شرح صحيح البخاري للحويني

أبو إسحق الحويني

شرح صحيح البخاري [1]

شرح صحيح البخاري [1] إن لطلب العلم أهمية عظيمة، فبالعلم نعبد الله عز وجل على بصيرة، ونقوم بتبليغ دينه للناس، وتبصيرهم بأوامر الله تعالى وضرورة الإتيان بها، وتعريفهم بالمناهي الشرعية وضرورة اجتنابها، ويختص العلم الشرعي بأهمية عظمى ألا وهي الذود عن الكتاب والسنة، ورد أهل الأهواء والبدع ودحر باطلهم، وكشف عوارهم، وفضحهم على رءوس الأشهاد؛ ليقفوا عند حدهم، ويعرفوا قدرهم، ولقد ظهر في عصرنا من يطعن في السنة النبوية الصحيحة، وما ذلك إلا لأننا لم نعد نهتم بطلب العلم الشرعي، فبدون العلماء لن نستطيع أن نرد على هؤلاء الأفاكين، حيث إنهم يلبسون على الناس ويأتون بشبه قد تنطلي على كثير ممن ينتسب إلى الصحوة فضلاً عن العامة الذين لا يعلمون من الدين إلا قليلاً، فكان لابد من وجود العلماء الربانيين من أجل حماية هذا الدين، وإظهاره للناس نقياً كما أوصله إلينا سلفنا الصالح.

أهمية طلب العلم

أهمية طلب العلم إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد. فهذا هو المجلس الأول بحمد الله تعالى في شرح كتاب العلم من صحيح الإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله تعالى. وقبل أن نبدأ في شرح الكتاب هناك مقدمة ضرورية، وهي: لماذا نتعلم العلم؟ ولماذا نهتم بكتب الحديث؟ هناك في هذا العصر ردة عن السنة والأصالة، وهي متمثلة في جيش من العلمانيين، الذين أقطع وأقسم غير حانث -إن شاء الله- أنه لو بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الآن لقاتلوه، مثلما قاتلت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما سلموا بالوحي الذي جاء به. هؤلاء دخلوا مع المسلمين في معركة كمثل الجيش الذي إذا أراد أن يزحف على موقع أطلق قنابل الدخان؛ حتى يعكر الجو، ثم يزحف من تحت هذا الدخان إلى المواقع التي يريد غزوها. هذا الجيش من العلمانيين أطلق سحب الدخان على السنة، وأتى بكل نقيصة أجاب عنها العلماء إجابات وافية، وأطلقوها شبهات على أقوام لا يعرفون شيئاً عن السنة، فانطلت كثير من هذه الشبهات على كثير من المسلمين بكل أسف! بل وعلى الذين ينتسبون إلى هذه الصحوة.

تلبيسات أهل الأهواء والبدع وردود العلماء عليهم

تلبيسات أهل الأهواء والبدع وردود العلماء عليهم أذكر عندما كانت صحيفة النور تُصدر مقالات لغلام بيطري جاهل، فقد كان يكتبها تحت عنوان: "تذكير الأصحاب بتحريم النقاب" ونحن نعلم أن أكثر الناس مغرم بالعناوين، يحفظون العناونين وينسون المضامين، لذلك كان هذا الكاتب المخذول ناجحاً باختيار العنوان لما يريد هو، لمّا قال: "تذكير الأصحاب بتحريم النقاب" الناس نسوا ما قاله هذا الكاتب المغبون وحفظوا العنوان، والإنسان كلما عنون بعنوان يدل على المضمون كان موفقاً، وإلا فالعناوين المبهمة لا تؤدي الغرض. فمثلاً السيوطي رحمه الله له كتاب اسمه: " إسدال الكساء على النساء " فلو سألتك دون أن تطلع على الكتاب: ما هو موضوع الكتاب؟ ستقول لي: حجاب المرأة المسلمة والجلباب أليس كذلك؟ لكن السيوطي يتكلم عن قضية مختلفة تماماً وهي: هل النساء يرين الله عز وجل في الجنة كالرجال أم لا؟ مثلاً: من العلماء المعاصرين الشيخ الجزائري عندما كتب: " إلى التصوف يا عباد الله " كان هدفه أن يشتري المتصوفون هذا الكتاب، بحيث يظن الصوفي أن كتاب: إلى التصوف يا عباد الله دعوة إلى التصوف؛ فيأخذ الكتاب ويفاجأ بأنه يهدم التصوف. فنحن نقول: هذه الطريقة في العنونة غير دقيقة وغير صحيحة لماذا؟ لأن المتصوف الغالي في التصوف إذا أخذ الكتاب وقرأ فيه خلاف ما يعتقد رماه، وبالمقابل سيرغب عن هذا الكتاب كثير من الذين ينبغي أن يتحصنوا ضد التصوف، فلا تزال العناوين أنساب الكتب. فلما عنون هذا الكاتب لمقالاته التي نشرها فيما بعد بهذا العنوان: "تذكير الأصحاب بتحريم النقاب" رد عليه كثير من المشايخ، وأتوا على بنيانه من القواعد، فعندها تألم الرجل وانزعج؛ لأن الذين ردوا عليه أو هاجموه لم يقرءوا الكتاب، وقال: ينبغي أن تقرءوا الكتاب ثم تردوا علي. نحن نقول: من وضع الحكم في العنوان، لا يقرأ كتابه؛ لأنه طالما وضع حكم المسألة في العنوان، حيث قال: بتحريم النقاب، انتهى، ومثال ذلك: لو أنك رأيت غلافاً عند قاعة الكتب مكتوباً عليه: "غاية المنى في تحريم الزواج واستحباب الزنا" -مثلاً- بهذا العنوان، هل أنت محتاج لأن تقرأ صفحات هذا الكتاب؟ لا. لأن من المعلوم استحباب الزواج وتحريم الزنا لا العكس، إذاً: فلا حاجة إلى قراءة مثل هذا الكتاب. في إبان نشر هذه المقالات السابقة التي بعنوان: تحريم النقاب. تكلم الكاتب عن مفهوم المخالفة في مقالاته، وتبين لنا أن الرجل جاهل -فعلاً- بالأصول، مع كثرة استخدامه لكلمة الأصول، ففي كل سطرين يقول لك: كما هو مقرر في الأصول، وهذا القناع ليتقي به ضربات الناس، ويموه على الجهلة في أنه ينطلق من أصول ثابتة. إن العلماء عندما تكلموا في مسألة النقاب احتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين) ومعروف أن الحكم إذا قيد كان الحكم للقيد، ومثل قوله: قال صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد صالح) فتقييد الولد بالصلاح يثبت الوصف للصلاح وينتفي عما عداه. فهذا يعني أن الولد الفاسد لا ينفع والده، طالما قيد الحكم بوصف: (ولد صالح) ولو قال: (ولد) وسكت، ولم يقيده بوصف لدخل فيه كل ولد، سواء كان صالحاً أو فاسقاً أو فاسداً. إلخ، لكنه طالما قيد الوصف بالصلاح فثبت الحكم لهذا القيد وانتفى عما عداه. فإذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تنتقب المرأة المحرمة) فالنهي إنما هو وصف للمحرمة، وينتفي عما عداه، مثل المرأة الحلال التي لم تحرم، فهذا يسميه العلماء أخذ الحكم من مفهوم المخالفة. فأنت تعلم أن الكلام له ظاهر وباطن، فظاهر الكلام: هو الذي يوضع الكلام من أجله، ولك أن تسميه (منطوقاً) ، وباطن الكلام: هو عكس الظاهر. فمثلاً: قال الله عز وجل: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] فإن جاءك عدل بنبأ فليس عليك أن تتبين، إذاً: مفهوم الكلام أن الفاسق نتبين من خبره، وعكس الكلام -بطنه- إن العدل لا نتبين منه، بل نأخذ منه الكلام بدون تبين. فالرجل قال: إنكم تحتجون بمفهوم المخالفة كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين) وقلتم: المرأة غير المحرمة تنتقب وتلبس الفقازين. إذاً سأورد عليكم إشكالات، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130] فيمكن أكله ضعفاً واحداً في مفهوم المخالفة؟ أليس كذلك؟ وقال أيضاً: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197] إذاً: يجوز أن يكون هناك رفث وفسوق وجدال في غير الحج. أراد أن يبين أن مفهوم المخالفة لا يحتج به، ونحن لا ننسى أن مفهوم المخالفة ليس متفقاً على حجيته، لكن الراجح أنه يحتج به. وجاء صاحبي إلي -وهو من أهل التحري- عندما قرأ المقالة التي كان فيها مفهوم المخالفة لذلك الكاتب، جاء وقال لي: الرجل اليوم كتب مقالة قوية جداً، وأتى بأدلة قوية على أن مفهوم المخالفة لا يعمل به. والأدلة القوية هي كالتالي: قوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130] . وأيضاً قوله تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197] . وأيضاً قوله تعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور:33] فقيل: إن لم يردن تحصناً فلهم أن يكرهوهن على البغاء؟! فهذا هو بطن الكلام. المشكلة أن ينطلي هذا الكلام على شاب من شباب الصحوة، مع أن الكاتب فاسق بميزان العلماء.

معنى قاعدة: إذا خرج الكلام مخرج الغالب فلا مفهوم له

معنى قاعدة: إذا خرج الكلام مخرج الغالب فلا مفهوم له إن العلماء يقولون: إذا خرج الكلام مخرج الغالب فلا مفهوم له. وهذه هي القاعدة التي جهلها هذا البيطري، وهذه القاعدة تعني: أن العرب كانوا يأكلون الربا أضعافاً مضاعفة بالفعل، كان هذا واقعهم وغالب فعلهم، فنزل الكلام تنبيهاً على غالب الفعل. إذاً: مفهوم المخالفة غير مطلوب وليس محصوراً، فمفهوم المخالفة في هذه الحالة غير مقصود ألبتة، إنما خرج الكلام على غالب فعل الناس، فإذا كان الكلام قد خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له، مثل هذه الآية: {لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130] فلا يقولن قائل: إذاً الربا القليل يجوز والكثير المضاعف لا يجوز. نقول له: لا، العرب كانوا يأكلون الربا مضاعفاً، فقال لهم: لا تأكلوا الربا مضاعفاً، نزل الكلام على فعلهم، إذاً: مفهوم المخالفة هنا غير مقصود، وكذلك قوله تعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} [النور:33] كان هذا هو فعلهم وواقعهم بالفعل، فقال لهم: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور:33] . ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تصوم امرأة وزوجها شاهد بغير إذنه غير رمضان) فكلمة "شاهد" خرجت مخرج الغالب لماذا؟ لأن الزوج إنما يحتاج الزوجة وهو شاهد حاضر، لكن إذا كان الرجل مسافراً فلماذا يمنعها من الصيام؟ فلما كان غالب حاجة الرجل للمرأة إذا كان شاهداً حاضراً، قيل لها: لا تصومي ما دام زوجك شاهداً، فخرج القيد مخرج الغالب وإلا إذا سافر الرجل وقال لامرأته: لا تصومي وأنا غائب؛ فإنه لا يحل لها الصيام لو نص على ذلك. وقال عليه الصلاة والسلام أيضاً: (إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح) وكلمة "باتت" تدل على الليل، وحتى تصبح يؤكد أن المسألة بالليل، لأن داعي هذا الفعل لا يكون إلا ليلاً عادةً، فجاء النص وجاء الكلام عليه، وإلا فإن المرأة إذا طلبها زوجها نهاراً فأبت وهجرت فراشه لعنتها الملائكة أيضاً، إنما نص عليه الصلاة والسلام على الليل؛ لأن الداعي لهذا الفعل لا يكون إلا ليلاً. إذاً: هذا معنى أن الكلام يخرج مخرج الغالب، فإذا خرج الكلام مخرج الغالب فلا مفهوم له.

دور العلماء في الذود عن السنة

دور العلماء في الذود عن السنة فِلَم شباب الصحوة ومن كنا نظن أن فيه التحري ينساق وراء مثل هذه الشبهات التي تشبه الدخان في الهواء؟! هؤلاء العلمانيون يثيرون مثل هذه الشبهات على السنة سنداً ومتناً، ويتسترون بها من أجل هدم الدين. إذاً: نحن في أمس الحاجة إلى ثلة من العلماء، يذودون عن حياض السنة، وإنما كان الهجوم على السنة لأكثر من سبب: أولاً: لأن القرآن لا يستطيع أحدٌ أن يطعن في لفظه، ولا يدعي فيه نقصاناً أبداً، والقرآن له جلالة ومكانة عظيمة عند الناس، فأي واحد يقترب من القرآن يدفعونه بشدة. ثانياً: لأن القرآن نقل بالتواتر، بل بأعلى درجات التواتر العام، نقله الجيل عن الجيل عن الجيل، والسنة أكثر أحاديثها آحاد يرويها الواحد والاثنين والثلاثة والأربعة ممن لم يبلغوا حد التواتر. ثم وضع الكذابون من الأحاديث ما لا يعلمه إلا الله، فشككوا الناس في السنة، وما أدراك قد يكون هذا مما وضعه الكذابون وأنت لا تدري؟ فاختلط الغث بالسمين، وأكثر الناس لا يعلمون جهود المحدثين في هذا الباب، فينطلي عليهم مثل هذا القول. ثم يحتجون بأن الناس غير معصومين في النقل، فيمكن أن يخطئوا، ويأتي بأحاديث في البخاري ومسلم فعلاً أخطأ الرواة فيها، فيقول لك: مثلما أخطئوا هنا فلم لا يخطئون في هذه اللفظة؟ مع أنها تخالف المعقول والمنقول، والمتواتر، والقواعد العامة. وأكثر الناس لا علم له بهذا الواقع؛ فتنطلي عليه مثل هذه الشبهات. اعلم أن السنة واسعة جداً، لأنها هي الأدلة التفصيلية، وهي البيان لكتاب الله عز وجل، فإن لم يكن هناك جيش يدفع عن حديث النبي عليه الصلاة والسلام فلن يبقي في أيدي الناس شيء من السنة. إن العلماء هم بمثابة الجهاز المناعي لهذه الأمة، فأخطر مرض معلن حتى الآن هو مرض (الإيدز) ، ومرض (الإيدز) يصيب الجهاز المناعي، الذي معناه: أن أي مرض مهما كان دقيقاً وتافهاً يمكن أن يقتل الإنسان إذا أصيب الجهاز المناعي لديه. فالعلماء هم الجهاز المناعي لهذه الأمة، وبقاء هذه الأمة حية حتى الآن مع ضعفها وكثرة أعدائها معجزة، وهذا دليل على أن الله عز وجل هو الذي يكلؤها بحفظه ورعايته، لكن لابد أن نقوم بما أوجب الله علينا من حفظ الدين، ولا يكون ذلك إلا بتعلم العلم.

كتب البيطري المبتدع واغترار الجهلة به والرد عليه

كتب البيطري المبتدع واغترار الجهلة به والرد عليه إن هذا الغلام البيطري له كتب -وكل كتبه عليها علامات الخذلان- فأول كتاب له: (تذكير الأصحاب بتحريم النقاب) ، وثاني كتاب: (شرح الصدر بنفي عذاب القبر) ، انظر إلى الاسم، جعله مثل: غاية المنى في تحريم الزواج واستحباب الزنا، فسماه: (شرح الصدر بنفي عذاب القبر) . وثالثة الأثافي: كتاب: "تبصير الأمة بحقيقة السنة"، ذهب فيه إلى أن السنة لا تثبت إلا من حيث الجملة، يعني: أن هناك شيئاً اسمه السنة فقط، واتهم أبا هريرة رضي الله عنه بالكذب مثل أسلافه من الروافض، مثل: محمود أبو رية وغيره، ثم لما جاء الدور على البخاري شيخ المحدثين، قال: إن البخاري لم يكن يدري شيئاً في الحديث فهذا افتراء واضح!! فأنت لو قلت مثلاً: سيبويه لا يعرف أن الفاعل مرفوع لحصبوك الناس بالحجارة، وهو -أي: سيبويه - مؤسس العلم هذا، كذلك الإمام البخاري أمير المؤمنين في الحديث! وأستاذ الدنيا، تقول: لا يعرف شيئاً، البخاري الذي إذا ذكر الحديث ذكر البخاري، كما يقول ابن طاعن -عندما يذكر عنده البخاري -: كذا الكبش البطاح. الكبش البطاح هو الذي إذا خبط واحداً في رأسه قد يميته، بمعنى أنه لا يثبت له أحد في باب المناظرة، مثل الكبش لا يُغلب. فهذا الجاهل ساء فهمه لأحاديث في البخاري؛ لأنه لم يطالع أقوال العلماء، ولا جثا بركبتيه بين يدي العلماء، فلو أنه رجع إلى العلماء فإنهم قد قرروا معانيها، ولكنه بسبب بعده عن العلماء أتى بالغرائب والعجائب الدالة على جهله. فهو من أجل أن تمر مثل هذه السموم على الجهال قام في آخر صفحة من كتابه وكتب (النياشين) التي له، وأتى بصورته على الجلدة من الخلف ثم قام بكتب الشهادات التي حصل عليها، قائلاً: أولاً: تخرج معيداً في كلية الطب البيطري. ثانياً: حضَّر (الماجستير) . ثالثاً: أخذ (الدكتوراه) ومعلوم أن أي شخص يبدأ في الجامعة لابد أن يمر بهذه المراحل، هو قام بتعديد شهاداته؛ لأن أكثر الناس يغتر بمثل هذه (النياشين) حتى ولو كانت في غير تخصصه. إذاً: المفروض أن هذا الرجل لا ينفع إلا للزريبة، فمن الذي أدخله في وسط العلم الشرعي؟ لماذا ترك الزريبة ودخل في وسط العلم الشرعي لماذا؟! عندما يقال: إنه كان معيداً في الطب البيطري، وماجستير في الطب البيطري،. دكتوراه في الطب البيطري، فهو إلى الآن في الطب البيطري، فلماذا يخوض في مسائل العلم الشرعي بدون تأهيل مع أن تخصصه في الطب البيطري؟! ثم بعد ذلك يقول: عُين بقرار وزاري عضواً في اللجنة الثلاثية للسموم، وجعل هذا القرار بين قوسين، ولا أدري ما هي العلاقة بينه وبين العلم الشرعي؟ وكذلك الذي حصل على الماجستير في الفلسفة، ما هي علاقته بالعلم الشرعي؟ نحن كنا ننتظر أن يقول: عندي (ماجستير) في الشريعة، و (دكتوراه) في الشريعة، و (دبلوم) في الشريعة، الشيء الوحيد الذي أخذه حسب قوله هو دبلوم في القراءات لكن أكثر الناس بسبب جهلهم بالعلوم الشرعية يغتر بكثرة (النياشين) ويغتر بصاحبها، وأذكر لكم قصة صاحب القط الذي وجده، فمر به فرأه شخص فقال له: ما هذا السنور؟ والثاني قال له: ما هذا الهر؟ والثالث قال له: ما هذا القط؟ والخامس. ؟ فقال: كل هذه الأسماء لهذا القط، إذاً: ثمنه سيكون باهضاً، فدخل السوق وعرضه للبيع، فأصاب درهماً واحداً فرماه ضجراً، وقال: قاتلك الله ما أكثر أسماءك وأقل غَنَاءَك! فهذا الشخص أيضاً كذلك، ما أكثر نياشينه وما أجهله في هذا العلم! لكن كما قلت: أكثر الناس أسير العناوين، فقد تمر على لافتة فيها: دكتور زميل الجراحين في بريطانيا، والنمسا وو. و. ، خمسة أو ستة أسطر، يقول الناس: إذاً عنده خبرة، وفي الحقيقية لا يوجد معه إلا دبلوم. عندما تقرأ مثل هذا كله وتقرأ اعتراضات هؤلاء على بعض الأحاديث تنشد قول الشاعر: أمور يضحك السفهاء منها ويبكي من عواقبها اللبيب الإنسان المسلم الغيور يبكي غربة العلم والعلماء، لو كانت هناك لجنة لكبار العلماء ما ظهر أمثال هؤلاء أبداً، فهذه جمعية الرفق بالحيوان لها صلاحيات أكبر من مجلس كبار العلماء، وهذه حقيقة!!. فهذا الدكتور أحمد شفيق -جراح الجهاز الهضمي، وهو في مجال الطب أحد المهرة المعروفين- لما قال: إنه اخترع دواء للروماتيز، وعالج بعض المرضى، لكن دون أن يمرر الدواء على لجنات وهيئات عالمية، لم تمنعه شهرته الطبية، ولا مكانه العلمي، ولا كثرة أبحاثه، من أن يوقفوه عن العمل، وأوقفوه عن ممارسة العمليات، وأغلقوا له العيادة، وقدم للمحاكمة لماذا؟ قالوا: إن أرواح الناس ليست لعبة، كيف يخترع دواء ويعالج به المرضى من غير أن يأخذ تصريحاً عالمياً به، إذاً هذا تعريض لأرواح الناس للخطر.

اعتراض البيطري المبتدع على البخاري والرد عليه

اعتراض البيطري المبتدع على البخاري والرد عليه إن هذا الرجل يكذب ويقول: إن البخاري لا يدري شيئاً عن الحديث، ويطعن في الأحاديث الصحيحة، ألا يعد تعريضاً للدين للخطر؟ يقول: هذا الأفاك: إن المأساة العظمى في أمتنا أنهم يأخذون الدين تبعاً لشهرة الرجال، ولتذهب المبادئ العقلية إلى الجحيم هل هذا كلام؟! نقول له: إذاً: ما هذه المبادئ العقلية التي عندك؟ قال: إن في البخاري ومسلم أكثر من أربعين حديثاً مكذوباً عن النبي صلى الله عليه وسلم. إذاً ما هي الأحاديث المكذوبة؟ قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم -قال- إلا بحقها) قال: هذا الحديث مخالف للقرآن. إذاً أين المخالفة؟ قال: قال تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256] فلماذا يقاتل الناس طالما لا إكراه في الدين؟ وقال تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29] إذاً ربنا قال: فمن شاء، فترك هنا حرية الاختيار للنفس، فلماذا يقاتلهم؟ وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس:99] قال لك: أفأنت تكره، فكيف يحل القتال؟ إن مثل هذا الكلام يمكن أن ينطلي على كثير من الناس وقد لا يجد جواباً أبداً، ويقف محتاراً، لكن من كان عنده أثارة من عِلمٍ عَلِمَ تهافت مثل هذا الاعتراض، وأنه لا يرقى إلى باب الدليل، وإنما هي شبهة تزال بالبيان وليست دليلاً. فالناس ثلاثة: مشرك صرف، أو مسلم، ومنافق. الناس المقصودون في الحديث إما الثلاثة وإما واحد من الثلاثة فقوله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله) انتهى، فإذا أسلم الرجل هل يبقى مندرجاً تحت هذا الحديث؟ لا. فإذا نافق وقال: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وكان يبطن الكفر، هل يبقى مندرجاً تحت هذا الحديث؟ لا. إذاً من الذي يبقي؟ إنهم المشركون، إذاً الناس في هذا الحديث هم المشركون، وتظل لفظة الناس هنا لفظة عامة، أريد بها الخصوص، لفظ عام مخصوص، كما قال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:27] الناس في هذه الآية كل الناس أم المسلمون فقط؟ مع أن لفظة "الناس" لفظ عام ومحلى بالألف واللام فيفيد العموم، ومع ذلك فالكل يعلم أن المقصود في هذه الأية هم المسلمون دون غيرهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (ألا لا يحج البيت بعد العام مشرك) إذاً يمكن أن يكون اللفظ لفظاً عاماً ويكون معناه خاصاً، ويمكن أن يكون لفظاً عاماً ومعناه عاماً، كقول الله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158] فجميعاً من صيغ العموم، وهنا أيضاً لفظة "الناس" محلاة بالألف واللام وهي من صيغ العموم، فهي عامة في السياق، فتفيد استغراق البشرية كلها. إذاً: إذا قسمنا الناس إلى هذه الأقسام الثلاثة، وعرفنا أن القتال غير متوجه لمن آمن، وأيضاً غير متوجه لمن نافق، إذاً يبقى هذا الخطاب موجهاً إلى المشركين، وقد جاءت رواية النسائي قال: قال صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل المشركين) هل هناك إشكال في هذا الحديث؟ فهذا مسلك أهل العلم في الجمع بين النصوص، وقد نص أهل العلم على ذلك، وهو كلام موجود في الكتب، لكن هذا الشخص مغبون، إذ حاد عن كلام العلماء، وعارض السنة بكتاب الله عز وجل، والإمام أحمد يقول: (إن من علامات الزيغ أن تعارض السنة بظاهر القرآن) ، هذه من علامات الزيغ، مثل الجماعة الذين ردوا حديث: (إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه) بقوله تبارك وتعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164] . فقالوا: إذا بكى أهل ميت على ميتهم. فلماذا الميت يعذب ببكاء أهله عليه؟ والبخاري رحمه الله قد بين ولفت النظر إلى أنه لا تعارض بين الآية والحديث، فقال: (باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه -ووضع قيداً- إذا كان ذلك من سنته) . إذاً زال التعارض، هذا غير الآية التي قال الله فيها: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت:13] يعني: سيتحمل ذنوبه وذنوب غيره أيضاً لماذا ذنبه؟ لأنه أذنب، ولماذا ذنب غيره؟ لأنه أضله، فهذا مناسب. إذاً: قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164] لا تعارض بينها وبين قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه) لأن البخاري قال: (إذا كان ذلك من سنته) يعني: وصى بذلك، كأن يقول: إذا أنا مت فالطموا الخدود وشقوا الثياب، من أجل أن يعلم الناس أني غال عندكم، ولي مكانة لديكم. إذاً: في هذه الحالة يعذب؛ لأنه وصى بذلك. إما إذا قال لهم: لا تفعلوا، وأنا بريء مما تفعلون، وقد تبرأ من فعلهم وهو حي، فهذا مهما فعلوا من معصية فإنه لا يعذب بها؛ لأنه لا تزر وازرة وزر أخرى، فهذا كلام مستقيم وكلام جميل، وهكذا تلتحم الآيات مع الأحاديث، لأن السنة جاءت بياناً للقرآن، ولا تعارض بينهما، والمبين لا يعارض المجمل، إنما جاء المبين ليبين إبهام المجمل. فلمّا يثيرون النقع والغبار، ويظهرون تعارضاً ما بين السنة والقرآن، وبعد تكون النتيجة الآتية، وهي قول القائل: القرآن قطعي، والسنة ظنية، فإذا تعارض القطعي مع الظني يقدم القطعي. وحديث آخر يقصد به التجني على البخاري وأنه لا يفقه، كما في حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال سليمان عليه السلام: لأطوفن الليلة على مائة امرأة، كلهن يلدن فارساً يقاتل في سبيل الله. فقال له صاحبه: قل: إن شاء الله، فنسي؛ فلم تلد منهن إلا واحدة، ولدت نصف إنسان. قال عليه الصلاة والسلام: والذي نفسي بيده، لو استثنى -أي: لو قال: إن شاء الله- لولدت كل امرأة فارساً يقاتل في سبيل الله، ولكان دركاً لحاجته) . هل يوجد فيه إشكال؟ هل أحد منكم أحس أن فيه إشكال؟ هذا المغبون أخرج منه عدة إشكالات: الإشكال الأول: قال: كيف يجوز لنبي من أنبياء الله أن يشترط على الله؟ أين الاشتراط؟ قال: اشتراطه بأن تلد النساء ذكوراً لا إناثاً؛ وأن يكونوا: مائة فارس يقاتلون في سبيل الله، وما أدراه فقد يلدن إناثاً، والإناث لا تقاتل. إذاً: هذا اشتراط على الله ولا يمكن أن يشترط نبي على الله. الإشكال الثاني: -يقول هذا المغبون- هل يعقل أن هناك نبياً من الأنبياء يأتي ويقول أمام الناس: أنا سأفعل الليلة هذه كذا وكذا وكذا، والكلام هذا ينافي الحياء، ولا يمكن أن تقوله الأنبياء؛ لأنهم الذين علمونا الحياء. إذاً: الحديث الذي رواه البخاري هذا مكذوب. ويقول هذا المغبون: هناك نقطة مهمة جداً وهي: كيف يستطيع أن يأتي مائة امرأة في ليلة واحدة؟ وهل عنده طاقة لأن يأتي عليهن كلهن؟! انظروا إلى هذا العنين، يستكثر هذا الشيء، على نبي مؤيد من الله، ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام كما قال أنس رضي الله عنه: (أوتي قوة أربعين رجلاً) وعندما يكون النبي مؤيداً من قبل الله فما المشكلة في هذا؟ وبعد ذلك يقول: إن يوماً واحداً لا يكفي لهذا العمل، فانظر يا أخي إلى هذا المغبون فإنه يضطرنا أحياناً أن نتكلم كلاماً صريحاً للرد على مثل هذه الفرية النكراء. إذاً لا بد أن يكون رأس مال العالم كبيراً سواءً كان في الفقه أو الحديث أو التفسير أو اللغة وغيرها من العلوم. ليستطيع أن يجمع الأدلة من هنا وهنا ليرد بها على المبتدعة. فهذا ابن القيم رحمه الله يقول: في سورة يوسف ألف فائدة. وعندما قام بالرد على الجهميين، قال: أما شبهتهم الأولى فالرد عليها من مائة وخمسين وجهاً، وبدأ يسردها وجهاً وجهاً إلى آخرها -الجهمية عندهم شبه كثيرة- فيا ترى على أي وجه من هذه الوجوه سترد إذا لم ينفع الوجه الأول فالثاني أو الثالث أو الخامس، فهذا عالم رأس ماله كبير، فتراه عالماً بالشعر والحديث وكلام الفقهاء. ، ومثل هذا العالم مثل صاحب رأس مال كبير، لو أحب أن يعمل مصانع، وأن يفتح معارض ويأتي ببضاعة تغطي السوق، أما صاحب رأس المال الضعيف فلا يستطيع؛ لأن رأس ماله ضعيف. وكذلك العالم أو طالب العالم، عندما يكون الواحد رأس ماله ضعيفاً تجد حججه متهاوية وغير مقنعة، ولكن انظر إلى شيخ الإسلام كيف أنه ألف الكتب في الشريعة، ورد بها على المبتدعة وناظر هذا، وأفحم هذا، بينما الذي رأس ماله من العلم قليل، تراه يجلس على مكتبه لم يعمل شيئاً، تمر عليه السنوات ولا يستطيع أن يحرر مسألةً شرعية هل ينفع هذا؟ نقول: أين كوادرنا المتميزة؟ لو بحثنا عن الكوادر المتميزة في القاهرة الكبرى لما وجدنا فيها عشرة، وأقصد بالكادر المتميز أن يقف أمام المخالفين ولا يستطيع أحد منهم أن يكسره. والسؤال لماذا نطلب العلم؟ نطلب العلم لأننا في معركة الذود عن السنة والدفاع عنها، عندما يأتي شخص ويقول لك: إن صحيح البخاري فيه حديث موضوع هل تستطيع أن ترد عليه؟ لا تستطيع، فكل الذي تقدر أن تقوله: إن العلماء أجمعوا على صحة صحيح البخاري، لا تعرف أن ترد إلا هكذا، وأن البخاري قال: إنه انتقى أصح الصحيح ووضعه في كتابه. هو هذا فقط الذي تستطيع أن تفعله، ولو كان ماكراً فإنه سيقول لك: يا سيدي! إن الدارقطني تعقب البخاري وعارضه في أحاديث، وأبا حاتم الرازي أيضاً عارض البخاري في أحاديث كذا وكذا وكذا، بل ابن حجر العسقلاني الذي هو شارح لصحيح البخاري -ولا يوجد أحد شرح البخاري مثله- انتقد فيه بعض الأحاديث وأنه وقع ف

