاد في الفضل. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا أجده) ليس هناك عمل أفضل من الجهاد. قال: (هل تستطيع إذا خرج المجاهد للقتال أن تدخل أنت في محرابك ومسجدك فتقوم لا تفتر، وتصوم لا تفطر؟ قال: لا أستطيع). قال أبو هريرة: إن فرس المجاهد ليستن في طوله. يستن: أي: يذهب ويجيء في طوله -أي: الحبل- فرس المجاهد المربوط لا يزال في مربطه يروح ويجيء، فإن هذا الرواح وهذا الغدو لهذا الفرس كله في سبيل الله وفي صحيفة حسنات صاحبه، حتى عدو الفرس وطعامه وبوله وشرابه وروثه كل ذلك في صحيفة حسنات صاحبه. قال أبو هريرة: إن فرس المجاهد ليستن في طوله فتكتب له الحسنات. أي: تكتب لصاحبه الحسنات. وعن أبي هريرة: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! أي الأعمال أفضل؟ قال: الإيمان. قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله). وعنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن مثل المجاهد في سبيل الله كمثل القائم الصائم). القائم الذي لا يفتر، الصائم الذي لا يفطر. قال: (إن مثل المجاهد في سبيل الله كمثل القائم الصائم الخاشع الراكع الساجد). تصور أن المجاهد الذي يجاهد ولو ما بين الأذان والإقامة لا يعدل جهاده إلا رجل يقوم فلا يفتر ولا يمل، ويصوم فلا يفطر. ومن حديث أبي هريرة قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما يعدل الجهاد في سبيل الله عز وجل؟ قال: لا تستطيعوه، فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثاً كل ذلك يقول: لا تستطيعوه، وقال في الثالثة: مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد من الجهاد في سبيل الله عز وجل). فتصور أن هؤلاء الذين وقفوا على هذه الثغور في بلاد الإسلام، الواحد منهم بوقوفه فقط وأدائه للفرائض فقط مع رباطه في هذا الثغر يساوي منا أن نقوم أعمارنا فلا نفتر، وأن نصوم نهارنا جميعاً فلا نفطر، وهذا يدل على شرف الجهاد في سبيل الله عز وجل. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أي الناس أفضل؟ قال: مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله). وكل حديث من هذه الأحاديث قد ورد بروايات متعددة واللفظ واحد.

بيان ما أعده الله للمجاهدين في سبيله

بيان ما أعده الله للمجاهدين في سبيله قال عليه الصلاة والسلام في حديث أبي مالك الأشعري: (إن الله أعد للمجاهدين في سبيل الله مائة درجة -أي: في الجنة- بين كل درجتين ما بين السماء والأرض) ونحن نعلم أنه بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام، اضرب خمسمائة عام في مائة فتكون هذه منازل المجاهدين في سبيل الله في جنة عرضها السماوات والأرض. ومن حديث أبي هريرة في الصحيحين قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لولا أن أشق على أمتي ما تخلفت عن سرية) حتى لا تعتقد الأمة بعد ذلك أن الجهاد فرض عين. (ولكن لا أجد حمولة) أي: لا أجد ما أحمل عليه، وليس عندي ما أحمل الأمة عليه، فمنه ما هو فرض عين ومنه ما هو فرض كفاية. وعن عبد الله بن حبشي: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له: أي الجهاد أفضل؟ قال: من جاهد المشركين بنفسه وماله. قيل: فأي القتل أشرف؟ قال: من أهريق دمه وعقر جواده) أي: من ذهب دمه وذهب جواده، فهذا أشرف القتل. وعن أبي فاطمة أنه قال: (يا رسول الله! أخبرني بعمل أستقيم عليه وأعمله. قال: عليك بالجهاد في سبيل الله فإنه لا مثل له). وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مات ولم يغز وليس في نفسه -أي ولم تحدثه نفسه بالغزو- مات على شعبة من شعب النفاق). وعن أنس بن مالك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (المجاهد في سبيل الله علي ضامن -الله تعالى يضمن من خرج في سبيله- إن قبضته أورثته الجنة، وإن أرجعته أرجعته بأجر وغنيمة). (إن قبضته) أي: قتل في الجهاد كان من أهل الجنة، وإن رجع إلى أهله رجع بأجر وغنيمة. وعن الحسن مرسلاً قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال ربكم: من خرج مجاهداً في سبيلي ابتغاء وجهي فأنا له ضامن، إن أنا قبضته في وجهه -أي: في قتاله وجهاده هذا- أدخلته الجنة، وإن أنا أرجعته أرجعته بما أصاب من أجر وغنيمة). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (توكل الله -أي تكفل الله- للمجاهد في سبيله أن يدخله الجنة أو يرجعه سالماً بما نال من أجر وغنيمة). وعن أبي أمامة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة كلهم ضامن على الله عز وجل: رجل خرج غازياً في سبيل فهو ضامن على الله عز وجل حتى يتوفاه فيدخله الجنة، أو يرده بما نال من أجر وغنيمة، ورجل ذهب إلى المسجد -أي: لصلاة الجماعة مع الإمام- فهو ضامن على الله حتى يتوفاه -أي في طريقه هذا- فيدخله الجنة، أو يرده بما نال من أجر وغنيمة، ورجل دخل بيته بسلام فهو ضامن على الله عز وجل). رجل دخل بيته فألقى السلام على أهل بيته فهو ضامن على الله عز وجل. أما المنافق الذي ضمن الله تعالى وتكفل الله تعالى بدخوله النار فسيأتي معنا حديثه بإذن الله تعالى. وعن أبي مالك الأشعري قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله تبارك وتعالى قال لمن انتدب خارجاً في سبيله) أي: لمن تبرع بنفسه وخرج للجهاد في سبيل الله ابتغاء وجهه وتصديق وعده وإيماناً برسله (إنه على الله ضامن، فإما أن يتوفاه في الجيش بأي حبس شاء -أي: بأي طريقة مات بها- فيدخله الجنة، وإما أن يسيح -يذهب- في ضمان الله وإن طالت غيبته حتى يرده إلى أهله سالماً مع ما نال من أجر وغنيمة، ومن فصل في سبيل الله فمات أو قتل فإنه شهيد، ومن وقصه فرسه أو فصيله أو بعيره أو لدغته هامة أو مات على فراشه بأي حتف شاء الله، فإنه شهيد وإن له الجنة). أي وإن كان السهم قد أتاه وهو نائم على فراشه في أرض الرباط والثغر والقتال فهو شهيد، وإن كان يمشي ويروح ويجيء فانفجرت فيه قنبلة أو لغم أو غير ذلك فهو شهيد، وليس بلازم أن تكون الشهادة حين التحام الصفوف، بل يموت الرجل وهو يكون عند الله شهيداً إذا كان ذلك في ساحة القتال بأي طريق وبأي حتف شاء الله. وعن أنس قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبسة -اسم رجل- عيناً -أي: جاسوساً يستطلع الأخبار- ينظر ما صنعت عير أبي سفيان، فجاء وما في البيت غيري وغير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحدثه الحديث. قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكلم فقال: إن لنا طلِبة -أي: مطلبة- فمن كان ظهره حاضراً فليركب معنا) أي: أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول لأصحابه في هذه الغزوة حينما استطلع عير أبي سفيان في غزوة بدر قال: (إن لنا طلِبة، من كان جاهزاً وحاضراً الآن فليركب وليتبعني). قال الناس: (فجعل رجال يستأذنونه في ظهرانهم في علو المدينة) أي: انتظر يا رسول الله! حتى نأتي

فضل الإنفاق في سبيل الله وتجهيز المقاتلين

فضل الإنفاق في سبيل الله وتجهيز المقاتلين وقال خريم بن فاتك الأسدي: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من أنفق نفقة في سبيل الله كتبت له بسبعمائة ضعف). تصور لو أنك وضعت جنيهاً واحداً، وهذا على الأقل أن تجاهد بمالك فإذا عجزت عن الجهاد بالنفس فلا أقل أن تجاهد بمالك وإن قل، فلا تحقرن من المعروف شيئاً فإنك ستحتاج في يوم من الأيام إلى أن تكون قد تصدقت ولو بشق تمرة تكون حجاباً وساتراً بينك وبين النار، فما بالك لو أنك تصدقت بفضل مالك لإخوانك المجاهدين هنا وهناك؟ إنسان يتصدق بجنيه يجده سبعمائة حسنة في عشرة في سبعمائة، والله تعالى يضاعف بعد ذلك لمن يشاء!! وقال أبو مسعود البدري: (أتى رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إنه قد أبدع بي -أي: انقطع بي السبيل- فاحملني يا رسول الله! قال: اذهب إلى فلان فأقرئه مني السلام وقل له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك: احملني. فذهب الرجل إلى ذلك المبعوث فحمله، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: من دل على خير فله مثل أجر عامله) والحديث عند مسلم. وعن ابن مسعود: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بناقة مخطومة فقال: يا رسول الله! هذه في سبيل الله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة). إذاً: ما أنفقت من نفقة أجرت بمثلها سبعمائة ضعف، فلا تستقل!! وعن صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه قال: (غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة حملت فيها على بكر -أي: على جمل صغير- كان أوثق عملي في نفسي) أي: أوثق الأعمال وأحبها إلى نفسي هو غزوي مع الرسول عليه الصلاة والسلام على قدر استطاعتي. وعن أبي هريرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ثلاثة حق على الله عونهم) والذي فرض هذا الحق هو الله عز وجل. قال: (المجاهد في سبيل الله) أولهم: المجاهد في سبيل الله بإخلاص؛ ولذلك قيدت النصوص كلها الجهاد بأنه في سبيل الله، أما إذا كانت في سبيل الشيطان أو رياء أو سمعة فإنه لا إعانة له. ثلاثة حق الله عونهم: (المجاهد) وشرطه: في سبيل الله، و (الناكح) شرطه: يريد العفاف، أما الناكح الذي يريد أن يتسلى بأعراض الناس فهذا لا يعينه الله عز وجل وإنما يفضحه على رءوس الناس؛ لأنه ما ابتغى بهذا العمل وجه الله، ولا حتى ابتغى أن يعف نفسه ولا أن يعف المرأة، وإنما أراد بذلك أن يتلذذ بأعراض الناس، فإذا فرغ من هذه انتقل إلى تلك، وإذا فرغ من تلك انتقل إلى هذه، فهو يجمع امرأة واثنتين وثلاث وأربع ثم يطلق الرابعة ليستبدل مكانها، ثم يطلق هذه المستبدلة ليستبدل بها وغير ذلك، فهذا لا يريد العفاف وإن أراد العفاف أعفه الله وستره، ومن لا يرد العفاف فإن الله تعالى لا يعينه. وكذلك (المكاتب) وشرط: يريد الأداء. وهو العبد الذي يكاتب سيده على أن يحصل على العتق من الرق في مقابل مبلغ من المال، فإذا كان هذا المكاتب يريد أداء ما كتب عليه فإن الله تعالى يؤديه عنه، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله) أتلفه هو. ولم يقل: أتلف الله ماله، وإنما قال: (أتلفه الله). وعن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في غزوة بني لحيان: (من رجل يخلف صاحبه؟) في غزوة بني لحيان نادى على بني لحيان وقال لهم: سيخرج نصفكم إلى الجهاد والنصف الآخر لا يخرج، مهمتهم أن يخلفوا المجاهدين بخير في أهليهم وأموالهم وذويهم وأطفالهم. فقال: (من رجل يخلف صاحبه؟ -من الذي يقوم في أسرة المجاهد خليفة- للقاعد منهما الذي يخلف الغازي في أهله وماله مثل نصف أجره) أي: لو أن مجاهداً قمت أنت خليفة في أهله وماله وولده وعمله وأغنيت المجتمع بما كان يقوم به ذلك المجاهد قبل أن يذهب إلى الجهاد فلك مثل نصف أجر ذلك المجاهد تماماً بتمام وسواء بسواء. وعن أبي سعيد بلفظ آخر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى بني لحيان: ليخرج من كل رجلين رجل، ثم قال للقاعد: أيكم خلف الخارج في أهله بخير) وهذا شرط: بخير لا بغش وخداع وتخبيب للمرأة وإفساد لها على زوجها وغير ذلك. قال: (كان له مثل نصف أجر الخارج). وعن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من صاحب إبل ولا غنم لا يؤدي حقها إلا أقعد لها يوم القيامة بقاع قرقر) أي: بقاع أملس، كالرخام. تصور أن عندك أغناماً وأبقاراً ومواشي وإبلاً وغير ذلك، ولا تؤدي زكاتها، فتأتي هذه الأنعام يوم القيامة فتُطرح لها على أرض ملساء كالصفا، ثم تظل هذه الأنعام تطؤك بأظلافها وأظافرها وأرجلها، كلما فرغت أعادت الدورة من جديد. قال: (ما م

بيان فضل المجاهد الذي اغبرت قدماه في سبيل الله

بيان فضل المجاهد الذي اغبرت قدماه في سبيل الله عن معاذ بن جبل قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده ما تغبرت قدما عبد قط ولا وجهه في شيء أفضل عند الله بعد الصلاة المفروضة من الجهاد في سبيل الله عز وجل). إذاً: فأعظم مشوار تذهب إليه وتغبر فيه قدماك بعد إدراك الصلاة مع الإمام في جماعة هو الجهاد في سبيل الله عز وجل. وفي رواية: (والذي نفسي بيده ما شحب وجه ولا اغبرت قدم في عمل تبتغي فيه درجات الجنة بعد الصلاة المفروضة كجهاد في سبيل الله). وقال عليه الصلاة والسلام: (من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمهما الله على النار). وهذه حرمة عظيمة للمجاهد. وعن أبي هريرة قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف امرئ مؤمن. أو قال: مسلم). لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم، فإما هذا وإما ذاك، فالذي اغبرت قدماه في سبيل الله أو وجهه في سبيل الله حرم الله بدنه على النار. وعن عائشة قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من خرج في سبيل الله فدخل الرهج -الغبار- في جوفه حرم الله جلده على النار). وعن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: (أن مكاتباً دخل عليها ببقية مكاتبته -أي: أنه دخل عليها ببعض المال ليدفع ما تبقى عليه في المكاتبة- فقالت: إنك غير داخل علي بعد مكاتبتك هذه؛ لأنك ستكون حراً فعليك بالجهاد في سبيل الله، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما خالط قلب امرئ رهج في سبيل الله إلا حرمه الله على النار). وعن عبد الله بن مسعود قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عجب ربنا من رجلين) والله تعالى يعجب كيف شاء ليس كعجب الخلق. قال: (عجب ربنا من رجلين: رجل سار من فراشه ولحافه -أي: انسل من لحافه وفراشه- من بين أهله وحبه أو حشمه إلى صلاته فيقول الله عز وجل لملائكته: انظروا إلى عبدي. سار من بين لحافه من بين أهله وحبه أو حشمه إلى صلاته رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي، ورجل غزا في سبيل الله ففر أصحابه، فعلم ما عليه في الفرار -أي: من الوزر- وما له في الرجوع إلى العدو، فرجع حتى أهريق دمه). عجب ربنا تبارك وتعالى من رجل يترك فراشه ويترك زوجه وعروسه ويقوم فينتصب لله عز وجل قائماً في الليل، ورجل فر مع أصحابه من الجهاد ولكنه راجع نفسه وعلم أن هذا فرار من الزحف، وأنه من أكبر الكبائر فاتقى الله ورجع ليقاتل العدو حتى أريق دمه. قال: (قال الله تعالى لملائكته: انظروا إلى عبدي. رجع حتى أهريق دمه رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي). وعن عتبة بن عبد قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (القتلى في سبيل الله ثلاثة: مؤمن قرف على نفسه من الذنوب والخطايا) قرف أي: اكتسب، رجل مؤمن لكنه عاص بذنوبه. قال: (رجل مؤمن قرف على نفسه من الذنوب والخطايا حتى إذا لقي العدو قاتلهم حتى يقتل) هو مؤمن صاحب ذنوب ومعاصي وخطايا، لكنه إذا لقي العدو ثبت وقاتل العدو حتى قتل. قال: (فتمصمصه) أي: تطهره. إذاً: ليس القتال في سبيل الله هلكة، بل هو مكسب عظيم جداً، فالرجل صاحب الذنوب تمحو الحروب والجهاد خطاياه وذنوبه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فتمصمصه فمحت ذنوبه وخطاياه. إن السيف محاء للخطايا) ولم يقل: إن السيف يمحو الخطايا، وإنما قال: (محاء) صيغة مبالغة من المحو، كأن المجاهد لا يبقى عليه في الجهاد والقتل في سبيل الله ذنب قط. (والثاني: مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل الله حتى إذا لقي العدو قاتلهم حتى يقتل، فذاك في خيمة من خيام الله في الجنة لا يفضله النبيون إلا بدرجة النبوة). إذاً: اثنان: مؤمن مذنب وعاص وصاحب خطايا، والسيف محاء لذلك كله، ومؤمن بلا ذنب أو بلا كبيرة، فهذا في الجنة يتلو منزلة الأنبياء والمرسلين مباشرة، ولا تحجبه عنهم إلا درجة النبوة. قال: (ومنافق جاهد بنفسه وماله، حتى إذا لقي العدو قاتلهم حتى يقتل، فذاك في النار، إن السيف لا يمحو النفاق). وعن أبي هريرة رضي الله عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قاتل في سبيل الله فواق ناقة فله الجنة) وفي رواية: (حرمه الله على النار). وفي رواية: (حرم الله وجهه على النار). وفواق الناقة هو: المدة الزمنية بين الحلبتين. وهذا على عادة الناس في الأماكن المختلفة، فالعرب يحلبون نوقهم في كل يوم، أما الفلاحون فإنهم يحلبون نوقهم في كل يوم مرتين: في الصباح مرة وفي المساء مرة، فأياً كان وعلى أقصى تقدير لو أن الواحد قاتل من أول النهار إلى آخره، أو إلى مطلع النهار الثاني في سبيل الله عز وجل حرم الله وجهه على النار. وعن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال

كتاب الجهاد والسير - مقدمة فضل الجهاد من السنة

شرح صحيح مسلم - كتاب الجهاد والسير - مقدمة فضل الجهاد من السنة فرض الله الجهاد على هذه الأمة لحماية حوزة دينها، ولإعلاء كلمة ربها، ولحفظ وصيانة أعراض أفرادها، فأعز الله هذا الدين برجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وأظهروا أروع المواقف البطولية في التاريخ، فحقق الله لهم النصر والتمكين، مع ما لهم يوم القيامة من أجور جارية ورزق كريم، وكرامات أكرمهم الله وميزهم بها على سائر المؤمنين.

تابع أهمية الجهاد وفضله في السنة النبوية

تابع أهمية الجهاد وفضله في السنة النبوية إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستغفره ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: تتمة لما سبق بالأمس في استكمال بقية الأحاديث الصحيحة في كتاب الجهاد لـ ابن أبي عاصم.

فضل الحراسة في سبيل الله

فضل الحراسة في سبيل الله قال: عن أبي ريحانة قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فسمعته يقول: (حرمت النار على عين بكت من خشية الله، وحرمت النار على عين سهرت في سبيل الله). فهاتان عينان حرمت عليهما النار، أو حرمتا على النار. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (عينان لن تمسهما النار: عين بكت في جوف ليل من خشية الله تعالى) أي: وهو منفرد بربه، وهذا موطن الإخلاص لله عز وجل. قال: (وعين باتت تحرس سرية في سبيل الله). فلو أن الجنود يعلمون قيمة هذا الكلام لما هربوا من الخدمة، ولتسارعوا جميعاً إلى الحراسة في سبيل الله عز وجل، وما عليهم إلا أن يصححوا نيتهم، وأن يعلموا أن هذا عمل مشروع في سبيل الله. وعن أنس كذلك: (عينان لا تمسهما النار: عين باتت تكلأ المسلمين -أي: ترعى وتحرس المسلمين في سبيل الله- وعين بكت في خلاء من خشية الله) أي: في خلوة. وعن سهل بن الحنظلية: (أنهم ساروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فأطنبوا السير -أي: تابعوا السير- حتى كان عشية، فحضرت الصلاة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه رجل فارس فقال: يا رسول الله! إني انطلقت بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا، فإذا أنا بهوازن على بكرة أبيهم) أي: بقبيلة هوازن قد جاءوا جميعاً. قال: (بظعنهم -أي: نسائهم- ونعمهم -أي: إبلهم ومواشيهم- وشائهم -جمع شاء- اجتمعوا في وادي حنين، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: تلك غنيمة للمسلمين غداً إن شاء الله). أتت هوازن في غزوة حنين، واجتمعوا بنسائهم وإبلهم ومواشيهم وأموالهم في الوادي، ورآهم ذلك الرجل، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (تلك غنيمة المسلمين غداً إن شاء الله). وهذا تبشير بالنصر قبل وقوعه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يحرسنا الليلة؟ فقال أنس بن أبي مرثد الغنوي: أنا يا رسول الله! فقال النبي عليه الصلاة والسلام: اركب -أي: اذهب فاحرس- فركب فرساً له، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: استقبل هذا الشعب) أي: اذهب فاعل هذا الشعب لتحرس من فوق. قال: (ولا نُغرن من قِبلك الليلة) أي: لا تدع فرصة للعدو أن ينال منا ويصيبنا وأنت نائم، وكأنه يحضه على أن يستيقظ طيلة الليل. قال: (فلما أصبحت) القائل هنا سهل بن الحنظلية راوي الحديث. قال: (فلما أصبحت خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصلاه فركع ركعتين ثم قال: هل حسستم فارسكم؟) أي: هل أحسستم بفارسكم الذي يحرسكم؟ قال: (فقال رجل: يا رسول الله! ما حسسنا، فثوب بالصلاة -أي: فأقيم لها- فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي يلتفت إلى الشعب حتى قضى صلاته وسلم. قال: أبشروا. فقد جاء فارسكم، فجعلنا ننظر إلى خلال الشجر في الشعب فإذا هو قد جاء حتى وقف على رسول الله -أي: عند رسول الله صلى الله عليه وسلم- فسلم ثم قال: إني انطلقت حتى كنت في أعلى هذا الشعب يا رسول الله! كما أمرتني، فلما أصبحنا اطلعت الشعبتين -أي: رأيت الشعبتين كلتيهما- فنظرت فلم أر أحداً) أي: فلما ثوب بالصلاة وقد بدأ نور الفجر رأيت الناس ورأيت أنه لا يمكن أن ينال العدو منا نيلاً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنزلت الليلة؟ قال: لا يا رسول الله! ما نزلت إلا مصلياً أو قاضي حاجة) أي: ما تركت مكاني إلا لصلاة الليل وقضاء الحاجة. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (قد أوجبت) أي: قد وجبت لك الجنة. وهذا بسبب الحراسة في سبيل الله عز وجل. قال: (فلا عليك أن لا تعمل بعد هذا) أي: لا يضرك ما عملت بعد ذلك من معصية، فإن العمل الذي عملته الآن -وهو حراسة المسلمين في سبيل الله- كفارة لذنوبك الماضية والمستقبلة. وهذا فضل عظيم جداً للحراسة في سبيل الله عز وجل.

بيان أن خير الناس المجاهد في سبيل الله

بيان أن خير الناس المجاهد في سبيل الله عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أخبركم بخير الناس؟ رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله) أي: بلجامه وخطامه ورقبته ومقدمته، وهو مستعد ومتأهب للقاء العدو في سبيل الله عز وجل، فهذا خير الناس. ثم قال: (ألا أخبركم بالذي يليه؟ -أي: في الخير والفضل رجل معتزل في غنيمة) رجل قد اعتزل الناس في غنم يرعاها (وأخبركم بشر الناس؟ رجل يسأل بالله ولا يعطى به). أي: دائماً يحلف بالله في سؤاله: بالله عليك يا فلان أعطني، والمسئول لا يعطي ولا يراعي حرمة هذا القسم، مع حرمة السؤال أو كراهة السؤال بوجه الله عز وجل، فكلاهما قد وقعا في الإثم. أما قوله عليه الصلاة والسلام: (ألا أخبركم بالذي يليه؟ رجل معتزل في غنيمة) فهذا عند عموم الشر وطغيانه؛ فيكون خير ما للمرء غنيمات يتبع بها شعف الجبال، وهذا في آخر الزمان. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج عليهم وهم جلوس فقال: (ألا أخبركم بخير الناس؟ قلنا: بلى يا رسول الله! قال: رجل ممسك برأس فرسه في سبيل الله حتى يُقتل أو يموت) فذكر نحو الحديث السابق. وعن ابن عباس كذلك قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم تبوك فقال: (ما في الناس مثل رجل آخذ برأس فرسه في سبيل الله، ويجتنب شرور الناس، ومثل آخر باد أو بادي -أي: في البادية- في غنمه نعمة يقري ضيفه -أي يكرم ضيفه- ويعطيه حقه). وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أخبركم بخير الناس منزلة؟ رجل آخذ بعنان فرسه في سبيل الله عز وجل).

بيان أن الجهاد في سبيل الله بالنفس والمال وعدم الرجوع بهما أفضل من العمل الصالح في العشر الأوائل من ذي الحجة

بيان أن الجهاد في سبيل الله بالنفس والمال وعدم الرجوع بهما أفضل من العمل الصالح في العشر الأوائل من ذي الحجة وعن ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله فيهن من هذه الأيام. يعني: العشر الأوائل من ذي الحجة) ليس هناك عمل أحب إلى الله عز وجل من العمل الصالح في هذه العشرة الأيام. وهناك تعارض بينها وبين العشر الأواخر من رمضان؛ لعموم الأدلة هنا وهناك، وقد ربط ابن تيمية عليه رحمة الله بين أحاديث الخيرية في أيام العشر الأول من ذي الحجة، وفي العشر الأواخر من رمضان بأن الأيام في ذي الحجة خير من الأيام في رمضان، وأن الليالي في رمضان خير من الليالي في ذي الحجة. قال: (ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله فيهن من هذه الأيام. يعني: عشر ذي الحجة. قيل: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل يخرج بماله ونفسه، ثم لم يرجع من ذلك بشيء)، فالجهاد مع عدم رجوع المرء لا بنفسه ولا بماله يعدل العمل الصالح في عشر ذي الحجة.

بلوغ الشهداء الفردوس الأعلى

بلوغ الشهداء الفردوس الأعلى عن أنس: أن حارثة بن الربيع جاء يوم بدر نظاراً حارساً، فجاء سهم فقتله فقالت أمه التي هي الربيع: (يا رسول الله قد علمت مكان حارثة مني -هو ولدها فلذة كبدها- فإن كان في الجنة فسأصبر وإلا فسترى ما أصنع) أي كأنها تقول: وإن لم يكن في الجنة فسأولول وأبكي وأدعو بدعوى الجاهلية وأنوح عليه وغير ذلك فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (يا أم حارثة إنها ليست بجنة واحدة إنها جنان وهو في الفردوس الأعلى، فقالت: سوف أصبر) ما دام له عند الله عز وجل هذه المنزلة فسأصبر على فراق هذا الولد.

فضل الرمي في سبيل الله

فضل الرمي في سبيل الله عن عبد الله بن الزبير قال: (كنت أنا وعمر بن أبي سلمة) وهو ربيب النبي صلى الله عليه وسلم -أي: تربى في حجره؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان زوجاً لـ أم سلمة رضي الله عنها- في الأطم -أي: الحصون- فيطأطئ لي، فأعلو ظهره). عبد الله بن الزبير يقول: أنا وعمر كنا نتناوب في الحصون النظر إلى العدو أو إلى الجيش، فكان مرة يطأطئ لي فأصعد على ظهره، ومرة أطأطئ له فيصعد على ظهري. قال: (فرأيت أبي وهو يجول) أي: يذهب ويجيء في معسكر العدو، ويحمل على هؤلاء مرة وعلى هؤلاء مرة، وكأن جيش العدو كان على ميمنة وميسرة، فهو يحمل على الميمنة وعلى الميسرة وحده. قال: (فلما رجع قلت: يا أبه! لقد رأيتك اليوم. قال: وقد رأيتني؟ لقد جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه فقال: إيه فداك أبي وأمي) النبي عليه الصلاة والسلام لم يجمع أبويه قط إلا للزبير بن العوام ولـ سعد بن أبي وقاص. قال لـ سعد: (ارم فداك أبي وأمي) وقال للزبير بن العوام: (إيه فداك أبي وأمي) وهي كلمة تعجب أو غير ذلك. وعن عتبة بن عبد السلمي قال: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالقتال قال: فرمى رجل بسهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أوجب هذا) أي: بمجرد أنه يرمي ولو بسهم واحد وجبت له الجنة. وهذا يدل على شرف الجهاد خاصة الطويل منه، إنسان يرابط حياته كلها لله عز وجل، أو يحرس في سبيل الله، أو يرمي في سبيل الله، أو يجاهد في سبيل الله بالليل والنهار، فإذا كان الذي يضرب بسهم واحد في سبيل الله قد وجبت له الجنة فما بالك بمن رمى بأسهم كثيرة؟ وعن شرحبيل بن السند أنه قال لـ عمرو بن عبسة رضي الله عنه: يا عمرو! حدثنا حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من رمى بسهم في سبيل الله بلغ العدو أو لم يبلغ كان له عدل رقبة). قوله: (في سبيل الله) أي: ليس فيه رياء ولا سمعة، ولا أشر ولا بطر، وإنما فعل ذلك ابتغاء وجه الله وإعلاءً لكلمة الله عز وجل، والإخلاص عليه مدار العمل، وكذا اتباع السنة. قال: من فعل ذلك ولو مرة واحدة فهو كمن أعتق رقبة في سبيل الله عز وجل. وعن أبي نجيح السلمي قال: (حاصرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قصر الطائف. قال: فسمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: من رمى بسهم في سبيل الله فبلغ فله درجة في الجنة) أي: فبلغ العدو وأصابه فله درجة في الجنة. قال رجل: (يا نبي الله! إن رميت فبلغت فلي درجة؟ قال: نعم. فبلغ يومئذ ستة عشر سهماً) أي: أن الرجل حرص أن يكون له في الجنة أعلى الدرجات فحصل من المائة درجة ستة عشر درجة بستة عشر سهماً. قال: وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من رمى بسهم في سبيل الله فهو عدل محرر) أي: عدل رقبة حررها سيدها.

فضل الشيب في الإسلام

فضل الشيب في الإٍسلام وعن أبي شيبة قال: قلت لـ عمرو بن عبسة: حدثنا حديثاً ليس فيه وهم ولا نسيان. وعمرو صحابي، وأبو شيبة تابعي. وهذا يدل على جواز الوهم والنسيان على الصحابة، كيف لا والنسيان وارد في حق الأنبياء، وهذا لا يؤثر في درجة النبوة ولا في منزلتها، فإن الأنبياء لم ينسوا شيئاً من الوحي ابتداء، ً وأما نسيانهم فبعد البلاغ والبيان. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من خرجت له شعرة بيضاء في سبيل الله كانت له نوراً يوم القيامة). من خرجت له شعرة بيضاء في بدنه أو في شعره أو لحيته كانت له نوراً يوم القيامة، وهذا تحذير لمن خرجت له شعرة بيضاء أن يصبغها بالسواد، فهذا منهي عنه، أو شاب يريد أن يظهر الوقار فيصبغ شعره ببياض ليدل على كبر السن وحسن المنزلة وغير ذلك، ويصرف وجوه الناس إليه، فلا الصبغ للشباب بالبياض جائز ولا الصبغ بالسواد للشيب جائز، كلاهما قد نهى عنه الشرع، كما أن الشعر الأبيض نور يوم القيامة، فمن يريد أن يحرم نفسه هذا النور؟ وبعض الإخوة حينما يرى في لحيته شعرة بيضاء يقوم بأخذها، ويقول: ليكن شعري أسود دائماً. هذا لاشك مخالفة للشرع. قال: (ومن رمى بسهم في سبيل الله أخطأ أو أصاب كانت له عتق رقبة من ولد إسماعيل) أي: رقبة مؤمنة. وعن عمرو بن عبسة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من شاب شيباً في سبيل الله كانت له نوراً يوم القيامة، ومن أصابته شيبة في سبيل الله كانت له نوراً يوم القيامة). وعن فضالة بن عبيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من شاب شيباً في سبيل الله كانت له نوراً يوم القيامة، فقال رجل: إن رجالاً ينتفون الشيب يا رسول الله! قال: من شاء أن ينتف شيبه -أو قال: نوره- فليفعل). وهذا ليس على سبيل التخيير كما قال تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]، وإنما هو وعيد وتهديد.

فضل الصيام حال الجهاد في سبيل الله

فضل الصيام حال الجهاد في سبيل الله وعن عقبة بن عامر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من صام يوماً في سبيل الله باعد الله منه جهنم مسيرة مائة عام) يوم واحد في سبيل الله. وفي رواية: (سبعين خريفاً). وفي رواية: (مائة خريف). وقد جمع العلماء بين ذلك في الفرض والنافلة، قالوا: الأحاديث التي وردت بالمباعدة بين الصائم وبين جهنم مسيرة مائة عام محمولة على من صام فرضاً في سبيل الله، وأما التي تقضي بسبعين خريفاً فهي في النوافل. وعن عمرو بن عبسة: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من صام يوماً في سبيل الله باعده الله من النار سبعين خريفاً) وقد تقدم وجه الجمع بين الروايتين.

كرامات الشهداء

كرامات الشهداء عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مجروح يجرح في سبيل الله) القيد: (في سبيل الله) أي: ابتغى بالجهاد وجه الله. قال: (إلا بعثه الله -أي: يوم القيامة- وجرحه يثعب دماً -أي: يجري وينضح- اللون لون الدم، والريح ريح المسك). وهذه كرامة للشهيد، فإنه لا يغسل ويدفن في ملابسه، ثم يبعث على حاله التي مات عليها، جرحه يثعب دماً، اللون لون الدم أحمر، والريح ريح المسك. وعن عبد الله بن ثعلبة قال: (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مسح وجهه وقال لقتلى أحد الذين قتلوا في الله ووجدوهم مثلوا بهم). أي: قطع بعض أعضائهم كالأنف والفم والأذن وخرقت أعينهم وغير ذلك. فقال النبي عليه الصلاة والسلام حينما رآهم على هذا النحو: (زملوهم بجراحهم -أي: غطوهم وهم بجراحهم- ولا تغسلوهم فإنه ليس كلم -أي: جرح- يكلم في الله إلا أتى الله يوم القيامة لونه لون الدم وريحه ريح المسك). وقال عليه الصلاة والسلام: (كل كلم -أي: كل جرح- يكلم في سبيل الله تكون كهيئتها يوم طعنت) أي: يبعث على نفس الحال التي مات عليها، إذا كان مقاتلاً في سبيل الله ومات في القتال بعث على نحو ما مات، وإذا كان محرماً ومات في إحرامه بعث في إحرامه ملبياً، فيبعث المرء على ما مات عليه. قال: (تتفجر دماً. اللون لون الدم والعرف عرف المسك)، أي: الرائحة رائحة المسك. وعن جندب -وهو ابن عبد الله البجلي - قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غارة فنكبت إصبعه -أي جندب - فقال: هل أنتِ إلا إصبع دميتِ وفي سبيل الله ما لقيتِ يخاطبها) وسيأتي معنا بأطول من ذلك بإذن الله.

فضل من سأل الله الشهادة بصدق

فضل من سأل الله الشهادة بصدق عن معاذ بن جبل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من سأل الله الشهادة صادقاً من نفسه ثم مات أو قتل فإن له أجر شهيد). قال: (من سأل الله تعالى الشهادة صادقاً) وهذا شرط وقيد، وقال في رواية: (من سأل الله تعالى الشهادة بصدق بلغه الله تعالى منازل الشهداء وإن مات على فراشه) وإن كان هذا نص حديث فيه نظر، لكن هذا المعنى تشهد له بقية الأحاديث، وسيأتي بعضه بإذن الله. وعن أبي مالك الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من سأل الله القتل في سبيله صادقاً من نفسه ثم مات أو قتل فله أجر شهيد). وعن أنس قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سأل الله الشهادة صادقاً من قلبه أعطيها ولو لم تصبه) أي: أعطي أجر الشهيد وإن لم يقتل في الجهاد. وفي رواية: (من سأل الله الشهادة صادقاً من قلبه بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه) وهذا المعنى كما قلنا تشهد له الروايات المتقدمة، وهناك روايات أخرى أعرضنا عنها.

خفة ويسر ما يجده الشهيد من ألم القتل

خفة ويسر ما يجده الشهيد من ألم القتل عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما يجد القتيل مس القتل إلا كما يجد أحدكم مس القرصة) وهذه بشارة عظيمة جداً، فنحن نرى الرجل يضرب بالنار أو بالصاروخ أو بالطائرة أو بالقنابل أو غير ذلك، فيقطع مئات وآلاف القطع في الهواء والسماء، فنشفق عليه أيما إشفاق، وهو في حقيقة الأمر لم يشعر بذلك، وهذه كرامة من الله عز وجل وخاصية للشهيد، لا يجد في وقت قتله وضربه من الألم إلا كما يشعر أحدنا بالقرصة، أو بوخزة الإبرة، أو غير ذلك، وهذه بشارة عظيمة تبعث النفوس على حب الجهاد والقتال. وعن جابر بن عبد الله قال: حينما قُتل أبي يوم أحد قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا جابر! ألا أخبرك ما قال الله لأبيك؟ قال: بلى يا رسول الله! قال: وما كلم الله أحداً إلا من وراء حجاب إلا أباك، كلم الله أباك كفاحاً -أي مواجهة- فقال: يا عبد الله! تمن علي أعطك) أي: اطلب ما شئت، وإذا تمنيت أعطيتك ما تمنيت. قال: (فقال: يا رب! فردني -أي: إلى الدنيا- فأُقتل فيك ثانية)؛ لأنه وجد حلاوة القتال وحلاوة أن يُصرع المشركون بين يديه، ثم إنه لو قُتل لا يجد مس القتل، وهذا مكسب عظيم بغير أدنى خسارة ولا ألم. قال: (يا رب! فردني فأُقتل فيك ثانية، فقال الله عز وجل: سبق مني أنهم إليها لا يرجعون. قال: يا رب! فأخبر من ورائي -أي: بما نحن فيه من نعيم- فأنزل الله عز وجل: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169]). وهذا الحديث فيه إثبات صفة من صفات الله عز وجل وهي صفة الكلام، وأن الله تعالى يتكلم بما شاء وكيف يشاء في أي وقت شاء: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] أما كيفية الكلام فنحن لا نعلمها، وأما معنى الكلام والعلم به فذلك معلوم يقيناً، والسلف رضي الله عنهم ليس من منهجهم ولا من عقيدتهم تفويض العلم ولا تفويض المعنى، وإنما منهجهم تفويض الكيف. وعن أنس بن مالك قال: (لما قتل حمزة وأصحابه يوم أحد قالوا: يا ليت لنا من يخبر إخواننا بالذي صرنا إليه من كرامة الله. قال: فأوحى ربهم جل ثناؤه إليهم: أني رسولكم إلى إخوانكم بما أحببتم. قال: فأنزل الله: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169]).

بيان ما أعده الله للشهيد في الجنة

بيان ما أعده الله للشهيد في الجنة عن ابن مسعود حدث: أن الثمانية عشر الذين قتلوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الله أرواحهم في الجنة في طير خضر تسبح في الجنة، أو تطير في الجنة كما ثبتت بذلك الروايات. وعن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الشهداء ببارق نهر بباب الجنة -أي: بجانب نهر بباب الجنة- في قبة خضراء، يخرج عليهم رزقهم غدوة وعشية). وعن المقدام بن معد يكرب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن للشهيد عند الله سبع خصال) سبع كرامات وخلال للشهيد عند الله عز وجل، وهذا ليس على سبيل الحصر، فإن للشهيد عند الله أكثر مما في هذا الحديث مما بينته بعض النصوص الأخرى. قال: (أول خطوة يغفر له عند أول دفعة من دمه -يغفر له الكبائر والصغائر عند أول دفعة من دمه- ويرى مقعده من الجنة، ويحلى حلة الإيمان، ويزوج من الحور العين ثنتين وسبعين زوجة) وهذا العدد الهائل من الحور العين ليس إلا للشهيد، وأما بقية المسلمين فإنه كل مسلم يتزوج باثنتين فقط. قال: (ويجار من فتنة القبر -يأمن فتنة القبر- ويأمن يوم الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة الواحدة منه خير من الدنيا وما فيها، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه). أرأيتم هذه الكرامات هذه؟ وهناك كرامات أخرى للشهيد. وعن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن للجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين كل درجتين ما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس، فإنها وسط الجنة وأعلاها، وفوقها عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة). وعند أبي داود: أن رجلاً سمع ولده يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها، فقال: يا بني! إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (سيأتي أقوام يعتدون في الدعاء والطهور، إذا سألت الله فاسأله الفردوس الأعلى) فمن دناءة الهمم أن تسمع رجلاً أحياناً يقول: يا رب! أدخلني الجنة وإن كنت آخر الناس دخولاً الجنة، أي أنك رضيت لنفسك أن تكون آخر الناس دخولاً الجنة، ورضيت لنفسك أن تدخل النار فتمكث فيها ما شاء الله أن تمكث حتى تكون أنت آخر الموحدين خروجاً منها ودخولاً الجنة، فهذه همة دنيئة جداً، لماذا لا تقول: اللهم إني أسألك الفردوس الأعلى، منازل الأنبياء والشهداء والصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقاً؟ أصحاب المنازل العليا في جنة عرضها السماوات والأرض، وفوقها عرش الرحمن. وعن أبي أمامة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بينما أنا نائم أتاني رجل فأخذ بضبعه -أي: بعضده- من هاهنا، ثم أشرف بي شرفاً آخر -أي: صعد بي مكاناً عالياً- فإذا ثلاثة نفر يشربون من خمر لهم) يشربون من خمر الجنة، أما من شرب خمر الدنيا حُرمها في الآخرة، وخمر الآخرة لا سكر فيها ولا مضرة. قال: (فإذا ثلاثة نفر يشربون من خمر لهم، فقلت: من هؤلاء؟ قال: جعفر وزيد وابن رواحة) وهؤلاء استشهدوا في غزوة مؤتة على هذا التتابع. وعن أنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من نفس لها عند الله خير يسرها أن ترجع إلى الدنيا فتقتل إلا الشهيد) أي: كل واحد يموت، ويرى مقعده من الجنة، وتطمئن نفسه، ويتمنى ألا يرجع إلى الدنيا قط إلا الشهيد (يتمنى أن يرجع فيقاتل فيقتل، ثم يرجع فيقاتل فيقتل) لما له من خير عظيم، وهذا لا يكون إلا بفضل الشهادة في سبيل الله. قال: (لما يرى من فضل الشهادة) أي: في سبيل الله عز وجل. وعن أنس بن مالك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أهل الجنة أحد يسره أن يرجع إلى الدنيا وله عشرة أمثالها إلا الشهيد، فإنه ود لو أنه رُد إلى الدنيا فقتل شهيداً عشر مرات لما يرى من الفضل). إن شباب اليوم لو وضعوا في الصحراء، وكان معهم رجل صادق مع الله عز وجل، يعظهم ويذكرهم بالله، ويبين لهم فضل الجهاد وفضل الإقدام وخطورة الإحجام، فإن هذا الشباب سيأكل الأرض أكلاً، ولو أنهم ذهبوا إلى فلسطين فبصقوا على اليهود لأغرقوهم في البصاق. جيش من الشباب يحرص على الموت حرص اليهود على الحياة، فاليهود يريدون الحياة وإن كانت مهينة، أما المسلم فالأصل فيه أن يعيش عزيزاً كريماً، وأن يموت على هذا النحو كذلك. ولو فتح باب الجهاد لأتوا الملايين من الشباب من كل بلد عربي وإسلامي، فلِم لا تسمح حكومتنا بذلك؟ وإذا أرادت التخلص من الشباب فإن الجهاد فرصة للتخلص منهم، فلماذا لا يتخلصون منا؟ ألم نزعجهم؟ فنحن بهذه اللحى غصة في حلوق كثير من الطوائف، فلماذا لا يتخلصوا منا بهذه الطريقة؟ فنحن نريد أن ننال فضل الشهادة، وأنتم أيها الحكام! ستتخلصون منا ومن اليهود في وقت واحد، وستتفرغون للأجيال القاد

بشارة النبي صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بالشهادة والجنة

بشارة النبي صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بالشهادة والجنة وعن موسى بن أنس -وهو ابن أنس بن مالك - قال: لما كان حين انكشف الناس يوم اليمامة فقال أنس بن مالك: فأتيت ثابت بن قيس -وهو ابن شماس هذا الرجل الذي كان جهوري الصوت- وقد حسر عن فخذيه وهو يتحنط. أي: يضع الحنوط في بدنه وثوبه كأنه يتجهز للموت، ويعد كفنه قبل الدخول في المعركة. قال: فقلت: يا عم! ما يحبسك ألا تجيء؟ فقال: يا ابن أخي! الآن -أي: سآتيك الآن- اذهب وأنا وراءك. قال: وجعل يتحنط ثم جاء فجلس فقال: هكذا عن وجوهنا حتى نضارب القوم. كأنه يدفع الناس عن وجهه يمنة ويسرة حتى يخلص للعدو. قال: ما هكذا كنا نقاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم لبئس ما عودتم أقرانكم. إن أنس بن مالك كان في زمن النبوة صغيراً، فكان إذا شارك في القتال يصنع الطعام أو يجمع العتاد أو يأتي بالسيوف من هنا أو هناك، ولا يشارك مشاركة فعلية في القتال؛ لأنه كان صغيراً، والنبي صلى الله عليه وسلم ما كان يجيز أحداً من أصحابه إلا إذا بلغ (15) عاماً، ومرة أجاز من عمره (14) عاماً بشرط أن يكون في مؤخرة الجيش لا في مقدمته، فـ ثابت بن قيس لم يعجبه الذي كان من أنس بن مالك، فكيف لو أن ثابت بن قيس رأى حالنا الآن. هل سيعجبه حالنا؟ فيضرب ثابت أنس في صدره ويقول له: ارجع حتى أصل إلى هؤلاء القوم، لبئس ما عودتم أقرانكم، كان قتالنا مع الرسول عليه الصلاة والسلام أن نخلص إلى القوم في جرأة وشجاعة. قال: ثم قاتل حتى قتل. ألم يبشر النبي صلى الله عليه وسلم هذا بالجنة؟ نعم. وذلك حينما نزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات:2] وكان جهوري الصوت فظن أن الآية نزلت في حقه، قال: أنا من أهل النار وقد حبط عملي، فلما وصل الخبر إلى النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ائتني به وبشره بالجنة) فلما أتى ثابت إلى النبي صلى الله عليه وسلم قام النبي صلى الله عليه وسلم إليه يجر إزاره ويقول: (مرحباً برجل يزعم أنه من أهل النار وأنا أزعم أنه من أهل الجنة). هذا هو ثابت بن قيس بن شماس. عن عطاء الخراساني قال: قدمت المدينة فسألت عمن يحدثني بحديث ثابت بن قيس، فأرسلوني إلى ابنته. فسألتها فقالت: سمعت أبي يقول -وفي هذا جواز أخذ العلم عن النساء- قالت: سمعت أبي يقول: (لما أنزل الله على رسوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان:18] اشتد على ثابت وغلق عليه بابه وطفق يبكي، فأُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه، فسأله بما كبر عليه منها؟ فقال: أنا رجل أحب الجمال، وأحب أن أسود قومي، فظن أن هذا هو محبط للعمل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنك لست منهم بل تعيش بخير، وتموت بخير، ويدخلك الله الجنة) وهذا شرف عظيم. قالت: (فلما أنزل الله على رسوله: {وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ} [الحجرات:2] فعل مثل ذلك، فأُخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فبشره بالجنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنك لست منهم بل تعيش بخير، وتقتل شهيداً، ويدخلك الله الجنة). فلما استنفر أبو بكر المسلمين إلى أهل الردة واليمامة ومسيلمة الكذاب؛ سار ثابت بن قيس فيمن سار، فلما لقوا مسيلمة -وقد كان بنو حنيفة هزموا المسلمين ثلاث مرات- قال ثابت وسالم مولى أبي حذيفة: ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحفرا لأنفسهما حفيرة كالخندق صغير، ودخلا يقاتلان من خلالهما حتى قتلا). ونظام الخنادق معروف في الجيش إلى الآن.

قصة استشهاد أنس بن النضر يوم أحد

قصة استشهاد أنس بن النضر يوم أحد وعن أنس: (أن أنس بن النضر تغيب عن قتال بدر، فقال: تغيبت عن أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لئن أراني الله قتالاً ليرين الله ما أصنع. قال: فلما كان يوم أحد انهزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل وأقبل سعد بن معاذ فقال: يا أبا عمرو! إني أجد ريح الجنة دون أحد. فقاتل حتى قتل، فقال سعد: والله يا رسول الله! ما أطقت ما أطاق -أي: أنه بذل مجهوداً في الحرب والقتال لا أطيقه أنا- فقالت أخته: والله ما عرفت أخي إلا ببنانه. ووجد فيه بضع وثمانون جراحة ما بين ضربة بالسيف أو رمية بسهم أو طعنة برمح) كل هذا في مقابل أحدنا حينما يأخذ حقنة ثم ينام، وصار له حق في ذمة المسلمين أن يعودوه؛ لأنه مريض بسبب إبرة، وهذا الرجل به فوق الثمانين جراحة وهي ضربة بسيف أو طعنة برمح. قال: (فأنزل الله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23]). وعن أنس بن النضر: غاب عن قتال بدر فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء -أي: المشركين- وسل سيفه وظل يقاتل حتى قتل.

بيان فضل القتل في سبيل الله ولو في غير معركة

بيان فضل القتل في سبيل الله ولو في غير معركة وعن نعيم بن همار: (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أي الشهداء أفضل؟ قال: الذين يلقاهم القوم في الصف فلا يلفتون وجوههم حتى يقتلوا، أولئك يتلبطون في الغرف العلى -أي: يتمرغون ويتنعمون في الغرف العلى من الجنة- يضحك إليهم ربك، وإذا ضحك ربك إلى عبد في موطن فلا حساب عليه) هذا أفضل الشهداء. وعن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: (يا رسول الله! ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهداء؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: كفى ببارقة السيف على رأسه فتنة). أي: بلمعان السيف، في ضوء القمر وضوء الشمس فوق رأسه كفى بها فتنة، فاستعاض الله عز وجل بفتنة القبر للشهيد فتنة هذا السيف ثم ثبته الله عز وجل في الفتنة. وعن عقبة بن عامر: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من صرع عن دابته في سبيل الله فهو شهيد). أي: الذي يقع عن دابته في القتال فهو شهيد، وقيده: (في سبيل الله) حتى وإن لم يشارك في القتال، وإن لم يكن هذا الموت بأيدي الأعداء. وعن محمد بن عبد الله بن جحش أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! إن قتلت في سبيل الله؟ -كأنه قال: ما لي؟ - قال النبي صلى الله عليه وسلم: لك الجنة. فلما ولى قال: لا إلا الدين. سارني به جبريل). إذاً: الشهيد يغفر له كل شيء إلا الدين، كما جاء في روايات كثيرة. عن إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال: اختلف عامر ومرحب، وعامر هو ابن الأكوع، وهو أخو سلمة، ومرحب هو ابن ملك خيبر اليهودي، وعائلة الأكوع كلها كانت قوية أبدانهم. ذكر أن سلمة بن الأكوع حينما دخل الكوفة قال له رجل من أهل الكوفة: ناولني يدك التي بايعت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأقبلها. قال: فلما وضعها في يدي كأنها خف بعير، وكان سلمة بن الأكوع يغزو أمام المسلمين وكان في مقدمة الجيش لوحده، وكان يجري بفرسه أولاً، وذات مرة تعثر فرسه فجرى على قدميه خلف العدو، وكلما أدرك رجلاً ضربه على قفاه فخر ميتاً، وهو يقول: أنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع فعن إياس بن سلمة بن الأكوع قال: قال أبوه: (اختلف عامر ومرحب ضربتين، فوقع سيف مرحب في ترس عامر، فرجع السيف على ساقه فقطع أكحله، فكانت فيها نفسه، قال سلمة: فلقيت من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: بطل عمل عامر. قتل نفسه، فشق ذلك علي، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! بطل عمل عامر؟ قال: من قال ذلك؟ قال: يقول ذلك أصحابك. قال: كذبوا بل له أجره مرتين) إذاً: هو لم يقتل نفسه، وإنما حينما انطلق السيف من يد مرحب وقع في ترس عامر، فأصاب يد عامر في الأكحل الذي نسميه عرق الشريان.

الإخلاص شرط في جهاد أعداء الله

الإخلاص شرط في جهاد أعداء الله وعن أبي موسى قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ليقال: عنه شجاع، ويقاتل حمية -عصبية جاهلية- ويقاتل رياء وسمعة، أي ذلك في سبيل الله؟)، فالنبي صلى الله عليه وسلم استبعد الثلاثة وقال له: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) إذاً: فالإخلاص شرط. وعن أبي موسى: (أن شيخاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم متوكئاً على عصا، فقال: يا رسول الله! ما الجهاد في سبيل الله؟ فإن الرجل يقاتل ليذكر، ويجاهد ليغنم، ويجاهد لكذا وكذا، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: من جاهد لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) هذا هو الجهاد، أن تقاتل بنية رفع راية التوحيد.

وصف شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم في القتال

وصف شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم في القتال وعن البراء بن عازب قال: (وكان إذا احمر البأس يتقى به) أي: كان إذا احمر البأس وحمي الوطيس واشتدت الحرب احتموا بالنبي عليه الصلاة والسلام. قال: (وإن الشجاع الذي يحاذى به). فـ البراء بن عازب هنا يصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه شجاع، بدليل أنه كان إذا حمي الوطيس احتموا بالنبي عليه الصلاة والسلام، ولا يحتمى إلا بالشجاع. وهذا قد ورد عن علي بن أبي طالب أنه قال: (لقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ -أي: نلجأ ونحتمي- برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو من أقربنا إلى العدو) أي: أنه لا يرجع إلى الخلف ولا يهرب. ومعنى هذا: بأنه كان أشجع الناس، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمع نفيراً أو صوتاً غير عادي بالليل انطلق تجاهه، وذات مرة تبعه الصحابة، فوجدوا النبي صلى الله عليه وسلم قد رجع من جهة الصوت يقول: (لا عليكم لا عليكم). عن البراء: (أن رجلاً قال له: أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين؟ قال البراء: لكن رسول الله لم يفر. إن هوازن كانوا قوماً رماة، وإنما حينما حملنا عليهم انهزموا، وإن القوم أقبلوا على الغنائم، فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة بيضاء، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بلجامها وهو يقول: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب). وأنتم تعلمون أن التعبيد في أسماء الله تعالى الحسنى لا يكون إلا بالثابت منها، وليس من أسماء الله المطلب، فما بال النبي صلى الله عليه وسلم يقر ذلك فيقول: أنا ابن عبد المطلب؟ A أن ذلك كان في الجاهلية قبل ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم وقبل مبعثه من باب أولى، فأقر النبي عليه الصلاة والسلام على ما كان واقعاً ومعروفاً أنه ابن عبد المطلب سواء كان خطأ أو صواباً، لكنه ليس من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما أراد أن يقرر واقعاً وأنه ابن المعروف بعبد المطلب. وذهب جماهير العلماء إلى أنه لا يجوز التعبيد لله عز وجل إلا بالثابت من أسمائه إلا عبد المطلب للنبي عليه الصلاة والسلام لا لغيره.

خبر غزوة مؤتة واستشهاد قادتها الثلاثة

خبر غزوة مؤتة واستشهاد قادتها الثلاثة عن ابن عمر قال: (أمر النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة مؤتة زيد بن حارثة فقال: إن قتل زيد فـ جعفر بن أبي طالب، فإن قتل جعفر فـ عبد الله بن رواحة) قال ابن عمر: فكنت معهم في تلك الغزوة فالتمسنا جعفر بن أبي طالب فوجدنا بما أقبل جسده بضعاً وتسعين ما بين رمية وطعنة. وعن أنس قال: حضرت حرباً فقال ابن رواحة: يا نفس ما لي أراكِ تكرهين الجنة أقسمت بالله لتنزلنه طائعة أو لتكرهنه فهو يؤدب نفسه ويقول لها: تخوضين الحرب وأنتِ طائعة أو لأنزلنكِ كارهة. لا يكره الآخرين إنما يكره نفسه. قال: وأما جعفر بن أبي طالب حين قتل دعا الناس: يا عبد الله بن رواحة! وهو في جانب المعسكر ومعه ضلع جمل ينهشه -أي: يأكل فيه ولم يكن ذاق طعاماً قبل ذلك بثلاث، فرمى بالضلع ثم قال: وأنت مع الدنيا! يؤدب بهذا نفسه! ثم تقدم فقاتل فأصيبت إصبعه، فارتجز فجعل يقول: هل أنتِ إلا إصبع دميتِ وفي سبيل الله ما لقيتِ يا نفس إلا تقتلي تموتِ هذا حياض الموت قد صليتِ وما تمنيتِ فقد لقيتِ إن تفعلي فعلهما هديتِ وإن تأخرتِ فقد شقيتِ أي: لا بد أن تتقدمي وتفعلي ما فعل الصاحبان، ثم قال: يا نفس إلى أي شيء تتوقين؟ إلى فلانة إلى فلانة امرأته إنها طالقة، وإلى فلان وفلان -أي: من غلمانه والعبيد- فهم أحرار، وإلى معجف -اسم حائط له بستان- قال: هو لله ولرسوله، وهكذا تخلص من كل متاع، فبستانه وهبه لله ورسوله، والعبيد حررهم، والنساء طلقهن، فما الذي بقي؟ فقال: يا نفس ما لكِ تكرهين الجنة أقسم بالله لتنزلنه طائعة أو لتكرهنه فطالما قد كنت مطمئنة هل أنت إلا نطفة في شنة قد أجلب الناس وشدوا الرنة شدوا الرنة. أي: بدأوا القتال. ثم قاتل حتى قتل. وعن أنس قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة معتمراً قبل الفتح، وابن رواحة يمشي بين يديه وهو يقول: خلوا بني الكفار عن سبيله اليوم نضربكم على تنزيله ضرباً يزيل الهام عن مقيله ويذهب الخليل عن خليله يقول ذلك مع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان داخلاً مكة معتمراً لا مقاتلاً، وكأن ابن رواحة يحث الناس ويقول: أبعدوا الكفار من طريق الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلا لنقاتلنهم مقاتلة تذهب الخليل عن، خليله وتزيل الهام عن مقيله.

الجهاد والنية الصالحة فيه باقية إلى يوم القيامة

الجهاد والنية الصالحة فيه باقية إلى يوم القيامة عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا هجرة بعد الفتح) أي لا هجرة من مكة بعد فتحها؛ لأنها صارت دار الإسلام إلى قيام الساعة، فلا هجرة منها بعد الفتح. قال: (ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا). (لا هجرة بعد الفتح)، إذاً لا يمكن في يوم من الأيام أن تكون مكة دار كفر، فهي دار إيمان وإسلام إلى قيام الساعة تماماً (ولكن جهاد ونية)، وهذا يدل على أن الجهاد فريضة ماضية في الأمة إلى قيام الساعة، فهو جهاد مستمر، وكما أنه لا هجرة أبداً من مكة فكذلك الجهاد والنية الصالحة فيه باقية إلى قيام الساعة. ثم قال: (إذا استنفرتم -إلى الجهاد وحسن النية- فانفروا). وقال النبي عليه الصلاة والسلام في أثناء رجوعه من غزوة تبوك: (إن بالمدينة لأقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم شاركوكم الأجر. قالوا: يا رسول الله! بالمدينة شاركونا الأجر؟ قال: نعم. حبسهم العذر). إذاً: قوله: (ولكن جهاد ونية) ولكن جهاد حقيقي ومشاركة فعلية أو نية الجهاد. قال: (من لم يغز أو لم تحدثه نفسه بالغزو فمات مات على شعبة نفاق).

عظم التولي والفرار يوم الزحف

عظم التولي والفرار يوم الزحف عن أبي أيوب: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الكبائر فقيل: وما الكبائر يا رسول الله؟! قال: الإشراك بالله، وقتل النفس التي حرم الله، وفرار يوم الزحف). وفي رواية: أنه قال: (الإشراك بالله، وقتل النفس المسلمة، وفرار يوم الزحف). وفي حديث أبي هريرة: (اجتنبوا السبع الموبقات) أي: المهلكات التي إذا اجتمعت على صاحبها أهلكته أو واحدة منها. قالوا: (يا رسول الله! وما هن؟ قال: الإشراك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات -أي: الحرائر العفيفات- المؤمنات الغافلات). والشاهد منه: (والتولي يوم الزحف) أي: يوم لقاء العدو. وعن سهل بن أبي حثمة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الكبائر سبع: الشرك بالله، وقتل النفس، والفرار من الزحف، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، والتعرض بعد الهجرة). قوله: (التعرض بعد الهجرة) أي: بعد أن يهاجر من دار الكفر إلى دار الإيمان يرجع مرة أخرى إلى دار الكفر فيسكن البادية أو غير ذلك. والتعرض أي: أن يصير مع العرب في البادية بعد أن هاجر.

خبر الغزو في البحر وغزوة الهند والغزو مع المسيح عيسى وتبشير الغازين فيهن بالجنة

خبر الغزو في البحر وغزوة الهند والغزو مع المسيح عيسى وتبشير الغازين فيهن بالجنة وعن أم حرام قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي إذ استيقظ وهو يضحك، فقلت: بأبي أنت وأمي. ما يضحكك يا رسول الله؟! فقال: عُرض علي ناس من أمتي يركبون ظهر هذا البحر كالملوك على الأسرة -وهذا فيه بيان جواز الغزو في البحر- فقلت: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: اللهم اجعلها -أي: أم حرام - منهم، ثم نام فاستيقظ فذكر مثله ثانياً وثالثاً). وعن عمرو بن الأسود: أنه حدثه: أنه أتى عبادة بن الصامت وهو في ساحل حمص في بناء له، ومعه امرأته أم حرام، فحدثتنا أم حرام أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول جيش من أمتي يغزو هذا البحر قد أوجبوا) أي: قد وجب دخولهم الجنة. قالت أم حرام: (يا رسول الله! وأنا فيهم؟ قال: نعم. وأنت فيهم). قال أبو بكر: لا أعلم بالشام إسناداً يشبه هذا. أي: في قوته وحسن سياقته. وعن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عصابتان من أمتي أحرزهما الله من النار -أي حفظهما الله تعالى وعصمهما من النار- عصابة تغزو الهند، وعصابة تكون مع عيسى بن مريم) صلى الله على محمد وعلى عيسى. قوله: (عصابة تغزو الهند) هذه العصابة مع المهدي؛ لأن المهدي المنتظر هو الذي يفتح الهند حتى لا تجد فيها عابد بقر، فيدخلون في الإسلام كافة على يد المهدي المنتظر. والعصابة الثانية: في أرض الشام مع عيسى بن مريم، يكسرون الصليب ويقتلون الخنزير ويضعون الجزية، ويدعون بدعوة النبي محمد عليه الصلاة والسلام. فهاتان العصابتان: عصابة تذهب إلى الهند، وعصابة تبقى في أرض الشام كلاهما يدعو بدعوة النبي عليه الصلاة والسلام، فهما محفوظتان من النار بإذن الله تعالى. وعن أبي هريرة قال: (وعدنا الله ورسوله غزوة الهند فإن أدركها أنفق فيها نفسي ومالي). أي: أتمنى لو أدرك هذه الحرب وهذه الغزوة، ولو كان ذلك لأنفقت فيها نفسي ومالي. قال: (فإن قتلت كنت كأفضل الشهداء) وهذا يدل على أن من مات في هذه الغزوة كان أفضل الشهداء. قال: وإن رجعت فأنا أبو هريرة المحرر. أبو هريرة الذي كان عبداً وأعتق.

خبر أبي دجانة وأخذه سيف رسول الله بحقه

خبر أبي دجانة وأخذه سيف رسول الله بحقه عن أنس بن مالك: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من يأخذ هذا السيف؟ فبسطوا أيديهم جميعاً. يقول هذا: أنا، ويقول هذا: أنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فقال أبو دجانة وحده: أنا يا رسول الله! آخذه بحقه. قال: فأخذه ففلق به هام المشركين) وهنا يكون قد أخذه بحقه وهو رجل بمفرده.

قتال علي بن أبي طالب يوم خيبر

قتال علي بن أبي طالب يوم خيبر عن ابن عباس قال: جاء علي بسيفه إلى فاطمة. بعد الحرب رجع وفي يده السيف، وهذا السيف في يد علي بن أبي طالب كالكوب في يد أحدنا. إن علي بن أبي طالب في غزوة خيبر خلع باب الحصن -وهو من حديد- واتخذه درعاً بيده الشمال، وكان يقاتل بالسيف بيده اليمنى، وسيف علي إلى الآن موجود ويحمله أربعة من الرجال، وهو سيف كان يقاتل به ويصول به ويجول. فيأتي بسيفه ويلقيه إلى فاطمة وقال لها: خذيه حميداً -أي: هذا السيف سيف مبارك- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن كنت أحسنت القتال اليوم فقد أحسنه سهل بن حنيف) وكأنه يقول له: لست وحدك من قاتل بجد، فممن قاتل معك سهل بن حنيف والحارث بن الصمة وأبو دجانة وعاصم بن ثابت. مع أن علياً كان إذا دخل الجيش هرب الجيش أمامه، فلماذا لا يظهر مثل هؤلاء الرجال في هذه الأمة؟

الخيلاء صفة يبغضها الله إلا عند قتال الأعداء

الخيلاء صفة يبغضها الله إلا عند قتال الأعداء عن ابن عتيك الأنصاري عن أبيه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأما الخيلاء التي يحبها الله اختيال الرجل بنفسه عند القتال وعند الصدقة). فالخيلاء يبغضه الله عز وجل إلا في موطن واحد وهو: الاختيال في الصف ليراه العدو، كما في حديث أبي دجانة رضي الله تعالى عنه.

بيان أن المرابط في سبيل الله ينمى له عمله ويجرى له رزقه

بيان أن المرابط في سبيل الله ينمى له عمله ويجرى له رزقه عن العرباض بن سارية قال: (كل عمل ينقطع عن صاحبه إذا مات إلا المرابط في سبيل الله عز وجل، فإنه ينمى له عمله، ويجرى عليه رزقه إلى يوم الحساب). أي: أن أجر المرابط يظل ينمو ويستمر ويربو حتى يبعث يوم القيامة. وعن واثلة بن الأسقع قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من مات مرابطاً في سبيل الله أجرى الله له مثل أجر المرابط في سبيل الله، حتى يبعثه الله يوم الحساب). وعن عثمان بن عفان وهو بمنى حاجاً قال: يا أيها الناس! إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (رباط يوم في سبيل الله أفضل من ألف يوم فيما سواه من القربى) أي: من أي عمل صالح. قال: فليرابط امرئ كيف شاء. وقال عليه الصلاة والسلام: (من مات على مرتبة من هذه المراتب بعثه الله عليها يوم القيامة). أي: من مات على الصلاة بعث على الصلاة، ومن مات على الحج بعث على الحج، ومن مات على الجهاد بعث على الجهاد، ومن مات على الفسق والفجور والخنا والعصيان بعث عليها. قال: (فليختر كل امرئ لنفسه ما شاء فإنه مجزي به). وعن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث سلمان: (رباط يوم أو ليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه، ومن مات أجري عليه عمله الذي كان يعمل وأجري عليه رزقه، وأُمن من الفتان) أي: كان من الفتان في مأمن. وآخر حديث: حديث فضالة بن عبيد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما من ميت يموت إلا ختم على عمله إلا من مات مرابطاً في سبيل الله، فإنه ينمو له عمله ويأمن من فتنة القبر). أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد.

الأسئلة

الأسئلة

حكم صبغ الشعر بالسواد حال الحرب

حكم صبغ الشعر بالسواد حال الحرب Q هل يجوز أن يصبغ الشعر الأبيض بالأسود في حال الحرب أم النهي مطلق؟ A النهي مطلق، ولكن بعض أهل العلم جوز ذلك لأجل إظهار الشباب في القتال وإرهاب العدو.

حكم بقاء الزوجة بعد إسلامها مع زوجها الكافر

حكم بقاء الزوجة بعد إسلامها مع زوجها الكافر Q ظهرت فتوى لبعض الأفاضل مضمونها بقاء الزوجة بعد إسلامها مع زوجها الكافر، فهل هذا جائز أم لا؟ A هذا محرم، والله تعالى قال: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141] فالزوجة إذا أسلمت بانت من زوجها.

حكم حلق رأس المولود في اليوم السابع والتصدق عن الشعر بوزنه ذهبا

حكم حلق رأس المولود في اليوم السابع والتصدق عن الشعر بوزنه ذهباً Q هل من السنة حلق رأس المولود في اليوم السابع والتصدق عنه بالفضة أم بالذهب؟ A الذهب أحب إلى الله تعالى من الفضة، والواجب عند من يذهب إلى وجوب ذلك هو الفضة، تقدر بوزن شعر المولود بعد حلقه في اليوم السابع فضة لا ذهباً، وإن كان ذهباً فهو أحب إلى الله عز وجل من الفضة، والله تعالى أعلم. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

كتاب الجهاد والسير - جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم دعوة الإسلام

شرح صحيح مسلم - كتاب الجهاد والسير - جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم دعوة الإسلام يشرع للإمام تأمير الأمراء على الجيوش، والخروج معهم لتشييعهم إلى خارج البلد، ووصية الجيش وأميره بتقوى الله والإخلاص، وتذكيرهم بآداب الغزو، ووصية الأمير بالرفق بأفراد الجيش، والعدل والإنصاف مع العدو إذا أرادوا المعاهدة والنزول على حكمه.

باب جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم دعوة الإسلام

باب جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم دعوة الإسلام إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، أما بعد: فمع الدرس الأول من كتاب الجهاد والسير، وقبل الشروع في أبواب الكتاب وأحاديثه نعرف معنى قوله: الجهاد والسير فنقول: الجهاد: هو بذل الجهد وإفراغ الوسع. والسير: جمع سيرة. أي: هديه صلى الله عليه وسلم في الجهاد إلى الله عز وجل، ماذا كان يفعل؟ وما هي أحكام الجهاد، وآدابه وأخلاقه، وما يلزم له؟ كتاب الجهاد والسير في صحيح مسلم ضم مسائل كثيرة مما يتعلق بهذه الأحكام والآداب، أول باب من كتاب الجهاد والسير: (باب جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم دعوة الإسلام). كأن هذا شرط. قال: باب جواز الإغارة، ولم يقل: باب وجوب الإغارة؛ لأن الإغارة ليست واجبة. الإغارة على العدو أو مزاحفة العدو وهو غار -أي: غافل- ليست واجبة بشرط: أن تكون دعوة الإسلام قد بلغته من غير تقدم الإعلام بالإغارة. أي: لا يلزم الإنذار.

شرح حديث نافع مولى ابن عمر في الإغارة على بني المصطلق

شرح حديث نافع مولى ابن عمر في الإغارة على بني المصطلق قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يحيى بن يحيى التميمي حدثنا سليم بن أخضر -وهو البصري الثقة الضابط- عن ابن عون] وهو عبد الله بن عون بن أرطبان البصري أبو عون الثقة الفقيه، المأمون الفاضل، وهو من أقران أيوب بن أبي تميمة السختياني في العلم والعمل والسن. قال ابن عون: [كتبت إلى نافع أسأله عن الدعاء قبل القتال؟]. قوله: (كتبت إلى نافع) وهو نافع الفقيه مولى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. والدعاء هنا بمعنى: الإنذار والبلاغ، ما حكمه؟ قال: [(فكتب إلي: إنما كان ذلك في أول الإسلام -أي: الإنذار كان واجباً في أول الإسلام- قد أغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق، وهم غارُّون)] أي: غافلون نائمون، أو في وقت الضحى يلعبون، لا علم عندهم بمقدم جيش الإسلام. قال: [(وأنعامهم تسقى على الماء -أنعامهم تروح وتأتي وتسرح وتشرب وتأكل على الماء- فقتل مقاتلتهم وسبى سبيهم)] والذي فعل ذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق، وبنو المصطلق عرب. قال: [(وأصاب النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ جويرية بنت الحارث -أي: أنها كانت من السبي- وحدثني هذا الحديث عبد الله بن عمر وكان في ذاك الجيش)]. عبد الله بن عمر حدث نافع، ونافع أوقف الحديث على عبد الله بن عمر حتى لا يقال: هذا اجتهاد من نافع، بل هذا حديث عبد الله بن عمر، وكأن نافعاً سأل ابن عمر بنفس السؤال الذي سأله إياه عبد الله بن عون بن أرطبان، فقال نافع: يجوز الإغارة على العدو من غير إنذار، وإنما الإنذار كان واجباً في أول الإسلام، كأن وجوب الإنذار أمر منسوخ؛ لقول نافع: إنما كان ذلك في أول الإسلام، والتقدير: وأما الآن فلا، بدليل: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون). أي: غافلون بغير سابق إنذار، حدثه به عبد الله بن عمر الذي كان في غزوة بني المصطلق. [وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا ابن أبي عدي -وهو محمد بن إبراهيم أبو عمرو البصري عن ابن عون بهذا الإسناد مثله، وقال: جويرية بنت الحارث ولم يشك]. لأن الإسناد الأول فيه شك، هل قال: وأصاب يومئذ ابنة الحارث أو قال: جويرية، شك الراوي، وهنا بغير شك.

مذاهب العلماء في حكم إنذار العدو قبل الإغارة

مذاهب العلماء في حكم إنذار العدو قبل الإغارة في هذا الحديث: جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم الدعوة من غير إنذار بالإغارة. وفي هذه المسألة ثلاثة مذاهب، حكاها المازري والقاضي عياض: المذهب الأول: يجب الإنذار مطلقاً. أي: سواء بلغتهم الدعوة أو لم تبلغهم. فإذا أراد المسلمون أن يغيروا الآن على بلد من بلاد الكفر، كأن أرادت ليبيا مثلاً أن تغير على إيطاليا باعتبار أنها أقرب بلاد بعد البحر إليها؛ لأنها في مقابلها على البحر، أو أرادت الجزائر أن تغير على فرنسا، أو المغرب أن تغير على أسبانيا، أو هذه البلاد كلها المجتمعة أن تغير على أمريكا، فهل يلزم أن تنبّه هذه البلاد الإسلامية البلد المطلوب الإغارة عليه وتنذره ثلاثاً أو أكثر من ذلك؟ A لا يجب. لكن المذهب الأول يقول بالوجوب. فالمذهب الأول: وجوب الإنذار مطلقاً، كما قال مالك وغيره. وهذا مذهب ضعيف؛ وذلك لصراحة النص بخلاف ذلك؛ لقول نافع في رده على سؤال ابن عون قال: إنما كان ذلك في أول الإسلام. كان الإنذار واجباً في أول الأمر؛ وذلك لأنه يغلب على الظن أنهم لم يسمعوا بالإسلام، لكن الناس الآن جميعاً يعلمون الإسلام، وقد سمعوا بالنبي محمد عليه الصلاة والسلام ودعوته، وسمعوا بالقرآن والشريعة الإسلامية، فلا يلزم النذارة، فيكون المذهب الأول الذي يقضي بوجوب الإنذار مذهب ضعيف. المذهب الثاني يقول: لا يجب مطلقاً. وهذا أضعف من المذهب الأول، بل هو باطل. المذهب الثالث: يجب إن لم تبلغهم الدعوة، ولا يجب إن بلغتهم لكن يستحب، وهذا هو الصحيح، وبه قال نافع مولى ابن عمر والحسن البصري والثوري والليث والشافعي وأبو ثور وابن المنذر والجمهور. إذاً: الراجح: عندما أريد أن أغير على بلد من بلاد الكفار أُنذرهم أولاً، اقبلوا الدعوة إلى الإسلام! ادخلوا في دين الله عز وجل! وهذا الإنذار ليس واجباً ولا مكروهاً ولا محرماً في نفس الوقت، إنما هو مستحب، سواء بلغتهم الدعوة أو لم تبلغهم. قال ابن المنذر: وهو قول أكثر أهل العلم، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة على معناه. ومنها هذا الحديث وحديث قتل كعب بن الأشرف، وحديث قتل ابن أبي الحقيق.

حكم استرقاق العرب

حكم استرقاق العرب في هذا الحديث أيضاً: جواز استرقاق العرب. أي: اتخاذ العرب أرقاء وأسرى حرب؛ لأن بعض أهل العلم يقول بعدم جواز استرقاق العرب، وفي الحقيقة الأدلة تظاهرت على جواز استرقاق العربي، مع خلاف أهل العلم في كلمة عربي، ما معناها؟ هل العربي الذي ولد لأبوين عربيين؟ أم هو الذي يتكلم اللغة العربية؟ والأعجمي هل هو الذي يتكلم غير العربية أو أنه أعجمي وإن كان من أبوين عربيين؟ فيه خلاف بين أهل العلم، وفي هذا الحديث جواز استرقاق العرب؛ لأن بني المصطلق عرب من خزاعة، وهذا قول الشافعي في الجديد وهو الصحيح، وبه قال مالك وجمهور أصحابه وأبو حنيفة والأوزاعي، وجمهور العلماء. وجماعة من العلماء قالوا: العرب لا يسترقون. وهو قول الإمام الشافعي في القديم، فكأن هذا اتفاق من أهل العلم على جواز استرقاق العرب. والعرب منهم الكافر ومنهم المؤمن، وهذا الكافر إما أن يكون يهودياً أو نصرانياً أو مشركاً، وأنتم تعلمون أن عامة العرب في مكة كانوا مشركين، وعامة العرب في المدينة كانوا يهوداً وهم عرب.

باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصيته إياهم بآداب الغزو وغيرها

باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصيته إياهم بآداب الغزو وغيرها الباب الثاني: (باب: تأمير الإمام الأمراء على البعوث) والبعوث: جمع بعث. وهو: السرية أو الكتيبة. فإذا أرسل الإمام سرية أو كتيبة أو بعثاً أمّر عليهم أميراً، وأمره بأشياء، وحضه على آداب وأحكام وأخلاق. قال: (ووصيته إياهم بآداب الغزو وغيرها). قد يقول قائل: هل للغزو آداب؟ A نعم. الغزو له آداب وله أحكام، وكثير ممن يقولون بالغزو والجهاد الآن يغفلون عن هذه الآداب وتلك الأحكام.

شرح حديث بريدة بن الحصيب في وصية النبي لأمير السرية والجيش

شرح حديث بريدة بن الحصيب في وصية النبي لأمير السرية والجيش قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا وكيع بن الجراح عن سفيان -وإذا حدث وكيع عن سفيان فهو سفيان الثوري وكلاهما كوفي- (ح) وحدثنا إسحاق بن إبراهيم -وهو المعروف بـ ابن راهويه - أخبرنا يحيى بن آدم قال: حدثنا سفيان قال: أملاه علينا إملاءً -يعني: يحيى بن آدم يقول: أملى سفيان الثوري علينا هذا الحديث إملاء- (ح) وحدثني عبد الله بن هاشم واللفظ له] أي: هذا السياق ليس سياق أبي بكر بن أبي شيبة ولا سياق إسحاق بن راهويه وإنما هو سياق عبد الله بن هاشم، كأن الإمام مسلماً روى هذا الحديث من طرق متعددة: من طريق أبي بكر بن أبي شيبة في الإسناد الأول، ثم من طريق إسحاق بن راهويه، ثم من طريق عبد الله بن هاشم، ولكنه اختار أن يكون السياق واللفظ من كلام عبد الله بن هاشم. قال: [حدثني عبد الرحمن -يعني: ابن مهدي - قال: حدثنا سفيان -وهو الثوري - عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه -وأبوه هو بريدة بن الحصيب - قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميراً على جيش أو سرية)] وليس (إذا) هنا بمعنى أن ذلك أمر محتمل، بل جرت سنة النبي صلى الله عليه وسلم في تأمير الأمراء على كل جيش أو سرية، فلا يصلح أمر القتال والجهاد في سبيل الله إلا بأمير، والأمير يتخذ له بطانة من الجيش يعينونه على المشورة والفصل في المنازعات، وإبداء النصح عند الحاجة إليه، وغير ذلك مما يلزم القتال في سبيل الله عز وجل، فكلمة (إذا) هنا ليست زائدة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤمّر على كل جيش أو سرية أميراً ليدير دفّة القتال والجهاد، وكان إذا فعل ذلك [(أوصاه خاصته بتقوى الله)].

توصية الأمير بتقوى الله في خاصة نفسه ومن معه من المسلمين

توصية الأمير بتقوى الله في خاصة نفسه ومن معه من المسلمين كان النبي صلى الله عليه وسلم يوصي الأمير ابتداءً أن يتقي الله عز وجل في نفسه وفي دينه، وفيمن معه من أفراد السرية أو الجيش، وتقوى الله هي وصية الله عز وجل للأولين والآخرين من الأنبياء المرسلين وعامة الخلق، فكان النبي عليه الصلاة والسلام يوصي الأمير بتقوى الله في خاصة نفسه؛ لأن النصر لا يكون إلا بتقوى الله، وتقوى الله هي سبب استمطار الرحمة من السماء، كما أن إعداد العدة أمر لازم، ولكنا نعتقد أن دفع الزكاة سبب في النصر، فالنصر من عند الله عز وجل وله أسباب: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7] و (إن) هنا شرطية، بمعنى: لو نصرتم الله نصركم الله عز وجل، ونصر الله تعالى يكون بالتزام طاعته، ولزوم تقواه سبحانه وتعالى؛ ولذلك من أعجب العجب أن ترى أمم الكفر شرقاً وغرباً في هذه الأيام تتحرك بأساطيلها وأجنادها لتقابل ثلة قليلة ضعيفة معزولة السلاح كأنها لا تستحي أن تواجه بعض الأفراد العُزّل، ومع هذا قد قذف الله عز وجل في قلوب هؤلاء الرعب عند ملاقاتهم هذه الثلة المؤمنة، واحد، أو ثلاثة، أو عشرة، أو مائة قد أثاروا الرعب في قلوب الكفار مع قوة عددهم وعدتهم، والله تعالى هو الذي قذف في قلوبهم الرعب، وهو القائل: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] فالله عز وجل هو الذي يقاتل أعداءه. والعجيب أن نواب هذه الأمة في رفع راية الجهاد في هذا العصر في هذه البقعة الطاهرة الطيبة قد قبروا في أرض أفغانستان أعظم قوة من بلاد الكفر وهي روسيا تحت التراب، وإن شاء الله تعالى يتحقق على أيديها قبر القوة الثانية في العالم وهي أمريكا في هذه الأرض الطيبة المباركة. أما سائر أفراد الأمة وبلاد الأمة فتستحق الضرب بالنعال حتى تُهان أعظم إهانة؛ لأنهم لم ينصروا الله عز وجل، ولم يفكروا في الرمي الذي أمر الله عز وجل به، وقد امتلأت الأمة أمراضاً بل اتصفت بأخبث الأمراض، وما من مرض في أمة من الأمم السابقة إلا واتصفت به هذه الأمة الآن. أما حكومة طالبان في تلك البقعة المباركة فقد علموا منذ أول لحظة في لقاء مع عدوهم أنهم لا ينتصرون بعدد ولا عدة، إنما ينتصرون بتقوى الله، فحققوا ذلك أولاً، ووعد الله تعالى لا يخلف، خلافاً لوعيده فهو يفعل فيه ما يشاء سبحانه وتعالى، يخلف أن يُنفد وعيده، أما وعده فلا يخلف، وهذا محض فضل الله عز وجل. لو أنك نظرت إلى أي بلد من بلاد الإسلام لوجدت الخذلان والمعاصي والفجور والزنا والخنا، وشرب الخمر وأكل الربا وكل البلايا خلافاً لهذه البقعة وهذه الطائفة المؤمنة من الناس؛ ولذلك كل البلاد بجيوشها وخيلها ورجلها مرعوبة أشد الرعب من تهديداتهم، بل هذه البلاد الإسلامية خائفة ووجلة لا ينامون الليل، ويفكّرون في كل حين ولحظة: لو داهمتنا أمريكا ماذا نصنع؟ خلافاً لهذه الطائفة المؤمنة في تلك البقعة المباركة، فإنهم لا يعبئون بهذا، فقد أنزل الله تبارك وتعالى عليهم السكينة والرحمة لاتصالهم بالله عز وجل وتقواهم، وقد جادل أحدهم بعض الصحفيين المنافقين الملاحدة. قالوا: إن أمريكا أتتكم بكذا وكذا وكذا، هل أنتم مستعدون للقاء العدو؟ قالوا: نعم. نحن مستعدون، قالوا: وهل أعددتم لهذه الأساطيل وهذه الجيوش العدة؟ قالوا: نعم. قد أعددنا. قالوا: كيف أعددتم وماذا أعددتم؟ قال هذا المؤمن: أعددنا لهم معية الله عز وجل، فالله تعالى معنا، ومن كان الله معه لا يهزم ولا يُغلب؛ لأن الحرب دائرة مع الله عز وجل: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطارق:15 - 17] (إن الله ليمهل للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) كما في حديث عبد الله بن عمر في الصحيحين وغيرهما، فمن كان الله تعالى معه فقد آوى إلى ركن شديد، لا يستطيع أحد أن يخترق هذا الركن ولا أن يغلبه؛ لأن الله تعالى لا يُغلب البتة. إذاً: كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا أرسل جيشاً أو سرية أمّر عليهم أميراً، وأوصاه بتقوى الله في خاصته هو أولاً، انظروا إلى دولة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، كانت على أي مستوى من التقوى وإلى دولة عمر وإلى دولة علي وعثمان، وإلى دولة أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز! انظروا إلى صدر الأمة المبارك، ماذا كانت عليه الأمة! وماذا حققت من خير وانتصارات حتى صار الإسلام يسري في الأرض وينتشر انتشار النار في الهشيم، وأسرع من ذلك، حتى بلغ مشرق الأرض ومغربها؛ لأن الأئمة على رءوس الإسلام والمسلمين في ذلك الوقت حققوا تقوى الله عز وجل؛ ولذلك يقول الحسن البصري: أعمالكم عمالكم. كيفما تكونوا يولى عليكم، فإذا كان الوالي والقائد والحاكم ليس تقياً فإنما هو من جنس أمته وشعبه. قال: [(إذا أمّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله،

الوصية ببدء الغزو بذكر الله وفي سبيل الله

الوصية ببدء الغزو بذكر الله وفي سبيل الله الوصية الثانية: أنه كان يقول له: (اغز باسم الله). من الآداب أن يبدأ هذا العمل المبارك بذكر الله تعالى أولاً (اغز باسم الله في سبيل الله) وهو احتراز من الرياء. قوله: (اغز باسم الله)، أي: ابدأ هذا الغزو والجهاد بذكر الله تعالى، واعلم أن هذا الجهاد يجب أن يكون في سبيل الله؛ ولذلك سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! الرجل منا يقاتل حمية، ويقاتل شجاعة، ويقاتل ليرى مكانه، أي ذلك في سبيل الله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله). هذا القتال الأوحد الذي هو في سبيل الله، أما غير ذلك فلا يُقبل عند الله عز وجل، فالذي يقاتل شجاعة وحمية، ويقاتل ليرى مكانه، وليقال: مجاهد وغير ذلك، فليس مأجوراً بل هو مأزور عند الله، وإن قُتل وإن تعرّض لبارقة السيوف، فليس له عند الله أجر ولا فضل.

النهي عن التمثيل والغدر والغلول

النهي عن التمثيل والغدر والغلول قال: [(ولا تمثلوا)] وفي رواية (ولا تمثّلوا) وفي حديث: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة) والمثلة هي تمزيق البدن بعد الموت، أو قبل الموت، فإذا أصاب سهمك العدو ووقع ميتاً فلا تقل: هذا لا يكفيني، فتذهب إلى أنفه فتقطعه، وإلى اليد فتقطعها، وإلى الساق وغير ذلك من أطرافه وأعضائه، فتمثّل به تمثيلاً، فقد نهى الإسلام عن التمثيل بالكافر فضلاً عن المؤمن. قال: (اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله). إذاً: القتال لا يُنصب ابتداء إلا في وجه الكفار. قال: [(اغزوا ولا تغلوا)]. وفي رواية: (ضموا الغنائم) أي: اجمعوا بعضها إلى بعض. والغلول: هو الأخذ من الغنيمة والفيء قبل توزيعها، وأنت في الجيش ربما قضى الله عليك بالنزال مع أحد الكفار، فتأخذ سلبه، تأخذ ما معه من سلاح ومال وغير ذلك، والأصل أن تأخذ هذا وتضمه إلى بقية الغنائم حتى يودعه الإمام، أما قبل ذلك فلا يجوز لك أن تأخذ شيئاً بغير علم الإمام؛ ولذلك أثنى الله تعالى على أنبيائه ورسله أنهم لا يغلون شيئاً. قال: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:161] من أخذ شيئاً من الغنيمة قبل توزيعها أتى به يوم القيامة؛ ولذلك حينما مات مولى للنبي عليه الصلاة والسلام في القتال قال الصحابة: مات مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنا لنراه من أهل الجنة، فلما سمع النبي عليه الصلاة والسلام هذه المقالة قال: (والله وإني لأراه في نار جهنم بسبب شملة غلها). والشملة: ثوب أو عباءة، فنهى النبي عليه الصلاة والسلام عن الأخذ من الغنيمة ولو كان عوداً من أراك، وهو بعض السواك، ومن فعل ذلك حُرم ثواب الشهداء، وتعرّض للعقوبة. ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (اغزوا ولا تغلوا) والنهي هنا للتحريم [(ولا تغدروا)] أي: ولا تغدروا عدوكم. ويُحمل هذا الغدر على النهي عن الغدر مع المسلمين من باب أولى، ومع الأمير من الأولى والأولى، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (يُرفع لكل غادر لواء يوم القيامة على استه) أي: على مؤخرته ومقعدته، يشهده القاصي والداني يوم القيامة قال: (يُرفع لكل غادر لواء يوم القيامة على إسته يقال: هذه غدرة فلان ابن فلان). قال: [(ولا تقتلوا وليداً)] أي: صغيراً، وهذا النهي نهي عام مطلق في عدم قتل الولدان والصبيان الصغار بشرط ألا يشاركوا في القتال، كما جاء النهي كذلك عن قتل النساء وقتل الشيوخ الكبار، والعُبّاد في صوامعهم، كل هذا النهي على عمومه إلا أن يشارك هؤلاء في القتال فيقتلوا بمشاركتهم، فإذا شاركوا في القتال يقتلون أصلاً لا تبعاً، ويقتلون تبعاً إذا تترس بهم الكفار، أو كان لا يمكن الوصول إلى جيش العدو مع قوة شوكته وخطورته على جيش الإسلام إلا بقتل هؤلاء، فحينئذ يُقتلون تبعاً لا أصلاً. يعني: لا يكون القصد قتلهم، وإنما القصد: الوصول إلى العدو، ولا يصل إليه إلا بقتل هؤلاء، وهذا أمر مستقر في الشرع، كما يُقتل المرء لفتنته وليس بلازم أن يكون كافراً، ولذلك قتل خالد بن عبد الله القسري الجعد بن درهم؛ لقوله الخطير في باب القدر، وأنه أنكر أن الله تعالى كلّم موسى تكليماً واتخذ إبراهيم خليلاً. قال خالد بن عبد الله القسري بعد فراغه من خطبة عيد الأضحى: أيها الناس! ضحوا تقبّل الله منا ومنكم، فإني مضح بـ الجعد بن درهم ونزل من المنبر وقتله، فلما سئل عن ذلك أخبر أنه قتله لمقالته الخطيرة التي ضلّت بها الأمة في ذلك الزمان، فهو قتله لا لأجل كفره وإنما لأجل فتنته التي لا تخمد إلا بقتله، فليس بلازم أن يقتل المرء لأجل كفره؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة).

ذكر الخصال التي يدعى إليها المشركون قبل قتالهم

ذكر الخصال التي يدعى إليها المشركون قبل قتالهم قال: [(وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم)] أي: إذا دعوتهم إلى الأولى فقبلوا ذلك منك فاقبل منهم وكف عنهم. أي: لا تقاتلهم. قال: [(ثم ادعهم إلى الإسلام)] (ثم) هنا زائدة أو ابتدائية، وهي بداية الثلاث خصال. فالخصلة الأولى: إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى الإسلام. قال: (فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم) أي: كف عنهم قتلك فيهم، أي: لا تقتلهم إن هم أجابوك إلى هذه الخصلة الأولى. قوله: (ثم ادعهم إلى الإسلام) أي: أن يقولوا: أسلمنا، نشهد أن لا إله إلا الله، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، فحينئذ لا يجوز قتلهم، فمن قتلهم كان بمنزلتهم قبل أن يقول هذه الكلمة، كما جاء في حديث الأسود بن يزيد أنه قال: (يا رسول الله! أرأيت إن قاتلت مشركاً أو كافراً فقام فقطع يدي بالسيف، فلما أمكنني الله منه قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أو قال: أسلمت، أفأقطع يده يا رسول الله؟! قال: لا. قال: يا رسول الله! لقد قطع يدي، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لا تفعل. فإنك إن فعلت كنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال). وهذا دليل على وجوب قبول ذلك من الكافر إذا أسلم؛ ولذلك قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه مقتلة عظيمة في غزوة من الغزوات، فلما تمكّن من رجل ووقع السيف منه نطق بالشهادتين، فكفّ عنه علي بن أبي طالب رضي الله عنه. أما أسامة بن زيد رضي الله عنهما فقتل رجلاً في الجهاد بعد أن قال هذه الكلمة، وقال: (ما قال ذلك إلا تعوّذاً يا رسول الله!) أي: تعوذ ليهرب من القتل، وما قال ذلك يقيناً، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (هل شققت عن قلبه لتعرف ما فيه؟!) وظل يعنّفه حتى قال أسامة رضي الله عنه: ما تمنيت أني أسلمت إلا بعد هذا. ندم ندماً عظيماً على فعلته التي فعل، ولكن أسامة كان مجتهداً في ذلك؛ ولذلك لم يوده النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يطالبه بالدية. قال: [(ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم)] وهذا السؤال يتوجه به الكثير من الإخوة في الشيشان أو الإخوة في المناطق التي يُرفع فيها راية الجهاد خلافاً لفلسطين؛ لأنه لم يثبت إلى الآن أن يهودياً حينما تعرّض للقتل نطق بالشهادتين؛ وما ذلك إلا لأن الكفر متأصل فيه. فإخواننا في الشيشان يقولون: الضابط الروسي والعقيد الروسي حينما يقع في الأسر يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، لكننا متأكدون أنهم يقولون هذا ليهربوا من القتل. نقول: أنت لست متأكداً، بل أنت ظان، فهو إن كان كاذباً أو مخادعاً فالله تعالى يتولاه: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} [الأنفال:62]، فالذي يدافع عنك في هذه الحالة هو الله عز وجل، فإنه لا يضرك بإذن الله، كما أن هناك إجراءات وقائية لمن غلب على ظنه أنه قال ذلك تعوذاً، جرّده من السلاح، واجعله في خدمة الجيش، يعد الطعام ويعد الشراب وغير ذلك، واجعل المخلص من جندك وجيشك يتقدم في الصفوف، وهذا الذي نطق الشهادتين يؤخذ ويجرب على هذه الأعمال حتى يغلب على ظنك أنه قد استقام على الهدى والإسلام. [(ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين)]. قوله: (ثم ادعهم إلى التحول) أي: أن يهاجروا، ويتركوا بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، وكان في أول الأمر يأمرهم أن يتحولوا من ديار الكفر إلى المدينة المنورة؛ لأن المدينة كانت في ذلك الوقت هي دار الإسلام الوحيدة، وهي دار المهاجرين التي هاجر إليها النبي عليه الصلاة والسلام ومن كان معه من أصحابه، والهجرة واجبة ما بقيت الأيام والليالي من ديار الكفر إلى ديار الإسلام. وفي هذا الحديث إشارة إلى كراهة الهجرة من بلاد الإسلام إلى بلاد الكفر. قال: [(فإن هم أجابوك -أي: إلى الإسلام- فادعهم إلى التحول من دارهم إلى ديار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك -أي: إن أسلموا وهاجروا من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام- فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا -أي: من ديارهم التي أوذوا فيها إلى المدينة المنورة- فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين) وأعراب المسلمين فيهم فقراء وفيهم أغنياء، خلافاً لمن خرج من المدينة مع النبي صلى الله عليه وسلم ليقاتل، فالأعراب إذا أخذوا مالاً أخذوا من مال الصدقة ومن مال الزكاة، ولا يأخذون من الغنائم ولا من الفيء. والغنيمة: هي التي يغنمها الجيش بعد القتال. والفيء: هو المال الذي يغنمه الجيش بغير قتال. فإذا كان الأمر كذلك فإن الأعراب في بواديهم لا حظ لهم لا في الغنيمة ولا في الفيء، إنما حظهم في بواديهم في الزكاة والصدقات العامة. فهؤلاء إذا هاجروا وتحولوا من دار الهزيمة والإغارة

إعطاء الأمير للعدو ذمته وذمة أصحابه إن أراد المعاهدة

إعطاء الأمير للعدو ذمته وذمة أصحابه إن أراد المعاهدة قال: [(وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله)]. إذا طالب الأعداء أن تجعلوا بينكم وبينهم ذمة الله وذمة رسوله فلا تعطوهم ولا تعاهدوهم على ذمة الله وذمة رسوله؛ وذلك لأنكم ربما تغدرون، أو يغدر أحد أصحابك. فالنبي عليه الصلاة والسلام في الحديبية وافق على الشروط التي قدمها المشركون، حتى مسح النبي صلى الله عليه وسلم وصفه الشريف من الصحيفة، فتضايق عمر بن الخطاب وقال: (يا رسول الله! ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال: بلى. قال عمر: فلِم نعطى الدنية في ديننا؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إني رسول الله ولن يضيّعني). قال النبي صلى الله عليه وسلم: وإن حاصرت أهل حصن، فأرادوا أن يأخذوا عليك العهد والميثاق بذمة الله وذمة الرسول فلا تعطهم هذا العهد، أعطهم ذمتك أنت وذمة أصحابك الذين معك. قل لهم: ألتزم لكم أنا وأصحابي بالعهد الذي بيننا وبينكم، وليس بعهد الله ولا عهد رسوله، لأنك أيها الأمير! لا تضمن أن يقوم أحد من أصحابك متهوّراً فيخفر هذه الذمة، فتقع في الإثم، لأنك خفرت ذمة الله وذمة رسوله، ولأن تعطي أهل الحصن ذمتك وذمة أصحابك أهون عند الله عز وجل من أن تخفر ذمة الله وذمة الرسول صلى الله عليه وسلم.

إنزال الأمير العدو على حكمه واجتهاده في ذلك

إنزال الأمير العدو على حكمه واجتهاده في ذلك قال: [(وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله وحكم الرسول عليه الصلاة والسلام فلا تنزلهم على حكم الله وحكم رسوله)]، وذلك لأنهم ربما يسألونك حكم الله وحكم ورسوله في مسألة من المسائل، وأنت لا علم لك بحكم الله وحكم الرسول صلى الله عليه وسلم، فتحكم بغير ما حكم به الله وبغير ما حكم به رسوله عليه الصلاة والسلام. قال: [(فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك أنت)] أي: قل لهم: هذا حكمي فيكم. ومعنى (أنزلهم): اقبل منهم. فقل لهم: هذا حكمي فيكم، وربما وافق هذا الحكم حكم الله وربما خالفه، ولكنك اجتهدت في إصابة الحكم، ولا يلزم من التحقق والاجتهاد إصابة الحق. قال: [(فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا). قال عبد الرحمن بن عوف هذا أو نحوه -يعني: الحديث بهذا السياق أو قريباً من ذلك- وزاد إسحاق بن راهويه في آخر حديثه عن يحيى بن آدم قال: فذكرت هذا الحديث لـ مقاتل بن حيان -قال يحيى: يعني: أن علقمة يقوله لـ ابن حيان - فقال: حدثني مسلم بن هيصم عن النعمان بن مقرن عن النبي صلى الله عليه وسلم ونحوه]. يعني: هذا الحديث من حديث النعمان ومن حديث بريدة بن الحصيب رضي الله تعالى عنهما. [وحدثني حجاج بن الشاعر حدثني عبد الصمد بن عبد الوارث حدثنا شعبة قال: حدثني علقمة بن مرثد أن سليمان بن بريدة حدثه عن أبيه. قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميراً أو سرية دعاه فأوصاه) -أي: أوصاه في خاصة نفسه وفيمن معه من المسلمين- وساق الحديث بمعنى حديث سفيان].

باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير

باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير

شرح حديث: (بشروا ولا تنفروا)

شرح حديث: (بشروا ولا تنفروا) [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب محمد بن العلاء الهمداني -واللفظ لـ أبي بكر - قالا: حدثنا أبو أسامة حماد بن أسامة الكوفي عن بريد بن عبد الله بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري عن أبي بردة -أي: عن جده- عن أبي موسى الأشعري عبد الله بن قيس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أحداً من أصحابه في بعض أمره قال: (بشروا ولا تنفروا). قال: (في بعض أمره ولم يقل: في سرية أو جيش)، يعني: سواء كان من أمر الدنيا أو أمر الآخرة. قال: (بشروا ولا تنفروا) يذكر الأضداد: بشروا ولا تنفروا، وكان من الممكن أن يقول: بشروا فقط، لكنه لا يؤدي المعنى المراد؛ لأن (بشّروا) يطلق على من بشّر مرة أو مرتين أو ثلاث مرات، ثم نفّر بقية حياته؛ فبشّروا ولا تنفروا تأكيد للنهي عن التنفير وإثبات التبشير، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الأمر وضده، ولا يكتفي بذكر الأمر، حتى يجتمع نفي التنفير وإثبات التبشير. ثم قال: [(ويسروا ولا تعسروا)] والتعسير ضد التيسير، فأنت مأمور بالتيسير منهي عن التعسير، فإنما جمع في هذه الألفاظ بين الشيء وضده لأنه قد يفعلهما في وقتين، فلو اقتصر على (يسروا) لصدق ذلك على من يسّر مرة أو مرات، وعسر في معظم الحالات، فإذا قال: (ولا تعسروا) انتفى التعسير في جميع الأحوال من جميع وجوهه، وهذا هو المطلوب، وكذا يقال في: بشروا ولا تنفروا، وفي بقية أجزاء أحاديث الباب.

شرح حديث: (يسروا ولا تعسروا)

شرح حديث: (يسروا ولا تعسروا) [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع بن الجراح عن شعبة بن الحجاج العتكي البصري عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه أبي بردة عن جده أبي موسى الأشعري: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه ومعاذاً إلى اليمن)]. وبعث أيضاً علي بن أبي طالب إلى اليمن، فالثلاثة مبعوثون من جهة النبي عليه الصلاة والسلام، وحينما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل إلى اليمن قال لهما: [(يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا)]. قوله: (تطاوعا) أي: اتفقا ولا تختلفا، أي: ليلن كل منكما جانبه لأخيه، وليخفض كل منكما جناحه لأخيه، وكان بإمكانه أن يقول: (تطاوعا)، ولا يذكر و (لا تختلفا)،فالاختلاف ضد التطاوع والاتفاق والائتلاف؛ ولذلك ذكرهما ليثبت أمره وينفي ما عساه يخالفه، فإنهما قد يتطاوعان في وقت ويختلفان في وقت، وقد يتطاوعان في شيء ويختلفان في شيء آخر.

بيان آداب الداعية وما ينبغي أن يكون عليه من التدرج في الدعوة

بيان آداب الداعية وما ينبغي أن يكون عليه من التدرج في الدعوة وفي هذا الحديث: الأمر بالتبشير بفضل الله، وعظيم ثوابه، وجزيل عطائه وسعة رحمته، والنهي عن التنفير بذكر التخويف وأنواع الوعيد محضاً، فترى الواعظ لا يعرف للجنة طريقاً، تخصصه دائماً نار، فلا يحسن أن يتكلم إلا عن النار، وفي ذلك تنفير للناس من رحمة الله عز وجل، فتجد ضعيف الإيمان في أول طريقه يقول: ما دامت المسألة كلها نار نار نار فلماذا نصلي؟ ولماذا نصوم؟ ولماذا نزكي ونحج؟ ويترك الفرائض والواجبات ويرتكب المحرمات حتى يقع في الشرك البواح؛ لأن هذا الواعظ ما أحسن أن يأخذ بمفاتيح قلبه، ولا بد للواعظ أن يكون عالماً بما يريح القلوب، عاملاً به، فمثلاً المحسوسات لو أردت أن تفتح باب المسجد بمفتاح ليس هو مفتاحه، فمن الممكن أن تقف مائة عام على الباب ولا يمكن أن تفتح هذا الباب وهو جماد؛ وذلك لأنك لم تُحسن اختيار المفتاح الذي يُستخدم في فتح هذا الباب، ولكل قلب مفتاح، فعلى الداعية أن يتلون على كل وجه، كأن يكون لطيفاً مع الناس، وهذا يفتحه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا يفتحه بالكلام عن القلوب وأنواع القلوب، وهذا يفتحه بمسألة فقهية، وهذا بمسألة علمية، وهكذا. فينبغي أن يكون الداعية أهلاً لهذا كله، يعرف مغاليق القلوب، ومفاتيح القلوب كذلك. قال: (وفيه: تأليف من قرب إسلامه). يذكر أن شخصاً أسلم وحضر مجلساً إسلامياً، فقال له الشيخ: أنت أسلمت لماذا؟ قال: يا شيخ! لأن الإسلام هذا جميل وحلو. قال الشيخ: فأين مظاهر الجمال؟ أقول لك: لا تظن أننا سعيدون بإسلامك أبداً، فنحن عندنا ملايين المسلمين، فنحن غير محتاجين إليك، والله لو تذهب في داهية فهو أحسن لنا. والله حدث هذا الكلام، وهذا شيء سيئ جداً والله!! وكانت هناك راهبة كبيرة وكان لها تأثير عجيب في وسط النساء النصرانيات، فأخذت ما يزيد على (200) من نساء النصارى، وذهبت بهن إلى مكان من الأمكنة حتى يشهرن إسلامهن، وهذه المرأة الراهبة معروفة بإسلامها وجهدها الطيب على نساء النصارى، وكانت تعرف المفاتيح والأقفال، فقالت لأحد المسئولين: أتيتك بغنيمة، وهي أن (200) امرأة تم إسلامهن على يدي، فقال لها: لا أريد أحداً أن يسلم، خذيهن واذهبي بهن إلى الخارج. وخرجت هذه المرأة من عنده وهي تقول: ما خرجت مترددة في ترك الإسلام إلا في هذا الموقف، وما قالت هذا الكلام إلا من فرط غضبها. قال: (وفيه: تأليف من قرب إسلامه، وترك التشديد عليه). يقول العلماء: لا تُطلق أحكام الكفر على المعيّن إلا بعد قيام الحجة عليه، فربما كان جاهلاً أو قريب عهد بجاهلية أو قريب عهد بالإسلام، فكلاهما يصلح. أذكر أن امرأة أسلمت في أمريكا وكانت تزني -عياذاً بالله- لتنفق على أولادها، وحينما كلمناها في حرمة الزنا، قالت: والله أنا لا أعلم أن الزنا حرام، كنت أظن أن الزنا فقط مجرد عيب، وأنا الآن متعبة وأستحي من هذا العمل. وتسميه عملاً. تقول: فأنا أتعاطى حبوباً أو شيئاً من الحقن حتى لا أشعر بهذه العملية الفظيعة في أثناء وقوعها. وكذلك من قارب البلوغ من الفتيات، فعندما نعرف أن البنت حاضت، نريد أن نجري عليها أحكام الإسلام كما لو كانت بنت ابن تيمية، فتجد الأب من أول لحظة يقول لها: أنت الآن أصبحت مكلّفة بجميع تكاليف الإسلام وأحكامه وشرائعه، ويبدأ يملي عليها ويقعد لها كالصقر، مع أنها من سن السابعة إلى يومنا هذا لم يعلمها أبوها شيئاً، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (علموا أولادكم الصلاة لسبع). ومذهب الجماهير: أن الصلاة ليست مذكورة لعينها، بل يقاس عليها غيرها من تكاليف الإسلام وأحكامه من حلال وحرام وفرائض وغير ذلك؛ حتى إذا بلغ سن التكليف كان قد تجاوز مرحلة التدريب العملي على الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج وغير ذلك، والصحابة رضي الله عنهم قاموا بذلك خير قيام، فكانوا يعطون الحلوى أو الدينار أو غير ذلك للولد إذا صام إلى الظهر، أو إذا صام إلى العصر، وكانوا يدربونهم على الصلاة، حتى إذا بلغوا كانوا قد تعلموا أحكام الإسلام، لكنك أنت تريد أن تلزمها بفرائض الإسلام وأحكامه بمجرد أن تبلغ، دون أن يسبق ذلك فترة تعليم أبداً، وهذا تصرف لا يصح. أذكر أنه في السودان لما أعلنوا تطبيق الشريعة الإسلامية والعمل به بدءوا بإقامة الحدود، وهذا تخبّط. هل تقام الحدود على أمة غرقت مئات السنين في العلمانية وفي المعاصي ومخالفة الأمر والابتعاد عن كتاب الله وسنة رسوله؟ فهم أناس لا يعلمون شيئاً عن دينهم، فكان لا بد أن يسبق هذه المرحلة مدة من الزمان تبلغ السنوات؛ لتعليم هذه الأمة أحكام دينها، ثم بعد ذلك تبدأ العقوبة. ومن ارتكب معصية وتاب، ترى من يعرف ذلك يشدد عليه حتى ييأس من رحمة الله عز وجل! والمفروض أن المرء إذا تاب يؤخذ بالرفق والرحمة واللين، بخلاف الإنسان الذي يعصي وهو يعلم أنه يعصي ويُدعى إلى التوبة فيستهزئ ويسخر، فمثل هذا تحذره من شفير جهنم، بخلاف من وقع في معصية ثم تاب منها وأتاك يضطرب قلبه وجلاً خائفاً، فلا شك أن التنفير في هذا الموطن يجعل المرء ييأس من

كتاب الجهاد والسير - تحريم الغدر

شرح صحيح مسلم - كتاب الجهاد والسير - تحريم الغدر الغدر صفة ذميمة وخلق مرذول، والغادر يرفع له يوم القيامة لواء ويفضح على رءوس الأشهاد، جزاء وفاقاً على ما كان يعتمل في صدره من السوء، وكما حرم الله الغدر في السلم فقد حرمه في الحرب، إلا ما يكون من الخدعة في الحرب فإنه جائز لما فيه من تسهيل ظهور المسلمين على أعدائهم، إلا أن يكون في الخدعة نقض لعهد أو أمان فحينئذ يدخل ذلك في الغدر المحرم.

باب تحريم الغدر

باب تحريم الغدر إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وبعد: فمع الباب الرابع من كتاب الجهاد: (باب تحريم الغدر).

شرح حديث: (يرفع لكل غادر لواء)

شرح حديث: (يرفع لكل غادر لواء) قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا محمد بن بشر وأبو أسامة - حماد بن أسامة -. (ح) وحدثني زهير بن حرب وعبيد الله بن سعيد -يعني: أبا قدامة السرخسي - قالا: حدثنا يحيى -وهو ابن سعيد القطان - وكلهم عن عبيد الله بن عمر العمري. (ح) وحدثنا محمد بن عبد الله بن نمير -واللفظ له- حدثنا أبي عبد الله بن نمير حدثنا عبيد الله عن نافع]. فمدار هذه الأسانيد كلها على عبيد الله بن عمر العمري يروي هذا الحديث عن نافع عن ابن عمر [قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يُرفع لكل غادر لواء، فقيل هذه غدرة فلان بن فلان)]. قال: (إذا جمع الله الأولين يوم القيامة)، (إذا) هنا زائدة وليست للشك، ولا بد أنهم مجموعون يوم القيامة. قال: (يُرفع لكل غادر لواء، فقيل: هذه غدرة فلان ابن فلان). والغدر هو نقض العهد ونقض الميثاق وعدم الوفاء به. فالغدر: هو النكوث عن الوفاء بالعهود والمواثيق، حتى وإن كان ذلك مع الكفار، والحديث عام: (يُرفع لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة فيقال: هذه غدرة فلان ابن فلان). ولعلكم تلحظون أن المرء ينادى باسمه وينسب إلى أبيه يوم القيامة، ولم يقل: يقال هذه غدرة فلان ابن فلانة. وإنما يقال: هذه غدرة فلان ابن فلان. وقد انطبع في أذهان العوام أن الناس يوم القيامة ينادى عليهم ويُنسبون إلى أمهاتهم، وهذا خطأ فادح، إنما يُنسب الرجل إلى والده. [حدثنا أبو الربيع العتكي قال: حدثنا حماد حدثنا أيوب أيوب بن أبي تميمة السختياني البصري. (ح) وحدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي حدثنا عفان -وهو ابن مسلم الصفار - حدثنا صخر بن جويرية كلاهما عن نافع]. أي: صخر وأيوب يرويان عن نافع، وهذا يعني: أنهما متابعان لـ عبيد الله بن عمر العمري في الإسناد الأول-[عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث].

شرح حديث: (إن الغادر ينصب الله له لواء يوم القيامة)

شرح حديث: (إن الغادر ينصب الله له لواء يوم القيامة) قال: [وحدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة وابن حجر -أي: علي بن حجر السعدي - عن إسماعيل بن جعفر عن عبد الله بن دينار -أي: المتابع لـ نافع - أنه سمع عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الغادر ينصب الله له لواء يوم القيامة). وهذا يدل على أن الذي يتولى نصب اللواء بيده هو الله عز وجل، وما تولى الله عز وجل فعل شيء بنفسه إلا لعظم هذا الشيء في الخير للحض عليه، أو في الشر للزجر عنه. قال: [(إن الغادر ينصب الله له لواء يوم القيامة فيقال: ألا هذه غدرة فلان)].

شرح حديث: (لكل غادر لواء يوم القيامة)

شرح حديث: (لكل غادر لواء يوم القيامة) قال: [حدثني حرملة بن يحيى التجيبي المصري قال: حدثنا ابن وهب -وهو عبد الله بن وهب القاضي المصري - أخبرني يونس عن ابن شهاب - يونس إذا جاء بين ابن وهب وابن شهاب فهو يونس بن يزيد الأيلي لا ريب- عن حمزة وسالم ابني عبد الله بن عمر عن أبيهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لكل غادر لواء يوم القيامة). وحدثنا محمد بن المثنى وابن بشار -وهما فرسا رهان في العلم والعمل والعبادة والسن، حتى في سنة الوفاة ماتوا في سنة واحدة- قالا: حدثنا ابن أبي عدي. ح وحدثني بشر بن خالد أخبرنا محمد -يعني: ابن جعفر الملقب بـ غندر - كلاهما عن شعبة عن سليمان -وشعبة إذا روى عن سليمان فإنما هو سليمان بن مهران الأعمش أبو محمد الكوفي الإمام الكبير المشهور- عن أبي وائل شقيق بن سلمة الكوفي عن عبد الله أي: ابن مسعود رضي الله عنه -وإذا ذُكر عبد الله في طبقة الصحابة غير منسوب فإنما هو عبد الله بن مسعود خاصة إذا كان الإسناد كوفياً- قال: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لكل غادر لواء يوم القيامة يقال: هذه غدرة فلان)]. فقد ورد حديث عبد الله بن عمر، ثم من بعده حديث عبد الله بن مسعود. قال: [وحدثنا إسحاق بن إبراهيم -المعروف بـ ابن راهويه المروزي - أخبرنا النضر بن شميل. (ح) وحدثني عبيد الله بن سعيد حدثنا عبد الرحمن -أي: ابن مهدي - جميعاً عن شعبة في هذا الإسناد]. يعني: عن شعبة عن سليمان بن مهران الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود. [وليس في حديث عبد الرحمن: يقال: (هذه غدرة فلان) وإنما فيه: (لكل غادر لواء يوم القيامة) ولم يذكر عبد الرحمن بن مهدي: (فلان بن فلان) واقتصر على ذكر بعض الحديث دون تمامه وكماله. [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا يحيى بن آدم عن يزيد بن عبد العزيز عن الأعمش عن شقيق -وهو أبو وائل - عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لكل غادر لواء يوم القيامة يُعرف به. يقال: هذه غدرة فلان)]. أما الحديث الثالث وهو حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. قال: [حدثنا محمد بن المثنى وعبيد الله بن سعيد قالا: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن شعبة عن ثابت -تلميذ أنس بن مالك وهو ثابت بن أسلم البناني البصري - عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لكل غادر لواء يوم القيامة يُعرف به). وحدثنا محمد بن المثنى وعبيد الله بن سعيد قالا: حدثنا عبد الرحمن -أي ابن مهدي - حدثنا شعبة عن خليد عن أبي نضرة -وأبو نضرة هو المنذر بن مالك بن قطعة - عن أبي سعيد الخدري - سعد بن مالك بن سنان المدني وهذا هو الحديث الرابع- قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة)]. فلكل غادر لواء يُغرز عند استه. أي: عند مقعدته ومؤخرته، فلو أن كل غادر يعلم فضيحته على رءوس الأشهاد يوم القيامة ما غدر أحد قط، والتزم الناس بمواثيقهم وعهودهم، فالذي يغدر في عهده أو ميثاقه أو في شرطه بغير عذر حري به أن يؤتى يوم القيامة فيُفضح على رءوس الأشهاد، ويُرفع له لواء عند استه ويراه الناس، كما أنه ينادى على الملأ: هذه غدرة فلان ابن فلان.

شرح حديث: (لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدره)

شرح حديث: (لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدره) قال: [وحدثنا زهير بن حرب حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث حدثنا المستمر بن الريان حدثنا أبو نضرة عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لكل غادر لواء يوم القيامة يُرفع له بقدر غدره)]. أي: إذا كانت الغدرة عظيمة جداً يرفع له لواء عظيم جداً، فالزيادة في هذا الحديث تبيّن أن قدر الراية على قدر الغدر، فإذا كان الغدر عظيماً جداً ومضرته متعدية فسيكون اللواء عظيماً جداً والفضيحة أشد عظماً، وإذا كانت الغدرة بسيطة وسهلة ومن الممكن أن تتدارك، فإن اللواء يُرفع على قدر الغدرة. تصور -مثلاً- أن راعياً يغش رعيته، أو أميراً يغش من تأمّر عليهم، أو خليفة يغش أمة بأسرها، فإنه سيكون لواءه أعظم لواء، فعندما تُبعث من القبور ترى لواءه في أرض المحشر، أعظم لواء يراه الناس من بعيد؛ وذلك لغدره الذي غدر به، ضيّع أمته، وضيّع دينه، فحينئذ يكون لواؤه أعظم لواء؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما من راع يسترعيه الله رعية لم يحطها بنصيحة إلا لم يدخل معهم الجنة) فإذا لم يكن بقدر المسئولية ولم يأنس من نفسه رشداً كما آنس يوسف عليه السلام: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55]؛ لأنه آنس من نفسه رشداً وهو نبي، وذلك لما علم أنه لا أحد في هذا البلد يؤتمن على خزائن المال، ففرض عين عليه حينئذ أن يكون أميناً على خزائن المال، وهذه ليست تزكية للنفس، وإنما هي فرض عين عليه، ولا يصلح في هذا الموطن الهروب وليس من الورع في شيء، أما أن يعلم أنه ليس أهلاً لذلك ويطلب الإمارة أو الولاية أو السلطة ويغدر ويغش رعيته، فالأحرى أن يُفضح في الدنيا والآخرة. قال: [(لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدره، ألا ولا غادر أعظم غدراً من أمير عامة)]. وليس هناك أعظم جرماً من رجل استرعاه الله تعالى رعية ولم يحطهم بنصيحة ويعلمهم العلم الشرعي، ويقيمهم على الجادة، ويحضهم على السنن، وينهاهم عن البدع، وإذا علمهم وحضهم على السنن ونهاهم عن البدع فلا شك أنه قد أدى ما عليه، وأجره عند الله عز وجل. قال الإمام: (اللواء: هو الراية العظيمة، لا يمسكها إلا صاحب جيش الحرب أو صاحب دعوة الجيش، ويكون الناس تبعاً له). فمعنى (لكل غادر لواء) أي: علامة يُشهر بها في الناس؛ لأن اللواء أعظم خاصية فيه الشهرة والاجتماع عند الرئيس، وقد كان هناك عرب تنصب الألوية في الأسواق المليئة بالناس لغدرة الغادر تشهره بذلك، فيسأل الناس: لمن رُفعت هذه الراية؟ فيقولون: لفلان. إنه غدر في كذا وكذا. فغالب رفع الراية عند العرب للغدر فيما يسمى بالجوار، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أجرنا من أجرت يا أم هانئ) والإجارة أو الجوار: هو كف الأذى عن المجار أياً كان مسلماً أو كافراً، وهذا أمر معروف عند العرب للمؤمن والكافر، وأنتم تعلمون أن أبا بكر الصديق دخل في جوار ثم خرج منه، والنبي صلى الله عليه وسلم دخل في جوار وخرج منه، والمشركون دخلوا في جوار النبي عليه الصلاة والسلام وفي جوار أبي بكر وفي جوار أم هانئ. وكان المجير يخرج إلى الكعبة وينادي في الناس: إن فلاناً دخل في جواري أو دخل في جوار فلان. وهذا يعني: ألا يتعرض له أحد بإيذاء وإلا فهذا انتهاك لحرمة القبيلة كلها. والغادر هو: الذي يواعد على أمر ولا يفي به. وكذلك يقال: غدر يغدر -بالكسر-.

تحريم الغدر وذم أهله

تحريم الغدر وذم أهله في هذه الأحاديث: بيان غلظ تحريم الغدر لا سيما من صاحب الولاية العامة؛ لأن خطره عظيم، وغدره يتعدى ضرره إلى خلق كثيرين. وقيل: لأنه غير مضطر إلى الغدر، ولا شك أن الفقير الكذّاب مبغض عند الله، والذي هو أشد منه بغضاً: الملك الكذّاب؛ لأنه ليس في حاجة إلى الكذب. كذلك الكبر من الغني مبغض، لكنه يكون أشد بغضاً من الفقير. وكذلك الغادر إذا كان صاحب ولاية عامة فغدره أشد بغضاً وعقوبة وإثماً من الذي لا يتعدى ضرره إلى الآخرين، والمشهور أن هذا الحديث وارد في ذم الإمام الغادر. أي: إمام العامة. لكن القاضي عياض ذكر احتمالين. قال: (أحدهما: أن هذا الحديث ورد في ذم الغادر من الأئمة الغادرين، وهو نهي الإمام أن يغدر في عهوده لرعيته وللكفار وغيرهم، أو غدره للأمانة التي تقلدها لرعيته والتزم القيام بها، والمحافظة عليها، ومتى خانهم أو ترك الشفقة عليهم أو الرفق بهم فقد غدر بعهده). أي حينما يُعَيَّن فلان من الناس والياً أو رئيساً أو زعيماً أو غير ذلك فمن الطبيعي أنهم يضعون يده على المصحف ويقولون: احلف باليمين الدستوري أقسم بالله أقسم بالله أقسم بالله أن أعمل بكتاب الله، وبسنة رسول الله، وأن أرعى مصالح الأمة، ومصالح الشعب -أخذوا كأنه شيء عادي بلادي بلادي، لكِ حبي وفؤادي- وقبل أن يخرج من المجلس يكون قد غدر بالكتاب، والسنة، والأمة. أليس هذا بغدر؟ بلى. انظروا إلى الأحكام الشرعية والمصطلحات الشرعية أصبحت محل استهزاء الناس. قال: (والاحتمال الثاني: أن يكون المراد: نهي الرعية عن الغدر بالإمام، فلا يشقوا عليه العصا ولا يتعرضوا لما يخاف حصول فتنة بسببه). والصحيح الأول.

باب جواز الخداع في الحرب

باب جواز الخداع في الحرب الباب الخامس: (باب جواز الخداع في الحرب). انظر إلى اللفتة الطيبة للإمام مسلم، ثم من بعده تبويب الإمام النووي، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لكل غادر لواء يُرفع له عند استه يُعرف به. يقال: هذه غدرة فلان ابن فلان)، ويقول عليه الصلاة والسلام: (الحرب خدعة)، فلذلك قام الإمام مسلم بسردها متتابعة في بابين؛ حتى يفرّق بين الغدر، وبين الخداع في الحرب، ويُعلم أن الخداع في الحرب ليس من باب الغدر. قال: [وحدثنا علي بن حجر السعدي وعمرو الناقد وزهير بن حرب -واللفظ لـ علي وزهير. قال علي: أخبرنا، وقال الآخران: حدثنا سفيان -أي: ابن عيينة - قال: سمع عمرو جابراً -وعمرو هو ابن دينار المكي - سمع جابر بن عبد الله الأنصاري يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحرب خُدعة)] أو (خدْعة) أو (خُدَعة) على ثلاث لغات. [وحدثنا محمد بن عبد الرحمن بن سهم قال: أخبرنا عبد الله بن المبارك أخبرنا معمر بن راشد البصري عن همام بن منبه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحرب خدعة).

جواز الخداع في الحرب وتحريم نقض العهد والميثاق

جواز الخداع في الحرب وتحريم نقض العهد والميثاق اتفق العلماء على جواز خداع الكفار في الحرب، كيفما أمكن الخداع إلا أن يكون فيه نقض عهد أو أمان فلا يحل، والكلام هذا في غاية الأهمية، فلو أنه نقض عهد أمان أو ميثاق أمان، فهذا نسميه غدراً. إذاً: الأول: خدعة. والثاني: غدر. ومن الأمثلة على الخدعة في الحرب: الإغارة على العدو بياتاً أو صباحاً، فيأتي المسلمون صبحاً، وليس هناك مجال إلا التسليم ورفع الراية، وذلك بالدخول عليهم من غير إنذار سابق، وقد سبق لهم العلم بالإسلام فلم يدخلوا فيه، وأنتم تعلمون أن مذهب الجماهير بجواز الإغارة على العدو ما دامت الدعوة قد بلغته، ولا يلزم الإنذار الخاص، فحينئذ يجوز التبييت أو التخضيع أو الإغارة ليلاً أو نهاراً بغير إذن، وهذا من باب الخدعة. مثال آخر: أن يرسل أمير الجيش إلى العدو: لقد أتيناكم في ألف بعير وخمسمائة فرس، ونحن قادمون إليكم وسنفعل بكم كيت وكيت وكيت، وفي حقيقة الأمر معهم مائة ألف بعير، وهو في رسالته لم يكذب، بل بالفعل أتى ومعه ألف بعير وزيادة، فرتّب العدو جيشه على اعتبار أن جيش المسلمين هو جيش العدو بالنسبة لهم. كذلك حفر الخنادق خدعة حتى إذا أتى العدو وقع في الخندق، وغير ذلك من الخدع التي يصطنعها الناس في حروبهم، فالحرب خدعة إلا أن يكون في هذه الخدعة نقض عهد أو أمان فلا يحل حينئذ. مثال ذلك: أتيت العدو وأخذ مني عهداً وميثاقاً أن يكون بيننا هدنة عشر سنوات، فقمت أنا بالقتال في العام السابع أو الثامن أو التاسع دون أن ينقض العدو العهد، فهذا لا يحل في الشرع، وإنما يحل الحرب بعد انتهاء المدة المعروفة بيننا، أما في أثناء العهد والأمان فلا يحل بحال إلا إذا نقض العدو العهد أو الميثاق، فحينئذ لم يأت الغدر من قبلي، وإنما أتى من قِبله.

بيان الحالات التي يجوز فيها الكذب

بيان الحالات التي يجوز فيها الكذب وقد صح في الحديث جواز الكذب في ثلاثة أشياء: أحدها: في الحرب، والكذب على الزوجة، والكذب للإصلاح بين المتخاصمين -الكذب الصريح- لكن بعض أهل العلم قالوا: الكذب هنا المقصود به: المعاريض، وفي حقيقة الأمر مذهب جمهور العلماء: أن الكذب الصريح حلال في هذه المواطن. فأقول: معي مائة ألف فرس، ولم يكن معي إلا مائة فرس فقط، فهذا لا شك أنه صريح، لكني ما قلته إلا لإرهاب العدو. وكذلك الكذب على الزوجة، كأن تقول لها: ما أجملكِ وألطفكِ وأنعمكِ، وهي في الحقيقة في قمّة الدمامة وثقل الدم وقلة الأدب وغير ذلك، لكنك تقول لها هذا الكلام حتى يتلطّف الجو بينك وبينها. وكذلك الصلح بين المتخاصمين، وهذا يقابل النميمة، فالمختصمان كل منهما ثائر وغاضب في وجه صاحبه، وفي غيبته يسبه ويشتمه ويلعنه، فأنت تذهب إلى أحدهما وتقول له: قال فيك فلان: كذا وكذا ويثني عليك خيراً ويحبك، ويعجب من تفريق الشيطان بينكما وغير ذلك، فلا شك أن الثاني مع التكرار يقبل هذا الكلام، وتذهب للثاني وتقول له مثلما قلت للأول، فلا شك أن هذا يبعث في القلوب التآلف والتحاب والتواد. أما النميمة، فهي: أن تأخذ كلاماً من فلان وتذهب به إلى علان وتقول: هو قال عنك كذا، بل وتزيد عليه من عندك كلاماً حتى تزيد العداوة بين الاثنين، فهذه هي النميمة، وكفى فيها قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يدخل الجنة نمّام) أي: لا يدخل الجنة لأول وهلة، والنميمة كبيرة من الكبائر. قال الطبري: إنما يجوز من الكذب في الحرب المعاريض دون حقيقة الكذب. وهذا الكلام يُرد به على الإمام الطبري عليه رحمة الله.

باب كراهة تمني لقاء العدو والأمر بالصبر عند اللقاء

باب كراهة تمني لقاء العدو والأمر بالصبر عند اللقاء الباب السادس: (باب كراهة تمني لقاء العدو والأمر بالصبر عند اللقاء). أي: لا تتمن لقاء العدو، لكن إذا لقيته فاصبر، فإذا صار أمراً مقدراً حتماً فإنه يجب عليك في حينه الصبر، فعليك أن تسلك المسلك الطيب والنهج المستقيم، وهو أن تدعو الله عز وجل أن يصرف عنك عدوك مهما كان، حتى لو كان من المسلمين، أن تدعو الله أن يصرف عنك كيد الكائدين وعداوة الأعداء، لكن إذا لقيت العدو فحينئذ وجب عليك الصبر.

شرح حديث النهي عن تمني لقاء العدو

شرح حديث النهي عن تمني لقاء العدو [حدثنا الحسن بن علي الحلواني وعبد بن حميد قالا: حدثنا أبو عامر العقدي عن المغيرة -أي: ابن عبد الرحمن الحزامي - عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تمنوا لقاء العدو فإذا لقيتموهم فاصبروا)] أي: فإذا كان أمراً واقعاً حتماً مفروضاً فالذي يجب عليكم حينئذ الصبر. [حدثنا محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج أخبرني موسى بن عقبة عن أبي النضر عن كتاب رجل من أسلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقال له: عبد الله بن أبي أوفى] وهو صحابي مشهور، مصري. وانظر هنا إلى قول موسى بن عقبة: عن أبي النضر عن كتاب رجل من أسلم. أي: أنه لم يسمع، وإنما نقله من كتاب؛ ولذلك العلماء يقولون: من أسانيد التحمل: الوجازة أو الكتابة أو الإجازة، والإجازة شرحها يطول، فنكتفي بالكتابة أو الوجازة. ما هي الكتابة؟ أن أكتب لك بخط أنت تعرفه، مذيلاً باسمي وأقول: ارو عني هذا. فهذه تسمى كتابة مشفوعة بالإجازة. أما الكتابة غير المشفوعة بالإجازة: فهي التي يسميها العلماء بالوجادة. والوجادة: هي أن يترك عالم كتاباً له معروفاً بخطه ومعروفاً بأن هذه الأحاديث من حديثه توجد في مكان يغلب أنها من روايته كالبيت، فإذا مات الرجل وجد هذا الكتاب في بيته، وعلم أن هذه أحاديثه كان يحدّث بها، وأن هذا خطه، لكنه غير مذيل فحينئذ أقول: وجدت في كتاب فلان: (قال: حدثنا فلان قال: حدثنا فلان إلى آخر الحديث)، كما لو أتيت لتنظر في مسند الإمام أحمد بن حنبل فإنك تجد فيه زيادات لـ عبد الله ابن الإمام أحمد. قال: وجدت في كتاب أبي قال: حدثنا فلان، ولا يخفى على عبد الله بن أحمد بن حنبل أحاديث أبيه، كما لا يخفى عليه خطه ابتداء، قد وجد عبد الله كتباً في غرفة أبيه بعد وفاته لم يسمعها منه، فحدّث بها وجادة. كذلك أبو النضر يقول: عن كتاب. أي: إني أُحدثكم من كتاب رجل من أسلم يقال له: عبد الله بن أبي أوفى من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام. ولو قال أبو النضر: وجدت في كتاب قال: حدثنا فلان، لما كان الحديث صحيحاً. لأنه سيكون فيه انقطاع وجهالة. قال: [فكتب إلى عمر بن عبيد الله حين سار إلى الحرورية -ليحاربهم- يخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في بعض أيامه التي لقي فيها العدو ينتظر حتى إذا مالت الشمس قام فيهم فقال: (يا أيها الناس! لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية)] أي: لا تتمنوا لقاء العدو بقلوبكم وألسنتكم، واسألوا الله تعالى بقلوبكم وألسنتكم العافية. قال: [(فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف، ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم وقال: اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب! اهزمهم وانصرنا عليهم)]. قوله: (اللهم منْزل الكتاب) فيه لغتان: منْزل ومنزّل.

الحكمة من النهي عن تمني لقاء العدو

الحكمة من النهي عن تمني لقاء العدو وإنما نهى صلى الله عليه وسلم عن تمني لقاء العدو؛ لما فيه من صورة الإعجاب والاتكال على النفس، والوثوق بالقوة، وهو نوع من البغي. أي: أن الإنسان يبغي على نفسه في هذا الموطن، إلا أن يلزم من ذلك النزال. ولأنه يتضمن قلة الاهتمام بالعدو واحتقاره، وهذا من أعظم أسباب الفشل، كأن تقول: من هي إسرائيل؟ إنما هم قليل لا يتجاوز عددهم مليوني نسمة، فلو أن الواحد منا بصق لأغرقهم. هذا الكلام صحيح، لكن هذا لا يدعونا إلى الاستهانة بقوة العدو. قال: (وتأوله بعضهم على أن النهي عن التمني في صورة خاصة، وهي إذا شك في المصلحة فيه وحصول ضرر، وإلا فالقتال كله فضيلة وطاعة). لكن الصحيح هو الرأي الأول، ولهذا تممه عليه الصلاة والسلام بقوله: (واسألوا الله العافية) وقد كثرت الأحاديث في الأمر بسؤال العافية، وهي من الألفاظ العامة المتناولة لدفع جميع المكروهات في البدن والباطن في الدين والدنيا والآخرة. اللهم إني أسألك العافية العامة لي ولأحبائي ولجميع المسلمين -هذا دعاء الإمام النووي - اللهم آمين.

الصبر آكد أركان القتال

الصبر آكد أركان القتال وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (وإذا لقيتموهم فاصبروا) فهذا حث على الصبر في القتال، وهو آكد أركان القتال. فأهم شيء في القتال: الصبر؛ لأن بريق السيوف فتنته عظيمة جداً، ولو أيقن المرء أنه لا يصاب من هذا السيف إلا كما يشعر أحدنا بوخز الإبرة لصبر، لكن بريق السيف فتنة في حد ذاته. ولذلك سأل الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم: ما بال الناس يُفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة) أي: فوق رأسه فتنة، وقد أغناه ذلك عن أن يفتن في قبره على يد منكر ونكير. وقد جمع الله سبحانه آداب القتال في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال:45] والثبات بمعنى: الصبر {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال:45 - 46] أطيعوا الله ورسوله خاصة في موطن القتال، وموطن المواجهة واللقاء، فلو أن قائد الجيش قال: قاتلوا يمنة، فتقول: لا لا، نحن لا نرى أن القتال يمنة بل نقاتل يسرة. يقول: تقدموا. نقول: تأخرنا. تأخروا تقول: تقدمنا. إذا كان الأمر كذلك فإنه لا يمكن أبداً لهذا الجيش أن يكتب له النصر ولا النجاح، بل لا بد أن يسمع كلام القائد، وإن بدا أن كلام القائد غير صحيح فلا أقل من أنه معذور في ذلك بلا نزاع، حتى وإن كان كلامه في عين الحقيقة ليس كلاماً سديداً، ولكنه بذل وسعه واجتهد رأيه في إقامة الحق، فهذا لا إثم عليه، كما أن هذا لا يبيح للجيش أن يخالف، بل يجب عليهم جميعاً أن يمتثلوا أمره ويلتزموا طاعته، قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} أي: قوتكم {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا} [الأنفال:46 - 47] أي: فخراً وعجباً ورياء {بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ} [الأنفال:47] أي: ورياء للناس {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال:47]. فهذه الآيات قد جمعت آداب الجهاد في سبيل الله وبعض أحكام الجهاد في سبيل الله عز وجل.

الجهاد في سبيل الله سبب في تحصيل الجنة

الجهاد في سبيل الله سبب في تحصيل الجنة قوله: (واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف). قال الإمام النووي: (معناه: ثواب الله). هذا تأويل غير سائغ ولا مقبول من الإمام النووي، بل ينبغي إجراء هذا الكلام على ظاهره، أن الجنة تحت ظلال السيوف. أي يحصّل المرء النعيم السرمدي الأبدي في جنة عرضها السماوات والأرض بسبب الجهاد في سبيل الله عز وجل. وفي الحديث: (إن الله تعالى أعد للشهيد مائة درجة في الجنة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض). وفي رواية: (ما بين كل درجتين مسيرة خمسمائة عام). فالجهاد هو السبب الموصل إلى الجنة عند الضرب بالسيوف في سبيل الله، فاحضروا فيه بصدق واثبتوا.

بيان الأوقات التي كان يقاتل فيها النبي صلى الله عليه وسلم العدو

بيان الأوقات التي كان يقاتل فيها النبي صلى الله عليه وسلم العدو قوله: (حين سار إلى الحرورية، يخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في بعض أيامه التي لقي فيها العدو ينتظر، حتى إذا مالت الشمس قام فيهم فقال: (يا أيها الناس) إلى آخر الحديث. أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقاتل الناس إذا مالت الشمس ناحية الغرب. فمعنى: مالت: تضيّقت إلى ناحية الغرب وظهر الفيء. أي: كان النبي صلى الله عليه وسلم يغير على العدو ويقاتله بعد صلاة الظهر، وربما يكون ذلك لمصلحة متعلقة بالصلاة، أنه كان يجمع الظهر والعصر جمع تقديم، ويؤخر المغرب إلى العشاء جمع تأخير لحاجة الحرب. والله أعلم. قال: في هذا الحديث: أن النبي عليه الصلاة والسلام انتظر حتى مالت الشمس، فقام فيهم فقال: (يا أيها الناس!) إلى آخره. ففي هذا الحديث وفي غيره: أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا لم يقاتل أول النهار انتظر حتى تزول الشمس، والمعروف أن النبي صلى الله عليه وسلم كان معظم قتاله بعد صلاة الصبح، لكنه كان يؤخر القتال أحياناً لحاجة الحرب أو لجهد أصحابه حتى يأخذ الصحابة قسطاً من الراحة أو غير ذلك. قال العلماء: سببه أنه أمكن للقتال -يعني: سبب التأخير إلى الظهر أنه أمكن للقتال- فإنه وقت هبوب الريح ونشاط النفوس، وكلما طال ازدادوا نشاطاً وإقداماً على عدوهم وقد جاء في صحيح البخاري: أخّر حتى تهب الأرواح وتحضر الصلاة. قالوا: وسببه: فضيلة أوقات الصلوات والدعاء عندها. قوله: (ثم قام النبي عليه الصلاة والسلام فقال: (اللهم منزل الكتاب، ومجرى السحاب، وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم)) فيه استحباب الدعاء عند اللقاء والاستنصار. أي: طلب النصر من الله عز وجل.

باب استحباب الدعاء بالنصر عند لقاء العدو

باب استحباب الدعاء بالنصر عند لقاء العدو الباب السابع: (باب استحباب الدعاء بالنصر عند لقاء العدو) أو التكبير -الله أكبر- في الحرب خاصة عند كل شرف، وهذا مسنون حتى في غير الحرب، فعند أي مكان مرتفع وأنت تصعده تقول: الله أكبر الله أكبر، وإذا نزلت تقول: سبحان الله. [حدثنا سعيد بن منصور قال: حدثنا خالد بن عبد الله -وهو الطحان الواسطي - عن إسماعيل بن أبي خالد الأحمسي عن عبد الله بن أبي أوفى قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب فقال: (اللهم منزل الكتاب سريع الحساب! اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم). وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع بن الجراح عن إسماعيل بن أبي خالد قال: سمعت ابن أبي أوفى -وهو عبد الله - يقول: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل حديث خالد]. ولا يظن الظان أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع خالداً يدعو فقام يدعو. قال: [بمثل حديث خالد، غير أنه قال: (هازم الأحزاب) ولم يذكر قوله: (اللهم)]. قال: [وحدثناه إسحاق بن إبراهيم -الذي هو ابن راهويه - وابن أبي عمر جميعاً عن سفيان بن عيينة عن إسماعيل بهذا الإسناد. وزاد ابن أبي عمر في روايته: (مجري السحاب). وحدثني حجاج بن الشاعر حدثنا عبد الصمد حدثنا حماد عن ثابت عن أنس: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول يوم أحد: اللهم إنك إن تشأ لا تُعبد في الأرض)] وفي رواية: (يوم بدر)، والجمع بينهما ممكن بإثبات الدعاء في بدر وفي أحد، ولا منافاة بين هذا وذاك. هذا كلام فيه حذف، وهذا من البيان، أنه يذكر بعض الكلام ويستغني عن بعضه الآخر للزومه وضرورته، وعدم استقامة الكلام إلا به. أما قوله: (اللهم اهزمهم وزلزلهم) أي: أزعجهم وحركهم بالشدائد، يعني: ما دام من تقدير الله تسلّط هؤلاء الكفار علينا، فمن تقدير الله عز وجل كذلك الدعاء الذي يقطع البلاء، فنحن ندعوك أن تهزمهم وتزلزلهم بالفتن والزلازل والبراكين والشدائد، وغير ذلك من البلايا التي تنزل بهؤلاء الكفار. قال العلماء: وفي هذا الحديث التسليم لقدر الله تعالى، والرد على غلاة القدرية الزاعمين أن الشر غير مراد ولا مقدّر، بل الشر مراد لله عز وجل، لكن إرادة كونية قدرية. وهذا الكلام متضمن أيضاً طلب النصر، وجاء في هذه الرواية أنه صلى الله عليه وسلم قال هذا يوم أحد، وقاله يوم بدر، وهو المشهور في كتب السير والمغازي، ولا معارضة، فقد قاله في الغزوتين صلى الله عليه وسلم.