موقف الغزالي المعاصر من أهل الحديث والرد عليه

موقف الغزالي المعاصر من أهل الحديث والرد عليه علماء الحديث لهم منة في أعناق المسلمين، لكن بكل أسف فقد ظهر في زمننا من يغمط حق أهل الحديث. ويتهمهم بالغباوة، وأنهم لا يفقهون شيئاً في الحديث إلا نقل الأسانيد فقط، حتى قال صاحب كتاب: السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث، قال: إن المحدثين والفقهاء مثل البنَّاء والمناول. الذي يقوم بإيصال اللبن أو الطوب إلى البناء. يقول: المحدث هو العامل الذي يناول اللبن أو الطوب للفقهاء، والفقهاء هم الذين يبنون، هكذا يقول. هل هذا قدر المحدثين؟ وهل هذا جهد المحدثين؟ هذه المجالس عقدناها لنبين أن أفضل الفقهاء هم المحدثون، وسنبين ذلك بالبرهان لا بالدعوى، وأن أهل الحديث شامة لا يستطيع الفقيه أن ينتفع بالسنة إلا من طريقهم؛ لأن العلماء اتفقوا أنه لا يؤخذ حكم شرعي من حديث ضعيف. حسن الفقيه الصرف الذي ليس له علاقة بالتصحيح والتضعيف، فالمحدث يؤخذ علمه في الحديث، والفقيه يؤخذ علمه في الفقه، والمفسر يؤخذ علمه في التفسير، واللغوي والرجل النحوي يؤخذ علمه في النحو، إذاً الفقيه قبل أن يأخذ الحكم الشرعي من الدليل يسأل المحدث، أَثَبَتَ هذا الحديث فنأخذ الحكم منه أم لا؟ إذا قال المحدث: نعم إن الحديث صحيح، هنا يبدأ الفقيه بالاستدلال بالحديث، واستنباط الأحكام منه. إذاً: دور المحدثين أسبق من دور الفقهاء.

البخاري وكتابه الصحيح ومكانتهما

البخاري وكتابه الصحيح ومكانتهما أنت في البيت عندك صحيح البخاري مطبوع في مجلد، هل تعلم كم ظل سنوات يؤلف البخاري رحمه الله هذا الكتاب؟ لقد بقي سبع عشرة سنة، هذا الإمام الذي كان يحفظ ثلاثمائة ألف حديث يمر فيها كالسهم كما يقرأ أحدنا: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) [الإخلاص:1] ، ثلاثمائة ألف حديث لا يختلط عليه فيها إسناد في إسناد ولا رجل مكان رجل، ولا متن مكان متن أبداً، يذكرون في ترجمته أن أبا زرعة الرازي، وأبا حاتم الرازي كانا يجلسان بين يديه كما يجلس الصبي بين يدي شيخه، والبخاري يمر في العلل مرور السهم. فهذا الإمام الذي كان يحفظ ثلاثمائة ألف حديث يصنف كتابه في قرابة عشرين عاماً، أما في وقتنا الحاضر ففي كل ثلاث أو أربع ليال يخرج لأحدنا كتاب، وتراه يطبع جزءاً وراء جزءٍ وراء جزءٍ، ورحم الله الشيخ المطيري كان يقول: عندهم إسهاب في التأليف، لقد ظهر التحقيق من ثلاثين سنة، قلما تعرف اسم محقق جليل، كان المحققون قلة، أمثال الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني، والشيخ أحمد شاكر، والشيخ محمود شاكر، والشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد، ومحمد فؤاد عبد الباقي، وعبد السلام هارون، ومحمد أبو الفضل إبراهيم، وعلي الجداوي، ومحمد إبراهيم زايد، كانوا مجموعة يقومون بتحقيق الكتب، فقلما كنت تجد اسماً جديداً لماذا؟ لأنه لم يكن في ذلك الوقت شهادات علمية، كما هو الآن، فقد ملأت الشهادات الدنيا، وأصبح الوصول إلى الفائدة قريب المنال، لكن في عصرنا هذا كل سنة ويظهر أبو عبد الله الأثري، أبو عبد الرحمن الأثري، حتى إن الشيخ الألباني قال في الأثري: إنه موضة العصر، تجد عشرات المحققين الذين أنت لا تعرف في أي مجال هم، ولا تعرف قدرهم من العلم، ولا تعرف هل زكاهم العلماء أم لا، يلعبون بالتراث، ويسرقون جهود الناس، وأي رجل -يعني مثلاً- درس كتب الشيخ الألباني يعلم أن أكثر هؤلاء المحققين يسرقون تخاريج الألباني، وتجده يقوم بتغيير بعض تخريج الألباني قليلاً، إذا كان الألباني يأتي بالتخريج في صفحة فهذا يختصره في نصف صفحة، ويقدم قولاً ويؤخر قولاً، أو يغير في الطبعة وهكذا، مثل أن يقوم الألباني يجعل البيهقي بعد أحمد أو أحمد بعد البيهقي يأتي هذا المحقق ويقدم ويرتب من أجل أن لا ينكشف أمره، لكن أهل الصنعة يعلمون أن هذا مسروق. لقد ظهر كثير جداً من هؤلاء الناس الذين يسرقون الكتب، والعلماء المتقدمون لم يكونوا ليفعلوا ذلك. مرَّ محمد بن أبي حاتم الوراق مع شخص من أهل العراق، وأنت تعرف أن أهل العراق كانوا ينتقصون الأفاضل، فسمع رجلاً يقول: إن البخاري لا يحسن أن يصلي؛ فتوجع من هذه الكلمة فنقلها إلى البخاري، قال له: سمعت رجلاً بالعراق يقول: إن البخاري لا يحسن يصلي؟ فقال البخاري: لو شئت لسردت لك عشرة آلاف حديث في الصلاة قبل أن أقوم من مجلسي هذا. إذاً: الذي يحفظ عشرة آلاف حديث في الصلاة لا يحسن الصلاة كيف هذا؟! فالإمام البخاري صنف كتابه على أوسع القواعد العلمية المعروفة عند أهل الحديث، فنحن إذا علمنا كيف صنف البخاري رحمه الله كتابه، ثم كيف وضع أهل الحديث الموازين لنقد الرواية، وقبول الأخبار؛ لعلمنا عظمة المحدثين، ومدى قدر جميلهم على هذه الأمة، فأهل الحديث هم الذين تركوا أولادهم، وتركوا ديارهم، وتركوا ملذاتهم وشهواتهم من أجل تصحيح لفظة واحدة، فكيف بحفظ السنة كلها؟

صور من تثبت أهل الحديث عند سماع الأحاديث والحكم عليها

صور من تثبت أهل الحديث عند سماع الأحاديث والحكم عليها .

قصة شعبة بن الحجاج في التثبت

قصة شعبة بن الحجاج في التثبت هنا قصة ذكرها ابن حبان في مقدمة كتاب: المجروحين من طريق أبي الحارث الوراق، يقول وهو متروك؛ لكن القصة وردت من طريق الطيالسي -أي: أبو داود الطيالسي، عن شعبة، ونبه عليها أبو الحجاج المزي في كتاب: تحفة الأشراف القصة الثالثة، يقول أبو الحارث الوراق: جلسنا بباب شعبة نتذاكر السنة، فقلت: حدثنا إسرائيل بن يونس، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن عطاء، عن عقبة بن عامر الجهني، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من توضأ ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ فتحت له أبوب الجنة الثمانية) أبو الحارث أكمل الحديث من هنا وشعبة لم يكن قد خرج من باب الدار، فسمعه وهو يقول هذا الحديث، فلطمه شعبة ودخل الدار. وكان مع شعبة عبد الله بن إدريس، فخرج شعبة وأبو الحارث يبكي، فقال عبد الله بن إدريس لـ شعبة: إنك قسوت على الرجل؛ قال: إنه مجنون، إنه لا يدري ما يحدث، أنا سألت أبا إسحاق عن هذا الحديث، وسرد شعبة قصته مع هذا الحديث، كان شعبة حافظاً لأحاديث كثيرة جداً، لقد بذل شعبة جهوداً عظيمة من أجل تصحيح كثير من الأحاديث من ضمنها القصة التي حكيتها هذه، قال شعبة: أنا سألت أبا إسحاق السبيعي عن هذا الحديث، قلت له: سمعت هذا الحديث من عبد الله بن عطاء؟ لماذا شعبة سأل أبا إسحاق؟ لأن أبا إسحاق كان يدلس تدليس الإسناد. وأنا أبين لك خطورة المسألة، ولقد طاف شعبة الدنيا وراء هذا الحديث؛ خشية أن يكون أبا إسحاق دلسه، ما معنى دلسه؟ تعريف الدلس في اللغة هو: اختلاط النور بالظلام، فتدليس الإسناد عرفه العلماء بقولهم: هو أن يروي الراوي عن شيخه الذي سمع منه ما لم يسمع منه كيف ذلك؟ مثلاً: أنا محدث من المحدثين في زمن الإمام أحمد وأنتم تلامذة، فأقول: حدثني وكيع، قال: حدثنا سفيان الثوري، عن الأعمش، عن علقمة -مثلاً- أو عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود، أو أنا مثلاً من طبقة الإمام أحمد، قلت: حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن أنس، إسناد صغير لكي يسهل الفهم، سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن أنس، إسناد ذهبي، أنا الآن سأكون سفيان، فأنت عندما تروي هذا الحديث عني ستقول: حدثنا سفيان -هذا واحد- قال: عن الزهري -هذا الثاني عن أنس هذا الثالث- إذاً أنت بينك وبين الرسول كم؟ ثلاثة، أنت تلميذي، وأخذت مني، وثبت لقاؤك لي، وبعد ذلك حصل لك ظرف فغبت عن المجلس في هذا اليوم، وأنا حدثت في المجلس الذي غبت عنه عشرة أو خمسة عشر حديثاً، وأنا لا أكرر الأحاديث التي أقولها، فأنت عندما ما ترجع من السفر سألت زملاءك: ماذا أخذتم؟ فقالوا لك: والله نحن أخذنا عشرة أو خمسة عشر حديثاً. إذاً: أنت عندما تريد أن تروي تلك الأحاديث هل ترويها عني أم عن زملائك؟ عن زملائك؛ لأنك لم تحضر، فلو قمت ورويتها عني ولم تسمعها مني بهذا الفعل صرت مدلساً، فإن قلت: حدثني فقد كذبت، وإن قلت: عن فقد دلست. إذاً: لكي تروي هذه الأحاديث لابد أن تقول: حدثنا فلان عن ابن عيينة، عن الزهري، عن أنس، إذاً: كم بينك وبين الرسول صلى الله عليه وسلم كم؟ أنت الآن نزلت درجة، كان بينك وبين الرسول عليه الصلاة والسلام ثلاثة، الآن أصبح بينك وبينه أربعة، والعلو في الإسناد هو أن تقلل الوسائط بينك وبين النبي صلى الله عليه وسلم، وكان علو الإسناد هو الدافع لبعض المحدثين على تدليس الإسناد؛ لأنه صعب عليه بعد ما بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم، فيلجأ إلى التدليس وهو أن يسقط صاحبه ويرويه عن شيخه الذي لم يسمع منه تلك الأحاديث. إذاً: نرجع لتعريف التدليس، قال لك: هو أن يروي الراوي -الذي هو صاحبنا - عن شيخه الذي سمع منه وثبت لقاؤه به، وهو من تلاميذه ما لم يسمعه منه؛ لأنه كان غائباً، فهذا اسمه: تدليس الإسناد، وهذا أكثر أنواع التدليس دوراناً في الأسانيد. اعلم أن أصل كلمة: (عن) فيها شوب اتصال، يعني لها وجهان، وجه يفيد الانقطاع، ووجه آخر يفيد الاتصال، لكن لو قلت: حدثني ابن تيمية هل ينفع؟ لا. ولا يلتبس على أحد أن هذا الكلام كذب؟ لأن ابن تيمية مات سنة (728هـ) ونحن الآن في القرن الخامس عشر، لكن لو قلت: عن ابن تيمية أنه قال: لا يقدر أحد يدافعني، أو يرد عليَّ، لماذا؟ لأني ذكرته عنه ولم أروه، وقد أقول لك: أنا لم أسمعه منه ولم أحدث به على أني سمعته منه وإنما ذكرته عنه بلفظة (عن) . إذاً: لفظة (عن) واسعة، فالمدلس يدخل بلفظة (عن) على المحدثين، لا تستطيع أن تقول له: أنت كذاب. فسيقول لك: أنا لم أقل: (حدثني) ، ولهذا الذي يدلس لا يقول: (حدثني) أبداً، ولو قالها كذبوه، ويقولون إنه كذاب، ويسقطونه مباشرة، لكن نقول: عنه: روى الحديث فلان وهو مدلس وقد عنعنه. لفظة (عنعنه) أي: رواه بلفظة (عن) . المهم أن أبا إسحاق السبيعي كان ممن يدلس تدليس الإسناد، وشعبة بن الحجاج كان يكره التدليس جداً، وكان يقول: (التدليس أخو الكذب) وكان يقول: (لأن أشرب من بول حمار حتى أروي ظمئي أحب إلي من أن أدلس) وكان يقول: (لئن أزني أحب إلي من أن أدلس) قول شعبة هذا يقصد به التنفير عن التدليس، والتشنيع على من يفعله، كقول الله تبارك وتعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29] هذه الآية ليس فيها حرية الكفر، وكقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أشهد على هذا غيري، فإني لا أشهد على جور) يعني: لو ذهب هذا وأشهد الصديق هل ينفع أن يشهد؟ لا ينفع. وكقول إبراهيم النخعي للذي جاء يسأله عن العقيقة؟ قال: عق ولو بعصفور. مع أن العلماء اتفقوا أن العقيقة لا تحل لا بالعصفور ولا بالبط ولا بالوز، وإنما تكون من الأزواج الثمانية، من كل ما يخرج من الأنعام. المهم أن شعبة كان شديد النكير على المدلسين، فـ أبو إسحاق كان مدلساً، فكان شعبة لا يمكن أن يقبل من أبي إسحاق أي حديث إلا بعد أن يسأله، أنت سمعت هذا من شيخك؟ شعبة بعد أن سمع هذا الحديث من أبي إسحاق قال له: أسمعته من عبد الله بن عطاء؟ فغضب أبو إسحاق وأبى أن يجيب؛ إذاً: فقد دلس أبو إسحاق، فكان في مجلس أبي إسحاق السبيعي مسعر بن كدام، ومسعر بن كدام أحد الأئمة الثقات الكبار الحفاظ، كان أبو حاتم الرازي يقول: مسعر المصحف. ماذا يعني المصحف؟ يعني: أنه لا يوجد عنده خطأ في الحديث من قوة حفظه وإتقانه، كالمصحف لا يوجد زيادة ولا نقصان، كذا قال: مسعر كالمصحف. فـ مسعر بن كدام لما رأى أبا إسحاق فد غضب بسبب إصرار شعبة على أنه سمع أو لم يسمع، قال مسعر: يا شعبة! إن عبد الله بن عطاء حي بمكة، فاذهب إليه، وشعبة كان في البصرة، ومعلوم أنه سيركب الجمال أو الحمير، وكأنه يقول له: إذا كنت تريد أن تتأكد، فاذهب إلى مكة واسأل عبد الله بن عطاء عن هذا الحديث. قال شعبة: فخرجت من سنتي إلى الحج ما أريد إلا الحديث. المهم أنه خرج من البصرة وذهب إلى مكة فلقي عبد الله بن عطاء، وكان رجلاً شاباً، قال له: حديث الوضوء. هل سمعته من عقبة بن عامر؟ قال: لا. -إذاً أبو إسحاق السبيعي دلس في الإسناد-. قال له: لا. إنما حدثنيه سعد بن إبراهيم، وسعد بن إبراهيم هذا مدني، من أهل المدينة، قال شعبة: فلقيت مالكاً في الحج فقلت له: أحج سعد بن إبراهيم؟ قال: لم يحج العام. قال: فقضيت نسكي وتحللت، وانحدرت إلى المدينة، فلقيت سعد بن إبراهيم، قلت له: حديث الوضوء أسمعته من عقبة بن عامر؟ قال: لا. ولكن حدثني به زياد بن مهران، من عندكم خرج -من البصرة -. فخرجت وذهبت إلى زياد وأنا كثير الشعر وسخ الثياب، فقلت: حديث الوضوء، أسمعته من عقبة بن عامر؟ قال: لا. وقال لـ شعبة: ليس من حاجتك. قال: لا بد. معنى ذلك أنه لن ينفعك، أنت صاحب البضاعة الجيدة والأسانيد المتينة، فهذا لن ينفعك، قال: لا بد، قال: لا أحدثك حتى تذهب إلى الحمام فتغتسل وتغسل ثيابك وتأتيني. قال: فدخلت الحمام واغتسلت، وغسلت ثيابي وأتيت، فقلت له: حديث الوضوء، أسمعته من عقبة بن عامر؟ قال: لا. وإنما حدثني به شهر بن حوشب، فقال له: شهر عن من؟ قال: عن أبي ريحانة، عن عقبة بن عامر. إذاً كم صاروا؟ أربعة، عرفت التدليس ماذا يعمل؟ وشعبة ط

تحمل الصعاب من أجل تحصيل العلم

تحمل الصعاب من أجل تحصيل العلم يقول ابن أبي حاتم الرازي: دخلنا مصر فظللنا سبعة أشهر ما ذقنا فيها مرقاً -يعني لم يأكلوا لحماً سبعة أشهر- نهارنا نطوف على الشيوخ، وليلنا ننسخ فنصحح. يقول: في يوم من الأيام ذهبنا إلى درس شيخ فقالوا لنا: مريض؛ قلنا: فرصة نأكل، قال: فاشترينا سمكةً عظيمة كبيرة، وكان موعد درس الشيخ الذي بعده قد دخل، فتركوا السمكة في البيت وذهبوا ليحضروا درس الشيخ، ومرت ثلاثة أيام لم يستطيعوا أن يطبخوا السمكة هذه، وذلك بسبب أنهم لم يجدوا وقتاً لطباختها، لاشتغالهم بالدروس والنسخ والتصحيح، قال أبو حاتم: حتى خشينا أن تفسد فأكلناها نيئة، ولقد كانت رحلاتهم طويلة. أبو حاتم الرازي يقول: إنه دخل من الري إلى نيسابور، إلى خراسان، إلى القدس، إلى الشام، إلى مصر، وقال: إنه عد كم مشى على رجله إلى سبعة آلاف فرسخ، قال: ثم تركت العد. ابن معين جعل نفسه حارساً على حديث الرسول عليه الصلاة والسلام، أوقف حياته لهذه المهمة العظيمة، وهي حماية حديث النبي صلى الله عليه وسلم. فلو أن شخصاً حضر مجلساً للأعمش فنام قليلاً والشيخ قد حدث بحديث أو اثنين أو ثلاثة، ثم قام من نومه فسمعها من زملائه فجعل يحدث بها عن الأعمش، فهذا تدليس الإسناد، إذاً يحيى بن معين يأتي إلى أحاديث ذلك الرجل الذي نام عن بعضها ويقول: إنه لم يسمعها من الأعمش وإنما سمعها ممن سمع الأعمش، وقام بروايتها عن الأعمش إذا: هو مدلس.

تعظيم علماء السلف بعضهم لبعض

تعظيم علماء السلف بعضهم لبعض كان الإمام أحمد بن حنبل ويحيى بن معين رفيقين في الطلب، أحبة في الله، وكان أحمد يعظم يحيى بن معين، وكان يحيى بن معين يعظم أحمد، فيا ليت طلبة العلم يعظم بعضهم بعضاً، ويحب بعضهم بعضاً، فلم يكن أحمد بن حنبل ينادي أبداً يحيى بن معين باسمه أبداً على الإطلاق، ولا يحيى ينادي أحمد بن حنبل باسمه أبداً، إنما كان يناديه بالكنية، مرة عرض على الإمام أحمد إسناد فيه رجل، لم يكن الإمام عارفاً للرجل، هل هو كذاب، أو ثقة، أو مغفل؟! فقال: ليت أن أبا زكريا كان موجوداً. فقال له شخص: وماذا تفعل به؟ قال: ويحك، إنه يحسن هذا الشأن. الإمام أحمد يشهد لـ يحيى بن معين بمعرفة الرجال، مع أن الإمام أحمد إمام كبير مقدم في معرفة الرجال، وفي الحكم على الرواة، ولكنه لم يهضم حق أبي زكريا يحيى بن معين.

جهود يحيى بن معين في تمييز حديث أبان عن ثابت

جهود يحيى بن معين في تمييز حديث أبان عن ثابت مرة جاء الإمام أحمد ومر على يحيى بن معين فوجده يكتب أحاديث، وكان يحيى كلما اقترب منه شخص طوى الصحيفة، فلما جاء الإمام أحمد قال: ماذا تكتب يا أبا زكريا؟ قال: أكتب صحيفة أبان عن أنس. أبان بن أبي عياش هذا متروك الحديث، وكان شعبة من أشد المنكرين عليه، وكان يتكلم فيه كلاماً قوياً، فـ أبان بن أبي عياش لما تكلم فيه شعبة ترك الناس حديثة. فذهب أبان إلى حماد بن زيد، فقال له: أخبر شعبة أن يترك الكلام عليّ، فوجد حماد بن زيد وهو راجع من الصلاة فوجد شعبة راكباً البغلة فمسك بخطام البغلة، وقال: يا أبا بسطام. -هذه هي كنية شعبة: أبو بسطام، الضخم، الذي حدث عن الضخام. الذي قال فيه: حدثنا الضخم عن الضخام - شعبة الخير أبو بسطام - قال له: يا أبا بسطام! ألا تكف عن أبان؟ قال له: لا. ثم إن حماد بن زيد أصر على شعبة بترك الكلام في أبان، فقال له شعبة: اتركني ثلاثة أيام أستخير الله فيه. وبعد ثلاثة أيام قابل حماد بن زيد فقال له: لا أستطيع السكوت عنه، إنه يكذب على رسول الله، ولم يسكت عنه رحمه الله. المهم أن أبان بن أبي عياش هذا له صحيفة عن أنس كلها خاطئة، وكل الأحاديث التي فيها مضروب عليها، وقديماً كان النساخون يدخلون الحروف في بعضها، ولم يكن عندهم وقت لكي يفصلوا بين الكلمات، فهم يكتبون الكلام متشابكاً مع الذي قبله، ولا يعرف هذا إلاّ الذي عانى المخطوطات وعالجها، بالذات العلماء القدامى. فـ ثابت وأبان الإثنان عند كتابة القدامى يشبه بعضهم بعضاً فحصل الالتباس عند البعض، أما ثابت عن أنس - ثابت بن أسلم البناني - فإن ثابتاً من ألمع الرواة عن أنس، وهو ثقة ثبت حافظ جليل القدر، لازم أنساً أربعين سنة، فعندما يأتي حديث ثابت عن أنس فهو صحيح. أما حديث أبان عن أنس فقد مر أنه مضروب عليه، فجعل أبان مكان ثابت أدى إلى خلط واعتقاد أن أحاديث أبان صحيحة ولذلك قام ابن معين وحفظ صحيفة أبان كلها، فإذا جاء رجل فحرف أبان واستبدلها بـ ثابت، وحاول أن يمرر علينا الحديث، نقول له: كذبت، بل هذا عن أبان، عن أنس، وليس عن ثابت، عن أنس. والعجب أنهم كانوا يحفظون حتى المتن؛ ليدافعوا عن حديث النبي عليه الصلاة والسلام، فلهم في ذلك أعاجيب! فقد أفنوا أعمارهم في وضع كتب وقواعد هذا العلم، فجزاهم الله عنا خير الجزاء.

تجرؤ امرأة في عصرنا على السنة والرد عليها

تجرؤ امرأة في عصرنا على السنة والرد عليها من العجب أن امرأة ظهرت على شاشات التلفاز وقالت: إن العلماء الثقاة قالوا: إنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا سبعة عشر حديثاً فقط. انظر إلى الكذب، وإلى هضم جهود علماء الحديث وإخراجهم لهذا الكم الهائل من الأحاديث الصحيحة. ومع ذلك فهذه المرأة لم تحاكم، لقد بلغ الهوان بنا لدرجة أن امرأة تتكلم في علم الحديث، مع أن علم الحديث هو علم الذكران من العالمين، لا يوجد امرأة ناقدة، ولها معرفة بعلم الرجال والسند -يعني: تعرف الصحيح من الضعيف- فأكثر ما تحرزه المرأة أنها تحمل رواية كتاب، بمعنى أنها تروي الكتاب بسندها، لكن تتكلم في الأسانيد وتقول: هذا صحيح، وفلان ثقة، وفلان كذاب فهذا ليس من اختصاص المرأة. فهذا العلم -علم الأحاديث ونقد الأسانيد والتذوق والملكة وغيرها- إنما هو علم الذكران من العالمين. وإنه لمن الهوان أن تتكلم امرأة وتقول: إنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا سبعة عشر حديثاً، وباقي الأحاديث لا ندري من أين جاءوا بها؟! إن هذه الدروس التي نلقيها عليكم القصد منها هو: بيان منهج المحدثين في قبول الأخبار وذلك عن طريق الإسناد. سنقرأ الإسناد -إسناد البخاري - قراءة صحيحة، ثم نذكر نصائح الإسناد، والصنعة الحديثية التي استخدمها البخاري في صحيحه، ونقف أيضاً على بعض النكات التربوية الموجودة في الإسناد. ومن مميزات هذه الطريقة أنها تنمي ملكة الاستنباط عند طالب العلم، وهي أفضل من طريقة دراسة الفقه على طريقة الكتب الفقهية المعاصرة. ومن مميزاتها كذلك: أن دراسة السنة تجعل انتماءك لصاحب الكلام قوياً، فعندما تدرس مختصر من المختصرات الفقهية يصير أصلاً عندك لا تستطيع أن تخالفه ولا تخالف أصوله، أما إذا درست كلام رسول الله مباشرة فيكون انتماؤك ودليلك ووجهتك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس قول أحد من العلماء. بقيت نصيحة أخيرة أوجهها لطلبة العلم أقول فيها: أيها الطالب: كلما حركت ذهنك وأنفقت وقتك في فضول الكلام، وفضول العلم، ذهب عليك لب العلم، فلا تشتغل إلا بالعلم. لا تقل: الشيخ الفلاني يفهم، والشيخ العلاني لا يفهم، والشيخ الفلاني صفته كذا، فإذا نصبت نفسك حكماً بين المشايخ فلن تحصل علماً أبداً ولن تفلح، انشغل بالعلم، وبعد أن تصير لك ملكة، ويصير لك شأن، ويكبر معك الإنصاف تكلم إذا شئت. ومن أعظم ما سنحصله من هذه الدروس في علم الحديث: أن نتخلق بخلق أهل الحديث في واقعنا، وأكبر فائدة نستفيدها من علم الحديث أن نكون دقيقين في النقل.

شرح صحيح البخاري [2]

شرح صحيح البخاري [2] بدأ الإمام البخاري كتاب العلم من الصحيح بباب فضل العلم، لكي يشوق الناس لطلب العلم، فهو شرف لصاحبه يرفعه في الدنيا، وإن حسن قصده فهو ممن يرقى في درجات الآخرة، وقد جاء في الحديث: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين) .

العلم ومكانته في الإسلام

العلم ومكانته في الإسلام إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثه بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. رتب الإمام البخاري رحمه الله صحيحه ترتيباً يدل على عمق فقهه وعلمه، فافتتح كتابه الصحيح بكتاب بدء الوحي، وختم كتابه بكتاب التوحيد، فكأنه يريد أن يقول: من أراد أن يخرج من الدنيا على التوحيد فعليه بالوحي. وما بين بدء الوحي وكتاب التوحيد الإسلام كله، والوحي قرآن وسنة، وكانت السنة توحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم مثلما يوحى القرآن، لكن السنة من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم، وهو لا ينطق عن هوى نفسه عليه الصلاة والسلام، قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) [الأنفال:24] . فالخروج من الدنيا على التوحيد يكون بالوحيين، والفرق التي ضلت السبيل إلى الله، إنما سلكت سبيلاً آخر غير الوحي الذي هو السنة، وحتى الوحي الذي هو كتاب الله عز وجل ما استضاءوا فيه بقول الذين نزلَ القرآن وهم شهود، وهم الصحابة، وهم الصحابة، وفي الحديث أن الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، وهؤلاء ما اختلفوا في الأحكام الفرعية، كالوضوء، وعدد غسلات الأيدي، والمسح على الرأس، والبيوع والأنكحة، وإنما اختلفوا في الإيمان والتوحيد. فبدأ هؤلاء يضعون متاريس يتقون بها ضربات أهل السنة القائمة على ساق الحجة والمحجة، وبدءوا يؤصلون من عندهم أصولاً يردون بها الأحاديث، فيقولون مثلاً: إن خبر الواحد لا يعمل به في العقيدة، وهذا أصل فاسد، لكنهم أصلوه، لماذا؟ حتى يتقوا به الأحاديث التي هي حجة عليهم، فأهملوا شطر الوحي، فالسنة بيان للقرآن، ومعلوم أن المرء لا ينتفع بالقرآن إلا إذا أخذ بالسنة، فنفى هؤلاء السنة، وكان من جراء نفيها أنهم لم يوالوا أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام. فالإمام البخاري بدأ صحيحه بكتاب بدء الوحي، وثنى بكتاب الإيمان، ليقول لك: إن الإيمان لا يصح إلا إذا كان مؤيداً بالوحي، فهل يعقل أن أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام الذين نقلوا تفاصيل هذا الدين عنه نقلاً لا يعلم لأصحاب نبي قط نقل عشر معشاره، حيث نقلوا هذا الدين بهذه الدقة، بتفاصيل دقيقة، بل نقلوا حتى اهتزاز لحيته عليه الصلاة والسلام في الصلاة. فأهم المطالب كلها معرفة الله عز وجل، فهل يتصور أن هؤلاء الصحابة ماتوا ولم يفهموا هذا الباب؟ إن المبتدعة جميعاً يقولون: نعم. ماتوا ولم يعرفوا هذا الباب. ولو جمعنا المسائل الفقهية التي اختلف الصحابة فيها لكانت بالألوف، وحسبك كتاب: الإجازة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة، لـ بدر الدين الزركشي رحمه الله، وهذا الكتاب أورد فيه مصنفه ما استدركته عائشة، وتعقبته على الصحابة رضي الله عنهم -يعني الاعتراض منها على الصحابة- فجمع كتاباً. فلو أردت أن تجمع كتاباً لكل صحابي اعترض على الباقين لطال الأمر، ومع اختلافهم في المسائل الشرعية لا نعلمهم قط اختلفوا في مسائل الإيمان، إلا في مسائل يسيرة ومحكمة، وكان يراجع بعضهم بعضاً في النقل في المسائل الفقهية، لكن في المسائل الاعتقادية لا، وهذا من أكبر الأدلة على أنهم لم يختلفوا في مسائل الإيمان، أو في مسائل التوحيد. فالرسول عليه الصلاة والسلام لما قال: (إن الأمة ستختلف على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا وحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟! قال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي) . فترتيب الإمام البخاري لكتابه ترتيب يدل بعضه على بعض، الأول: بدء الوحي، حتى إذا أراد أحد أن يدخل الدين يدخله من بوابة الوحي؛ لأنك إذا اختلفت معي بعقلك واختلفت معك بعقلي، فلا بد أن يكون هناك عقل سابق يحكم بيننا، فإذا اختلفنا نحن الاثنان فلا بد أن يكون هناك حكم. فمن الذي يحكم بيننا؟ لابد أن يكون هناك عقل كبير؛ نرجع ونتفق عليه، ولا يكون ذلك إلا النبي عليه الصلاة والسلام، فرجعنا في الأخير إلى تحكيم النبي عليه الصلاة والسلام بيننا، وكلامه موجود، فإذا اختلفنا في مسألة من مسائل الإيمان رجعنا إليه، ونظرنا إلى السنة العملية للصحابة، هل اختلفوا في هذا الباب أم لا؟ فإذا لم يختلفوا فلا يتأتى الخلاف، لا يحل لنا أن نختلف، أما إذا اختلفوا فيسعنا كما وسعهم. فإذاً أول باب ندخله هو باب بدء الوحي، ثم أهم المطالب جميعاً الإيمان، فلا يكون الإيمان إلا بالوحي، ثم ذكر ثالثاً: كتاب العلم؛ لأن كل الأحكام الشرعية التكليفية لا تكون إلا بعلم. والإنسان يستغرب عندما يخرج ليشتري جهازاً كهربائياً، ويعطى رسالة لتشغيل الجهاز وهو (الكتلوج) ، واتفق الناس جميعاً على ضرورة الرجوع إلى مثل هذا الكتاب، لفهم هذه الآلة التافهة، فيستغرب المرء أن أقواماً لا يرجعون إلى الكتاب على الإطلاق، ولكن يدخل ليعبد الله عز وجل كيفما يريد، ولا ينظر إلى مثل هذا الكتاب، والله عز وجل يقول: {الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان:59] اسأل عن الرحمن من يعرفه، لا تسأل عنه الجهلة الذين لا يعرفونه، لكن اسأل عن الرحمن من يعرفه، وهذا فيه دلالة على ضرورة العلم والتعلم، وأن المسائل الاعتقادية كلها لابد أن تؤخذ من مشكاة النبوة، فلا تؤخذ من عقل، لأن الوحي هو الشاهد، ثم أتى ثالثاً بكتاب العلم بعد كتاب الإيمان وقبل كتاب الطهارة، وهذا يدل على أن كل تصرفاتك تفتقر إلى العلم.

التشويق إلى العلم بذكر فضائله

التشويق إلى العلم بذكر فضائله بدأ الإمام البخاري الكتاب بداية معتادة، فبدأه بعقد باب لفضل العلم، وذلك فيه نوع من التشويق، فقبل أن تَأْمُرَ بالشيء اذكر فضله، وهذا من سداد الحكمة، فالنبي عليه الصلاة والسلام لما رغب الصحابة في الجهاد بين لهم منزلة الشهيد، ومنزلة من يقتل في سبيل الله، فتحمسوا، لماذا؟ لأن الله عز وجل لما خلق الإنسان خلقه باحثاً عن الهدف، لا يعمل عملاً مجرداً من الهدف، وإنما يعمل العمل لشيء أو لهدف، وفي الحديث الصحيح: (أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم -وكان النبي قد سأله، ماذا تقول عندما تسجد في صلاتك- فقال: أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، لكني أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار، فقال: حولها ندندن) يعني كل هذا الكلام الذي تسمعه ولا تستطيع أن تفهمه، كله من أجل أن يدخلنا الله الجنة، ويعيذنا من النار، كل كلامنا منحصر في هذه الكلمة التي قلتها أنت: نسأل الله الجنة ونعوذ به من النار. ونصب الله الجنة والنار للناس، فنصب الجنة ترغيباً، لذلك أخطأ من يظن أن العمل لأجل الجنة فاسد، وهذا عند بعض غلاة الصوفية، ويذكرون العبارة المشهورة -التي تعرفونها جميعاً إن شاء الله- عن رابعة العدوية: اللهم إن كنت أعبدك طمعاً في جنتك فاحرمني من جنتك، وإن كنت أعبدك خوفاً من نارك فأحرقني بنارك، وإن كنت أعبدك طمعاً في وجهك فلا تحرمني من وجهك. هذا الكلام فيه مغالطة، لأنها لا يمكن أن ترى الله إلا في الجنة، فالله لا يرى إلا بعد دخول الجنة، فعندما أقول: اللهم ارزقني الجنة فأعظم ما في الجنة هي رؤية الله عز وجل، فكأني أقول: يا رب! امنحني رؤيتك، لكن أن أقول: إن سألتك طمعاً في جنتك فاحرمني من جنتك، فكيف، والنبي صلى الله عليه وسلم كثيراً ما سأل الله الجنة واستعاذ به تبارك وتعالى من النار؟! فالإنسان مخلوق ليعمل ويبحث عن الأجر، فإذا علم أنه لا يؤجر فترت همته، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها) ، فالإنسان عندما يغرس النخلة لن يأكل منها، وإنما ليأكل منها أولاده وأحفاده كما أكل هو من غرس أجداده، إذاً ما غرس الفسيلة إلا لهدف، فترغيباً من النبي صلى الله عليه وسلم في غرس هذه الفسيلة قال: (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها) وتقدير الكلام: فلا يقل: لمن أغرسها وقد قامت الساعة ولن ينتفع بها أحد؟! فحري أن يتركها ولا يغرسها، فكأنه قال له: خالف طبعك واغرسها مع أنك لن تجد من ورائها ثمرة دنيوية. والرجل الذي جاء للنبي صلى الله عليه وسلم وفي يده تمرات فقال: (مالي عند ربي إن قتلت في سبيله؟ فقال: لك الجنة، فقال: إنها لحياة طويلة حتى آكل هذه التمرات، وألقى بها وقاتل حتى قتل) . فسأله ما يكون لي؟ فقال له: أن تدخل الجنة، فقال: لا يحول بيني وبين الجنة إلا أن آكل هذا التمر، إذاً هي حياة طويلة، وهي ثانية أو ثانيتان، أو دقيقة أو دقيقتان، إذاً الحياة طويلة في هذه الدنيا، فرمى بالتمرات وقاتل حتى قتل. فتخيل لو أن الجواب: ليس لك شيء، كان من الممكن أن يأخذ جراب تمر ثم يقعد ويأكل، وعلى ماذا سيستعجل؟! وطالما أن المسألة لا أجر فيها ولا حافز. فلماذا لا ينعم بالحياة؟! كالرجل الذي جاء إلى عبد الله بن الزبير لما كان يتقاتل هو وعبد الملك بن مروان على الخلافة، فقال له: أنا بطل مغوار وفارس معروف، لكن كم تعطيني من الأجر؟ فقال: أعطيك كذا وكذا، قال له: إذاً هات! فقال له: هذا عندما تقاتل وتبلي بلاء حسناً! فتولى عنه الرجل وقال: أراك تأخذ روحي نقداً وتعطيني دراهمك نسيئة. يعني تأخذ روحي مقدماً بينما دراهمك تعطينيها مؤخراً، فهو يريد أولاً أن ينعم بهذا المال قبل أن يموت، فلما علم أنه قد يقتل ولا يأخذ الأجر فترت همته وتولى. ولهذا خلق الإنسان باحثاً عن الأجر، فإذا أردت أن ترغب إنساناً ما في شيء ما فعليك أن ترغبه، وتبين له أجر عمله، لأن هذا أدعى لأن يقدم، ولذلك تجد القطاع الخاص ناجحاً، والقطاع العام فاسداً، لماذا؟ لأن القطاع الخاص يربط الأجور بالإنتاج، بينما القطاع العام، لا. فالموظف يذهب لينام ثم يأخذ العلاوة ويأخذ المرتب والحوافز، بينما القطاع الخاص يقول لك: القطعة بجنيه مثلاً، فيحث العامل على أن لا يجلس فارغاً، فيقول: لماذا أجلس ولا أعمل؟ وكلما عمل كسب، فنجح، والشركات التي تعطي أجوراً عالية عندها مبدعون، لأنها تعطيهم الأجر وزيادة، وهذا نوع من الحافز.

الصبر وأهميته في تبليغ العلم

الصبر وأهميته في تبليغ العلم فلذلك الإمام البخاري رحمه الله بدأ كتاب العلم بذكر باب فضل العلم؛ لأن العلم واسع ومضن وشاق ليس بسهل، وتحرير محل النزاع في كثير من المسائل يحتاج إلى صبر بالغ، فتبليغ العلم للناس، والصبر على أذاهم ومخالفاتهم، وعلى بلادة المجتمع أحياناً، كل هذا يحتاج إلى صبر. وتبليغ العلم مع كثرة المناوئين لك، وكثرة الأسفار والترحال، كل هذا يحتاج إلى صبر، ويحتاج إلى مجهود كبير، فلا يدخل فيه إلا من يعلم قدره. والإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (كفى بالعلم شرفاً أن يدعيه من ليس بأهله، وكفى بالجهل عاراً أن يتبرأ منه من هو فيه) ، يعني لو قابلت أبا جهل في الطريق فقلت له: يا جاهل! لاحمر وجهه من الغيظ، مع أن أبا جهل ليس جاهلاً فحسب، وإنما هو أب للجهل، ومع ذلك يستنكر أن تصفه بالجهل، فالوصف بالجهل مر، كل الناس تدعي العلم في أي فن من فنون الدنيا، حتى لو لم تكن متحققة من هذا العلم، لماذا؟ لأن العلم شرف، فالعلم يرفع صاحبه، يرفع صاحبه حتى في علوم الدنيا، لما يلبس الشخص لباس أهل العلم، ويطلبه كل الناس فإنه يشعر بالعز من كثرة الطالبين.

بالعلم تصح النيات

بالعلم تصح النيات هناك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم جامع رائع، يبين فضل العلم، وهو الحديث الذي رواه الترمذي وصححه، وابن ماجة، وأحمد في مسنده من حديث أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الدنيا لأربعة نفر: رجل آتاه الله علماً ومالاً فهو يتقي الله فيه، يصل به رحمه، ويرعى لله فيه حقه، فهذا بأفضل المنازل، ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً فهو يقول: لو أن لي كفلان لعملت بعمله، فهو ونيته، فهما في الأجر سواء، ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً فهو يخبط في ماله، لا يرعى لله فيه حقه، ولا يصل به رحمه، فهذا بأخبث المنازل، ورجل لم يؤته الله مالاً ولا علماً فهو يقول: لو أن لي كفلان لعملت بعمله، فهو ونيته فهما في الوزر سواء) . فالناس اثنان، واثنان تبع لهما، فالثاني تبع للأول، والرابع تبع للثالث. الرجل الأول: آتاه الله علماً ومالاً، وهناك نكتة في قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الدنيا لأربعة نفر) فذكر الدنيا ليصبر الناس على طلب العلم، بعض الناس يبدأ في العلم بنية فاسدة، كأن يتمنى أن يكون شيخاً كبيراً وعالماً جليلاً ومفتي الديار، وهذه النية ما لم يبتغ بها الآخرة فهي نية فاسدة. فأقل قدر من طلب الدنيا يعكر عمل الآخرة، ونمثل لهذه المسألة بإناء فيه قطعة من الطين الرقراق، ثم صببت الماء في هذا الإناء، فكيف سيصير شكل الماء، سيصير كله بشكل الطين، برغم أن حجم الماء كثير بالنسبة لحجم الطينة الموضوعة في الإناء، إلا أن هذا عكر ذاك كله، فأقل قدر من الدنيا يعكر عمل الآخرة، لذلك الإخلاص لله ضروري ومهم. النبي عليه الصلاة والسلام استفاد من مال أبي بكر رضي الله عنه، وقال عليه الصلاة والسلام: (إنه ليس أحد أمنّ علي في صحبته وماله من أبي بكر، وقال له: لك يد علي لا يجزيك بها إلا الله) . ومع ذلك لما أراد أن يهاجر عليه الصلاة والسلام كما في صحيح البخاري، وأخبر أبا بكر أنه سيهاجر اشترى أبو بكر راحلتين وحبسهما يطعمهما ويعلفهما استعداداً للهجرة، فلما آن أوان الهجرة وجاء أبو بكر بالراحلتين فأعطى راحلة للنبي صلى الله عليه وسلم، قال له النبي عليه الصلاة، والسلام: (بالثمن) فلماذا قال له عليه الصلاة والسلام بالثمن وهو قد أخذ منه كثيراً قبل ذلك ولم يعطه الثمن؟ وكم واساه أبو بكر رضي الله عنه بماله، لأن الهجرة لله فلا يريد أن يعكرها بشيء من الدنيا، قال له: (لا أخذ الراحلة إلا بثمنها) ، تجريداً للقصد. وكذلك لما دخل النبي عليه الصلاة والسلام المدينة فوجد قطعة أرض لغلامين يتيمين من الأنصار، فقال: (ثامنوني بحائطكم يا بني النجار) يعني: بيعوه مني بالثمن، فقالوا: لا والله لا نأخذ ثمنه إلا من الله عز وجل، ومع ذلك أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم الثمن، لأن هذا بيت الله. فأقل قدر من الدنيا يعكر الآخرة، فالإنسان في بداية طلبه العلم يتمنى أن يكون مفتياً وإماماً وفقيهاً ومحدثاً، وكل هذا يعكر فضله، لكن قد يدخل المرء بوابة العلم بهذه النية الفاسدة، ثم يطلب العلم فتصلح نيته بعد ذلك مع طلب العلم. فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إنما الدنيا لأربعة نفر) أي من طلب الدنيا بالعلم نال الدنيا، والعلماء سلاطين غير متوجين، والعامة تخضع لهم أكثر من خضوعهم للسلطان؛ لأن العلماء يملكون سلطان الحجة الذي يخضع القلب له، بينما السلاطين لا يملكون إلا سلطان اليد؛ الذي لا يخضع البشر إلا له. لأنه قد تجد الرجل يكابر العالم وقلبه خاضع لسلطان الحجة الذي ذكره العالم، إذاً العالم يسيطر على القلب؛ لأجل هذا كان سلطانه أقوى، قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14] فهو جاحد، لكن في حقيقة أمره مستيقن وخاضع لها قلبه، فالعالم يملك قلوب الناس، ومن هنا تأتي قوته. فمن أراد الدنيا فعليه بالعلم، وهذا نوع من الترغيب، فكأنه يقال لك: إذا طلبت العلم فعجزت عن تصحيح نيتك، وأحسست أن الدنيا متقدمة فلا تنصرف عن العلم، رجاء أن يصلح الله حالك. بعض الناس يقول لك: أنا لم أستطع، أحس أني أريد أن أكون فقيهاً، فخلطه بين الرياء والدعوة يصرفه عن العلم، فنقول له: اصبر، وهذا من دليل نصح النبي عليه الصلاة والسلام. إن العابد يزهد الناس في الدنيا والناس لا تستغني عنها فقلما يطيعونه، لكن العالم يحبب الناس في الله، فتهون الدنيا عليهم، وهذا هو الفرق، فإذا قلت لإنسان: اترك الدنيا وأت ورائي، لا يسمع منك هذا الكلام، ليس لأنه لئيم، أو لأنه غير مؤمن، ولكن لو بينت له أن التقلل من الدنيا طاعة لكان أحرى وأجدر، ولذلك ما أحسن نصيحة أصحاب قارون له، قالوا: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77] . يعني عندما نقول لك: اتبعنا، فأنا لا أقول لك اترك ما أنت فيه من الأبهة، فإذا كان هناك رجل غني جداً، وعنده كل رفاهيات الحياة، وأراد أن يلتزم كيف تريده أن ينخلع من كل هذا، أتريد أن يكون مثل أبي ذر مثلاً، وتقص عليه قصة أبي ذر؟ لماذا لا تقص عليه قصة عبد الرحمن بن عوف؟ وإذا صعدت قليلاً فتقص عليه قصة سليمان عليه السلام. وانظر إلى سفيان بن عيينة رحمه الله عندما قال له سائل: أيهما أحب إليك قول مطرف بن عبد الله بن الشخير: لأن أعافى فأشكر خيراً لي من أن أبتلى فأصبر، أم قول أخيه أبي العلاء: اللهم إني رضيت لنفسي ما رضيته لي، فسكت سفيان ساعة ثم قال: قول مطرف أحب إلي، لماذا؟ قال: إني قرأت كتاب الله عز وجل فرأيت وصف سليمان مع ما كان فيه من النعمة: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:30] ورأيت وصف أيوب مع ما كان فيه من البلاء: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44] فقام الشكر مقام الصبر وبقيت العافية، فلأن أعافى فأشكر خير من أن أبتلى فأصبر، إذا كانت الدرجة عند الله واحدة. فسليمان عليه السلام قام بحق الله في شكر النعم، فإذا كان هذا الرجل الذي تدعوه عنده مال وقلت له: اترك المال لا يتبعك؛ لأنه يشق عليه ذلك، هناك بعض الناس يقول: أنا أخشى الفقر وأخافه، ولا أتخيل أنني أعيش فقيراً، فمثل هذا لا نقول له: اترك مالك ونظل نحبب هذا الشيء إليه، لا. فهذا قارون لو أن كل أغنياء العالم الآن جمعوا ما عندهم من المال، لكان ما يمتلكونه شيئاً يسيراً بالنسبة لما يمتلكه قارون، انظر إلى عظم حجم الأموال التي كان يمتلكها قارون، ولك أن تتخيل إذا علمت أن العصبة أولي القوة يحملون مفاتيح الخزائن فقط. فإذا كان هناك شخص غني وعنده كل هذا المال مثل قارون، وفي نفس الوقت وضيع، فلا يمكن أن يترك هذا المال، وعلامة أنه وضيع قول الله عز وجل: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} [القصص:76] يعني شخص من قوم، أي: ليس له قيمة، ليس له كنية، ليس له أي قيمه في المجتمع، ثم صعد هذا الصعود الهائل وصار غنياً هذا الغنى. فعندما يكون وضيعاً وغنياً ثم أحب أن يلتزم أو يقترب، فمن الخطأ الجسيم أن تقول له: اترك مالك واتبعني! ولكن قل له: تمتع بكل المباحات وأخرج حق الله من المال، واعطف على ابن السبيل والأرملة والمسكين، وكل كما تحب وتريد، قال: {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77] . فالنبي صلى الله عليه وسلم عندما يقول: (إنما الدنيا لأربعة نفر) هناك بعض الناس يدخل العلم بهذه النية، فنقول له: لا تضطرب، ولا يحرمنك فساد نيتك أول الأمر على ترك طلب العلم، لكن اطلب العلم، واطرق بابه، وستصحح نيتك بعد ذلك كلما أضفت شيئاً إليك قرآناً أو سنة، كل هذا تتعلم منه شيئاً فشيئاً، فتصحح نيتك بعد ذلك.

ثمرات العلم

ثمرات العلم كما قال ابن جريج رحمه الله: طلبنا العلم لغير الله فأبى الله إلا أن يكون له، وشبيه به قول عبد الله بن وهب رحمه الله -فقد كانوا صرحاء، وما كان يضرهم أن يهضموا حق أنفسهم- قال: نذرت أنني كلما اغتبت إنساناً أن أصوم يوماً، فكنت أغتاب وأصوم، فلم يجد نفعاً من ذلك فقطع الصوم، فقال: فنذرت أنني كلما اغتبت إنساناً أن أتصدق بدرهم، فمن حبي للدراهم تركت الغيبة، فكل يوم يخسر درهماً، ودرهماً، ودرهماً، فقال لك: لا. يجب أن أتوقف عن الغيبة.

من ثمرات العلم: معرفة الإنسان قدر نفسه

من ثمرات العلم: معرفة الإنسان قدر نفسه وما ضره أن يعترف هذا الاعتراف، وهذا من ثمرة العلم، فثمرة العلم أن تعرف قدر نفسك، مهما زكاك الناس ومدحوك، فأنت أدرى بقدر نفسك.