باب تحريم قتل النساء والصبيان في الحرب

باب تحريم قتل النساء والصبيان في الحرب الباب الثامن: (باب تحريم قتل النساء والصبيان في الحرب). المقصود: بالصبيان: الصبيان الذين لم يشاركوا في الحرب. واليهود يقولون: أليس الدين الإسلامي يحرّم قتل الأطفال، إلا إذا شاركوا في الحرب؟ نقول لهم: ألستم تقتلون الأطفال الفلسطينيين، لأن الأطفال الآن هم الذين يحاربون؟! فإني أعجب ممن يركب الدبابة ويجري خلف الطفل!

شرح حديث النهي عن قتل النساء والصبيان

شرح حديث النهي عن قتل النساء والصبيان [حدثنا يحيى بن يحيى ومحمد بن رمح قالا: أخبرنا الليث. (ح) وحدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث عن نافع عن عبد الله: (أن امرأة وجدت في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: أن النبي عليه الصلاة والسلام هو الذي كان على رأس هذه الغزوة- مقتولة، فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل النساء والصبيان). فالذين ينهى عن قتلهم: النساء، ثم الصبيان، ثم الشيوخ. والشيوخ بمعنى: كبار السن، إلا أن يخرجوا مقاتلين محاربين إما مادياً أو معنوياً، فحينئذ يقتلون أصلاً. والمشاركة المعنوية: أن يخرج الواحد منهم -أي: من النساء والشيوخ الكبار- لرسم خطة الحرب. وأنتم تعرفون أن دريد بن الصمة كان قد تجاوز عمره (100) عام، وخرج مع المشركين للحرب، وليرسم لهم الخطة، فقال: تخرجون بأموالكم ونسائكم وأطفالكم؛ وذلك ليكون المال والنساء والأطفال أعظم حافز لكم على القتال والنزال وترك الفرار، وكانت هذه الخطة وبالاً عليهم، وهوجم الجيش وأُسر منهم مأسرة عظيمة، وقُتل منهم مقتلة عظيمة، وقتل دريد؛ لأنه خرج ليضع خطة الحرب، ولم يُنكر النبي عليه الصلاة والسلام قتله مع أنه شيخ، فأمثال هؤلاء إذا خرجوا محاربين وإن كان حرباً معنوياً فحينئذ لا بأس بقتالهم. وفي حديث عبد الله بن عمر قال: (وجدت امرأة مقتولة في بعض تلك المغازي، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان).

تحريم قتل النساء والصبيان

تحريم قتل النساء والصبيان أجمع العلماء على العمل بهذا الحديث، وتحريم قتل النساء والصبيان إذا لم يقاتلوا، فالنساء والصبيان، والشيوخ، والرهبان، والخدم والرعاة -خمسة أصناف- لا يُقتلون إلا إذا قاتلوا، كما أن الفلاح لا يُقتل؛ لأنه ليس محارباً. قال الإمام: (أجمع العلماء على العمل بهذا الحديث، وتحريم قتل النساء والصبيان إذا لم يقاتلوا). وهذا يعني: أنهم إذا قاتلوا قُتلوا. الأمر الثاني: أن العدو إذا تترس بهم قُتلوا تبعاً لا قصداً، كمن يتترس خلف امرأة فتقتل المرأة معه. إذاً: إذا تترس العدو بهؤلاء يُقتلون جميعاً، لكن لا يُقتلون إلا تبعاً، مثال ذلك: لم أجرؤ على قتل المرأة إلا لأجل الوصول إلى من وراءها ومن بعدها، فقُتلت تبعاً لا قصداً، وإذا لم يمكن الوصول إلى عدوي إلا بهذا الطريق فلا بأس بذلك، فإن قاتلوا -قال جماهير العلماء- يُقتلون، وأما شيوخ الكفار فإن كان فيهم رأي قتلوا. إذاً: النساء، والصبيان، والشيوخ، والخدم، والرهبان -خمسة أصناف- هؤلاء أمرنا الشرع بالكف عن قتلهم؛ لأنهم ليسوا أهل قتال، فإن زالت العلة زال الحكم، فإذا قاتل هؤلاء قتلوا قصداً.

باب جواز قتل النساء والصبيان في البيات من غير تعمد

باب جواز قتل النساء والصبيان في البيات من غير تعمد الباب التاسع: (باب جواز قتل النساء والصبيان في البيات من غير تعمد). الأصل فيهم عدم القتل إلا إذا قاتلوا، و (إلا) وما بعد (إلا) ناسخ لما قبلها. قال: (باب جواز قتل النساء والصبيان)، وهؤلاء يسميهم الشرع الذراري، فالذراري: الأولاد والنساء. قال: باب جواز قتل النساء والصبيان في البيات من غير تعمد. البيات هي: الإغارة على العدو ليلاً، فحينما أغير على العدو ليلاً هل أظل أنقّي وأقول: هذا طفل، وهذه امرأة؟ لا أستطيع؛ لأنني أضرب من بعيد، ولم آت لأفرز: هؤلاء أطفال، وهؤلاء نساء، وهؤلاء شيوخ، وهؤلاء رهبان، فقصدي قتل المحاربين، فلا يمنع أن يُقتل في الحالة هذه غير المحاربين من دون قصد، وحينئذ الأطفال والنساء والشيوخ والرهبان يُقتلون تبعاً لا قصداً، وفي هذه الحالة يأخذون حكم المحاربين. قال ابن عباس: عن الصعب بن جثامة قال: (سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الذراري من المشركين يبيتون فيصيبون من نسائهم وذراريهم؟ فقال: هم منهم). أي: أنهم والمحاربون سواء في الحكم، فليس عليكم شيء إن أغرتم عليهم ليلاً فاقتلوهم جميعاً؛ لأن حكمهم واحد: (هم منهم). وفي رواية عن الصعب كذلك قال: (قلت: يا رسول الله! إنا نصيب في البيات من ذراري المشركين. قال: هم منهم). ومن حديث ابن عباس عن الصعب كذلك: (أن النبي عليه الصلاة والسلام قيل له: لو أن خيلاً أغارت من الليل فأصابت من أبناء المشركين؟ قال: هم من آبائهم). يعني: هم وآباؤهم في الحكم سواء في الإغارة ليلاً. وتقديره: أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن حكم المشركين الذين يبيّتون فيصاب من نسائهم وصبيانهم بالقتل فقال: (هم من آبائهم) أي: لا بأس بذلك؛ لأن أحكام آبائهم جارية عليهم في الميراث وفي النكاح، وفي القصاص والديات وغير ذلك، والمراد: إذا لم يتعمدوا من غير ضرورة. وأما الحديث السابق في النهي عن قتل النساء والصبيان فالمراد به إذا تميزوا؛ ولذلك يقول الله تعالى: {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ} [الفتح:25] أي: لو تميزوا حينئذ لا يحل قتل النساء والصبيان والأصناف التي نهى عن قتلها الشرع. قال: {لَوْ تَزَيَّلُوا} [الفتح:25] أي: لو تميّزوا وتحيّزوا، هؤلاء في ناحية وهؤلاء في ناحية أخرى، حينئذ لا يحل قتل هؤلاء الأصناف التي نهانا الشرع عن قتلهم، فإن اختلطوا بهم ولم يمكن الوصول إلى المحاربين إلا بقتل هؤلاء؛ فيأخذون حكماً واحداً: (هم من آبائهم)، أي: أنهم في الحكم سواء. وهذا مذهب جماهير العلماء. وفي هذا الحديث: دليل على جواز البيات. أي: أن الحرب خدعة. قال: البيات: هي مفاجأة العدو ليلاً في عقر داره. وفيه: جواز الإغارة على من بلغتهم الدعوة من غير إعلامهم بذلك. وفيه: أن أولاد الكفار حكمهم في الدنيا حكم آبائهم، وأما في الآخرة ففيهم -إذا ماتوا- خلاف، فمنهم من قال: حكمهم في الآخرة حكم آبائهم -أي: كفار أيضاً- ومنهم من قال بالتوقف. أي: لا نحكم لهم بإيمان ولا بكفر. ومذهب ثالث قال: يُعقد لهم اختبار وابتلاء فإن نجحوا -أي: في التوحيد- ووحدوا الله تعالى دخلوا الجنة، وإلا فهم من أصحاب النار. والصواب: أن أطفال المشركين إذا ماتوا قبل بلوغ الحلم ولم يجر عليهم القلم فهم في الجنة. هذا الرأي الرابع وهو الصواب. والله تعالى أعلم.

باب جواز قطع أشجار الكفار وتحريقها

باب جواز قطع أشجار الكفار وتحريقها الباب العاشر: (باب: جواز قطع أشجار الكفار وتحريقها). أنتم تعلمون أن الشرع قد نهى عن قطع الأشجار، وقد أجاز مع وجود هذا النهي قطع أشجار الكفار وتخريب ديارهم بأيديهم وأيدي المؤمنين. [حدثنا يحيى بن يحيى ومحمد بن رمح قالا: أخبرنا الليث بن سعد المصري. وحدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث عن نافع عن عبد الله: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرّق نخل بني النضير وقطع)]. يعني حرّق جزءاً وقطع جزءاً من النخل، وكلمة النخل لا تطلق إلا على نفس التمر والبلح، ونخل بني النضير كان في مكان يسمى البويرة. [زاد قتيبة وابن رمح في حديثيهما: (فأنزل الله عز وجل: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} [الحشر:5])]. واللينة هي أنواع الثمر كلها، إلا العجوة كما يقول ابن منظور. وبعضهم قال: بل كل الأشجار والنخيل تسمى لينة للينها وتمايلها. قال تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر:5]. [حدثنا سعيد بن منصور وهناد بن السري قالا: حدثنا ابن المبارك عن موسى بن عقبة - وهو إمام المغازي والسير- عن نافع عن ابن عمر: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع نخل بني النضير وحرق)] أي: أنه قطع جزءاً وحرّق جزءاً، أو قطع النخل ثم حرّقه بعد ذلك. قال: [(ولها يقول حسان -أي: حسان بن ثابت رضي الله عنه يقول لذلك شعراً-: وهان على سراة بني لؤي حريق بالبويرة مستطير -والسراة: أشرف القوم- وفي ذلك نزلت: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً} [الحشر:5] الآية)]. قال الإمام: (وقد ذكرنا قبل هذا أن أنواع نخل المدينة مائة وعشرون نوعاً). وهذا ليس ببعيد، فأنت إذا ذهبت إلى المدينة المنورة أو مكة المكرمة إلى سوق التمور لوجدت هناك من الأنواع ما لا حصر له، منها الرديء ومنها الجيد، والغالي والرخيص. (وفي هذا الحديث: جواز قطع شجر الكفار وإحراقه، وبه قال عبد الرحمن بن القاسم ونافع مولى ابن عمر).

باب تحليل الغنائم لهذه الأمة خاصة

باب تحليل الغنائم لهذه الأمة خاصة الباب الحادي عشر: (باب تحليل الغنائم لهذه الأمة خاصة). النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (فُضّلت على الأنبياء بخمس. منها: وأُحلّت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي)، أما من كان قبل النبي صلى الله عليه وسلم من الأنبياء فقد كانوا يجمعون الغنائم ثم تنزل نار من السماء فتأكل هذه الغنائم. وهذا دليل على أن الله تقبّل هذه الغنائم من هذا النبي ومن كانوا معه. وعلِم الله تعالى ضعفنا وحاجتنا -خاصة في أول الرسالة المحمدية- إلى المال، فأحل الله تعالى لهذه الأمة الغنائم، قال: (فُضّلت على الأنبياء بخمس. منها: وأُحلّت لي الغنائم ولم تحل لأحد من الأنبياء قبلي). وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام: (غزا نبي من الأنبياء -قيل: هو يوشع بن نون عليه السلام- فقال لقومه: لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولما يبن) يقول لهم: أنا ذاهب لأحارب، فالذي يريد أن يأتي معي فليأت، ولكن بشرط ألا يكون فيكم من عقد على امرأة ولم يبن بها بعد؛ لأنه سيكون مشغولاً بحبيبة القلب، فهذا لا يصلح للجهاد، ولا بد للمجاهد أن يفرغ القلب تماماً لله عز وجل. قال: (وهو يريد أن يبن بها، ولمّا يبن) أي: أنه لم يبن بعد ولكنه سيبني في المستقبل، فـ (لمّا) لنفي الماضي وجواز تحقق المستقبل. (ولا آخر قد بنى بنياناً ولمّا يرفع سقفها)؛ لأن هذا الذي يبني بيتاً يتمنى لو أنه بلغ بهذا البيت التمام والكمال، فهو سيكون مشغولاً بذلك، وهذا لا يصلح للجهاد قال: (ولا آخر قد اشترى غنماً أو خلفات) والخلفات: هي الحوامل من الغنم والبقر وغير ذلك. قال: (وهو منتظر ولادها) وهذا رأس مال العرب. (قال: فغزا بمن معه، فأدنى للقرية حين صلاة العصر) أي أنه اقترب من القرية التي يريد القتال معها عند صلاة العصر. قال: (أو قريباً من ذلك، فقال للشمس) فهل هذه الشمس عاقلة وتسمع، وتؤمر فتأتمر بالأمر؟ قال الله: {فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11] جعل الله عز وجل لها إدراكاً ففهمت الأمر وأجابت، ولكل نبي معجزات، فقال هذا النبي للشمس: (أنتِ مأمورة وأنا مأمور) وانظروا إلى هذا الخطاب الجميل جداً بين النبي وبين آية من آيات الله وهي الشمس. أي: أنتِ مسخّرة وأنا مسخّر، كلانا عبد الله عز وجل. قال هذا النبي: (اللهم احبسها علي شيئاً). وهذا الحديث غصة في حلوق كثير ممن يُنسبون إلى العلم، فهم يقولون: هذا العلم من الخرافات مع أنه في الصحيحين، كيف يحبس الله الشمس بدعوة رجل؟ نقول هذا: الرجل في نفسه آية من آيات الله، ونبي من الأنبياء. قال: (فحبست عليه حتى فتح الله عليه)؛ وقد يكون ذلك إما لأنهم ما كانوا يحاربون إذا دخل الليل، أو أن ذلك محمول على أنه خشي فوات صلاة العصر، فدعا الله عز وجل أن يحبس عليه الشمس. أي: يوقفها ويثبتها فلا تتحرك ولا تغيب حتى يفتح الله عز وجل عليه هذه القرية. قال: (ففعل). قال: (فجمعوا ما غنموا، فأقبلت النار لتأكله فأبت أن تطعمه) أي: جمع الغنائم، ثم رفعها في قمة جبل لتنزل النار فتأكلها، فنزلت النار فلم تأكلها ولم تطعمها، وهذه علامة من علامات رد القربان، فمن المؤكد أن هناك شيء؛ لأن علامة قبول القربان والطاعة أن تأكل النار هذه الغنائم. فقال هذا النبي للجيش: (فيكم غلول) أي: أنه لا بد أن أحدكم غل وأخذ من الغنيمة وسرق، فقال: (فيكم غلول. فليبايعني من كل قبيلة رجل -يبايعني يعني: يصافحني- فبايعوه فلصقت يد رجل بيده، فقال: فيكم الغلول. فلتبايعني قبيلتك. فبايعته قال: فلصقت بيد رجلين أو ثلاثة، فقال: فيكم الغلول، أنتم غللتم، قال: فأخرجوا له مثل رأس بقرة من ذهب. قال: فوضعوه في المال وهو بالصعيد -أي: ألحقوه ببقية الغنائم على مكان مرتفع- قال: فأقبلت النار فأكلته، فلم تحل الغنائم لأحد من قبلنا -هذا الشاهد- ذلك بأن الله تبارك وتعالى رأى ضعفنا وعجزنا فطيبها لنا). وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

كتاب الجهاد والسير - الأنفال واستحقاق القاتل سلب القتيل

شرح صحيح مسلم - كتاب الجهاد والسير - الأنفال واستحقاق القاتل سلب القتيل أحل الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ولأمته من بعده الغنائم والأنفال، وجعل حظ المقاتلة من هذه الغنائم الحظ الأوفر؛ لما يقدمونه في سبيل الله من دماء وفداء، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته ينفل المقاتلة زيادة على حقهم في الغنيمة، وجعل لمن قتل قتيلاً سلبه كاملاً.

باب الأنفال

باب الأنفال إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستغفره ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وبعد: مع الباب الثاني عشر من كتاب الجهاد، وهو: (باب الأنفال).

تعريف الأنفال

تعريف الأنفال والأنفال: محل نزاع بين أهل العلم، فمنهم من قال: الأنفال هي الغنائم عموماً ومطلقاً. أي: أن الأنفال: هي الغنائم التي يكسبها المسلمون من الكفار في حروبهم وجهادهم. أو هي الفيء الذي يأخذه المسلمون سلماً من أعدائهم بغير حرب. وقيل: الأنفال هي: الغنائم بعد تقسيمها. وتقسيم الغنائم يكون أربعة أخماس، وخمس للرسول عليه الصلاة والسلام، فقالوا: الأنفال هي هذا الخمس الذي يأخذه النبي صلى الله عليه وسلم يفيء به على من يشاء من العباد، ومن الجند خاصة. وقيل غير ذلك فيما يتعلق بالأنفال.

الأحاديث الواردة في باب الأنفال

الأحاديث الواردة في باب الأنفال [وحدثنا قتيبة بن سعيد قال: حدثنا أبو عوانة -وهو الوضاح بن عبد الله اليشكري - عن سماك بن حرب عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص -رحمه الله تعالى ورضي عن أبيه- عن أبيه قال: (أخذ أبي من الخمس سيفاً)]؛ أي: أخذ من حظ النبي صلى الله عليه وسلم من الخمس. ولم يقل: أخذ من الغنائم، ومصعب بن سعد يتكلم عن أبيه ويقول: [(أخذ أبي من الخمس سيفاً، فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هب لي هذا)]؛ أي: اجعل هذا السيف هبة لي. وهذا يدل على أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه كان يعلم أن هذا السيف إنما خرج في خمسه عليه الصلاة والسلام، وهو خاص به عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك طلب منه أن يجعله له هبة. قال: [(فأبى)] أي: رفض أن يُعطي سعداً هذا السيف هبة، كيف لا وهو مالك لذلك، فالنبي عليه الصلاة والسلام حكم فيما يملك. أي: في الخمس الخاص به [(فأنزل الله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال:1])]. [حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار -وابن بشار. اسمه محمد، كلاهما بصري في سن واحدة كانا كفرسي رهان في العلم والعبادة، حتى إنهما ماتا في سنة واحدة- واللفظ لـ ابن المثنى قالا: حدثنا محمد بن جعفر -وهو المعروف بـ غندر أي: مشاغب- حدثنا شعبة بن الحجاج العتكي] إمام البصرة، إمام الجرح والتعديل، وسيد العلل في زمانه، ومحمد بن جعفر ربيبه، تزوج شعبة بأم محمد بن جعفر حينما مات أبوه. [عن سماك بن حرب عن مصعب بن سعد عن أبيه قال: (نزلت فيّ أربع آيات)] سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يبيّن أن الله تعالى أنزل فيه أربع آيات. قال: [(أصبت سيفاً فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم)] أي: أنه أخذ سيفاً من الخمس، فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم [(فقال: يا رسول الله! نفلنيه)] أي: أعطنيه نافلة -أي: بغير حق- ليس هذا حظ سعد في الغنيمة، وإنما هذا فوق حظه في الغنيمة؛ ولذلك طلب من النبي عليه الصلاة والسلام أن يجعله له نافلة [(فقال: نفّلنيه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ضعه -أي: اترك السيف- ثم قام فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ضعه من حيث أخذته. ثم قام فقال: نفلينه يا رسول الله! فقال: ضعه، فقام فقال: يا رسول الله! نفلينه! أأُجعل كمن لا غناء له؟)] والغناء بمعنى: الكفاية. أي: أتجعلني يا رسول الله كغيري؟ فـ سعد رضي الله عنه يرى أن له ميزة على غيره، فقد كان فارساً مجاهداً شجاعا ًقوياً مقداماً، وغيره ربما لا يكون كذلك، فضلاً عن قرابة سعد من النبي عليه الصلاة والسلام، فـ سعد خال للنبي عليه الصلاة والسلام، وأنتم تعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد قال: (ارم سعد فداك أبي وأمي) ولما سُر النبي عليه الصلاة والسلام بشجاعة سعد قال: (هذا سعد خالي فليرني أحدكم خاله) يفاخر عليه الصلاة والسلام بخاله سعد بن أبي وقاص. قال: [(فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ضعه من حيث أخذته. قال: فنزلت هذه الآية: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال:1])]. هناك أربع آيات نزلت في سعد بن أبي وقاص: هذه الآية، وآية في بر الوالدين، وآية في تحريم الخمر، وقول الله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الأنعام:52]. والحديث عند مسلم بزيادة -أي: بإثبات هذه الثلاث- في مناقب سعد بن أبي وقاص. [حدثنا يحيى بن يحيى -أي التميمي - قال: قرأت على مالك عن نافع عن ابن عمر قال: (بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية وأنا فيهم قِبَل نجد -ونجد الآن تمثّل منطقة الرياض وما حولها- فغنموا إبلاً كثيرة)] أي: كان من آثار هذه السرية ودخولهم مع المشركين أن غنموا بعد نصرهم على عدوهم إبلاً كثيرة. قال: [(فكانت سهمانهم اثنا عشر بعيراً، أو أحد عشر بعيراً، ونُفّلوا بعيراً بعيراً)]. أي: أنه كان سهم كل واحد من السرية اثني عشر بعيراً أو أحد عشر بعيراً، أما الأنفال فواحد لكل فارس. إذاً: السهم من أصل الغنيمة: لكل واحد اثنا عش

باب استحقاق القاتل سلب القتيل

باب استحقاق القاتل سلب القتيل الباب الثالث عشر: (باب استحقاق القاتل سلب القتيل). (باب استحقاق القاتل) أي: في الجهاد (سلب القتيل) أي: من الكفار. هذا في الجهاد في سبيل الله عز وجل بين المؤمنين والكافرين، أن المؤمن إذا قتل الكافر فما تركه الكافر هو سلب للمؤمن، كالفرس والذهب والفضة وغير ذلك.

شرح حديث أبي قتادة: (من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه)

شرح حديث أبي قتادة: (من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه) [حدثنا يحيى بن يحيى التميمي أخبرنا هشيم بن بشير عن يحيى بن سعيد عن عمر بن كثير بن أفلح عن أبي محمد الأنصاري] وهو نافع بن عباس الأ قرع المدني مولى عقيلة الغفارية قيل: هو مولى أبي قتادة، لكنه في الحقيقة ليس مولى له، وإنما قيل له: مولى؛ لأنه أصلاً مولى، لكن ليس لـ أبي قتادة وإنما لـ عقيلة الغفارية، لكن الغالب في الرواية يقولون: حدثنا أبو محمد الأنصاري مولى أبي قتادة. قيل له: مولى أبي قتادة؛ وذلك لكثرة ملازمته لـ أبي قتادة، لكنه مولى لـ عقيلة الغفارية. قال: [عن أبي محمد الأنصاري وكان جليساً لـ أبي قتادة قال: قال أبو قتادة. واقتص الحديث]. [وحدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث عن يحيى بن سعيد عن عمر بن كثير عن أبي محمد مولى أبي قتادة أن أبا قتادة قال. وساق الحديث]. وفي هذين السندين نكتتان: النكتة الأولى: اجتماع ثلاثة من التابعين يحيى بن سعيد الأنصاري وعمر بن كثير وأبو محمد، يروي بعضهم عن بعض. النكتة الثانية: ليس من عادة مسلم رحمه الله أن يذكر: وساق الحديث، واقتص الحديث، وذكر الحديث، إلا لحديث قد سبق، أما حديث سيأتي فليس من عادته، وهذا ما يسميه العلماء بالتلوين. أقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم كذا وكذا وكذا. حدثني بهذا فلان عن فلان عن فلان عن أبي هريرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يذكره. وهذا على غير العادة، فالمألوف أن الإسناد هو الأول ويعقبه المتن، أما المتن ويعقبه الإسناد فهذا نادر جداً على غير العادة، لكنه صحيح. فالإمام مسلم رحمه الله ذكر الإسناد، ثم ذكر إسناداً آخر لنفس الحديث الذي سيأتي بعد الإسناد الثالث، فقوله: وساق الحديث أي: وساق الحديث الذي سيأتي بعد، ولذلك اغتر بعض أهل العلم فتصوروا أن قوله: وساق الحديث -أي: المتقدم- وليس كذلك، وإنما ساق الحديث الذي سيأتي معنا. قال: [حدثنا أبو الطاهر وحرملة -واللفظ له- أخبرنا عبد الله بن وهب قال: سمعت مالك بن أنس يقول: حدثني يحيى بن سعيد عن عمر بن كثير بن أفلح عن أبي محمد مولى أبي قتادة عن أبي قتادة قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حنين -أي: في غزوة حنين- فلما التقينا كانت للمسلمين جولة)] أي: انهزام وضعف، ولم يقل: كان للنبي صلى الله عليه وسلم جولة؛ لأن إجماع أهل العلم منعقد على حُرمة قول: انهزم النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يُهزم، ولا تُكتب له الهزيمة، إنما تقع الهزيمة في بعض جيشه، لا على يده عليه الصلاة والسلام، فكان لبعض المسلمين في نواحي الجيش جولة وضعف وانهزام، وليس ذلك في جانب النبي عليه الصلاة والسلام، ولا يُنسب لنبي قط خسيسة حتى وإن كانت اجتماعية، فإنه حرام وصف الأنبياء بالعمل الخسيس. فنحن نقرأ أن في كتب السنة أن من الأنبياء من كان نجاراً كزكريا عليه السلام، ومنهم من كان حداداً كداود عليه السلام، ومنهم من كان يرعى الغنم، بل جُل الأنبياء رعوا الغنم، لكن راعي الغنم في زماننا هذا مهنة غير محترمة، والحدادة كذلك، والنجارة كذلك، فقد تعارف الناس على أن أصحاب هذه المهن لا وزن لهم ولا شأن، مع احترامنا الشديد لكل مسلم موحّد، فالنبي عليه الصلاة والسلام رعى الغنم، فيحرم على المسلم في هذا الزمان أن يقول: النبي صلى الله عليه وسلم كان راعياً للغنم -على سبيل الامتهان- فإنه لا يُنسب لنبي قط خسة وإن كانت في أصلها شرفاً، فما دام العرف قد تعارف على أن هذا العمل خسيس، فلا يُنسب إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ولا يُذكر أنه كان كذلك إلا من باب سرد سيرته عليه الصلاة والسلام، أنه كان يفعل ذلك؛ ولذلك كتب السيوطي والسخاوي وغير واحد من أهل العلم يدافعون عن جناب النبوة صلى الله عليه وسلم. قال: [(فلما التقينا كانت للمسلمين جولة. قال: فرأيت رجلاً من المشركين قد علا رجلاً من المسلمين)] أي: قد أوقعه وتمكّن منه، أو جلس فوق صدره ليقتله. قال: [(فاستدرت إليه حتى أتيته من ورائه فضربته على حبل عاتقه -أي: بين رقبته والكتف- وأقبل علي فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت)] أي: أنه كان لا يزال على قيد الحياة، وكان صاحب قوة وفتوة فقام من على هذا المسلم لينظر من ضربه، فإذا به أبو قتادة

شرح حديث قتل معاذ ومعوذ ابني عفراء لأبي جهل وأخذ معاذ بن عمرو بن الجموح سلبه

شرح حديث قتل معاذ ومعوذ ابني عفراء لأبي جهل وأخذ معاذ بن عمرو بن الجموح سلبه قال: [حدثنا يحيى بن يحيى التميمي أخبرنا يوسف بن الماجشون عن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن جده -أي عبد الرحمن بن عوف - أنه قال: (بينما أنا واقف في الصف يوم بدر، نظرت عن يميني وشمالي فإذا أنا بين غلامين من الأنصار)] قيل هما: معاذ ومعوذ ابنا عفراء. قال: [(فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما -يعني صغار في السن- تمنيت لو كنت بين أضلع منهما)]. عبد الرحمن بن عوف نظر إلى نفسه واقفاً في الصف، فوجد على يمينه طفلاً صغيراً وعلى يساره طفلاً صغيراً، قال: يا ليتني كنت واقفاً بين اثنين كبيرين فارسين. قال: [(فغمزني أحدهما فقال: يا عم! هل تعرف أبا جهل؟ قال: فقلت: نعم. وما حاجتك إليه يا ابن أخي؟! قال: أخبُرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا)] أي: حتى يموت الذي قدّر الله له الموت قبل صاحبه. قال: [(فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر فقال مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يزول في الناس)] لم أنشب. أي: لم ألبث، بمجرد ما انتهيت من الحديث مع الولدين، فإذا بـ أبي جهل يصول ويجول ويتحرك ويذهب ويجيء في وسط الناس. قال: [(فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألان عنه)] أي: هذا هو أبو جهل، فأروني ماذا أنتم فاعلون فيه. قال: [(فابتدراه -أي- فأعجلاه- فضرباه بسيفيهما حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه، فقال: أيكما قتله؟)]. والمغزى من معرفة القاتل: إعطاؤه السلب. قال: [(فقال: أيكما قتله؟ فقال كل واحد منهما: أنا قتلت)] كل منهما يقول: أنا الذي قتلت يا رسول الله! فقال: [(هل مسحتما سيفيكما من الدم؟ قالا: لا. فنظر النبي صلى الله عليه وسلم في السيفين فقال: كلاكما قتله، وقضى بسلبه لـ معاذ بن عمرو بن الجموح)]. معاذ بن عمرو بن الجموح هو الذي يأخذ السلب، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهذين: كلاكما قتله، ولاشك أن هذا أمر مشكل؛ ولذلك اختلف أهل العلم في معنى هذا الحديث. فقال الشافعية: اشترك هذان الرجلان في جراحته فقط، لكن معاذ بن عمرو بن الجموح أثخنه أولاً فاستحق السلب. أثخنه أي: قتله. فقتل بسبب ضرب معاذ بن عمرو بن الجموح، أما معاذ ومعوذ ابنا العفراء فكل واحد منهما أصاب بدنه بسيفه، لكن هذه الإصابة لم تكن سبباً في القتل، إنما الذي قتل على الحقيقة هو معاذ بن عمرو بن الجموح. وإنما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (كلاكما قتله) تطييباً لقلبيهما بحيث إن كل واحد منهما له مشاركة في قتله، والقتل الشرعي الذي يتعلق به استحقاق السلب وهو الإثخان، وإخراجه عن كونه ممتنعاً إنما وجد من معاذ بن عمرو بن الجموح؛ فلهذا قضى له بالسلب. قال: (وإنما أخذ السيفين ليستدل بهما على حقيقة كيفية قتلهما، فعلم أن ابن الجموح أثخنه، ثم شاركه الثاني بعد ذلك وبعد استحقاقه السلب، فلم يكن له حق في السلب. هذا مذهب الشافعية. وقال الإمام مالك: إنما أعطاه لأحدهما لأن الإمام مخير في السلب يعطيه من يشاء). وقد سبق الرد على هذا المذهب. فهذه الرواية أثبتت أن المشارك معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن العفراء. ورواية أخرى تقول: انطلق معاذ ومعوذ ابنا عفراء، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم بالسلب لـ ابن الجموح. على خلاف.

شرح حديث عوف بن مالك الأشجعي في استحقاق القاتل سلب من قتل ولو كان كثيرا

شرح حديث عوف بن مالك الأشجعي في استحقاق القاتل سلب من قتل ولو كان كثيراً [وحدثني أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن سرح أخبرنا عبد الله بن وهب أخبرني معاوية بن صالح عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف بن مالك الأشجعي قال: (قتل رجل من حمير رجلاً من العدو، فأراد سلبه فمنعه خالد بن الوليد وكان والياً عليهم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم عوف بن مالك فأخبره فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ خالد: ما منعك أن تعطيه سلبه؟ قال: استكثرته يا رسول الله! قال: ادفعه إليه)] وانظروا إلى هذا العدل، فهذه التصرفات كانت أيضاً موجودة في الصحابة. قال: (ادفعه إليه) أي: أنه أمر خالد أن يدفع السلب مع كثرته للقاتل. قال: [(فمر خالد بـ عوف فجر بردائه)] أي: مع رجوع خالد بن الوليد من المحاكمة النبوية وصدور القرار فيها مر خالد بـ عوف، فقام عوف بجر ردائه، وقال له: ألم أقل لك بأن تعطه لي. أي: أنك لا تفعل حتى أشتكي بك إلى النبي صلى الله عليه وسلم أم ماذا؟ قال: [(فمر خالد بـ عوف فجر بردائه، ثم قال: هل أنجزت لك ما ذكرت لك من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟)] كأنه قال له قبل هذا هل تعطيني السلب؟ قال: لا أعطيه. قال: إذا لم تعطه فسأذهب وآخذه عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم، فحينما رفع عوف الأمر إلى النبي عليه الصلاة والسلام قضى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك له، فشد عوف رداء خالد وقال له: [(هل أنجزت لك ما قلت لك من رسول الله؟ فلما سمع النبي عليه الصلاة والسلام عوف بن مالك يعاتب خالداً غضب لـ خالد قال له: لا تعطه يا خالد! لا تعطه يا خالد!)] أي: بعد أن قال له: أعطه. قال له: لا تعطه. وليس هذا تراجعاً من النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما هو تأديب للجيش ولأمته وتعليمهم طاعة الوالي، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيّن للجيش وللمسلمين أن الأمير له كلمته، وله اجتهاده، وأن اجتهاده معمول به في الناس لا يُراجع فيه، إنما يُستشار فقط في مشروعيته وفي أحقيته، وإذا أخطأ الأمير فقد اجتهد وله أجره، ولا يُلام على ذلك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [(لا تعطه يا خالد! لا تعطه يا خالد! هل أنتم تاركون لي أمرائي؟)] ألا تريدون أن تتركوا الأمراء في أن يتصرفوا كما يريدون أم لا؟ فمن حق الأمير أن يجتهد، ومن حق الأمير أن يفعل ما يشاء إلا في معصية الله تعالى! قال: (إنما مثلكم ومثلهم -أي: مثلكم يا عامة الناس! ومثل الأمراء- كمثل رجل استُرعي إبلاً أو غنماً فرعاها، ثم تحين سقيها -أي: ذهب ليسقيها- فأوردها حوضاً فشرعت فيه -أي: فبدأت تشرب من الماء- فشربت صفوه وتركت كدره -أي: وتركت الماء المعكّر الذي خالطه التراب- فصفوه لكم وكدره عليهم)] صفوه لكم يا معشر الناس، وكدره على الأمراء. أي أن أمير الجيش بعد أن تضع الحرب أوزارها، ويكتب الله النصر لجيش المسلمين يقوم بجمع الغنائم الهائلة كلها ويقسمها خمسة أخماس وهذا العمل ليس هيناً، ثم ينظر الأمير في الجند من مات ومن بقي منهم، فيوزّع على الفارس سهمه، وعلى الفرس سهمه، وأنتم تعلمون أن الفارس له سهمان، والفرس له سهم. ثم الخمس الخامس -وهو الأنفال- يجتهد فيه الإمام فينفل من شاء ويمنع من شاء، وهذا مجهود عظيم جداً، فأنت باعتبارك جندياً وفرداً في الجيش ما الذي تعمله بعد أن يُكتب لك النصر؟ تذهب للنوم في خيمتك إلى أن يأتوا ويعطوك سهمك من الغنيمة، وسهمك من الأنفال، وهذا السهم لم يصل إليك إلا بعد عناء ومشقة، والذي عانى هو الأمير. إذاً: الأمير هو الذي يتولى ويكون له الكدر والتعب والمشقة وأنت لك الصفو. أي: أنك لك خيرها، وإذا كان فيها شر فهو على الأمير، فهو الذي يتكبّد المشاق والمتاعب. وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (فصفوه لكم وكدره عليهم) أي: على الأمراء. وقال عليه الصلاة والسلام في حديث عوف أيضاً: [(خرجت مع من خرج مع زيد بن حارثة في غزوة مؤتة -ومؤتة قرية بالشام- ورافقني مددي من اليمن)] مددي أي: بعض مدد الجيش. قال: [وساق الحديث غير أنه قال عوف: فقلت: يا خالد! أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل؟ قال: بلى، ولكني استكثرته].

شرح حديث سلمة بن الأكوع في أن سلب الجاسوس لمن قتله

شرح حديث سلمة بن الأكوع في أن سلب الجاسوس لمن قتله قال: [وعن إياس بن سلمة -وهو ابن سلمة بن الأكوع - قال: (غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هوازن، فبينما نحن نتضحى -أي: نتغدى وقت الضحى- مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على جمل أحمر فأناخه، ثم انتزع طلقاً من حقبه)] والطلق: العقال من جلد، والحقب هو: الوعاء من جلد يُجعل في مؤخرة حقو البعير، أي: كأن هذا الرجل انتزع عقالاً من جلد من حقيبة كانت في مؤخرة البعير. قال: [(فقيد به الجمل، ثم تقدم يتغدى مع القوم وجعل ينظر، وفينا ضعفة ورقة في الظهر)] أي: نحن جيش ضعيف، من الهزال والضعف والفقر وقلة الطعام وغير ذلك، والظهر هو المركوب من الفرس والإبل. أي: جيش فقير وهزيل. قال: [(وبعضنا مشاة)] أي: بعضنا يمشي على قدمه ليس له ظهر يركبه. قال: [(إذ خرج يشتد)] أي: هذا الرجل الذي أتى على جمل أحمر فرح بما نزل بجيش المسلمين من ضعف وهزال وفقر وقلة طعام وقلة ظهر، فخرج يعدو ويشتد ويُسرع المشي. قال: [(فأتى جمله فأطلق قيده، ثم أناخه وقعد عليه، فأثاره -أي: غمزه حتى قام- فاشتد به الجمل -أي: أنه صار يعدو ويجري به الجمل في الصحراء- فاتبّعه رجل -من المسلمين- على ناقة ورقاء)] والناقة الورقاء هي: الناقة التي فيها بياض مخلوط بسواد. قال سلمة: [(وخرجت أشتد -أي: خرج وراءه يشتد ويعدو- فكنت عند ورك الناقة)] أي: أدركت الرجل حتى كنت عند رجلها في المؤخرة. قال: [(ثم تقدمت أكثر من ذلك حتى كنت عند ورك الجمل، ثم تقدمت حتى أخذت بخطام الجمل فأنخته -أي: جعلت الجمل يقعد- فلما وضع ركبته في الأرض اخترطت سيفي -أي: أخرجت سيفي من غمده- فضربت رأس الرجل فندر)] أي: فسقط ميتاً؛ لأن هذا كان جاسوساً من جواسيس الأعداء. قال: [(ثم جئت بالجمل أقوده عليه رحله وسلاحه -أي: سلبه- فاستقبلني رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه فقال: من قتل الرجل؟ قالوا: ابن الأكوع هو الذي قتله قال: له سلبه أجمع)]، فيه شيء من السجع غير المتكلّف ولا المقصود؛ لأن تكلّف السجع في الكلام مكروه. وفي هذا الحديث: جواز قتل الجاسوس الكافر الحربي، وهو كذلك بإجماع المسلمين. وفي رواية النسائي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أمرهم بطلبه وقتله. وأما الجاسوس المعاهد والذمي فقال مالك والأوزاعي: يصير ناقضاً للعهد، فإن رأى استرقاقه أرقه، ويجوز قتله. وجماهير العلماء قالوا: لا ينتقض عهده بذلك، والأول أحب إلى قلبي. وفي هذا الحديث دلالة ظاهرة لمذهب الشافعي وموافقيه: أن القاتل يستحق السلب، وأنه لا يُخمّس. أي: أن سلبه هذا لا يدخل في عموم الغنائم، فكل من قتل يأخذ سلب القتيل، والباقي يُخمّس. وفيه: استحباب مجانسة الكلام إذ لم يكن فيه تكلف ولا فوات مصلحة والله أعلم. والله تعالى يتقبّل منا ومنكم صالح الأعمال والأقوال، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

كتاب الجهاد والسير - باب حكم الفيء

شرح صحيح مسلم - كتاب الجهاد والسير - باب حكم الفيء لقد خص الله سبحانه وتعالى هذه الأمة من بين سائر الأمم بأن أحل لها الغنائم رحمة ورفقاً بها، والغنيمة هي ما حصل عليه المسلمون من متاع وسبي وأموال العدو بعد جهاد وكر وفر، وقد بين الهل تعالى مصارف الغنيمة ووجوهها وجعل لنبيه صلى الله عليه وسلم خمسها، ثم إنه سبحانه أباح لنبيه صلى الله عليه وسلم الفيء، وهو ما حصل عليه المسلمون من العدو من غير قتال، فجعله خاصاً بالإمام يجعله حيث يشاء من المصارف الشرعية.

باب حكم الفيء

باب حكم الفيء إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وبعد: فقد تكلمنا في الدرس الماضي في الفرق بين الفيء والغنيمة، أما الفيء: فإنه ما حصّله المسلمون بغير حرب ولا قتال، ومن غير أن يدركوه بخيل ولا ركاب، والفيء خاص بالإمام ينفقه حيث شاء في المصارف الشرعية. وأما الغنيمة: فللنبي صلى الله عليه وسلم خمسها، وأربعة أخماسها يوزّع على الغانمين، أو على المحاربين المقاتلين؛ دليل ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام: [(أيما قرية أتيتموها وأقمتم فيها فسهمكم فيها)] أي: أن حقكم من العطايا موجود في هذه القرية وهو الفيء الذي حُصّل دون قتال. قال: [(وأيما قرية عصت الله ورسوله فإن خمسها لله ولرسوله، ثم هي لكم)] أي: أن الخمس لله ورسوله، ثم أربعة أخماسها لكم أيها المقاتلون! وفي الحديث الثاني: قال مسلم -وإن كنا قد ذكرناه من قبل: [عن مالك بن أوس بن الحدثان قال عمر رضي الله عنه: (كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله)]. معنى أفاء الله على رسوله أي: أخذها صلحاً وبغير قتال. قال: [(مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب -أي: لم يقاتلوا عليه- فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، فكان ينفق على أهله نفقة سنة)] أي: يحتجز لأهله من هذا الفيء ما يكفيهم لمدة عام، وإن كان الواقع يقول: إن النبي عليه الصلاة والسلام ما احتجز طعاماً قط يكفيه لبضعة أيام وإنما كان ينفق منه، وهذا يدل على جواز الادخار لأهل البيت، كما يدل على استحباب الإنفاق من هذا المال المدخر؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان ينفق منه، وكان يدعو الله تعالى أن يجعل رزق آل محمد قوتاً. أي: على قدر قوت يومهم. قال: [(وما بقي يجعله في الكراع -الخيل- والسلاح عدة في سبيل الله عز وجل)]. أي: أنه كان يستعد من هذا الفيء للجهاد في سبيل الله، وأنتم تعلمون أن أحد مصارف الزكاة والصدقات العامة والخاصة هو سبيل الله، وسبيل الله عند الإطلاق هو الجهاد في سبيل الله تعالى. قال: [وحدثني عبد الله بن محمد بن أسماء الضبعي حدثنا جويرية] وهو ابن أسماء الضبعي، فـ جويرية اسم رجل، وأبوه اسمه أسماء اسم رجل كذلك، فهو جويرية بن أسماء بن عبيد الضبعي البصري [عن مالك -أي: الإمام- عن الزهري: أن مالك بن أوس حدثه قال: أرسل إلي عمر بن الخطاب فجئته حين تعالى النهار -أي: حين طلعت الشمس وأشرقت، وكأنه يقول: أتيته وضوحاً- قال: فوجدته في بيته جالساً على سرير مفضياً إلى رماله]. الرمال: هو ما ينسج من جريد النخل أو سعف النخل؛ ليضطجع عليه صاحبه، لكن في الغالب أن هذا الرمال يوضع عليه كساء أو شيء من قطن، أو شيء ناعم ليّن حتى ينعم الجالس بجلسته. قال: [مفضياً إلى رماله، متكئاً على وسادة من أدم -الوسادة: المخدة. من أدم: أي من جلد محشوة- فقال لي: يا مال!] وهو ترخيم مالك، والترخيم مستحب، وكان النبي عليه الصلاة والسلام أول من رخّم عائشة رضي الله عنها، فكان يقول لها: يا عائش! ولا يقول لها يا عائشة! وهذا من باب الدلال والترخيم الذي يفيد الود والقرب بين المرخِّم والمرخَّم. قال: [يا مال! إنه قد دف أهل أبيات من قومك]، أي قد أتانا أهل بيوت من قومك سراعاً. وقيل: بطئاء؛ لأن كلمة دف من ألفاظ الأضداد، فهي تستخدم استخدامات عكسية، فكلمة دف عند قوم من العرب بمعنى: أسرع. وعند آخرين بمعنى: أبطأ. أي: قد أتونا على استحياء ليطلبوا عطايا. وعند تفسير آخر: قد أتونا مسرعين ليطلبوا عطايا. قال: [وقد أمرت فيهم برضخ]. وهذا قول عمر أي: يا مالك! قد أتانا أناس من قومك يطلبون العطايا، وأمرنا لهم برضخ. أي: بعطية قليلة. قال: [فخذه فاقسمه بينهم]. وكان مالك سيداً في قومه. [قال مالك: قلت: لو أمرت بهذا غيري؟] تقدير الكلام: لو أمرت أن يقسّم المال فيهم غيري لكان أحسن. قال: [خذه يا مال! -أي: أنت الذي تقسّمه- قال: فجاء يرفا]، وفي رواية: يرفأ، ولعلها كلمة فارسية ليست عربية، وهي اسم للحاجب والخادم، وفي الغالب أن العرب كانوا إذا استخدموا كلمة ليست عربية في موطنها المعروف في ذلك الوقت يستخدمون كلمات فارسية، فقوله: فجاء يرفأ. أي:

موقف المسلم من اختلاف العلماء والأقران

موقف المسلم من اختلاف العلماء والأقران ابتداء نقول: إن كلام الأقران إذا لم يمكن توجيهه وتأويله يطوى ولا يروى، ولا تعلق عليه أحكام، ولا يجوز لمن أتى بعد هؤلاء الأقران أن يعتمد سب زيد في عمرو، ولا سب عمرو في زيد؛ لأنهما أقران، كما أني وفلان من أقران نختلف ونتصالح، ولا يجوز لأحد ممن يسمعنا أن يتعلق بخصومتي بفلان من أقراني، ولا بخصومة غريمي معي، ولا يجوز لأحد من طلبة العلم، أو ممن يستفيد من كلامي وكلام قريني أن يتكئ على خصومة بيني وبين فلان أو علّان. وهذا خطأ في أصل منهج التربية لدى الشباب، أنه إذا اختلف الشيخ الفلاني مع قرينه أو العالم الفلاني مع قرينه، فإنهم يتحيزون ويتميزون وتدب المشاكل والخلافات بين الأتباع التي يمكن أن يتطاير شررها هنا وهناك، ويعظم الأمر ويفحش ولا يكون له بعد انتشاره حلاً، فالأدب الذي علمه النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه وعلّمه الصحابة لمن بعدهم: أن كلام الأقران بعضهم في بعض يطوى ولا يروى. ويقول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: إن الغيرة بين أهل العلم أشد من الغيرة بين التيوس في زروبها. أي: أن الذي يبعثهم على الكلام في بعضهم البعض هو الغيرة، وكم من إنسان من سلف الأمة ومن عظماء العلماء تكلم في أقرانه، أو تكلم فيمن سبقه، وإن كان هذا لا نوافق عليه والأصل عدمه، وهناك نماذج طيبة مشرقة في أهل العلم، لم يتكلموا في أحد، وإنما تكلم فيهم، وبلا شك أن الأصل والأولى: أن يتصدق المرء بعرضه على من انتهك عرضه، فلا أقل من أنه رد الظلم بظلم، أو رد الإساءة بإساءة، والبادئ أظلم وإن كانت الأولى أحسن وأفضل. فالشاهد من هذا الكلام كله: أن أبناء الصحوة لا علاقة لهم بما يدور بين الكبار، فلعلهم معذورون، ولعلهم متأولون، ولعلهم مخطئون، فلا علاقة للشباب بما وقع بين الكبار، كما أنه يجب على الكبار كذلك إذا كان هناك شيء من الإحن والفتن بينهم أن يخفوها عن الطلاب وجوباً شرعياً، فإن بدا شيء بغير قصد فلا يجوز استغلال هذا الشيء الذي بدا من هذه القضايا.

تأويل قوله: (اقض بيني وبين هذا الكاذب الآثم الغادر)

تأويل قوله: (اقض بيني وبين هذا الكاذب الآثم الغادر) قال: [اقض بيني وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن]، بلا شك أن علي بن أبي طالب ليس فيه شيء من هذا كله، وكل سبة من هذه السباب لها مدلول في اللغة وفي الاصطلاح، فالكاذب هو: من تكلم بالكلام على غير حقيقته وعلى غير أصله المشروع، سواء كان في ذلك متعمداً أو جاهلاً أو ناسياً، فيُحمل الكذب على هذه المعاني في اللغة ابتداء، ثم الشرعي أو الاصطلاحي. ولا شك أن علي بن أبي طالب مبرأ من هذا كله، وإلا فكيف يكون كذلك وهو المبشّر بالجنة؟! ويحمل هذا كذلك على ما يعتقد العباس رضي الله عنه؛ لأن كل واحد قد اختلف مع الآخر، ويغلب على ظنه أنه على الحق وأن الآخر على الباطل، وإلا فلا يحل لأحد أن يختلف مع أخيه وهو يعلم أن أخاه على الحق المبين، خاصة إذا كان هذا الخلاف واقعاً بين أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا العباس يعتقد أن الحق معه وأن علياً على الباطل في الخصومة المرفوعة بين يدي أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه. ولكنه تجاوز في طرح قضيته بهذه الألفاظ. ثم لو انسدت جميع الأبواب أمامنا في تأويل هذه السباب فإننا نقول: إن الصحابة رضي الله عنهم وقع بينهم شيء من هذا وزيادة على هذا، ولا علاقة لنا بذلك كله، فالذي دار بينهم يطوى ولا يروى، ونعتقد أن لهم من الفضل والسبق والعلم والجهاد والهجرة وغير ذلك ما يكفّر جبالاً من الذنوب. فهذه الألفاظ نحن نقرأها فقط من باب أنها مروية ومأثورة، ولكننا لا نتوقف عندها، بل نحسّن الظن بجميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ونستغفر لهم مما بدر منهم ومما لم يصدر عنهم.

بيان خصومة العباس مع علي بن أبي طالب والعلة في منع الخلفاء لهم من أخذ ميراث النبي

بيان خصومة العباس مع علي بن أبي طالب والعلة في منع الخلفاء لهم من أخذ ميراث النبي قال: [فقال القوم -أي: عبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد وعثمان: أجل يا أمير المؤمنين! فاقض بينهم وأرحهم]. وكأن الخصومة كانت قديمة، وهذه الخصومة باختصار شديد: أن العباس كان يريد أن يأخذ ميراث النبي عليه الصلاة والسلام، وأن فاطمة كانت تريد أن تأخذ ميراثها من أبيها، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (نحن لا نورث -أي: معشر الأنبياء- ما تركنا صدقة) وخاصة أن النبي صلى الله عليه وسلم مات وترك بنتاً وعماً، فإن الميراث يكون مناصفة؛ فلو مات ميت وترك عماً وترك ابنة فللبنت النصف وللعم النصف، فكان العباس يريد أن يأخذ نصف الفيء الذي تركه النبي عليه الصلاة والسلام، وفاطمة تريد أن تأخذ النصف، وكانا لا يريدان أن يأخذاه على سبيل الميراث؛ لأنهم جميعاً أقروا بسماعهم قوله عليه الصلاة والسلام: أنه لا يورث وإنما تركه صدقة، فكانوا يعلمون ذلك وأقروا به، لكنهم كانوا يريدون أن يقوموا في هذا الفيء مقام النبي صلى الله عليه وسلم، فخشي أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن يتقادم الزمان ويظنوه ميراثاً، وخشي من بعده عمر ومن بعده عثمان حتى علي بن أبي طالب رضي الله عنه خشي من ذلك حينما انتقل إليه الفيء، فكان لا يعد هذا الفيء ميراثاً، وإنما كان ينفق منه على اعتبار أنه حظ أهل البيت من الفيء، ويجب أن يُنفق في المصارف المشروعة. فمطالبة العباس عمه ومطالبة علي بن أبي طالب بحق امرأته بنت النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن من باب الميراث، ولكن الخلفاء حينما غلب على ظنهم أنه يمكن أن يقول الناس: إن فاطمة ورثت مع وجود النص، وإن العباس ورث مع وجود النص منعوا ذلك؛ لأن العباس كان يطالب بشطر الفيء، وفاطمة تطالب بشطر الفيء، وهذا يوافق تقسيم الميراث مناصفة بين العم وبين البنت، فخشي من إدخال هذا في ذاك، فمنع الخلفاء الراشدون أن تأخذ فاطمة شيئاً حتى وإن كان على سبيل حقها في الفيء؛ لأنه يناسب تماماً حقها في الميراث ولا ميراث لها، فـ أبو بكر الصديق أغلق الباب أمامها؛ حتى لا يقول الناس: إن فاطمة ورثت، وإن أبا بكر تأثّر بذلك أو خضع في ذلك، وأراد أن يداري بنت النبي عليه الصلاة والسلام مع وجود النص، ومع أنه السامع لهذا النص من النبي عليه الصلاة والسلام؛ فمنع ذلك، ثم منعه عمر، ثم منعه عثمان ومنعه علي بن أبي طالب كذلك، وذلك حين صار هذا الفيء في يد علي في إمارته وخلافته منعه آل البيت ومنعه فاطمة رضي الله عنها، فليس في ذلك خطأ من أبي بكر ولا ممن أتى بعده.

قضاء عمر بين علي والعباس في شأن فدك وخيبر

قضاء عمر بين علي والعباس في شأن فدك وخيبر أما القوم فقالوا: أجل يا أمير المؤمنين! إن هؤلاء قد اختلفوا وطال خلافهم، فاقض بينهم وأرحهم. [فقال مالك بن أوس: يُخيّل إلي أنهم قد كانوا قدموهم لذلك]. أي أن عبد الرحمن بن عوف وسعد والزبير وغيرهم يخيّل إلى مالك بن أوس أنهم سبقوا العباس وعلي إلى مجلس أمير المؤمنين عمر؛ حتى يُطلعوا عمر بن الخطاب على أصل القضية، وأنهم قد أمروا العباس وعلياً أن يأتياه بعد قليل من دخولهم على أمير المؤمنين. [فقال عمر: اتئدا. أي: أبطئا وانتظرا فسأقضي بينكم. فقال: أنشدكم بالله! -أي: أستحلفكم بالله- الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا نورث ما تركنا صدقة)؟] أي: نحن معاشر الأنبياء لا نورث، وإنما الذي تركناه صدقة. أنشدكم بالله! أبلغكم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا؟ [قال: قالوا: نعم]. أي: قال القوم الذين حضروا دون العباس وعلي، وهذا الكلام موجه للصحابة الذين دخلوا أولاً. قال: [ثم أقبل عمر على العباس وعلي فقال: أنشدكما بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض]. فالقاضي إذا أراد القضاء في أمر ذكَّر الشهود بالله تعالى، وبعظمته وجبروته وكبريائه، وأنه يقصم ظهورهم إن كذبوا وخانوا وغدروا وغشوا، وهذا أصل من أصول القضاء، أن القاضي يذكّر الناس ويذكّر المتخاصمين والشهود بالله تعالى حتى لا يكذبوا ويؤثروا الدنيا على الآخرة. فقال: [أنشدكما بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، أتعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا نورث ما تركناه صدقة)؟ قالا: نعم]. أي: أن العباس يعلم ذلك، ويعلم أنه لا ميراث له، وعلي يعلم أنه لا ميراث لابنة النبي عليه الصلاة والسلام وهي فاطمة التي كانت تحته. قال: [قالا: نعم. فقال عمر: إن الله جل وعز كان خص رسوله صلى الله عليه وسلم بخاصة لم يخصص بها أحداً غيره]. وهذا هو الشاهد من الحديث في حكم الفيء. فـ عمر يقول لهم: الذي قد استقر في الأذهان وأجمعت عليه الصحابة رضي الله عنهم أن الله تعالى خص نبيه بخاصة ليست لغيره، وهذه الخاصة هي أن جعل مال الفيء تحت تصرفه عليه الصلاة والسلام يتصرف فيه كيف يشاء؛ لأنه لم يُبذل فيه جهد من المسلمين، ولم يوجفوا عليه بخيل ولا ركاب، فهذا خاص به عليه الصلاة والسلام. [قال: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر:7] قال: فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم بينكم أموال بني النضير]. وكأنه يقول: يا علي! ويا عباس! أما قسّم النبي صلى الله عليه وسلم بينكم أموال بني النضير؟ قالا: نعم. وقال: هل استأثر بأموال بني النضير أحداً دونكم؟ قالا: لا، إنما قسّمه فينا، ولم يعط أحداً شيئاً؛ لأنه ليس لأحد حق في هذا المال، لأن أموال بني النضير -وهم يهود المدينة- إنما أخذه النبي صلى الله عليه وسلم صلحاً وفيئاً بغير قتال. قال: [فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم بينكم أموال بني النضير، فوالله ما استأثر عليكم -أي ما قدّم عليكم أحداً- ولا أخذها دونكم]. أي: لم يستأثر بها هو دونكم يا أهل بيت النبي عليه الصلاة والسلام. قال: [حتى بقي هذا المال -أي: حتى بقي منه ما بقي- فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ منه نفقة سنة، ثم يجعل ما بقي أسوة المال]. أي: ثم يدخل ما بقي عن حاجتكما وحاجة أهل بيته في بيت مال المسلمين. فقوله: (أسوة المال) أي: بيت المال. [ثم قال: أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمون ذلك؟] أي: أتعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاكم أموال بني النضير ولم يعط أحداً غيركم؟ [قالوا: نعم. ثم نشد عباساً وعلياً بمثل ما نشد به القوم: أتعلمان ذلك؟ قالا: نعم. قال: فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر: أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجئتما. تطلب ميراثك من ابن أخيك -يا عباس - ويطلب هذا - علي بن أبي طالب - ميراث امرأته من أبيها؟] أي: مع علمكم بهذا قد أتيتم تطلبان ميراثكما من النبي عليه الصلاة والسلام؟ [قال: فقال أبو بكر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما نورث. ما تركنا صدقة) فرأيتماه كاذباً آثماً غادراً خائناً] مع أنهما لم يصرّحا بذلك، أي: أن العباس

تأويلات مطالبة علي والعباس بمال الفيء مع علمهما بأنه صدقة وليس ميراثا

تأويلات مطالبة علي والعباس بمال الفيء مع علمهما بأنه صدقة وليس ميراثاً قد يقول قائل: بما أنهما يعلمان قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا نورث -أي: معشر الأنبياء- ما تركنا صدقة) فلِم كانا يصران على ذلك أولاً، ووقعت الخصومة والشحناء والنفرة بينهما بسبب هذا المال؟ A تأويلات متعددة: إما أنهما كانا يطلبان هذا المال -مال الفيء- للتوزيع كما ذكرنا، وليس لاستعمالهم الخاص. وهذا قول راجح. وقول آخر: أنهم تأولوا حديث النبي عليه الصلاة والسلام: لا نورث من المال الذي هو ذو بال أيضاً الفيء، ولا يمنع هذا أن نرث ما دون ذلك أي: من أثاث ومتاع وغير ذلك مما تركه عليه الصلاة والسلام في بيوته. هكذا تأولوا، وهذا وجه من وجوه التأويل؛ لأنه لا يتصور قط أن الصحابة رضي الله عنه يظهر لهم الحديث عياناً بغير تأويل ثم هو يخالفونه، فالصحابة لم يكونوا كذلك، بل كانوا وقّافين عند حدود النص الشرعي. يذكر أن السفاح خطب أول خطبة قام بها، فقام إليه رجل وقد علّق المصحف في صدره، فقال: أنشدك الله يا إمام! إلا ما حكمت بيني وبين خصمي بهذا المصحف. قال السفاح: ومن خصمك؟ قال: أبو بكر في منعه فدك، وهي أرض كانت لليهود أفاء الله عز وجل بها على نبيه بغير قتال ولا حرب. قال: أظلمك؟ قال: نعم. -وهذا كان من أهل بيته عليه الصلاة والسلام ومن أولاد علي بن أبي طالب - قال: فمن بعده؟ قال: عمر. قال: أظلمك؟ قال: نعم. قال: فمن بعده عثمان؟ قال: نعم. قال: أظلمك؟ قال: نعم. قال: فمن بعده علي؟ قال: نعم. قال: أظلمك؟ فسكت الرجل؛ لأنه لا يجرؤ أن يصف الإمام بالظلم وإلا انهدم أصل مذهبه، وهو نصرة علي على أبي بكر وعمر وعثمان. والإمام عند الشيعة معصوم لا يخطئ، أي: أن الشيعة عندهم أن النبي صلى الله عليه وسلم يخطئ ولكن الإمام لا يخطئ؛ لأنهم يعتقدون -كما نعتقد نحن- أن الوحي يأتي إلى الأنبياء ولا يأتي إلى الأئمة، فلا حاجة إلى عصمة الأنبياء؛ لأن الأنبياء يأتيهم الوحي ولا يتصرفون إلا بوحي، فما قيمة العصمة إذاً؟ أما الإمام فلا بد أن يكون معصوماً؛ لأن خطأه يدمّر الأمة كلها، فيلزم أن يكون الإمام معصوماً حتى تقتدي به الأمة من بعد النبي صلى الله عليه وسلم وهو علي بن أبي طالب؛ ولذلك قال له: فمن بعد هؤلاء الثلاثة علي؟ قال له: نعم. قال له: أظلمك؟ فـ السفاح رغم أنه سفّاح يعتقد أن علي بن أبي طالب لم يأخذ هذا الفيء لنفسه، وإنما حينما أخذه أنفقه في المصارف الشرعية التي يُنفق فيها الفيء، فإذا كان علي بن أبي طالب أنفق مال الفيء في وجوه البر ولم يستأثر لنفسه بشيء، ولم يأخذ منه ولا فاطمة شيئاً. فماذا تقول في ذلك؟ فإذا كان هذا ظلماً فأيكما أعلم بذلك: أنت أم علي بن أبي طالب؟ بلا شك أن علي بن أبي طالب أعلم بهذه الأحكام. فإذا كان علي قد غُلب في زمن أبي بكر ثم في زمن عمر ثم في زمن عثمان فحينما كانت الخلافة في يديه والمال تحت يديه، فلِم لم يأخذه إذاً؟ وما ذلك إلا لأنه يعتقد أنه لا حق له في هذا المال. فالذي يأتي بعد ذلك ويقول: إن أبا بكر وعمر وعثمان قد ظلموا علياً، فهذا قول من أعظم الباطل على الخلفاء الراشدين وأشد الضلال. فلما سكت الرجل أغلظ له السفاح القول. ولذلك فالاعتذار عن علي والعباس رضي الله عنهما أنهما ترددا إلى الخليفتين مع قوله عليه الصلاة والسلام: (لا نورث، ما تركناه صدقة) وتقرير عمر رضي الله عنه أنهما يعلمان ذلك، فأمثل ما فيه ما قاله بعض العلماء: أنهما طلبا أن يقسّماها بينهما نصفين ينفقان بها على حسب ما ينفق الإمام بها لو وليها بنفسه، فكره عمر رضي الله عنه أن يوقع عليها اسم القسمة؛ لأنها شبيهة بالميراث؛ ولئلا يُظن لذلك مع تطاول الأزمان أنها ميراث وأنهما ورثاه، لا سيما أن قسمة الميراث بين البنت والعم نصفان، فيلتبس ذلك، ويُظن أنهم تملكوا ذلك. حدثنا إسحاق بن إبراهيم ومحمد بن رافع وعبد بن حميد -قال ابن رافع: حدثنا، وقال الآخران: أخبرنا- عبد الرزاق بن همام الصنعاني أخبرنا معمر بن راشد البصري اليمني عن الزهري المدني عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: أرسل إلي عمر بن الخطاب فقال: إنه قد حضر أهل أبيات من قومك بنحو حديث مالك الإمام، غير أنه فيه: فكان ينفق على أهله منه سنة، وربما قال معمر: يحبس قوت أهله منه س

باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا نورث، ما تركنا فهو صدقة)

باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا نورث، ما تركنا فهو صدقة) الباب السادس عشر، وهو باب يحتاج الباب السابق إلى ضمه إليه: (باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا نورث ما تركنا فهو صدقة)). [حدثنا يحيى بن يحيى التميمي النيسابوري قال: قرأت على مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أنها قالت: إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أردن أن يبعثن عثمان بن عفان إلى أبي بكر فيسألنه ميراثهن من النبي صلى الله عليه وسلم. قالت عائشة لهن: أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا نورث. ما تركنا فهو صدقة)؟ حدثني محمد بن رافع أخبرنا حجين حدثنا ليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة: أنها أخبرته: (أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلت إلى أبي بكر الصديق تسأله ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أفاء عليه بالمدينة وفدك، وما بقي من خمس خيبر)]؛ لأن خيبر فُتحت عنوة وليس صلحاً، فكان حظه عليه الصلاة والسلام من الغنيمة الخمس. وقد سبق أن قلنا قبل هذا: أن من الفروق بين الغنيمة والفيء: أن الفيء كله تحت تصرف النبي عليه الصلاة والسلام، وأن الغنيمة له منها الخمس فقط، أما تخميس الخمس فهو مذهب الشافعي، وليس له من يؤيده لا قبله ولا بعده. قالت: [(مما أفاء الله على نبيه صلى الله عليه وسلم بالمدينة وفدك، وما بقي من خمس خيبر فقال أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا نورث، ما تركنا صدقة، إنما يأكل آل محمد صلى الله عليه وسلم في هذا المال)]. أي أنه ليس من حقكم إلا أن تأكلوا وتشربوا فقط، أما أن تأخذوه فلا؛ لأنه ليس ميراثاً، إنما تأكلون وتطعمون ما شئتم، وبقية هذا يدخل في بيت المال، أما غير ذلك فلا. قال: [(وإني والله لا أغير شيئاً من صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حالها التي كانت عليها)]. إنَّ الصديق رضي الله عنه رغم ظهور المصلحة، إلا أنه كان حريصاً ألا يحيد قيد أنملة عمّا كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام، فقد قيل له في جمع المصحف فأبى مع أن المصلحة ظاهرة في جمع المصحف. وحجته: كيف أفعل شيئاً لم يفعله النبي عليه الصلاة والسلام، فكان وقّافاً عند حدود الشرع. فقال: [(وإني والله لا أغير شيئاً من صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأعملن فيها بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة شيئاً، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك)]. وجدت بمعنى: غضبت، من الوجد لا من الإيجاد. قال: [(فهجرته)]. وربما تكون هذه من نوع الهجرة المشروعة. وقد يكون المعنى: لم تكلمه في أمر الميراث بعد ذلك، فإنه لم يثبت قط أن أبا بكر سلّم عليها فلم ترد عليه. وهذا هو المقصود بالهجرة عند الإطلاق، لكن لم يثبت هذا، ولم يثبت أنها خرجت من تحت إمرته، أو خرجت عليه بالسيف أو بالقول أو بالفعل. وهذا على أية حال مباح، فأنا إن غضبت منك قليلاً فمن الممكن أن أهجرك، بمعنى: أنني لا أهتم بلقائك ولا أزورك، وإن زرتني وجب عليّ استقبالك، وإن سلّمت عليّ وجب عليّ رد السلام، لكن الأمر أو الحاجز بين أبي بكر وفاطمة أنهما لم يحدث بينهما لقاء، وما زار أحد منهما أخاه، وبالتالي فلم يكن هناك ما يؤذي أبا بكر، ولا يؤذي فاطمة غير ما قد منع أبو بكر الصديق رضي الله عنه من أخذ المال الفيء إلى فاطمة. قال: [(فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت)]. والمحمول في هذا الكلام: فلم تكلمه في أمر الفيء حتى توفيت. قال: [(وعاشت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر)] وقيل: تسعة. وقيل: ثمانية. وقيل: سبعة. وقيل: أربعة. وقيل: شهران. وأرجح الأقوال: أنها عاشت بعد النبي عليه الصلاة والسلام ستة أشهر.

الأعذار المبينة لما حصل بين علي وأبي بكر من سوء فهم

الأعذار المبينة لما حصل بين علي وأبي بكر من سوء فهم قال: [(فلما توفيت دفنها زوجها علي بن أبي طالب ليلاً ولم يؤذن بها أبا بكر] وإعلام الإمام بمن مات أمر مستحب وليس بواجب، فإذا ترك الإنسان المستحب فلا يلام عليه، وفي هذا جواز الدفن ليلاً وإن كان الدفن بالنهار أولى وأفضل، لكن على أية حال هو جائز. ونحن نرى في هذا الوقت أن مريضاً لو قيل له: بماذا توصي؟ يقول: أوصي بألا يصلي عليّ فلان ولا يشيّع جنازتي؛ لأني غضبان منه. نقول: وهل إذا كنت غضباناً منه توصي بهذا؟ إذاً: هذا وضع طبيعي في البشر، فـ علي بن أبي طالب قال: ما دام فاطمة ماتت وهي غضبانة من أبي بكر وكانت قد هجرته، فأنا أيضاً غضبان لغضب فاطمة، إذاً ندفن فاطمة ليلاً قبل أن يصل الخبر لـ أبي بكر فيأتي، وهذا يشعر بأن الخلاف الموجود بين فاطمة وبين أبي بكر لا يمنع أبا بكر من المشاركة في دفن فاطمة، فإنه كان قلبه نقياً. قال: [(وكان لـ علي من الناس وجهة حياة فاطمة)]. أي: أنه كان علي بن أبي طالب من أهل بيته عليه الصلاة والسلام، فهو ابن عم النبي عليه الصلاة والسلام، لكن على أية حال كانت حياة فاطمة كصمام الأمان لـ علي بن أبي طالب، وكان الناس يوادون علي بن أبي طالب لمكانة ابنة النبي عليه الصلاة والسلام، وبلا شك أن البنت في المنزلة أولى من ابن العم، فهكذا كان لـ علي بن أبي طالب وجهة ومنزلة سامية عند الناس طالما فاطمة كانت حية. قال: [(وكان لـ علي من الناس وجهة حياة فاطمة -أي في حياة فاطمة - فلما توفيت استنكر علي وجوه الناس)] أي: أنه لم يتغير الناس إلا بعد وفاة فاطمة رضي الله عنها.

مراجعة علي الأمر المعروف ومبايعته لأبي بكر

مراجعة علي الأمر المعروف ومبايعته لأبي بكر قال: [(فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته)] وفي هذا إثبات أن علي بن أبي طالب لم يكن قد بايع أبا بكر لمدة ستة أشهر بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام، كما أنه لا يلزمه البيعة، وذلك لأن البيعة لا تلزم جميع الناس، وعلي من الناس، وإن فرضنا أنه من خاصة الناس وأنه كان عضواً في مجلس الحل والعقد، فهل يلزم أن يبايع جميع أهل الحل والعقد أم يكفي أغلبية المجلس؟ A يكفي أغلبية المجلس. إذاً: علي رضي الله عنه لم يخالف في تركه البيعة لـ أبي بكر، كما أنه لم يثبت عليه أنه ذم أبا بكر، أو تكلم في عدم مشروعية بيعته أو خلافته أو غير ذلك. لكن علياً كان غاضباً من أبي بكر؛ لأنه كان يتصور أنه لا يقطع في أمر دونه، وأنه حينما يموت النبي صلى الله عليه وسلم، ويجتمع الناس في سقيفة بني ساعدة يدعونه، وهذه على أية حال قلوب بشر، وهو لم يخطئ في ذلك، كما أن عمر رضي الله عنه لم يكن يعلم باجتماع الصحابة في سقيفة بني ساعدة أثناء موت النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما ذهب إليهم بقدر الله، وطار الخبر إلى أبي بكر بخلاف المهاجرة والأنصار في الإمارة والخلافة من بعده عليه الصلاة والسلام، فذهب إليهم ليحل القضية، فلما علم بذلك عمر طار إليهم، ثم قضى بما قضى من حجج لديه، بأن أولى الناس المهاجرون، وأولى المهاجرين هو أبو بكر الصديق بدليل كذا وكذا وكذا وذكر من القرآن والسنة ما يؤيد قوله وهو القول الصحيح في هذه القضية. وبالتالي أجمع العلماء على صحة إمامة أبي بكر وأنه أولى الناس بعد النبي عليه الصلاة والسلام، لكن علي بن أبي طالب كان مشغولاً بتجهيز النبي عليه الصلاة والسلام وتغسيله وتكفينه فتركوه لذلك، ثم إن المصلحة راجحة في عقد الخلافة لآحاد الناس؛ حتى لا يختلفوا بعد ذلك فيمن يصلي على النبي؟ ومن يكفّن النبي؟ ومن يدفن النبي؟ ومن يتولى أمر النبي في الفيء وغيره؟ فالمصلحة راجحة، فرأى أبو بكر وعمر تقديم إثبات الخلافة لـ أبي بكر على تجهيزه عليه الصلاة والسلام، وعلى انتظارهم لمشورة علي أو عثمان أو غيرهما، فانشغلوا بهذا، وكان علي مشغولاً بتجهيز النبي عليه الصلاة والسلام، فالقضايا كلها كأنها لبس أو سوء فهم، وليست قضية خلافية جوهرية بين الصحابة رضي الله عنهم. قال: (وكان لـ علي من الناس وجهة حياة فاطمة، فلما توفيت استنكر علي وجوه الناس فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته)]. قال: ليس هناك وجه لاستنكار الناس إلا لأنني لم أبايع أبا بكر إلى الآن؛ وذلك لأنني لست من عامة الناس، فأنا إنسان مرموق ومن أعلام الصحابة. قال: [(ولم يكن بايع تلك الأشهر فأرسل إلى أبي بكر: أن ائتنا)]. ولو كان أبا بكر في حالة غضب من علي فلن يأتيه وإن أُرسلت إليه أكثر من رسالة، أو لقال: إذا كنت تريدني فائتني أنت، وهذا نظامنا نحن. قال: [فأرسل إلى أبي بكر: أن ائتنا، ولا يأتنا معك أحد]، وهنا يقصد عمر مع أن أمر الميراث لم يكن له أي اتصال بـ عمر، وكان هذا الكلام في خلافة أبي بكر، وأبو بكر هو رجل الدولة المتصرّف في كل شيء، فما هي علاقة عمر بهذا الأمر؟ لا علاقة له لا من قريب ولا من بعيد. قال: [(فائتنا ولا يأتنا معك أحد؛ كراهية محضر عمر بن الخطاب)] أي: لا تصطحبه معك. قال: (فقال عمر لـ أبي بكر: والله لا تدخل عليهم وحدك). وأنتم تعلمون لباقة علي وفصاحته وبلاغته، فيمكن أن يمسك أبا بكر ويعظه حتى يبكي أبو بكر فيرق له، ويعطيه ما يريد، ويمكن أن يطالبه علي بن أبي طالب بشيء من خاصة أبي بكر، فيحمل الحياء أبا بكر على دفعه إليه، ويستحي أن يدافع عن نفسه، ويتمنى لو أن الغير قد تكلم عنه، حتى عمر رضي الله عنه لو أن له حقاً يستحيي أن يطلبه ولا يرضى، وتأبى عليه كرامته أن يطالب به، لكن لو أن لغيره الحق لطالب به، فالإنسان يطالب لغيره بعلم وجرأة؛ لأنه لا يطلب لنفسه فهو غير متهم. إذاً: أبو بكر الصديق قال: أنا سأذهب لـ علي بن أبي طالب، وعمر قال له: لا تذهب بمفردك ولا بد أن آتي معك، حتى إذا كلمك في شيء أدفع عنك وأذود عنك وأتكلم؛ لأن حياءك سيمنعك من الرد على

طرق أخرى لرواية حديث مبايعة علي لأبي بكر ومنع الميراث بعد النبي صلى الله عليه وسلم

طرق أخرى لرواية حديث مبايعة علي لأبي بكر ومنع الميراث بعد النبي صلى الله عليه وسلم [حدثنا إسحاق بن إبراهيم ومحمد بن رافع وعبد بن حميد -قال ابن رافع: حدثنا، وقال الآخران: أخبرنا- عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة: (أن فاطمة والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهما حينئذ يطلبان أرضه من فدك وسهمه من خيبر، فقال لهما أبو بكر: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم) وساق الحديث بمثل حديث عقيل عن الزهري غير أنه قال: ثم قام علي فعظّم من حق أبي بكر وذكر فضيلته وسابقته، ثم مضى إلى أبي بكر فبايعه فأقبل الناس إلى علي فقالوا: أصبت وأحسنت، فكان الناس قريباً إلى علي حين قارب الأمر المعروف]. وفي الطريق الذي يلي ذلك طريق عروة: [أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته: (أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم سألت أبا بكر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقسم لها ميراثها مما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أفاء الله عليه فقال لها أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا نورث ما تركنا صدقة). قال: وعاشت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر، وكانت فاطمة تسأل أبا بكر نصيبها مما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر وفدك وصدقته بالمدينة؛ فأبى أبو بكر عليها ذلك، وقال: لست تاركاً شيئاً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به، إني أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ]. وهنا تبيّن لنا شفافية أبي بكر إلى هذا الحد، فإنه يعتقد أنه لو خالف نصاً واحداً من النصوص الشرعية يزيغ قلبه ولا يهتدي. قال: [فأما صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى علي وعباس، فغلبه عليها علي، وأما خيبر وفدك فأمسكهما عمر وقال: هما صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانتا لحقوقه التي تعروه ونوائبه]. وكأنه يقول: إن خيبر وفدك هي أراض لا أبيعها، ولا أعطيكم منها شيئاً أبداً إلا ما أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الهبة من المال فخذوه، وهذه الهبات التي كانت تأتيه من المدينة، أما السهم في خيبر والفيء في فدك فلا والله لا أعطيكم منه شيئاً؛ لأنه كان لمن يأتيه عليه الصلاة والسلام في أمر، أو تنزل به نازلة أو مصيبة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يجعل ذلك في هذه الأبواب المشروعة، وهذا عمل الإمام وليس عمل الأفراد، أما عموم الصدقات -أي: الهبات- التي كانت تأتيه من هنا ومن هناك، من المدينة ومن غيرها والهدايا فهي لكم، افعلوا فيها ما شئتم. قال: [وأمرهما إلى من ولي الأمر]. أي: أمر فدك وأمر سهم خيبر إلى من ولي الأمر. وهذا يدل على أن الخمس ليس خاصاً به عليه الصلاة والسلام، وإنما هو لكل إمام إلى قيام الساعة. قال: [فهما على ذلك إلى اليوم]، أي: هما على ذلك إلى يوم القيامة. [حدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقتسم ورثتي ديناراً)] أي: لا يرث ورثتي مني ديناراً، وهذا بلا شك تنبيه بالأدنى على الأعلى، فإذا كان الدينار ممنوعاً فمن باب أولى ما فوق الدينار. قال: [(ما تركت بعد نفقة نسائي ومئونة عاملي فهو صدقة)]. قوله: (ما تركت) أي: من الفيء، بعد نفقة أهل بيتي وخدمي وعمّالي فهو صدقة، أي: لا يقع تحت الميراث. [وحدثنا ابن أبي خلف حدثنا زكريا بن عدي أخبرنا ابن المبارك عن يونس عن الزهري عن الأعرج عن أبي هريرة: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا نورث. ما تركنا صدقة).

كلام النووي في أحاديث: (لا نورث، ما تركنا صدقة)

كلام النووي في أحاديث: (لا نورث، ما تركنا صدقة) قال الإمام في بعض فوائد هذه النصوص التي ذكرناها: (الحكمة في أن الأنبياء صلوات الله عليهم لا يورّثون: أنه لا يؤمن أن يكون في الورثة من يتمنى موته فيهلك). أي: لأن المورث إذا كبر في السن تمنى بعض الورثة موته، ولو تمنى أحد موت النبي لهلك ودخل النار. وهذا باب من أبواب بغض النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أبغض النبي كفر بالله، فبغض النبي كفر عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك أنتم تعلمون من حديث ابن شماسة المهري عند مسلم أنه قال: (دخلنا على عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت فبكى طويلاً، ثم حوّل وجهه ناحية الجدار، فقال له ابنه: يا أبتاه! أما بشّرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا؟ قال: يا بني! إن أفضل ما نعد -أي: للقاء الله عز وجل- شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإني كنت على أطباق ثلاث -أي: على أحوال ثلاث: لقد رأيتني وما أحد أبغض إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحب إلي أني استمكنت منه فقتلته، ولو أني مت على تلك الحال لدخلت النار). ففي هذا تصريح بأن من أبغض النبي وتمنى موته كفر بالله ودخل النار، ولكن هذا كان من عمرو قبل إسلامه. ثم تأتي المرحلة الثانية والمرحلة الثالثة. قال: (فلما شرح الله صدري للإسلام أتيت النبي عليه الصلاة والسلام فقلت: يا رسول الله! ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه فقبضت يدي قال: ما لك يا عمرو؟! قلت: يا رسول الله! أريد أن أشترط قال: تشترط بماذا؟ قلت: أشترط أن يغفر لي. قال: يا عمرو! أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟ أما علمت أن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟ أما علمت أن الحج يهدم ما كان قبله؟ قال عمرو: ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب الناس إلي، ولو أن أحداً سألني أن أصفه ما أطقت ذلك؛ لأني ما كنت أملأ عيني منه إجلالاً وتعظيماً له صلى الله عليه وسلم). والطبق الثالث قال: (ثم ولينا من هذا الأمر شيئاً ولا ندري ما الله فاعل معنا فيه، فإذا أنا مت فلا تتبعوني بنائحة ولا نار، فإذا دفنتموني فشنوا علي التراب شناً، وامكثوا عند قبري قدر ما أن تنحر جزور ويقسم لحمها، كي أستأنس بكم وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي) انتهى الحديث. فالشاهد منه: الطبق الأول، وهو: أن من أبغض النبي وتمنى موته وقتله هلك ودخل النار فهذه الحكمة من عدم توريث الأنبياء؛ لأنه لا يؤمن أن يكون في الورثة من يتمنى موته فيهلك؛ ولئلا يُظن بهم الرغبة في الدنيا لوارثه فيهلك الظان وينفر الناس عنه. وأنتم تعلمون أن الأنبياء ما بعثوا لتحصيل الدنيا وإنما بعثوا لتحصيل الآخرة، وأما كون عمر حلف ألا يدخل عليهم أبو بكر وحده، فحنّثه أبو بكر ودخل وحده ولم يأخذ معه عمر، مع أنه قال: والله لا تدخل عليهم وحدك أي: أنني سآتي معك، فحنثه أبو بكر في هذا. ففي هذا: دليل عن أن إبرار القسم إنما يؤمر به الإنسان إذا أمكن احتماله بلا مشقة، ولا تكون فيه مفسدة، وعلى هذا يُحمل الأمر بإبرار القسم، فمن حق المسلم على المسلم إبرار القسم، وإبرار القسم هذا إذا كان أمراً ميسوراً لي ولم يكن فيه مفسدة، لكن عندما يكون أمراً يشق علي أو فيه مفسدة فلا يلزم إبرار القسم، كما أنه لا يلزم الكفارة على الذي أقسم. وفي هذا الحديث من الفوائد: بيان صحة خلافة أبي بكر وانعقاد الإجماع عليها. ولا تلزم عمر الكفارة؛ لأن هذا واجب على المقسم عليه وليس على الذي أقسم، فلا يلزمه الكفارة، ولا يجوز كذلك للمقسم عليه أن يحنّث الحالف إلا بعذر، أما إذا قال الإنسان: والله لأفعلن كذا ثم لم يفعل لزمته الكفارة. فلا يلزم عمر الكفارة؛ لأن الوجوب على أبي بكر وليس على عمر، لكن إذا كان قد حلف على شيء أنه سيفعله، فإذا لم يفعله ولم يكن هناك عذر فبلا شك أن الكفارة واجبة عليه، أما إذا قام العذر أو ترجّح لديه وجه آخر كما قال عليه الصلاة والسلام: (من حلف على شيء فرأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير) فحينئذ يلزم الحالف -وليس المحلوف عليه- الكفارة. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

كتاب الجهاد والسير - كيفية تقسيم الغنيمة بين الحاضرين

شرح صحيح مسلم - كتاب الجهاد والسير - كيفية تقسيم الغنيمة بين الحاضرين كانت غزوة بدر فرقاناً، أنعم الله عز وجل فيها على نبيه وأصحابه بالنصر المؤزر على صناديد الكفر من أهل مكة، وأمدهم بالملائكة تقاتل معهم وتقذف الرعب في قلوب المشركين، حتى قتل في هذه المعركة جل مشيخة قريش، وعلى رأسهم أبو جهل وعتبة بن ربيعة وأمية بن خلف، ومن رجع منهم رجع يجر أذيال الخيبة والخسران والحسرة على من خلَّفهم وراءه في القليب.

باب كيفية تقسيم الغنائم بين الحاضرين

باب كيفية تقسيم الغنائم بين الحاضرين الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. الباب السابع عشر: (باب: كيفية قسمة الغنيمة بين الحاضرين). أي: بين الغانمين أو المجاهدين. قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يحيى بن يحيى وأبو كامل -الجحدري- فضيل بن حسين كلاهما عن سليم -وهو سليم بن أخضر - قال يحيى: أخبرنا سليم بن أخضر عن عبيد الله بن عمر -وهو العمري - قال: حدثنا نافع -وهو نافع الفقيه المدني مولى عبد الله بن عمر - عن مولاه عبد الله بن عمر: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم في النفل: للفرس سهمين، وللرجل سهماً)]. وأنتم تعلمون أن النفل ليس محلاً للقسمة، وإنما النفل للنبي عليه الصلاة والسلام ينفله من يشاء كيف شاء، أو للإمام ينفله كيف شاء ومتى شاء، ويحرم منه من شاء، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام أراد بهذا النفل: الغنيمة. وسماها تجوزاً نفلاً؛ لأنها في اللغة: نفل. والنفل في اللغة هو الزيادة والعطية. وقوله: (للرجل) رجل: مفرد رجال، بخلاف الراجل، فهو الذي يمشي على رجليه وهو مفرد راجلون أو رجال: (رجالاً وركبانا). [حدثناه ابن نمير قال: حدثنا أبي حدثنا عبيد الله بهذا الإسناد مثله ولم يذكر: (في النفل)]. أي: (قسم النبي عليه الصلاة والسلام للفرس سهمين وللرجل سهماً) هذه رواية الجماهير. وهناك رواية أخرى يقول في بعضها: (للفرس سهمين وللراجل سهم) أي: الذي يمشي على رجليه يأخذ سهماً، والذي يركب فرساً يأخذ سهمين: (سهم له وسهم لفرسه). وفي بعضها: (للفارس سهمين). والمراد بالنفل هنا كما قلنا: الغنيمة، وأطلق عليها اسم النفل؛ لكونها تسمى نفلاً لغة، فإن النفل في اللغة: الزيادة والعطية، وهذه عطية من الله تعالى، وزيادة لهذه الأمة على ما كانت الأمم من قبل، فإن إباحة الغنائم من خصائص أمة الإسلام، ولم تكن حلالاً للأمم السابقة.

أقوال العلماء في سهم الفارس والراجل من الغنيمة

أقوال العلماء في سهم الفارس والراجل من الغنيمة اختلف العلماء في سهم الفارس والراجل من الغنيمة. هذا أمر محل نزاع بين الجمهور وبين الأحناف. أما الجمهور فقالوا: يكون للراجل سهم واحد وللفارس ثلاثة أسهم، سهمان بسبب فرسه وسهم له هذا مذهب الجمهور. وممن قال بهذا: ابن عباس ومجاهد والحسن وابن سيرين وعمر بن عبد العزيز ومالك والأوزاعي والثوري والليث والشافعي وأبو يوسف ومحمد وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وابن جرير وآخرون. فمذهب الجمهور: الذي يركب خيلاً له سهم، ولخيله سهمان، فتكون عنده هنا ثلاثة أسهم. أما الذي شارك في الجهاد على رجليه -الراجل- فله سهم واحد. إذاً: سواء كان راجلاً أو راكباً فله سهم، أما الفرس فله سهمان. وأما الأحناف وبالذات أبو حنيفة قال: للفارس سهمان فقط: سهم له وسهم لفرسه. قالوا: ولم يقل بقوله هذا أحد. أي: كأن أبا حنيفة تفرد بهذا. وهو في الحقيقة لم يتفرّد؛ لأن ذلك قد روي عن علي بن أبي طالب وأبي موسى الأشعري. أما حجة الجمهور فهذا الحديث، وهو صريح على رواية من روى: (للفرس سهمين، وللرجل سهماً) بغير ألف في الرجل. يعني: لم يقل: للراجل. ومن روى: (وللراجل) فروايته محتملة، فيتعين حملها على موافقة الأولى جمعاً بين الروايتين. فالمذهب الراجح في القضية وهو مذهب الجمهور: أن من شارك في الجهاد بفرسه يأخذ ثلاثة أسهم: واحداً لنفسه، واثنين لفرسه. أما من شارك في الجهاد بغير فرس -أي: على رجليه- فله سهم واحد. وأما مذهب الأحناف فمذهب مرجوح إن لم يكن ضعيفاً، وقد جاء عن غير واحد من السلف (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم لرجل ولفرسه ثلاثة أسهم: سهماً له، وسهمين لفرسه). هذه الرواية صريحة أن للفارس سهماً وللفرس سهمين. ومثله من رواية ابن عباس وأبي عمرة الأنصاري رضي الله عنهم: (ولو حضر بأفراس -جمع فرس- لم يسهم إلا لفرس واحد). أي: لو يأتي بخمسة من الخيل أو ثلاثة أو عشرة أو أقل أو أكثر، وأراد أن يأخذ لكل فرس من هذا الخيل سهمين يمنع من ذلك. وهذا مذهب الجمهور، فلا يسهم له إلا لفرس واحد. والقائل بهذا المذهب: الحسن ومالك وأبو حنيفة والشافعي ومحمد بن الحسن رضي الله عنهم. أما الأوزاعي والثوري والليث وأبو يوسف رضي الله عنهم قالوا: يسهم لفرسين. ويروى مثله أيضاً عن الحسن ومكحول ويحيى الأنصاري وابن وهب وغيره من المالكيين. قالوا: ولم يقل أحد: إنه يسهم لأكثر من فرسين إلا شيئاً روي عن سليمان بن موسى: أنه يُسهم لما هو أكثر من ذلك. لكن الأصل: أن من شارك في الجهاد بأفراس فمذهب الجمهور أنه لا يُسهم إلا لفرس واحد. وغير الجمهور قالوا: يُسهم لفرسين دون بقية الأفرس، فلو أنه شارك بعشرة لا يُسهم إلا للاثنين، وفي الحقيقة ليس هناك دليل على منع إعطاء الأسهم لما هو أكثر من واحد؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (للفارس سهم وللفرس سهمان) والمعلوم أن الفارس صاحب الأفرس لا يجاهد إلا على فرس واحد. والمعلوم أن بقية الأفرس لا قيمة لها حتى يستخدمها مجاهدون آخرون، ولو أنها تركت في الجهاد بغير قتال أو بغير فارس فإنها لا تنفع ولا تشفع حينئذ، فلا بد أن يوجهها وأن يركبها فارس مجاهد. فتبيّن لو أن واحداً أتى إلى الجهاد راجلاً واستخدم فرس غيره: هل يُسهم له أو لا يُسهم؟ الذي يترجّح لدي أن هذا الفرس يُسهم له سهمان، لكن من يأخذ هذا السهم؟ هل صاحبه الذي يأخذه، أم الفارس الذي ركبه؟ هذه المسألة محل نزاع بين العلماء.

باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم

باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم الباب الثامن عشر: (باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم). الغنائم مباحة على هذه الأمة حرام على غيرها. قال: [حدثنا هناد بن السري حدثنا ابن المبارك -وهو عبد الله بن المبارك - عن عكرمة بن عمار حدثني سماك الحنفي -وهو سماك بن الوليد الحنفي - قال: سمعت ابن عباس يقول: حدثني عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم بدر]. أراد أن يتكلم فقطعه إسناد آخر، ثم ينضم بداية الحديث وطرفه الأول مع طرفه الثاني. قال: [(ح) وحدثنا زهير بن حرب -واللفظ له- قال: حدثنا عمر بن يونس الحنفي] وقوله: (واللفظ له) أي: لـ زهير؛ ليدل على أن السياق الآتي إنما هو سياق زهير بن حرب وليس سياق هناد بن السري، وهنا معنا إسنادان لـ مسلم أحدهما من طريق هناد والآخر من طريق زهير، فهذا السياق الذي في هذا الحديث إنما هو سياق زهير بن حرب. قال: [حدثنا عكرمة بن عمار حدثني أبو زميل -وهو سماك بن الوليد الحنفي - قال: حدثني عبد الله بن عباس قال: حدثني عمر بن الخطاب قال: (لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف)] والحقيقة أنهم كانوا أكثر من ألف، فقد كانوا ألفاً وثلاثمائة تقريباً، والمسلمون كانوا ثلاثمائة فقط أو ثلاثمائة وبضعة عشر، فنظر النبي عليه الصلاة والسلام إلى المشركين وكانوا كثرة في العدد نسبة إلى عدد المسلمين. قال: [(وهم ألف -أي: تقريباً- وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً، فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة -أي: تحول واستدار ناحية القبلة- ثم مد يديه فجعل يهتف بربه)]. يهتف: يستغيث ويدعو ويصيح ويرفع صوته. قوله: (استقبل نبي الله القبلة، ثم مد يديه وجعل يهتف بربه) هذا من آداب الدعاء: أن يستقبل القبلة وأن يرفع يديه. والحافظ السيوطي له كتاب عظيم جداً في بابه اسمه: (فض الوعاء في أحاديث رفع اليدين بالدعاء). وهذا من الآداب وليس من الأحكام؛ ولذلك العلماء يعتبرون أن في باب المتواتر المعنوي: رفع الأيدي في الدعاء، وأنها فطرة فطر الناس عليها، من أراد أن يدعو حتى وإن كان أجهل الناس ولا علم له بالكتاب ولا بالسنة يرفع يديه، حتى الأم أو الجدة التي لم تطلب علماً أول ما تريد أن تدعو ترفع يديها، فهذه فطرة وليست كما قيل: السماء قبلة الدعاء. فهذا كلام غير صحيح. نعم. الله تعالى في السماء، لكن بعض أهل العلم نسب كلام آحاد الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وليست هذه النسبة بصحيحة. قال: [(فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه -جعل يهتف أي: ينادي ويصيح- ويقول: اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني -أي: آتني ما وعدتني- اللهم إن تهلك هذه العصابة -أي: هذه الجماعة من الناس ومن الجنود والصحابة- اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تُعبد في الأرض، فما زال يهتف بربه ماداً يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله كذاك مناشدتك ربك -وفي رواية: كفاك مناشدتك ربك- فإنه سينجز لك ما وعدك؛ فأنزل الله عز وجل: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال:9]-أي: متتابعين- فأمده الله بالملائكة. قال أبو زميل - سماك الحنفي - فحدثني ابن عباس قال: بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد -أي: يعدو ويسرع المشي- في أثر رجل من المشركين أمامه -أي: خلف رجل من المشركين- إذ سمع ضربة بالسوط فوقه -أي: فوق العدو- وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم، فنظر الرجل -أي: المسلم- إلى المشرك أمامه فخر مستلقياً، فنظر إليه فإذا هو قد خطم أنفه -أي: جذع أو شُق أنفه- وشق وجهه كضربة السوط، فاخضر ذلك أجمع، فجاء الأنصاري فحدّث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صدقت. ذلك من مدد السماء الثالثة. فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين. قال أبو زميل: قال ابن عباس: فلما أسروا الأسارى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر وعمر: ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ فقال أبو بكر: يا نبي الله! هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية، فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم للإسلام)]. والنبي صلى الله عليه وسلم استشار أبا بكر وعمر فحسب، وهذ

كلام النووي في حديث الإمداد بالملائكة يوم بدر

كلام النووي في حديث الإمداد بالملائكة يوم بدر الباب الثامن عشر: (باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم). الغنائم مباحة على هذه الأمة حرام على غيرها. قال: [حدثنا هناد بن السري حدثنا ابن المبارك -وهو عبد الله بن المبارك - عن عكرمة بن عمار حدثني سماك الحنفي -وهو سماك بن الوليد الحنفي - قال: سمعت ابن عباس يقول: حدثني عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم بدر]. أراد أن يتكلم فقطعه إسناد آخر، ثم ينضم بداية الحديث وطرفه الأول مع طرفه الثاني. قال: [(ح) وحدثنا زهير بن حرب -واللفظ له- قال: حدثنا عمر بن يونس الحنفي] وقوله: (واللفظ له) أي: لـ زهير؛ ليدل على أن السياق الآتي إنما هو سياق زهير بن حرب وليس سياق هناد بن السري، وهنا معنا إسنادان لـ مسلم أحدهما من طريق هناد والآخر من طريق زهير، فهذا السياق الذي في هذا الحديث إنما هو سياق زهير بن حرب. قال: [حدثنا عكرمة بن عمار حدثني أبو زميل -وهو سماك بن الوليد الحنفي - قال: حدثني عبد الله بن عباس قال: حدثني عمر بن الخطاب قال: (لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف)] والحقيقة أنهم كانوا أكثر من ألف، فقد كانوا ألفاً وثلاثمائة تقريباً، والمسلمون كانوا ثلاثمائة فقط أو ثلاثمائة وبضعة عشر، فنظر النبي عليه الصلاة والسلام إلى المشركين وكانوا كثرة في العدد نسبة إلى عدد المسلمين. قال: [(وهم ألف -أي: تقريباً- وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً، فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة -أي: تحول واستدار ناحية القبلة- ثم مد يديه فجعل يهتف بربه)]. يهتف: يستغيث ويدعو ويصيح ويرفع صوته. قوله: (استقبل نبي الله القبلة، ثم مد يديه وجعل يهتف بربه) هذا من آداب الدعاء: أن يستقبل القبلة وأن يرفع يديه. والحافظ السيوطي له كتاب عظيم جداً في بابه اسمه: (فض الوعاء في أحاديث رفع اليدين بالدعاء). وهذا من الآداب وليس من الأحكام؛ ولذلك العلماء يعتبرون أن في باب المتواتر المعنوي: رفع الأيدي في الدعاء، وأنها فطرة فطر الناس عليها، من أراد أن يدعو حتى وإن كان أجهل الناس ولا علم له بالكتاب ولا بالسنة يرفع يديه، حتى الأم أو الجدة التي لم تطلب علماً أول ما تريد أن تدعو ترفع يديها، فهذه فطرة وليست كما قيل: السماء قبلة الدعاء. فهذا كلام غير صحيح. نعم. الله تعالى في السماء، لكن بعض أهل العلم نسب كلام آحاد الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وليست هذه النسبة بصحيحة. قال: [(فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه -جعل يهتف أي: ينادي ويصيح- ويقول: اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني -أي: آتني ما وعدتني- اللهم إن تهلك هذه العصابة -أي: هذه الجماعة من الناس ومن الجنود والصحابة- اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تُعبد في الأرض، فما زال يهتف بربه ماداً يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله كذاك مناشدتك ربك -وفي رواية: كفاك مناشدتك ربك- فإنه سينجز لك ما وعدك؛ فأنزل الله عز وجل: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال:9]-أي: متتابعين- فأمده الله بالملائكة. قال أبو زميل - سماك الحنفي - فحدثني ابن عباس قال: بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد -أي: يعدو ويسرع المشي- في أثر رجل من المشركين أمامه -أي: خلف رجل من المشركين- إذ سمع ضربة بالسوط فوقه -أي: فوق العدو- وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم، فنظر الرجل -أي: المسلم- إلى المشرك أمامه فخر مستلقياً، فنظر إليه فإذا هو قد خطم أنفه -أي: جذع أو شُق أنفه- وشق وجهه كضربة السوط، فاخضر ذلك أجمع، فجاء الأنصاري فحدّث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صدقت. ذلك من مدد السماء الثالثة. فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين. قال أبو زميل: قال ابن عباس: فلما أسروا الأسارى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر وعمر: ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ فقال أبو بكر: يا نبي الله! هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية، فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم للإسلام)]. والنبي صلى الله عليه وسلم استشار أبا بكر وعمر فحسب، وهذ

معنى قوله: (لما كان يوم بدر)

معنى قوله: (لما كان يوم بدر) قال النووي رحمه الله: (اعلم أن بدراً هو موضع الغزوة العظمى المشهورة، وهو ماء معروف، وقرية عامرة على نحو أربع مراحل من المدينة، بينها وبين مكة -أي: في طريق مكة- قال ابن قتيبة: بدر: بئر كانت لرجل يسمى بدراً، فسميت باسمه. قال أبو اليقظان: كانت لرجل من بني غفار. وكانت غزوة بدر يوم الجمعة لسبع عشرة خلت من شهر رمضان، في السنة الثانية من الهجرة). وثبت في صحيح البخاري عن ابن مسعود أن يوم بدر كان يوماً حاراً.

استحباب استقبال القبلة في الدعاء

استحباب استقبال القبلة في الدعاء أما قوله: (فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مد يده فجعل يهتف بربه: اللهم أنجز لي ما وعدتني). (يهتف) فمعناه: يصيح ويستغيث بالله بالدعاء. وفي هذا الحديث: استحباب استقبال القبلة في الدعاء ورفع اليدين فيه.

خلاف العلماء في مواطن رفع اليدين في الدعاء

خلاف العلماء في مواطن رفع اليدين في الدعاء ولكن هل هو في هذا الموطن فحسب أم في كل المواطن؟ بعض أهل العلم قال: لا تُرفع الأيدي إلى السماء، ولا يستقبل القبلة إلا في المواطن التي صح فيها استقبال القبلة ورفع الأيدي في الدعاء. وجماهير الفقهاء يقولون: يستحب رفع الأيدي في الدعاء واستقبال القبلة في كل دعاء، واعتبروه من المتواتر المعنوي، ولا أقصد قنوت الفجر، فالأصل ألا يقنت في الفجر، وإنما يُقنت في جميع الصلوات في النوازل، وهذه هي السنة التي استقر عليها كلام المحققين. فأنت بطبيعة الحال إذا كنت في الصلاة فإنك ستكون مستقبلاً القبلة، فترفع يديك، وهذا المسنون والوارد عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه كان يرفع يديه شهراً كاملاً في صلاته يدعو على رعل وذكوان، وكان يرفع يديه في صلاة الاستسقاء، وكان يرفع يديه إذا زار البقيع، إلا في يوم الجمعة، فإنه لم يثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يرفع يديه، وإنما كان يرفع السبابة إذا دعا عليه الصلاة والسلام، أما المأموم فلا يرفع لا يديه ولا السبابة، بل قد ورد عند ابن أبي شيبة في المصنف وعبد الرزاق في المصنف كذلك: أن بعض السلف كـ عطاء والسدي وقتادة وغير واحد: كان إذا رأى رجلاً من الناس رفع أصبعه أو رفع يديه كان يخفضها يزجره زجراً. بمعنى: يضربها له أو يخبطها يزجره عن ذلك، فإذا كان هذا ثابتاً عن بعض السلف بغير نكير ولا مخالفة فيكون بلا شك أن: السنة ترك رفع المأمومين أيديهم خلف الإمام. ويسن للإمام إذا دعا أن يرفع السبابة ولا يرفع يده وهذا في أثناء الجمعة.

حكم رفع الصوت بالدعاء

حكم رفع الصوت بالدعاء وفي هذا الحديث: أنه لا بأس برفع الصوت في الدعاء، إذا كان الأمر يحتمل ذلك أو يتطلب رفع الصوت، وإلا فالأصل في الدعاء خفض الصوت؛ ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم رأى أصحاباً له يدعون الله تعالى بصوت عالٍ؛ فقال: (أربعوا على أنفسكم؛ فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً). أربعوا أي: أمهلوا على أنفسكم، ولا ترفعوا أصواتكم بهذه الطريقة فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً. قوله: (اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض) فالعصابة بمعنى: الجماعة.

الحكمة من مبالغة النبي صلى الله عليه وسلم في مناشدة ربه النصر يوم بدر

الحكمة من مبالغة النبي صلى الله عليه وسلم في مناشدة ربه النصر يوم بدر وقوله: (كذاك مناشدتك ربك) والنشيد: هو رفع الصوت. وفي رواية: (حسبك مناشدتك ربك) وكلها بمعنى واحد. أي: بمعنى: كفاك دعاء لربك، فإن الله تعالى منجز لك ما وعدك. قال: (العلماء: هذه المناشدة إنما فعلها النبي صلى الله عليه وسلم ليراه أصحابه بتلك الحال من الذل والخضوع لله عز وجل، فيتواضعون ويذلون ويخضعون، فتقوى قلوبهم بدعائه وتضرعه، مع: أن الدعاء عبادة مستقلة). كما قال عليه الصلاة والسلام: (الدعاء هو العبادة). فالدعاء عبادة مستقلة سواء كان للداعي حاجة أو لم يكن له حاجة، فالدعاء عبادة مستقلة. قال: (وقد كان وعده الله عز وجل إحدى الطائفتين: إما العير، وإما الجيش). أي: عير التجارة، وأنتم تعلمون أن قافلة المشركين كانت قادمة من الشام، فتلقاها النبي عليه الصلاة والسلام عند ماء بدر، والمعلوم أن العير قد مضت ولم يدركهم النبي صلى الله عليه وسلم وهم ذهاب، وإنما أدركهم وهم رجوع وإياب، فلم يبق إلا الجيش لأن العير قد انتهت، وقد باعوا تجاراتهم بالشام، وفي حين قدومهم ورجوعهم رجعوا بجيش، أما العير فقد انتهت ومضى أمرها، فهناك اعتقاد جازم ويقين قوي بأن النبي صلى الله عليه وسلم سينتصر في هذه الغزوة؛ لأن الله وعده إحدى الطائفتين، فواحدة ذهبت ولم يبق إلا الثانية، فلا بد أن الله تعالى منجز له ما وعده، فلِم الدعاء إذاً؟ A لأنه عبادة. قال: (وقد كان وعد الله تعالى إحدى الطائفتين إما العير وإما الجيش، وكانت العير قد ذهبت وفاتت، فكان على ثقة من حصول الأخرى، وهي أنه يتمكن من رقاب المشركين، ولكن سأل تعجيل ذلك وتنجيزه من غير أذى يلحق المسلمين).

استجابة الله لدعاء نبيه وإمداده بالملائكة

استجابة الله لدعاء نبيه وإمداده بالملائكة أما قوله: {أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال:9] أي: سأعينكم أيها المؤمنين بألف من الملائكة متتابعين. أما قول هذا الأنصاري: أنه سمع في السماء صوتاً يقول: (أقدم حيزوم). قال: (الحيزوم) أو (الحيزون) على روايتين: اسم فرس الملك، كأن هذا الملك نزل من السماء وهو راكب فرساً، وهذا الفرس اسمه (حيزوم) بالميم أو (حيزون) بالنون، وكأن الملك يدفع الفرس دفعاً ويستعجله ويتعجّله ويقول له: أقدم وتقدم ليضرب عنق هذا المشرك، فهذا الصوت سمعه الأنصاري ولم ير مصدر الصوت. (أقدم حيزوم): كلام سمعه من الملك، وحيزوم: اسم فرس. ولكن هل للفرس الذي كان يركبه الملك سهمين، وكذلك الملك هل له سهم؟ A لا يأخذ شيئاً لا هو ولا فرسه. ولو أسميت فرسك (حيزوماً) أو (حيزوناً) فلا بأس بذلك، ولو أسميت ناقتك العضباء لكان أولى؛ لأن هذه ناقة النبي عليه الصلاة والسلام. قال: (وحيزوم اسم فرس الملك، كأنه قال له يناديه: يا حيزوم! أقدم). من الإقدام. قال: (وهي كلمة زجر للفرس معلومة في كلام العرب)، والملك إنما نادى على الفرس بنداء يفهمه السامع، كأنها بشارة لهذا الأنصاري نحن معك، مدد من السماء قد جاء. قال: (فإذا هو قد خُطم أنفه) الخطم هو: الأثر على الأنف. أي: كأنه كسّر له أنفه.

حكم الإسلام في مفاداة الأسرى من الكفار

حكم الإسلام في مفاداة الأسرى من الكفار قوله: (فقال عمر: (هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها) جمع صنديد، وهم العتاة في الكفر؛ لأن الكفر له أهل، وأهله أئمة كبار، كالإسلام والإيمان بالضبط، فالإسلام والإيمان له عامة المؤمنين وله خاصة المؤمنين من أهل العلم وأئمته، وأئمة العلم، فكذلك الكفر والشرك له عامة الأتباع وله صناديده وأئمته: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التوبة:12] فسمى الله تعالى كبار الكافرين أئمة ومن لهم مشورة وغير ذلك. قال: (فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر). أي: أحب ذلك واستحسنه، وهو من الهوى: المحبة. (ولم يهو ما قلت) أي: ولم يهو النبي صلى الله عليه وسلم ما قال عمر رضي الله عنه. وأما قوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال:67]. أي: يكثر القتل والقهر في العدو. وهذا أولى. لكن بلا شك قضية الأولى وعدم الأولى متعلقة بتوابع أخرى موجودة في كتب الفقه المطولة، كالمغني والمجموع وغير ذلك. أي: لو كان هناك إمام يقاتل الكفار بجيش المسلمين، فأُسر من المسلمين ألف، وأُسر من الكافرين ألف، فماذا نعمل؟ هل نقتل الأسرى أم نبدّلهم؟ A نبدّل الأسرى بلا شك؛ لأن حذاء المسلم المجاهد أغلى من رقاب جميع الكافرين، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا يُقتل مؤمن بكافر). فإذا كان عند الكافرين ما يوازي عدد ما عندي لهم من أسرى، أو أقل مما عندي فأنا أفدي عشرة من المسلمين بمائة من الكافرين ولا حرج. وفي هذا بيان آخر: هل الأسرى الذين عندي من أئمة الكفر وأصحاب المشورة. أي: أصحاب الخطط العسكرية التكتيكية الذين يتوقف هزيمة الكفار ونصر الكفّار عليهم أم لا؟ A لا بد أن هناك اعتبارات أخرى كثيرة، لكن لو أن عامة المأسورين من المسلمين وعامة الأسرى عندي من عامة المشركين فلا بأس بالبدل حينئذ. أما إذا كان عندي من الأسرى ما ليس عندهم، كأن لم يأخذوا مني أسرى، وأنا قد أخذت منهم، فالأولى بلا نزاع -وهو الذي يوافق نص الآية- قتل هؤلاء إلا أن يسلموا، ولو حتى أسلموا في القتل.

حكم من نطق بالشهادة من الكفار أثناء المعركة

حكم من نطق بالشهادة من الكفار أثناء المعركة يسأل كثير من الناس حينما كانت الحرب على أشدها وتدور رحاها بين الروس والشيشان يقولون: نحن أول ما نأسر رجلاً أو قائداً من قواد الروس ينطق بالشهادتين، فماذا نفعل؟ هل نعتبر هذه الشهادة أم نردها ونقتله؟ A نعتبر ذلك ولا نقتله بغير خلاف، فقد تقول: قال ذلك تعوذاً، وهكذا كان ظن أسامة بن زيد رضي الله عنه، حينما تمكّن من رقبة رجل قال: أشهد أن لا إله إلا الله فقتله، فلما صار الخبر إلى النبي عليه الصلاة والسلام قال: (أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله؟ قال: يا رسول الله! إنما قالها تعوذاً -يريد أن يهرب من السيف- قال: أشققت عن صدره يا أسامة؟!) وظل النبي صلى الله عليه وسلم يردد هذا لـ أسامة حتى قال أسامة: يا ليتني! ما أسلمت إلا اليوم، ولم يثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام اقتص من أسامة؛ لأن أسامة كان متأولاً ولم يكن قاتلاً عمداً بغير تأويل، وإنما غلب على ظنه أنه باق على كفره، وما قال هذا الذي قاله إلا هروباً من القتل، ولم يكن اجتمع في قلبه حقيقة الإيمان، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم عامل الناس على أصل ظاهرهم، وحينئذ هذا حكم الله عز وجل الذي يكون إلى يوم القيامة، فلو أن أحداً من جند الكفر نطق بكلمة الإسلام والإيمان في أثناء القتال فلا بد من رفع السيف عن رقبته فوراً وترك قتاله، وله ما لنا وعليه ما علينا، وإذا وقع الشك في قلوبنا مما يمكن أن يكون قال ذلك تعوذاً فلا بأس برقابته، أو وضعه في أماكن أخرى في صفوف المؤخرة من القتال، ومراقبته ومراقبة أحواله وحركاته، والتزامه بأحكام الشرع وغير ذلك، فلا يصح إلا الصحيح، والصحيح هو الذي جاء به الشرع.

باب ربط الأسير وحبسه وجواز المن عليه

باب ربط الأسير وحبسه وجواز المن عليه الباب التاسع عشر: (باب ربط الأسير وحبسه وجواز المن عليه). أي: باب: جواز ربط الأسير، وجواز حبس الأسير، والمن عليه بإطلاق سراحه. وهذا هو المعنى المتبادر الأول من كلمة المن، بخلاف العطية، فالعطية في باب الصدقات عند الإطلاق، كما قال الله تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة:263]، وقال عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة لا يكلمهم الله تعالى ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المسبل إزاره، والمنان، والمنفّق سلعته بالحلف الكاذب) والمنان الذي يعطي الإنسان عطية ويمن عليه: أنا يوم كذا أعطيتك كذا، ويوم كذا أعطيتك كذا. والمن في القرآن كذلك بمعنى: الطير. قال تعالى: {الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} [البقرة:57]، والسلوى: هي الحلوى وهو طعام بني إسرائيل الذي أعطاهم الله تعالى إياه. قال: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث عن سعيد بن أبي سعيد -وهو المقبري - أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلاً قِبل نجد)] والخيل: هي السرية، عبّر هنا بالخيل عن السرية، ونجد هي المعروفة الآن بالرياض والمدن المجاورة لها. قال: [(فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له: ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة -واليمامة من بلاد نجد- فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ماذا عندك يا ثمامة؟!)] تصور أن مسئولاً كبيراً يؤتى من خلفه ويُربط في عمود من أعمدة المسجد، فهذا موقف عز عظيم جداً، ولم يأت هو ليهاجمهم فأسروه، ولكنهم هم الذين ذهبوا وأتوا به، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بربطه في سارية المسجد -أي: في العمود- وبعد كل فترة يمر عليه فيقول: [(ماذا عندك يا ثمامة؟! فقال: عندي يا محمد! خير إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تُنعم تُنعم على شاكر)] هو مشرك، ولكنه كلام موزون جداً؛ ولذلك لم يحز السيادة في العرب إلا من كان أهلاً لها. قال: يا محمد أنا بخير، إن أردت أن تمن عليّ بفكاك الأسر فستجدني لك شاكراً، وإن قتلتني فأنا عظيم في قومي صاحب دم، ولا يمكن لمن ورائي أن يفرطوا في دمي. وهذا يدل على أن لديه عزاً مع أنه مشرك. يقول له: فأنت لو قتلتني لن يتركوك قومي، فكأنه يريد أن يقول هذا، وهذا أرجح الأقوال في معنى ذلك. وهناك أقوال أخرى سنتعرف عليها. قال: [(وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان من الغد فقال: ماذا عندك يا ثمامة؟! فقال: عندي ما قلت لك، إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أطلقوا ثمامة)] حتى تعلم أننا لن نقتلك ولا نريد منك المال، لكي تعرف أننا أفضل منك، وهذا من عليه. قال: [(فانطلق إلى نخل قريب من المسجد -أي: بستان قريب من المسجد النبوي- فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله)]. أرأيتم هذا الكلام الجميل! فهو خشي أن ينطق بهذا وهو في الأسر حتى لا يقولوا: إن هذا مجرد خوف، وما أسلم إلا فراراً من القتل! فالسيد يظل سيداً طيلة عمره، والسيد لا يصلح أن يكون عبداً في أخلاقه وأدبه، فهذا الرجل أبى أن يُسلم في حال الأسر، حتى لا يقال: إن الحامل له على الدخول في الإسلام الخوف والرعب. وأيضاً يرد بقوة فيقول: فأنت لو قتلتني فلن يتركوك قومي، فاغتسل ثم دخل المسجد فنطق بالشهادتين ثم قال: [(يا محمد! والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي)] وهكذا الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب. قال: [(والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحب الدين كله إلي، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إلي، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة)] أي قد كنت أتيت لأجل العمرة، وهذا يدل على أن الحج والعمرة نسك قديم منذ زمن إبراهيم عليه السلام. وقيل: منذ زمن آدم عليه السلام، وأنتم تعلمون أن النبي عليه الصلاة والسلام حج مرتين قبل البعثة على ملة إبراهيم عليه السلام، فالمشركون كانوا يحجون ويعتمرون إلى البيت. قال: [(وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟)] أي: بماذا تشير علي؟ هل تأمرني بالذهاب إلى العمرة؟ وهذا أدب شديد؛ لأنه علم أنه بجوار النبي صلى الله عليه وسلم ليس سيداً، بل هو مؤتمر بأوامره منته عما نهاه عنه. قال: فماذا ترى يا رسول الله؟! قال: [(فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل:

كلام الإمام النووي في حديث إسلام ثمامة

كلام الإمام النووي في حديث إسلام ثمامة الباب التاسع عشر: (باب ربط الأسير وحبسه وجواز المن عليه). أي: باب: جواز ربط الأسير، وجواز حبس الأسير، والمن عليه بإطلاق سراحه. وهذا هو المعنى المتبادر الأول من كلمة المن، بخلاف العطية، فالعطية في باب الصدقات عند الإطلاق، كما قال الله تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة:263]، وقال عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة لا يكلمهم الله تعالى ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المسبل إزاره، والمنان، والمنفّق سلعته بالحلف الكاذب) والمنان الذي يعطي الإنسان عطية ويمن عليه: أنا يوم كذا أعطيتك كذا، ويوم كذا أعطيتك كذا. والمن في القرآن كذلك بمعنى: الطير. قال تعالى: {الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} [البقرة:57]، والسلوى: هي الحلوى وهو طعام بني إسرائيل الذي أعطاهم الله تعالى إياه. قال: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث عن سعيد بن أبي سعيد -وهو المقبري - أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلاً قِبل نجد)] والخيل: هي السرية، عبّر هنا بالخيل عن السرية، ونجد هي المعروفة الآن بالرياض والمدن المجاورة لها. قال: [(فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له: ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة -واليمامة من بلاد نجد- فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ماذا عندك يا ثمامة؟!)] تصور أن مسئولاً كبيراً يؤتى من خلفه ويُربط في عمود من أعمدة المسجد، فهذا موقف عز عظيم جداً، ولم يأت هو ليهاجمهم فأسروه، ولكنهم هم الذين ذهبوا وأتوا به، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بربطه في سارية المسجد -أي: في العمود- وبعد كل فترة يمر عليه فيقول: [(ماذا عندك يا ثمامة؟! فقال: عندي يا محمد! خير إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تُنعم تُنعم على شاكر)] هو مشرك، ولكنه كلام موزون جداً؛ ولذلك لم يحز السيادة في العرب إلا من كان أهلاً لها. قال: يا محمد أنا بخير، إن أردت أن تمن عليّ بفكاك الأسر فستجدني لك شاكراً، وإن قتلتني فأنا عظيم في قومي صاحب دم، ولا يمكن لمن ورائي أن يفرطوا في دمي. وهذا يدل على أن لديه عزاً مع أنه مشرك. يقول له: فأنت لو قتلتني لن يتركوك قومي، فكأنه يريد أن يقول هذا، وهذا أرجح الأقوال في معنى ذلك. وهناك أقوال أخرى سنتعرف عليها. قال: [(وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان من الغد فقال: ماذا عندك يا ثمامة؟! فقال: عندي ما قلت لك، إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أطلقوا ثمامة)] حتى تعلم أننا لن نقتلك ولا نريد منك المال، لكي تعرف أننا أفضل منك، وهذا من عليه. قال: [(فانطلق إلى نخل قريب من المسجد -أي: بستان قريب من المسجد النبوي- فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله)]. أرأيتم هذا الكلام الجميل! فهو خشي أن ينطق بهذا وهو في الأسر حتى لا يقولوا: إن هذا مجرد خوف، وما أسلم إلا فراراً من القتل! فالسيد يظل سيداً طيلة عمره، والسيد لا يصلح أن يكون عبداً في أخلاقه وأدبه، فهذا الرجل أبى أن يُسلم في حال الأسر، حتى لا يقال: إن الحامل له على الدخول في الإسلام الخوف والرعب. وأيضاً يرد بقوة فيقول: فأنت لو قتلتني فلن يتركوك قومي، فاغتسل ثم دخل المسجد فنطق بالشهادتين ثم قال: [(يا محمد! والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي)] وهكذا الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب. قال: [(والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحب الدين كله إلي، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إلي، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة)] أي قد كنت أتيت لأجل العمرة، وهذا يدل على أن الحج والعمرة نسك قديم منذ زمن إبراهيم عليه السلام. وقيل: منذ زمن آدم عليه السلام، وأنتم تعلمون أن النبي عليه الصلاة والسلام حج مرتين قبل البعثة على ملة إبراهيم عليه السلام، فالمشركون كانوا يحجون ويعتمرون إلى البيت. قال: [(وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟)] أي: بماذا تشير علي؟ هل تأمرني بالذهاب إلى العمرة؟ وهذا أدب شديد؛ لأنه علم أنه بجوار النبي صلى الله عليه وسلم ليس سيداً، بل هو مؤتمر بأوامره منته عما نهاه عنه. قال: فماذا ترى يا رسول الله؟! قال: [(فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل:

حكم دخول الكافر المسجد

حكم دخول الكافر المسجد يقول النووي رحمه الله: (في هذا الحديث جواز ربط الأسير وحبسه، وجواز إدخال المسجد الكافر). أي: جواز إدخال الكافر في المسجد. (ومذهب الشافعي جوازه بإذن مسلم، سواء كان الكافر كتابياً أو غيره). أي: أن مذهب الشافعي يقول: الكافر يدخل المسجد، لكن لا يدخله إلا بإذن مسلم، وباتفاق أهل العلم أن حمامات المساجد ليست من المساجد، وكذلك الأماكن الملحقة بالمسجد ليست من المسجد، فلا بأس أن يدخلها الكافر، ولا بأس بدخوله المسجد أيضاً، فالمسألة محل نزاع وخلاف بين أهل العلم، لكن الراجح: جواز دخوله، فلو أنه لا يمكن وصوله إلى الحمام إلا بالدخول من المسجد فلا بأس بذلك، لكن مذهب المالكية يقول: لا يجوز. نقول: لو كان لا يجوز مطلقاً فلِم أدخل النبي صلى الله عليه وسلم ثمامة في المسجد وربطه؟ ألم تعلم أن الأعراب كانوا يأتون فيربطون إبلهم خارج المسجد ويدخلون؟ كذلك الرجل الذي بال في المسجد. وفي رواية البخاري: أنه أتى فربط بعيره في المسجد. وفي رواية: خارج المسجد ودخل فبال، أي: بمجرد أن دخل بال. فالنبي صلى الله عليه وسلم كان بإمكانه أن يربط هذا الكافر أو المشرك خارج المسجد، ولعله في يوم من الأيام تصيبه كلمة. أي لو أن نصرانياً دخل الحمامات فبلا شك أنه سيستغرق وقتاً في الدخول والخروج وقضاء الحاجة، وربما سمع كلمة فكانت فيها هدايته، فلا بأس بذلك. وعلى أية حال فأصل القول بالجواز هو هذا الحديث، أن النبي صلى الله عليه وسلم ربط ثمامة في المسجد، وكان بإمكانه أن يربطه في أي مكان آخر ولو في بيت أحد من أصحابه، أو أن يؤدبه بأي طريقة شاء لو كان دخول الكافر المسجد لا يصح بكل حال. ثم لا يقال: إن فلاناً يدخل ويخرج ويدخل ويخرج، فإن ثمامة بن أثال مكث ثلاثة أيام في المسجد، وليس مروراً ولا عبوراً، وإنما مكث وإقامة. ومذهب الشافعي: جوازه بإذن مسلم. وأتى الشافعي بهذا الشرط من أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أمر بربطه في المسجد، والأمر بمعنى الإذن. قال: (وقال عمر بن عبد العزيز وقتادة ومالك: لا يجوز). أي: لا يجوز دخول الكافر المسجد. قال: (وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: يجوز لكتابي دون غيره). يجوز لكتابي أي: ليهودي أو نصراني ولا يجوز للمشرك. وثمامة كان مشركاً ولم يكن كتابياً. قال: (ودليلنا على الجميع هذا الحديث) فكأن الإمام النووي يقول: وكل هذه الأقوال غير صحيحة، والصحيح: الجواز، ودليلنا على الجواز هذا الحديث، فإما أن يرد الجميع هذا الحديث، أو أن يقبلوه. ولا يحل لهم أن يردوه؛ لأنه ثابت فلا يبقى لهم إلا القول بمقتضى هذا الحديث وهو جواز الدخول. وأما قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [التوبة:28] فهو خاص بالحرم، ونحن نقول: لا يجوز إدخاله الحرم. أي: أن الحرم المكي له خاصية تختلف في بعض الأحكام عن بقية المساجد.

معنى قوله: (إن تقتل تقتل ذا دم)

معنى قوله: (إن تقتل تقتل ذا دم) قال: (قوله: (إن تقتل تقتل ذا دم) -أي: صاحب دم- اختلفوا في معناه، فقال القاضي عياض في المشارق وأشار إليه في شرح مسلم: معناه: إن تقتل تقتل صاحب دم لدمه موقع يشتفي بقتله قاتله، ويدرك قاتله به ثأره. أي: لرياسته وفضيلته). أي: إذا أردت قتلي يا محمد! فاقتلني فلست خائفاً، ولكن لا بد أن تعلم أن ورائي رجالاً يثأرون لدمي، ويأخذون بدمي ولا يدعونه هدراً، فإني رئيس ولي فضيلة في قومي. قال: (وحذف هذا المفهوم من النص؛ لأنه مفهوم في عرف العرب وفي عرف المتكلم والسامع. وقال آخرون: معناه: تقتل من عليه دم ومطلوب به، وهو مستحق عليه فلا عتب عليك في قتله). يريد أن يقول: أنا مطلوب دمي. أي: شيء جيد أنك أسرتني، فإذا قتلتني فأنت تريحني؛ لأن هناك أناساً خلفك قتلت لهم قتيلاً وهم يطلبون دم قتيلهم، ولو أدركوني لقتلوني، فأنا في كل الأحوال سأُقتل إذاً: فاقتلني. قال: (وفي رواية عند أبي داود (وإن تقتل تقتل ذا ذم -وليس ذا دم- أي: ذا ذمام وحرية في قومه، ومن إذا عقد ذمة وفى بها. قال القاضي: (هذه الرواية ضعيفة؛ لأنها تقلب المعنى). وأرجح الأقوال أنها مصحفة، فإن من له حرمة لا يستوجب القتل. قال: (ويقول القاضي: ويمكن أن تكون صحيحة على معنى التفسير الأول، أي: يقتل رجلاً جليلاً يحتفل قاتله بقتله، بخلاف ما إذا قتل ضعيفاً مهيناً فإنه لا فضيلة في قتله ولا يدرك به قاتله ثأره). أي: يمكن أن تكون هذه الرواية صحيحة: (إن تقتل تقتل ذا ذم) بالذال على معنى: أنه صاحب شرف في قومه، فلو كان ضعيفاً هزيلاً لا قيمة له، فلا فضيلة في قتله، إنما الفضيلة في قتل الشريف؛ ولذلك في الحروب الآن يُقتل أناس كثيرون بالمئات والآلاف، وربما لم نعرف لهم أسماء ولا أنساب ولا بلاد ولا أهل ولا جيران وغير ذلك، لكن لو قُتل عظيم شريف يُشار إليه بالبنان لكان قتله ذا شأن. ولذلك فنحن نفرح حين يُقتل صنديد كبير من صناديد الكفر أو يؤسر، خلاف فرحنا بأسر ألف واحد، فأسر ألف واحد لا يساوون أسر كبير من كبرائهم.

جواز المن على الأسير

جواز المن على الأسير قوله عليه الصلاة والسلام: (أطلقوا ثمامة). فيه: جواز المن على الأسير، والجواز لا يعني وجوب المن على الأسير، والمن: هو إطلاق سراحه بغير قتل ولا فداء. فهل هذا جائز في الشرع؟ نعم. هو جائز، لكن ذلك يرجع إلى الإمام، فالإمام هو الذي يملك ذلك، وهذا مذهب الجمهور ومنهم الشافعية.

حكم اغتسال المشرك إذا أراد الدخول في الإسلام

حكم اغتسال المشرك إذا أراد الدخول في الإسلام قال: (قوله: (فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل)، قال الشافعية: إذا أراد الكافر الإسلام بادر به ولا يؤخره للاغتسال). وهذه المسألة محل نزاع. هل الغسل يلزم أولاً لمن أراد أن يدخل في الإسلام ويترك الكفر، أو ينطق بالشهادة أولاً ثم يغتسل بعد النطق؟ A ينطق بالشهادة أولاً، ولكن الرواية التي بين أيدينا تقول: أنه انطلق إلى نخل فاغتسل، وأتى إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: يا رسول الله أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك عبد الله ورسوله. أي: أنه اغتسل أولاً وكان بين الغسل وبين النطق بالشهادة وقت، عندما أتى من هذا النخل ودخل المسجد فشهد الشهادتين. والمضمون: أنه ربما يكون نطق بالشهادة قبل الاغتسال، أو بعد الاغتسال مباشرة، ثم جددها بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام. قال: (ولا يحل لأحد أن يأذن له في تأخيره، بل يبادر به ثم يغتسل). فلو أن إنساناً أراد أن يسلم الآن فنقول له: اذهب إلى الحمامات اغتسل ثم ائتنا، فلما ذهب إلى الحمامات مات، فالذي يتحمل إثم الرجل هو الرجل الذي أفتاه. قال: (ولا يحل لأحد أن يأذن له في تأخيره، بل يبادر بالنطق بالشهادتين ثم يغتسل. ومذهبنا: أن اغتساله واجب إن كان عليه جنابة في الشرك). أي: إن أسلم في حال كونه جنباً، فالاغتسال واجب سواء كان اغتسل منها أم لا. قال: (وقال بعض أصحابنا: إن كان اغتسل أجزأه وإلا وجب). أي: بعض الشافعية يقولون: إن اغتسل من الجنابة أجزأه هذا الغسل وإن كان قبل النطق بالشهادة، وإلا صار واجباً عليه بعد النطق بها. إن هذا الأمر أصله الدخول في الإسلام، وأنه يجب ما كان قبله، لكنه لا يجب الجنابة، وإنما يلزمه إذا لم يكن قد اغتسل منها قبل الإسلام، فبعض أهل العلم قالوا: يجزئه هذا الاغتسال ولا يلزمه الغسل بعد النطق ولا قبله. ومنهم من قال: إذا كان على جنابة اغتسل منها أو لم يغتسل منها قبل النطق لزمه الاغتسال بعد النطق بالشهادة، وإن كان عليه جنابة وأسلم قبل الاغتسال فيلزمه قولاً واحداً أن يغتسل بعد النطق بشهادة الإسلام. قال: (وقال بعض أصحابنا: إن كان قد غسل أجزأه وإلا وجب. وقال بعض أصحابنا وبعض المالكية: لا غسل عليه، ويسقط حكم الجنابة بالإسلام كما تسقط الذنوب). لكن في الحقيقة الجنابة ليست ذنباً، والذي يُجب ويُغفر هو الذنوب، وأعظم الذنوب الكفر والشرك، فهذا الكلام لا يستقيم. قال: (وضعّفوا هذا بالوضوء فإنه يلزمه بالإجماع، ولا يقال: يسقط أثر الحدث بالإسلام، هذا كله إذا كان أجنب في الكفر، أما إذا لم يجنب أصلاً ثم أسلم فالغسل مستحب له إذا بلغ الحلم)، والذي يجنب هو الذي بلغ؛ لأن الجنابة والمني أحد علامات البلوغ، بل أعظم علامات البلوغ. هب أن رجلاً أسلم قبل البلوغ هل يجب عليه الغسل؟ A لا يجب، بل يستحب له الغسل. وهذا مذهب الجماهير. أما أحمد فقال: يجب عليه الغسل كما لو كان بالغاً. أما النخل الذي انطلق إليه ثمامة فهو ماء قليل منبعث من الأرض. وقيل: ماء جار.

تأليف النبي لثمامة بسؤاله: (ماذا عندك يا ثمامة؟)

تأليف النبي لثمامة بسؤاله: (ماذا عندك يا ثمامة؟) قال: (قوله: (ما عندك يا ثمامة؟!) وكرر ذلك ثلاثة أيام، هذا من تأليف القلوب -فالنبي عليه الصلاة والسلام يؤلّف قلب ثمامة - وهذا فيه ملاطفة لمن يرجى إسلامه من الأشراف الذين يتبعهم على إسلامهم خلق كثير). كما أرسل النبي عليه الصلاة والسلام إلى هرقل فقال: (من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم) وهذا من باب التأليف. قد يقول قائل: وهل يجوز أن يكون هذا من باب التوبيخ؟ A نعم يجوز أن نوبّخهم، وتعلمون أن هارون الرشيد كتب رسالة وقال: من أمير المؤمنين هارون الرشيد إلى نقفور كلب الروم، الجواب على رسالتك ما ترى لا ما تسمع، وسأرسل إليك جيشاً أوله عندك وآخره عندي؛ لأنه موقف عزّة. أما موقف النبي صلى الله عليه وسلم فهو موقف تألف يؤلف قلبه، وهو قادر على العزة، والعزة حينما يكون العدو بعيداً عني وأنا أناقشه بلغة التهديد، لكن في هذا الوقت العدو بين يدي فلماذا أهدده؟ فمن الممكن أن أمسكه وأقتله، فلا قيمة للتهديد حينئذ، فهو بين يدي ضعيف لا حيلة له! فأنا في هذه الحالة ألاطفه بالشمائل والمكارم، فطالما يكون الذي آذاك وخانك وغشّك بعيداً عنك، وأنت تقول: سوف أعمل به كذا وكذا، وسوف أنتقم، ولكن إذا أتاك إلى البيت، هل ستقول له: سأنتقم وأعمل بك كذا وكذا وكذا، وسوف أغشك وأخدعك كما خدعتني، أم أنك ستقول: عفا الله عما سلف، ونفتح صفحة جديدة؟ فكذلك النبي صلى الله عليه وسلم فعل معه.

أمر النبي لثمامة بأداء عمرته وما فيه من إغاظة المشركين

أمر النبي لثمامة بأداء عمرته وما فيه من إغاظة المشركين قال: (وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فبشره النبي عليه الصلاة والسلام وأمره أن يعتمر) يعني: بشره بما حصل له من الخير العظيم بسبب الإسلام، وأن ما أنت فيه الآن لا يمكن أن يعدله ما كنت عليه آنفاً من إرادة الخير بإدراك العمرة، وأن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأما أمره له بالعمرة فاستحباب، حتى لا يأخذ أحد بأن العمرة واجبة، وحمل الأمر هنا على أنه أمر استحباب. والمسألة محل نزاع بين أهل العلم: هل العمرة مستحبة أم واجبة؟ فالجمهور: على استحبابها، وغيرهم على وجوبها أخذاً من هذا الحديث، ومن قول الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] ((وَأَتِمُّوا الْحَجَّ)) وعطف عليه العمرة، والمعلوم أن الحج فرض. ولكن الجمهور ردوا على من قال بظاهر هذه الآية من وجوب العمرة. قالوا: المقصود من قوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} أي: إذا تلبستم بهما، فصار إتمامها واجباً. أي: إذا تلبست بنافلة صار إتمامها واجباً إلا ما خرج بالنص، كقوله عليه الصلاة والسلام: (الصائم المتطوع أمير نفسه، إن شاء صام وإن شاء أفطر) ولم يرد هذا التخيير في عبادة من نوافل العبادات غير الصيام، فتبيّن أن من دخل في صلاة نافلة وجب عليه إتمامها ولا يجب عليه إنشاؤها. مثلاً: سنة العشاء أو سنة المغرب إذا لم أصلها فإنه ذهب عني أجرها ولا يجب عليّ أداؤها، لكني لو أحرمت بها وجب عليّ إتمامها. فكذلك قول الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] التأويل الأول: إذا لبّثتم بالحج والعمرة وأحرمتم بهما وجب إتمامهما. هذا معنى الآية. والمعنى الثاني: أي أخلصوا العبادة لله تعالى في الحج والعمرة؛ لأنه قال: لله، فليس ظاهر الآية عطف العمرة على الحج في الوجوب، وهذا الذي رد به الجمهور على من قال بأن العمرة واجبة. فالأمر بالعمرة استحباب؛ لأن العمرة مستحبة في كل وقت لا سيما من هذا الشريف المطاع إذا أسلم، وجاء مراغماً لأهل مكة. قال: (فطاف وسعى وأظهر إسلامه وأغاظهم بذلك). وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

الأسئلة

الأسئلة

حكم سب الدين

حكم سب الدين Q ما هي كفارة سب الدين، وما هو الحال إن كان جاهلاً؟ A إذا قصد بسبه دين الله عز وجل يكفر جاهلاً كان أو عالماً، إلا ما كان من تفصيل شيخ الإسلام ابن تيمية. قال: لو سب الدين بمعنى: أنه يسب الأخلاق لا يقصد دين الله الذي نزل من السماء فهو لا يكفر بذلك، وإنما يأثم ويعزّر.

حكم وليمة الزواج

حكم وليمة الزواج Q هل الوليمة في الزواج واجبة أم مستحبة؟ وهل وقتها الأصلي بعد الدخول أم يجوز قبله؟ وهل يجب فيها اللحم؟ A لا. هي مستحبة، وبعض أهل العلم أوجبها، ووقتها يبدأ بعد صبيحة البناء، ولا يجب فيها اللحم، فالنبي عليه الصلاة والسلام أولم على إحدى نسائه بغير لحم، وما كان يأمر إلا القادرين، كما أمر عبد الرحمن بن عوف قال: (أولم ولو بشاة).

حكم الاتكاء على اليد اليسرى

حكم الاتكاء على اليد اليسرى Q هل يوجد نهي عن الاتكاء على اليد اليسرى في المسجد؟ A ورد في المسجد وفي غير المسجد، والنهي عند أبي داود.

أحكام المسح على الجوارب

أحكام المسح على الجوارب Q نرجو التفصيل في شرح المسح على الجورب؟ A المسح على الجورب جائز، فقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يمسح على الخفاف، والتساخين. وهي الجوارب. وكل ما يُطلق عليه جورب جاز عليه المسح، وإن كان رقيقاً وإن كان صفيفاً، وإن كان مخرّقاً أو غير مخرّق، لكن في النفس من الشرابات الشفافة شيء. وهناك شروط قاسية جداً نجدها في كتب الفقه القديمة أنه لا بد أن يكون الشراب قوياً جداً ومتيناً جداً ويصلح للمشي عليه (5) كيلو متر أو (10) كيلو متر بغير أن يتأثر بذلك، ولو وضعنا الماء عليه يجري. لماذا هل هو جلد؟ هو مجرد شراب، فإن وضعت عليه نقطة ماء حتى وإن كان سمكه كالبطانية لا يجري. وقد يقرأ قارئ أحياناً شروطاً لبعض أهل العلم في المسح على الخفّين، أو يسمع أن بعض أهل العلم يقولون: لا بد من شروط في الجورب، ويبدأ يسرد الشروط، وإذا أردت أن تطبق هذه الشروط على الجوارب مهما كان حجمها لا يمكن أن تنطبق، فيعتقد المرء أن هذه الجوارب التي يتكلم عنها الفقهاء لا يصنعها إلا حداد أو نجار.

حكم الاعتكاف في غير المسجد

حكم الاعتكاف في غير المسجد Q هل يجوز الاعتكاف في شقة مبنية فوق المسجد؟ A لا يجوز الاعتكاف إلا في المسجد، والله تعالى يقول: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187] فلا يجوز الاعتكاف إلا في المسجد، والاعتكاف جائز في كل أيام السنة، ولكن لا يجوز الاعتكاف مطلقاً إلا في المسجد.

حكم رفع الأيدي في قنوت الوتر، وعند دعاء الخطيب يوم الجمعة

حكم رفع الأيدي في قنوت الوتر، وعند دعاء الخطيب يوم الجمعة Q هل ترفع الأيدي في قنوت الوتر، وحين دعاء الخطيب يوم الجمعة؟ A قلنا فيما يتعلق بدعاء الخطيب: لا ترفع الأيدي، وإنما ترفع في قنوت الوتر، والله تعالى أعلم.

معنى الألفاظ الآتية: (علماني) و (شيوعي) و (ملحد)

معنى الألفاظ الآتية: (علماني) و (شيوعي) و (ملحد) Q وما معنى علماني وشيوعي وملحد؟ A علماني وشيوعي وملحد هذه كلها أسماء لمعنى واحد وهو الكفر.

جريان الأجر وعدم انقطاعه لمن ابتكر شيئا يخدم به المسلمين

جريان الأجر وعدم انقطاعه لمن ابتكر شيئاً يخدم به المسلمين Q أعمل في المنظفات الصناعية، وأعطاني الله موهبة الابتكار، واخترعت أشياء تباع بأسعار غالية، وعملتها بيدي بأسعار رخيصة جداً، وبعض الناس يريد أن أعلّمه المهنة، فهل إن علّمته يكتب لي مع كل ما عمل وربح حسنات أم مرة واحدة -الأولى- فقط، وهل يجوز لي أن آخذ منه مبلغاً نظير التعليم؟ A لك أن تفعل معه ما تشاء، فتأخذ منه نظير التعليم، وإن أخذت منه هذا المبلغ فإن شاء الله لا ينقطع أجرك ما دمت قد يسرت على المسلمين ورفعت عنهم الغلاء بهذه الاختراعات، وجزاك الله خيراً.

حكم الصلاة على من مات وهو تارك للصلاة

حكم الصلاة على من مات وهو تارك للصلاة Q هل تجوز الصلاة على إنسان كان تاركاً للصلاة، ومات من المخدرات، وهل يجوز اتباع جنازته؟ A الذي يترجّح لدي أن تارك الصلاة لا يصلى عليه؛ لأنه مات على الكفر.

حكم قراءة المأموم الفاتحة في الصلاة الجهرية

حكم قراءة المأموم الفاتحة في الصلاة الجهرية Q هل يجوز ترك قراءة الفاتحة وراء الإمام في الصلاة الجهرية أم لا؟ A قراءة الفاتحة واجبة في أرجح أقوال أهل العلم.