معرفة الله عز وجل وصلة الرحم من ثمرات العلم

معرفة الله عز وجل وصلة الرحم من ثمرات العلم فقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الدنيا -فيه إشارة إلى هذا المعنى الذي جليناه- لأربعة نفر) فكلنا واحد من هؤلاء الأربعة، وليس هناك واحد منا يخرج أبداً عن هؤلاء الأربعة. الأول: رجل آتاه الله العلم والمال، فثمرة العلم أنه يعرف لله فيه حقه، ويصل به رحمه، فالعلم هو الذي عمل هذا كله، بدليل أن الرجل الثاني الذي عنده مال فقط وهو جاهل قال عنه عليه الصلاة والسلام: (فهو يخبط بماله لا يرعى لله فيه حقه) . فالرجل الذي عنده العلم والمال استطاع أن يوظف المال بالعلم، وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن أو الحكمة أو العلم فهو يعلمها الناس، ورجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق) لا حسد، الحسد هنا: الغبطة، أن تتمنى لنفسك ما لأخيك، بغير أن تتمنى زوال النعمة عن أخيك؛ لأن العبد إذا حسد الحسد المذموم فإن الضرر يعود إليه، إذ: {لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر:43] . فمعنى لا حسد: أي لا غبطة، وإن كان القصد لا حسد أي: الحسد المذموم. (رجل آتاه الله علماً أو قرآناً فهو يعلمه الناس، ورجل آتاه الله مالاً -فجعل المال تابعاً للعلم- فسلطه على هلكته في الحق) وانظر هنا إلى تعبير الحديث، سلط المال على هلكته، يعني أهلك المال بسرعة، وليس ينفق ببطء، وإنما يهلك المال، ووضع القيد وهو أنه لا يكون إلا بالعلم، يعني لو أنك جئت في رمضان فعملت موائد إفطار، وتقول: أنا شرطي أن هؤلاء الجماعة يأكلون مثل أكلي أنا في البيت، وتشرف على هذه الموائد، وتتأكد أنها على ما يرام، وتهلك مالك في هذا الشرط، والله طيب لا يقبل إلا طيباً. فهذا الخير لا يكون إلا بفضل العلم، فالرجل الأول آتاه الله علماً ومالاً، فعرف كيف يوظف ماله بالعلم الذي عنده، والرجل الثاني: آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً فهو يقول: لو أن لي مثل فلان، فأعانه العلم على تصحيح نيته، والرجل الثالث: آتاه الله مالاً، ولم يؤته علماً فهو يخبط فيه خبط عشواء، فهذا لم يستطع أن يوظف ماله؛ لأنه جاهل، والرجل الرابع: جاهل ولا مال له، فهذا خسر الدنيا والآخرة بنيته الخبيثة. وهذه قصة فيها أن الجاهل لا يميز بين الطيب والخبيث: أن رجلاً -مثل الذي يسمع الكلمة ويأخذ بشرها- جاء إلى راعي غنم، وقال: يا راعي الغنم أعطني شاة، فقال صاحب الغنم لهذا الرجل: انزل وخُذْ لك أسمن شاه فدخل فأخذ بأذن كلب الغنم وقال: هذه أسمن شاة. فقال عليه الصلاة والسلام: (فهو يقول: لو أن لي كفلان لعملت بعمله فهو ونيته) هو ونيته: معناه قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) . فهو ونيته: إن كانت لله ورسوله فهي لله ولرسوله، وإن كانت للدنيا فهي للدنيا،. (فهما في الأجر سواء) إذاً: كيف يكونان في الأجر سواءً، ولم يستويا في العطاء؟ فالرجل الأول تعدى خيره بخصلتين: عنده علم وعنده مال، والرجل الثاني تعدى خيره إلى الناس بخصلة واحدة، وهي نيته، فكيف يستويان؟ قال العلماء: قوله عليه الصلاة والسلام: (فهما في الأجر سواء) يعني قريباً من السواء، أتينا بمثال تقريبي لهذا الحديث، فهذا أبو حاتم الرازي رحمه الله قال له ابنه: إنك تقول على الراوي مرة: ثقة، وتقول مرة: لا بأس به، فقال له: من قلت فيه: لا بأس به فهو ثقة، إذاًَ ما هو الفرق، لماذا لا تقول: ثقة فقط؟ يعني مثلاً في التقديرات الجامعية عندنا الامتياز، عندنا جيد جداً، وجيد، ومقبول، وضعيف، وعندنا راسب، فالمائة بالمائة امتياز، والتسعين بالمائة امتياز وهل يستويان؟ لا يستويان، لكنهما في نفس التقدير، فهذا القول الأول. والقول الثاني وهو الأصح: هما في الأجر سواء، والرجل الثاني ما امتنع عن الإنفاق باختياره حتى يؤاخذه الله عز وجل بما كسبت يمينه، هو فقير، وهذا ليس باختياره، والله يعامل هذه الأمة بالفضل، وليس بالعدل، فمناسب لتمام فضله وكرمه وتفضله على عباده أن يرفع الرجل بغير كسب منه، تفضلاً منه على عبده. والإمام البخاري رحمه الله التقط هذا المعنى في باب من أبواب الصحيح سماه: باب من أدرك من العصر ركعة، أي: قبل أن تغرب الشمس، وروى فيه حديث أبي هريرة الصريح في المسألة: (من أدرك ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك الصلاة) ثم ذكر بعد ذلك حديثاً لـ أبي موسى الأشعري، وحديثاً لـ عبد الله بن عمر والحديثان فحواهما واحدة، يقول الحديث: (إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس) . مثال ذلك: رجل صاحب عمل استأجر أجراء يعملون له من أول النهار إلى آخر النهار بمبلغ معين، كأن يعملوا من الصبح إلى المغرب بعشرين جنيهاً فعملوا حتى إذا انتصف النهار عجزوا وقالوا: لا حاجة لنا في هذه الأجرة، فقال لهم: يا جماعة أنا اشترطت في البداية أن تعملوا من الصبح إلى الليل، وإذا أكملتم أعطيتكم الأجر، قالوا: لا حاجة لنا في هذه الأجرة، فقال: ننظر آخرين! فاستأجر أجراء فقالوا لهم: تعملون من الظهر إلى المغرب بعشرين جنيهاً، فعملوا من الظهر إلى العصر وعجزوا، فاستأجر أجراء من العصر إلى المغرب وقال لهم: بأربعين جنيهاً، فلما قال لهم: بأربعين جنيهاً، اعترض العمال السابقون وقالوا له: ماذا تصنع؟ نحن كنا أكثر عملاً منهم، وهم أكثر أجراً منا! فقال كما في الرواية الثانية من حديث ابن عمر قال: (أعطاهم قيراطاً قيراطاً وأعطانا قيراطين قيراطين) وفي رواية أخرى قال: (فعجزوا وقالوا: لا حاجة لنا في هذه) . والجمع بين الحديثين: أنهم لما عجزوا وقالوا: لا حاجة لنا في أجرك، أمر الله عز وجل بإعطاء أهل التوراة أجرهم قيراطاً، وأعطى أهل الإنجيل أجرهم قيراطاً، وأعطى المسلمين أجرهم قيراطين، فضل الله يؤتيه من يشاء. وبهذا نكون قد جمعنا بين الحديثين ولا تناقض، ففي الحديث الأول أعطاهم قيراطاً قيراطاً، والحديث الثاني قال: فعجزوا وقالوا: لا حاجة لنا في أجرك. المهم فلما أخذ كل واحد منهم أجره، جاء السابقون فقالوا: (أي ربنا! نحن أكثر عملاً منهم وهم أكثر أجراً منا! قال: هل ظلمتكم من أجوركم شيئاً؟ قالوا: لا. قال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء) مالي أعطيه من أشاء من عبيدي وأنا ما ظلمتكم. فلماذا وضع الإمام البخاري هذين الحديثين، وما علاقة هذين الحديثين بباب من أدرك ركعة من العصر؟ فلو أن هناك شخصاً يصلي العصر ولم يبق على أذان المغرب إلا دقيقة واحدة، فأدرك ركعة من العصر وأذن المغرب بعد أن أتمَّ ركعة واحدة، إذاً سيصلي ثلاث ركعات في غير الوقت، فالعدل أن يثاب على ركعة، وثلاث يذهبن عليه، لكن الله عامله بالفضل، فوهب له الثلاث التي وقعت في غير الوقت بركعة وقعت في الوقت، إذاً عامله بالفضل أم لا؟ نعم. عامله بالفضل، فـ البخاري رحمه الله بعد أن ذكر دليل المسألة، ذكر الحديثين من باب التعليل. أن الله إنما عاملنا بفضله تبارك وتعالى قال: (فذلك فضلي أوتيه من أشاء) . وفي هذا دليل على أن الإنسان يسعى في الشر بسرعة الريح كما في الحديث: (فهو يخبط في ماله لا يرعى لله فيه حقه، ولا يصل به رحمه) ، فهذا بأخبث المنازل، فالذين لم يستضيئوا بنور العلم كما قال القائل: لم يحصل على دنيا ولا على آخرة.

الجهل وأثره السيئ على الإنسان

الجهل وأثره السيئ على الإنسان العامي أيها الأخوة الكرام! لا مذهب له إلا هواه، مثل الجماعة الذين تمنوا مال قارون، فوقفوا على الطرقات ينظرون إلى قارون ويقولون: {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:79] لكنهم قالوا عندما ابتلعته الأرض: {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا} [القصص:82] . هناك أحد الصحفيين كان ذاهباً ليشاهد مباراة نهائيات كأس العالم بين ألمانيا وهولندا في هولندا، ولم يذهب قبل أن تقلع الطائرة بنصف ساعة أو بساعة، ولكن ذهب في وقت قصير، المهم وهو ذاهب في آخر لحظة، انفجر إطار السيارة، فما أن نزل وغيّر إطار السيارة ودخل المطار حتى قالوا له: إن الطائرة قد أقلعت، ولكن اجلس وشاهد المباراة في التلفاز. وفي صباح اليوم التالي أخذ الجريدة ليتصفحها فقرأ خبر الطائرة التي كان سيسافر فيها، وأنها قد اصطدمت بأحد الجبال، ومات كل الذين فيها. فقال: الحمد لله إذ لم أكن معهم، فهو لم يدر ماذا سيحدث، ولا يعرف أين الخير، فلعل الخير أقرب لك من شراك نعلك، والشر كذلك، فالعوام لا يتحققون من شيء، ولكن يريد الشيء إذا جاء على هواه ومذهبه. فهذه فوائد البنوك، لجان الفتاوى في العالم، في السعودية، وقطر، والإمارات، والمغرب، ومصر، كل اللجان العلمية أجمعت على أن ربا البنوك حرام، ثم يأتي مفت ويقول: لا، بل هي حلال، فتعجب العوام: حلال؟! نجعلها في رقبة العالم. أنت أيها العامي خالفت مذهبك؛ لأن مذهب العوام أن يزنوا الحق بالكيلو. لما كنا مثلاً نتابع السنة في أول الطلب، فكان أول ما نتعرف على سنة نذهب لننشر هذه السنن بديارنا وفي الأرياف، تجدهم يقولون لنا: كل الناس هؤلاء على باطل وأنتم على حق! فكانوا يستدلون على الحق بالكثرة. إذاً: ليس من الحكمة أن نقول لهم: كل هؤلاء على باطل ونحن على حق! لا تأتي المسائل هكذا؛ لأنه يعتقد أنه على صواب، وهو في الأصل يمشي على هواه، ولكن نبين لهم الحق بحكمة. هذا يذكرني بالثعلب الذي أتى حائطاً لشخص وهذا الشخص كان قد نصب فخاً للثعلب، وكان الثعلب ماكراً، عندما رأى الحديد والأسلاك حول الحائط، حاول أن يدخل رأسه فما استطاع، والعنب أصفر وحلو! قال الثعلب -يخاطب صاحب العنب-: يا يوسف أفندي العنب هذا طعمه مر. قال: هكذا الثعلب يتمرد، يقول ذلك؛ لأنه لم يصل إليه ولم يستطع أن يأتي به فيقول: هو مر، الحمد لله أني ما أكلته. فالعوام مثل هذا الثعلب، إذا لم يستطع أن يصل إلى الحرام، قال: الحمد لله أني ما أكلته. ولذلك العامي مذهبه ما ناسب هواه، فهذا: {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ} [الحج:11] ، لا معه الدنيا يتمتع، ولا عقد النية عقداً صحيحاً مثل أحد الرجلين العالمين: العالم الأول، أو العالم الثاني بسب جهله.

بالعلم يرفع الله الناس به درجات

بالعلم يرفع الله الناس به درجات إذاً هذا الحديث -أيها الإخوة الكرام- يبين لنا فضل العلم، وأن الله تبارك وتعالى يرفع الناس درجات، والدرجة -كما ورد في بعض الأحاديث- كما بين السماء والأرض، يرفع الناس درجات في العلم، كم من ضعيف متضعف أعزه الله بالعلم!. والإمام مسلم رحمه الله روى في صحيحه من حديث نافع بن عبد الحارث، وكان عاملاً لـ عمر على مكة (أن عمر لقيه بعسفان: قال له: من تركت -يعني: عاملاً بمكة-؟ قال: تركت عليها مولى لنا يقال له: ابن أبزى. قال: تركت مولى يؤم أبناء المهاجرين والأنصار؟! قال: يا أمير المؤمنين! أما إنه قارئ لكتاب الله، عالم بالفرائض. فقال عمر رضي الله عنه: إني سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين) فكم من ضعيف متضعف أعزه الله بالعلم! فهذا الأعمش رحمه الله لقب بـ الأعمش لعمش كان في عينه، حتى ذكروا من سيرته أن امرأته نشزت عليه يوم من الأيام، فقال لتلميذ من تلاميذه: تعال من وراء الستار وقل لها: أنت في ماذا أغاظك الشيخ؟ من حسن حظك أنك تعيشين معه باستمرار، بينما نحن نتمنى أن نقعد معه ساعة. فقال: قل لها هاتين الكلمتين ربما يحن قلبها عليّ. فـ الأعمش هذا قعد هو وصاحبه فبدأ صاحبه يثني عليه ويقول: إنه الأستاذ الكبير، الذي كلنا نعظمه ونجله ونكرمه، وقال كلام بهذا المعنى، ثم قال: حتى والله إنه لا يعيبه إلا أنه أعمش. فـ الأعمش قام عليه وقال: قاتلك الله! وهل نشوزها عليّ إلا بسبب هذا؟! كان الأعمش رحمه الله يقول: لو كنت بقالاً لاستقذرتموني، لكن رفعه الله بالعلم درجات، حيث يعتبر من ثقات الأئمة الكبار، وكان قاسياً مع الطلبة، ومع قسوته كانوا يتهافتون عليه. من الرواة عن الأعمش: شعبة بن الحجاج، وسفيان الثوري، انظر إلى تلامذته الجبال الرواسي هؤلاء! هذا شرف للأعمش أن يكون تلامذته هؤلاء وأمثالهم. يقول الحافظ ابن حجر في (الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة) في ترجمة ابن تيمية يقول: ولو لم يكن لهذا الإمام من فضل إلا تلميذه ابن قيم الجوزية، صاحب المصنفات العديدة، التي انتفع بها الموافق والمخالف؛ لكان دليلاً على إمامة هذا الرجل. يكفي أنه أخرج ابن القيم، وهو شبيه جداً بشيخه ابن تيمية، لكنه أفهم الناس في علل النفوس، حيث كانت المسألة واضحة عنده، مع أنه يغرف من بحر ابن تيمية. فـ الأعمش هذا الإمام الكبير، الذي يقول: لو كنت بقالاً لاستقذرتموني، تلامذته على هذا النمط العالي: سفيان الثوري، وشعبة، وسفيان بن عيينة، وإسرائيل بن يونس، وهمام بن يحيى، وهشيم بن بشير كلهم علماء عظام، فكان الأعمش قاسياً معهم. ذكر الخطيب البغدادي في كتاب: (شرف أصحاب الحديث) : أنه ربى كلباً لأصحاب الحديث، لأنهم يدخلون عليه كل حين وحين، لا يستطيع أن يأخذ راحته أبداً، يأتون من الآفاق: اقرأ علينا، أسمعنا فربى لهم كلباً، فكان إذا سمع وقع أرجلهم تقترب من الدار يرسل عليهم الكلب، ولك أن تتصور الموقف عندما يأتي شعبة وسفيان الثوري وغيرهما كلهم يجرون أمام الكلب! الشيخ يدخل من هنا وهم يلحقونه من هنا، ولا يملون على الإطلاق، فجاءوا يوماً إليه واقتربوا من الباب على حذر ولم يخرج الكلب، فهجموا على الدار ودخلوا عليه، فلما رآهم بكى، قالوا: ما يبكيك يا أبا محمد؟! قال: مات الذي كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. الذي هو الكلب. فـ الأعمش كان عسر الرواية، وكان يهينهم، ومع ذلك كانوا يأتون إليه، لو لم يكن لديه علم لم يكن أحد ينظر إليه، فالذي رفعه إلى هذا القدر وصار إماماً في علم الحديث وغيره من العلوم هو العلم. مرة يذكر الخطيب -أيضاً- يقول: إن الأعمش كان عسر الرواية فقيه، وكان قريباً من العمى فلا يرى إلا يسيراً جداً، فمرة كانوا يشيعون جنازة شخص ما ليدفنوها، فخرج الأعمش معهم، فلقيه أحد الطلبة وأمسك بيده وقال له: أصحبك يا أبا محمد، وهذا الطالب طالب لئيم، صار مع الأعمش وأخذ ينحرف به قليلاً قليلاً قليلاً إلى أن صار الناس يمشون في جهة وهما يمشيان في جهة أخرى، والأعمش شبه أعمى لا يعرف أين يمشي، المهم بعد مسافة قال التلميذ: يا أبا محمد أتدري أين أنت؟ قال له: لا. قال: أنت في جبانة كذا وكذا -وهي بعيدة جداً عن البلد- والله لا أردك إلى البلد حتى تملأ الألواح بالحديث، أنا جاهز بمائة ورقة وأريد أن أملأها. فـ الأعمش اغتاظ منه، واضطر أن يحدثه، وقعد يمليه: حدثني فلان وفلان وفلان حتى ملأ الألواح، ثم رجع بـ الأعمش إلى البلد وهو مغتاظ عليه، لكنه ينتظر حتى يدخل البلد، أول ما دخلا البلد التلميذ قابل أحد أصدقائه فأعطاه الألواح سراً، وقال له: هذه أمانة عندك، وسأمر عليك في وقت لاحق حتى آخذها. ثم أوصل الأعمش إلى البيت، فأول ما قال له: وصلت إلى البيت يا أبا محمد، قام فأمسك بيده مباشرةً، وقال: خذوا الألواح من السارق. فقال: قد مضت الألواح يا أبا محمد. فلما تأكد أن الألواح ذهبت ولن تعود، قال: كل ما حدثتك كذب!! قال التلميذ: أنت أعلم بالله من أن تكذب. وللأعمش جولات، فلو استطردنا فيه وفي سيرته سيطول بنا الوقت كثيراً، ولكن القصد من الكلام أن الأعمش رحمه الله كان أعمش العينين ويقول: لو كنت بقالاً لاستقذرتموني، فانظر إليه كيف رفعه الله عز وجل! هذا هو النسب الحقيقي إنه العلم. هل تعرفون شيئاً عن الأئمة الكبار، وعن بلادهم غير الإمام أحمد مثلاً وأبي حاتم الرازي؟ لا، مثلاً الإمام البخاري هل تعرف شيئاً عن أولاده؟ لا تعرف أولاده، ما الذي رفع هذا الإمام، مع أنه لم يكن بأعظم الناس في حياته، كان له قرناء، وكان هناك من هو أفضل منه، ومع ذلك صار ذكره عبر القرون، وسار مسير الشمس، لدرجة أن هناك بعض الناس لما يغلط مثلاً في القرآن وينتقد يقول: لم نغلط في البخاري، يعني كأن البخاري أعظم من كتاب الله. مرة حكى لي بعض المشايخ يقول: ذات مرة دخل شخص ليصلي المغرب، فكان يقرأ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر:1] قال: (إلهكم التكاثر) قيل له: ما هذا؟ قال: يا أخي! وهل غلطنا في صحيح البخاري! قال له: يا أخي هذا قرآن!! يعني هؤلاء العوام عندهم البخاري شيء لا أحد يقترب منه لماذا؟ ما الذي أعطى البخاري هذه الهيبة الكبيرة جداً من الإجلال والتوقير والاحترام، وأن كل ما في صحيح البخاري صحيح، مع أن العلماء لهم كلام في بعض ألفاظه؟: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [الجمعة:4] لكن بلا شك أن النسب الحقيقي هو العلم، مصنفاته هي أبناؤه، عندما يمن عليك ربنا سبحانه بالعلم والخير وتؤلف وتكتب، إياك أن تصنع كالموجة التي حصلت من عشر سنين، ولا زالت مستمرة حتى الآن: شباب لا ناقة لهم ولا جمل في العلم، اتبعوا سياسة نسخ الكتاب، ليس عنده علم، لكن يتعاقد بالملزمة، الملزمة بمائتي جنيه، والناقل الجاهل يقيس بالشبر، فكل شبر بثمن. مثلاً شعبة: شخص لم ينقل ترجمة شعبة من الترغيب والترهيب. أنت تنقل ترجمة شعبة عشر ورقات، تنقلها لمن؟ إذا كان من أهل العلم فليس بحاجة إليها، وإذا كانوا ليسوا من أهل العلم ليسوا بحاجة إليها أيضاً؛ لأنه لا يعلم ما هو المكتوب في الكتاب، هل رأيت الفرخ، هو (كتكوت منفوخ) عمره أكثر من أربعين يوماً وتستدل على هذا (الكتكوت) بصوته: صو صو، إنما الديك البلدي حجمه صغير جداً ويصل صوته إلى سابع دار! فأنت تبدأ وتقرأ فيه بلا علم، ولا تستفيد منه، وأيضاً تدفع مالاً، إذا كان مائة صفحة ستدفع فيها مثلاً خمسة جنيهات، وإذا كان ثلاثمائة صفحة تدفع خمسين جنيهاً. قديماً كان المحققون معروفون أمثال: أحمد شاكر، محمود شاكر، محيي الدين عبد الحميد، محمد فؤاد عبد الباقي، محمد أبو الفضل إبراهيم، علي البنجاوي، إبراهيم زايد رحمة الله عليهم، ويحفظ الله من عاش منهم. هؤلاء كانوا محققين وآخرين معهم، الآن -على رأي الشيخ الألباني رحمه الله- يقول لك: فلان الأثري موضة العصر، موضة العصر الأثري، أبو الفضل الأثري وهكذا. هل تعلم الأثري هذا من هو؟ ماذا عنده من علم؟ ما هي كتبه؟ لا تعرف. نحن نقول لطلبة العلم: لا تستعجل، الكتاب مثل ابنك، مثل ولدك بالضبط، لأنك ستأخذ صيتك وسمعتك منه، اتعب عليه، الولد الذي أنت تربيه اتعب عليه يجلب لك الثناء والرحمة، يقول لك: الله يرحمك ويرحم والديك، والولد الشقي يجلب على أبيه اللعنة في الدنيا والآخرة أيضاً. فاجعل الكتاب ابنك، والعلم نسبك.

نصوص تدل على فضل العلم

نصوص تدل على فضل العلم العلم فضائله كثيرة، ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله في كتاب: (مفتاح دار السعادة) فضل العلم من وجوه كثيرة جداً، فمن أراد ذلك فليطالع، لكن أذكر فقط نبذ عن فضل العلم تليق بالمقام وبالكتاب. الإمام البخاري رحمه الله قال: باب فضل العلم. بدأ به من باب التشويق حتى تصبر على طلب العلم. قال: وقول الله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة:11] ، وقوله عز وجل: {رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114] : {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] ، تلاحظ أن هناك فرقاً: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} وليس: أوتوا الإيمان: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} فخص العلم بالإيتاء لماذا؟ لأن العلم مواهب، ولأن الإيمان لازم لكل رجل، ولا ينجو في الآخرة إلا به، فجعله كاللازم له: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [المجادلة:11] يصلح أن يكون مؤمناً وجاهلاً ليس عنده علم؛ لأنه لا ينجو عند الله عز وجل إلا إذا كان مؤمناً، فإيمانه هو الذي ينجيه. ويعوض النقص الذي عنده في العلم من أهل العلم، فإذا احتاج إلى الاستدلال يمكن أن يسأل العلماء، وبذلك يكون أتم المراد، فجملة: (وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) دلالة على أن العلم يكتسب: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل:78] ، ولهذا تجد أن المؤرخين في كتب السير يختلفون أحياناً، وربما كثيراً في مواليد العلماء، لكنهم لا يختلفون في وفياتهم، يقول لك: قيل: ولد سنة كذا، وقيل: سنة كذا وقيل: في شهر كذا لماذا؟ لأنهم يوم ولد لم يكن له ذكر، لم يكونوا يعلمون بأنه سيصير عالماً على السنة أو البدعة. فلما ولد لم يكن له صيت ولا ذكر، لكنه يوم مات كان كالشمس، فدوَّن الناس يوم وفاته، بل ساعة وفاته، بل ما حدث في وفاته.

حسن خاتمة أهل العلم

حسن خاتمة أهل العلم مثل ما نقل الخطيب البغدادي وابن البناء وغيرهما، نقلوا عن أبي زرعة الرازي عبيد الله بن عبد الكريم رحمه الله، هذا إمام حبيب إلى القلب، لما تقرأ سيرته تحس أن فيه غبطة وحلماً، فهو شبيه بالإمام أحمد. يذكر أن محمد بن مسلم بن وارة، وأبو حاتم الرازي دخلا على أبي زرعة وهو في النزع -أي: في الموت- فـ محمد بن مسلم يقول لـ أبي حاتم: دعنا ندخل نلقنه الشهادة، فقال أبو حاتم: إني لأستحيي من الله أن ألقن أبا زرعة ذلك. فهو رجل سخر حياته كلها لنصرة هذا الدين ونصرة السنة، يرحل في الفيافي، يحمله ليلاً ويحطه نهاراً، يفترش الغبراء، ويلتحف السماء، وكم تحمل الجوع والعطش والتعب من أجل الحصول على العلم؟! فهذا الرجل أنفق حياته كلها لهذا الدين فأستحيي أن ألقنه. قال له: حسن دعنا نفكر في فكرة نلقنه بها الشهادتين. قال له: نعم. قال له: تقعد عنده وتذكره بحديث: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة) ونأتي بالطرق، وحدثني فلان عن فلان، وعلان عن علان، فأول ما نذكره بهذا لعله يقول: لا إله إلا الله. فنكون نحن بهذا قمنا بحق الصحبة. فلابد من النظر في المسألة هذه، أخوك لما يطلب معك العلم له حق عليك كبير: حق الصحبة، وتتمنى له أنه يخرج من الدنيا على التوحيد، فهما لكي يقوما بحق الصحبة لابد أن يلقناه الشهادة، فكانا يريان هذا مستحيلاً لماذا؟ لجلالة أبي زرعة. المهم دخلا عليه فقام محمد بن مسلم وقال: حدثني فلان عن فلان عن فلان عن. ونسي الحديث. فقال أبو حاتم: وحدثني فلان عن فلان و. وألبس عليه أيضاً، لم يستطع أن يكمله، قال أبو زرعة -وأشار-: أقيموني. وكان عندهم هذا من الأدب عند الحديث، لم يكن ليقل الحديث وهو نائم، وقد أخذوا هذا الأدب من النصوص، فكلما كانوا يتعلمون شيئاً يعملون به، والنبي صلى الله عليه وسلم عندما دخل على عبادة وهو مريض، قال: (ما تعدون الشهيد فيكم؟ قالوا: يا رسول الله! الشهيد من مات في سبيل الله) . قال عبادة: وكنت مريضاً فقلت: أقيموني. فأقاموني فقلت: الشهيد من مات في سبيل الله. ثم نام. هذا الفعل من الأدب فهو لا يتحدث بشيء من العلم وهو نائم، لا، وإنما يقوم أولاً ثم يتحدث وبعد ذلك ينام. فـ أبو زرعة أشار -أن: أقيموني- فأقاموه فقال: حدثنا فلان عن فلان عن فلان. وأتى بالسند بأكمله، عن معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان أخر كلامه لا إله إلا الله ... ) وخرجت روحه مع الهاء، القصة وردت بسند صحيح، يرحم الله أبا رزعة. لا يخيب الله عز وجل سعي من سعى إليه، وأنفق حياته على دينه، هل تظن أن لا إله إلا الله تقال بسهولة؟! هي عند الموت أثقل من الجبال، يقولون له: قل لا إله إلا الله. لكن صار أصماً، ما سمعها، ما عبَّد نفسه لله، وما عمل بها في حياته، فكيف يقولها؟! يا إخوة: العمل يخف مع طول الممارسة. مثلاً: عامل العمارة الذي يحمل قطعة الطوب على كتفه ويصعد إلى الدور العاشر، فأنت ربما كنت أقوى منه وأصلب منه، طيب احمل هذه الطوبة واصعد بها إلى الدور الخامس، لا تستطيع، فما هو الذي جعل هذا قادراً على الصعود، هل هو من أول شهر أو أول أسبوع كان هكذا؟ لا، لم يصل إلى هذا الجلد إلا بعد سنين من العمل. فالمسائل مع طول الممارسة تسهل عليك، فأنت عندما تمارس لا إله إلا الله في حياتك فإنك تنجو بها، وكل شيء في حياتك تتمثل فيه حكم الله، حتى يصير ملكةً عندك، ممارستك للا إله إلا الله في حياتك؛ يسهل عليك أن تقولها إذا مت، أما أن تنحي لا إله إلا الله جانباً ثم تريد أن تنطق بها: {إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:81] . فـ أبو زرعة رحمه الله كما قالت الروايات: إن روحه خرجت مع آخر كلمة قالها: (لا إله إلا الله) وهو يقول: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة) فخرجت روحه.

الحصول على العلم يكون بالاكتساب

الحصول على العلم يكون بالاكتساب وكنا قد قلنا: إن العلم يكتسب، يولد الرجل جاهلاً ثم يتعلم ويملأ الأرض علماً، وهذا فضل من الله تبارك وتعالى، هو الذي يؤتيه من يشاء من عباده. حينئذٍِ نقول: إن العلم بالتعلم، بخلاف الحلم فإنه لا يتعلم ولا يكتسب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عندما دخل عليه وفد عبد القيس وفيهم الأشج، فلما دخل سلم وجلس حيث انتهى به المجلس، قال: (يا أشج: إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة) . وفي مسند الإمام أحمد، سأله قال: (يا رسول الله! أهذان الخلقان جبلني الله عليهما؟ قال: نعم. قال: الحمد لله الذي جبلني على ما يحب) . فالحلم لا يعلَّم ولا يكتسب، أما العلم فإنه يكتسب، يولد المرء جاهلاً فيكون عالماً. فكأنه يقال لك: لا تيأس، الصفة المكتسبة هذه -التي هي العلم- يمكن أن تكون كالصفة الجبلية فيك، ولذلك قرن الحلم بالعلم إشارة إلى هذا. والدليل الآخر الذي ذكره البخاري رحمه الله قال: قال الله عز وجل: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114] ، والله تبارك وتعالى لا يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالازدياد إلا من شيء هو يحبه وقد اصطفاه له، أمره أن يتقلل من الدنيا وأمره أن يستزيد من العلم، فقال: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114] . نسأل الله تبارك وتعالى أن يعلمنا وإياكم ما جهلنا، وأن ينفعنا بما علمنا. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

شرح صحيح البخاري [3]

شرح صحيح البخاري [3] للعلم أهمية عظيمة، لذلك ترى الذين يعرفون فضله ومكانته يسارعون في الانتساب إليه. ولكن الحصول على العلم من غير أدب وبال على صاحبه، ولننظر في هذا إلى أدب النبي صلى الله عليه وسلم، فهو القدوة والأسوة، فقد كان متواضعاً مع الصغير والكبير، والعبد والحر، والرجل والمرأة، وقد اقتدى به أصحابه رضوان الله عليهم، فكانوا مثالاً رائعاً في الأدب معه صلى الله عليه وسلم، وكذلك مع بعضهم البعض، ولذلك بورك لهم في علمهم وعملهم.

ضرورة تعلم الأدب قبل تعلم العلم

ضرورة تعلم الأدب قبل تعلم العلم إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. قال الإمام البخاري رحمه الله: باب من سئل علماً وهو مشتغل في حديثه فأتم الحديث، ثم أجاب السائل حدثنا محمد بن سنان، قال: حدثنا فليح (ح) ، وحدثني إبراهيم بن المنذر، قال: حدثنا محمد بن فليح، قال: حدثني أبي، قال: حدثني: هلال بن علي، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة قال: (بينما النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس يحدث القوم جاءه أعرابي فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث، فقال بعض القوم: سمع ما قال؛ فكره ما قال. وقال بعضهم: بل لم يسمع. حتى إذا قضى حديثه، قال: أين أراه السائل عن الساعة؟ قال: ها أنا يا رسول الله. قال: فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة. قال: كيف إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة) . هذا هو الباب الثاني من كتاب العلم للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، وقد افتتح هذا الكتاب بقوله: (باب فضل العلم) فلنتصور أنك بعدما سمعت الأحاديث والآيات في فضل العلم أن تكون تمتعت بذلك، ورغبت أن تكون إما متعلماً على سبيل النجاة، أو أن تكون عالماً، ولكل قسم من هذين القسمين عُدة، فالمتعلم على سبيل النجاة يسمع ويعمل، أما المتعلم ليُعلم فإنه يسمع ليعمل ثم يعلم. فبعد أن علمت فضل العلم والعلماء، وأن العلم يتبارى الناس في الانتساب إليه، وإن لم يكونوا من أهله؛ لأنه شرف (كفى بالعلم شرفاً أن يدعيه من ليس بأهله، وكفى بالجهل عاراً أن يتبرأ منه من هو فيه) ، فبعدما علمت فضل العلم والعلماء، ومنزلة العلم والعلماء، نتصور أنك ستقبل وتنضم إلى قافلة العلماء، فحينئذ عقد الإمام البخاري رحمه الله الباب الثاني على اعتبار أنك تريد أن تنضم إلى سفينة العلماء، فقال: باب من سئل علماً وهو مشتغل في حديثه، فأتم الحديث ثم أجاب السائل. ذكر البخاري رحمه الله طرفاً من أدب طالب العلم، إذن الباب الذي ينبغي عليك أن تضع فيه أول خطوة، هو باب الأدب، العلم بلا أدب وبال على صاحبه، لا تدخل العلم إلا من باب الأدب، بينما كان النبي عليه الصلاة والسلام يحدث الناس، جاء أعرابي فقطع عليه حديثه، فهل هذا أدب؟ يعني هل يجوز لك أن تقطع على الشيخ كلامه لتسأل أم تنتظر؟ الإمام البخاري عندما ذكر هذا الحديث إنما ذكره كنموذج؛ ليقول: إن أول شيء ينبغي أن يتحلى به طالب العلم هو يتعلم الأدب. فإذا كان السائل جافياً -مثل هذا الأعرابي- فهل لك أن تعرض عنه أم تقدر حال السائل؟ فدلنا بذلك على أن طالب العلم ينبغي أن يتحلى بآداب، كما أن الشيخ ينبغي أن يتحلى بآداب. وقيل: إنه لا يصلح للقيادة من لم يتعلم الجندية، جندي يسمع ويطيع، فإذا صار قائداً كان قائداً ناجحاً، لذلك نقول لطلاب العلم: إذا لم تتعلم الأدب في مطلع طلبك للعلم لا يمكن أن تورثه، وتكون أول جانٍ عليه؛ لأن هذه المسألة سلف ودين. فلذلك سنقف على نتف مما ينبغي أن يتحلى به طالب العلم من الآداب، وما ينبغي أن يتحلى به الشيخ -أيضاً- من الآداب.

وجوب محافظة العالم على هيبته ليصل علمه للناس

وجوب محافظة العالم على هيبته ليصل علمه للناس ذكر الخطيب البغدادي عن بعض العلماء أنه قال: علم بلا أدب كنار بلا حطب. وهذا معناه: أن الأدب هو وقود العلم، ومعناه أيضاً: أن العلم لا يصل إلا بأدب. وخلاصة الكلام: العلم لا يصل إلا بحكمة. مثلاً: كان هناك طالب من طلاب العلم، وكان طالباً نبيهاً، لكنه في صباح كل يوم جمعة يجمع الطلبة ويلعب معهم كرة نقول: لماذا تلعبون الكرة؟ يقولون: لكي نقوي عضلاتنا، ولنا نية صالحة في الموضوع. لكن ليعلم أنهم عندما يلعبون الكرة أنهم ينسون الالتزام، وينسون كل شيء، وأخلاقهم تضيق، وما إلى ذلك من سلبيات مترتبة على لعب الكرة. المهم صاحبنا طالب العلم هذا راوغ الأول والثاني والثالث، وسدد الكرة على المرمى، ومضى مسرعاً ويقول: جول! جول! فقال له أحد الطلبة: والله يا شيخ أنت كذاب. إذاً: عندما يقول له: والله يا شيخ أنت كذاب، وهذا الشيخ يقعد على الكرسي ويعلم هؤلاء الطلبة، هل يصل هذا العلم إلى الطلبة؟ هذا العلم لا يصل إلا بحشمة، الحشمة التي هي الوقار، وهي رصيد الإنسان عند الناس، ولا يصل المرء إلى هذه الحشمة إلا بعد أن تثبت قدمه في الخدمة، لا يمكن أن الناس يسوِّدونك، ولا يضعونك في الأفئدة إلا إذا ثبت أنك خدوم، وأنك إنسان أصيل، وهذا لا يعرف إلا بعد سنين من الخدمة، فالإنسان لابد أن يراعي ويحافظ على مكانته وهيبته، الإنسان المتعلم الذي يريد أن يعلم له عُدة لا بد أن يعتد بها. تجد أحياناً بعض الناس العوام -مثل العمدة في الأرياف- بالرغم أنه غير متعلم، وليس عنده علم شرعي، إلا أنه إذا جلس، فالكل يصدر عن رأيه، والكل يحترمه لماذا؟ لأنه إنسان عنده حشمة. فالحشمة: هي الهيبة -هيبة العالم- ولذلك ينبغي على العالم ألا يكثر من الاختلاط بالعوام، لابد أن يكون بنيه وبينهم شيء من الحاجز، لا أقول: يتكبر عليهم -عياذاً بالله- وإنما شيء من الحاجز. كان هناك أحد الدعاة المشهورين، وكان هناك رجل معين يتمنى -وهذا الرجل كنت على علاقة به- أن يمس يد هذا العالم بيده، ومرت الأيام، وكان رجلاً صاحب تجارة، المهم: توصل عن طريق أحد الناس من الوصول إلى هذا العالم في بيته، وأخذ معه بعض المواد الغذائية وذهب إليه، فلما رأى العالم هذا قال له: ما هذا؟ قال: لابد أن تقبل الهدية، لا تكسر خاطري. بعد ذلك أول ما يراه يسلم عليه، ويجلسه معه وغير ذلك ثم تكرر ذلك مرة ومرتين وثلاثاً، حتى صار هذا الرجل نديماً لهذا العالم في مجالسه. وهذا العالم كان رجلاً خفيف الظل، صاحب نكتة، ومجالسه لا تمل منها أبداً. فبدأ هذا الرجل يرى شيئاً آخر ما كان يتخيله، يعني بعض الناس سأل بعض علمائنا الكبار وهو الشيخ الألباني حفظه الله، قال له: أنت تضحك؟ وهل أولادك ممكن يتكلمون معك؟ تدرون لماذا سأل هذا السؤال؟ لأنه لم ير الشيخ إلا وهو يقرر المسائل، ويرد على المبتدعة، ولا يضحك إلا نادراً، لذلك سأل سؤالاً عجيباً. بعض الناس يتخيل أن العالم الذي شغل وقته بالعلم ونشره ليس عنده وقت أن يتبسط، بمعنى أن بعض الجلوس يتصور أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مثلاً، هذا الرجل الذي عقد لواء الحرب على كل المبتدعة، وغزاهم في عقر دارهم، وما خرج أبداً مهزوماً من غزوة، قد يتخيل أن هذا الرجل ليس عنده وقت للضحك، أو للمزاح، أو وقت للفكاهة مع أصحابه، لماذا؟ ألأجل الصرامة التي عهدتها من كتاباته، والمناظرات التي كان يعقدها للرد على المبتدعة وغيرهم؟! المقصود: أن بعض الناس يتخيل أن حياة العالم مختلفة؛ لأن بينه وبين هذا العالم حاجز فذلك الرجل استطاع أن يخترق هذا الحاجز، وبدأ يزول الحاجز، الجدار الذي كان ينبغي أن تضع عليه كل يوم لبنة، احذر أن يكون جدارك منخفضاً، أي: كن خدوماً، وانزل في وسط الناس لكن بحكمة. وصل الأمر في آخر المطاف أن هذا الرجل -الذي كان يتمنى أن يلمس يد هذا العالم- قام وعقد لواء الحرب على هذا العالم وفضحه بأشياء، مع أنها أشياء مباحة، وكانت مشكلة كبيرة. المقصود أن العالم ينبغي أن يكون كامل الحشمة، وذلك بأن يترفع عن كثير من المباحات، ولا شك أن ذلك سيكلفه كثيراً. فهذا الإمام البخاري رحمه الله كان لا يبيع ولا يشتري بنفسه، إنما يشتري له آخر، ويبيع له آخر. لماذا؟ لأن البيع والشراء فيه نوع من المساومات والمجادلات، فمثل هذه المساومات والمجادلات قد تضع من حشمة هذا العالم، وحتى يتقي أيضاً المظالم، فلا يظلم صاحب السلعة، وذلك بأن يكون أحسن لساناً منه فيأخذ السلعة بأقل، أو يأخذ من ربح البائع إلخ.

نماذج من أدب السلف مع مشايخهم وأقرانهم

نماذج من أدب السلف مع مشايخهم وأقرانهم الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، عندما ذهب إلى عبد الرزاق بن همام الصنعاني في اليمن جلس عند قدميه، فأمره عبد الرزاق أن يرتفع فيجلس بجانبه، قال: لا، لا أجلس إلا عند قدميك، هكذا أمرنا أن نصنع مع علمائنا. وما وضع هذا من قدر الإمام أحمد رحمه الله، وفعلها الإمام أحمد تأدباً، فتأسينا به بعد آلاف السنين، وكذلك فعل الإمام أحمد مع خلف الأحمر لما ذهب ليقرأ عليه، فقد جلس عند قدميه. هناك حكاية لطيفة عن الأدب مع الأقران -وهي صحيحة- رواها ابن أبي حاتم في مقدمة كتاب: (الجرح والتعديل) وهي مختصرة، ولكنها مذكورة بكاملها في كتاب: علوم الحديث للحاكم، وشعب الإيمان للبيهقي، وكتاب: الإرشاد للخليلي، وكتاب: فضل التهليل لـ ابن البناء، وتاريخ دمشق لـ ابن عساكر، وتاريخ بغداد، هذه القصة -وهي قصة عجيبة وصحيحة- يحكيها محمد بن مسلم بن وارة الرازي. قال: قلت لـ أبي حاتم الرازي: هلم بنا ندخل على أبي زرعة - عبيد الله بن عبد الكريم الرازي - نلقنه، وكان أبو زرعة في سياق الموت يعني: في النزع الأخير- قال: قلت له: إن من حقوق الصحبة، أن نكون معه إلى آخر يوم في الدنيا، إلى آخر لحظة، ونكون أوفياء بأن نلقنه الشهادة. فقال أبو حاتم: إني لأستحيي أن ألقن أبا زرعة -يعني مثل: أبي زرعة الرازي الذي أفنى حياته في جمع حديث النبي عليه الصلاة والسلام، وكان رجلاً عاملاً بعلمه- مثل هذا أنا أستحيي أن ألقنه. قال له: إذاً تعال نحاول معه بأي طريقة، كأن ندعي أننا نتذاكر حديثاً مثل حديث: (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة) ، كما كنا نتذاكر من قبل، أنت تقول إسناداً، وأنا أقول إسناداً، حينها عندما يسمع أبو زرعة هذا الحديث سيذكر إن كان ناسياً وينطق بالشهادة، قال له:حسن! فذهبا فدخلا عليه، فقال محمد بن مسلم بن وارة: حدثنا أبو عاصم النبيل - الضحاك بن مخلد - قال: حدثنا عبد الحميد بن جعفر، وسكت، نسي الإسناد من هيبة أبي زرعة! فهابه الرجلان، وهؤلاء أقران، هل تعرف أن أبا حاتم وأبا زرعة كانا أولاد خال، ومحمد بن مسلم الرازي أعلى منهما في الطبقة والإسناد، كما سيظهر حتى من هذا الحديث. فـ محمد بن مسلم قال: حدثنا أبو عاصم النبيل، حدثنا عبد الحميد بن جعفر، وسكت، فقال أبو حاتم: حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم النبيل، قال: حدثنا عبد الحميد بن جعفر. ولم يستطع أن يكمل، ووقف هو أيضاً، لم يستطع أن يكمل أبو حاتم الحديث. فـ أبو زرعة قال: أقعداني فأقعداه فقال: حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم النبيل، قال: حدثنا عبد الحميد بن جعفر، عن صالح بن أبي عريش، عن كثير بن مرة، عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله ... ) وخرجت روحه مع الهاء. لم يقل: (دخل الجنة) وفي رواية أخرى أنه قال: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة) ومات. فانظر إلى هذا الأدب العجيب! حتى مع الأقران، مع أنه عادة أن تحصل الخلافات بين الأقران وهي مسألة واردة؛ فالحسد والغبطة عادة ما تكون بين الأقران، لكن هؤلاء لما طلبوا العلم دخلوه من باب الأدب، يكفي أن تشتغل بعيبك. وأنا أرى أن هذه الدروس مهمة؛ لأن الطلبة في زمننا هذا اشتغل بعضهم بالكلام على بعض، بدعوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإظهار كلام المبتدعة، وغير ذلك من الدعاوي، وهذه مزلة أقدام. وكما قيل: لا تحملن كلمة لأخيك على الشر وأنت تجد لها في الخير محملاً.

أهمية الرفق والصفح في الدعوة إلى الله تعالى

أهمية الرفق والصفح في الدعوة إلى الله تعالى كان الحسن البصري يقول: إذا بلغك عن أخيك ما تكره فابحث عن عذر، فإن لم تجد له عذراً فقل: لعل له عذراً. إذا لم تجد له عذراً، فمطلوب منك أن تستغفر له، ويجب أن تتمتع بقدر من التغابي، لا أقول الغباء؛ فإن العلم لا يصلح لغبي، لا يتعلم غبي ولا عصبي، لكن ينبغي أن تتمتع بقدر كبير من التغابي قيل لأعرابي: من العاقل؟ قال الفطن المتغافل. إذاً تتغافل، أنت تعرف أن هذا الإنسان فعل فعلاً ويريد أن يخرج من سخطك بعذر، فلو لم تكن صاحب حشمة ولم تعذره لما خرج من سخطك، هو يحسن نفسه أمامك؛ لأنه ما زال يحترمك، ما زلت كبير القدر عنده، فلا تضع قدرك، طالما أنه حريص على أن يواري سوأته عنك، فأتح له الفرصة، وافتح له طريق. والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (ما كان الرفق في شيءٍ إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه) قال نحو هذا الكلام لـ عائشة رضي الله عنها لما كانت تسرع بالجمل، قال: (يا عائشة! عليك بالرفق) حتى مع الدواب. وأنا أقول لك مثلاً: تخيل أنك تدق مسماراً في هذا حائط، وأنت رجل لديك عضلات قوية، وضربت المسمار ضربة قوية، ماذا سيحدث؟ سيرتد عليك، لكن لو ضربت عليه بهدوء، سيثبت ويستقيم معك. هناك ناس كثيرون مثل هذا المسمار لا يأتي إلا بالدق، لا يأتي بالذوق أبداً، فأنت كن حليماً، وكن رفيقاً، ينبغي أن يتخلق الداعية بالحلم، فلست جهة محاسبة، أنت جهة إصلاح. وأيضاً نقول لإخواننا الذين يتعلمون -لا أقصد إخواننا الدعاة؛ لأنهم أفضل مني، ولا أنصحهم ولا أعيبهم، هم يعرفون ذلك، لكن إخواني الذين يريدون أن يترقوا بالعلم-: عليكم بالرفق، أخي! عليك بالرفق لكي تصل إلى مطلوبك، إياك وأنت تطلب العلم أن تفكر أن تكون إدارياً، الإداري مكروه، حتى وإن كان محقاً فيما يفعل، لكنه مكروه، لو تعامل الإداري الداعية بأسلوب الدعاة أفسد الإدارة لماذا؟ لأن الإدارة تحتاج إلى حزم، كل شخص يأتي ويقول: يا إداري سهّل لي المسألة الفلانية، وأدخلني إلى المكان الفلاني، وأنا سآتي لك بفلان واسطة. لو أنه قبل كل شفاعة تصل إليه ضاعت الإدارة، إذن تحتاج الإدارة إلى حزم، فالداعية لا تصلح له الإدارة، أي إنسان يدخل في الإدارة لا بد أن تؤثر في سلوكه وتعامله مع الناس، وتؤثر في دعوته إن كان داعية. وعندكم عبرة بالأيام، انظروا! أي داعية دخل في الإدارة فلابد أن يخسر دعوته مباشرة، الداعية يحتاج إلى أن يعين إخوانه، يخالطهم ويصبر على أذاهم، ويسامح من آذاه، لكن الإداري مهما بسط وشرح عذره للناس لا يخرج من الملامة أبداً، إذاً لابد أن تكون داعية صرفاً، يعني: لا تشتغل بالإدارة.

الإخلاص أول أدب ينبغي أن يتحلى به طالب العلم

الإخلاص أول أدب ينبغي أن يتحلى به طالب العلم باب الأدب أوسع الأبواب التي يلج منها طالب العلم، فأنت كطالب علم لا بد أن تلتزم بآداب: أول الآداب التي ينبغي أن يتخلق بها طالب العلم هو: أن يحسن نيته في طلب العلم (الإخلاص) لابد أن تعلم أنك لا تتعلم لتكون فقيهاً أو ليشار إليك. لكن هناك مسألة واقعية، وهي عقبة تصرف كثيراً من الطلبة في بدء الطريق -عن العلم- هذه المسألة هي: أنك تجد طالب العلم يتمنى أن يكون مشهوراً، ويتمنى أن يكون معروفاً، فبعض الذين يدركهم الورع ينصرفون تماماً عن طريق التعلم؛ خشية الرياء. أنا أقول: لا، اصبر، اصبر قليلاً، قال ابن جريج لـ عبد الملك بن عبد العزيز -وهو من أوائل من صنف الكتب، وهو من طبقة الإمام مالك رحمه الله قال: طلبنا العلم لغير الله فأبى الله إلا أن يكون له؛ لأن عقد النية من أصعب ما يواجه الإنسان، عقد النية مسألة عسيرة! طالب العلم في مبدأ أمره وهو لا زال طالباً صغيراً، ليس عنده علم، فيعجز عن استحضار النية لقلة علمه، فلا يزال يواصل في الطلب، ويواصل ويواصل، فكلما تعلم شيئاً من العلم استفاد منه؛ فيحسن عقد النية في آخر الأمر، لكن هذا الذي ينصرف عن طلب العلم بحجة الخوف من الرياء، هو ليس عنده علم حتى يجرد النية له، فأنت اصبر على نفسك، ولا تتهم نفسك من أول الأمر. وقد جاء في الأثر: (من أدمن طرق الباب ولجه) طالما أنك تطرق سيفتح لك، فإذا تصورنا أن هناك إنساناً بداخل البيت، فطرقت الباب مرة أو مرتين وكان نائماً لا يفتح لك، لكن إذا ظللت تطرق وتدمن الطرق سيفتح لك، والعلم هكذا، لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك، وهذا من عزة العلم، مثل القرآن، فإنه لا يبقى في صدر المهمل، فأنت تتركه يتفلَّت منك؛ لأنه عزيز الجانب، يتركك في الحال، ويتفلت منك في ضحوة من نهار، فإذا لم يجد الترحاب والاهتمام والرعاية، وتبقى مهتماً به فإنه يدعك، كذلك العلم؛ لأنه عزيز أيضاً، لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك. فأنت في بدء الطريق لا تستطيع أن تجرد نيتك، فعليك أن تصبر على نفسك، وكلما تعلمت شيئاً من العلم أضفته لعلومك.