قراءة الفاتحة للمأموم

قراءة الفاتحة للمأموم Q هل يجوز أن أقرأ الفاتحة مع الإمام بحيث يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] فأقول مثله، ثم يقول: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] وهكذا، أم أنه يقولها كاملة ثم أقول: آمين، ثم أبدأ في قراءتها؟ A المعلوم أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يُحفظ عنه سكتات في الصلاة إلا سكتة بعد تكبيرة الإحرام يقرأ فيها الأذكار، وسكتة قبل الركوع، أما سكتة بعد قراءة الفاتحة وقبل البدء فيما تيسر من الآيات، فلم يُحفظ عنه ذلك، بل عدّها شيخ الإسلام ابن تيمية في الاختيارات الفقهية من البدع المنكرة في الصلاة. فالأصل إذا فرغ الإمام من الفاتحة وبدأ بعد التأمين مباشرة بسورة، فلا وقت إذاً للمأموم أن يقرأ الفاتحة إلا أن يقرأها آية آية مع الإمام، لكنك ربما تقول: أنتظره وأسكت وأسمع الإمام فإذا فرغ قرأت الفاتحة، فلك أن تفعل ذلك، وقد تقرأ الفاتحة إذا كنت مسبوقاً وأتيت إلى الصلاة بعد فراغ الإمام من فاتحة الكتاب، فكل هذا جائز.

حكم الصلاة عند مدافعة الأخبثين

حكم الصلاة عند مدافعة الأخبثين Q إذا توضأت فجاءني ريح فهل يجوز أن أحبسه حتى أصلي أم يجب أن أخرجه وأتوضأ من جديد؟ A هذا الريح يمكن حبسه أو لا يمكن حبسه إلا بجهد ومشقة ودفع عظيم يشغلني عن الخشوع في الصلاة، وأنتم تعلمون أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا صلاة بحضرة الطعام ولا هو يدافع الأخبثين) لكن المدافعة هذه تختلف ما بين القوة والضعف، ما بين دفع يسير ودفع يحتاج إلى مشقة عظيمة جداً، وينشغل المرء بذهنه وقلبه عن الصلاة أبداً، ويتمنى لو أن الإمام فرغ من صلاته، فحينئذ لا يجوز له أن يدخل في الصلاة وهو على هذه الحال، وإنما يذهب فيتوضأ ثم يصلي مع الإمام، وإن أدرك الصلاة فكان خيراً، وإن كانت الأخرى فله أجر الجماعة، وما خلّفه عن الجماعة إلا العذر، أما من كان بإمكانه أن يدخل في الصلاة مع شيء يسير من المدافعة فلا بأس بذلك، وإنما المنهي عنه المدافعة التي تشق على صاحبها.

حكم الصلاة بحضرة الطعام

حكم الصلاة بحضرة الطعام Q لو حضر الطعام وكان المصلي جائعاً، ودخل الصلاة في حالته هذه فما الحكم؟ A الحديث يقول: (ولا صلاة بحضرة الطعام) أي: أنه لا بد أن يكون الطعام حاضراً وموجوداً، ولكن قد يكون الطعام موجوداً أمامك، ولكنك لا تريد أن تأكل منه، وقد تكون جائعاً لكن لا تريد أن تأكل منه ولا تشتهيه نفسك، لكنك مع هذا الجوع إن أكلت منه أكلت على مضض، ولولا الجوع ما أكلت. وهناك إنسان ربما يكون شبعان لكن إذا وضع أمامه طعام جيد فتح شهيته، فإذا ذهب إلى الصلاة بهذا الوضع فإنه سينصرف عن الخشوع في الصلاة، فلا صلاة بحضرة الطعام. أي: والطعام موجود وتتوق نفسك إليه، فإن كان الطعام غير موجود وأنت جائع فيجوز لك الصلاة في هذه الحالة؛ لأن الطعام غير موجود، وتشتهيه وتتوق إليه نفسك.

بيان أن التوبة تجب ما قبلها

بيان أن التوبة تجب ما قبلها Q هل لي من توبة فقد عصيت الله كثيراً وأريد أن أكون ملتزماً بديني؛ خوفاً من الله عز وجل؟ A نسأل الله تعالى أن يثبتنا وإياك على العمل الصالح والإيمان الصادق، وباب التوبة يا أخي الكريم! مفتوح حتى تبلغ الروح الحلقوم. هذه التوبة الخاصة بكل أحد، وباب التوبة العام مفتوح حتى تطلع الشمس من مغربها، فباب التوبة مفتوح، ولا يؤيّسك ولا يقنّطك من رحمة الله أحد، فلا تسمع لأحد يحول بينك وبين التوبة، فباب التوبة مفتوح، والله تعالى لا يرد سائلاً له قط. فإذا كنت من أصحاب المال فتصدق بمالك، وإذا كنت غير ذلك فأكثر من الصلاة والصيام والزكاة، وإذا كنت صاحب مال فحج واعتمر وأكثر من الصالحات. وقبل كل ذلك يجب عليك أن تطلب العلم وتعرف الله، فأصل الثبات على الدين طلب العلم ومعرفة الله تعالى، فكلما عرفت الله تعالى كلما أحببته أكثر، والمعلوم أن المحب يطيع حبيبه، فطلب العلم مفتاح السعادة، وهو باب كل خير، وإذا تنكبت هذا الطريق فإنك ستعيش مع عامة الناس، وربما جرّتك الفتن وشياطين الإنس والجن إلى المعصية مرة أخرى، وخرجت عن حد الالتزام الذي من الله تعالى به عليك.

كتاب الجهاد والسير - إجلاء اليهود عن الحجاز ورد المهاجرين إلى الأنصار منائحهم وجواز الأكل من طعام الغنيمة

شرح صحيح مسلم - كتاب الجهاد والسير - إجلاء اليهود عن الحجاز ورد المهاجرين إلى الأنصار منائحهم وجواز الأكل من طعام الغنيمة أجلى الرسول صلى الله عليه وسلم اليهود من المدينة وذلك لنقضهم العهد وإثارتهم للفتن ومحاربتهم للإسلام وأهله، فهم لا يرقبون في مؤمن إلَّاً ولا ذمة، ثم أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته من بعده بإجلائهم من جزيرة العرب، فأجلاهم عمر رضي الله عنه في خلافته من خيبر، وقد اختلفت أقوال العلماء في المراد بجزيرة العرب التي لا يجتمع فيها دينان، وجمهور العلماء على أنها أرض الحجاز.

باب إجلاء اليهود من الحجاز

باب إجلاء اليهود من الحجاز إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. الباب العشرون من كتاب الجهاد: (باب: إجلاء اليهود من الحجاز). الإجلاء: الطرد في مذلة ومهانة، والإجلاء بخلاف الانسحاب والخروج. قوله: (باب إجلاء اليهود من الحجاز). ليس اليهود فحسب، وإنما اليهود والنصارى وسائر ملل الكفر، وإنما أشار الحافظ النووي إلى ذكر اليهود للدلالة على أنهم شر أهل الكتاب، ومن باب أولى أن يكون غيرهم أشد جلاءً.

شرح حديث أبي هريرة: (اعلموا أن الأرض لله ولرسوله وأني أريد أن أجليكم)

شرح حديث أبي هريرة: (اعلموا أن الأرض لله ولرسوله وأني أريد أن أجليكم) قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث -وهو الليث بن سعد المصري - عن سعيد بن أبي سعيد عن أبيه] وهو سعيد بن أبي سعيد المقبري لُقّب بـ المقبري؛ لأن بيته كان بجوار البقيع، فكان في الذهاب والإياب يمر على المقابر. [عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (بينا نحن في المسجد)] و (بينما) كُتبت (بينا) لكن في النطق (بينما) كما أنه يكتب (ثنا) ولكنها تُنطق (حدثنا) كذلك (أنا) تُنطق (أخبرنا أو أنبأنا) وكذلك (نا) وتُنطق (أخبرنا). قال: [(بينا نحن في المسجد إذ خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: انطلقوا إلى يهود -أي: لقتالهم- فخرجنا معه حتى جئناهم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فناداهم فقال: يا معشر يهود! أسلموا تسلموا)] وهذا من الجناس اللفظي بين الكلمات: (أسلموا تسلموا) كما يقول الشاعر: سميته يحيى ليحيا، فالأول هو الاسم والثاني هو الرجاء (ليحيا). وهنا قال: (أسلموا تسلموا) أي: تسلموا من القتال وتأمنوا من إراقة الدماء. قال: [(فقالوا: قد بلغت يا أبا القاسم!)] أي: إذا كنت تريد أن نشهد بأنك قد بلّغت، فإنا نشهد بذلك ونُقر بذلك عينك [(فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك أريد)] هذا الذي أريد أن أنتزعه منكم أن تشهدوا لي أني قد بلغتكم؛ لأن الأنبياء ليس عليهم إلا البلاغ: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:48] أما الهداية فهي بيد الله عز وجل، وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67]، إذاً: الرسول ما عليه إلا البلاغ المبين، وما غير ذلك فهو لله عز وجل. قال: (أسلموا تسلموا، فقالوا: قد بلغت يا أبا القاسم! فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك أريد. فقال لهم الثالثة فقال: اعلموا أنما الأرض لله ورسوله -وهذا في قتاله مع بني النضير- وأني أريد أن أجليكم من هذه الأرض، فمن وجد منكم بماله شيئاً فليبعه)] من استطاع منكم أن يبيع متاعه أو عقاره بشيء فليبعه ولا يتأخر؛ لأني أريد أن أجليكم عنها، ولا تأخذون معكم في الإجلاء إلا ما تحمله النوق، أما غير ذلك فلا. قال: [(وإلا فاعلموا أن الأرض لله ورسوله)] أي: لا يمكن أن تأخذوا من الأرض شيئاً.

شرح حديث عمر بن الخطاب في إجلاء اليهود من المدينة

شرح حديث عمر بن الخطاب في إجلاء اليهود من المدينة قال: [وحدثني محمد بن رافع وإسحاق بن منصور -المعروف بـ الكوسج. قال ابن رافع: حدثنا، وقال إسحاق بن منصور: أخبرنا- عبد الرزاق بن همام الصنعاني قال: أخبرنا ابن جريج عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي عن موسى بن عقبة -إمام المغازي- عن نافع الفقيه مولى عبد الله بن عمر عن مولاه وسيده ابن عمر رضي الله عنهما: (أن يهود بني النضير وقريظة حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: أنهم توافروا واتفقوا وتكاتفوا على قتال النبي صلى الله عليه وسلم- فأجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير -أي: أجلاهم عن المدينة كلها- وأقر قريظة ومنَّ عليهم)] أقر قريظة أن يمكثوا في مكانهم، ومنّ عليهم النبي عليه الصلاة والسلام. بمعنى: أعطاهم عقد أمان، بمقابل وبشروط. قال: [(حتى حاربت قريظة بعد ذلك)] يعني: نقضت العهد وخانت الميثاق والأمان الذي أعطاها النبي صلى الله عليه وسلم، فحاربوا النبي عليه الصلاة والسلام ووضعوا أيديهم في أيدي المشركين، وظاهروا على النبي عليه الصلاة والسلام. قال: [(فقتل رجالهم، وقسم نساءهم وأولادهم وأموالهم بين المسلمين)] يعني: سباهم وأخذ الأموال، أما الرجال فقتلهم النبي عليه الصلاة والسلام، كل ذلك كان في المدينة. قال: [(إلا أن بعضهم -أي: بعض بني قريظة من اليهود- لحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فآمنهم وأسلموا)] حينما لحقوا واعتذروا مما كان منهم وأسلموا أمنّهم النبي عليه الصلاة والسلام. قال: [(وأجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود المدينة كلهم)]. أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم ابتداءً عشرة أيام، ثم أعطاهم ثلاثة أيام بعد ذلك، أن يخرجوا من المدينة ولا يأخذوا معهم إلا ما تحمل إبلهم فقط، أما دون ذلك فلا، فوضعوا أثمن ما يحتفظون به في رحال هذه النوق، وخرجوا من المدينة مطرودين إلى الشام، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يمنعهم أن يأخذوا معهم دون ذلك، أو أكثر من ذلك، كما كان يمنعهم أن يأخذوا معهم السلاح، ومن باب أولى الأرض. وهكذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يتعامل مع اليهود بمنتهى الشدة والحدة؛ لأن الله تعالى أخبره من فوق سبع سماوات أنه لا يصلح مع هؤلاء اليهود الأنجاس إلا هذه المعاملة، والمشركون في مكة كانوا أوفى من اليهود عهداً، وأعظم منهم ميثاقاً مع شركهم وكفرهم وضلالهم، فقد كانوا رجالاً عند كلمتهم، لا يخونون العهد والميثاق، بل يلتزمون به، ويعاتبون من نقض العهد والميثاق، أما اليهود فطريقهم الطويل يحكي غير هذا، ويقول: إنهم لم يوفوا بعهد أبداً، وكانوا يخفرون الذمم دوماً، أما أن يلتزموا كما التزم المشركون فلا، ولذلك لم يثبت في السنة المطهرة ولا في السيرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام أنه تهاون مع اليهود يوماً ما، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتهاون أحياناً مع المشركين؛ لعلمه أنهم رجال، وأنهم عند العهد والميثاق، أما اليهود فالوضع كان يختلف عن ذلك تماماً؛ ولذلك حينما نقضوا مرة وثانية أمرهم النبي عليه الصلاة والسلام أن يخرجوا من المدينة، فانصرفوا إلى قريتين للشام تسميان أريحا وتيما، أما أريحا فهي قريبة من بلاد مصر، وأما تيما فهي قريبة من بلاد سوريا أو دمشق، وكلاهما يطلق عليه أرض الشام. قال: [(وأجلى رسول الله عليه الصلاة والسلام يهود المدينة كلهم)] وهم بنو قينقاع، وهم قوم عبد الله بن سلام -الإسرائيلي الذي آمن وحسن إيمانه وإسلامه- ويهود بني حارثة، وكل يهودي كان بالمدينة. ولم يذكر عبد الله بن عمر بني النضير؛ لأنه كان أجلاهم من قبل، ولم يبق إلا بنو قينقاع وكذلك قريظة. ومنهم من استقر بخيبر في طريقه إلى الشام، ولصق بأقرانه وأصوله في خيبر، ولذلك يصرّح كثير من زعماء اليهود وأمريكا في هذه الأيام بأن المدينة أرض يهودية، وذلك بعد أحداث (11) سبتمبر التي غيّرت وجه الأرض هناك وهنا في بلاد المسلمين، حتى صارت كالتاريخ الهجري، فيقال: أحداث ما قبل الحادي عشر من سبتمبر وبعد الحادي عشر من سبتمبر، فصار هذا الحدث جللاً في تاريخ اليهود والنصارى في هذه البلاد المشئومة. ولذلك بدأ اليهود والنصارى يدندنون، ويتكلمون -بقصد أو بغير قصد- عن بلادهم الأصيلة كما يقول النصارى في مصر: إن مصر بلد قبطي، ولبسوا السواد لذلك. هؤلاء القساوسة والبطارقة يلبسون السواد حتى في أيام أعيادهم يلبسون السواد حزناً على ضياع مصر من أيديهم، وبغض النصارى لـ عمرو بن العاص في مصر أشد من بغضهم للنبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه هو الذي أذلهم وأخذ الأرض، وفتح البلاد وقلوب العباد رغماً عنهم. هكذا يعتقدون في عمرو بن العاص. [وحدثني أبو الطاهر قال:

باب إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب

باب إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب الباب الحادي والعشرون: (باب إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب). في الباب الأول قال: باب: إجلاء اليهود من الحجاز، وهنا قال: باب: إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، فهل المقصود بجزيرة العرب: الحجاز، أم أن جزيرة العرب أوسع وأشمل معنى لبلاد الحجاز، أو لبلدان أخرى غير بلاد الحجاز؟ هذا ما سنتعرف عليه. [حدثني زهير بن حرب أبو خيثمة النسائي قال: حدثنا الضحاك بن مخلد القطواني عن ابن جريج. (ح) وحدثني محمد بن رافع -واللفظ له- حدثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير -وهو محمد بن مسلم بن تدرس المكي - أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: أخبرني عمر بن الخطاب: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلماً)] أي: حتى لا أترك فيها إلا رجلاً مسلماً، أما غير ذلك فلا. وقال عليه الصلاة والسلام في حديث آخر: (لا يجتمع أهل دينين في جزيرة العرب أبداً) وقال: (لا يجتمع أهل ملتين شتى في جزيرة العرب). [وحدثني زهير بن حرب حدثنا روح بن عبادة أخبرنا سفيان الثوري. (ح) وحدثني سلمة بن شبيب حدثنا الحسن بن أعين حدثنا معقل -وهو ابن عبيد الله - كلاهما عن أبي الزبير بهذا الإسناد مثله].

كلام النووي في أحاديث إجلاء اليهود من الحجاز وجزيرة العرب

كلام النووي في أحاديث إجلاء اليهود من الحجاز وجزيرة العرب قال الإمام النووي: (في هذا الحديث أن المعاهد والذمي إذا نقض العهد صار حربياً وجرت عليه أحكام أهل الحرب)؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أمّن ومنَّ على بني قريظة، ولكنهم نقضوا العهد، فأمره الله تعالى أن يخرج إليهم، فأمر أصحابه: أن اخرجوا إلى يهود، ولما ذهب إليهم ناداهم وقال: (اعلموا أن الأرض لله ورسوله). هي لله تعالى يورثها من عباده من يشاء، وأن الله تعالى مالكها، وأن المسلم إذا ظاهر على أرض صارت ملكاً له. وهذا الذي يرد به على النصارى إذ يقولون: إن مصر أرض قبطية، وكثير من الناس يتحرّج أن يكون له أصول قبطية، بل هو شرف عظيم جداً أن تفارق أباك الكافر؛ ولذلك حينما دخل عمرو بن العاص مصر كان أهلها في ذلك الزمان أقباطاً، -أي: نصارى- فمنهم من دخل في الإسلام ومنهم من لم يدخل، وأما من دخل فلا شك أن نسله مسلم إلى يومنا هذا، فربما يكون لك أصول نصرانية، أو أصول يهودية، أو أصل أتى من جزيرة العرب مع الفاتحين والغزاة، فأياً كان نسبك ونسلك فلا حرج عليك حينئذ، أما نحن فنقول: إن الأرض كانت قبطية، وبمجرد ظهور عمرو بن العاص عليها صارت أرضاً إسلامية لا حق لليهود ولا للنصارى ولا لساكني هذه الأرض فيها. وهذه من مسائل الإجماع في قضايا الاعتقاد والجهاد: أن المسلم إذا ظاهر على أرض -أي: غلب أهلها في قتال وغزو خلف أمير- فلا شك أن هذه الأرض تصير ملكاً لله تعالى ورسوله، وهذه الملكية تنتقل إلى الولاة والأمراء المسلمين. فلما يقول هؤلاء إن الأرض لهم. فقولهم مجرد أمانٍ وهيهات أن تتحقق لهم هذه الأماني، فإن الأرض لله تعالى يورثها من يشاء من عباده. فإذا نقض صاحب العهد عهده أو صاحب الذمة ذمته وصاحب الأمان والمن ما أمن عليه صار حربياً، وجرت عليه أحكام أهل الحرب. أي أن دمه صار هدراً حلالاً، وللإمام سبي من أراد منهم، وله المن على من أراد. وفي هذا الحديث: (أنه إذا من عليه ثم ظهرت منه محاربة انتقض عهده، وإنما ينفع المن فيما مضى لا فيما بقي أو في المستقبل، وكانت قريظة في أمان أعطاهم النبي عليه الصلاة والسلام ومن عليهم بهذا، ثم حاربوا النبي عليه الصلاة والسلام ونقضوا العهد، وظاهروا قريش -أي: تواطئوا واتفقوا مع قريش- على قتال النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا} [الأحزاب:26] إلى آخر الآية الأخرى). والإمام النووي عليه رحمة الله تكلم فيما يتعلق بإجلاء اليهود والنصارى من جزيرة العرب بكلام طويل، لكن على أية حال أقوى من هذا الكلام ما ذكره غيره كالحافظ ابن حجر. وجاء في صحيح مسلم كذلك في كتاب المساقاة، قال الإمام: حدثنا محمد بن رافع وإسحاق بن منصور الكوسج قالا: عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج حدثني موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر نفس الحديث ونفس الإسناد، أن عمر بن الخطاب أجلى اليهود والنصارى من أرض الحجاز. إذاً: لم يجل النبي عليه الصلاة والسلام اليهود من أرض الحجاز تماماً، وإنما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بضرورة إجلائهم، ويتمكن من ذلك عند نقض العهد والميثاق، فإنه إذا حصل شيء من ذلك في وقت ما فعلى إمام الزمان المعيّن إجلاءهم، فـ عمر أجلى اليهود والنصارى من أرض الحجاز، ولما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم على خيبر أراد إخراج اليهود منها، والمعلوم أن خيبر أُخذت عنوة ولم تؤخذ صلحاً ولا سلماً، فأراد إخراج اليهود منها، وكانت الأرض حين ظُهر عليها لله ولرسوله وللمسلمين مع أنها كانت لليهود، لكنها تنتقل إلى المسلمين فوراً بمجرد الغلبة والقهر لعدوهم، وقد سأل اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرهم بها على أن يكفوه عملها. أي: أنهم يعملون فيها لصالح النبي عليه الصلاة والسلام ولصالح المسلمين، ولهم نصف الثمر. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نقركم بها على ذلك ما شئنا). أي: على هذا الشرط الذي اشترطتموه بشرط إخراجكم منها متى نشاء. وفي هذا: جواز عقد المؤاجرة أو المساقاة المفتوح غير المحدد المدة، وهذا فيما يتعلق بكراء الأرض. قال: (نقركم بها على ذلك ما شئنا، فقروا بها حتى أجلاهم عمر إلى تيماء وأريحاء). وفي هذا دليل على أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب: إخراجهم من بعضها لا من جزيرة العرب كلها، وهذا البعض هو الحجاز خاصة؛ لأن تيماء من جزيرة العرب، لكنها ليست من الحجاز، فحينما أجلاهم إلى تيماء تبيّن أن المقصود بجزيرة العرب: الحجاز. والإمام مالك في كتاب الموطأ في الباب ال

أقوال العلماء في المراد بجزيرة العرب التي يتم إجلاء اليهود والنصارى منها

أقوال العلماء في المراد بجزيرة العرب التي يتم إجلاء اليهود والنصارى منها أرض العرب هي الحجاز كله. ويقال: الحجاز هي مكة والمدينة واليمامة، واليمامة هي نجد الرياض. قال: (وقال أبو عبيد: قال الأصمعي جزيرة العرب من أقصى عدن وما والاها، إلى ريف العراق طولاً، ومن جدة وما والاها، من ساحل البحر إلى أطراف الشام عرضاً. إذاً: من جدة إلى الشام ومن اليمن إلى العراق طولاً وعرضاً هي جزيرة العرب. وأما في العرض فمن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام، ومصر في المغرب وفي المشرق ما بين المدينة إلى منقطع السماوة). فهل المقصود بإجلاء اليهود والنصارى من جزيرة العرب من هذه البقعة العظيمة: من اليمن إلى العراق، ومن جدة إلى الشام؟ قال كثير من أهل العلم بأن هذه مجموع جزيرة العرب، لكن هل المراد بإجلاء اليهود والنصارى من جزيرة العرب من هذه الأراضي كلها؟ أو من الحجاز فقط؟ مذهب جماهير العلماء أن المقصود بالإجلاء: الحجاز فقط. والحجاز: هي مكة والمدينة واليمامة التي هي الرياض والمدن المجاورة والمحيطة بها، وإن اليهود الآن والنصارى يعيثون فساداً في الرياض، وأعظم من فسادهم فساد الأمريكان؛ لأن الأمريكان عند الإطلاق يعنون: النصارى، لكن الأمريكان فيهم نسبة ليست قليلة من اليهود، والذين أتوا إلى بلاد الحجاز في حرب صدام مع الكويت لم يكونوا نصارى فقط، بل قد جاء معهم يهود، واليهود لهم في كل مصيبة باع طويل، وهم السبب في هذه الحرب المفتعلة في بلاد العرب. فإذا اتفقنا أن اليمامة من بلاد الحجاز وأن اليمامة المقصود بها: نجد والرياض، فإن اليهود يعيشون هناك، والذي يسافر إلى هناك يعلم أن اليهود ينتشرون رجالاً ونساء، والنساء يمشين في الشوارع عرايا كما لو كن في شوارع القاهرة مثلاً، أو في شوارع لبنان، فلاشك أن هذا مخالفة لهدي النبي عليه الصلاة والسلام ولأوامره التي قضت بإجلاء اليهود والنصارى من جزيرة العرب، والأصل أن يجلى اليهود والنصارى من بلاد الإسلام قاطبة لا من جزيرة العرب أو من بلاد الحجاز خاصة، لكن إن بقوا في بلاد الإسلام دون بلاد الحجاز، فإنما يكون بعهد وأمان وميثاق، وعليهم أن يلتزموا بذلك، فإن نقضوا ذلك صاروا أهل حرب لا أهل عهد ولا ميثاق ولا أهل ذمة. وهذا هو حال اليهود والنصارى في بلاد المسلمين، أنهم في هذه الأيام أهل حرب وليسوا أبداً أهل ذمة، فقد خفرت ذمة النصارى وذمة اليهود في كل بلاد العالم بسبب إعلان الحرب على الإسلام والمسلمين بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، فاليهود والنصارى نقضوا العهد بمحاربة الإرهاب، والمقصود بالإرهاب: الإسلام. ولا يتصور -جدلاً- لو افترضنا أن فاعل هذه الأحداث بعض شباب من المسلمين أن يؤخذ جميع المسلمين بجريمة البعض، ويُقتل الأبرياء وتُشرد النساء وتُبقر بطون الحوامل؛ لشُبهة قامت لدى هذا الزعيم الذي يُسمى بوش، فلذلك فإنه لا بد من تكاتف المسلمين ووحدتهم لإجلاء الأمريكان من بلاد الإسلام، وتاريخ شعب أفغانستان مشرّف إلى أقصى حد في حماية الإسلام والدفاع عنه، وتثبيت وترسيخ عقيدة التوحيد في قلوب أبنائه، لكنه لا حظ له على مدار التاريخ مع حرصه الشديد جداً على ترسيخ الإسلام والتوحيد إلا أنه دائماً شعب يعاني الفقر والمرض والجوع، ومثل هؤلاء كانوا تبعاً للنبي عليه الصلاة والسلام، فإنه ما انتصر النبي عليه الصلاة والسلام بالأغنياء ولا بالوجهاء، وإنما انتصر بالصعاليك والفقراء والعبيد والموالي.

ما جاء من فدع يهود خيبر ليدي ابن عمر ورجليه، وإجلاء عمر لهم

ما جاء من فدع يهود خيبر ليدي ابن عمر ورجليه، وإجلاء عمر لهم أخرج الإمام البخاري في صحيحه في كتاب الشروط في الباب الرابع عشر قال: إذا اشترط في المزارعة إذا شئت أخرجت. قال: حدثنا أبو أحمد حدثنا محمد بن يحيى أبو غسان الكناني أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما فدع أهل خيبر عبد الله بن عمر. أي: عذّبوه وضربوه وخلعوا كفه من ذراعه. والفدع: هو الإصابة الشديدة في الكف أو في المفصل بين الكف والذراع. قال: فلما فدع أهل خيبر عبد الله بن عمر قام عمر خطيباً رضي الله عنه فقال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل يهود خيبر على أموالهم) أي: صالحهم، لهم النصف ولنا النصف (وقال: نقركم ما أقركم الله) وجعل الأمر مفتوحاً لم يضرب لهم مدة زمنية محددة، سنة سنتين عشرة عشرين، وإنما قال: (نقركم ما أقركم الله) أي: ما شاء الله لكم أن تقروا في هذا المكان، فإذا رأينا إخراجكم أخرجناكم. قال: (وإن عبد الله بن عمر خرج إلى ماله هناك) أي: إلى سهمه الذي ضُرب له بعد فتح خيبر؛ ليرعى مصلحة أرضه. قال: (فعُدي عليه من الليل) وفي هذا دليل على أن يهود خيبر هم الذين فدعوا يديه. قال (فعُدي عليه من الليل ففدعت يداه ورجلاه، وليس لنا هناك عدو غيرهم). أي: أنه لا يمكن أن يفعل بـ عبد الله بن عمر شيء من ذلك إلا أن يكون عدواً، وليس لنا في خيبر عدو إلا اليهود، فهذا حكم مبني على القرائن. قال: (هم عدونا وتهمتنا). يعني: نحن نتهمهم ولا نتهم غيرهم؛ لأنه ليس لنا عدو غيرهم. قال: (وقد رأيت إجلاءهم، فلما أجمع عمر على ذلك) أي: فلما استقر لدى عمر أن يجليهم من خيبر (أتاه أحد بني أبي الحقيق) عائلة أبي الحقيق كلها منافقة، ابتداء من أبي الحقيق وأبنائه وعمومته. قال: (أتاه أحد بني أبي الحقيق، فقال: يا أمير المؤمنين!) وهذه مداهنة فإنه لم يأته ويقول له: يا أمير المؤمنين إلا لأنه مقر بأن هذا هو أمير المؤمنين. قال: (قال: يا أمير المؤمنين أتخرجنا وقد أقرنا محمد صلى الله عليه وسلم؟). وهذا عندما يصير اليهودي والنصراني في موطن الذلة. أخرجنا شريطاً سنة 1981م من كنيسة بالمنصورة ينصح فيها قسيس أبناء الكنيسة، فيقول لهم: إذا حكمك المسلم أطعه حيثما أمرك، وإذا حكمت المسلم فأذله حيث شئت. وهذا هو وضع اليهود والنصارى، بل وضع أعداء المسلمين عموماً. قال: (قال: يا أمير المؤمنين! أتخرجنا وقد أقرنا محمد صلى الله عليه وسلم وعاملنا على الأموال وشرط ذلك لنا؟) وكأنه يقول له: هل أنت تبع لمحمد أم لا، فهو سيدك ورسولك؟ هو الذي أقرنا وجعلنا آمنين، وأعطانا العهد والميثاق أن نظل ونزرع الأرض، وأنتم لكم النصف ونحن لنا النصف، فلِم تخفر أنت ذمة رسولك؟ ويذكره عمر بالميثاق (فقال عمر: أظننت أني نسيت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف بك يا ابن أبي الحقيق! إذا أخرجت من خيبر تعدو بك قلوصك ليلة بعد ليلة) أي: بأن عمر يقول: أنت تذكرني بالعهد والميثاق الذي من النبي صلى الله عليه وسلم معكم، فأنا سمعته بأذني -ولم أنس ذلك- يقول لك: سيأتي عليك يوم يا ابن أبي الحقيق! تخرج من خيبر على رحلك تعدو بك ليلة واثنتين وثلاثة. قال: (فقال: كان ذلك هزيلة) أي: كان نبيكم -صلى الله عليه وسلم- يمزح معنا، وقد صالحنا وعاملنا على أن لنا نصف الثمار فقط وليس نصف الأرض، على أن نزرعها ونكفيكم المؤونة. فحينما بدأ يسب النبي صلى الله عليه وسلم قال: عمر: (كذبت يا عدو الله!) أي: أنه لم يفعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم هزيلة، (فأجلاهم عمر وأعطاهم قيمة ما كان لهم من الثمر مالاً وإبلاً وعروضاً من أقتاب وحبال وغير ذلك). قال الحافظ ابن حجر في قول عمر رضي الله عنه: (فعدي على عبد الله بن عمر من الليل): قال الخطابي: كأن اليهود سحروا عبد الله بن عمر فالتوت يداه ورجلاه، واليهود هؤلاء أهل سحر وأهل ربا، وأهل غدر، فجميع القبائح التي يمكن أن يتصف بها آدمي مصدرها اليهود، كأن اليهود سحروا عبد الله بن عمر فالتوت يداه ورجلاه. هكذا قال الإمام الخطابي. ويحتمل أن يكونوا ضربوه ويؤيده تقييده بالليل. ووقع في رواية عند البخاري بلفظ: فلما كان زمان عمر غشوا المسلمين، وألقوا ابن عمر من فوق بيت ففدعوا يديه. أي:

أسباب إجلاء عمر ليهود خيبر

أسباب إجلاء عمر ليهود خيبر أيضاً: هناك سببان آخران لإجلاء عمر لليهود من خيبر: الأول: رواه الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: ما زال عمر حتى وجد الثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: أن عمر لم يجلهم حتى ثبت لديه يقيناً بغير شك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يجتمع بجزيرة العرب دينان) فقال: من كان له من أهل الكتابين عهد فليأت به أنفذه له. يعني: أعطه وأوفه حقه، وإلا فإني مجليكم فأجلاهم. وهذا الحديث عند ابن أبي شيبة بسند صحيح. الثاني: رواه عمر بن شبة -في كتابه العظيم: أخبار المدينة المنورة- من طريق عثمان بن محمد الأحمسي قال: لما كثر العيال -أي: الخدم والموالي والعبيد- في أيدي المسلمين، وقووا على العمل أجلى عمر رضي الله عنه اليهود إلى الشام وقسم المال بين المسلمين إلى اليوم. يعني: بعد فتح خيبر لم يكن هناك من يزرعها ولا من يستثمرها، فأقر النبي صلى الله عليه وسلم اليهود فيها على اعتبار أن يكون له نصف الثمر ولهم النصف في مقابل الزرع والكلفة حتى لا تبور الأرض، لكن حينما زالت هذه العلة وكثر العبيد والموالي ومن دخلوا في الإسلام ممن يمكن أن يعمل في الأرض ويزرع، وله شيء من الثمر -قام عمر بن الخطاب وأجلى اليهود، ويُحتمل أن يكون كل من هذه الأشياء جزء علة في إخراجه، والإجلاء: هو الإخراج عن المال والوطن على وجه الإزعاج والكراهة. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه من كان له سهم بخيبر فليحضر حتى نقسمها، فقال: ابن أبي الحقيق: لا تخرجنا ودعنا كما أقرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، فقال له عمر: أتراه سقط علي، أي: أتراني نسيت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كيف بك يا ابن أبي الحقيق! إذا رقصت بك راحلتك نحو الشام يوماً ثم يوماً ثم يوماً) يعني: أخذتك ناحية الشام. فقسمها عمر بين من كان شهد خيبر من أهل الحديبية. وفي هذا الحديث كما قال المهلب: دليل على أن العداوة توضح المطالبة بالجناية، كما طالب عمر اليهود بفدع ابنه عبد الله، ورجح ذلك بأن قال: ليس لنا عدو غيرهم، فعلق المطالبة بشاهد العداوة، وإنما لم يطلب القصاص؛ لأن هذا مبني على الظن، والظن اعتمد على قرينة، وهذه القرينة أفادت عند عمر وجوب الإجلاء مع غير ذلك من الأدلة؛ لأنه لا عدو لهم في هذا البلد إلا اليهود، ولم يطالب بالقصاص، لأنه ليس عنده يقين أن فلاناً من اليهود هو الذي فدع ولده، فقد فُدع ولده عبد الله وهو نائم في الليل، فلم يعرف أشخاصهم، ولكنه رضي الله عنه طالب بالإجلاء. وفيه: أن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله محمولة على الحقيقة حتى يقوم دليل على المجاز.

باب رد المهاجرين إلى الأنصار منائحهم من الشجر والثمر حين استغنوا عنها بالفتوح

باب رد المهاجرين إلى الأنصار منائحهم من الشجر والثمر حين استغنوا عنها بالفتوح الباب الرابع والعشرون: (باب رد المهاجرين إلى الأنصار منائحهم من الشجر والثمر حين استغنوا عنها بالفتوح). أي: حين حصل لهم الغنى بسبب الفتوح، فالجهاد باب عظيم للشباب، والذي لم يجد ما يتزوج سيجد بعد ذلك، والذي لم يجد ما يحج سيحج بعد ذلك. فـ سعد بن أبي وقاص هو الذي قال: لقد رأيتني سادس ستة أو سابع سبعة مع النبي صلى الله عليه وسلم ليس لنا طعام إلا ورق الشجر، ثم يصير الأمر معهم حتى يصير ملكاً من ملوك الدنيا، وهذا بسبب الجهاد. قال: [وحدثني أبو الطاهر وحرملة بن يحيى التجيبي قالا: أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس بن يزيد الأيلي عن ابن شهاب عن أنس بن مالك قال: (لما قدم المهاجرون من مكة المدينة قدموا وليس بأيديهم شيء -أي: خرجوا من أمولاهم وأهليهم وتجارتهم وكل شيء لله تعالى- وكان الأنصار أهل الأرض والعقار -أي: أهل زراعة وحرث وماشية، خلافاً لأهل مكة فإنهم أهل تجارة- فقاسمهم الأنصار على أن أعطوهم أنصاف ثمار أموالهم كل عام)]. وهذه هي النصرة التي لا يستطيع أن يعملها إلا رجل بمعنى الكلمة. والحقيقة أنه ورد في تراجم كثير من أهل العلم أنهم إذا نزل بهم ضيف من أهل العلم يفعلون معه هذا، كما فعل عبد الرزاق الصنعاني مع أحمد بن حنبل حين نزل عليه في صنعاء، فقال له عبد الرزاق: إنا أهل حرث وزرع، وإننا نتكل على غنيمتنا -أي: على زرعنا وثمارنا- في موسمها -أي: إذا حُصدت- فلك نصفها. قال أحمد: لو أخذت من غيرك لأخذت منك. الشاهد أن عبد الرزاق عرض عليه نصف الثمار. وهكذا الأنصار فعلوا مع المهاجرين، حتى ثبت عن أحدهم أنه قال: ولي زوجتان انظر إليهما أُطلّق أجملهما لتتزوجها. وهذا أمر جائز، وليس فيه ما يتعلق بالتحليل أو التحريم. قال أنس: (لما قدم المهاجرون من مكة إلى المدينة قدموا وليس بأيديهم شيء، وكان الأنصار أهل الأرض والعقار فقاسمهم الأنصار على أن أعطوهم أنصاف ثمار أموالهم كل عام، ويكفونهم العمل والمئونة)] أي: أن المهاجرين يعملون مزارعين عند الأنصار. قال: [(وكانت أم أنس بن مالك وهي تدعى أم سليم وكانت أم عبد الله بن أبي طلحة وكان أخاً لـ أنس لأمه، وكانت أعطت أم أنس رسول الله صلى الله عليه وسلم عذاقاً لها -جمع عذق وهي النخلة- فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أيمن مولاته أم أسامة بن زيد). قال ابن شهاب: فأخبرني أنس بن مالك: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من قتال أهل خيبر وانصرف إلى المدينة رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم)] منائحهم: جمع منيحة. وهي المنحة والعطية. أي: ردوا ما كانوا قد أخذوا منهم؛ لأنهم غنموا مغانم عظيمة من خيبر فصاروا أغنياء. قال: [(فرد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم التي كانوا منحوهم من ثمارهم، فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمي عذاقها -أي: نخلها- وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أيمن مكانهن من حائطه)]. والحائط: البستان؛ وذلك لأن النبي عليه الصلاة والسلام حينما رجع إلى المدينة طلب من أم أيمن أن تعطي النخلة التي أعطاها لـ أم سليم فأبت ذلك ظناً منها أنها هبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن الرجوع في الهبة، وكانت أم أيمن في منزلة أم النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنها الحاضنة والمربية له عليه الصلاة والسلام، فهي ظنّت أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاها هذا على سبيل التملك الدائم. قال ابن شهاب: [وكان من شأن أم أيمن أم أسامة بن زيد أنها كانت وصيفة لـ عبد الله بن عبد المطلب -أي: أنها كانت مولاة وخادمة لـ عبد الله والد النبي عليه الصلاة والسلام- وكانت من الحبشة، فلما ولدت آمنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما توفي أبوه، فكانت أم أيمن تحضنه حتى كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقها، ثم أنكحها زيد بن حارثة، ثم توفيت بعد ما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسة أشهر]. قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وحامد بن عمر البكراوي ومحمد بن عبد الأعلى القيسي كلهم عن المعتمر، وهو المعتمر بن سليمان بن طرخان التيمي عن أبيه عن أنس: (أن رجلاً كان يجعل للنبي صلى الله عليه وسلم النخلات من أرضه، حتى فتحت عليه قريظة والنضير، فجعل بعد ذلك يرد عليه

كلام النووي في أحاديث رد المهاجرين إلى الأنصار منائحهم

كلام النووي في أحاديث رد المهاجرين إلى الأنصار منائحهم قال: (قال العلماء: لما قدم المهاجرون آثرهم الأنصار بمنائح من أشجارهم، فمنهم من قبلها منيحة محضة -أي: هبة وعطية بغير مقابل، وليس ديناً يستقر في الذمة- ومنهم من قبلها بشرط أن يعمل في الشجر والأرض وله نصف الثمار، ولم تطب نفسه أن يقبلها منيحة محضة؛ وهذا لشرف نفوسهم وكراهتهم أن يكونوا كلاً على غيرهم -أي: عالة على غيرهم- وكان هذا مساقاة أو في معنى المساقاة، فلما فُتحت عليهم خيبر استغنى المهاجرون بأنصبائهم فيها عن تلك المنائح، فردوها إلى الأنصار. ففي هذا: فضيلة ظاهرة للأنصار في مواساتهم وإيثارهم لإخوانهم من المهاجرين، وما كانوا عليه من حب الإسلام وإكرام أهله، وأخلاقهم الجميلة، ونفوسهم الطاهرة، وقد شهد الله تعالى لهم بذلك؛ فقال تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} [الحشر:9]). فهذه شهادة الله سبحانه وتعالى من فوق سبع سماوات للأنصار، أنهم يحبون من هاجر إليهم. قال: قوله: وكان الأنصار أهل أرض وعقار، وزرع وحرث، والعقار هو في الغالب: النخل، أو كل ما له أصل. وقيل: هو النخل خاصة. وكانت -أي: أم أنس - أعطت رسول الله صلى الله عليه وسلم عذاقاً لها، -أي: نخلاً لها- فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أم أيمن. وفي هذا دليل لما قدمنا عن العلماء أنه لم يكن كل ما أعطت الأنصار على المساقاة، بل كان فيه ما هو منيحة ومواساة بغير مقابل ولا ديناً مستقراً في الذمة، وهذا منه. أم أنس بن مالك أم سليم حينما أعطت المنيحة والنخل للنبي صلى الله عليه وسلم ما أرادت إرجاعه، وما استقر في ذمة النبي صلى الله عليه وسلم كدين، وإنما فهم النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا منيحة محضة فأعطاها لـ أم أيمن، وهو محمول على أنها أعطته صلى الله عليه وسلم ثمارها يفعل فيها ما شاء، من أكله بنفسه وعياله وضيفه، وإيثاره بذلك لمن شاء، ثم له أن يعطيها حتى لو كانت على سبيل الهدية، وفي هذا إبطال لما استقر في أذهان العامة أن الهدية لا تهدى ولا تباع، بل هي تهدى وتباع وتُرد، والراد للهدية يحمل المردود إليه، لكن ليس لمن أهدى أن يطالب بالهدية؛ فلهذا آثر النبي عليه الصلاة والسلام أم أيمن، ولو كانت إباحة له خاصة لما أباحها لغيره؛ لأن المباح له بنفسه لا يجوز له أن يبيح ذلك الشيء لغيره، بخلاف الموهوب له نفس رقبة الشيء، فإنه يتصرف فيه كيف شاء. قال: (رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم التي كانوا منحوهم من ثمارهم)، في هذا دليل على أنها كانت منائح ثمار، دون تمليك للعين، فإنها لو كانت هبة لرقبة النخل لم يرجعوا فيها، وإنما هذا كان في الثمار فحسب؛ فإن الرجوع في الهبة بعد القبض لا يجوز، أما قبل القبض يجوز). والأحوط: إذا وجدت الموهوب يُباع فلا تشتر، وأنتم تعلمون أن عمر بن الخطاب وهب فرساً فوجده يباع في الأسواق، فأراد أن يشتريه فنهاه النبي عليه الصلاة والسلام، فإن الرجوع في الهبة بعد القبض لا يجوز، أما قبل القبض فيجوز. قال: (وإنما كانت إباحة للثمار كما ذكرنا، والإباحة يجوز الرجوع فيها متى شاء الواهب، ومع هذا لم يرجعوا فيها حتى اتسعت الحال على المهاجرين بفتح خيبر، واستغنوا عنها فردوها على الأنصار فقبلوها -أي: الأنصار- وقد جاء في الحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لهم ذلك). قوله: (قال ابن شهاب: وكان من شأن أم أيمن التي هي أم أسامة بن زيد أنها كانت وصيفة لـ عبد الله بن عبد المطلب وكانت من الحبشة. فهذا تصريح منه أنها حبشية). وفي قصة أم أيمن أنها امتنعت من رد تلك المنائح التي عوضها عشرة أمثالها إنما فعلت هذا لأنها ظنت أنها هبة مؤبدة وتمليك لأصل الرقبة، وأراد النبي عليه الصلاة والسلام استطابة قلبها في استرداد ذلك، فما زال يزيدها في العوض حتى رضيت، وكل هذا تبرع منه صلى الله عليه وسلم وإكرام لها؛ لما لها من حق الحضانة والتربية عليه.

باب جواز الأكل من طعام الغنيمة في دار الحرب

باب جواز الأكل من طعام الغنيمة في دار الحرب الباب الخامس والعشرون: (باب جواز الأكل من طعام الغنيمة في دار الحرب). دار الحرب هي: الدار التي بينها وبين أهل الإسلام حرب. [حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا سليمان بن المغيرة حدثنا حميد بن هلال عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال: (أصبت جراباً من شحم -والجراب: هو الوعاء من جلد- يوم خيبر -أي: من دهن- قال: فالتزمته فقلت: لا أعطي اليوم أحداً من هذا شيئاً. قال: فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متبسماً). حدثنا محمد بن بشار العبدي حدثنا بهز بن أسد العمي حدثنا شعبة حدثني حميد بن هلال قال: سمعت عبد الله بن مغفل يقول: (رُمي إلينا جراب فيه طعام وشحم يوم خيبر) والذي رماه هم اليهود؛ وذلك لأن المسلمين لم يكن لديهم شيء، فرُمي إليهم بجراب فيه طعام وشحم. قال: (فوثبت لآخذه. قال: فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستحييت منه). وحدثناه محمد بن المثنى حدثنا أبو داود الطيالسي حدثنا شعبة بهذا الإسناد غير أنه قال: (جراب من شحم) ولم يذكر الطعام].

كلام النووي في أحاديث باب جواز الأكل من طعام الغنيمة في دار الحرب

كلام النووي في أحاديث باب جواز الأكل من طعام الغنيمة في دار الحرب

إباحة أكل طعام الغنيمة في دار الحرب

إباحة أكل طعام الغنيمة في دار الحرب قال النووي: (وفي هذا الحديث إباحة أكل طعام الغنيمة في دار الحرب). أي: إذا كانت الحرب في هذا الوقت دائرة بين المسلمين وبين أهل الكتاب، وقد جعت وأمامي طعام من غنيمة غنمناها من اليهود والنصارى، وأنا في ساحة القتال، فإنني آكل ولا حرج عليّ، وليس هذا من باب الغلول في شيء. قال: (قال القاضي: أجمع العلماء على جواز أكل طعام الحربيين ما دام المسلمون في دار الحرب، فيأكلون منه قدر حاجاتهم -يعني: سد رمق- ويجوز بإذن الإمام وبغير إذن الإمام). حتى وإن قال الإمام: لا تأكلوا؛ نأكل حاجتنا؛ لأننا سنهلك بغير طعام. قال: (ولم يشترط أحد من العلماء استئذانه إلا الإمام الزهري، وجمهورهم على أنه لا يجوز أن يخرج معه منه شيء إلى عمارة دار الإسلام). أي: تأكل وتترك المتبقي مكانه، وهذا مذهب جماهير العلماء، كما أنني أنزل بساتين وثمار أهل الإسلام أو أهل الكفر على الطريق، فلا بأس أن آكل منه ولهم في ذلك أجر، ولا يجوز أن آخذ منه لأهل بيتي، كذلك حين تخرج من دار الحرب طعاماً إلى دار الإسلام لا يجوز، فإن أخرجه لزمه رده إلى المغنم. قال: (وقال الأوزاعي: لا يلزمه رد ما خرج به من بلاد الحرب إلى بلاد الإسلام، وأجمعوا على أنه لا يجوز بيع شيء منه في دار الحرب ولا في غيرها). فهذا طعام، فإما أن يباع به أكلاً وشرباً على قدر الحاجة، وإما أنه من أصل الغنيمة، أما بيعه في دار الحرب للحربيين أو للمسلمين فإن ذلك لا يجوز، وهذا من مسائل الإجماع. قال: (فإن بيع منه شيء لغير الغانمين كان بدله غنيمته، ويجوز أن يركب دوابهم -يجوز للمسلم أن يركب دواب أهل الكتاب- ويلبس ثيابهم، ويستعمل سلاحهم في حال الحرب بالإجماع، ولا يفتقر إلى إذن الإمام، أما الأوزاعي فإنه شرط إذنه). وخالف جماهير العلماء في ذلك، كما خالف الزهري الجماهير في المسألة الأولى.

حكم أكل ذبائح اليهود والنصارى

حكم أكل ذبائح اليهود والنصارى قال: (وفي هذا الحديث دليل على جواز أكل شحوم ذبائح اليهود) واليهود ليسوا كالنصارى، إذ إن النصارى يأكلون الموقوذة والمنطوحة، والمتردية، وأي نتن أو جيفة يأكله النصارى؛ لأنهم يتقربون إلى الله تعالى -بزعمهم- بهذه الأنتان والأوساخ، لكن اليهود رغم أنهم أخبث الخلق على الإطلاق، إلا أنهم لا يأكلون شيئاً إلا مذبوحاً، حتى في أمريكا تجد المصانع هناك والشركات حريصة كل الحرص على أن تضع على البضائع والمطعومات والمشروبات علامة صناعة يهودية، وكذا الدواء فوزارة الصحة تمر على المحلات فتأخذ عينة من الدواء فتقوم بتحليلها كل فترة من الفترات، فإذا وجدوا أن الأوصاف المذكورة لدى وزارة الصحة غير موجودة أو فيها خلل صارت مصيبة سوداء لا يمكن علاجها. فهم على أية حال كفار، لكن يحترمون قوانينهم الأرضية، ونحن مسلمون، لكن لا نحترم الله ولا نحترم الرسول، ولا القرآن ولا الشريعة، وهم أيضاً يحترمون كفرهم، ونحن لا نحترم إيماننا ولا نحترم ديننا؛ وهذا سبب ذلنا وإهانتنا. فاليهود لا يمكن أن يأكلوا ذبيحة إلا إذا كانت مذبوحة، وفوق هذا لابد أن يذبحوا بأنفسهم، وحرموا على أي مجازر أخرى أن تذكر اسم اليهود على منتجاتها ومصنوعاتها من اللحوم والشحوم وغير ذلك، إلا إذا كان هذا المصنع ملكاً لليهود أبداً. وكان اليهود من قبل لا يتحرزون قط من ذبائح المسلمين، فكانوا يأكلونها بغير تردد، أما الآن لا يأكلونها مطلقاً؛ وذلك لعلمهم أن المسلمين تهاونوا في قضية الذبح على الشريعة الإسلامية، فهم على الأقل يأخذون هذا من باب الصحة لا من باب التدين، واليهود يختلفون معنا في ضوابط الذبح، فنحن نذبح من الحلق والأوداج وهم يذبحون من الرقبة، وذبحنا شرعي وذبحهم غير شرعي، لكن على أية حال هم يذبحون ولا يصعقون بالكهرباء، ولا يردونها من مكان عال ولا يقتلونها، أما النصارى فقد يجدون جيفة على سطح الأرض فيأكلونها؛ لأن النصارى في الغالب يميلون في عبادتهم إلى النجاسات والأنتان والأوساخ والأقذار، خلافاً لليهود. قال: (وفي هذا الحديث دليل لجواز أكل شحوم ذبائح اليهود، وإن كانت شحومها محرمة عليهم، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي وجماهير العلماء). واليهود لا يأكلون الخنزير، وإنما النصارى هم الذين يأكلون الخنزير، مع أن الله تعالى حرّم على النصارى الخنزير، أي: أنه ليس حلالاً. قال: (قال الشافعي وأبو حنيفة والجمهور في شحوم اليهود: لا كراهة فيها، وقال مالك: هي مكروهة. وقال أشهب وابن القاسم المالكيان وبعض أصحاب أحمد: هي محرمة. وحكي هذا أيضاً عن مالك واحتج الشافعي والجمهور بقول الله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة:5]. أي: ذبائح أهل الكتاب). ولا يقصد بالطعام الفاصوليا والبطاطس فهذا حلال حتى وإن كان في أرض مجوسية، فإنه حلال. إذاً: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة:5] يحمل معنى مقيداً عن مطلق الطعام وهو الذبائح، فإذا ذبح اليهود وذبح النصارى فذبيحة اليهودي وذبيحة النصراني قد أحلها الله تعالى لنا، أما ذبيحة تارك الصلاة فهي حرام، قال الله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة:5] طعامهم حل لكم في كل وقت في الحرب وفي غير الحرب. قال: (قال المفسرون: المراد به: الذبائح ولم يستثن منها شيئاً لا لحماً ولا شحماً ولا غيره. وفي هذا الحديث: حل ذبائح أهل الكتاب وهو مُجمع عليه ولم يخالف في ذلك إلا الشيعة). فالشيعة لا يأكلون من ذبائح أهل الكتاب، ولا شك أن هذا مخالف لما عليه أهل السنة والجماعة. قال: (ومذهبنا ومذهب الجمهور إباحتها سواء سموا الله تعالى عليها أم لا. وقال قوم: لا يحل إلا أن يسموا الله تعالى، فأما إذا ذبحوا على اسم المسيح أو كنيسة ونحوها فلا تحل تلك الذبيحة عندنا) وهذا الذي يترجّح لدي، إذا ذبحوا باسم الصليب أو المسيح أو الكنيسة فإن هذا شرك بالله تعالى، أما اليهود الذين يعتقدون أن الله تعالى في السماء، والنصارى الذين يعتقدون أن الله تعالى في السماء، وأن عيسى هو نبي الله وكلمته وروح منه ألقاها إلى مريم، فإذا كان هذا معتقد اليهودي أو النصراني وذبح فإن ذبيحته حلال، ودون ذلك خرط القتاد. قال: (وبهذا قال جماهير العلماء). أما قوله: (فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستحييت منه) أي: حينما أُلقي إليه جراب من شحم أو لحم قال: فأخذته فاحتضنته مخافة أن يأخذه غيري. قال: والله لا أعطي اليوم من هذا أحداً شيئاً. ثم نظر بعد أن قال كلمته فإذا رسول الله عليه الصلاة والسلام قد سمع الكلمة وابتسم لها، فهذه الابتسامة الرقيقة اللطيفة جعلت الحياء يذبح قائلها فقال: (فاستحييت منه). والله

كتاب الجهاد والسير - جواز قتال من نقض العهد وجواز إنزال أهل الحصن على حكم حاكم عدل

شرح صحيح مسلم - كتاب الجهاد والسير - جواز قتال من نقض العهد وجواز إنزال أهل الحصن على حكم حاكم عدل بين لنا الدين أن الأصل في الدماء الحرمة، ولكنه أجاز لنا قتال من نقض العهد، وإنزال أهل الحصن على حُكم حاكم عدل أهل للحكم، وقد نزل بنو قريظة على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرد حكمهم إلى سعد بن معاذ، الذي حكم فيهم بحكم الله عز وجل.

باب جواز قتال من نقض العهد

باب جواز قتال من نقض العهد إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، أما بعد، فمع الباب الثاني والعشرون: (باب: جواز قتال من نقض العهد). وأنتم تعلمون أن من كان في عهد أو ذمة أو ميثاق يحرم قتله، قال عليه الصلاة والسلام: (من قتل ذمياً فليس مني). وفي رواية: (فليس منا). وقال عليه الصلاة والسلام: (من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة). فالدماء الأصل فيها المنع والحرمة، فالإنسان ذاته يحرم عليه أن يقتل نفسه، وفي الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تحسى سماً فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تردى من جبل فهو يتردى من جبل في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً) ولا يصح من المسلم أن يقول: أنا حر فيقتل نفسه، إنما هو عبد لله تعالى، لا يصدر إلا عن أمر الله وأمر رسوله عليه الصلاة والسلام. هذا شأن الإنسان مع نفسه، وشأنه كذلك مع أهل العهد والذمة، ثم شأنه مع عامة الدماء، الحرمة الأكيدة؛ ولذلك أخرج البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)، وقال عليه الصلاة والسلام: (لزوال الدنيا أهون على الله عز وجل من قتل مؤمن بغير حق). والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة جداً: (ولا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيّب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة)، وقال عليه الصلاة والسلام: (من بدّل دينه فاقتلوه) أي: من بدّل دين الإسلام وارتد عنه فحكمه القتل، أما غير ذلك فلا، تحت هذا التبويب فنقول: لا يجوز قتال أهل العهد والذمة والميثاق من غير المسلمين. لكن لو نقضوا العهد هل يجوز قتالهم؟ A نعم. يجوز قتالهم؛ لأنهم نقضوا العهد، ولا يحل للمسلم أن يبدأ هو بنقض العهد؛ لأن الأصل في المسلمين الالتزام بالمواثيق والعهود. قال: (وجواز إنزال أهل الحصن على حكم حاكم عدل أهل للحكم). انظر إلى الألفاظ: (على حكم حاكم عدل أهل للحكم). يعني: أن يكون من أهل الاجتهاد، فلا آتي برجل من الشارع لا علاقة له بالشرع ولا بالدين ولا يعرف شيئاً وأقول له: احكم بيننا. فإنه ما أضاع الدين إلا هذه المجالس العرفية التي لا تمت إلى الإسلام بصلة، فالمجلس الذي يحكم بكتاب الله وسنة رسوله لا شك أن حكمه مقدّم على أحكام القوانين الوضعية كلها، أما إذا حكم بالهوى والرأي فحكمه وحكم المحكمة سواء؛ لأن كلاهما حكم بغير ما أنزل الله. أما إذا كان القاضي أو العمدة أو المُحكّم في قرية أو في مدينة أو في حي من الأحياء يحكم في هذه المجالس التي تسمى بالمجالس العرفية، فلا بأس بهذا القضاء إذا كان يستند إلى كتاب الله وإلى سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن في الغالب أن هذه المجالس إنما تعتمد على الاجتهادات الشخصية والآراء الفرعية التي لا علاقة لها بدين الله تعالى. فمن صفة الحاكم: أن يكون إنساناً عدلاً، والعدل في اصطلاح العلماء عموماً: هو من كان له ملكة تحمله على ملازمة التقوى والمروءة. وأنتم تعلمون أن الفسق يخرم العدالة، فالحاكم العدل يكون ملازماً للتقوى والمروءة ويتعفف عن المباح؛ لأن هذا المباح يستهجنه العرف في حق ذوي الهيئات. فأنت من الممكن أن تأكل وتشرب في الشارع، لكن حينما يكون شيخاً كبيراً أو رئيس مجلس إدارة شركة ويمسك (سندويتش) ويأكل في الشارع فإن الناس يستغربون منه إذا رأوه يأكل في الشارع، فهو يتعفف عن هذا مع أنه مباح. تصور أن شيخاً محترماً يشرب سيجارة -وهي محرمة- ويمشي في الشارع ويقابل آخر يشرب السيجارة، فالسيجارة من الملتحي أشد نكارة، والذي يُنكر عليه هو الحليق الذي يشرب الدخان فيقول له: يا شيخ! عيب عليك. فعامة الناس يقسّمون الناس أقساماً، ويجعلون لكل قسم هيئته وحشمته، فلا ينبغي للإنسان أن يتنازل عن ذلك. فلابد أن يكون الحاكم عدلاً أهلاً للحكم. أي: مجتهداً. أي: أنه حصّل أدوات الاجتهاد وأذن له الشرع أن يجتهد في إنزال الأحكام الشرعية منازلها الطبيعية.

شرح حديث نزول بني قريظة على حكم سعد بن معاذ

شرح حديث نزول بني قريظة على حكم سعد بن معاذ قال المصنف رحمه الله تعالى: [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن المثنى وابن بشار] ومحمد بن المثنى ومحمد بن بشار كلاهما فرسا رهان في السن والعلم والتقوى والعبادة، فإذا قرأت ترجمة أحدهما فكأنما تقرأ ترجمة الاثنين إلا أنهما يختلفان في الاسم. قال: [وألفاظهم متقاربة. قال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا غندر عن شعبة]، وغندر لقب له بمعنى: مشاغب في لغة الحجازيين، فـ محمد بن جعفر البصري كان يشغب على ابن جريج عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي، فكان ابن جريج يقول له: اسكت يا غندر! فلقّب بـ غندر واشتهر بهذا اللقب. [وقال الآخران: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن سعد بن إبراهيم المدني قال: سمعت أبا أمامة بن سهل بن حنيف قال: سمعت أبا سعيد الخدري -وهو سعد بن مالك بن سنان المدني - قال: نزل أهل قريظة على حكم سعد بن معاذ]. وهم يهود؛ لأن يهود المدينة كانوا ثلاث قبائل: بني قريظة، وبني قينقاع، وبني النضير، وحاربهم النبي صلى الله عليه وسلم. قال: [(نزل أهل قريظة على حكم سعد بن معاذ)] ومعنى نزل. أي: قبلوا أن يحكم فيهم سعد بن معاذ، وسعد بن معاذ سيد الأوس. قال: [(فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد فأتاه على حمار)] وفي هذا: جواز ركوب الحمار، وهذا أمر يعرفه القاصي والداني، حتى أجهل الجهال يركبون الحمير بغير حرج ولا نكير، وكان للنبي عليه الصلاة والسلام حمار يسمى (يعفور) فكان يركبه ويردف خلفه بعض أصحابه، كما أردف معاذ بن جبل وأردف أسامة بن زيد وأردف الحسن والحسين. والإرداف: أن يأخذ المرء آخر خلفه لا أمامه، فالإرداف دائماً يكون في الخلف. والحمار لا يؤكل لحمه. لكن هب أن هذا الحمار عرق، فأصاب ثوبك بعرقه، فهل يتنجّس الثوب؟ A لا يتنجّس مع أنه غير مأكول اللحم، فعرقه لا يضر. وذهب بعض أهل العلم إلى أن عرق ما لا يؤكل لحمه ينجّس. ومذهب جماهير العلماء: أن عرق غير مأكول اللحم لا ينجّس. وهو الصواب. والنبي عليه الصلاة والسلام ركب الحمار من عرفات وتوضأ وضوءاً خفيفاً، فقال أسامة بن زيد: (يا رسول الله! الصلاة. قال: الصلاة أمامك) أي: في مزدلفة، ونزل من على حماره فصلى المغرب والعشاء. قال: [(فلما دنا قريباً من المسجد)] أي: سعد بن معاذ لما اقترب من المسجد، والنبي صلى الله عليه وسلم كان في بني قريظة، وبنو قريظة كانوا في عوالي المدينة، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان فيهم حين طلب سعد بن معاذ ليحكم فيهم، فقوله: (فلما دنا سعد من المسجد) المسجد عند الإطلاق يعني: المسجد النبوي، ولكن بعض أهل العلم حكوا أن لفظ: (من المسجد) وهم من الراوي، فذكره تصحيفاً أو باجتهاد منه، أو روى ذلك رواية بالمعنى؛ لأن سعداً كان في المسجد حينما أرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم من عوالي المدينة وهو في بني قريظة. والمقصود: أن النبي صلى الله عليه وسلم اختص مكاناً في بني قريظة ليصلي فيه، فأسماه الراوي مسجداً؛ لأن المسجد في اللغة: هو كل أرض يُسجد عليها، والنبي صلى الله عليه وسلم اختص مسجداً طيلة مدة بقائه في بني قريظة حتى يصلي فيه، وأعلم أصحابه أنه إذا حان وقت الصلاة اجتمعوا في هذا المكان، فسماه الراوي: مسجداً. قال: [(فلما دنا قريباً من المسجد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا إلى سيدكم، أو قال: قوموا إلى خيركم). وفي هذا استحباب القيام لأهل الفضل ومن يشار إليهم بالبنان، ولا حرج في ذلك، وكثير من الناس يتحرّج من ذلك ويفهم القضية على غير وجهها، خاصة بعض طلاب العلم المبتدئين الذين علموا بقول النبي صلى الله عليه وسلم حينما دخل على أصحابه فقاموا إليه فقال: (لا تفعلوا كما تفعل الأعاجم بملوكها) أي: لا تقوموا لي كما كانت الأعاجم تقوم لملوكها، فحملوا هذا النهي على عمومه المطلق، وقالوا: لا يجوز القيام لأحد قط مهما بلغ قدره وعلت منزلته. وهذا فهم خاطئ؛ لأنه إذا أردت أن تخرج بحكم واحد من قضية اختلفت فيها ظواهر الروايات؛ فينبغي أن تجمع الروايات كلها في الباب الواحد، ثم تؤلّف بينها لتخرج بحكم موافق للصواب، وإلا فلا يحل لك أن تنظر في دليل واحد ثم تخرج بحكم، وتعتقد به مدة من الزمان وتعمل به، ثم تفاجأ بنص آخر يهدم هذا المعتقد، ويهدم هذا العمل الذي عملته منذ كذا وكذا، ولذلك عمل بعض السلف برواي

شرح حديث مجيء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد غزوة الأحزاب وأمره بقتال بني قريظة

شرح حديث مجيء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد غزوة الأحزاب وأمره بقتال بني قريظة قال: [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن العلاء الهمداني كلاهما عن ابن نمير] وابن نمير هو عبد الله وليس محمد بن عبد الله؛ لأن ابن نمير يُطلق على الوالد وعلى الولد، فالوالد عبد الله بن نمير والولد هو محمد بن عبد الله بن نمير وكلاهما يقال له: ابن نمير، فإذا كان في طبقة شيوخ مسلم فهو الولد محمد، وإذا كان في طبقة شيوخ شيوخ مسلم فهو الوالد عبد الله. [قال ابن العلاء -أي: محمد بن العلاء الهمداني: حدثنا ابن نمير حدثنا هشام عن أبيه، وهو هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه -أي: عن عروة بن الزبير - عن عائشة]، عروة بن الزبير عائشة بالنسبة له خالته. قال: [عن عائشة رضي الله عنها قالت: (أصيب سعد يوم الخندق -أي: سعد بن معاذ الأوسي يوم الخندق- رماه رجل من قريش يقال له: ابن العرقة). حِبّان بكسر الحاء رجل من قريش ابن امرأة يقال لها: العرقة. والعرقة: هي المرأة الطيبة الرائحة، فكانت هذه المرأة تُكثر من الطيب، ولذلك لُقّبت بالعرقة. وفي هذا: جواز أن يُنسب الرجل إلى أمه، وقد استقر في أذهان العامة أن الناس يُنادون بأسماء أمهاتهم يوم القيامة، وهو ليس كذلك. والصواب: أن الرجل ينادى باسمه واسم أبيه. أما جواز أن يُنسب الرجل إلى أمه، أو أن يُنادى ويُعرف بأمه، فهذا أمر يعرفه القاصي والداني، فـ ابن علية من المحدثين الكبار، وممن روى له البخاري ومسلم، وعليّة أمه، ولم ير المحدثون حرجاً في أن ينادوه ويسمونها فيقولون: حدثنا ابن عُليّة وأخبرنا ابن عُليّة؛ وذلك لأن نسبته إلى أمه صارت علماً عليه، فهم يقولون: حدثنا ابن عُليّة من باب التمييز له عن غيره ممن تسمى باسمه في نفس الطبقة؛ لأنهم لو قالوا: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم فهناك في نفس الطبقة إسماعيل بن إبراهيم، فيقولون: ابن عُليّة تمييزاً، وهو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي الضبي. وكان إسماعيل هذا يقول: من قال عني: ابن عُليّة لا أُجيزه على الصراط. أي: أنه كان يكره ذلك، لكن كان العلماء يقولون: ابن عُليّة مع هذا التحذير الشديد، وليس من باب التعيير ولا التنابز بالألقاب، ولكن من باب التمييز له عن غيره، ومن باب النصيحة في الدين، فكانوا يفعلون ذلك. أما الشافعي فكان يهرب من هذا وذاك ويقول: حدثنا إسماعيل الذي يقال عنه: ابن عُليّة، أي: أنه لا يلقبه هو وإنما كان يسمع الناس يقولون عنه ذلك. [قالت عائشة: (أُصيب سعد يوم الخندق رماه رجل من قريش يقال له: ابن العرقة، رماه في الأكحل -أي: أصابه في أكحل اليد، وهو العرق المتشعّب في اليد- فضرب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد يعوده من قريب)] أي: أنه حينما أُصيب سعد في غزوة الخندق. أقام النبي صلى الله عليه وسلم خيمة له في مسجده حتى يتسنى للنبي صلى الله عليه وسلم زيارته بين الحين والحين، ويكون قريباً منه، وأنتم تعلمون أن بيوت النبي كانت في مسجده عليه الصلاة والسلام، فكان يسهل عليه أن يزور الجرحى، وعلى رأس الجرحى سعد بن معاذ. وفي هذا رسالة جديدة للمسجد وهو تطبيب المرضى ومداواة الجرحى، وغير ذلك مما هو أساس في رسالة المسجد في مجتمع الإسلام، فالمسجد ليس للصلاة فحسب، بل الصلاة هي أعظم نُسك يؤدى في المسجد ولأجلها بنيت المساجد، لكن كان الحبشة يلعبون في المسجد، والنبي ينظر إليهم عليه الصلاة والسلام، وعائشة تنظر إليهم وإلى لعبهم بغير نكير من الصحابة، ولا يحل لأحد أن يُنكر مع إقرار النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. ورسالات المسجد قد صُنّفت فيها رسائل كثيرة، وأعظمها رسالة الشيخ جمال الدين القاسمي في مجلد كبير ذكر فيه رسالة المسجد في الإسلام، فمن أراد الرجوع إليها فليرجع. قال: [(فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق وضع السلاح)]؛ وذلك لأن الحرب وضعت أوزارها وانتهت، فكل إنسان معه سلاح وهو راجع من الغزو من الطبيعي جداً أن يضع السلاح ويخلع لأمته ويغتسل، ويلبس ملابس أخرى. قال: [(فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق وضع السلاح فاغتسل، فأتاه جبريل عليه السلام

استجابة الله لدعاء سعد واستشهاده بسبب الجرح الذي أصابه

استجابة الله لدعاء سعد واستشهاده بسبب الجرح الذي أصابه قال: [حدثنا أبو كريب - محمد بن العلاء الهمداني - حدثنا ابن نمير عن هشام أخبرني أبي عن عائشة رضي الله عنها: أن سعداً قال وتحجّر كلمه للبرء] تحجّر. أي: يبس وتماثل جرحه للشفاء. والكلم: هو الجرح. رجل مكلوم. أي: مجروح أو مصاب، كالإنسان الذي عضّه الكلب، فأثر العض يسمى كلِب، ولذلك فالعيادات التي خُصصت لمعالجة عضات الكلاب والحيوانات تسمى عيادات (الكلِب). والكلم: هو الجُرح. ومن الأخطاء اللغوية أن تقول: جرح؛ لأن الجرح ضد التعديل. فلما أقول: فلان هذا فاسق، فلان ضعيف، فلان ثقة أو لا بأس به، أو فلان كذّاب، فهذا يسمى جَرحاً، فأنا أجرح فلاناً، أي: أذكر فيه قولاً شديداً سيئاً؛ لأنه يناسب حالته ويناسب عدالته. ولما أقول: حافظ، إمام، ثقة، أمير المؤمنين، فهذا يسمى تعديلاً. أي: أني أقول فيه قولاً عدلاً. قال: [وتحجّر كلمه للبرء]، والبرء هو: الشفاء، أي: تماثل جرح سعد بن معاذ للشفاء. قال: [(فقال -أي: سعد بن معاذ - اللهم إنك تعلم أن ليس أحد أحب إلي أن أجاهد فيك من قوم كذّبوا رسولك وأخرجوه)]. أي: أنه يقول: يا رب! إنك لتعلم مني ومن سريرتي أنه ليس هناك عمل أحب إليّ من أن أُقاتل قوماً كذّبوا نبيك وأخرجوه من بلده. ثم قال: [(اللهم فإن كان بقي من حرب قريش شيء فأبقني أجاهدهم فيك، اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فافجرها واجعل موتي فيها)] أي: فأيقظها مرة أخرى وأحيها ليكون شيهداً. قال: [(فانفجرت من لبّته)]. اللبّة هي: النحر. وفي رواية: (فانفجرت من ليلته). قال القاضي عياض: وهو الصواب. أي: بمجرد أن دعا سعد بن معاذ انفجرت. قال: [(فانفجرت من لبّته فلم يرعهم إلا والدم يسيل إليهم)] أي: دم سعد بن معاذ يسيل إليهم في الخيمة التي ضُربت في المسجد، فكان الدم يسيل منه وينهمر انهماراً ربما أفزع كل من رأى الدم من لبّته، هذا هو الأصل الذي ذكره الحافظ في الفتح. فانفجر الدم أي: سال الدم. قوله: (من لبّته) أي: من صفحة عنقه، كأنه أُصيب في عنقه رضي الله عنه وكانت له خيمة في المسجد. قال: [(فلم يرعهم إلا والدم يسيل إليهم، فقالوا: يا أهل الخيمة! ما هذا الذي يأتينا من قِبلِكم؟ فإذا سعد جرحه يغذ دماً)] يغذّ يعني: يسيل سيلاناً عظيماً، فمات منها رضي الله عنه. وفي هذا أن الله تعالى استجاب له وجعل حتفه فيها؛ لأنه قال: فافجرها واجعل موتي فيها. فإن قيل: ألا يتعارض دعاء سعد مع: (لا يتمنين أحدكم الموت)؟ A النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به)، فيدعو الإنسان على نفسه فيقول: يا رب! أهلكني، يا رب! خذني، يا رب! أمتني ونحن نسمع الجُهّال يقولون هذا، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تمني الموت لمجرد نزول الضر والبأس بالعبد، لكن سعد بن معاذ تمنى الموت شهيداً، وأنتم تعلمون ما للشهيد من مناقب وفضائل، فهو تمنى الموت بعد بذل الجهد في الجهاد؛ ليموت ويلقى الله تعالى شهيداً. وأنت نفسك الآن تتمنى لو أن الحرب تقوم في بلد من البلدان فتشارك فيها فتُقتل فتكون شهيداً، فهذا تمنٍ للموت، لكنه تمنٍ للموت في ساحة الوغى، في ساحة الجهاد والقتال، ولا بأس بتمني الموت هاهنا، أما تمني الموت المنهي عنه هو أن يتمنى المرء الموت لضر نزل به ولألم أو هم، فيقول: يا رب! لم يبق إلا الموت فأنا أريد أن أموت الآن. وقوله: (فافجرها) فيه رأيان، والرأي الذي رجّحه الحافظ في الفتح: أي: فافجر الحرب بيننا وبينهم مرة أخرى حتى أشارك فيها وأموت. أما النووي فقد رجّح أنه طلب أن يفجّر الله الجرح مرة أخرى بعد أن كان جفّ، فسال الدم من هذا الجرح -إما من الأكحل وإما من اللبة: صفحة العنق- حتى مات منها.

شرح حديث عائشة في موت سعد بن معاذ

شرح حديث عائشة في موت سعد بن معاذ [وحدثنا علي بن الحسين بن سليمان الكوفي قال: حدثنا عبدة -وهو عبدة بن سليمان - عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة غير أنه قال: (فانفجر من ليلته -أي: فانفجر الجرح من ليلته- فما زال يسيل حتى مات). وزاد في الحديث قال: فذاك حين يقول الشاعر: ألا يا سعد سعد بني معاذ فما فعلت قريظة والنضير وفي رواية: لما فعلت قريظة والنضير. قال: لعمرك إن سعد بني معاذ غداة تحملوا لهو الصبور] أي: أنه كان صبوراً جداً في القتال. قال: [تركتم قدركم لا شيء فيها وقدر القوم حامية تفور] وهذا موطن الشاهد، فهذا الشاعر يلوم ويعاتب سعد بن معاذ، فأنت يا سعد من حلفائنا تحكم فينا بقتل المقاتلة وسبي الذراري والنساء؟ أي: أنك لم تفعل ما فعله عبد الله بن أُبي ابن سلول مع بني قينقاع، الذي ذهب ليشفع لهم عند النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قبِل النبي صلى الله عليه وسلم شفاعة عبد الله بن أُبي ابن سلول في بني قينقاع وعفا عنهم، وكان حليفاً لهم، أما أنت يا سعد! فلم تفعل معنا ونحن حلفاؤك كما فعل ابن سلول مع حلفائه من بني قينقاع، فقدرهم يغلي أي: بيوتهم عامرة بهم أحياء يمارسون حرياتهم، أما أنت فقد حكمت علينا بالقتل والسبي، وتركت قدورنا فارغة، فعبّر عن الخيام عن البيوت وأحياء بني قريظة بالقدور. قال: [تركتم قدركم لا شيء فيها وقدر القوم حامية تفور وقد قال الكريم أبو حباب أقيموا قينقاع ولا تسيروا] وأبو حباب هي كنية عبد الله بن أبي ابن سلول، وكأنه يقول: التزموا أماكنكم ولا تسيروا. قال: [وقد كانوا ببلدتهم ثقالاً كما ثقلت بميطان الصخور] قال الإمام النووي: (وإنما قصد هذا الشاعر تحريض سعد على استبقاء بني قريظة حلفاءه، ويلومه على حكمه فيهم، ويذكّره بفعل عبد الله بن أُبي، ويمدحه بشفاعته في حلفائهم بني قينقاع).

باب المبادرة بالغزو، وتقديم أهم الأمرين المتعارضين

باب المبادرة بالغزو، وتقديم أهم الأمرين المتعارضين الباب الثالث والعشرون: (باب المبادرة بالغزو -المبادرة: المسارعة- وتقديم أهم الأمرين المتعارضين). أي: لو كان عندي أمران متعارضان أُقدّم أهم الأمرين، ولذلك يقول العلماء: ليس بفقيه من فرّق بين الخير والشر، إنما الفقيه من عرف شر الشرين وخير الخيرين. أما معرفة الخير من الشر فهو أمر معلوم لكل إنسان، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الحلال بيّن والحرام بيّن) أي بيّن لكل الناس، من مِن الناس لا يعرف أن الزنا حرام، وأن القتل حرام، وشرب الخمر حرام، والسرقة حرام؟ كل الناس يعرفون ذلك، وكل الناس يعرفون أن الله أوجب الصلاة والصيام والزكاة والحج، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنه بيّن قال: (وبينهما -أي: بين الحلال والحرام- أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس) ومفهوم المخالفة أنه: يعلمهن قليل من الناس، وهم الذين قال الله عنهم: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] أي: أهل العلم.

شرح حديث ابن عمر في خروج المسلمين إلى بني قريظة

شرح حديث ابن عمر في خروج المسلمين إلى بني قريظة قال: [وحدثني عبد الله بن محمد بن أسماء الضبعي قال: حدثنا جويرية بن أسماء عن نافع عن عبد الله بن عمر قال: (نادى فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: صاح فينا بصوت عال، وفي هذا جواز رفع الصوت بالعلم- يوم انصرف عن الأحزاب -أي: منصرفه من غزوة الأحزاب- أن لا يصلين أحد الظهر إلا في بني قريظة)]. وفي حديث آخر: (فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة الأحزاب وضع سلاحه واغتسل فقال جبريل: يا محمد! أوضعت السلاح؟ قال: نعم. قال: أما والله ما وضعنا السلاح اذهب إلى بني قريظة، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم منادياً في قومه: أن لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة) وفي رواية: (لا يصلين أحد الظهر إلا في بني قريظة). قال: [(فتخوّف ناس فوت الوقت، فصلوا دون بني قريظة)] أي: صلوا قبل أن يصلوا إلى بني قريظة، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تصلوا إلا في بني قريظة. قال: [(وقال آخرون: لا نصلي إلا حيث أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم)] أي: حتى لو خرج الوقت ودخل علينا المغرب لا نصلي العصر إلا في بني قريظة كما أمرنا عليه الصلاة والسلام. [(وإن فاتنا الوقت قال -أي عبد الله بن عمر - فما عنّف واحداً من الفريقين)] أي: فلما أُخبر عليه الصلاة والسلام أن قوماً من أصحابه صلوا قبل أن يصلوا إلى بني قريظة، وأن قوماً لم يصلوا العصر حتى دخل وقت المغرب ما عنّف واحداً من الفريقين؛ وذلك لأن كليهما مجتهد.

اختلاف العلماء في كون الخلاف داخلا تحت تعدد الحق

اختلاف العلماء في كون الخلاف داخلاً تحت تعدد الحق اختلف العلماء في الخلاف: هل الخلاف حق وباطل، أم أن الحق متعدد؟ والمسألة محل نزاع مبحوث في كتب أدب العلم، وقد استوعبه بحثاً الحافظ الكبير ابن عبد البر في كتاب (جامع بيان العلم وفضله)، وذكر هذين الرأيين وأتى بأدلة لكل رأي، ورجّح أن الخلاف إذا كان مبناه على الدليل فهو راجح ومرجوح، وإذا كان مبناه على غير الدليل فهو خطأ وصواب، أو حق وباطل. أي أننا حينما نختلف في مسألة شرعية، فأنت تأتي عليها بأدلة من الكتاب والسنة، وأنا لا آتي عليها إلا بالرأي والهوى والمزاج والعقل، فالحق مع الكتاب والسنة، وما دام الحق معك فالباطل معي. لكن هذا الخلاف الذي وقع بين الصحابة: (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة) فيه رأيان: الرأي الأول: من قال: النبي عليه الصلاة والسلام أراد بهذا الأمر البشارة، فاجتهدوا وأولوا. قالوا: فنحن مستقرٌ عندنا أنه لا يحل لواحد من المسلمين أن يترك صلاة حتى يخرج وقتها، فمعنى كلام النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة) التبشير بأن النصر سيكون قبل دخول المغرب، وأنكم يا معشر الصحابة! ستصلون في بني قريظة، فهو لم يرد ظاهر الأمر. إذاً هؤلاء اجتهدوا اجتهاداً يسمح به النص، وعندهم فيه حق. الرأي الثاني: الذين اجتهدوا كذلك في النص، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا بذلك ولا يأمر عن هوى، إنما يأمر بوحي السماء، وقد أمرنا ألا نصلي العصر إلا في بني قريظة، ولا نصليه إلا في بني قريظة حتى لو خرج الوقت، فالذي يتحمل هذه المسئولية هو النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه هو الذي أمر بذلك: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4] منه سبحانه وتعالى. فحينئذ أخذ بعض أصحابه بظاهر النص والتزموا ترك الصلاة حتى فتحت على أيديهم ديار بني قريظة. فلما اجتهدوا في هذا وذاك علم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم ما فعلوا ذلك عن هوى ولا عن رأي غير معتبر، وإنما فعلوا ذلك عن اجتهاد، فأقر كل واحد على اجتهاده، وما عنّف واحداً من الفريقين، فلم يقل للذي صلى: لم صليت وقد أمرتك ألا تصلي إلا في بني قريظة؟ ولم يقل للذي أخر: لم أخّرت وأنت تعلم أن تأخير الصلاة عن وقتها حرام وإثم عظيم، ربما يؤدي إلى كفر صاحبه، والخروج به من الملة. ولكنه لم يعنّف هذا ولا ذاك؛ لأنه علم أن هذه الأفعال ما صدرت إلا عن اجتهاد؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إذا اجتهد الحاكم -أي: المجتهد- فأصاب فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر واحد). وفي هذا: جواز الاجتهاد لكن لمن ملك أداة الاجتهاد، ويخرج من ذلك الذي لا يملك أداة الاجتهاد. ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم (لكل مجتهد)؟ وأهل الاجتهاد هم أهل الحل والعقد في الأمة، والأثبات من أهل العلم، وأما اجتهاد من هم دون هؤلاء فغير معتبر.

الجمع بين حديثي: (لا تصلوا الظهر) و (لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة)

الجمع بين حديثي: (لا تصلوا الظهر) و (لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة) في رواية: (لا تصلوا الظهر إلا في بني قريظة)، ولكن أشهر الروايات (لا تصلوا العصر) وهي رواية الجمهور. قال الإمام النووي: لنعتبر أن كلا الروايتين صحيحة، رواية: (لا تصلوا الظهر إلا في بني قريظة). ورواية: (لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة)؛ لأنه يمكن الجمع بين الروايتين، والجمع بينهما أولى من رد أحدهما، فإن قلت: إن إحدى الروايتين صحيحة والأخرى باطلة -فأنا في هذه الحالة سأرد هذه الرواية، ولا أعمل بها مطلقاً- فلا شك أن إعمال الدليلين خير من إهمال أحدهما، وهذه قاعدة أصولية. قال الإمام النووي: (فيُحمل قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تصلوا الظهر إلا في بني قريظة) أن هذا الأمر وجّه إلى مقدمة الجيش الذي سبق في أول الأمر، وحينما اجتمعت مؤخرة الجيش في وقت متأخر -أي: قرب صلاة العصر- قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة). فهم قد صلوا الظهر في المدينة، أما الذي خرج قبل صلاة الظهر -أي: في مقدمة الجيش- فقال لهم النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تصلوا الظهر إلا في بني قريظة)). ويقول: (وأما اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في المبادرة بالصلاة عند ضيق وقتها وتأخيرها، فسببه أن أدلة الشرع تعارضت عندهم). صلوا أو لا تصلوا. ووجه التعارض أنه قال: (لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة) والذي يعارضه هو الذي استقر عندهم قولاً وعملاً أنهم يصلون الصلاة لوقتها، وأن أفضل الأعمال الصلاة على وقتها، فالسنة العملية بيّنت ذلك، فهذا تعارض عندهم فيما استقر عندهم وعملوا به عشر سنوات أو قريباً من ذلك، وبين قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة) فلما تعارضت الأدلة عندهم اجتهدوا، بأن الصلاة مأمور بها في الوقت مع أن المفهوم من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يصلين أحد الظهر -أو العصر- إلا في بني قريظة)، المبادرة بالذهاب إليهم. أي: كما تقول أنت لابنك: لا يزال هناك وقت إلى أن يؤذن المغرب تقريباً نصف ساعة، فلابد أن تصل إلى الشيخ الذي تحفظ عنده القرآن وتصلي عنده المغرب، فانتبه أن تتأخر، وحينما تصل هناك اتصل بي أو أنا أتصل بك، وسأكلم الشيخ بنفسي، أو اجعل الشيخ يتصل بي ويكلمني. فأنا في هذه الحالة ما أردت أن ابني لو أدركه المغرب في الطريق لا يصلي إلى أن يدخل وقت العشاء، وإنما أردت المبادرة والمسارعة إلى الذهاب للشيخ. قال: (أراد بذلك المبادرة بالذهاب إليهم، وأن لا يُشتغل عنه بشيء). أي: لا يُشتغل عن مجاهدة ومقاتلة بني قريظة بشيء، إلا أن تأخير الصلاة مقصود في نفسه من حيث إنه تأخير. (فأخذ بعض الصحابة بهذا المفهوم نظراً إلى المعنى لا إلى اللفظ). وفي هذا الحديث دلالة لمن يقول بالمفهوم والقياس ومراعاة المعنى، وهذا مذهب جماهير العلماء خلافاً للظاهرية الذين يأخذون بظاهر النص. وفي هذا الحديث أنه لا يُعنف المجتهد فيما فعله باجتهاده، إذا بذل وسعه في الاجتهاد. يعني: إذا أدى ما عليه حتى وإن أخطأ فلا يلام، المهم أنه بذل الوسع واستفرغ الجهد، وكان أهلاً لهذا الاجتهاد، فحينئذ لو أخطأ لا يلام؛ لأنه قد أدى ما عليه، وإذا كان الله تعالى يؤجره على اجتهاده فكيف تعنّفه أنت على النتيجة التي وصل إليها؟ وقد يستدل بهذا الحديث طائفة على أن كل مجتهد مصيب، وطائفة أخرى تقول: لم يصرح بإصابة الطائفتين. يعني: ليس هناك تصريح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهؤلاء: أنتم عندكم حق. وقال لهؤلاء: عندكم حق. وإنما سكت ولم يعنّف. والأئمة يقولون في قضية الإجماع السكوتي الذي هو محل نزاع بين أهل العلم الأصوليين: هل يُنسب لساكت قول أم لا؟ الشافعي يقول: لا يُنسب لساكت قول. أما النبي عليه الصلاة والسلام فيختلف عن بقية الأمة؛ لأن سكوتي أنا عن الباطل يبقيه باطلاً كما هو، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لا يسكت على باطل قط، بل لا يحل له أن يسكت على باطل قط؛ ولذلك قال العلماء في تعريف السنة: هي أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته. فإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: كذا فهذا سنة. وإذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً كان سنة. إذا رأى شيئاً أو سمع بشيء ولم يُنكره كان كما لو كان هو الذي فعل، أو هو الذي قال؛ لأنه لو كان باطلاً لوجب على النبي صلى الله عليه وسلم وجوباً شرعياً أن ينكره على الفور والتو. فلو فعل صحابي شيئاً بحضرة النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يُنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم نُسب هذا الفعل إلى النبي عليه الصلاة والسلام؛ وذلك لأن الحجة ليست في فعل الصاحب، وإنما في إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لفعل صاحبه، والنبي عليه الصلاة والسلام عصمه ربه في تلقي الوحي عن الله، وفي تبليغ الوحي إلى الناس، والسنة التقريرية من الوحي المبلّغ. وكذلك من سنته: أوصافه عليه الصلاة

كتاب الجهاد والسير - كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل يدعوه

شرح صحيح مسلم - كتاب الجهاد والسير - كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل يدعوه بعد أن استقر أمر الدعوة بصلح الحديبية، وتوطدت أركان الإسلام في الجزيرة العربية، قام الرسول صلى الله عليه وسلم بإرسال الرسائل إلى خارج الجزيرة، إلى ملوك فارس والروم يدعوهم إلى الإسلام، ومن هؤلاء الملوك عظيم الروم هرقل الذي عرف أن محمداً هو النبي المنتظر في آخر الزمان، إلا أن حبه للملك والرياسة منعه من قبول الحق والإذعان، وبقي على الضلالة والطغيان، حتى أذهب الله ملكه، وأورث الأرض عباده الصالحين.

باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام

باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. الباب السادس والعشرون من كتاب الجهاد والسير (باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم على هرقل يدعوه إلى الإسلام). قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي -وهو المعروف بـ إسحاق بن راهويه - وابن أبي عمر - محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني -نزيل مكة- ومحمد بن رافع وعبد بن حميد -واللفظ لـ ابن رافع - قال ابن رافع وابن أبي عمر: حدثنا، وقال الآخران: أخبرنا عبد الرزاق -وهو ابن همام الصنعاني اليمني - أخبرنا معمر -وهو ابن راشد البصري اليمني - عن الزهري - محمد بن مسلم بن شهاب الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة - ابن مسعود المسعودي الهذلي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن أبا سفيان أخبره من فيه إلى فيه -أي: من فمه إلى فمه مشافهة- قال -أي: أبو سفيان: (انطلقت في المدة التي كانت بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم)] وهذه المدة هي المعروفة بصلح الحديبية بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش، وكانت مدتها عشر سنوات عقدت في آخر العام السادس الهجري، ولكن المشركين نقضوا عهدهم مع النبي عليه الصلاة والسلام، فغزاهم وفتح مكة في العام الثامن من الهجرة، فهذه هي المدة التي كانت بين النبي عليه الصلاة والسلام وبين كفار قريش.

انطلاق أبي سفيان إلى الشام ولقاؤه برسول رسول الله إلى هرقل الروم

انطلاق أبي سفيان إلى الشام ولقاؤه برسول رسول الله إلى هرقل الروم يقول أبو سفيان: (انطلقت في المدة التي كانت بيني)؛ لأن المدة في الغالب كانت معقودة بين قريش متمثلة في صورة أبي سفيان، وبين المؤمنين متمثلة في صورة النبي عليه الصلاة والسلام. قال: [(انطلقت في المدة التي كانت بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينما أنا بالشام إذ جيء بكتاب من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل -يعني: عظيم الروم- قال: وكان دحية الكلبي جاء به)]. وهو دحية بن خليفة الكلبي من كبار أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، جاء بهذا الكتاب إلى هرقل. قال: [(فدفعه إلى عظيم بصرى)] أي: لم يدفعه إلى هرقل مباشرة وإنما دفعه إلى أمير بصرى، وبصرى: قرية بين المدينة والشام. دفع دحية الكلبي هذا الكتاب إلى عظيم بصرى؛ ليدفعه بدوره إلى هرقل، وعظيم بصرى هو الحارث بن أبي شمر الغساني، وبصرى هي المعروفة بحوران. قال: [(فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل، فقال هرقل: هل ها هنا أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ قالوا: نعم)] أي: هل هاهنا في بلاد الشام رجل من قوم ذاك الرجل الذي خرج في مكة ويزعم أنه نبي؟ أجابوه: نعم. ولا بد أن يكون في الشام أحد من مكة، لكنه طلب مطلباً أخص من ذلك أن يكون هذا الموجود من أقارب ذلك الرجل الذي يزعم أنه نبي عليه الصلاة والسلام، وفي رواية: أن هرقل قال: قلّبوا الشام ظهراً إلى بطن وائتوني بقريب لذاك الذي يزعم أنه نبي، ففعلوا فوجدوا أبا سفيان. قال: [(فدعيت في نفر من قريش)]، وفي رواية: أن هؤلاء النفر كانوا ثلاثين رجلاً وخرج بهم أبو سفيان إلى الشام في تجارة. قال: [(فدخلنا على هرقل فأجلسنا بين يديه فقال: أيكم أقرب نسباً من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: قلت: أنا فأجلسوني بين يديه -أي: بين يدي هرقل - وأجلسوا أصحابي خلفي)] أجلسوا بقية الثلاثين أو الثلاثين الذين كانوا في هذا الركب مع أبي سفيان للتجارة خلف أبي سفيان، أما أبو سفيان نفسه فجلس مستقبلاً هرقل وبين يديه. وهذه مجالس الملوك في الغالب، أن الوجيه إذا دخل على ملك من ملوك الدنيا أجلسه بين يديه، وأجلس أصحابه من بعده ومن دونه. وهناك حكمة استخدمها هرقل في وضع هؤلاء خلف أبي سفيان؛ قال للترجمان الذي كان بينه وبين أبي سفيان: إني سائل هذا الرجل فإن كذب علي فأخبر هؤلاء أن يكذبوه، وإنكم لتعلمون أن أبا سفيان كان شريفاً عظيماً مرموقاً في الجاهلية وبين قومه، وإذا كان للرجل في قومه هذه المهابة وهذه المكانة فيصعب على أتباعه وقومه أن يكذّبوه وجهاً لوجه؛ ولذلك أجلسهم خلفه حتى إذا كذب كذبوه، ويسهل عليهم تكذيبه ولو بالإشارة؛ لأنه إن أجلسهم في مقابلة أبي سفيان ربما منعهم الحياء أو الخوف والمهابة أن يكذّبوه إذا كذب، فهذه الجلسة التي اختارها هرقل بحكمته وفطنته وذكائه فلا يبعد أن يكذّب هؤلاء القوم أبا سفيان إذا كذب. قال: [(فدعا بترجمانه)] وكلمة ترجمان بفتح التاء أفصح من تُرجمان بضمها.

موقف أبي سفيان بين يدي هرقل ملك الروم يسأله عن النبي صلى الله عليه وسلم

موقف أبي سفيان بين يدي هرقل ملك الروم يسأله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(فقال له: قل لهم: إني سائل هذا عن الرجل الذي يزعم أنه نبي، فإن كذبني فكذبوه. قال: فقال أبو سفيان: وايم الله لولا مخافة أن يؤثر علي الكذب لكذبت) يقسم بالله أبو سفيان لولا أنه يؤثر عليه الكذب -أي: يتناقل العرب أن أبا سفيان كذب في يوم من الأيام مع شركه وكفره وعبادته للأصنام؛ فكان يستقبح الكذب إما بشرع من قبلنا وإما بالعرف والعادة، وما كان عليه بعض العرب من مكارم الأخلاق، وأن الكذب كان عندهم مستهجن ومستقبح؛ ولذلك تمنى أبو سفيان أن يكذب في هذا الموطن؛ لأن رأس مال أبي سفيان محاربة هذا النبي، ولذلك حينما سأله هرقل: هل يكذب هذا النبي؟ قال: لا، ثم رجع، فقال: إنه ساحر كذاب، فلم يلتفت إليها هرقل. وفي رواية: أن هرقل قال: لا أريد شتمه. فقال أبو سفيان: (وايم الله لولا مخافة أن يؤثر علي الكذب لكذبت). وفي رواية: (فوالله لولا الحياء من أن يؤثر علي كذباً لكذبت عنه). قال: [(ثم قال لترجمانه: سله: كيف حسبه فيكم؟ -والحسب: هو النسب- قال: قلت: هو فينا ذو حسب)] وأبو سفيان ذو حسب، وأنتم تعلمون أن أبا سفيان يلتقي مع الجد الرابع للنبي عليه الصلاة والسلام عبد مناف، فـ أبو سفيان إذا نفى نسب النبي صلى الله عليه وسلم فكأنه نفاه عن نفسه. قال: [(هو فينا ذو حسب. قال: فهل كان من آبائه ملك؟) هل كان محمد هذا منحدر من سلالة فيها ملك؟ قال: (قلت: لا. قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ -أي: قبل أن يزعم أنه نبي مرسل- قلت: لا)]. قال: [(ومن يتبعه: أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟)] ومعنى الأشراف هنا: أصحاب الكبر والوجاهة والنخوة. فقال: [(قلت: بل ضعفاؤهم)] وهذا لا يعني: أن يكون هذا الكلام خرج مخرج الغالب؛ لأنه كان من أفضل أشراف العرب أتباع النبي عليه الصلاة والسلام كـ أبي بكر وعمر. قال: [(أيزيدون أم ينقصون؟ قال: قلت: لا. بل يزيدون قال: هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له؟)] أي: كرهاً وبغضاً في الدين؛ لأنه ربما يخرج من الدين أحد مكرهاً، فينطق بكلمة الردة وهو مكره، وهو لا يخرج في حقيقة الأمر، لكن في الظاهر أمام الناس أنه قد خرج، وربما يخرج الرجل من الدين ليس من باب السخط والكره لهذا الدين وإنما لمصلحة ينالها، أو لمال يقصده كـ عبيد الله بن جحش، ما ترك الدين إلا لحظ من حظوظ الدنيا. قال: [(قلت: لا. قال هرقل: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم. قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قال: قلت: تكون الحرب بيننا وبينه سجالاً -أي: مداولة مرة لنا ومرة علينا- يصيب منا ونصيب منه. قال: فهل يغدر؟ قلت: لا. ونحن منه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها)]. أي: لكن لا بد أن تعلم يا هرقل أننا الآن في مدة وعهد وأمان، ولا ندري ماذا يصنع فيها ربما يغدر، كأنه أراد أن يقول: ربما يغدر؛ لأن هرقل ضيّق عليه الخناق جداً، فما سأله إلا أسئلة صريحة واضحة لا تحتمل إلا نوعاً واحداً من الجواب إما سلباً وإما إيجاباً، فإنه ترك السلب مخافة أن يؤثر عنه الكذب، وأجاب بإجابات صريحة كلها في صالح النبي عليه الصلاة والسلام، إلا هذه الثغرة: هل يغدر؟ قال: لا، وربما يغدر؛ لأننا في مدة بيننا وبينه، والعهد لم ينته فربما يغدر، والله تعالى عاقبهم بأنهم هم الذين غدروا ولم يغدر النبي عليه الصلاة والسلام، فلما غدروا صاروا محاربين، فحاربهم النبي عليه الصلاة والسلام وفتح مكة في العام الثامن من الهجرة. قال: [(فوالله ما أمكنني من كلمة أُدخل فيها شيئاً غير هذه)] أي: ما ترك لي ثغرة أبداً أتنقّص فيها محمداً أو أسبّه أو أغلبه إلا هذا السؤال. وهذا يدل على ذكاء وفطنة وحكمة هرقل فقد كان ذكياً.

تعليق هرقل على إجابات أبي سفيان

تعليق هرقل على إجابات أبي سفيان قال: [(فهل قال هذا القول أحد قبله؟ قال: قلت: لا. قال لترجمانه: قل له: إني سألتك عن حسبه فزعمت أنه فيكم ذو حسب، وكذلك الرسل تُبعث في أحساب قومها)] أي: في أشرف الأقوام، وما أرسل الله تعالى رسولاً ولا نبياً إلا أرسله في أشرف أهل زمانه، وأنتم تعلمون أن قريشاً أشرف العرب في الجاهلية والإسلام إلى يومنا هذا، ومنهم النبي عليه الصلاة والسلام، بل هو خيار من خيار، وبنو عبد المطلب أشرف قوم في قريش ومنهم النبي عليه الصلاة والسلام. قال: [(وسألتك هل كان في آبائه ملك؟ -وفي رواية: هل كان في آبائه من ملك؟ -وفي قراءة: من ملِك- فزعمت أن لا. فقلت: لو كان من آبائه ملك قلت: رجل يطلب ملك آبائه)] فهذا في صالح النبي عليه الصلاة والسلام، لو كان أحد من آبائه ملكاً فربما قامت الشبهة أن هذا الرجل ما خرج بالذي خرج به إلا لطلب ملك آبائه، ولكنك تزعم الآن أنه ليس من آبائه ملك، فانتفت عنه هذه الشبهة. قال: [(وسألتك عن أتباعه: أضعفاؤهم أم أشرافهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم -ثم يقرر هرقل حقيقة عظيمة- قال: وهم أتباع الرسل)] أي الضعفاء؛ لأن الأغنياء دائماً يأنفون أن يكونوا أتباعاً لرجل يظنون أنه من مستواهم وهم من مستواه، فكيف يكونون في يوم من الأيام تبعاً له، فالغني يأنف والكبير يأنف والشريف يأنف، ولا يأنف الضعيف المسكين المتذلل الخاضع أن يكون تابعاً لغيره؛ ولذلك تجدون أن أصبر الناس على طلب العلم هم الفقراء؛ ولذلك كان مالك رحمه الله إذا استشاره أحد للقضاء يقول: لا تتول القضاء حتى تتم العلم؛ لأنك إن عزلت عن القضاء لا ترجع إلى مجلس العلم؛ لأنه صار شريفاً بالقضاء. ومن المستحيل أنه بعد أن كان قاضياً يجلس أمام مالك، وهكذا شأن الأغنياء، ونسمع كثيراً -خاصة من العرب- اليوم من يقول: لِم العلم إذاً؟ لأجل المال نحن أصحاب مال. إذاً: لا قيمة للعلم، كثير من العرب يقيسون طلب العلم بهذا القياس، فإن إبليس لا يخطر على باله قياس العلم على المصالح الدنيوية بهذا الشكل. قال: [(قلت: بل ضعفاؤهم وهم أتباع الرسل. وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فزعمت أن لا)] لأنهم كانوا ينادونه في الجاهلية قبل الإسلام: محمد الصادق. قال: [(فقد عرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس، ثم يذهب فيكذب على الله)] وهذا قياس أولوي: أنت تزعم أنه لم يكن يكذب في حديث الناس، أي أنه حينما كان يتكلم معكم لم يكن يكذب، واشتهر عنه الصدق في القول ونقل الأخبار، فإذا كان هذا على هذا النحو معكم وبينكم فسيدع الكذب على الله من باب أولى. أي: يستحيل أن يكون صادقاً مع الناس وكاذبا ًمع ربه. قال: [(وسألتك: هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخله سخطة له؟ -أي: كرهاً وبغضاً في هذا الدين- فزعمت أن لا، وكذلك الإيمان إذا خالط بشاشة القلوب)] وكذلك الإيمان لا يمكن أن يخرج من القلب إذا تذوق القلب حلاوة الإيمان، إذا خالط بشاشة الإيمان انشراح الصدر تمكّنت منه ولا يمكن أن تخرج منه. قال: (وكذلك الإيمان إذا خالط بشاشة القلوب). وفي رواية: (إذا خالطت بشاشته القلوب). قال: [(وسألتك: هل يزيدون أو ينقصون؟ -أي: أتباع هذا الرجل- فزعمت أنهم يزيدون)] وهذا بيان عملي على أن الإيمان يزيد وينقص، وأن المؤمنين دائماً في زيادة، فهو مؤمن لأنه دائماً يصلي ويصوم ويزكي ويحج ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فبدأ الإيمان نظرياً قولاً فحسب، فلما نزلت التكاليف والأعمال كانت ركناً من أركان الإيمان؛ ولذلك من مات في مكة قبل العمل مات على كمال الإيمان وتمامه؛ لأنه لم يكلف إلا ما قد بُلّغ، وبعد نزول التكاليف لا يمكن أن يُنسب كمال الإيمان وتمامه إلى أحد من المسلمين إلا أن يأتي بهذه الأعمال، فكلما ازداد المرء عملاً في الإيمان والإسلام ازداد به إيماناً. قال: [(وكذلك الإيمان -أي: يزيد- حتى يتم)] أي: حتى يكمل ويكون تماماً، ولذلك بعد أن نزلت العقائد والتكاليف والأحكام والحلال والحرام والحدود والآداب والأخلاق وغير ذلك -قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3] أي: تمت وكملت وصارت في قمة الكمال والتمام. فلو قيل: لِم لم تنزل هذه الآية في مكة في الزمن الأول، وإنما نزلت في مكة في عرفات في حجة الوداع، أي: في أواخر عهد النبوة عند كمال الشريعة وتمام الإيمان؟ A لأن الدين لم يكمل ولم يتم بعد. قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] أي على هذا النحو بعد كماله وتمامه. قال: [(وسألتك: هل قاتلتموه؟ فزعمت أنكم قد قاتلتموه، فتكون الحرب بينكم وبينه سجالاً ينال منكم وتنالون منه، وكذلك الرسل تبتلى -لي

شهادة هرقل بأن محمدا هو نبي آخر الزمان وتعظيمه له

شهادة هرقل بأن محمداً هو نبي آخر الزمان وتعظيمه له قال: [(إن يكن ما تقول فيه حقاً)] أي: إن كان يا أبا سفيان! ما قد أجبت به عن صاحبك [فإنه نبي]؛ لأن هذه رسالة الأنبياء، وهذه الأسئلة التي طرحتها عليك وأجبت عنها إنها لعلامات في نبي آخر الزمان، وإنا نعلم ذلك ونعلم أنه نبي، ولكننا ما كنا ندري أنه منكم. أي: أن هذه الكتب التي بين أيدينا علمنا منها أمارات وعلامات لنبي آخر الزمان، وهذا يدل على أن هرقل كان عالماً من علماء أهل الكتاب، مع أنه لم يكن من بني إسرائيل ولا يهودياً ولا نصرانياً، ولكنه دخل النصرانية بعد التبديل والتحريف، ومع هذا خاطبه النبي عليه الصلاة والسلام: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} [آل عمران:64] فالمرء وإن خالف الكتاب الذي بين يديه أو الكتاب الذي هو تابع له إلا أنه ينسب إليه مع هذا التقصير والتفريط والمخالفة، فأهل الكتاب هم أهل الكتاب، ولا يزالون أهل كتاب إلى قيام الساعة وإن بدلوا وحرفوا وعصوا الكتب التي يزعمون أنها كتبهم. قال: [(إن يكن ما تقول فيه حقاً فإنه نبي، وقد كنت أعلم أنه خارج -أي: عندي علم من الكتب السابقة أنه خارج- ولم أكن أظنه منكم، ولو أني أعلم أني أخلص إليه)] أي: أذهب إليه وأنتهي إليه بأمان وسلام وبغير قتل. قال: [(لأحببت لقاءه)]، وفي رواية البخاري: (لتجشمت لقاءه). والتجشم: هو الكلفة وتحمل المشقة وبذل الجهد في الوصول إلى الغرض. قال: [(ولو أعلم أني أخلص إليه)] أي: أنتهي إليه وأذهب إليه في أمان ولو بمشقة لتجشمت لقاءه. قال: [(ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه)] أي ولو خلصت إليه لغسّلت قدميه، وهذا تبجيل واحترام للنبي عليه الصلاة والسلام. قال: [(وليبلغن ملكه ما تحت قدمي)] أي: أن هذا الملك لا بد أن يصل إلى إيليا وإلى القدس والشام كلها؛ لأننا نجد في الكتب السابقة أن ملك نبي آخر الزمان سيبلغ ما بلغ الليل والنهار، وهذه البشارات بشّر بها النبي عليه الصلاة والسلام.

قراءة هرقل لرسالة رسول الله

قراءة هرقل لرسالة رسول الله قال أبو سفيان: [(ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه)] أي: طلب هرقل كتاب النبي صلى الله عليه وسلم فقرأه على هؤلاء الناس جميعاً. قال: [(فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم)] طبعاً هذا كلام على خلاف ما يقوله النصارى: باسم الأب والابن والروح القدس، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقول ذلك وإنما قال: بسم الله الرحمن الرحيم. وفي هذا: استحباب أن تبدأ الرسائل والمكاتبات بين الخلق بهذه البسملة: بسم الله الرحمن الرحيم. قال: [(من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم)] ولا شك أن الرسالة صفة للنبي عليه الصلاة والسلام، فهو موصوف بالرسالة، فما زاد وما بالغ في شأن نفسه. قال: (من محمد) وهذا تواضع النبوة وأدبها، ثم أخبره بصفته قال: أنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: (من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم) ولم يقل: ملك الروم، وذلك لأنه بمجرد أن أرسل الله تعالى رسولنا زالت في الحقيقة كل مملكة وكل ملك، فلا يكون ملكاً شرعياً ولا مملكة شرعية؛ لأن الإسلام لا يعترف بها، وكل أرض هي مغنم للإسلام والمسلمين، فإذا دخلوها صارت ملكاً لهم، ولا يجوز لأهلها أن يزعموا أنها أرض لهم، فبمجرد فتحها انتقلت ملكيتها إلى الإسلام والمسلمين، فقال: (من محمد رسول الله إلى هرقل) ولم يقل: ملك الروم؛ لعدم مشروعية ملكه ومملكته، وإنما قال: (عظيم الروم) لأن هذا يوافق الحقيقة فهو فعلاً عظيم من عظماء الروم وكبير من كبرائهم ورئيس من رؤسائهم، وربما قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك تأليفاً لقلبه. قال: [(سلام على من اتبع الهدى)] ولم يقل: السلام عليكم؛ لأنه عليه الصلاة والسلام نهانا أن نبدأ المشركين بالسلام، وإذا قابلناهم في الطريق قال: (فاضطروهم إلى أضيقها). أي: حافة الطريق. المسلم يمشي في وسط الطريق، وذلك حينما تكون دولة إسلامية لها عز وسيادة وريادة فالمسلم يمشي في وسط الطريق، والكافر يمشي على حافة الطريق، فإذا كان الأمر كذلك (فاضطروهم إلى أضيقها)، بل الكافر حينما يجد إسلاماً صحيحاً فهو في نفسه يذهب إلى أضيق الطريق. فقوله صلى الله عليه وسلم: (سلام على من اتبع الهدى)؛ لأنه في الحقيقة لم يسلم؛ وكأنه يقول: فإن كنت متبعاً للهدى فسلام عليك وإلا فلا سلام ولا كلام، فهذا من باب الخبر وليس من باب إلقاء السلام. ومن قبل قسّمنا المكاتبات والرسائل إلى أقسام: المقدمة. الغرض. الخاتمة. فالمقدمة: فيها البسملة والصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام، ثم يذكر من أرسل ومن أُرسل إليه، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام هنا: (من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم)]. قال جمهور العلماء: يستحب أن يبدأ المرسل بذكر اسمه أولاً: من فلان إلى فلان، فلا يقول: إلى فلان من فلان، فيذكر نفسه أولاً ثم يذكر المرسل إليه، يقول: من فلان إلى فلان. ويستحب أن يشاطره الأدب، أي: أنه لا يقول: من فلان الفلاني العالم الفاضل الشيخ إلى محمد بن عبد الله! فإن المرسل إليه أول ما يبادئ الرسالة ويستطلع هذه الكلمات الطيبة ينشرح صدره للرسالة بمجرد قراءته العنوان، إلا أن تكون الرسالة في مظروف فتقول مباشرة: إلى فلان. قال: [(فإني أدعوك بدعاية الإسلام)] أي: بدعوة الإسلام. وفي رواية: (بداعية الإسلام) وداعية الإسلام هي كلمة التوحيد. أي: إني أُطالبك بتوحيد الله عز وجل ونبذ الكفر والشرك. قال: [(أسلم تسلم)] استخدم السلم في أمرين متقابلين أسلم يا هرقل! تسلم من الإثم، وإن أسلمت يا هرقل! سلمت من الحرب والقتل والسبي والتشريد وأخذ الأموال والأرض. (أسلم تسلم) من كل أذى ومن كل مكروه، كما يقول الشاعر: سميته (يحيى ليحيا). أي: أنه سماه يحيى ليعيش. فهذا من الجناس اللذيذ. قال: [(أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين)] المرة الأولى أنه كان تابعاً لعيسى عليه السلام ولا شك أنه مأجور على تبعيته لعيسى، ولو أنه ترك شريعة عيسى وآمن بمحمد عليه الصلاة والسلام مع إيمانه بعيسى واتبع شريعة محمد عليه الصلاة والسلام لكان له الأجر مرتين: أنه آمن بعيسى وآمن بمحمد عليه الصلاة والسلام. فالتفسير الأول لقوله: (وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين) مرة لإيمانك بعيسى ومرة لإيمانك بمحمد عليه الصلاة والسلام. والتفسير الثاني: (يؤتك الله أجرك مرتين) أي: أجرك أنت باعتبارك رئيساً وزعيماً عظيماً في قومك، ويؤتيك أجر من أسلم بإسلامك: (ومن سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً). قال: [(وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين)] وفي رواية عند

رواية البخاري لسياق رسالة رسول الله إلى هرقل

رواية البخاري لسياق رسالة رسول الله إلى هرقل ساق الإمام البخاري هذا الحديث ولكن فيه زيادة. قال: (قال ابن الناطور) وابن الناطور -لقب معناه: حارس البستان، ولعلها كلمة فارسية- (وكان صاحب إيليا). أي: أن ابن الناطور كان أميراً على بيت المقدس، وكان صديقاً حميماً لـ هرقل، فـ هرقل كان زعيم الروم على حمص، والحارث بن أبي شمر كان على حوران، وابن الناطور كان على القدس، وكان ابن الناطور أسقفاً على نصارى الشام -أي: زعيماً وسيداً- يحدث: أن هرقل حين قدم إيليا أصبح يوماً خبيث النفس -أي: مهموماً مغموماً. وإيليا: كلمة عبرية معناها: بيت الله، فذهب هرقل من حمص إلى بيت المقدس ليزور ابن الناطور، فنام ثم قام من النوم خبيث النفس. قال: (أصبح يوماً خبيث النفس) وهذا خبر عن حال الغير، وهل يجوز إنسان أن يقول عن نفسه: خبثت نفسي؟ أو إذا سألته تقول: ما لك؟ يقول: خبيث النفس أو يقول المسلم: أنا نفسي خبيثة؟ A لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، وقال: (لا يقولن أحدكم: خبثت نفسي). قال: فقال بعض بطارقته: (قد استنكرنا هيئتك). قال ابن الناطور: وكان هرقل حزاء -أي: أنه كان منجّماً يعرف الأخبار عن طريق النجوم. فقال لهم حين قالوا له: قد استنكرنا هيئتك. قال: (إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم ملك الختان قد ظهر). وفي رواية: (مُلك الختان قد ظهر). وهذا يدل على أن العرب في الجاهلية قبل الإسلام كانوا يختتنون. أي: أن الختان ليست عادة فرعونية. قال: (إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم ملك الختان قد ظهر، فمن يختتن من هذه الأمة؟). أي: أنه يريد أن يعرف من على وجه الأرض يختتن؟ قال: (قالوا: ليس يختتن إلا اليهود). وكأنهم يقولون له: النصارى لا يختتنون، إنما اليهود من عادتهم الختان. قالوا: (فلا يهمنك شأنهم). أي: يا هرقل! لا يهمك، وهذه هي بطانة السوء التي تستدرجه. قالوا: لا تخف. الذين يختتنون على وجه الأرض كلها اليهود. قالوا: (واكتب إلى مدائن ملكك فيقتلوا من فيهم من اليهود). وكأن هذه نصيحة يقولون له فيها: ابعث رسائل للولاة والأمراء والملوك من الباطن أن يتتبعوا رعاياهم فإن وجدوا يهودياً قتلوه. قال: (فبينما هم على أمرهم) أي: وهم يتداولون الكلام. قال: (أُتي هرقل برجل أرسل به ملك غسان) والملك هو الحارث بن أبي شمر الغساني أرسل برجل يخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: (فلما استخبره هرقل قال: اذهبوا فانظروا: أمختتن هو أم لا؟). وحينما أتى شخص من مكة لحق به ملك غسان، وأرسله إلى حمص عند هرقل، فدخل عليه فقال هرقل: أريد أن أنظر أصحاب مكة: هل هم يختتنون أم لا؟ قال: (فنظروا إليه فحدثوه أنه مختتن). إذاً: الملك والرئاسة والنبوة الجديدة هذه أتت من جزيرة العرب. قال: (وسأله عن العرب: أهم يختتنون؟ قال: نعم. فقال هرقل: هذا ملك هذه الأمة قد ظهر، ثم كتب هرقل إلى صاحب له برومية، وكان اسمه ضغاطر، وكان نظيره في العلم) أي وكان ينظر في النجوم. قال: (وسار هرقل إلى حمص) وحمص فتحها أبو عبيدة بن الجراح. قال: (فلم يرم حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأي هرقل على خروج النبي صلى الله عليه وسلم وأنه نبي). أي: أن هرقل أرسل رسالة لـ ضغاطر وقال له: قد رأيت بعد نظري في النجوم أن نبي هذه الأمة العربي قد ظهر، فما رأيك: هل توافقني على ذلك أم لا؟ قال: ثم انطلق، وفي أثناء سيره إلى وجهته أتاه كتاب ضغاطر، وقد نظر في النجوم مثله فوافقه على أن ملك هذه الأمة قد ظهر، فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بحمص). والدسكرة: هو القصر العظيم وحوله بيوت قد فتحت أبوابها في دهليز هذا القصر. قال: دعا هرقل الناس جميعاً العظماء وغير العظماء في هذه الدسكرة وكان بحمص، ثم أمر بأبوابها فغلقت، ثم اطلع فقال: يا معشر الروم! هل لكم في الفلاح والرشد وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي؟ قال: فحاصوا حيصة حمر الوحش -أي: كالبهائم- إلى الأبواب، فوجدوها قد غلقت، فلما رأى هرقل نفرتهم وأيس من الإيمان -أي: أيس من إيمانهم بهذا النبي وفقد الأمل- قال: ردوهم علي. وقال: إني قلت مقالتي آنفاً أختبر بها شدتكم على دينكم). وهو في حقيقة الأمر كان يدعوهم إلى الإسلام، فلو أن هؤلاء وافقوه لكان هو أول من أسلم، لكنه حينما رأى نفرتهم وحيصتهم خاف على نفسه وعلى ملكه وعلى حياته. وفعل ضغاطر في روميا نفس الذي فعله هرقل في الشام، فحاصوا عليه حيصة عظ

موقف النبي صلى الله عليه وسلم من جواب هرقل

موقف النبي صلى الله عليه وسلم من جواب هرقل أرسل هرقل رسالة سرية إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول له فيها: إني مسلم، فلما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم رسالة هرقل قال: (كذب). وفي رواية: (كذب هرقل. إنه كافر) فيجب علينا أن نصدق النبي عليه الصلاة والسلام، ثم يأتي الدليل العملي بعد ذلك أن الذي حارب المسلمين في غزوة مؤتة هو هرقل. إذاً: أراد أن يخدع النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن كيف يُخدع من يأتيه الوحي من السماء؟ ولذلك حينما أراد أن يخدعه نفى النبي عليه الصلاة والسلام هذه الشبهة من قلوب أصحابه، وأخبرهم أنه باق على كفره. قال لهم: (كذب هرقل. هو كافر). فمع هذا الكلام المعسول لكنه يبقى كافراً، ولا يمنع كونه كافراً أن يكون كلامه طيباً ومؤدباً، أو أن يكون عنده خلة وشملة من خلال وشمائل الخير، كإطعام الطعام وإلقاء السلام والبر والصلة والصدق في الحديث.

معنى قول أبي سفيان: (إنه ليخافه بنو الأصفر)

معنى قول أبي سفيان: (إنه ليخافه بنو الأصفر) أما قول أبي سفيان: إنه ليخافه بنو الأصفر. قيل: بنو الأصفر هم الروم، يقول ابن الأنباري: سموا ببني الأصفر؛ لأن جيشاً من الحبشة غلب على بلادهم -أي: على الروم، وهؤلاء الروم بيض- فوقع رجال الحبشة على نساء الروم فأتى الولد بين السواد والبياض أي: أصفر، فلُقّبوا بعد ذلك ببني الأصفر. أما أبو إسحاق بن إبراهيم الحربي فقال: كلام ابن الأنباري هذا مردود ومرفوض، وإنما هم نسبوا إلى الأصفر بن الروم بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام. قال القاضي عياض: وهذا أشبه من قول ابن الأنباري. أي: أن هذا أقوى وأصح من قول ابن الأنباري.

كلام النووي على رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل

كلام النووي على رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل

دعاء الكفار إلى الإسلام قبل قتالهم

دعاء الكفار إلى الإسلام قبل قتالهم الإمام النووي عليه رحمة الله يذكر فوئد وفرائد لهذا الحديث، منها: (دعاء الكفار إلى الإسلام قبل قتالهم). أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل رسالة إلى هرقل وقال له: (أسلم تسلم). وهذه دعوة إلى الإسلام قبل القتال، وهذا الدعاء واجب والقتال قبله حرام إن لم تكن بلغتهم دعوة الإسلام، وإن كانت بلغتهم فالدعاء مستحب -أي: دعوتهم مستحبة- وهذا مذهب الشافعية، وقد ذكرنا هذا في أول كتاب الجهاد.

وجوب العمل بخبر الواحد

وجوب العمل بخبر الواحد ومن الفوائد: (وجوب العمل بخبر الواحد). فأنتم تعلمون أن دحية الكلبي أخذ هذا الكتاب، وذهب من مكة إلى هرقل في الشام، وهرقل علم أن خبر الواحد يحتج به في العقائد والإسلام، فـ هرقل يعتقد وجوب العمل بخبر الواحد، والمعتزلة المنسوبون إلى الإسلام لا يعتقدون ذلك. قال الإمام النووي: ومن فوائد هذا الحديث: (وجوب العمل بخبر الواحد، وإلا فلم يكن في بعثه مع دحية فائدة، وهذا إجماع من يُعتد به، أن خبر الواحد يجب الاحتجاج به في العقائد والأحكام على السواء). ولذلك هرقل لم يقل له: لا يا دحية! نحن لن نقبل منك هذا الكلام؛ لأنك واحد وخبرك خبر واحد، وإنما أقرّه واحترمه. وفي بعض الروايات: أن هرقل حينما قرأ رسالة النبي عليه الصلاة والسلام طبّقها ووضعها على رأسه، ثم وضعها في صندوق من ذهب، وظل هذا الصندوق يتوارثه الأجيال.

استحباب تصدير الكتاب باسم الله

استحباب تصدير الكتاب باسم الله قال: (ومنها: استحباب تصدير الكتاب ببسم الله الرحمن الرحيم، وإن كان المبعوث إليه كافراً). ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: (كل أمر ذي بال لا يُبدأ فيه بحمد الله فهو أجذم) أي: أقطع ناقص ومبتور، وهذا الحديث عند جماهير المحدثين ضعيف. والمراد بالحمد لله: ذكر الله تعالى.

جواز السفر بالآية والآيتين إلى أرض العدو

جواز السفر بالآية والآيتين إلى أرض العدو ومنها: (أنه يجوز أن يسافر إلى أرض العدو بالآية والآيتين). بل يجوز السفر إلى أرض الكفر بالقرآن كله ما لم يكن هناك حرب بين الدولتين يخشى منها أن يصيب هؤلاء من القرآن الكريم. أي: حينما يكون هناك حرب مع دولة كافرة فليس لأهل الإسلام أن يدخلوها بالقرآن الكريم مكتوباً. ومنها: (أنه يجوز للمحدث والكافر مس آية أو آيات يسيرة مع غير القرآن). أي: ضمن كتاب.

التوقي في المكاتبة واستعمال الورع

التوقي في المكاتبة واستعمال الورع ومنها: (أن السنة في المكاتبة والرسائل بين الناس أن يبدأ الكاتب بنفسه) فيقول: من زيد إلى عمرو، وهذه مسألة مختلف فيها. قال أكثر العلماء: يستحب أن يبدأ بنفسه. ومنها: (التوقي في المكاتبة، واستعمال الورع فيها، فلا يُفرط ولا يفرّط). لا يظل يثني ويطري ويمدح ويغالي في ذلك سواء في نفسه أو في غيره، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إلى هرقل عظيم الروم) فلم يقل: ملك الروم؛ لأنه لا ملك له ولا لغيره إلا بحكم دين الإسلام، ولا سلطان لأحد إلا لمن ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أول ولاه من أذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرط، وإنما ينفذ من تصرفات الكفار ما تنفذه الضرورة، ولم يقل: إلى هرقل فقط، وإنما قال: عظيم الروم؛ تأليفاً لقلبه، وامتثالاً لقول الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125] وقال: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} [طه:44]. ومنها: استحباب البلاغة والإيجاز: (أسلم تسلم). وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

كتاب الجهاد والسير - كتب النبي صلى الله عليه وسلم لملوك الكفار يدعوهم - قصة النجاشي

شرح صحيح مسلم - كتاب الجهاد والسير - كُتب النبي صلى الله عليه وسلم لملوك الكفار يدعوهم - قصة النجاشي بعد أن وضعت الحرب أوزارها بين النبي صلى الله عليه وسلم وقريش إثر صلح الحديبية، بدأ النبي بمراسلة ملوك وأمراء البلاد المحيطة بالجزيرة ودعوتهم إلى الإسلام، وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم كتباً إلى الملوك والأكاسرة في عهده، ولم يؤمن منهم إلا النجاشي ملك الحبشة، والذي كان له مناقب كثيرة، منها إيواء المهاجرين من مكة إليه، وتجهيز أم حبيبة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم عند وفاته صلاة الغائب ولم يصلها على أحد غيره.

باب كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملوك الكفار يدعوهم إلى الله عز وجل

باب كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملوك الكفار يدعوهم إلى الله عز وجل الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. الباب السابع والعشرون من كتاب الجهاد والسير: (باب كُتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملوك الكفار يدعوهم إلى الله عز وجل). قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثني يوسف بن حماد المعنى حدثنا عبد الأعلى عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة بن دعامة البصري عن أنس رضي الله عنه: (أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشي، وإلى كل جبّار يدعوهم إلى الله تعالى، وليس بالنجاشي الذي صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم)]. أي: أن هذا النجاشي ليس هو النجاشي الذي آمن بالنبي عليه الصلاة والسلام، وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم حينما توفي صلاة الغائب. قال: [وحدثناه محمد بن عبد الله الرزي حدثنا عبد الوهاب بن عطاء عن سعيد عن قتادة قال: حدثنا أنس]. في الإسناد الأول قتادة عن أنس. وفي الإسناد الثاني: عن قتادة حدثنا أنس وقتادة مدلّس، فإذا قال: حدثنا انتفت عنه شبهة التدليس. قال: [عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله. ولم يقل: (وليس بالنجاشي الذي صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم)]. أي: أن الإسناد الأول من طريق عبد الأعلى عن سعيد. والإسناد الثاني من طريق عبد الوهاب عن سعيد. ففي طريق عبد الأعلى: (وليس بالنجاشي الذي صلى عليه النبي عليه الصلاة والسلام). أما في طريق عبد الوهاب بن عطاء ليس فيه هذه الزيادة. قال: [وحدثنيه نصر بن علي الجهضمي أخبرني أبي حدثني خالد بن قيس عن قتادة عن أنس ولم يذكر: (وليس بالنجاشي الذي صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم)].

كلام النووي على أحاديث باب كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملوك الكفار

كلام النووي على أحاديث باب كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملوك الكفار قال النووي: (قوله: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشي وإلى كل جبّار يدعوهم إلى الله تعالى، وليس بالنجاشي الذي صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم). أما كسرى وكَسرى: لقب لكل ملك من ملوك الفُرس). والفُرس: هي إيران وما حولها. وهذه الممالك الفارسية كلها تقع تحت مملكة كسرى، فكسرى لقب، وآخر كسرى لفارس من زعماء الدين هو الخميني، وكان رجال الدين في تلك البلاد يطلقون أحياناً على الخميني: آية الله. وأحياناً يقولون: كسرى فارس. قال: (وأما قيصر: فهو لقب لكل من ملك الروم). أي: الشامية إلى روما. قال: (والنجاشي: لقب لكل من ملك الحبشة. وخاقان: لقب لكل من ملك الترك. وفرعون: لقب لكل من ملك القبط. والعزيز: لقب لكل من ملك مصر. وتُبّع: لقب لكل من ملك حمير).

جواز مكاتبة الكفار ودعائهم إلى الإسلام

جواز مكاتبة الكفار ودعائهم إلى الإسلام قال: (وفي هذا الحديث جواز مكاتبة الكفار ودعائهم إلى الإسلام). وفي الحقيقة أنا فكّرت في هذا مراراً وتكراراً بعد أحداث (11) سبتمبر، قلت: إذا كانت القلوب بين يدي الله عز وجل يقلبها كيف يشاء، يجعل من يشاء سعيداً، ويجعل من يشاء شقياً، يجعل من يشاء مؤمناً، ويجعل من يشاء كافراً، والمرء لا يملك قلبه، فما المانع أن نُذكّر هؤلاء الطغاة الجبابرة أمثال بوش وشارون ذاك الكلب اليهودي؟ ما المانع أن نذكرهم بالله تعالى؟ فلو كان هناك مانع لكان أولى الناس بهذا المانع نبينا عليه الصلاة والسلام الذي كتب إلى جبابرة الأرض حينذاك يدعوهم إلى الإسلام، فكتب إلى كسرى وإلى قيصر، فلا مانع حينئذ أن ينشط بعض الدعاة الذين لهم صلة بالإنترنت ويكتبون مراسلات، بل قد كتب بعض الدعاة وأهل العلم في هذا الزمان رسالة إلى بوش يدعوه فيها إلى الإسلام، وهو الشيخ سفر الحوالي حفظه الله.

جواز العمل بالخبر الواحد

جواز العمل بالخبر الواحد قال النووي: (في هذا الحديث: جواز مكاتبة الكفار ودعاؤهم إلى الإسلام، والعمل بالكتاب، وبالخبر الواحد). قوله: (والعمل بالكتاب) أي: اعتبار أن هذا الكتاب حجة وإن كان خبراً واحداً. ولا تزال الأمة تعمل بخبر الواحد في العقيدة والأحكام والآداب والأخلاق والمعاملات حتى ظهر المعتزلة ومن بعدهم من الفلاسفة، فأخذ الفلاسفة بمذهب المعتزلة، واستفادت المعتزلة من مذهب الفلاسفة بعد الترجمة في زمن الرشيد، فخرجوا عن الأمة ببدعة عظيمة كادت تهدم أكثر من نصف الدين، وأكثر من ثلاثة أرباع عقيدة التوحيد، وهذا مبني على قولهم المنكر: إن خبر الواحد لا يُحتج به في العقيدة. وبعضهم يقول: لا يُحتج به لا في العقيدة ولا في الأحكام. والذين يقولون ذلك إذا وافق النص أهواءهم احتجوا به حتى وإن كان نصاً ضعيفاً أجمع المحدثون على ضعفه، فتجدهم حين الحاجة إلى هذا النص يحتجّون به. والأدلة على أن خبر الواحد حجة كثيرة في كتاب الله تعالى وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، منها: أن النبي عليه الصلاة والسلام أرسل معاذاً إلى اليمن، كما أنه أرسل الرسل إلى شتى بقاع الأرض في ذلك الزمان يدعو الملوك إلى الإسلام، فأرسل واحداً إلى اليمن، وأرسل إلى الشام، وكلهم كانوا أفراداً. ولم يقل النبي عليه الصلاة والسلام حينما أرسل معاذاً إلى اليمن: اذهب إلى اليمن لعلهم يقبلون منك وإن كنت فرداً. وإنما أرسله وقال له: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب. فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله). وهذه عقيدة، فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن خبر الواحد لا يحتج به في العقيدة لأرسل جمعاً من الصحابة يبلغ حد التواتر إلى أهل اليمن. وكذلك أهل اليمن يعلمون أن خبر الواحد إذا صح وجب العمل به والصيرورة إليه؛ ولذلك لم ينكروا على معاذ أنه أتى فرداً، وإنما قبلوا منه وعملوا بمقتضى خبره في العقائد والأحكام؛ لأنه دلهم على العقيدة أولاً، فلما استجابوا لذلك ودخلوا في الإسلام -أمرهم بالصلاة والزكاة والصيام وغير ذلك من فرائض الإسلام، مع أن هذا خبر واحد، وكذلك أرسل علياً بعد ذلك. وأبو موسى الأشعري ذهب إلى أهل الكوفة، وعبد الله بن مسعود ذهب من قبله إلى أهل الكوفة، وغير هؤلاء ممن بعثهم النبي عليه الصلاة والسلام إلى الولاة والأمصار أفراداً ووحداناً، بغير نكير لا ممن أرسلهم ولا ممن استقبلهم. فهذا يدل على أن خبر الواحد معمول به بلا خلاف بين سلف الأمة. أما الأدلة على ذلك تفصيلاً فمحلها كثير من الكتب.

نبذة عن حياة النجاشي رحمه الله

نبذة عن حياة النجاشي رحمه الله قال سفيان الثوري عليه رحمة الله: عند ذكر الصالحين تتنزّل الرحمة. فبعد أن افتقدنا سير السلف منذ أكثر من سنتين، نعيش في هذه الليلة مع النجاشي رضي الله تعالى عنه ورحمه.

تسمية النجاشي وعده في الصحابة

تسمية النجاشي وعده في الصحابة النبي عليه الصلاة والسلام كتب كتباً إلى الجبابرة وملوك الأرض، فكتب إلى كسرى وقيصر والنجاشي، لكنه ليس النجاشي الذي صلى عليه النبي عليه الصلاة والسلام؛ وذلك لأننا اتفقنا على أن النجاشي لقب يُطلق على كل من ملك الحبشة، أما النجاشي الذي صلى عليه النبي عليه الصلاة والسلام اسمه أصحمة، ومعنى أصحمة باللغة العربية: عطية. فهو اسم جميل وممدوح، وهو معدود في الصحابة رضي الله عنهم، وأنا لا أدري كيف عُد في الصحابة؟ ولم أجد جواباً مقنعاً لعداده في الصحابة، فإن تعريف الصحابي: هو من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على ذلك. فنقول: إن أصحمة نجاشي الحبشة آمن بالنبي عليه الصلاة والسلام، ومات على الإيمان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتخلل ذلك ردة. بل: قيل رُفع سريره -أي: نعشه- إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرآه وهو في المدينة في سنة (9هـ) فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن أخاكم توفي اليوم فقوموا، فصفّهم النبي عليه الصلاة والسلام وصلى على النجاشي). فهو يرى سريره والصحابة لا يرونه. قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى سريره -أي نعش النجاشي- فقام فصف أصحابه وصلى عليه صلاة الغائب؛ وذلك لأن الصحابة الذين هاجروا الهجرة الأولى والثانية إلى أرض الحبشة كانوا يرحلون من الحبشة إلى المدينة أفواجاً وجماعات وأفراداً، وكان آخر من قدم من مهاجرة الحبشة من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام جعفر بن أبي طالب، وذلك في غزوة خيبر في سنة (7 هـ). ومات النجاشي على أصح الأقوال في العام التاسع من الهجرة، فصلى عليه النبي عليه الصلاة والسلام. فكيف يقال حينئذ: إنه من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام وهو لم يلق النبي عليه الصلاة والسلام. والصاحب: هو من لقي. وهذا أول شرط، والنجاشي قطعاً لم يلق النبي عليه الصلاة والسلام؛ فكيف يُعد صاحباً؟ ربما يكون ذلك للموقف المحمود جداً، فإنه لم يقف أحد من أهل الأرض في ذلك الزمان هذا الموقف المشرّف جداً تجاه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام، فقد أكرمهم وأعزهم وشرّفهم وأمّنهم في بلاده وأنفق عليهم، وزوّج أم حبيبة للنبي صلى الله عليه وسلم، ودفع مهرها كاملاً، فمناقبه كثيرة لا تكاد تُحصى، فربما استثنى النبي عليه الصلاة والسلام ذلك الرجل من شروط وأركان الصحبة بسبب ذلك، لكن أنا على أية حال لم يتبيّن لي وجه صحبته. قال الذهبي: معدود في الصحابة رضي الله عنهم، وكان ممن حسن إسلامه ولم يهاجر -أي: لم يترك الحبشة- ولا له رؤية، فهو تابعي من وجه، وصاحب من وجه. قوله: (هو تابعي من وجه) لأنه رأى الصحابة الذين هاجروا من مكة إلى الحبشة، وأكرمهم وأعزهم كما قلنا، ونحن نعلم أن التابعي: هو من لقي الصحابة، وقد لقي النجاشي الصحابة، فهو تابعي على هذا النحو اصطلاحاً لا غبار على ذلك، لكن كيف يكون صاحباً. قال الذهبي: فهو تابعي من وجه صاحب من وجه، وقد توفي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فصلى عليه بالناس صلاة الغائب، ولم يثبت أنه عليه الصلاة والسلام صلى على غائب سواه.

قصة رجوع ملك الحبشة إلى النجاشي كما رواها عروة

قصة رجوع ملك الحبشة إلى النجاشي كما رواها عروة قصت أم سلمة قصة النجاشي، إذ قال لـ عمرو بن العاص: فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد عليّ ملكي، وأنتم تعلمون أن عمرو بن العاص كان في ذلك الوقت مشركاً ولم يكن قد آمن بعد، فلما ذهب عبد الله بن عمرو بن العاص ليدفع الهدايا للنجاشي كي يرد هؤلاء المؤمنين، ويطردهم من بلده، ويسفّه أحلامهم، ويرد عليهم دعوتهم علم النجاشي أنهم كذبة وأنهم فجرة، وأن الحق مع أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام، فأمر سعاته وولاته أن يدفعوا تلك الهدايا لـ عمرو بن العاص فلا حاجة للنجاشي إليها، ثم قال: فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي وما أطاع الناس في فأُطيع الناس فيه. قال عروة -وهو الراوي لهذا الحديث- للزهري: قال: أتدري يا زهري! ما هذا؟ قال: لا. قال: إن عائشة رضي الله عنها حدثتني أن أباه كان ملك قومه. أي: أبو النجاشي هذا كان ملك الحبشة، ولم يكن له ولد إلا النجاشي، وكان للنجاشي عم له من صلبه اثنا عشر رجلاً، فأهل الحبشة قالوا: لو أن أبا النجاشي توفي لم يكن له من عقبه إلا ولد واحد، وماذا نفعل إذا مات هذا الولد بعد أن صار ملكاً؟ فالأولى لنا أن نؤمّن الحبشة بملوكها مدة طويلة من الزمان، فأرادوا نقل الملك من أبي النجاشي إلى أخيه الذي له من الولد اثنا عشر ولداً، حتى إذا مات انتقل الملك مباشرة إلى أولاده، فماذا صنعوا؟ تآمروا على قتل والد النجاشي، وكانوا أهل بيت مملكة الحبشة فقالت الحبشة بينها: لو أنا قتلنا أبا النجاشي وملّكنا أخاه، فإنه لا ولد له غير هذا الغلام، وإن لأخيه اثني عشر ولداً فتوارثوا ملكه من بعده فبقيت الحبشة بعده دهراً؛ فعدوا على أب النجاشي -أي: فوثبوا عليه- فقتلوه، وملّكوا أخاه، فمكثوا على ذلك مدة من الزمان ونشأ النجاشي مع عمه -أي: أن النجاشي الذي صلى عليه النبي عليه الصلاة والسلام نشأ في ملك عمه- وكان لبيباً حازماً من الرجال، فغلب على أمر عمه -أي: قرّبه جداً هذا العم وأدناه منه لذكائه وفطنته- ونزل من عمه بكل منزل، فلما رأت الحبشة مكانه من عمه قالت بينها: والله إنا لنتخوف أن يملّكه -أي: يترك أولاده ويملّك ابن أخيه، إذاً: لا نكون قد صنعنا شيئاً- ولئن ملكه علينا ليقتلنا جميعاً؛ وذلك لأننا قد قتلنا أباه، فذهبوا إلى عمه فقالوا له: إما أن تقتل هذا الفتى وإما أن تخرجه من بين أظهرنا، فإنا قد خفنا على أنفسنا منه. قال: ويلكم قتلتم أباه بالأمس وأقتله اليوم؟ بل أخرجوه من بلادكم -ارتكاب أخف الضررين وهو النفي- قال: فخرجوا به فباعوه من رجل تاجر بستمائة درهم، ثم قذفه في سفينة فانطلق به، حتى إذا كان المساء من ذلك اليوم هاجت سحابة من سحاب الخريف على الحبشة، فخرج عمه يستمطر تحتها -أي: يطلب المطر- فأصابته صاعقة فقتلته، ففزعت الحبشة إلى ولده، فإذا هم حمقى ليس في ولد من أولاده خير -كلهم بلد مجانين صرعى، فكيف يملكون مجنوناً عليهم- فمرج على الحبشة أمرهم، فلما ضاق عليهم ما هم فيه من ذلك قال بعضهم لبعض: تعلمون والله أن ملككم الذي لا يقيم أمركم غيره الذي بعتموه غدوة، لا سبيل لكم إلا أن تذهبوا فتأتون به مرة أخرى وتملّكوه أمركم، فإن كان لكم بأمر الحبشة حاجة فأدركوه -أي: إذا كنتم حريصين على البلد ومصلحة البلد فملكوا النجاشي- فخرجوا في طلبه حتى أدركوه، فأخذوه من التاجر ثم جاءوا به، فعقدوا عليه تاجه، وأجلسوه على سرير الملك وملكوه. قال: فجاءهم التاجر: إما أن تعطوني مالي وإما أن أكلمهم ذلك. -أي: أنهم أخذوا منه النجاشي ولم يعطوه ما قد أخذوه منه- فقالوا: لا نعطيك شيئاً. قال: إذا: والله لأكلمنه. قالوا: فدونك -كأنهم يقولون له: اذهب فكلمه بما تريد- فجاءه فجلس بين يديه فقال: أيها الملك! ابتعت غلاماً -وانظر إلى أدب التاجر فلم يقل له: أنت عبدي وأنا اشتريتك- قال: أيها الملك! ابتعت غلاماً من قوم في السوق بستمائة درهم، فأسلموه إلي وأخذوا دراهمي، حتى إذا صرت بغلامي أدركوني فأخذوا غلامي ومنعوني دراهمي. فقال لهم النجاشي: لتعطنه دراهمه أو ليسلّمن غلامه في يديه فليذهبن به حيث شاء! قالوا: بل نعطيه دراهمه. قالت أم سلمة: فلذلك يقول: ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي. قال ذلك لأن هذا الملك هو ملك النجاشي وليس ملك ابن عمه، بل هو ملك أبيه ينتقل إليه، فلما حاولوا زحزحة الملك إلى العم بقتل أخيه انتقل الملك بعد ذلك إلى الأولاد، ولكن الأولاد لم يصلح منهم أحد لهذه المهمة؛ فاضطر أهل الحبشة إلى إرجاع الملك إلى النجاشي. هل حاباهم بشيء؟ هل دفع لله رشوة أن رد عليه ملكه؟ حاشى؛ ولذلك قال لـ عمرو بن العاص: ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي، فآخذ الرشوة فيه. وكان ذلك أول ما عرف من صلابته في دينه وعدله في حكمه. هذا كان أول موقف من مواقف النجاشي، أنه صاحب عدل وصلابة وقوة في الحق، حتى وإن كان ذلك على حساب ملكه. ثم قالت

حديث أم سلمة في قصة النجاشي مع وفد قريش

حديث أم سلمة في قصة النجاشي مع وفد قريش روى الإمام أحمد في المسند من حديث أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي، آمنا على ديننا وعبدنا الله تعالى لا نؤذى ولا نسمع شيئاً نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشاً ائتمروا أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين جلدين. أي: تواطئوا واتفقوا أن يجعلوا في أثر هؤلاء الصحابة رجلين صلبين قويين صاحبي حجة ولسان وبيان، حتى يفضحا هؤلاء المهاجرة عند النجاشي. قالت: فلما فعلوا أهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها إليه الأدم. أي: الخضار أو البقول أو غير ذلك مما يُطهى ويُطبخ. قالت: فجمعوا له أدماً كثيراً. أي: أنواعاً متعددة من الغذاء. قالت: ولم يتركوا من بطارقته بطريقاً إلا أهدوا إليه هدية، ثم بعثوا بذلك مع عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي وعمرو بن العاص السهمي وأمّروهما أمرهم. أي: أرسلوا سرية عليها عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص. وقالوا لهما -أي: قريش قالت لـ عبد الله بن أبي ربيعة ولـ عمرو بن العاص - ادفعوا إلى كل بطريق هديته قبل أن تُكلموا النجاشي فيهم. يستميلون بطانة السوء أولاً بالهدية، ثم يرجون عندهم نوالاً ومساعدة، حتى إذا اشتُريت ذمم البطارقة يسهل عليهم أن يضغطوا على النجاشي. ثم قالت قريش لهما: ثم قدموا له هداياه. أي: بعد أن يأخذوا البطارقة الهدايا، قدّموا الهدايا إلى النجاشي، ثم سلوه أن يسلمهم إليكم قبل أن يكلمهم. وإلى ذلك الوقت لا يزال النجاشي لم يتكلم مع هؤلاء الصحابة، ولكنه علم بخبرهم. قالت: فخرج عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص، فقدما على النجاشي ونحن عنده بخير دار عند خير جار، فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته، وقال له: إنه قد صبا إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينكم، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه أن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم. أي: أن دوركم أيها البطارقة! حينما ندخل على الملك ونطلب منه أن يسلمنا هؤلاء الذين أتوا بدين مبتدع جديد هو مساعدتنا، وتقولون له: ادفع إليهم هؤلاء بغير أن يدخلوا عليك وبغير أن تتحدث معهم ولا تكلمهم؛ فإن قومهم أعلى بهم عيناً -أي: أخبر بهم، وأعلم بما عابوا عليهم- فقالوا لهم: نعم. ثم إنهما قربا هدايا النجاشي فقبِلها منهم، ثم كلماه فقالا له: أيها الملك! إنه قد صبا -أي: أوى إليك- وإلى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عيناً وأعلم بما عابوا عليهم. قالت أم سلمة: ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله وعمرو من أن يسمع النجاشي كلامهم -أي: أنهم كانوا في غاية الحذر أن يسمع النجاشي كلام هؤلاء المهاجرة؛ وذلك لأنهم يعرفون أن الحق أبلج، وله نور وضياء وسلطان في القلب- فقالت بطارقته من حوله: صدقوا أيها الملك! وانظروا إلى الكذّابين المنافقين وكأنهم يقولون: سلم لهم هؤلاء الناس ولا تسمع منهم، كل هذا لأجل الهدايا التي أخذوها من قبل، وهناك من يبيع دينه بفلس، وآخر لا يفرّط في أدنى شعيرة من دينه ولو كان الثمن الدنيا وما فيها، والناس مذاهب. قالت: فقالت بطارقته من حوله: صدقهما أيها الملك! فأسلمهم إليهما. فغضب النجاشي غضباً شديداً، ثم قال: لا ها الله إذاً: لا أسلمهم إليهما، ولا أكاد قوماً جاوروني. أي: لا أكيد بقوم جاوروني، ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم فأسألهم. ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا فقالوا: ماذا نقول للرجل إذا جئناه؟ قالوا: نقول والله ما علمنا، وما أمرنا به نبينا عليه الصلاة والسلام. أي: أن هذا لا يحتاج إلى تفكير منا في الذي نقول له؛ لأنا لا نعلم ما هي أسئلته المحددة. قالت: فقال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول والله ما علمنا، وما أمرنا به نبينا عليه الصلاة والسلام كائناً في ذلك ما كان. وهذا لقوة إيمانهم. فما هي النتيجة؟ هل يقتلنا؟ إذاً: يقتلنا، فلن نقول إلا الحق، وإذا أراد طردنا من الحبشة فليطردنا ومع ذلك لا نقول إلا الحق. قالت: فلما جاءوه وقد دعا النجاشي أساقفته، فنشروا مصاحفهم حوله -أي: الصحف- سألهم فقال: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الأمم؟ قالت أم سلمة: وكان الذي يكلمه جعفر بن أبي طالب. فقال له: أيها الملك! إنا كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ون

رواية جعفر بن أبي طالب لقصة هجرته مع أصحابه إلى الحبشة وهجرته إلى المدينة

رواية جعفر بن أبي طالب لقصة هجرته مع أصحابه إلى الحبشة وهجرته إلى المدينة عن عبد الله بن جعفر عن أبيه قال: بعثت قريش عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد بهدية من أبي سفيان إلى النجاشي، فقالوا له ونحن عنده: قد جاء إليك ناس من سفلتنا وسفهائنا، فادفعهم إلينا. قال: لا. حتى أسمع كلامهم. فأمر النجاشي منادياً فنادى: من آذى أحداً منهم فأغرموه أربعة دراهم، ثم قال: يكفيكم؟ أي: أتكفيكم الأربعة الدراهم؟ قال جعفر: قلنا: لا. فأضعفها. أي: جعلها ثمانية دراهم. قال: (فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وظهر بها قلنا له: إن صاحبنا قد خرج إلى المدينة، وهاجر، وقتل الذي كنا حدثناك عنهم -أي: في غزوة بدر- وقد أردنا الرحيل إليه. فزودنا. قال: نعم. فحملنا -أي: على البعير والخيل والحمير- وزودنا وأعطانا، ثم قال: أخبر صاحبك بما صنعت إليكم، وهذا رسولي معك، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأنه رسول الله، فقل له: يستغفر لي. قال: فخرجنا حتى أتينا المدينة، فتلقاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاعتنقني وقال: ما أدري أنا بفتح خيبر أفرح، أو بقدوم جعفر؟). لأنه كان قد أتى من غزوة خيبر، فوافق الرجوع قدوم جعفر من الحبشة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أدري أنا بفتح خيبر أفرح، أو بقدوم جعفر؟ ثم جلس، فقام رسول النجاشي فقال: هو ذا جعفر) أي: يا رسول الله! هذا جعفر الذي كان عندنا. قال: (فسله ما صنع به صاحبنا -أي: النجاشي- فقلت: نعم -أي: قد ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم ما صنع صاحبكم بنا- قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوضأ، ثم دعا ثلاث مرات: اللهم اغفر للنجاشي اللهم اغفر للنجاشي اللهم اغفر للنجاشي فقال المسلمون: آمين، فقلت للرسول: انطلق. فأخبر صاحبك ما قد رأيت). وعن عمير بن إسحاق أن جعفراً قال: (يا رسول الله! ائذن لي حتى أصير إلى أرض أعبد الله فيها، فأذن له فأتى النجاشي).

رواية عمرو بن العاص لقصة النجاشي معه ومع من هاجر إليه

رواية عمرو بن العاص لقصة النجاشي معه ومع من هاجر إليه حدثنا عمرو بن العاص قال: لما رأيت جعفراً آمن بها هو وأصحابه حسدته، فأتيت النجاشي فقلت: إن بأرضك رجلاً ابن عمه بأرضنا يزعم أنه ليس للناس إلا إله واحد، وإنك إن لم تقتله وأصحابه لا أقطع إليك هذه النطفة أبداً لا أنا ولا أحد من أصحابي. أي: إذا لم تقتله فلن ترانا أبداً ولا واحداً منا، ولا أي طعام يأتي من ناحيتنا، وهذا يدل على أن الحبشة فقيرة، وكان أحب شيء للنجاشي أن يأتيه من مكة الأدم والطعام، فكأنهم فقراء. قال: اذهب إليه فادعه. قلت: إنه لا يجيء معي، فأرسل معي رسولاً، فأتيناه وهو بين ظهري أصحابه يحدثهم. قال له: أجب. قال: فلما أتينا الباب ناديت: ائذن لـ عمرو بن العاص، ونادى جعفر: ائذن لحزب الله. أي: أن عمرو بن العاص يطرق باب النجاشي وهو يقول: ائذن لـ عمرو بن العاص بالدخول، وجعفر لم يقل: ائذن لـ جعفر، وإنما قال: ائذن لحزب الله، فانظر إلى الاستعلاء بكلمة الإيمان والتوحيد، وأعظم نداء ينادي به العبد أمة الدعوة بدمه وبماله. وهذه هي محل البيعة ومحل السلعة التي ساوم الله تبارك وتعالى عليها عباده الصالحين: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111] فهذا محل البيعة. فقال: فنادى جعفر: ائذن لحزب الله، فسمع صوته فأذن له قبلي.

رواية أبي بردة عن أبي موسى قصة عمرو بن العاص مع نجاشي الحبشة

رواية أبي بردة عن أبي موسى قصة عمرو بن العاص مع نجاشي الحبشة عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننطلق مع جعفر إلى أرض النجاشي، فبلغ ذلك قريشاً، فبعثوا عمراً وعمارة بن الوليد، وجمعوا للنجاشي هدية، فقدما عليه وأتياه بالهدية فقبلها وسجدا له ثم قال عمرو: إن أناساً من أرضنا رغبوا عن ديننا وهم في أرضك. فقال: في أرضي؟ قال: نعم. فبعث إلينا فقال لنا جعفر: لا يتكلم منكم أحد. أنا خطيبكم اليوم)؛ لأنه آنس من نفسه رشداً. قال: لا يتكلم أحد مع النجاشي، فأنا الذي أتولى الرد. قال: (فانتهينا إلى النجاشي وهو جالس في مجلس عظيم، وعمرو عن يمينه وعمارة عن يساره، والقسيسون والرهبان جلوس سماطين -أي: في وجهه- وقد قال له عمرو: إنهم لا يسجدون لك) وهذه الخدعة الثالثة. أي: كما دخلنا وسجدنا لك فهؤلاء لن يسجدوا لك. قال: (إنهم لا يسجدون لك، فلما انتهينا بدرنا من عنده من القسيسين: أن اسجدوا) أي: حينما تدخلون على النجاشي اسجدوا له. قال: (قلنا: لا نسجد إلا لله عز وجل، فلما انتهينا إلى النجاشي قال: ما منعك أن تسجد؟ قال: لا نسجد إلا لله. قال: وما ذاك؟ قال: إن الله بعث فينا رسولاً وهو الذي بشّر به عيسى عليه السلام فقال: يأتي من بعدي اسمه أحمد، فأمرنا أن نعبد الله ولا نُشرك به شيئاً، ونقيم الصلاة ونؤتي الزكاة، وأمرنا بالمعروف ونهانا عن المنكر، فأُعجب النجاشي من قوله، فلما رأى ذلك عمرو قال: أصلح الله الملك! إنهم يخالفونك في ابن مريم). حينما فشل في هذه تدارك نفسه بسرعة فقال له: هم يخالفونك في عقيدتهم في ابن مريم. قال: (فقال النجاشي لـ جعفر: ما يقول صاحبكم في ابن مريم؟ قال جعفر: يقول فيه قول الله: هو روح الله وكلمته أخرجه من البتول العذراء التي لم يقربها بشر. فتناول النجاشي عوداً من الأرض فرفعه فقال: يا معشر القسيسين والرهبان! ما يزيد على ما تقولون في ابن مريم ما تزن هذه. مرحباً بكم وبمن جئتم من عنده، فأنا أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي بشَّر به عيسى، ولولا ما أنا فيه من الملك) أي: لو أنه يترك البلاد والملك لاستولوا عليه البطارقة. قال: (ولولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أقبِّل نعله. امكثوا في أرضي ما شئتم، وأمر لنا بطعام وكسوة وقال: ردوا على هذين هديتهما. وكان عمرو رجلاً قصيراً، وكان عمارة رجلاً جميلاً، وكانا أقبلا في البحر إلى النجاشي، فشرب مع عمرو وامرأته). -أي: عمارة - الخمر، قال: فلما شربوا من الخمر قال عمارة لـ عمرو: مر امرأتك فلتقبلني. قال عمرو لـ عمارة: ألا تستحي. فأخذ عمارة عمراً يرمي به في البحر، فجعل عمرو يناشده الله حتى تركه، فحقد عليه عمرو. وظل يكتمها عمرو بن العاص إلى أن فشلا بين يدي النجاشي، وكان عمارة رجلاً جميلاً ووضيئاً، فقال عمرو للنجاشي: إنك إذا خرجت خلّفك عمارة في أهلك، فدعا بـ عمارة فنفخ في إحليله فصار مع الوحش. لكن سبقت هذه القصة خدعة، وهذه الخدعة هي مكر عمرو بـ عمارة. قال: يا عمارة! إنك رجل جميل، فاذهب إلى امرأة النجاشي، فتحدث عندها إذا خرج زوجها، فإن ذلك عون لنا في حاجتنا. فخرج عمارة إلى بيت النجاشي، وذهب عمرو إلى موطن الملك وقال للنجاشي: إن عمارة رجل جميل. إذا خرجت خلّفك في أهلك، وإذا شئت فأرسل إلى بيتك الآن فإنه في بيتك ومع أهلك، فأرسل النجاشي رسولاً إلى بيته، فوجد أن عمارة يتكلم مع امرأته، فصدق النجاشي الخدعة، فأتى به فنفخ في إحليله، وألقاه في البرية مع الوحوش. قال: ثم ألقوه في جزيرة من جزائر البحر فجن واستوحش مع الوحش. أي: صار شبيهاً بالوحوش.

رواية عائشة في تثبيت النجاشي ملكه في الحبشة

رواية عائشة في تثبيت النجاشي ملكه في الحبشة عن عائشة قالت: لمّا مات النجاشي كنا نتحدث أنه لا يزال يرى على قبره نور، فأما عمارة فإنه بقي إلى خلافة عمر بن الخطاب مع الوحوش، فدُل عليه أخوه، فسار إليه وتحيّن وقت وروده الماء، فلما رأى أخاه فر فوثب وأمسكه، فبقي يصيح: أرسلني أرسلني يا أخي! فلم يرسله فخارت قوته من الخوف ومات في الحال. فعداده في المجانين الذين يبعثون على ما كانوا عليه قبل ذهاب العقل، فيُبعث هذا الرجل على الكفر والعداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. نسأل الله تعالى المغفرة والسلامة. قالت: واجتمعت الحبشة فقالوا للنجاشي: فارقت ديننا. أي: أنه لم يبق بين رسل قريش من الكافرين وبين النجاشي شيء، واستقر الأمر لدى النجاشي أن هؤلاء أصحاب الحق ودخل النجاشي في الإسلام. فقامت حرب جديدة بين النجاشي وبين أهل الحبشة. قالوا له: فارقت ديننا. قالت: وخرجوا عليه، فأرسل إلى جعفر وأصحابه فهيأ لهم سفناً، وقال: اركبوا فإن هزمت فامضوا وإن ظفرت فاثبتوا. أرأيتم الموقف الرائع جداً. ولو أني كنت مكان النجاشي لقلت لهم: ألست أنا الذي ضيّعت نفسي من أجلكم؟ إذاً: فقفوا بجانبي حتى وإن تقطعت إرباً كما وقفت بجانبكم! ولكنه صنع لهم سفناً وأركبهم البحر، وزودهم بالطعام والشراب الكافي، وقال لهم: حرب بيني وبين قومي لا علاقة لكم بها، فانتظروني في البحر فإن أنا ظفرت بهم فاثبتوا في الأرض، وإن هزمت فانطلقوا إلى بلادكم آمنين. قالت: ثم عمد إلى كتاب فكتب فيها: هو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، ويشهد أن عيسى عبده ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم. هذه الكلمات التي كتبها النجاشي، وإنه واجب على من آمن أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. أما قوله: وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته وروح منه وغير ذلك فهذا من باب المستحبات لا من باب الواجبات، وأنتم تعلمون أن النجاشي كان نصرانياً؛ فأراد أن يبيّن مسألة مهمة في اعتقاده أن عيسى كان عبداً لله وليس ابناً لله. قالت: ثم جعله في قباءة وخرج إلى الحبشة، وصفوا له -أي: التقى الصفان- فقال: يا معشر الحبشة! فانظروا إلى هذا الذكاء، فإنه لم يقاتلهم فجميعهم قد خرج عليه؛ فمن سيقاتل؟ فقال: يا معشر الحبشة! ألست أحق الناس بكم؟ قالوا: بلى. قال: فكيف رأيتم سيرتي فيكم؟ قالوا: خير سيرة. قال: فما بالكم أي: خرجتم علي؟ قالوا: فارقت ديننا وزعمت أن عيسى عبد. قال: فما تقولون فيه؟ قالوا: هو ابن الله. فقال بعد أن وضع يده على صدره على قبائه: هو يشهد أن عيسى لم يزد على هذا شيئاً. فهو حينما أمّن أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام في البحر أتى بورقة وقال أنه يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبد الله ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وروح منه وكلمته ألقاها إلى مريم، وقام بإطباق الورقة وجعلها في قباءة ولم يسلمها لـ جعفر، وخرج على الحبشة وقال لهم: فما تقولون أنتم؟ قالوا: نقول: إنه ابن الله، فوضع يده على القباءة وقال: والله ما فارقت ما هو كائن. أي: أنه يقول مثل هذا، فهم فهموا أنه موافق بذلك، ولكنه يشير إلى الورقة التي بداخل القباءة. وهذا ذكاء من الملك، ولكن منهم من كان ذكياً في الخير ومنهم من كان ذكياً في الشر. فقال لهم: فما تقولون أنتم؟ قالوا: هو ابن الله؟ قال: والله وأنا لا أعدو هذا. وفي هذا جواز استخدام المعاريض، والنجاة من القتل حتى وإن كان هذا بالحلف الكاذب؛ لأن الحرب خدعة، فقال بعد أن وضع يده على قبائه: هو يشهد أن عيسى لم يزد على هذا شيئاً، وإنما عنى ما كتب، فرضوا وانصرفوا عنه ظناً منهم أنه وافقهم أنه ابن الله، واستقر له الملك، ولم يدخل في حرب مع هؤلاء، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فلما مات النجاشي صلى عليه واستغفر له.

تجهيز النجاشي أم حبيبة للنبي صلى الله عليه وسلم

تجهيز النجاشي أم حبيبة للنبي صلى الله عليه وسلم ومن محاسن النجاشي كذلك: أن أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان بن حرب الأموية أم المؤمنين أسلمت مع زوجها عبيد الله بن جحش في مكة وهاجرا إلى الحبشة، فولدت له حبيبة ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إنه أدركه الشقاء فأعجبه دين النصرانية فتنصّر بعد أن كان مسلماً، فلم ينشب أن مات بالحبشة وهو نصراني مرتد، فلما وفّت العدة أي حينما وفّت العدة بتركه لها بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبها فأجابت، فنهض في ذلك النجاشي وشهد زواجها بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأعطاها الصداق عن النبي عليه الصلاة والسلام من عنده أربعمائة دينار ذهباً، فحصل لها شيء لم يحصل لغيرها من أمهات المؤمنين، ثم جهّزها النجاشي، وكان عمرها حينما قدمت المدينة بضعاً وثلاثين سنة. وعن أم حبيبة: أنها كانت تحت عبيد الله بن جحش وكان رحل إلى النجاشي، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها بالحبشة، زوجه إياها النجاشي ومهرها أربعة آلاف درهم من عنده، وبعث بها مع شرحبيل بن حسنة، وجهازها كله من عند النجاشي. قال ابن سعد في سيرته: عن أم حبيبة قالت: رأيت في النوم كأن عبيد الله بن جحش بأسوأ صورة وأشوهها ففزعت فإذا هو يقول حين أصبحت يا أم حبيبة! إني نظرت في الدين فلم أر ديناً خيراً من النصرانية، وكنت قد دنت بها، ثم دخلت في دين محمد فقد رجعت إليها. قالت: فأخبرته بالرؤيا، فلم يحفل بها -أي لم يعبأ بها- وأكب على الخمر حتى مات، فأريت في النوم كأن آتياً يقول لي: يا أم المؤمنين! ففزعت فأولتها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزوجني. وهي لم تكن بعد أماً للمؤمنين، ولكنها رأت في الرؤيا رجلاً يقول لها: يا أم المؤمنين! فما دامت ستصبح أم المؤمنين فالنبي صلى الله عليه وسلم سيتزوجها. قالت: فما هو إلا أن قد انقضت عدتي، فما شعرت إلا ورسول النجاشي على بابي يستأذن، فإذا جارية له يقال لها: أبرهة كانت تقوم على ثيابه ودهنه -أي: العطر- فدخلت علي فقالت: إن الملك يقول لكِ: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كتب إلي أن أزوجك. فقلت: بشركِ الله بخير. قالت: يقول الملك: وكلي من يزوجك. فأرسلت إلى خالد بن سعيد فوكلته. وأعطت أم حبيبة أبرهة سوارين من فضة، وخواتيم كانت في أصابع رجليها، وخدمتين كانتا في رجليها. فلما كان العشي أمر النجاشي جعفر بن أبي طالب ومن هناك من المسلمين، فحضروا فخطب النجاشي فقال: الحمد لله الملك القدوس السلام. وهذا الكلام يحتج به ويقال من باب السنن في عقد النكاح. قال: الحمد لله الملك القدوس السلام، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأنه الذي بشر به عيسى عليه السلام. ثم خطب خالد بن سعيد وزوجها وقبض أربعمائة دينار، ثم دعا بطعام فأكلوا. قالت: فلما وصل إلي المال عزلت خمسين ديناراً لـ أبرهة. أي: خمسين ديناراً ذهباً، والدينار بحوالي مائتي جنيه. أي: عشرة آلاف جنيه. إذاً: فهذا مهر كبير جداً، ولكنه ليس كبيراً على أم المؤمنين. قالت: فلما وصل إلي المال عزلت خمسين ديناراً لـ أبرهة، فأبت أبرهة، وأخرجت حقاً فيه كل ما أعطيتها فردته عليّ. وقالت: عزم عليّ الملك ألا أرزأكِ شيئاً. أي: أنقصكِ من مالكِ شيئاً. ثم تقول أبرهة لأم المؤمنين: أنا لي عندكِ طلب واحد، وهو أن تقرئي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مني السلام، ثم جاءتني من عند نساء الملك بعود وعنبر وزباد كثير. فقيل: بنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة (6هـ). وقال خليفة: دخل بها سنة (7هـ)، ولما توفي قال النبي عليه الصلاة والسلام للناس: (إن أخاً لكم قد مات بأرض الحبشة، فخرج بهم إلى الصحراء وصفهم صفوفاً ثم صلى عليه) فنقل بعض العلماء أن ذلك كان في شهر رجب سنة (9هـ). أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصل اللهم على النبي محمد، وعلى آله وأصحابه وسلم.

كتاب الجهاد والسير - غزوة حنين

شرح صحيح مسلم - كتاب الجهاد والسير - غزوة حنين لقد ابتلى الله عز وجل المؤمنين في غزوة حنين بلاء عظيماً، ليبين لهم أن النصر ليس متوقفاً على قوة العدة وكثرة العدد، وإنما هو بنصر الله وتوفيقه وتأييده، فدارت الدائرة على المؤمنين أول الأمر، فلما استوعبوا الدرس وعادوا إلى ربهم وأيقنوا بأن النصر من الله أظهر الله عباده المؤمنين على عدوهم ونصر جنده وشفى صدور قوم مؤمنين.

باب في غزوة حنين

باب في غزوة حنين إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. مع الباب الثامن والعشرين من كتاب الجهاد والسير: (غزوة حنين). قال النووي: (باب في غزوة حنين، أو هوازن أو أوطاس)، فكل هذه المصطلحات تُطلق على هذه الغزوة. فالسبب في تسمية هذه الغزوة بغزوة (هوازن): أن هوازن من سكان الطائف، عز عليهم ما قد فتح الله عز وجل على نبينا عليه الصلاة والسلام من فتح وانتصارات، فقامت بقيادة مالك بن عوف، وجمعوا جموعهم لمقاتلة النبي صلى الله عليه وسلم، ورده إلى الخسارة بعد هذه الانتصارات التي حققها، فنزلوا في واد يسمى بوادي (أوطاس) بين مكة والطائف، في مكان يسمى حنين، وتفرقوا في الشعاب واختبئوا، ونزل النبي عليه الصلاة والسلام باثني عشر ألفاً من أصحابه عشرة آلاف من المدينة وألفين من مسلمة الفتح، نزلوا في هذا الوادي ولم يكن لهم علم بسبق هوازن إلى هذا الوادي، وكانوا قد دخلوا قرابة الصبح، ولا يزال يخلط الظلام بضياء النهار، فقامت عليهم هوازن في تلك البقعة من الأرض، وخرجوا عليهم من الشعاب على حين غرّة، فانقضوا عليهم انقضاضة واحدة، فتفرّق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هنا وهناك كأنهم اعتقدوا أنهم قد غُلبوا، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام ثبت في هذا الموطن ثباتاً عظيماً مما كان سبباً في رباطة جأش أصحابه حينما نادى عليهم: يا أهل الأنصار! يا أهل الأنصار! يا أهل الخزرج! وغير ذلك من النداءات التي ناداها النبي عليه الصلاة والسلام، فاجتمعوا حوله، ولم يجتمع حول النبي عليه الصلاة والسلام حينئذ إلا مائتان من أصحابه عليه الصلاة والسلام من المهاجرين والأنصار، وعلى أيدي هؤلاء تم انتصاره عليه الصلاة والسلام في تلك الغزوة.

شرح حديث العباس بن عبد المطلب في قتال حنين

شرح حديث العباس بن عبد المطلب في قتال حنين قال المصنف رحمه الله تعالى: [وحدثني أبو الطاهر - أحمد بن عمرو بن سرح قال: أخبرنا ابن وهب حدثني يونس -وهو ابن يزيد الأيلي - عن ابن شهاب قال: حدثني كثير بن عباس بن عبد المطلب -أي: ابن عم النبي عليه الصلاة والسلام- قال: قال عباس: (شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب -وهو ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم- رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نفارقه)]. وفي هذا من الود وعطف الأقارب بعضهم على بعض عند الشدائد، وذب بعضهم عن بعض ما فيه. قال العباس بن عبد المطلب: (لزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نفارقه ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة له بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة) وقيل: ابن نعامة، والصواب: الأول فروة بن نفاثة وكان مشركاً، واختلف أهل العلم في بيان ما إذا كان أسلم أم لا؟ ولكن النبي عليه الصلاة والسلام قبِل منه الهدية وكان مشركاً، ثم وقع النزاع بعد ذلك هل أسلم أم لا؟ وهذه البغلة البيضاء التي تسمى (الشهباء)، وأحياناً تسمى (دلدل)، أما الحمار الذي كان يركبه عليه الصلاة والسلام فهو يعفور، ولم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم بغلة سوى هذه البغلة. قال: [(فلما التقى المسلمون والكفار -أي: في غزوة حنين- ولى المسلمون)] أي: ولوا الأدبار، وأنتم تعلمون أن تولية الدبر إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة من أكبر الكبائر. قال: [(ولى المسلمون مدبرين، فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض على بغلته قِبل الكفار)] أي: ينهزها أن تسرع السير والعدو باتجاه الكفار، فإدبار أصحابه وتوليهم لم يكن فيه باعث له عليه الصلاة والسلام أن يهرب هو كذلك من الميدان، وإنما زاده ذلك إصراراً على ملاقاة العدو ومقابلة الكفار صلى الله عليه وسلم. قال العباس: [(وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكفها إرادة ألا تسرع)] كأن النبي صلى الله عليه وسلم ينهزها، لتسرع ويخشى العباس من سرعة عدوها وجريانها أن تنكفئ برسول الله عليه الصلاة والسلام، فكان يأخذ بلجامها ويكفكفها مخافة أن تقع بالنبي عليه الصلاة والسلام. قال: [(وأبو سفيان آخذ بركاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي عباس! ناد أصحاب السمرة -وسمرة: اسم الشجرة التي بايع تحتها أصحاب بيعة الرضوان- فقال العباس وكان رجلاً صيّتاً)] أي: له صوت جهوري عال ومرتفع، إذا نادى أسمع. وقيل: إنه كان بينه وبين رعاة إبله وغنمه اثنا عشر ميلاً، وكان إذا صعد على تبة أو جبل صغير ونادى على الرعاة على مدار اثني عشر ميلاً سمعوا نداءه ولبوه. قال: [(فقال عباس -وكان رجلاً صيتاً- فقلت بأعلى صوتي: أين أصحاب السمرة؟ قال: فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها)] أي أنهم حينما سمعوا صوتي أنادي عليهم أتوا مسرعين كما تُسرع قطيع البقر إذا غابت عنها أولادها، كأنه يعبّر عن شدة جريان هؤلاء، وسرعة عودهم إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فكلهم هرع وبادر الرجوع والقدوم على النبي صلى الله عليه وسلم، حتى لكأنهم قد اختلط بعضهم ببعض. قال: [(فقالوا: يا لبيك! يا لبيك!)] لبيك أي: إجابة بعد إجابة، وسماع بعد سماع، واستجابة بعد استجابة. قال: [(فاقتتلوا والكفار)] أي: فاقتتل النبي عليه الصلاة والسلام ومعه أصحاب السمرة -أصحاب بيعة الرضوان- مع الكافرين. قال: [(والدعوة في الأنصار يقولون: يا معشر الأنصار! يا معشر الأنصار)] كأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يركّز جداً على أن تكون المقاتلة معه من الأنصار. قال: [(ثم قصرت الدعوة على بني الحارث بن الخزرج فقالوا: يا بني الحارث بن الخزرج! يا بني الحارث بن الخزرج!)] فكانت معظم النداءات للأنصار على جهة الخصوص. قال: [(فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته كالمتطاول عليها، كأن عنقه اشرأبت مرتفعة إلى قتال هؤلاء الكافرين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا حين حمي الوطيس)]. فأول من قال: حين حمي الوطيس هو نبينا عليه الصلاة والسلام. قال: [(ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حصيات، فرمى بهن وجوه الكفار، ثم قال: انهزموا ورب محمد. قال: فذهبت أنظر فإذا القتال على هيئته فيما أرى. قال: فوالله ما هو إلا أن رماهم بحصياته فما زلت أرى حدهم كليلاً)] أي: قوت

شرح روايات أخرى لحديث العباس في قتال حنين

شرح روايات أخرى لحديث العباس في قتال حنين قال: [وحدثنا إسحاق بن إبراهيم ومحمد بن رافع وعبد بن حميد جميعاً عن عبد الرزاق -وهو ابن همام الصنعاني اليمني - أخبرنا معمر -وهو ابن راشد الصنعاني - عن الزهري بهذا الإسناد نحوه، غير أنه قال: فروة بن نعامة الجذامي -والصواب: أنه ابن نفاثة الجذامي - وقال: (انهزموا ورب الكعبة -أي: ولم يقل: ورب محمد، وإنما قال- انهزموا ورب الكعبة انهزموا ورب الكعبة) وزاد في الحديث: (حتى هزمهم الله)]، وهذا إثبات الهزيمة لأهل الكفر في غزوة حنين، وبيان أن كافة النصر كان للنبي عليه الصلاة والسلام والأصحاب الكرام. قال العباس: [(وكأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يركض خلفهم على بغلته)] يعني: يجري خلفهم، وهم قد ولوا الدبر. قال: [وحدثناه ابن أبي عمر -وهو محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني نزيل مكة- حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري قال: أخبرني كثير بن العباس عن أبيه العباس بن عبد المطلب قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين، وساق الحديث بمثل الحديث السابق، غير أن حديث يونس وحديث معمر أكثر منه وأتم.

شرح حديث البراء بن عازب في قتال حنين

شرح حديث البراء بن عازب في قتال حنين قال: [حدثنا يحيى بن يحيى أخبرنا أبو خيثمة، وهذا أبو خيثمة ليس هو زهير بن حرب؛ لأن أبا خيثمة زهير بن حرب يروي عنه مسلم مباشرة، أما أبو خيثمة الذي فوق ذلك بطبقتين فهو زهير بن معاوية بن حديج الجعفي، كوفي نزل الجزيرة، وهو ثقة ثبت، غير أن سماعه من أبي إسحاق السبيعي كان بآخرة. قال: [أخبرنا أبو خيثمة عن أبي إسحاق] وهو أبو إسحاق السبيعي الكوفي عمرو بن عبد الله بن عبيد الهمداني، ثقة ومكثر وعابد، لكنه اختلط في آخر حياته. وكنا من قبل تكلمنا تقريباً عن أحكام المختلطين وأحكام الاختلاط، وقلنا: إن الراوي إما أن يكون ثقة في ذاكرته وحفظه، وإما أن يكون ثقة في كتابه، فإما أن يكون قد اعتمد في تحصيل العلم وبثّه على ذاكرته وحفظ صدره، وإما أن يكون قد اعتمد على كتابه وقلمه، وهذا ما يسميه أهل الحديث بالضبط، فيسمون الأول بضبط الصدر، ويسمون الثاني بضبط الكتاب، ولضبط الكتاب شروط، ولضبط الصدر شروط. أما شروط ضبط الكتاب فهي: الشرط الأول: أن يكتب خلف الشيخ، أو يكتب خلف المستملي الذي يقرؤه في حضرة الشيخ. الشرط الثاني: أن يعرض ما كتبه على الشيخ، فيقره الشيخ بصحة ما كتب، فإن اعتذر الشيخ عن معارضة الكتاب أو مقابلته انتقلنا إل الشرط الثالث. الشرط الثالث: أن يراجع ويقابل هذه النسخة على المستملي الذي يقرأ على الشيخ، أو على أقرانه الذين كانوا قد سمعوا منه في مجلس التحديث. الشرط الرابع: أن يحافظ على الكتاب من التلف والحرق والغرق وغير ذلك من سائر أسباب التلف، حتى يتسنى له التحديث من هذا الكتاب. الشرط الخامس: إذا حدّث من الكتاب فإنه ممنوع عليه أن يحدّث من حفظه، ولا يعتمد على ذاكرته إلا أن يكون ممن يعتمد عليه في ضبط صدره وكتابه. وهناك مذاهب لأهل العلم: أن ضبط الصدر أحياناً يكون ضبط صدر وضبط كتاب، كالإمام الدارقطني مثلاً كان من أئمة الحفظ، ومع هذا كان يكتب، وتعجّب منه بعض أصحابه ذات يوم. قالوا: أتكتب؟ إن الذي يكتب لا يدرك الحفظ خلف الشيخ، وكان قد كتب خلف الشيخ في مجلس واحد (18) حديثاً، وكان الواحد منهم إذا كتب ذهب إلى بيته ليحفظ ما كان قد كتبه خلف الشيخ، فقال الدارقطني لأصحابه وأقرانه: إن شئتم حدثتكم من كتابي، وإن شئتم حدثتكم من حفظي، فلما تحدوه أن يكون قد حفظ ما قد كتب كرر عليهم الأحاديث مرتبة، ولم يخالف في حرف واحد، فهذا كان قد جمع بين ضبط الصدر وضبط الكتاب. لكننا نقول بالشروط الأولى لمن اعتمد على الكتاب فحسب. أما ضبط الصدر فشرطه: أن يكون قادراً على الإتيان بالمعلومة أو بالرواية، أو بالراوي سنداً أو متناً في أي وقت طُلب منه ذلك. أحياناً تلحق الآفة ضبط الصدر وضبط الكتاب، فيمكن للكتاب أن يغرق أو يُحرق أو يتلف، أو يقع عليه سائل يزيله ويمسحه من الصحيفة أبداً، وربما هذا الراوي لم يتقن ما في هذا الكتاب، وربما ذهب ليحدث بما علق في ذهنه، فصار يركّب أسانيد لمتون، ويُلحق متوناً بأسانيد ليست لها، أو ربما يروي عن راو حديثاً معيناً، والحقيقة أن هذا الحديث عن راو آخر، فهو لم يكذب، ولكنه غلب على ظنه أنه قد أتقن حفظ هذا الحديث، فحدّث به على ما غلب على ظنه، وإذا بالحقيقة تخالف ذلك. وإن المحدثين والرواة عنه إذا أدركوا شيئاً من ذلك امتنع بعضهم أن يحدث عنه بعد ضياع الكتاب أو حرقه أو غرقه أو غير ذلك، فلو أنهم امتنعوا عن الرواية عنه فتكون أحاديثهم عن هذا الراوي صحيحة؛ لأنهم لم يرووا عنه إلا في حال إتقانه وضبطه للكتاب، فلما وقع به الاختلاط أمسكوا عن الرواية عنه، وأما من حدّث عنه بعد الاختلاط فروايته مردودة قولاً واحداً. وأما من حدث عنه قبل الاختلاط وبعد الاختلاط ولم يُعلم في هذه الرواية بعينها أكانت هذه الرواية قبل الاختلاط أم بعده؟ فالأمر في ذلك محل اجتهاد المحدثين، فإن كان لهم شواهد ومتابعات أخرى تدل على أن هذه الرواية قد وافق فيها هذا الراوي المختلط غيره من الثقات فيستأنس بهذه الراوية وإلا فلا. وكثير من الحُكام والولاة والسلاطين وأبناء الرواة، حينما وقع الاختلاط حبسوا هؤلاء الرواة ومنعوهم من الرواية، وليس إهانة لهم بل تكريماً وأي تكريم، إذ تبقى روايتهم بغير خدش، فهذا الراوي حينما اختلط منعناه من الرواية. لتكون أحاديثه كلها التي رواها وحدث بها أحاديث صحيحة، فهذا من باب التكريم له لا من باب الإهانة، وهذا تماماً كما يسميه العلماء (الحجر على السفيه)، حينما اختل عقله منعوه بعد ذلك من التصرفات ولم يلزموه بتصرف من تصرفاته. فهذا الراوي وهو أبو خيثمة زهير بن معاوية بن حديج الجعفي روى عن أبي إسحاق السبيعي بعد أن اختلط أبو إسحاق، ونحن اتفقنا أن الراوي إذا روى عن الراوي الآخر أو عن شيخه بعد الاختلاط فروايته مردودة، فما

شرح حديث البراء: (كنا والله إذا احمر البأس نتقي به)

شرح حديث البراء: (كنا والله إذا احمر البأس نتقي به) قال: [حدثنا أحمد بن جناب المصيصي حدثنا عيسى بن يونس] وعيسى، هو ابن يونس بن أبي إسحاق السبيعي يحدث أحياناً عن جده وأحياناً بينه وبين جده واسطة كـ زكريا، وهو زكريا بن أبي زائدة الهمداني الوادعي أبو يحيى الكوفي، وهو ثقة إمام جليل، ولكنه كذلك سمع من أبي إسحاق بعد اختلاطه. [قال أبو إسحاق: (جاء رجل إلى البراء فقال: أكنتم وليتم يوم حنين يا أبا عمارة؟! فقال: أشهد على نبي الله صلى الله عليه وسلم ما ولى، ولكنه انطلق أخفاء من الناس وحُسّر إلى هذا الحي من هوازن، وهم قوم رماة، فرموهم برشق من نبل -أي: بسهام من نبل- كأنها رجل من جراد)] الرجل بمعنى: القطعة. هذا في لغة العرب، يقال: رجل من جراد أي: قطعة من جراد. قال: [(فانكشفوا -أي: فانهزم هؤلاء- فأقبل القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو سفيان بن الحارث يقود به بغلته، فنزل ودعا واستنصر وهو يقول: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب اللهم نزل نصرك). قال البراء: (كنا والله إذا احمر البأس نتقي به عليه الصلاة والسلام)] الضمير يعود على النبي عليه الصلاة والسلام، وقوله: (كنا والله إذا احمر البأس) أي: اشتد الكرب في القتال، وقوله: (نتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: نحتمي به. قال: [(وإن الشجاع منا للذي يحاذي به)] أي: أن أشجع من كان منا كان يذهب فيتقي بالنبي عليه الصلاة والسلام.

طرق وروايات لحديث البراء في قتال حنين

طرق وروايات لحديث البراء في قتال حنين [وحدثنا محمد بن المثنى وابن بشار -وهما فرسا رهان- واللفظ لـ ابن المثنى قالا: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء وسأله رجل من قيس] وشعبة بن الحجاج العتكي سمع من أبي إسحاق هنا قبل الاختلاط. قال: [سمعت البراء وسأله رجل من قيس: (أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين؟ فقال البراء: ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفر، وكانت هوازن يومئذ رماة وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا)] أي: بعد أن صففنا تحت قيادة النبي صلى الله عليه وسلم وحملنا على هوازن؛ انكشفوا وولوا هم مدبرين، لكن هذا كان في آخر المعركة بعد أن أصابت هوازن من هؤلاء الشبان. قال: [(فأكببنا على الغنائم فاستقبلونا بالسهام)] وهذا هو نفس الموقف في غزوة أحد، حينما غلب على ظنهم أنهم قد غلبوا وأن هؤلاء قد فروا بغير رجعة انقضوا على الغنائم يأخذوها، فاستقبلهم أهل هوازن بالسهام. قال: [(ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء، وإن أبا سفيان بن الحارث آخذ بلجامها، وهو يقول: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب). وحدثني زهير بن حرب ومحمد بن المثنى وأبو بكر بن خلاد -وهو محمد بن خلاد الباهلي أبو بكر البصري، ثقة- قالوا: حدثنا يحيى بن سعيد القطان عن سفيان الثوري قال: حدثني أبو إسحاق عن البراء قال: قال له رجل: يا أبا عمارة! فذكر الحديث، وهو أقل من حديثهم، وهؤلاء أتم حديثاً].

حديث سلمة بن الأكوع في غزوة حنين

حديث سلمة بن الأكوع في غزوة حنين قال: [وحدثنا زهير بن حرب حدثنا عمر بن يونس الحنفي حدثنا عكرمة بن عمار حدثني إياس بن سلمة حدثني أبي -وهو سلمة بن الأكوع رضي الله عنه- قال: (غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنيناً، فلما واجهنا العدو تقدمت، فأعلو ثنية -أي: مكاناً عالياً مرتفعاً- فاستقبلني رجل من العدو فأرميه بسهم، فتوارى عني -اختبأ مني- فما دريت ما صنع -هل مات أم لا؟ - ونظرت إلى القوم فإذا هم قد طلعوا من ثنية أخرى -أي أنهم لفوا من مكان آخر، وصعدوا على ثنية أخرى- فالتقوا هم وصحابة النبي صلى الله عليه وسلم، فولى صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، وأرجع منهزماً)] وكأنه عز عليه أن يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مهزوم رضي الله عنه. قال: [(وعليَّ بردتان متزراً بإحداهما مرتدياً بالأخرى، فاستطلق إزاري -أي: انطلق مني- فجمعتهما جميعاً)] أي: ولفهما على بدنه حفاظاً على عورته. قال: [(ومررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم منهزماً -أي: حال كوني منهزماً- وهو على بغلته الشهباء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد رأى ابن الأكوع فزعاً)] أي: إني لأرى في ابن الأكوع الفزع مما قد نزل به. قال: [(فلما غشوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عن البغلة، ثم قبض قبضة من تراب من الأرض)] في الرواية الأولى: (من حصيات)، وفي هذه الرواية: (من تراب). قال: [(ثم استقبل به وجوههم -أي: وجوه الكفار- فقال: شاهت الوجوه -أي: قُبّحت قبحها الله عز وجل- فما خلق الله منهم إنساناً إلا ملأ عينيه تراباً بتلك القبضة، فولوا مدبرين)] قبضة واحدة تملأ عيون جميع الجيش، وهذه معجزة. قال: [(فولوا مدبرين فهزمهم الله عز وجل، وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائمهم بين المسلمين)]. هذه غزوة من أعظم وأعجب غزوات النبي صلى الله عليه وسلم التي شارك فيها وقادها حتى تم للمسلمين النصر وتقسيم الغنائم. وكما قلنا: كان المسلمون بقيادة النبي عليه الصلاة والسلام، وكان الكفار بقيادة مالك بن عوف سيد هوازن، وكانت هذه الغزوة في سنة (8هـ) في شهر شوال، وكان المسلمون مع النبي عليه الصلاة والسلام اثني عشر ألفاً، عشرة آلاف منهم قدموا من المدينة، وهم الذين فتح الله تعالى بهم مكة، وألفان من مسلمة الفتح. أي: من حديثي العهد بالإسلام.

أقوال أهل العلم في حكم الاستعانة بذوات المشركين أو سلاحهم

أقوال أهل العلم في حكم الاستعانة بذوات المشركين أو سلاحهم في هذه الغزوة استعار النبي صلى الله عليه وسلم من صفوان بن أمية السلاح، إذا لم يكن مع المسلمين سلاح كافٍ، فاستعار النبي عليه الصلاة والسلام من صفوان بن أمية السلاح وكان لا يزال على الشرك. وفي هذا وقفة لأهل العلم: صفوان بن أمية قال للنبي صلى الله عليه وسلم حينما استقرضه السلاح قال: (يا محمد أنهبة؟! -أي: أنك تأخذ السلاح وتنكر؟ - فقال النبي عليه الصلاة والسلام: بل عارية مؤداة). فهذا هو أدب النبوة، استعارة ترجع إلى صاحبها مرة أخرى، لكن الموقف الذي وقفه أهل العلم هنا هو: مدى الاستعانة بالمشركين بسلاحهم أو بذواتهم، وهل هناك فرق بين هذا وذاك؟ A نعم. هناك فرق، فالاستعانة بسلاح المشرك محل اتفاق بين أهل العلم إذا دعت الضرورة إلى ذلك، والحاجة ماسة أن أستعين بسلاح المشرك دون المشرك فهو أمر جائز، وعلى ذلك درجت الأمم كلها المؤمنة والكافرة، وإن لم يخطر ببالهم حكم هذه المسألة في الشرع، إلا أننا لا زلنا نشتري السلاح من هنا وهناك من بلاد الكفر، وشراء السلاح من بلاد الإسلام أولى من بلاد الكفر، لكن الشاهد هنا: لو احتجنا إلى سلاح من بلاد الكفر، هل يحل لنا أن نشتري منهم، أو أن نستعيره؟ A نعم. باتفاق، فلا يأت آت ويقول: لا يجوز لمسلم أن يشتري سلاحاً أو أن يستعيره من كافر، فإن قال ذلك فقد خالف الإجماع. أما الاستعانة بذوات المشركين ومعهم السلاح، فمحل نظر بين أهل العلم على مذاهب شتى: المذهب الأول: الجواز، ودليلهم في ذلك: أن النبي عليه الصلاة والسلام حينما أراد أن يهاجر من مكة إلى المدينة استعان بمشرك ليدله على الطريق. المذهب الثاني: عدم الجواز وهم جماهير العلماء. ودليلهم في ذلك: أن رجلاً عرض نفسه للقتال مع النبي عليه الصلاة والسلام من المشركين ضد المشركين مع المؤمنين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هل أسلمت؟ قال: لا. قال: ارجع فإنا لا نستعين بمشرك) وهذا الذي يترجّح لدي في هذه القضية. المذهب الثالث: جواز الاستعانة بالمشرك بشروط، وهو المذهب الراجح، فانظر إلى هذه الشروط، وأنزل هذه الشروط على واقع المسلمين اليوم. الشرط الأول: أن يكون المشرك ذليلاً عند المسلمين. أي: لا يكون صاحب شوكة ولا نجدة ولا نصرة كما اتخذ النبي عليه الصلاة والسلام هذا المشرك ليدله على الطريق فقط، لكن لا علاقة له بأصل الهجرة، فما هو إلا دليل يدل في مقابل مال لا يُخشى منه إلحاق أي أذى بالنبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه، فهذا الرجل كان في موطن الذل وموطن الضعف، فلا يخشى منه أن يفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه. الشرط الثاني: أن يكون المسلم قوياً منصوراً صاحب الغلبة. الشرط الثالث: أن يكون في قدرة المسلم الاستغناء عن الكافر متى تسنى له ذلك، على ألا يرد عليه المشرك قوله. أي أن أمريكا تخرج من البلد، لا بد أن يخرجوا، أما أن يأتوا ويبنوا المستوطنات ويحفروا آبار البترول، فحينئذ لا يجوز مطلقاً ما فعله المسلمون اليوم، هؤلاء المترفون المنعّمون، الذين لا قِبل لهم بحرب الكافرين مع ضعف الكافرين وهوانهم على الله عز وجل، إلا أنه حينما شابههم المسلمون في الترف والتنعّم رفع الله تعالى عليهم هؤلاء المشركين. وغير ذلك من الشروط التي تبحث في محلها، ليس هذا أوانها.

حكم اتخاذ الجواسيس في الحرب وبيان شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم

حكم اتخاذ الجواسيس في الحرب وبيان شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم أرسل النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين عبد الله بن أبي حدرد عيناً وجاسوساً على هوازن وحنين، ليرى عدتهم وعتادهم وقوتهم وغير ذلك من حالهم، فيخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك؛ فيستعد النبي صلى الله عليه وسلم بقوة أعظم من قوتهم، وفي هذا جواز اتخاذ العيون والجواسيس في الحرب، والحرب خدعة وإن كان ثمن ذلك أن يقول الجاسوس في النبي صلى الله عليه وسلم أو في الأمير من بعده قولاً عظيماً للنجاة بنفسه، والحفاظ على المهمة التي أرسل من خلالها. أما الجرأة في الحرب والشجاعة، فلقد ضرب النبي عليه الصلاة والسلام المثل الأعلى في الشجاعة حتى كان يحتمي به كبار أصحابه إذا حمي الوطيس واشتد الحرب، وكلمة: (حمي الوطيس) كناية عن شدة الحرب.

حكم خروج النساء في القتال

حكم خروج النساء في القتال خرجت أم سليم وهي أم أنس بن مالك وزوج أبي طلحة الأنصاري مع النبي عليه الصلاة والسلام في غزوة حنين، وكانت تملك خنجراً، فرآها النبي عليه الصلاة والسلام ومعها الخنجر قال: (ما هذا يا أم سليم؟! قالت: خنجر يا رسول الله! قال: وماذا تصنعين به؟ قالت: إذا اقترب مني مشرك بقرت بطنه، فابتسم النبي عليه الصلاة والسلام) وابتسامته إقرار لها. لكن المبحث في هذه القضية هل يجوز خروج النساء للقتال؟ الأصل أن النساء لا جهاد عليهن، وجهادهن الحج والعمرة. قالت عائشة: (أفلا نجاهد؟ قال: عليكن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة) أما إذا خرجت المرأة لمداواة الجرحى وصنع الطعام وغير ذلك من الأعمال التي تتناسب مع طبيعة النساء فلا بأس بذلك، ولأجل ذلك خرجت أم سليم ولم تخرج مقاتلة، وإنما خرجت في سرية الخدمة: خدمة طبية، خدمة طعام وشراب وثياب وغير ذلك، فقد خرجت لأجل هذه المهمة، وهذا جائز باتفاق، ولم يخالف في ذلك أحد، بشرط أن يؤمن عليهن الفتنة، ويغلب على الظن عدم تناول الكفار لهن، وإلا فلا يجوز خروج النساء مطلقاً ولا حتى لتلك المهمة. ولكن تبقى حالة واحدة وهو وجوب أن تخرج المرأة للقتال في حالة جهاد الدفع، فيجوز لكل من لا يجوز له القتال أو يجب عليه أن يخرج للقتال، وجهاد الدفع أن يأتي العدو إلى بيتك أو بلدك أو قريتك فيداهمك فيها، فيجب على كل من قدر على القتال أن يخرج حتى الأطفال والصبيان والنساء؛ لأن الجهاد حينئذ فرض عين على كل مكلف قادر، والمرأة في جهاد الطلب تخرج بمحرمها، أما في جهاد الدفع فلا يلزم أن تخرج بمحرم ولا يلزمها إذن الوالدين.

كلام النووي في أحاديث غزوة حنين

كلام النووي في أحاديث غزوة حنين إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. مع الباب الثامن والعشرين من كتاب الجهاد والسير: (غزوة حنين). قال النووي: (باب في غزوة حنين، أو هوازن أو أوطاس)، فكل هذه المصطلحات تُطلق على هذه الغزوة. فالسبب في تسمية هذه الغزوة بغزوة (هوازن): أن هوازن من سكان الطائف، عز عليهم ما قد فتح الله عز وجل على نبينا عليه الصلاة والسلام من فتح وانتصارات، فقامت بقيادة مالك بن عوف، وجمعوا جموعهم لمقاتلة النبي صلى الله عليه وسلم، ورده إلى الخسارة بعد هذه الانتصارات التي حققها، فنزلوا في واد يسمى بوادي (أوطاس) بين مكة والطائف، في مكان يسمى حنين، وتفرقوا في الشعاب واختبئوا، ونزل النبي عليه الصلاة والسلام باثني عشر ألفاً من أصحابه عشرة آلاف من المدينة وألفين من مسلمة الفتح، نزلوا في هذا الوادي ولم يكن لهم علم بسبق هوازن إلى هذا الوادي، وكانوا قد دخلوا قرابة الصبح، ولا يزال يخلط الظلام بضياء النهار، فقامت عليهم هوازن في تلك البقعة من الأرض، وخرجوا عليهم من الشعاب على حين غرّة، فانقضوا عليهم انقضاضة واحدة، فتفرّق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هنا وهناك كأنهم اعتقدوا أنهم قد غُلبوا، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام ثبت في هذا الموطن ثباتاً عظيماً مما كان سبباً في رباطة جأش أصحابه حينما نادى عليهم: يا أهل الأنصار! يا أهل الأنصار! يا أهل الخزرج! وغير ذلك من النداءات التي ناداها النبي عليه الصلاة والسلام، فاجتمعوا حوله، ولم يجتمع حول النبي عليه الصلاة والسلام حينئذ إلا مائتان من أصحابه عليه الصلاة والسلام من المهاجرين والأنصار، وعلى أيدي هؤلاء تم انتصاره عليه الصلاة والسلام في تلك الغزوة.

حكم قبول هدية المشرك

حكم قبول هدية المشرك قال الإمام النووي: (اختلف العلماء في إسلام فروة بن نعامة أو ابن نفاثة على الصحيح. قال القاضي: قال الطبري: أسلم وعمّر عمراً طويلاً. وقال غيره: لم يسلم، وفي صحيح البخاري أن الذي أهداها له ملك أيلة، واسمه يحنة بن روبة. فإن قيل: ففي هذا الحديث قبوله صلى الله عليه وسلم هدية الكافر). لو قلنا بأنه لم يسلم لزمنا القول بأنه عليه الصلاة والسلام قبِل الهدية من الكافر، وهذا ليس جائزاً. قال: (وفي الحديث الآخر: قال عليه الصلاة والسلام: (هدايا العمال غلول) مع حديث ابن اللتبية) رضي الله عنه حينما أرسله النبي عليه الصلاة والسلام ليأتي بالصدقات؟ فكان يهدى إليه خلافاً لأموال الصدقات، فلما أتى إلى النبي عليه الصلاة والسلام قال: هذا لكم وهذا أُهدي إلي، فغضب النبي عليه الصلاة والسلام وصعد المنبر ثم قال: (إن أحدكم إذا أرسلته أتاني فقال: هذا لكم وهذا أُهدي إلي، هلا جلس في بيت أبيه أو أمه فينظر ماذا يُهدى إليه؟). وفي رواية: (فينظر هل يهدى إليه أم لا؟). وبلا شك أنه لو جلس في بيت أبيه أو أمه ما أُهدي إليه. إذاً: هذه الهدايا التي دخلت عنده أو أتته ما أتت إلا بسبب العمل، وهو يسميها هدية، وهي في الحقيقة غلول، وإن كان أصل الغلول الأخذ من الغنيمة قبل توزيعها على الغانمين. قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:161]. وحينما شهد أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام لمولى من مواليه حينما قُتل في القتال: أنه من أهل الجنة، قال: (والله إني لأرى النار تشتعل عليه بسبب الشملة التي غلها). فهذا أمر عظيم جداً؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (هدايا العمال غلول) أي: كالأخذ من الغنيمة قبل توزيعها، فحينما أخذ النبي عليه الصلاة والسلام الهدية من فروة بن نفاثة قامت الشبهة لدى البعض، كيف يقبلها النبي عليه الصلاة والسلام مع أنه قال: (هدايا العمال غلول)؟ وفي الحديث الآخر: أنه عليه الصلاة والسلام رد بعض هدايا المشركين وقال: (إنا لا نقبل زبد المشركين)، فكيف نجمع بين هذه الأحاديث؟ قال بعض العلماء: إن هذه الأحاديث التي تمنع قبول هدية المشرك ناسخة للأحاديث المجيزة لقبول هدية المشرك. وقال الجمهور: لا نسخ في هذه الأحاديث؛ لأنكم تعلمون أن السبب الرئيسي في ادعاء النسخ هو معرفة التاريخ. فقالوا: بل سبب القبول: أن النبي عليه الصلاة والسلام مخصوص بالفيء الحاصل بلا قتال، فالغنائم تطلق على المكاسب العسكرية أو المكاسب المادية جراء القتال، أما ما أخذه المسلمون بغير قتال فهو فيء وليس غنيمة، والفيء صاحبه النبي عليه الصلاة والسلام. قالوا: فهذا المشرك حينما أهدى النبي صلى الله عليه وسلم بغلة أهداها بغير قتال، فهي فيء مخصوص للنبي عليه الصلاة والسلام بخلاف غيره، فقبل النبي عليه الصلاة والسلام هذه البغلة منه لعلة أخرى وليس لعلة الفيء، هذه العلة هي طمعه عليه الصلاة والسلام في إسلامه وتأليفه لمصلحة يرجوها للمسلمين، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم كافأه بذلك، وأعطاه هدية مكافئة لذلك تأليفاً لقلبه، وطمعاً في إسلامه، وهذا لا شك غرض شرعي، حتى بين المسلمين فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (تهادوا تحابوا). وفي مفهوم المخالفة: أن رد الهدية له أثر سلبي في القلب؛ ولأجل ذلك قبل النبي صلى الله عليه وسلم من هذا المشرك الهدية، وكافأه ولم يكن في قبولها مصلحة؛ لأن الهدية توجب المحبة والمودة. أي: إذا كنتم تخافون أن الهدية هذه التي أخذها من المشرك تعمل عملها في قلب النبي صلى الله عليه وسلم فيميل إلى هذا المهدي المشرك بالمودة والحب؛ فهذا ممنوع عن النبي عليه الصلاة والسلام، بل مستحيل أن يقع في قلب النبي عليه الصلاة والسلام. قال: (وأما غير النبي عليه الصلاة والسلام من العمال والولاة، فلا يحل له قبولها لنفسه) البتة، فإن أخذها كانت من حق بيت المال أي: من حق المسلمين عامة. هذا إن أخذها والأصل ألا يأخذها، لكنه إن أخذها ودفعها إلى بيت مال المسلمين فلا حرج عليه، فإن أخذها لنفسه فلا تحل له، فهذا القول هو قول جماهير العلماء، وهو القول الراجح. قال: (فإن قبلها كانت فيئاً للمسلمين فإنه لم يهدها إليه إلا لكونه إمامهم، وإن كانت من قوم هو محاصرهم فهي غنيمة. قال القاضي: وهذا القول قول الأوزاعي ومحمد بن الحسن وابن القاسم وابن حبيب وحكاه ابن حبيب عمن لقيه من أهل العلم. وقال آخرون -وهو المذهب الثالث- هي للإمام خاصة دون غيره). وقد سبق التفصيل: وأن للإمام أن يقبلها نيابة عن المسلمين على أن يضعها

شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم وإقدامه

شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم وإقدامه قال: (قوله: (ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة له بيضاء) قال العلماء: ركوبه عليه الصلاة والسلام البغلة في مواطن الحرب، وعند اشتداد الناس هو النهاية في الشجاعة والثبات، ولأنه أيضاً يكون معتمداً) أي: يكون بارزاً للناس؛ لأن الذي يركب يكون في أعلى الناس، فركوب الدابة شجاعة. قد يقول قائل: من التواضع أن ينزل عن الدابة، حتى يكون في غبراء الناس. أقول: لكن الشجاعة في موطن الشدة أولى من التواضع، والكبر في هذا الموطن أولى من التواضع، كان أبو دجانة يمشي في القتال بين الصفين مختالاً، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن هذه المشية يبغضها الله ورسوله إلا في هذا الموضع) يستعلي بإيمانه على هذا الواقع الباطل الذي يعيشه، يستعلي بإيمانه على أهل الكفر والشرك، فلا يمشي ذليلاً خاضعاً، بل يستعلي بإيمانه في موقف يستدعي الاستعلاء، فالنبي عليه الصلاة والسلام ترك موطن التواضع هنا ولم ينزل عن الدابة، بل كان راكباً دابته ليظهر للناس، وكأنه يقول للمشركين: أنا لا أخاف منكم، فأنا باد لكم وظاهر أمامكم، ولم يكن أحد من أصحابه قد بدا بدوه وظهر ظهوره للمشركين أكثر من بدوه عليه الصلاة والسلام، فهذا منتهى الجرأة والشجاعة في القتال والإقدام وترك الإدبار منه صلى الله عليه وسلم. (والفائدة الثانية: حتى يرجع المسلمون إليه في مسائلهم، وتطمئن قلوبهم به وبمكانه)، وأنه لا يزال موجوداً وحياً عليه الصلاة والسلام. (وإنما فعل هذا عمداً وإلا فقد كانت له عليه الصلاة والسلام أفراس معروفة. ومما ذكره في هذا الحديث من شجاعته عليه الصلاة والسلام: تقدمه يركض -أي: يسرع العدو- خلف المشركين، وقد فر الناس عنه. وفي الرواية الأخرى: أنه نزل إلى الأرض حين غشوه. وهذه مبالغة في الثبات والشجاعة والصبر). {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران:120] فالصبر والتقوى من أعظم عدة النصر في ساحة القتال. (وقيل: فعل ذلك مواساة لمن كان نازلاً على الأرض من المسلمين، وقد أخبرت الصحابة رضي الله عنهم بشجاعته في جميع المواطن). فضد الشجاعة هو الجبن، والنبي عليه الصلاة والسلام موصوف بكل كمال بشري في جميع الصفات، وهذا من عقائد المسلمين، لم يكن هناك موطن خسة للنبي فيه أدنى نصيب، بل ضرب المثل الأعلى في جميع صفات الكمال البشري، من شجاعة وأدب ورفعة وكرم ضيافة وحسن خلق وحسن عشرة وغيرها، فربما يكون في الأمة من اتصف بالشجاعة وعنده خلل في بقية الصفات، وربما اتصف أحد بالحلم والصبر، ولكن عنده خلل في الصفات الأخرى، وربما اتصف أحد بالعلم، ولكنه أرعن وأهوج وغير ذلك من صفات السلب والنقص. أي: أنك لا تجد إنساناً إلا وقد برز في خصلة أو خصلتين أو ثلاث خصال، ولكن عنده عجز في بقية الصفات، أما الذي حاز الكمال البشري في ذروته وكماله وتمامه في جميع الصفات هو نبينا عليه الصلاة والسلام، فما كانت هناك خصلة من خصال الخير إلا قد برز فيها بروزاً لم يلحقه أحد ممن سبقه ولا ممن لحقه إلى قيام الساعة، وهذا هو نبينا عليه الصلاة والسلام. قال: (وفي صحيح مسلم: إن الشجاع منا الذي يحاذي به، وإنهم كانوا يتقون به). أي أن أشجع واحد في أصحابه في هذا الموطن كان يقتدي بالنبي عليه الصلاة والسلام، وحينما سمع أهل المدينة جلبة صوت عظيم جداً قاموا ينظرون إلى مصدر الصوت ما هو؟ فإذا بهم يخرجون خارج المدينة إلى ناحية الصوت، وفي حال خروجهم من المدينة إذا بالنبي عليه الصلاة والسلام راجع من مصدر الصوت وهو يقول لهم: (لم تراعوا لم تراعوا) ذهب صلى الله عليه وسلم بمفرده ولم ينتظر أبا بكر ولا عمر ولم ينتظر أحداً، بل ذهب ورجع بنفسه عليه الصلاة والسلام، فهذا يدل على شجاعته عليه الصلاة والسلام.

استجابة أهل بيعة الرضوان لنداء رسول الله يوم حنين

استجابة أهل بيعة الرضوان لنداء رسول الله يوم حنين قال: (قوله: (يا عباس! ناد أصحاب السمرة) أصحاب بيعة الرضوان، ومعناه: ناد أهل بيعة الرضوان يوم الحديبية. قوله: (فقال عباس وكان رجلاً صيتاً، فوالله لكأن عطفتهم) والعطفة: الجلبة، أي: كما لو كان جيش على قمة جبل ونزل في الوادي، بلا شك أنه سيكون لهم جلبة وصوت وهمهمة وغير ذلك، فهؤلاء حينما سمعوا صوت العباس: هلموا إلى رسول الله أتوا جرياً وهم يقولون: (يا لبيك! يا لبيك!). قال العلماء: في هذا الحديث دليل على أن فرارهم لم يكن بعيداً، وأنه لم يحصل الفرار من جميعهم، وإنما فتحه عليهم من في قلبه مرض من مسلمة أهل مكة المؤلفة، ومشركيها الذين لم يكونوا أسلموا، وإنما كانت هزيمتهم فجأة لانصبابهم عليهم دفعة واحدة ورشقهم بالسهام، ولاختلاط أهل مكة معهم ممن لم يستقر الإيمان في قلبه، وممن يتربص بالمسلمين الدوائر، وفيهم نساء وصبيان خرجوا للغنيمة، فتقدم أخفاؤهم، فلما رشقوهم بالنبل ولوا، فانقلبت أولاهم على أخراهم إلى أن أنزل الله تعالى سكينته على المؤمنين كما ذكر الله تعالى في القرآن). قال الله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا} [التوبة:25] فرحوا وقالوا: لن نُغلب اليوم من قلة، بخلاف يوم بدر: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران:123] أي: متذللين خاضعين عاجزين. وفي تفسير آخر: ((أَذِلَّةٌ)) يعني: قلة في مقابلة يوم حنين كانوا كثرة {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} [التوبة:25]، هم اثنا عشر ألف مقاتل فقالوا: من الذي يستطيع أن يغلبنا؟ مع أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (ولن يُهزم اثنا عشر ألفاً من قلة) إذاً: فبماذا يهزمون؟ بسبب آخر غير الكثرة هذه، وهو الذي سمعتموه الآن: منافقين، ومشركين، وفي قلوبهم مرض، وغير مخلصين، وناس خرجت من أجل الغنيمة فقط، لكن اثنا عشر ألف مقاتل مخلص ما خرجوا إلا لله تعالى فقط، فمن الذي يستطيع غلبتهم؟ لا أحد يستطيع أبداً. ومن الذي استطاع غلبة إخواننا في طالبان؟ فهم لم يُغلبوا، ولكن ما أصابهم الذي أصابهم إلا بسبب المنافقين. قال تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة:25] ونحن عرفنا من الذي ولى مدبراً يوم حنين، ولم يثبت إلا بضع مئات من أصحابه عليه الصلاة والسلام. قال تعالى: {ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:26] حينما ولوا مدبرين بعد ذلك أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين {وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة:26] وهؤلاء هم جنود السماء {وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:26 - 27].

معنى قوله: (هذا حين حمي الوطيس)

معنى قوله: (هذا حين حمي الوطيس) أما قوله: (هذا حين حمي الوطيس) أول قائل له هو نبينا عليه الصلاة والسلام، وصار مثلاً بعد ذلك لاشتداد الأمر، وليس لازماً أن يكون للحرب فقط. قيل: الوطيس: هو شيء شبه التنور الفرن. وقيل: هو التنور نفسه. وقيل: هي حجارة مدورة يحمى عليها حتى تصير كالجمر فلا يطيقها أحد، ولا يستطيع أحد أن يطأها. وقيل: الوطيس: هو الضرب في الحرب. وقيل: هو الحرب الذي يطيس الناس. أي: يدق الناس دقاً. وهذا من فصيح كلامه عليه الصلاة والسلام وبديعه.

معجزات النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين

معجزات النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين قوله: (فرماهم بحصيات). وفي رواية: (بتراب). فقيل: بتعدد الرمي، فمرة رماهم بحصى، ومرة رماهم بتراب. وقيل: بل أخذ كفاً من الأرض قد اختلط الحصى فيه بالتراب. قال: (فما زلت أرى حدهم كليلاً). أي: ضعيفاً. أما رميه لهم ورشقه لعيونهم وأبصارهم بالتراب والحصى حتى ولوا جميعاً مدبرين ففيه معجزات لنبينا عليه الصلاة والسلام. المعجزة الأولى فعلية، والأخرى خبرية، فإنه صلى الله عليه وسلم أخبرنا بهزيمتهم، وقال: (انهزموا ورب الكعبة) أو: (انهزموا ورب محمد) فهذا خبر منه عليه الصلاة والسلام أنهم قد انهزموا. ورماهم بالحصيات فولوا مدبرين، وفي آخر الباب أنه قال: شاهت الوجوه فما خلق الله منهم إنساناً إلا ملأ عينيه تراباً من تلك القبضة، وهذا أيضاً فيه معجزتان: خبرية، وفعلية، ويحتمل أنه أخذ قبضة من حصى وقبضة من تراب، فرمى بذا مرة وبذا مرة. ويحتمل أنه أخذ قبضة من حصى وتراب فرمى بها جميعاً.

تأدب البراء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم سئل عن فرارهم يوم حنين

تأدب البراء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم سئل عن فرارهم يوم حنين قال: (قوله: (يا أبا عمارة! فررتم يوم حنين؟ قال: لا والله ما ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه خرج شبان أصحابه وأخفاؤهم حُسّراً ليس عليهم سلاح). هذا الجواب الذي أجاب به البراء رضي الله عنه من بديع الأدب ونوادره؛ لأن تقدير الكلام: (فررتم كلكم) فيقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم وافقهم في ذلك، فقال البراء: لا والله ما فر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن جماعة من الصحابة جرى لهم كذا وكذا). وقوله: (أخفاؤهم) الأخفاء: جمع خفيف، وهم المسارعون المستعجلون. ومعناه: ما سبق من خروج من خرج معهم من أهل مكة، ومن انضاف إليهم ممن لم يستعد للقتال، وإنما خرج إلى الغنيمة من النساء والصبيان ومن في قلبه مرض، فشبهه بغثاء السيل، ليس معهم سلاح ولا هم مستعدون لذلك، فرشقهم العدو رشقاً فاضطروا إلى الفرار، ولكن رسول الله عليه الصلاة والسلام لم يفر.

استحباب الدعاء عند قيام الحرب

استحباب الدعاء عند قيام الحرب قوله: (فنزل النبي صلى الله عليه وسلم واستنصر). أي دعا ربه أن ينصره هو وأصحابه. قال النووي: (في هذا: استحباب الدعاء عند قيام الحرب). وفي صحيح مسلم والبخاري من حديث أنس (أن النبي عليه الصلاة والسلام نزل يوم حنين -أي: من على بغلته- فرفع يديه إلى السماء ودعا بدعاءين فصل بينهما فصلاً) أي: أنه دعا مرتين، وبينهما فصل. قال في هذا الفصل: (أنا عبد الله ورسوله) ليثبت الذل في هذا الموطن، مع أنه كان أذل الناس لربه وأعبد الناس لربه، ولكن هذا الموطن يحتاج إلى بيان الذل والخضوع أكثر من غيره خاصة مع ما قد علمه النبي صلى الله عليه وسلم من بعض من خرج معه أنهم أعجبتهم قوتهم وكثرتهم، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيّن لهم في هذا الموطن أن النصر لا يأتي إلا بالذل والعبودية لله، فالتزم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وأجراه على نفسه حتى يقتدي به أصحابه عليه الصلاة والسلام.

نفي صفة الشعر عن النبي صلى الله عليه وسلم

نفي صفة الشعر عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ((أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب)). فهذا في ظاهره يا إخواني! أنه شعر، مع أن الله تعالى يقول: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:69]. قوله: ((وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ)) أي: وما خلقناه شاعراً. وأيضاً: لا ينبغي لهذا النبي أن يقول الشعر. والظاهر أن هذا شعر: (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب) فلا شك أن بين الآية وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم هذا تعارض في الظاهر؟ قال الأئمة في رد هذه الشبهة: (أنكر بعض الناس كون الرجز شعراً). وهذا من الرجز: (أنا النبي لا كذب) والرجز هو الذي يقال في الحرب ولتحفيز الناس على القتال وغير ذلك، أو هو الذي يقال في محافل الناس، فأنكر كثير من العلماء أن يكون الرجز شعراً، فقالوا: الرجز شيء، والشعر شيء آخر، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال رجزاً ولم يقل شعراً. قالوا: وهذا مذهب الأخفش، واحتج به على فساد مذهب الخليل في أنه قال: الرجز شعر. وأجابوا عن هذا بأن الشعر هو ما قُصد إليه، والشعر له علامات وشروط، الشعر هو أن يقصد قائله أن يقول شعراً، واعتمد الإنسان أن يوقعه موزوناً مقفى يقصد به القافية. إذاً: فالشعر له علامات: أن يكون موزوناً، وأن يلتزم فيه الشاعر القافية، فاتحاد القافية شرط في الشعر، والوزن على بحر من البحور المعروفة هذا الشرط الثاني. والثالث: أن يقصد الشاعر أن يقول شعراً. ويقع في ألفاظ العامة كثير من الألفاظ الموزونة، ولا يقول أحد: إنها شعر، ولا إن قائل هذا الكلام شاعر. يعني: أحياناً أنت تفاجأ بأنك على المنبر فتقول كلاماً موزوناً، وقد التزمت بحراً من البحور، وأنت نفسك لا تعرف البحر، لكن صاحب البحور عندما يسمع يعلم أن هذا الكلام يوافق البحر الفلاني، فيسألك: أنت شاعر؟ تقول: لا والله ولا عمري قلت الشعر، فيقول لك: أنت كنت قلت كذا وهذا في البحر الفلاني. تقول: لا أعرف بحراً ولا غير ذلك، وإنما أتى ذلك عرضاً. فهل كل من قال كلاماً موزوناً على بحر من البحور يعد شاعراً؟ إنسان ليس شاعراً ولا يعرف أصول الشعر، لكنه قصد أن يقول شعراً، هل يعد بهذا القصد فقط شاعراً؟ وآخر قال كلاماً التزم فيه القافية لكنه ليس كلاماً موزوناً وما قصد به الشعر، هل يعد شاعراً؟ A لا. إذاً: الشعر له أصول ثلاثة: القصد، والتوجه، أن يكون موزوناً، أن يكون متحد القافية، وإذا اختل شرط من هذه الشروط فلا يكون شعراً ولا يكون قائله شاعراً، فعندما نأتي نطبّق الشروط هذه على النبي عليه الصلاة والسلام سنجدها كلها مختلة، فلم يقصد بها القافية، ولم يقصد أن يكون موزوناً، وما قصد أن يقول شعراً، فلا يكون النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ شاعراً. والقافية هي اتحاد الحرف في آخر الأبيات كالنونية مثلاً، فعندما تأتي لتنظر نونية ابن القيم تجد كل أبياتها ملتزمة حرفاً واحداً، هل ابن القيم قصد ذلك؟ نعم. قصد ذلك. الكلام هذا موزون؟ نعم. الكلام موزون، وتجد ابن القيم أنه قال شعراً. إذاً: فهو شاعر. وابن الأكوع لم يكن شاعراً، لكنه قال في هذه الغزوة أيضاً: أنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع أتت على لسانه ولكنه ليس شاعراً، مع أنه كلام موزون ومقفى، لكنه لم يقصد الشعر. وكثير من كلام الله عز وجل توفر فيه إما الوزن وإما القافية، ولكن هل نقول عن الله أنه شاعر؟ معاذ الله! فإذا كنا ننفي هذا عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو من باب أولى أن يكون منفياً عن الله عز وجل، ففي قول الله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92]، وفي قوله تعالى: {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف:13] شيء من ذلك، لكن لا يمكن أن يقال: إن هذا شعر.

معنى قوله: (أنا ابن عبد المطلب)

معنى قوله: (أنا ابن عبد المطلب) المبحث الثاني: أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن الفخر بالأحساب والأنساب، وأثبت أن هذا من فعل الجاهلية، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يدعونهن: الطعن في الأنساب، والفخر بالأحساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة). والحديث عند مسلم من حديث أنس. فهنا النبي عليه الصلاة والسلام قد افتخر بجده عبد المطلب في الظاهر: (أنا ابن عبد المطلب) فكيف ينهى عن الفخر ويفتخر هو؟ A إن النبي عليه الصلاة والسلام هو ابن عبد الله بن عبد المطلب، لكن عبد الله مات شاباً قبل أن يكون له وزن في قومه وعشيرته، حتى كاد يُنسى، وكانت العرب قبل الإسلام تنادي محمداً عليه الصلاة والسلام بأنه محمد ابن عبد المطلب، فخاطبهم النبي عليه الصلاة والسلام بما كانوا ينادونه به قبل الإسلام: (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب) وهذا ليس من باب الفخر، ولكنه من باب نسبة الرجل بما اشتهر به، فاشتهر بجده أو بأمه أو بلقبه أو كنيته أو قبيلته أو بلده أو عمله، فيسن حينئذ أن يُنسب الرجل إلى ما يعلم به حتى لا يختلط بغيره. فلو قال: أنا محمد بن عبد الله فربما يكون في أصحاب الذين يقاتلون معه أنه محمد بن عبد الله، لكنه خاطبهم بما كانوا يعرفون آنفاً، أنه محمد بن عبد المطلب: (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب) فليس هذا على سبيل الفخر، وإنما خاطبهم بما كانوا ينادونه به.

حكم التسمي بـ (عبد المطلب)

حكم التسمي بـ (عبد المطلب) المسألة الثالثة: هل المطلب من أسماء الله تعالى؟ لا. ليس من أسماء الله تعالى، فلِم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا ابن عبد المطلب) مع أنه يعلم أن المطلب ليس من أسماء الله تعالى؟ A إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل ذلك إلا ليقرر واقعاً، هذا الواقع لا دخل للنبي صلى الله عليه وسلم فيه؛ لأن عبد المطلب هذا جده، وقد تسمى بهذا الاسم قبل ميلاد النبي عليه الصلاة والسلام، بل إن عبد المطلب لم يسم نفسه، بل سماه قومه أو أبوه أو أمه، فلا دخل للنبي صلى الله عليه وسلم في اختيار هذا الاسم، بل فُرض عليه أنه هو ابن عبد المطلب. هذا أمر. الأمر الثاني: أن العلماء قالوا: لا يجوز لأحد أن يسمي ابنه عبد المطلب إلا النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا مخصوص به ومفروض عليه.

كتاب الجهاد والسير - غزوة الطائف - غزوة بدر - فتح مكة

شرح صحيح مسلم - كتاب الجهاد والسير - غزوة الطائف - غزوة بدر - فتح مكة غزا النبي صلى الله عليه وسلم لنشر دين الله غزوات عدة، منها غزوة بدر والطائف وفتح مكة، وفي كل غزوة من هذه الغزوات من العبر والعظات والفوائد ما يسطر به الصفحات، ويؤلف فيه المصنفات، فقد جعل الله نبيه صلى الله عليه وسلم أسوة لعباده المؤمنين، في حله وترحاله، وفي مقامه وقتاله.

باب غزوة الطائف

باب غزوة الطائف إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. الباب التاسع والعشرون: (باب غزوة الطائف).

شرح حديث عبد الله بن عمرو في حصار الطائف

شرح حديث عبد الله بن عمرو في حصار الطائف قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب وابن نمير جميعاً عن سفيان -هؤلاء جميعاً يروون عن سفيان بن عيينة - قال زهير: حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو -إذا حدّث سفيان بن عيينة عن عمرو فهو عمرو بن دينار المكي - عن أبي العباس الشاعر الأعمى عن عبد الله بن عمرو بن العاص]. وقيل: هو عبد الله بن عمر بن الخطاب، أي: أن بعض الروايات أثبتت أن صاحب الرواية هو عبد الله بن عمرو بن العاص، وبعضها -كما عند البخاري - أن راوي الحديث هو عبد الله بن عمر بن الخطاب. وبعض الروايات جمعت على سبيل الشك والجزم أنهما اثنان: عبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن عمر بن الخطاب، والأمر فيها يسير، وهذا ما يسميه العلماء بالعلة غير القادحة، فيستوي عندي أن يكون هذا الراوي هو عبد الله بن عمر أو هو عبد الله بن عمرو، حتى لو قال الراوي من التابعين: حدثنا رجل من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام ولم يسمه أصلاً، لكنه ذكر صفته وقال: هو أحد أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، فهذه من العلل غير القادحة. أما العلل القادحة: أن يضطرب الراوي في من سمع منه: هل هو فلان أم فلان، ويكون أحدهما ضعيفاً والآخر ثقة. فلو قال الراوي: حدثنا سفيان فقلنا: من سفيان؟ اختلفنا هل هو ابن عيينة أم هو الثوري لا يضر هذا، وكلاهما ثقة، فهذا من العلل غير القادحة، لكن لو كان أحدهما ضعيفاً والآخر ثقة لكان هذا هو الإشكال. [عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: (حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الطائف، فلم ينل منهم شيئاً)] أي: حاصرهم ولم يحصل قتال، وإنما الذي حصل مجرد محاصرة خارجية لسور المدينة لأهل الطائف، لكن النبي عليه الصلاة والسلام [فقال: (إنا قافلون إن شاء الله -أي: لا نقاتل، بل سنرجع بغير قتال- قال أصحابه: نرجع ولم نفتتحه؟)] استعظموا جداً أن يأتوا من المدينة إلى الطائف ليفتحوها، فتم لهم الحصار وهو نوع من الغلبة والنصر والتمكين، ثم يرجعون بغير قتال! فقالوا: كيف هذا يا رسول الله؟! نرجع ولا نقاتل هؤلاء ولا نفتتحها؟! قال: [(فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: اغدوا على القتال)] يعني: في الصباح وبعد صلاة الفجر إذا كانت لكم نية في القتال فقاتلوا، وظني أن النبي عليه الصلاة والسلام قال ذلك كالمنكّل بأصحابه؛ لكونهم خالفوه في أمره: (إنا قافلون إن شاء الله) أو: (إنا قافلون غداً) يعني: غداً سنرجع إلى بلادنا بغير قتال، ولكنه قال: إن شاء الله، فعلّق الأمر على مشيئة الله، وربما غر هؤلاء تلك المشيئة فقالوا: (نرجع ولم نفتتحه يا رسول الله؟! قال: اغدوا على القتال) أي: في الصباح قاتلوا هؤلاء، وإنما فعل ذلك النبي عليه الصلاة والسلام لعلمه بقوة القتال لأهل هذه القرية، أو بقوة عدتهم وزيادة عددهم وغير ذلك. وهذا يذكرني تماماً بنهيه عليه الصلاة والسلام عن الوصال في الصيام، قالوا: (يا رسول الله! إنك تواصل، فقال: إني لست كهيئتكم، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني) فلما أُخبر أن بعض أصحابه واصل أمرهم بالوصال، وليس ذلك من باب التشريع ولكن من باب التنكيل والتأديب لأصحابه رضي الله عنهم وصلى الله على نبينا محمد، فلما واصلوا ثلاثة أيام كادوا يقعون من شدة الجوع والإعياء والتعب، وما أنقذهم من ذلك المأزق إلا دخول العيد، وصيامه حرام، فقال لهم عليه الصلاة والسلام: (لو طالت بكم الأيام -أي: أيام رمضان- لواصلت بكم) كالمنكّل لهم والمؤدب لهم. وبعضهم يقول: هذا رسول الله الذي غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهو ليس في حاجة إلى العبادة، وهو أول من تنشق عنه الأرض، ولا يدخل أحد الجنة إلا من بعده، وغير ذلك من مناقبه وشمائله عليه الصلاة والسلام. وكان هناك ثلاثة تقالّوا عبادته: أما أحدهما فيقول: أنا أصوم ولا أفطر. والثاني يقول: أنا لا أتزوج النساء. والثالث يقول: أنا أقوم الليل ولا أرقد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألستم القائلين كذا وكذا؟ قالوا: نعم. يا رسول الله! قال: أما إني أتقاكم وأخشاكم له، ولكني أقوم وأرقد، وأتزوج النساء، وأصوم وأُفطر، فمن رغب عن سنتي فليس مني). قوله عليه الصلاة والسلام: (أما إني أخشاكم لله وأتقاكم له). أي: أنا أعلمكم بالله، وكلما ازداد المرء علماً ازداد لله عبادة وطاعة، فهو يصحح لهم عليه الصلاة والسلام خطأً في أذهانهم، فهم تصوروا أنه ما دام هو أتقى الناس وأخشى

وجوب طاعة الأمير وعدم مخالفته

وجوب طاعة الأمير وعدم مخالفته في هذا الحديث: وجوب سماع أمر الأمير وعدم مخالفته، فإذا كان الشخص قد تأمر على سرية أو كتيبة أو جيش فلا شك أنه ما تأمر من فراغ، وإنما تأمّر لأنه أعلم الناس بخطط الحرب، وأعلم الناس بما ينفع قومه ويضر بهم، والخلاف والتنازع في الرأي يؤدي إلى الفشل: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46] أي: تضعف قوتكم، فحينئذ يجب على كل من كان تحت راية أمير أن يسمع له وأن يطيع ما دام السمع والطاعة في طاعة الله عز وجل؛ لأنه لا طاعة إلا في المعروف، ولا طاعة في المعصية؛ ولذلك تأمر أمير على سرية أرسله النبي عليه الصلاة والسلام فيها، فأجج ناراً وأمرهم أن يقذفوا أنفسهم فيها. قالوا: منها فررنا، أي: نحن قد فررنا من النار بإيماننا ودخولنا في الإسلام، فكيف تأمرنا بأن ندخل النار؟ فما أطاعوه في ذلك، وكان ظن هذا الصاحب أنه مطاع في كل أمر يأمر به، فلما رجع إلى المدينة أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بذلك، وأخبره أصحابه بذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الجند: (لو أطعتموه ما خرجتم منها أبداً) لو أطعتموه في هذا الأمر -لأنه أمر في معصية الله- ما خرجتم منها أبداً، فالحمد لله أنهم لم يمتثلوا أمره لأنه معصية، ولا يُعذّب بالنار إلا رب النار كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام. لكن إذا كان أمر الأمير محل اجتهاد كأن يقول: نمشي من هذه الطريق أو من هذه الطريق؟ فاختلف أهل الشورى وأهل الحل والعقد الوجهاء في الجيش أو السرية، فبعضهم يقول: نمشي يمنة والبعض يقول: نمشي يسرة، ولكن الأمير اختار طريق الميمنة، فوجب على الجميع أن يسمعوا له ويطيعوا حتى الذين قالوا: نمشي على الميسرة، فالخلاف يكون في الرأي لا في العمل، كما أنه لا يفسد القلوب على الأمير، وإذا كان الأمر محل اجتهاد فليس اجتهاد الناس أو عامة الناس أو غبراؤهم أولى من اجتهاد الأمير، فاجتهاده يفصل النزاع؛ ولذلك سن النبي عليه الصلاة والسلام الإمارة في السفر فقال: (إذا كنتم ثلاثة في سفر فأمّروا أحدكم) لِم؟ حتى يفصل النزاع حين وجود النزاع. فإن قيل: نأكل أو لا نأكل؟ البعض يقول: نأكل. والبعض الآخر يقول: لا نأكل. فالأمير يقول: نأكل إذا نزلنا في المكان الفلاني، فرأي الأمير يرفع الخلاف ويمحو النزاع. أو يقال: نمشي من هنا أم من هاهنا؟ نبيت أو لا نبيت؟ نسير أو نقف؟ نستريح أو نستمر؟ وغير ذلك من المسائل التي تعترض المسافرين. فحينئذ أمر الأمير فيها يفصل النزاع، ولا يحل لمخالف له أن يقول: أنت وشأنك أنا باق هنا، إذا أردت أن تطعم فاطعم أما أنا فلا أطعم وهكذا، لا يحل لأحد أن يخالف أميره في شيء مما جعل الشرع له الإمارة فيه. وإذا كان الأمير يرى أن الخير للمسلمين في قيام الصلح مع أعدائهم، فلا يحل لأحد أن ينازع الأمير في ذلك؛ لأنه صاحب دين، ويجر المصلحة والنفع للمسلمين، وإذا رأى أن المصلحة للمسلمين هي القتال والجهاد فلا يحل لأحد أن يتخلف عنه إلا لعذر شرعي، وهذا باب عظيم يسمى بعلم السياسة الشرعية، أو بمسائل الإمامة.

باب غزوة بدر

باب غزوة بدر الباب الثلاثون: (باب غزوة بدر). [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عفان -وهو ابن مسلم الصفار البصري - قال: حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت وثابت هو ابن أسلم البناني - عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان قال: فتكلم أبو بكر فأعرض عنه، ثم تكلم عمر فأعرض عنه، فقام سعد بن عبادة الأنصاري فقال: إيانا تريد؟ يا رسول الله! والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها -يعني: لو أمرتنا أن نخيض الخيل البحر لفعلنا ذلك- ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا. قال: فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس -أي: حثهم على القتال- فانطلقوا حتى نزلوا بدراً، ووردت عليهم روايا قريش -أي: الذين ذهبوا ليتحسسوا وجود الماء. روايا: جمع راوية. وهو الذي يذهب ليستقي للناس- وفيهم غلام أسود لبني الحجاج، فأخذوه -أي: فأخذه المسلمون- فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه عن أبي سفيان وأصحابه؟ فيقول: ما لي علم بـ أبي سفيان -أي: أنا لا أعرف عنه شيئاً- ولكن هذا أبو جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف، فإذا قال ذلك ضربوه) أي: ضربه أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام (فقال: نعم. أنا أخبركم هذا أبو سفيان، فإذا تركوه فسألوه فقال: ما لي بـ أبي سفيان علم، ولكن هذا أبو جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف في الناس، فإذا قال هذا أيضاً ضربوه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي، فلما رأى ذلك انصرف)] أي: سلّم من صلاته بعد أن أتمها بسرعة وعجلة. وفي هذا جواز -بل استحباب- تعجيل الصلاة إذا نادى عليك مناد ذو هيئة، كالأم والأب، أو صاحب عذر كمريض يستغيث أو غريق أو إمام أو أمير أو سلطان أو عالم جليل، كل هؤلاء أصحاب هيئات ووجاهات، فإذا نادى عليك أحدهم وهو لا يعلم أنك في صلاة فعجّل بها إذا كانت نافلة؛ ولذلك نادى النبي عليه الصلاة والسلام على أبي بن كعب وهو يصلي فاستمر في صلاته، فلما سلّم من صلاته أتى وقال: (لبيك يا رسول الله! قال: ما منعك أن تُجيبني إذ دعوتك؟ قال: يا رسول الله! كنت أصلي. قال: أما قرأت قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24]؟ أما قرأت هذا يا أبي؟) فكان من كان يصلي نافلة من أصحابه عليه الصلاة والسلام ورسول الله يناديه يقطع الصلاة استجابة وتلبية لأمر النبي عليه الصلاة والسلام، لكن هذا الحكم منسوخ بموت النبي عليه الصلاة والسلام، ويبقى استحبابه لأهل الوجاهات والهيئات كما ذكرنا آنفاً بتعجيل الصلاة لا بقطعها. فقال النبي عليه الصلاة والسلام بعد أن انصرف من صلاته: [(والذي نفسي بيده لتضربوه إذا صدقكم وتتركوه إذا كذبكم)] أي: أنتم تقولون له: ماذا تعرف عن أبي سفيان؟ فيقول: أنا لا أعرف عنه شيئاً، ولكن أعرف عن فلان وفلان وفلان، فتضربونه حتى يأتي لكم بخبر أبي سفيان، وفي الحقيقة هو لا يعلم خبر أبي سفيان. وهذه معجزة للنبي عليه الصلاة والسلام أنه أخبر عن صدقه وهو لم يكن معه. فقال: (تضربونه إذا صدقكم وتتركونه إذا كذبكم). وكأن النبي عليه الصلاة والسلام ينعى على أصحابه ضرب المتهم، وأنه متهم حتى تثبت إدانته؛ لأن الأصل في الشرع أن الإنسان بريء حتى تثبت إدانته، فالإنسان بريء وليس متهماً، أما سلوك سبيل الضغط والتعذيب والكهربة والسحب والجر على الأرض والرمال وغير ذلك حتى يتكلم بشيء لم يعلمه أو لا علاقة له به أو غير ذلك فهذا مذهب المجرمين لا مذهب الموحدين؛ ولذلك نعى النبي عليه الصلاة والسلام على أصحابه أنهم ضربوا هذا الغلام الأسود المشرك الذي جعله قومه عيناً وجاسوساً على المسلمين، نعى عليهم أنهم ضربوه، لأنه صادق فيما يُخبرهم، فهو لا يعلم شيئاً عن أبي سفيان، ولكنه من شدة التعذيب والضرب يقول لهم: نعم. أنا أعلم خبر أبي سفيان فيخبرهم بخبر أو بخبرين فيتركونه، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الذي حمله على الكذب تعذيبهم له. قال أنس: [فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا مصرع فلان) هنا سيموت فلان، وهنا سيموت فلان، أي: من صناديد الشرك والكفر. قال: [(هذا مصرع فلان، ويضع يده على الأرض ها هنا وها هنا قال: فما أماط -أي: فما تباعد- أحدهم عن موضع

سبب غزوة بدر

سبب غزوة بدر كان هذا في غزوة بدر، وأنتم تعلمون أن غزوة بدر هذه غيّرت وجه التاريخ، بالضبط كأحداث سبتمبر، إذ أصبح لأوروبا وأمريكا تاريخاً في هذا الوقت كالتاريخ الهجري لنا، فنحن لنا أيام وهي الأيام الهجرية والشهور العربية، فكذلك هؤلاء صار لهم تاريخ مشرّف جداً وهو (11) سبتمبر، فيقال: أحداث ما قبل (11) سبتمبر، وأحداث ما بعد (11) سبتمبر، وهذا شيء طيب أن يكون لهم تاريخ، ونحن لا نكره أن يكون لهم تاريخ، فأعظم حدث بعد هجرة النبي عليه الصلاة والسلام في الإسلام عامة هو غزوة بدر، وأنتم تعلمون أن الصحابة رضي الله عنهم إنما حُملوا حملاً على الهجرة من مكة، فكانت الهجرة الأولى إلى الحبشة، ثم الهجرة الثانية إلى الحبشة، ثم ذهب فلان وفلان من صناديد الشرك والكفر في مكة لمقابلة النجاشي والتحريش بينه وبين هؤلاء المهاجرين، وتم رجوع بعضهم إلى مكة، وبعضهم صبر هناك حتى هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فقدم من الحبشة إلى المدينة، والهجرة تمت بعد (13) سنة من مكة إلى المدينة، وكانت أعظم حدث عرفه التاريخ، وكانت هجرته عليه الصلاة والسلام نصراً وأي نصر، ورفعاً للراية، وإسماعاً للعالم بالدعوة الجديدة وبنبي آخر الزمان، وأنتم تعلمون أن الذين هاجروا إلى الحبشة أو إلى المدينة قبل النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد النبي صلى الله عليه وسلم، ومع النبي صلى الله عليه وسلم تركوا أموالهم وديارهم وأهليهم، ومنهم من ترك أولاده، كل ذلك في سبيل الله عز وجل. ومنهم من مُنع من الهجرة إلا أن يخرج من مكة ليس معه شيء إلا زاد الطريق، فلما كان ثمن ذلك الجنة باعوا كل شيء في سبيل الجنة؛ ولذلك بشّرهم النبي عليه الصلاة والسلام بربح البيع. فلما سمع النبي عليه الصلاة والسلام في العام الثاني من الهجرة بأن عير قريش قادمة من الشام إلى مكة وهي محملة بالخيرات والأموال وغير ذلك أراد أن يخرج إليهم ليعوّض ما قد أخذوه من أصحابه في مكة، فما خرج لقتال ولا لجهاد ولا لثأر، وإنما خرج ليأخذ مال القافلة ومال العير، وهو شيء مما قد تركوه لهم في مكة، وهذا حق. كان أبو سفيان في ذلك الوقت مشركاً، وكان زعيماً لهذه القافلة، وقد علم بمقدم النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام، فحاول بشتى الطرق الخلاص بالقافلة مع العبيد والإماء من طريق جانبي فرعي إلى مكة، وأخبر أهل مكة وصناديد الشرك والكفر فيها بأن محمداً يعترض القافلة، فقام صناديد الكفر في مكة بتجهيز جيش بلغ الألف وزيادة، وقاموا قومة رجل واحد قادمين إلى المدينة لملاقاة أبي سفيان في معسكر واحد لحرب النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يكن مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا (314) شخصاً، واحتدم القتال عند بئر بدر على تفصيلات ليس هذا وقتها. وإنما وقع القتال بين الطائفتين، والنبي عليه الصلاة والسلام قام يدعو ربه ويستغيثه بالليل، وكان ذلك في ليلة الجمعة، وكان القتال في صبيحة الجمعة، حتى أشفق عليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وسقط عنه رداؤه من على كتفه الشريف إلى الأرض، فأخذه أبو بكر ووضعه على كتف النبي صلى الله عليه وسلم وقال: رفقاً بك يا رسول الله! فوالله لينجزن الله لك ما وعدك، فأنزل الله تبارك وتعالى ملائكته على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقاتلوا دونه قتالاً عنيفاً حتى كان عدد الأسرى من المشركين سبعين نفساً، والقتلى مثلهم، واستشهد من جيش المسلمين أربعة عشر شهيداً فقط، ورجع الثلاثمائة، وقد أُخذ القتلى من قريش وأُلقوا في قليب بدر، وهي حفرة عظيمة جداً، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم على رءوسهم وهو يقول: (يا أهل بدر! هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً، فإنا وجدنا ما وعد ربنا حقاً؟) يا فلان ابن فلان! هل وجدت ما وعد ربك حقاً؟ ويا فلان ابن فلان هل وجدت ما وعدك ربك حقاً؟ فقال عمر رضي الله عنه: (يا رسول الله! أتحدث قوماً قد ماتوا؟ وإنهم لا يسمعون) وهذا أمر يدل على استقرار عدم سماع الأموات لدى الصحابة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن أن هؤلاء لهم خاصة فقال: (والله ما أنتم بأسمع لما أقول منهم) ففي هذا إثبات أن أهل القليب كانوا يسمعون النبي عليه الصلاة والسلام، لكن هذا سماع خاص، والأصل أن الميت لا يسمع شيئاً، إلا مواضع معيّنة استثناها الشرع، منها أنه يسمع قرع نعال من شيعوه. وهذا نوع من أنواع الإسماع. وهذا مخصوص بهذا الموطن دون غيره من بقية المواطن، فما أثبت الشرع كتاباً وسنة أن الميت يسمع في موطن معيّن، فهو لا يتجاوز هذا الموطن سماعاً، وإلا فالأصل أنه لا يسمع.

جواز ضرب الكافر الذي لا عهد له

جواز ضرب الكافر الذي لا عهد له في هذا الحديث: جواز ضرب الكافر الذي لا عهد له وإن كان أسيراً، ونحن نتكلم عن الأحكام الشرعية التي تخصنا نحن، لا نتكلم ونقول: هل يجوز للكفار أن يضربوا أسرى المسلمين؟ فهل هم ملتزمون بالشرع حتى نقول: إنه يجوز أو لا يجوز؟ فنحن نتكلم عن شرعنا نحن والأحكام التي تحكمنا: هل يجوز لنا ضرب الأسير الكافر الذي لا عهد له؟ نعم. يجوز ضربه.

معجزات النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر

معجزات النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر وفي هذا الحديث معجزتان من أعلام النبوة: إحداهما: إخباره عليه الصلاة والسلام بمصرع جبابرتهم، فلم ينفلت واحد منهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: فلان سيموت هنا، وفلان يموت هنا، وفلان يموت هنا، فإذا بنفس الأشخاص يموتون في نفس الأماكن، وهذه معجزة ظاهرة للنبي عليه الصلاة والسلام. الثانية: إخباره بأن الغلام الذي كانوا يضربونه يصدق إذا تركوه ويكذب إذا ضربوه.

باب فتح مكة

باب فتح مكة الباب الحادي والثلاثون: (باب فتح مكة).

شرح حديث أبي هريرة في فتح مكة

شرح حديث أبي هريرة في فتح مكة [حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا سليمان بن المغيرة حدثنا ثابت بن أسلم البناني عن عبد الله بن رباح عن أبي هريرة قال: وفدت وفود إلى معاوية، وذلك في رمضان -وفدت وفود يعني: أتت الأفواج والسرايا والرهط إلى معاوية، ومعاوية كان مقيماً بالشام- فكان يصنع بعضنا لبعض الطعام]. وفي هذا جواز المناوبة في الخدمة إذا كانت قافلة مسافرة، فلهم أن يوزعوا أنفسهم: فلاناً للطبخ، وفلاناً للغسل، وفلاناً لبري الأقلام، وفلاناً لصقل السيوف وغير ذلك، فلا بأس بهذا وهو من السنة، فليس هناك واحد يقول: أنا آكل فقط، فهذا بلا شك سيبقى على غيره ثقلاً وعبئاً. قال: [فكان أبو هريرة مما يكثر أن يدعونا إلى رحله]. يعني: أبو هريرة كان أكرم هؤلاء، مع أنكم تعلمون أنه كان من الصحابة الفقراء جداً، وكان من أهل الصفة، لكن الواحد يجود بالموجود فقط، فكان أبو هريرة أكثر الناس دعوة لهم إلى الطعام. قال عبد الله بن رباح: [فقلت: ألا أصنع طعاماً فأدعوهم إلى رحلي؟] فهو يكلم نفسه، ألا يوجد مرة من المرات أسبق أبا هريرة في هذا الخير؟ قال: [فأمرت بطعام يصنع، ثم لقيت أبا هريرة من العشي، فقلت: الدعوة عندي الليلة فقال: سبقتني؟ قلت: نعم. فدعوتهم فقال أبو هريرة: ألا أعلمكم بحديث من حديثكم يا معشر الأنصار؟! ثم ذكر فتح مكة فقال: (أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قدم مكة، فبعث الزبير على إحدى المجنبتين)]. والمجنّبة: الميمنة أو الميسرة. والخميس: اسم للجيش؛ لأن له ميمنة وميسرة ومقدمة ومؤخرة وقلب، هناك نظام حتى في القتال، فالإسلام دين النظام، فلا أقول: الذي يريد أن يقاتل يخرج ليقاتل، فهناك نظام، فالمقدمة تقاتل، ويبقى هناك ميمنة وميسرة، ثم إذا هزمت -عياذاً بالله- يتقدم فوج آخر، ويكون بين العدو وبين المجاهد مسافة تسمح بإبطال القذائف: كيلوان، ثلاثة كيلو، خمسة كيلو، عشرة كيلو؛ حتى إذا قذف قذيفة تقع ويبطل مفعولها قبل أن تصل إليك، وتكون أنت في هذا الوقت قد استنفذت قوة عدوك. قال: [(فبعث الزبير على إحدى المجنبتين، وبعث خالداً - ابن الوليد - على المجنبة الأخرى، وبعث أبا عبيدة على الحسّر) والحسّر: هم الراجلة الذين لا دروع معهم ويمشون على أرجلهم. قال: [(فأخذوا بطن الوادي)] أي: فمشى هؤلاء الراجلة في بطن الوادي، فهناك جبلان وواد، فجعل الميمنة على الجبل الأيمن والميسرة على الجبل الأيسر، والمقدمة في نهاية هذا الوادي، والقلب في وسط الوادي، وفي مؤخرة الوادي هؤلاء الحُسّر الذين نسميهم نحن المشاة؛ لأنهم لا يركبون، وإنما يمشون على الأرض. قال: [(ورسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبة)] والكتيبة لا بد أن يكون فيها الرئيس، فلا تكون هناك كتيبة إلا إذا كان فيها قائد الجيش الكبير، وأنتم تعلمون أن كل فوج لا بد أن يكون له قائد، لكن لا يقال: كتيبة إلا إذا كان فيها قائد الجيش، ولو راجعت المغازي والسير فإنك لن تجد كتيبة إلا وفيها الرسول عليه الصلاة والسلام، فإذا لم يكن فيها الرسول صلى الله عليه وسلم كان اسمها سرية، والسرية لها قائد، والميمنة سرية، والميسرة سرية، والمقدمة سرية، والقلب سرية، والمؤخرة سرية، وقد عيّن النبي صلى الله عليه وسلم على كل سرية قائداً، فالجيش كله الذي يقوده النبي صلى الله عليه وسلم اسمه كتيبة. قال: [(فنظر فرآني فقال: أبو هريرة؟ قلت: لبيك)] وفي هذا استحباب أن يقول المنادى للمنادي: (لبيك). قال: [(قلت: لبيك يا رسول الله! فقال: لا يأتيني إلا أنصاري)]. زاد غير شيبان فقال: (اهتف لي بالأنصار) يعني: نادهم بصوت عال. قال: [(فأطافوا به)] يعني: أتوا بسرعة جداً حتى كانوا حول النبي عليه الصلاة والسلام. قال: [(ووبشت قريش أوباشاً لها وأتباعاً)] يعني جمعت وضمّت من كل صنف من العجم والعرب والأسود والأبيض أناساً لا يقاتلون لغاية إلا المال، ونحن نسميهم في هذا الوقت الجيوش المرتزقة، جيوش مستعدة للقتال في أي مكان وفي أي دولة، تقاتل مسلمين أو تقاتل كفاراً. قال: [(فقالوا: نقدم هؤلاء)] صناديد الكفر والشرك قالوا: نحن ندفع بهؤلاء في المقدمة، ودائماً الجيوش إذا أرادت الخلاص من أحد تقدمه إلى خط النار. قالوا: [(فإن كان لهم شيء كنا معهم، وإن أصيبوا أعطينا الذي سُئلنا)] أي: وإن قتلوا جميعاً وهجم علينا جيش المسلمين وسألونا شيئاً أعطيناهم، في الوقت الذي يكون قد تخلصوا فيه من الأوباش. قال: [(فقال ر

روايات وطرق أخرى لحديث باب غزوة فتح مكة

روايات وطرق أخرى لحديث باب غزوة فتح مكة قال: [وحدثنيه عبد الله بن هاشم حدثنا بهز -وهو ابن أسد العمي - حدثنا سليمان بن المغيرة بهذا الإسناد. وزاد في الحديث (ثم قال بيديه إحداهما على الأخرى: احصدوهم حصداً)] أي: اقتلوهم قتلاً. [وقال في الحديث: (قالوا: قلنا ذاك يا رسول الله؟! قال: فما اسمي إذاً؟ كلا. إني عبد الله ورسوله)]. قال: [حدثني عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي حدثنا يحيى بن حسان حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا ثابت عن عبد الله بن رباح قال: وفدنا إلى معاوية بن أبي سفيان وفينا أبو هريرة، فكان كل رجل منا يصنع طعاماً يوماً لأصحابه، فكانت نوبتي فقلت: يا أبا هريرة! اليوم نوبتي، فجاءوا إلى المنزل ولم يُدرك طعامنا. أي: أن الطعام لم يكن جاهزاً بعد. قال: فقلت: يا أبا هريرة! لو حدثتنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يُدرك طعامنا. فقال: (كنا مع رسول الله عليه الصلاة والسلام يوم الفتح، فجعل خالد بن الوليد على المجنبة اليمنى، وجعل الزبير على المجنبة اليسرى، وجعل أبا عبيدة بن الجراح على البياذقة -والبياذقة: هي الراجلة الذين لا دروع معهم- وبطن الوادي -أي: الراجلة الذين يمشون في بطن الوادي- فقال: يا أبا هريرة! ادع لي الأنصار، فدعوتهم فجاءوا يهرولون فقال: يا معشر الأنصار! هل ترون أوباش قريش؟ قالوا: نعم. قال: انظروا. إذا لقيتموهم غداً أن تحصدوهم حصداً، وأخفى بيده -أي: جعلها في الأرض إشارة على ألا يُبقوا منهم أحداً- ووضع يمينه على شماله وقال: موعدكم الصفا. قال: فما أشرف يومئذ لهم أحد إلا أناموه)] أي: لم يرفع أحد رأسه إلا وقطعوه. فقوله: (فما أشرف) أي: فما برز لهم أحد للقتال إلا قتلوه. قال: [(وصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفا، وجاءت الأنصار فأطافوا بالصفا، فجاء أبو سفيان فقال: يا رسول الله! أُبيدت خضراء قريش، لا قريش بعد اليوم. قال أبو سفيان: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن. فقالت الأنصار: أما الرجل فقد أخذته رأفة بعشيرته ورغبة في قريته، ونزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: قلتم: أما الرجل فقد أخذته رأفة بعشيرته ورغبة في قريته. ألا فما اسمي إذاً؟!)] يريد أن يقول لهم أنا عبد الله ورسوله، أنا لست كآحاد الناس، يأخذ الميثاق ويغدر، ويعطي العهد ويغدر، فأنا عبد الله ورسوله. قال: [(أنا محمد عبد الله ورسوله، هاجرت إلى الله وإليكم، فالمحيا محياكم، والممات مماتكم. قالوا: والله ما قلنا إلا ضناً بالله ورسوله. قال: فإن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم)].

معجزة كسره صلى الله عليه وسلم للأصنام بطرف قوسه

معجزة كسره صلى الله عليه وسلم للأصنام بطرف قوسه يقول الإمام النووي في قوله عليه الصلاة والسلام: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [الإسراء:81] وهو يضرب الأصنام، فكان يضربها بقوس، فحينما كان عليه الصلاة والسلام يضرب الأصنام التي هي من صخور وحجارة قوية جداً لا تنكسر: (وإنما كانت تلك معجزة أخرى للنبي عليه الصلاة والسلام، إذا كان يضرب الصنم بطرف قوسه فيخر الصنم تراباً في الأرض). أي: أن هذا الحجر يفقد خواصه التي خلقه الله عليها بأمره سبحانه، فيكون رماداً في الأرض. الإمام النووي يقول: وهذا الفعل -الذي هو ضرب الصنم بالقوس- إذلال للأصنام ولعابديها، وإظهار لكونها لا تضر ولا تنفع ولا تدفع عن نفسها، كما قال الله تعالى: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73] أي: أن الصنم هذا لا يستطيع أن يدفع عن نفسه ضراً ولا نفعاً لدرجة أن الذبابة لو أخذت من على فم هذا الصنم شيئاً ما استطاع هذا الصنم أن يرد ما أخذ منه. وفي هذا: استحباب قراءة هاتين الآيتين عند إزالة المنكر: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [الإسراء:81]. وقد اختلف أهل العلم: هل فُتحت مكة عنوة أم فُتحت سلماً؟ والصواب: أنها فُتحت عنوة.

استحباب اشتراك المسافرين في الأكل

استحباب اشتراك المسافرين في الأكل قال: (أما قول أبي هريرة: وفدنا إلى معاوية رضي الله عنه وفينا أبو هريرة، فكان كل رجل منا يصنع طعاماً يوماً لأصحابه فكانت نوبتي). فيه: دليل على استحباب اشتراك المسافرين في الأكل، واستعمالهم مكارم الأخلاق، وليس هذا من باب المعارضة حتى يشترط فيه المساواة في الطعام. أي: أن هذه مسائل يسمونها الغبن اليسير. فإذا أردنا مثلاً أن نأكل فكل منا سيدفع مبلغاً متساوياً مع الآخر، لكن في النهاية لا يمكن أن كل واحد سيأكل مثل الآخر، بل هناك من يأكل كثيراً وهناك من يأكل قليلاً وليس كل الناس يشبعون على درجة واحدة من الطعام؛ ولذلك في هذه المسائل تقوى الله أعظم زاد. قال: (وليس هذا من باب المعاوضة حتى يشترط فيه المساواة في الطعام، وألا يأكل بعضهم أكثر من بعض، بل هو من باب المروءات ومكارم الأخلاق، وهو بمعنى الإباحة، فيجوز وإن تفاضل الطعام؛ لأن الناس يتعافون فيما بينهم في مثل هذا) فليس هذا من باب الربا ولا من باب الحرام، بل هي من باب مكارم الأخلاق. ولذلك الإمام النووي يقول: فيجوز وإن تفاضل الطعام واختلفت أنواعه، ويجوز وإن أكل بعضهم أكثر من بعض، لكن يستحب أن يكون شأنهم إيثار بعضهم بعضاً.

استحباب الاجتماع على الطعام

استحباب الاجتماع على الطعام قال: (وفي هذا الحديث كذلك: استحباب الاجتماع على الطعام وجواز دعائهم إليه قبل إدراكه، واستحباب حديثهم في حال الاجتماع بما فيه بيان أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وغزواتهم ونحوها، مما تنشط النفوس لسماعه، وكذلك غيرها من الحروب ونحوها مما لا إثم فيه، ولا يتولد منه في العادة ضر في دين ولا دنيا ولا أذى لأحد؛ لتنقطع بذلك مدة الانتظار ولا يضجروا، ولئلا يشتغل بعضهم مع بعض في غيبة أو نميمة أو نحوها من الكلام المذموم).

استحباب طلب الحديث من أهل الفضل والصلاح

استحباب طلب الحديث من أهل الفضل والصلاح قال: (وفي هذا الحديث: يستحب إذا كان في الجمع رجل مشهور بالفضل أو العلم أو الصلاح أن يُطلب منه الحديث، فإن لم يطلبوا استحب له الابتداء بالحديث، كما كان النبي عليه الصلاة والسلام يبتديهم بالتحديث من غير طلب منهم. وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (موعدكم الصفا). يعني: أنه قال هذا لـ خالد ومن معه الذين أخذوا أسفل بطن الوادي، وأخذ هو صلى الله عليه وسلم ومن معه أعلى مكة، والنبي صلى الله عليه وسلم حينما دخل مكة دخلها من العوالي، ولذلك فالشارع الذي دخله إلى الآن اسمه شارع المعلاة وهو أعلى مكة، دخلها من أعلاها وخرج من أسفلها، أما خالد ومن معه فقد دخلوا مكة من الوادي، أي: من أسفلها. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

الأسئلة

الأسئلة

حكم كشف المرأة المسلمة على أخيها أو أبيها أو خالها الكافر

حكم كشف المرأة المسلمة على أخيها أو أبيها أو خالها الكافر Q كنت نصرانية، والحمد لله أسلمت، فهل يجوز لي أن أتكشّف على محارمي مثل أبي وأخي وخالي، أم هم أجانب بالنسبة لي؟ A نسأل الله تعالى أن يثبّتك على الإيمان والإسلام! هذه المرأة المسلمة لا يجوز لها أن تتكشّف على الكافرين والكافرات إلا فيما يتعلق بالوجه والكفين، أما ما دون ذلك فلا، فالمسلمة لا تكشف شيئاً من بدنها على الكافرين والكافرات إلا الوجه والكفّين.

حكم التقاط مال في الشارع

حكم التقاط مال في الشارع Q إذا وجدت مالاً في الشارع فهل ألتقطه أم لا؟ A لك أن تلتقطه ولك ألا تلتقطه، فإذا التقطته وكان مالاً ذا قيمة في العرف فعرّفه سنة، بشرط ألا يكون من المتلوفات، كأن تجد مثلاً كرتون تفاح أو طماطم أو بيض فهذا لا تعرفه؛ لأنه من المتلوفات.

حكم متابعة المأموم لإمامه في القنوت لصلاة الفجر، وحكم الصور الفوتوغرافية

حكم متابعة المأموم لإمامه في القنوت لصلاة الفجر، وحكم الصور الفوتوغرافية Q إذا لم يقنت المأموم خلف الإمام في صلاة الفجر هل يأثم؟ وهل ورد حديث بتخصيص صلاة الفجر بالقنوت؟ وما حكم الدين في الصور الفوتوغرافية؟ A الصور الفوتوغرافية في الحقيقة وقع فيها نزاع، بل مجرد التصوير وقع فيه النزاع: هل هو حرام أم حلال؟ والذي أعتقده الحرمة إلا ما توقفت مصالح الناس وحياة الناس عليها، كالمصالح التي تحتاج إلى صور للبطاقات الشخصية وغير ذلك مما لا تسير حياة الناس إلا به. أما القنوت فلم يقل بجوازه في صلاة الفجر إلا الإمام الشافعي، وقد أخطأ في ذلك واعتمد على حديث منكر لـ أنس بن مالك أنه قال: لا يزال النبي صلى الله عليه وسلم يقنت في صلاة الفجر حتى فارق الدنيا. وإجماع المحدثين أن هذا حديث منكر، ولو صح هذا الحديث لحل الإشكال، والصواب في القنوت: أنه مسنون إذا نزلت نازلة وفي الصلوات الخمس، وليس في صلاة واحدة. لكن بيت القصيد في هذا السؤال للسائل أنه يقول: هل يلزمني إذا صلّيت خلف إمام يقنت في صلاة الفجر أن أدعو معه وأقنت معه، أم لا أرفع يدي ولا أقنت؟ في الحقيقة أنا أعتقد أنه يلزمك أن تتابع الإمام في القنوت وإن كنت مخالفاً له في الأصل؛ لأن هذه مسألة محل نزاع بين أهل العلم، وتركك للقنوت مع هذا الإمام قد يحدث فتنة بين المصلين، ودرء المفاسد مقدّم على جلب المصالح.

حكم العمل في شركات يهودية أو نصرانية

حكم العمل في شركات يهودية أو نصرانية Q إني أعمل في شركة لتركيب الأبواب، وعرضت علي شركة بيبسي عرضاً، فهل هذا فيه شيء تجاه الشرع، ونرجو توضيح المقاطعة: هل هي في الشراء أم في البيع؟ A نحن ندعو الناس جميعاً إلى مقاطعة جميع السلع والمنتجات اليهودية والنصرانية، ولأجل ذلك كان المؤتمر السابق الذي حضرتموه، لكن نفرّق بين المقاطعة بالشراء وإرباح هؤلاء من أموالنا، وبين التكسّب لنا من ورائهم، فبلا شك الموظف الذي يعمل في شركة بيبسي أنا أقول له: اشتغل فيها، فهو يأخذ (500) جنيه أو (800) جنيه أو (1000) جنيه في الشهر، لكن إذا قال: أشتري زجاجة بيبسي فأقول له: لا تشتر. صورة أخرى: أنت ذهبت عند فلان ضيفاً، فقدّم لك البيبسي مفتوحاً، هل تشرب أم لا تشرب؟ فهذا قد اشترى بالفعل وانتهى فاشرب، ونحن دعونا إلى المقاطعة ليس من باب أن التعامل معهم حرام، أو أن البيبسي حرام، وإنما من باب التأديب ومقابلتهم بالمثل، ومن باب إلحاق الخسارة بهم، وليس من باب أن هذا حرام أبداً.

حكم أخذ أهل المقتول زيادة فوق الدية التي حددها الشرع

حكم أخذ أهل المقتول زيادة فوق الدية التي حددها الشرع Q سمعتكم تحكون قصة رئيس مباحث مدينة مصر الذي عذّب شابين حتى مات أحدهما، وأُصيب الآخر إصابات قاسية جداً، وأصيب ببعض التشوهات الدائمة، وتم إيقاف الضابط ومعاونيه، وأمرت النيابة بحبسه أربعين يوماً على ذمة التحقيق بتهمة ضرب أفضى إلى موت وتعذيب بريئين، وذلك بفضل الله ثم بجهود أهل الخير، و Q أن الضابط يعرض التعويض على أهل القتيل والآخر بمبلغ ضخم مقداره مليون جنيه، وكذلك تسهيلات في أمور كثيرة مقابل التنازل عن القضية، فهل يعتبر هذا دية شرعية حيث إنهم فقراء جداً، أم لا يجوز أخذ التعويض ويستمر في القضاء؟ A يا أخي الكريم! النبي عليه الصلاة والسلام حدد الدية، والله تعالى شرع لنا أخذ الدية، فلأهل هؤلاء القتيل أن يأخذوا الدية، والدية أنفع لهم، بل ترك الدية أنفع وأنفع. قال الله تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة:237]. والإسلام يخيّرني بين القصاص والدية والعفو، وهذه من خصائص الإسلام؛ لأن الدية عند اليهودية إلزام وعلى القاتل أن يدفع، وعلى ولي القتيل أن يأخذ، فليس هناك تنازل في اليهودية، فالله هو الذي ألزمهم بهذا الأخذ والعطاء على الطرفين، والنصرانية ألزمهم الله تعالى بالعفو، لكن نحن جعلنا في خيار: إما القصاص، وإما الدية، وإما العفو، وهذا من رحمة الله بنا، وقد رفع الله عنا الإصر والأغلال التي كانت على الأمم السابقة. فهذا الرجل لو عفا تماماً لكان أولى، لكن أنا لا أنصحه بالعفو هنا؛ لأنه قال في السؤال: أنا فقير، فله أن ينتفع بالدية ولا يتعداها، والدية هي (100) بعير للرجل الحر المسلم، ولو قلنا: البعير بـ (3000) جنيه، فحينئذ تكون الدية ثلاثمائة ألف جنيه، وما دام هذا الضابط عرض مليون جنيه فأنت خذ نصف المليون للذي مات، وللذي أُصيب بتشوهات خطيرة، فالذي مات يأخذ ورثته ثلاثمائة ألف جنيه وهذه ديته الشرعية، والثاني يأخذ بقية المبلغ، أما أن تأخذ مليون جنيه فأين تذهب من الله؟ وأنا أتصور أن العفو في هذه القضايا يأتي بثمار طيبة جداً، وما ترك أحد شيئاً لله إلا عوّضه الله خيراً منه، لكن إذا كنت في حاجة فهو حقك الذي فرضه الله تعالى لك، إن شئت فخذ وإن شئت فدع، لكن لا تأخذ هذا المليون المعروض؛ لأن نصف هذا المبلغ ليس لك، إلا إذا قهرك وضغط عليك أن تأخذه بطيب نفس منه فهنيئاً مريئاً.

كتاب الجهاد والسير - باب إزالة الأصنام من حول الكعبة - لايقتل قرشي صبرا بعد الفتح - صلح الحديبية

شرح صحيح مسلم - كتاب الجهاد والسير - باب إزالة الأصنام من حول الكعبة - لايقتل قرشي صبراً بعد الفتح - صلح الحديبية لقد أعز الله هذا الدين، ودخل الناس فيه أفواجاً بعد فتح مكة، وأزال النبي صلى الله عليه وسلم كل الأصنام التي كانت حول الكعبة، وقد كان فتح مكة ثمرة لصلح الحديبية الذي كره الصحابة بنوده أول الأمر؛ ظناً منهم أنها مجحفة في حق المسلمين، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن قريشاً لن تعود إلى الكفر بعد أن أسلمت إلى يوم القيامة، وهذا من معجزاته صلى الله عليه وسلم.

باب إزالة الأصنام من حول الكعبة

باب إزالة الأصنام من حول الكعبة إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. الباب الثاني والثلاثون من كتاب الجهاد والسير: (باب إزالة الأصنام من حول الكعبة) وهذا في مقام الخبر، كأن الإمام النووي عليه رحمة الله أراد أن يخبر أن النبي عليه الصلاة والسلام حينما دخل مكة فاتحاً أزال الأصنام من حول الكعبة، فهو يخبرنا بما جرى حقيقة وفعلاً، لكن هذا الحكم ينسحب على المنكر بعد ذلك، فمن تمكن من إزالة المنكر بغير منكر أعظم منه وجب عليه تغيير المنكر.

شرح حديث ابن عباس في دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة وتكسير الأصنام

شرح حديث ابن عباس في دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة وتكسير الأصنام قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو بن الناقد وابن أبي عمر -واللفظ لـ ابن أبي شيبة - قالوا: حدثنا سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح - عبد الله بن يسار المكي، أبو يسار الثقفي مولاهم- عن مجاهد -وهو مجاهد بن جبر المكي من كبار تلاميذ ابن عباس - عن أبي معمر -وهو رواية تابعي عن تابعي، وأبو معمر هو عبد الله بن سخبرة الكوفي الأزدي - عن عبد الله بن مسعود قال: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة -أي: يوم الفتح- وحول الكعبة ثلاثمائة وستون نصباً)]، وفي رواية: (صنماً). حول الكعبة (360) نصباً أو صنماً، أي: بعدد أيام السنة، لا أدري هل كانوا يعبدون هذه الأصنام كلها في وقت واحد وفي كل يوم، أو أنهم كانوا يعبدون في كل يوم صنماً آخر يختلف عن صنم الأمس، ويختلف عن صنم الغد، بل كان لكل مشرك في مكة أربعة أصنام يعبدها: الصنم الأول في الحرم، والثلاثة الأصنام الباقية في بيته، كان إذا دخل بيته وقبل أن يخرج من بيته يسجد لها ويعبدها ويدعوها من دون الله عز وجل، بل إذا أراد أن يسافر انتخب وأقرع بين هذه الآلهة الثلاثة، فاصطحب من خرجت عليه القرعة في سفره حتى لا يُحرم من الشرك في هذه الرحلة. قال: [(دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحول الكعبة ثلاثمائة وستون نصباً، فجعل يطعنها بعود كان بيده، ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]، ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ:49]) زاد ابن أبي عمر: يوم الفتح]. يعني: دخل مكة يوم الفتح. قال: [وحدثناه حسن بن علي الحلواني وعبد بن حميد كلاهما عن عبد الرزاق -وهو ابن همام الصنعاني - أخبرنا الثوري عن ابن أبي نجيح] فكأن السفيانين رويا عن ابن أبي نجيح، في الرواية الأولى سفيان بن عيينة وفي الرواية الثانية سفيان الثوري. [بهذا الإسناد إلى قوله: {زَهُوقًا} [الإسراء:81] ولم يذكر الآية الأخرى، وقال بدل (نصباً): صنماً]. أنتم تعلمون أن أعظم أوجه الشرك عبادة الأصنام من دون الله عز وجل، ولذلك الذي صنعه إخواننا في طالبان من تكسير ذاك الصنم (بوذا) كان من أعظم الأعمال التي قاموا بها، بل هي من أعلى مظاهر التوحيد التي قدّمتها حكومة طالبان للعالم كله، أنهم كفوا أهل الشرك عن شركهم خاصة في بلادهم التي هي تحت سلطانهم. إذاً: هم قوم لهم الإمارة ولهم الرياسة في هذه البقعة من الأرض، ويأتي الناس من هنا وهناك ليشركوا بالله تعالى على أرض هؤلاء الموحدين، فكان من أوجب الواجبات الشرعية عليهم أن يتخلصوا من هذه الشركيات، كما أنهم تخلصوا من تلك القبور التي كانت تعبد من دون الله عز وجل، كما أنهم كذلك قاموا بحرق جميع حقول المخدرات والحشيش والأفيون وغير ذلك، فكلها مظاهر تدل على أن هؤلاء كانوا على النهج السديد القويم. فالذي يغلب على ظني أنه لا يحب هؤلاء إلا مؤمن، ولا يُبغضهم إلا منافق أو جاهل. يعني: أقل أحواله أنه جاهل بأحوال هؤلاء، أما إذا كان عالماً بأنهم كانوا قائمين على الحق وهو مع هذا يُبغضهم فلا أقل من كونه منافقاً. ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بُغض الأنصار) فهذا الحب والبُغض اللذان هما من علامات الإيمان أو النفاق للأنصار إنما مرده إلى حب الأنصار؛ لأنهم نصروا الله ورسوله، فإذا كان هؤلاء في أفغانستان قد نصروا الله تعالى ورسوله، وعملوا بالشرع بالليل والنهار، وأفنوا حياتهم في سبيل إعلاء كلمة التوحيد فإن مبغضهم منافق.

باب لا يقتل قرشي صبرا بعد الفتح

باب لا يقتل قرشي صبراً بعد الفتح الباب الثالث والثلاثون: (لا يُقتل قرشي صبراً بعد الفتح). معنى الصبر: الحبس على الأكل والشرب حتى الموت، وكذلك أن يُقيّد ويُكبّل من يديه من خلف ظهره ويُطعن، هذا أيضاً قتل صبر، وقتل الصبر أنواع كثيرة. فلا يُقتل قرشي صبراً بعد الفتح. أي: بعد فتح مكة.

شرح حديث: (لا يقتل قرشي صبرا)

شرح حديث: (لا يقتل قرشي صبراً) قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا علي بن مسهر ووكيع عن زكريا عن الشعبي -والشعبي هو عامر بن شراحيل قال مكحول: ما رأيت أفقه منه، وكان من أوثق الناس- قال: أخبرني عبد الله بن مطيع عن أبيه -أي: مطيع بن الأسود قيل: العدوي وقيل العذري المدني، وعبد الله بن مطيع له رؤية للنبي عليه الصلاة والسلام، أما أبوه فمن أصحابه عليه الصلاة والسلام ولا خلاف في ذلك، أسلم يوم الفتح، فهو من مسلمة الفتح، وكان اسمه العاص فسماه النبي صلى الله عليه وسلم مطيع؛ لأن الطائع ضد العاص، والأصل أن العرب يقولون: العاصي ولكن المحدثين يقولون: العاص. أي: أن المحدثين يقولون عمرو بن العاص، أما اللغويون فيقولون: عمرو بن العاصي، وغير ذلك من الأسماء فالمحدثون يحذفون الياء واللغويون يثبتون الياء. فحينما كان في لسان العرب اسمه: العاصي وأسلم سماه النبي عليه الصلاة والسلام مطيعاً. فالذي زكاه هو النبي عليه الصلاة والسلام، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يغيّر الأسماء القبيحة إلى أسماء حسنة، كما أراد أن يغير اسم حزن؛ لأن الحزن بمعنى: الصعب الشديد. قال ما اسمك؟ قال: حزن، قال: بل أنت سهل. قال: لا. أنا حزن، السهل يرتقى -يعني: دعني كما أنا حزن - وهو جد سعيد بن المسيب، فـ سعيد بن المسيب بن حزن أبوه وجده صحابيان، وسعيد من كبار التابعين، ومن أئمة الدين، ومن علماء المدينة المنورة. قال سعيد: لا زلنا نشعر بالحزونة. أي: بالحدة والشدة والغلظة، مع أن أهل المدينة لا يتصفون بذلك؛ وذلك لأن جده رد على النبي عليه الصلاة والسلام اسم سهل، فلو قبِله لكانت فيه السهولة وفي أولاده. قال: [سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول يوم فتح مكة: (لا يُقتل قرشي صبراً بعد هذا اليوم -أي: بعد فتح مكة- إلى يوم القيامة)]. فهذه شهادة من النبي عليه الصلاة والسلام لقريش -وهم من أهل مكة- أنهم لا يُقتلون صبراً إلى قيام الساعة. قال: [حدثنا ابن نمير قال: حدثنا أبي -وهو عبد الله بن نمير - حدثنا زكريا بهذا الإسناد. وزاد: قال: ولم يكن أسلم أحد من عصاة قريش غير مطيع]. أي: ممن كان اسمه في قريش العاص، العاص بن فلان والعاص بن فلان، والعاص بن فلان وكانوا أكثر من عشرين، لم يسلم منهم يوم الفتح إلا هذا الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم مطيعاً. ومعنى (لا يُقتل قرشي صبراً بعد هذا اليوم إلى يوم القيامة): الإعلام بأن قريشاً يسلمون كلهم. وهذه من معجزاته عليه الصلاة والسلام، وإخباره بالغيب، ودليل ساطع من دلائل نبوته عليه الصلاة والسلام. فقوله: (لا يقتل قرشي صبراً) ليس نفياً بأن يقتل القرشي صبراً، وإنما هذا إخبار أن قريشاً كلهم سيسلمون، وفعلاً لم يبق أحد من قريش على الكفر والشرك، فهذا إعلام منه عليه الصلاة والسلام بأن قريشاً يسلمون كلهم، ولا يرتد أحد منهم كما ارتد غيرهم بعده ممن حورب وقتل صبراً. وليس المراد: أنهم لا يقتلون ظلماً صبراً، فقد جرى على قريش أكثر من معركة قُتلوا فيها صبراً. وإنما معناه: أن كل قريش يدخلون في دين الإسلام.

معنى قوله: (ولم يكن أسلم من عصاة قريش غير مطيع)

معنى قوله: (ولم يكن أسلم من عصاة قريش غير مطيع) قال: [(ولم يكن أسلم من عصاة قريش غير مطيع) كان اسمه العاصي، فسماه النبي صلى الله عليه وسلم مطيعاً]. قال النووي: (قال القاضي عياض: العصاة هنا: جمع العاص، وهو من أسماء الأشخاص لا من الصفات، مثل العاص بن وائل السهمي والعاص بن هشام أبو البختري والعاص بن سعيد بن العاص بن أمية والعاص بن هشام المخزومي والعاص بن منبه بن الحجاج، لم يسلم أحد من هؤلاء سوى العاص بن الأسود العذري، فغيّر النبي صلى الله عليه وسلم اسمه وسماه مطيعاً، وقد أسلم عصاة قريش وعتاتهم كلهم بحمد الله تعالى، ولكن بعد ذلك، وقد ترك النبي عليه الصلاة والسلام أبا جندل بن سهيل بن عمرو على اسمه، وهو ممن أسلم واسمه أيضاً العاص، فإذا صح هذا فيُحتمل أن هذا لمّا غلبت عليه كنيته وجُهِل اسمه؛ لأن كنيته أبو جندل وكان معروفاً ومشهوراً بذلك، إذ كان اسمه العاص؛ ولذلك لم يستثنه كما استثنى مطيع بن الأسود والله أعلم).

باب صلح الحديبية في الحديبية

باب صلح الحديبية في الحديبية الباب الرابع والثلاثون: (باب صلح الحديبية في الحديبية). منهم من يقول: في الحديبيّة. ومنهم من يسهّل فيقول: الحديبية بغير التشديد، كالجعْرانة والجعرّانة. قال: باب: (صلح الحديبية في الحديبية)، أي: أن الصلح تم في الحديبية وليس في داخل مكة. والحديبية: مكان يبعد عن مكة بعض الأميال أو الفراسخ.

شرح حديث البراء بن عازب في صلح الحديبية

شرح حديث البراء بن عازب في صلح الحديبية [حدثني عبيد الله بن معاذ العنبري حدثنا أبي -وهو معاذ العنبري - حدثنا شعبة عن أبي إسحاق -وهو السبيعي - قال: سمعت البراء بن عازب يقول: (كتب علي بن أبي طالب الصلح بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين يوم الحديبية)]. أي: أن الذي كان يكتب حينذاك وثيقة الصلح بين المسلمين والكافرين هو علي بن أبي طالب، وهذا يدل على أن علياً كان كاتباً ولم يكن أمياً. قال: [(فكتب: هذا ما كاتب عليه محمد رسول الله)] أي: ما صالح عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: [(فقالوا: لا تكتب: رسولُ الله، فلو نعلم أنك رسول الله لم نقاتلك)] أي: إذا أردت أن تكتب فاكتب: هذا ما كاتب عليه محمد بن عبد الله؛ لأننا لو نعلم أنك رسول الله لم نقاتلك، فكيف تحتج علينا بصفة لا نؤمن بها، ولا بد أن نتناقش بلغة نتفق عليها. قال: [(فقال النبي عليه الصلاة والسلام لـ علي: امحه)] أي: امح كلمة: رسول الله، واكتب: محمد بن عبد الله. قال: [(فقال علي: ما أنا بالذي أمحاه)] وليس هذا من باب الرد على النبي صلى الله عليه وسلم، بل هذا من باب الأدب الزائد مع النبي عليه الصلاة والسلام، وأحياناً يكون الشيء في نظر العرف يتنافى مع الأدب، وهو في حقيقته عين الأدب، كما كان السلف يفعل بعضهم مع بعض، فغير واحد من علماء السلف كان يتعامل مع شيخه بالليل أنه يمشي أمامه وبالنهار يمشي خلفه، فلما سُئل عن ذلك؟ قال: أخشى أن تدركه حفرة فيقع فيها، أما بالنهار فالطريق مكشوفة فهو يمشي أولاً، ولا شك أن الولد إذا مشى أمام والده أو التلميذ مشى أمام شيخه يدل هذا على سوء الأدب، ولكنه ليس من سوء أدب عند التحقيق إذا دعت إلى ذلك الضرورة، والأصل أن يتقدم الشيخ وأن يتقدم الوالد، والسلطان، وأصحاب الوجاهات، ويكون الأتباع من ورائهم. قال: [(فقال علي: ما أنا بالذي أمحاه)] وفي رواية: (ما أنا بالذي أمحوه). قال: [(فمحاه النبي صلى الله عليه وسلم بيده. قال: وكان فيما اشترطوا أن يدخلوا مكة فيقيموا بها ثلاثاً)] الذي اشترط هذا الشرط هم المشركون، ودخول مكة يكون في العام المقبل؛ لأن الرواية هذه مختصرة جداً. حصل الاتفاق بين المشركين وبين النبي عليه الصلاة والسلام، وكان كاتب النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الاتفاق هو علي بن أبي طالب، والذي ناب عن قريش هو سهيل بن عمرو، وكان هذا الصلح له ثلاثة شروط: الشرط الأول: ألا يدخلوا مكة من هذا العام ويدخلوها من العام المقبل، ويمكثوا بها ثلاثة أيام فحسب، ولا يأتوا معهم من السلاح والكراع إلا الشيء اليسير. الشرط الثاني: أن يرد المسلمون من أتاهم من المشركين مسلماً. الشرط الثالث: ألا تُلزم قريش برد من أتاها مرتداً. أي: أن الذي يأتي إلى قريش من طرف محمد يقبلونه، ولا يلزمون برده، أما الذي يأتي مسلماً من قريش إلى محمد عليه الصلاة والسلام فلا يقبل، بل يجب على المسلمين رده. قال: [(وكان فيما اشترطوا أن يدخلوا مكة فيقيموا بها ثلاثاً، ولا يدخلها بسلاح إلا جلبان السلاح)] أي: الأجربة اليسيرة التي يوضع فيها السهم والرمح، أي: أنها أشياء لا تصلح للقتال إلا شيئاً يسيراً. [قلت -أي: قال شعبة - لـ أبي إسحاق: وما جلبان السلاح؟ قال: القراب وما فيه] أي: الجراب الذي يوضع فيه السيف. وإنما اشترطوا هذا لوجهين: الوجه الأول: ألا يظهر منه دخول الغالبين القاهرين. أي: لتقول قريش: أن محمداً دخل بغير سلاح؛ لأنه لو دخل بسلاح فإنه سيدخل في صورة الداخل الفاتح المنتصر، فهم لا يريدون ذلك. والثاني: أنه إن عُرض فتنة يكون هناك صعوبة في الاستعداد بالسلاح، أي: لا يجد سلاحاً يدافع به عن نفسه، ومع هذا رضي النبي عليه الصلاة والسلام بهذا. [حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار قالا: حدثنا محمد بن جعفر -وهو المعروف بـ غندر - حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال سمعت البراء بن عازب يقول: (لما صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الحديبية كتب علي كتاباً بينهم. قال: فكتب: محمد رسول الله) ثم ذكر بنحو حديث معاذ غير أنه لم يذكر في الحديث: (هذا ما كاتب عليه)].

شرح رواية أخرى لحديث البراء في صلح الحديبية

شرح رواية أخرى لحديث البراء في صلح الحديبية [حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي -وهو المعروف بـ إسحاق بن راهويه - وأحمد بن جناب المصيصي. جميعاً عن عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي -واللفظ لـ إسحاق - قال: أخبرنا عيسى بن يونس أخبرنا زكريا عن أبي إسحاق عن البراء. قال: (لما أحصر النبي صلى الله عليه وسلم عند البيت -أي: قريباً من مكة- صالحه أهل مكة على أن يدخلها فيقيم بها ثلاثاً، ولا يدخلها إلا بجلبان السلاح السيف وقرابه، ولا يخرج بأحد معه من أهلها، ولا يمنع أحداً يمكث بها ممن كان معه. قال لـ علي: اكتب الشرط بيننا: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله)] قاضى بمعنى: فاصل. من المفاصلة والمنازعة والاستقرار على شرط معيّن. قال: [(فقال له المشركون: لو نعلم أنك رسول الله تابعناك -وفي رواية: بايعناك- ولكن اكتب محمد بن عبد الله)] لأن هذا هو الاسم الذي نعرفك به ولا ننكرك، أما رسول الله فنحن ننكر ذلك. قال: [(فأمر علياً أن يمحاها، فقال علي: لا والله لا أمحاها. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أرني مكانها)] وهذا يدل على أنه عليه الصلاة والسلام كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب. قال: [(فأراه مكانها فمحاها، وكتب: ابن عبد الله)] أي: وكتب علي مكان رسول الله ابن عبد الله، فتصير الجملة: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله. قال: [(فأقام بها ثلاثة أيام -وهذا يعني: أنه أقام بها من العام المقبل- فلما أن كان يوم الثالث قالوا لـ علي: هذا آخر يوم من شرط صاحبك)]. إن النبي عليه الصلاة والسلام عازم على الوفاء بالعهد، وسيخرج من آخر اليوم، ولكنهم احتاطوا لأنفسهم، فنبّهوا علياً في أول النهار: [(هذا آخر يوم من شرط صاحبك فأمره فليخرج. فأخبره بذلك فقال: نعم)] أي: هذا شرط بيننا من العام الماضي أننا لو أتينا مكة في هذا العام لا نمكث بها إلا ثلاثة أيام وأنا أذكر هذا الشرط، وبالتالي أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يخرجوا من مكة وخرج أمامهم، دخل مكة من أعلاها وخرج من أسفلها عليه الصلاة والسلام. [وقال ابن جناب في روايته مكان تابعناك: (بايعناك)].