حسن القصد في طلب العلم من عوامل الدفاع عن الدين

حسن القصد في طلب العلم من عوامل الدفاع عن الدين حسن القصد خاصةً في هذا الزمان الذي خلا من العلماء الربانيين إلا ما ندر، أنت ستحمل هم هذه الأمة، وهمتك تكون على قدر همك، فكلما عظم همك عظمت همتك، أنت تمضي في هذا الزمان، الزمان الذي حصل فيه مسخ، ولا زالوا مجدين في هذا المسخ، من الذي يقف ويدافع عن أصول هذا الدين؟! لا أقول: فروعه، ها أنتم قد قرأتم وسمعتم في الجمعة الماضية عن مقالة الولد الصحفي، الذي كتب عن محاكمة فرعون، قصة اخترعها يقول فيها: إن هناك شخصاً مصرياً اسمه فلان الفلاني، سمع الناس كلها تقول: إن فرعون كافر، فاستغرب الرجل! فرعون كافر! الفراعنة أجدادنا، فقال: لابد أن أقوم وأدافع عن فرعون هذا، مقام وقدم طلباً للمحكمة فيه: أنه يريد أن يدافع عن فرعون، وفي الأخير يقول: إن فرعون مسلم، فرعون الذي ادعى الربوبية هذا مسلم! كيف صار مسلماً؟ قال: لأنه قال كلمة: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ} [يونس:90] ، فعندما قال: لا إله إلا الله أصبح مسلماً، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة) . حسن! فما آلآنَ} [يونس:91] ؟ يعني: آلآن تبت لما عاينت الهلاك والعذاب {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:91] ، قال: (كنت) للماضي، لكن فرعون تاب الآن، فما علينا بماضيه؛ لأن الإنسان إذا تاب فإن التوبة تجب ما قبلها. إذاً: (كنت) هذه للماضي، هو هذا ماضيه وختم له به، وليس له مستقبل. يعني: أنت لما تقرأ: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:96] إذاً (كان) يعني في الماضي. قلنا: فرعون عندما قال: و {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] ، ما قولك فيه؟ قال: الجماعة هؤلاء -يقصد العلماء- لا يفهمون معنى كلمة (رب) ، الرب تعني: الراعي والمهتم بالرعية. حسن قوله تعالى: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى} [النازعات:25] هذه الآية وغيرها أين تذهب بها؟ وقوله:: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} [هود:98] وقوله: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} [غافر:46] هنا وقف في قراءة، وهذا واضح، فكيف تتأول هذه الآية؟! فذلك الشخص يريد أن يثبت أننا فراعنة، وأننا لا ننتمي إلى الإسلام، وإنما ننتمي إلى الفرعونية. وهذه القصة وردت في صفحة كاملة. والصفحة الكاملة تكلف ثلاثمائة ألف، يعني هناك خسارة ثلاثمائة ألف ليُنشر مثل هذا الكفر، وقد أهدر الله عز وجل كل اعتبار لفرعون كما في القرآن، هذه مسألة من المعلوم من الدين بالضرورة، وهي: أن فرعون من الكافرين، عندما تصل الجرأة برجل فيقول: إن فرعون مسلم؛ لأنه لا يوجد من يحاكمه، ولا من يراجعه، بالعكس لقد أخذ أجراً على هذا الكفر الذي نشره، ويذهب إلى بيته آمناً، ولا توجد حتى لجنة تحاوره، وكذلك علماء الأزهر لم يواجهوه، وإلا كان المفروض في اليوم الثاني أن تنزل لجنة من الأزهر تطالب بمحاكمته، وتوقفه عند حده، لكن حتى الآن ليس هناك رد في الجرائد عن مثل هذا الكفر، وهذا تكذيب لرب العالمين، عندما يأتي شخص يقول: إن فرعون مسلم، هذا تكذيب صريح لرب العالمين، وقد امتلأ القرآن بتكفير فرعون. هؤلاء عندما كتبوا كفرهم ولم يحاكموا؛ أغرى ذلك غيرهم ليسلك نفس الدرب؛ لأن هذا الأنوك سبقه أنوك آخر، ليس له من العلم نصيب؛ إنه توفيق الحكيم -حيث لا توفيق ولا حكمة- الرجل هذا ألَّف رواية اسمها (الشهيد) ، يقول فيها: إن إبليس مظلوم، وإن ربنا سبحانه وتعالى لم يعطه الفرصة ليدافع عن نفسه، وذلك أنه أول ما قال: (أنا خير منه) ، قال له: (اخرج منها فإنك رجيم) . هذا الوقح يخاطب الله عز وجل فيقول: اعطه فرصه، دعه يدافع عن نفسه ثم يقول -على لسان إبليس مخاطباً رب العالمين- يقول: يا رب! أنا الذي وحدتك، والملائكة أشركوا. كيف ذلك؟ قال: أنا رفضت أن أسجد إلا لك، وهم سجدوا لبشر، والسجود للبشر كفر. أنا لا أستبعد يا إخواننا! أن يخرج آخر أنوك يقول: إن رب العالمين مشرك. كيف ذلك؟ سيقول لك: إن ربنا أقسم بالشمس وضحاها والتين والزيتون، ولا يجوز الحلف إلا بالله! يا أخي! لا تستغرب، لا تستغرب مثل هذا، ما كان يخطر على بال إنسان أن يخرج واحد يقول شخص: إن إبليس مظلوم؛ لأن رب العالمين لم يعطه الفرصة ليدافع عن نفسه والله ما كان يخطر على البال على الإطلاق أن يصل هذا الكفر المجرد إلى هذا الحد، وتنشر الرواية، وبعد ذلك يصوغها في أسلوب هزلي لكي تلتبس على علماء الشريعة، يقول فيها: إن إبليس أراد أن يتوب، قال: يا جماعة دلوني على الذي يقبل توبتي؟ قالوا له: عليك بأكبر رأس، من هو؟ إنه شيخ الأزهر، مرشد الأزهر هو أكبر رأس، شيخ الإسلام في البلد، قل له: أنا أريد أن أتوب. فجاء إبليس إلى شيخ الأزهر، قال له: القرآن مليءٌ بأن الإنسان إذا أراد أن يتوب فله ذلك: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى:25] : {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا} [الزمر:53] وأنا الآن اكتشفت أنني كنت مخطئاً وأريد أن أتوب، فاقبل توبتي. فأخذ شيخ الأزهر يلعب بلحيته، يعني أن الحجة التي أتى بها إبليس كانت قوية، لم يستطع أن يأتي برد، فالرجل لعب بلحيته؛ لأنه ألزمه الحجة. قال شيخ الأزهر لإبليس: هل تبت؟ قال: نعم. قال له: إن نصف القرآن يلعنك، وأنا لو قبلت توبتك فإني سأبطل القرآن. لا أقبل توبتك؛ لأني في هذه الأرض أدافع عن القرآن، لا يمكن نلغي نصف القرآن من أجل أن نقبل توبتك، قال له: لكن أنا أريد أن أتوب، لو أن شخصاً من بني آدم أراد أن يتوب هل ستقول له: لا؟! أنا أريد أن أتوب، وهذا نص القرآن الذي تقرأه، والذي تدافع عنه: إن أي شخص يريد أن يتوب فله ذلك. قال: حينئذ سكت شيخ الأزهر قليلاً وقال: المسألة هذه أعلى من اختصاصي، أنا كل اختصاصي أن أرفع من مكانة الأزهر، وألمع الأزهر فقط، أما المسألة هذه فتحتاج إلى شخص أكبر مني قليلاً. إذاً: لمن أذهب؟ قال له: اذهب إلى جبريل. يا إخوان! الرواية مكتوبة وتباع! فذهب إبليس وصعد إلى جبريل، وقال له: أريد أن أتوب، فقال جبريل: لا، هذه المسألة ليست من اختصاصي، هذه لا يفصل فيها إلا رب العالمين، عليك برب العالمين، فإن بابه مفتوح، فذهب إبليس إلى رب العالمين فلعنه، فطفق نازلاً وهو يصرخ صرخة -انظر إلى الكفر المجرد! - تجاوبت لها السماوات والأرض والأشجار والأفلاك والأحجار والرمال والبحار والأنهار ويقول: أنا شهيد، أنا شهيد، أنا شهيد. يعني: أنا مظلوم! فهو عندما رده رب العالمين نزل وهو يقول: أنا مظلوم، فكل الكون تجاوب معه؛ لأنه مظلوم هل يصلح يا إخواننا مثل هذا الكلام؟! نحن نعاني من محنة لا يعلمها إلا الله. لا يعلمها إلا الله. ونحتاج فيها كتيبة من العلماء في كل حي، لا أقول كتيبة من العلماء في البلد، بل في كل حي، الأمر جد وليس بهزل، فهذا الكفر الذي يظهر يومياً على صفحات الجرائد، ناهيك عن رسومات (الكاريكاتير) التي تستهزئ بالله ورسوله، رسم رجل هنا (كاريكاتير) فنقله شخص في جريدة كويتية وآخر نقله في الجريدة فعوقب الذي في الكويت بستة أشهر في السجن، والذي رسم (الكاريكاتير) في هذا البيلد لم يعاقبه أحد، وجاء في جريدة في صفحة النكت أن مدرساً سأل تلميذه فقال: لماذا أخرج الله آدم من الجنة؟ فقال له الطالب: لأنه ما دفع الإيجار! هل يجوز هذا الكلام؟!!

أهمية معرفة مسائل الخلاف وأنواعها

أهمية معرفة مسائل الخلاف وأنواعها طلبة العلم لا ينبغي لهم أن يرد بعضهم على بعض، ويهجر بعضهم بعضاً، ويصطادون أخطاء بعض، وكل هذه الأفعال يفعلونها تحت مظلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووتحت مظلة لا بد من الرد على المبتدعة وغير ذلك. أقول: هذا أمر جيد، أنا لا أستهين ولا أقلل من هذا الدور، لكن يجب أن لا تلبس علينا الأمور، لا بد أن ندرس مسائل الاختلاف دراسة واعية، ونعرف الاختلاف الذي يسوغ فيه التفرد، والاختلاف الذي هو اختلاف التناقض، ونعرف اختلاف التنوع الذي يسعني الخلاف فيه معك، وأن تكون أخي برغم هذا الخلاف. ذكر الذهبي في: سير أعلام النبلاء في ترجمة الشافعي رحمه الله: أنه اختلف في مسألة ما مع تلميذ له -وهو يونس بن عبد الأعلى - وتفرقا، قال يونس: فجاء الشافعي فطرق بابي، ثم أخذ بيدي فقال: يا أبا موسى! ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة؟ قال الذهبي: ما أكمل عقل هذا الإمام! فلا زال النظراء يختلفون، حتى الصحابة اختلفوا، لكن ما تفرقوا، هناك فرق، لأنهم كانوا يعلمون الاختلاف السائغ، والاختلاف الذي لا يسوغ، وهذا لا يكون إلا إذا درسنا الآداب -آداب طالب العلم-. فالإنسان إذا تأدب وتعلم؛ فإن علمه يصل إلى الناس، بخلاف الإنسان غير المؤدب.

نماذج من رجوع علماء السلف عن الخطأ والاعتراف به

نماذج من رجوع علماء السلف عن الخطأ والاعتراف به ذكر أبو بكر بن العربي في كتاب: أحكام القرآن -وهو كتاب ممتع- ذكر حكاية عن شيخه محمد بن القاسم العثماني، قال: دخلت مرة مصر وذهبت لأحضر مجلس أبي الفضل الجوهري، فسمعته يقول: (طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظاهر وآلى) ، قال: وانفض المجلس فتبعته، قال: وعليَّ شارة الغربة، أي: علامة السعر. وهي الثياب الرثة؛ لأجل هذا استغرب الصحابة شكل جبريل عليه السلام في حديث الإسلام والإيمان والإحسان، رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، ولا يعرفه منا أحد! هذا معناه أن ثيابه نظيفة، ولا يزال شعره مرجلاً. قال: فتبعته، حتى إذا خف المجلس قال: أُراك غريباً. قلت: نعم. قال: لك حاجة؟ قلت: نعم. قال: أفرجوا له. فاختلى به، فقال له محمد بن قاسم: حضرت مجلسك متبركاً بك، فسمعتك تقول: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقت، وسمعتك تقول: وآلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدقت، وسمعتك تقول: وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا لم يكن؛ لأن الظهار منكر من القول وزور، ما كان ليقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فضمني إليه، وقبل رأسي، وقال: أنا تائب من هذا القول، جزاك الله خيراً. لا يمكن أن يفعل هذا إلا عالم مؤدب، تمرس على الأدب وهو طالب، فورث العلم والأدب وهو شيخ، قال: فلما كان من الغد بكرت إلى المسجد، فإذا الجامع غاص بأهله -مليء- قال: فدخلت، فلما رآني، استقبلني وقال: أهلاً بمعلمي! قال: فتطاولت الأعناق إلي. -إذا كان شيخهم محترماً جداً إلى هذا الحد، فشيخ شيخهم كيف يكون؟ - قال: فتطاولت الأعناق إليَّ، ورفعوني، فتصبب بدني عرقاً من الحياء، ولم أعرف بأي موضع أنا من الأرض، قال: فحملوني إليه وقال أبو الفضل الجوهري: أنا معلمكم وهذا معلمي، إنني قلت لكم بالأمس: (إن النبي صلى الله عليه وسلم طلق وآلى وظاهر) وإن هذا الشاب جاءني وقال: كذا وكذا، وأنا راجع عن قولي. لأنك عندما تنسب نفسك إلى النقص غير أن تنسب نبيك إلى النقص، وليس لكي تدافع عن نفسك وعن وجهة نظرك تتهم الرسول صلى الله عليه وسلم، لا، أنت تعرف الحديث الذي رواه الشيخان في صحيحيهما، حديث الخوارج: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم غنائم حنين، فجاء ذو الخويصرة، فقال: يا محمد! اعدل، فإنك لم تعدل. قال: ويحك، لقد خبتَ وخسرتَ إن لم أعدل) هي هذه الرواية التي قام المحققون بضبطها هكذا، وليس (لقد خبتُ وخسرتُ) شيخ الإسلام ابن تيمية: إن من ظن في نبيه أنه لا يعدل كفر. إساءة الظن بالنبي كفر، فلقد خبت وخسرت إن ظننت أني لا أعدل وأنا رسول رب العالمين، يقول لك: لأن الأسماء قد تكون كثيراً على خلاف القياس؛ ولذلك ينبغي أن تتلقى من أفواه الشيوخ، الأسماء بالذات لا تجري على القياس إنما تتلقى بالسمع. فمثلاً: الأنباري صحح فهمه الدارقطني فَقَبِلَ، قال الدارقطني: فأعظمته وأكبرته أن يحمل عنه خطأ، فلم يذهب للشيخ مباشرة؛ لأن الشيخ جليل، كبير! والدارقطني مازال شاباً، يحضر مجالسه، قال: فأعلمت مستمليه. فقلت: إنه يقول كذا، أي أن الاسم الفلاني ضبطه الشيخ خطأً، فالمستملي أبلغ أبا بكر الأنباري، فقال: إنني أخطأت في ضبط الاسم الفلاني، وقد أوقفنا هذا الشاب على الصواب. قال: فعظم في عيني. وهذا الشافعي يقول: ما ألقيت الحجة على أحد فقبلها إلا هبته، وزاد في عيني، وما ردها أحد إلا سقط من عيني! نحن قلنا: باب الأدب باب مهم، لا ينتفع الناس بعلم إلا إذا كان المبلغ تعلم الأدب. ومن تمام الأدب أن تعرف قدر نفسك وتعرف قدر غيرك.

عدم بذل العلم إلا لمن يستحقه

عدم بذل العلم إلا لمن يستحقه هذا سفيان بن عيينة كان ماشياً، فلقيه غلام فقال: يا سفيان! يا سفيان! حدثني. قال يا غلام! من جهل أقدار الرجال فهو لنفسه أجهل. ولذلك كان بعض العلماء لا يعطي طالب العلم مناه من الفائدة؛ ليس كتماً للعلم، ولكن اختباراً لأدبه. جاء رجل إلى يحيى بن معين، وقال: يا أبا زكريا! أنا مستعجل، أنا على سفر، حدثني حديثاً أذكرك به. قال: اذكرني إذ طلبت مني فلم أفعل.

اختبار يحيى بن معين لشيخه أبي نعيم

اختبار يحيى بن معين لشيخه أبي نعيم والفضل بن دكين رحمه الله - أبو نعيم - وهو من كبار مشايخ البخاري في الطبقة الأولى، البخاري شيوخه على ثلاث طبقات، أعلى طبقة في شيوخ البخاري منهم: أبو نعيم الفضل بن دكين، و: مكي بن إبراهيم، وحمزة بن عبد الله الأنصاري، وعبيد الله بن موسى، أبو عاصم النبيل، ومحمد بن موسى السرياغي. ، وطائفة من هؤلاء العلماء الكبار، هم كبار مشايخ البخاري. فـ الفضل بن دكين هذا -وهو من مشايخ أحمد أيضاً- كان يجلس ويحدث، وكان يجلس عن يمينه أحمد بن حنبل وعن شماله ابن معين، ففي يوم من الأيام أحب يحيى بن معين أن يختبر شيخه الفضل، فكتب جملة أحاديث في ورقة بها عشرة إلى عشرين حديثاً من أحاديث الفضل، ولكن وضع فيها ما ليس من حديثه؛ ليختبر حفظه؛ لأنه طالما لم يميز حديثه من حديث غيره إذاً ساء حفظه، فهو يريد أن يتأكد هل شيخه لا زال حافظاً ضابطاً أم لا، فعمل المسألة هذه واستشار الإمام أحمد فقال: ما رأيك هل نعمل هذا مع الشيخ لنختبره، ونعرض عليه الأحاديث؟ فقال الإمام: لا تفعل، إنه كفء -هذا رجل حافظ- قال ابن معين: لابد أن أفعلها، لكن لم يعطه الورقة بنفسه، وإنما أعطى الورقة لـ أحمد بن منصور الرمادي، وهو أحد الأئمة الثقات، وكان يحضر في مجلس مثل الذي يكون فيه مثل هؤلاء الطلبة. قال فلما خف المجلس ناوله الرمادي الورقة، قال: فجعل الفضل ينظر فيها، ثم سكت قليلاً، ثم قال: أما هذا - يعني أحمد بن حنبل - فآدب من أن يفعل ذلك، وأما أنت فلا تجرؤ على أن تفعل ذلك، وليس هذا إلا من عمل هذا. قال وأخرج رجله فرفسه، فأسقطه من على الدرج، وقال: علي تعمل الأشياء هذه؟! وقام مغضباً، فقام يحيى بن معين وقبل جبهته، وقال: جزاك الله عن الإسلام خيراً، مثلك يحدث، إنما أردت أن أجربك، والله لرفستك أحب إلي من رحلتي. فـ ابن معين ما قام بعد أن رفسه أمام الطلبة ويقبل جبهة شيخه إلا لأنه تعلم الأدب، لكنهم اهتموا بباب خطير من أبواب العلم، وهو باب الحكم على الرواة، فكان بعض الشيوخ يقسو على الطلبة، ليس كتماناً للعلم، ولكن ليظهر أدب الطالب، فأنت عندما ترده يرجع إليك منكسراً، هذا هو الذي يتعلم، لكن إذا قال: لماذا تفعل هذا معي؟! مثل هذا لا ينفع أن تعطيه العلم، هذا لا يصلح أن يحمل علماً، فيتضرر منه أناس كثيرون إذا حمل أمثاله العلم، لكن لابد قبل أن تعطي العلم، ومفاتيح العلم، للطالب لابد أن تعرف أنه أهل أن يحمل هذا. أبو العباس السهران له جزء من عوالي حديثه الذي سماه: البيتوتة، كان أبو العباس السهران إذا جاءه من يريد أخذ جزئه وروايته عنه، لم يجبه إلى طلبه إلا إذا بات على بابه في الطل إلى الصباح، وفي الصباح إن رأى عليه علامات الرضا والاغتباط مكنه من رواية هذا الجزء، لكن إذا انقبض؛ إذاً هذا الطالب ليس بمؤدب، ولا يستحق أن يمكن من رواية هذا الجزء.

صور من تأديب علماء السلف لتلاميذهم

صور من تأديب علماء السلف لتلاميذهم الإمام الكبير العلم أبو محمد سليمان بن مهران الأعمش رحمه الله، كان مشهوراً بالشدة والقسوة على الطلبة، حتى إن الخطيب البغدادي روى عنه حكايات عجيبة في شرح أصحاب الحديث. يقول: إن الأعمش ما كان يحب أحداً يجلس بجانبه وهو يحدث، فجاء طالب من الطلبة الغرباء، لا يعرف أن الشيخ يكره ذلك، فجلس بجانبه، فأحس به، وكان الأعمش كفيفاً، فلما أحس به جعل الأعمش يتفل عليه طيلة الجلسة، وهم يقولون لهذا الطالب: اسكت -يشيرون له-؛ لأنه لو تكلم فإن الأعمش سيقطع الحديث في الحال. وهذا عبد الله بن نمير وعبد الرحمن بن مهدي، كان الواحد منهما إذا رأى طالباً يبري القلم في المسجد أخذ نعله ومشى. وكذلك إذا رأى طالباً يهمر -أي: يجري- أخذ نعله وخرج، ويحرم الطلبة كلهم، وبينهم أناس قدموا من أماكن بعيدة، ما ذنب الطالب الذي قدم من مكان بعيد؟ لأن هذه مسألة أدب. وإذا كانوا في مجلس وكيع كأنّ على رءوسهم الطير، هذا كله ليس تحكماً على رقاب الطلبة، وإنما هو نوع من التأديب، كما صح عن مجاهد بن جبر رحمه الله، قال: لا يتعلم اثنان: مستحٍ، ومتكبر. الطالب الذي جاء وقد لبس ثوب العز، ابن فلان الفلاني، أو ابن علان العلاني لا، وأنت آت اخلع الرداء على باب المسجد، وادخل هنا بزي التلميذ وسمت التلميذ، لست ابن فلان في هذا المجلس. وكيع بن الجراح هو: الجراح بن مليح الرؤاسي، كان على بيت المال، وهو الذي يعطي الأعطيات للعلماء، فذهب ذات يوم للأعمش، فقال له: ما اسمك؟ قال: اسمي وكيع! ابن من؟ قال: ابن الجراح. قال: ابن مليح؟ قال: نعم. قال: ماذا تريد؟ قال: أريد الحديث. قال: اذهب فأتني بعطاء من أبيك وأحدثك بعشرة أحاديث. مباشرةً انطلق وكيع وذهب إلى أبيه، فأعطاه نصف العطاء، فجاء فنظر الأعمش فعرف الحيلة، فحدثه بخمسة أحاديث، قال له: والخمسة؟ قال: تعملها عليّ؟ -وما علم أن الأعمش مجرب، قد شهد الوقائع، رجل أصبح سيد الوقائع، يعني رجل له حروب كثيرة، رجل مجرب- لا أحدثك إلا إذا أتيتني بعطائي كله. هذا نوع من التأديب، فاستفاد وكيع من الأعمش كثيراً. فمرةً شتمه رجل -شتم وكيعاً - فدخل وكيع داره وعفر وجهه بالتراب، وخرج إلى الرجل فقال له: (زد وكيعاً بذنبه فلولاه ما سلطت عليه، انظروا! ينسب نفسه إلى النقص وإلى التقصير. لا يفعل هذا إلا رجل ورث الأدب. وسبه رجل أيضاً، فقيل لـ وكيع: ألا تجيبه؟ قال: ولِمَ تعلمنا العلم إذاً؟! لا بد أن يكون هناك فرق بينك وبين السفيه، ونحن نشبه الرجل الذي يحمل العلم، والرجل الفارغ من العلم، بالسيارة الفارغة والسيارة الملآنة: السيارة الفارغة تسرع وقد تخبط أي شيء أمامها من سرعتها، لكن عندما تكون مليئة وتمشي ببطءٍ وتؤدة، كذلك الإنسان الذي لا يحمل العلم كثير الضوضاء، يتكلم كثيراً، كثير الشغب، بخلاف العالم، فهو يقول: لم تعلمنا العلم إذاً؟! لابد أن يكون هناك فرق. والعرب كانت تقول: (لا تجاري السفيه بسفه مثله، فإن هذا يعني أنك رضيت أمره فحذوت مثاله) . وقد أحسن من قال: يقابلني السفيه بكل حمق فأرفض أن أكون له مجيباً يزيد سفاهة فأزيد حلماً كعود زاده الإحراق طيباً هل أنت تشم البخور إلا عندما تضرم فيه النار؟! عندما تضرم النار في عود البخور تعرف أنه طيبٌ، كذلك الحلم لا يظهر إلا بمثل هذا. فالإمام الأعمش رحمة الله عليه كان شديداً، وورث منه هذه الشدة أبو بكر بن عياش، فقد كان عسراً جداً في التحديث، فجاءوا فقالوا: يا أستاذ! ألا حدثتنا بحديث؟ قال: ولا نصف حديث. قالوا: حدثنا بنصف حديث. قال: اختاروا السند أو المتن. ما هذا؟! فأرادوا أن يختبروه، فقالوا: أنت عندنا إسناد، نريد متناً ننتفع به. فقال: كان إبراهيم النخعي يدحرج الدلو. إذاً: ما الذي استفدناه؟! حتى المتن شح عليهم به، شح عليهم بمتن مفيد، وكان ممكن يقولون له: هات السند؟ فهو يرى أنه بفعله هذا يؤدب الطلبة. هذا يذكرني بأحد المحدثين وكان لا يزال شاباً صغيراً، ذهب يسمع من العلماء، فعادة العلماء أنهم إذا رووا حديثاً واحداً بأسانيد كثيرة، أن المحدث يذكر المتن في أول إسناد، ومن ثم يحيل على المتن السابق، يعني لا يكرر، مثلما فعل الإمام مسلم في أول حديث في صحيحه، عندما روى الحديث بإسناد نظيف، وبعد ذلك أورد أسانيد في بعض رجالها مقال، ويقول: بنحو حديثهم، بمثل حديثهم يعني كأنه يريد أن يقول: إن الكلام متشابه. فالمهم أن الطالب هذا أيضاً كتب متناً واحداً وكتب لهذا المتن عشرين أو ثلاثين سنداً بنحوه، بمثله، فقالوا له: يا أخي اجعل لنا مجلساً وحدثنا فيه من العلم النافع. ففتح كتابه، وكان المتن في الصفحة الأولى، ففتح الصفحة الثانية التي فيها الأسانيد وجعل يقول: حدثنا فلان عن فلان عن فلان بمثله، بنحوه، بنحو ما قال، بمثل ما قال، قالوا له: ما هو الذي بنحو ما قال؟ أين المتن؟ أين الكلام؟ قال: كما سمعنا نحدثكم، هل أنا أحرف الكلام أم ماذا؟ أنا سمعت هكذا، الشيخ قال: بنحوه؛ إذاً بنحوه، بمثله، وهو إنما قال: بنحوه، بمثله للحديث الأول، يعني كان المفروض أنه يقرأ المتن الأول. فالقصد: أن الشيوخ كانوا يشددون على الطلبة، وكانوا يطردونهم أحياناً إن رأوا المصلحة في ذلك، كل هذا ليس إذلالاً لهم، ولكن لكسر الكبر الذي يأتي من الطالب. يقول عيسى بن يونس: ما رأيت مجلساً الفقير أعز فيه إلا في مجلس الأعمش، وكان يحتقر الأغنياء على فقره وحاجته، وما كان يطمع أبداً فيما عندهم؛ لأن الأمر كما قيل لأهل البصرة: بما ساد فيكم الحسن - الحسن البصري -؟ قالوا: احتجنا لعلمه، واستغنى عن دنيانا. هذا هو هذا الفرق. إذاً أول شيء -وهو من أهم المطالب وأهم الآداب-: أن تعرف لماذا تطلب العلم؟ كثير من إخواننا حتى هذه الساعة صار له عشر سنين، أو خمسة عشر سنة، أو عشرين سنة يقرأ في الكتب، ومع ذلك لا يستطيع أن يحرر مسألة خلافية حتى الآن، لماذا؟ لأنه لم يحدد ما الذي يريده من العلم. عدة المتعلم على سبيل النجاة بخلاف عدة الذي يتعلم ليعلم، هذا له عدة وهذا له عدة، تعقد النية وتجرد القصد لله تبارك وتعالى، ثم تلج العلم من باب الأدب، ظن بنفسك شراً، وأن إخوانك أفضل منك، وأنك لما تقدم إخوانك عليك يكون خيراً لك، ولو نازعك أحد في الدنيا فاتركها له، فإنها تأتيك أوفر ما كانت، وجرب، لا تنازع أحداً في الصدارة أبداً، ستأتيك؛ لأن الله عز وجل هو الذي يهب المكانات، سبحان من لا يعلم أقدار خلقه إلا هو: (رب أشعث أغبر، ذي طمرين، مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره) وأن عبداً كان يمشي على الأرض بقدميه، وهو سعد بن معاذ، اهتز له عرش الرحمن يوم مات، فكم قدر هذا العبد الذي يهتز له عرش الرحمن تبارك وتعالى؟ فأنت لا تدري ما منزلتك، إذاً تواضع، أخصب الأراضي التي تستوعب الماء، وتزرع أكثر من الأرض المرتفعة؛ لأن الأرض المرتفعة لا يصعد إليها ماء، كذلك الإنسان المرتفع المتكبر، الذي له سنام عال لا ينال العلم، لكن كلما تكون منخفضاً بالذات للعلم، فإن هذا يكون أفضل لك.