شرح حديث أنس بن مالك في صلح الحديبية

شرح حديث أنس بن مالك في صلح الحديبية قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عفان -وهو ابن مسلم الصفار - حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت -وهو ابن أسلم البناني - عن أنس: (أن قريشاً صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم فيهم سهيل بن عمرو)]. أي: الذي كان يتزعَم قريش في ذلك الوقت هو سهيل بن عمرو. قال: [(فقال النبي عليه الصلاة والسلام لعلي: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم. قال سهيل: أما باسم الله فما ندري ما بسم الله الرحمن الرحيم، ولكن اكتب: باسمك اللهم)] حتى نخرج من الخلاف. واليهود في المدينة كانوا يعظّمون اسم الرحمن، أما المشركون في مكة فما كانوا يعرفون الرحمن ولا الرحيم، إنما كانوا يعرفون (باسم الله) أو (باسمك اللهم)؛ ولذلك حينما دخل النبي عليه الصلاة والسلام المدينة وسمع به عبد الله بن سلام أتاه وقال: (يا محمد! إني سائلك ثلاثة أسئلة لا يعرفها إلا نبي أو رجل أو رجلان) أي: فإن أجبت فأنت نبي. فكان السؤال الأول هو: (ما أول طعام أهل الجنة؟) والسؤال الثاني: (ما أول أشراط الساعة؟) والسؤال الثالث: (كيف ينزع الولد؟) فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (أما أول طعام أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وأما أول أشراط الساعة فنار تخرج من اليمن تحشر الناس إلى الشام، وإذا غلب ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد إليه) أي: إذا سبق في الإنزال والقذف ماء الرجل ماء المرأة وافق الولد لأبيه، أي: في الذكورة أو في الشبه، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزع الولد إليها. أي: في الأنوثة أو في الشبه. قال: (أشهد أنك نبي، وقال: يا عبد الله بن سلام! أرأيت ما قد أجبتك لم يكن لي به علم، فلما سألتني نزل جبريل فأخبرني. قال: أو الذي ينزل عليك من السماء هو جبريل يا رسول الله؟! قال: نعم. قال: ذاك عدو اليهود من الملائكة) فاليهود كانوا يعادون جبريل، فلما أسلم عبد الله قال: (يا رسول الله! ادع اليهود وسلهم عني قبل أن تخبرهم بإسلامي، فدعاهم النبي عليه الصلاة والسلام وقال: ما تقولون في عبد الله بن سلام؟ قالوا: هو سيدنا وابن سيدنا، وفقيهنا وابن فقيهنا، وعالمنا وابن عالمنا وصاروا يمدحونه، فخرج عليهم عبد الله بن سلام من خلف الخباء قال: فإني آمنت بالله ورسوله. قالوا: أنت سفيهنا وابن سفيهنا، وحقيرنا وابن حقيرنا). فاليهود أقذر خلق الله في كل زمان ومكان. كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه له أرض في عوالي المدينة، وذات يوم ذهب إلى أرضه فطمِع فيه يهود بني النضير. قالوا: يا عمر! لو كان ينزل على صاحبك غير جبريل لاتبعناه، فاذهب إليه واجعله يغيّر جبريل أو ينظر غيره من الملائكة. قال لهم عمر: أي يمين فيكم أعظم؟ يعني: بماذا أحلف لكم حتى تصدقوني؟ قالوا: الرحمن؛ لأنهم يطمعون في الجنة، والرحمن من الرحمة. فلما قالوا: الرحمن قال: والرحمن. والشاهد: أن اليهود كانوا يعظّمون الرحمن، والله تعالى يقول: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110]. قال: [فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ علي بن أبي طالب: (اكتب بسم الله الرحمن الرحيم. قال سهيل: أما باسم الله، فما ندري ما بسم الله الرحمن الرحيم؟ ولكن اكتب ما نعرف: باسمك اللهم، فقال: النبي عليه الصلاة والسلام: اكتب: من محمد رسول الله. قالوا: لو علمنا أنك رسول الله لاتبعناك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: اكتب: من محمد بن عبد الله. فاشترطوا على النبي عليه الصلاة والسلام أن من جاء منكم لم نرده عليكم -أي: الذي يأتينا من طرفك يا محمد! لا نرده- ومن جاءكم منا رددتموه علينا. فقالوا: يا رسول الله! أنكتب هذا؟ فقال: نعم. إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله)] أي: من يريد أن يكفر فليكفر، وهذا موقف عظيم جداً من مواقف التربية على الإيمان والعقيدة، فالذي يريد أن يخرج من المسلمين ليتنصر أو يصبح يهودياً فلا مرحباً به، فليذهب حيث شاء: (أبعده الله) وهذا دعاء عليه، وهل بعد أن يترك دينه ويرتد على عقبيه ويختار الكفر على الإيمان بعد عن الله؟ فلو كان بين أيدينا لأقمنا عليه حد الردة: (من بدّل دينه فاقتلوه) أما إذا غافل المسلمين وخرج من بينهم إلى بلاد الكفر فأبعده الله عز وجل، والحدود لا يقيمها إلا الحاكم. ثم في الصحيح أن خباب بن الأرت أتى النبي صلى الله عليه وسلم -وكان ذلك في مكة قبل الهجرة، وقد نزل به وبأصحابه من المشركين أذى كثيراً- فقال

شرح حديث شقيق بن سلمة وذكره خطبة سهل بن حنيف في صفين

شرح حديث شقيق بن سلمة وذكره خطبة سهل بن حنيف في صفين قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الله بن نمير (ح) وحدثنا ابن نمير -وتقاربا في اللفظ- حدثنا أبي حدثنا عبد العزيز بن سياه قال: حدثنا حبيب بن أبي ثابت عن أبي وائل -وهو شقيق بن سلمة - قال: (قام سهل بن حنيف يوم صفّين فقال: أيها الناس اتهموا أنفسكم)]. سهل بن حنيف كان من الذين قاتلوا يوم صفّين، وكانت الحرب بين الخوارج وبين علي بن أبي طالب، وكان سهل بن حنيف في جانب علي بن أبي طالب، وكان أصحاب معاوية حينما أحسّوا بالخطر رفعوا المصاحف على أسنة الرماح، وبعض ممن كان مع علي بن أبي طالب: قال: كيف نقاتل قوماً رفعوا كتاب الله. ولكن علي بن أبي طالب كان فطناً فعلِم أن هذه خدعة، فاضطر إلى التحكيم والصلح وكان أصحابه يرفضون الصلح، فقام سهل بن حنيف خطيباً فيهم وقال: (أيها الناس! اتهموا أنفسكم) أي: أنه ينبغي أن تعتقدوا أنكم أخطأتم، ويجب أن تكونوا تبعاً لإمامكم علي بن أبي طالب؛ لأنه أعرف الناس وأفهمهم وأفظنهم، وإذا اختار الإمام خيرة فلا يجوز لأحد ممن كان معه أن يرى شيئاً آخر، وإن رأى شيئاً آخر فلا ينبغي أن يخالف في العمل إمامه؛ لأننا كنا في صلح الحديبية ننكر على النبي عليه الصلاة والسلام تلك الشروط التي وافق عليها في صلح الحديبية، ثم تبيّن لنا بعد ذلك أن الخير كل الخير فيما وافق النبي عليه الصلاة والسلام عليه. قال: [(أيها الناس! اتهموا أنفسكم، لقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، ولو نرى قتالاً لقاتلنا، وذلك في الصلح الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه سلم وبين المشركين، فجاء عمر بن الخطاب فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال: نعم. قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى. قال: ففيم نعطي الدنية في ديننا)] أي: بما أنك توافقني في أننا على الحق وهم على الباطل، وقتلانا في الجنة وقتلاهم في النار، فلماذا اخترت هذا الدون ووافقت على هذه الشروط؟ يا رسول الله دنية ونحن لا يمكن أن نوافق عليها، والدنية: هو الشيء الدوني الهابط النازل. قال: [(فقال: يا ابن الخطاب! إني رسول الله، ولن يضيعني الله أبداً. قال: فانطلق عمر فلم يصبر متغيظاً، فأتى أبا بكر فقال: يا أبا بكر! ألسنا على حق وهم على باطل؟ قال: بلى. قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى. قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟)] يعني: لماذا نرجع إلى المدينة والحرب لم نعتمر أو نقاتلهم. قال: [(فقال: يا ابن الخطاب! إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبداً)] فكانت موافقة أبي بكر تمام الموافقة لكلام النبي صلى الله عليه وسلم دليل قوي على أن أبا بكر كان ملهماً، كما يدل ذلك على المنزلة السامية لـ أبي بكر، فإن عمر لم يذهب إلى غير أبي بكر إلا لاعتقاده أن أبا بكر هو الرجل الأول بعد النبي عليه الصلاة والسلام. وهذه إشارة عظيمة جداً لمشروعية استخلاف أبي بكر، كما أن إمامة أبي بكر ثابتة بالنص الصريح الصحيح، وهناك نصوص أخرى تُفهم منها إشارات إلى إمامة أبي بكر بعد النبي عليه الصلاة والسلام. قال: [(فنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفتح)] أي: أنزل الله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1] والفتح المبين: هو فتح مكة، وهذه الآية نزلت بعد صلح الحديبية وقبل فتح مكة، والله تعالى أعلم. قال: {إِنَّا فَتَحْنَا} [الفتح:1] ولم يقل: إنا سنفتح، خاطبه بأسلوب الماضي للدلالة على تحقق ما سيأتي في المستقبل مع أنه لم يتم الفتح بعد، ولكنه سيتم. قال: [(فأرسل إلى عمر فأقرأه إياه)] عندما نزلت الآيات هذه من أول سورة الفتح بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمر {فقال: يا رسول الله! أوفتح هو؟)] أي: هل من المعقول أنه يعقب هذه الشروط خير وفتح [(قال: نعم. فطابت نفسه ورجع)] طابت نفس عمر ورجع عن قوله الذي كان يقول.

قصة أبي جندل وأبي بصير وهروبهما من قريش

قصة أبي جندل وأبي بصير وهروبهما من قريش قال: [حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء ومحمد بن عبد الله بن نمير. قالا: حدثنا أبو معاوية وهو محمد بن خازم ضرير عن الأعمش - سليمان بن مهران الكوفي - عن شقيق - أبي وائل - قال: سمعت سهل بن حنيف يقول بصفين: (أيها الناس! اتهموا رأيكم. والله لقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أني أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته)] أي: ليت النبي صلى الله عليه وسلم جعل لنا حرية الاختيار نقبل أو نرد، ولو كان كذلك لكنت أول من رد هذا. قال: [(ووالله ما وضعنا سيوفنا على عواتقنا إلى أمر قط إلا أسهلن بنا إلى أمر نعرفه إلا أمركم هذا)] أي: القتال الواقع بينكم وبين أهل الشام. إن يوم أبي جندل رضي الله عنه كان يوماً عجيباً جداً؛ وذلك لما حصل في أثناء كتابة وثيقة الصلح التي بين المشركين وبين النبي عليه الصلاة والسلام، كان فيها: من أتاكم منا يا محمد! لا تقبلوه بل يجب عليكم رده. ذكر البخاري أن أبا جندل كان أسلم ونزل من طريق سفلي حتى هبط إلى المسلمين في الحديبية، وكان أبو جندل في معسكر الشرك أثناء كتابة الصحيفة، فقال سهيل بن عمرو: يا محمد! هذا أول شرط معك قد أتاك أبو جندل مسلماً منا إذاً: وجب عليك رده، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لم نكتب الصحيفة بعد. وذلك أنه لم يتم الختم عليها، ولا تتم الصحيفة إلا بالأختام، والنبي صلى الله عليه وسلم كان له ختم. قال: إذاً والله لا أُعاهدك أبداً على شيء. وسهيل بن عمرو والد أبي جندل، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ردوا عليه ولده، فقام أبو جندل يضرب الأرض ويقول: كيف تردونني إلى المشركين وقد أتيتكم مسلماً؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ردوه إلى قومه. فردّوه إلى قومه، وحينما وثق النبي عليه الصلاة والسلام الصحيفة رجع إلى المدينة، فأتاه أبو بصير من مكة مسلماً، وكان في إثره اثنان من زعماء قريش من المشركين، فقالا: يا محمد! قد أتاك منا أبو بصير وإنه ليلزمك أن ترده إلينا حسب الاتفاق الذي بيننا وبينك، فقال النبي عليه الصلاة والسلام لـ أبي بصير: (اذهب معهم لا نقبلك. قال: سمعاً وطاعة لرسول الله) والحديث في البخاري. فمشى معهما أبو بصير حتى نزلوا ذا الحليفة وهو ميقات أهل المدينة، فقال أبو بصير لأحدهما: ما أجمل سيفك! قال: نعم. ما أجمله وأحده، لقد قتلت به فلاناً وفلاناً وفلاناً وصار يعدد شمائل هذا السيف. فقال: أرني أنظر إليه، فدفعه إليه فقام إليه أبو بصير فقتله، فلما رأى الثاني ما كان من أبي بصير ولى هارباً إلى المدينة، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لقد ذعر فلان) أي: أصابه الفزع، وكأن شيئاً قد حصل، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل أبي بصير صاحبه. ولم يرجع أبو بصير إلى المدينة، بل اختبأ في الطريق المؤدي ما بين مكة والشام، وذاع أمره وانتشر صيته في الأرض، فعلم أهل مكة أن أبا بصير في الطريق، فلحق به أبو جندل، وأنتم تعملون أن قتال الكهوف والجبال ليس له حل، وكان كل من أسلم من قريش لحق بـ أبي جندل وأبي بصير؛ حتى كونوا جيشاً عظيماً، وكلما مرت قافلة لأهل مكة ذاهبة إلى الشام أو قادمة من الشام إلى مكة خرجوا إليها وقتلوا من فيها، وأخذوا ما معهم من إبل وزاد وطعام وشراب. إذاً: الشرط الذي تضايق منه عمر كان شرطاً جميلاً جداً، ولكنكم فعلاً قوم تستعجلون!! قال: [وحدثني إبراهيم بن سعيد الجوهري حدثنا أبو أسامة عن مالك بن مغول عن أبي حَصين] وهو عثمان بن عاصم بن حصين الأسدي الكوفي ثقة ثبت سني، وكانت كلمة سني عند السلف تُطلق على الرجل الداعية إلى مذهب السلف في الاعتقاد خلافاً للشيعة. قال: [قال: عن أبي حَصين عن أبي وائل قال: سمعت سهل بن حنيف بصفين يقول: (اتهموا رأيكم على دينكم، فلقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ما فتحنا منه في خصم إلا انفجر علينا منه خصم)] أي أنه كلما أصلحنا من أمركم شيئاً ظهر شيء آخر. قال: [وحدثنا نصر بن علي الجهضمي حدثنا خالد بن الحارث حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة أن أنس بن مالك حدثهم قال: (

ما يستفاد من أحاديث صلح الحديبية من أحكام

ما يستفاد من أحاديث صلح الحديبية من أحكام

حكم مصالحة الكفار

حكم مصالحة الكفار في هذه الأحاديث دليل على جواز مصالحة الكفار إذا كان فيها مصلحة، كحقن دماء المسلمين، وإعادة ترتيب الصفوف، والاستعداد بالسلاح والكراع والطعام وغير ذلك لملاقاة الأعداء، فهذه مصالحة على هدنة من الوقت والزمن لإعادة الترتيب. كما أنه يجوز مصالحة الكفار إذا دعت الضرورة إلى ذلك، وهذا محل إجماع لم يخالف فيه أحد، لكنهم اختلفوا في المدة. قال الله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال:61]، فمنهم من قال: أقصاها عشر سنوات، ومنهم من قال: خمس. وسبع، وثلاث، وسنة. وأرجح الأقوال قول مالك حيث قال: مرد ذلك إلى الإمام، ويراعي في ذلك مصلحة المسلمين، لا حد لذلك، بل يجوز ذلك -قل أم كثر- بحسب رأي الإمام.

معنى قول عمر: (ففيم نعطي الدنية في ديننا)

معنى قول عمر: (ففيم نعطي الدنية في ديننا) أما قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ففيم نعطي الدنية في ديننا؟ فإنه لم يكن هذا الكلام من عمر شكاً بل طلباً لكشف ما خفي عليه، وحثاً على إذلال الكفار بظهور الإسلام، كما عُرف من خلقه رضي الله عنه وقوته في نصرة الدين وإذلال المبطلين. وأما جواب أبي بكر رضي الله عنه لـ عمر بمثل جواب النبي عليه الصلاة والسلام فهو من الدلائل الظاهرة على عظيم فضله وبارع علمه وزيادة عرفانه، ورسوخه في كل ذلك، وزيادته فيه كله على غيره رضي الله عنه.

إعلام الإمام كبار أصحابه بما يقع من الأمور المهمة

إعلام الإمام كبار أصحابه بما يقع من الأمور المهمة وفي هذا الحديث كذلك إعلام الإمام والعالم كبار أصحابه بما يقع له من الأمور المهمة، والبعث إليهم لإعلامهم بذلك؛ ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام حينما نزلت عليه الآيات التي تبشّره بهذا النصر أرسل إلى عمر، وأراد أن يُقدّم المعذرة بين يديه عليه الصلاة والسلام، وإلا كان بإمكانه أن يقول له: ما كان الأمر إلا شورى. فالأمر شورى وليس ديمقراطية، فالديمقراطية ليست مذهباً شرعياً وإسلامياً، بل هو مذهب كفري؛ لأنها تعني: أن الحكم لغير الله؛ فتعريف الديمقراطية: حكم الشعب بالشعب، أي الناس هم الذين يحكمون بعضهم البعض، والله سبحانه وتعالى ليس له علاقة بالناس، فأين الحاكمية لله عز وجل؟ إذاً: كلمة الديمقراطية تعني: لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة، والدين في المساجد، وكان من قبل يقولون لنا: إن الدين النصراني داخل الكنيسة، فهو ليس له علاقة بالحياة، والآن تريد النصرانية الصليبية العالمية قتال الإسلام، وهذا دليل على كذبهم. وأراد النبي عليه الصلاة والسلام بذلك تصبير الناس على الصلح، وإعلامهم بما يرجى بعده من الخير، فإنه يرجى مصيره إلى خير، وإن كان ظاهره في الابتداء مما تكرهه النفوس، كما كان شأن صلح الحديبية، وهذا الحديث من المعجزات.

ثمرات وفوائد صلح الحديبية

ثمرات وفوائد صلح الحديبية قال العلماء: والمصلحة المترتبة على إتمام هذا الصلح ما ظهر من ثمراته الباهرة وفوائده المتظاهرة التي كانت عاقبتها فتح مكة وإسلام أهلها كلها، ودخول الناس في دين الله أفواجاً، وذلك أنهم قبل الصلح لم يكونوا يختلطون بالمسلمين، ولا تتظاهر عندهم أمور النبي عليه الصلاة والسلام كما هي، ولا يحلون بمن يعلمهم بهذه الشريعة مفصلة، فلما حصل صلح الحديبية اختلط المشركون بالمسلمين، وجاءوا إلى المدينة، وذهب المسلمون من المدينة إلى مكة، وحلوا بأهلهم وأصدقائهم وغيرهم ممن يستنصحونهم، وسمعوا منهم أحوال النبي عليه الصلاة والسلام مفصلة بجزئياتها ومعجزاته الظاهرة، وأعلام نبوته المتظاهرة، وحسن سيرته، وجميل طريقته، وعاينوا بأنفسهم كثيراً من ذلك، فمالت نفوسهم إلى الإيمان، حتى بادر خلق منهم إلى الإسلام قبل فتح مكة، أي: في السنة التي كانت بين صلح الحديبية وبين فتح مكة، فأسلموا بين صلح الحديبية وفتح مكة، وازداد الآخرون ميلاً إلى الإسلام، فلما كان يوم الفتح أسلموا جميعاً، لما كان قد تمهد لهم من الميل، وكانت العرب من غير قريش في البوادي ينتظرون بإسلامهم إسلام قريش، فلما أسلمت قريش عن بكرة أبيها في يوم الفتح أسلم جميع هؤلاء البوادي، فنزل قول الله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1 - 3]. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على النبي محمد.

الأسئلة

الأسئلة

حكم رفع المصاحف على أسنة السيوف، والخوض فيما وقع بين الصحابة

حكم رفع المصاحف على أسنة السيوف، والخوض فيما وقع بين الصحابة Q من رفع المصاحف على أسنة السيوف هل يكفر؟ A رفع المصاحف على أسنّة السيوف والرماح ليس كفراً ولا خطيئة، وإنما فعلوا ذلك إعلاماً منهم أنهم يريدون أن يتحاكموا إلى كتاب الله، ولا يجوز لك يا أخي المسلم! أن تخوض في هذه الفتنة، فمثلك كمثل رجل يحرص أن يعرف كيف يصلي وكيف يصوم، ومنهج سلف الأمة أننا لا نخوض فيما وقع بين الصحابة رضي الله عنهم، ونحسّن الظن بهم جميعاً، وأن ما وقع بينهم لم يكن إلا عن اجتهاد.

حكم الأكل من المال الحرام إذا ترتب على ذلك مضرة

حكم الأكل من المال الحرام إذا ترتب على ذلك مضرة Q أعمل طبيباً وقد دخلت الجيش، والقوم في ذلك المكان يأخذون الأدوية من المخزن ويعطونه لمستودعات الطعام، ويأخذون كميات كبيرة من اللحوم وغيرها، ومن لم يأكل منه يُهان ويُحبس في المكان، ويُعامل معاملة سيئة، فهل آكل منه وأتصدق بقيمة ما أكلت، أم ماذا أفعل؟ A أحسنت المخرج، إذا ترتب على ذلك مضرة عظيمة لك فكل وتصدّق بثمنه، ولا بأس أن تكون هذه الصدقة في وسط الجند، أي: في نفس المكان.

بيان أقل المهر وأكثره

بيان أقل المهر وأكثره Q أنا لا أستطيع أن أشتري إلا حجرة نوم فقط وشقة، ولا أستطيع أن أشتري ذهباً، فهل حديث النبي عليه الصلاة والسلام (التمس ولو خاتماً من حديد) يوجب علي أن أشتري خاتماً على سبيل الهدية؟ A على أية حال الصداق ليس لأكثره حد، وأقله ما تعارف عليه العرف أنه مال، بل من صحابيات النبي عليه الصلاة والسلام من قبِلت أن تتزوج على نعل. أترضين من نفسكِ بنعل؟ قالت: بلى، أنا أقبل أن يكون صداقي هو النعل. والحقيقة لا يزال الخير في الأمة، ولي أخ تزوج وقدّم الصداق كتاب فتح الباري.

الحكم على حديث: (لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه)

الحكم على حديث: (لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه) Q ما مدى صحة قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه)؟ A حديث صحيح.

حكم الصلاة خلف إمام يلحن في قراءته لحنا خفيا

حكم الصلاة خلف إمام يلحن في قراءته لحناً خفياً Q ما حكم الصلاة خلف إمام يقرأ بلحن خفي، مع أنه رجل نحسبه على خير؟ A الصلاة صحيحة، إذا كان يلحن لحناً خفياً لا يعرفه إلا أهل التخصص فلا بأس بذلك، في الغنة والمد والإخفاء والإدغام وغير ذلك، أما إذا كان يلحن لحناً جلياً يقلب المعاني رأساً على عقب، فهذا لا تصح الصلاة خلفه.

حكم من أذن وخرج ليدعو أي شخص ليصلي معه

حكم من أذن وخرج ليدعو أي شخص ليصلي معه Q كنت أؤذن في مسجد لا يأتي فيه أحد وكنت أخرج بعد الأذان لكي أدعو أي شخص أجده ليصلي معي، فهل دخلت في حكم حديث النهي؟ A لا، فأنت خرجت تطلب وتريد من يصلي معك جماعة، فأنت خرجت بنية الدخول مرة أخرى، وهذا لا يدخل في حديث النهي.

حكم الدخول في المناقصات وبيع الرجل ما ليس عنده

حكم الدخول في المناقصات وبيع الرجل ما ليس عنده Q هل يجوز الدخول في المناقصات التي تعينها بعض الجهات الحكومية أو المحافظة أو البلدية، وإن كان هذا الرجل الذي يريد ذلك ليس عنده هذه الأشياء المطلوبة، ولكن بعد إرساء المناقصة عليه سيقوم بشراء هذه الأصناف من السوق؟ A لا يجوز له ذلك؛ لأن هذا الرجل الذي رست عليه المناقصة يبيع ما ليس عنده، وقد نهى النبي عليه الصلاة والسلام أن يبيع الرجل ما ليس عنده، ونهاه أن يبيع الشيء حتى ينقله إلى رحله، فالذي يبيع أشياء ليست عنده فالبيع ليس صحيحاً، والله تعالى أعلم. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتاب الجهاد والسير - وجوب الوفاء بالعهد - الأحزاب - أحد

شرح صحيح مسلم - كتاب الجهاد والسير - وجوب الوفاء بالعهد - الأحزاب - أُحد الوفاء بالعهد من الصفات التي حث عليها الإسلام، ولا فرق في أن يكون المعاهد صديقاً أو عدواً، مسالماً أو محارباً، بل هو في العداوة والحرب أولى لما في ذلك من إظهار لأخلاق الإسلام، وبيان رفضه لأخلاق الغدر والخيانة ومحاربته لها.

باب الوفاء بالعهد

باب الوفاء بالعهد إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. الباب الخامس والثلاثون من كتاب الجهاد والسير: (باب الوفاء بالعهد). أي: باب وجوب الوفاء بالعهد.

شرح حديث: (انصرفا نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم)

شرح حديث: (انصرفا نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم) قال المصنف رحمه الله تعالى: [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة] وهو أخو عثمان وأخو القاسم. هم ثلاثة، وأبو بكر، أوثقهم وأعدلهم وأعلمهم وهو صاحب الكتاب العظيم المعروف بمصنف ابن أبي شيبة. قال: [حدثنا أبو أسامة - حماد بن أسامة - عن الوليد بن جميع حدثنا أبو الطفيل - عامر بن واثلة بن الأسقع - آخر من مات من الصحابة على الإطلاق- قال: حدثنا حذيفة بن اليمان -اليمان لقب، أما أبوه فاسمه حسل أو حسيل - قال حذيفة: (ما منعني أن أشهد بدراً إلا أني خرجت أنا وأبي حسيل قال: فأخذنا كفار قريش. قالوا: إنكم تريدون محمداً؟ فقلنا: ما نريده. ما نريد إلا المدينة)] حينما أراد أن يخرج من مكة هو وأبوه اعترضهم كفار مكة. قالوا: ما تريدون إلا أن تلحقوا بمحمد لتقاتلونا معه. قالوا: ما نريد محمداً إنما نريد أن ندخل المدينة. قال: [(فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه)] أي: إذا كنتم صادقين فيما تزعمون أنكم تريدون المدينة، ولا تريدون أن تلحقوا بمحمد وجيشه -عليه الصلاة والسلام- فأعطونا العهد والميثاق على ألا تقاتلونا مع محمد عليه الصلاة والسلام. قال: [(فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر فقال: انصرفا. نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم)]. قوله: (انصرفا) أي: لا تشاركانا في قتال قريش، وفاء لهم بعهدهم والتزاماً بميثاقهم، مع أنهم كفار ومشركون إلا أننا أعطينا العهد والميثاق ألا نقاتل، فيجب الوفاء والالتزام بهذا العهد، وهذا يدل على حرمة نقض العهد بغير مبرر. أما إذا نقض صاحب العهد معنا عهده فنحن لا نطالب باحترام العهد، بل نحن في حل من العهد، فإذا عاهد اليهود المسلمين أو النصارى المسلمين أو الكفار عموماً المسلمين في دار الحرب أو في دار السلم على قطع القتال وإعطاء الأمان مدة معينة من الزمان أو مدة غير معينة؛ فحينئذ يجب على الطرفين احترام العهد والميثاق، والأصل في المسلم ألا يغدر وألا يغش؛ فإن غدر العدو فهل يلزمنا نحن بعد ذلك الغدر؟ الجواب لا، فنحن لا نغدر في كل الأحوال، وإنما الذي يأتي منا بعد نقض العهد هو الرجوع إلى الأصل الأول قبل العهد، حتى لا يقال حينما غدر اليهود فغدر المسلمون، فلا يسمى رد فعل المسلمين على غدر اليهود بغدر، وإنما بمجرد وقوع الغدر تحلل الطرفان من الميثاق والعهد، فرجع المسلمون إلى الأصل الأول قبل العهد والميثاق، فحينئذ لا يقال لرد فعل المسلمين على اليهود بعد نقض عهدهم: (قد غدروا)؛ لأن المسلم لا يغدر في كل الأحوال؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (انصرفا) أي: يا حذيفة أنت وأبوك انصرفا. لا تقاتلا معنا؛ لأنكم أعطيتم العهد والميثاق. ثم قال علة ذلك: (نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم). أي: نفي لهم بعهدهم من قبلك أنت وأبيك، أما نحن فنستعين الله تعالى عليهم، وكان هذا الكلام في غزوة بدر.

كلام النووي على حديث حذيفة وأبيه في معاهدة كفار قريش

كلام النووي على حديث حذيفة وأبيه في معاهدة كفار قريش

حكم الكذب في الحرب

حكم الكذب في الحرب قال العلماء في هذا الحديث: (جواز الكذب في الحرب) لأن الحرب خدعة، إذ إن حذيفة قال كلاماً لم يرد حقيقته. أنتم تريدون أن تلحقوا بمحمد؟ قالوا: ما نريد محمداً إنما نريد المدينة، وهم في حقيقة الأمر ما أرادوا إلا محمداً عليه الصلاة والسلام، ولو كان محمداً في الحبشة أو في الشام أو في مصر لذهبوا إليه دون قصد البلد، وإنما قصدوه هو وقصدوا اللحاق به. فلما قالوا: ما نريد محمداً. فهذا في حقيقة الأمر كذب، لكنه من الكذب المباح؛ لأن الكذب أحياناً يكون مباحاً، والغيبة أحياناً تكون مباحة، كغيبة الفاسق المعلن فسقه فغيبته حينئذ ليست حراماً، بل أحياناً تكون واجبة، فلو أن امرأة سارت في طريق فيه قاطع طريق لقلنا لها: لا تسلكي هذا الطريق؛ لأن به فلان بن فلان وهو قاطع طريق. وهذا في حقيقة الأمر غيبة، ولكنه حينما سلك هذا المسلك الدنيء وهو قطع الطريق، وأعلن هذه المعصية ونتج عنها إيذاء أقوام قد سبقوا ومروا بهذا الطريق؛ فلا بأس حينئذ من إعلان فسقه دون أن يكون ذلك في وجهه. وكذلك تجوز الغيبة فيما يتعلق بالمصلحة العامة للمسلمين، وهو ما يسميه العلماء بالجرح والتعديل، تقول: فلان ضعيف. فلان منكر. فلان وضاع سراق. فلان يسرق الحديث، فلان لا يساوي شيئاً في الرواية وغير ذلك كل هذا من باب الغيبة، لكنها من الغيبة الجائزة حفاظاً على المصلحة العامة وعبادة المسلمين إلى قيام الساعة، ولولا جواز الغيبة في هذا الباب لاختلط الحابل بالنابل واختلط الصحيح بالضعيف، وما استطاع أحد أن يميّز ما كان من الدين أصلاً وما كان عليه دخيلاً، فأجاز العلماء بالإجماع الغيبة فيما يتعلق بإثبات العدالة من نفسها، وكذلك الكذب فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (الحرب خدعة) فلو لم يكن إلا الكذب جاز. والأولى من الكذب التعريض كما قال السلف: (إن في المعاريض مندوحة عن الكذب). ولا يصار إلى المعاريض إلا في أضيق الحدود، حتى لا يكون دين المرء كله معاريض، إذا علم عن إنسان أنه يستخدم المعاريض دائماً فلا شك أنه تسقط هيبته وتسقط الثقة بكلامه؛ وذلك لأنني مضطر أمام سماع كلام هذا الشخص الذي علم عنه استخدام المعاريض دائماً أن أسيء به الظن وأن أغربل كلامه غربلة: لعله يقصد كذا، ولعله يقصد كذا، ولعله يقصد كذا. أما المعاريض فالأصل فيها ألا تستخدم إلا في أضيق نطاق، وكذلك الكذب يجوز لدفع وقوع الظلم، وإن كان بعض أهل العلم قال: بل الصدق منجاة. فلو أنه دخل علي رجل مذعور مفزوع من ظالم أو طاغية يريد أن أستره في بيتي، فأتاني ذلك الظالم المعتدي الغاشم وقال: أعندك فلان؟ أفلان هنا؟ جاز لي أن أقول: ليس هنا. وهذا في حقيقته كذب، لكنه لدفع المضرة الأعظم وهي إهراق دم امرئ مسلم بغير حق. وثبت عن أحمد بن حنبل أنه عرض في فتنة خلق القرآن حينما دخل عنده رجل ممن كان على مذهبه وهو مذهب أهل السنة والجماعة ممن يقول بأن القرآن كلام الله ليس مخلوقاً، فلما تبعه أعوان السلطان في ذلك الزمان وكان المعتزلة ممن يقولون بخلاف قول أحمد رحمه الله فطرقوا عليه الباب. قالوا: أعندك فلان؟ فأشار الإمام أحمد بسبابته في باطن كفه اليسرى وقال: فلان ليس هنا. وهذا من باب المعاريض. أي: ليس في كفه أو في يده. وهذا استخدام للمعاريض للخروج قدر الإمكان من الكذب الصريح، لكن لو لم يكن من مخرج إلا الكذب في هذه المواطن لجاز الكذب؛ لأن الحرب خدعة كما قال النبي عليه الصلاة والسلام. وكذلك الكذب في الصلح بين المتخاصمين، كل من الخصمين يقول في صاحبه ما لو بلغه لاشتد حنقه وغضبه عليه، ولكنك تسمع من هذا الخصم كلاماً في صاحبه فتذهب وتقول: لقد قال فيك صاحبك أجمل كلام وأطيب كلام، وهو يبجلك ويحترمك ويحبك ويثني عليك الخير كله وغير ذلك. وعند تكرار ذلك يرق القلب، مع أن صاحبه ما قال شيئاً من ذلك، وهذا كذب صريح، لكن حينما كانت المصلحة منه أعظم من المفسدة لجأ الشرع إليها وأباح الكذب فيها. وكذلك الكذب على الزوجة لدوام العشرة وإلف الحياة، تقول لها: أنت جميلة، وما رأيت أجمل منك. وهي في حقيقة الأمر دميمة. كذلك تقول لها: ما أحلى طعامك! وما أحلى نظامك! وهي في الحقيقة لا تعرف طريق النظام ألبتة ولا تصنع شيئاً، وتقدم لك طعاماً لو وضع أمام القطط والفئران لا يأكلونه، ومع هذا أنت لا تمل أن تثني على هذا الطعام، ولو صنعت لك المرأة أحلى طعام هي وأنت والناس جميعاً يشهدون بأنه أحلى طعام، ولكنك قلت من باب الافتراء: طعامكِ هذا ليس بجيد، لما نسيت ذلك ما بقيت. فأنت تعلم أن المرأة دائماً تحب أن تنتقد الرجل، فإذا كان هذا معلوماً لديك فلماذا تغضب طالما أنك تعرف أن الأصل عندها أن الناس يغشونك ويخدعونك إذا اشتريت منهم شيئاً؟

أحكام الوفاء بالعهد مع الكفار

أحكام الوفاء بالعهد مع الكفار قال: (وفيه: وجوب الوفاء بالعهد) وإن كان هذا العهد مع الكفار، قد يلتزم المسلم مع نصراني مثلاً في العمل أو مع جاره في السكن بعهد وميثاق وإن كان شفوياً؛ لأن المسلم يقف عند كلامه، وآخر شيء يفكر المسلم فيه أن يرتبط بميثاق مكتوب؛ لأن اللسان هو الذي يربطك، فـ حذيفة وأبوه لم يكتبوا عهداً مع المشركين، وإنما هو عهد وميثاق باللسان. كثير منا يلتزم مع النصارى بشرط معين، ثم يكون هو الناقض له، وقد دعينا في أكثر من حادثة للأسف الشديد فوجدنا أن الأخ هو الذي نقض العهد، وهذا دين الله عز وجل فإما أن تلتزم ابتداء وتوفي بما التزمت به؛ لأن هذا هو دين الله، وإما ألا تلتزم من الأصل حتى لا تلام بعد ذلك، ويلام من معك من المسلمين، ويقال: إنكم تخفرون ذمة الله وتخفرون ذمة الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا توفون بعهد ولا ميثاق. فيحسب هذا على دينكم، والدين منه براء، فإما أن تلتزم بما التزمت به من عهد وميثاق بالأداء والمنع والترك وإما ألا تلتزم أصلاً فيكون الأمر أهون. قال: (وقد اختلف العلماء في الأسير يعاهد الكفار ألا يهرب منهم). أي ربما يأسر الكفار منا أسيراً، ويقولون له: أنت مسلم؟ يقول: نعم. فيقولون: أنت تلتزم بكلمتك، ودينكم يأمركم بذلك؟ يقول: نعم. فيقولون: إذاً: نتركك في الشارع هذا ونقول لك: لا تتحرك من هذا الشارع، وإذا تحركت للضرورة فارجع لنفسك مرة أخرى، فلن نقيدك بالقيود ونسلسلك بالأغلال ونغلق عليك الأبواب لأنك مسلم، فالتزم بعهدك وميثاقك. فهل لو تم هذا بين الأسير المسلم وبين كفار الحرب يلزم المسلم الوفاء به، أم يجوز له الهرب؟ قال: (فقال الشافعي وأبو حنيفة والكوفيون: لا يلزمه ذلك؛ والحجة لأننا في حالة حرب والحرب خدعة، فمتى أمكنه الهرب هرب. وقال مالك: يلزمه الوفاء بهذا العهد. واتفقوا على أنه لو أكرهوه فحلف ألا يهرب لا يمين عليه؛ لأن هذا يمين المكره. وأما قضية حذيفة وأبوه فإن الكفار استحلفوهما ألا يقاتلا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر فحسب، فأمرهما النبي عليه الصلاة والسلام بالوفاء، وليس هذا من باب الإيجاب). أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهما أن يفيا للمشركين بعهدهم وميثاقهم، وهو ليس على سبيل الوجوب؛ لأنه لا يجب الوفاء بترك الجهاد مع الإمام ونائبه؛ لأن هذا يتعارض مع وجوب طاعة الإمام، ولزومه في القتال، ولكن أراد النبي عليه الصلاة والسلام ألا يشاع عن أصحابه أنهم ينقضون العهد. وأنتم تعلمون أن المنافق مرتد، وأن الردة حكمها القتل: (من بدل دينه فاقتلوه). والنبي عليه الصلاة والسلام كان يعلم المنافقين بأعيانهم وذواتهم وأسمائهم، ومع هذا ما قتلهم حتى لا يشاع عنه أن محمداً يقتل أصحابه، فحينئذ يكون هذا باباً من أبواب الصد عن سبيل الله عز وجل؛ ولذلك الإسلام يحترم كلام الناس في كثير من الأحيان، وإذا كان كلام الناس يتعارض مع المصلحة العامة للإسلام والمسلمين، فلا بد أنه كلام معتبر، فقد قال عمر بن الخطاب: (يا رسول الله! مكني من فلان فلأقتلنه). وفي رواية: (فلأضربن عنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عمر! أتريد أن يقول الناس: إن محمداً يقتل أصحابه؟). ولو أشيع ذلك في الناس لخاف الكل من الدخول في الإسلام؛ لأنه ربما دخل في الإسلام فارتكب ما يوجب الكفر أو ارتكب ما يوجب القتل فقتله محمد عليه الصلاة والسلام، فحينئذ يخشى الناس ويفكرون ألف مرة قبل الدخول في الإسلام؛ لأنهم قادمون على القتل وليسوا قادمين على الإسلام. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (يا عائشة! لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لنقضت الكعبة وبنيتها على قواعد إبراهيم)؛ وذلك لأن النبي عليه الصلاة والسلام لو نقض الكعبة وبناها على القواعد الأولى لإبراهيم عليه السلام لقال المشركون واليهود والنصارى: انظروا إلى محمد هدم البيت المعظم، كما يقال: ما من ساقطة في الأرض إلا ولها لاقطة. ولا بد أن يتأثر بهذه الفرية بعض الناس، فيكون هذا باباً من أبواب الصد عن سبيل دخول هؤلاء في دين الله عز وجل، فترك النبي صلى الله عليه وسلم ذلك حتى لا يصد الناس عن الإسلام. وكذلك قال لـ حذيفة وأبيه: التزما الوفاء بعهد قريش ولا تقاتلا معنا في بدر؛ لأنكما أعطيتماهم العهد والميثاق، ولو خفرتما هذا العهد والميثاق لقال الناس: إن محمداً وأصحابه ينقضون العهود والمواثيق. وفي هذا إسقاط لمنزلة النبي عليه الصلاة والسلام في قلوب العرب، وفي قلوب المشركين الذين كانوا يدعونه قبل الإسلام بالصادق المصدوق.

باب غزوة الأحزاب

باب غزوة الأحزاب الباب السادس والثلاثون: (باب غزوة الأحزاب). غزوة الأحزاب في مذهب جماهير العلماء كانت في العام الخامس من الهجرة. وقيل: بل كانت في العام الرابع. قال ذلك مالك ووافقه على ذلك الإمام البخاري، فأورد في صحيحه في كتاب السير والمغازي: أن غزوة الأحزاب كانت في العام الرابع من الهجرة. وهذا كلام يخالف كلام جماهير العلماء، بل قد انفرد به ثلاثة فقط من أئمة العلم، أما جماهير العلماء فاتفقت كلمتهم على أن غزوة الأحزاب في السنة الخامسة من الهجرة، وهي المعروفة بغزوة الخندق. وفي المدينة جبل يسمى جبل سَلع أو سِلع، وأنتم تعلمون أن اليهود كان يسكنون المدينة، وهم: يهود بني النضير، ويهود بني قينقاع، ويهود بني قريظة، وكان بينهم وبين النبي عليه الصلاة والسلام عهد وميثاق، فلما خفر بنو النضير عهدهم وميثاقهم أمهلهم النبي عليه الصلاة والسلام ثلاثة أيام حتى يخرجوا من المدينة، ولا يخرجون إلا بما تحمله إبلهم وأما فوق ذلك فلا، فأجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن المدينة تماماً، ونزلوا في جهة الشام عند خيبر وما بعدها من البلدان، وأما بنو قريظة فالتزموا بعهدهم مع النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن بني النضير لما أُجلوا عن المدينة ذهبوا إلى قريش في مكة، وألبوا المشركين على النبي عليه الصلاة والسلام، وأعطوا العهود والمواثيق لقريش أنهم سيجتمعون معهم لقتال محمد عليه الصلاة والسلام، فلما أقنعوا قريشاً وصناديد الشرك في مكة بقتال محمد عليه الصلاة والسلام اتفقوا على ذلك، فانطلق يهود بني النضير إلى غطفان وأقنعوهم بأن الحرب قادمة، وأن محمداً وأصحابه على وشك الانتهاء والإزالة من على وجه الأرض. والشاهد من ذلك: أن غطفان اقتنعت بهذه الخطة، فانضم صوت غطفان إلى قريش وبني النضير، ثم انطلق اليهود إلى بني فزارة ثم بني مرة؛ فأقنعوهم بالخطة وتحزب الأحزاب لقتال النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يبق أمام بني النضير إلا إقناع بني قريظة عن طريق سيدهم كعب بن أسد القرظي فلا زال يهود بني النضير بـ كعب بن أسد حتى أقنعوه بالاشتراك في الحرب على أن يكون يهود بني النضير والأحزاب يقاتلون من خارج المدينة، ويقاتل بنو قريظة في الجبهة الداخلية، فأرسل النبي عليه الصلاة والسلام سعد بن معاذ ليأتيه بخبر هؤلاء. وفي هذا: جواز استخدام الجواسيس والعيون لمعرفة أخبار العدو، وكان الأحزاب عشرة آلاف، والمسلمون ثلاثة آلاف، فلما نزل النبي صلى الله عليه وسلم منزله قال له سلمان الفارسي: (يا رسول الله! أهذا منزل أنزلكه الله عز وجل، أم هو الرأي والمشورة؟ قال: بل هو الرأي والمشورة. قال: ليس هذا بمنزل. اذهب بنا إلى مكان كذا، نحفر لهم خندقاً ونجعل الجبل -أي: جبل سلع- في ظهرنا) فاستحسن النبي صلى الله عليه وسلم الفكرة وكانت جديدة على العرب؛ لأن أمر حفر الخنادق ليس من شأن العرب، بل هو من شأن العجم، وسلمان فارسي من بلاد فارس، فاستحسن النبي صلى الله عليه وسلم الفكرة ونزل على مشورة سلمان. وفي هذا: استخدام الشورى، وأن الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق بها. اشترك النبي عليه الصلاة والسلام مع أصحابه في حفر الخندق اشتراكاً فعلياً، حتى غطى التراب صدره وبطنه وشعره، وكان النبي عليه الصلاة والسلام كثير الشعر، وحينما ضرب أحد أصحابه بفأسه حجراً استعصى عليه الحجر، ولم يجد من يشكو له صعوبة الحجر إلا النبي عليه الصلاة والسلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنا آتيك، وأخذ فأسه وضرب الحجر ضربة ثم نظر فيه وقال: (إني لأرى سواري كسرى وقيصر). في هذا الموقف العصيب يبشرهم النبي عليه الصلاة والسلام بأن ملك كسرى وقيصر سيئول إلى المسلمين. يقول جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه: (لقد نزل بنا من الجوع ما الله به عليم، وإني لأنظر إلى بطن النبي صلى الله عليه وسلم قد غطاها التراب، قد التصق لحمه بعظمه من شدة الجوع حتى إنه ربط الحجر على بطنه، فقلت: يا رسول الله! ائذن لي. فأذن لي فذهبت إلى امرأتي وقلت لها: هل عندكم من طعام؟ قالت: عندنا عجين لم نعجنه بعد، وعندنا عنز قائمة. فقال: اذبحي العنز واعجني العجين، ثم لحقت بالنبي عليه الصلاة والسلام فقال: أين كنت؟ قلت: آمر امرأتي أن تذبح العنز وأن تعجن العجين. قال: أعجنته؟ قلت: بعد يا رسول الله! -أي: لم تفعل- قال: اذهب إليها وائتني بعجينها، فذهبت فأتيت بالعجين، فبرك عليه النبي صلى الله عليه وسلم فلا زالت تخبز منه حتى أكل منه الجيش كله، وأما اللحم فوضع في القدر حتى طهي فبرك عليه النبي عليه الصلاة والسلام حتى أكل منه الناس جميعاً وبقي اللحم كما هو). وهذه معجزة ظاهرة للنبي عليه الصلاة والسلام، وكانوا ثلاثة آلاف رجل. وكان النبي عليه الصلاة والسلام يحفر مع أصحابه، وأصحابه يقولون ويرتجزون: نحن الذين بايعوا محمداً على الجهاد ما

شرح حديث حذيفة بن اليمان في غزوة الأحزاب

شرح حديث حذيفة بن اليمان في غزوة الأحزاب قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا زهير بن حرب وإسحاق بن إبراهيم جميعاً عن جرير -وهو ابن عبد الحميد الضبي الكوفي - قال زهير: حدثنا جرير عن الأعمش سليمان بن مهران عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: (كنا عند حذيفة فقال رجل: لو أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلت معه وأبليت. فقال حذيفة: أنت كنت تفعل ذلك؟)] وهذا ما نحدث به أنفسنا الآن. فالواحد منا حينما يسمع عن غزوة الأحزاب، وما نزل بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من البلاء يتمنى لو أنه كان معهم، وهو في الحقيقة لو كان معهم لكان أول المخذولين، وربما يكون سبب الهزيمة. هل كنت تستطيع على فعل مثل هذا؟ لو علم الله فيك خيراً لجعلك من أهل القرن الأول وجعلك من أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم. قال عبد الله بن مسعود: إن الله نظر في قلوب العباد فوجد أن أطهرهم قلباً هو قلب محمد عليه الصلاة والسلام فاصطفاه لرسالته، ثم نظر في قلوب العباد فوجد أن قلوب أصحابه أطهر القلوب فاصطفاهم لصحبته، فهم أعظم الناس عبادة، وأقل الناس تكلفاً، وأكثر الناس علماً إلى غيرها من الأوصاف التي ذكرها عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. سمع حذيفة رجلاً يقول: لو أني مع النبي محمد صلى الله عليه وسلم لكنت فعلت كذا وكذا وكذا، وكنت سأنصره نصراً مؤزراً. قال حذيفة: أنت كنت تفعل شيئاً من ذلك؟ وكأنه يريد أن يقول له: هل أنت متصور أنك لو كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم لكنت أشد بلاءً وأكثر تحملاً من أصحابه؟ لا والله لا يكون، فالصحابة رضي الله عنهم قد بذلوا المهج، بذلوا النفس والنفيس والغالي والرخيص في سبيل نصرة النبي عليه الصلاة والسلام وتعزيره وتأييده، وفي سبيل رفع راية التوحيد، وقد خدموا دينهم أعظم خدمة، قدموا فيه الولد والوالد والمال، وقدموا فيه كل شيء، كان كل واحد منهم إذا تعارض دينه أو ما يملك من المال والأهل والنفس والولد مع الدين قدم الدين، وهذا فارق جوهري بيننا وبين أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام. قال حذيفة: (أنت كنت تفعل ذلك؟). وهنا الإمام مسلم ما أراد أن يذكر الغزوة بجميع تفاصيلها، ولكنه أراد أن يذكر مشهداً واحداً من مشاهد البطولة والشهامة والإيمان لأصحابه عليه الصلاة والسلام. قال حذيفة: (لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب وأخذتنا ريح شديدة وقر) والقر هو: البرد. وهذا يدل على أن هذه الغزوة كانت في الشتاء. قال: [(لقد أخذتنا ريح شديدة وقر، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ألا رجل يأتيني بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة؟)]. أي: هل هناك عين؟ والعين يجعلها اللغويون من ألفاظ الاشتراك، أي أن لها معانٍ متعددة، ويفهم معناها المراد من السياق، فعندما تقول: شربت من العين، فالعين هنا: عين مائية. وعندما تقول: نظرت بالعين فالعين هنا العين المبصرة. وعندما تقول: أرسلت عيناً ليأتيني بالأخبار. فالعين هنا المقصود به: الجاسوس وهكذا فالعين من الألفاظ المشتركة التي لها معانٍ متعددة، ويفهم المعنى المراد من السياق. قال النبي صلى الله عليه وسلم: [(ألا رجل يأتيني بخبر القوم؟)] أليس فيكم أحد مستعد لأن يذهب ويتجسس على العدو، ويأتيني بالأخبار؟ قال: (فلم يجبه أحد)]؛ وذلك لوجود البرد والرياح الشديدة والظلام. قال: [(فسكتنا)] طبعاً يسكتون على مضض، فهم يريدون هذه الدرجة لكن ليس باستطاعتهم دفع الثمن، فالرياح شديدة جداً والبرد شديد كذلك. قال: [(فلم يجبه منا أحد. ثم قال: ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة؟ فسكتنا. فلم يجبه منا أحد، فقال: قم يا حذيفة!)]. فهل يسع حذيفة أن يقول: اعذرني يا رسول الله! وابعث محمد بن مسلمة أو ابعث المغيرة بن شعبة، أو أبو بكر هو خير الناس فابعثه؟ لا. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات:1] حينئذ يحرم على أحد أن يرد على النبي صلى الله عليه وسلم حياً أو ميتاً، يحرم عليك أن ترد على سنته، أو تؤولها على غير ما يحتمله النص، أو تلحد في أسماء الله تعالى وصفاته، أو تصرف كلام النبي صلى الله عليه وسلم عن مراده كما يفعله الملاحدة الآن والمجرمون والعلمانيون. ما سمعنا الشافعي قال لـ أحمد بن حنبل: أتحداك، أو أحمد قال للشافعي: أتحداك. أو إماماً قال لإمام: أتحداك.

باب غزوة أحد

باب غزوة أحد

شرح حديث أنس: (ما أنصفنا أصحابنا)

شرح حديث أنس: (ما أنصفنا أصحابنا) قال: [حدثنا هداب بن خالد الأزدي -وهداب: لقب، والاسم: هدبة، وقيل: هدبة لقب، واسمه: هداب - قال: حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد وثابت البناني] وعلي بن زيد هو علي بن زيد جدعان وهو راوٍ ضعيف، والإمام مسلم لم يرو عنه فحسب، بل جعل ثابت البناني متابعاً له، فقال: حماد بن سلمة عن علي بن زيد وثابت البناني. إذاً: علي بن زيد وثابت البناني في طبقة واحدة. ستقول: فكيف يروي مسلم عن الضعفاء؟ أقول: هو لم يعتمد على رواية الضعيف بل اعتمد على رواية الثقة وهو ثابت البناني. هب أن حماد بن سلمة روى هذا الحديث عن ثابت البناني عن أنس، فهنا سيكون صحيحاً. إذاً: زيادة علي بن زيد لا تؤثر؛ فاعتبر أن علياً ليس في السند. [عن أنس بن مالك: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش)]. أي: أن المشركين استفردوا بالنبي عليه الصلاة والسلام ولم يكن معه في ناحيته إلا سبعة من الأنصار، واثنان من المهاجرين. قال: [(فلما رهقوه)] أي: غشوه. وقيل: كلمة رهقوه لا تقال إلا في الشر؛ لأن كلمة أدركوه تقال في الخير والشر، تقول: أدركت فلاناً لأقتله، كما تقول: أدركت فلاناً لأكرمه. لكن قولك: (رهقت فلاناً). أي: أرهقته وأدركته لأوجعه ضرباً. فقال: (فلما رهقوه) أي: تمكنوا منه وكادوا يقتلونه، قال النبي عليه الصلاة والسلام: [(من يردهم عنا وله الجنة أو هو رفيقي في الجنة؟)]. ولذلك بادر واحد من الأنصار السبعة رضي الله عنهم إلى الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان الثمن هو الجنة فنعم الثمن هو، ولو كان ذلك في مقابل النفس والمال. قال: [(فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل -أي: حتى قتله المشركون- ثم رهقوه ثانية فقال: من يردهم عنا وله الجنة أو هو رفيقي في الجنة؟ فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة)] وهذه منقبة عظيمة جداً للأنصار، فالنبي عليه الصلاة والسلام تمنى لو أنه كان أنصارياً، والمعلوم أن المهاجرين أفضل من الأنصار بنص القرآن الكريم، وأن القرآن أثنى على المهاجرين أولاً ثم ثنى بالثناء على الأنصار، وهذا لا ينفي أن الأنصار لهم المنزلة السامية والمكانة الرفيعة المرموقة في الإسلام وعند الله عز وجل؛ ولذلك جعل النبي عليه الصلاة والسلام حب الأنصار دليلاً وعلامة وآية وأمارة على الإيمان. قال: (لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق). ولما وزع النبي صلى الله عليه وسلم غنائم بعض الغزوات على المهاجرين تارة وعلى المشركين الذين أسلموا تارة وغير ذلك، ولم يعط الأنصار شيئاً، تكلم الأنصار فيما بينهم: إن محمداً صلى الله عليه وسلم أعطى قومه ولم يعطنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم يطيب خاطر الأنصار ويبين مكانتهم في الإسلام: (يا معشر الأنصار! ألستم قلتم كذا وكذا؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: أما ترضون أن يرجع الناس إلى رحالهم بالدينار والدرهم وترجعون أنتم برسول الله صلى الله عليه وسلم؟). قال أنس [: (فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه -أي: للقرشيين-: ما أَنصَفْنا أصحابَنا)] أي: أنه حيث دفعناهم واحداً تلو الآخر حتى قتلوا جميعاً، وكان ينبغي أن يدخل المهاجرون بين الأنصار؛ فقال: (ما أنصفنا أصحابنا) حيث اندفعوا جميعاً. أي: كان ينبغي أن تدفعوا بأنفسكم في القتال والدفاع، ولا تنتظروا حتى يقتل آخر أنصاري. وفي رواية: قال: (ما أنصفنا أصحابنا) أي: أصحابنا الذين تخلوا عنا، لا يقصد الأنصار، وإنما يقصد من فر وترك النبي صلى الله عليه وسلم.

شرح حديث سهل بن سعد في ذكر جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد

شرح حديث سهل بن سعد في ذكر جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد قال: [حدثنا يحيى بن يحيى التميمي حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم - أبو حازم هو سلمة بن دينار - عن أبيه أنه: (سمع سهل بن سعد الساعدي يسأل عن جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد؟ فقال: جرح وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكسرت رباعيته)]. والرباعية: هو السن سواء كان في الفك العلوي أو السفلي قبل الناب وبعد القاطعين. قال: [(وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه -وفي رواية: وكسرت البيضة- على رأسه، فكانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تغسل الدم، وكان علي بن أبي طالب يسكب عليها بالمجن، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة حصير فأحرقته حتى صار رماداً، ثم ألصقته بالجرح فاستمسك الدم)] فهذا طب قديم وهو أحسن من الطب الحديث. أي: أنها ظلت تغسل الجرح، وكلما غسلته زاد نزيفاً، فأتت بقطعة حصير ثم أحرقتها حتى صارت رماداً، فوضعتها على الجرح، فوقف الدم. وهذا بقدرة الله. قال: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا يعقوب -يعني: ابن عبد الرحمن القاري - عن أبي حازم: (أنه سمع سهل بن سعد، وهو يسأل عن جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أَمَ والله إني لأعرف من كان يغسل جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن كان يسكب الماء)] فالذي كان يغسل جرحه فاطمة، والذي كان يسكب الماء هو علي بن أبي طالب. قال: [(وبماذا دووي جرحه؟)] دووي بقطعة الحصير. [ثم ذكر نحو حديث عبد العزيز غير أنه زاد: (وجرح وجهه وقال (مكان هشمت): كسرت)]. قال: [وحدثناه أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب وإسحاق بن إبراهيم وابن أبي عمر جميعاً عن سفيان بن عيينة (ح) وحدثنا عمرو بن سواد العامري أخبرنا عبد الله بن وهب أخبرني عمرو بن الحارث المصري عن سعيد بن أبي هلال المصري. وحدثني محمد بن سهل التميمي حدثني ابن أبي مريم حدثنا محمد -يعني: ابن مطرف - كلهم عن أبي حازم عن سهل بن سعد بهذا الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام. في حديث ابن أبي هلال: (أصيب وجهه عليه الصلاة والسلام)، وفي حديث ابن مطرف: (جرح وجهه)].

كلام النووي في شرح أحاديث غزوة أحد

كلام النووي في شرح أحاديث غزوة أحد

وقوع الابتلاء بالأنبياء وبيان الحكمة من ذلك

وقوع الابتلاء بالأنبياء وبيان الحكمة من ذلك قال الإمام: (وفي هذا -أي الحديث- وقوع الانتقام والابتلاء بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لينالوا جزيل الأجر). هل هناك أشرف من النبي عليه الصلاة والسلام؟ لا أحد، ومع هذا نزل به وحل به في غزواته من البلاء ما لا يمكن لأحدنا أن يطيقه وهو نبي الله وهو حبيب الله، ولن يضيعه الله، ومع هذا نزل به ما قد سمعتم، حتى لا يقال: إذا كان هؤلاء مؤمنين حقاً وعلى حق فلم فعل الله بهم كذا وكذا؟ فهذه سنة الله تعالى في الخلق، (وأشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل). والنبي عليه الصلاة والسلام في الأمور البشرية مثله مثل غيره بل زيادة، أليس هو الذي قال: (إني أوعك كما يوعك رجلان منكم)؟ أي: حينما تنزل بي الحمى والمرض تنزل بي الآلام مضاعفة كما لو كان اثنان منكما قد نزل بهم الضر، وهو نبي الله بمنطق العصر أو بمنطق أهل الدنيا، أو بمنطق من لا علم له بالسنن الكونية. قد يقول قائل: إذا كان هذا هو النبي حقاً فإنه لا يمرض ولا ينزل به البلاء. فاستمراراً لهذه الغفلة نقول: إذا كان هو النبي حقاً فكان لزاماً عليه أن يجلس في بيته وأن يدعو ربه، فإن دعاء الأنبياء مستجاب، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام كان يشارك في الصفوف المقدمة بقتال العدو حتى يسن ذلك لأمته، وكان بإمكانه أن يجلس في برج من عاج، ولكنه لم يفعل ذلك؛ ليكون قدوة لكل من تولى إمرة الإسلام والمسلمين من بعده، ولكن الأمة خالفت فوقعت فيما وقعت فيه. قال: (وفي هذا وقوع الانتقام والابتلاء بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لينالوا جزيل الأجر، ولتعرف أممهم وغيرهم ما أصابهم ويتأسوا بهم. قال القاضي عياض: وليعلم الناس أنهم من البشر تصيبهم محن الدنيا، ويطرأ على أجسامهم ما يطرأ على أجسام البشر، ليتيقنوا أنهم مخلوقون مربوبون، ولا يفتتن بما ظهر على أيديهم من المعجزات، وتلبيس الشيطان من أمرهم ما لبسه على النصارى وغيرهم). فالنصارى زعموا أن عيسى إله. ومنهم من زعم أنه ابن الله لما رأوا على يدي عيسى عليه السلام من المعجزات وخوارق العادات، فقالوا: هذا لا يمكن أن يتم على يد بشر، هذا لا بد أنه إله، أو أنه ابن الله، والله أراد أن يكرم ولده. تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً. فأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يبين لهم وأراد الله تعالى أن يبين لهذه الأمة أن النبي صلى الله عليه وسلم مثلكم في بشريته كما أنكم بشر، فينزل به المرض والابتلاء، وينال منه العدو، وينال من العدو، والحرب سجال ينال منا وننال منه وغير ذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم في هذا كغيره من الناس. وفي مجموع هذا كله دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر، فأنتم تعلمون: إلى الآن أن بعض غلاة الصوفية يعدون النبي صلى الله عليه وسلم إلهاً. بل منهم من يقول: هو أول خلق الله. ونسمع هذا كثيراً في إذاعة القرآن الكريم التي ما أنشئت إلا لنشر التصوف في الأمة، يقولون: يا أول خلق الله! ويا نور عرش الله! فهل النبي صلى الله عليه وسلم هو نور عرش الله؟ ويعتمدون على الحديث الموضوع حديث جابر: أول ما خلقت نور نبيك يا جابر! وهذا حديث موضوع مكذوب لا قيمة له، فنحن نسمع الناس في هذا الوقت يقولون: يا أول خلق الله! ويا نور عرش الله! فما هو الفرق بين هذا القول وبين قول النصارى: عيسى ابن الله؟ هذا ضلال وذاك ضلال. وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، فقال: وما أكتب. قال: اكتب كل شيء إلى قيام الساعة، فجرى القلم بما هو كائن إلى قيام الساعة). وهذا نص صريح أن أول المخلوقات هو القلم. وهناك خلاف: هل القلم أول المخلوقات أم العرش؛ لقول الله تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود:7]. على أية حال ليس هذا أوان البحث في هذه المسألة، ولكنا أردنا أن نبين أنه قد لُبس على بعض المسلمين في أوصاف للنبي عليه الصلاة والسلام، فذكروا أوصافاً ليست له لا في الكتاب ولا في السنة. فليتق الله أقوام يجعلون للرسول ما هو خاص لله، ويجعلون لمن دون الرسول صلى الله عليه وسلم ما هو خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم، ولكل ذي حق حقه!!

اتخاذ الأسباب ليس قادحا في التوكل

اتخاذ الأسباب ليس قادحاً في التوكل قال: (وفي هذا الحديث: استحباب لبس البيضة والدروع على الرأس والصدر، وهو من أسباب التحصن في الحرب، وأنه ليس بقادح في التوكل). وهذا الأمر خالفت فيه الصوفية أيضاً. فالصوفية يقولون: إن الأخذ بالأسباب يتنافى مع التوكل. أرأيتم البلوى؟ لو كان أخذ الأسباب يتنافى مع التوكل لما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم -وهو أحب الخلق إلى الله- بسبب واحد، ولما أمرنا أن نتوكل على الله حق توكله، فحينئذ يرزقنا ولا نتخذ الأسباب، إن التوكل على الله بغير اتخاذ الأسباب إنما هو تواكل وضعف وفساد في الاعتقاد، فالواجب عليك أن تأخذ الأسباب ولا تعتمد عليها، بل تعتمد على الله عز وجل. والعلماء يقولون: الاعتماد على الأسباب شرك بالله. وترك الأسباب قدح في التوحيد. مثال ذلك: إذا تزوجت فقد التمست أسباب تحصيل الولد، وليس من اللازم أن ترزق الولد، ولكن في المقابل لا يقول أحد: إذا كان الله قدر لي الولد فإنه سيرزقني الولد بغير زوجة! كما أنك لو كنت جائعاً لا تأكل. فقد يزعم شخص التوكل في أمر حبله طويل، وإن كان حبله قصيراً فإنه لا يستطيع، كالجماعة الكرماوية الذين يلبسون عمائم خضراء وكوفيات خضراء ويخضبون لحاهم بالأخضر. فهؤلاء شغلهم الشاغل أنه لا يوجد شيء اسمه أسباب؛ ولذلك يتركون العمل فتراهم لا يعملون. قيل لي ذات مرة: نريدك أن تناقش شخصاً، فذهبت لأناقشه، أقسم بالله العظيم حينما رأيت والده كأنني رأيت شيطاناً لا إنسياً، فجلست مع والده أكثر من ساعتين انتظاراً لخروج ولده من غرفته التي أغلق بابها عليه، فقلت لأبيه: دعني أكسر الباب وأدخل عليه قال: لا. هو سيخرج بنفسه. فإذا به خرج وقال: ماذا تريد؟ قلت له: أريد أن أعرف مذهبك فإذا وجدت أنه حق اتبعته. فهش وبش وقال لي: كنت في الغرفة وقد تأخرت عليك، وما أخرني عنك -والله- إلا جبريل. فقلت له: جبريل ينزل عليك؟ قال: نعم. قلت له: هذا عدو اليهود من الملائكة. قال: أنت يهودي؟ قلت: لا. أنا مسلم والحمد لله. فقال: أنت مسلم على ملة محمد أم على ملة الرجل الصالح؟ قلت: أنا مسلم على ملة الرجل الصالح محمد صلى الله عليه وسلم. فقال: إما هذا وإما ذاك. قلت: ومن الرجل الصالح؟ قال: إذا دخلت في ديني عرفت هذا الرجل. فقلت: ومن الرجل الصالح؟ قال: رجل من السويس، لا يمكن الوصول إليه إلا إذا آمنت بمبادئه. وصار يعدد المبادئ، منها وأعظمها: ترك الأسباب؛ لأنه يتنافى مع التوكل. وهذا الشاهد من القصة كلها، فالقصة طويلة ولا أريد أن أضيع وقتكم، لكن هذه الكرماوية، وأشهد بالله أنهم خرجوا من الملة بما يقولون ويعتقدون أن جبريل ينزل عليهم، والحقيقة أن الذي ينزل عليهم هو الشيطان وليس جبريل، فقد انقطع نزول جبريل بالوحي على محمد عليه الصلاة والسلام بعد موته. فالصوفية منهم من يقول بهذا المذهب ويعتقد أن اتخاذ الأسباب يقدح في التوكل، فترى الواحد منهم يهيم على وجهه في الصحراء ويسافر المفاوز والجبال بغير أن يتخذ له زاداً أو طعاماً وشراباً. لماذا؟ يقول: لأن هذا يتنافى مع التوكل. وطبعاً هذا كلام فاسد في غاية الفساد، ولو أنك في الحقيقة تقول: إن اتخاذ الأسباب يتنافى مع التوكل، فلا تتزوج واطلب الولد بغير زواج، واطلب الشبع والري بغير طعام ولا شراب، فإن هذه الاعتقادات الفاسدة جعلت جماعة الكرماوية يسطون على المحلات، ويسرقون محلات الذهب ومحلات الطعام والشراب وغير ذلك. حضرنا ذات مرة في بيت محمد الكرماوي الكبير زعيم الكرماوية، ولم نكن نعرف أنه هو الرجل الصالح، وهو سويسي ومن سكان شبرا، والمشهور أن شبرا من أماكن الفتن. أقول: لم أعرف ماذا قالوا بعد حضرة طويلة، وكان هذا سنة (1982م)، فقمت وقلت له: يا شيخ محمد! وما هو الدليل على هذا؟ ولم أفق إلا في الشارع من ضربهم لي. فقلت: هل من المعقول أن النبي الجديد يعامل الناس الذين يريدون أن يتبعوه بهذه المعاملة؟ فهذا سيصبح ديناً فاسداً، فالنبي عليه الصلاة والسلام لم يكن يضرب أحداً ولم يكن يؤذي أحداً، بل كان يواسي كل من أتاه عليه الصلاة والسلام. فالأصل أن المرء يفر من مواطن البدع كما يفر من الأسد، لكننا ما عرفنا أن هذا أصل من أصول أهل السنة إلا حينما قرأنا في أصول أهل السنة، لـ ابن بطة واللالكائي، وأصول السنة للإمام أحمد وولده عبد الله، والخلال وغير ذلك من الكتب العظيمة جداً التي صنفت في أصول السنة.

إثبات أن المداواة ومعالجة الجراح لا تنافي التوكل

إثبات أن المداواة ومعالجة الجراح لا تنافي التوكل قوله: (يسكب عليها بالمجن) أي: يصب عليها بالترس. والترس: هو الإناء الذي يوضع فيه الماء. وفي هذا الحديث: إثبات المداواة، ومعالجة الجراح، وأن ذلك لا يقدح في التوكل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله مع قوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58]

شرح حديث أنس (كيف يفلح قوم شجوا نبيهم)

شرح حديث أنس (كيف يفلح قوم شجوا نبيهم) قال: [حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد وشج في رأسه)] شج أي: قطع الجلد، ولو كان كسر لقال: كسر عظم رأسه. قال: [(فجعل يسلت الدم عنه -أي: يزيل الدم عن الجرح- ويقول: كيف يفلح قوم شجوا نبيهم وكسروا رباعيته؟)] قد يكون هذا موجهاً إلى أصحابه الذين تخلوا عنه، أو غفلوا عن حراسته في هذه الحرب حتى نزل به ما نزل، فيكون هذا من باب التقريع والزجر لهم، ولفت الأنظار ألا يبرحوه. ومذهب الجماهير: أن هذا تقريع لقريش الذين شجوا رأسه وكسروا رباعيته عليه الصلاة والسلام، وأنه منهم أو أنه ابن لهم، باعتبار الأمر الأول: (كيف يفلح قوم شجوا نبيهم) أي: النبي الذي خرج منهم وهو ابنهم. قال: [(وهو يدعوهم إلى الله، فأنزل الله عز وجل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128])].

شرح حديث ابن مسعود: (رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)

شرح حديث ابن مسعود: (رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) قال: [حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا وكيع حدثنا الأعمش عن شقيق -وهو أبو وائل شقيق بن سلمة الكوفي - عن عبد الله قال: (كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: رب! اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)]. وهذا يدل على مزيد شفقته عليه الصلاة والسلام على قومه. هل منا أحد يقول ذلك؟ لو أن أباك المسلم ضربك وشجك وكسر رباعيتك فإنك ستدعو عليه مع أنه أبوك ومع أنه مسلم، فانظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال لهؤلاء المشركين يدعو لهم: [(اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)] وهذا منتهى الشفقة والرحمة والرأفة، وهو ينضح الدم عن جبينه. قال: (وفي هذا: بيان ما كانوا عليه صلوات الله وسلامه عليهم من الحلم والتصبر، والعفو والشفقة على قومهم، ودعائهم لهم بالهداية والغفران، وعذرهم في جنايتهم على أنفسهم بأنهم لا يعلمون، وهذا النبي المشار إليه من المتقدمين، وقد جرى لنبينا صلى الله عليه وسلم مثل هذا يوم أحد).

باب اشتداد غضب الله على من قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم

باب اشتداد غضب الله على من قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم الباب الثامن والثلاثون: (باب اشتداد غضب الله على من قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم). أي: أن الله تعالى اشتد غضبه على من قتله نبي من الأنبياء. قال: [حدثنا محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اشتد غضب الله على قوم فعلوا هذا برسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو حينئذ يشير إلى رباعيته- وقال النبي عليه الصلاة والسلام: اشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله في سبيل الله عز وجل)]. التقييد بأن هذا القتل كان في سبيل الله احترازاً ممن قتله رسول الله في حد أو قصاص؛ لأن هذا ليس محلاً لغضب الله، بل هو محل سعة رحمة الله عز وجل، فالذي ارتكب ما يوجب الحد أو القصاص فأقيم عليه الحد غفر له ذنبه، ومغفرة الذنب تتنافى مع غضب الله عز وجل. فقوله: (لقد اشتد غضب الله على رجل قتله رسول الله في سبيل الله) احتراز ممن قتله رسول الله في حد أو قصاص، وإنما شدة الغضب على من قتله النبي صلى الله عليه وسلم يكون قتله في سبيل الله. أي: في ساحة القتال؛ وذلك لأن هذا المقتول الذي قتل بيد الرسول صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على قتل الرسول عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك اشتد غضب الله عز وجل عليه. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد.

كتاب الجهاد والسير - ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى الكفار والمنافقين - قتل أبي جهل - قتل كعب بن الأشرف

شرح صحيح مسلم - كتاب الجهاد والسير - ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى الكفار والمنافقين - قتل أبي جهل - قتل كعب بن الأشرف أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، وكان أشد الخلق بلاء سيد ولد آدم محمداً صلى الله عليه وسلم، فقد لاقى من أذى المشركين والمنافقين ما تعجز عن حمله الجبال، ومع ذلك صبر عليهم وأخذهم بالعفو والصفح رجاء أن يخرج من ظهورهم من ينصر الله به دينه ويعلي كلمته، وأما من سبق في علم الله موتهم على الكفر من صناديد الكفر فقد جعل الله قتلهم عبرة للمعتبرين، وآية للمتفكرين.

باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين

باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. هذا الباب التاسع والثلاثون من كتاب الجهاد والسير: (باب: ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين).

شرح حديث ابن مسعود في وضع المشركين لسلا الجزور على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم

شرح حديث ابن مسعود في وضع المشركين لسلا الجزور على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا عبد الله بن عمر بن محمد بن أبان الجعفي قال: حدثنا عبد الرحيم -يعني: ابن سليمان - عن زكريا بن أبي زائدة عن أبي إسحاق السبيعي عن عمرو بن ميمون الأودي عن ابن مسعود رضي الله عنهما قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند البيت، وأبو جهل وأصحاب له جلوس، وقد نحرت جزور بالأمس فقال أبو جهل: أيكم يقوم إلى سلا جزور بني فلان فيأخذه فيضعه في كتفي محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم فأخذه، فلما سجد النبي صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه. قال: فاستضحكوا وجعل بعضهم يميل على بعض وأنا قائم أنظر -أي: ابن مسعود - لو كانت لي منعة طرحته عن ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم ساجد ما يرفع رأسه، حتى انطلق إنسان فأخبر فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءت وهي جويرية -تصغير جارية- فطرحته عنه ثم أقبلت عليهم تشتمهم، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته رفع صوته ثم دعا عليهم، وكان إذا دعا دعا ثلاثاً وإذا سأل سأل ثلاثاً، ثم قال: اللهم عليك بقريش ثلاث مرات، فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك وخافوا دعوته. ثم قال: اللهم عليك بـ أبي جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عقبة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط، وذكر السابع ولم أحفظه)]. جاء في رواية أخرى عند البخاري: أن هذا السابع هو عمارة بن الوليد. قال: (فوالذي بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق لقد رأيت الذين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى القليب -أي: البئر الذي حُفر لهم- قليب بدر). [قال أبو إسحاق: الوليد بن عقبة غلط في هذا الحديث]. أي: أن ذكر الوليد بن عقبة خطأ من الراوي في هذا الحديث؛ وذلك لأن الوليد بن عقبة كان في ذلك الوقت لا يزال طفلاً رضيعاً صغيراً. وصوابه: الوليد بن عتبة وليس ابن عقبة، وإنما تصحّف على الراوي أو أخطأ في سماعه فقال: الوليد بن عقبة وهو ابن عتبة بالتاء لا بالقاف. حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار -وهما فرسا رهان في العلم والفضل والعبادة، بل وفي سنة الولادة وسنة الوفاة، ولدا جميعاً وماتا جميعاً، فما يستطيع أحد أن يميّز بينهما -واللفظ لـ ابن المثنى - قالا: حدثنا محمد بن جعفر] وهو محمد بن جعفر البصري إمام كبير من أئمة البصرة وهو ربيب شعبة بن الحجاج العتكي البصري، كان شعبة بعد وفاة جعفر تزوج أمه فتربى محمد في حجره فرضع منه العلم، وكان فيه نوع من الشغب والحدة؛ ولذلك كان إذا دخل مكة وحضر مجلس ابن جريج يشغب عليه، فكلما تكلم ابن جريج في مسألة يقول له: من أين لك هذه؟ وما دليلها؟ وهل سمعت من فلان؟ أو أنك تدلّس في هذه؟ وابن جريج كان مدلّساً معروفاً، وهو الذي قال له: اسكت يا غندر! وكان أهل مكة يسمّون المشاغب (غندر)، فهو محمد بن جعفر المشهور باللقب أكثر منه بالاسم. أي: إذا قلنا: حدثنا غندر فهو محمد بن جعفر. قال: [حدثنا شعبة قال: سمعت أبا إسحاق يحدث عن عمرو بن ميمون عن عبد الله قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد وحوله ناس من قريش، إذ جاء عقبة بن أبي معيط بسلا جزور)]. وولد عقبة بن أبي معيط اسمه الوليد، كان سكّيراً جلد في الخمر مراراً، وكان مسلماً، وهو الذي صلى بالناس الفجر في زمن بني أمية، فقالوا له: صليت الصبح أربعاً. قال: إن شئتم لزدتكم. والإمام الذهبي عليه رحمة الله يترجم له في سير أعلام النبلاء، وذكر أنه كان فاسقاً، وبلا شك أن شرب الخمر كبيرة، ومن ارتكب الكبيرة فقد فسق بها، سواء كان صحابياً أو غيره، وقد حُد مراراً في الخمر. قال: [(إذ جاء عقبة بن أبي معيط بسلا جزور، فقذفه على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يرفع رأسه، فجاءت فاطمة فأخذته عن ظهره ودعت على من صنع ذلك. فقال: اللهم عليك بالملأ من قريش -أي: بهذا الجمع من قريش- أبا جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، و

كلام النووي في شرح حديث عبد الله بن مسعود في أذية المشركين لرسول الله وهو ساجد

كلام النووي في شرح حديث عبد الله بن مسعود في أذية المشركين لرسول الله وهو ساجد عقبة بن أبي معيط هو الذي أتى بسلا جزور. السلا: هي تلك اللفافة التي يكون فيها الولد، وهي عند جميع الحيوانات تسمى السلا، وعند المرأة تسمى المشيمة. والمشيمة معروفة، فقال: إن بني فلان قد ذبحوا جزوراً لهم بالأمس -والجزور هو البعير أو الجمل- فاذهب يا عقبة! وائتنا بسلا هذا الجزور، فضعوه بنتنه ونجاسته ودمه وقيحه على ظهر محمد وبين كتفيه وهو ساجد لربه عند الكعبة. انظروا إلى أي مدى تعرّض النبي صلى الله عليه وسلم للأذى! بلا شك أن الأمة كلها لو كانت في هذا الموقف بدلاً من محمد عليه الصلاة والسلام لكان هذا أخف وطئاً من أن يكون هذا النتن على ظهر نبينا محمد عليه الصلاة والسلام. ويُرد بهذا النص على من قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتعرّض لأذى كما تتعرض أمته الآن. فقد سنّ النبي عليه الصلاة والسلام لنا تحمّل هذا الأذى والصبر عليه، فكان أوّل من أوذي في هذه الأمة، سُب وشُتم ولُعن وأُوذي في أهله وفي نسائه وفي خاصة نفسه، وطرد من أحب البلاد والبقاع إليه إلى غيرها من البلدان، وأُوذي في أصحابه، فأمر بتهجيرهم إلى الحبشة هجرة أولى ثم ثانية، ثم أوذي في أصحابه فأمرهم بالهجرة إلى المدينة فسبقوه إليها، ثم هاجر هو عليه الصلاة والسلام، وترك هو وأصحابه الأهل والأموال والأولاد كل ذلك ليبيعوا أنفسهم لله تعالى وأرواحهم وأموالهم؛ لأنهم يعلمون أن المقابل لذلك هي تلك السلعة الغالية الجنة.

أجوبة العلماء على إشكال استمرار النبي في الصلاة وسلا الجزور على ظهره

أجوبة العلماء على إشكال استمرار النبي في الصلاة وسلا الجزور على ظهره قال: (وفي هذا الحديث إشكال، فإنه يقال: كيف استمر النبي عليه الصلاة والسلام في الصلاة مع وجود النجاسة على ظهره؟). فهذا السلا به قيح وصديد ودم، والدم نجس؛ فكيف استمر النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته مع وجود النجاسة على ظهره؟ هل يصح من إنسان أن يصلي وهو يعلم أن بثوبه نجاسة، أو بالأرض التي يسجد عليها نجاسة؟ الجواب لا. والطهارة شرط في صحة الصلاة. فكيف استمر النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته مع وجود هذه النجاسة على ظهره؟ أجاب العلماء بأجوبة منها: (إجابة القاضي عياض: بأن هذا ليس بنجس. قال: لأن الفرث ورطوبة البدن طاهران، والسلا من ذلك وإنما النجس الدم). فأول A أن الفرث والدم ليسا بنجسين، إذا وضعت على جسمك بدناً من الأبدان تشعر برطوبة له، وكذلك الفرث الذي هو ما دون الدم ليس عند القاضي عياض بنجس. (وهذا الجواب يصح على مذهب الإمام مالك ومن وافقه: أن روث ما يؤكل لحمه طاهر). أي: أن هذا على مذهب المالكية يستقيم؛ لأنهم يعتقدون أن روث ما يؤكل لحمه طاهر، ومن باب أولى ما فوق ذلك. (أما مذهب الشافعية والأحناف: أن هذا نجس، وهذا الجواب الذي ذكره القاضي عندهم ضعيف أو باطل، وعندهم جواب آخر؛ لأن هذا السلا يتضمن النجاسة من حيث إنه لا ينفك من الدم في الغالب والدم نجس، ولأنه ذبيحة عُبّاد الأوثان فهو نجس من وجه آخر). إذاً: هذا السلا أو تلك المشيمة تجاوزاً لا يمكن أن تخلو من شيء من الدم، والدم نجس حتى عند المالكية، فهذا وجه. الوجه الثاني: أن هذه الذبيحة ذبيحة عُبّاد الأصنام والأوثان وهي حرام باتفاق ونجسة. أي: هي حرام لنجاستها، وكذلك اللحم وجميع أجزاء الجزور، ولا تؤكل ذبيحة المشرك قط، وإنما أحل الله لنا ذبيحة أهل الكتاب: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة:5]. فحينئذ ذبيحة أهل الكتاب حلال لنا، لكن بشرط أن تكون ذبيحة، فإذا قتلوها أوقدوها أو صعقوها أو خنقوها فإنها لا تحل لنا حتى وإن كانت من قبل مسلم؛ لأنها ليست ذبيحة حينئذ. (وأما الجواب المرضي -عند جماهير العلماء- أنه صلى الله عليه وسلم لم يعلم ما وضع على ظهره، فاستمر في سجوده استصحاباً للأصل، والأصل الطهارة). مثال ذلك: واحد أتى وأنا أصلي ووضع عليّ شيئاً، فما يدريني ما الذي وضع عليّ، فلعله كذا ولعله كذا؟ إذاً: لا يمكن إلا أن أستصحب الأصل، والأصل الطهارة حتى أتيقن النجاسة. فالنبي لم يعلم عليه الصلاة والسلام ما الذي وضع على ظهره. قال: (وما ندري هل كانت هذه الصلاة فريضة فتجب إعادتها على الصحيح عندنا، أم غيرها فلا تجب)؟ ولنا أن نتصور أن هذه الحادثة تمت في أول العهد المكي قبل أن تُفرض الصلاة، فلا يمكن أن نقول إلا أن هذه الصلاة التي كان يصليها النبي صلى الله عليه وسلم نافلة، أو لعله كان ساجداً سجوداً لا علاقة له بالصلاة، وإنما من باب مطلق العبادة، ولا يلزم أن يكون السجود دائماً داخل صلاة، فلعله كان ساجداً ولم يكن مصلياً، ولعله كان يصلي نافلة، أما كون هذه الصلاة فرضاً فهذا أمر بعيد غير متصور. وإن كان فرضاً وجبت الإعادة فالوقت واسع، وما يدرينا أنه أعاد في بيته إذا كان ذلك فرضاً؟ فإن قيل: يبعد أنه لم يكن يشعر بما وضع على ظهره وكان لا بد أن يشعر به. قلنا: وإن أحس به فإنه لم يتحقق عليه الصلاة والسلام من نجاسته. أما قول عبد الله بن مسعود: (فلما سجد وضعه عقبة بين كتفيه قال: فاستضحكوا) أي: أنهم لم يضحكوا، والألف والسين والتاء إذا دخلت على الفعل دلّت على الطلب، فقولك: (ضحكوا) أي: غلبهم الضحك. واستضحكوا: طلبوا الضحك تكلفاً؛ ولذلك قال: وجعل بعضهم يميل على بعض، وهذا فعل الفُسّاق والمُجّان والتائهين أنهم لا يريدون أن يضحكوا ولم يغلبهم الضحك، ولكنهم تكلّفوا الضحك حتى مال بعضهم على بعض كما يصنع شباب المجون والفسق. قال: (وأنا قائم أنظر) تصور أن ابن مسعود رضي الله عنه سادس ستة في الإسلام من الأوائل ومن السابقين، يرى هذا المنظر ثم لا يملك أن يدفع الأذى عن نبي الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر يكاد يقتل ابن مسعود. قال: وأنا قائم أنظر لو كانت لي منعة طرحته عن رسول الله. أي: لو كانت لي قوة أو عشيرة تمنعني من هؤلاء المجرمين المشركين عُبّاد الأوثان والأصنام لكنت طرحت ذلك عن كتف النبي عليه الصلاة والسلام؛ ولكن لم يطرحه لأنه يعلم أنه لو طرحه لربما قاموا عليه وعلى صاحبه فقتلوهما، فلم يطرحه خوفاً من إلحاق الأذى وإعلان الحرب على النبي عليه الصلاة والسلام ومن معه. هذا الذي جعلني أرجّح أن الصلاة التي كان يصليها النبي عليه الصلاة والسلام لم تكن فرضاً؛ لأن الصلاة لم تفرض إلا في أواخر العهد المكي وقُبيل الهجرة مباشرة، أما في أوائل العهد المكي فالمسلمون كانوا قلة خلافاً لأواخر العهد المكي، فلو كان هذا في أواخر العهد المكي لكانت بعض الق

استجابة الله دعوة نبيه في ملأ قريش

استجابة الله دعوة نبيه في ملأ قريش فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته رفع صوته بالدعاء يدعو على هؤلاء، وكان إذا دعا كرر دعاءه ثلاثاً إلحاحاً بالطلب، وكان يقول: (اللهم عليك بقريش) أي: أهلكهم كما أهلكت الذين من قبلهم، فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك. وهذا يدل دلالة قوية على أنهم كانوا يعتقدون أنه نبي، وأنه مُجاب الدعوة، وإلا لكان ازدادت سخريتهم وازداد ضحكهم، والنبي صلى الله عليه وسلم مجاب الدعوة، فذهب عنهم من فرط روعهم وشدة خوفهم من قبول دعوته، ثم قال: (اللهم عليك بـ أبي جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عقبة -والصواب كما قلنا: ابن عتبة - وعقبة بن أبي معيط). فقال: (فوالذي بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق لقد رأيت الذين سمى صرعى يوم بدر، ثم سُحبوا إلى القليب قليب بدر). في هذا القول بيان لإحدى معجزاته عليه الصلاة والسلام، أي أنه دعا على هؤلاء بالاسم، ولكنهم ماتوا في العام الثاني من الهجرة، وكان الدعاء بمكة شيئاً من الاغترار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يلزم من قبول دعوته أن تجاب على التو والفور، بل ربما يدعو في أول نبوته وتكون الإجابة في آخر نبوته. وكثير من الإخوة يقولون: نحن دعونا للمجاهدين كثيراً ولكننا لا نجد أثراً، وندعو في كل وقت، ومللنا أن يقول لنا الدعاة: إن واجبكم الدعاء. يستهينون بهذا، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (دعاء المسلم بين ثلاث: فإما أن يجاب -أي: يجاب لك فوراً- وإما أن يُدفع عنك من البلاء مثله، وإما أن يُدخّر لك يوم القيامة) فما يدريك أنه لم يُقبل دعاؤك؟ فهو قُبل ولكنه قُبل في أحد هذه الثلاث، ولا يلزم أن ترى أثر الدعوة فوراً، بل ربما يكون الله تعالى قد قدّر لك بلاء، وقدّر لك الدعاء، فكان سبباً في رفع البلاء وأنت لا تدري! وربما يكون الله تعالى قدّر لك حادثاً خارج هذا المسجد وأنت قادم إليه، وبحسن دعائك وشدة حرارته وإلحاحك على الله رفع عنك هذا الحادث وأنت لا تدري، أو يدّخر لك ذلك إلى يوم القيامة فيجازيك ويكافئك به؛ ولذلك أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على من يقول: لقد دعوت فلم يستجب لي حتى يدع الدعاء، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يستجاب لأحدكم مالم يعجل الإجابة فيقول: قد دعوت ربي فلم يستجب لي، فيدع الدعاء) هذا بلا شك مخالف لأحكام وآداب الدعاء. فالنبي عليه الصلاة والسلام مُجاب الدعوة وهذه إحدى معجزاته عليه الصلاة والسلام. قال: (وإنما وضعوا في القليب تحقيراً لهم؛ ولئلا يتأذى الناس برائحتهم، وليس هو دفناً). فالحربي إذا قُتل لا يُدفن؛ لأن الدفن من أعظم مظاهر التكريم، فالكافر الحربي لا يُكرَّم، وإنما يلقى على المزابل كما تلقى الجيف والأنتان، لا يكفّن ولا يُدفن ولا يُحترم لا حياً ولا ميتاً، ولكنه يُدفن في حالة واحدة إذا كان يمكن أن يتأذى به الأحياء، يُدفن ليس لذاته وإنما لغيره، وليس هذا من باب الإكرام له، بل من باب الإكرام للأحياء. قال الشافعية: (بل يُترك في الصحراء -أي: الحربي الميت- إلا أن يتأذى به الأحياء. قال القاضي عياض: اعترض بعضهم على هذا الحديث في قوله: (رأيتهم صرعى ببدر). ومعلوم أن أهل السير قالوا: إن عمارة بن الوليد وهو أحد السبعة كان عند النجاشي). وهو السابع الذي نسيه الراوي، فأنتم تعلمون قصة عمارة بن الوليد حينما ذهب مع عمرو بن العاص إلى النجاشي ليؤلّبا النجاشي على من هاجر الهجرة الأولى إلى الحبشة، وكان رجلاً جميلاً ذا وجاهة، فلما خدع عمرو بن العاص خدعه عمرو بن العاص عند النجاشي.

شرح حديث عائشة في أشد يوم أتى على النبي صلى الله عليه وسلم وما لقي فيه من الأذى

شرح حديث عائشة في أشد يوم أتى على النبي صلى الله عليه وسلم وما لقي فيه من الأذى [وحدثني أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن سرح وحرملة بن يحيى وعمرو بن سواد العامري قالوا: حدثنا ابن وهب -كل هؤلاء الرواة مصريون، وهذا شرف عظيم جداً- قال: أخبرني يونس -وهو ابن يزيد الأيلي - عن ابن شهاب حدثني عروة بن الزبير: أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حدثته: أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟)] فقد كان يوم أحد يوماً شديداً وعصيباً جداً، فهي تسأله وتقول له: هل كان هناك يوم في حياتك أشد من يوم أحد؟ قال: [(لقد لقيت من قومكِ وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا بقرن الثعالب -اسم مكان بجوار مكة- فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام فناداني فقال: إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم قال: فناداني ملك الجبال وسلّم عليّ ثم قال: يا محمد! إن الله قد سمع قول قومك لك وأنا ملك الجبال وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟)] أي: إن شئت فعلت. والأخشبان: هما جبلان في مكة: أبو قبيس والجبل المقابل له. [فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً)]. هذا مظهر عظيم جداً من مظاهر رحمته عليه الصلاة والسلام ورأفته بقومه: (بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً). فأهل مكة فعلوا بالنبي صلى الله عليه وسلم مثلما فُعل به بالطائف، وأهل الطائف أهل خير وإيمان وصلاح وبر وعبادة، وهم أهل مدح عند من يعرفهم. فلو كان النبي عليه الصلاة والسلام استجاب لدعوة ملك الجبال حينذاك في أن يجعل الطائف رأساً على عقِب؟ وأهل مكة الآن لو كانوا على كفرهم وشركهم وأن النبي صلى الله عليه وسلم استجاب لملك الجبال هل كان يأمن أحدنا أن يعتمر أو يحج؟ أبداً ما كان يأمن أحدنا أن يعتمر أو يحج. فهذه نظرة لآلاف السنين نظرها النبي عليه الصلاة والسلام، فلم يكن ينظر تحت قدمه وإنما كان همّه تحقيق العبودية الكاملة التامة لله عز وجل؛ انتظاراً لقومه وعشيرته ولأهل الكفر والإلحاد في شرق الأرض وغربها، وصبره عليهم حتى يدخلوا في الإيمان. فلو كنا نحن مكان النبي عليه الصلاة والسلام لكنا اخترنا لأول وهلة إهلاك هؤلاء جميعاً، وهذا الفارق بيننا وبين النبي عليه الصلاة والسلام، أن نظرته أعمق من نظرة أمته كلها، وأن صبره وحلمه وعفوه وصفحه قد بلغ فيه مبلغ الكمال والتمام البشري، بل هو الذي حقق الكمال في كل مكارم الأخلاق، وربما حقق الواحد من الأمة مكارم الأخلاق في خصلة من خصال الأخلاق، أو في ثنتين أو في ثلاث، لكن لم يُكمل أحد من الأمة الكمال والتمام في مكارم الأخلاق كلها إلا نبينا عليه الصلاة والسلام. قال: (بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً).

شرح حديث إصابة النبي صلى الله عليه وسلم في إصبعه في غزوة من الغزوات

شرح حديث إصابة النبي صلى الله عليه وسلم في إصبعه في غزوة من الغزوات [حدثنا يحيى بن يحيى وقتيبة بن سعيد كلاهما عن أبي عوانة -وأبو عوانة هو الوضاح بن عبد الله اليشكري - قال يحيى: أخبرنا أبو عوانة]. وأبو عوانة هذا كان عبداً عند يزيد بن الأسود، فأتى سائل فسأل يزيد بن الأسود أن يعطيه نوالاً فمنعه يزيد. فقال: أتمنعني؟ والله لأكيدن لك، ثم انطلق فانطلق خلفه أبو عوانة فأعطاه نوالاً حتى يبعد عن سيده، وهذا من منتهى الإخلاص في الولاية، فقال: من أنت؟ قال: أنا أبو عوانة مولى يزيد. قال: والله لأنصرنك ولأنفعنّك، وفي موسم الحج حج هذا السائل، وحين نزول الناس من عرفة إلى مزدلفة وقف هذا السائل يقول كلما مر فوج: أيها الناس! اذهبوا فهنئوا يزيد بن الأسود، فإنه قد أعتق أبا عوانة، فلما تكاثر الناس على يزيد قال: يا أبا عوانة! ماذا أصنع؟ اذهب فأنت حر لوجه الله. أرأيتم المكيدة؟! [أخبرنا أبو عوانة عن الأسود بن قيس عن جندب بن سفيان قال: (دميت إصبع رسول الله صلى الله عليه وسلم)] أي: أُصيبت بجُرح -بضم الجيم- وأما بفتحها فهو مقابل التعديل. فحينما أقول: فلان ضعيف. فهذا هو الجَرح بفتح الجيم، ولكن حينما أقول: فلان أُصيب في أصبعه. بمعنى: جُرح. فالجَرح شيء معنوي، والجُرح شيء محسوس. قال: [(جُرح النبي عليه الصلاة والسلام في أصبعه في بعض تلك المشاهد فقال: هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت)]. وكأنه يريد أن يقول لها: هين جداً أن الواحد يُجرح في سبيل الله. (هل أنت إلا إصبع دميتِ): أي: جُرحت وسال منكِ الدم، لكن هذا في سبيل الله وهو هيّن. قال: (وفي سبيل الله ما لقيتِ) وفي رواية: (هل أنتِ إصبع دميتْ وفي سبيل الله ما لقيتْ) فهذا كأنه شعر، لكن العلماء مختلفون في الرجز: هل هو شعر أو لا؟ فقوله: (هل أنتِ إلا إصبع دميتِ وفي سبيل الله ما لقيتِ). رجز باتفاق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الخندق: (اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة). فإذا كنا قد اتفقنا أن هذا رجز، فهل الرجز من الشعر أم لا؟ بعض أهل العلم قالوا: الرجز شعر. وجمهور العلماء يقولون: الرجز ليس شعراً، ولا يلزم فيه قواعد الشعر. فإذا قلنا: إن الرجز ليس شعراً فيلزمنا أن نقول: النبي صلى الله عليه وسلم ليس شاعراً، ولا يمكن أن يكون شاعراً بالرجز؛ لأنه ليس شعراً، وأسوأ الفروض أن الرجز شعر، فينبغي أن ندافع عن النبي عليه الصلاة والسلام الذي أثبت ربه بأنه ليس شاعراً فكيف قال الشعر؟ أنتم تعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أحياناً ينطق بالبيت من الشعر فيصححه له أبو بكر، وهذا يدل على أنه ليس يحسن الشعر عليه الصلاة والسلام. وبالتالي نقول: إن الشعر المذموم هو الشعر المتكلّف المقصود. أي: الذي قصده صاحبه وشاعره الذي توفرت فيه أركانه وقواعده، وليس بيت من أبياته عليه الصلاة والسلام قط توفرت فيه هذه الشروط، وإذا توفّرت فينتفي منها قصد الشعر، فلا يكون شاعراً قط عليه الصلاة والسلام وما قرظ الشعر، ولو كان من صناعته ذلك لكان بإمكانه أن يقرظ ملايين الأبيات، فلما لم يكن منه ذلك دل على أنه لا يحسن هذا الباب، فليس شاعراً عليه الصلاة والسلام. [وحدثناه أبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم -وهو المعروف بـ إسحاق بن راهويه - جميعاً عن - ابن عيينة وهو سفيان - عن الأسود بن قيس بهذا الإسناد وقال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار فنُكبت إصبعه)]. نُكبت أي: جُرحت، لكنه كان في غار هل دخل عليه أحد الغار؟ والرواية السابقة تقول: كان في بعض مشاهده، أو كان في بعض تلك المشاهد فجرحت إصبعه فقال: (هل أنتِ إلا إصبع دميتِ وفي سبيل الله ما لقيتِ) فكيف نوفّق بين الروايتين، وأنه كان في بعض المشاهد؟ الجمع: أن الغار يُطلق على الجيش، والجمع من المقاتلين، فقوله: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار. أي: كان في جيش وجمع من أصحابه المجاهدين في بعض المشاهد، فجُرحت إصبعه عليه الصلاة والسلام.

شرح حديث سبب نزول سورة الضحى

شرح حديث سبب نزول سورة الضحى [حدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا سفيان عن الأسود بن قيس أنه سمع جندباً يقول: (أبطأ جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: تأخر بنزول الوحي- فقال المشركون: قد وُدِّع -أي: قد استغنى عنه صاحبه جبريل، قلاه وابتعد عنه وتخلى عنه- فأنزل الله عز وجل {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:1 - 3]). ((مَا وَدَّعَكَ)) رد على زعم المشركين أن جبريل ودّع محمداً وتخلى عنه، حيث قالوا: هذا الذي يزعم أن جبريل ينزل عليه فلِم لم ينزل عليه منذ فترة من الزمان؟ وقال المشركون: إن رب محمد قد أبغض محمداً وقلاه وأبعده. فأقسم الله تعالى بعد أن أقسم على ذلك بآيتين من آياته سبحانه وتعالى بالضحى -النهار- وبالليل، أقسم بآيتين عظيمتين من مخلوقاته، والله تعالى أمرنا عند القسم أن نُقسم به وبأسمائه وصفاته وما دون ذلك شرك، ولكن الله تعالى إذا أراد أن يُقسم أقسم بالعظيم من مخلوقاته، فقال: {وَالْعَصْرِ} [العصر:1]، وقال: {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ} [القارعة:1 - 2]، وقال: {وَالضُّحَى [الضحى:1]، وقال: {وَالشَّمْسِ} [الشمس:1]، {وَنَفْسٍ} [الشمس:7] وغير ذلك من مخلوقات الله تعالى. فإذا أراد أن يؤكد شيئاً أو يبيّن أهمية شيء يُقسم بالعظيم من مخلوقاته، فأقسم الله تعالى هنا رداً على المشركين بـ: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ} [الضحى:1 - 3] يا محمد! كما يفتري هؤلاء المشركون {وَمَا قَلَى} [الضحى:3] ولم يقل: وما قلاك. والسياق يقول: ما ودعك وما قلاك، ولكن الله تعالى قال: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:3] لينفي أدنى البغض وأدنى البُعد، فلا يكون هناك شيء قط من البُغض. واللغة دائماً إذا كان فيها زيادة مبنى تدل على زيادة المعنى. فقد تقول: ما جاءنا من بشير، فما الفارق بينها وبين قولك: ما جاءنا بشير؟ A اللغويون يقولون: من حرف جر زائد، إذا كان هذا من جهة الإعراب فمسلّم، وإذا كان من جهة المعنى فغير مسلّم؛ لأنه ما جاءنا من بشير أي ما جاءنا من بشير قط، وهذا نفي لجنس البشير، فقوله: (وما جاءنا بشير) لا تنفي أن يكون قد جاءهم بشيران وثلاثة وأربعة، كما تقول بالضبط ما جاءنا من ضيف. وتقول: ما جاءنا ضيف، بل قد جاءنا اثنان وثلاثة وأربعة وضيوف، لكن (ما جاءنا من ضيف) نفي لجنس الضيافة. فهناك فرق بين هذه الكلمات بعضها مع بعض. قال: [حدثنا إسحاق بن إبراهيم ومحمد بن رافع -واللفظ له- قال إسحاق: أخبرنا، وقال ابن رافع: حدثنا يحيى بن آدم حدثنا زهير عن الأسود بن قيس قال: سمعت جندب بن سفيان يقول: (اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلتين أو ثلاثاً -أي: مرض النبي عليه الصلاة والسلام فترك قيام الليل ليلتين أو ثلاثاً- فجاءته امرأة فقالت: يا محمد! إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث. قال: فأنزل الله عز وجل {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:1 - 3]). قال ابن عباس: ((مَا وَدَّعَكَ)) أي: ما قطعك منذ أرسلك. وما قلى. أي: ما أبغضك. وسمى الوداع وداعاً؛ لأنه فراق. وقوله: ما ودّعك هو بالتشديد خلافاً لمن قرأ: (ما ودعك) بالتسهيل. [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن المثنى وابن بشار قالوا جميعاً: حدثنا محمد بن جعفر عن شعبة، وحدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرني الملائي حدثنا سفيان كلاهما عن الأسود بن قيس بهذا الإسناد نحو حديثهما].

باب في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وصبره على أذى المنافقين

باب في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وصبره على أذى المنافقين الباب الأربعون: (في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وصبره على أذى المنافقين). الأول كان صبره على أذى المشركين، وهنا صبره على أذى المنافقين. والمشركون في مكة، والمنافقون في المدينة، أي: أنه كان في حرب بين أهله وقومه، وفي دار هجرته عليه الصلاة والسلام. والإخوة يتصورون أن الذي ينزل بالأمة الآن أمر لا يمكن الصبر عليه ولا يمكن أن نطيقه، ولا بد أن نتحرك وننظر ماذا نفعل، فهذه سنة الله تعالى في الخلق. ألم تعلموا أن الغلام قال للراهب: لقد كان من أمري أني واجهت دابة حبست الناس. فقلت: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة، فرماها بحجر فقتلها. فقال الراهب لهذا الغلام: إنك اليوم أفضل مني، وإنك ستُبتلى. ولا بد أن نقف عند هذا، وهذا يدل على سنة الله تعالى الكونية في أهل الإيمان، فالبلاء دائماً ينزل بهم حتى يطهّرهم الله تعالى تماماً، فهؤلاء أهل الإيمان لهم معاص وذنوب، وإن كانت من نوع آخر غير الأنواع التي يقع فيها الفُسّاق والمُجّان المعلنون بمعاصيهم وذنوبهم، فنحن جميعاً عندنا ذنوب، ولكن الله حيي ستير يحب الحياء والستر.

شرح حديث أسامة بن زيد في صبره صلى الله عليه وسلم على أذى ابن سلول

شرح حديث أسامة بن زيد في صبره صلى الله عليه وسلم على أذى ابن سلول قال: [حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي ومحمد بن رافع وعبد بن حميد -واللفظ لـ ابن رافع قال ابن رافع: حدثنا وقال الآخران: أخبرنا- عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن عروة: أن أسامة بن زيد أخبره: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب حماراً)] وهذا يدل على تواضعه عليه الصلاة والسلام، بخلاف ركوب الفرس، فالذي يركب فرساً أو بغلاً ليس كالذي يركب حماراً. قال: [(ركب حماراً عليه إكاف)] والإكاف: البردعة. والدثار: هو الملاصق للبدن، سواء كان اللابس آدمياً أو حيواناً، فالذي يلاصق البدن من الثوب اسمه الدثار؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: (أنتم مني معشر الأنصار كالدثار) أي: أنكم ألصق الناس بقلبي وأحب الناس إليّ. وفي رواية قال: (الناس شعار والأنصار دثار)؛ لأن الشعار بعيدة عن البدن، والملاصق للبدن اسمه الدثار، وما فوق الدثار يسمى إكافاً بالنسبة للحمار، وبالنسبة للآدمي يسمى الشعار، فالإكاف للحمار يساوي الشعار للآدمي. قال: [(تحته قطيفة فدكية -نسبة إلى قرية تسمى فدك بجوار المدينة- وأردف وراءه أسامة)] أي: أسامة بن زيد وهو مولاه، والنبي عليه الصلاة والسلام قد أردف كثيراً من أصحابه كباراً وصغاراً، أردف معاذاً، وأردف حذيفة، وأردف أسامة بن زيد، وأردف أباه زيداً، وأردف قثم بن العباس، وأردف الفضل، وأردف علياً، وأردف كثيراً من أصحابه عليه الصلاة والسلام. ولا يقال للرجل: رديفاً. فالرديف ليس له قيمة ولا معنى، لكن الرديف في لغة الشرع: هو من ركب خلف الصدر. أي: حينما تجد واحداً يركب خلفي على الحمار فهذا رديفي، ولو أني أخذته أمامي فهذا لا يصبح رديفاً، كصدر المجالس، إذ لا يتصدر المجالس إلا أصحاب الوجاهات والشهرة، أما غيرهم فهم في غبراء الناس وفي وسط الناس، فكذلك الرديف هو الذي يركب في الخلف، والذي يركب الأمام هو الصدر. قال: [(وأردف وراءه أسامة وهو يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج -أي: أن سعد بن عبادة هذا خزرجي- وذاك قبل وقعة بدر، حتى مر بمجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود فيهم عبد الله بن أُبي، وفي المجلس عبد الله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمّر عبد الله بن أبي أنفه بردائه، ثم قال: لا تغبروا علينا). وعجاجة الدابة: التراب الذي يتناثر حين تضرب الدابة بحافرها الأرض، فـ عبد الله بن أُبي حينما دخل عليه النبي عليه الصلاة والسلام وأصابه شيء من غبار الدابة قام بوضع يده على أنفه وقال: لا تغبّروا علينا، ارجع من حيث أتيت. قال: [(فسلّم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم)]. وفي هذا جواز السلام على مجلس فيه أخلاط، وتكون نية المسلّم إلقاء السلام على المسلم. أو يقول: السلام على من اتبع الهدى. قال: [(ثم وقف فنزل فدعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن)]. هذه طريقة الدعوة إلى الله السلام أولاً، ثم دعوتهم إلى الإسلام، وقراءة شيء من الوحي عليهم. قال: [(فقال عبد الله بن أبي: أيها المرء! لا أحسن من هذا)] كأنه أراد أن يقول: الأحسن من هذا أن ترجع من حيث أتيت، وربما يكون التقدير: لأحسن من هذا، أي: لو قلت كلاماً غير ذلك لكان أحسن، فيكون المعنى: إما أن ترجع وهذا أحسن، وإما أن تحوّل الموضوع وتتكلّم في شيء آخر. ثم قال: [(إن كان حقاً ما تقول فلا تؤذنا في مجالسنا، وارجع إلى رحلك، فمن جاءك منا فاقصص عليه)] إذا كنت تعتقد أنك صاحب حق، فاقعد مكانك والذي يأتيك من جهتنا ادعه كيفما تريد. قال: [(فقال عبد الله بن رواحة: اغشنا في مجالسنا فإنا نُحب ذلك. قال: فاستب المسلمون والمشركون واليهود، حتى هموا أن يتواثبوا، فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخفّضهم -أي: يهدئهم ويسكتهم- ثم ركب دابته حتى دخل على سعد بن عبادة فقال: أي سعد! -أي: بمعنى: (يا)، وهو حرف نداء (يا سعد) - ألم تسمع إلى ما قال أبو حباب؟ يريد عبد الله بن أبي قال: كذا وكذا)] أي أنه قال: الأحسن لك أن ترجع إلى رحلك وتدعو من جاءك من عندنا ولا تغشنا في مجالسنا. [قال سعد بن عبادة: (اعف عنه يا رسول الله! واصفح، فوالله لقد أعطاك الله الذي أعطاك)] أنت تعلم أن الله أعطاك النبوة وأعطاك الرسالة، وهذا أشرف شيء يمكن أن ي

شرح حديث أنس في ذهاب النبي صلى الله عليه وسلم وبعض الصحابة إلى عبد الله بن أبي

شرح حديث أنس في ذهاب النبي صلى الله عليه وسلم وبعض الصحابة إلى عبد الله بن أبي قال: [حدثنا محمد بن عبد الأعلى القيسي حدثنا المعتمر -وهو ابن سليمان بن طرخان التيمي - عن أبيه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: لو أتيت عبد الله بن أُبي؟ قال: فانطلق إليه). وهذه وقفة تربوية الناس يقولوا للنبي عليه الصلاة والسلام: لو تذهب إلى عبد الله بن أبي! ومن يكون عبد الله بن أبي هذا حتى يذهب النبي صلى الله عليه وسلم إليه؟ فهو يأتي -وهو أقل من ذلك- للنبي عليه الصلاة والسلام. أليس الوضيع يذهب إلى الشريف؟ فعندما يذهب الوضيع للشريف فإنه يزداد بذلك شرفاً، ويرتفع عنه شيء من وضاعته، لكن لو ذهب الشريف إلى الوضيع فهذا شرف عظيم جداً للوضيع وليس فيه أدنى شرف للشريف، اللهم إلا التواضع. لكن انظروا إلى هذا القول قال: (فانطلق) ولم يقل: (فذهب إليه)، كأن النبي صلى الله عليه وسلم أحب أن يذهب، فانطلق مسرعاً إليه. ولو أن هناك أخاً متخاصماً مع أخيه، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (خيرهما الذي يبدأ بالسلام) فقد يقول واحد منهما: اذهب وقل له بأن يكون هو أخير مني ويأتيني إلى هنا! والله يا إخواني! ما هو إلا نوع من أنواع الجاهلية أن تسمع كلام الله وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم ثم تُعرض عنه نصاً ومعنى، فينبغي أن تُسارع في تطبيق كلام الله تعالى وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم على نفسك، وهذا باب عظيم من أبواب تأديب النفس وتهذيبها، إذا سمعت كلام الله وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم قل: سمعاً وطاعة. فإذا أمرني الله بهذا والرسول صلى الله عليه وسلم أمرنا به فيجب أن أنسى نفسي وأهضم نفسي تماماً، فمن أنا حتى أقول: لا. هو الذي يأتيني؟! إذاً: هو سيأتيك فهو خير منك؛ لأنه سمع كلام الله عز وجل وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم، وما فعل ذلك إلا طلباً للخيرية، فكل منكما أولى؛ ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم بيّن فقال: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، فيلتقيان فيُعرض هذا ويُعرض هذا -فهذا الإعراض من الشيطان- وخيرهما الذي يبدأ بالسلام) هذا من الرحمن تبارك وتعالى، حرب بين الخير والشر، بين الطاعة والمعصية. أكبر من ذلك: أن اثنين يكونان من أصحاب الوجاهة ولنفرض أنهما من الدعاة، هذا عند العامة من الدعاة والعلماء، وذاك عند العامة من الدعاة والعلماء، ولو قلت لواحد منهما: اذهب إليه وناقشه في مسائل الخلاف، يقول لك: أنا أذهب إليه؟ هذا مستحيل ولا يمكن أن أذهب إليه! قال: [(فانطلق إليه وركب حماراً وانطلق المسلمون)] أي: جمهرة من الصحابة مع النبي عليه الصلاة والسلام يذهبون إلى بيت عبد الله بن أُبي قال: [(وهي أرض سبخة -المدينة- فلما أتاه النبي صلى الله عليه وسلم قال: إليك عني)] وانظر إلى هذا الجفاء! تصور بعد كل التواضع والحرص يقول له: ابعد عني. قال: [(إليك عني! فوالله لقد آذاني نتن حمارك)]. وهذا شيء يجعل الشخص يفقد شعوره؛ ولذلك قال رجل من الأنصار: [(والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحاً منك. قال: فغضب لـ عبد الله رجل من قومه. قال: فغضب لكل واحد منهما أصحابه. قال: فكان بينهم ضرب بالجريد وبالأيدي وبالنعال)]. هل هذه عصبية جاهلية أم شرعية؟ في حق الصحابة عصبية شرعية، يقاتلون ويدافعون عن النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا واجب عليهم شرعاً. قال: [(فبلغنا أنها نزلت فيهم: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9])].

باب قتل أبي جهل

باب قتل أبي جهل الباب الحادي والأربعون: (باب: قتل أبي جهل). قال: [حدثنا علي بن حجر السعدي أخبرنا إسماعيل بن علية حدثنا سليمان -وهو ابن طرخان التيمي - حدثنا أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ينظر لنا ما صنع أبو جهل؟ فانطلق ابن مسعود)] وهذا كان في غزوة بدر، فـ أبو جهل قُتل في غزوة بدر، فالنبي عليه الصلاة والسلام علم أنه قُتل، وكان يعلم قبل الغزوة أنه سيُقتل وسيُقتل في هذا المكان بالذات، كما مر بنا أنه أشار إلى مواطن القوم فما برحوها. أي: مواطن قتلهم فما برحوها. قال: (من ينظر لنا ما صنع أبو جهل؟) عرف أنه قد مات، ولكنه يريد أن يجعل ذلك أمراً عاماً يتحدث به الناس إعلامياً، فيذهب أحد ليراه ثم يقول: يا رسول الله! إنه مات في المكان الفلاني، فيسمع جميع الناس أن أبا جهل قد خلّص الله المسلمين من شره. قال: [(فانطلق ابن مسعود فوجده قد ضربه ابنا عفراء - معاذ ومعوذ - حتى برك) أي: سقط. وفي رواية: (حتى برد). وبرد بمعنى: مات. وفي الحقيقة أن معاذاً ومعوذاً قد ضرباه أولاً حتى أثخناه في دمائه، ولكن الذي جز رأسه هو ابن مسعود. قال: [(فانطلق ابن مسعود فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى برك. قال: فأخذ بلحيته فقال: آنت أبو جهل؟ فقال: وهل فوق رجل قتلتموه أو قال: قتله قومه؟). قال: وقال أبو مجلز: (قال أبو جهل: فلو غير أكّار قتلني)]. الأكّار: الفلاح والمزارع؛ لأن الذي قتله أنصارياً وليس مكياً، فلما علم أبو جهل أن اللذين قتلاه طفلان صغيران قال: لو أن الذي قتلني من علية القوم لكان هذا أشرف لي؛ لأنه أنصاري وأنتم تعلمون أن عمل الأنصار الزراعة، وعمل أهل مكة التجارة، فهو كان يتمنى لو أن تاجراً كبيراً مشهوراً هو الذي يقتله وليس فلاحاً من الأنصار. فقال: [(فلو غير أكّار قتلني؟)] وهكذا ختم الله له بالوضاعة. أي: أنه عاش وضيعاً ومات وضيعاً.

باب قتل كعب بن الأشرف طاغوت اليهود

باب قتل كعب بن الأشرف طاغوت اليهود الباب الثاني والأربعون: (باب: قتل كعب بن الأشرف طاغوت اليهود). كان يهودياً ولم يُسلم، وكان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد أمان وميثاق. والعهد هو: ألا يُعين كعب أحداً على النبي عليه الصلاة والسلام، ولا يقاتل النبي صلى الله عليه وسلم مع أحد ممن أراده. فهذا هو العهد الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين كعب بن الأشرف.

بيان أن الغدر صفة ملازمة لليهود عبر الدهور

بيان أن الغدر صفة ملازمة لليهود عبر الدهور اليهود في كل زمان ومكان أغدر خلق الله، لا يعرفون أماناً ولا ميثاقاً قط. وهذا هو تاريخ اليهود منذ موسى عليه السلام إلى يومنا هذا وإلى يوم القيامة، فهم لا يلتزمون، لكنهم أحسن من يتكلم عن السلام والأمان، واحترام العهود والمواثيق، ومؤتمر جنيف، ومؤتمر بكّين وغيرها من المؤتمرات، لكن لا يمكن عملياً أن يلتزموا بهذا، وتاريخهم الأسود معروف، والأمة تمر به الآن. يضرب اليهود عرض الحائط بأقوى القرارات لأقوى الدول؛ لأنهم يعلمون حقيقة أنهم أصحاب تأثير قوي في قرارات أمريكا، بل هم الذين يسيّرون العالم الآن، وربما يسأل السائل نفسه: كيف يتحكم اليهود وهم قلة في أمريكا التي هي أعظم دولة في العالم؟ الحقيقة أن من ملك قوته ملك قراره، فاليهود أكبر قوة اقتصادية في العالم كله، وهم الذين يتحكمون في اقتصاد أمريكا، وبالتالي لا بد أنهم يتحكمون في قرارات أمريكا. اليهود نسبة وجودهم في أمريكا (6 %) من عدد السكان، وعدد السكان (250) مليون نسمة، عدد كراسي اليهود في المجالس النيابية كلها في أمريكا (20 - 22 %)، فعندما يكون عددهم (6 %) معناه: أن عدد النصارى في أمريكا لا يقل عن (90 %) أو قل: (80 %) وبقية الديانات تمثّل الفارق بين هذا وذاك، فالطبيعي أن يكون للنصارى مقاعد في المجالس النيابية يمثّل (80 %)، لكن عدد الكراسي (24) كرسياً في مجلس الأمن، فعندما يكون لليهود 20% من (24) كرسياً، فسيكون مقاعد اليهود حينئذ كثيرة، وهذا يدل على تحكمهم في القرارات وفي السياسة كلها. شارون كلب اليهود إذا ذهب إلى كلب أمريكا يحل في نيويورك حتى يأتي كلب أمريكا من أي مكان ومن أي ولاية إلى المكان الذي ينزل فيه رئيس وزراء إسرائيل دائماً، فرئيس وزراء إسرائيل له مكان معلوم في نيويورك ينزل إليه، فيأتيه رئيس أمريكا أياً كان هذا الرئيس. وقد حدث في عدة زيارات أن شارون لم يأذن لـ بوش بالدخول عليه، ورجع بوش يجر أذيال الخيبة والعار، رجل يأتي من فلسطين إلى أمريكا، فيدخل عليه رئيس أعظم دولة في العالم فلا يأذن له؟ هذا يدل على أنه يضع نعله فوق هامته وفوق رأسه. أما ادعاء أمريكا الآن أنها دولة سلام فقد بان للعالم كله أن هذه كذبة، وأهل العلم كانوا يعلمون منذ أن تعلّموا العلم أن اليهود كذبة، وخونة وأصحاب غدر، كما شهد بذلك حبرهم في زمن النبوة عبد الله بن سلام قال: يا رسول الله! إن اليهود قوم بُهت. هذه شهادة حبر من أحبارهم، وهذه الشهادة تساوي ملايين؛ لأنها شهادة خبير بهم، بل كان منهم، ولكن الله تعالى نجّاه بحسن إسلامه، فشارون اليهود في زمن النبوة كعب بن الأشرف.

شرح حديث جابر بن عبد الله في قتل محمد بن مسلمة لكعب بن الأشرف

شرح حديث جابر بن عبد الله في قتل محمد بن مسلمة لكعب بن الأشرف قال: [حدثنا إسحاق بن إبراهيم وعبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الزهري كلاهما عن ابن عيينة قال: حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال: سمعت جابراً يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لـ كعب بن الأشرف؟ -أي: من منكم مستعد لقتل كعب بن الأشرف - فإنه قد آذى الله ورسوله -العلة أنه آذى الله ورسوله- فقال محمد بن مسلمة: يا رسول الله! أتحب أن أقتله؟ قال: نعم. أُحب أن أقتله، قال: ائذن لي فلأقل)] أي: اسمح لي يا رسول الله! فهذا لزوم العمل، اسمح لي بأن أتكلّم فيك، وفي الشريعة التي أنت أتيت بها، وسأتكلم في نفسي أيضاً، أي: أقول كلاماً ظاهره عليك؛ لأنه لا يمكن إتمام الحيلة إلا بهذا، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: [(قل. فأتاه محمد بن مسلمة فقال له وذكر ما بينهما وقال: إن هذا الرجل قد أراد صدقة)] أي: أن محمداً أتى ليأخذ أموالنا. قال: [(وقد عنّانا)] أي: أتعبنا وأرهقنا. قال: [(إنه رجل أراد صدقة، وقد عنّانا، فلما سمعه -أي: كعب بن الأشرف - قال: وأيضاً والله لتملنه، قال: إنا قد اتبعناه الآن)] فـ محمد بن مسلمة لم يكن يرضى أبداً لنفسه بما رضيته الأمة لنفسها الآن، فالأمة في هذا الوقت ثلة من الأطفال، أما هو فيقول: نحن اتبعناه وأظهرنا اتباعه، وسرنا معه بعض السير قال: [(إنا قد اتبعناه الآن، ونكره أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير أمره. قال: وقد أردت أن تسلفني سلفاً. قال: فما ترهنني؟ قال: ما تريد. قال: ترهنني نساءكم. قال: أنت أجمل العرب! أنرهنك نساءنا؟ قال له: ترهنوني أولادكم. قال: يسب ابن أحدنا فيقال: رهن في وسقين من تمر. ولكن نرهنك اللأمة -يعني السلاح- قال: فنعم. وواعده أن يأتيه بـ الحارث، وأبي عبس بن جبر، وعباد بن بشر. قال: فجاءوا فدعوه ليلاً فنزل إليهم. قال سفيان: قال غير عمرو: قالت له امرأته: إني لأسمع صوتاً كأنه صوت دم. قال: إنما هذا محمد بن مسلمة ورضيعه وأبو نائله! إن الكريم إذا دعي إلى طعنة ليلاً لأجاب. قال محمد: إني إذا جاء فسوف أمد يدي إلى رأسه فإذا استمكنت منه فدونكم. قال: فلما نزل نزل وهو متوشح. فقالوا: نجد منك ريح الطيب. قال: نعم. تحتي فلانة هي أعطر نساء العرب. قال: فتأذن لي أن أشم منه. قال: نعم. فشم. فتناول فشم. ثم قال: أتأذن لي أن أعود. قال: فاستمكن من رأسه ثم قال: دونكم. قال: فقتلوه].

كتاب الجهاد والسير - غزوة ذي قرد - قصة سلمة بن الأكوع

شرح صحيح مسلم - كتاب الجهاد والسير - غزوة ذي قرد - قصة سلمة بن الأكوع كانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم عامرة بالجهاد، حافلة بالغزوات، فقد شرع الله عز وجل لهذه الأمة الجهاد لتبليغ الدعوة والدفاع عن حرمة الأمة وحياض الدين، ومن الغزوات التي خلدتها كتب السير غزوة ذي قرد، والتي كان أحد أبطالها العظام ورجالاتها المسمين سلمة بن الأكوع، الذي ضرب أروع مثال في الاستبسال والفداء، دفاعاً عن دين الله سبحانه وتعالى.

باب غزوة ذي قرد

باب غزوة ذي قرد الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. الباب الخامس والأربعون من كتاب الجهاد: (باب: غزوة ذي قرد وغيرها). وذي قرد: اسم لموضع يبتعد عن المدينة مسافة يوم. أي: للسائر على قدميه أو الراكب على دابة بطيئة السير. فقوله: (باب: غزوة ذي قرد) أي: باب ذكر ما حدث في تلك الغزوة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا حاتم -وهو ابن إسماعيل - عن يزيد بن أبي عبيد قال: سمعت سلمة بن الأكوع رضي الله عنه يقول: (خرجت قبل أن يؤذن بالأولى)] أي: قبل أن يؤذن لصلاة الظهر؛ لأنها أول صلاة صلاها النبي عليه الصلاة والسلام. قال: [(وكانت لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم)] اللقاح: جمع لقحة، وهي: حديثة العهد بالولادة، أي: ذات اللبن. قال: [(وكانت لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم ترعى بذي قرد، فلقيني غلام لـ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فقال: أُخذت لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت من أخذها؟ قال: غطفان)] وغطفان هي موضع لقرار اليهود وسكنهم. قال: [(فصرخت ثلاث صرخات: يا صباحاه!)] أي: أنه كان ينادي ثلاث مرات ويقول: يا صباحاه! قال: [(فأسمعت ما بين لابتي المدينة)] أي: ما بين جبلي المدينة، والمدينة معلوم أنها بين جبلين، فصرخ سلمة وكان قوياً جداً ثلاث مرات ينادي على كل من أصبح من المسلمين في المدينة أن يجتمع: يا صباحاه! أي: اجتمعوا يا من أصبح عليكم الصباح! قال: [(ثم اندفعت على وجهي حتى أدركتهم بذي قرد)] أي: انطلق مسرعاً باتجاه الموضع الذي أُخذت فيه لقاح النبي صلى الله عليه وسلم. قال: [(وقد أخذوا يسقون من الماء، فجعلت أرميهم بنبلي)] أي: غطفان حينما أصبح عندهم سلمة بن الأكوع وجدهم يسقون في أول النهار. قال: [(فجعلت أرميهم بنبلي وكنت رامياً)]. نعم. سلمة بن الأكوع معدود في الرماة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. قال: [(وأقول: أنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضّع)]. يقول العلماء: فيه جواز قول مثل هذا الكلام في القتال، وتعريف الإنسان بنفسه إذا كان شجاعاً ليرعب خصمه. أي: إذا كان هذا الإنسان معروفاً بالشجاعة والقوة والإقدام وعدم الإحجام، فلا بأس أن يذكر اسمه لبث الرعب في قلوب الأعداء؛ ولذلك قال لهم: أنا ابن الأكوع، لكن ما قصة واليوم يوم الرضّع؟ قالوا: معناه: اليوم يوم هلاك اللئام. أي: اليوم أرسلني الله تعالى إليكم لأهلككم فأنتم رضع أي: لئام، من قولهم: لئيم راضع. أي: رضع اللؤم وهو في بطن أمه. وقيل: لأنه يمص حلمة الشاة والناقة لئلا يسمع الضيفان صوت الحلاب فيقصدونه، وكان البخيل الشحيح من العرب إذا أراد أن يحلب الناقة وضع ثديها في فمه ورضعها، حتى لا يسمع السائل أو الضيف صوت الحلاب فيضطر آسفاً أن يقدم له شيئاً من اللبن. فيقال: هذا أشد اللؤم وأخبثه. فقال: أنتم يا غطفان! مشهور عندكم هذا، أنكم إذا أردتم حلب الشياه أو النوق مصصتم اللبن من الثدي مصاً حتى لا تقدموا شيئاً للضيفان أو للسائلين. وقيل: لأنه يرضع طرف الخلال الذي يخلل به أسنانه. أي: إذا حلب وضعه في فمه يرضعه رضاعاً، ويمص ما يتعلق به من فضلات الطعام، وفيه أيضاً إشارة إلى الشح والبخل. وقيل معناه: اليوم يُعرف من رضع كريمة فأنجبته، أو لئيمة فهجنته. وقيل معناه: اليوم يُعرف من أرضعته الحرب من صغره، وتدرب بها وعُرف بها. كأنه يتحداهم بشجاعتهم ويقول: أنا ابن الأكوع وبيني وبينكم هذا اليوم إما أنا وإما أنتم. فقال: أنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضّع قوله: [(فأرتجز -أي: من الرجز شيئاً أكثر من ذلك- حتى استنقذت اللقاح منهم)]، حتى أخذ اللقاح من غطفان. قال: [(واستلبت منهم ثلاثين بردة -والبردة: هي العباءة- وجاء النبي صلى الله عليه وسلم والناس فقلت: يا نبي الله! إني قد حميت القوم الماء -أي: إني قد منعت القوم أن يشربوا من الماء- وهم عطاش فابعث إليهم الساعة)] أي: إذا شئت أن تبعث إليهم فابعث، فقال: (يا ابن الأكوع! ملكت فأسجح)] أي: تمكنت منهم فاعف. انظروا إلى رحمة النبي عليه الصلاة والسلام حتى لهؤلاء اليهود. يقول: [(يا ابن الأكوع! ملكت فأسجح)]. ورجل ساجح وامرأة سجحاء أي: معروف بالحلم والصفح والعفو عند المقدرة. قال: [(ثم رجعنا ويردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقته حتى دخلنا المدينة)]. أي: أركبني خلفه على الداب

معجزة سقي من كان مع رسول الله من بئر في الحديبية

معجزة سقي من كان مع رسول الله من بئر في الحديبية قال: [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا هاشم بن القاسم، وحدثنا إسحاق بن إبراهيم -وهو المعروف بـ ابن راهويه الإمام الكبير- أخبرنا أبو عامر العقدي كلاهما عن عكرمة بن عمار، وحدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي وهذا حديثه -أي: وهذا السياق سياق الدارمي - أخبرنا أبو علي الحنفي عبيد الله بن عبد المجيد حدثنا عكرمة -أي: ابن عمار - حدثني إياس بن سلمة حدثني أبي سلمة بن الأكوع قال: (قدمنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم)] يحكي القصة باستفاضة، والذي يحكيها باستفاضة هو الإمام عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي. [يقول سلمة بن الأكوع (قدمنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم)] أي: قدموا من المدينة حتى وصلوا إلى الحديبية وهو موضع قبيل مكة، والمعروف مكانه بصلح الحديبية. قال: [(ونحن أربع عشرة مائة)] أي: ألف وأربعمائة رجل. وقيل: ألف وثلاثمائة وقيل: ألف وخمسمائة، والراجح وهو مذهب جمهور العلماء والرواة: أنه ألف وأربعمائة شخص. قال: [(وعليها خمسون شاة لا ترويها)] أي: مع هذا الوفد العظيم جداً خمسون شاة فقط، ولاشك أن هذه الشياه لا تكفي هذا العدد ولا ترويهم. قال: (فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبا الركية) والركية هو: البئر. وجبا أي: حافة. فقعد النبي صلى الله عليه وسلم على حافة البئر، وربما كان المقصود: أن ماء الحديبية لا تروي تلك الشياه، فهذا الماء إما أن يكون قليلاً لا يكفي لري هذه الشياه، وإما أن تكون هذه الشياه المقصود: أنها إذا حُلبت لا تروي هذا العدد الكثير. قال: [(فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبا الركية، فإما دعا وإما بسق فيها)] أي: في بئر الحديبية قعد على حافتها، إما دعا وبرّك في الماء، وإما بسق وبصق وبزق بمعنى واحد، الثلاثة بمعنى التفل. فقال: [(فجاشت فسقينا واستقينا)] أي: فاض البئر بالماء وامتلأ. وهذا فيه إثبات معجزة محسوسة للنبي عليه الصلاة والسلام، أنه ببصاقه اجتمع هذا الماء الكثير في هذا المكان حتى شرب الجميع وسقوا الشياه.

بيعة الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أصل الشجرة وبيعة سلمة خاصة

بيعة الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أصل الشجرة وبيعة سلمة خاصة قال: [(ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعانا للبيعة في أصل الشجرة)] أي: عند جذع الشجرة، جلس عندها وطلبنا لنبايعه. قال: [(فبايعته أول الناس -كنت أول من بايع- ثم بايع وبايع)] أي: ثم بايع فلان وفلان وفلان، وهكذا. قال: [(حتى إذا كان في وسط من الناس قال: بايع يا سلمة! قال: قلت: يا رسول الله قد بايعتك في أول الناس قال: وأيضاً)] أي: وبايع أيضاً الآن. قال: (ورآني رسول الله صلى الله عليه وسلم عزلاً) وهي الرواية الفصيحة. يقال: فلان عزل وفلان عزب، ويمكن فلان أعزل. أي: لا سلاح معه، وفلان أعزب أي: لا زوجة له. لكن الفصحى: فلان عزل، وفلان عزب. قال: [(ورآني رسول الله صلى الله عليه وسلم عزلاً -يعني: ليس معه سلاح- فأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم حجفة أو درقة -هما شبيهتان بالترس- ثم بايع حتى إذا كان في آخر الناس قال: ألا تبايعني يا سلمة -وهذه المرة الثالثة- قلت: يا رسول الله! قد بايعتك في أول الناس وفي أوسط الناس قال: وأيضاً -يعني: تبايعني الثالثة- فبايعته الثالثة. ثم قال لي: يا سلمة! أين حجفتك أو درقتك التي أعطيتك؟ -يعني: أين الترس الذي أعطيتك إياه؟ - قال: قلت: يا رسول الله! لقيني عمي عامر عزلاً)] أي: عامر بن الأكوع وهو أخوه، بعض الروايات أثبتت أنه أخوه، وبعض الروايات أثبتت أنه عمه، فـ الحافظ يجمع بين الروايتين بأنه عمه وأخوه في الرضاعة. قال: [(لقيني عمي عامر عزلاً فأعطيته إياها)] مع أن هذا ترس النبي عليه الصلاة والسلام ولا يمكن لأحد أن يفرّط فيه، ومع هذا أعطاه سلمة لعمه عامر. قال: [(فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إنك كالذي قال الأول -أي: أنت كالذي قال في أول الزمان- اللهم أبغني حبيباً هو أحب إلي من نفسي)]. ولكني أرى هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحك، والضحك إقرار، فكأنه أقره على إهداء الهدية، وهذا يصحح قول العامة: إن الهدية لا تهدى ولا تباع، فالهدية تهدى وتُباع، وبمجرد أن استقرت في ذمة المهدى إليه صارت ملكاً له، وللمالك أن يتصرف فيما يملك بأي وجه من أوجه التصرف الحلال، ومنها البيع والهدية.