الصبر على جفوة الشيخ والتماس العذر له

الصبر على جفوة الشيخ والتماس العذر له أنت عندما تطلب العلم يجب أن تصبر على جفوة شيخك؛ لأنك أنت ربما تأتيه وهو مكدر الخاطر. ذات مرة أتى إلي شخص وقال لي: انظر! أنا تركت مجلسك وصار لي سنتان، أظن أنه من حقي أن تعطيني من صبرك ومن وقتك. قلت له: أنت تركتني منذ سنتين لكن غيرك لم يتركني، يعني أنا مشغول بصفة مستمرة، وأنت ممن انقطع. فقد يكون الإنسان مكدر الخاطر، بالذات إذا كان رجلاً يحمل هم الدعوة، ونشر الدين، ومشاكل الناس؛ لأن مشاكل الناس تترك نكتة سوداء على القلب. يعني تخيل مثلاً لما يأتيك أن شخصاً زنى بابنته! رجل متهتك، سافل، وآخر تزوج عشر نساء، هذا الذي زنى بابنته هرب واختفى، لا يعرفون أين هو، فكبرت البنت والتزمت، وتقدم لها خطاب كثيرون وكانت ترفض، وبعد رفضها لكل خاطب تنطلق في نوبة من البكاء، وكان أخوها أيضاً ملتزم وهو لا يعلم بما حصل، فسألها، لماذا ترفضين كل من يتقدم لخطبتك فلم تفصح عن السبب، وبعد حوالي سنة من هذه المسألة صارحت أخاها بما حصل لها وقالت: ماذا يقال عني لو أني قبلت أن أتزوج بهذا الإنسان؟ فيأتي هذا الأخ ويسأل: هل يجوز ترقيع غشاء البكارة؛ لكي ننقذ هذه البنت، ولا يساء الظن بها؟ فقيل له: لا، لا يجوز؛ لأنه إن صح أنك تريد أن تستر بنتاً، لكنك خدعت رجلاً يريد بكراً، وهما متقاسمان في الحقوق، لا يجوز لك لكي تنقذها أنك تأخذ حق الرجل المتقدم. فأنت كداعية وعالم لما تعرض عليك مثل هذه المسائل يحصل عندك نوع من الاكتئاب، فعندما تكون مكتئباً ويرد عليك عشرات أمثال هذا، وهذا أكل حق هذا، وهذا كذا، مع مخططات أعدائنا الخارجية، كل هذا يجعل الإنسان مكتئباً أو شبه مكتئب، فأنت لما تأتي للشيخ وهو مكتئب، وأنت تظن أنه متفرغ لك؛ فصدك أو ردك، كان من الواجب عليك أن تعذره. قبل أن أغادر هذه المسألة، أيضاً نذكر الفتوى في مسألة البنت هذه، فكان الجواب وقتها أني قلت: ممكن أن تكذب في طريقة إزالته، كأن تقول مثلاً: قفزت من على جدار، وهي تعمل ألعاب كذا، ممكن تأتي بشهادة على ذلك، صحيح أن هذا كذب، ولكنه أهون بكثير من أن ترقع غشاء البكارة؛ لأنه قلما تعرض هذه المسألة على إنسان فيستريح، سيرتاب دائماً. فالقصد أن الإنسان قد يكون مهموماً، فأنت إذا جئت فرأيت جفوة من شيخك فينبغي عليك أن تصبر، إذا ردك مرة وثانية وثالثة ورابعة، فينبغي عليك أن تصبر أيضاً، ولا تعتقد أن الشيخ يقصد إذلالك، لا، يعني احمل فعله على الخير. إذاً: عندنا حسن القصد واللين، وعندنا الصبر على جفوة الشيخ، وعندنا أن توطئ أكنافك لرفيقك، فهذه ثلاثة آداب من الآداب التي ينبغي أن يتحلى بها طالب العلم.

النبي صلى الله عليه وسلم يعطي كل ذي حق حقه في المعاملة

النبي صلى الله عليه وسلم يعطي كل ذي حق حقه في المعاملة رجل أعرابي جاف، جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب، الأعراب لبعدهم ولجفائهم لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يؤاخذهم مثلما يؤاخذ أهل الحضر، ولذلك في حديث أنس أنه قال: (كنا نهينا أن نسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يعجبنا أن يأتي الرجل العاقل من أهل البادية يسأله ونحن نسمع) . لماذا؟ لأن أهل البادية رفعت عنهم المؤاخذة في ذلك؛ لأنه رجل بعيد عن العلم، بينما الصحابة الذين تأدبوا في المدينة ما عذرهم؟ قيل لهم: (ذروني ما تركتكم) النبي عليه الصلاة والسلام فعل فعلاً لم تجر عادة بمثله، لذلك افترق الصحابة إلى فريقين، لم يكن من عادته صلى الله عليه وسلم أن يواجه الناس بشيء فيكرهونه، مثل سؤال الأعرابي، متى الساعة؟ لم يرد عليه وهو واقف، وهذه ليست من عادته عليه الصلاة والسلام، فقد كان إذا سأله إنسان أقبل عليه، فلما خالف عادته اختلف الصحابة، فقال بعضهم: لم يسمع؛ لأنه لو سمع لأقبل عليه كما تعودنا منه؛ لأنه لا يعرض عن أحد لاسيما إذا جاء سائلاً في دين الله سبحانه وتعالى، وقال آخرون: بل سمع، ولكن كره ما قال. فهذا يدلنا على أن عادة النبي عليه الصلاة والسلام أنه لا يقابل أحداً بما يكره.

معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه

معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه (جاء عبد الله بن عمرو يلبس ثوباً أحمر، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم تغير وجهه، فعلم عبد الله بن عمرو ما سبب تغير وجه النبي صلى الله عليه وسلم، فذهب إلى البيت فوجدهم يسجروا التنور فخلع ثوبه وقذفه في التنور) طالما الرسول كرهه، فلا خير فيه، انظر امتثال الصحابة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم! وهذا ابن عمر جاءه سائل يسأله عن الغراب، هل يجوز أكل الغراب؟ قال: من يأكل الغراب وقد سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم: فاسقاً؟ فلما قذف بهذا الثوب في التنور، ورجع بثياب أخرى، فلما أقبل؛ أقبل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (ما فعلت بالثوب؟ قال: سجرت به التنور. قال: فهلا أعطيته بعض أهلك) لو أنت أعطيته للمرأة فلا بأس، الثوب الأحمر الخالص يجوز للنساء أن يلبسنه. وهناك حديث صحيح أيضاً، أظنه عن جابر بن سمرة قال: (رأيت على النبي صلى الله عليه وسلم حلة حمراء، ما رأيت أجمل منها قط) فهذا محمول على أن غالب اللون كان أحمر، وليس هو اللون الأحمر الخالص. فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعامل أصحابه الملازمين له غير معاملة الأعراب الذين يأتون من بعيد؛ لأنهم لم يتأدبوا ولم يعرفوا؛ فلذلك -لأنه لم تجر عادة النبي عليه الصلاة والسلام بمعاملة الأعراب- انقسم الصحابة إلى فريقين: الفريق الأول قال: لم يسمع؛ لأنه لو سمع لأقبل عليه على عادته وحسن خلقه. والفريق الآخر قال: بل سمع، ولكن كره أن يسأل المرء عن الساعة. وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سئل عن الساعة، بحيث لو فتشت خلف هذا السؤال لتعرف من السائل لوجدت السائل أعرابياً، كل الذين قالوا: متى الساعة؟ أعراب، ولم يسأله أحد من الصحابة القريبين من النبي عليه الصلاة والسلام. فإذا جاءك أحد وسأل هذا السؤال لا تقل له: هذا ليس من اختصاصك، لا تقل هذا الكلام، ولكن صحح له السؤال بطريقة لطيفة. (جاءه أعرابي قال: متى الساعة؟ فقال: وما أعددت لها) انظر! إلى هذا التصحيح الجميل، والأسلوب الرائع، كأنه قال له: يعني إذا عرفت أن الساعة غداً أو بعده أو السنة القادمة، ما الذي يفيدك؟ أي: لا يفيدك إلا ما أعددته للساعة. فصحح له السؤال. وهذا من الآداب التي ينبغي أن يتحلى بها المفتي، عليه يتفرس في وجه السائل، عندما يسمع منه السؤال يقول له: هل تقصد كذا؟ يقول له: لا. إذاً: هل تقصد كذا؟ يقول له: لا. إذاً سؤالك غلط، ماذا تريد أن تقول؟ يقول: أنا أريد أن أسأل عن كذا وكذا، فيقول: إذاً السؤال يكون هكذا. فتصحح له السؤال قبل أن تجيب. وهذه الخصلة لا أعلم للشيخ الألباني حفظه الله نظيراً فيها، فإنه يظل ربع ساعة يصحح السؤال للسائل، حتى يعلم قصده؛ لأن المفتي طبيب وليس موظفاً يجيب فقط. فالنبي عليه الصلاة والسلام لما يقول له الأعرابي: (متى الساعة؟ -هل السؤال هذا يفيده؟ لا. فصرفه إلى ما يفيده- قال: وما أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها كبير عمل إلا أنني أحب الله ورسوله. فقال: المرء مع من أحب) . انظر إلى الأعرابي العاقل! الذي كان أنس والصحابة يتمنونه، ومثل الأعرابي الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم هذا السؤال، لما قال له: (متى الساعة؟ قال: إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة. قال: وكيف إضاعتها؟ ... ) الحديث هذا يدل على أنه عاقل؛ لأن الحكم المعلل يخترق القلب أكثر من الحكم غير المعلل، كما سنوضحه إن شاء الله في موضعه. المقصود من هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعامل الأعراب معاملة، وكان يعامل أصحابه الملازمين له معاملة أخرى، ويعتبر هذا من آداب الشيوخ حيث يفرق ما بين الغريب وما بين الحضري. أسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا وإياكم بما علمنا، وأن يعلمنا ما جهلنا. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

معاملة النبي صلى الله عليه وسلم للأعراب

معاملة النبي صلى الله عليه وسلم للأعراب في الحديث الذي تعرفونه، حديث أبي هريرة وحديث أنس (أن رجلاً أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد والصحابة جلوس فقال: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم أحداً معنا) . كان على هذا الإنسان لو كان عنده شيء من الأدب أن يقول: اللهم ارحمني ومحمداً والجلوس، ولا ترحم الذين خارج المسجد. طالما لم يسمعوا، لكن الذي يسمع مثل هذا! ماذا تريد؟ أتريد أن تدخله جهنم وبئس المصير؟ وهو يسمع بأذنه، لكن هو أعرابي يتصرف على تربيته، وهذا الأعرابي كان يخالط كان يخالط الدواب والأنعام والأرض الصلبة، فحياته كلها هكذا، ليس فيها مراعاة لشعور الناس. فقال عليه الصلاة والسلام: لقد حجرت واسعاً) أي: ضيقت ما وسعه الله، وكان السبب في مقولة الأعرابي أنه دخل ذات يوم مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فبال في ناحية منه، فهم الصحابة به -لو أن رجلاً دخل هذا المسجد بنعله سيقتلونه ضرباً، بينما ذلك بال في المسجد فهموا به- قال: (لا تزرموه، دعوه، -لا تقطعوا عليه بوله -لأن علاج المسألة سهل- وأريقوا على بوله ذنوباً من ماء) لأن الأرض تشرب الماء كما تشرب البول: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث) الأرض أصبحت طاهرة وانتهى الأمر، لكن هذا رجل أعرابي ربما لا يأتي بعد ذلك قط، تظل الذكرى الطيبة الحسنة هذه عنده، وهي المعاملة الحسنة من النبي صلى الله عليه وسلم. وأنا أحكي لكم حكاية: مرة شخص من أطراف الأردن سمع بالشيخ الألباني، وقرأ بعض كتبه فانبهر بكتب الشيخ، والشيخ رحمه الله آتاه الله عز وجل حسن التصنيف، فيعرضها عرضاً متكاملاً وسليماً، حتى لو أنه تبنى قضية من القضايا وكانت خطأً في نفس الأمر تقتنع بها، وذلك من حسن عرضه، فلما قرأ ذلك الرجل كتبه انبهر بهذا الأداء الذي قل نظيره في هذا الزمان، قال: أنا لا أعرف أحداً قط من أهل العصر له مثل ما للشيخ الألباني من حسن التصنيف، إلا الشيخ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله، عنده أيضاً حسن عرض المعلومة. فلما قرأ وانبهر قال: أين هذا الشيخ؟ قالوا: هو في الأردن، فتعجب الرجل: أيكون في الأردن وأنا لا أدري؟! المهم: سأل عنه ورحل إليه، وكان الشيخ يصلي الجمعة في مسجد صلاح الدين، ومن ثم يخرج وينتظر بجانب السيارة حتى تأتي زوجته، أول ما تأتي الزوجة يركب ويمشي مباشرةً فكان طلبته كلهم يلتفون حوله، هذا يسأل سؤالاً وهذا يسأل سؤالاً. المهم هذا الطالب عندما رأى الشيخ انبهر، والشيخ حفظه الله عليه نظرة أهل الحديث، على وجهه نور، فظل يملي عينيه منه، ويظن أن الوصول إليه سهل ويسير، فلما وصل إلى الشيخ كانت قد وصلت زوجة الشيخ، والشيخ يفتح باب السيارة لكي يركب، فقال له ذلك الرجل: يا شيخ! أنا أتيتك من بلاد بعيدة، وجئت أطلب العلم. فلم يرد عليه، وأغلق الباب وانطلق! المسألة هذه حولت هذا الطالب مائة وثمانين درجة إلى الوراء، وقعد يقول لنفسه: هل هذا من أخلاق العلماء؟ ولم يعذره، لماذا يا جماعة؟ لأنه ما تعلم الأدب، صحيح أنه قرأ وحصل علماً، لكن ليس عنده أدب، فأخذ هذه الصورة، وطفق كلما ذكر عنده الألباني يذكر له الواقعة هذه. لأجل هذا إذا كنت شيخاً وسع من صدرك للغرباء، أكثر من أهل الدار؛ لأن أهل الدار يكونون معك باستمرار، بخلاف الرجل الغريب، فإنه قد لا يعود مرة أخرى. فهذا الأعرابي جاء للنبي صلى الله عليه وسلم ورأى معاملة النبي صلى الله عليه وسلم ودفاعه عنه: (لا تزرموه، دعوه، وأريقوا على بوله ذنوباً من ماء) في حديث ابن عباس -الذي في مسند أبي يعلى في هذا الحديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي: ما حملك على أن بلت في مسجدنا؟ أولست برجل مسلم؟ فقال: والذي بعثك بالحق ما ظننته وهذه الصعدات إلا شيئاً واحداً) أنا أظن أن الأرض كلها سواء، فما ظننت أن للمسجد أحكاماً تباين أحكام الصعدات، فهذا الرجل لما خالف لم يخالف عامداً إنما خالف جاهلاً. إخواننا الذين ينكرون على الجاهل أشد الإنكار، كما لو كان الرجل عالماً فخالف عن علم. لماذا الناس تنكر بهذه الشدة وبهذا الحماس؟ هذا رجل جاهل، إذاً علِّمه؛ فلذلك النبي عليه الصلاة والسلام كانت سيرته مع الأعراب تباين سيرته مع أصحابه الملازمين له

شرح صحيح البخاري [4]

شرح صحيح البخاري [4] للإسناد في الأحاديث أهمية عظيمة، وفوائد جليلة، فبه تحفظ السنة، ويميز بين الصحيح وغيره، وبه نعرف أهل التدليس، وقد قال ابن المبارك: الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء. وهذا يظهر جلياً في دين اليهود والنصارى؛ فإنهم لما ضيعوا الإسناد ضاع دينهم.

الإسناد وأهميته في معرفة السنة

الإسناد وأهميته في معرفة السنة إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. قال الإمام البخاري رحمه الله: (باب من سئل علماً وهو مشتغل في حديثه فأتم الحديث ثم أجاب السائل) حدثنا محمد بن سنان، قال: حدثنا فليح (، ح) وحدثني إبراهيم بن المنذر، قال: حدثنا محمد بن فليح، قال: حدثني أبي، قال: حدثني هلال بن علي، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة قال: (بينما النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس يحدث القوم جاءه أعرابي فقال له: متى الساعة؟ فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث، فقال بعض القوم: سمع ما قال؛ فكره ما قال. وقال بعضهم: بل لم يسمع. حتى إذا قضى حديثه قال: أين أراه السائل عن الساعة؟ قال: هأنا يا رسول الله. قال: فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة. قال: كيف إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة) . هذا الحديث رواه الإمام البخاري أيضاً في موضع آخر من صحيحه في كتاب الرقاق، لكنه أورده مختصراً، وأورده من طريق محمد بن سنان -بهذا الإسناد الذي ذكره في هذا الموضع- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة. قال: وكيف إضاعتها يا رسول الله؟! قال: إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة) . وكذلك روى هذا الحديث من أئمة الحديث: الإمام أحمد رحمه الله، قال: حدثنا يونس وسريج، قالا: حدثنا فليح. بهذا الإسناد الذي أورده البخاري في صحيحه. ويونس هذا هو ابن محمد المؤدب، وسريج هو ابن النعمان. وأخرجه الحسن بن سفيان في مسنده قال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: حدثنا يونس بن محمد، قال: حدثنا فليح وساق الحديث بهذا الإسناد. وأخرجه أيضاً الإمام البيهقي في سننه الكبرى، في كتاب آداب القاضي، من طريق أحمد بن علي الخزاز قال: حدثنا سريج بن النعمان، قال: حدثنا فليح. وساق هذا الإسناد. وأخيراً رواه ابن حبان رحمه الله في صحيحه من طريق محمد بن المثنى قال: حدثنا عثمان بن عمر، قال: حدثنا فليح بن سليمان. بهذا الإسناد الذي أورده البخاري في صحيحه. إذاً: الرواة عن فليح بن سليمان: ابنه محمد بن فليح، ومحمد بن سنان عند البخاري، ويونس بن محمد وسريج بن النعمان عند أحمد، وعثمان بن عمر عند ابن حبان، هؤلاء خمسة يروون هذا الحديث عن فليح بن سليمان، عن هلال بن علي، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة رضي الله عنه. وللحديث ألفاظ منها: (إذا وسد الأمر إلى غير أهله) و (إذا أسند الأمر) كما في رواية محمد بن سنان، ورواية سريج بن النعمان ((إذا أسند الأمر إلى غير أهله) ، وفي مسند الإمام أحمد (إذا توسد الأمرَ غير أهله فانتظر الساعة) وهذه الألفاظ لها دلالات سنقف عليها بعد إن شاء الله. كنا في الدرس الماضي ذكرنا أن الإمام البخاري رحمه الله عقد هذا الباب كمثال لأدب الطالب، ولما ينبغي أن يكون عليه الشيخ، وذكرنا نتفاً من الآداب التي ينبغي أن يتحلى بها طالب العلم، والتي ينبغي أن يتحلى بها الشيخ، وسنكمل بقية الآداب إن شاء الله عندما نأتي على حديث ابن عمر لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الشجرة التي هي كالمؤمن ولا يسقط ورقها، قالوا: في هذا الحديث جملة وفيرة من الآداب.

دور علماء السلف في كشف الأحاديث الموضوعة

دور علماء السلف في كشف الأحاديث الموضوعة قيل لـ عبد الله بن المبارك: الأحاديث الموضوعة ماذا نفعل فيها؟ قال: تعيش لها الجهابذة. وكان العلماء يعدون العدة لأمثال هؤلاء الذين كذبوا في الأسانيد وألفوا أسانيد من عندهم، فالله تبارك وتعالى يوجد من العلماء من يكشف مثل هذا الخطل؛ لأن فيه جناية عظيمة على السنة. يحيى بن معين رحمه الله ذات يوم في ركن يكتب صحيفة أبان بن أبي عياش، عن أنس، فرآه أحمد بن حنبل، وكان يحيى إذا اقترب منه شخص وهو يكتب الصحيفة طواها، فلما جاء أحمد بن حنبل -وكان صديقاً لـ يحيى بن معين - قال: ماذا تكتب يا أبا زكريا؟ قال: أكتب صحيفة أبان عن أنس. كان لبعض الرواة صحف بإسناد واحد للكذابين وغيرهم، أبان مثلاً عن أنس بن مالك وغيره، يروي أربعين حديثاً، أو خمسين حديثاً، أو مائة حديث، وتظل هذه اسمها صحيفة فلان، وتروى بإسناد واحد، مثل صحيفة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، فكل واحد يأخذها عن عمرو هي صحيفة عمرو، فإسناد كل صحيفة لا يتغير. فقال: هذه صحيفة أبان بن أبي عياش عن أنس. وأبان بن أبي عياش متروك في الحديث، وكان شعبة شديد الحمل عليه، وكان يكذبه، حتى إن أبان وسَّط حماد بن زيد وآخرين كـ سليمان بن حرب في أن يكلموا شعبة بن الحجاج أن يكف عنه؛ لأن العالم مثل شعبة مثلاً إذا جرح شخصاً فقد يقضي عليه، لأن كلامه كان له قيمة كبيرة، وكذلك غيره من علماء ذلك الزمان. فيقول يحيى بن معين: هذه صحيفة أبان عن أنس، أكتبها ثم أحفظها، فإذا جاء كذاب فجعلها ثابتاً عن أنس، أقول: كذبت، بل هي أبان، عن أنس. تأمل في الكتابة (ثابت وأبان) قريبة من بعضها، فيمكن أن يحصل فيها تصحيف، فربما أن واحداً من لصوص الأسانيد، قد يسرق حديثاً ويركب له أسانيد متعددة، فيأتي فيضع ثابتاً بدلاً عن أبان، مع أن ثابت بن أسلم البناني من أوثق الناس عن أنس، فقد لازم أنس بن مالك أربعين سنة، وهو من أثبت الناس في أنس. فلما تضع ثابتاً مكان أبان، إذاً الحديث صار صحيحاً من حيث السند، هذا في الظاهر، فمن عناية يحيى بن معين أن يحفظ الكذب، حتى إذا جاء سارق أو مصحِّف فجعل بدل أبان ثابتاً، يقول له: كذبت، بل هذا أبان عن أنس، وليس ثابت عن أنس هذا كله لصيانة حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فكان الإسناد له قيمة كبيرة، والإسناد كما قلت: هو المستند الذي تقدمه، الذي يدل على صحة الكلام من ضعفه، ونحن الآن نحكم على الأحاديث أنها صحيحة أو ضعيفة أو حسنة. إلخ بالأسانيد، نجمع الأسانيد ونجمع الطرق وننظر في المتابعات والمخالفات. إلخ، ونستضيء بكلام العلماء المتقدمين، وكلام العلماء المتأخرين، ونخرج في النهاية بنتيجة أن هذا الحديث صحيح، أو أن هذا الحديث ضعيف كل هذا بسبب الإسناد، وإلا لو ذهب الإسناد فإننا لن نستطيع أن نحكم على الكلام، حتى نعرف نقلة هذا الكلام. حتى الذين كانوا يتسولون في القديم، كانوا يتسولون الأسانيد أيضاً، مثل ما ذكر ابن الجوزي: أن رجلاً متسولاً كان يستجدي العطاء من الناس، فأبوا أن يعطوه، فقال لهم: ما أعطيتموني! لأخزينكم سائر اليوم، ثم أخذ من كيسه إسناداً عن يزيد بن هارون بإسناده النظيف عن فلان عن جمع من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سأل السائل فلم يعطه الناس فكبر عليهم أربعاً) ، فلما سمع الناس منه هذا الحديث خافوا، فسارعوا إلى إعطائه، فأخذ المال ومضى، وجاء يزيد بن هارون فسألوه: هل حدثت بالحديث الفلاني؟ قال: كذب عدو الله، ما سمعت به إلا الساعة. إذاً هو يعرف أن الإسناد له وقع عند الناس فألف هذا الإسناد. حتى في الخلافات المذهبية والخلافات الفقهية، كل طائفة كانت تفتري من الكذب على النبي عليه الصلاة والسلام المتون التي تؤيد ظاهر ما تذهب إليه. مثلاً: كان هناك خلاف بين الحنفية والشافعية في كثير من العصور، وكان خلافاً شديداً وحاداً، حتى وصل الأمر ببعض المتأخرين من الأحناف أنه أفتى بأنه لا يجوز للحنفي أن يتزوج بشافعية. لماذا؟ قال: لأن الشافعي يستثني في إيمانه، والاستثناء في الإيمان شك، والشك في الإيمان كفر. أي أن الشافعي يجوز أن يقول الرجل: أنا مؤمن إن شاء الله، والإيمان عند الحنفية تصديق، والتصديق لا يتصور فيه استثناء، فلابد أن يكون التصديق جازماً، فقال الحنفي: إن هذا شك في الإيمان فيصير كفراً وقد حدثت بسبب هذه المسألة مشاكل كثيرة. فجاء أحد متأخري الحنفية، وكان يسمى: بمفتي الثقلين -مفتي الإنس والجن- فقال: أنزلوها منزلة نساء أهل الكتاب! أي أنزلوا المرأة التي تتمذهب بالمذهب الشافعي منزلة النصرانية أو اليهودية، فكما أنه يجوز لك أن تتزوج بنصرانية أو يهودية؛ يجوز لك أن تتزوج شافعية. إذاً: كان الخلاف شديداً، وقد ألف بعض الناس -انتصاراً لـ أبي حنيفة رحمه الله- حديثاً، يقول بلسانه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أبو حنيفة سراج أمتي، ويكون في أمتي رجل يقال له: محمد بن إدريس، أضر على أمتي من إبليس) ، ومحمد بن إدريس هذا هو الشافعي رحمه الله. العجيب في المسألة: أن البدر العيني رحمه الله في تاريخه، يميل إلى أن لهذا الحديث أصلاً عن النبي عليه الصلاة والسلام، مع أنه كذب محض، لا ينبغي للمرء أن يتردد في تكذيب هذا الراوي، وفي الحكم ببطلان هذا المتن بشقيه: بالبشارة بـ أبي حنيفة، وبالافتراء على الشافعي،كلاهما كذب على النبي عليه الصلاة والسلام. ومما يذكر في باب وضع الأحاديث: أنه كان هناك شخص كان له ابن في الكتَّاب، فضربه المعلم، فجاء الولد إلى أبيه وهو يبكي، وأبوه كان متخصصاً في الكذب، فقال لولده: لماذا تبكي يا ولدي؟ قال: ضربني المعلم. قال: لأخزينه، ثم اختلق حديثاً قال فيه: حدثني عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (شراركم معلموكم) ، ولكن مع ذلك فإن العلماء الكبار الجهابذة كانوا لهذه الأسانيد المكذوبة بالمرصاد، فقلما يكذب رجل على النبي عليه الصلاة والسلام إلا ويكشف ذلك أهل الحديث. قال عبد الله بن المبارك رحمه الله: ما هم رجل أن يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم في البحر إلا فضحه الله في البر. ونحن نقول هذا الكلام لأن له علاقة وثيقة بالمتن الآن.