صلح الحديبية وما أعقبه من خفر المشركين لذمتهم

صلح الحديبية وما أعقبه من خفر المشركين لذمتهم قال: [(ثم إن المشركين راسلونا الصلح)] أي: أرسلوا إلينا طلباً في الصلح. قال: [(حتى مشى بعضنا في بعض)] يعني: اصطلحنا بالفعل واختلط بعضنا ببعض فقد اتفقوا معنا على العهد والميثاق والصلح المشروط، أن يأمن كل منا صاحبه وألا يغدر أحد منا بصاحبه وغير ذلك. وتاريخ الإسلام لم يثبت قط أن أحداً من المسلمين أو من خلفاء الإسلام غدر في عهده وميثاقه بأهل الكتاب ولا بالمشركين، وإنما الغدر كان دائماً في اليهود، فهم قوم غُدر. قال: [(ثم إن المشركين راسلونا الصلح حتى مشى بعضنا في بعض واصطلحنا، وكنت تبيعاً لـ طلحة بن عبيد الله -تبيعاً أي: خادماً- أسقي فرسه وأحسه وأخدمه، وآكل من طعامه)] (أحسّه) أي: أمسح ظهر الفرس بالمحسة، والتي يسميها الفلاحون الآن المجسّة، وهي: شيء مثل الحديد يمسح بها ظهر الفرس. قال: [(وتركت أهلي ومالي مهاجراً إلى الله ورسوله)] أعظم الأعمال الهجرة إلى الله تعالى ورسوله. قال: [(فلما اصطلحنا نحن وأهل مكة واختلط بعضنا ببعض -أي: في صلح الحديبية- أتيت شجرة فكسحت شوكها)] أي: مسحت ما تحتها من شوك ثم نمت تحتها. قال: [(فاضطجعت في أصلها. قال: فأتاني أربعة من المشركين من أهل مكة فجعلوا يقعون في رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: يتناولونه بالسب أو الشتم أو التنقّص وهم مشركون- فأبغضتهم فتحولت إلى شجرة أخرى)]، وقد يكون هذا السب والشتم في أصل عقد الصلح ناقضاً للصلح، وربما لا يكون كذلك، وربما سب المسلمون المشركين وشتموهم، وليس هذا بغدر ولا نقض للعهد والميثاق. قال: [(فجعلوا يقعون في رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبغضتهم، فتحولت إلى شجرة أخرى، وعلّقوا سلاحهم واضطجعوا)] هم أيضاً علّقوا أسلحتهم في الشجرة وناموا تحتها. قال: [(فبينما هم كذلك إذ نادى مناد من أسفل الوادي: يا للمهاجرين! قُتل ابن زنيم -وهو أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم- قال: فاخترطت سيفي -أي: سللته وأخرجته من غمده- ثم شددت على أولئك الأربعة وهم رقود)] (شددت) أي: أتيتهم وفزّعتهم حتى قاموا. قال: (فأخذت سلاحهم فجعلته ضغثاً في يدي) (ضغثاً) أي: حزمة، أخذ سلاح الأربعة ووضعه في يد واحدة وفي يده الأخرى سلاحه، وكان هذا شيئاً عجيباً، فـ سلمة بن الأكوع بايع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، فلما نزل الكوفة بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام قال أهل الكوفة: يا سلمة! ناولنا يدك التي بايعت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم نقبلها. قال الراوي: فناولني يده فوضعتها في يدي فإذا بها كخف البعير، وليس بعظيم أن يأخذ سلاح الأربعة ويضعه في يد واحدة، هذا علي بن أبي طالب خلع باب حصن في غزوة خيبر اتخذه اليهود ليتحصنوا به ضد المسلمين، ووضعه في يده اليسرى، واتخذه درعاً في أثناء القتال، أي: يتفادى الأسهم بباب الحصن بيده اليسرى ويضرب بيده اليمنى، أي: أن هؤلاء كأنهم خلقوا ثم ماتوا، ولا يمكن أن يكرر هذا مرة أخرى، لكن -الحمد لله- الأمة فيها خير كثير بإذن الله تعالى. قال [(فأخذت سلاحهم فجعلته ضغثاً في يدي -أي: حزمة- ثم قلت: والذي كرم وجه محمد عليه الصلاة والسلام لا يرفع أحد منكم رأسه إلا ضربت الذي فيه عيناه -أي: ضربت عنقه- قال: ثم جئت بهم أسوقهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وجاء عمي عامر برجل من العبلات -وهم قوم من قريش، كانت أمهم تسمى عبلة بنت عبيد - يقال له: مكرز، يقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرس مجفف -أي: فرس مجهّز عليه سرجه- في سبعين من المشركين)] أي: أنه جاء بـ مكرز ومعه كذلك سبعون آخرون. قال: [(فنظر إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: دعوهم)]. وكلمة (دعوهم) تُغضب الصحابة، خاصة خالد بن الوليد وعمر بن الخطاب، وكذلك سلمة بن الأكوع لا يمكن أن ينسى أن هؤلاء الأربعة شتموا النبي عليه الصلاة والسلام فكيف يدعونهم؟ قال: (دعوهم يكن لهم بدء الفجور وثناه) أي: خلوا سبيلهم وليعلموا أنهم نقضوا العهد أولاً وآخراً، فهم الذين نقضوا العهد مرتين، مرة في أول العهد ومرة في آخر العهد، فسبّوا وشتموا ثم غدروا أكثر من ذلك. قال: [(دعوهم يكن لهم بدء الفجور وثناه، فعفا عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح:24]. قال: ثم خرجنا راجعين إلى المدينة)]، وفي رحلة العودة إلى المدينة سيتعامل النبي صلى الله عليه وسلم فيها مرة أخرى مع اليهود. قال: [(فنزلنا منزلاً -وهم في طريق عودت

قصة سلمة بن الأكوع مع عبد الرحمن الفزاري الذي أغار على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم

قصة سلمة بن الأكوع مع عبد الرحمن الفزاري الذي أغار على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(ثم قدمنا المدينة، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهره مع رباح غلامه صلى الله عليه وسلم)] أي: بعث بناقته أو ببعيره أو بحماره ودابته التي كان يركبها، بعث بها إلى المدينة مع غلامه رباح. قال: [(وأنا معه، وخرجت معه بفرس طلحة)]؛ لأنه كان تبيعاً عنده، أي: خادماً عند طلحة بن عبيد الله. قال: [(أنديه مع الظهر)]، أي: أسقيه الماء ثم أورده على المرعى، ثم أرجعه الماء، ثم أسقيه، ثم أعلفه وغير ذلك، وفي رواية: (أبديه) وهي رواية ضعيفة، ومعناه: جعلته في البادية. قال: [(أنديه مع الظهر، فلما أصبحنا إذا عبد الرحمن الفزاري قد أغار على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم)] عبد الرحمن الفزاري -وهو من أهل المدينة- قد أغار على رباح وأخذ منه الدابة التي كان يستظهرها النبي عليه الصلاة والسلام. قال: [(فاستاقه أجمع -فأخذه كله من رباح - وقتل راعيه قال: فقلت: يا رباح! خذ هذا الفرس فأبلغه طلحة بن عبيد الله)] خذ الفرس هذا وأعطه لـ طلحة بن عبيد الله، ودعني مع عبد الرحمن الفزاري هذا لأنظر هل يأخذ هذا الظهر وهذا القطيع أم سأرجع به مرة أخرى، كأن رباح لم يُقتل وإنما الذي قُتل هو الراعي. قال: [(وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المشركين قد أغاروا على سرحه -أي: على ظهره- قال: ثم قمت على أكمة -أي: على جبل مرتفع صغير- فاستقبلت المدينة فناديت ثلاثاً: يا صباحاه! ثم خرجت في آثار القوم أرميهم بالنبل وأرتجز أقول: أنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع فألحق رجلاً منهم فأصك سهماً في رحله حتى خلص نصل السهم إلى كتفه)] أي: أنه كلما أدرك واحداً منهم ناوله بالنبل أو بالسهم حتى يقضي عليه وعلى رحله. قال: [(قلت: خذها وأنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع قال: فوالله ما زلت أرميهم وأعقر بهم)] وفي رواية: (أردّيهم) من الردى أي: الهلاك، أي فلا زلت أدرك القوم وأعقر خيولهم وأفراسهم. [(فإذا رجع إليَّ فارس أتيت شجرة فجلست في أصلها، ثم رميته فعقرت به، حتى إذا تضايق الجبل فدخلوا في تضايقه)] أي: أن الجيش كله يجري أمام سلمة بن الأكوع، يركبون البغال والحمير والنوق وغير ذلك، ومعهم كل الأسلحة، وهم مستعدون للحرب وما قدموا إلا للحرب، وسلمة بن الأكوع ليس معه إلا سهمه ويمشي على قدميه، رجل واحد في الأمة هذه إمكانيته. قال: [(حتى تضايق بهم الجبل والطريق)] كأنه أراد أن يقول: دخلوا في جحر من الجبل، فانظر إلى واحد يؤثر في جيش من المشركين إلى هذا الحد. قال: [(حتى إذا تضايق الجبل فدخلوا في تضايقه، علوت الجبل -صعد على قمته- فجعلت أرديهم بالحجارة)]. إذاً: الحجارة التي يستخدمها المجاهدون في فلسطين لها أصل، استخدمها أخوهم سلمة بن الأكوع رضي الله عنه. قال: [(فجعلت أردّيهم بالحجارة)] أي: كلما ألقى حجراً فأصاب واحداً أرداه قتيلاً. قال: [(فما زلت كذلك أتبعهم، حتى ما خلق الله من بعير من ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا خلّفته وراء ظهري)] أي: حتى أصبحت الغنيمة كلها وراء ظهره متمكناً من إرجاع الظهر إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قال: [(وخلوا بيني وبينه، ثم اتبعتهم أرميهم)]. لم يكتف بأنه أخذ ما سلب من غلام النبي صلى الله عليه وسلم، بل تبعهم بعد ذلك بالضرب والرمي. قال: [(حتى ألقوا أكثر من ثلاثين بردة وثلاثين رمحاً، يستخفون)] أي: أنهم تركوا الذي معهم من متاع وإبل وسلاح وغير ذلك كي يستطيعوا أن يجروا. قال: [(ولا يطرحون شيئاً إلا جعلت عليه آراماً -أي: أعلاماً- من الحجارة)] حتى إذا رجع لا يفوته شيء من لم الغنائم. قال: [(يعرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حتى إذا أتوا متضايقاً من ثنية، فإذا هم قد أتاهم فلان ابن فلان البدري الفزاري)] أي: من بدر -وليس ممن شهد بدراً- الفزاري، وربما يكون المقصود: هو عبد الرحمن الفزاري الذي قتل غلام النبي صلى الله عليه وسلم. قال: [(فجلسوا يتضحون -أي: يتغدون في وقت الضحى- وجلست على رأس قرن)] وهو الجبل الصغير، ولك أن تتصور أنهم يجلسون على الوادي ليتغدوا، وهذا يجلس على رأس جبل صغير كالصقر ينظر إليهم. قال: [(قال الفزاري: ما هذا الذي أرى؟ قالوا: لقينا من هذا البرح)] أي: أن هذا الذي تستهين به لقينا منه البرح -والبرح: هو الشدة، وأذاقنا المر من الأمس إلى اليوم، [(والله ما فارقنا منذ غلس)] أي: من

استشهاد عامر بن الأكوع يوم خيبر وقتل علي بن أبي طالب لمرحب اليهودي

استشهاد عامر بن الأكوع يوم خيبر وقتل علي بن أبي طالب لمرحب اليهودي قال: [(فوالله ما لبثنا إلا ثلاث ليال حتى خرجنا إلى خيبر)] انظروا إلى هذا الجهد الجهيد الذي مر به الصحابة، ومع ذلك لم يخذلوا النبي صلى الله عليه وسلم، والأمة الآن خذلت رسولها أيما خذلان، ولو أن أحدنا كان مع الصحابة في ذلك الزمان لما استطاع أن يمشي معهم من مكة إلى المدينة. قال: [(ما لبثنا إلا ثلاث ليال حتى خرجنا إلى خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فجعل عمي عامر يرتجز بالقوم: تالله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا ونحن عن فضلك ما استغنينا فثبت الأقدام إن لاقينا وأنزلن سكينة علينا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من هذا؟ -أي: من الذي يرتجز هذا الكلام الطيب- قال: أنا عامر بن الأكوع. قال: غفر لك ربك)] وهذا الكلام يحمل معنيين: إما دعاء، وإما أنك ستموت شهيداً مغفوراً لك، وإذا قيل هذا الدعاء في القتال فيعني: أن هذا سيُقتل، كالمرأة التي أتت إلى عمر وقالت: يا أمير المؤمنين! إن زوجي يصوم النهار ويقوم الليل. قال: ما أحسنه. فقال رجل: يا أمير المؤمنين! إنها تشكوه ولا تمدحه، فقال: حيث إذ فهمتها فاقض بينهما أنت، وهذا كلام ظاهره المدح، لكن له معنى آخر. وهذا قال له عليه الصلاة والسلام: [(قد غفر لك ربك. قال: وما استغفر رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان يخصه إلا استشهد قال: فنادى عمر بن الخطاب وهو على جمل له: يا نبي الله لولا متعتنا بـ عامر؟)]. فهم عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم يُخبر عن مقتل عامر، فقال له: يا رسول الله! دعنا نستمتع به في القتال وفي الرجز. قال: [(فلما قدمنا خيبر خرج ملكهم مرحب يخطر بسيفه)]. أي: أنه يقلب سيفه في ضوء الشمس؛ لأنهم دخلوا خيبر غداة، ولذلك حينما خرج الراعي بالإبل والبقر والغنم ورأى الجيش قال: محمد والخميس، أي: وصل محمد وجيشه، وسمي الجيش خميساً لأنه يتكون من خمسة أجزاء: ميمنة، وميسرة، ومقدمة، ومؤخرة، وبطن أو قلب. قال: [محمد والخميس، وكان ذلك غدوة أي: بعد صلاة الفجر. قال: (فلما قدمنا خيبر خرج ملكهم مرحب يخطر بسيفه ويقول: قد علمت خيبر أني مرحب شاكي السلاح بطل مجرب). وشاكي السلاح أي: تام القوة، أي: سلاحي في يدي في غاية القوة، لا يستطيع أحداً أن يغلبني. قال: (قد علمت خيبر أني مرحب شاكي السلاح بطل مجرب إذا الحروب أقبلت تلهب قال: وبرز له عمي عامر، فقال: قد علمت خيبر أني عامر شاكي السلاح بطل مغامر)]. أي: يركب غمرات الحرب ولا يحجم عنها ويرتكب شدائدها، ويلقي بنفسه فيها. قال: [(فاختلفا ضربتين، فوقع سيف مرحب في ترس عامر، وذهب عامر يسفل له -أي: يضربه في أسفله- فرجع سيفه على نفسه -رجع سيف عامر على عامر - فقطع أكحله فكانت فيها نفسه)]. فظن بعض الصحابة الذين رأوا هذا المنظر أن عامراً قتل نفسه، لم يصبر على الطعنة أو الضربة التي ضربه فيها مرحب فقتل نفسه، وظنوا أنه شبيه بمن قال النبي صلى الله عليه وسلم عنه ذات غزوة، حينما قال الصحابة: (إنا نرى فلاناً من أهل الجنة يقاتل في الجيش كأنه جيش لوحده. قال: وأنا أراه من أهل النار، قال: ففزع القوم) كل من أُعجب بقتال هذا الرجل وإقدامه فزع حينما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (وأنا أراه من أهل النار. قال رجل: فتتبعته كلما عدا عدوت، وكلما وقف وقفت، حتى أصابه سهم فلم يصبر عليه، فوضع ذبابة سيفه في بطنه واتكأ عليه فخرج من ظهره فمات)] فهو الذي قتل نفسه؛ فظنوا أن عامراً كهذا الرجل، وكان هذا الرجل الذي قتل نفسه من المنافقين، أما عامر فقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم له. قال: (قد غفر لك ربك). قال سلمة: [(فخرجت فإذا نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: بطل عمل عامر -أي: لأنه قتل نفسه بزعمهم- فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقلت: يا رسول الله! بطل عمل عامر؟ قال رسول الله: من قال ذلك؟ قال: قلت: ناس من أصحابك. قال: كذب من قال ذلك، بل له أجره مرتين)]، والكذب عند أهل السنة هو الكلام الذي لم يوافق الحقيقة سواء تعمده صاحبه أو لم يتعمده خلافاً للكذب عند المعتزلة، فإن الكذب عندهم هو ما تعمده صاحبه. قال: [(ثم أرسلني إلى علي وهو أرمد)] أي: مصاب برمد في عينيه. قال: [(لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله أو يحبه الله ورسوله)]. عمر بن الخطاب رضي الله عنه في هذه الغزوة يقول: ما تطلعت قط

فوائد حديث قصة سلمة بن الأكوع

فوائد حديث قصة سلمة بن الأكوع

ذكر معجزات النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة

ذكر معجزات النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة قال النووي: (واعلم أن في هذا الحديث أنواعاً من العلم -أي: أنواعاً من الفوائد- سوى ما سبق التنبيه عليه). قال: (منها أربع معجزات لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إحداها: تكثير ماء الحديبية. والثانية: إبراء عين علي رضي الله عنه. والثالثة: الإخبار بأنه يفتح الله على يديه. أي: على يدي علي بن أبي طالب: (لأعطين الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه). وقد جاء التصريح به في رواية غير مسلم هذه. والرابعة: إخباره صلى الله عليه وسلم بأنهم يقرون في غطفان، وكان كذلك). هذه أربع معجزات له صلى الله عليه وسلم.

جواز الصلح مع العدو

جواز الصلح مع العدو قال: (ومنها: جواز الصلح مع العدو) إذا دعت مصلحة المسلمين إلى ذلك، وإذا لم تكن هناك مصلحة فلا صلح معهم، وللصلح مع اليهود أو مع الأعداء عموماً شروط كثيرة ليست هي التي ينعق بها هؤلاء أصحاب الطاقيات الحمراء ليل نهار، فهؤلاء يفتون بفتاوى مدفوعة الثمن مقدماً.

جواز بعث الطلائع في أول الجيش

جواز بعث الطلائع في أول الجيش قال: (ومنها: بعث الطلائع)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما بعث رباحاً وكان معه سلمة بن الأكوع، فهذه كانت طليعة الجيش. (ومنها: جواز المسابقة على الأرجل بلا عوض، وفضيلة الشجاعة والقوة. ومنها: مناقب سلمة بن الأكوع وأبي قتادة والأخرم الأسدي رضي الله عنهم أجمعين).

جواز الثناء على من فعل جميلا إذا أمن الفتنة

جواز الثناء على من فعل جميلاً إذا أمن الفتنة ومنها: (جواز الثناء على من فعل جميلاً في وجهه، واستحباب ذلك ما لم تخش عليه الفتنة)، وكم مدح النبي صلى الله عليه وسلم أناساً في وجوههم، وكم منع النبي صلى الله عليه وسلم من المدح، فتبين أن الفيصل بين هذا وذاك أمن الفتنة أو خوفها، فإذا كان مأمون الفتنة ويصدّق ويُخشى عليه الفتنة والاغترار بهذا المدح فيحرم مدحه في وجهه، أما إذا كان في مأمن من ذلك فيستحب مدحه.

جواز عقر خيل العدو في الحرب واستحباب الرجز

جواز عقر خيل العدو في الحرب واستحباب الرجز قال: (ومنها: جواز عقر خيل العدو في القتال، واستحباب الرجز في الحرب، وجواز قول الرامي والطاعن والضارب: خذها وأنا فلان ابن فلان، بشرط أن يكون شجاعاً قوياً ذا مهابة في قلب العدو).

جواز الأكل من الغنيمة قبل توزيعها

جواز الأكل من الغنيمة قبل توزيعها قال: (ومنها: جواز الأكل من الغنيمة قبل توزيعها)، وأخذنا هذا من ذبيحة بلال، ولا يقال عن الغنائم بعد التوزيع: غنائم، وإنما يقال: أسهم، أما قبل توزيع الغنيمة فهي غنيمة. قال: (وفيه جواز الأكل من الغنيمة -أي: قبل التوزيع- والأكل عام فالجيش كله سيأكل، واستحباب التنفيل من الغنيمة لمن صنع صنيعاً جميلاً في الحرب، وهل هناك أجمل مما صنعه سلمة؟)

حمل معاوية بن أبي سفيان لسلمة بن الأكوع على دابته بعد الرجوع من خيبر

حمل معاوية بن أبي سفيان لسلمة بن الأكوع على دابته بعد الرجوع من خيبر كان سلمة بن الأكوع خادماً لـ طلحة بن عبيد الله، وأنتم تعلمون أن طلحة هذا من المبشرين، وسلمة بن الأكوع يكفيه ما فعل في الحديبية، وما فعل مع غطفان، وبني لحيان، ومع اليهود في خيبر، فهو مجهود لا تقوم به الآن أمة كاملة؛ لذلك أحب النبي عليه الصلاة والسلام أن يكرمه، وكان هناك أماكن على مشارف المدينة لعلية القوم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم حينما يأتيه ضيوف يجعلهم في هذه الأماكن؛ فقال لرجل من أصحابه - وهو معاوية بن أبي سفيان -: (خذ سلمة وأنزله في عوالي المدينة)، وأنتم تعلمون أن معاوية هو الشريف ابن الشريف، فيركب سلمة من أمام المسجد النبوي على ظهر الجمل؛ ويأمر معاوية أن يفزّع الجمل ليقوم، وظل معاوية يسوق الجمل لـ سلمة حتى تضررت قدماه من الحر، فقال: يا سلمة! احملني خلفك، فلم يرد عليه، فلما اشتد عليه الوجع قال: يا سلمة! ناولني نعلك. قال سلمة: إنما يكفيك ظل البعير، فمشى معاوية في ظل البعير حتى بلّغه مراده. ومع مرور الأيام أصبح معاوية أميراً للمؤمنين رضي الله عنه وعن أبيه، ويدخل عليه سلمة بن الأكوع حافياً، لكن معاوية كان حليماً وكان سموحاً -قال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} [الأعراف:43]- ونزل معاوية واصطحبه حتى أجلسه على سريره، فهؤلاء هم الرجال الذين ربّاهم النبي عليه الصلاة والسلام، ينزل معاوية بنفسه ابتغاء وجه الله قال: يا ابن الأكوع! أترى سريري أفضل أم بعيرك؟ فضحكا وانتهى الموقف على ذلك. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

كتاب الجهاد والسير - باب قوله تعالى: (وهو الذي كف أيديهم عنكم) - غزوة النساء مع الرجال - عدد غزوات النبي

شرح صحيح مسلم - كتاب الجهاد والسير - باب قوله تعالى: (وهو الذي كف أيديهم عنكم) - غزوة النساء مع الرجال - عدد غزوات النبي لقد شرع الله تعالى لهذه الأمة حمل السلاح للذب عن جناب الدين، ولتبليغ الدعوة ونشرها في أرجاء المعمورة، وقد حمل هذا العبء مع رسول الله الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، لا فرق في ذلك بين رجل أو امرأة أو طفل، والشريعة لم تغفل جهد أحد من المسلمين في هذا السبيل مهما قل هذا المجهود، بل قررت لكل واحد منهم ما يناسبه من الغنيمة.

باب قول الله تعالى: (وهو الذي كف أيديهم عنكم)

باب قول الله تعالى: (وهو الذي كف أيديهم عنكم) إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد: فإن أصدق الحدث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. الباب السادس والأربعون من كتاب الجهاد (باب قول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} [الفتح:24]. قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثني عمرو بن محمد الناقد حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا حماد بن سلمة عن ثابت بن أسلم البناني عن أنس بن مالك: (أن ثمانين رجلاً من أهل مكة هبطوا -أي: نزلوا- على رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبل التنعيم متسلحين)] ثمانون مشركاً نزلوا من جبل التنعيم، وهو في مدخل مكة، وكانوا متسلحين، نزلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدون قتله هو ومن معه. قال: [(يريدون غرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه)]. أي: يتحينون غفلة منه عليه الصلاة والسلام لينقضوا عليه وعلى أصحابه. قال: [(فأخذهم سلماً أو سلَماً)] أي: صلحاً، أي: فاصطلح معهم، عندما غلبت قوة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قوة هؤلاء المشركين، فآثر المشركون السلم والصلح، فانتهزوا فرصة عرض الصلح عليهم فقبلوه، وفي لفظ: (فأخذهم سَلَماً) أي: أسرى. فإما أن تُنطق سلِماً أو سَلَماً يعني: صلحاً أو أسرى. قال: [(فأخذهم سلماً أو سلِماً فاستحياهم، فأنزل الله عز وجل: ((وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ)) [الفتح:24]-أي: أيدي المشركين عنكم- {وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح:24]). قال الإمام النووي: (فأخذهم سلماً) ضبطت بوجهين إما بفتح السين واللام، أي: سَلَماً، والثاني: بإسكان اللام مع كسر السين أي: سلْماً، وفتحها الحميدي ومعناه: الصلح. قال القاضي في المشارق: هكذا ضبطه الأكثرون. وفي الشرح: أن الرواية الأولى أظهر وأولى ومعناها: أسرهم. والسَلَم هو الأسر. وجزم الخطابي بفتح اللام والسين، قال: والمراد به الاستسلام والانقياد والإذعان، كقول الله تعالى: {وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} [النساء:90] أي: الانقياد والاستسلام والإذعان والخضوع، وهو مصدر يقع على الواحد والاثنين والجمع. قال ابن الأثير: هذا هو الأشبه بالقصة، أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذهم أسرى، فإنهم لم يؤخذوا صلحاً، وإنما أخذوا قهراً وأسلموا أنفسهم عجزاً. قال: وللقول الآخر -أي: سِلْماً- وجه، وهو أنه لما لم يجر معهم قتال بل عجزوا عن دفعهم والنجاة منهم رضوا بالأسر، فكأنهم قد صولحوا على ذلك).

باب غزوة النساء مع الرجال

باب غزوة النساء مع الرجال الباب السابع والأربعون: (باب غزوة النساء مع الرجال). يعني: هل يجوز أن تغزو النساء مع الرجال؟

شرح حديث أم سليم في خروجها مع النبي للغزو

شرح حديث أم سليم في خروجها مع النبي للغزو [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس: (أن أم سليم) -وهي أم أنس بن مالك وزوج أبي طلحة الأنصاري - اتخذت يوم حنين خنجراً -وقيل: خِنجراً. إما بكسر الخاء أو بفتحها- فكان معها، فرآها أبو طلحة -أي: زوجها- فقال: يا رسول الله! هذه أم سليم معها خِنجر. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا الخنجر؟ قالت: اتخذته. إن دنا مني أحد من المشركين بقرت به بطنه -أي: شققت به بطنه- فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك. قالت: يا رسول الله! اقتل من بعدنا -أي من وراءنا- من الطلقاء)] وهم الذين أسلموا في فتح مكة، وكان في دينهم رقة وضعف، فتصورت أم سليم أن هؤلاء قد نافقوا، فحكمت عليهم بالقتل؛ لأنهم منافقون، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام بيّن لها أنهم في غنى عن هذا، حتى عن قتال هؤلاء دون النبي صلى الله عليه وسلم، وليسوا كما تزعمين يا أم سليم، بل هم مسلمون لكن في دينهم رقة وضعف. قالت: [(يا رسول الله! اقتل من بعدنا من الطلقاء، انهزموا بك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أم سليم! إن الله قد كفى وأحسن). وحدثنيه محمد بن حاتم حدثنا بهز -وهو ابن أسد العمي - حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك في قصة أم سليم عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل حديث ثابت]. قال الإمام النووي في قولها: (اقتل من بعدنا من الطلقاء) قال: (سموا بذلك -أي: الطلقاء- لأن النبي صلى الله عليه وسلم من عليهم وأطلقهم، وكان في إسلامهم ضعف، فاعتقدت أم سليم أنهم منافقون، وأنهم استحقوا القتل بانهزامهم وغيره. [حدثنا يحيى بن يحيى قال: أخبرنا جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس بن مالك قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بـ أم سليم -أي: أنها كانت تخرج معه في غزواته- ونسوة من الأنصار معه إذا غزا -ليس بـ أم سليم وحدها- فيسقين الماء ويداوين الجرحى)]. إذاً: مهمة النساء في الغزو ليس القتال، وإنما مهمتهن: سقي الماء، ومداواة الجرحى، وطبخ الطعام، وغير ذلك من مهام النساء

شرح حديث أنس في رؤية أبي طلحة لخدم ساقي عائشة في غزوة أحد

شرح حديث أنس في رؤية أبي طلحة لخدم ساقي عائشة في غزوة أحد قال: [حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي حدثنا عبد الله بن عمرو أبو معمر المنقري حدثنا عبد الوارث -وهو ابن سعيد البصري - حدثنا عبد العزيز -وهو ابن صهيب البصري تلميذ أنس - عن أنس قال: (لما كان يوم أحد انهزم ناس -أي: من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم- من الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو طلحة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم مجوّب عليه بحجفة)] أي: مترس عليه بترس ليقيه سلاح العدو، أي: أنه قد اتخذ سلاحاً وترساً ليحمي نفسه ضد العدو. قال: [(وكان أبو طلحة رجلاً رامياً شديد النزع، وكسر يومئذ قوسين أو ثلاثاً. قال: فكان الرجل يمر معه الجعبة من النبل)] أي: يمر معه الجعبة مليئة بالنبال. قال: [فيقول النبي عليه الصلاة والسلام: (انثرها لـ أبي طلحة)] أي: أخرجها من جعابها وناولها لـ أبي طلحة؛ لأنه أرمى الناس. قال: [(ويشرف نبي الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى القوم)] أي: يخرج من خبائه وينظر إلى المشركين، فيخاف عليه أبو طلحة إذا نظر وأشرف وخرج من خبائه أن يراه المشركون فيوجّهوا إليه سهامهم. [فيقول أبو طلحة: (يا نبي الله! بأبي أنت وأمي -أي: فداك أبي وأمي- لا تشرف -أي لا تتطلع إلى القوم- لا يصبك سهم من سهامهم)] أي: حتى لا يصيبك سهم من سهامهم. قال: [(نحري دون نحرك)] أي: رقبتي دون رقبتك. كأنه أراد أن يقول: يا رسول الله أنا أموت دونك وأُنحر ولا تُنحر، أُقتل ولا تُقتل، دعني أنا أواجه العدو، أما أنت فامكث واثبت في خبائك، لا تطّلع على القوم حتى لا يروك فيوجهوا إليك سهامهم فيقتلوك. نحري دون نحرك يا رسول الله! وفي هذا منقبة عظيمة جداً لـ أبي طلحة الأنصاري الذي يقول: (بأبي أنت وأمي) يفدّيه بأبيه وأمه، كما يقول له: (نحري دون نحرك) أي: أنا أُقتل ولا تُقتل، أُصاب بكل أذى ولا تُصاب أنت بأدنى أذى. قال: [(ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم) -وعائشة هي أم المؤمنين، وأم سليم هي زوج أبي طلحة - وإنهما لمشمرتان) أي: مشمرتان الساعد أو الذراع؛ لأن التشمير لا يقال إلا لهذين، إما الساعد وإما الذراع. قال: [(أرى خدم سوقهما -أي موضع الخلخال، وهو الذي يوضع في أسفل الساق- تنقلان القرب على متونهما -أي: يحملان الماء فينقلانه من مكان إلى مكان على ظهورهما- ثم تفرغانه في أفواههم -أي: في أفواه القوم يسقيان الجرحى- ثم ترجعان فتملآنها، ثم تجيئان تفرغانه في أفواه القوم، ولقد وقع السيف من يدي أبي طلحة إما مرتين أو ثلاثاً من النعاس)]. وهذا يدل على شدة الجهد وأنهم واصلوا الليل بالنهار في القتال، ولم يكن هناك وقت للراحة أبداً فضلاً عن النوم والنعاس؛ مما جعل السيف يسقط من فرط الجهد ومن قلة النوم من يدي أبي طلحة مرتين أو ثلاثاً لقلة النوم.

الرد على شبهة الاحتجاج بهذا الحديث على جواز النظر إلى غير المحارم من النساء

الرد على شبهة الاحتجاج بهذا الحديث على جواز النظر إلى غير المحارم من النساء هنا شبهة يستخدمها كثير من الناس، يقولون: النظر إلى غير المحارم من النساء جائز، بدليل أن أبا طلحة نظر إلى خدم سوق عائشة رضي الله عنها، وهي أم المؤمنين، أي: أم أبي طلحة في المنزلة والمكانة وزيادة، وأمه في التحريم الأبدي، فلا يحل لأحد من الناس أن يتزوج بإحدى زوجات النبي وإن طلقها عليه الصلاة والسلام، فهي أم في التعظيم والتبجيل والاحترام والنكاح، وليست أماً في بقية المسائل، ولذلك إذا ماتت أم من أمهات المؤمنين فلا يحل لأحد أن يرثها إلا ورثتها. فيقولون: هذا الحديث ظاهر في الدلالة على جواز النظر إلى ساق المرأة أو إلى ذراع المرأة، وهذا نظر وإن كانت هناك نصوص محرّمة إلا أن هذا النص يبيح النظر إليها، فهذا التحريم إما أن يصرف تماماً فلا يكون حراماً، وإما أن يكون النظر مكروهاً؛ وذلك لأن آيات التحريم لا تقع فيها أحاديث جواز النظر إلى عائشة رضي الله عنها، وإلى إحدى نساء النبي عليه الصلاة والسلام، وإلى تلك المرأة سفعاء الخدين، وغير ذلك من النصوص. يقول الإمام النووي: (وأما السوق: فجمع ساق، وهذه الرواية للخدم لم يكن فيها نهي -أي: هذا الموضع من المرأة لم ينزل فيه النهي لأول وهلة- لأن هذا كان يوم أحد قبل أمر النساء بالحجاب، وتحريم النظر إليهن). إذاً: تدفع هذه الشبهة من وجهين: الوجه الأول: أن هذا كان قبل تحريم النظر، وقبل نزول آيات الحجاب. ولأنه لم يذكر هنا أنه تعمد النظر إلى نفس الساق، فهو محمول على أنه حصلت تلك النظرة فجأة بغير قصد كما لم يثبت أنه داوم عليها، فهو قبل آيات التحريم -وإن سلّمنا جدلاً أنه بعد آيات التحريم- فهذا نظر الفجأة الذي سأل عنه علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (يا رسول الله! أرأيت لو نظرت إلى المرأة نظر الفجأة قال: اصرف بصرك فإن الأولى لك والثانية عليك). فهذا أبو طلحة نظر إلى قدم عائشة رضي الله عنه وهي أمه قبل آيات التحريم، وكانت هذه النظرة من نظرات الفجأة، ولم يدم النظرة إليها، وإنما وقع بصره عليها ثم انصرف، فلا حجة بعد هذه التبريرات لمن تمسك بطرف هذا النص بجواز النظر إلى المرأة الأجنبية. والعجيب أن بعض المذيعات كن يقدمن برنامجاً، وقد استضفن فيه بعض علماء مشايخ الأزهر، فحينما أنكر المسلمون على هذا الشيخ كيف تجلس مع امرأة متبرجة تنظر إليها وتنظر إليك؟ أجاب هذا الشيخ بهذا الحديث، وبلا شك أنه إذا أجاب بهذا الحديث وكان المعترض عليه جاهلاً بهذا الحديث أو بتأويل هذا الحديث لا شك أنه سيسكت، بل قد سكّت بالفعل، وكان هذا في مسجد عام كبير، يقال له: (مسجد النور) في (العباسية)، والآلاف يسمعون؛ مما جعل الناقد حين سماع هذا الحديث يسكت، فكان في سكوته فتنة عظيمة للمستمعين عظيماً؛ لأن الحديث صحيح، وهو ظاهر في الجواز، وهذا فرق كبير جداً بين من ينتهج في فهم النصوص منهج السلف ومنهج الخلف، أما الذي ينتهج نهج الخلف فلا يضره أن يسمع الحديث من فلان أو علان بفهمه هو، ولكن الرجل الذي يحرص أن يفهم دينه على مذهب السلف لا بد أن يرجع إلى النص ويعلم ماذا قال فيه السلف، فبعد سماعنا لهذا النص ومعرفتنا بتأويله، وأن ذلك كان قبل التحريم، ولو سلّمنا أنه بعد التحريم فهو محمول على الفجأة، وكل منهما جائز مباح، وفي ذلك عصمة لنا، ودائماً كلام السلف رضي الله عنهم عصمة لهم ولمن بعدهم.

باب النساء الغازيات يرضخ لهن ولا يسهم والنهي عن قتل صبيان أهل الحرب

باب النساء الغازيات يرضخ لهن ولا يسهم والنهي عن قتل صبيان أهل الحرب الباب الثامن والأربعون: (النساء الغازيات يرضخ لهن ولا يُسهم). ومعنى يرضخ: يأخذن أخذاً من الغنيمة بغير تحديد ولا تعيين، لا تأخذ سهماً ولا سهمين ولا أكثر من ذلك ولا أقل، وإنما تأخذ جزافاً ويعطى لها بغير حساب وغير عد؛ لأنها ليست مقاتلة، وليس للمرأة أن تقاتل إلا في أضيق الحدود وفي ظروف معينة، وذلك إذا تعيّن عليها القتال، أما دون ذلك فلا، لكن لها أن تداوي الجرحى، وأن تعد الطعام، وأن تسقي الماء وغير ذلك من الأعمال التي تناسب المرأة، فالمرأة إذا شاركت في الغزو رضخ لها الإمام ولا يسهم لها سهماً، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل صبيان أهل الحرب.

شرح حديث كتاب ابن عباس إلى نجدة الحروري

شرح حديث كتاب ابن عباس إلى نجدة الحروري قال: [حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب -وهو المعروف بـ القعنبي - حدثنا سليمان بن بلال عن جعفر بن محمد -وهو ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه- عن أبيه عن يزيد بن هرمز: أن نجدة كتب إلى ابن عباس]. ونجدة هو نجدة الحروري من زعماء الخوارج، وكان ابن عباس يبغضه أشد البغض لبدعته، ولكن نجدة [كتب إلى ابن عباس يسأله عن خمس خلال، فقال ابن عباس: لولا أن أكتم علماً ما كتبت إليه]. أي: أن ابن عباس كان يكره نجدة لبدعته وهي كونه من الخوارج الذين يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ولكن حينما سأله عن العلم لم يمكنه كتمه فاضطر إلى إجابته، وقال: لولا أن أكتم علماً ما كتبت إليه، أي: لولا أني إذا تركت الكتابة أصير كاتماً للعلم مستحقاً لوعيد كاتمه لما كتبت إليه. ثم أمر ابن عباس يزيد بن هرمز أن يكتب فأملاه ابن عباس وكتب خلفه يزيد. [كتب إليه نجدة أما بعد: فأخبرني هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء؟ وهل كان يضرب لهن بسهم؟ وهل كان يقتل الصبيان؟ ومتى ينقضي يتم اليتيم؟ وعن الخمس لمن هو؟ فكتب إليه ابن عباس: (كتبت تسألني هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء؟ قد كان يغزو بهن فيداوين الجرحى، ويحذين من الغنيمة -أي: يعطين شيئاً كالهدية أو المنحة أو الهبة ليس سهماً؛ لأنه كان يغزو بهن لمداواة الجرحى وليس للقتال- قال: وأما بسهم فلم يضرب لهن. وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يقتل الصبيان فلا تقتل الصبيان -أي: يا نجدة! لا تقتل الصبيان لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقتل الصبيان- قال: وكتبت تسألني متى ينقضي يتم اليتيم؟ فلعمري إن الرجل لتنبت لحيته وإنه لضعيف الأخذ لنفسه -أي: أنه ربما يكون رجل لحيته في وجهه، ولكنه لا يعرف مصلحته، فيذهب فيتصرف في ماله فيضر نفسه- ضعيف العطاء منها، فإذا أخذ لنفسه من صالح ما يأخذ الناس فقد ذهب عنه اليتم -أي: إذا بلغ الرشد وعلم مصلحته فقد ذهب عنه اليتم- وكتبت تسألني عن الخمس: لمن هو؟ وإنا -أي: أهل البيت بني هاشم وبني المطلب- كنا نقول: هو لنا، فأبى علينا قومنا ذلك)]. والمقصود بالخمس هنا: خمس الخمس الذي هو للنبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، فـ ابن عباس يقول: كنا نحن نعتقد أن هذا السهم لنا، لكن بني أمية أبوا علينا ذلك وقالوا: ليس لكم ذلك، إنما هو للفقراء والمساكين وابن السبيل. قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم كلاهما عن حاتم بن إسماعيل عن جعفر بن محمد عن أبيه عن يزيد بن هرمز: أن نجدة كتب إلى ابن عباس يسأله عن خلال. بمثل حديث سليمان بن بلال غير أن في حديث حاتم: وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يقتل الصبيان]. حينما سأله هل كان يقتل الصبيان؟ قال: لم يكن رسول الله يقتل الصبيان. [فلا تقتل الصبيان إلا أن تكون تعلم ما علم الخضر من الصبي الذي قتل]. فهنا ابن عباس يعرف أن نجدة هذا لا دين له ولا خلق، وإنه يقع من النصوص على مواطن الشبه، فـ ابن عباس يوقفه ويقطع عليه الطريق؛ لأنه لو قال له: إن رسول الله لم يكن يقتل الصبيان سيقول له: ولكن الخضر قتل الصبي الصغير. إذاً: يجوز قتل الصبيان الصغار، فـ ابن عباس لم يمكّنه من هذه وسد عليه الباب. [وزاد إسحاق في حديثه عن حاتم: وتميز المؤمن]. أي: وتميّز المؤمن من الكافر باعتبار ما سيكون. أي: تميّز أنت يا نجدة! المؤمن من الكافر بعد البلوغ مع أنه صبي لم يبلغ بعد، فهو يريد أن يقول له: إذا كان لديك علم لدنّي تعلم به أن هذا الصبي إذا بلغ سيكون مؤمناً، وذاك إذا بلغ سيكون كافراً فاقتل الكافر ودع المؤمن، وهذا تعجيز فمن أين له ذلك؟ الله تعالى علم الخضر فيما يتعلق بالصبي الذي قتله، وليس لـ نجدة أن يتعلم ما تعلمه الخضر، فكأنه يعجزه. قال: [فتقتل الكافر وتدع المؤمن]. قال: [حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان عن إسماعيل بن أمية عن سعيد المقبري -أي: سعيد بن أبي سعيد - عن يزيد بن هرمز قال: كتب نجدة بن عامر الحروري -وحروراء اسم مكان- إلى ابن عباس يسأله

كلام النووي في أحاديث الرضخ للنساء من الغنيمة والنهي عن قتل صبيان الكفار

كلام النووي في أحاديث الرضخ للنساء من الغنيمة والنهي عن قتل صبيان الكفار

بيان أنه يرضخ للنساء من الغنيمة ولا يسهم لهن

بيان أنه يرضخ للنساء من الغنيمة ولا يسهم لهن الإمام النووي عليه رحمة الله يقول في قوله: (كان يغزو بالنساء فيداوين الجرحى ويحذين من الغنيمة، وأما بسهم فلم يضرب لهن) (وفيه: حضور النساء الغزو. أي: فيه جواز أن تخرج المرأة للغزو وتداوي الجرحى على أن يعطين من الغنيمة عطية تسمى الرضخ وليست سهماً. وفي هذا أن المرأة تستحق الرضخ ولا تستحق السهم، وبهذا قال أبو حنيفة والثوري والليث والشافعي وجماهير العلماء. أما الأوزاعي فقال: تستحق السهم إن كانت تقاتل أو تداوي الجرحى. وقال مالك: لا رضخ لها فضلاً عن السهم -أي: لا سهم ولا رضخ- ولا شك أن هذا الحديث الصحيح الصريح، يرد على مالك وعلى الأوزاعي). ويبقى عندنا أن مذهب الجمهور -وهو المؤيد بالدليل- أن المرأة لها أن تغزو مع الرجال، فتكون في مؤخرة الرحال تداوي الجرى وتطببهم وتصنع الطعام، وما يكون من طبيعة النساء على أن يرضخ لها ولا يسهم. وهذا هو المذهب الراجح.

بيان أن العبد يرضخ له من الغنيمة ولا يسهم

بيان أن العبد يرضخ له من الغنيمة ولا يسهم أما قوله: (وسألت عن المرأة والعبد) هل يسهم لهما؟ أو هل كان لهما سهم معلوم إذا حضروا البأس أي: إذا حضروا الحرب، فإنهم لم يكن لهم سهم معلوم إلا أن يحذيا من غنائم القوم؟ في هذا الكلام فائدة: أن العبد يُرضخ له كذلك ولا يسهم له. إذاً: المرأة والعبد يرضخ لهما ولا يسهم، وبهذا قال الشافعي وأبو حنيفة وجماهير العلماء. وقال مالك: لا رضخ للعبد. إذاً: مالك منع الرضخ للعبد وللمرأة، أما الحسن وابن سيرين والنخعي والحكم قالوا: إن قاتل -أي: العبد- أسهم له. والحديث كذلك يرد عليهم. أي: يُرضخ لهما.

النهي عن قتل الصبيان إذا حضرت الحرب

النهي عن قتل الصبيان إذا حضرت الحرب قال: (وأما قوله: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يقتل الصبيان فلا تقتل الصبيان). فيه: النهي عن قتل صبيان أهل الحرب، وهو حرام إذا لم يقاتلوا). صبيان المشركين والكفرة قتلهم حرام، إلا أن يقاتل الصبية فلا يكونوا صبية حينئذ، وإنما يكونوا محاربين مقاتلين فيجوز قتلهم. والاستثناء الثاني: أنه إذا لم يكن يمكن الوصول إلى المقاتلين المحاربين إلا بقتل الصبيان والنساء فيقتلون تبعاً لا أصلاً، كما أنهم يقتلون في الثغر والتترس، فإذا تترس المشركون في مكان أو بشيء واتخذوا الأطفال ستاراً لهم، ولا يمكن الوصول إلى المقاتلين المحاربين إلا بقتل الصبيان فلا بأس حينئذ بقتلهم. إذاً: الحرام تعمد قتل الصبيان والنساء والخدم ابتداءً.

أحكام اليتيم إذا بلغ سن الرشد

أحكام اليتيم إذا بلغ سن الرشد قوله: (وكتبت تسألني: متى ينقضي يتم اليتيم؟ فلعمري إن الرجل لتنبت لحيته وإنه لضعيف الأخذ لنفسه ضعيف العطاء منها، فإذا أخذ لنفسه من صالح ما يأخذ الناس فقد ذهب عنه اليتم). أي: فإذا بلغ رشداً علم به مصلحته في الأخذ والعطاء، في البيع والشراء، في التعاملات والتصرفات، فإن هذا دليل على بلوغه الرشد وذهاب اليتم، والسن مختلف فيه. قال: (ومعنى هذا: متى ينقضي حكم اليتم ويستقل اليتيم بالتصرف في ماله؟) طبعاً في قانون الأحوال الشخصية المصري ينقضي يتم اليتيم بواحد وعشرين سنة، وهذا أوفق في صحة التصرفات، وأما نفس اليتم فينقضي بالبلوغ، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا يتم بعد الحلم) أي: بعد بلوغ الصبي سن الحلم يذهب عنه اسم اليتم، ويبقى حكم اليتم حتى يبلغ الرشد. إذاً: هناك فرق بين سن البلوغ وسن الرشد، فسن البلوغ أن تظهر عليه علامات البلوغ من نبات الشعر في الوجه أو في العانة أو في الإبط، أو ظهور الثدي عند البنت، أو ابتداء الشهوة لدى الولد أو البنت، كل هذه علامات تدل على البلوغ. أما الرشد فيبقى عنه بضعة أعوام بعد سن البلوغ، فقد يبلغ في العاشرة أو في الحادية عشرة أو في الثانية عشرة، ولكنك لا تجيز تصرفه حتى يبلغ العشرين أو زيادة أو أقل. قال: (وأما نفس اليتم فينقضي بالبلوغ، وقد ثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا يتم بعد الحلم). وفي هذا دليل للشافعي ومالك وجماهير العلماء: أن حكم اليتم لا ينقطع بمجرد البلوغ ولا بعلو السن -هذا حكم اليتم، أما اسم اليتم فيزول عنه بمجرد البلوغ- بل لا بد أن يظهر منه الرشد في دينه وماله. وقال أبو حنيفة: إذا بلغ خمساً وعشرين سنة زال عنه حكم الصبيان، وصار رشيداً يتصرف في ماله، ويجب تسليمه إليه وإن كان غير ضابط له، وأما الكبير إذا طرأ تبذيره -أي: بعد سن خمسة وعشرين، إذا كان إنساناً مسرفاً جداً ومبذّراً سفيهاً لا يضبط تصرفاته- فمذهب مالك وجماهير العلماء وجوب الحجر عليه لا لليتم وإنما للسفه؛ لأنه كبير. وقال أبو حنيفة: لا يحجر. وقال ابن القصار: الصحيح الأول وكأنه إجماع). أي: الكبير الذي بلغ سن الرشد ولكنه سفيه في تصرفاته يحجر عليه لا من باب اليتم ولكن من باب السفه. والله أعلم.

بيان مصارف الخمس من المغنم

بيان مصارف الخمس من المغنم قال: (قوله: (وكتبت تسألني عن الخمس لمن هو؟ وإنا كنا نقول: هو لنا، فأبى علينا قومنا ذاك). معناه: خمس خمس الغنيمة الذي جعله الله تعالى لذوي القربى، وقد اختلف العلماء فيه، فقال الشافعي مثل قول ابن عباس، وهو أن خمس الخمس من الفيء والغنيمة يكون لذوي القربى، وهم عند الشافعي والأكثرين: بنو هاشم وبنو المطلب). وهذا هو الراجح. قال: (وقوله: (ولكن أبى علينا قومنا ذاك) أي: رأوا أنه لا يتعين صرفه إلينا، بل يصرفونه في مصالح العامة، وأراد بقومه ولاة الأمر من بني أمية).

النهي عن قتل الصبيان في الحرب

النهي عن قتل الصبيان في الحرب قال: (أما قوله: فلا تقتل الصبيان إلا أن تكون تعلم ما علمه الخضر من الصبي الذي قتل. معناه: أن الصبيان لا يحل قتلهم، ولا يحل لك أن تتعلق بقصة الخضر وقتله صبياً؛ فإن الخضر ما قتله إلا بأمر الله؛ ولذلك قال الله تعالى حاكياً عن الخضر: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف:82]) فإن كنت أنت تعلم من صبي ذلك فاقتله، (ومعلوم أنه لا علم له بذلك، فلا يجوز له القتل).

باب عدد غزوات النبي صلى الله عليه وسلم

باب عدد غزوات النبي صلى الله عليه وسلم الباب التاسع والأربعون: (باب عدد غزوات النبي صلى الله عليه وسلم). أي: كم غزوة غزاها النبي عليه الصلاة والسلام. والغزوة تختلف عن السرية. السرية هي سرية صغيرة أو مناورة أو استطلاع أو شيء من هذا. إنما الغزوة بمعنى: الجيش الذي يكون على رأسه النبي عليه الصلاة والسلام أو الإمام، فهذه الغزوة عند الإطلاق. فكم غزوة غزاها النبي عليه الصلاة والسلام؟ لك أن تتصور أن غزوات النبي عليه الصلاة والسلام كلها كانت خلال ثمان سنوات؛ لأن أول غزوة غزاها هي غزوة بدر وكانت في العام الثاني من الهجرة، وهو عليه الصلاة والسلام مات في العام العاشر. قال: [عن أبي إسحاق أن عبد الله بن يزيد خرج يستسقي بالناس فصلى ركعتين ثم استسقى. قال: (فلقيت زيد بن أرقم -وقال- ليس بيني وبينه غير رجل -أو بيني وبينه رجل- قال: فقلت له: كم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: تسع عشرة غزوة. فقلت: كم غزوت أنت معه؟ قال: سبع عشرة غزوة -فاتته غزوتان- قال: فقلت: فما أول غزوة غزاها؟ قال: ذات العُسير أو العُشير)]، والراجح: أنها غزوة ذات العُشير بالمعجمة وليس بالمهملة، وهي سرية كانت قبل بدر، ولكن سماها غزوة من باب المجاز؛ لأنها تقوم بنفس مقام الغزوة الكبرى، فسماها غزوة وليست كذلك. والعشير: هي من أرض مذحج. [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا يحيى بن آدم حدثنا زهير -وهو ابن معاوية بن حديج الجعفي - عن أبي إسحاق السبيعي عن زيد بن أرقم سمعه منه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا تسع عشرة غزوة، وحج بعدما هاجر حجة واحدة لم يحج غيرها وهي حجة الوداع)]. سُميت الوداع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ودّع فيها أصحابه قال: (خذوا عني مناسككم فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا). قال الصحابة فيما بينهم قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم: هذه حجة الوداع. أي: التي فيها ودّع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وأمته، وفارق بعدها الدنيا صلى الله عليه وسلم. والنبي عليه الصلاة والسلام حج على ملة إبراهيم عليه السلام على الحنفية السمحاء قبل البعثة مرتين، وحج بعد البعث مرة واحدة. [وحدثنا زهير بن حرب حدثنا روح بن عبادة حدثنا زكريا أخبرنا أبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: (غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوة)]. إذاً: عد زيد بن أرقم يتوافق مع عد جابر بن عبد الله الأنصاري. والفارق بين زيد بن أرقم وجابر: أن زيداً سئل: كم غزا النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: تسع عشرة. وجابر قال: غزوت معه تسع عشرة. وهذا يعني: أن جابراً حضر جميع الغزوات مع النبي عليه الصلاة والسلام، لكن بعد ذلك [قال جابر: لم أشهد بدراً ولا أحداً]، إذاً: حضر مع النبي صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوة، ولكنه لم يشهد بدراً ولا أحداً. إذاً: يكون عدد الغزوات واحداً وعشرين غزوة. هل نفى جابر الغزوات بعد ذلك؟ هل أتى رجل وقال: لم يغز النبي صلى الله عليه وسلم إلا واحداً وعشرين غزوة؟ لو قال ذلك لكانت هذه صيغة اختصاص لم يغز إلا هذا العدد، ولكن جابر يقول: غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوة ولم أحضر بدراً ولا أحداً، ولم ينف جابر أنه غزا أكثر من ذلك، فهو يقول: أنا حضرت تسعة عشر غزوة، لكن للأسف لم أحضر بدراً ولا أحداً، وهذا لا ينفي أنه لم يحضر غير بدر ولا أحد، لكن حينما كانت هاتان الغزوتان هما أعظم غزوات النبي عليه الصلاة والسلام فهو يتحسّر أنه لم يحضرهما، وحضر بعد ذلك تسع عشرة غزوة، لا ينفي أن تكون فاتته غزوة أو غزوتين أو ثلاثاً أو أربعاً. قال: [منعني أبي -أي: من بدر وأحد- فلما قُتل عبد الله يوم أحد لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة قط]. هذا الكلام الأخير يفيد الحصر عند جابر بن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يغز إلا واحداً وعشرين غزوة، حضر منها تسع عشرة وتخلف عن غزوتين. زيد بن أرقم يقول: الغزوات تسع عشرة غزوة. إذاً: كل منهما أخبر بما عنده من علِم. [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا زيد بن الحباب (ح) وحدثنا سعيد بن محمد الجرمي حدثنا أبو تميلة -كنية جميلة جداً، وهي اسم لـ يحيى بن واضح الأنصاري المروزي - قالا جميعاً: حدثنا حسين بن واقد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه بريدة بن ا

باب غزوة ذات الرقاع

باب غزوة ذات الرقاع الباب الخمسون: (باب غزوة ذات الرقاع). قال: [حدثنا أبو عامر عبد الله بن براد الأشعري ومحمد بن العلاء الهمذاني -واللفظ لـ أبي عامر - قال: حدثنا أبو أسامة حماد بن أسامة عن بريد بن أبي بردة عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة ونحن ستة نفر -إذاً: فهذه تسمى سرية- بيننا بعير نعتقبه)] أي: نتعاقب عليه وكل منا يركبه فترة. وفي هذا: جواز هذا الصنيع ما دامت الدابة مطيقة وغير متضررة. قال: [(فنقبت قدماي -أي: دميت أو تشققت وكلّت -وسقطت أظفاري) ولك أن تتصور شدة الجهد الذي بذله أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، حتى نقبت وتشققت أقدامهم من المشي في الصحراء الحارة الرمضاء. قال: [(فكنا نلف على أرجلنا الخرق -وهم هؤلاء الذين نصر الله تعالى بهم الدين- فسميت غزوة ذات الرقاع)] وهذا أقوى الأسباب في تسميتها بذات الرقاع، كان معهم رقع من الجلد أو خرق القماش لفوا بها أرجلهم؛ ولذلك سميت الغزوة بغزوة ذات الرقاع. قال: [(لما كنا نعصّب على أرجلنا من الخرق. قال أبو بردة: فحدث أبو موسى بهذا الحديث، ثم كره ذلك). وقال: ليتني لم أحدث بهذا، من باب ستر العمل الصالح وعدم إفشائه؛ حتى يكون بين العبد وبين ربه. قال: (كأنه كره أن يكون شيئاً من عمله أفشاه) قال أبو أسامة: وزادني غير بريد والله يجزي به]. قال الإمام النووي: (في هذا استحباب إخفاء الأعمال الصالحة، وما يكابده العبد من المشاق في طاعة الله تعالى، ولا يظهر شيئاً من ذلك إلا لمصلحة، مثل بيان حكم ذلك الشيء، والتنبيه على الاقتداء به فيه ونحو ذلك، وعلى هذا يحمل ما وجد للسلف من الإخبار بذلك). أي أنهم كانوا يعملون الأعمال الصالحة ثم يفشونها؛ حتى يقتدي بهم من بعدهم، لا من باب المفاخرة أو الرياء والسمعة.

باب كراهة الاستعانة في الغزو بالكافر

باب كراهة الاستعانة في الغزو بالكافر الباب الأخير في كتاب الجهاد وهو (باب كراهة الاستعانة في الغزو بكافر). قال: (باب كراهة) ولم يقل: باب تحريم، كما أنه لم يقل: باب جواز، وإنما أخذ الكراهة من نصين: نص يجيز مطلقاً، ونص يمنع مطلقاً، والذي اعتمد على المنع المطلق قال بالتحريم، والذي اعتمد على النص المجيز مطلقاً قال بالجواز، والمذهب الراجح هو التفصيل والوسط بين المذهبين، وسنتعرض لهما. [حدثنا زهير بن حرب حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن مالك، وحدثنيه أبو الطاهر -واللفظ له- حدثنا عبد الله بن وهب عن مالك بن أنس عن الفضيل بن أبي عبد الله عن عبدالله بن نيار الأسلمي عن عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أنها قالت: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبل بدر -أي: ناحية بدر- فلما كان بحرة الوبرة -وهو اسم موضع على بعد أربعة أميال من المدينة- أدركه رجل قد كان يذكر منه جرأة ونجدة)] أي: قوة وشجاعة في الحرب، وكان الصحابة يعلمون ذلك منه، غير أنه كان مشركاً وكافراً. قال: [(ففرح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأوه)] أي: ظنوا أنه قد أسلم وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم ليقاتل معه. قال: [(فلما أدركه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: جئت لأتبعك وأصيب معك)] أنا جئت لكي أقاتل معك ويكون لي شيء من الغنيمة، أي: أن هذا الرجل أتى مقاتلاً لأجل الغنيمة، طبعاً هذا ليس له حسبة ولا نية صالحة؛ لأنه كافر. [قال: (قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا)] أرأيتم مثل هذه الجرأة؟ لم يقل: أنا مؤمن بالله ولكن لست مؤمناً بك أنت، كالمشركين في مكة قالوا: نحن نؤمن بالله لكن لا نؤمن أنك رسول من عند الله، أما هذا فقد نفى الكل، فأنا لست مؤمناً بالله ولا مؤمناً بك. قال: [(تؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا. قال: فارجع فلن أستعين بمشرك. قالت عائشة: ثم مضى -أي: ثم انصرف النبي عليه الصلاة والسلام تجاه بدر- حتى إذا كنا بالشجرة -أي عند شجرة في مكان- أدركه الرجل مرة أخرى فقال له كما قال أول مرة: جئتك لأتبعك على أن أصيب معك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم كما قال أول مرة: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا. قال: فارجع فلن أستعين بمشرك. ثم رجع فأدركه بالبيداء -مكان صحراء عند بدر- فقال له كما قال أول مرة: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: نعم. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: فانطلق)]. أي: ادخل في وسط الجيش وقاتل. وفي هذا الحديث فوائد ينبغي الوقوف عندها.

حكم الاستعانة بالكافر في الحرب

حكم الاستعانة بالكافر في الحرب من فوائد هذا الحديث: أن هذا الرجل حينما أقر بالإيمان وأذن له النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد دون تربية سابقة وإعداد للقتال كان استثناءً؛ لأن الرجل أتى وقد التقى الجيشان -جيش الإيمان وجيش الكفر- وهذا الرجل أعلن الإيمان في اللحظة التي يعقبها القتال، فيسأل: هل أنت مؤمن؟ قال: نعم. أنا مؤمن. فيقول له: ادخل دون صلاة ولا صيام ولا زكاة. ولا أي معلم من معالم الإيمان غير أنه نطق بالشهادتين. لكن الجيش الذي خرج به النبي عليه الصلاة والسلام من المدينة كان جيشاً متربياً على الإيمان، فالأصل أن التربية قبل الجهاد، فالذي يزعم أن الجهاد يعقبه التربية هذا زعم غلط، وهو مخالف لسيرة النبي عليه الصلاة والسلام وسيرة أصحابه، فالجهاد يحتاج إلى إعداد إيماني متين؛ ولذلك الأمة لا يمكن أن تجاهد كلها إنما يجاهد منها فئة مخلصة مؤمنة هم أتباع الرسل، وهم أتباع الرسول عليه الصلاة والسلام، الذين يستشرفون بعد عشرات السنين في العلم والصلاة والزكاة والصيام وقيام الليل والتدريب على التقوى والإيمان، هؤلاء هم الذين يثبتون حين اللقاء، أما الذين لم يتربوا وقد دعوا إلى القتال لا نية لهم ولا يعرفون معنى الراية؛ لأنهم ليسوا تحتها ابتداء ولا أصلاً، ولا يحمونها؛ ولذلك هم يعدون القتال مع العدو مهلكة للدماء، ومهلكة للأموال وللأنفس، وخراب للاقتصاد، وضياع للبلاد وهكذا نسمع في كل يوم أنهم يقولون هذا، أنهم يقولون: لِم نقاتل وبعد القتال نصطلح؟ فلماذا لا نصطلح من البداية قبل القتال. ثم يقولون: نقاتل لماذا؟ إنما نحمي بلادنا، فلا علاقة لنا بفلسطين ولا بالشيشان ولا بأفغانستان هؤلاء لم يفهموا شيئاً في دين الله عز وجل، ولا علاقة لهم به؛ لأن علاقتهم بالله منقطعة أصلاً، وعلاقتهم بالدين وبالأحكام الشرعية منقطعة ابتداء، فهم قد حجب الله تعالى عنهم نور الإيمان، ويتكلمون بالكلام النجس النتن الذي يتعلمونه في سياساتهم، أما دين الله عز وجل فهم أبعد الناس عنه، فكيف يقاتلون إذاً؟ كما أنهم ربوا شعوبهم وربوا هذه الأمة على هذه الأخلاق الفاسدة والعقائد الباطلة، فصارت هناك أجيال تربت على الزنا والخنا وشرب الخمر والميوعة وغير ذلك، فيقولون: نقاتل بمن؟ نعم فعندكم حق، لا قاعدة معكم تسندكم في هذا القتال؛ لأنكم ربيتم الأمة كلها على الفساد وعلى الباطل حتى إذا احتجتموهم في موطن الهلاك والضيق لم تجدوا واحداً. وهذا ثمرة الأعمال، فحينما ربيتموهم على الفساد لا ينفعوكم عند الحاجة أبداً. والعجيب أنهم يخافون من رفع راية الجهاد وتسليم الراية إلى المجاهدين حقاً مخافة على أنفسهم، فهم يفهمون هذه القضية جيداً، ويفهمون أن ثلة قليلة من المؤمنين أوقفت أعظم دولة كافرة في العالم على أظافرها، وألحقوا بهم مضرات لا قبل لهم بها، فيقولون: فما بالهم لو تفرغوا لنا! كل هذا مخافة على الكراسي والأموال وغير ذلك؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون. فالأصل التربية قبل الجهاد، فالذي يقول: الجهاد قبل التربية مخطئ، ولو أنه استند إلى مثل هذا النص فنقول له: هذا استثناء وليس أصلاً، بدليل أن الجيش نفسه الذي خرج به النبي صلى الله عليه وسلم لم يخرج به لأول وهلة، بمجرد أنه آمن، وإنما حينما آمن رباه في مكة ثلاثة عشر عاماً، حتى كان الإيمان في قلوبهم كالجبال الرواسي، وازدادوا بالأنصار في المدينة فصاروا جيشاً تتزلزل أمامه الجبال الرواسي، فلا تترك هذا كله وهو الأصل وتتمسك بالاستثناءات، لك أن تتصور أن النبي صلى الله عليه وسلم وضعه في المكان المناسب، هل النبي صلى الله عليه وسلم سيضعه في مكان أبي بكر أو في مكان عمر؟ بل لا بد أن يرجع إلى الخلف، فأنت حينما تذهب لأي جيش من الجيوش يقبلك على مضض؛ لأنك لست مدرباً ولا مهيأً، ولا تعرف طبيعة الأرض ولا تعرف طبيعة الحرب في هذا المكان بالذات؛ لأن كل أرض لها طبيعة، حتى لاعب الكرة يقول: الأرض تلعب مع أصحابها. إذاً: فلا بد أن يقاتل من عرف طبيعة الأرض، ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد وضعه في المكان المناسب. ولذلك جاء في الحديث الآخر: أن النبي عليه الصلاة والسلام استعان بـ صفوان بن أمية قبل إسلامه رضي الله عنه، طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يقاتل فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم أن يقاتل؛ وذلك لأن صفوان بن أمية كان متعاطفاً مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى قبل الإسلام، وكان محباً للنبي صلى الله عليه وسلم ومحباً للإسلام، ومسالماً للنبي عليه الصلاة والسلام ومن معه، كما أن أبا طالب والد علي رغم كفره إلا أنه كان متعاطفاً مع ابن أخيه، وكان يذب عنه ويدافع عنه، فهذا كافر ولكنه مسالم، بخلاف الكافر المحارب. والمصيبة أنك حينما تدخل شركات مسلمة تجد المصنّعين مسلمين، ولكنك تجده ليس له طعم ولا لون ولا رائحة، ولا علاقة لهم بالإسلام، فهم لا يصلون ولا يصومون ولا يؤدون زكاة ولا شيئاً من الدين أبداً، وربما تجد صاحب الشركة النصراني يؤ

كتاب الجهاد والسير - مراجعة في كتاب الجهاد والسير

شرح صحيح مسلم - كتاب الجهاد والسير - مراجعة في كتاب الجهاد والسير الجهاد هو ذروة سنام الدين، وحامي حياض الملة المحمدية، وناشر دعوتها في أقطار المعمورة، وعلى ما في القتال من سفك للدماء، وإزهاق للأرواح، والذي ظاهره العذاب، إلا أنه في شريعة الإسلام باب من أبواب الرحمة؛ لما يحمله بين طياته من أهداف وآداب، أهداف لإنقاذ البشرية من ظلمات الكفر والشرك، وآداب في التعامل مع أعداء الدين من المقاتلين وغيرهم.

باب جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم دعوة الإسلام من غير تقدم الإعلام بالإغارة

باب جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم دعوة الإسلام من غير تقدم الإعلام بالإغارة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، فقد كنا انقطعنا عن مواصلة السير في كتاب الجهاد والسير بعد أن تعرضنا له في محاضرتين أو ثلاث، فأقول: يحسن بنا أن نراجع مراجعة سريعة كتاب الجهاد من أوله حتى يتصل حبل الفكر، ونتذكر ما كان قد مضى. الباب الأول: (باب جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم دعوة الإسلام من غير تقدم الإعلام بالإغارة). لأنهم قد سبقتهم دعوة الإسلام ابتداءً، وهذه المسألة محل نزاع بين أهل العلم، فمنهم من جوز الإغارة مطلقاً، ومنهم من منعها مطلقاً، والصواب -وهو الرأي الثالث- أن من بلغتهم دعوة الإسلام فالإغارة عليهم جائزة، ومن لم تبلغهم دعوة الإسلام فالإغارة عليهم ممنوعة إلا بعد إعلامهم بدعوة الإسلام، في هذا الباب حديث ابن عون أنه قال: [كتبت إلى نافع وهو مولى عبد الله بن عمر أسأله عن الدعاء قبل القتال، أي: عن دعوة الناس قبل قتالهم. قال: فكتب إلي: (إنما كان ذلك في أول الإسلام. قد أغار النبي صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون -أي: وهم غارون في بيوتهم لا يعلمون عن قتاله عليه الصلاة والسلام شيئاً- وأنعامهم تسقى على الماء، فقتل مقاتلتهم وسبى سبيهم، وأصاب يومئذ جويرية بنت الحارث)].

باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث

باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث والباب الثاني: (باب: تأمير الإمام الأمراء على البعوث، ووصيته إياهم بآداب الغزو وغيرها). أي: باب: وجوب تأمير الإمام العام الأمراء على البعوث والسرايا، ووصيته إياهم بآداب الغزو وغيرها. فيه حديث سليمان بن بريدة عن أبيه [قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله عز وجل ومن معه من المسلمين خيراً)] أوصاه في نفسه وفيمن معه من المسلمين خيراً وأوصاه بتقوى الله. [ثم قال: (اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا)] والغلول: هو الأخذ من الغنيمة قبل توزيعها. أي: بغير إذن الإمام. قال: [(ولا تغدروا ولا تمثلوا)] أي: لا تقطعوا الجثث بعد موتها، فإذا مات انتهى أمره، وليست هناك حاجة ولا ضرورة إلى التمثيل بجثته أو تقطيعها. قال: [(ولا تقتلوا وليداً)] أي: ولا تقتلوا صبياً أو طفلاً صغيراً. قال: [(وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم: ثم ادعهم إلى الإسلام -ادعهم أن يدخلوا في هذا الدين- فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم -أي: لا تقاتلهم- ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين)] أي: من بلد الكفر إلى المدينة المنورة. قال: [(وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين)] لأن الأعراب والبدو لهم أحكام في الشرع تخصهم خاصة في نتاج الجهاد. قال: [(يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء)] وهذا هو حكم البدو الذين لم يشاركوا في القتال. قال: [(ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم)]. إذاً: المرحلة الأولى: ادعهم إلى الإسلام، فإن أبوا فاقبل منهم الجزية، فإن أبوا فقاتلهم. وهذه المراحل الثلاث مراحل جهاد الطلب؛ لأنه لا يتصور أبداً في جهاد الدفع أن يفرض المسلمون على العدو أن يدخلوا في الإسلام، خاصة وأن العدو قد أتاهم من بلاده ليقاتل المسلمين في بلادهم، وما سمي جهاد الدفع بهذا الاسم إلا لأنك تدفع العدو إذا أغار عليك، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام جوز للمسلمين أن يغيروا على بلاد الكفر ويخيروهم بين ثلاث: الإسلام، أو دفع الجزية عن يد وهم صاغرون، أو القتال. فقال: [(فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم)] أي فإن أبوا أن يدفعوا الجزية فاستعن بالله وقاتلهم. قال: [(وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم إن تخفروا ذممكم -أي: إن ترجعوا عن هذه الذمة أو تخطئوا فيها- خير لكم وأهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تُنزلهم على حكم الله فلا تُنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري: أتُصيب حكم الله فيهم أم لا)].

باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير

باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير والباب الثالث: في الأمر بالتيسير وترك التنفير، وليعلم العالم أن الجهاد في سبيل الله مبني على التيسير والتبشير، وترك التنفير والتعسير، وهذا باب اعتراضي في أثناء أبواب الجهاد؛ ليدل على أن الجهاد باب عظيم جداً من أبواب رحمة الله تعالى بخلقه.

باب تحريم الغدر

باب تحريم الغدر في الباب الرابع يتكلم عن بيان تحريم الغدر، وفيه: حديث ابن عمر وحديث ابن مسعود وحديث أنس وحديث أبي سعيد الخدري. وهذه الأحاديث كلها بمعنى واحد، فحديث عبد الله بن عمر يقول: [سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا جمع الله الأولين والآخرين -أي: يوم القيامة- يُرفع لكل غادر لواء عند استه -أي: عند مؤخرته- ويقال على الملأ وعلى رءوس الأشهاد: هذه غدرة فلان ابن فلان)] وفي رواية بزيادة يقول فيها: (ألا ولا غادر أعظم غدراً من أمير عامة) ليس هناك غدر أعظم من غدر إمام لعامة، وإمام العامة هو صاحب الولاية العامة كرئيس دولة، أو محافظ، أو وزير، أو غير ذلك ممن تولى الإمارة العامة والرئاسة العامة، وكان في يده نوع من أنواع الولاية العامة لا الولاية الخاصة، فإذا غدر هذا فلا شك أنه أعظم غدراً؛ لأنه يغش الأمة بأسرها حينئذ. وما ضيع إخواننا المجاهدين في أفغانستان إلا غدر أئمة العامة، فهؤلاء المنافقون يتظاهرون بالإسلام ابتداء وهم يبطنون النفاق ويبطنون اعتقادهم مذهب الشيوعية، كما أن منهم أصحاب مصالح ووجاهة وكراسي، وتصبو أعينهم إلى رئاسات يركنون من أجلها إلى الغرب تارة وإلى الشرق تارة أخرى، فلو أن الجاهل سكت لقل الخلاف، ولو أن الله تعالى نجى المجاهدين المخلصين الموحدين من غدر الغادرين في هذه البلاد لكانت الحرب قد وضعت أوزارها منذ زمن بعيد، ولكن شاء الله عز وجل أن يسلط هؤلاء على أولئك حتى يبتليهم ويختبرهم؛ ليميز الله الخبيث من الطيب، وهذه سنة كونية في الكون، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام أول من ابتلي بذلك. أنتم تعلمون أن صفوف المنافقين في المدينة كثيرة، وقد نخروا في عظام الإسلام في صدره الأول، والنبي عليه الصلاة والسلام عرفهم، ولكنه تركهم لحكمة عظيمة مخافة أن يقول الناس: إن محمداً يقتل أصحابه، وليسوا أصحابه في الحقيقة، وإنما هم كفار منافقون.

باب جواز الخداع في الحرب

باب جواز الخداع في الحرب بعد أن تكلم الإمام عن حرمة الغدر بين أن الغدر في الحرب جائز، حتى لا يُعمم هذا الحكم الأول وأن الغدر كله ممنوع، وإنما الخدعة في الحرب نوع من أنواع الغدر وهي جائزة، فقال: (باب: جواز الخداع في الحرب، أما في غير الحرب فلا). وقال عليه الصلاة والسلام: (الحرب خدعة). وأنتم تعلمون أن الخداع في الحرب ربما يكون نوعاً من الكذب، أو ربما يستلزم الكذب، وحينما أرسل النبي عليه الصلاة والسلام في إثر أبي الحقيق أو غيره من المشركين والمنافقين لقتلهم قال من تولى المهمة: يا رسول الله! ائذن لي، أي: أن أقول فيك قولاً لا أعتقده، فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم. وقد ثبت في الحديث أن الكذب حرام إلا في ثلاث مواطن: الكذب على العدو -أي: في الحرب- والكذب على الزوجة، وكذلك الكذب للإصلاح بين المتخاصمين، وقد صحت بذلك الأدلة.

باب كراهة تمني لقاء العدو، والأمر بالصبر عند اللقاء

باب كراهة تمني لقاء العدو، والأمر بالصبر عند اللقاء الباب السادس: (باب: كراهة تمني لقاء العدو، والأمر بالصبر عند اللقاء). فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(لا تمنوا لقاء العدو، فإذا لقيتموهم فاصبروا)] أي: لا تتمنوا لقاء العدو، وإذا لقيتموهم فاصبروا. [وعن أبي النضر عن كتاب رجل من أسلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقال له: عبد الله بن أبي أوفى المصري: أنه كتب إلى عمر بن عبيد الله حين سار إلى الحرورية وهم شر فرق الخوارج: (يخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في بعض أيامه التي لقي فيها العدو ينتظر حتى إذا مالت الشمس قام فيهم)] أي: أنه ينتظر حتى تزول الشمس أي: بعد الظهيرة [(فقال النبي عليه الصلاة والسلام: يا أيها الناس! لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا)]. وكثير من الإخوة يتمنى لقاء العدو أياً كان نوع هذا العدو، فإذا لقيه خار ولم يصبر؛ لمخالفته سنة النبي عليه الصلاة والسلام، فالأصل أن الإنسان يسأل ربه العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، فإذا ما اضطر إلى الوجود في أرض البلاء في يوم من الأيام فليطلب من الله تعالى الصبر على هذا البلاء، أما قضية الفتوة فإنها لا تصح في هذا الموقف أبداً، فأنت منهي أن تتمنى لقاء العدو، أما إذا فُرض العداء عليك فالرجولة والشهامة والإيمان أن تصبر في هذا الموقف. قال: [(واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف)] أي: أن السيوف سبب لدخول الجنة، وهذا يعني: الشهادة في سبيل الله، وأنتم تعلمون أن الشهيد من أهل الجنة. قال: [(ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم وقال: اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم)]. ولذلك يُسن الدعاء ويستحب استحباباً أكيداً في وقت القتال والمنازلة.

باب تحريم قتل النساء والصبيان في الحرب

باب تحريم قتل النساء والصبيان في الحرب الباب الثامن: (باب تحريم قتل النساء والصبيان في الحرب). أي: باب تحريم قتل نساء الكفار وأطفال الكفار في الحرب، والمقصود: باب: تحريم قصد قتلهم، لكنهم يُقتلون تبعاً، فإذا كان لا يمكن قتل العدو المراد قتله إلا من خلال قتل النساء والصبيان فلا بأس بذلك؛ لأن المسلم لا يقصد قتل الأطفال والنساء ابتداء، وإنما يقصد قتل العدو المعادي المحارب، فلما لم يمكن قتله إلا بقتل من معه من النساء والأطفال فهم منهم، أي: يأخذون أحكامهم. فعن عبد الله [: (أن امرأة وجدت في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم مقتولة فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل النساء والصبيان)]. وفي رواية: (نهى عن قتل النساء والصبيان).

باب جواز قتل النساء والصبيان في البيات من غير تعمد

باب جواز قتل النساء والصبيان في البيات من غير تعمد الباب التاسع يبين الاستثناء من الباب الأول باب: النهي عن قتل النساء والصبيان، فيبين جواز قتل النساء والصبيان في البيات من غير تعمد. في البيات أي: في الإغارة عليهم وهم غارون؛ لأن ذلك لا يمكن أبداً أن يميز السيف أو السهم أو الطائرة أو الدبابة، بينما إذا كان هذا طفلاً وذاك رجلاً محارباً، فالسهم ينطلق فيأخذ كل من كان في طريقه، فأنا ما ضربت السهم لقتل النساء والأطفال، وإنما أطلقته لقتل المحارب الذي يحاربني، فأصاب طفلاً أو امرأة فلا بأس في هذه الحالة، وهذه حالة لا يشملها النهي الأول. فعن الصعب بن جثامة قال: [(سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الذراري من المشركين؟ -أي: عن أطفال المشركين- يبيتون فيصيبون من نسائهم وذراريهم؟ فقال: هم منهم)]. أي: يشتركون معهم في الحكم؛ لأنك ما تعمدت قتل هؤلاء وإنما تعمدت قتل الرجال المحاربين. وفي رواية: (هم من آبائهم).

باب جواز قطع أشجار الكفار وتحريقها

باب جواز قطع أشجار الكفار وتحريقها عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: [(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق نخل بني النضير وقطع -أي: حرق بعضاً وقطع بعضاً آخر- وهي البويرة)] بستان عظيم جداً لبني النضير في عوالي المدينة، في قرية على مشارف المدينة، وهي الآن من داخل المدينة، تسمى البويرة. وقال الله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} [الحشر:5] واللينة: هي أنواع الثمر كلها إلا العجوة. قال تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر:5]. وقال حسان بن ثابت عن تقطيعه نخل بني النضير وهذا البستان كان لسراة أو غناة اليهود في ذلك الزمان. قال: وهان على سراة بني لؤي حريق بالبويرة مستطير أي: أنه هان عليهم ذلك، وحرق النبي عليه الصلاة والسلام نخل بني النضير، مع أن الأصل المنع، لكن هذا نوع من أنواع الإثخان في العدو بتحريق نخيله وقطع ثماره وغير ذلك.

باب تحليل الغنائم لهذه الأمة خاصة

باب تحليل الغنائم لهذه الأمة خاصة الباب الحادي عشر: (باب: تحليل الغنائم لهذه الأمة خاصة). وكانت الغنائم محرمة على كل نبي سبق إلا على نبينا عليه الصلاة والسلام وعلى أمته كذلك، فهي حلال للنبي عليه الصلاة والسلام ولأمته معه ومن بعده صلى الله عليه وسلم. فهذا أبو هريرة رضي الله عنه يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [(غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه: لا يتبعني رجل قد ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولما يبن)] أي: أنه عقد على امرأة، ولم يبن بها؛ لأن هذا الرجل مشغول بامرأته وبيته ونكاحه، ومشغول بيوم لقائه بهذه المرأة، وهذا يبين أن المشغول لا يصلح في الغالب في الجهاد، وإنما الجهاد يحتاج إلى تفريغ وقت وجهد وبذل للنفس والمال، وهذه أحكام تجري مجرى الغالب، وإلا فهناك من يتزوج الثانية والثالثة والرابعة ويترك هؤلاء جميعاً ويذهب للجهاد في سبيل الله، فهذا يُحفظ ولا يقاس عليه، أما الغالب فهو أن من ملك بضع امرأة فإنه لا يتفرغ للجهاد؛ ولذلك حينما روى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الكلام عن الأنبياء السابقين لم يُعقب عليهم بالخطأ، وإنما رواه وسكت عنه. قال: [(ولا آخر قد بنى بنياناً ولما يرفع سقفها)] أي: أن واحداً بنى بيتاً ولم يسقفه بعد، فهو مشغول جداً بإتمام هذا البناء ورفعه. قال: [(ولا آخر قد اشترى غنماً أو خلفات -أي: حوامل- وهو منتظر ولادها)] وهذا عند العرب له قيمة عظيمة جداً، وتتعلق به قلوبهم. قال: [(فغزا هذا النبي فأدنى للقرية حين صلاة العصر)] أي: اقترب من القرية التي يريد أن يقاتل أهلها وقت صلاة العصر. قال: [(أو قريباً من ذلك فقال للشمس: أنتِ مأمورة وأنا مأمور. اللهم احبسها علي شيئاً فحُبست عليه حتى فتح الله عليه)] هذه الجزئية في الحديث غصة في حلوق من يزعمون أنهم أصحاب العقول النيرة، ويقولون: الشمس آية من آيات الله، لا تُحبس لأحد قط، ونحن نخالفهم في ذلك، وقد صح الحديث أن النبي طلب من ربه أن يحبس الشمس عليه شيئاً حتى يستطيع مواصلة القتال قبل دخول الليل؛ لأن العرب قبل دخول الليل كانوا يكفون عن القتال ولا يقاتلون في الليل، وإنما يقاتلون في النهار ويستريحون في أول الليل، ويسيرون في آخر الليل، فلما قارب فتح هذه القرية قبيل المغرب طلب هذا النبي من ربه أن يحبس الشمس في مكانها بغير نقصان أو نزول أو غروب حتى يفتح عليه القرية، فحبس الله تعالى له الشمس، وهذه آية وعلامة من علامات نبوة ذاك النبي. قال: [(فجمعوا ما غنموا -أي: من هذه القرية- فأقبلت النار لتأكله فأبت أن تطعمه)] وكانت هذه علامة قبول هذا العمل من النبي ومن أمته قبل نبينا عليه الصلاة والسلام، كانوا إذا غنموا غنيمة معينة جمعوها ولم يستثنوا منها شيئاً، فتنزل من السماء نار فتأكل هذه الغنائم، وأكل النار لهذه الغنائم دليل على قبول الله تعالى لهذا العمل، فجمع هذا النبي تلك الغنائم من هذه القرية، فنزلت النار ولم تأكل وأبت أن تطعم هذه الغنائم، فأدرك النبي العلة: [(فقال: فيكم غلول)] أي: لا بد أن أحدكم غل، وأخذ من الغنائم، ولا نقول قبل توزيعها؛ لأنه لا توزيع لها، إنما التوزيع في شريعتنا. فقال: (فيكم غلول) أنتم يا معشر المجاهدين معي قد غل أحدكم، أو غلت إحدى القبائل أو الأقوام المجاهدين معي، ولذلك أبت النار أن تأكل الغنيمة. فقال: [(فليبايعني من كل قبيلة رجل)] كل قبيلة تندب رجلاً منها فليبايعني، ويضع يده في يدي. قال: [(فبايعوه فلصقت يد رجل بيده)] وهذا علامة على أن الغلول في قومه، ولا يلزم أن يكون هو الذي غل. فقال: [(فيكم الغلول. فلتبايعني قبيلتك)] أي: واحداً واحداً [(فبايعته فلصقت بيد رجلين أو ثلاثة)] أي: لصقت يد هذا النبي بيد رجلين أو ثلاثة [(فقال: فيكم الغلول. أنتم غللتم)] أي: أنتم الذين أخذتم من الغنيمة. قال: [(فأخرجوا له مثل رأس بقرة من ذهب. قال: فوضعوه في المال وهو بالصعيد -أي: في ناحية من الأرض- فأقبلت النار فأكلته)]. الشاهد من هذا الحديث: قوله عليه الصلاة والسلام: [(فلم تحل الغنائم لأحد من قبلنا، ذلك بأن الله تبارك وتعالى رأى ضعفنا وعجزنا فطيبها لنا)]. فالغنائم كانت حراماً على كل أمة سبقت هذه الأمة المباركة، وأحلها الله عز وجل لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام ولأمته، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أُحلت لنا خمس) وذكر من بينها الغنائم.

باب الأنفال

باب الأنفال الباب الثاني عشر: باب الأنفال. قال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال:1]، وقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال:41] إلى آخر الآيات، فمحل النفل قيل: هو أصل الغنيمة. أي: أن كل الغنيمة التي يغنمها المسلمون من حربهم مع الكافرين. أي: كل ما يغنمه المسلمون من الكفار أنفال. والرأي الثاني: أن النفل هو أربعة أخماس الغنيمة. والرأي الثالث وهو الصواب: أن الأنفال هي خمس الخمس، أو أن الأنفال الخمس الباقية. فيُجعل أنصبة المجاهدين من الأربعة أخماس، والخمس الخامس هو الأنفال، ويجعل توزيعه أو تفريقه أو عدم تفريقه للإمام، والتنفيل ثابت بالإجماع، ويكون التنفيل لمن صنع في الحرب صنيعاً غير عادي، أي: أنه بذل مجهوداً خارقاً جداً، فبلا شك أن هذا يحتاج إلى مزيد عناية وعطية أكثر من الجيش، فإن رأى الإمام أن يعطيه أعطاه فضلاً عن سهمه في الأربعة أخماس. أي: أنه يأخذ سهمه الطبيعي أولاً، ثم ينفل من الخمس الخامس، فهذه هي الأنفال، ولا تكون إلا بإذن الإمام، وتكون في كل غنيمة إلى قيام الساعة، فالأنفال هي العطايا من الغنيمة -كما قلنا- غير السهم المستحب. عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: (أخذ أبي من الخمس سيفاً فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هب لي هذا، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يهب له السيف، فأنزل الله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال:1]) أي: لا يفرض على الإمام شيء في أن يهب فلاناً أو لا يهب آخر. ولذلك قال سعد: (نزلت في أربع آيات: أصبت سيفاً فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم) أصبت سيفاً في غزوة من الغزوات، ولكنه أُعجب به جداً فأراد أن يأخذه إما من الغنيمة أو من الأنفال إما من أصل الغنيمة أربعة أخماس أو من الأنفال، وإذا كان هذا أو ذاك فلا بد أن يأذن الإمام وإلا صار غلولاً؛ ولذلك أتى ليستأذن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: (ضعه -لا تأخذه- ثم قام فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ضعه من حيث أخذته، ثم قام فقال: يا رسول الله! نفلنيه -أعطنيه من باب النافلة- فقال: ضعه، فقام فقال: يا رسول الله! نفلنيه -عدة مرات- أأجعل كمن لا غناء له؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ضعه من حيث أخذته، فنزلت هذه الآية: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال:1])]. [وعن ابن عمر قال: (بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية وأنا فيهم قِبل نجد -ونجد الآن هي الرياض وما حولها من المدن- فغنموا إبلاً كثيرة، فكانت سهمانهم اثنا عشر بعيراً أو أحد عشر بعيراً)] أي: أن أسهمهم من أصل الغنيمة لكل واحد اثنا عشر بعيراً أو أحد عشر بعيراً. قال: [(ونُفلوا بعيراً بعيراً)] أي: من الخمس الخامس أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم فوق سهمهم -الذي هو اثنا عشر بعيراً- لكل واحد بعيراً بعيراً. إذاً: فهم أخذوا اثني عشر بعيراً وهذا سهم القتال، وأخذوا فوق ذلك بعيراً بعيراً من الأنفال.

باب استحقاق القاتل سلب القتيل

باب استحقاق القاتل سلب القتيل الباب الثالث عشر: (باب: استحقاق القاتل سلب القتيل). هو في الحقيقة ليس من باب الوجوب، وإنما من باب النافلة للتشجيع، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (من قتل قتيلاً فله سلبه)، ولو أن سلب القتيل واجب رده أو دفعه إلى قاتله لما كان هناك غنائم ولما بقي للجيش غنائم، وإنما هذا من باب الاستحباب والنافلة؛ حتى يبذل المجاهدون أقصى ما في وسعهم من إثخان العدو. [عن عمر بن كثير عن أبي محمد الأنصاري واقتص الحديث]، والحديث سيأتي معنا وهو: [عن أبي قتادة قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حنين، فلما التقينا كانت للمسلمين جولة قال: فرأيت رجلاً من المشركين قد علا رجلاً من المسلمين، فاستدرت إليه حتى أتيته من ورائه -وهذا كلام أبي قتادة - فضربته على حبل عاتقه، وأقبل علي فضمني ضمة شممت منها رائحة الموت، ثم أدركه الموت فأرسلني -أي: تركني- فلحقت عمر بن الخطاب فقال: ما للناس؟ فقلت: أمر الله -أي: شيء من الهزيمة قد لحق الناس- ثم إن الناس رجعوا، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من قتل قتيلاً له عليه بينة)] وهذا محل نزاع بين أهل العلم: هل يلزم إقامة البينة على أن فلاناً قتل فلاناً أم لا يلزم؟ الراجح من أقوال أهل العلم وهو ظاهر النصوص: أن البينة لازمة: (من قتل قتيلاً له عليه بينة) وهذا شرط، وإلا فلو كانت البينة غير لازمة لادعى أناس دماء أناس وأموالهم، أي: لو لم تكن البينة لازمة في مثل هذه الأمور لادعى أقوام أنهم قتلوا وسلبوا. قال: (من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه). والسلب هو: المتاع من خيل أو إبل أو عدة أو عتاد أو ذهب أو غير ذلك أي: كل ما تركه القتيل. هذا يسمى السلب. قال: (فقمت فقلت: من يشهد لي؟) أبو قتادة يقول: هل فيكم أحد يشهد لي أني قتلت فلاناً؟ قال: [(فقمت فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست، ثم قال مثل ذلك فقال: فقمت فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست، ثم قال ذلك الثالثة، فقمت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما لك يا أبا قتادة؟! فقصصت عليه القصة فقال رجل من القوم: صدق يا رسول الله! -هو الذي قتل فلاناً من الكفار- سلب ذلك القتيل عندي)] أي: هذا الذي قتله [أبو قتادة سلبه عندي، وأنا رأيت أبا قتادة يقتله (فأرضه من حقه، وقال أبو بكر الصديق: لاها الله)] يحلف أبو بكر أنه لا يمكن أحد أن يأخذ شيئاً إلا ببينة. قال: [(إذاً: لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله وعن رسوله فيعطيك سلبه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق. فأعطه إياه)] أي: صدق أبو قتادة والشاهد الذي شهد له. فأعطه سلبه، وكان أبو بكر الصديق يريد أن يمنعه ذلك السلب ويقول: يعمد أحدكم إلى أسد من أسد الله فلا يأخذ شيئاً، ثم هو يدعي أنه قتل فلاناً أو فلاناً، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم صدق الخبر في قتل أبي قتادة لذلك الكافر بوحي السماء. قال أبو قتادة: ([فأعطاني -أي: السلب- قال: فبعت الدرع فابتعت به مخرفاً في بني سلمة)] أي: بستاناً عظيماً في بني سلمة. قال: [(وإنه لأول مال تأثلته في الإسلام)] أي: اغتنمته في الإسلام. [وعن عبد الرحمن بن عوف: أنه قال: (بينما أنا واقف في الصف يوم بدر نظرت عن يميني وشمالي فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما -أي: صغار في السن- تمنيت لو كنت بين أضلع منهما)]. وكأن عبد الرحمن يقول: تمنيت لو كنت بين اثنين من الكبار، ولكني نظرت عن يميني وشمالي فإذا أنا بين غلامين صغيرين. قال: [(فغمزني أحدهما فقال: يا عم! هل تعرف أبا جهل؟ قال: قلت: نعم. وما حاجتك إليه يا ابن أخي؟! قال: أُخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم)] هذا طفل يغار على عرض النبي عليه الصلاة والسلام، وأمتنا الآن لا تغار على دين ولا شرع ولا رسالة ولا وحي ولا نبوة ولا أي شيء، أمة جديرة بأن تُسحق لولا أن الله كتب لها البقاء. قال: [(أُخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده -أي: لا أفارقه ولا أفارق شخصه- حتى يموت الأعجل منا)] أي: حتى يُقضى بالموت على من كُتب له أن يموت أولاً. قال عبد الرحمن بن عوف: [(فتعجبت لذلك)] أي: من هذا الطفل الصغير الذي عنده هذه الغيرة وهذه الحمية على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: [(فغمزني الآخر -أي: الذي عن شماله- فقال مثلها. قال: فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يزول في الناس -أي: يصول ويجول، ويذهب

باب التنفيل وفداء المسلمين بالأسرى

باب التنفيل وفداء المسلمين بالأسرى الباب الرابع عشر: (باب التنفيل وفداء المسلمين بالأسرى). قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا زهير بن حرب - أبو خيثمة النسائي - حدثنا عمر بن يونس حدثنا عكرمة بن عمار حدثني إياس بن سلمة وهو ابن سلمة بن الأكوع قال: حدثني أبي قال: (غزونا فزارة وعلينا أبو بكر -أي: كان أمير الجيش أبا بكر - أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا، فلما كان بيننا وبين الماء ساعة -الساعة في لغة العرب تطلق على بعض الوقت- أمرنا أبو بكر فعرسنا)] والتعريس: هو النزول آخر الليل للراحة، وليس للمبيت ولا للإقامة. قال: (ثم شن الغارة) أي: بعد هذا التعريس شن الغارة، ومعنى شن: فرق الناس. أي فرق أبو بكر الناس هنا وهناك، حتى يهيج العدو ويجعلهم في حيرة من أمرهم من يقاتلون، فإنه إذا تفرق الجيش هنا وهناك فإن العدو يحار: يُقاتل من ويدع من؟ وهذا من باب إشغال العدو، أو من باب فقدانه السيطرة على مواقع القتال والضرب، وهذه خطة عسكرية. نسأل الله أن ينبه إليها إخواننا في أفغانستان وغيرها. قال: [(ثم شن الغارة فورد الماء فقتل من قتل عليه وسبى، وأنظر إلى عنق من الناس -أي: جمع من الناس من فزارة- فيهم الذراري -أي: فيهم الأطفال الصغار- فخشيت أن يسبقوني إلى الجبل، فرميت بسهم بينهم وبين الجبل، فلما رأوا السهم وقفوا)] وهذه خطة ظريفة: قوم من فزارة من الكفار أرادوا أن يلجئوا إلى الجبل؛ ليحتموا به، وذلك حينما رأوا الجنود تفرقوا هنا وهناك، قال: وخشيت أن أضربهم بسهم فيصيب الذراري، أي: أنه احترز بقدر الإمكان أن يصيب الأطفال وهذا هو الأصل، لكن إذا لم يكن قتل الكبار إلا بقتل الأطفال جاز، وأنتم تعلمون ذلك. قال: [(فرميت بسهم بينهم وبين الجبل، فلما رأوا السهم -أمامهم- وقفوا، فجئت بهم جميعاً أسوقهم، وفيهم امرأة من بني فزارة عليها قشع -أي: نطع: قطعة من الجلد- من أدم. قال: مع ابنة لها من أحسن العرب)] أي: امرأة جميلة. وانظر إلى قوله: (معهم ابنة لها من أحسن العرب) وهذا يدل على جواز أسر العرب؛ لأن بعض أهل العلم قال: لا يجوز أسر العرب، وإنما يجوز أسر غير العرب من العجم وغيرهم. قال: [(فسقتهم حتى أتيت بهم أبا بكر فنفلني أبو بكر ابنتها)]، وفي هذا رد على من يزعم أن النفل للرسول صلى الله عليه وسلم فحسب، فقد نفله أبو بكر هذه المرأة الجميلة. قال: [(فقدمنا المدينة وما كشفت لها ثوباً)] أي: وما كشفت لهذه البنت ثوباً، وهذا كناية عما يُستقبح ذكره إذا كان اللفظ يؤدي الغرض، وهكذا ألفاظ القرآن وألفاظ السنة رائعة أيما روعة في طرح هذه المسائل المستقذرة المستقبحة بأسلوب عربي أصيل مبين لا يثير الغرائز، فلو أن واحداً كُلف بكتابة قصة -ولتكن قصة يوسف عليه السلام- لربما كتب قصة أثارت غرائز كل من قرأها أو جُل من قرأها، ولكنك تقرأ بالليل والنهار سورة يوسف عليه السلام فلا تتحرك فيك كوامن الغريزة أبداً؛ لأنه كلام اللطيف الخبير سبحانه وتعالى، وهذا الرجل سلمة بن الأكوع عبر بهذا. قال: (وما كشفت لها ثوباً) كناية عن أنه لم يجامعها؛ لأنه بمجرد أن ينفله الإمام إياها حل له جماعها. فقال: [(فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم في السوق فقال: يا سلمة! هب لي المرأة -أي: اعطها لي من باب الهبة- فقلت: يا رسول الله! والله لقد أعجبتني)] أي: أنها أعجبتني جداً، فكيف أعطيها لك؟ قال: [(وما كشفت لها ثوباً، ثم لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغد في السوق فقال لي: يا سلمة! هب لي المرأة لله أبوك)] كأنه يقول: لله درك، وهذا من كلام العرب يُطلق للتدليل والمؤانسة. فكأنه يقول له: يغفر الله لأبيك! أعطني هذه المرأة على سبيل الهبة. [(فقلت: هي لك يا رسول الله!)] فانظروا إلى عدم ضن الصحابة رضي الله عنهم بأغلى ما يملكون للنبي عليه الصلاة والسلام، فهذه المرأة من أجمل بنات العرب، ومن يملكها منا لا يفرط فيها، وما ينزل بالمسلمين هو منهم ومن أنفسهم، فنحن نضن على الله تعالى بأموالنا وأنفسنا، والواحد منا يحب الدينار أكثر من حبه لله ورسوله، فإنه عند المحك الطبيعي الذي يحتك بحياتك تأبى أن تتحاكم للإسلام، أما في وقت السلام والإسلام لا يمس حياتك تزعم أنك تقبل الإسلام بكل نواحيه وجوانبه، فإذا ما مس الإسلام شيئاً من حياتك تبرمت وتنكرت وربما جحدت، أما سلمة فقال: [(هي لك يا رسول الله! فوالله ما كشفت لها ثوباً -إكراماً للنبي عليه الصلاة والسلام- فبعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة، ففدى بها ناساً من المسلمين)]. انظروا! فالنبي صلى الله عليه وسلم لم ي

باب حكم الفيء

باب حكم الفيء الباب الخامس عشر: (باب حكم الفيء). وفي الحقيقة لا بد أن نفرق بين الفيء والغنيمة. أما الغنيمة فهي: ما غنمه الجيش بعد قتال، استمر بينهم وبين المشركين قتال حتى كُتب لأهل الإسلام النصر وأخذ الغنائم. هذه الغنائم تُقسم خمسة أخماس، أربعة أخماس هي أسهم المجاهدين رجالاً وركباناً، أما الراجل الذي يمشي على رجليه له سهم، وأما الراكب فله سهمان. والخمس الخامس هو الأنفال، ويُقسم على النحو الذي ذكرناه آنفاً. أما الفيء فهو: ما أفاء الله تعالى على المسلمين من غير قتال، ويُجعل للإمام، فخمس الأنفال للإمام يجعله حيث شاء، وكذلك الفيء كله للإمام يفرقه حيث يشاء ويمنعه ممن شاء؛ لأن هذا فيء لم يوجفوا عليه بخيل ولا ركاب، إما أن تُفتح بصلح أو معاهدة أو اتفاق أو غير ذلك، لكن إذا كانت البلد تُفتح عنوة -أي: بالقتال- فيكون أمرها في الغنيمة. قال المصنف رحمه الله: [حدثنا أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى- ومحمد بن رافع قال: حدثنا عبد الرزاق -وهو ابن همام الصنعاني اليمني - أخبرنا معمر -وهو ابن راشد البصري اليمني - عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذكر أحاديث منها هذا الحديث وهو: (أيما قرية دخلتموها وأقمتم فيها -أي: فتحت لكم صلحاً- فإنما طعامكم وشرابكم وأسهمكم فيه. وأيما قرية عصت الله ورسوله -أي: أبت فقوتلت- فإن خمسها لله ولرسوله، ثم هي لكم)]. أي: باقي هذه الغنائم لكم بعد ذلك، وكأنه يفرق بين قرية فُتحت سلماً وصلحاً وبين قرية فتحت عنوة، أما القرية التي فتحت صلحاً وسلماً بغير قتال فحكم الداخل منها حكم الفيء: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [الحشر:7] ومن بعده الأئمة والولاة والسلاطين، إذا فُتحت لهم قرية صلحاً أو سلماً فهي للإمام يفرقها حيث شاء، كما لو كان يفعل ذلك في باب الأنفال، وأما إذا فُتحت عنوة فإن لله ولرسوله من هذه الغنائم الخمس يفرقها الإمام أنفالاً ينفل به من شاء، ويمنعه ممن شاء، ويستحب أن يُعطي كل قتيل سلبه من الأنفال، أما الأربعة أخماس الباقية فإنها للجند الذين قاتلوا. [وحدثنا قتيبة بن سعيد ومحمد بن عباد وأبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم -المعروف بـ ابن راهويه واللفظ لـ ابن أبي شيبة - قال إسحاق: أخبرنا وقال الآخرون: حدثنا]. ولا يزال العلماء يفرقون بين اللفظين على اعتبار أن (حدثنا) لا تستخدم إلا في السماع الصريح، أما (أخبرنا) فتستخدم في السماع وفي الإجازة. [قال الآخرون: حدثنا سفيان -وهو ابن عيينة - عن عمرو بن دينار المكي عن الزهري عن مالك بن أوس] وهو مالك بن أوس بن الحدثان وبعضهم أسقط الزهري وأخطأ في ذلك. [قال مالك بن أوس: عن عمر قال: (كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله) وبنو النضير أنتم تعلمون أنهم كانوا يسكنون عوالي المدينة، وبنو النضير هم الذين أرادوا أن يقتلوا النبي عليه الصلاة والسلام بحجر من على السطح. قال: [(كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله، مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب)]. الإيجاف: الإسراع. أي: أنه لم يشتد المسلمون لقتال بني النضير، وإنما فتحها الله تعالى سلماً. قال: [(فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة)] لم يقل: كان خمسها. وإنما قال: فكانت؛ وذلك لأنها أتت إلى المسلمين عن طريق الفيء وليس عن طريق الغنيمة. قال: [(فكان النبي صلى الله عليه وسلم يُنفق على أهله نفقة سنة)] أي: يحجز لنسائه ومواليه ما يكفيهم لمدة عام، وهذا جائز خاصة في وقت ليس فيه استغلال ولا قحط ولا جدب وإلا فلا يحل ذلك في أوقات الشدة، كمن يذهب إلى السوق فيشتري طعاماً يكفي لمدة سنة أو سنتين أو أقل من ذلك أو أكثر، وهو يعلم أن المسلمين يمرون بجدب وقحط وجوع، فلا يحل له ذلك، بل ينبغي أن يموت مع من يموت وأن يعيش مع من عاشوا. نعم. يشاركهم آلامهم وأحزانهم، أما أن يحرص على نجاته وإن كان في ذلك هلاك الآخرين فلا، ليس هذا من أخلاق الإسلام. ولذلك ضرب المثل الرائع في ذلك عمر بن الخطاب ناهيك عن النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو المثل الأعلى في كل شيء، ولو أنك فتشت في سيرته وحياته لوجدت أنموذجاً حياً نقياً طيباً مباركاً له في كل مجالات الحياة، أما عمر فهو الذي حرم نفسه من أن يأكل حتى يشبع أطفال المسلمين، وأن ينام حتى يشبع أطفال المسلمين، وما كان نومه إلا خفقات فإذا حُدث في ذلك قال: إن

كتاب الأيمان والنذور - أحكام النذر

شرح صحيح مسلم - كتاب الأيمان والنذور - أحكام النذر النذر لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل، فمن نذر نذر طاعة فقد أوجب على نفسه هذه الطاعة، وأما من نذر أن يعصي الله فلا يعصه، ومن شروط النذر أن يكون الناذر مكلفاً عاقلاً بالغاً مختاراً، ومتى ما فقد شرط من هذه الشروط لم يلزمه الإتيان به.

تعريف النذر

تعريف النذر الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أما بعد: النذر في اللغة: هو الإيجاب. وبين هذا التعريف اللغوي والتعريف الاصطلاحي وجه عظيم من أوجه الشبه، وهو: أن المرء يوجب على نفسه ما لا يوجبه الله عز وجل عليه. وهو في اصطلاح الفقهاء: إلزام مكلف مختار نفسه لله تعالى بالقول شيئاً غير لازم بأصل الشرع. وقوله: (مكلف) احتراز من غير المكلف، وغير المكلف هو الصبي الذي لم يبلغ، والمجنون غير العاقل، فلو أن مجنوناً ألزم نفسه بنذر لم يلزمه الوفاء؛ لأنه ليس مكلفاً، كما أن الصبي الذي لم يبلغ لو نذر لله نذراً مشروطاً أو مطلقاً وتحقق شرطه فإنه لا يلزمه الوفاء بالنذر؛ لأنه ليس من أهل التكليف. وكذلك لو أكره عبد مكلف عاقل على النذر لله عز وجل لم يلزمه الوفاء؛ لأن الإكراه في أصح أقوال أهل العلم لا يقع به التكليف. فلو أن صاحب السلطة حبس رجلاً في زنزانة وحمله على أن يطلق امرأته وإلا فعل به كيت وكيت وكيت، وهو قادر على تنفيذ تهديده لم يقع طلاقه، أما إن كان لا يملك ولا يقدر على إيقاع التهديد فلا، فشرط الإكراه أن يملك المكرِه تنفيذ ما هدد إيقاعه بالمكرَه، فلو أن مكرهاً أكره على النذر لم يلزمه الوفاء. فالنذر في الشرع: هو إلزام مكلف عاقل مختار على نفسه لله عز وجل ما لم يوجبه الشرع ابتداء عليه، كأن يقول المكلف العاقل البالغ المختار: يا رب! لو أني نجحت في الجامعة فسأذبح لله شاة، فهذا نذر مشروط بالنجاح، وهو لم يكن يلزمه لو لم ينذر، فالنذر هو: إلزام المكلف العاقل البالغ المختار نفسه ما لم يلزمه الشرع ابتداءً. وهناك ارتباط وثيق بين المعنى اللغوي للنذر وبين المعنى الاصطلاحي، فالنذر في اللغة هو: الإيجاب، وفي الاصطلاح هو: إيجاب العبد المكلف البالغ العاقل المختار على نفسه ما لم يكن واجباً عليه ابتداء لله تعالى. فهناك شبه قوي بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي.

شروط النذر

شروط النذر شروط النذر: أن يكون الناذر محلاً للتكليف، بمعنى: أن يكون بالغاً عاقلاً، فنذر المجنون كأن لم يكن؛ لأنه ليس من أهل التكليف، لقوله عليه الصلاة والسلام (رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يحتلم -أي: يبلغ سن الحلم وهو سن التكليف- وعن النائم حتى يستيقظ).

حكم نذر الكافر

حكم نذر الكافر ويصح النذر من كافر بإجماع أهل العلم بشروط ستأتي، والدليل على ذلك: (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نذر في الجاهلية قبل إسلامه أن يعتكف ليلة، فلما أسلم قبل الوفاء بالنذر أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بما كان منه، فقال عليه الصلاة والسلام: أوف بنذرك). فالنذر بإجماع أهل العلم يصح من الكافر، ولم يخالف في ذلك أحد من أهل العلم.

حكم النذر وأدلته

حكم النذر وأدلته أدلة النذر من الكتاب والسنة والإجماع: فأما الأدلة من الكتاب: فقول الله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} [الإنسان:7]. فإنه تعالى لما تكلم عن أهل الإيمان مدحهم بأنهم يوفون بالنذر. وقال تعالى: {ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29]. وقال تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [البقرة:270]. إلى غيرها من الآيات التي تبين أن أدلة الكتاب تشهد بوجوب الوفاء بالنذر. وأما الأدلة من السنة فكثيرة جداً، وأحاديث النذر منها ما هو متفق عليه بين الشيخين، ومنها ما هو من انفرادات مسلم، ومنها ما هو من انفرادات البخاري كذلك، وهناك عند أصحاب السنن والمسانيد ما ليس في الصحيحين، وكل هذه الأحاديث تشهد بمشروعية النذر. وقد انعقد إجماع أهل العلم على أن النذر مشروع. واختلفوا هل هو واجب أو مستحب أو مباح أو مكروه؟ والراجح من أقوال أهل العلم أنه واجب في جانب العمل والفعل والأداء، وهذا الحكم حكم عام؛ لأن النذر أقسام، ولكل قسم حكم يخصه، ولكن جمهور أهل العلم على أن النذر من جهة الشرع مكروه، ومن جهة العمل واجب إذا كان مطلقاً أو مشروطاً وتحقق الشرط. وأما من جهة التكليف الشرعي والحكم الفقهي للنذر فإنه مكروه؛ لأنه لا يغير من القدر شيئاً، وإنما يستخرج به من البخيل، يعني: أنه معاملة لله عز وجل بالحد الأدنى، فكأنك تقول: اعمل لي حتى أعمل لك، ومفهوم المخالفة: إذا لم تفعل لي فلن أفعل لك، مثل قولك: إذا نجحتني فسأذبح لك خروفاً، وإذا لم تنجحني فلن أذبح، وهذا بلا شك معاملة لله عز وجل بالحد الأدنى من الطاعة والعبادة، وهذا الخروف الذي هو محل النذر أو شرط النذر لا يغير في المقدور ولا في القدر فيما يتعلق بنجاح هذا أو رسوبه شيئاً؛ لأن هذا النجاح أو الرسوب قد كتب في اللوح المحفوظ، فالنذر لا يغير شيئاً؛ ولذلك يفضل أن يتقرب العبد إلى مولاه وسيده بما استطاع من طاعة مالية أو زمانية أو ما يمكن أن يتقرب به بغير شرط؛ لأن هذا الشرط لا يغير شيئاً في المكتوب، وما دام أنه لا يغير شيئاً في المكتوب فلا تشرط على ربك.

أقسام النذر

أقسام النذر أقسام النذر خمسة على الصحيح، وهي: أولاً: النذر المطلق، ومعنى المطلق: الذي لم يقيد بقيد، ولم يشرط بشرط، مثل أن يقول: لله عليَّ نذر ولم يسم هذا النذر، فيلزمه كفارة يمين. يعني: عند العجز عن أداء النذر المطلق يلزمه أن يكفر كفارة يمين. الثاني: نذر اللجاج والغضب، وهو تعليق نذره بشرط بقصد المنع منه، أو الحمل عليه، أو التصديق أو التكذيب، فيخير بين فعله أو كفارة يمين، والراجح في ذلك: أنه يكفر في هذا القسم كفارة يمين. الثالث: النذر المباح، كلبس الثوب أو ركوب الدابة، وحكم هذا النوع كالثاني تماماً، يعني: فيه كفارة يمين، وقال بعضهم: ليس فيه كفارة. وإن كان نذره مكروهاً استحب له أن يكفر ولا يفعله. والنذر إما أن يكون في طاعة أو أن يكون في معصية، كما قال عليه الصلاة والسلام: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه). فهذا في الحلال الصرف، وذاك في الحرام الصرف. وأما إذا نذر في طاعة أو في حلال نذراً مطلقاً، أو مقيداً بقيد أو مشروطاً بشرط فيلتزمه عند تحقق الشرط، لأنه إذا تحقق الشرط تحقق المشروط كما قال العلماء. وأما إذا نذر في معصية كأن يقول: يا رب! لك علي إن نجحت في الامتحان أو أنجبت امرأتي أو كذا وكذا أن أشرب الخمر، فيطلب من ربه منة وفضلاً، ويشترط أنه إذا تحقق هذا تقرب إليه بمعصيته، أو يقول: رب! لأن أطعمتني كذا لأشربن الخمر، أو لأسرقن جاري، فهذا النذر لا يلزمه الوفاء به، ويجب عليه كفارة يمين، وهذا هو الراجح من أقوال أهل العلم أن الناذر في المكروه لا يلزمه الوفاء، وإنما تلزمه الكفارة. الرابع: نذر المعصية كشرب الخمر وصوم يوم الحيض، كأن تقول المرأة: لو أن الله شفاني لأصومن في أيام حيضي، أو أصوم يوم النحر، أو أيام التشريق، أو يوم الفطر، وهذه الأيام صومها حرام على الرجل والمرأة، وسواء كانت المرأة طاهرة أو حائضة فيحرم الصيام في هذه الأيام، ولا يحل للناذر أن يصومها، ويجب عليه الكفارة. الخامس: نذر التبرر، وهو مأخوذ من البر والطاعة، فلو أن أحداً نذر أن يطيع الله تعالى براً وطاعة وتقوى لله عز وجل لزمه ذلك، وسواء كان هذا النذر نذراً مطلقاً، أي: لم يقيد بقيد، أو معلقاً على شرط، ولا يلزمه الوفاء بالنذر في النذر المعلق إلا بتحقق الشرط الذي علق عليه النذر، كقوله: إن شفى الله مريضي أو سلم أو وصل قريبي الغائب فلله علي أن أصلي لله ركعتين، فلا يلزمه الوفاء بصلاة ركعتين إلا بتحقق الشرط، وإذا لم يشف المريض فلا يلزمه أن يأتي بالركعتين على جهة النذر، فإذا وجد الشرط لزمه الوفاء بنذره، إلا إذا نذر الصدقة بماله كله، كأن يقول: لو أن الله تعالى وفَّق ولدي في امتحان هذا العام فلله علي أن أتصدق بجميع مالي، فمذهب الجمهور: أنه لا يلزمه التصدق بكل المال وإنما بثلثه، لورود بعض النصوص في ذلك وإن كان فيها ضعف، وقياساً على حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في الوصية، وقد مر بنا.

حكم التتابع لمن نذر صيام شهر

حكم التتابع لمن نذر صيام شهر ومن نذر صوم شهر لزمه التتابع، والتتابع هو أن يأتي بالشهر كاملاً من غير أن يفرق بين بعضه البعض إلا تفريقاً حرمه الشرع، فلو قال شخص: لله علي أن أصوم شهراً، فعلى مذهب الحنابلة الذين قالوا بوجوب التتابع لا يحل قطع هذا الشهر إلا بدخول أيام حرم الشرع صيامها كيوم العيد، أو أيام التشريق، أو أيام حيض المرأة، وكذلك يقطع بدخول رمضان؛ لأن رمضان يستوعب بعبادة أخرى من نفس العبادة، فلا يمكن لأحد أن يقول: لله علي أن أصوم شهر رمضان؛ لأن رمضان ليس محلاً للنذر بالصيام؛ لأنه محل صيام الفرض، وهو لا يسع عبادة مماثلة فيه، فلا يمكن أن يأتي شخص ويقول: نويت أن أصوم رمضان هذا العام ثلاث مرات أو أربعاً؛ لأنه لا يمكن صيامه إلا مرة واحدة.

حكم نذر صيام أحد أيام رمضان بنية الفرض والنافلة

حكم نذر صيام أحد أيام رمضان بنية الفرض والنافلة ولو نذر شخص صيام يوم الإثنين من رمضان بنية صيام رمضان وبنية صيام النافلة التي كان يصومها طوال السنة فلا يقبل منه إلا صيام الفرض فقط؛ لأن هذه العبادة قد استوعبت الوقت كله، فلا تحل عبادة مماثلة معها في نفس اليوم.

حكم نذر الوصال في الصيام

حكم نذر الوصال في الصيام وكذلك لا يصح نذر الوصال؛ لأن الوصال بالنسبة لنا مكروه، والوصال: هو أن يصل يومين أو ثلاثة بلياليهن من غير طعام ولا شراب، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصال، فقالوا: يا رسول الله! (إنك تواصل، فقال: إنني لست كهيئتكم، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني).

حكم نذر صيام الليل

حكم نذر صيام الليل ونذر صيام الليل مكروه، والمكروه حكمه: عدم الوفاء به مع إخراج الكفارة. والكفارة في النذر كفارة يمين، وهي إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو صيام ثلاثة أيام.

حكم التتابع لمن نذر صياما

حكم التتابع لمن نذر صياماً قال: (ومن نذر صوم شهر لزمه التتابع، وإن نذر أياماً معدودة لم يلزمه التتابع إلا بشرط أو نية)، أي: إلا إذا شرط على نفسه التتابع، أو نوى التتابع في نفسه، فمن نذر أن يصوم شهراً يلزمه التتابع إلا إذا نوى أو شرط عدم التتابع لفظاً في حال نذره، وأما إذا لم يشرط أو لم ينو التتابع حال نذره فإنه يلزمه على الراجح التتابع، وإذا نوى أن يصوم شهراً وبدأ من أول الشهر العربي فإنه ينتهي مع الشهر العربي، فيصوم الشهر سواء كان تسعة وعشرين أو ثلاثين.

حكم النذر للأموات

حكم النذر للأموات النذر للأموات: جاء في كتب الأحناف: أن النذر الذي يقع للأموات من أكثر العوام، وما يؤخذ من الدراهم والشمع والزيت ونحوها إلى ضرائح الأولياء تقرباً إليهم، كأن يقول: يا سيدي فلان! إن ردت ضالتي أو عوفي مريضي أو قضيت حاجتي فلك من النقد أو الطعام أو الشمع أو الزيت كذا وكذا فهو بالإجماع باطل وحرام. وهذا نذر معصية، ونذر المعصية لا يلزم الوفاء به، ويجب على الناذر كفارة يمين وتوبة، أي: أن يتوب من هذه المعصية؛ لأنها كبيرة من الكبائر، وهذا النذر له تعلق بالإيمان والشرك، فالتوبة فيه والاستغفار آكد وألزم مما لو نذر نذراً مكروهاً؛ لأن هذا محرم بالإجماع. والأدلة على ذلك: أنه نذر لمخلوق، والنذر للمخلوق لا يجوز؛ لأنه لا يجوز لأحد أن يتقرب إلى أحد، وإنما القربى كلها لله عز وجل، وهذا يتقرب إلى مخلوق، وهذا باب عظيم من أبواب الشرك، ولو أن أحداً نذر أن يشرك بالله لم يحل له ذلك. وفي سنة (1981م) في أحد المؤتمرات أتت امرأة إلى أحد العلماء الحاضرين في هذا المؤتمر -وأنا حاضر- وفي يدها طفل، فقالت: يا شيخ! أنا كنت أعتبر تحقيق أمر معين مستحيل، فتجرأت وقلت: لو أن الله تعالى قضى لي كذا لألقين ولدي هذا في النار، فوقع الأمر، وكان موجود بجانب الشيخ حوالي خمسة وعشرين أو ثلاثين رجل أمن دولة وعسكري وأمن مركزي، فقال لها: ألقيه في وسط هؤلاء، وهذا ذكاء شديد جداً من الشيخ، وإن كان في جانب الفقه لا يصح، ولكنه طرفة، فنذر المعصية حرام. وجاء عند ابن الجوزي في أحد كتبه أن امرأة نذرت الزنا لو حصل لها ما تريد، فاستفتت ابن الجوزي في ذلك، وكان الواجب عليه أن يقول لها: يحرم عليك الوفاء بما نذرت؛ لأن هذا النذر في معصية، ولكنه أفتاها فتيا أخرى، وهو وإن كان فقيهاً إلا أنه جانبه الصواب في هذه الإجابة، فأفتاها بأن تظهر خصلة من شعرها؛ لأن المرأة إذا خرجت من بيتها متعطرة أو كاشفة شعرها فهي كذا وكذا، يعني: زانية، كما في رواية الترمذي، وهذا الجواب غير سليم، لكنه بيان لحقيقة الكثير من النساء، فالمرأة إذا خرجت متعطرة استشرفها الشيطان، وإذا خرجت متزينة أو متبرجة أو كاشفة شعرها أو شيئاً مما حرمه الله تعالى فالأمر كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي أخرجه الترمذي وغيره: (فهي كذا وكذا، يعني: زانية). واختلف أهل العلم من الذي قال: (يعني: زانية)، هل هو الراوي، أم النبي عليه الصلاة والسلام؟ والراجح أنه الراوي، وهو أبو هريرة رضي الله عنه. قال: النذر للأموات حرام؛ لأنه ينذر للمخلوق، وهو لا يجوز؛ لأنه عبادة، ولا تكون إلا لله عز وجل. الوجه الثاني من أوجه الحرمة: أن المنذور له ميت، والميت لا يملك. الوجه الثالث: أنه إن ظن أن الميت يتصرف في الأمور دون الله تعالى فاعتقاد ذلك كفر، والعياذ بالله. وأنتم تعلمون أن عامة الصوفية أو جل الصوفية يعتقدون أن الكون يحاط بأقطاب وأوتاد يتصرفون في الكون، بل يرفعون السيد البدوي حتى على الحسين، فهم يقرون أن الحسين صحابي، وأنه من نسل النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن سر السيد البدوي عظيم أكثر من الحسين، وهذا مشاهد، وهم يقولون هذا، حتى أن سخفاءهم وسفهاءهم صنفوا الكتب ليثبتوا الكرامات لأنفسهم، ويقولون: لقد ذهبنا إلى قبر الحسين وإلى قبر البدوي، فلما سلمنا على البدوي أخرج يده من تحت القبر فسلم علينا ثم ردها، وهؤلاء يخاطبون جهلاء أجهل منهم، وأغبياء وحمقى. وشخص آخر يعبد الشعراني من دون الله عز وجل، ويقول: أقسم بالله العظيم أنني شققت بالأرض طريقاً من بيتي إلى قبر الشعراني، وكلما ضربت الأرض خرج بحر من الدم. ولو قرأت في كتاب طبقات الشعراني فإنك تجد في كل ترجمة ممن يترجم لهم خزي وعار من زنا ولواط وسرقة وغش وخداع، وما من ترجمة في هذا الكتاب إلا وفيها عار وشنار، ويستحي المرء أن يقول: إن هذا الكتاب من كتب أهل الإسلام. ولا شك أن من نذر لهؤلاء فإنه يلزمه الكفارة والتوبة إلى الله عز وجل. والتصوف في المغرب أعتى من التصوف في مصر، بل أصل الانحراف والضلال إنما أتى من بلاد المغرب على يد الفاطميين، فتجد أن الواحد منهم ينذر قربة للأحياء، ولو أنه أوصل إلى الحي قربة لله عز وجل لصح نذره، فلو قال: يا رب! لك علي ذبح شاة وسلخها وتوزيع لحمها، أو إعطاء لحمها لفلان إن عافيتني، لكان جائزاً؛ لأنه نذر أن يتقرب إلى الله، لا إلى هذا الحي، ولكنهم في المغرب يجعلون الحي محلاً للنذر، أما جعل الميت محلاً للنذر فهذا هو عمل المصريين في موسم الحج، وكذلك الإيرانيين، فمن وجب عليه هدي المتمتع أو القارن أو الفداء لمن فرط في واجب من واجبات الحج فعليه دم، وهذا الدم فداء لمن فرط في واجب من واجبات الحج للمتمتع أو القارن، فيقول أحدهم: لن أذبحه هنا

حكم أكل الناذر من نذره، وكيفية تقسيم الأضحية

حكم أكل الناذر من نذره، وكيفية تقسيم الأضحية والناذر لا يأكل من نذره شيئاً، ولا من تلزمه كفالته وعيالته. والمضحي يقسم أضحيته ثلاثة أثلاث: لنفسه ثلث، وثلث هدايا، والثلث الثالث للفقراء. والعقيقة هي: ما يذبح عن المولود يوم سابعه، فللغلام شاتان وللجارية شاة، والعبرة فيها إراقة الدم، ولذلك بعض أهل العلم يقول: ولأب الولد أن يأكل عقيقته كلها؛ لأنه أراق الدم بنية العقيقة، والعبرة بإراقة الدم؛ لأنها نسك من الأنساك، ولكن جمهور أهل العلم على ما قال أبو الطيب في كتاب التحفة: وقد جرى عمل أهل الإسلام على اجتماع الناس في مثل هذه المناسبات. فإذا ولد لك مولود فلا تذبح خروفين وتضعهما في الثلاجة وتأكل من اللحم شهرين، وإن كان هذا العمل جائزاً؛ لأن العبرة بالمقصد الأدنى في هذا بإراقة الدم، وقد أريق.

مسائل متفرقة في النذر

مسائل متفرقة في النذر ولو أنه نذر أن يتصدق على أهل بلد معين، أو في مكان معين لزمه ذلك، ولو نذر أن يصلي في مسجد معين ركعتين لله عز وجل لم يلزمه إذا كان في هذا المسجد قبر أو ضريح؛ لأن الصلاة في هذه المساجد لا تصح. وإذا نذر أن يصلي في مسجد ليس فيه ضريح فعلى الراجح من أقوال أهل العلم أنه لا يلزمه ذلك، إلا أن ينذر أن يصلي في مسجد من المساجد الثلاثة ذات الشرف والفضل، وهي التي قال فيها عليه الصلاة والسلام: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا)، أي: المسجد النبوي فيلزمه الوفاء بنذره في هذه الأماكن؛ لشرفها وفضلها، وزيادة ثواب الصلاة فيها على غيرها. ومن نذر أن يطوف حول البدوي سبعاً أو سبعين لكان مشركاً، فالطواف لا يكون إلا حول الكعبة لمن استطاع، فإذا عجز عن الوفاء بالنذر في الطواف حول الكعبة أجزأه كفارة يمين. ولو أن أحداً نذر لله عز وجل أن يذبح شاة في مكان يعبد فيه صنم من دون الله عز وجل، كالأوثان أو الأصنام أو الصليب أو غير ذلك لم يلزمه ذلك؛ لأن هذا المكان مكان شركي، يعبد فيه الصليب من دون الله عز وجل، فالذبح في هذا المكان فيه شبهة التقرب إلى الصليب، لا إلى الله عز وجل فإنه لا يلزمه الوفاء بالتزام المكان، ويلزمه أن يذبح في مكان آخر. وفي السنن من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إني نذرت أن أذبح كذا وكذا بمكان يذبح فيه أهل الجاهلية، فقال عليه الصلاة والسلام: لصنم؟ قالت: لا، قال: فأوف بنذرك). وأهل الجاهلية كانوا يذبحون هناك؛ لصنم كانوا يعبدونه. ويجوز للمسلم أن يذبح في نفس المكان الذي كان يذبح فيه الكافر؛ لأنه مكان مباح، يذبح فيه المسلم ويذبح فيه الكافر، وليس فيه أصنام ولا أوثان؛ فيجوز للمسلم أن يذبح فيه.

باب الأمر بقضاء النذر

باب الأمر بقضاء النذر قال النووي: باب الأمر بقضاء النذر. وهذا هو الباب الأول من كتاب النذر. قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يحيى بن يحيى التميمي ومحمد بن رمح بن المهاجر -وهو المصري- قال: أخبرنا الليث -وهو ابن سعد المصري- وحدثنا قتيبة بن سعيد الثقفي حدثنا ليث عن ابن شهاب -وهو الزهري المدني- عن عبيد الله بن عبد الله -وهو ابن عتبة المسعودي - عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (استفتى سعد بن عبادة رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في نذر كان على أمه توفيت قبل أن تقضيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فاقضه عنها)]. وأم سعد بن عبادة كان عليها نذر، وتوفيت قبل الوفاء بهذا النذر، والنذر ثلاثة أنواع، نذر بدني، ونذر مالي، ونذر بدني مالي، فالنذر البدني كالصلاة والصيام، والنذر المالي كالنذر بالتصدق بالمال، والنذر البدني المالي كالحج، ولم تبين الرواية نوع النذر الذي نذرته أم سعد بن عبادة، ولكن الإجابة كانت عامة، وإذا كان السؤال عاماً، أي: يقتضي العموم، والجواب بالإيجاب فإنه يدخل في هذا العموم كل أجزائه، وكذلك إذا كان الجواب عاماً في معرض جهالة أو سؤال مجهول، فقوله: (فاقضه)، هذا الضمير يعود على النذر، والجهالة في السؤال والجواب مع لفظ العموم في الجواب يدل على أن القضاء يشمل كل الأنواع، سواء كان النذر في المال، أو في البدن، أو في البدن والمال على السواء. قال: [وحدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك. وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وإسحاق بن إبراهيم بن راهويه عن ابن عيينة، وحدثني حرملة بن يحيى التجيبي -وهو المصري- أخبرنا عبد الله بن وهب المصري، أخبرني يونس]، وهو الراوي الثالث مع مالك وابن عيينة، ويونس هو ابن يزيد الأيلي. قال: [وحدثنا إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد قالا: أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر -وهو الراوي الرابع، وهو ابن راشد المصري اليمني- وحدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا عبدة بن سليمان عن هشام بن عروة عن بكر بن وائل -وهو الراوي الخامس، وهو ابن داود التميمي الكوفي - كلهم عن الزهري عن الليث بن سعد بهذا الإسناد بمعنى الحديث].

كلام النووي على حديث نذر أم سعد بن عبادة

كلام النووي على حديث نذر أم سعد بن عبادة قال النووي: باب الأمر بقضاء النذر. وهذا هو الباب الأول من كتاب النذر. قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يحيى بن يحيى التميمي ومحمد بن رمح بن المهاجر -وهو المصري- قال: أخبرنا الليث -وهو ابن سعد المصري- وحدثنا قتيبة بن سعيد الثقفي حدثنا ليث عن ابن شهاب -وهو الزهري المدني- عن عبيد الله بن عبد الله -وهو ابن عتبة المسعودي - عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (استفتى سعد بن عبادة رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في نذر كان على أمه توفيت قبل أن تقضيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فاقضه عنها)]. وأم سعد بن عبادة كان عليها نذر، وتوفيت قبل الوفاء بهذا النذر، والنذر ثلاثة أنواع، نذر بدني، ونذر مالي، ونذر بدني مالي، فالنذر البدني كالصلاة والصيام، والنذر المالي كالنذر بالتصدق بالمال، والنذر البدني المالي كالحج، ولم تبين الرواية نوع النذر الذي نذرته أم سعد بن عبادة، ولكن الإجابة كانت عامة، وإذا كان السؤال عاماً، أي: يقتضي العموم، والجواب بالإيجاب فإنه يدخل في هذا العموم كل أجزائه، وكذلك إذا كان الجواب عاماً في معرض جهالة أو سؤال مجهول، فقوله: (فاقضه)، هذا الضمير يعود على النذر، والجهالة في السؤال والجواب مع لفظ العموم في الجواب يدل على أن القضاء يشمل كل الأنواع، سواء كان النذر في المال، أو في البدن، أو في البدن والمال على السواء. قال: [وحدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك. وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وإسحاق بن إبراهيم بن راهويه عن ابن عيينة، وحدثني حرملة بن يحيى التجيبي -وهو المصري- أخبرنا عبد الله بن وهب المصري، أخبرني يونس]، وهو الراوي الثالث مع مالك وابن عيينة، ويونس هو ابن يزيد الأيلي. قال: [وحدثنا إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد قالا: أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر -وهو الراوي الرابع، وهو ابن راشد المصري اليمني- وحدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا عبدة بن سليمان عن هشام بن عروة عن بكر بن وائل -وهو الراوي الخامس، وهو ابن داود التميمي الكوفي - كلهم عن الزهري عن الليث بن سعد بهذا الإسناد بمعنى الحديث].

حكم الوفاء بالنذر إذا كان طاعة أو معصية أو مباحا

حكم الوفاء بالنذر إذا كان طاعة أو معصية أو مباحاً قال النووي: (أجمع المسلمون على صحة النذر، ووجوب الوفاء به إذا كان الملتزم طاعة)، ودليله: (من نذر أن يطيع الله فليطعه). وهذا فعل أمر، ونذر الطاعة يخرج منه الحرام والمكروه، فهذا نذر حلال، ومحله الحلال من جهة الناذر والمنذور، كأن يكون المنذور ذبح شاة، فذبح الشاة حلال، بخلاف ما لو قال: لو أن الله تعالى شفى مريضي فله علي أن أذبح خنزيراً، فهذا لا يلزمه، فإما أن يكفر عن محل هذا النذر بذبح شاة مكان الخنزير؛ لأن الخنزير مثل الشاة، أو يكفر كفارة يمين. قال: (أجمع المسلمون على صحة النذر ووجوب الوفاء به إذا كان الملتزَم -الذي هو محل النذر- طاعة، وأما إذا نذر في معصية تتحقق له، أو تقرب إلى الله بمعصية وهي محل النذر فإنه لا يلزمه الوفاء، بل يلزمه الكفارة والتوبة. فإن نذر معصية أو مباحاًَ، كدخول السوق مثلاً لم ينعقد نذره، ولا كفارة عليه عند مالك، وبه قال جمهور العلماء، وقال أحمد وطائفة: فيه كفارة يمين). أي: أنه لو نذر نذراً لم يصادف محلاً فليس عليه شيء، فلو جاء شخص وقال: لله علي إن فعل بي كذا وكذا لأذبحن الشاة التي في بيتي، فلما ذهب إلى بيته وجد الشاة قد ماتت فهذا النذر لم يصادف محلاً؛ لأنه لما نذر ماتت الشاة دون أن يدري، ونذره وقع على شاة بعينها، وكان صادقاً في أن يتقرب بها إلى الله عز وجل، فلما أراد أن يوفي بالنذر وجد الشاة قد ماتت بغير إرادته، فلا يلزمه ذلك؛ لأن نذره انصب على شاة بعينها، بخلاف ما لو قال: لله علي إن فعل كذا لأتقربن إليه بشاة، فيجزئه أن يقدم شاة من بيته أو أي شاة غيرها. قال: (فإذا نذر معصية أو مباحاً كدخول السوق لم ينعقد نذره)، أي: لم ينعقد نذره في جانب المعصية. قال: (ولا كفارة عليه في نذر المباح). وهذا عند الشافعية والجمهور، وأما الظاهرية والحنابلة فيقولون: في نذر المعصية ونذر المباح الذي لم يتمكن من فعله كفارة يمين. وهذا أحوط.

المبادرة بقضاء الحقوق الواجبة على الميت

المبادرة بقضاء الحقوق الواجبة على الميت وفي قوله عليه الصلاة والسلام لـ سعد بن عبادة: (فاقضه عنها) دليل لقضاء الحقوق الواجبة على الميت على العموم: سواء كانت حقوقاً مالية، أو بدنية، أو مالية بدنية. فأما الحقوق المالية فمجمع عليها، والحقوق التي يجب إخراجها من التركة قبل الميراث هي الديون، ودين الله تعالى أحق بالوفاء. فلو نذر شخص في ماله نذراً فهذا حق لله عز وجل يجب الوفاء به. وأما الحقوق البدنية ففيها خلاف، كما تقدم في مواضع من هذا الكتاب، فلو أن ميتاً مات وعليه صيام النافلة فلا يلزم القضاء عنه على الراجح، ولو أن شخصاً صام الإثنين أو الخميس ثم ذهب لزيارة صاحبه وهو صائم فوجده يأكل أكلاً لذيذاً فجلس يأكل معه فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (المتطوع أمير نفسه). ثم إن الجمهور: على أنه لا يلزمه القضاء؛ لأنه متطوع، وهذا صيام تطوع ونافلة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (المتطوع أمير نفسه)، يعني: هو الذي اختار الصيام لنفسه، فإذا كان يريد أن يواصل واصل، وإذا كان يريد أن يقطع الصيام قطعه، وجاء الحديث عند البخاري بلفظ: (إلا أن تطوع فهذا شيء لك). ففرق بين الفرائض وبين التطوع، فمن جهة الوجوب والإلزام بعد الفرائض ليس عليك إلا أن تطوع، فهذا تطوع منك، والبعض يقول: المعنى: إلا أن تطوع فيجب عليك؛ لأنه قال: (هل علي غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع)، يعني التقدير: إلا أن تطوع فيجب عليك، فالقائلون بهذا الرأي قالوا: إلا أن يشرع في التطوع فيجب عليه، والقائلون بوجوب إعادة التطوع يشترطون التلبس والدخول في الطاعة. وإذا أراد شخص أن يصلي سنة المغرب وهو متردد أيصلي أم لا؟ فإنه لا يأثم بذلك مع أن سنة المغرب سنة مؤكدة، فإذا عزم أن يصلي فقام وتوجه إلى القبلة ثم كبر، ولم يقرأ الفاتحة -لأنه يصلي سنة- لم تصح صلاته؛ لأنه بمجرد شروعه في النافلة قد أوجبها على نفسه من جهة العمل والإتمام، يعني: أوجب إتمامها وأداءها على نفسه، لا أنها في نفسها واجبة، ولكن وجوب الإتمام فيها كالفريضة. ولو أن إنساناً ذهب ليحج حج نافلة قارناً فأهل من الميقات وساق الهدي معه ودخل مكة لم يجز له أن يتخلف متعمداً عن الوقوف بعرفات ويقول: أنا متنفل، بل يلزمه أداء الحج إلى آخره؛ لأنه قد تلبس به، وإن كان في أصله نافلة. وفي المسألة مذاهب أخرى لا داعي لسردها، ولكن هذين أقوى المذاهب في المسألة. قال: (ثم مذهب الشافعي وطائفة أن الحقوق المالية واجبة على الميت من زكاة وكفارة ونذر يجب قضاؤها، سواء أوصى بها أم لا). وهذا مشروط بأن يترك مالاً يكفي للوفاء بهذا، وسواء أوصى بذلك أم لا؛ لأن هذا حق لله عز وجل عليه، وحقوق الله عز وجل مقدمة على حقوق العباد فيما يتعلق باستخراجها من التركة قبل توزيع الميراث، فإذا كان عليه زكاة مال وقد وجبت عليه ومات قبل أن يخرجها كأن تكون الزكاة وجبت عليه اليوم ومات بعد أسبوع مثلاً، ولكنه لم يكن قد أخرجها -والزكاة لا تجب إلا بالملك، أي: بملك النصاب، وحولان الحول، فمعنى قولنا: إنه قد وجبت عليه الزكاة يعني: أنه يملك- فهذا حق الله عز وجل، يجب على الورثة إخراج هذا المال أوصى أو لم يوص. وبعض أهل العلم قال: لا يلزمهم ذلك إلا بوصية؛ وهذا مذهب مرجوح، والراجح أنه يلزمهم إخراج حق الله من كفارة يمين، أو نذر، أو زكاة مال من مال الميت أوصى أو لم يوص ما دام أنه ترك ما يفي بهذا النذر أو كفارة اليمين أو زكاة المال.

اختلاف العلماء حول نذر أم سعد بن عبادة

اختلاف العلماء حول نذر أم سعد بن عبادة قال: (قال القاضي عياض: واختلفوا في نذر أم سعد). فقصة أم سعد بن عبادة ورد فيها أقوال كثيرة جداً، فقد قيل: إنها نذرت صوماً، وقيل: مالاً، وقيل: حجاً، وقيل: صلاة، وكل هذا ورد في ترجمتها في السير وغيرها، وهذا الحديث الذي بين أيدينا هو أحد هذه الأحاديث الواردة في قصة نذر أم سعد. فبعض العلماء يقول: نذر أم سعد كان صياماً، ويستشهد بحديث الصيام، ولكن حديث الصيام الذي ورد في ترجمة أم سعد ليس فيه بيان أن هذا النذر كان في حال قوتها وصحتها، وهل أدته أم لا؟ فبعضهم حمل نذر أم سعد على الصيام، والبعض الثاني حمله على الحج، والبعض الثالث حمله على المال، ومنهم من حمله على غير ذلك. وأقوى الأقوال في هذا أنه نذر مبهم، فيحمل على عموم ما يمكن النذر فيه. وبعضهم قال في حديث سعد بن عبادة: (إن أمي نذرت أن تعتق، أفأعتق عنها؟ قال: فأعتق عنها). والذين قالوا: إن نذر أم سعد كان مالياً لا يتعارض مع من قال: إنه كان عتقاً؛ لأن الرقيق والعبيد مال.

حكم قضاء النذر عن الميت

حكم قضاء النذر عن الميت قال النووي: (واعلم أن مذهبنا ومذهب الجمهور: أن الوارث لا يلزمه قضاء النذر الواجب على الميت إذا كان غير مليء، أو كان مليئاً ولم يترك وفاء، وإنما يستحب ذلك)؛ لأن نفي الوجوب لا يلزم منه نفي الاستحباب، كما أن نفي الحرمة لا يلزم منه نفي الكراهة. وهذا كلام الأصوليين. ولو أن النذر استوعب المال كله فالغالب أنه لا يلزمه إلا في الثلث.

حكم قضاء النذر غير المالي عن الميت

حكم قضاء النذر غير المالي عن الميت قال: (ولو كان النذر في غير المال كأن يكون في العبادة مثل الصيام فقد قال صلى الله عليه وسلم: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه). ومذهب الجمهور: أن الأمر هنا للاستحباب. ومذهب الظاهرية والحنابلة وبعض الشافعية: أن الأمر للوجوب والتعيين)، ومعنى التعيين: أنه يلزم منه العوض، فلا يوجد فيه كفارة، إلا إذا عجز الولي؛ لأن الذي عليه الصيام نفسه لو أنه عجز عن الصيام لنفسه لانتقل إلى البدل وهو الكفارة، وهي إطعام مسكين عن كل يوم، فإذا كان أولياء الميت كلهم ليس لديهم قدرة على الصيام فعليهم أن يطعموا عن كل يوم مسكيناً، فإذا كانوا لا يملكون حتى قوت يومهم، وعجزوا عن الإطعام لم يلزمهم كفارة؛ لأن الكفارة وإن كانت واجبة إلا أن كل واجب في الإسلام يسقط بعدم القدرة عليه، وكذلك تسقط الكفارة إن لم يكن للميت من يصوم عنه، فالكفارة تسقط بعدم القدرة كمن عجز عن الوضوء وعن التيمم يلزمه أن يصلي فاقد الطهورين، وهذا أمر مقرر وأنتم تعلمونه. وإذا كان ورثة أو أولياء الميت قادرين على الصوم، وكان على الميت صيام فرض أو صيام نذر، أي: الصيام الواجب، وأما صيام النافلة فلا يلزمهم؛ لأنه لا يلزم الميت أصلاً. ولو مات شخص وعليه عشرة أيام من رمضان، وعنده خمسة أولاد، فصام كل منهم عنه عشرة أيام -أي: صاموا عنه خمسين يوماً، والذي على الميت عشرة أيام فقط- فالذي يجزئ عنه عشرة أيام فقط، وأما الأربعون يوماً الباقية لم تصادف محلاً. ويجوز تقسيم الأيام على الأولاد، وصيامهم إياها جميعاً في يوم واحد، فلو قسمت العشرة أيام على الخمسة الأولاد فسيكون على كل واحد منهم يومان فقط، فلو صاموها جميعاً في يومين فصيامهم صحيح. وقال بعض أهل العلم: لا بد من تقسيم العشرة أيام على عشرة أيام، أي: على عشرة نهارات، وهذا تحكم بغير دليل، وهم يستدلون على ما ذهبوا إليه بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فليصم عنه وليه)، أي: ولي واحد، لأنه لم يقل: فليصم عنه أولياؤه، وهذه ظاهرية شديدة جداً، وهو كمن يكثر مثلاً من النهي عن الصلاة بين السواري، فإذا رأى في مسجد سارية واحدة لم ينه عن الصلاة بجانبها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بين السواري وليس السارية الواحدة، فهو تحجر على ظاهر النص، في حين أن المقصود علة النص، وعلة النص هي عدم قطع الصف، وهذه العلة تتحقق في السارية والساريتين والثلاث، فلا يقولن أحد: الحديث نهى عن الصلاة بين السواري ولم ينه عن الصلاة بجانب السارية الواحدة. وهذا مثل ابن حزم عندما قال: لو أن أحداً بال في الماء وهو واقف نجسه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم)، وفي رواية: (في الماء الراكد)، يعني: الجاري، (ثم يغتسل فيه من الجنابة)، أي: أن العلة هي التنجيس، يقول ابن حزم: فلو أنه بال في قارورة أو في ركوة ثم صب البول في الماء فإنه لا يتنجس. قال: لأنه لم يبل مباشرة في الماء، والحديث يفهم منه أن يبول في الماء، ولا يقال لغة لمن بال في زجاجة ثم ألقى البول في الماء الراكد أنه قد بال. وهذا تحكم بغير برهان، وإنما هو وقوف عند ظاهر النص بغير النظر إلى العلة، ومن المعلوم قطعاً عند المسلمين أن الشرع إنما أتى لحكمة عظيمة جداً، وهذا قد غفل عن الحكمة من النص؛ لأنه فرق بين المتماثلين، وجمع بين النقيضين بغير دليل ولا برهان. وهذا الفقه المخالف لما عليه جماهير علماء الأمة لا بد أن يطرح جانباً؛ والشيخ أحمد شاكر عليه رحمة الله لما تصدى لتحقيق كتاب المحلى لـ ابن حزم قال: ما أتعبني أحد قط في حياتي العلمية ما أتعبني ابن حزم؛ لأن له من المخالفات سواء الحديثية أو الفقهية الشيء الكثير، عليه رحمة الله. ومذهب الجمهور أن الوارث لا يلزمه قضاء النذر الواجب على الميت إذا كان غير مالي، فلو قال الوارث: لن أصوم عن الميت؛ لأن الأمر الصادر إلينا بالصوم عنه أمر استحباب، والاستحباب لا إكراه فيه، ولا إجبار. وقضاء الصوم عن الميت أولى، فإن امتنع الولي عن قضاء الصيام أجزأته الكفارة خلافاً للأولى، وبعضهم يمتنع عن الصيام عن الميت ويقول: أنا خرجت من رمضان متعباً، ولا أقدر على الصيام، فسأطعم عنه ثلاثين مسكيناً، أو حتى ثلاثمائة. قال: (وإذا كان مالياً ولم يخلف تركة يستحب له ذلك، وهذا مذهب الجمهور) أي: أنه يستحب له أن يصوم عنه، ويستحب له كذلك أن يقضي عنه نذره إن كان مالياً ولم يكن للميت ما يقضى به هذا النذر، فإذا كان الوارث أو الولي عنده من المال ما يفي بنذر ميته فإنه لا يجب عليه القضاء عنه، وإنما يستحب في حقه. قال: (وقال أهل الظاهر: بل يلزمه ذلك؛ لحديث سعد هذا. ودليلنا: أن الوارث لم يلتزمه فلا يلزم)، وهذا الوارث إنما يلزمه الصوم إذا ألزم نفسه بذلك، ويلزمه قضاء الدين عن الميت إذا ألزم نفسه بذلك. وهذا كله بصرف النظر عن وصية الميت، يعني: إذا كان ال

الأسئلة

الأسئلة

حكم إعطاء النذر المالي لأبناء الناذر

حكم إعطاء النذر المالي لأبناء الناذر Q إذا نذر رجل أن يتصدق بمبلغ من المال ثم أعطاه لأبنائه، فهل يكون قد وفى بنذره؟ A لو نذر الناذر التصدق بمائة جنيه وكان له عشرة أولاد فأعطى كل واحد منهم عشرة جنيهات فهذا يعني أنه قد رجع إليه مرة أخرى، ولذلك إجماع أهل العلم أن محل النذر لا يكون للناذر ولا لمن يعول.

خطورة القدح في العلماء وعاقبة ذلك

خطورة القدح في العلماء وعاقبة ذلك Q أحد الإخوة يقدح في الشيخ ابن باز وفي العلامة محمد بن عبد الوهاب، بل ويقدح في المذهب الحنبلي، وهذا الشخص لا علم له إطلاقاً، ويبدو أنه سمع هذا القدح من بعض أهل البدع، فأرجو أن توجه نصيحة له، فهو الآن يسمعك، وأرجو ذكر كلمة ولو مختصرة في الدفاع عن هؤلاء العلماء؟ A هؤلاء العلماء ليسوا في حاجة إلى دفاعنا، فإنهم جبال شامخات، وهم ليسوا في حاجة إلى كلمة منا، وأحذر هذا الأخ أن تنزل عليه صاعقة من السماء فتجتاحه، أو أن الله تعالى يسلط عليه أقرب الناس إليه فيذله ذلاً. وأذكر بهذه المناسبة أننا كنا في أثناء غزو العراق للكويت في أحد النوادي في شارع الهرم، وكان بعض إخواننا على خلاف مع الشيخ ابن باز فيما يتعلق بمسألة استقدام الكفار أو الأجانب إلى الجزيرة، ثم زاد استهزاء وسخرية وتهكماً على الشيخ ابن باز، وكان يلعب الكرة، فذهب مسرعاً إلى أقصى حد ليأتي بها بعد أن تهكم في الملعب على الشيخ ابن باز، فظل يجري حتى ارتطم بحائط النادي فوقع ميتاً في الحال، فأيقنت -وأنا موقن، ولا أزكي الشيخ على الله رحمه الله- أنه من أولياء الله عز وجل، وأنه من أهل العلم الأفذاذ، فقد ضرب في كل فن من فنون العلم بباع طويل. وأذكر هذا الأخ وغيره ممن يقعون في أهل العلم بما أخرجه ابن عساكر عن كثير من أهل العلم: أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، ومن تعرض لهم بالثلب ابتلاه الله قبل موته بموت القلب. وتصور أن رجلاً يمشي على الأرض وقلبه ميت بسبب وقيعته في أهل العلم، واعلم أن الأمر كما قال ابن القيم وشيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهما: الغيبة والنميمة حرام في حق الكافر المسالم -وهو ضد المحارب- وهي أشد حرمة في حق المسلم، حتى إن كان ما تقوله فيه حقاً، وهي في أعظم درجات الحرمة إذا كانت في حق أهل العلم؛ لأنهم ليسوا كغيرهم من الناس، يعني: إن الوقيعة في المسلم العادي حرام، وأما الطعن والوقيعة في أعراض أهل العلم فهو باب عظيم من أبواب الصد عن سبيل الله عز وجل؛ لأن هؤلاء العلماء هم الدلالة بيننا وبين الله عز وجل، وهم الذين يبينون عن الله عز وجل، أي: يبلغوننا مراد الله تعالى من كلامه، ومراد رسوله عليه الصلاة والسلام من كلامه، فهم الواسطة بيننا وبين فهم كلام ربنا وسنة نبينا عليه الصلاة والسلام، فإذا وقعت فيهم فمن الذي يبلغنا؟ ومن الذي يعلمنا؟ فالوقيعة في العلماء إنما هو قطع للصلة بين الأمة وبين علمائها، والقدح في العالم بكلمة واحدة تسقط هيبته والثقة به، فلا يتبعه أحد بسبب كلمة واحدة. وقائل هذا الكلام من أجهل الناس، وغالباً ما يكون -وهذا أمر مطرد- جاهلاً لا يعرف أهل العلم ولا فضلهم، ولا معنى أن هذا عالم، ولا غير ذلك، فهو بعد أن جهل كل هذا هان عليه الوقيعة في أهل العلم وفي غيرهم. فإذا كان يتعرض لأهل العلم بهذا الكلام القبيح فمن باب أولى أن يتعرض لعموم الأمة بالتكفير والتبديع والتفسيق، وهذا باب عظيم جداً من أبواب أهل البدع. أسأل الله سبحانه أن يغفر لهذا الأخ، وأن يهديه ويهدينا الصراط المستقيم.

الحكم على حديث: (توسلوا بجاهي)، وحديث: (لا تسيدوني في الصلاة)

الحكم على حديث: (توسلوا بجاهي)، وحديث: (لا تسيدوني في الصلاة) Q أرجو بيان درجة هذين الحديثين: الحديث الأول: (توسلوا بجاهي؛ فإن جاهي عند الله عظيم) والحديث الثاني: (لا تسيدوني في الصلاة). A الحديث الأول موضوع، والحديث الثاني أكثر منه وضعاً، بل الصواب حتى من جهة اللغة أن يقول: (لا تسودوني)، وعلامة الوضع الخطأ اللغوي في الرواية. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وسلم.

كتاب الأيمان والنذور - مقدمة كتاب الأيمان

شرح صحيح مسلم - كتاب الأيمان والنذور - مقدمة كتاب الأيمان القسم هو تعظيم للمقسم به، ولا ينبغي للعبد صرف هذا التعظيم لغير الله سبحانه وتعالى، حتى لو كان المقسم به ملكاً أو نبياً أو والداً، وقد شدد الشرع في هذه المسألة أيما تشديد، وأرشد من وقع في مخالفة هذا إلى قول لا إله إلا الله؛ تكفيراً عما فعله من القسم بغير الله، وإخلاص العبودية والتوحيد لله عز وجل.

تعريف اليمين

تعريف اليمين إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. نحييكم ونحيي هذه الوجوه الطبية المتوضئة الطاهرة، ونعرب عن شدة شوقنا إليكم. ودرج أهل العلم على أن يقدموا كتاب الأيمان على كتاب النذور في التصنيف، إلا أن الإمام مسلماً قدم كتاب النذور قبل الأيمان. والأيمان: جمع يمين، واليمين تطلق على اليد اليمنى المقابلة لليد اليسرى. وأما في الشرع: فتطلق على الأمر الذي يحلف عليه الحالف ويؤكد عليه عزمه. وبين المعنى الشرعي والمعنى اللغوي ارتباط؛ لأن العرب كانت إذا أرادت أن تحلف على شيء أشارت باليمين إلى السماء؛ لتؤكد عزمها على صحة المحلوف عليه، فسمي الفعل باسم المصدر. وقوله: (كتاب الأيمان) أي: الكتاب الذي يذكر فيه مسائل تتعلق بالأيمان.

الصحيحان لم يستوعبا المسائل المتعلقة بالأيمان

الصحيحان لم يستوعبا المسائل المتعلقة بالأيمان والمعلوم أن كل كتاب من كتابي الصحيحين لا يشمل جميع الفرعيات المتعلقة بالباب، فلو رجعنا مثلاً إلى الكتاب السالف الذكر وهو كتاب النذور لوجدنا أن الإمام مسلماً ذكر بعض مسائل النذور؛ لأنه ذكر الروايات التي هي على شرطه فقط، وكذلك البخاري عليه رحمة الله لما صنف كتاب النذور ذكر المسائل المتعلقة بالروايات التي على شرطه كذلك. ولو راجعت كتاب الأيمان أو كتاب النذور في أي كتاب من كتب الفقه خاصة الكتب الموسعة أو الموسوعات لوجدت زيادات عظيمة جداً وأدلة أخرى كثيرة من الكتاب والسنة لم ترد في الصحيحين أو في أحدهما. ومرد ذلك إلى أن هذين الكتابين هما في الحديث لا في الفقه ابتداءً. والأمر الثاني: أن كل واحد من أصحاب الصحيحين له شرط في الرواية في صحيحه، ولذلك فهو لا يدخل في صحيحه إلا ما كان على شرطه، ولذلك نجد أحاديث كثيرة جداً في النذر وأحكامه وكفارته وغير ذلك في سنن أبي داود أو في سنن الترمذي أو في مسند أحمد أو في موطأ مالك أو في غيرها ولا نجدها في الصحيحين؛ لأنها ليست على شرط البخاري ولا على شرط مسلم، ولذلك لا تجدها في هذين الكتابين. ولا يعني هذا أن البخاري قصر أو أن مسلماً قصر، بل إنما التزم كل واحد منهما أن يروي ما صح عنده على شرطه، والإمام مسلم اشترط ذلك صراحة في صحيحه، والبخاري علم أنه اشترط بالاستقراء؛ لأن البخاري عليه رحمة الله لم يقل: أنا شرطي في صحيحي كيت وكيت وكيت، وإنما علم أن له شرطاً أسد وأشد وأقوى من شرط مسلم باستقراء أهل العلم الذين أتوا من بعده.

باب النهي عن الحلف بغير الله

باب النهي عن الحلف بغير الله قال النووي رحمه الله: (باب النهي عن الحلف بغير الله تعالى) أي: المعلوم أنه بغير الله وبغير أسمائه وصفاته؛ لأن أسماء الله تعالى لازمة لذاته، وصفات الله تعالى لازمة لذاته لا تنفك عنه. والله تبارك وتعالى سمى نفسه بأسماء، وسماه كذلك رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام -بوحي من الله عز وجل- بأسماء، والله تعالى وصف نفسه بأوصاف هي لازمة لذاته، ووصفه رسوله عليه الصلاة والسلام -بوحي من الله كذلك- بصفات كذلك، فيجوز للمسلم أن يحلف بالله وأسمائه وصفاته. وقد شدد الحنابلة في النكير على من نادى الصفة كما لو قلت: يا علم الله! يا رحمة الله! يا فضل الله! يا لطف الله، وقال: إن هذا النداء شرك بالله عز وجل؛ لأنه نداء للصفة لا للموصوف، بخلاف ما لو قلت: وعزة الله، وجلال الله؛ فإن هذا قسم بالله بأحد أوصافه، فهذا جائز ومشروع، بخلاف الصورة الأولى، وهناك فرق كبير بين قولك: يا عزة الله، وبين قولك: يا عزيز، فأنت في قولك: يا عزيز تنادي الله عز وجل بأحد أسمائه، أما في الصورة الأولى فإنك تنادي الصفة دون الموصوف.

مذهب أهل السنة في الأسماء والصفات في التفويض

مذهب أهل السنة في الأسماء والصفات في التفويض والكلام ثابت لله عز وجل، والله تبارك وتعالى يتكلم بحرف وصوت كلاماً يليق بجلاله وكماله، والكلام الثابت لله عز وجل يعتقد فيه ما يعتقد في أي صفة من صفات الله تعالى، سواءً صفات الذات أو صفات الأفعال، فنؤمن بها ولا نتعرض للخوض في كيفيتها؛ لأننا إذا جهلنا كيفية الذات فمن باب أولى أن نجهل كيفية الصفات، وعلينا أن نؤمن أن الله تعالى وصف نفسه بأوصاف وسمى نفسه بأسماء، ولا نفوض معانيها، وإنما نفوض الكيفية، فمثلاً: لا نفوض معنى صفة العلم، وعلينا الإيمان يقينياً بأن الله تعالى ذو رحمة واسعة، وأنها وسعت كل شيء، ولكن لا يستطيع أحد أن يكيف رحمة الله، ولا أن يصف رحمة الله؛ لأن رحمة الله تعالى فوق كل إدراك للخلق. وكذلك صفة الاستواء كما في قول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]. فالاستواء صفة لله عز وجل لا يحل لأحد أن يجحدها، ولكن القضية التي زلت فيها الأقدام اختلاف أهل البدع مع أهل السنة والجماعة في معنى الاستواء، فأهل البدع يقولون: الاستواء بمعنى الاستيلاء، وهذا تنقص لجلال الله عز وجل من حيث أرادوا تنزيهه؛ لأن الاستيلاء يستلزم المدافعة، فمعنى قولنا: فلان استولى على الشيء الفلاني بمعنى أنه استلبه وأخذه ممن كان في يده سابقاً. والعرش لم يكن لأحد قبل أن يستولي عليه الله عز وجل، ولم يكن هناك منازعة كتبت الغلبة لله عز وجل فيها، ولو نظرنا في لسان العرب -أي: في كلام العرب ولهجاتهم ولغاتهم- لما وجدنا أن الاستواء بمعنى الاستيلاء، وإنما هو بمعنى العلو والارتفاع، فيكون تقدير الآية: الرحمن على العرش علا وارتفع، وهذا الكلام فضلاً عن تأييده للأدلة الشرعية فإن العقول السليمة والفطر النقية تقبله، وهو صفة من صفات الله عز وجل. بخلاف الأشاعرة والمعتزلة الذين قالوا بغير هذا القول، فقد قالوا: فوق العرش ملائكة كروبيون، ولا ندري إلى الآن ما معنى (كروبيون)، وفوق الملائكة (الكروبيون) الله عز وجل، وهو ينزل إلى السماء الدنيا، بل ينزل إلى الأرض، بل يدخل في جميع الأمكنة بذاته، هكذا يقولون، وهذا الكلام مخالف لعقيدة المسلمين. وأما أهل السنة فيعتقدون أن الله تعالى مستو على العرش بذاته، وأنه تبارك وتعالى ينزل في كل ليلة إلى السماء الدنيا نزولاً يليق بجلاله وكماله إذا انقضى ثلث الليل الآخر أو ثلثاه، وأن هذا لا يتنافى مع علوه واستوائه سبحانه وتعالى. والبعض يقول: أنا لا أفهم كيف يكون الله عز وجل في السماء مستو على عرشه وهو في نفس التوقيت في الأرض، أو في السماء الدنيا، وهذه الشبهة إنما دخلت عليه لأنه قاس نزول الله تعالى بنزول الإنسان، ولا يجوز أن يتوهم المسلم أن صفات الله عز وجل كصفات أحد من خلقه، ولو انتفى عنا هذا التوهم، وأثبتنا لله تعالى ما أثبته لنفسه على المعنى اللائق به سبحانه لسلمت لنا كل صفة، وكل اسم من أسمائه سبحانه وتعالى. وكذلك الكلام الذي بين دفتي المصحف، فلا يجوز لأحد أن يقسم أو أن يحلف يميناً على كتاب الله على أنه مجرد كتاب، بل يقسم يميناً على كتاب الله أو على المصحف على أنه كلام الله عز وجل، وأنه صفة من صفاته سبحانه وتعالى. وما في المصحف كلام الله عز وجل تكلمه بحرف وصوت، وأن الله تعالى لا يزال متكلماً، ولا يفنى كلامه ولا يبيد، فهو يتكلم حيث شاء ومتى شاء بما شاء، وكلامه لا ينتهي سبحانه وتعالى، فهذا الذي بين أيدينا من كلام الله عز وجل، أنزله رب العزة تبارك وتعالى ليصلح العباد والمعاد إلى قيام الساعة. ويجوز للإنسان أن يحلف بالمصحف أو على المصحف؛ لأنه صفة من صفات الله عز وجل، وهو كلامه الذي تكلم به بحرف وصوت. والإمام مسلم لم يضع تبويبات لأحاديثه التي أودعها في الصحيح، فلم يبوب كتاب الأيمان، ولا باب النهي عن الحلف بغير الله تعالى، خلاف الإمام البخاري، فإنه هو الذي صنف الأبواب والكتب ووضع تراجم الأبواب في صحيحه، وأما صحيح مسلم فقد وضع أبوابه وكتبه كل من تعرض لشرحه، ولذلك تجد تبويبات الإمام النووي بخلاف تبويبات السيوطي، وبخلاف تبويبات السخاوي، وبخلاف تبويبات غيرهم، وقد شرح صحيح مسلم أكثر من مائة شارح، ولكل واحد منهم تبويبات تخصه باجتهاده، بخلاف الإمام البخاري فإنه هو الذي وضع تبويبات كتابه. والإمام مسلم إنما سرد الأحاديث سرداً وراء بعضها، وقد قال في أول حديث حدثني فلان، ثم في الثاني والثالث: وحدثني فلان وحدثني فلان، وهكذا، ولذلك كان الأصل في أول هذا الكتاب وأول حديث في الباب أن يقول مسلم: حدثني فلان، لا وحدثني فلان؛ لأنه أول حديث في الكتاب وفي الباب، ولكن الإمام مسلماً زاد حرف الواو في قوله: وحدثني؛ لأنه معطوف على ما قبله، باعتبار أنه سرد الأحاديث كلها سرداً على نسق واحد، ولم يقسم هذا كتاب كذا، وهذا باب كذا، وإنما هذا التقسيم من صنع من شرح صحيحه.

سبب فصل الإمام مسلم بين رواية أبي الطاهر ورواية حرملة بن يحيى

سبب فصل الإمام مسلم بين رواية أبي الطاهر ورواية حرملة بن يحيى قال: [وحدثني أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن السرح -وهو المصري- حدثنا ابن وهب]، وهو أبو محمد عبد الله بن وهب المصري القرشي مولاهم، يعني: أنه مولى لقريش، وهو مصري، وهو فقيه ثقة حافظ عادل، وتولى القضاء في مصر في زمانه. قال: [عن يونس]، وإذا روى ابن وهب عن يونس فـ يونس هو يونس بن يزيد الأيلي، ولو روى عن عمرو فهو عمرو بن الحارث المصري. ثم وضع الإمام مسلم بعد يونس حرف ح، وهو اختصار لكلمة الحديث، كما لو أنك استشهدت بآية طويلة، فإنك تذكر طرف الآية الأول ثم تقول: الآية، يعني: كأنك أردت إكمال الآية، وإنما منعك من إكمال الآية علم المستمع لها، أو بمحل الشاهد فيها، فهو أراد بقوله هنا: ح، أي: الحديث بتمامه، أو أنها بمعنى اختصار الحديث، أو تحويل الإسناد، يعني: أن الإسناد إلى هنا سيتحول، ويبدأ إسناد جديد للإمام مسلم، وبعد حرف الحاء لابد أنك تجد حرف الواو. قال: [وحدثني حرملة بن يحيى]، والقائل وحدثني مسلم، وليس يونس بن يزيد، وإنما هو مسلم ليبدأ إسناداً جديداً، فكأن حرملة بن يحيى التجيبي متابع لـ أبي الطاهر بن السرح، وكأن مسلماً أراد أن يقول: حدثني أبو الطاهر وحرملة، هذا التقدير، ولكنه لم يقل ذلك، لأن أبا الطاهر قال في الإسناد الأول: حدثنا ابن وهب، وأما حرملة بن يحيى التجيبي فقال: أخبرنا ابن وهب، ولا يزال أهل الحديث يفرقون بين أداة التحمل حدثنا، وأداة التحمل أخبرنا، وهما وإن كانت كل واحدة منهما تفيد السماع إلا أن إفادة السماع من حدثنا أقوى من أخبرنا، كما أن حدثنا تستخدم عند المحدثين في السماع مشافهة، بخلاف أخبرنا فإنها تستخدم عند المحدثين في السماع مشافهة وإجازة، فلما اختلف أسلوب التحمل ما كان يحل لـ مسلم أن يجمع بينهما، فهو بإمكانه أن يقول: حدثني فلان وفلان، ولكنه ليس بإمكانه أن يتصرف في رواية أبي الطاهر ورواية حرملة ويقول: حدثني فلان وفلان؛ لأن أبا الطاهر قال: حدثنا ابن وهب، وأما حرملة فقال: أخبرنا ابن وهب، وكان بإمكانه أن يقول هذا، ولكن هذا الأمر يطول؛ ولذلك ساقه على هذا النسق. وحرملة بن يحيى هو المعروف بـ التجيبي بكسر الجيم، وهو مصري، وكنيته أبو محمد، نزيل دمياط. قال: [أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس]. وفي الطريق الأول قال ابن وهب: عن يونس، وفي الطريق الثاني قال: أخبرني يونس. عن ابن شهاب، وهو الإمام الكبير المعروف محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن زهرة، مشهور بـ الزهري أو ابن شهاب. قال: [عن سالم بن عبد الله عن أبيه]، وسالم سيد من سادات التابعين وفقيه من فقهاء المدينة، وهو ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب، فهو يروي هنا عن أبيه عن جده، وما أسعد الرجل وهو يقول: عن أبي عن جدي، يعني: السلالة كلها سلالة علم ورواية، وهذا مثل عبد الملك بن شعيب بن الليث بن سعد عن أبيه عن جده، وهذه سلسلة مصرية؛ لأن الليث بن سعد إمام مصر كلها، وهو فخر المصريين في زمانه، وكان سيداً من سادات العلماء، وهو شيخ الإمام الشافعي، وأحمد من باب أولى، فروى ولده شعيب عنه، وروى عبد الملك ولد عن أبيه، فـ عبد الملك يروي عن أبيه شعيب عن جده الليث بن سعد، وهذا شيء يفرح جداً، ولو أننا نظرنا إلى هذه النكتة فإنه ينبغي أن يحافظ كل منا على تربية ولده، خاصة في هذه الأيام التي اختلط فيها الحابل بالنابل، وانتشر فيها الشر حتى كان كالأصل في البلاد والعباد، والذي ينجي ولده من هذه النار المؤججة في هذه البلاد وغيرها وفي هذا الزمان عموماً فكأنه أخرجه من بين فكي أسد.

شرح حديث: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم)

شرح حديث: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم) قال: [عن سالم بن عبد الله عن أبيه -وهو عبد الله بن عمر - قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم)]. وهذا الحديث له مناسبة، وهي أن النبي عليه الصلاة والسلام كان في طريق مع ركب فتأخر عنهم، ثم أدركهم، وفيهم عمر يحلف بأبيه، فقال: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم)، وهذا النهي موجه إلى الأمة لثلاثة أدلة: الدليل الأول: عموم اللفظ، (إن الله ينهاكم)، وهو وإن كان موجهاً بالدرجة الأولى إلى الصحابة الذين كانوا معه في هذه الفترة على جهة الخصوص إلا أنه يعم الأمة كلها. والدليل الثاني: قول الأصوليين: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، يعني: أن السبب الذي جعل النبي عليه الصلاة والسلام يقول هذا القول هو أنه سمع عمر يحلف بأبيه، فلم يقل له: يا عمر! لا تحلف، وإنما قال: (إن الله ينهاكم)، أي ينهى عمر ومن مع عمر، والأمة كلها من بعد عمر إلى قيام الساعة، فالعبرة بعموم اللفظ الوارد في القضية، وليس بالسبب الذي لأجله قيل هذا اللفظ. الدليل الثالث: أن هذا قول من النبي عليه الصلاة والسلام، والأصل في القول أنه تشريع للأمة، خاصة إذا فهم هذا من ظاهر الخطاب، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينهاكم) يدل على هذا، أي: ينهاكم يا معشر المؤمنين! ويا معشر المؤمنات! أي: لا ينهى عمر فقط، وإنما ينهى عمر ومن معه من الأمة إلى قيام الساعة عن الحلف بالآباء. وقد وردت روايات كثيرة جداً تنهى عن الحلف بالآباء، وعن الحلف باللات والعزى أو بالأصنام أو باليهودية والنصرانية، وعن قول القائل: أنا بريء من ملة الإسلام إن لم يكن كيت وكيت، وغير ذلك من الروايات التي أخذ منها أهل العلم عموم التحريم أو الكراهة، إلا إذا كان الحلف بالله وأسمائه وصفاته. ووردت روايات تحض وتحث المسلم إذا أراد الحلف أن يحلف بالله وأسمائه وصفاته، فضلاً أن عمل الأمة من زمن النبي عليه الصلاة والسلام إلى يومنا هذا على أن اليمين المنعقدة إنما هي إذا كانت بالله فرداً أو ثلاثاً، ومعنى: فرداً، يعني: أن يحلف بالله مرة واحدة، أو أن يحلف بالله ثلاثاً حتى يعقد اليمين عقداً، ويعلم خطورة الكذب فيه وأنه يمين غموس إذا كان كاذباً أو حنث في هذا اليمين. قال: [قال عمر -أي: لما سمع قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم)]. (فوالله)، لم يقل: وأبي، أو تربة جدي، أو وقبر الحسين، أو غير ذلك، وإنما لما سمع النهي غيَّر يمينه وقال: [(فوالله ما حلفت بها -أي: بآبائي- منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها ذاكراً ولا آثراً)، يعني: لم يحلف قط بغير الله عز وجل بعد أن سمع النهي في ذلك، ولا أنه نقل يمين غيره، وهذا معنى: (ولا آثراً)، أي: لا يروي كلاماً عن الآخرين فيه يمين بغير الله. وهذا يدل على شدة التزام الصحابة واتباعهم لأوامره عليه الصلاة والسلام، وانتهائهم عن نواهيه. قال: [وحدثني عبد الملك بن شعيب بن الليث حدثني أبي عن جدي حدثني عقيل بن خالد]، وعُقيل بالتصغير، وجده عَقيل، فهو عُقيل بن خالد بن عَقيل الأموي، سكن المدينة ثم انتقل إلى الشام ثم استقر في مصر ومات بها، وإليه ينتهي هذا الإسناد ليبدأ إسناد جديد لـ مسلم من أول الأمر. قال: [وحدثنا إسحاق بن إبراهيم] وهو المعروف بـ إسحاق بن راهويْه، أو راهويَه. قال: [وعبد بن حميد]، وعبد لقب، واسمه عبد الحميد، وقيل: بل عبد اسم، لكن الراجح أن عبداً لقب، واسمه عبد الحميد. [قالا -أي: إسحاق وابن حميد - حدثنا عبد الرزاق -وهو ابن همام الصنعاني اليماني، إمام اليمن- قال: أخبرنا معمر -وهو ابن راشد البصري تحول من البصرة وسكن صنعاء في اليمن- كلاهما عن الزهري]، وهذا الضمير يعود على معمر وعُقيل بن خالد فكلاهما يروي عن الزهري. [بهذا الإسناد]، قوله: بهذا الإسناد فيه إشارة إلى السند السابق، الذي هو الزهري عن سالم عن عبد الله عن أبيه عمر، وكأنه أراد أن يقول هنا: كلاهما -أي: عُقيل ومعمر - عن الزهري عن سالم عن عبد الله بن عمر عن أبيه عمر ب

اعتبار المحدثين لكل طريق من طرق الحديث حديثا مستقلا

اعتبار المحدثين لكل طريق من طرق الحديث حديثاً مستقلاً والمحدثون يعتبرون الطريق أو الوجه حديثاً، ويقولون: حديث: (إنما الأعمال بالنيات) ليس حديثاً واحداً، وإنما سبعمائة حديث، مع أن الجميع يحفظه على أنه حديث واحد، أخرجه البخاري ومسلم، قالوا: لأن الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم هو عمر، والذي رواه عن عمر هو علقمة بن وقاص الليثي، والذي رواه عن الليثي هو محمد بن إبراهيم التيمي، والذي رواه عن التيمي هو يحيى بن سعيد الأنصاري، والذي رواه عن الأنصاري سبعمائة نفس، وكل نفس عن الأنصاري عن التيمي عن الليثي عن عمر عن النبي عليه الصلاة والسلام يعدونه حديثاً. فالمحدثون يعتبرون أن كل وجه أو كل طريق أو كل إسناد يروى به الحديث حديث قائم بذاته، ويقولون: قد صح عن النبي عليه الصلاة والسلام عشرة ملايين حديث، وآخر يقول: لا، بل هي مليوني حديث، ونحن لا يوجد بين أيدينا أحاديث صحيحة بلغت مائة ألف، وإنما هذه الملايين باعتبار الطرق والأسانيد والأوجه التي يروى بها كل حديث على حدة، فهم لا ينظرون إلى المتن وإنما ينظرون إلى السند، بخلاف الفقهاء الذين ينظرون إلى المتن ولا ينظرون إلى الإسناد، فتعدد الأسانيد لا يلزم الفقهاء، كما أن المحدثين في الغالب لا ينظرون إلى المتن، ولست أعني بذلك أنهم لا يعتنون بنقد المتون والروايات، بل هذا عمل المحدثين، وإنما لا ينظرون إلى المتن من جهة عد الروايات، وغالب اعتمادهم على الأسانيد والطرق والأوجه. فهنا يقول: [غير أن في حديث عُقيل: (ما حلفت بها منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنها، ولا تكلمت بها)، ولم يقل: (ذاكراً ولا آثراً)]. وقوله: (وفي حديث عُقيل: ما حلفت بها منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنها) لا يدل على أن عُقيلاً سمع النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما التقدير: غير أن في حديث عُقيل عن الزهري عن سالم عن عبد الله عن عمر أنه قال: (ما حلفت بها منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنها ولا تكلمت بها)، ولم يذكر عُقيل في طريقه قول عمر: (ذاكراً ولا آثراً).

رواية ابن عمر لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الحلف بالآباء

رواية ابن عمر لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الحلف بالآباء قال: [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة]، وهو عبد الله بن إبراهيم بن أبي شيبة الكوفي، وهو إمام كبير، صاحب المصنف المعروف بمصنف ابن أبي شيبة. قال: [وعمرو الناقد وزهير بن حرب -وهو أبو خيثمة النسائي نزيل بغداد- قالوا -أي: هؤلاء الثلاثة، عمرو وأبو بكر وزهير - حدثنا سفيان بن عيينة -وهو الإمام الكبير أبو محمد - عن الزهري عن سالم عن أبيه]. ولو جمعنا هذا الإسناد إلى الأسانيد السابقة فسيكون مفترق الطرق من بعد ابن شهاب؛ لأن ابن شهاب في كل الأسانيد التي مضت موجود، ففي الإسناد الأول يروي يونس عن الزهري، وفي الإسناد الثاني يروي معمر وعُقيل عن الزهري، وفي هذا الإسناد يروي سفيان بن عيينة عن الزهري، فالرواة عن الزهري أربعة، وهذا الإسناد جعل الحديث عن ابن عمر، وهذه نكتة لطيفة جداً، فلو أردنا أن نكشف عن هذا الحديث في تحفة الأشراف للإمام المزي الذي يذكر فيه أسانيد الكتب الستة لوجدناه في مسند عمر بن الخطاب، وسنجد هذا الإسناد في مسند ولده عبد الله بن عمر؛ لأن عبد الله بن عمر في الإسناد الأول قال: سمعت عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا رواه عمر عن النبي عليه الصلاة والسلام، وفي هذا الإسناد قال: عن سالم عن أبيه - عبد الله بن عمر -قال: (سمع النبي صلى الله عليه وسلم عمر يحلف بأبيه). فجعله من كلام عبد الله بن عمر، ومن مسانيده. قال: [بمثل رواية يونس ومعمر]، أي: بمثل رواية يونس في الإسناد الأول، ورواية معمر في الإسناد الثاني، مع أن رواية معمر جاءت في إسناد واحد مع رواية عُقيل، ولكنه ألف في هذه الرواية الثالثة بين الرواية الأولى والرواية الثانية. قال: [وحدثنا قتيبة بن سعيد -وهو الثقفي من ثقيف- حدثنا ليث -وهو الليث بن سعد - وحدثنا محمد بن رمح واللفظ له]، وكلمة واللفظ له يدل على أن هذا ليس سياق قتيبة بن سعيد، فالإمام مسلم له شيخان في هذا الحديث: الأول: قتيبة، والثاني: ابن رمح، ولكنه لما قال بعد ابن رمح: واللفظ له، أي: هذا السياق هو من رواية ابن رمح لا من رواية قتيبة، ولكنه ذكر قتيبة في هذا الموضع لأن روايته نحو رواية ابن رمح وليست مثلها تماماً، ولو كانت مثلها لم يكن لقوله (واللفظ له) معنى. قال: [أخبرنا الليث عن نافع عن عبد الله]، ونافع هو المدني الفقيه، مولى عبد الله بن عمر، الإمام الكبير. قال: [عن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنه أدرك عمر بن الخطاب في ركب -أي: في جماعة وفوج في طريق- وعمر يحلف بأبيه، فناداهم -ولم يقل: فناداه- رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا إن الله عز وجل ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً فليحلف بالله -أي: بالله أو بأسمائه وصفاته- أو ليصمت)]، وفي رواية: (أو ليسكت). والمعنى واحد. وأما قوله: (ألا إن الله عز وجل ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم)، فهذه كلها توكيدات، فـ (ألا) من أساليب التوكيد، و (إنَّ) من أساليب التوكيد، وكون هذا التحريم أو النهي من الله عز وجل صورة من صور التوكيد. وقال: (إن الله عز وجل ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم)، ولم يقل: احلفوا بالله، وقال: (فمن كان)، أي: فمن اضطر للحلف فليكن يمينه بأسماء الله وصفاته.

حكم اليمين

حكم اليمين يقول العلماء: الأصل في اليمين الكراهة، حتى لا نتخذ الله تعالى وأسماءه وصفاته عرضة لأيماننا، وهذا قد ورد الإرشاد إليه في كتاب الله تعالى وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام. والأصل أن المسلم صادق في قوله وفي فعله وفيما أخبر عنه بغير أن يضطر إلى اليمين، ولكن الإنسان يضطر أحياناً إلى اليمين، والنبي عليه الصلاة والسلام -وهو الصادق المصدوق- كان يحلف من غير أن يستحلف، والعلماء مجمعون على أن ذلك كان منه عليه الصلاة والسلام لبيان أهمية المحلوف عليه، أو لتنبيه المستمع لليمين إلى عظم الأمر الذي يقسم عليه النبي عليه الصلاة والسلام، لكن كثرة الحلف مكروهة بلا شك. وأحياناً يجب اليمين على المرء وجوباً شرعياً. وبعض القضايا والجنايات والتهم يلزم فيها يمين، بل لا تبرأ ساحة المتهم إلا باليمين، والنبي عليه الصلاة والسلام قضى بالشاهد الواحد مع اليمين، وهناك قضايا كثيرة جداً في الحدود والجنايات يقضى فيها باليمين، فلا يأتي شخص وهو في قفص الاتهام وواقف في المحكمة أمام القاضي ويقول: الأصل في اليمين الكراهة، وأنا لا يمكن أن أحلف باليمين، ولا يحل له ذلك، بل يجب عليه أن يقسم، ولو كانت براءته متعلقة باليمين فلم يحلف فاتهم فقتل أو أعدم أو سجن أو غير ذلك فإنه يأثم بذلك، ولو قتل لعُد منتحراً. وبعض الناس يتهم بسرقة بعض المال أو المتاع، ولا يكون مع القرائن والبينات محل اتهام إلا هو، فيأتي به صاحب الشيء المسروق ويقول له: يا فلان! قامت القرائن على أنك سارق هذا المال، وهذا عندنا ظن، وينتفي هذا الظن بيمينك، وإلا اضطررنا إلى الكلام على أنك السارق، فيقول: أنا لا أحلف على أشياء تافهة مثل هذه، وهذا الكلام لا ينفع؛ لأن هذا دين، ولو كان ديناراً واحداً، فإن اتهمت ذمتك به فإنه يلزمك على ذلك اليمين لتبرئة ساحتك، وعدم إطلاق الناس ألسنتهم في عرضك، فحتى لو دفعت لهم ألف جنيه أو ألفين والمسروق جنيهاً واحداً فلن يسلم عرضك من ألسنتهم، ولذلك يقال: من كان سبباً في اتهام الناس له فلا يلومن إلا نفسه، وجاء الشرع بحث المسلم على أن يبتعد عن مواطن الشبهات، حتى لو كانت الشبهة ليست مما يقطع بحرمتها، فالأصل في المسلم أن يبرئ دينه وعرضه من الوقيعة فيه، ومن ألسنة الناس أن تنطلق حداداً في عرضه. وقوله: (فمن كان حالفاً) يعني: فمن اضطر إلى الحلف، أو من أراد أن يحلف، وهذا يدل على أن الأصل عدم الحلف، ولكن إذا اضطر إلى الحلف فليكن يمينه بالله عز وجل. والرجل منا الآن يقسم أيماناً مغلظة بالله وأسمائه التسعة والتسعين، ولو أنه علم من أسماء الله تعالى أكثر من ذلك لأقسم بها وكلها أيمان كاذبة، وهو يعرف أنه كاذب، ثم إذا امتحن في عزيز لديه قال: لا أقسم، وهذا كلام عظيم جداً في أن يتهاون المرء في أن يقسم بالله، يعني: إذا طلب منه اليمين كأنه يقول: جاء الفرج، وهذا مثل شخص تقول له: تحلف يميناً أنك لم تسرق؟ فيقول: نعم أحلف ألف يمين، فإذا قيل له: لا داعي أن تحلف، بل قل: امرأتي طالق إن كنت سرقت، فيقول لك: لا، لقد طلقت قبل ذلك مرتين، ويجعل الله تعالى أهون من فقدانه لامرأته، وهذا بلاء عظيم جداً، والأصل أن يفضل المرء أن يقطع إرباً ويرمى في النار ولا يقسم بالله العظيم كذباً إلا في مواطن أجازها الشرع للضرورات القصوى وستأتي معنا.

ذكر طرق أخرى لحديث ابن عمر في النهي عن الحلف بالآباء

ذكر طرق أخرى لحديث ابن عمر في النهي عن الحلف بالآباء قال: [وحدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا أبي، وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا يحيى (وهو القطان) عن عبيد الله]، ويحيى بن سعيد القطان يروي عن عبيد الله بن عمر العمري، وهذا الرجل له أخ اسمه عبد الله، وقلنا: عبيد الله المصغر هذا إمام وفقيه وثقة وجبل من جبال الحفظ. والطريق الأول لهذا الحديث انتهى إلى عبد الله بن نمير، فـ محمد يروي عن أبيه عبد الله بن نمير، فالإسناد الأول انتهى عند عبد الله بن نمير والإسناد الثاني انتهى عند عبيد الله. قال: [وحدثني بشر بن هلال -وهو أبو محمد الصواف النميري - قال: حدثنا عبد الوارث -وهو ابن سعيد بن ذكوان البصري - حدثنا أيوب]، وهو ابن أبي تميمة السختياني البصري الإمام الجليل. وهنا ينتهي هذا الإسناد، فهؤلاء ثلاثة انتهى إليهم الإسناد، وهم عبد الله بن نمير، وعبيد الله العمري، وأيوب السختياني. قال: [وحدثنا أبو كريب -وهو محمد بن العلاء الهمداني - حدثنا أبو أسامة -وهو حماد بن أسامة - عن الوليد بن كثير] وهو المخزومي أبو محمد المدني ثم الكوفي، استقر في الكوفة، وهو إمام في المغازي، وهذا الرابع ممن ينتهي إليهم الإسناد. قال: [وحدثنا ابن أبي عمر]، وهو محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني نزيل مكة، أصله من عدن اليمن، انتقل من الجنوب إلى الشمال واستقر في مكة، وتتلمذ على يد سفيان بن عيينة. قال: [حدثنا سفيان]، وإذا قال ابن أبي عمر: حدثنا سفيان فهو ابن عيينة، وليس غيره؛ لأن سفيان بن عيينة مكي وابن أبي عمر عدني مكي، بخلاف سفيان الثوري فهو كوفي، وكان بعيداً عن لقاء ابن أبي عمر. قال: [عن إسماعيل بن أمية]، وهو الأموي، وهذا الخامس ممن ينتهي إليهم الإسناد. [ح وحدثنا ابن رافع -وهو محمد بن رافع - حدثنا ابن أبي فديك]، وهو محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فديك المدني أبو إسماعيل - قال: أخبرنا الضحاك وابن أبي ذئب]، وابن أبي ذئب هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب. [وحدثنا إسحاق بن إبراهيم وابن رافع عن عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني عبد الكريم]، وهو عبد الكريم بن مالك الجزري أبو سعيد الخضرمي نسبة إلى قرية في اليمن تسمى خِضرم. [كل هؤلاء عن نافع]، أي: هؤلاء الثمانية الذين عددناهم كلهم عن نافع. [عن ابن عمر بمثل هذه القصة عن النبي صلى الله عليه وسلم]، أي: قصة أن النبي عليه الصلاة والسلام لقي عمر بن الخطاب يحلف بأبيه فنهاه عن ذلك. وعندما آخذ روايات هذا الحديث الذي أمامي أقول إنه ثمانية أحاديث؛ لأن له ثمان طرق عن نافع عن ابن عمر.

شرح حديث: (من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله)

شرح حديث: (من كان حالفاً فلا يحلف إلا بالله) قال: [وحدثنا يحيى بن يحيى -وهو أبو زكريا النسابوري - ويحيى بن أيوب وقتيبة -وهو ابن سعيد الثقفي - وعلي بن حجر]، وهؤلاء أربعة. [قال يحيى -وهو يحيى بن يحيى النيسابوري -: أخبرنا، وقال الآخرون: حدثنا إسماعيل، وهو ابن جعفر ابن أبي كثير الأنصاري الزرقي أبو إسحاق القارئ، والقارئ نسبة إلى القراءة والحرف في كتاب الله عز وجل، بخلاف القارِّي الذي هو عبد الرحمن القارِّي نسبة إلى قارة، وليس إلى القراءة. قال: [عن عبد الله بن دينار أنه سمع ابن عمر]، وعبد الله بن دينار هنا متابع لـ نافع، وليس متابعاً لـ سالم، فحديث سالم فيه ذكر عمر، وأما حديث نافع هذا وحديث عبد الله بن دينار فلا يوجد فيهما ذكر عمر، فـ عبد الله بن دينار متابع لـ نافع متابعة تامة. والمتابعة التامة هي: أن يشترك راويان في شيخ واحد. فهنا عبد الله بن دينار يروي عن عبد الله بن عمر، ونافع يروي كذلك عن عبد الله بن عمر، فشيخهما واحد، وهو عبد الله بن عمر. قال: [قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان حالفاً فلا يحلف إلا بالله)]. فلو قال قائل: أنا سأحلف بأمي، أو بأختي، أو بقبر الحسين؛ لأن هذه الأشياء لست بمنهي عنها، والنهي إنما ورد عن الحلف بالآباء فنقول: قد ورد النهي عن ذلك في حديث: (لا تحلفوا إلا بالله). وهذا يدل على أن جميع الأيمان بغير الله أيمان باطلة أو آثمة، يأثم صاحبها إذا تعمدها، ولا تنعقد يمينه، على خلاف بين أهل العلم في ذلك. وقوله: (من كان حالفاً فلا يحلف إلا بالله) هذه صيغة حصر وقصر، بما وإلا، وما وإلا عند البلاغيين من أساليب الحصر والقصر، كقوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ} [آل عمران:144]، وكقولنا: (لا إله إلا الله)، فهذا حصر للألوهية في الله عز وجل، وحصر للرسالة في محمد عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى: ((وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ))، فقوله هنا: (من كان حالفاً فلا يحلف إلا بالله) هذا أسلوب حصر وقصر، فلا يجوز لك بحال أن تحلف إلا بالله. [وكانت قريش تحلف بآبائها]، أي: سبب هذا الحديث أن قريشاً كانت تحلف بآبائها. قال: [فقال: (لا تحلفوا بآبائكم)]. فعمم النهي، ثم أرشد إلى اليمين الجائز، وهو اليمين بالله عز وجل.

باب من حلف باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله

باب من حلف باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله قال: [باب من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله]، أي: فكفارته أن يقول: لا إله إلا الله. والحلف القصد منه التعظيم، والتعظيم لا يكون إلا لله عز وجل وأسمائه وصفاته؛ لأن الحلف يدل على تعظيم المحلوف به، فإذا حلف بغير الله فيجب عليه أن يرجع إلى الذي يستحق التعظيم ويترك ما دونه، فيقول: لا إله إلا الله، وهذا يدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك). وهذا يدل على أن هذا كفر عملي أو شرك عملي، وليس هو الكفر المخرج من الملة، ولذلك لم يخرجه النبي عليه الصلاة والسلام من الملة، ولم يحكم بكفره وردته عن الإسلام، ويلزمه ما يلزم المرتد إذا أراد العودة إلى الإسلام، كما أنه لم يأمره بالكفارة كذلك، يعني: بكفارة عينية، وإنما أمره فقط أن يقول: لا إله إلا الله، وهذا ليس من باب أن يدخل الإسلام من جديد، ولكن من باب رد التعظيم إلى الله عز وجل. قال: [حدثني أبو الطاهر -وهو أحمد عمرو بن السرح المصري - حدثنا ابن وهب عن يونس]، وابن وهب هو عبد الله، عن يونس بن يزيد الأيلي. قال: [وحدثني حرملة بن يحيى التجيبي أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب أخبرني حميد بن عبد الرحمن بن عوف]، وهو الزهري المدني، ابن الصحابي المعروف. قال: [أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حلف منكم فقال في حلفه: باللات)]. وأحرف اليمين ثلاثة: الباء والواو والتاء، فالباء كأن تقول: بالله، والواو كأن تقول: والله، والتاء كأن تقول: تالله، وهذه الحروف الثلاثة تسبق المقسم به. [(فليقل: لا إله إلا الله، ومن قال لصاحبه: تعال أقامرك فليتصدق)، وقوله: (تعال أقامرك) من القمار والميسر، مثل من يقول لآخر: تعال نلعب الشطرنج على عشرة جنيهات، فكأنه قال: تعال أقامرك، والقمار هو الميسر، فمن دعا صاحبه لأن يصنع معه ذلك وجب عليه أن يتصدق، واختلف أهل العلم بماذا يتصدق، فقال الإمام الخطابي: يتصدق بما قامر عليه. ومذهب الجمهور -وهو الصحيح- أنه يتصدق بأي شيء يصدق عليه الصدقة، ولو بشق تمرة؛ وذلك لما جاء في الرواية التي ستأتي بعد هذه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فليتصدق بشيء)، وهذا يدل على مطلق الصدقة بجميع الأشياء قلت أم كثرت، صغرت أم كبرت، ويتصدق لو قالها مازحاً.

ترجمة سويد بن سعيد ورواية الإمام مسلم عنه

ترجمة سويد بن سعيد ورواية الإمام مسلم عنه قال: [وحدثني سويد بن سعيد]، وهو أبو محمد الهروي، وكان ثقة فقيهاً في نفسه، ولكنه لما كبر سنه ورق عظمه وعمي صار يتلقن، يعني: كان إذا حدثه أحد برواية كان يقبلها ويرويها دون أن يمحص فيها، ولذلك روى المناكير والروايات غير المستقيمة، وقد أفحش القول فيه جداً ابن معين -وهو إمام الجرح والتعديل- وقال: لو كان معي سيف وفرس لغزوت سويد بن سعيد، يعني: لأجل أن يجلسه في البيت حتى يسكت ولا يروي أبداً، وهذا غلو في نظر ابن معين. ورواية سويد بن سعيد عند مسلم ليست في الأصول، وإنما في المتابعات، وهذا أمر لا يعيب مسلماً قط، فإذا روى له مسلم فإنما روى له في المتابعات والشواهد، وأما في الأصول فلم يخرج له مسلم، وأيضاً فإن مسلماً احترز مما نسب إليه من اختلاط ولم يرو له إلا ما كان قبل إصابته بالعمى وفقد البصر، وقبل أن يتلقن سويد بن سعيد، فهو شيخ الإمام مسلم، ومسلم أدرى به وبروايته. [حدثنا الوليد بن مسلم عن الأوزاعي]، والوليد بن مسلم مدلس، وقد روى عن الأوزاعي بصيغة عن، والمدلس إذا قال: قال فلان أو عن فلان؛ كانوا يتوقفون في روايته، لكن مسلماً روى له مع هذه العلل في المتابعات، بدليل أنه ساق الرواية من طريق آخر.

مقدار الصدقة في كفارة من دعا صاحبه إلى قمار

مقدار الصدقة في كفارة من دعا صاحبه إلى قمار قال: [وحدثنا إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد قالا: حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر كلاهما عن الزهري]، وكلاهما تعود على الأوزاعي ومعمر، فـ الأوزاعي في نهاية الطريق الأول، ومعمر في نهاية الطريق الثاني. [كلاهما عن الزهري بهذا الإسناد]، أي: عن الزهري عن نافع عن ابن عمر. [وحديث معمر مثل حديث يونس، غير أنه قال: (فليتصدق بشيء)]، ولم يقل: (فليتصدق)، وإنما قال: (فليتصدق بشيء)، وهذا يدل على أن الصدقة بأي شيء تجزئه حتى وإن كان قليلاً. [وفي حديث الأوزاعي: (من حلف باللات والعزى)] وفي الإسناد الأول: (من حلف باللات فليقل: لا إله إلا الله)، والعلماء يقولون: حتى من حلف بالعزى قياساً على اللات، ولأنه منكر من القول وزور، فكل من أقسم بغير الله حتى وإن أقسم بنبي مرسل أو ملك مقرب يجب عليه الكفارة، وهي قول: لا إله إلا الله.

عدد الأحاديث التي انفرد الزهري بروايتها

عدد الأحاديث التي انفرد الزهري بروايتها [قال أبو الحسين مسلم]، وهو صاحب الصحيح، وهو أبو الحسين القشيري النيسابوري مسلم بن الحجاج. [هذا الحرف] يعني: قوله: تعال أقامرك فليتصدق]، يقصد هذه الجملة وسماها حرفاً، وأحياناً يطلق الحرف على الحديث كله حتى وإن كان عدة صفحات، وهذا الكلام ليس بعيداً عن لسان العرب، والعرب تقول للجملة المفيدة: كلمة، والكلمة تطلق على الاسم والفعل والحرف، والعرب تستخدمها في الجملة المفيدة، وتستخدمها في الكلمة والمحاضرة الطويلة، وتستخدمها في الرسالة المرسلة إلى هنا أو هناك، وقد يقول شخص: ألقى أخي كلمة في ساعتين، وسماها مع ذلك كلمة، وهذا الكلام مقبول في لسان العرب. [لا يرويه أحد غير الزهري، قال: وللزهري نحو من تسعين حديثاً]، ولو قال: حرفاً لكان صادقاً. [يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يشاركه فيه أحد بأسانيد جياد]، وجياد جمع جيد، يعني: أنه انفرد برواية حوالي تسعين حديثاً في الصحيح، ومدارها عليه هو، أي: لم تأت هذه الأحاديث إلا من طريقه، وهذا يذكرنا بكلام أبي حاتم بن حبان عندما قال: إن الحديث العزيز هو الذي روي من طريقين ولو في طبقة واحدة من طبقاته. ثم زاد وقال: وهذا شرط الصحيح. وهذا الكلام خطأ ومردود على ابن حبان، بدليل: أن الزهري له في الصحيحين أكثر من تسعين حديثاً لم تأت إلا من طريقه هو، لا في الصحيح ولا في غيره، وهي من باب الغريب.

تعريف الحديث الغريب والعزيز والمشهور

تعريف الحديث الغريب والعزيز والمشهور الغريب هو: ما رواه راو واحد ولو في طبقة واحدة من طبقات السند. والعزيز هو: ما رواه اثنان ولو في طبقة واحدة من طبقات السند. والمشهور هو: ما رواه ثلاثة ولو في طبقة واحدة من طبقات السند أو أكثر من ذلك ما لم يبلغ حد التواتر. والمشهور والعزيز والغريب من أقسام الآحاد، وزاد الأحناف المستفيض، وقيل: المستفيض هو المشهور. وهذا الكلام قد ذكرناه قبل هذا الدرس، ولا أريد أن أعيده، ولا أريد أن نكون مثل الأستاذ الذي كان يحفظ الأولاد جزء عم، حتى إذا وصل إلى سورة النبأ أتى واحد وجلس في الحلقة، فرأى الأستاذ أنه لأجل فلان لابد أن يعيد من الأول، وبهذه الطريقة يبقى الأولاد في جزء عم حتى يدركهم الموت؛ لأنه كلما وصل الأولاد إلى سورة النبأ يرجع الأستاذ من الأول لأجل الجديد، مع أنه لا يأتي إلا مرة واحدة، على سبيل الخطأ، ولو أتى واستمع قبل أن يجلس فلربما لا يجلس، لكن من أجل إكرام الضيف يبدأ من جديد، ويظل الأستاذ على هذه الحالة من الرجوع إلى الأول إلى ما لا نهاية. وهذا منهج خاطئ في التربية وفي التعليم، فمن أجل أن تفهم لابد أن تدرس علم المصطلح دراسة أصولية منظمة، بحيث ترتق درجة درجة حتى تصل إلى الآحاد بأقسامه والمتواتر، وغير ذلك من مسائل المصطلح.

شرح حديث عبد الرحمن بن سمرة في النهي عن الحلف بالطواغيت أو الآباء

شرح حديث عبد الرحمن بن سمرة في النهي عن الحلف بالطواغيت أو الآباء قال: [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الأعلى عن هشام عن الحسن عن عبد الرحمن بن سمرة]، وعبد الرحمن بن سمرة صحابي معروف، والحسن البصري يروي عنه، وهو الحسن بن أبي الحسن يسار البصري، وهشام الذي يروي عن الحسن هو هشام بن حسان الأزدي. قال: [قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحلفوا بالطواغي ولا بآبائكم)]. وهذا الحديث مثل الحديث السابق في النهي عن الحلف باللات والعزى، يعني: لا تحلفوا باللات ولا بالعزى ولا بالطواغي ولا بآبائكم، فكل هذه منهيات، والشاهد: أن كل ما دون أسماء الله عز وجل وصفاته منهي أن نحلف به. قال أهل اللغة: الطواغي هي الأصنام، واحدها طاغية، بخلاف الطواغيت واحدها طاغوت، ومنه: هذه طاغية دوس، أي: صنمهم ومعبودهم، وسمي باسم المصدر لطغيان الكفار بعبادته؛ لأنه سبب طغيانهم وكفرهم، وكل ما جاوز الحد يقال: طغى، كما في قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ} [الحاقة:11]، أي: لما فاض وتجاوز الحد بالطغيان والثوران والسيلان، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تحلفوا بالطواغيت)، وهو جمع طاغوت، وهو الصنم أو الشيطان، أو هو كل ما تجاوز الحد راضياً بذلك، فيقال له: طاغوت، ولذلك قال الله تعالى: {واجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا} [الزمر:17]. وقال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} [النساء:60].

الأسباب التي أدت بالعرب إلى عبادة الأصنام

الأسباب التي أدت بالعرب إلى عبادة الأصنام قال الإمام ابن الجوزي في كتاب تلبيس إبليس في السبب الذي حمل العرب على عبادة الأصنام: قال هشام الكلبي: حدثني أبي أن إسماعيل عليه السلام لما سكن مكة ولد له أولاد كثير، حتى ملئوا مكة وضاقت عليهم ووقعت بينهم الحروب والعداوات، وأخرج بعضهم بعضاً وانتشروا في البلاد لطلب المعاش، وكان لا يذهب أحد إلا احتمل معه حجراً من حجارة الحرم؛ تعظيماً للحرم وصبابة بمكة، فحيثما نزلوا وضعوه وطافوا به كطوافهم بالبيت حباً للبيت وصبابة به، ثم عبدوا ما استحسنوه ونسوا ما كانوا عليه من دين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، واستبدلوا به غيره، وعبدوا الأصنام، واستخرجوا ما كان يعبد قوم نوح عليه السلام وصاروا إلى ما كان عليه الأمم من قبلهم، ومع ذلك فيهم بقايا من شريعة إبراهيم وإسماعيل يتمسكون بها، من تعظيم البيت والطواف به والحج والعمرة والوقوف بعرفة، إلى غير ذلك. ثم يقول: أول من بدل دين إبراهيم عليه السلام عمرو بن لحي.

اتخاذ العرب لمناة

اتخاذ العرب لمناة يقول: وبهذا السبب اتخذت العرب الأصنام، فأول صنم وأقدم صنم اتخذه العرب هو مناة، قال: وكان منصوباً على ساحل البحر بين مكة والمدينة، وكانت العرب كلهم يعظمونه ويذبحون له، ولم يكن أحد أشد إعظاماً له من الأوس والخزرج. أي: لأنه أول صنم، فكان محل إعظام وتقدير وعبادة جميع العرب، وكان أشد الناس عبادة لهذا الصنم الأوس والخزرج في يثرب في المدينة المنورة، كما قال ابن هشام: كان الأوس والخزرج ومن جاورهم -يعني: العرب- من أهل يثرب وغيرها يحجون ويقفون المواقف كلها، لكنهم لا يحلقون رءوسهم إلا إذا نفروا نفروا إلى مناة فحلقوا عندها، وكانوا لا يرون لحج تماماً إلا بذلك. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح علي بن أبي طالب رضي الله عنه فهدمها، أي: فهدم هذا الصنم.

اتخاذ العرب للات

اتخاذ العرب للات ثم اللات وكانت إله العرب بالطائف، والطائف بجوار مكة، وتبعد عنها شيئاً يسيراً حوالي سبعين كيلو أو يقل قليلاً، فقد اتخذ أهل الطائف اللات، وهي أحدث من مناة، فقال أهل الطائف وهم ثقيف: ما دام أن الأوس والخزرج اتخذوا لهم مناة إلهاً فنحن نتخذ لنا اللات إلهاً بجوارنا، حتى يكون إلههم وصنمهم بينهم، ولا يأتون إلى قرب المدينة أو قرب يثرب في ذلك الوقت، وكانت اللات عبارة عن صخرة مربعة بنوا عليها بيتاً، وكان سدنتها من ثقيف، والسدنة هم الخدم، مثل سدنة الحسين وسدنة البدوي، فهؤلاء سدنة لهذه الأوثان؛ لأن هذه أصنام أو أوثان وليست قبوراً، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد). وكانت قريش وجميع العرب تعظمها، أي: تعظم اللات، فلم تزل كذلك حتى أسلمت ثقيف، أي: دخل أهل الطائف في الإسلام، فبعث النبي عليه الصلاة والسلام المغيرة بن شعبة فهدمها بل حرقها بالنار. وبعضهم يقول: اللات ليست حجارة، وإنما هو رجل كان يلت العجين والسويق للحجيج، وهذا على قراءة من قرأ: (اللاتَّ) بالتشديد، وهو اسم فاعل ممن يلت العجين لتاً ويصنعه خبزاً للقادمين في مواسم الحج والعمرة. قالوا: وكان هذا رجلاً من العرب يلت السويق والعجين ويقدمه للحجيج، فلما مات صوروا له تصاوير، ثم عظموه، فلما تقادم العهد أتى الأحفاد ثم أحفادهم فعبدوا هذا الرجل.

اتخاذ العرب للعزى

اتخاذ العرب للعزى وأما العزى فهي أحدث من اللات، ويقال: سموه اللات اشتقاقاً من اسم الله (الله)، وسموا العزى اشتقاقاً من اسم الله (العزيز). وكانت بواد يسمى وادي نخلة، فوق ذات عرق، وذات عرق هي ميقات أهل العراق ومن مر بها من غير أهلها، وكانوا يسمعون منها الصوت، وقد قال أبو سفيان يوم أحد وهو يحارب النبي عليه الصلاة والسلام لما كان مشركاً: لنا العزى ولا عزى لكم. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ردوا عليه، قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم)، وهذا هو التوحيد في مقابلة الشرك. وقد جاء من حديث ابن عباس عند النسائي وأبي يعلى والبيهقي في الدلائل وأبي نعيم من طريق أبي الطفيل قال: (لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة)، أي: إلى وادي نخلة، وكان في الجهة اليسرى، فأتاها خالد بن الوليد وكانت على ثلاث سمرات، يعني: على ثلاث شجرات، السمرة هي الشجرة، فقطع السمرات وهدم البيت الذي كان عليها، ثم أتى النبي عليه الصلاة والسلام فأخبره أنه قطع الأشجار الثلاث، فقال: ارجع فإنك لم تقطع شيئاً، أي: لم تقتل العزى بعد، فرجع خالد، فلما نظرت إليه السدنة أمعنوا في الجبل، يعني: دخلوا في الجبل، وعلموا أنه أتى من عند من يأتيه خبر السماء، وأنه لم يقتل العزى بعد، فانطلقوا في الجبل وهم يقولون: يا عزى! خبليه، وإلا فموتي رغم أنفك، يعني: إذا كنت إلهاً حقاً فخبليه، يعني: اجعليه مخبولاً مجنوناً، أو على الأقل اجرحيه، وشجيه، أو اكسري عظامه، وإلا فإن لم تكوني قادرة على ذلك فموتي رغم أنفك أو حتف أنفك، وتصور شخصاً يقول لإلهه هكذا، قال: فأتاها خالد، فإذا امرأة عريانة سوداء ناشرة شعرها، واضعة ثدييها على كتفيها. وتصور هذا الموقف، امرأة ضخمة سوداء لها ثدي يزن القناطير، أو له طول عظيم جداً بحيث أنه يوضع على الأكتاف، وهي منتفشة الشعر، وتحثو التراب على رأسها، فهذا منظر مرعب فعممها خالد بسيفه فقتلها، فلما رجع إلى النبي عليه الصلاة والسلام قال له: تلك العزى، يعني: قد قتلت العزى، وكان خالد يتصور أن العرب يعبدون العزى وهي شجرة، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أنها ليست العزى، إنما العزى امرأة خلف هذه الأشجار الثلاثة، وأنه قطع الأشجار ولم يقتل العزى التي هي إلههم المزعوم الباطل، فلما رجع خالد رأى هذا المنظر فعلم أنها العزى، فعمها بالسيف فقتلها، فأقره النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه هي العزى. وكان خالد بن الوليد يقول لها: يا عزى! كفرانك لا سبحانك، إني رأيت الله قد أهانك.

اتخاذ العرب لهبل

اتخاذ العرب لهبل وكذلك هبل كان من آلهة العرب، قال ابن هشام: هبل عندهم أعظمها- أي: أعظم آلهة العرب هبل، وكان من عقيق أحمر، يعني: من الأحجار الثمينة على صورة إنسان، وكان مكسور اليد اليمنى، وهكذا أدركته قريش، وجعلوا له يداً من ذهب، وكان في جوف الكعبة وفي قدامه قداح، وكانوا إذا أرادوا أمراً من السفر وغيره أتوه فاستقسموا عنده بتلك القداح، وهذا معروف عند العرب بثالثة الأثافي، وهو مشهور عند العرب أو في كتب الأمثال العربية. وقصة ثالثة الأثافي أنه كان الواحد منهم يذهب إلى هبل فيطوف به، وتلك عبادته في البيت الحرام، ويكون عنده ثلاثة أحجار اتخذها آلهة في بيته يعبدها، يضعها في كل مكان في البيت، يعبدها هو ومن دخل البيت، وكان هذا من إكرام الضيف وتحية الداخل، وكان إذا أراد أن يسافر يقرع بين هذه الآلهة في بيته، والذي تخرج عليه القرعة يأخذه معه؛ لأجل أنه إذا نزل من سفر يتمكن من عبادته، وكانت الأحجار من الأثافي، وهذا ثالثة الأثافي الذي وقفت عليه القرعة وأخذه معه، فمعنى المثل: أنك وقعت في بلوى عظيمة جداً كثالثة الأثافي.

اتخاذ العرب لإساف ونائلة

اتخاذ العرب لإساف ونائلة وإساف ونائلة وهذان لا يخفيان على أحد، فقد كانا صنمين من أصنام العرب في بيت الله الحرام، وإساف كان على الصفا، ونائلة كانت على المروة، وإساف رجل، ونائلة امرأة، وهي أمور مخزية جداً. وبعض الناس قد يسمي ابنه يساف، وفي الرواة من اسمه يساف، مثل عبد الرحمن بن يساف، ولغة هذيل التخفيف، والأصل فيه إساف، ولغة هذيل يبدلون الهمزة ياء، فيقولون: يساف، وهذه اللغة تسميها العرب لغة التسهيل أو التخفيف، فـ إساف هو يساف، وكان رجلاً. وكان إساف رجلاً، ونائلة كانت امرأة، وكلاهما من قبيلة جرهم، وكانا يتعشقان في أرض اليمن، فهما أصلهما يمنيان، وقبيلة جرهم كانت في جنوب اليمن، فكانا يحبان بعضهما، ويريدان الوقيعة، ولما كان هذا عيباً في قبيلة جرهم أتيا الحج بعيداً عن الأهل والجيران والأقربين وغير ذلك، فدخلا البيت، فوجدا غفلة من الناس وخلوة في البيت ففجرا فيه. وتصور أن رجلاً نفسه تطاوعه أن يفجر ويفحش داخل بيت الله الحرام، هذا لا يصح أن يكون إنساناً إلا في صورته، فمسخا حجرين بمجرد أن وقعت منهما الفاحشة، هذا حجر على صورة رجل، وهذه حجر على صورة أنثى، فأصبح الناس فوجدوهما ممسوخين، فأخرجوهما ووضعوهما عند الكعبة؛ ليتعظ الناس بهما؛ لأنهما فجرا في الكعبة، والكعبة لها حرمة، فوضعوهما في ذلك المكان ليتعظ الناس بهما، ثم مع تقادم الأجيال وذهاب جيل ومجيء آخر عبدوهما من دون الله عز وجل، فحسن الظن وحده لا يجدي ولا ينفع. قال: فلما طال الزمان وعبدت الأصنام عبدا مع سائر الأصنام، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة وجد حول البيت ثلاثمائة وستين صنماً، على عدد أيام السنة العربية، وقد اختلف أهل العلم هل كان الداخل يعبد كل هذه الأصنام، أم كل واحد داخل يعبد صنماً معيناً، أم صنماً واحداً يعبد في كل يوم ثم لا يعبد في بقية أيام السنة؟ فلما دخل النبي عليه الصلاة والسلام مكة فاتحاً أتى الكعبة وكان يشير بعصاه إلى هذه الأصنام الثلاثمائة والستين، فإذا أشار إلى صنم بعصاه خر تراباً، فيفقد القوة والصلابة بمجرد إشارة النبي عليه الصلاة والسلام، وهذه قدرة إلهية من الله عز وجل. قال: (وجعل يطعن بقوسه وجهها وعيونها ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء:81]). وهي تتساقط على رءوسها ثم أمر بها فأحرقت، أو فأخرجت من المسجد وطَهُر منها. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.

كتاب الأيمان والنذور - النهي عن الحلف بغير الله تعالى

شرح صحيح مسلم - كتاب الأيمان والنذور - النهي عن الحلف بغير الله تعالى الحلف بغير الله تعالى يقتضي تعظيم المحلوف به، وحقيقة العظمة مختصة بالله تعالى، فلا يضاهي المرء به غيره، وقد جاء النهي الشديد عن الحلف بغير الله تعالى، وأنه شرك بالله تعالى، فمن حلف باليهودية أو النصرانية أو الأصنام أو الأمانة فقد وقع في الشرك، وعليه أن يجدد إيمانه وتوحيده بأن يقول: لا إله إلا الله.

ملخص ما ذكر في بابي: النهي عن الحلف بغير الله، ومن حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله

ملخص ما ذكر في بابي: النهي عن الحلف بغير الله، ومن حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. في الدرس الماضي من كتاب الأيمان في هذا الكتاب، ذكر قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله عز وجل ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم. قال عمر رضي الله عنه: فوالله ما حلفت بها منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها ذاكراً ولا آثراً) أي: لا عن نفسي، ولا نقلاً عن غيري. وفي رواية: (ألا إن الله عز وجل ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)، وفي رواية: (من كان حالفاً فلا يحلف إلا بالله). وكانت قريش تحلف بآبائها؛ فقال: (لا تحلفوا بآبائكم). وفي رواية أبي هريرة قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من حلف منكم فقال في حلفه: باللات؛ فليقل: لا إله إلا الله)، وفي رواية: (من حلف منكم باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله، ومن قال لصاحبه: تعال أقامرك فليتصدق)، وفي رواية: (فليتصدق بشيء)، وهذا لا يلزم منه أن يتصدق بنفس الذي قامر عليه، وإنما يجزئه أن يتصدق بأي شيء، حتى ولو كان قليلاً. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تحلفوا بالطواغي -جمع طاغية- ولا بآبائكم). يقول الإمام النووي معلقاً على هذه الروايات: (الحكمة في النهي عن الحلف بغير الله تعالى: أن الحلف يقتضي تعظيم المحلوف به، وحقيقة العظمة مختصة بالله تعالى، فلا يضاهى به غيره)، أي: فلا يعظم غيره باليمين. ثم قال: (وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لأن أحلف بالله مائة مرة فآثم خير من أن أحلف بغيره فأبر).

توجيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أفلح وأبيه إن صدق)

توجيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أفلح وأبيه إن صدق) يورد الإمام النووي هنا شبهة ويجيب عنها: قال: (فإن قيل: الحديث مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم: (أفلح وأبيه إن صدق)) وهذا الحديث في الصحيحين: (أن رجلاً -وهو ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه- لما أتى إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فسأله عن فرائض الإسلام، فأخبره النبي عليه الصلاة والسلام أن الله افترض عليه خمس صلوات في اليوم والليلة، فقال: يا رسول الله! هل عليّ غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع، ثم ذكر الصيام فقال: إن الله افترض عليك صيام شهر في كل سنة -وهو شهر رمضان- فقال: يا رسول الله! هل عليّ غيره؟ قال: لا، إلا أن تطوع، حتى ذكر له أركان الإسلام، فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص، قال النبي عليه الصلاة والسلام: أفلح وأبيه إن صدق)، وفي رواية البخاري: قال: (أفلح إن صدق)، والزيادة صحيحة؛ بدليل أنها في صحيح مسلم، ولم تكن من الأحرف التي تناولها النقاد بالنقد أو الشذوذ أو غير ذلك. ولذلك تأولها العلماء، فقالوا: هذا كلام درج على ألسنة العرب لا يقصدون به اليمين، أي: أنه كلام عادي يقوله الناس، لكن لا يعني ذلك أنه يجوز الحلف بالنبي عليه الصلاة والسلام، يكاد اليمين بالنبي أن يكون يميناً عند المصريين، مع أن كثيراً من الناس لا يقصد به اليمين، فيكون غير منعقد من أساسه، إنما يذكرونه على سبيل الكلام الدارج الذي درج على الألسنة، كثيراً ما يقول الناس: والنبي تفعل، والنبي لا تفعل، والنبي تقول، والنبي لا تقول، وهم لا يقصدون به عين اليمين، ولم تنعقد نيتهم على أنه يمين يحنث به أو غير ذلك، وإنما هذا كلام درج على الألسنة، وإن كنا نتمنى أن يوفق الله تعالى هذا الشعب كله لترك هذا الكلام؛ لأنه مخالف لظواهر النصوص التي نهت عن الحلف إلا بالله عز وجل وأسمائه وصفاته. أما هذا الحديث الذي بين أيدينا: (أفلح وأبيه إن صدق)، ففي الدرس الماضي قلنا: إن أي يمين يسبق بالواو أو الباء أو التاء هي يمين منعقدة، لكن الشبهة هنا قوله عليه الصلاة والسلام: (أفلح وأبيه إن صدق)، فهل يجوز الحلف بالأب هنا؟ A لا؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا تحلفوا بآبائكم)، فمن باب أولى ألا يحلف هو صلى الله عليه وسلم بأبيه ولا بأبي غيره، والأولى به ألا يحلف بذلك لا ذاكراً ولا آثراً كما فعل عمر رضي الله عنه، والنبي عليه الصلاة والسلام هو مصدر التشريع لا عمر، فإذا صدر هذا من عمر والتزمه عمر، فمن باب أولى النبي عليه الصلاة والسلام أن يلتزم بذلك، فما باله عليه الصلاة والسلام قال هذا. هذا له تأويلان: التأويل الأول: أن ذلك كان كلاماً دارجاً على ألسنة العرب لا تقصد به ذات الحلف ولا عين اليمين، وبالتالي فإنه لا حرج حينئذ أن يقول عليه الصلاة والسلام: (أفلح وأبيه إن صدق). التأويل الثاني: أن النبي عليه الصلاة والسلام قصد به اليمين قبل أن يخبره الوحي بأن الحلف بغير الله محرم أو مكروه، فكأن النبي عليه الصلاة والسلام حلف هذا اليمين أولاً، ثم أخبره الله تعالى بحرمة الحلف بغير الله عز وجل، فلم يحلف بعدها قط إلا بالله وأسمائه وصفاته. والتأويل الأول أرجح؛ لتعلق تعظيم الله عز وجل بجميع الشرائع التي سبقت شريعة نبينا عليه الصلاة والسلام. قال النووي: (فإن قيل: الحديث مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم: (أفلح وأبيه إن صدق)؛ فجوابه أن هذه كلمة تجري على اللسان لا يقصد بها اليمين، فإن قيل: أقسم الله تعالى بمخلوقاته)، كقوله عز وجل: {وَالصَّافَّاتِ} [الصافات:1]. {وَالذَّارِيَاتِ} [الذاريات:1]. وقال: {وَالطُّورِ} [الطور:1]. {وَالنَّجْمِ} [النجم:1]. {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} [الشمس:1 - 4]. وقال: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:1 - 2]. وقال: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين:1]) وغير ذلك من الآيات الكثيرة، وكلها أيمان أقسم الله عز وجل بها، وكل هذه المقسم بها من مخلوقات الله عز وجل، فالله تعالى ينهانا أن نقسم بالمخلوقات وهو سبحانه يقسم بالمخلوقات، ربما يكون الأمر فيه لبس أو شبهة حينئذ، لكن العلماء يقولون كما قال الإمام النووي: (ف A أن الله تعالى يقسم بما شاء من مخلوقاته تنبيها على شرفه)، أي: تنبيهاً على شرف هذا المخلوق وفضل هذا المخلوق، لكن يقول شيخنا الشيخ سيد سابق رحمه الله: كان العرب يهتمون بالكلام المبدوء بالقسم، بل كل إ

الحكمة من إقسام الله تعالى بخلقه

الحكمة من إقسام الله تعالى بخلقه قال سيد سابق رحمه الله تعالى: كان العرب يهتمون بالكلام المبدوء بالقسم، فيلقون إليه السمع مصغين؛ لأنهم يرون أن قسم المتكلم دليل على عظم الاهتمام بما يريد أن يتكلم به، وأنه أقسم ليؤكد كلامه، وعلى هذا جاء القرآن يقسم بأشياء كثيرة، منها: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق:1]. ومنها: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:1]. {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل:1 - 2]، وإنما كان ذلك لحِكَمٍ كثيرة في المقسم به والمقسم عليه. من هذه الحكم: لفت النظر إلى مواضع العبرة في هذه الأشياء المقسم بها، والحث على تأملها؛ حتى يصلوا إلى وجه الصواب فيها. فقد أقسم الله تعالى بالقرآن لبيان أنه كلام الله حقاً، وبه كل أسباب السعادة. وأقسم بالملائكة لبيان أنهم عباد الله خاضعون له، وليسوا بآلهة يعبدون. وأقسم بالشمس والقمر والنجوم؛ لما فيها من الفوائد والمنافع، وأن تغيرها من حال إلى حال يدل على حدوثها -أي: على أنها مخلوقة- وأن لها خالقاً وصانعاً حكيماً، فلا يصح الغفلة عن شكره والتوجه إليه. وكذلك أقسم سبحانه بالريح والطور والقلم والسماء ذات البروج؛ إذ إن ذلك كله من آيات الله التي يجب التوجه إليها بالفكر والنظر. أما المقسم عليه فأهمه وحدانية الله عز وجل، ورسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وبعث الأجساد مرة أخرى بعد الموت، ويوم القيامة؛ لأن هذه هي أسس الدين التي يجب أن تعمق جذورها في النفس، والقسم بالمخلوقات مما اختص الله تعالى به نفسه. يعني: لا يجوز لأحد أن يقسم بشيء من المخلوقات، إنما ذلك قسم خاص بالله عز وجل، أما نحن البشر فلا يصح لنا أن نقسم إلا بالله، أو بصفة من صفاته على النحو الذي قدمناه كثيراً. قال الإمام النووي: (وفي هذا الحديث إباحة الحلف بالله تعالى وصفاته كلها، وهذا مجمع عليه. وفيه النهي عن الحلف بغير أسمائه سبحانه وتعالى وصفاته، وهو عند أصحابنا -أي: الشافعية- مكروه ليس بحرام) يعني: أن الحلف بغير الله وأسمائه وصفاته محل نزاع بين أهل العلم: فمنهم من ذهب إلى الحرمة. ومنهم من ذهب إلى الكراهة.

حكم الحلف باليهودية والنصرانية والبراءة من الإسلام والنبي

حكم الحلف باليهودية والنصرانية والبراءة من الإسلام والنبي قال النووي: (أما قوله صلى الله عليه وسلم: (من حلف منكم فقال في حلفه: باللات والعزى؛ فليقل: لا إله إلا الله)، إنما أمر بقول: لا إله إلا الله؛ لأنه تعاطى تعظيم صورة الأصنام حين حلف بها، قال أصحابنا: إذا حلف باللات والعزى وغيرهما من الأصنام، أو قال: إن فعلت كذا فأنا يهودي أو نصراني، أو بريء من الإسلام، أو بريء من النبي صلى الله عليه وسلم أو نحو ذلك؛ لم تنعقد يمينه)، بل هذا لا يصلح أن يكون يميناً؛ ولذلك لو قال إنسان: أكون يهودياً إن فعلت كذا، فهل هذا يعد يميناً؟ A لا، كما أنه لا يحل لأحد أن يقول هذا؛ لأن من قال: أنا يهودي إن فعلت كذا أو نصراني، أو أنا بريء من الإسلام، فهذا الكلام كله على خلاف بين أهل العلم، منهم من يقول: عليه أن يتوب إلى الله عز وجل، وإن حنث في اليمين فلا كفارة عليه. ومنهم من يقول: بل عليه كفارة يمين. ومنهم من يقول: إذا انعقدت نيته على أنه يمين انعقد يميناً. وأخطر من ذلك اختلافهم في كفره أو عدمه. فمنهم من قال: من قال: أنا يهودي إن فعلت كذا وفعل، أو أنا بريء من الإسلام إن لم أفعل كذا ولم يفعله، أي: حنث في هذا الكلام؛ فمنهم من قال: لو توجهت نيته إلى ذلك يلزمه كفارة يمين. ومنهم من قال: حنثه باليمين أولى من وقوع الكفر عليه؛ لأن اليهودية كفر، والنصرانية كفر، وكل ما دون الإسلام كفر، فلو علق المرء إيمانه على هذه الملل والنحل الباطلة كان الأولى به، يستدلون بحديث النبي عليه الصلاة والسلام: (من قال: أنا بريء من دين الإسلام، أو أنا يهودي؛ فإن كان كاذباً فهو أولى به، وإن كان صادقاً فلن يرجع إلى الإسلام سالماً). قال النووي: (أو قال: إن فعلت كذا فأنا يهودي أو نصراني، أو بريء من الإسلام، أو بريء من النبي صلى الله عليه وسلم أو نحو ذلك؛ لم تنعقد يمينه، بل عليه أن يستغفر الله تعالى ويقول: لا إله إلا الله، ولا كفارة عليه سواء فعله أم لا، هذا مذهب الشافعي ومالك وجماهير العلماء)، يعني: هذا ليس يميناً، حتى وإن حنث فيه فما عليه إلا أن يستغفر الله تعالى. ثم قال: (وقال أبو حنيفة: تجب الكفارة في كل ذلك -أي: إذا حنث وجب عليه أن يكفر- إلا في قوله: أنا مبتدع، أو بريء من النبي صلى الله عليه وسلم، أو واليهودية)، يعني: إذا حلَّف القاضي شخصاً فقال: قل: والله العظيم لأقولن الحق، ثم قال: واليهودية لأقولن الحق، فلو أنه قال ذلك فهو عند الأحناف يجب عليه كفارة، إن كان كاذباً أو حنث في اليمين. ثم قال: (واحتج بأن الله تعالى أوجب على المظاهر الكفارة؛ لأنه منكر من القول وزور، والحلف بهذه الأشياء منكر وزور)، لكن كلام الجمهور في مقابلة الكلام للأحناف يحتاج إلى توثيق واحتياط في ما يتعلق بمن حلف بغير الله كمن حلف باليهودية. الجمهور يقولون: لا تنعقد عليه، وإنما يلزمه أن يتوب إلى الله تعالى. والاستغفار والتخلص من هذا بأن يقبل على طاعة الله كصلاة أو صيام أو تسبيح أو ذكر أو قراءة قرآن أو غير ذلك، وبين إنسان خطر بقلبه أن يسرق، ثم اتخذ لذلك الوسائل المؤدية إلى حصول السرقة، استقر في قلبه تماماً، فانطلق وأعد العدة واتخذ آلة لما عساه أن يكون بينه وبين إكمال السرقة، ثم ركب الدابة وانطلق إلى المكان الذي أراد سرقته، فلما ذهب إلى هناك وجد العسكر والحراس وغير ذلك، فحال بينه وبين وقوع السرقة منه هؤلاء، وهذا أمر خارج عن إرادته؛ فلا يستوي قط. فهذا الرجل اتخذ الوسائل المؤدية إلى إتيان المعصية أو الذنب، ففرق بين إنسان انتبه من غفلته ورجع عن ذنبه بمجرد أن خطر على قلبه ذلك، بخلاف هذا الذي لم يرجع إلا لأنه لم يتمكن من المعصية، فإنه يأثم؛ لأنه اتخذ خطوات عملية لإتمام الذنب والمعصية، وهذه الخاطرة لم تكن خاطرة فحسب، بل استقرت هذه الخاطرة، فانطلقت الجوارح لإتمام مراده، لكن حال بينه وبين وقوع الذنب حوائل خارجة عن إرادته. كان لي زملاء وطلاب في الجامعة، والجامعة في كل زمان ومكان هي أس البلاء والفساد، وهي مرتع خصب للشياطين، فيها شباب في مقتبل نضجهم البدني والعقلي، لكن الموفق من حفظه الله تعالى، والهالك من انحرف عن طريق الله عز وجل، فهؤلاء الطلاب أثاروا شبهة: أن الله خالق كل شيء، فمن خلق الله؟ فبعضنا سدد ووفق بتوفيق الله عز وجل له، وتصدى لهذا الكلام الباطل بأنه لا يجوز إثارته أصلاً؛ لأنه من الشيطان لا محالة. والبعض الآخر قال: هذا كلام وجيه، وهو بصيغة سؤال يطرح، فَلِمَ لا تجيبون عليه؟ إذاً: أنتم ضعفاء، ولا علم عندكم، وهذا كلام تريدون أن تستروه عن الأذهان، فلما انجرفوا في هذا التيار إذا بهم الآن من كبار الملاحدة: من كتاب وصحفيين، وأنا أعرف كثيراً ممن كانوا زملاء لي هم الآن أقلام للعلمانية والماسونية والإلحاد وغير ذلك، ولذلك إذا تذكرت أحدهم قلت: اللهم لك الحمد على التوفيق والسداد، فالهداية نعمة عظيمة جداً تستوجب الشكر، فكون الله عز وجل يعصمك وأنت

معنى الأيمان لغة وشرعا

معنى الأيمان لغة وشرعاً يقول الشيخ سيد سابق: (الأيمان: جمع يمين، وهي اليد المقابلة لليد اليسرى، وسمي بها الحلف لأنهم كانوا إذا تحالفوا أخذ كل بيمين صاحبه، وقيل: لأنها تحفظ الشيء كما تحفظه اليمين)، يعني: بالحلف يحفظ الشيء ويجعله في مأمن، كما لو وضعت شيئاً في يمينك، فإن هذه اليمين تحفظ هذا الشيء. ثم قال: (ومعنى اليمين في الشرع: تحقيق الأمر أو توكيده بذكر اسم الله تعالى أو صفة من صفاته، أو هو عقد يقوي به الحالف عزمه على الفعل أو الترك)، يعني: كأن يقول إنسان: والله العظيم لا أتركن قط -إلا لعذر- صلاة السنن الراتبة، فهو حلف بهذا اليمين؛ لأنه رأى من نفسه كسلاً، إذا صلى الفرض تساهل بالسنة البعدية، وكذلك إذا دخل المسجد متأخراً ففاتته السنة القبلية للظهر مثلاً تركها، وهو ينام عن سنة العشاء، وينام عن سنة الوتر وغير ذلك؛ فوصل إلى مرحلة ميئوس منها؛ لأنه حصل منه كسل وفتور، ومن يحصل عنده كسل في السنن لا بد أن يحصل عنده كسل في الفروض، لكن نوع الكسل يختلف، فقد لا يترك الفروض ولكن يترك الجماعات.

حكم الحلف بغير ملة الإسلام

حكم الحلف بغير ملة الإسلام قوله عليه الصلاة والسلام: (من حلف بغير ملة الإسلام فهو كما قال) قال العلماء: إن المقصود به الزجر الشديد، ليس المقصود به الظاهر. يعني: ليس من قال: واليهودية والنصرانية وحنث؛ فهو يهودي أو نصراني. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (من حلف بغير الله فقد أشرك)، فإذا حلف شخص بالنبي فهذا حلف بغير الله؛ فيكون مشركاً حينئذ، ولو أجرينا هذا على ظاهره للزمنا أن نكون من جماعة التكفير، بل من مؤسسي مذهب الخوارج؛ لأن هذا ليس بمقصود، إنما المقصود أن هذا باب عظيم جداً من أبواب ترك الالتزام بشرع النبي عليه الصلاة والسلام، كقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ليس منا من فعل كذا). ماذا يقول الخوارج في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من خبب امرأة على زوجها)، أو (ليس منا من غير منار الأرض)؟ هم يجرون هذه النصوص على ظاهرها، ويكفرون بمثل هذه النصوص. ومعنى (منار الأرض): أي: علامات الطريق، فلو أتى شخص على علامة في الطريق مكتوب عليها: طريق السويس مائة وعشرين كيلو، والسهم ذاهب إلى ناحية الشمال، فقام هذا وحول السهم إلى الناحية الأخرى، فالذي يريد الذهاب إلى السويس لا يعرف الطريق فيسلك طريقاً آخر، فالنبي صلى الله عليه وسلم لعن فاعل هذا. لقد ضبط الشرع في حياة المسلم كل شيء، حتى الخراءة كما في الحديث، حتى كيفية الاستنجاء، بين لك الإسلام كيف تستنجي، وبأي يد تستنجي، وبأي شيء تستنجي، يعني: لم يترك لك تفعل في خاصة نفسك ما تشاء، بل هو دليلك وقرينك، فالإسلام معك حتى في الحمام. فالإسلام رحمة عظيمة جداً، ومنة من الله عز وجل على العباد. فقوله: (ليس منا)، أي: ليس من أخلاقنا ولا من هدينا ولا من سنتنا ولا من طريقنا أو طريقتنا، إنما هو من أخلاق غيرنا، فينبغي ألا يتخلق أحد من المسلمين بأخلاق غير المسلمين التي منها كيت وكيت وكيت مما ذكرت آنفاً. وليس المقصود أن من فعل ذلك صار كافراً، وهل يصدق أحد أن من غير منار الأرض يكون كافراً؟ هذا لا يصدقه إلا واحد من الخوارج، أو من جماعة التكفير؛ لأنهم يجرون النصوص على ظاهرها. قال الشيخ: (وإذا كانت اليمين لا تكون إلا بذكر الله، أو ذكر صفة من صفاته؛ فإنه يحرم الحلف بغير ذلك)، يعني: أن الشيخ سيد سابق يرجح حرمة الحلف بغير الله وأسمائه وصفاته؛ لأن الحلف يقتضي تعظيم المحلوف به، والله وحده هو المختص بالتعظيم، فمن حلف بغير الله فأقسم بالنبي أو الولي أو الأب أو الكعبة أو ما شابه ذلك؛ فإن يمينه لا تنعقد، ولا كفارة عليه إذا حنث، ولكنه آثم بتعظيمه غير الله، فينبغي عليه أن يتوب إلى الله وأن يستغفره. عن ابن عمر رضي الله عنهما عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا إن الله عز وجل ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم) إلى آخر الحديث. وفي حديث ابن عمر أيضاً: (أنه سمع رجلاً يحلف فقال: لا، والكعبة! فقال: إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: من حلف بغير الله فقد أشرك). وقال أبو هريرة: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من حلف منكم فقال في حلفه: باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله).

كتاب الأيمان والنذور - فيمن حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها

شرح صحيح مسلم - كتاب الأيمان والنذور - فيمن حلف يميناً فرأى غيرها خيراً منها من فضل الله تعالى على عباده أن جعل لهم فسحة في الأيمان، فلو حلف المسلم على أمر ثم رأى من المصلحة ومن البر والتقوى فعل الأمر الذي حلف ألا يفعله، فله فعله مع إخراج الكفارة عن يمينه، بل قد يتوجب عليه فعل ما حلف على تركه، لما في ذلك من المصلحة العظيمة المرجوة من وراء ذلك الفعل، وقد يحرم الوفاء باليمين، وذلك حين يحلف على ترك واجب أو فعل محرم.

باب ندب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها أن يأتي الذي هو خير ويكفر عن يمينه

باب ندب من حلف يميناً فرأى غيرها خيراً منها أن يأتي الذي هو خير ويكفر عن يمينه إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وبعد: فهذا الباب الثالث من كتاب الأيمان والنذور: وهو باب ندب من حلف يميناً فرأى غيرها خيراً منها، أن يأتي الذي هو خير، ويكفر عن يمينه. يعني: باب إذا أقسم المرء على شيء، ثم تبين له أن غير ما أقسم عليه هو الخير وهو المصلحة، فإنه يكفر عن يمينه، وأن يأتي الذي هو خير.

شرح حديث: (وإني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين ثم أرى خيرا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير)

شرح حديث: (وإني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين ثم أرى خيراً منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير) قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا خلف بن هشام -وهو ابن ثعلب البزار المقرئ - وقتيبة بن سعيد ويحيى بن حبيب الحارثي واللفظ لـ خلف، قالوا -أي: جميعاً-: حدثنا حماد بن زيد -إمام البصرة- عن غيلان بن جرير -وهو المعولي الأزدي البصري - عن أبي بردة عن أبي موسى قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في رهط من الأشعريين نستحمله)] أي: جئت في جماعة من بني قومي نطلب منه أن يحملنا، وأن يزودنا للقتال بالبعير التي نركب عليها، وبالزاد والمال الذي ننفقه في أثناء غزونا. قوله: [(فقال: والله لا أحملكم! -وهذا قسم- ثم قال: وما عندي ما أحملكم عليه)] أولاً: أقسم عليه الصلاة والسلام أنه لا يحملهم، ثم أخبر بعد ذلك عن نفسه أنه ليس عنده ما يحملهم عليه. قوله: [(قال -أي: أبو موسى الأشعري -: فلبثنا ما شاء الله، ثم أُتي بإبل)] أي: ثم جاء صاحب إبل فدفع إبله إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: [(فأمر لنا بثلاث ذود)] أي: أمر النبي عليه الصلاة والسلام للأشعريين بثلاثة أبعرة. ثم قال: [(غر الذرى)] الغر: هو الأبيض اللاشية، والذرى من الذروة، وهي أعلى شيء، وهو في الإبل السنام، فكأنه قال: فزودني عليه الصلاة والسلام بثلاثة أبعرة أسنمتها بيضاء. قوله: [(فلما انطلقنا قلنا -أي: فلما أخذنا هذه الأبعرة- أو قال بعضنا لبعض: لا يبارك الله لنا؛ أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم نستحمله، فحلف ألا يحملنا، ثم حملنا -أي: بعد قسمه- قوله: فأتوه فأخبروه)] بما تحرجوا منه، أنه حلف أولاً ألا يحملهم، ثم هو بعد ذلك عليه الصلاة والسلام حملهم، فخشوا أن يكون هذا عن غفلة أو نسيان منه عليه الصلاة والسلام، وأنهم السبب في حنثه عليه الصلاة والسلام، فخشوا من ذلك ألا يبارك الله تعالى لهم في ذلك. قال: [(فأتوه فأخبروه؛ فقال: ما أنا حملتكم)] أي: لست أنا الذي حملتكم من مالي، وإنما الذي حملكم هو الله عز وجل. قوله: [(فقال: ما أنا حملتكم، ولكن الله حملكم، وإني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين ثم أرى خيراً منها، إلا كفرت عن يميني، وأتيت الذي هو خير)] يعني: لو فرض أن النبي عليه الصلاة والسلام حلف ألا يحملهم، ثم وجد عنده ومن ماله الخاص ما يحملهم عليه؛ فهذا لا يمنعه أن يأتي الذي هو خير، وأن يكفر عن يمينه، ثم يحملهم، ولكن الذي حملهم هو الله عز وجل.

شرح حديث: (إن رسول الله يحملكم على هؤلاء فاركبوهن)

شرح حديث: (إن رسول الله يحملكم على هؤلاء فاركبوهن) قال: [حدثنا عبد الله بن براد الأشعري ومحمد بن العلاء الهمداني -المعروف بـ أبي كريب - وتقاربا في اللفظ، قالا: حدثنا أبو أسامة حماد بن أسامة، عن بريد -وهو بريد بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري - عن أبيه عن جده أبي موسى قال: (أرسلني أصحابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله لهم الحملان -أي: أن يحملهم- إذ هم معه في جيش العسرة -وهي غزوة تبوك- فقلت: يا نبي الله! إن أصحابي أرسلوني إليك لتحملهم، فقال: والله لا أحملكم على شيء، ووافقته وهو غضبان ولا أشعر، فرجعت حزيناً من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن مخافة أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وجد في نفسه علي)] أي: غضب عليه. فـ أبو موسى الأشعري لما بان له بعد ذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام كان غضبان، خشي أن يكون هو الذي أغضب النبي عليه الصلاة والسلام؛ فأهمه وأغمه أمران: الأول: منع النبي صلى الله عليه وسلم إياهم من الحمل. الأمر الثاني: أن يكون قد أغضب النبي صلى الله عليه وسلم. ثم قال: [(فرجعت إلى أصحابي فأخبرتهم الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم ألبث إلا سويعة إذ سمعت بلالاً ينادي: أي عبد الله بن قيس!)] يعني: بعدما رجع من عند النبي عليه الصلاة والسلام لم يلبث إلا وقتاً يسيراً، وسويعة هي تصغير ساعة، والساعة هي المدة من الزمان، لا الساعة المعلومة الآن بين أيدينا، فلبث وقتاً هو أقل من ساعة، يعني: وقتاً يسيراً جداً حتى سمع بلالاً ينادي: أي عبد الله بن قيس، يعني: تعال يا أبا موسى الأشعري! قال: [(فأجبته، فقال: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك -أي: يطلبك- فلما أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خذ هذين القرينين، وهذين القرينين، وهذين القرينين)] والقرينان هما بعيران أو جملان قرن كل منهما بالآخر، أو ربط كل منهما بحبل صاحبه، أو القرين: هو من تساوى مع قرينه في الرتبة والعمر، فيحمل قوله: (خذ هذين القرينين) على أنهما تقاربا في السن، وتقاربا كذلك في الجودة والعمل، أو في العطاء؛ أو لأنهما ربطا جميعاً. في هذا الحديث ذكر ستة ذود، وفي الحديث الأول ثلاثة أبعرة، وسيأتي معنا أنهم خمسة أبعرة، ولا تنافي بين هذه الأعداد؛ لأنها إما أن تحمل على اختلاف الحوادث أو اختلاف المطالب، أو أن النبي عليه الصلاة والسلام أعطاهم الثلاثة أولاً، ثم زاد لهم بعد ذلك. قوله: [(قال: خذ هذين القرينين وهذين القرينين وهذين القرينين، لستة أبعرة ابتاعهن حينئذ من سعد)] أي: من سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وقوله: (ابتاعهن)، أي: اشتراهن النبي صلى الله عليه وسلم، هل اشتراهن من ماله الخاص أم من بيت مال المسلمين؟ هذه المسألة محل نزاع، والراجح فيها أنه عليه الصلاة والسلام اشترى هذه الأبعرة من بيت مال المسلمين. ثم قال: [(فانطلق بهن إلى أصحابك يا أبا موسى، فقل: إن الله -أو قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم- يحملكم على هؤلاء فاركبوهن، قال أبو موسى: فانطلقت إلى أصحابي بهن، فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحملكم على هؤلاء، ولكن والله لا أدعكم حتى ينطلق معي بعضكم إلى من سمع مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سألته لكم، ومنعه في أول مرة، ثم إعطاءه لي بعد ذلك) أي: أراد أبو موسى الأشعري أن يبرئ ساحته أمام أصحابه، حتى لا يقول قائل: أتيتنا قبل سويعة وقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم منعنا الحمل، ثم أنت الآن تأتينا بستة أبعرة، وتقول: إن رسول الله يحملكم عليها؛ فقال: والله لا أحملكم حتى ينطلق معي بعضكم إلى النبي عليه الصلاة والسلام فيسمع منه أنه منعني أولاً، ثم أعطاني بعد ذلك. ثم قال: (لا تظنوا أني حدثتكم شيئاً لم يقله)] أي: حتى لا تسيئوا بي الظن، أو أن أحدكم تحدثه نفسه أني أتكلم من عند نفسي. قوله: [(فقالوا لي: والله إنك عندنا لمصدق!)] أي: أنت يا أبا موسى فينا صادق ومصدق. قوله: [(ولنفعلن ما أحببت)] يعني: سيذهب بعضنا معك ليسمع؛ حتى ننفذ ما أحببت. قوله: [(فانطلق أبو موسى بنفر منهم، حتى أتوا الذين سمعوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنعه إياهم، ثم إعطاءهم بعد، فحدثوهم بما حدثهم به أبو موسى سواء)] أي: بنفس الكلام الذي حدثهم به أبو موسى آنفاً.

شرح حديث: (إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير)

شرح حديث: (إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير) قال: [حدثني أبو الربيع العتكي حدثنا حماد -يعني: ابن زيد - عن أيوب -وهو ابن أبي تميمة السختياني البصري - عن أبي قلابة -هو عبد الله بن زيد الجرمي البصري - وعن القاسم بن عاصم التميمي عن زهدم الجرمي -وهو ابن مضرب أبو مسلم البصري الجرمي - قال أيوب: وأنا لحديث القاسم أحفظ مني لحديث أبي قلابة قال: (كنا عند أبي موسى، فدعا بمائدته وعليها لحم دجاج، فدخل رجل من بني تيم الله أحمر شبيه بالموالي، فقال له -أي: أبو موسى -: هلم! -أي: أقدم على الطعام- فتلكأ -أي: فتأخر ولم يتقدم لأول وهلة، - فقال: هلم! فإني قد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل منه، فقال الرجل: إني رأيته يأكل شيئاً فقذرته؛ فحلفت ألا أطعمه، فقال: هلم أحدثك عن ذلك!)] أي: فيما يتعلق بيمينك الذي أقسمته ألا تأكل لحم دجاج، قال: إذا كان الأمر كذلك، وأنك لما رأيت رجلاً يأكل لحم دجاج فاستقذرته، فحلفت ألا تأكله قط، فأنا سأحدثك عن حكم هذا اليمين. قال: [(إني أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط من الأشعريين نستحمله، فقال: والله لا أحملكم، وما عندي ما أحملكم عليه، فلبثنا ما شاء الله، فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنهب إبل -أي: فأتي للنبي عليه الصلاة والسلام بغنيمة من الإبل- فدعا بنا، فأمر لنا بخمس ذود غر الذرى -أي: بخمسة أبعرة بيض السنام- قال: فلما انطلقنا، قال بعضنا لبعض: أغفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينه)] يعني: أخذناه على غرة، فجعلناه يقع في الحنث بسبب يمينه الأول الذي أقسمه وحلف به ألا يحملنا، ثم بعد ذلك حملنا، [(لا يبارك لنا!)] أي: بسبب هذا نخشى ألا يبارك الله لنا، [(فرجعنا إليه، فقلنا: يا رسول الله! إنا أتيناك نستحملك، وإنك حلفت ألا تحملنا، ثم حملتنا، أفنسيت؟! قال: إني والله إن شاء الله! لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها؛ إلا أتيت الذي هو خير، وتحللت عن يميني)] أي: كنت منها في حل، ولا يكون الإنسان في حل من يمينه إلا إذا كفر عنه، أو عجز عجزاً مطلقاً عن الكفارة، بمعنى أنه فقير، لا رقبة عنده يعتقها، ولا مال عنده يكسو أو يطعم، وهو مريض عليل ليس عليه صيام؛ فحينئذ تسقط هذه الكفارة، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها. ثم قال: [(فانطلقوا؛ فإنما حملكم الله عز وجل)] يعني: أن الله تعالى آتاني ما حملتكم عليه. قال: [وحدثنا ابن أبي عمر محمد بن يحيى العدني المكي، قال: حدثنا عبد الوهاب الثقفي -وهو ابن عبد المجيد الثقفي - عن أيوب عن أبي قلابة والقاسم التميمي عن زهدم الجرمي قال: كان بين هذا الحي من جرم وبين الأشعريين ود وإخاء، فكنا عند أبي موسى الأشعري، فقرب إليه طعام فيه لحم دجاج فذكر نحو الحديث السابق. وحدثني علي بن حجر السعدي وإسحاق بن إبراهيم -وهو المعروف بـ ابن راهويه - وابن نمير -وهو محمد بن عبد الله بن نمير - عن إسماعيل بن علية - وعلية أمه، وهو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي الضبي البصري - عن أيوب -هو ابن أبي تميمة السختياني كيسان - عن القاسم التميمي عن زهدم الجرمي. وحدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان -هو ابن عيينة - عن أيوب عن أبي قلابة عن زهدم الجرمي. وحدثني أبو بكر بن إسحاق حدثنا عفان بن مسلم -وهو الصفار البصري - حدثنا وهيب حدثنا أيوب عن أبي قلابة والقاسم عن زهدم الجرمي قال: كنا عند أبي موسى واقتصوا جميعاً الحديث بمعنى حديث حماد بن زيد] يعني: ذكروا معنى الحديث الذي جاء من طريق حماد بن زيد. قال: [وحدثنا شيبان بن فروخ حدثنا الصعق بن حزن -وهو الصعق بن حزن بن قيس البكري أبو عبد الله البصري الزاهد- حدثنا مطر الوراق -وهو مطر بن طهمان الوراق أبو رجاء السلمي الخراساني، ولكنه تحول من خراسان فسكن البصرة، وحديثه في مرتبة الحسن، إلا في روايته عن عطاء خاصة فهو ضعيف- حدثنا زهدم الجرمي قال: دخلت على

شرح حديث: (إني لا أحلف على يمين أرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير)

شرح حديث: (إني لا أحلف على يمين أرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير) قال: [وحدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا جرير -وهو ابن عبد الحميد الضبي - عن سليمان التيمي -وهو سليمان بن طرخان التيمي - عن ضريب بن نقير القيسي -وهو المعروف بـ أبي السَّلِيل بشد السين وفتحها، وكسر اللام البعدية- عن زهدم عن أبي موسى الأشعري قال: (أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم نستحمله فقال: ما عندي ما أحملكم والله ما أحملكم، ثم بعث إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة ذود بقع الذرى -والبقع هي العلامة- فقلنا: إنا أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم نستحمله فحلف ألا يحملنا فأتيناه فأخبرناه، فقال: إني لا أحلف على يمين أرى غيرها خيراً منها؛ إلا أتيت الذي هو خير). حدثنا محمد بن عبد الأعلى التيمي حدثنا المعتمر عن أبيه قال: حدثنا أبو السليل -وهو ضريب بن نقير كما ذكرنا- عن زهدم يحدثه عن أبي موسى قال: (كنا مشاة -أي: كنا نغزو على أقدامنا مشاة غير محمولين- فأتينا نبي الله صلى الله عليه وسلم نستحمله) بنحو حديث جرير].

شرح حديث: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأتها وليكفر عن يمينه)

شرح حديث: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأتها وليكفر عن يمينه) قال: [حدثني زهير بن حرب -وهو أبو خيثمة النسائي نزيل بغداد- حدثنا مروان بن معاوية الفزاري أخبرنا يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: (أعتم رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رجع إلى أهله فوجد الصبية قد ناموا -أي: صلى العتمة أو العشاء الآخرة مع النبي عليه الصلاة والسلام، ثم رجع إلى أهله فوجد أولاده قد ناموا- فأتاه أهله بطعامه، فحلف لا يأكل؛ من أجل صبيته)] رجل يحب أن يأكل مع أولاده، فلما وجدهم قد ناموا دخله من الحزن ما دخله، وهذا باب عظيم جداً من أبواب التربية والحفاظ على الأولاد والحرص عليهم، والأنس بهم إلى غير ذلك، فلما وجدهم قد ناموا حلف ألا يأكل، رغم أن المائدة قد أعدت له. قال: [(ثم بدا له فأكل -يعني: يبدو أنه كان جائعاً جداً، فرأى أن يأكل بعد أن أقسم- فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها؛ فليأتها، وليكفر عن يمينه)] أي: فليفعل ما قد حلف عليه آنفاً. هنا قال: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها؛ فليأتها وليكفر عن يمينه). وستأتي معنا رواية: (فليكفر عن يمينه، وليأت الذي هو خير)، والمعنى واحد، لكننا نستفيد حكماً آخر، وهو: جواز تقديم الكفارة على الحنث، وجواز تأخير الكفارة على الحنث، أما قبل اليمين فلا، (من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها، فليأتها، وليكفر عن يمينه).

شرح حديث: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل)

شرح حديث: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه وليفعل) قال: [وحدثني أبو الطاهر حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني مالك عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها؛ فليكفر عن يمينه وليفعل)] وهذه هي الرواية الثانية التي فيها تقديم الكفارة قبل الحنث.

شرح حديث: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه)

شرح حديث: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه) قال: [وحدثني زهير بن حرب حدثنا ابن أبي أويس حدثني عبد العزيز بن المطلب عن سهيل بن أبي صالح المدني، عن أبيه -وهو أبو صالح السمان ذكوان المدني - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها؛ فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه)] يعني: يقدم العمل على الكفارة. قال: [وحدثني القاسم بن زكريا حدثنا خالد بن مخلد -وهو المعروف بـ القطواني - حدثني سليمان -يعني: ابن بلال المدني - حدثني سهيل -وهو ابن أبي صالح - بمعنى حديث مالك: (فليكفر عن يمينه، وليفعل الذي هو خير)].

شرح حديث: (من حلف على يمين ثم رأى أتقى لله منها فليأت التقوى)

شرح حديث: (من حلف على يمين ثم رأى أتقى لله منها فليأت التقوى) قال: [حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا جرير، عن عبد العزيز بن رفيع عن تميم بن طرفة قال: (جاء سائل إلى عدي بن حاتم رضي الله عنه فسأله نفقة في ثمن خادم أو في بعض ثمن خادم)] يعني: يسأله أن يتصدق عليه بما يعادل ثمن خادم بأكمله، أو يعادل ثمن نصف خادم، [(فقال: ليس عندي ما أعطيك إلا درعي ومغفري)] يعني: ليس عندي ما أساعدك به إلا درعي الذي أقاتل به، ومغفري الذي أضعه على رأسي، يعني: الخوذة، [(قال: ليس عندي ما أعطيك إلا درعي ومغفري، فأكتب إلى أهلي أن يعطوكها؟ قال: فلم يرض، فغضب عدي)] يعني: سائل وطامع، يقول له: ما عندي إلا درعي ومغفري، وأكتب لك كتاباً تذهب إلى أهل بيتي وتعطيهم المكتوب، وتأخذ الدرع والمغفر، فالسائل لم يرغب في ذلك، فلما رأى السائل عدياً قد غضب غضباً شديداً، وقال: [(أما والله لا أعطيك شيئاً، ثم إن الرجل رضي)] أي: بعد أن غضب عدي وأغضبه السائل وأقسم ألا يعطيه شيئاً، رضي السائل بأن يأخذ الدرع والمغفر، (فقال: أما والله! لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من حلف على يمين، ثم رأى أتقى لله منها؛ فليأت التقوى، ما حنثت في يميني) أي: فليأت العمل الذي هو تقوى لله عز وجل، وهو الحنث، فهو أتقى لله عز وجل. في هذا الباب الحديث الأول: حديث أبي موسى الأشعري. والحديث الثاني: حديث أبي هريرة. والحديث الثالث: حديث عدي بن حاتم رضي الله عنهم أجمعين، قال: (من حلف على يمين ثم رأى أتقى لله منها؛ فليأت التقوى، ما حنثت يميني)، يعني: لولا أني سمعته عليه الصلاة والسلام يقول هذا ما حنثت في يميني، ولأمضيت هذا اليمين، ولكني أرجع عنه وأكفر، وأعطيك الدرع والمغفر.

شرح حديث: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليترك يمينه)

شرح حديث: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليترك يمينه) قال: [وحدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا شعبة عن عبد العزيز بن رفيع عن تميم بن طرفة عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حلف على يمين، فرأى غيرها خيراً منها، فليأت الذي هو خير، وليترك يمينه)]. يعني: إذا قلت له: كفر عن يمينك، يقول: أنا لا أقدر على الكفارات، فنقول: إذا أقسمت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها، فمن مرضاة الله عز وجل أن تكفر عن يمينك، وأن تفعل الذي هو أتقى، والذي يقربك إلى الله عز وجل، وليس الذي يقربك في هذه الحالة هو الوقوف عند يمينك، وعدم التكفير عنه، إنما الذي يقربك إلى الله تعالى حينئذ هو أن تفعل الخير، وأن تفعل البر، وأن تكفر عن يمينك، هذا هو الأصلح. قال: [حدثني محمد بن عبد الله بن نمير ومحمد بن طريف البجلي واللفظ له، قالا: حدثنا محمد بن فضيل عن الأعمش -وهو سليمان بن مهران الكوفي - عن عبد العزيز بن رفيع عن تميم الطائي عن عدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا حلف أحدكم على اليمين فرأى خيراً منها، فليكفرها، وليأت الذي هو خير). وحدثنا محمد بن طريف حدثنا محمد بن فضيل عن الشيباني -هو أبو إسحاق الشيباني - عن عبد العزيز بن رفيع عن تميم الطائي عن عدي بن حاتم أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول ذلك] أي: يقول: (إذا حلف أحدكم على اليمين، فرأى خيراً منها؛ فليكفرها، وليأت الذي هو خير).

شرح حديث: (من حلف على يمين ثم رأى خيرا منها فليأت الذي هو خير)

شرح حديث: (من حلف على يمين ثم رأى خيراً منها فليأت الذي هو خير) وحدثنا محمد بن المثنى وابن بشار -وهما كفرسي رهان، ولدا في عام واحد، وماتا في عام واحد، وكانا في التوثيق والعدالة في مرتبة واحدة- قالا: حدثنا محمد بن جعفر -وهو ربيب شعبة، تربى في حجره؛ لأن شعبة تزوج أمه بعد وفاة أبيه- قال: حدثنا شعبة عن سماك بن حرب عن تميم بن طرفة قال: (سمعت عدي بن حاتم وأتاه رجل يسأله مائة درهم، فقال: تسألني مائة درهم وأنا ابن حاتم؟! والله لا أعطيك شيئاً، ثم قال: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من حلف على يمين، ثم رأى خيراً منها؛ فليأت الذي هو خير)] أي: ما فعلت ذلك، ولكني أحنث في يميني وأعطيك، وأكفر عنه. قال: [حدثني محمد بن حاتم حدثنا بهز -وهو ابن أسد العمي - حدثنا شعبة -وهو ابن الحجاج العتكي البصري، أول من تكلم بالجرح والتعديل في البصرة- قال: حدثنا سماك بن حرب قال: سمعت تميم بن طرفة قال: سمعت عدي بن حاتم: أن رجلاً سأله فذكر مثله، وزاد: ولك أربعمائة في عطائي]. يعني: أن عدي بن حاتم الطائي رجل كريم، فتضايق حين سئل مائة درهم؛ لأن هذا الشيء لا يتناسب مع كرم الطائيين، وكبيرهم هو حاتم الطائي وهو المعني، فكيف تسألني مائة درهم؛ لذلك لا أعطيك؛ لأن هذا شيء تافه لا يتناسب معنا. فالناس مراتب ودرجات، فأنت لو ذهبت إلى ملك من ملوك الدنيا مثلاً وقلت له: أقرضني عشرة جنيهات، أو مائة جنيه، فكأنك تسبه، لكن عندما تأتي إلى شخص من نفس مرتبتك، وتقول له: أقرضني عشرة جنيهات لأقرضك دون حرج، لكن أن يذهب شخص إلى بيت حاتم الطائي ويقول له: أعطني مائة درهم، كأنك قلت له: أعطني عشرة جنيهات، فـ عدي قال له: أنا سأعطيك المائة التي طلبت وفوقها أربعمائة. ولذلك من أبهة الملك ألا يرد الملك أو الزعيم أو الرئيس سائل مهما كان سؤله، إن سأل مالاً أعطاه الذي سأله وزيادة؛ ليس لأنه يريد أن يعطي، لكن لا يتناسب مع المكانة والمنزلة ألا يعطي، فيقال عنه: إنه ملك بخيل أو رئيس بخيل. أما الآن فالرؤساء لا يصل إليهم السائل، حتى وإن الشعوب لم تعد تسأل، ولذلك كانت الشعوب في المائة الأولى تعلم قدر الملوك ومنزلتهم. فقيل: إن أعرابياً دعي لتناول طعام عند ملك من الملوك، فأطعمه الملك على مائدته وأكل معه، فقال الملك والأعرابي يتناول الطعام: يا أعرابي! هذه شعرة في طعامك، فغضب الأعرابي غضباً شديداً، وقال: أتراقبني مراقبة من يرى الشعرة في طعامي! فحينئذ شعر الملك بخطورة الأمر، فقال: استرها علي يا أعرابي ولك بها مائة بعير، قال: على أن تكون معجلة، فوافق الملك ودفع إليه مائة من بعير معجلة، على ألا يتكلم بها، لكن الأعرابي تكلم بها بعد وفاة الملك، وهو قد وفَّى بعض الشيء. وقيل: إن أعرابياً ذهب إلى ملك من ملوك الدنيا، فقال له الملك: تتعشى معي، فقال: أنا شبعان، فقام إليه رجل وقال: إن طعام الملك ليس للشبع وإنما هو للشرف، أي: ليقال: إن الملك يأكل مع الأعراب أو البدو، ويقول البدوي: إني أكلت مع الملك، فليس كل دعوة توجه إليك قابلة للرد، كما أنه ليس كل مائدة منصوبة لم تدع إليها يحل لك أن تجلس عليها.

شرح حديث عبد الرحمن بن سمرة (وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك وائت الذي هو خير)

شرح حديث عبد الرحمن بن سمرة (وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فكفر عن يمينك وائت الذي هو خير) قال: [حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا جرير بن حازم حدثنا الحسن -وهو ابن أبي الحسن يسار البصري إمام التابعين وسيد الزاهدين- قال: حدثنا عبد الرحمن بن سمرة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عبد الرحمن بن سمرة! لا تسأل الإمارة -أي: لا تسأل أن تكون زعيماً أو سيداً أو قائداً أو غير ذلك-؛ فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة؛ أعنت عليها، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها؛ فكفر عن يمينك، وائت الذي هو خير)]، في هذا الحديث كراهة سؤال الإمارة، والقضاء والحسبة وغير ذلك. ومنها ما هو معلوم الآن الترشيح لمجلس النواب ومجلس الشعب، فضلاً عن مشروعية جواز الترشيح لدخول هذه المجالس التشريعية التي تشرع من دون الله عز وجل، وتبدل وتغير شريعة الله عز وجل في الأرض، وتحكم الناس بأهوائهم وآرائهم، أقول: هب أن هذا العمل مشروع فهل يجوز لأحد أن يبادر وأن يقاتل وأن يوالي وأن يعادي وأن يسارع إلى أخذ مكان في هذا المجلس؟ A لا؛ لأن هذا نوع من أنواع الولاية العامة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها)، أي: أوكلك الله تعالى إليها، وأنت ضعيف وأنت عاجز، وأنت لا توفي؛ لأن الله تعالى يتخلى عنك حينئذ. (وإن أعطيتها عن غير مسألة)، يعني: أرغمت عليها؛ فإن الله تبارك وتعالى يجعل لك العون والسداد والتوفيق؛ لأنك كلفت بها وأنت كاره؛ فحينئذ تنزل عليك معونة الله عز وجل. والشاهد من الحديث: (وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها؛ فكفر عن يمينك، وائت الذي هو خير).

كلام الإمام النووي في باب ندب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها

كلام الإمام النووي في باب ندب من حلف يميناً فرأى غيرها خيراً منها يقول الإمام النووي: (في هذه الأحاديث دلالة على من حلف على فعل شيء أو تركه، وكان الحنث خيراً من التمادي على اليمين، استحب له الحنث، وتلزمه الكفارة، وهذا متفق عليه) يعني: هذه المسألة انعقد عليها الإجماع، فلو أنك حلفت أن تفعل شيئاً أو أن تترك شيئاً لا تفعله، ثم رأيت خلاف ما حلفت هو الخير والبر والتقوى؛ فيستحب لك ترك ما حلفت عليه وفعل الخير، وتلزمك الكفارة حينئذ. ثم قال: (وأجمعوا على أنه لا تجب عليه الكفارة قبل الحنث، وعلى أنه يجوز تأخيرها عن الحنث، وعلى أنه لا يجوز تقديمها على اليمين) يعني: لو حلفت مثلاً: ألا أدخل بيت فلان، فيجوز لي أن أكفر عن هذا اليمين قبل الدخول، ويجوز لي أن أؤخر الكفارة بعد الدخول، أما الكفارة قبل اليمين فعلى أي شيء تكون؟! لا تكون؛ لأنه لا يمين هنالك استلزم الحنث، حتى أكفر قبل الدخول، فأنت الآن جرى في ذهنك فقط ألا تدخل بيت فلان، أنت لم تتلفظ ولم تحلف أنك لا تدخل بيته، فعلى أي شيء تلزم الكفارة؟! لم يحصل يمين، كما أنه لم تحصل مخالفة؛ فحينئذ لا كفارة قبل اليمين، إنما الكفارة دائماً بعد اليمين؛ لأن الكفارة إنما هي كفارة الحنث في اليمين الذي وقع، لا الذي سيقع، وإنما في الذي وقع مني على الحقيقة، فحينئذ أكفر في حالين: إما أن أكفر قبل أن أفعل الخير، وإما إن أكفر بعد فعل الخير. هناك شخص يقول: أنا مخاصم لأمي من أربعة أشهر وهي مستريحة وأنا كذلك، حلفت يميناً ألا أدخل بيتها نهائياً. نقول لهذا: كيف تخاصم أمك؟! لو كانت تلك المقاطعة لزوجتك لا تجوز، فما بالك بأمك، يعني: لو حلفت ألا تدخل بيت امرأتك أو بيت أهلها أظن أن هذا أمر منكر، والبر والصلة أن تحنث في يمينك، ويعد هذا من الطاعات، ومن نعم الله عليك، أما هذا المخاصم لأمه منذ أربعة أشهر، وكل واحد منهم مستريح، فأنا أخشى أن تستريح أيها المخاصم لأمك حتى تدخل القبر، فتحاسب على هذا، وتعلم أنها كانت من أعظم المصائب التي ابتليت بها، فكما أن بر الوالدين من أعظم الطاعات، فإن عصيانهما من أكبر الذنوب، وهذا معلوم، فالله تبارك وتعالى قرن طاعة الوالدين بطاعته، وقرن الإحسان إلى الوالدين بتوحيده، فكيف يعد المرء قطيعة أمه من النعم التي تستوجب حمد الله تبارك وتعالى عليها؟ هذه الأمور كلها معكوسة ومخلوطة، لا يمكن أن يجد هذا لا في اليهودية، ولا في النصرانية، لا يمكن أن يجد لهذا الكلام دليلاً أو برهاناً في شريعة نزلت من عند الله عز وجل قط، فضلاً أن يكون ذلك هو دين محمد عليه الصلاة والسلام الذي أتى به إلى الناس كلهم.

أقوال العلماء في جواز إخراج الكفارة بعد اليمين وقبل الحنث

أقوال العلماء في جواز إخراج الكفارة بعد اليمين وقبل الحنث قال: (واختلفوا في جوازها بعد اليمين وقبل الحنث) يعني: أنا حلفت ألا آكل طعامك، ثم رأيت بيني وبين نفسي أن آكل الطعام وهو البر والخير، فقلت: أكفر أولاً عن يميني ثم آكل. فالعلماء اختلفوا، فقال بعضهم: المعروف أن التكفير يكون بعد الوقوع وبعد العمل؛ لأنه يكون قد حنث في يمينه، أما قبل العمل فلم يحصل حنث، والحقيقة أن هذا اجتهاد مع ورود النص؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها؛ فليكفر عن يمينه، وليأت الذي هو خير)، وفي رواية: (فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه)، فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام بهذين النصين قد أجاز لنا الكفارة بعد اليمين وبعد الحنث وقبله فهما سواء، وتكون الكفارة حينئذ لمجرد أن المرء اعتقد أن الخير في غير ما حلف عليه، ولا يلزم من ذلك إتيانه الفعل المخالف لما حلف عليه، حتى تجب عليه كفارة اليمين. قال: (واختلفوا في جوازها بعد اليمين وقبل الحنث: فجوزها مالك والأوزاعي والثوري والشافعي وأربعة عشر صحابياً، وجماعات من التابعين، وهو قول جماهير العلماء، لكن قالوا: يستحب كونها بعد الحنث) يعني: قالوا بجواز الكفارة قبل الحنث، ولكن بعد الحنث تكون مستحبة. ثم قال: (واستثنى الشافعي التكفير بالصوم) يعني: الشافعي مع الجمهور في المذهب السابق، لكنه استثنى فقط إذا كانت الكفارة بالصوم، فما هي حجته؟ (فقال: لا يجوز الصيام قبل الحنث؛ لأنه عبادة بدنية، فلا يجوز تقديمها على وقتها، كالصلاة، وصوم رمضان) يعني: أيجوز أنني أصوم رمضان في شعبان؟ لا يجوز، ولا يجزئ عني، وإذا دخل علي رمضان يجب علي أن أصوم، حتى وإن صمت شعبان كله بنية رمضان، هذا لا يصلح، وهي عبادة ساقطة من الأصل؛ لأنها في غير وقتها، فكذلك إذا كان المكفر ليمينه فقيراً لا يستطيع أن يطعم ولا أن يكسو ولا أن يعتق، فيتعين حينئذ عليه الصيام؛ فلذلك قال: إلا الصيام فلا يصح أن يكون قبل الحنث؛ لأن الحنث هو الوقت الذي يجب بعده الصيام. ثم قال: (وأما التكفير بالمال فيجوز تقديمه كما يجوز تعجيل الزكاة) وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب من العباس زكاة ماله معجلة عاماً أو عامين، وأخذها وأنفقها في سبيل الله. فهذا دليل تعجيل الزكاة، فإذا كان عندك مال وجبت فيه زكاة فلا بأس قبل حلول الحول بعام كامل أن تدفع كل شهر مائة جنيه، إذا كانت هناك حالة تستدعي المساعدة، وهي من مصارف الزكاة؛ فلا بأس أن تدفع لها زكاة مالك عاماً أو عامين أو ثلاثة أو أربعة أو عشرة، لا بأس بذلك أبداً، زكاة معجلة، أما التأخير فلا يجوز، بدليل أن الزكاة إنما تجب بشرطين: حولان الحول، وبلوغ النصاب، فلا يجوز تأخيرها، وعلى ذلك إجماع أهل العلم.

وجه تبويب الإمام البخاري بقوله تعالى: (والله خلقكم وما تعملون) لحديث: (ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم)

وجه تبويب الإمام البخاري بقوله تعالى: (والله خلقكم وما تعملون) لحديث: (ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم) ثم قال رحمه الله: (قوله عليه الصلاة والسلام: (ما أنا حملتكم، ولكن الله حملكم)، ترجم البخاري لهذا الحديث قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96]). لقد كان الإمام البخاري أمة، وهذا دليل ساطع وبرهان بين على أن هذا الرجل كان مفتوحاً عليه من الله تعالى، فالإمام البخاري لما ذكر هذا الحديث بوب له بباب: ((وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ))، والمعلوم يقيناً عند أهل السنة والجماعة أن الله تعالى لا خالق غيره، ولا رب سواه، والله تعالى خلقنا وأعمالنا. وهذه القضية كانت مثار جدال عظيم جداً فيما يتعلق بالفتنة التي مر بها الإمام أحمد مع الدولة العباسية، فيما يتعلق بكلام الله عز وجل، هل كلام الله تعالى مخلوق أم غير مخلوق؟ قالت المعتزلة: كلام الله تعالى مخلوق، وقال أهل السنة والجماعة: كلام الله تعالى صفة من صفاته، لازمة لذاته، يتكلم بما شاء، وكيف شاء، وفي أي وقت شاء، وكلام الله تعالى لما كان صفة من صفاته، فصفاته غير مخلوقة. إذاً: فيكون كلامه غير مخلوق. لكن العلماء بعد ذلك وقعوا في مسألة أخرى، وهي: هل اللفظ بالقرآن مخلوق أم غير مخلوق؟ لما عجزوا أن يجادلوا علماء أهل السنة فيما يتعلق بخلق القرآن، أثاروا الذعر في الأمة مسألة فرعية أخرى وهي: هل اللفظ بالقرآن مخلوق أم غير مخلوق؟ اللفظ مخلوق؛ لأن اللفظ هذا هو نطقك أنت، إذا تلوت آية من كتاب الله فإنما تخرج منك بحرف وصوت ولهاة وأضراس وأسنان ولسان يتكلم، فهذه الحركات التي تخرج مني الآن وتسمعون بها صوتي مخلوقة. إذاً: هذه الحركات التي أفعلها الآن مخلوقة، تكلمت بالقرآن أو بغير القرآن، يعني: الآن لا أتكلم عن القرآن إنما أنا أتكلم عن طريقتي أنا كمخلوق في النطق، سواء نطقت بالقرآن أو بغير القرآن، فكل ما نعمل من خير وشر هو مخلوق لله عز وجل. فالإمام البخاري بوب لهذا الحديث: (ما أنا حملتكم، ولكن الله حملكم)، قال: باب: ((وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ))، يعني: أن النبي عليه الصلاة والسلام لما أتته الإبل غنيمة دفعها إلى الأشعريين، فكون النبي عليه الصلاة والسلام تسلم الغنيمة، ثم دفع منها ستة أو خمسة أو ثلاثة أبعرة للأشعريين، فهذا العمل أو هذه الحركة التي فعلها النبي عليه الصلاة والسلام مخلوقة، ومع ذلك النبي عليه الصلاة والسلام لم يملك ذلك؛ لأنها من أموال الغنائم، فالنبي عليه الصلاة والسلام لم يحمل الأشعريين على الحقيقة، وما هو إلا عبارة عن أداة أخذت ثم أعطت، لكن المال في الحقيقة هو مال الله عز وجل. إذاً: أراد الإمام البخاري بهذا الباب أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، وهذا مذهب أهل السنة، خلافاً للمعتزلة كما قلنا. قال النووي: (وقال الماوردي: معناه: أن الله تعالى آتاني ما حملتكم عليه، ولولا ذلك لم يكن عندي ما أحملكم عليه. قال عياض: ويجوز أن يكون أوحى الله تعالى إليه أن يحملهم، أو يكون المراد دخولهم في عموم من أمر الله تعالى بالقسم فيهم).

حكم لحم الدجاج والسمك

حكم لحم الدجاج والسمك قال: (أما قوله في لحم الدجاج: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يأكل منه)، فيه إباحة لحم الدجاج وملاذ الأطعمة، والدجاج يطلق على الذكور والإناث). من العجيب أن شخصاً يقول: الدجاج حرام، هل هناك من يقول: إن الدجاج حرام؟! الإمام النووي في القرن السادس الهجري يقول: وفي هذا الحديث دليل على أن لحم الدجاج حلال، فأحياناً نأخذ أقوالاً لأهل العلم نظن أنها من البديهيات، ثم نفاجأ بأنها من الأمور اللازمة فعلاً لإزاحة الغمة عن الأمة، كيف؟ عندما أسمع أن هناك شيخاً في هذا الزمان يقول: إن الكلب حلال طاهر يجوز أكله، ولحم الدجاج الأبيض نجس لا يجوز أكله، ما دليله الذي يزعمه، يقول: إن هذه الفراخ البيضاء أو الدجاج الأبيض إنما يأكل طعاماً قد اختلط بالدم، والدم المسفوح دم نجس، وبالتالي فإن الدجاج الذي يأكل هذا الطعام الذي اختلط بالدم يكون نجساً، نقول: لا يمكن أن يكون هذا أبداً فقهاً؛ لأن الذي يقرأ كتب الفقه يعلم أن هذا ليس فقهاً، وإذا كان هذا فقهاً فكبر على الأمة كلها أربعاً، إذا كان هؤلاء هم الفقهاء المتصدرون فلا حياة للأمة بهذا الشكل أبداً. وقد دعاني أحد الإخوة إلى غداء فقال: ماذا تريد أن تأكل؟ قلت: أنا أحب السمك. قال: وأنا أحرمه. فقلت: يقول النبي عليه الصلاة والسلام في البحر: (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته)، فهذا نص صريح لا يجوز لنا الاجتهاد معه، ثم وصلت بالنقاش معه على هذا. فهذا كلام لا يستحق النقاش، لابد أن يترك من أول وهلة؛ لأنه كلام لا يتفق مع قرآن، ولا مع سنة، ولا مع أقوال أهل العلم، ولا مع العقلاء، لكن صار كلاماً يحتاج إلى نقاش، فمثل من يقول: الظهر ثلاث ركعات، أو مثل من ينظر إلى الشمس ويقول: قد انتهى اليوم، وهي ما زالت في رابعة النهار، فهذا الكلام لا يحتاج إلى نقاش، بل يحتاج إلى نعال، فإذا بهذا الأخ يقول: أنا يغلب على ظني تحريم السمك؛ ولذلك أنا لا آكله عند أحد، قلت له: ولم؟ قال: لأن السمك يأكل لحم الأموات الذين يغرقون في البحار. لو قال هذا الكلام أمام أناس عوام لصدقوه، يقول: كم من طائرات تسقط في البحر؟ وكم من سفن تغرق في البحر؟ ولحم الإنسان حرام، والسمك يأكله، فالسمك بهذا يكون حراماً. هذا الكلام لا يمكن أبداً أن يصدق، ولا يمكن أبداً أن يكون ديناً، فأرجو ألا تكون هذه شبهة، ومطلوب مني الرد عليها. فقوله: (في هذا الحديث إباحة لحم الدجاج، وملاذ الأطعمة، ويقع اسم الدجاج على الذكور والإناث) يعني: أن هذا الدجاج حلال، وهذا فيه الرد على من يقول: إنه حرام، بحجة أن كل مصانع الصناعات الغذائية التي تصنع أغذية الطيور والحيوانات يضيفون نسبة (1%) من الدم الناشف المجفف المعالج على الطعام. أتتصورون أيها الإخوة أن التحريم متعلق بـ (1%)؟ أعطيكم مثالاً: لو أن راوياً روى مائة حديث، ولكنه خلط في حديث واحد، فهل نقبل المائة الحديث كلها ونعمل بها، أم نرد المائة حديث كلها؛ لأجل أنه خلط في حديث واحد غير معلوم لنا؟ نأخذ الكل، وهذا الكلام محل اتفاق، فلا أحد يخالف فيه؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث)، معنى ذلك: أن الكثرة دائماً تغفر الإساءة، فأنت عندما تدخل بلاداً وتجد فيها شخصاً خبيثاً وبقية أهل القرية كلهم طيبين، لا يمكن أن تخرج أبداً من هذه القرية بحكم أن في هذه القرية واحداً منهم غير مرغوب فيه، فهذا ظلم في الحكم على الآخرين. فالدجاج يأكل نسبة دم (1%) و (99%) من الغذاء حلال، من يقول: إن هذا الطعام حرام أكله، فضلاً أن نتاج هذا الطعام يحرم من باب أولى؟ ما يقول هذا إلا إنسان بالفعل قد فقد عقله، إنسان مخبول، فالبيضة حلال من باب أولى. يقول النبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث النعمان بن بشير في الصحيحين: (الحلال بين والحرام بين)، وقد شرحنا هذا الحديث مراراً، حتى لا يقول أحد: هذا الطعام الذي يعد للدجاج الأبيض محل شبهة، نقول: لا، ليس شبهة، فنسبة (1%) لا تعد شبهة؛ لأنه لا يصح أبداً أن نجعل ديننا كله عبارة عن شبهات، نتوقف في كل شيء لأجل أن فيه شبهة، ولا أريد أن أعيد هذا الكلام؛ لأننا شرحنا هذا الحديث في أربع محاضرات، فيغني عن إعادته، فلا أريد أن أسمع شخصاً يقول: إن طعام الدجاج فيه شبهة لأجل (1%) من دم في وسط (99%) من طعام حلال، فلا خلاف على حله.

أقسام اليمين باعتبار المحلوف عليه

أقسام اليمين باعتبار المحلوف عليه الأصل أن يفي الحالف باليمين، ويجوز له العدول عن الوفاء إذا رأى في ذلك مصلحة راجحة وبراً وتقوى، كما قال الله تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} [البقرة:224]، أي: لا تجعلوا الحلف بالله مانعاً لكم من البر والتقوى والإصلاح، فتقول: أنا أعرف أن هذا بر وتقوى وإصلاح، لكن أنا حلفت، نقول: لا يكون اليمين عائقاً في طريق البر والتقوى والإصلاح، بل جعل الله تعالى لنا فسحة الرجوع عما حلفنا لمصلحة أرجح، وهي تحصيل البر والتقوى والإصلاح. وقال الله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:2]، أي: شرع الله لكم تحليل الأيمان بعمل الكفارة، وجاء في الحديث: (إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها؛ فائت الذي هو خير، وكفر عن يمينك). يقول سيد سابق رحمه الله: (أقسام اليمين باعتبار المحلوف عليه). يعني: أحياناً يكون حراماً، وأحياناً يكون مكروهاً، وأحياناً يكون واجباً، وأحياناً يكون مستحباً، وأحياناً يكون مندوباً، فذكر فيه الأحكام الشرعية الخمسة. قال: (أن يحلف على فعل واجب أو ترك محرم، فهذا يحرم الحنث فيه؛ لأنه تأكيد لما كلف الله تعالى به عباده) كالذي يقول: والله لأبرن والدي، فهو حلف على شيء واجب عليه ابتداء، أو يقول: والله لا أزني، والله لا أسرق؛ لأنه في هذه الأبواب ينطلق لا يلوي على شيء، تأتيه الفاجرة فيفجر بها، أو يتيسر له المال الحرام فيسرقه أو ينهبه، فهو بهذا اليمين أراد أن يربي نفسه، ولا سبيل له إلا اليمين؛ فقال: والله لا أسرق بعد ذلك، هذا يمين واجب، فهو يحلف على ترك محرم؛ فهذا يحرم الحنث فيه؛ لأنه لو حنث فقد وقع في حرام آخر، وقع في الزنا والسرقة. إذاً: الأول: أن يحلف على فعل الواجب وترك المحرم، فالحنث فيها من أعظم المعاصي في هذه الحالة؛ لأنه سيجمع بين معصيتين: التفريط في الواجب، وفعل المحرم، والوقوع في الحنث. النوع الثاني: (أن يحلف على ترك واجب، يقول: والله لا أزور والدتي) هذا المثال واضح، وهو بلاء عام مستشر في المجتمع، لكن لو قال: والله لأضربن زوجتي، فإذا كان هناك موجب للضرب، وذلك بأن يكون قد تدرج معها في الإصلاح، حتى تعين في حقه لها الضرب لأجل الإصلاح؛ فحينئذ يجب عليه أن يضرب للإصلاح لا للانتقام، لكن إذا لم تأت زوجته بموجب الضرب، ولم تفعل فعلاً يستوجب ضربها، ثم هو يقول: والله لأضربنها؛ فهذا قد حلف على فعل محرم، فهذا يجب الحنث فيه؛ لأنه حلف على معصية، كما تجب الكفارة في ذلك. الثالث: (أن يحلف على فعل مباح أو ترك هذا المباح؛ فهذا يكره فيه الحنث ويندب البر). الرابع: (أن يحلف على ترك مندوب أو فعل مكروه؛ فالحنث مندوب، ويكره التمادي فيه، وتجب الكفارة). الخامس: (أن يحلف على فعل مندوب أو ترك مكروه فهذا طاعة لله تعالى، فيندب له الوفاء، ويكره الحنث. أما قول الله عز وجل: {لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة:225]، لغو اليمين أن يقول: لا والله، وبلى والله، فهذا كلام درجت عليه الألسنة دون أن تقصد حقيقة اليمين، فهذا لا كفارة فيه، ولا يأثم في لغو اليمين. لقد تدرج الناس من الحلف بالله إلى الحلف بأشياء أخرى، تجد الشخص يحلف باستمرار: علي الطلاق إلا ما شربت معي الشاي، عليّ الطلاق إلا ما أكلت معي, امرأتي طالق إذا لم تأت معي، وكثير من التطليقات تقع بهذا، يقول الإمام الماوردي: مثل هذه المصطلحات وضعها الشارع لأداء مهمة معينة في حياة المكلفين، فلا يجوز التلاعب بها.

الألفاظ الصريحة في الشرع لا تستعمل لغير معناها المراد أصلا

الألفاظ الصريحة في الشرع لا تستعمل لغير معناها المراد أصلاً يقول العلماء: قول الرجل لامرأته: أنت طالق، هذا لفظ صريح، واللفظ الصريح لا يحتاج معه إلى نية. بخلاف اللفظ الضمني، لو قال لامرأته: اخرجي من بيتي، أو اغربي عن وجهي، أو الحقي بأهلك، فنقول له: ما هي نيتك في ذلك؟ لأن هذه اللفظة يجوز أن تكون للتهديد، ويجوز أن تكون لمجرد الزيارة؛ فقوله لها: الحقي بأهلك يعني: اذهبي لزيارتهم؛ لأنها لم تزرهم من مدة طويلة، ففي هذه الحالة لابد من سؤاله عن نيته، لكن لو كان اللفظ صريحاً، كأن يقول لها: أنت طالق، ففي هذه الحالة هذا طلاق واضح، سواء قصد أو لم يقصد، نوى إيقاع الطلاق أو لم ينو؛ لأنه صريح لا يحتاج إلى نية، فإذا قال: أنا لم أنو، نقول: لا تتلاعب بألفاظ الشرع؛ لأن الشارع قد وضع لفظ: (أنت طالق) لإيقاع الطلاق، فلا يجوز أن تستخدم هذا اللفظ في غير محله، وما أعد له في الشرع. فمثلاً: أحد كبار القوم يفتي ويقول: من لم يخرج ثلاثة أيام في الشهر، أو أربعين يوماً في السنة، أو أربعة أشهر في العمر فهو كافر مرتد، هكذا قال، وهو من كبار القوم، فلما ناقشناه في ذلك، قال: أنا ما قلت، وهذا الكلام ملفق علي، فلما وجدنا الشريط الموجود فيه هذا الكلام، وسمعه بنفسه، أحرج، فأراد أن يخرج من هذا، وقال: معذرة، نحن معاشر الجماعة لنا معان خاصة لمصطلحات خاصة. نقول: هذا كلام لا يوافق شرعاً ولا لغة؛ لأن الشارع وضع كلمة (مرتد) لشيء معين، وكلمة (كافر) لشيء معين؛ فلا يجوز التلاعب بهذه المصطلحات التي لها مدلول صريح، فأنا عندما أقول: فلان هذا كافر مرتد، ماذا تفهم من ذلك؟ تفهم منه أنه خرج من الملة، فلا يجوز استخدام هذه المصطلحات في غير ما وضعت له لغة ولا شرعاً، أما أن تطلقها على الناس وبعد ذلك تقول: هذه مصطلحات خاصة، فبأي دليل صارت هذه المعاني خاصة؟ هذا هروب من المأزق فقط، لكن هب أننا سنسلم أن لها معاني معينة مخصوصة عندكم في الجماعة، فهذه الجماعة تتكون من أناس لا علاقة لهم بالعلم الشرعي، ولا بالتكاليف الشرعية، بل ربما معظمهم لا يصلي ولا يصوم، وقد جمعتهم من المقاهي والطرقات وغير ذلك، ثم أنت تسمعهم وعلى الملأ في خطبة الجمعة هذا الكلام، فإنه قد يأتي إلي أنا ويسألني: هل خرجت يا شيخ؟! فأقول له: لا، فيقول: أنت كافر مرتد. إذاً: هذه الجماعات ستتحول من صوفية إلى خوارج في المستقبل، أن تتكون لدى عامة الجماعة فكرة أن من ترك الخروج فهو مرتد وكافر. قبل ذلك كنا نعاني من جماعة التكفير، ولا زلنا نعاني منهم بعض الشيء، لكن بحدود، وأنا أخشى في المستقبل أن نعاني من هذه الجماعة، جماعة الدعوة والتبليغ. أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتاب الأيمان والنذور - يمين الحالف على نية المستحلف

شرح صحيح مسلم - كتاب الأيمان والنذور - يمين الحالف على نية المستحلف من حفظ الشريعة لحقوق الناس أن جعلت يمين الحالف على نية المستحلف، وأنه لا يجوز التورية والمعاريض في الأيمان المتعلقة بالحقوق، وخاصة عند التخاصم أمام القاضي، أما في غير الحقوق فتجوز التورية والمعاريض حتى عند القاضي، خاصة إذا ألزمه بالحلف بغير الله تعالى، كالحلف بالطلاق والعتاق، ولا يجوز الاستثناء في اليمين إلا باتصال الاستثناء باليمين، وكون الحالف قد نوى الاستثناء قبل الفراغ من اليمين؛ لأن الاستثناء المتصل باليمين يمنع انعقاده.

باب يمين الحالف على نية المستحلف

باب يمين الحالف على نية المستحلف الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. وهذا هو الباب الرابع من كتاب الأيمان. قال النووي رحمه الله تعالى: (باب يمين الحالف على نية المستحلف) يعني: اليمين ليس على نية الحالف، إنما على نية المستحلف، فإذا حلَّفك القاضي يميناً فلا يصح لك أن توَرِّي في هذا اليمين، أو تستخدم المعاريض؛ لأن القاضي لا يحلِّف أحداً إلا إذا كانت هذه الخصومة يترتب عليها إثبات حقوق للآخرين أو نفيها، فحينئذ هذه اليمين لا تصح فيها التورية؛ لأنها تمنع الآخرين حقهم، أو تثبت حقاً لإنسان ليس له حق، فلا يصح أن تتذرع بعد استحلاف القاضي لك أنك ما كنت تقصد ما حلفت عليه؛ لأن هذا بإجماع أهل العلم غير جائز.

شرح حديث: (يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك)

شرح حديث: (يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك) قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا يحيى بن يحيى وعمرو الناقد، قال يحيى: أخبرنا هشيم بن بشير عن عبد الله بن أبي صالح، وقال عمرو: حدثنا هشيم بن بشير أخبرنا عبد الله بن أبي صالح] عبد الله بن أبي صالح لأول مرة تقريباً يمر معنا، وقيل: اسمه عباد، وقال بعض أهل النقد: عبد الله، فبعضهم يجعل عبد الله اسماً وعباداً لقباً، وبعضهم يجعل اسمه عباداً وعبد الله لقباً له، وهو ابن أبي صالح السمان ذكوان، وله أخ مشهور بالرواية هو سهيل بن أبي صالح الذي يروي عن أبيه عن أبي هريرة غالباً، فـ سهيل إمام كبير ثقة، مكثر للرواية، بخلاف عباد أو عبد الله فإنه مقل جداً في الرواية، كما أنه في العدالة والتوثيق يقل عن أخيه كثيراً. قال: [أخبرنا عبد الله بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك -وقال عمرو -: يصدقك به صاحبك)] أي: يمينك على ما يستحلفك عليه صاحبك، فهو يطلب منك أن تصدقه في مراده.

شرح حديث: (اليمين على نية المستحلف)

شرح حديث: (اليمين على نية المستحلف) قال: [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا يزيد بن هارون عن هشيم عن عباد بن أبي صالح -وهو عبد الله المذكور في الإسناد الأول- عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اليمين على نية المستحلِف)] وهذا اسم فاعل، بخلاف المستحلَف فإنه اسم مفعول، فليس اليمين على نية المستحلَف، وإنما هو على نية الحالف.

مذهب الشافعية في معنى حديث: (اليمين على نية المستحلف)

مذهب الشافعية في معنى حديث: (اليمين على نية المستحلف) قال النووي: (وهذا الحديث محمول على الحلف باستحلاف القاضي) يعني: هذا الحديث محمول على فض المنازعات والخصومات وغيرها، واستحلاف القاضي للخصوم أو للشهود على نية المستحلِف، أي: على نية القاضي الذي طلب منك اليمين أن تقسمه على إثبات شيء أو نفيه، وهذا محل إجماع، واختلف بعد ذلك إذا لم يكن المحلف هو القاضي، فمنهم من قال: لا يحنث ولا يأثم بذلك إذا ورى، ومنهم من قال: يأثم ويحنث، ولا تقبل منه التورية، لكن المسألة المجمع عليها أن القاضي إذا حلَّف متهماً أو خصماً أو شاهداً فلا تصح التورية من المستحلَف حينئذ. ثم قال: (فإذا ادعى رجل على رجل حقاً، فحلفه القاضي فحلف، وورَّى فنوى غير ما نوى القاضي؛ انعقدت يمينه على ما نواه القاضي -لا على ما نواه المستحلِف- ولا تنفعه التورية، وهذا مجمع عليه، ودليله هذا الحديث والإجماع). والتورية: هي أن توهم الذي أمامك إذا سألك سؤالاً أنك تجيب على عين السؤال، وإجابتك تصلح أن تكون لأكثر من سؤال. مثال ذلك: إذا طرق عليك الباب أحد، فردت امرأتك من خلف الباب فسألها الطارق: فلان موجود، فقالت: ليس موجوداً هنا، وتشير إلى مكان بعينه تقصده، أي: خلف الباب، وأنت في غرفة من الغرف، فهي قد ورَّت في كلامها، واستخدمت المعاريض في كلامها، كما لقي بعض المشركين النبي صلى الله عليه وسلم وهو في طريقه إلى المدينة، وهم لو عرفوه لقصدوا قتله، فلما لقوه هو ومن معه قالوا: (من أين القوم؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: نحن من ماء)، يقصد: {وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء:30]، فهو لم يكذب، لكنه أراد شيئاً، والسائل أراد شيئاً آخر. فهذه هي التورية أو المعاريض، ولها صور أخرى حتى لا يسميها أحد بالكذب، وكما قال السلف: (إن في المعاريض مندوحة عن الكذب). فإذا طلب القاضي من إنسان أعمى أن يحلف اليمين: هل رأيت فلاناً يفعل كذا، فيقول الشاهد الأعمى: لا والله ما رأيته، مع أنه سمعه، فالقاضي من كثرة ما اعتاد أن يحلِّف اليمين على نحو معين، قال لهذا الشاهد الأعمى الذي جيء به ليشهد أنه سمع: هل رأيت فلاناً يقول كذا؟ فيقول: لا والله ما رأيته. فيمضي القاضي شهادته على ما ورى به. والأصل أن اليمين تنعقد على نية القاضي، أما يمين هذا المستحلَف فلا تصح منه؛ لأنه استخدم المعاريض. وانعقاد الإجماع على أن اليمين على نية القاضي؛ لتعلق هذا اليمين بحقوق الآخرين. ثم قال: (فأما إذا حلف بغير استحلاف القاضي وورَّى تنفعه التورية، ولا يحنث، سواء حلف ابتداء من غير تحليف، أو حلفه غير القاضي وغير نائبه في ذلك، ولا اعتبار بنية المستحلِف غير القاضي). يعني: هم يفرقون بين حالتين: في حالة أن تذهب إلى المحكمة فيحلفك القاضي، فهذا فيه الإجماع على أن اليمين على نية المستحلِف لا على نية المستحلَف. أما لو ذهبت أنت إلى المحكمة ولم يحلفك القاضي أو نائبه، وإنما أنت ابتدرته باليمين دون استحلاف منه، واستخدمت في يمينك تورية، وقصدت ما كان مطلوباً منك مستخدماً التورية، فتنفعك التورية، ولا تحنث في يمينك، سواء حلفت ابتداءً من غير تحليف، أو حلفك غير القاضي وغير نائبه، ولا اعتبار لنية المستحِلف من غير القاضي أو نائبه. ثم قال: (وحاصله أن اليمين على نية الحالف في كل الأحوال، إلا إذا استحلفه القاضي أو نائبه في دعوى توجهت عليه فتكون على نية المستحلف وهو مراد الحديث) يعني: اليمين على نية الحالف في كل الأحوال إلا في حالة واحدة، وهي إذا حلفه القاضي. ثم قال: (أما إذا حلف عند القاضي من غير استحلاف القاضي في دعوى؛ فالاعتبار بنية الحالف لا بنية المستحلِف، وسواء في هذا كله اليمين بالله تعالى أو بالطلاق والعتاق، إلا أنه إذا حلفه القاضي بالطلاق أو بالعتاق؛ تنفعه التورية) لأنه لا يجوز للقاضي أن يحلف أحداً إلا بما ينعقد به اليمين الشرعي، وهو بالله وأسمائه وصفاته. فإذا قال: عبدي معتق إن كان كذا، أو إن لم يكن كذا، فلا يعتق العبد عند جماهير العلماء، وكذلك إذا قال: امرأتي طالق إن كان كذا، فلا تطلق امرأته عند جمع من العلماء. قال: (وسواء في ذلك كله اليمين بالله تعالى، أو بالطلاق أو العتاق، إلا أنه إذا حلفه القاضي بالطلاق أو بالعتاق تنفعه التورية، ويكون الاعتبار بنية الحالف؛ لأن القاضي ليس له التحليف بالطلاق والعتاق، وإنما يستحلِف بالله تعالى). يعني: إذا حلفك القاضي بالله؛ فلا يجوز لك أن توري، أما إذا حلفك بالطلاق فوريت في هذا فتنفعك التورية؛ لأنه لا يحل للقاضي أن يحلفك بالطلاق ولا بالعتاق، فلو أن اسم امرأتك (طالق) في البطاقة الشخصية، فقال القاضي: قل: امرأتي طالق ما فعلت كذا، القاضي يقصد اليمين، وهذا يقصد ذكر اسمها، فقال: امرأتي طالق ما فعلت كذا، فهو ورى وقصد ذكر اسم امرأته. وكذلك لو حلفه القاضي وقال: قل: امرأتي طالق، فقال: بل امرأتي طلاق، فقبل القاضي منه ذلك؛ لأنه يعلم الفرق بين كلمة طالق وطلاق، فطلاق أبلغ، ثم أُخبِرَ القاضي بعد ذلك ب

مذهب المالكية في معنى حديث: (اليمين على نية المستحلف)

مذهب المالكية في معنى حديث: (اليمين على نية المستحلف) قال النووي: (ونقل القاضي عياض عن مالك وأصحابه في ذلك اختلافاً وتفصيلاً، فقال: لا خلاف بين العلماء أن الحالف من غير استحلاف ومن غير تعلق حق بيمينه له نيته، ويقبل قوله). يعني: إذا حلف من غير أن يستحلفه أحد فيوري، أو حلف بعد أن يحلفه أحد غير القاضي كذلك له أن يوري، لكن نتيجة هذا الحلف لا يتعلق بها حق للآخرين، فلو حلف مستخدماً التورية أو المعاريض؛ فإنه لا يأثم بذلك ويقبل قوله. ثم قال: (وأما إذا حلف لغيره في حق أو وثيقة متبرعاً، أو بقضاء عليه؛ فلا خلاف أنه يحكم عليه بظاهر يمينه، سواء حلف متبرعاً باليمين أو باستحلاف) يعني: لو ابتدأ هو اليمين، أو حلفه الآخرون؛ فإنه حينئذ يأثم، وتلزمه التوبة. ثم قال: (وأما فيما بينه وبين الله تعالى فقيل: اليمين على نية المحلوف له). اختلف المتأخرون في إعادة الضمير في قوله: (له) هل هو المفعول له إذا أتى الشاهد فحلِّف، فلا شك أنه يحلف لمصلحة أحد المتنازعين، فهل المقصود في عود الضمير في قوله: (على نية المحلوف له) هل هو أحد الخصمين المتنازعين، أو المحلوف له، أي: القاضي؟ على خلاف، الراجح أنه القاضي، واليمين حينئذ على نية المستحلِف وهو القاضي. ثم قال: (وقيل: على نية الحالف، وقيل: إن كان مستحلَفاً؛ فعلى نية المحلوف له، وإن كان متبرعاً باليمين؛ فعلى نية الحالِف، وهذا قول عبد الملك وسحنون، وهو ظاهر قول مالك وابن القاسم، وقيل عكسه، وهي رواية يحيى عن ابن القاسم، وقيل: تنفعه نيته فيما لا يقضى به عليه، ويفترق التبرع وغيره فيما يقضى به عليه، وهذا مروي عن ابن القاسم أيضاً. وحكي عن مالك أن ما كان من ذلك على وجه المكر والخديعة فهو فيه آثم حانث، وما كان على وجه العذر فلا بأس به) يعني: إذا كنت تحلف وتستخدم التورية على سبيل المكر والخديعة، فأنت تأثم بذلك، حتى وإن كنت المبتدئ باليمين. أما إذا استخدمت التورية وحلفت، وكان على وجه العذر، فأنت معذور في ذلك، ولا بأس عليك. ثم قال: (وقال ابن حبيب -من المالكية- عن مالك: ما كان على وجه المكر والخديعة فله نيته، وما كان في حق فهو على نية المحلوف له. قال القاضي: ولا خلاف في إثم الحالف بما يقع به حق غيره، وإن ورَّى، والله أعلم). إذاً: اليمين على نية المستحلِف، خاصة إذا كان المستحلِف قاضياً، فإذا حلفك القاضي بالله فلا يحل لك أن توري في هذا اليمين، هذا أمر. الأمر الثاني: إذا كان هذا اليمين متعلقاً بحق الآخرين، فهذا أوكد في أن اليمين على نية المستحلِف، أما إذا حلفت على شيء مبتدئاً بالله تعالى، فلا يجوز لك كذلك أن توري، وهذا هو الراجح في مذهب المالكية دون الشافعية. ونقلنا الإجماع على أن المقصود بهذا القاضي. على أية حال يترجح لدي في نهاية الأمر مذهب مالك: أن اليمين على نية المستحلِف، خاصة إذا كان المستحلِِف هو القاضي؛ لتعلق حقوق الآخرين به، وهذا أوكد في حرمة التورية إذا حلفك القاضي بالله تعالى. أما إذا ابتدرت أنت اليمين، فالراجح من مذهب مالك لا يحل لك التورية؛ لأن الذي أمامك إنما يحملك على ظاهر قولك، ويسمع منك هذا، فإذا كان الذي أمامك يقبل منك ظاهر قولك، وتريد أن تستخدم التورية والمعاريض فلا بأس بذلك بغير يمين. هذا هو الذي يترجح لدي في الباب كله من أوله إلى آخره.

باب الاستثناء

باب الاستثناء قال: (باب الاستثناء). الاستثناء: هو ما جاء بعد (إلا) غالباً، أو ما كان معلقاً على المشيئة، حتى وإن سبقه يمين، كما لو قلت: والله لأفعلن كذا إلا أن يشاء الله، فقولك: والله لأفعلن كذا، هذا يمين قد انعقد على الجزم بفعل هذا الشيء، فإن لم تفعله ستحنث في اليمين ويلزمك الكفارة، أما إذا قلت: والله لأفعلن كذا إلا أن يشاء الله، أي: إلا أن يشاء الله ألا أفعله فلا أفعله، هذا هو التقدير، فإذا لم تستثن وحنثت لزمتك الكفارة. والاستثناء دائماً رافع للكفارة، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من حج أو اعتمر فأهل وشرط؛ فلا حنث عليه). وقال للمرأة: (أهلي واشترطي على ربك، وقولي: لبيك اللهم عمرة أو حجاً، فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني) يعني: تشترط من الميقات. بعض الناس يتصور أن الدخول في الإهلال والنسك بمجرد لبس الإزار والرداء، وليس الأمر كذلك، حتى لو لبستهما من بيتك فإن النسك لا ينعقد إلا في الميقات المكاني، وهو لأهل مصر الجحفة أو رابغ، ولأهل اليمن يلملم، وللعراق ذات عرق، وللمدينة ذو الحليفة، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (هن لهن -أي: هذه المواقيت- ولمن مرَّ بهن من غير أهلهن، لمن أراد الحج أو العمرة). فهذه المواقيت هي بداية الدخول والتلبس بالنسك، لكن هب أنك قلت: لبيك اللهم عمرة! ثم بدأت تلبي حتى وصلت إلى المطار أو الميناء أو غير ذلك، فإذا هناك من الأعذار ما يسمح للقائمين على الأمر إلى ردك لبلدك، كأن تكون الفيزة مثلاً غير صحيحة، أو أوراقك غير رسمية أو غير ذلك من الأعذار، فأرجعوك إلى صالة المغادرة، وركبت الطائرة ورجعت إلى بلدك، فماذا عليك حينئذ؟ الذي عليك أن تذبح شاة لفقراء الحرم؛ لأنك لم تشترط ولم تقل: فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني، أما لو اشترطت فأرجعوك فلا شيء عليك ولا دم؛ لأنك قلت: يا رب! أنا تلبست بنسك، فإن حبسني حابس فمحلي، أي: فتحللي من ملابس الإحرام ومواصلة النسك حيث حبستني، أي: في نفس المكان الذي حبستني فيه، ولا حرج علي حينئذ، ولا دم علي حينئذ، فدائماً الاستثناء والاشتراط في اليمين يقطع الحنث، كما يقطع كذلك الكفارة. فلو قلت مثلاً: والله إني لا أزور فلاناً قط إلا أن يشاء الله، فهذا قد تحقق الشرط المستثنى، وهذا الاستثناء يمنع انعقاد اليمين.

شرح حديث أبي هريرة في طواف سليمان بن داود على نسائه في ليلة واحدة

شرح حديث أبي هريرة في طواف سليمان بن داود على نسائه في ليلة واحدة قال: [حدثني أبو الربيع العتكي وأبو كامل الجحدري فضيل بن حسين واللفظ لـ أبي الربيع، قالا: حدثنا حماد بن زيد البصري، حدثنا أيوب بن أبي تميمة السختياني البصري عن محمد بن سيرين البصري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان لسليمان ستون امرأة، -أي: سليمان بن داود عليهما السلام- فقال: لأطوفن عليهن الليلة)]. الطواف كناية عن الجماع، كأنه قال: لأجامعن نسائي الليلة كلهن. ثم قال: [(فتحمل كل واحدة منهن، فتلد كل واحدة منهن غلاماً فارساً يقاتل في سبيل الله، فلم تحمل منهن إلا واحدة، فولدت نصف إنسان؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كان استثنى؛ لولدت كل واحدة منهن غلاماً فارساً يقاتل في سبيل الله)]. يعني: لو قال: إن شاء الله. قال: [وحدثنا محمد بن عباد وابن أبي عمر واللفظ له، قالا: حدثنا سفيان بن عيينة عن هشام بن حجير المكي عن طاوس بن كيسان اليماني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال سليمان بن داود نبي الله: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة، كلهن تأتي بغلام يقاتل في سبيل الله، فقال له صاحبه أو الملك: قل: إن شاء الله، فلم يقل، ونَسِي)]. وفي رواية: (ونُسِّي). فقوله: (صاحبه أو الملك) يعني: ربما يكون أحد أصدقائه، وربما يكون القرين من الملائكة. ثم قال: [(فلم تأت واحدة من نسائه، إلا واحدة جاءت بشق غلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولو قال: إن شاء الله لم يحنث، وكان دركاً له في حاجته)] أي: كان لحاقاً له في حياته. قال: [وحدثنا ابن أبي عمر العدني محمد بن يحيى حدثنا سفيان بن عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله أو نحوه. وحدثنا عبد بن حميد أخبرنا عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليمني أخبرنا معمر بن راشد البصري اليمني عن عبد الله بن طاوس عن أبيه طاوس عن أبي هريرة قال: (قال سليمان بن داود: لأطيفن الليلة على سبعين امرأة)]. (أطيفن) و (أطوفن) هما لغتان فصيحتان. قال: [(لأطيفن الليلة على سبعين امرأة تلد كل امرأة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله، فقيل له: قل: إن شاء الله، فلم يقل، فأطاف بهن، فلم تلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قال: إن شاء الله لم يحنث، وكان دركاً لحاجته)]. أي: كان دركاً ولحاقاً لتحقق مراده، وهو أن يرزق من كل امرأة بولد، ولكنه لم يرزق من أي امرأة بإنسان؛ لأنه لم يقل: إن شاء الله، ولم يستثن. قال: [وحدثني زهير بن حرب - أبو خيثمة النسائي نزيل بغداد- حدثنا شبابة -وهو ابن سوار المدائني نسبة إلى المدائن ببلاد فارس- حدثني ورقاء -هو ابن عمر اليشكري أبو بشر الكوفي نزيل المدائن- عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال سليمان بن داود: لأطوفن الليلة على تسعين امرأة)]. بعض الحمقى وإن شئت فقل: بعض الملاحدة يرد هذا؛ وحجته في ذلك أمران: الأمر الأول: اضطراب هذه الروايات، مرة ذكر تسعين، ومرة سبعين، ومرة ستين، وفي غير الصحيح أكثر من تسعين، كما جاء في رواية: (لأطوفن الليلة على نسائي التسع والتسعين)، وفي رواية: (لأطوفن الليلة على مائة امرأة)، قال: هذا اضطراب. الأمر الثاني: كيف لرجل أن يطوف على هذا العدد، وهذا معلوم استحالته في حق أي بشر. و A أن هذا العدد له مفهوم يسمى عند الأصوليين: مفهوم العدد، فهل مفهوم العدد حجة؟ مذهب جماهير الأصوليين أن مفهوم العدد ليس بحجة، وإنما المراد منه الكثرة، وليس المراد اعتبار عين العدد، كما لو قلت لصاحبك: أنا اتصلت بك مائة مرة، أو أتيتك للزيارة مائة مرة ولم أجدك، وفي حقيقة الأمر أنت ما أردت تحديد العدد، أنك حقاً أتيت مائة مرة عداً، وإنما أردت أن تخبره أنك أتيته كثيراً. إذاً: مفهوم العدد عند جماهير العلماء ليس بحجة، وإنما المراد ذكر الكثرة؛ هذا أحد وجوه الرد. الرد الثاني: أن سياق الروايات ليس سياق حصر، قال: (لأطوفن الليلة على ستين امرأة)، وفي رواية: (سبعين امرأة)، وفي رواية: (تسعين امرأة)، وفي رواية: (تسعة وتسعين)، وفي رواية: (مائة) فهل ثبت أن سليمان بن داود كان مت

كلام النووي في أحاديث باب الاستثناء

كلام النووي في أحاديث باب الاستثناء

من فوائد حديث أبي هريرة في طواف سليمان بن داود على نسائه في ليلة واحدة

من فوائد حديث أبي هريرة في طواف سليمان بن داود على نسائه في ليلة واحدة قال الإمام النووي: (في هذا الحديث فوائد: منها: أنه يستحب للإنسان إذا قال: سأفعل كذا أن يقول: إن شاء الله؛ لقوله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23 - 24]). واستخدام المشيئة دائماً يكون في أمر مستقبلي، بخلاف الحمد فإنه في أمر قد مضى. فمثلاً: لا تقل: أنا فعلت كذا بالأمس إن شاء الله؛ لأنه لا وجه له؛ لكن تقول: أنا فعلت كذا بالأمس والحمد لله، فهو كلام مستقيم جملة وتفصيلاً، ولا تقل: أنا سأفعل كذا غداً والحمد لله، بل قل: أنا سأفعل كذا غداً بإذن الله، أو بمشيئة الله، أو إن شاء الله. إذاً: فتعليق العمل على المشيئة يكون في أمر مستقبلي، أما إذا كان في الماضي فإنه يتعلق بالحمد. ثم قال: (ومنها: أنه إذا حلف وقال متصلاً بيمينه: إن شاء الله تعالى؛ لم يحنث بفعله المحلوف عليه، وأن الاستثناء يمنع انعقاد اليمين؛ لقوله في هذا الحديث: (لو قال: إن شاء الله لم يحنث، وكان دركاً لحاجته)). هنا يذكر شرطاً مهماً، وهذا الشرط محل اتفاق، وهو أنه لو وصل الاستثناء بالحلف، فقال: والله العظيم لأفعلن كذا يوم الجمعة القادمة إن شاء الله، فهذا لم يقع فيه نزاع، إذا لم يفصل بين اليمين والاستثناء فإنه لا ينعقد به يمين، ولا يحنث لمخالفة هذا اليمين، لكن لو قال لولده: والله لو فعلت كذا لأضربنك، وفي اليوم التالي قال: إن شاء الله، فلا يصح، أما لو قال لولده: والله لو فعلت كذا لأضربنك إن شاء الله، ففعل الولد المحلوف عليه؛ فلا يلزم الأب هذا اليمين، ولو ترك الضرب لولده لم يحنث؛ لأنه علق الضرب على مشيئة الله، وقد شاء الله ألا يضربه؛ فلا يحنث بهذا اليمين، ولا تلزمه الكفارة.

شروط صحة الاستثناء

شروط صحة الاستثناء قال: (ويشترط لصحة هذا الاستثناء شرطان: أحدهما: أن يقوله متصلاً باليمين). أن يقول: والله لأفعلن كذا إن شاء الله، والله لأتركن كذا إن شاء الله. إذاً: فتعليق المشيئة يكون متصلاً باليمين. ثم قال: (والثاني: أن يكون نوى قبل فراغ اليمين أن يقول: إن شاء الله تعالى) وهذا الشرط محل نزاع: قال البعض: متى تنعقد هذه النية، قبل أن يحلف، أم في مبتدأ اليمين، أم في أثناء اليمين، أم قبل أن يفرغ من اليمين؟ كل رأي من هذه الآراء قال به بعض أهل العلم. الشرط الأول وهو أن يتصل الاستثناء باليمين، هو محل اتفاق. أما الشرط الثاني، فمثاله: لو قلت لولدي: لو فعلت كذا لأضربنك، فأدركت نفسي وقلت: إن شاء الله، فمتى انعقدت النية؟ في آخر اليمين، صحيح أن الكلام متصل، لكن النية انعقدت في آخر اليمين. بخلاف ما أن أسمع صوته في الشارع وأعرف أنه إنسان مشاغب ومشاكس، فأخرج له ناوياً تهديده وتعليق الضرب بالمشيئة، فأقول له: والله لأضربنك إن شاء الله، فالكلام كله متصل، وهذا ليس فيه نزاع. ثم قال: (قال القاضي: أجمع المسلمون على أن قوله: (إن شاء الله) يمنع انعقاد اليمين بشرط كونه متصلاً). يعني: الاستثناء يجعل اليمين غير منعقدة، بمعنى أنك لو خالفت ما نويت عليه لا تحنث ولا تلزمك الكفارة؛ لأن الاستثناء يبطل اليمين، فلو قلت له: والله لأضربنك إن شاء الله، فتركت ضربه فلا حرج عليك، ولا إثم ولا كفارة ولا حنث؛ لأنه ليس يميناً. ثم قال: (ولو جاز منفصلاً كما روي عن بعض السلف؛ لم يحنث أحد قط في يمين، ولم يحتج إلى كفارة) يعني: خالف بعض أهل العلم وقالوا بجواز أن يكون الاستثناء منفصلاً، فيرد القاضي عياض عليهم ويقول لهم: إذا جاز الاستثناء منفصلاً لا يحنث أحد قط في يمين، كما لا يحتاج أحد قط إلى كفارة يمين، فإذا كنتم تتفقون معنا في أن اليمين منعقدة، وأن الحالف الحانث تلزمه الكفارة لأنه حنث في يمينه؛ فحينئذ يلزمكم أن تقولوا بإثبات الاتصال، وبعدم جواز الانفصال في الاستثناء. فمثلاً: لو أن شخصاً يشرب ماء بارداً ومزاجه جيد للغاية، ويقول لزوجته: يا أم محمد! فتجيب عليه: نعم؟ فيقول لها: أنت طالق! فهو غير غضبان، ولا سكران، بل يأكل ويشرب وهو مستريح للغاية، ثم يذهب إلى شيخ ليفتيه فيقول له: ماذا فعلت؟ فيقول: أنا كنت أمزح معها! فيفتيه المفتي بأن طلاقه وقع، ويقول له: لو لم يقع الطلاق بهذا اللفظ على نحو ما ذكرت؛ فليس في الدنيا شيء اسمه طلاق. كذلك الذي يقول بجواز الانفصال بين الاستثناء واليمين، لا بد أن يبطل مدلول الآيات في كتاب الله في كفارة الأيمان والحنث، ويلزمه كذلك رد هذه الأحاديث الصحيحة. إذاً: لو أن رجلاً الآن حلف على شيء وغداً يستثني أو بعد غد يستثني أو بعد شهر، أو بعد عام يستثني، هل يصح منه هذا الاستثناء؟ لا يصح، وهذا مذهب جماهير العلماء.

أقوال العلماء في قدر وقت اتصال الاستثناء باليمين

أقوال العلماء في قدر وقت اتصال الاستثناء باليمين قال: (واختلفوا في الاتصال، فقال مالك والأوزاعي والشافعي والجمهور: هو أن يكون قوله: (إن شاء الله) متصلاً باليمين من غير سكوت بينهما، ولا تضر سكتة النفس) يعني: كأن يقول: والله العظيم لأفعلن كذا وكذا إن شاء الله، والذي فصل بين اليمين والاستثناء أنه أراد أن يتنفس، فهذا أقوى الآراء في المسألة، وهو الذي تشهد له الأدلة الشرعية، وهو مذهب جماهير العلماء. ثم ذكر الرأي الثاني: (وعن طاوس والحسن وجماعة من التابعين: أن له الاستثناء ما لم يقم من مجلسه) هؤلاء جعلوا الحد الجائز انفصال المجلس، هب أن هذا المجلس طال ساعتين أو ثلاثاً أو أربعاً، عندهم مهما طال. ثم قال: (وقال قتادة: ما لم يقم أو يتكلم. وقال عطاء: قدر حلبة ناقة. وقال سعيد بن جبير: بعد أربعة أشهر. وعن ابن عباس: له الاستثناء أبداً متى تذكره، وتأول بعضهم هذا المنقول عن هؤلاء على أن مرادهم أنه يستحب له قول: إن شاء الله تبركاً، قال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:24]، ولم يريدوا به حل اليمين ومنع الحنث). يعني: الجمهور قالوا: سنقبل قول عطاء والحسن وابن عباس وسعيد بن جبير، لكن ليس على سبيل الاستثناء في الحكم، إنما على سبيل الاستثناء للبركة بذكر اسم الله تعالى، إلا أن يشاء الله، كما في قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:24].

حكم الاستثناء في الطلاق والعتق

حكم الاستثناء في الطلاق والعتق ثم قال: (أما إذا استثنى في الطلاق والعتق وغير ذلك سوى اليمين بالله تعالى، فقال: أنت طالق إن شاء الله تعالى، أو أنتَ حر إن شاء الله تعالى، أو أنتِ علي كظهر أمي إن شاء الله تعالى، أو قال: لزيد في ذمتي ألف دينار أو درهم إن شاء الله، أو إن شفى الله تعالى مريضي فلله علي صوم شهر إن شاء الله أو ما أشبه ذلك؛ فمذهب الشافعي والكوفيين وأبي ثور وغيرهم بصحة الاستثناء في جميع الأشياء، كما أجمعوا عليها في اليمين بالله تعالى، فلا يحنث في طلاق ولا عتق، ولا ينعقد ظهاره ولا نذره، ولا إقراره ولا غير ذلك مما يتصل به قوله: إن شاء الله. وقال مالك والأوزاعي: لا يصح الاستثناء في شيء من ذلك إلا اليمين بالله تعالى) تنبه لهذا الأمر، تكلم العلماء في هذه المسألة فقط من باب تقرير مسألة شرعية، فلا تظل كلما دخلت بيتك أو خرجت منه قلت لامرأتك: أنت طالق إن شاء الله لا؛ فهذا عند الجمهور تلاعب بألفاظ الشرع، وإن قال جمهور العلماء أن الاستثناء في هذا لا يحنث به المرء؛ فاعلم أن مالكاً ومن معه قالوا: لا يصح فيه الاستثناء بل يقع، يعني: المسألة محل نزاع بين أهل العلم في الطلاق والعتق وغير ذلك. فهب أن الطلاق والعتق لا يقعان بالاستثناء، فلا يصح من مسلم أن يتلاعب بألفاظ الشرع. قال: (وقوله صلى الله عليه وسلم: (لو قال: إن شاء الله لم يحنث)، فيه إشارة إلى أن الاستثناء يكون بالقول ولا تكفي فيه النية) يعني: لابد فيه من التلفظ؛ لأن اليمين قد تلفظ به، فلو استثنى في قلبه لا يصح منه ذلك، بل لابد أن يتلفظ بقوله: إن شاء الله، اتصالاً باليمين، أما لو عقد النية على الاستثناء لا يقبل منه ذلك، ولا يكون قد استثنى، وإنما يحنث لانعقاد يمينه. وهذا للقادر على الكلام، أما غير القادر كالذي لا يتكلم وإنما يتعامل بالإشارة، فالأخرس مثلاً إذا أراد أن يحلف أشار إلى السماء، فعلم منه أنه يريد القسم، أو ربما إن كان يسمع لكنه لا يتكلم، وإنما يتعامل بالإشارة، فحينئذ يجب عليه وصف الاستثناء بالإشارة. أو أن إنساناً لا يستطيع أن يشير ولا يتكلم، لكنه يتعامل كتابة، فحينئذ يلزمه أن يكتب الاستثناء والمشيئة بعد كتابته لليمين، وإلا فلا يقبل منه غير ذلك. ثم قال: (أما قوله صلى الله عليه وسلم: (فقال له صاحبه: قل إن شاء الله) -أي: صاحب سليمان- قد يحتج به من يقول بجواز انفصال الاستثناء) يعني: بعد أن حلف سليمان عليه السلام وانتهى من الحلف قال له صاحبه: قل إن شاء الله، فهذا حجة لمن قال بجواز الفصل؛ لأن صاحبه قال له: قل إن شاء الله، ومع ذلك بعد أن ذكره نسي مرة أخرى. فهذه شبهة. ثم قال: (وأجاب الجمهور عنه بأنه يحتمل أن يكون صاحبه قال له ذلك وهو بعد في أثناء اليمين) يعني: وهو مازال يتكلم قال له صاحبه ذلك، فبعد أن فرغ من كلامه نسي. ثم قال: (أو أن الذي جرى منه ليس بيمين، فإنه ليس في الحديث تصريح بيمين). وفي رواية قال: (والله لأطوفن الليلة على كذا وكذا)، قالوا: لفظ الجلالة هنا لم يقصد به اليمين، وإنما ما أراد به لفظاً دارجاً، لم يقصد منه حقيقة اليمين. أما قوله: (فتحمل كل واحدة منهن، فتلد كل واحدة منهن غلاماً فارساً يقاتل في سبيل الله) هذا قاله سليمان على سبيل التمني للخير، وقصد به الآخرة والجهاد في سبيل الله تعالى، لا لغرض من أغراض الدنيا. (أما قوله: (فولدت نصف إنسان، أو شق غلام) قيل: هو الجسد الذي ذكره الله تعالى أنه ألقي على كرسيه. وأما قوله: (لو كان استثنى لولدت كل واحدة منهن غلاماً فارساً يقاتل في سبيل الله)، هذا محمول على أن النبي صلى الله عليه وسلم أوحي إليه بذلك في حق سليمان، لا أن كل من فعل هذا يحصل له هذا) يعني: ليس بلازم أن تقول: والله لأجامعن امرأتي الليلة وتأتي بغلام أو بمجاهد يجاهد في سبيل الله، ليس بلازم أن تأتي بغلام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عما كان من أمر سليمان، لا عن أمر كل إنسان، وليس المقصود أن كل إنسان لو حلف واستثنى فيما يتعلق بجماع امرأته يكون ذلك حقيقة؛ لأن إخواننا الذين لم يرزقوا بأولاد ذكور، أو لم يرزقوا بأولاد ولا حتى بإناث، لو كان هذا وعداً لكل من أقسم، لما كان هناك حاجة لأطباء العقم وغيرهم بالمرة، ولقالوا ذلك، وحصلوا على الولد.

حكم استخدام كلمة (لو) و (لولا) فيما مضى وفيما يستقبل

حكم استخدام كلمة (لو) و (لولا) فيما مضى وفيما يستقبل قال: (أما قوله: (لو قال: إن شاء الله لجاهدوا) فيه جواز قول: لو، ولولا. قال القاضي: وهذا يستدل به على جواز قول: لو، ولولا، وقد جاء في القرآن كثيراً، وفي كلام الصحابة والسلف، بل ترجم البخاري على هذا الحديث: باب: ما يجوز من اللو). ظاهره التعارض مع قوله عليه الصلاة والسلام: (فلا تقل: لو كان كذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان)، فيتوهم التعارض، توجد آيات وأحاديث فيها: (لو، ولولا)، وهذا حديث ينهانا أن نقول لشيء: لو كان كذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فالجمع كما في قول الله تعالى: (في قول لوط صلى الله عليه وسلم: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80]-فهنا استخدم لو- وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كنت راجماً بغير بينة لرجمت هذه)). قاله عليه الصلاة والسلام لامرأة بغي معلومة البغاء، وذاع خبرها وانتشر صيتها، وهذه المرأة هي عناق كانت في الجاهلية بغياً، وكان بيتها بيت دعارة، وبيت زنا، وكانت تقف على باب دارها وتدعو الناس إليها، حتى أسلم صاحبها، فلما دخل مكة مستخفياً رأته، فقالت: يا فلان! ألك حاجة في أن تبيت عندنا الليلة؟! قال: لا، وهذا الرجل قد استأذن النبي عليه الصلاة والسلام أن يتزوجها، فلم يأذن له، فقال: إني استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم أن أتزوجك فلم يأذن لي، قالت: أليس لك أن تبيت عندنا الليلة؟! قال: لا، قد منعني من ذلك إسلامي وإيماني، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لو كنت راجماً أحداً بغير بينة لرجمت هذه)، ولكنه أُمر في الشرع ألا يرجم إلا من أقرت بالزنا على نفسها، أو رآها أربعة شهود رأي عين، فلما لم يكن هذا وذاك قال: (لو كنت راجماً)، أي: لو أذن لي ربي أن أرجم امرأة بغير بينة لرجمت هذه، ولكن لما كانت البينة شرطاً لم يرجمها النبي عليه الصلاة والسلام. قال: (وقوله: (لو مد لي الشهر لواصلت)) يعني: استخدم كلمة (لو)، وذلك لما نهى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عن وصال الصوم، فواصلوا، فواصل بهم، ولكن أدركهم عيد الفطر، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لو مد لي الشهر لواصلت)؛ أي: عقوبة لأصحابه الذين خالفوا أمره وواصلوا الصوم، رغم نهيه عن ذلك؛ ليرى كيف سيعمل الصحابة. ثم قال: (وقوله عليه الصلاة والسلام: (لولا حدثان قومكِ بالكفر لأتممت البيت على قواعد إبراهيم) وقال عليه الصلاة والسلام: (لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار)) فاستخدم (لولا) في الحديثين مع أنه قد نهى عنها، وأمثال هذا كثير. ثم قال: (والذي يفهم من ترجمة البخاري وما ذكره في الباب من القرآن والآثار: أنه يجوز استعمال (لو، ولولا) فيما يكون للاستقبال، أما جواز ذلك في أمر قد مضى على سبيل التحسر والتأثم وترك الإيمان بالقدر فهو غير جائز) يعني: لك أن تستخدم (لو) كما لو قلت: لو أصبح بي الصباح لزرتك، هذا كلام مباح، وهو في المستقبل، أما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا تقولن لشيء: لو كان كذا لكان كذا وكذا)؛ لأنه في شيء مضى، وقلته على سبيل التندم والتحسر، وترك الإيمان بالقدر، ولذلك قال: (ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل)، يعني: في الأمور الماضية، أما في الأمور المستقبلة فلا بأس بكلمة (لو، ولولا). قال: (وأما هذا الحديث الذي نحن فيه، فإنما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن يقين نفسه، أن سليمان لو قال: (إن شاء الله لجاهدوا) إذ ليس هذا مما يدرك بالظن والاجتهاد، وإنما أخبر عن حقيقة أعلمه الله تعالى بها، وهو نحو قوله صلى الله عليه وسلم: (لولا بنو إسرائيل لم يخنز اللحم، ولولا حواء لم تخن امرأة زوجها)) هذا الحديث في الصحيحين؛ لأن الله عز وجل منَّ على بني إسرائيل بالمن والسلوى، المن هو اللحم، والسلوى هي الحلوى، فالله عز وجل وهب بني إسرائيل الطعام والحلوى، وأمرهم بالأكل منهما، فادخروهما، فكان أول لحم أنتن في بني إسرائيل. أما قوله: (لولا حواء لم تخن امرأة زوجها)، هو تأثير إبليس عليها بالغواية والإضلال، وإقناعها قبل إقناع آدم بالأكل من الشجرة، ثم سلطها إبليس بعد ذلك على آدم، حتى أكل من الشجرة، قال: (لولا حواء لم تخن أنثى زوجها)، فخيانة حواء أن قبلت بغواية إبليس فأغوت زوجها. فها هو استخدم هنا كلمة: (لولا). ثم قال: (فلا معارضة بين هذا وبين حديث النهي عن (لو)، وقد قال الله تعالى: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران:154]. وقال تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام:28]. وكذلك ما جاء من (لولا) كقوله تعالى: {

الأسئلة

الأسئلة

حكم من أقسم عليه صاحبه ولم يبر يمينه

حكم من أقسم عليه صاحبه ولم يبر يمينه Q أقسم رجل على امرأته بالله أن تفعل شيئاً مباحاً مقدوراً عليه، فرفضت إبرار قسمه فهل عليه كفارة؟ A جعل النبي عليه الصلاة والسلام من حق المسلم على المسلم أن يبر قسمه، سواء كان ذكراً أم أنثى، فمن حق المسلم على المسلم إبرار القسم، فهذا حق لكل مسلم على أخيه، سواء كان بين الزوجين أو بين المسلمين على العموم. فيجب على من أقسم عليه أخوه بيمين أن يبره، فإذا لم يفعل ذلك وهو قادر على أن ينفذه فهو آثم، لكن تجب على الحالف الكفارة.

حكم من حلف على أنه لا يستريح قلبه حتى يتحدث مع أحد الشيوخ

حكم من حلف على أنه لا يستريح قلبه حتى يتحدث مع أحد الشيوخ Q كنت أنوي التحدث مع أحد الشيوخ، فلم يشأ الله عز وجل في ساعتها، فقلت: والله لن يستريح قلبي حتى أتكلم معه، فماذا أفعل الآن؟ A أنت لم تقسم على شيء، ولذلك ليس في هذا القسم حنث، أنت قلت: لن يستريح قلبي إلا عندما أتكلم مع هذا الشيخ، فأنا أقول لك: تعال وكلم واحداً من الشيوخ، ولو كنت تريد أن تحدثني بعد المحاضرة فتعال.

حكم تصريف الفوائد الربوية

حكم تصريف الفوائد الربوية Q وضعت أموالي في البنك، ولما علمت أنها تعطي فوائد ربوية أخذت المال وأخرجت منه المال الأصلي ونزعت الفوائد، فهل يجوز لي أن أتبرع بها في مشروع كفالة اليتيم؟ A أولاً: جزاك الله خيراً، وأحسن إليك، وسددك حين فعلت ذلك، أما هذا المال لا بد أن تعلم أنه مال خبيث، وبالتالي فإنه لا يحل طعامه ولا شرابه، لا يطعم به ولا يشرب، وإنما ينفق في المصارف العامة، كبناء المستشفيات مثلاً أو المدارس أو إنشاء الطرق أو بناء الحمامات أو غير ذلك؛ أما بناء المساجد وإطعام الفقراء والأيتام به وغير ذلك فلا وألف لا؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (أيما جسم نبت من سحت فالنار أولى به).

الحكم على حديث: (ولولا حواء لم تخن امرأة زوجها)

الحكم على حديث: (ولولا حواء لم تخن امرأة زوجها) Q ما حكم حديث: (ولولا حواء لم تخن امرأة زوجها)؟ A حديث: (ولولا حواء لم تخن امرأة زوجها) حديث صحيح.

كتاب الأيمان والنذور - النهي عن الإصرار على اليمين

شرح صحيح مسلم - كتاب الأيمان والنذور - النهي عن الإصرار على اليمين من سنن الله عز وجل في خلقه أن جعل بعض عباده لبعض سخرياً، وممن سخره الله لبعض عباده الخدم والموالي، وقد نظم سبحانه العلاقة بين الخادم وسيده، فلم يعط للسيد الحق المطلق في استخدام العبد فيما لا يطيق أو يحسن، كما ندب إلى حسن صحبة الخادم والرفق في معاملته، وحرم ظلمه والإساءة إليه، بل وحصر بعض الكفارات عند الوقوع في بعض المعاصي في إعتاق العبيد، وما ذاك إلا لعظم حقهم وخطورة الإضرار بهم وظلمهم.

باب النهي عن الإصرار على اليمين فيما يتأذى به أهل الحالف مما ليس بحرام

باب النهي عن الإصرار على اليمين فيما يتأذى به أهل الحالف مما ليس بحرام الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. أما بعد: الباب السادس من كتاب الإيمان في صحيح مسلم: قال النووي رحمه الله: (باب النهي عن الإصرار على اليمين فيما يتأذى به أهل الحالف مما ليس بحرام). يعني: لو حلف الرجل على أهله يميناً أن يفعل كذا أو ألا يفعل كذا، وكان أهل الحالف يتضررون من هذا اليمين ضرراً جسيماً بليغاً، والحنث في هذا اليمين ليس بمعصية فيجب عليه أن يحنث؛ حتى لا يتضرر أهله بسبب هذا اليمين. فلو قال رجل لامرأته: والله لا تذهبي إلى بيت أهلك، ولم يقل لها: أنت طالق إن ذهبت، وإنما قال: والله لا تذهبي إلى بيت أهلك فهذا فضلاً عن مخالفته لهدي الشرع والآداب المحمدية يتنافى مع آداب الحياة الزوجية، فنقول له: كفر عن يمينك وائت الذي هو خير، فلو قال: لا، أنا أشعر بالإثم في الحنث، وأتورع عن الحنث، واستمر وأصر على هذا اليمين، فنقول له: السنة في مثل هذا أن تحنث وأن تكفر، وإصرارك على اليمين أعظم إثماً من الحنث، هذا إذا ثبت الإثم، ولا إثم في الحنث ما دمت ستكفر. فإذا حلف الرجل على أهله يميناً يتضررون به وجب عليه أن يحنث وأن يكفر عن يمينه ما لم يكن الحنث معصية. قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث منها]. وصحيفة همام عن أبي هريرة صحيفة معروفة. قال: [وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والله لأن يلجَّ أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي فرض الله)]. فالنبي عليه الصلاة والسلام يقسم هنا مع أنه صادق بغير قسم، لكن لتوكيد الأمر، قال: (لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله)، واللجاج هو الإصرار، يعني: لئن يصرَّ أحدكم على يمينه الذي حلفه على أهله أن يفعل كذا، أو ألا يفعل كذا. (آثم له)، يعني: أكثر إثماً وأعظم جرماً له. (عند الله عز وجل من أن يعطي كفارته التي فرض الله)، يعني: يجب عليه أن يحنث، وأن يكفر عن هذا الحنث، وألا يعبأ بهذا اليمين بعد الكفارة؛ لأن إصراره على اليمين الذي تضرر به أهله وليس معصية لله عز وجل أعظم من الحنث. قال النووي: (معنى الحديث: أنه إذا حلف يميناً تتعلق بأهله ويتضررون بعدم حنثه، والحنث ليس بمعصية؛ فينبغي له أن يحنث، فيفعل ذلك الشيء ويكفر عن يمينه، فإن قال: لا أحنث، بل أتورع عن ارتكاب الحنث وأخاف الإثم فيه فهو مخطئ بهذا القول، بل استمراره في عدم الحنث وإدامة الضرر على أهله أكثر إثماً).

باب نذر الكافر إذا أسلم

باب نذر الكافر إذا أسلم قال: (باب نذر الكافر وما يفعل فيه إذا أسلم). والنذر واجب، فلو أن إنساناً نذر أن يصوم فإن هذا النذر ليس من باب النافلة، وإنما هو صوم واجب، وإذا نذر أن يصلي نافلة كذلك، أي: أن هذه النافلة تصبح واجبة، فلم تعد بالنذر من باب المندوبات والمستحبات، بل من باب الواجبات، فالنذر واجب. فإذا نذر الكافر -أي: في أيام كفره- ثم أسلم بعد ذلك، فيلزمه أداؤه بعد الإسلام. قال: [حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ومحمد بن المثنى وزهير بن حرب واللفظ لـ زهير قالوا جميعاً: حدثنا يحيى -وهو ابن سعيد القطان - عن عبيد الله العمري قال: أخبرني نافع عن ابن عمر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (يا رسول الله! إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام). وأهل الجاهلية كانوا يعظمون المسجد الحرام، فـ عمر في أيام جاهليته وحال كفره كان قد نذر لله تعالى أن يعتكف ليلة في المسجد الحرام. فقال النبي عليه الصلاة والسلام له بعد إسلامه: [(فأوف بنذرك)]، أي: يلزمك الوفاء بنذرك. ففي هذا الحديث: نذر عمر أن يعتكف ليلة، وقد اختلف أهل العلم فيما يتعلق بشرط الصوم في الاعتكاف، فبعضهم يقول: الصوم شرط في الاعتكاف، والبعض الآخر يقول: ليس بشرط، وهو الذي يترجح من كلام أهل العلم، ودليلهم هذا الحديث، فـ عمر نذر أن يعتكف ليلة، والليل ليس محلاً للصيام، وإنما محل الصيام هو النهار، فكونه قد نذر ليلة أن يعتكف في المسجد الحرام والنبي صلى الله عليه وسلم أمره بالوفاء بهذا النذر يدل على عدم اشتراط الصوم في الاعتكاف. قال: [وحدثنا أبو سعيد الأشج -وهو عبد الله بن سعيد الكندي الكوفي - حدثنا أبو أسامة -وهو حماد بن أسامة - وحدثنا محمد بن المثنى -وهو العنزي المعروف بـ الزمن - حدثنا عبد الوهاب -وهو ابن عبد المجيد الثقفي - وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن العلاء وإسحاق بن إبراهيم جميعاً عن حفص بن غياث، (ح) وحدثنا محمد بن عمرو بن جبلة بن أبي رواد حدثنا محمد بن جعفر -وهو غندر - حدثنا شعبة كلهم عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر، وقال حفص -أي: حفص بن غياث - من بينهم عن عمر]، أي: ولم يقل: عن ابن عمر فحسب، بل قال: عن ابن عمر عن عمر. قال: [أما أبو أسامة وعبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي ففي حديثهما (اعتكاف ليلة)، وأما في حديث شعبة فقال: (جعل عليه يوماً يعتكفه)]. والمعروف أن اليوم إذا أطلق فإنه يراد به النهار بخلاف الليل، ولذلك كتب الأذكار كلها دائماً تسمى بأذكار اليوم والليلة، فاليوم ليس أربعاً وعشرين ساعة، وإنما هو من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، والليلة من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، فهناك فرق بين اليوم وبين الليلة، ولكن أهل اللغة يطلقون تجوزاً على الليل يوماً، وإن كان هذا ليس من جهة التقسيم اللغوي. قال: [وليس في حديث حفص ذكر يوم ولا ليلة]. وكأن عمر رضي الله عنه قال: (يا رسول الله! إني نذرت أن أعتكف في الجاهلية)، ولم يذكر يوماً ولا ليلة، فقال عليه الصلاة والسلام: (أوف بنذرك). قال: [وحدثني أبو الطاهر أخبرنا عبد الله بن وهب حدثنا جرير بن حازم أن أيوب -وهو ابن أبي تميمة السختياني البصري - حدثه أن نافعاً -وهو نافع الفقيه مولى عبد الله بن عمر - حدثه أن عبد الله بن عمر حدثه: (أن عمر بن الخطاب سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة بعد أن رجع من الطائف، فقال: يا رسول الله! إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف يوماً في المسجد الحرام، فكيف ترى؟ قال: اذهب فاعتكف يوماً، قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطاه جارية من الخمس، فلما أعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا الناس سمع عمر بن الخطاب أصواتهم يقولون: أعتقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقال: ما هذا؟ فقالوا: أعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا الناس، فقال عمر: يا عبد الله! اذهب إلى تلك الجارية فخل سبيلها). وهذا الحديث يبين أن النب

اختلاف ألفاظ حديث نذر عمر في الجاهلية

اختلاف ألفاظ حديث نذر عمر في الجاهلية وقد اختلفت ألفاظ هذا الحديث، ففي بعضها أنه سأله في الجعرانة وهو راجع من الطائف، وفي بعضها أنه سأله وهو راجع من حنين، وفي بعضها أنه سأله عن نذر يوم، وفي بعضها أنه سأله عن اعتكاف ليلة. فكأن عمر رضي الله عنه نذر في الجاهلية مرة أن يعتكف ليلة، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم باعتكاف هذه الليلة، ونذر مرة أخرى في الجاهلية أن يعتكف يوماً، وكان قد نسي هذا لما سأل أولاً عن اعتكاف الليلة، فلما تذكر نذره الثاني في الجاهلية -وهو أنه نذر كذلك أن يعتكف يوماً- سأل النبي عليه الصلاة والسلام فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (أوف بنذرك). وهذا هو الجمع بين الروايات، وبعض الناس يقول: يطلق على الليل اليوم، فيكون مرد ذلك كله إلى أن عمر نذر أن يعتكف يوماً لا ليلة، وهذا كلام مردود حتى على قول من قال بلزوم الصوم في الاعتكاف؛ لأن الكافر لا يصح منه الصوم، وعمر بن الخطاب لم يكن قبل الإسلام يهودياً ولا نصرانياً من أهل الكتاب، بل كان مشركاً عابد وثن، ولا يصح منه صيام والحالة هذه، ولذلك سأل بعد إسلامه عن حكم هذا النذر، وسواء نذر أن يعتكف ليلة أو يعتكف يوماً؛ لأن كلاهما وقع منه رضي الله عنه. والنبي عليه الصلاة والسلام أمره بأن يوفي بنذره في الحالين، وليست الحجة في نذر عمر، بل الحجة في قول النبي عليه الصلاة والسلام، ونذر عمر هذا شيء ثانوي؛ ولكن الحجة في أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالوفاء بنذره، فالحجة في أمره عليه الصلاة والسلام، قال: (أوف بنذرك)، والنذر وقع في حالين: في حال الليل وفي حال النهار. قال: [وحدثنا أحمد بن عبدة الضبي حدثنا حماد بن زيد حدثنا أيوب عن نافع قال: ذكر عند ابن عمر عمرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة، فقال: لم يعتمر منها، قال: وكان عمر نذر اعتكاف ليلة في الجاهلية، ثم ذكر نحو حديث جرير بن حازم ومعمر عن أيوب. وإنكار عبد الله بن عمر هنا لعمرة النبي صلى الله عليه وسلم من الجعرانة إنما هو إنكار متعلق بعلم عبد الله بن عمر، وليس إنكاراً مطلقاً، وهذا الإنكار فيه نفي حدوث العمرة من الجعرانة، وهو نفي لعلم ابن عمر أن النبي عليه الصلاة والسلام اعتمر من الجعرانة، ولكن قد ثبت في الحديث عند مسلم: أن النبي عليه الصلاة والسلام اعتمر أربع عمر، إحداهن من الجعرانة، والحديث ثابت وصحيح. وأما ابن عمر فأنكر ما لم يكن في علمه، والإنكار ليس اتهاماً للآخرين، والكذب يطلق أحياناً ويراد به غير الحقيقة، فليس من لازم الكذب تأثيم قائله، كما قال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى لـ ابن عباس: (إن نوف البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى بن عمران، أي: ليس هو موسى النبي، وإنما هو موسى غيره، فقال ابن عباس: كذب عدو الله). فالكذب يطلق على الكلام الذي خرج على غير حقيقته في الواقع، سواء تعمده صاحبه أم لم يتعمده، هذا تعريف الكذب عند أهل السنة، بخلاف المعتزلة.

كلام النووي في أحاديث باب حكم نذر الكافر

كلام النووي في أحاديث باب حكم نذر الكافر قال: (باب نذر الكافر وما يفعل فيه إذا أسلم). والنذر واجب، فلو أن إنساناً نذر أن يصوم فإن هذا النذر ليس من باب النافلة، وإنما هو صوم واجب، وإذا نذر أن يصلي نافلة كذلك، أي: أن هذه النافلة تصبح واجبة، فلم تعد بالنذر من باب المندوبات والمستحبات، بل من باب الواجبات، فالنذر واجب. فإذا نذر الكافر -أي: في أيام كفره- ثم أسلم بعد ذلك، فيلزمه أداؤه بعد الإسلام. قال: [حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ومحمد بن المثنى وزهير بن حرب واللفظ لـ زهير قالوا جميعاً: حدثنا يحيى -وهو ابن سعيد القطان - عن عبيد الله العمري قال: أخبرني نافع عن ابن عمر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (يا رسول الله! إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام). وأهل الجاهلية كانوا يعظمون المسجد الحرام، فـ عمر في أيام جاهليته وحال كفره كان قد نذر لله تعالى أن يعتكف ليلة في المسجد الحرام. فقال النبي عليه الصلاة والسلام له بعد إسلامه: [(فأوف بنذرك)]، أي: يلزمك الوفاء بنذرك. ففي هذا الحديث: نذر عمر أن يعتكف ليلة، وقد اختلف أهل العلم فيما يتعلق بشرط الصوم في الاعتكاف، فبعضهم يقول: الصوم شرط في الاعتكاف، والبعض الآخر يقول: ليس بشرط، وهو الذي يترجح من كلام أهل العلم، ودليلهم هذا الحديث، فـ عمر نذر أن يعتكف ليلة، والليل ليس محلاً للصيام، وإنما محل الصيام هو النهار، فكونه قد نذر ليلة أن يعتكف في المسجد الحرام والنبي صلى الله عليه وسلم أمره بالوفاء بهذا النذر يدل على عدم اشتراط الصوم في الاعتكاف. قال: [وحدثنا أبو سعيد الأشج -وهو عبد الله بن سعيد الكندي الكوفي - حدثنا أبو أسامة -وهو حماد بن أسامة - وحدثنا محمد بن المثنى -وهو العنزي المعروف بـ الزمن - حدثنا عبد الوهاب -وهو ابن عبد المجيد الثقفي - وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن العلاء وإسحاق بن إبراهيم جميعاً عن حفص بن غياث، (ح) وحدثنا محمد بن عمرو بن جبلة بن أبي رواد حدثنا محمد بن جعفر -وهو غندر - حدثنا شعبة كلهم عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر، وقال حفص -أي: حفص بن غياث - من بينهم عن عمر]، أي: ولم يقل: عن ابن عمر فحسب، بل قال: عن ابن عمر عن عمر. قال: [أما أبو أسامة وعبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي ففي حديثهما (اعتكاف ليلة)، وأما في حديث شعبة فقال: (جعل عليه يوماً يعتكفه)]. والمعروف أن اليوم إذا أطلق فإنه يراد به النهار بخلاف الليل، ولذلك كتب الأذكار كلها دائماً تسمى بأذكار اليوم والليلة، فاليوم ليس أربعاً وعشرين ساعة، وإنما هو من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، والليلة من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، فهناك فرق بين اليوم وبين الليلة، ولكن أهل اللغة يطلقون تجوزاً على الليل يوماً، وإن كان هذا ليس من جهة التقسيم اللغوي. قال: [وليس في حديث حفص ذكر يوم ولا ليلة]. وكأن عمر رضي الله عنه قال: (يا رسول الله! إني نذرت أن أعتكف في الجاهلية)، ولم يذكر يوماً ولا ليلة، فقال عليه الصلاة والسلام: (أوف بنذرك). قال: [وحدثني أبو الطاهر أخبرنا عبد الله بن وهب حدثنا جرير بن حازم أن أيوب -وهو ابن أبي تميمة السختياني البصري - حدثه أن نافعاً -وهو نافع الفقيه مولى عبد الله بن عمر - حدثه أن عبد الله بن عمر حدثه: (أن عمر بن الخطاب سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة بعد أن رجع من الطائف، فقال: يا رسول الله! إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف يوماً في المسجد الحرام، فكيف ترى؟ قال: اذهب فاعتكف يوماً، قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطاه جارية من الخمس، فلما أعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا الناس سمع عمر بن الخطاب أصواتهم يقولون: أعتقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقال: ما هذا؟ فقالوا: أعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا الناس، فقال عمر: يا عبد الله! اذهب إلى تلك الجارية فخل سبيلها). وهذا الحديث يبين أن النب

حكم نذر الكافر

حكم نذر الكافر قال النووي رحمه الله: (اختلف العلماء في صحة نذر الكافر، فقال مالك وأبو حنيفة وسائر الكوفيين وجمهور أصحابنا -أي: من الشافعية-: لا يصح من الكافر نذر. وقال المغيرة المخزومي وأبو ثور والبخاري وابن جرير وبعض أصحابنا: يصح، وحجتهم ظاهر حديث عمر. وأجاب الأولون عنه: أنه محمول على الاستحباب، أي: يستحب لك أن تفعل الآن مثل ذلك الذي نذرته في الجاهلية). فالجمهور على أن نذر الكافر لا يصح، وغير الجمهور على صحته، ودليلهم هذا الحديث، ولو كان نذر الكافر لا يصح منه وليس بمعتبر لقال عليه الصلاة والسلام لـ عمر: لا بأس عليك، أو لا حرج عليك، أو لا تفعل، فلما قال له: (أوف بنذرك) دل على اعتبار نذره الذي نذره في الجاهلية، وهذا فيه دليل على أن النذر واجب في حقه، وأما أنه مندوب ومستحب كما قال بعض أهل العلم فهذا كلام غير سديد.

حكم الاعتكاف بغير صوم

حكم الاعتكاف بغير صوم قال: (وفي هذا الحديث دلالة لمذهب الشافعي وموافقيه في صحة الاعتكاف بغير صوم، وفي صحته بالليل كما يصح بالنهار، وسواء كانت ليلة واحدة أو بعضها أو أكثر، ودليله حديث عمر هذا: (إني نذرت أن أعتكف ليلة)، وليست محلاً للصيام. وأما الرواية التي فيها اعتكاف يوم فلا تخالف رواية اعتكاف ليلة؛ لأنه يحتمل أنه سأله عن اعتكاف ليلة وسأله عن اعتكاف يوماً)، يعني: حدث منه هذا وذاك. قال: (فأمره بالوفاء بما نذر، فحصل منه صحة اعتكاف ليلة واحدة لما أمره باعتكاف الليل، ثم أمره باعتكاف النهار حسبما وجه إليه من سؤال، فهذا يدل على صحة الاعتكاف في الليل كما يصح الاعتكاف في النهار. وفي رواية عند الدارقطني بإسناد جيد لما نذر عمر أن يعتكف ليلة في المسجد الحرام فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: (أوف بنذرك، فاعتكف عمر ليلة). فهذا صريح في أن الاعتكاف قد تم بالفعل، (فاعتكف عمر ليلة)، وهذا مذهب الشافعي، وبه قال الحسن البصري وأبو ثور وداود وابن المنذر، وهو أصح الروايتين عن أحمد. قال ابن المنذر: وهو مروي عن علي وابن مسعود، وقال ابن عمر وابن عباس وعائشة وعروة بن الزبير والزهري ومالك والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق في رواية: لا يصح إلا بصوم، وهو قول أكثر العلماء). وهذا القول ليس قولاً سديداً ولا صحيحاً، وإنما الصحيح صحة الاعتكاف من غير صوم، وأنت تعمل هذا في الحياة العملية، ففي رمضان عندما تريد الاعتكاف تذهب إلى عملك صباحاً وترجع عصراً إلى معتكفك ثم تخرج منه في الفجر. ففي الحقيقة أنت لم تعتكف صائماً، وإنما اعتكفت مفطراً في الليل، وكثير من الناس يدخل المعتكف بعد أن يفطر في بيته ويذهب إلى المسجد لصلاة العشاء، وينوي الاعتكاف إلى الصلاة، وهذا على رأي ضعيف.

باب صحبة المماليك وكفارة من لطم عبده

باب صحبة المماليك وكفارة من لطم عبده قال: (صحبة المماليك وكفارة من لطم عبده). ولفظ صحبة المماليك لفظ لطيف جداً، فكأن السيد صاحب لعبده، وكأن العبد صاحب لسيده، وليس خادماً ولا مولى ولا عبداً ولا رقيقاً عنده، فهذه الكلمة مشعرة بالود والتراحم بين المسلمين حتى مع اختلاف درجاتهم وطبقاتهم.

شرح حديث ابن عمر في كفارة من لطم عبده

شرح حديث ابن عمر في كفارة من لطم عبده قال: [حدثني أبو كامل فضيل بن حسين الجحدري حدثنا أبو عوانة -وهو الوضاح بن عبد الله اليشكري - عن فراس -وهو ابن يحيى الهمداني أبو يحيى الكوفي المعروف بـ المُكتب - عن ذكوان أبي صالح السمان عن زاذان أبي عمر -وهو الكندي البزاز، نسبة إلى البز وهي الثياب، وقيل: هو متاع البيت الخاص بالثياب، والبزاز هو بائع أو صانع الثياب- قال: (أتيت ابن عمر وقد أعتق مملوكاً، قال: فأخذ من الأرض عوداً أو شيئاً، فقال: ما فيه من الأجر ما يسوى هذا)]. والأصح: ما يساوي هذا، وأما (ما يسوى) فهو من الألفاظ العامية، ولعل هذا من تصرف بعض الرواة. قال ابن عمر [: (إلا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته أن يعتقه)]. والعلماء يفرقون في ضرب المماليك أو في ضرب الخدم -والخدم هم الإماء الرقيق- بين الضرب المبرح والضرب الخفيف، وقال الدارقطني: إذا كان ضرباً مبرحاً فإنما كفارته العتق، وإذا كان ضرباً خفيفاً لا يتأذى به المملوك فليس على سيده شيء. وعبد الله بن عمر لما أعتق هذا المملوك أخذ عوداً من الأرض وظل ينكت به في الأرض وهو يقول: (ما في عتق هذا المملوك من الأجر ما يسوى هذا)، يعني: كأنه يقول: ليس لي في عتق هذا المملوك أجر إلا أجراً ضئيلاً جداً؛ لأنني ما أعتقته احتساباً لله عز وجل، وإنما أعتقته كفارة، أي: أنه لم يكن منه العتق الأولي بغير كفارة. قال: [وحدثنا محمد بن المثنى وابن بشار واللفظ لـ ابن المثنى قالا: حدثنا محمد بن جعفر -وهو المعروف بـ غندر - حدثنا شعبة عن فراس الهمداني قال: سمعت ذكوان يحدث عن زاذان: (أن ابن عمر دعا بغلام له، فرأى بظهره أثراً -أي: أثر الضرب الذي ضربه إياه ابن عمر - فقال له: أوجعتك؟ قال: لا، قال: فأنت عتيق)]. وقول العبد لما قال له سيده عبد الله بن عمر: أوجعتك؟ قال: لا، يدل على أن هذا الضرب غير مبرح، وعلى هذا يكون أعتقه ابن عمر استحباباً وخروجاً من الخلاف، وربما يكون جواب العبد بقوله: لا، أو: ما أوجعتني على سبيل التأدب مع سيده، مع أنه قد أوجعه، فأراد ابن عمر رضي الله عنه أن يخرج من ذنبه مخافة أن يكون دفعه الحياء إلى عدم ذكر ألمه ووجعه، فقال: فأنت عتيق، أي: أنت حر لوجه الله. [(قال: ثم أخذ شيئاً من الأرض فقال: ما لي فيه من الأجر ما يزن هذا، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من ضرب غلاماً له حداً لم يأته، أو لطمه فإن كفارته أن يعتقه)]. (من ضرب غلاماً له حداً)، أي: قدر ما يساوي حداً، ولا حد في أقل من عشرة أسواط، فمهما فعل المرء من ذنب، فإنه يحرم على المؤدب أو المعلم أو السلطان أو السيد أن يضربه تعزيراً فوق عشرة أسواط، إذا لم يكن هذا الذنب كبيرة من كبائر الذنوب، ويستحق إقامة الحد عليه، وأقل الحد عشرة أسواط. وهذا يدخل فيه المعلم والمدرس والكبير والزوج والأب، وننبه جميع المسئولين ومن كان تحت أيديهم رعايا أنه إذا أخطئوا فإنما يعزرون ما لم يبلغ خطؤهم إلى درجة الحد، ولا إقامة للحد في هذه الأزمان -ولا حول ولا قوة إلا بالله- فلم يبق لنا إلا التعزير، والتعزير أقصاه عشرة أسواط، وليس بلازم أن تأتي بأقصى عقوبة في التعزير، والتعزير منه التوبيخ والوعظ والزجر واللوم والهجر، ويكون الضرب في نهاية الأمر، ويكون ضرباً غير مبرح. وليس لازماً أن يبلغ الضرب في التعزير أقصاه، بل ربما يكفي ضربه ضربة واحدة أو اثنتين أو ثلاثاً، وقد يضرب الواحد منا ولده فوق هذا الحد، أي: العشرة الأسواط، وربما يضرب المعلم التلميذ فوق العشرة الأسواط، وربما يضرب السيد عبده فوق العشرة الأسواط، فإذا كان ذلك بغير بلوى قد وقع فيها العبد فيكون هذا السيد قد حده في غير ما يستوجب الحد، فكفارته أن يعتق، وكذلك إذا لطمه على وجهه، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (إذا ضرب السيد عبده حداً لم يأته، أو لطمه)، والمعروف أن اللطمة لطمة واحدة، وتكون على صفحة الوجه أو ما غطى من الوجه، فانظر إلى هذا الفقه العجيب، فإن ضربه فوق العشرة أسواط، أو لطمه على وجهه لطمة واحدة ففي الحالتين الكفارة إعتاق هذا العبد؛ لأن الوجه له حرمة تختلف عن حرمة بقية البدن، ولما لطم معاوية بن الحكم السلمي جارية له ذهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (يا رسول الله! إني لطمت جاريتي)، ولا يقال للضرب لطم إلا إذا كان في الوجه. (قال: أين هي؟ قال: هي ذي، فأدناها النبي عليه الصلاة و

شرح حديث معاوية بن سويد في كفارة من لطم عبده

شرح حديث معاوية بن سويد في كفارة من لطم عبده قال: [وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الله بن نمير، وحدثنا ابن نمير واللفظ له حدثنا أبي حدثنا سفيان عن سلمة بن كهيل -وهو الحضرمي أبو يحيى الكوفي - عن معاوية بن سويد -وهو ابن مقرن أبو سويد الكوفي - قال: (لطمت مولى لنا فهربت، ثم جئت قبيل الظهر فصليت خلف أبي، فدعاه ودعاني -أي: دعا ولده الذي لطم، ودعا الملطوم وهو المولى أو العبد- ثم قال: امتثل منه -أي: قال للعبد: اقتص من هذا الولد- فعفا)]، أي: استعفى، وطلب أن يعافيه سيده من القصاص، أو فعفا عن الولد. [(ثم قال: كنا بني مقرن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لنا إلا خادم واحدة)]. والأصل أن يقول: خادم واحد، ولكن الخادم يطلق على الذكر والأنثى، فيقال: رجل خادم وامرأة خادم، ولا يقال: امرأة خادمة، فهذه ليست فصيحة، وإنما الفصيح: (امرأة خادم). قال: [(فلطمها أحدنا، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أعتقوها، قالوا: ليس لهم خادم غيرها، قال: فليستخدموها، فإذا استغنوا عنها فليخلوا سبيلها)]، يعني: أنه أمرهم أن يعتقوها، فلما قالوا: ليس لهم خادم غيرها، قال: (فليستخدموها، فإذا استغنوا عنها فليعتقوها أو ليخلوا سبيله). وقوله: (امتثل منه) معناه: عاقبه قصاصاً، وقيل: افعل به مثل ما فعل بك، وهذا محمول على تطييب نفس المولى المملوك، وإلا فلا يجب القصاص في اللطمة ونحوها، وإنما الواجب التعزير، ولكنه تبرع فأمكنه من القصاص فيها. وفي هذا الحديث: الرفق بالموالي واستعمال التواضع.

حديث سويد بن مقرن في كفارة من لطم عبده

حديث سويد بن مقرن في كفارة من لطم عبده قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن عبد الله بن نمير واللفظ لـ أبي بكر قالا: حدثنا ابن إدريس -وهو عبد الله بن إدريس بن يزيد الأودي، أبو محمد الكوفي - عن حصين -وهو ابن عبد الرحمن السلمي أبو الهذيل الكوفي - عن هلال بن يساف قال: (عجل شيخ فلطم خادماً له -يعني: تعجل وأسرع ولطم خادماً له- فقال له سويد بن مقرن: عجز عليك إلا حر وجهها؟ -يعني: لم تلق إلا صفحة وجهها- لقد رأيتني سابع سبعة من بني مقرن ما لنا خادم إلا واحدة لطمها أصغرنا؛ فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نعتقها)]. والأصل أنه لا يعتق منها إلا حظ اللطمة، أو إلا حظ من لطمها. والعبد مال تجوز فيه الشراكة، يعني: يجوز أن يشترك اثنان وثلاثة وأربعة وعشرة ومائة في عبد واحد، فإذا لطم سيد واحد من هؤلاء عبداً فالأصل أن يعتق نصيبه فيه، فيكون بعض العبد حراً، والبعض الآخر رقاً، وهذا أمر جائز. ولكن النبي عليه الصلاة والسلام أمرهم جميعاً بالعتق، وهذا محمول على أن النبي عليه الصلاة والسلام عرف أنهم على استعداد لأن يعتقوا العبد، فأمرهم جميعاً بإعتاق العبد. قال: [حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار حدثنا ابن أبي عدي عن شعبة عن حصين عن هلال بن يساف قال: (كنا نبيع البز في دار سويد بن مقرن أخي النعمان بن مقرن، فخرجت جارية فقالت لرجل منا كلمة فلطمها، فغضب سويد)، فذكر نحو حديث عبد الله بن إدريس. وحدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد حدثنا أبي حدثنا شعبة قال: قال لي محمد بن المنكدر: ما اسمك؟ قلت: شعبة فقال محمد: حدثني أبو شعبة العراقي -وهو المزني مولاهم الكوفي، معروف بكنيته- عن سويد بن مقرن: (أن جارية له لطمها إنسان، فقال له سويد: أما علمت أن الصورة محرمة؟ فقال: لقد رأيتني وإني لسابع إخوة لي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لنا خادم غير واحد، فعمد أحدنا فلطمه فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نعتقه). وحدثناه إسحاق بن إبراهيم -وهو المعروف بـ ابن راهويه - ومحمد بن المثنى عن وهب بن جرير أخبرنا شعبة قال: قال لي محمد بن المنكدر: ما اسمك؟ فذكر الحديث بمثل حديث عبد الصمد].

شرح حديث أبي مسعود الأنصاري في كفارة من ضرب عبده

شرح حديث أبي مسعود الأنصاري في كفارة من ضرب عبده قال: [حدثنا أبو كامل الجحدري -وهو فضيل بن حسين - حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا الأعمش عن إبراهيم التيمي - وهو إبراهيم بن يزيد بن شريك التيمي الكوفي. عن أبيه قال: قال أبو مسعود البدري]، وهو عقبة بن عمرو الأنصاري، ويقال له: بدري، والغالب أنه لم يشهد بدراً، وإنما كان يسكن مكاناً اسمه بدر فنسب إليه، وهو ليس ممن شهد بدراً. قال أبو مسعود: [(كنت أضرب غلاماً لي بالسوط، فسمعت صوتاً من خلفي: اعلم أبا مسعود! فلم أفهم الصوت من الغضب، قال: فلما دنا مني إذ هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يقول: اعلم أبا مسعود! اعلم أبا مسعود!)] وهذا التكرار فيه تهديد ووعيد شديد. [(قال: فألقيت السوط من يدي)، وفي رواية: (فسقط السوط من يدي). (فقال: اعلم أبا مسعود! أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام)] وهذا تهديد ووعيد شديد. والنبي عليه الصلاة والسلام رأى رجلاً يضرب دابة فقال: (من لم يَرحم لا يُرحم)، وفي رواية: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) وهذه دابة، فكيف بالغلام الذي هو إنسان كما أنك إنسان؟ [(قال: فقلت: لا أضرب مملوكاً بعده أبداً)]، لأنه استشعر أن قدرة الله تعالى عليه أعظم من قدرته على ذلك العبد. قال: [وحدثناه إسحاق بن إبراهيم أخبرنا جرير، (ح) وحدثني زهير بن حرب حدثنا محمد بن حميد المعمري]، والمعمري نسبة لملازمته لـ معمر بن راشد البصري قال: [عن سفيان، (ح) وحدثني محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق أخبرنا سفيان، (ح) وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عفان حدثنا أبو عوانة كلهم عن الأعمش بإسناد عبد الواحد نحو حديثه، غير أن في حديث جرير: (فسقط من يدي السوط من هيبته)]، أي: من هيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: [وحدثنا أبو كريب محمد بن العلاء حدثنا أبو معاوية -وهو محمد بن خازم الضرير - حدثنا الأعمش -وهو سليمان بن مهران الكوفي - عن إبراهيم التيمي -وهو إبراهيم بن يزيد بن شريك الكوفي التيمي - عن أبيه عن أبي مسعود الأنصاري قال: (كنت أضرب غلاماً لي فسمعت من خلفي صوتاً: اعلم أبا مسعود! لله أقدر عليك منك عليه، فالتفت فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! هو حر لوجه الله؛ فقال: أما لو لم تفعل للفحتك النار، أو لمستك النار)]، أي: للفحتك النار يوم القيامة، حيث يقتص الله عز وجل لهذا العبد أو لهذا المملوك منك بالعذاب في النار. قال: [وحدثنا محمد بن المثنى وابن بشار واللفظ لـ ابن المثنى قالا: حدثنا ابن أبي عدي عن شعبة عن سليمان]. وإذا روى شعبة عن سليمان؛ فاعلم أنه سليمان بن مهران الأعمش. قال: [عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي مسعود: (أنه كان يضرب غلامه، فجعل يقول: أعوذ بالله! فجعل يضربه). ويبدو أن الغضب كان قد تسلط عليه جداً، حتى أنه لم يسمع استعاذة العبد بالله أول مرة، وقد يغضب الشخص غضباً شديداً فيضرب امرأته أو ولده فيستعيذ بالله ويستجير به وهو لا يكف عنه، وليس هذا من باب عدم تعظيم الله عز وجل وإجلاله، ولكن ثورة الغضب قد تطغى على عقله، فيندفع يضرب ولده ليس تهاوناً بأمر الله تعالى واستخفافاً بهذه الاستعاذة، وإنما فرط الغضب أدى به إلى ذلك، مع إجلاله وتعظيمه لله عز وجل. قال: [(فقال الغلام: أعوذ برسول الله! فتركه)]. والذي يعظم رسول الله فمن باب أولى لابد أن يعظم الله عز وجل، وإذا كان العبد لا يعظم الله فتعظيمه لرسول الله لا ينفعه، وربما استعاذ هذا الغلام برسول الله بعد أن هدأت ثورة سيده شيئاً ما فأدرك استعاذة المضروب أو المملوك. قال: [(فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله لله أقدر عليك منك عليه، قال: فأعتقه)]، أي: أبو مسعود. قال: [وحدثنيه بشر بن خالد أخبرنا محمد بن جعفر عن شعبة بهذا الإسناد، ولم يذكر قوله: (أعوذ بالله)، أو قوله: (أعوذ برسول ال

فوائد من أحاديث باب صحبة المماليك وكفارة من لطم عبده

فوائد من أحاديث باب صحبة المماليك وكفارة من لطم عبده قال العلماء في أحاديث هذا الباب: فيها الرفق بالمماليك، وحسن صحبتهم، وكف الأذى عنهم، كما أجمع المسلمون على أن عتقه بهذا ليس واجباً، وإنما هو مندوب رجاء كفارة ذنبه، فعتق العبد لأجل اللطمة مندوب وليس واجباً، وهذا إجماع. وهذه الأحاديث فيها إزالة إثم ظلمه، ومما استدلوا به لعدم وجوب إعتاقه: حديث سويد بن مقرن بعده؛ لأن الأمر للوجوب في قوله: (فأمره أن يعتقه). والأمر للوجوب إلا أن يصرفه صارف، وهذا الصارف في حديث سويد بن مقرن أنه لما اعتذر عن إعتاق العبد لأنهم ليس لهم خادم إلا هو قال عليه الصلاة والسلام: (فليستخدموها، فإذا استغنوا عنها فليخلوا سبيلها). ولو كان أمراً واجباً حتماً حالاً لما قبل النبي صلى الله عليه وسلم معذرة هؤلاء. وأجمع العلماء أنه لا يجب إعتاق العبد بشيء فعله مولاه به. قال: (واختلفوا فيما كثر من ذلك وكان شنيعاً من ضرب مبرح منهك لغير موجب لذلك، أو حرقه بالنار، أو قطع عضواً له، أو أفسده، أو نحو ذلك مما فيه مثلة -أي: تشويه لبدنه- فذهب مالك وأصحابه والليث إلى عتق العبد على سيده بهذا)، أي: بهذا الضرب أو المثلة، وقال بعض أهل العلم: للعبد على سيده العتق، ويكون ولاؤه له، ويعاقبه السلطان على فعله. وقال جمهور العلماء: لا يعتق عليه، أي: لا يجب عليه، حتى وإن ضربه ضرباً مبرحاً لا يعتقه، أي: ليس ذلك على سبيل الوجوب وإنما هو على سبيل الندب والاستحباب. واختلف أصحاب مالك فيما لو حلق رأس الأمة، أو لحية العبد، واحتج مالك بحديث ابن عمرو بن العاص في الذي جب عبده فأعتقه النبي صلى الله عليه وسلم، أي: قطع ذكره، فأمره النبي عليه الصلاة والسلام بإعتاقه. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (من ضرب غلاماً له حداً لم يأته أو لطمه فإن كفارته أن يعتقه)، فهذه الرواية مبينة أن المراد ضربه بلا ذنب، وليس على سبيل التعليم والتأديب.

التغليظ على من قذف مملوكه بالزنا

التغليظ على من قذف مملوكه بالزنا قال: (باب: التغليظ على من قذف مملوكه بالزنا)، يعني: اتهمه بهذه التهمة دون أن يأتيها العبد. قال: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا ابن نمير -وهو عبد الله - (ح) وحدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا أبي حدثنا فضيل بن غزوان قال: سمعت عبد الرحمن بن أبي نعم حدثني أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: (من قذف مملوكه بالزنا يقام عليه الحد يوم القيامة، إلا أن يكون كما قال)]، أي: يقام عليه الحد يوم القيامة، إلا أن يكون هذا العبد قد زنى بالفعل، واتهام السيد له اتهام صحيح، وقد تحقق منه. قال: [وحدثناه أبو كريب حدثنا وكيع، (ح) وحدثني زهير بن حرب حدثنا إسحاق بن يوسف الأزرق كلاهما عن فضيل بن غزوان بهذا الإسناد، وفي حديثهما: سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم نبي التوبة يقول: (من قذف مملوكه بالزنا يقام عليه الحد يوم القيامة، إلا أن يكون كما قال)]. وهذا الحديث فيه إشارة إلى أنه لا حد على قاذف العبد في الدنيا.

فروق الأحكام بين العبد والحر

فروق الأحكام بين العبد والحر والعبد يفترق عن الحر فيما يتعلق ببعض الأحكام، لا بأصل الأفضلية، فإنه لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود، ولا لحر على عبد، ولا لعبد على حر إلا بالتقوى، وهذا في يوم القيامة، وأما في الدنيا فإنهما يختلفان في بعض الأحكام، فلو أن حراً اتهم حراً بالزنا بغير بينة ولا شهادة فإنه يجلد حد القذف؛ لأنه اتهم عرض الآخرين بغير بينة، بل لو رأى ثلاثة نفر رجلاً يزني بامرأة ورأوا الإيلاج، فلا يحل لهؤلاء الثلاثة أن يقولوا: فلان زان، أو زنا بفلانة، إلا أن يكونوا أربعة؛ لأن هذا من شرط الشهادة في الزنا، فلو قام هؤلاء الثلاثة وشهدوا عند الحاكم أو القاضي بأن فلاناً زنى بفلانة فإنه يجب على القاضي أن يقيم عليهم حد القذف؛ لعدم اكتمال عدد شهود الزنا، ولو حلفوا مع هذه الشهادة أيماناً مغلظة فإن ذلك لا يصلح ولا ينفعهم، بل لابد من بلوغ الأربعة. وأما لو اتهم سيد عبده بالزنا فإنه يقام عليه الحد لكن في يوم القيامة، وأما في الدنيا فلا، وهذا مجمع عليه، ولكن يعزر قاذفه، يعني: يعزر السيد، ولا يقام عليه الحد إلا في الآخرة. والتعزير باب واسع ومتروك لاجتهاد السلطان، بخلاف الحد فإنه لا اجتهاد للحاكم أو السلطان فيه. وإذا بلغه ما يستوجب الحد فليس حراً بأن يقيمه أو لا يقيمه، بل لابد من إقامته؛ لأن هذا حق الله عز وجل، وإذا تاب العبد بينه وبين ربه قبل أن يبلغ الحد إلى السلطان فإنه لا يلزمه إقامة الحد، كما أنه لا يلزم العبد كذلك أن يبلغ أمره إلى السلطان؛ لأنه تكفيه التوبة بينه وبين الله عز وجل. قال: فيه إشارة إلى أنه لا حد على قاذف العبد في الدنيا، وهذا مجمع عليه، ولكن يعزر قاذفه؛ لأن العبد ليس بمحصن، وسواء في هذا كله من هو كامل الرق وليس فيه سبب حرية، وكذلك المدبر.

من أحكام المدبر

من أحكام المدبر والمدبر هو: العبد الذي أعتقه سيده بشرط أن يكون ذلك بعد موته، فهذا العبد يطلق عليه: مدبر، أي: أنه حر في دُبر حياة سيده، وهذا مثل أن يقول شخص: لو مت فداري موقوفة على الأيتام، فما دام حياً فداره ملك له، فكذلك لو قال: عبدي حر إذا أنا مت، أو بعد مماتي عبدي حر، فهذا العبد لا يورث إذا مات سيده؛ لأنه مدبر، يعني: أخذ الحرية في دبر حياة سيده.

من أحكام المكاتب

من أحكام المكاتب والمكاتب عنده سبب للحرية، ولكنه ليس حراً تماماً، فالمكاتب عبد، ولكنه كاتب سيده على أن يطلقه ليعمل ويتكسب؛ ليؤدي لسيده المال المتفق على إعتاقه، فلو كان لشخص عبد فقال له: تعال أكاتبك على أن تدفع لي ألف دينار كل يوم كذا، أو كل أسبوع كذا، أو كل شهر كذا لمدة كذا، فليس له الحرية في التصرف فيه باعتبار نفسه سيداً وباعتبار المكاتب عبداً؛ لأنه بهذه المكاتبة قد أطلق سراحه للعمل والتكسب؛ ليقضي له المال الذي اكتتبا عليه في مقابل حريته وعتقه، هذا هو المكاتب. فالمكاتب ليس حراً تماماً وليس عبداً تماماً، بل هو في مدة المكاتبة حر أو شبه حر، وذلك من أجل أن يتكسب؛ لأن الأصل أن العبد وما يملك ملك لسيده، إلا أن يكون مكاتباً فماله ملكه، يقضي منه عن نفسه لسيده حتى يعتق في نهاية المدة المتفق عليها.

من أحكام أم الولد

من أحكام أم الولد وأم الولد، وهي امرأة رقيق عند سيدها، ولكن سيدها استعملها حتى أنجب منها ولداً، فالأم أخذت الحرية من حرية ولدها، فهناك فرق بين الأمة وأم الولد، فأم الولد كانت في أصلها أمة ليست زوجة، ولكنها أمة، والأمة هي ملك اليمين، وليست حرة، وأما الزوجة فهي حرة، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون:5 - 6]. فملك اليمين هي المملوكة، ولسيدها أن يأتيها أو لا يأتيها، فإن أتاها وأنجب منها فتنتقل بسبب حرية ولدها -لأن الولد هو السبب في عتقها- من أمة إلى أم ولد، ولا تكون حرة تماماً، ولكنها بين الحرية وبين الرق، فهي أم ولد. قال: ومن بعضه حر، أي: ومن بعضه حر وبعضه عبد. هذا في حكم الدنيا، وأما في حكم الآخرة فيستوفى له الحد من قاذفه؛ لاستواء الأحرار والعبيد في الآخرة.

معنى أن النبي صلى الله عليه وسلم نبي التوبة

معنى أن النبي صلى الله عليه وسلم نبي التوبة وقوله: (سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم نبي التوبة)، سمي بذلك لأنه بعث صلى الله عليه وسلم بقبول التوبة بالقول والاعتقاد، وكانت توبة من قبلنا بقتل أنفسهم، وكانت علامة توبة اليهود أن يقوموا على أنفسهم بالتقتيل، ولذلك أورد ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره: أن توبة بني إسرائيل كانت بالقتل، حتى اجتمع سبعون ألفاً منهم في ليلة مظلمة فقاموا على أنفسهم قتلاً حتى قبل الله تعالى توبتهم، وتخيل هذا الشيء. فرحم الله عز وجل هذه الأمة وجعل نبيها نبي التوبة ونبي الرحمة. قال: ويحتمل أن يكون المراد بالتوبة الإيمان والرجوع عن الكفر إلى الإسلام؛ لأن أصل التوبة الرجوع. نكتفي بهذا القدر، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الأسئلة

الأسئلة

الوقت المعتبر للاستثناء في اليمين

الوقت المعتبر للاستثناء في اليمين Q هل يكون الاستثناء قبل أو وقت أو بعد اليمين، أرجو التوضيح من فضيلتكم؟ A الاستثناء في اليمين محل خلاف على هذه الأقوال الثلاثة المذكورة في السؤال، والراجح الاستثناء قبل اليمين أو في أثناء اليمين، أما بعد اليمين بوقت طويل فإن هذا لا يصح.

حكم الصدقة الجارية عن الميت

حكم الصدقة الجارية عن الميت Q هل يجوز أن أعمل صدقة جارية لشخص قد مات من مالي أنا، وهل يكون لي من الأجر شيء؟ A هذا بإذن الله تعالى صدقة جارية لمن فعله تنفعه وتنفع الميت على كل حال. والله أعلم.

حكم قراءة التشهد كاملا في التشهد الأوسط

حكم قراءة التشهد كاملاً في التشهد الأوسط Q ما حكم قراءة التشهد الذي بعد الركعتين كاملاً في الصلاة الرباعية والثلاثية؟ A أعتقد أن قراءة التشهد إلى قولك: إنك حميد مجيد، في التشهد الأول والثاني سواء، وهذا مذهب الشافعية والظاهرية، وهو الذي يترجح لدي لقوته، وأما من فرق بين التشهد الأول والثاني في الصلاة غير الثنائية وقال: إن التشهد إلى منتصفه في التشهد الأول، وفي الثاني إلى قوله: إنك حميد مجيد فتقسيمه هذا ليس عليه دليل، والتشهد كله مذكور في حديث ابن عباس وابن مسعود وغيرهما وفي نهايته: (أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله). ثم علمهم النبي عليه الصلاة والسلام الصلاة والسلام عليه لما نزل قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وسألوه: (يا رسول الله! السلام عليك قد عرفناه، فكيف نصلي عليك؟ قال: قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم) إلى آخر هذه الصلاة المعروفة المحفوظة، كما أمرهم صلى الله عليه وسلم بجعلها في الصلاة، فانضمت إلى ما كان أولاً. فأما من ضمها في التشهد الأخير وأسقطها في التشهد الأول فيحتاج إلى حجة وبرهان، ولا برهان ولا حجة على هذا التقسيم. فالذي يترجح لي من قول أهل العلم: أن التشهد يقال كاملاً في التشهد الأول والثاني إلى قولك: إنك حميد مجيد، ويزاد في التشهد الثاني الدعاء. والله تعالى أعلم. وهذا نفس قراءة الفاتحة إذا كنت تعتقد أن الفاتحة واجبة القراءة خلف الإمام، فإذا صليت خلف إمام أسرع في القراءة، أو أدركت الإمام في الركوع فإن الوجوب يسقط عنك لفوات المحل، وكذلك لو صليت خلف إمام يعجل بقراءة التشهد، أو يقرأ نصفه ويقوم فلا حرج عليك إذا قرأت من التشهد القدر الذي يسمح به الجلوس ومتابعة الإمام بعد ذلك في القيام إلى الثالثة، فلا حرج عليك حينئذ لفوات محل الوجوب كذلك. وأما إذا صليت أنت بالناس فإنما يلزمك أن تعبد الله تعالى بما يترجح لديك.

حكم ضرب الزوجة وأهمية التربية

حكم ضرب الزوجة وأهمية التربية Q هل يجوز للزوج ضرب وجه الزوجة مداعباً؟ وإذا ضرب وجه زوجته جاداً فهل هناك كفارة لذلك، وجزاكم الله خيراً؟ A هذا إثم عظيم يحتاج للتوبة، وإلى طلب المسامحة من المضروب، وأما الضرب للتأديب والتعليم في غير الوجه فإنه يجوز في كل حال. وأوصي نفسي كما أوصي الجميع بالرفق بالنساء إلا فيما يتعلق بتأديبهن وتعليمهن، وهذا الأمر جاد وخطير، وهو يؤدي إلى التفلت، وليس من التعليم ولا التأديب. فلا يصح للرجل الذي رفع شعار التوحيد وشعار الالتزام أن يضرب في الوجه؛ لأن الأمر خطير جداً، وأشرف مكان في البدن الوجه. والحالات التي يتربى عليها المرء لها تأثير في شخصيته كثيراً، فإذا تربى الولد أو الغلام أو الطفل الصغير على الرقة والكرامة والسيادة ولم يؤذ في ضرب ولا إيذاء ولا شتم فإنه يكبر بهذه الأخلاق، ولا يجرؤ أحد قط أن يضربه أو يشتمه فضلاً أن يلطمه، ولذلك لو صار سيداً في مكان من الأمكنة أو في محل الرياسة والحكم أو غير ذلك فإنه لا يقبل بإيذاء الغير، وأما إذا تربى التربية الخطأ، مثل اللطم في الوجه أو غير ذلك، فسيكبر بهذه الأخلاق ويكون ضعيف الشخصية، ويذم عليه ذلك. فالطريقة التي يتربى بها الطفل تؤثر فيه كثيراً جداً، وهذا يدل على أهمية التربية.

حكم شهادة الفاسق

حكم شهادة الفاسق Q ما حكم شهادة الفاسق؟ A الجمهور على عدم جوازها، بخلاف الأحناف فإنهم قالوا بصحة هذه الشهادة، والراجح اشتراط العدالة، أما وقد عمت البلوى فإن شهادة الفاسق الآن معمول بها في القضاء كله، وأما من جهة الفقه فالمسألة فيها نظر.

حكم من مات وعليه صوم من رمضان

حكم من مات وعليه صوم من رمضان Q توفيت أختي في شهر رمضان وكانت مريضة ولم تستطع الصوم في شهر رمضان بأكمله، فما هي الفدية على ذلك؟ A هذه المريضة التي ماتت -يرحمها الله عز وجل- ينظر كم صامت في هذا الشهر وكم بقيت فيه، لأن السائلة تقول: ماتت في رمضان، فإذا كانت ماتت مثلاً في يوم عشرين وقد صامت عشرة أيام وبقي عليها عشرة، فهذه السائلة -وهي أختها الحية- بالخيار، فإما أن تصوم عنها هذه الأيام العشرة أو تطعم عنها في كل يوم مسكيناً. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

كتاب الأيمان والنذور - إطعام المملوك مما يأكل، وإلباسه مما يلبس، ولا يكلفه ما يغلبه

شرح صحيح مسلم - كتاب الأيمان والنذور - إطعام المملوك مما يأكل، وإلباسه مما يلبس، ولا يكلفه ما يغلبه لقد جاءت الشريعة الإسلامية بالإحسان إلى العبد المملوك والرفق به، ومراعاة حاله، وعظمت أجر المملوك القائم بحقوق الله وحق سيده، وجعلت له أجرين على ذلك.

باب إطعام المملوك مما يأكل، وإلباسه مما يلبس، ولا يكلفه ما يغلبه

باب إطعام المملوك مما يأكل، وإلباسه مما يلبس، ولا يكلفه ما يغلبه

شرح حديث أبي ذر في كيفية معاملة المملوك في المأكل والملبس وعدم تكليفه ما لا يطيق

شرح حديث أبي ذر في كيفية معاملة المملوك في المأكل والملبس وعدم تكليفه ما لا يطيق قال المصنف رحمه الله: [حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع -وهو ابن الجراح الرؤاسي - حدثنا الأعمش عن المعرور بن سويد قال: (مررنا بـ أبي ذر بالربذة -وهي اسم مكان- وعليه برد وعلى غلامه مثله)]، والبرد هو الثوب الواحد، بخلاف الحلة فهي ثوبان، وأثمن وأنفس ثياب العرب الحلل، بخلاف البرد فإنها من عامة لباس العرب. وفي الأثر أن ابن عباس سأل عكرمة مولاه عن معنى آية فلم يعرفها، فربطه في سارية المسجد ثلاثة أيام حتى أتى بالمعنى على وجهه، قال عكرمة: فحلني ابن عباس وأهداني حلة، فكانت عندي تساوي الدنيا وما فيها. قال: [(وعليه برد وعلى غلامه مثله، فقلنا: يا أبا ذر! لو جمعت بينهما كانت حلة -أي: لو أخذت برد غلامك وضممته إلى بردك لكانت حلة- فقال: إنه كان بيني وبين رجل من إخواني -أي: من المسلمين- كلام، وكانت أمه أعجمية -أي: ليست عربية- فعيرته بأمه -أي: سبته وشتمته بأمه- فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلقيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا ذر! إنك امرؤ فيك جاهلي)]. والجاهلية عند الإطلاق تعني الكفر، وهي هنا ليست بمعنى الكفر، وإنما هي معصية، ولذلك أخرج البخاري هذا الحديث في كتاب الإيمان وعنون له: باب المعاصي من أمر الجاهلية، أي: من أخلاق الجاهلية وليست من أخلاق الإسلام. قال: [(قلت: يا رسول الله! من سب الرجال سبوا أباه وأمه)]، يعني: يا رسول الله! هو سبني، فأنا سببته، فلما سبني في شخصي سببته بأمه وهو المعتدي أولاً، فظن أبو ذر أن ابتداء وقوع السب عليه يؤهله ويجوز له أن يتعدى هو في سب الآخرين، فالرجل سبه أولاً، ثم قام أبو ذر بسب هذا الرجل بأمه وعيره وشتمه بأمه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: [(يا أبا ذر! إنك امرؤ فيك جاهلية، هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فأطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون، ولا تكلفوهم ما يغلبهم؛ فإن كلفتموهم -أي: ما يغلبهم وما لا يطيقون- فأعينوهم)]. حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير -وهو ابن معاوية بن حديج الجعفي - (ح) وحدثنا أبو كريب -وهو محمد بن العلاء الهمداني - حدثنا أبو معاوية -وهو محمد بن خازم الضرير - (ح) وحدثنا إسحاق بن إبراهيم -وهو المعروف بـ ابن راهويه - أخبرنا عيسى بن يونس -وهو ابن أبي إسحاق السبيعي - كلهم يروي عن الأعمش بهذا الإسناد]، يعني: عن الأعمش عن المعرور بن سويد عن أبي ذر. [وزاد في حديث زهير وأبي معاوية بعد قوله: (إنك امرؤ فيك جاهلية)، قال: قلت -أي: أبو ذر - على حال ساعتي من الكبر؟]، يعني: كأنه استنكر أن يكون فيه خصلة من خصال الجاهلية بعد تقدمه في السن، وبعد هذا العمر الطويل الذي قضاه في الإسلام هل لا يزال فيه بعض أخلاق الجاهلية، فقال: (على حال ساعتي من الكبر يا رسول الله؟!) يعني: هل يعقل بعد هذه المدة وبعد هذا العمر كله في الإسلام لا تزال بعض أخلاق الجاهلية فيَّ؟! [قال: (قلت: على حال ساعتي من الكبر؟ قال: نعم)، وفي رواية أبي معاوية: (نعم، على حال ساعتك من الكبر)، وفي حديث عيسى: (فإن كلفه ما يغلبه فليبعه)]. وفي الحقيقة هذا اللفظ فيه تصحيف، والذي يترجح هو رواية معظم الرواة: (فإذا كلفه ما يغلبه فليعنه). [وفي حديث زهير: (فليعنه عليه)، وليس في حديث أبي معاوية: (فليبعه)، ولا (فليعنه)، انتهى عند قوله: (ولا يكلفه ما يغلبه). حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار -واللفظ لـ ابن المثنى - قالا: حدثنا محمد بن جعفر -وهو المعروف بـ غندر - حدثنا شعبة -وهو ابن الحجاج العتكي - عن واصل الأحدب -وهو واصل بن حيان الأحدب الأسدي الكوفي - عن المعرور بن سويد قال: (رأيت أبا ذر وعليه حلة وعلى غلامه مثلها، فسألته عن ذلك؟ قال: فذكر أنه ساب رجلاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم -والمسبوب هو بلال بن رباح - فعيره بأمه، قال: فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له -أي: فاشتكى المسبوب سبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم- فقال النبي صلى

شرح حديث أبي هريرة في حق المملوك على سيده

شرح حديث أبي هريرة في حق المملوك على سيده قال: [وحدثني أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن سرح أخبرنا ابن وهب -وهو عبد الله بن وهب المصري - أخبرنا عمرو بن الحارث -وهو المصري- أن بكير بن عبد الله بن الأشج حدثه عن العجلان مولى فاطمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (للمملوك طعامه وكسوته، ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق)]. فقوله: (للمملوك)، أي: على سيده، فله حق له واجب في ذمة سيده، وهو إطعامه وكسوته، ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق. قال: [وحدثنا القعنبي قال: حدثنا داود بن قيس -وهو داود الفراء الدباغ أبو سليمان القرشي مولاهم المدني- عن موسى بن يسار -وهو المطلبي مولاهم المدني- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا صنع لأحدكم خادمه طعامه ثم جاءه به وقد ولي حره ودخانه)]، يعني: إذا صنع الخادم لك طعاماً أو شراباً وقد عانى من حره ودخانه وإعداده وصنعته، ومن فعل هذا فلا شك أنه قد شم هذا الطعام، وتاقت نفسه إليه، وهو لم يأكل منه بعد. قال: [(فليقعده معه -وهذا أمر للسيد أن يقعده معه- فليأكل، فإن كان الطعام مشفوهاً قليلاً)]، ومعنى مشفوهاًَ، أي: امتدت وكثرت عليه الشفاه، والشفاه جمع شفه، بمعنى: أن الأيدي والأفواه التي تأكل من هذا الطعام كثرت جداً بحيث يصير الطعام بالنسبة إلى من اجتمع عليه قليلاً، حتى وإن كان في أصله كثيراً، مثل أن يعد طعاماً يكفي خمسة، ثم يجتمع عليه خمسون، فيكون هذا الطعام قليلاً بالنسبة لهم، ولو وضع لثلاثة لفضل عنهم؛ لأنه كثير، ولو وضع لعشرين فسيكون قليلاً؛ لأنه لم يعد لهذا العدد، وإنما أعد لأقل من ذلك. قال: [(فإن كان الطعام مشفوهاً قليلاً فليضع في يده منه أكلة أو أكلتين)]، يعني: يضع في يد الخادم لقمة من هذا الطعام أو لقمتين. [قال داود: يعني لقمة أو لقمتين. قال النووي: (الظاهر أنه كان عبداً تحت أبي ذر)؛ لأنه قال: (كان بيني وبين بعض إخواني كلام)، أو (رجل من إخواني كلام). قال: (والظاهر أنه كان عبداً، وإنما قال: (من إخواني)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (إخوانكم خولكم، فمن كان أخوه تحت يده) إلى آخر الحديث. وأما قوله: (إنك امرؤ فيك جاهلية)، أي: هذا التعبير من أخلاق الجاهلية). فهذا الذي قلته وعيرت به أخاك هذا من أخلاق الجاهلية، ففيك خلق من أخلاقهم، وينبغي للمسلم ألا يكون فيه شيء من أخلاق الجاهلية.

نقاش الشيخ مع أحد أفراد جماعة التكفير والهجرة

نقاش الشيخ مع أحد أفراد جماعة التكفير والهجرة وفيه النهي عن التعيير وتنقيص الآباء والأمهات، وإثبات أن ذلك من أخلاق الجاهلية. وهذا اللفظ ليس على ظاهره كما توهمه الخوارج في هذا الزمان وقبل هذا الزمان من أن كل لفظ فيه براءة الذمة أو فيه: (ليس منا)، أو فيه ذكر للجاهلية، أو غير ذلك من هذه الألفاظ يحمل على الظاهر، ويخرجون صاحبه من الملة. وعندما تناقشت مع بعض قيادات جماعة التكفير قال: لو أننا حملنا هذه النصوص على غير الظاهر لعطلنا نصوصاً كثيرة، فانظر كيف دخل عليهم الشيطان، فقال: إن النصوص التي يقول فيها عليه الصلاة والسلام: (ليس منا من فعل كذا)، أو (من فعل كذا فقد برئت منه الذمة) لا بد من حملها على ظاهرها، وأن من فعل كذا فليس من المسلمين، يعني: من الكافرين، فقلت: لم يحملها هذا المحمل إلا الخوارج، قال: هم أعلم الأمة، قلت: لا يشاركك في هذا القول أحد، أي: من أهل السنة والجماعة، بل علماء الأمة قاطبة لهم تأويلات كثيرة جداً لهذه الأحاديث، وليس هذا منها، بل ما أولوا ظواهر هذه النصوص إلا رداً لهذه المقالة التي تقولها أنت الآن، فقال: إن معنى قول: من فعل كذا ليس منا، أي: ليس من أخلاقنا ولا من هدينا ولا من طريقتنا ولا من سنتنا تعطيل للنص النبوي، كما أنه من باب أولى تعطيل لكلام الله عز وجل، فقلت: إذا كان الأمر كذلك فماذا تقول في أبي ذر الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إنك امرؤ فيك جاهلية)؟ قال: كافر! قلت: هذا الرجل الذي هو أمة وحده، وله من المناقب والشمائل والفضائل ما يعجز عنه الآلاف من أصحابه عليه الصلاة والسلام، وله المنزلة العليا والمكانة السامية، وهو إن شاء الله تعالى من أهل الجنة، كيف تستبيح أن تطلق عليه هذا؟ ثم قرأت عليه ترجمة أبي ذر من كتاب سير أعلام النبلاء، وغيرها من الكتب التي ترجمت للصحابة، كمعرفة الصحابة لـ أبي نعيم، وكتاب الحافظ ابن حجر الإصابة في تمييز الصحابة وغيرها. فقال: كل هؤلاء ليس لهم عبرة عندي، أو كلمة نحو هذه الكلمة؛ لأنه لا يعبأ ولا يحترم إلا رأسه وعقله فقط، قال: والمعلوم من لفظ الجاهلية عند الإطلاق أنه بمعنى الكفر، فقوله: (إنك امرؤ فيك جاهلية) يعني: فيك كفر، وهكذا العلم عند هؤلاء (1+1 =2) ليس له تأويل ولا تفسير، وهذا بلا شك كلام باطل. وخلاصة كلامي مع هذا المنازع: أنني حكمت بيني وبينه أحد العلماء في الأردن في سنة (1985م)، وهو الشيخ محمد إبراهيم شقرة في مكتبه في وزارة الأوقاف، وقلت: بيني وبين هذا خصومة، وأصلها: حديث أبي ذر، فقد قال فيه كذا، فاحكم بيننا. فقال: يا بني! أنت من التكفير؟ قال: أنا من جماعة المسلمين. قال: لا عليك من الأسماء، الآن عرفت مذهبك. فقلت: هو قال لي كذا وكذا. قال: لا، أنا ما قلت هذا. قلت: إذاً تقسم على كتاب الله عز وجل ثلاثاً أنك ما قلت هذا. قال: أنا لا أقسم. قال الشيخ: إنما يلزمك القسم؛ لأن هذا معرض التهمة، فيلزمك القسم. فلما أوشك على القسم هدده الشيخ وخوفه بالله عز وجل. فقال: أنا قلت. فقلت له: على منهجك فأنت كافر. قال: ولم؟ قلت: لأنك كذبت، والكذب نفاق أو صفة من صفات النفاق، قال عليه الصلاة والسلام: (ثلاث من كن فيه كان منافقاً خالصاً: إذا حدث كذب)، ومن كانت فيه واحدة منها كانت فيه خصلة من نفاق، والنفاق كفر. فقال له الشيخ: ماذا تقول الآن؟ وأنا في الحقيقة في تسلسل النقاش أوافق أبا الأشبال أنك تكفر بهذا، فما موقفك؟ قال: وأنا أوافقكم. وسهل جداً الإيمان والكفر عند هؤلاء.

مناقشة الشيخ محمد شقرة مع زعيم جماعة التكفير

مناقشة الشيخ محمد شقرة مع زعيم جماعة التكفير وقد أتى زعيمهم الكبير فناقش الشيخ الألباني ثلاثة أيام، وفي نهاية الأمر ضاق الشيخ منه ففتح شباك الغرفة -عليه رحمة الله- وقال له: يا شيخ محمود! أترى أن هؤلاء الناس الذين في الشارع كفار؟ فقال: والناس لماذا؟ انظر نفسك أنت!! ثم قال الشيخ بعد ثلاثة أيام: هذا فراق بيني وبينك، انتهى الأمر. فاصطحبته إلى الشيخ أبي مالك محمد بن إبراهيم شقرة، وكان للشيخ محمد هيبة عظيمة جداً، وهو رجل من أهل العلم الأثبات، وكنت على اتصال دائم في كل يوم لمعرفة نتيجة مباحثات اليوم كله مع الشيخ الألباني، فقال الشيخ محمد: تعالوا غداً إلى مكتب الأوقاف، فذهبت به في الغد إليه، فقال له الشيخ: اسمع، الكلام معنا لا بد أن يكون محدداً ومركزاً، ولا نريد خروجاً عن الموضوع. قال: أفعل. قال: لماذا المجتمع كافر؟ قال: لأنه يتعامل مع الحكام الكفرة. قال الشيخ: يعني: من تعامل مع الكفار يكفر؟ قال: نعم. قال: فقد تعامل النبي عليه الصلاة والسلام مع اليهود، أما علمت أنه مات عليه الصلاة والسلام ودرعه مرهونة عند يهودي؟ فاستعظم الأمر، وقال: يا شيخ! دعنا من هذه. قال: فأنت عندما أتيت إلى الأردن كيف أتيت؟ قال: جهزت لي جوازاً كما يفعل الناس. قال: أظن أنه إذا كانت الحكومة كافرة فلا أقل من أن يتركز الكفر في وزارة الداخلية التي أخذت منها الجواز، فأنت تعاملت مع الكفار، صحيح أم لا؟ قال: صحيح. فقال له: وهذا أليس كفراً؟ قال: بلى، هذا كفر. قال الشيخ: هذه الثياب التي تلبسها من الذي صنعها؟ مصر أم غيرها؟ فأخذت أنظر إلى الثوب فقلت: والله يا شيخ! واضح أنه ياباني. فقال: بلاد اليابان دولة كافرة أم لا؟ قال: كافرة. فقال الشيخ: ومن الذي حاكها وصنعها؟ وهل صنعت في مصر؟ قال: نعم. قال: وهل أنت متأكد أن الذي صنعها واحد من جماعتك أم من عامة الناس؟ قال: من عامة الناس. فقال: فأنت قد لبست ثوباً صنعه كافر. ثم قال: وماذا ركبت إلى هنا؟ هل ركبت حماراً؟ قال: لا، ركبت طيارة. قال: ولم شاركت هؤلاء الكفار في سياراتهم وطائراتهم؟ أليس هذا كفراً؟ قال: بلى. وظل الشيخ يعدد له في كل حياته حتى أسود وجهه وقال: يا شيخ! أنا لا أخفيك أني والله كافر. وهكذا قال! ولا يمكن أن يبقى العلم بهذا الشكل أبداً، ولا يمكن أن يصلح هذا ديناً، ومن قال: إن هذا دين الله عز وجل الذي أنزله من السماء فقد أعظم على الله الفرية، ولا يمكن أبداً أن يقاس الدين بالقلم والمسطرة نهائياً، فهذا ليس دين الله عز وجل، بل دين الله يؤخذ من أفواه أهل العلم، أما الاجتهادات الشخصية والفردية وإغلاقك على نفسك باب بيتك ثم تقرأ وتفهم كما يحلو لك فهذا أول طريق الانحراف.

حكم الرد على الشاتم بشتم أمه وأبيه

حكم الرد على الشاتم بشتم أمه وأبيه قول أبي ذر: قلت: يا رسول الله! من سب الرجال سبوا أباه وأمه، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر! إنك امرؤ فيك جاهلية فمعناه أن أبا ذر اعتذر عن سبه أم ذلك الإنسان بقوله: إنه سبني يا رسول الله! ومن سب إنساناً سب ذلك الإنسان أبا الساب وأمه، فأنكر عليه النبي عليه الصلاة والسلام ذلك وقال له: لا، هذه من أخلاق الجاهلية، فسبك أباه إذا سبك من أخلاق الجاهلية، وأما لو سبك فسببته لكان تعادلاً، وإن عفوت فهو أفضل، وأما أن تتعدى إلى الوالدين فهو تعد، وهذا كأن يسبك إنسان فتضربه، وهذا بلا شك مقابلة السيئة بأعظم منها، فسب الرجل أبا الساب لا شك أنه تعد في القصاص، ولذلك قال: هذا من أخلاق الجاهلية، فلا يباح للمسبوب إلا أن يسب الساب نفسه بقدر ما سبه، ولا يتعرض لأبيه ولا لأمه، وهذه آداب عظيمة نحتاجها في حياتنا اليومية.

الإحسان إلى العبد المملوك

الإحسان إلى العبد المملوك وقوله: (هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فأطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم) أي: المماليك، والأمر بإطعامهم مما يأكل السيد وإلباسهم مما يلبس محمول على الاستحباب لا على الإيجاب، وكأن المعنى: أطعموهم وألبسوهم، ولا تجعلوهم عرايا ولا جوعى، ولا يلزم إذا أتى مثلاً السيد ببدلة له بألف جنيه أو بسبعمائة جنيه أن يعطي العبد مثلها، بل يأتي له بثوب متوسط جديد ويكفي، ولا بأس بذلك، المهم ألا يدعه عرياناً. وإذا صنع طعاماً فليطعمه من هذا الطعام، أو على الأقل يطعمه مما هو من أمثاله على قدر حاجته، وهذا الأمر للسيد ليس على سبيل الوجوب بل على سبيل الاستحباب، وهذا إجماع المسلمين. وأما فعل أبي ذر في أنه ألبس غلامه برداً في مقابلة برده فإنما فعل ذلك على سبيل الاستحباب لا على سبيل الوجوب. والذي يجب على السيد نفقة المملوك وكسوته بالمعروف بحسب البلدان والأشخاص، وسواء كان ذلك من جنس نفقة السيد ولباسه أو دونه أو فوقه، ولو قتر السيد على نفسه تقتيراً خارجاً عن عادة أمثاله إما زهداً وإما شحاً فلا يحل له التقتير على المملوك وإلزامه موافقته إلا برضاه. ولو كان السيد رجلاً زاهداً متقشفاً وليس له علاقة بالدنيا نهائياً، ولا يأكل إلا قليلاً ولا يلبس إلا اليسير من اللباس فليس له إلزام عبده بهذا التقشف والزهد، وإنما يطعمه ويلبسه على قدر ما عنده من مال، يعني: أن العبد الذي يعمل خادماً أو مملوكاً لدى هذا السيد ربما يأمر الشرع سيده بأن يلبسه ويطعمه أفضل مما يلبس ويطعم كثير من الأحرار؛ لأن هذا هو الذي يناسب المستوى المادي لهذا السيد. وأما اختيار السيد نفسه طريقاً آخر للزهادة فهذا شيء يرجع إليه هو، ولا يحل لهذا السيد أن يحمل عبده أو مملوكه على التقشف والزهادة إلا إذا كان ذلك برضى من العبد. وأجمع العلماء على أنه لا يجوز للسيد أن يكلف العبد من العمل ما لا يطيقه، فإن فعل ذلك لزمه إعانته إما بنفسه أو بغيره، كأن يشتري رقيقاً آخر لمعاونة هذا العبد، أو غير ذلك من أوجه المساعدة. وأما قوله: (للمملوك طعامه وكسوته، ولا يكلف من العمل إلا ما يطيقه) فهو موافق لحديث أبي ذر السابق. وقوله: (إذا صنع لأحدكم خادمه طعامه ثم جاءه به وقد ولي حره ودخانه، فليقعده معه فليأكل فإن كان الطعام مشفوهاً قليلاً فليضع في يده منه أكلة أو أكلتين)، قال داود: يعني: لقمة أو لقمتين. فأما الأكلة فهي اللقمة، وأما المشفوه فهو القليل، أي: بالنسبة إلى من اجتمع عليه من الناس. وفي هذا الحديث: الحث على مكارم الأخلاق، والمواساة في الطعام، ولا سيما في حق من صنعه أو حمله؛ لأنه ولي حره ودخانه، وتعلقت به نفسه، وشم رائحته، وهذا كله محمول على الاستحباب لا على الوجوب. ومن الأخلاق النادرة جداً التي تجدها في هذا الزمان: أن يكون لشخص خدم يصنعون له طعاماً، وتكون رائحته شهية جداً تتعلق به النفوس، ثم لا يدعوهم إليه، وقد جعل الشرع له مخرجاً، فإذا كان قد دعا أناساً ولديه طباخون وخدم يخدمونه في بيته، وقد أعدوا المائدة للطعام، وهو يستنكف أن يدعو العبيد ليأكلوا معه على نفس المائدة فلا بأس أن يناولهم من هذا الطعام، يعني: يعد لهم طعاماً أو سفرة يأكلون منها ولو كانت بجوار المائدة أو في مكان آخر، ولا يحرم من أعدها ومن صنعها منها.

باب ثواب العبد وأجره إذا نصح لسيده، وأحسن عبادة الله

باب ثواب العبد وأجره إذا نصح لسيده، وأحسن عبادة الله قال: (باب ثواب العبد وأجره إذا نصح لسيده وأحسن عبادة الله)، ومعنى نصح: أخلص في الخدمة لسيده. قال: [حدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك عن نافع عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد إذا نصح لسيده وأحسن عبادة الله، فله أجره مرتين)]، أي: مرة على حسن عبادته لله، ومرة على حسن خدمته لسيده. [وحدثنا زهير بن حرب ومحمد بن المثنى قالا: حدثنا يحيى -وهو ابن سعيد القطان -، (ح) وحدثنا ابن نمير -وهو محمد - قال: حدثنا أبي، (ح) وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا ابن نمير -وهو عبد الله - وأبو أسامة -وهو حماد بن أسامة - كلهم عن عبيد الله -وهو ابن عمر العمري - (ح) وحدثنا هارون بن سعيد الأيلي حدثنا ابن وهب حدثني أسامة جميعاً عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديث مالك السابق. حدثني أبو الطاهر وحرملة بن يحيى قالا: أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس -وهو ابن يزيد الأيلي - عن ابن شهاب الزهري قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (للعبد المملوك المصلح أجران)]. والمصلح ضد المفسد، وهذا يدل على أن هذا العبد لا يستحق الأجرين إلا إذا كان مملوكاً مصلحاً، أي: مخلصاً ناصحاً لسيده. [(والذي نفس أبي هريرة بيده لولا الجهاد في سبيل الله والحج وبر أمي لأحببت أن أموت وأنا مملوك)]. وهذا الكلام قاله أبو هريرة، وفي بعض الروايات عند أبي داود قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (للعبد المملوك المصلح أجران، والذي نفسي بيده لولا الجهاد في سبيل الله والحج لأحببت أن أموت مملوكاً). وظاهر هذه الرواية لا تدل على الإدراج، والإدراج هو: إدخال كلام في كلام آخر بياناً للمعنى، أو إظهاراً لحكم من الأحكام، أو إثبات أمنية متعلقة بنص الحديث. وقوله عليه الصلاة والسلام: (للعبد المملوك المصلح أجران)، هذا الكلام يمكن أن يصدر من النبي عليه الصلاة والسلام ولا حرج فيه. ثم قوله: (والذي نفسي بيده) يدل على أنه تابع للحديث، ولكنه كلام مدرج، أي: ملحق بالكلام الأصل وليس منه. فالكلام الأول: (للمملوك المصلح أجران) كلام النبي صلى الله عليه وسلم قطعاً، وأما قوله: (لولا الجهاد وبر أمي لأحببت أن أموت مملوكاً) فلا يمكن أن يكون هذا من كلام النبوة، فقوله: (لولا الجهاد والحج) يمكن أن يصدر هذا الكلام من النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن المستحيل أن يقول: (وبر أمي)؛ لأن أمه كانت قد ماتت منذ زمن أيام أن كان صغيراً، وكذلك لا يتمنى نبي مرسل أن يكون مملوكاً؛ لأن الثابت أن الله تعالى ما أرسل نبياً ولا رسولاً إلا من أشراف وأحساب وأنساب قومه، والرق ينزل العبد، بخلاف الحرية، والله تعالى لم يرسل رسولاً حراً فحسب، بل أرسله من أفضل أحرار قومه، ومن أحسنهم وأشرفهم نسباً، فكيف يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (وبر أمي لأحببت أن أموت مملوكاً). كما أنه لم يكن مملوكاً قط صلى الله عليه وسلم. قال سعيد: [وبلغنا أن أبا هريرة لم يكن يحج حتى ماتت أمه لأجل صحبتها]. وسعيد بن المسيب هو زوج ابنة أبي هريرة، والذي يترجح لدي أن هذا الكلام وصله بلاغاً عن أبي هريرة عن طريق امرأته، يعني: ابنة أبي هريرة التي كانت تحت سعيد، فهي التي أخبرت سعيداً أن أبا هريرة لم يكن يحج حتى ماتت أمه؛ لأجل صحبتها، وهذا محمول على حج النافلة دون حج الفريضة؛ لأن أبا هريرة رضي الله عنه أسلم في العام السابع من الهجرة، في أعقاب غزوة خيبر أو في أثنائها، وحج مع النبي عليه الصلاة والسلام حجة الوداع، وكانت هي الفريضة لـ أبي هريرة ولم يكن حج قبلها، فيكون معنى كلامه (لولا الجهاد في سبيل الله والحج -أي: حج النافلة- وبر أمي لأحببت أن أموت وأنا مملوك)؛ وهذا طمعاً في أن يكون له أجران: الأجر الأول: أجر عبادة ربه. والأجر الثاني: أجر خدمة سيده. فهو لم يتمن الرق إلا لأجل الثواب. وأما قوله: (إن أبا هريرة لم يكن يحج حتى ماتت أمه لصحبتها)، فهذا يدل على وجوب بر الوالدين. وقد تكلم الشافعية حول ما إذا تعارضت حاجة الوالدين مع حج

باب من اعتق شركا له في عبد

باب من اعتق شركاً له في عبد قال: (باب من أعتق شركاً له في عبد). والعبد يمكن أن يجتمع فيه عدة أسياد أو شركاء، ويمكن أن يكون سلماً لرجل، أي: ليس له فيه شريك، فإذا قام أحد الشركاء بإعتاق نصيبه في هذا العبد فيكون بعض العبد حراً، والبعض الآخر رقيقاً، فيقوم العبد، فإذا كان في مقدور من أعتق شركه أن يعتق الباقي من ماله فيجب عليه ذلك؛ حتى لا يتضرر العبد ولا بقية الشركاء.

شرح حديث ابن عمر فيمن أعتق شركا له في عبد

شرح حديث ابن عمر فيمن أعتق شركاً له في عبد قال: [حدثنا يحيى بن يحيى قال: قلت لـ مالك: حدثك نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أعتق شركاً له في عبد فكان له مال يبلغ ثمن العبد -أي: فكان لمن أعتق نصيبه مال يبلغ ثمن العبد- قوم عليه قيمة العدل -أي: مثل قيمة العبد من غير وكس ولا شطط، ومن غير نقصان ولا جور ولا زيادة- فأعطى شركاءه حصصهم، وعتق عليه العبد؛ وإلا فقد عتق منه ما عتق)]، يعني: لا بد من شيء من اثنين، فإما أن يعتق الباقي كأن يكون له ربع العبد، وهذا العبد بألف دينار مثلاً، فأعتق نصيبه - أي: المائتين والخمسين ديناراً- فإذا كان هذا المعتق صاحب مال قوم هذا العبد، ودفع لكل شريك من هؤلاء مائتين وخمسين ديناراً، ويكون هذا السيد الذي أعتق هذا العبد قد أعتق رقبة في سبيل الله، والعتق من أكبر الطاعات لله عز وجل، فمن أعتق شركاً له في عبد قوم عليه العبد إن كان صاحب مال، فيعطي بقية الشركاء حصصهم، ويعتق عليه العبد، يعني: يكون هذا العبد عتيقه، ويكون ولاؤه لهذا الرجل وحده، وليس للأربعة. وإذا لم يكن صاحب مال فيكون قد أعتق حصته فقط، ويكون الثلاثة الباقون شركاء في ثلاثة أرباع العبد، يعني: بعد أن كان هذا العبد مكلفاً بخدمة أربعة يكلف الآن بخدمة ثلاثة. قال: [حدثنا ابن نمير حدثنا أبي حدثنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أعتق شركاً له من مملوك فعليه عتقه كله إن كان له مال يبلغ ثمنه -وهذا شرط- فإن لم يكن له مال عتق منه ما عتق)]، يعني: نصيبه فقط. وفي رواية ابن عمر: (من أعتق نصيباً له في عبد فكان له من المال قدر ما يبلغ قيمته قوم عليه قيمة عدل، وإلا فقد عتق منه ما عتق). وفي رواية قال عبد الله: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أعتق عبداً بينه وبين آخر -أي: في شركة بينه وبين آخر- قوم عليه في ماله قيمة عدل، لا وكس ولا وشطط -والوكس: البخس والنقص والشطط: الزيادة والجور- ثم عتق عليه في ماله إن كان موسراً)]، ودائماً الشركاء يدور أمرهم بين الوكس والشطط. فمثلاً: إذا كان اثنان أصحاب محل، أو كانا وارثين ولهما أخت ففي الغالب يأخذ الولدان الميراث، ويزعمان أنهما استرضيا الأخت الوارثة، وأن البنت لا أصول لها، يعني: أن البيت ليس لها نصيب فيه، والأرض ليس لها نصيب فيها، ويقولان: نعطيها قرشين وينتهي الأمر، فالبنات في هذا الزمان بالذات لا نصيب لهن في الميراث وهذا ظلم عظيم جداً. والعجيب أن الرجال الذين يأخذون الميراث ويذهبون به دون البنات يبتلون بأخبث الأمراض في أنفسهم وأهليهم وأولادهم، ويبتلون كذلك بالفشل في حياتهم وفي خاصة أنفسهم، ولا يعتبر أحد، ثم يموت ويأتي ولده فيكرر نفس المأساة التي فعلها أبوه، ويأتي الحفيد ويكرر نفس المأساة التي فعلها أبوه وجده، ولا يعتبر مع أنه ذاق السم الزعاف في خدمة والده وهو مريض وقعيد وطريح الفراش عشرات السنين، ويعلم أن هذا بسبب الظلم، وأنها عقوبة من السماء نزلت، ثم هو يأتيها، فإذا تمكن من الظلم ظلم، ومعظم البلاء الذي ينزل بالأمة بسبب الظلم؛ لأن العدل قامت على أساسه السماوات والأرض، فمن خالف ناموس الكون وميزانه الرباني الذي لأجله خلق الخلق فلا بد أن يبتليه الخالق سبحانه وتعالى. قال ابن عمر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أعتق شركاً له في عبد عتق ما بقي في ماله -يعني: ألزم بإعتاق بقية العبد من ماله- إذا كان له مال يبلغ ثمن العبد، وإلا فقد عتق منه ما عتق)]، أي: فلا يكلف ولا يلزم إلا بنصيبه؛ لأنه ليس صاحب مال.

شرح حديث أبي هريرة في الضمان على من أعتق نصيبه من العبد

شرح حديث أبي هريرة في الضمان على من أعتق نصيبه من العبد قال: [وعن بشير بن نهيك عن أبي هريرة رضي الله عنه: (عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المملوك بين رجلين: فيعتق أحدهما، قال: يضمن)]، يعني: إذا كنت أنا وأنت شريكان في عبد، فأعتقت أنا نصيبي فأنا أضمن عتق بقية العبد بشرط أن أكون صاحب مال، وإلا فقد أعتقت نصيبي الذي يخصني. وفي رواية قال عليه الصلاة والسلام: [(من أعتق شقيصاً من مملوك؛ فهو حر من ماله)]. والشقيص هو: الحظ والنصيب، فمن أعتق نصيبه في مملوك؛ فهذا المملوك حر من مال هذا الذي أعتق. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [(من أعتق شقيصاً له في عبد فخلاصه في ماله إن كان له مال، فإن لم يكن له مال استسعي العبد غير مشقوق عليه)]، والمشقوق هو: المشدود، من الشدة، أي: لا نشق عليه، (استسعي العبد غير مشقوق عليه)، ويكون إما بطلب عتق العبد من بقية الشركاء، أو من الشريك الذي أعتق حظه، أو بالمكاتبة يقوم بها العبد. فإذا قوم مثلاً بألف دينار، والسيد الذي يملك نصفه قد أعتق نصيبه، وليس عنده مال ليعتق النصف الآخر، فإن كان صاحب مال فهو ضامن، وإن لم يكن صاحب مال استسعي العبد في نصيب الذي لم يعتق غير مشقوق عليه؛ لأن الأصل أن العبد مال، وصاحب الحق في هذا العبد له حرية التصرف في نصيبه في العبد، والشريك الثاني له حق أخذ نصف ثمن العبد وهو يريده، فإذا كان الذي أعتق صاحب مال فيعتق كله، وإما أن يكاتب السيد الثاني هذا العبد على أن يعتقه بغير خدمة حتى يجمع له ثمن النصف الثاني، ثم يستسعى في نصيب الذي لم يعتق غير مشقوق عليه.

شرح حديث عمران بن حصين: (أن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته)

شرح حديث عمران بن حصين: (أن رجلاً أعتق ستة مملوكين له عند موته) قال: [حدثنا علي بن حجر السعدي وأبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب قالوا: حدثنا إسماعيل بن علية عن أيوب -وهو ابن أبي تميمة السختياني - عن أبي قلابة - وهو عبد الله بن زيد الجرمي البصري - عن أبي المهلب عن عمران بن حصين: (أن رجلاً أعتق ستة مملوكين له عند موته -أي: أن رجلاً حراً كان عنده ستة من العبيد اعتقهم جميعاً عند موته- لم يكن له مال غيرهم، فدعا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجزأهم أثلاثاً)]، يعني: قسمهم: اثنين، اثنين، اثنين؛ لأن هذا الحر ليس حراً في إعتاق الستة؛ لأن هذا قائم مقام الوصية، والعبد ليس له أن يوصي من ماله إلا بمقدار الثلث، وهذا الثلث ينفذ حتى لو لم يرض الورثة، ولا ينفذ ما زاد على الثلث إلا برضا الورثة، وهذا الحر لم يكن له إلا ستة مملوكين فأعتقهم جميعاً، فرد النبي عليه الصلاة والسلام هذا التصرف باستدعاء جميع المملوكين، وجزأهم ثلاثة أثلاث، اثنين، اثنين، اثنين، وأقرع بينهم، أي: ليخرج من يعتق، واللذان وقعت عليهما القرعة أعتقهما، وأما الباقون فهم مال انتقل بالميراث إلى أولاد المعتق؛ لأن العبد مال يورث. وهذه الصورة ظاهرة من فعله عليه الصلاة والسلام، وهذا يدل على مشروعية بل وجوب العمل على نحو ما عمل النبي عليه الصلاة والسلام. وبعض العلماء نازع في هذه الصورة، وقال: القرعة ليست جائزة، والحديث يرد عليهم، وكلامهم خطأ، وقالوا: إنما يعتق من كل عبد ثلثه؛ لأن العبيد الستة لو أعتقنا ثلث كل واحد لتم لنا في نهاية الأمر عتق الثلث، ولا نعتق اثنين ونجعل الأربعة عبيداً للورثة، وهذا سيدخلنا في دوامة أخرى، وهي إبطال تصرف صاحب المال الذي أوصى بعتق هؤلاء جميعاً، ولو كان ذلك صواباً لفعله النبي عليه الصلاة والسلام. وأما كونه قد عدل عن هذه الصورة وأعتق ثلث المال المتمثل في اثنين دون الستة فهذا يدل على أهمية هذا التصرف واستحبابه. قال عمران بن حصين: [إن رجلاً أعتق ستة مملوكين له عند موته لم يكن له مال غيرهم، فدعا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجزأهم أثلاثاً، ثم أقرع بينهم -وهذا يدل على استحباب القرعة- فأعتق اثنين وأرق أربعة -أي: جعلهم رقيقاً- وقال له قولاً شديداً)]، أي: قال النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الذي أعتق الستة ومات قولاً شديداً، وهذا القول هو: (لو أدركت ذلك ما صليت عليه)، يعني: لو أني علمت هذا قبل أن أصلي عليه صلاة الجنازة ما صليت عليه، وهذا يدل على الزجر الشديد جداً، وقوله: (لو أدركت ذلك ما صليت عليه)، لا ينفي صلاة عامة الناس على أصحاب المعاصي وأصحاب الكبائر، وإنما يدل على أن الإمام له أن يتخلى عن الصلاة على أصحاب المعاصي والكبائر؛ زجراً لأمثالهم ألا يقعوا فيما وقعوا فيه. والنبي عليه الصلاة والسلام شهد لـ ماعز الأسلمي بالجنة، ولكنه ما صلى عليه؛ زجراً لغيره أن يقترف ما اقترف ماعز رغم أنه تاب. وصلى على الغامدية، رغم أنها أتت ما قد أتى ماعز، ولكن المقام استدعى الصلاة هنا، واستدعى ترك الصلاة هناك، وربما كان هناك في المصلين على ماعز من ينزجر بترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على أمثال هؤلاء الذين وقعوا في كبائر الذنوب. فللإمام أن يمتنع من الصلاة على أصحاب الكبائر زجراً لأمثالهم، ولكن لا يحل لمجموع من كلفوا بالصلاة على هذا الميت أن يمتنعوا جميعاً، وإلا أثموا جميعاً؛ لأن الصلاة على الميت حتى وإن كان صاحب ذنب وصاحب كبيرة فرض كفاية، إذا فعله البعض سقط عن الباقين، ويستحب للإمام ولا يجب عليه، وإن صلى على صاحب كبيرة فلا حرج عليه، حتى وإن مات وهو مصر عليها ولم يتب لا حرج على الإمام أن يصلي عليه، ولكن ترك الإمام للصلاة عليه لا شك أنه من باب السنة، ومن باب الزجر. وفي رواية: [(أن رجلاً من الأنصار أوصى عند موته، فأعتق ستة مملوكين)]. يقول: (في هذا الحديث دلالة لمذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وداود وابن جرير والجمهور في إثبات القرعة في العتق ونحوه، وأنه إذا أعتق عبيداً في مرض موته أو أوصى بعتقهم وكانوا أكثر من الثلث أقرع بينهم، فيعتق ثلثهم بالقرعة. وقال أبو حنيفة: القرعة باطلة، لا مدخل لها في ذلك، والحديث يرد عليه).

باب جواز بيع المدبر

باب جواز بيع المدبر قال: (باب جواز بيع المدَبَّر). والمدبَّر: هو من أوصى سيده بعتقه في دبر حياته، فهو عبد ولكن سيده أوصى في مرض موته، أو لما غلب على ظنه أن الحياة به ستنتهي أن يعتق هذا العبد في دبر حياته، وهذا جائز عند الجمهور، والدليل على جواز بيع المدبَّر الآتي: قال: [حدثنا أبو الربيع سليمان بن داود العتكي حدثنا حماد بن زيد عن عمرو بن دينار المكي عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما: (أن رجلاً من الأنصار أعتق غلاماً له عن دبر -أي: بشرط أن يكون ذلك في دبر حياته- لم يكن له مال غيره، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من يشتريه مني؟ -وكان لا يزال الرجل صاحب المال حياً، والنبي صلى الله عليه وسلم هو الذي عرض هذا العبد للبيع- فاشتراه نعيم بن عبد الله النحام بثمانمائة درهم فدفعها إليه)]. أي: أخذ النبي عليه الصلاة والسلام الثمانمائة درهم وأعطاها لصاحب هذا العبد الذي أعتقه عن دبر. قال: [قال عمرو: سمعت جابر بن عبد الله يقول: عبداً قبطياً مات عام أول]، يعني: كان هذا العبد عبداً نصرانياً، والقبطي مصري، ولكن عند الإطلاق القبطي هو النصراني. ولا بأس باتخاذ العبيد من النصارى واليهود، وقد كان أبو لؤلؤة المجوسي مجوسياً، ومن باب أولى يجوز اتخاذ العبيد من اليهود والنصارى. نسأل الله أن يمكننا من رقابهم رجالاً ونساءً. وهذا الرجل الأنصاري اسمه أبو مذكور، واسم الغلام المدبَّر يعقوب. قال: [وعن عمرو بن دينار قال جابر: (دبر رجل من الأنصار غلاماً له لم يكن له مال غيره، فباعه رسول الله صلى الله عليه وسلم)، قال جابر: فاشتراه ابن النحام]. والنحام لقب لـ نعيم بن عبد الله، وفي الحديث: (إني دخلت الجنة فوجدت نحمة لـ نعيم) وقيل: (نحنحة)، واسم الصوت: نَحمة ونُحمة ونحنحة، هذا معنى النحام، فلما أخبر نعيماً بذلك لقبه الصحابة بـ النحام، أي: الذي كان يتنحم في الجنة وسمعه النبي عليه الصلاة والسلام. قال: [عبداً قبطياً مات عام أول في إمارة ابن الزبير].

كلام النووي على حديث جابر في بيع المدبر

كلام النووي على حديث جابر في بيع المدبر قال: (في هذا الحديث دلالة لمذهب الشافعي وموافقيه أنه يجوز بيع المدبر قبل موت سيده لهذا الحديث، وقياساً على الموصى بعتقه، فإنه يجوز بيعه بالإجماع، وممن جوزه عائشة وطاوس وعطاء والحسن ومجاهد وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود الظاهري. أما أبو حنيفة ومالك وجمهور العلماء والسلف من الحجازيين والشاميين والكوفيين فقالوا: لا يجوز بيع المدبر، وإنما باعه النبي صلى الله عليه وسلم في دين كان على سيده، وقد جاء في رواية للنسائي والدارقطني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (اقض به دينك). يعني: هذا العبد المدبَّر لما باعه النبي صلى الله عليه وسلم بثمانمائة درهم أعطاها لسيده وقال: (اقض بها دينك). وقالوا: وإنما دفع إليه ثمنه ليقضي به دينه، وتأوله بعض المالكية على أنه لم يكن له مال غيره فرد تصرفه، لأنه لا يحل له أن يتصرف فيه كله، وإنما في ثلثه. وقال هذا القائل: وكذلك يردُّ تصرف من تصدق بكل ماله، وهذا ضعيف بل باطل، والصواب نفاذ تصرف من تصدق بكل ماله. وقال القاضي عياض رحمه الله تعالى: الأشبه عندي أنه فعل ذلك نظراً له، إذ لم يترك لنفسه مالاً، والصحيح ما قدمناه أن الحديث على ظاهره، وأنه يجوز بيع المدبَّر بكل حال ما لم يمت السيد، والله أعلم. وأجمع المسلمون على صحة التدبير، ثم مذهب الشافعي ومالك والجمهور أنه يحسب عتقه من الثلث. يعني: لو كان معتقاً يعتق منه الثلث فقط، والتدبير محل إجماع بين أهل العلم، لا خلاف بينهم في ذلك، والتدبير يقع في أشياء كثيرة، وليس في العبد فقط، فبإمكانك أن تقول: هذه الدار وقف على الأيتام في المكان الفلاني بعد موتي، فهذا تدبير في الدار، وبإمكانك أن تقول: هذا البستان وقف على الأرامل في المكان الفلاني بعد موتي، فهذا التصرف جائز، وهو صورة من صور التدبير، أي: إيقاف نفاذ التصرف إلى بعد موت من أوقفه. وفي هذا الحديث من الفوائد كذلك: نظر الإمام في مصالح رعيته، وأمره إياهم بما فيه الرفق بهم، وإبطال ما يضرهم من تصرفاتهم التي يمكن فسخها. وفيه جواز البيع فيمن يدبَّر، وهو مجمع عليه الآن، وقد كان فيه خلاف ضعيف لبعض السلف نقلناه آنفاً، ولكن هذا الخلاف خلاف ضعيف، وليس عليه العمل. أقول قولي هذا وأستغفر الله تعالى لي ولكم. وصلى الله على نبينا محمد.

الأسئلة

الأسئلة

دليل حمل حديث الأمر بإطعام العبد مما يأكل سيده على الاستحباب

دليل حمل حديث الأمر بإطعام العبد مما يأكل سيده على الاستحباب Q ما الدليل على حمل أحاديث إطعام العبد مما يأكل سيده وإلباسه مما يلبس على الندب والاستحباب؟ A الإجماع على أن هذا الأمر على الاستحباب وليس على الوجوب.

حكم من عجز عن الوفاء بالنذر

حكم من عجز عن الوفاء بالنذر Q أقسمت على إلزام نفسي بعمل بعض النوافل، وعند القسم لم اشترط الاستطاعة في ذلك، كأن لا أشعر بالنوم مثلاً، فهل إذا لم أستطع أن أعملها يجب علي الكفارة أم لا؟ وهل إذا قضيتها علي الكفارة؟ بمعنى إذا لم أفعلها في الوقت الذي حددته ثم قضيتها؟ A بإمكانك أن تنوي بنومك طاعة، ولكن إذا كنت أقسمت أن تلزم نفسك بعبادة معينة في وقت معين، كأن أقسمت أن تصلي إحدى عشرة ركعة في كل ليلة مثلاً، ثم عجزت عن الوفاء بهذا النذر في ليلة من الليالي أو في بعض الليالي فقد قال عليه الصلاة السلام: (كفارة النذر كفارة اليمين). فعليك أن تكفر عن هذا النذر الذي عجزت عنه بكفارة يمين.

حكم منع الوالدة ولدها من صوم النافلة

حكم منع الوالدة ولدها من صوم النافلة Q لو طلبت مني والدتي ألا أصوم النوافل لعلة أني ضعيف جسمياً فهل لي أن أصوم دون علمها؟ A لا، ليس لك ذلك؛ لأنك إذا كنت ضعيفاً وهزيلاً في بدنك فإن الصوم يضرك، وهذا هو ظاهر السؤال، لا بأس أن تجمع بين ترك الصوم وطاعة أمك، وهو أولى بلا شك، وقديماً حدث مثل هذا بين عبد الله بن عمرو بن العاص وبين نبينا عليه الصلاة والسلام، فـ عبد الله بن عمرو بن العاص كان من أعبد الصحابة على صغر سنه، وقد تزوج أول مرة وعمره اثنا عشر عاماً، وكان صواماً قواماً، تالياً لكتاب الله عز وجل، فكان يقرأ القرآن في كل يوم مرة، ويصلي طوال الليل ويصوم النهار، فلما تزوج امرأة من قريش تركها وأقبل على عبادة ربه في الليل، فلما أصبح أتاه أبوه عمرو بن العاص رضي الله عنه فسأل امرأته عن حاله، فقالت: نعم العبد هو، يقوم الليل ويصوم النهار، ففهم ما تريد، فأخذ ولده عبد الله وذهب به إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال: يا رسول الله! هذا العبد فعل كذا وكذا، وهما في طريقهما إلى النبي عليه الصلاة والسلام قال له: سودت وجهي أمام قريش وفعلت كذا وكذا، وشيء من هذا الكلام، فقال عليه الصلاة والسلام: (يا عبد الله! كيف تصوم؟ قال: أسرد الصوم -يعني: أصوم كل يوم- فقال: إنما يكفيك أن تصوم ثلاثة أيام من كل شهر)، أي: ثلاثة عشر وأربعة عشر وخمسة عشر، وتصور أن عبداً يصوم طوال السنة وطوال العمر، والنبي عليه الصلاة والسلام يحجمه في ثلاثة أيام، فقال: (يا رسول الله! أطيق أكثر من ذلك، فقال: اجمع إلى هذا صيام الإثنين والخميس، قال: أطيق أكثر من ذلك، قال: صم يوماً وأفطر يوماً -وهذا صيام نبي الله داود، فسكت على مضض- ثم قال له: كيف تقرأ القرآن؟ قال: في كل يوم مرة -وكيف بمن يختمه مرة في العمر- فقال له: بل اقرأه في شهر، فقال: يا رسول الله! أطيق أكثر من ذلك، قال: اقرأه في كل شهر مرتين، قال: أطيق أكثر من ذلك -حتى قال له-: اقرأه في ثلاث، ومن قرأ القرآن في أقل من ثلاث لم يفقه -فسكت؛ لأنه حدد له الحد الأدنى- ثم قال له: كيف صلاتك؟ قال: أصلي الليل كله، فقال: بل صل بعضه ونم بعضه، فقال عبد الله بن عمرو: فلما كبر سني ورق عظمي وضعفت عما أمرني به النبي عليه الصلاة والسلام تمنيت أني ما رددت عليه أمره). فالأخ لماذا ينذر أن يصوم أو يقوم أو يفعل طاعة معينة؟ والنذر كما قال عليه الصلاة والسلام: (إنما يستخرج بالنذر من البخيل)، فإن كنت قادراً على طاعة فاعملها بغير نذر؛ لأن النذر لا تضمنه، وأنت ضعيف لا تقدر عليه، وإذا كنت قادراً اليوم فربما تعجز عنه غداً، فأنت ابن يومك، وابن طاعة يومك، فإذا قدرت على طاعة ما في وقت ما فافعلها بغير نذر، مثل الذي يقول: يا رب! لو نجحت ولدي فسأذبح شاة، ولماذا لا يذبح الشاة لله إذا نجح ولده من غير نذر، وهذه ألطف. فهو في الصورة الأولى: يعامل الله بالحد الأدنى من العبودية، كأنه يقول: يا رب! إذا عملت لي فسأعمل لك، وإذا لم تعمل لي لن أعمل لك. وأما الصورة الثانية: فإنه يقدمها طيبة بها نفسه، وفي الغالب فإن الناذر إذا أوفى الله له العطاء ضن وبخل، ودائماً أسئلة الناذرين تقول: يا شيخ! أنا كنت قلت: لو أن الله تعالى فعل لي كذا فسأذبح خروفاً فهل ينفع أن آتي بخمسة كيلو من الجزار؟ وأقول: لا ينفع ذلك؛ لأن العبرة كلها بإهراق الدم بنية العبادة والقربة وإطعام اللحم. وآخر يقول: أنا نذرت أصوم كل إثنين وخميس طول عمري، ثم تأتي عليه أيام لا يقدر على صيام شهر رمضان لكبر سن أو ضعف أو علة أو أي شيء، فلماذا يكلف الإنسان نفسه بأشياء عافاه الله تعالى منها؟ ولماذا لا يجعل طاعته لله تعالى بغير شرط، وهذا بلا شك أولى، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما يستخرج بالنذر من البخيل).

حكم النذر الذي لم يتلفظ به الإنسان

حكم النذر الذي لم يتلفظ به الإنسان Q ما حكم النذر الذي نذره الإنسان في نفسه ولم يتلفظ به؟ A لو نواه في صدره ولم يتلفظ به لا يلزمه، فيشترط في النذر التلفظ.

موضع رفع اليدين عند القيام من التشهد الأوسط

موضع رفع اليدين عند القيام من التشهد الأوسط Q هل رفع اليد في الصلاة في التشهد الأول يكون بعد القيام أم قبل القيام وهو في حالة الجلوس بعد الفراغ من التشهد؟ وما الدليل على ذلك؟ A النبي عليه الصلاة والسلام كان يرفع يديه بعد القيام، وكان غالب أمره الرفع بعد القيام، (كان عليه الصلاة والسلام إذا قام إلى الثالثة رفع يديه وكبر)، وقام فعل ماضي، (وكان يرفع يديه قبل القيام أحياناً). هكذا الرواية. وهذا يدل على استحباب الصورة الأولى، وجواز الصورة الثانية.

بيان متى يقدم الحج على الزواج والعكس

بيان متى يقدم الحج على الزواج والعكس Q أيهما يقدم في عصرنا الحج أم الزواج؟ A هذه قضية نسبية تتعلق بكل شخص على حدة، فإذا كان الشاب مثلاً تواقاً إلى النساء وما معه من مال لا يكفي إلا للحج أو الزواج فلا شك أن الزواج يقدم في حقه، ويكون غير مستطيع للحج، ولا حرج عليه حينئذ. وأما إذا كان أمر النساء لا يعنيه في شيء، ولا يفكر فيه، ويطرحه خلف ظهره، ويقدر على أن يصبر بغير عنت فلا شك أن الحج هو الفريضة، وهو الواجب في حقه قبل الزواج.

حكم استحلال المعاصي والإصرار عليها

حكم استحلال المعاصي والإصرار عليها Q هل مستحل الصغائر أو الكبائر المصر عليهما لا يكفر ويبقى على الإسلام ويصلى عليه؟ A لا، وتوجيه السؤال بهذا النحو خطأ، وعلى أي حال فالمستحل للذنب وإن كان صغيراً بعد قيام الحجة عليه وإصراره على الحل يكفر.

§1/1