اهتمام العلماء الأوائل بالإسناد

اهتمام العلماء الأوائل بالإسناد نفهم من سرد هذه الأسانيد كيف كان العلماء يهتمون بالإسناد، ولا يقبلون من المتحدث حديثاً إلا إذا أسنده، ويا ليتنا نراعي مثل هذا؛ إذاً لسكت من لا يعلم! كثير من الناس يتكلمون جزافاً، ولأنهم تعودوا أن الجماهير لا يسألونهم، فإنهم يتكلمون، حتى إن بعض الخطباء أو المحاضرين يأتي فيتكلم بأي كلام، بدون تحضير للدرس ولا إعداد، وهذا خطأ، بل ينبغي للمحاضر أن يحترم عقول الجالسين، وأن يتعب في تحضير الدروس والخطب، وينبغي عليه أن يعتقد أن في الجالسين من هو أفهم منه، وليس معنى أنه تصدر وجلس على كرسي الوعظ، أو كرسي التدريس، ليس معنى ذلك أفضل من كل الجالسين. إن هذا الفعل فيه غبن لحق الآخرين، وغمط لحق نفسه، فلا ينبغي له أن يجهل قدر نفسه. فلو أن كل متكلم يعلم أن الجماهير لا تقبل منه الكلام على علاته؛ إذاً لبحث في أسانيده، كما كان السلف الأوائل، فقد سمع محمد بن مسلم بن شهاب الزهري رحمه الله إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة سمعه يحدث بأحاديث ليس لها أسانيد، فقال: ما هذا يا ابن أبي فروة! تحدثنا بأحاديث لا خطم لها ولا أزمة؟! فالإسناد بالنسبة للكلام مثل الخطام بالنسبة للبعير، ولأجل هذا -لأن الإسناد كان له وقع في النفوس- كان كثير من الناس يستخدم الإسناد حتى ولو كان مخترعاً، لكنه كان يعلم أن الإسناد له قيمة في نفس محدثه. روى الخطيب البغدادي رحمه الله في كتاب: التطفيل -وهو كتاب عن أخبار المتطفلين- حكاية لطيفة عن أبي عمر نصر بن علي الجهضمي -وهو أحد أئمة الحديث واللغة- قال أبو عمر: كان لي جار طفيلي من أحسن الناس منظراً، وأجملهم ملبساً، وأعجبهم منطقاً، وما من وليمة أُدعى إليها إلا ويتبعني، فيكرمه الناس لأجلي، يظنون أنه معي -فغاظ هذا الأمر نصر بن علي - قال: فقلت في نفسي يوماً: لو دعاني جعفر بن القاسم -أمير البصرة - وتبعني هذا لأفضحنه اليوم، قال: فما هو إلا أن طرق الباب، ففتحت الباب فإذا برسول جعفر بن القاسم يقول: أجب الأمير. وكان عنده ختان لابنه. قال: فما هو إلا أن لبست ثيابي وخرجت فإذا بالرجل واقف على الباب، قال: فتبعني ودخل، فلما جلسنا على المائدة قلت: حدثنا درست بن زياد، حدثنا أبان بن طارق، عن نافع مولى ابن عمر، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من دخل بيت غيره من غير دعوة دخل مغيراً وخرج سارقاً) ، ففهم الطفيلي أن الكلام عليه، فقال له: أنفت لك يا أبا عمر، فما من واحد من هؤلاء الجلوس إلا يظن أنك تعنيه دون صاحبه، ثم تتحدث بمثل هذا على مائدة سيد من أطعم الطعام، ثم إنك تحدث عن درست وهو ضعيف، عن أبان بن طارق وهو متروك الحديث، ونسيت ما حدثناه أبو عاصم النبيل انظر إلى الطفيلي هذا! أبو عاصم -الذي هو الضحاك بن مخلد الشيباني - من أوثق الناس، وهو من كبار شيوخ البخاري. يقول: ونسيت ما حدثناه أبو عاصم النبيل، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (طعام الواحد كافي الاثنين، وطعام الاثنين كافي الأربعة، وطعام الأربعة كافي الثمانية) ، وهذا متن صحيح وسند صحيح؟!! قال نصر: فأفحمني، ولم أجد له جواباً، وخرجنا من المائدة، فقال لي: ومن ظن ممن يلاقي الحروب بأن لا يصاب فقد ظن عجزا أي: إذا كنت تريد أن تدخل في حرب، وتريد أن تخرج وأنت سليم منها، فقد ظننت عجزاً، قال: وفارقني ولزم جانب الطريق الآخر. فانظر إلى هذا الطفيلي صار ناقداً! يقول: درست ضعيف، وأبان متروك، وبعد ذلك يروي حديثاً بإسناد نظيف، ومتن صحيح.

بالإسناد نعرف الذين يكذبون في الحديث

بالإسناد نعرف الذين يكذبون في الحديث لقد كان العلماء لعنايتهم بالأسانيد يكتشفون الذين يكذبون في الأسانيد، ولله در عبد الله بن المبارك رحمه الله! فقد قال: الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء. فلولا أننا نحقق ونسأل كل إنسان عن مستنده؛ لقال من شاء ما شاء. وهنا أذكر شيئاً اسميه: محنة جسيمة في الواقع، لكن لا يشعر بها أكثر الناس، وهي: ضياع فن التراجم في هذا العصر. لو أن إنساناً سئل عن شيوخه فادعى جماعة من الشيوخ، وقال مثلاً: شيوخي مائة: ثلاثون في الحديث، وثلاثون في الفقه، وعشرة في القراءات، وعشرة في النحو، وعشرة في الصرف فهل تستطيع أن تكذبه؟ حتى لو قلت له: إذاً سم لي شيوخك في الحديث مثلاً؟ فسيقول: علي، إبراهيم إلخ، وهل تقدر أن تأتي بهم؟ وهل تعرف أين هم في الكرة الأرضية؟! فلما كان هناك عناية بفن التراجم لم يستطيع أحد أن يكذب لأنه إذا قال أحد: أنا قرأت العلم الفلاني على فلان، ينظر في كتب العلماء الذين ترجموا لأهل ذلك العصر: هل هذا الرجل له وجود أصلاً أم لا؟ هل هذا الرجل كان متيناً في مادته أم لا؟ أما في وقتنا فإنه يستطيع أي إنسان أن يدعي لنفسه ما يشاء ولا يستطيع أحد أن يكذبه. وبعض الناس الآن قد يكونون أئمة بعد ثلاثمائة عام، فمثلاً: لو أني قلت: حدثني أبو لمعة،فالكل يعرف أن أبا لمعة هو أستاذ الكذب في العصر الحديث، ولأنه لم يؤرخ أحد لـ أبي لمعة، ولم يقل أحد أنه كذاب، فقد يكون أبو لمعة هذا إماماً بعد خمسمائة سنة؛ لأنه لا حس ولا خبر عنه. فهذا الفن -فن التراجم- فيه صيانة لعلم العلماء، وقطع للمدعين، وقد كان قديماً إذا ألف أحد سنداً من الأسانيد يكتشف مباشرةً. يذكر العلماء قصة حدثت لـ يحيى بن معين وأحمد بن حنبل، والقصة معروفة، وإن كان قد طعن فيها بعض العلماء كـ ابن الجوزي -كما أظن- يقولون: إن أحمد بن حنبل ويحيى بن معين دخلا مسجداً من مساجد الكوفة، فإذا رجل من الفسطاط يحدث عن الأسماء اللامعة، يقول: حدثنا أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، قالا: حدثنا فلان عن فلان عن فلان. وساق سنداًً من الأسانيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال: لا إله إلا الله؛ خلق الله له بكل كلمة طائراً، كل طائر له سبعون ألف رأس، كل رأس فيه سبعون ألف منقار، كل منقار فيه سبعون ألف لسان، كل لسان يستغفر الله لهذا الرجل بسبعين ألف لغة) ، ترتيبة عجيبة! وكان يحيى بن معين يصلي في ناحية المسجد، فسمع هذا الكلام فما صبر، فذهب إلى الرجل، وبعد أن أكمل هذا القاص هذه الحكاية رمى له كل واحد من الحاضرين بدرهم أو أي شيء، فناداه يحيى بن معين، فجاء الرجل متوهماً لنوال -أي: لعطاء، ظن أنه سيعطيه شيئاً- فقال له يحيى: اجلس، فجلس، فقال: من حدثك بهذا؟ قال: حدثني يحيى بن معين وأحمد بن حنبل. فقال له: أنا يحيى بن معين وهذا أحمد بن حنبل، ما سمعنا بهذا قط. وكان الرجل ذكياً، فقال له: قد كنت أسمع أن يحيى بن معين أحمق، فما تحققته إلا الساعة -عرفت أنه أحمق في هذا الوقت- أو تظنان أن ليس في الدنيا أحمد بن حنبل ويحيى بن معين غيركما؟ لقد حدثت عن سبعة عشر أحمد بن حنبل، وسبعة عشر يحيى بن معين. يخلق الله من الشبه سبعة عشر! نحن عندنا يخلق الله من الشبه أربعين بحكم العصر، فكلما نتقدم ونقترب من الساعة يزداد العدد. فوضع أحمد فمه في كمه، يكتم الضحك، وقال: دعه يقوم، فقام كالمستهزئ بهما. فهذا إذاً رجل يعرف أن الإسناد له شأن عند الجماهير، فأتى بسندٍ من الأسانيد، لكن كان هناك من العلماء من يقوم لأمثال هؤلاء.

حرص علماء السلف من المحدثين على علو السند

حرص علماء السلف من المحدثين على علو السند سنقف الآن على بعض الفوائد الإسنادية في هذا الحديث: فالإمام البخاري روى هذا الحديث من طريقين له عن فليح بن سليمان: طريق عال، وطريق نازل. وأشرف أنواع العلو الذي كان يحرص عليه المحدثون هو: تقليل عدد الوسائط بينك وبين النبي صلى الله عليه وسلم، فإن النبي عليه الصلاة والسلام هو المصباح، وكلما اقتربت من ضوء المصباح؛ كلما يكون أشرف لك، فلذلك كان المحدثون يحرصون على الأسانيد العالية، ويبذلون حر المال في سبيل تحصيل هذه الأسانيد. وقد سئل يحيى بن معين أبو زكريا إمام الجرح والتعديل رحمه الله، وهو في مرض موته فقيل له: ما تشتهي؟ قال: بيت خال وإسناد عال. وكانوا -كما قلت- يحرصون على هذا النوع من العلو، وهو تقليل الوسائط بينهم وبين النبي عليه الصلاة والسلام.

إحراز العلو أحد الأسباب الحاملة على التدليس

إحراز العلو أحد الأسباب الحاملة على التدليس وإحراز العلو هو أحد الأسباب الحاملة للمدلس على أن يدلس؛ لاسيما في تدليس الإسناد، وقد تكلمنا عن تدليس الإسناد فيما مضى، ولكن لا بأس أن أذكر به حتى أبين أن الحامل للمدلس على إسقاط من حدثه إذا كان نازلاً هو محبة العلو في الإسناد. وتدليس الإسناد: هو أن يروي الراوي عن شيخه الذي سمع منه ما لم يسمع منه. لنفترض أننا في هذا المسجد في مجلس حديث ومجلس إسناد، وأنا أحدثكم بالحديث، وهناك طالب دائماً يحضر هذه الدروس، ولكن لأمر ما سافره أو تغيب، ففاته مجلس من هذه المجالس، وقد حدثت في هذا المجلس بعدة أحاديث، وهذا الطالب لو أراد أن يحدث بهذه الأحاديث التي فاتته فلا بد أن يسمعها من رفيق له عني، أي: من شخص حضر هذا المجلس يحدثه عني، إذاً هو قد نزل درجة، فإنه كان يقول: حدثني فلان مباشرة، لكنه أصبح بسبب هذا التغيب عن المجلس يقول: حدثني فلان عن فلان، وبهذا يكون قد نزل في الإسناد درجة. هذا هو النزول الذي كان المحدثون يحرصون على تلافيه، فالمدلس يقول: بدلاً من أن أروي عن زميلي عن شيخي، أسقط زميلي وأروي عن شيخي مباشرة، ولكنه لا يستطيع أن يرويه عن شيخه بلفظة التحديث، كأن يقول: حدثني فلان؛ لأنه سيكون كذاباً، لكنه يأتي بلفظة لها وجهان: وجه اتصال، ووجه انقطاع، وهي لفظة (عن) ، ولذلك فإن من يقرأ في كتب المحدثين يجدهم يقولون: فيه فلان وهو مدلس، وقد عنعنه. (عنعنه) أي: رواه بصيغة (عن) ؛ لأن صيغة (عن) فيها معنى الاتصال، ومعنى الانقطاع، فلو أنك قلت: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال؛ لما كذبك أحد، لكن لو قلت: حدثني رسول الله. فلفظة التحديث لا تحتمل أبداً إلا اللقاء المباشر، والسماع المباشر، أما لفظة (عن) فإنها تحتمل وجهين، فقد تقول: عن فلان، مع عدم اللقاء، ومع ذلك لا يكذبك أحد. فلذلك المدلس يسقط الواسطة بينه وبين شيخه، ويرتقي بلفظة (عن) . إذاً: أحد الأسباب الحاملة للمدلس على التدليس هو: العلو، فيسقط الواسطة مر ويعلو بلفظة (عن) إلى شيخه. فالإمام البخاري -رحمه الله- روى هذا الحديث بإسناد عال وإسناد نازل، والراوي المشترك بين الإسنادين -أول راو مشترك بين الإسنادين- محمد بن فليح. إذاً فقد قال في الإسناد الأول: حدثنا محمد بن سنان، قال: حدثنا فليح. إذاً بينه وبين فليح راو واحد وسيط. الإسناد الثاني: قال: حدثني إبراهيم بن المنذر، قال: حدثني محمد بن فليح، قال: حدثني أبي فليح. فقد نزل في هذا الإسناد. إذاً: في الإسناد الأول بينه وبين فليح راو واحد، والإسناد الثاني بينه وبين فليح راويان، والإمام البخاري حول الإسناد بلفظ التحويل، وهو حرف (ح) التي هي عملية الاختزال في هذا العصر، ومعناها: أن الإمام حول الإسناد للاختصار، ولو أن البخاري رحمه الله لم يستخدم هذه اللفظة، لكان سيروي الحديث هكذا: يقول: حدثنا محمد بن سنان، قال: حدثنا فليح، عن هلال بن علي، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، ويسوق المتن، ثم يرجع ويقول: وحدثني إبراهيم بن المنذر، قال: حدثني محمد بن فليح، قال: حدثني أبي، عن هلال بن علي، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، ويسوق المتن. وهذا تطويل، فحتى لا يكرر الإسناد مرة أخرى يأتي من عند الراوي المشترك في الإسنادين ويضع لفظة (ح) فكأنه يقول: سأحول الرواية إلى إسناد آخر، هذا معنى لفظة (ح) التي هي التحويل، أي سيحول الحديث إلى إسناد آخر عنده عن شيخه، والقصد من هذا التحويل: الاختصار. والإمام مسلم يستخدم هذا التحويل أكثر من البخاري، فإن البخاري قليلاً ما يحول الإسناد. هذه نكتة إسنادية -أو لطيفة إسنادية- في حديث اليوم.

اعتراض أهل البدع على النصوص الشرعية وضرورة مواجهتهم

اعتراض أهل البدع على النصوص الشرعية وضرورة مواجهتهم يقول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة) ، لقد تحقق معنى هذا الحديث في هذا الزمان، فهناك هجمة شرسة على أصحاب الحديث، حتى دخل في هذه الهجمة الشرسة النسوان -وكلمة (النسوان) لغة عربية فصحى- فامرأة تقول: إنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا سبعة عشر حديثاً فقط. انظروا إلى هذه المرأة! وهي معلمة، تقول: لم يصح إلا سبعة عشر حديثاً! وتقول: لا أدري من أين أتى البخاري بكل هذه الأحاديث؟! هذا والله هو الهوان! أن يسمح لامرأة تتكلم بهذا الكلام، في بلد تعج بعلماء الشرع، والمرأة تقول هذا الكلام ولا تحاسب سبحان الله! لا توجد نقابة للعلماء هناك نقابة للحيوانات، تدافع عن الحيوانات، وتنتزع حقوقاً للحيوانات! وهناك نقابة للأطباء، وهناك نقابة للصيادلة، وهناك نقابة للمهندسين، والنقابات هذه إنما أقاموها لحفظ حقوق الطائفة التي تنتمي إليها، والدفاع عنها، والذب عن حقوقها. بينما قد يأتي إنسان ويتكلم في دين الله عز وجل بغير علم ولا أحد يرده. (إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة) ، فلو عمل أحد طبيباً وقبضوا عليه وهو ليس طبيباً، فسيحملوه قضية في الحال، والقوانين جاهزة، لكن لو ضبطوا شخصاً يفتي دون أن يكون لديه رخصة إفتاء -التي هي قسيمة الإثبات بأنه مفتٍ- فهذا أمر سهل ولا توجد قوانين تردعه، يقولون: يا أخي! الدين لله الدين هذا للكل نعم، الدين للكل كاعتقاد، ولكن كعلم لا الدين كعقيدة للكل نعم، ولكن كعلم له رجال، فلا يجوز لإنسان أن يفتي إلا إذا كان مؤهلاً، فإن الفتوى كما يقول ابن القيم -في كتابه: إعلام الموقعين عن رب العالمين-: إن المفتي يوقع عن رب العالمين. لو أن إنساناً زور توقيع رئيس الجمهورية مثلاً، أو المحافظ، أو المدير، وعرف أنه مزور لهذا التوقيع، لعوقب عقوبة شديدة. فأنت إذا قلت: هذا حلال وهذا حرام، أليس هذا توقيع؟ كأنك توقع عن الله. وإذا قلت: هذا حرام، وهذا حلال. فإن هذا إذن منك بحل هذا، أو بحرمة ذاك أليس هذا توقيعاً؟! إذاً الذي لم يستوف أدوات وشروط الفتوى ثم يفتي؛ فهو مزور، وينبغي أن يعاقب أشد العقوبة؛ لأنه مزور. والآن كل من هب ودب يتكلم حتى في غير تخصصه إن علم الحديث هو علم الذكران من العالمين، علم مصطلح الحديث لا يذلل لامرأة قط، مهما فعلت وبذلت لماذا؟ لأن فطرة المرأة وخلقتها تمنع من أن تكون ناقدة، وعلى مدار تاريخنا الطويل ما رأينا امرأة قط ناقدة، إنما رأينا نساء راويات، تأخذ كتاباً لترويه، مثل: بيبي بنت عبد الصمد الهرثمية، لها جزء عن ابن أبي شريح عن شيوخه، وكريمة بنت أحمد المروزية، لها رواية في صحيح البخاري، والحافظ ابن حجر اعتمدها، وهي من أوثق الروايات، كذلك أمة الله مريم الحنبلية لها مسند صغير، إذاً المرأة تروي بإسنادها، لكنها تنظر ولا تنقد، فإن هذا علم تفرد به الرجال. هناك امرأة صحفية كتبت كتاباً هو عبارة عن جملة مقالات، ثم نزلت هذه المقالات في كتاب، والكتاب هذا يباع بلا حرج، على الأرصفة وفي المكاتب، وعنوان هذا الكتاب: (هل النساء أكثر أهل النار؟) ، وواضح من خلال عنوان الكتاب أنها تعترض على كون النساء أكثر أهل النار، فحتى هذه الأشياء تريد النساء أن تقتسمها باسم حقوق المرأة، وباسم الدفاع عن حقوق المرأة. فهل النساء أكثر أهل النار؟ قالت: إن هناك حديثاً رواه راو اسمه البخاري سبحان الله! تقول: رواه إنه راو اسمه البخاري، روى حديثاً عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه جاء النساء يوم عيد فذكرهن ووعظهن وقال: (يا معشر النساء! تصدقن، فإني رأيتكن أكثر أهل النار. فقامت امرأة فقالت: لم يا رسول الله؟ قال: لأنكن تكثرن اللعن، وتكفرن العشير- تكفرن الإحسان- فقالت: نكفر بالله؟ قال: لا، تكفرن العشير، ولو أحسن الرجل إليكن الدهر، ثم رأيتن منه يوماً سوءاً، لقلتن: ما رأينا منك خيراً قط) ، فتقول: إن هذا الحديث رواه راو اسمه البخاري، وتقول: وابن الجوزي يقول: إن صحة السند لا تستلزم صحة المتن المروي به، فقد يكون السند صحيحاً لكن المتن ضعيف، ونحن نرى أن هذا السند -وإن كان صحيحاً- لكن المتن معلول وغير معقول لماذا غير معقول؟ قالت: أولاً: إن الرسول عليه الصلاة والسلام الذي علمنا الذوق والأخلاق الحسنة، يأتي إلى النساء في يوم عيد، فبدلاً من أن يقول لهن: كل سنة وأنتن طيبات، ومن العائدات، يقول لهن: أنتن في جهنم وبئس المصير! هل يعقل أن أحداً يقول هذا الكلام؟! رسول الأخلاق والمعاملة يقول هذا الكلام وفي يوم عيد؟! فانظر يا أخي! من تكلم في غير فنه أتى بمثل هذه العجائب! عندما تأتي امرأة وتتكلم في علم الحديث، وتأخذ كلام علماء أهل الحديث ولا تستطيع أن تصرفه؛ النتيجة أن تأتي بمثل هذه الدواهي. صحيح أن من علماء الحديث من قال: إن صحة السند لا تستلزم منه صحة المتن المروي به؛ لأن هناك بعض لصوص الأسانيد يركب إسناداً نظيفاً لمتن غير صحيح، مثلاً: مالك، عن نافع، عن ابن عمر، هذا إسناد مُذَهّبٌ، وهناك أسانيد يسمونها: سلسلة الذهب، من ضمن سلاسل الذهب أن يروي الإمام مالك، عن نافع، عن ابن عمر، فأنت إذا رأيت مالكاً عن نافع، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو علمتم ما في الجرجير لزرعتموه تحت السرير) ، أو (المؤمن حلو يحب الحلاوة) ، أو (ربيع أمتي في العنب والبطيخ) ، وهذه كلها أحاديث موضوعة أو (المؤمن كيس فطن) ، فإن هناك من يعتقد أن هذا حديث، وهو كذب على النبي عليه الصلاة والسلام. فلما ترى إسناداً كالشمس، ومتناً كالظلمة، إذاً: هناك نوع من التباين والذي سببه المتن، فإن الإمام مالكاً عن نافع عن ابن عمر لا يأتي إلا بمتن نظيف وفيه معان، فهناك بعض لصوص الأسانيد يركب إسناداً من عنده على متن هو مؤلفه، ولذلك قال العلماء: إن صحة السند لا تستلزم منه صحة المتن؛ لاحتمال أن يكون هناك أحد ركب سنداً صحيحاً على متن موضوع. لكن لا ينبغي أن يحكم بهذا إلا إمام كبير متمرس، اختلط الحديث بشحمه ولحمه، حتى صار له فيه ملكة، وهذا لا يستطيعه إلا الأئمة الكبار، مثل: البخاري، وأحمد، وابن معين، وأبو عاصم النبيل، وأبو حاتم الرازي، وأبو زرعة الرازي، وأمثال هؤلاء الكبار الذين اختلط الحديث بدمائهم حتى صارت عندهم ملكة. يسأل أبو حاتم الرازي عن حديث يرويه الأعمش، عن أبي سفيان طلحة بن نافع، عن جابر بن عبد الله الأنصاري، وساق متناً، فيقول أبو حاتم الرازي: هذا لا يشبه أحاديث الأعمش، هذا يشبه أحاديث عمر بن الحصين. وعمر بن الحصين هذا كذاب. فلكل راو أحاديثه التي أصبح لها طعماً، وأول ما يسمع الحديث يقول: هذا ليس حديث فلان. انظر إلى أين وصل بهم الاهتمام والملكة إلى درجة أن يعرف سمت أحاديث الأعمش، فإن لها سمتاً معيناً لا تخرج عنه! يقول: ثم إنه بعد سنين دخل أحد البلاد، فإذا به يقع على هذا الحديث يرويه الأعمش، عن عمر بن الحصين، وإذا الأعمش قد دلس عمر وأسقطه من الإسناد، إذاً: صدق ظنه، فلا يحكم في هذا الباب إلا هؤلاء العلماء. إذاً: هذا هو معنى قولهم: صحة السند لا تستلزم صحة المتن لكن هذا للأئمة الكبار، الذين عندهم ملكة، إما من بعدهم فلا يستطيع أن يحكم على متن من المتون إلا إذا وقف على الإسناد. إن الذي أغرى هذه المرأة وأمثالها أن يتكلموا في مثل هذه العلوم: هو هوان علماء الشريعة على أنفسهم وعلى الناس، وأن الجاهل يتكلم ويُخرج من دين الله ما هو فيه، ويُدخل في دين الله ما ليس منه، ولا يتحرك العلماء؛ بل بالعكس: فقد وجد ممن ينتسبون إلى الشريعة من فعل هذا، فهذا الختان مثلاً -ختان الإناث- هل من المعقول أن يأتي إنسان ينتسب إلى الشريعة ويقول: إن الختان عادة جاهلية، ولا أصل له في الشريعة؟! مع أنه يدرس في باب الطهارة في كتب الأزهر: (إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل) ، وأن الختان من سنن الفطرة، ويدرس للطلبة من يوم أن أنشئ الأزهر إلى هذا الزمان، وفجأة يخرج هذا ويقول -مهما كان قدره-: إن الختان لا أصل له في الدين! هذا اتهام لكل العلماء الذين درسوا الناس على أنه من الشريعة، أنهم كانوا يكذبون على الناس. ويخرج أحدهم ويكتب مقالاً: أن أحاديث الختان ضعيفة، مع أن هذا الرجل لا يعرف شيئاً قط في علم الحديث، ويقول: ينبغي علينا أن نحترم التخصص، وأهل التخصص في مسألة الختان هم الأطباء. فإذا كنت تحترم التخصص مع الأطباء، فلم لا تحترم التخصص مع علماء الحديث؟ وهل لك في النقد وفي تصحيح الحديث وتضعيفه ملكة؟ وهل تفهم شيئاً في علم الحديث، وتعرف شروط قبول الحديث الصحيح؟ لماذا تكلمت من تلقاء نفسك وقلت: إن أحاديث الختان ضعيفة، وأنت لست من علماء الحديث؟! وانتزعت التخصص من علماء الحديث ووضعته تحت قدمك، أما الأطباء فقشر رمان في المسألة؟! والذي يجهر بهذا بعض من ينتسبون إلى التدريس في كليات شرعية، فهذا هو الذي شجع هذا المرأة على فعل مثل هذا وزيادة! إن ختان الإناث واجب، وليس هناك دليل على استحبابه، والأصل في الأدلة أنها عامة للرجال والنساء معاً، حتى يقوم دليل بتخصيص الرجال أو بتخصيص النساء، فالأصل في الأدلة العموم، فإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً،

رواية العلماء الأوائل عن آبائهم

رواية العلماء الأوائل عن آبائهم ونعود مرة أخرى ونقول: إن الاهتمام بالأسانيد مسألة تفصيلية، فليس المقصود منها الأسانيد لذاتها؛ بل المقصود أن نعيد النظر في حياتنا كلها، وأن كل شيء لابد أن يكون له أصل، كما لو نظرنا هنا في هذا الحديث فوجدنا أن أصل الحديث هو الإسناد. ومن الأشياء التي أريد أن أنبه عليها في هذا الإسناد أيضاً: قول محمد بن فليح: حدثني أبي. أين هؤلاء الآباء؟ لقد انقرضوا، فلم نعد نسمع طالب علم يقول: حدثني أبي، أو وجدت في مكتبة أبي، أو قال لي جدي، مثلما كان في الأزمنة السابقة، فهذا الإمام أحمد بن حنبل أولاده علماء: عبد الله، وصالح، وأبو حاتم الرازي ابنه عبد الرحمن بن أبي حاتم، وزهير بن حرب ابنه أحمد بن أبي خيثمة صاحب التاريخ الشهير، وهكذا كان هناك أولاد يقول أحدهم: حدثني أبي، وسألت أبي. إن ضياع مثل هذا النمط من حياتنا له أسباب كثيرة، من أهم هذه الأسباب: غياب العلماء الربانيين الذين يتدينون بعلمهم إننا نريد أن ننطلق في نصر هذا الدين مثلما ينطلق أهل الدنيا في صناعاتهم وفي تجاراتهم.

نماذج معاصرة سخرت جهودها لخدمة هذا الدين

نماذج معاصرة سخرت جهودها لخدمة هذا الدين هذه قصة لا أنساها أبداً، وكلما تذكرتها زادتني حماساً وانتماءً، وهي قصة حديثة: فقد كنت في مكة، والتقيت بعد أن خرجت من بيتي بمجموعة من العلماء من بخارستان، تقريباً خمسة عشر أستاذاً ومدرساً، ولهم شيخ يقترب من التسعين إن لم يكن تجاوزها رجل عليه سمت وله وقار، وقلما يتكلم، وتلامذته يتكلمون بلغة عربية جيدة، فتكلموا عن الشيوعيين، وكيف كانوا يقتلون علماء المسلمين، وتكلمنا في هذه المسألة فترة، فسألت أحد التلاميذ وقلت له: اسأل هذا الشيخ كيف نجا من مذابح الشيوعيين؟ فإن عمره تسعون سنة ومع ذلك لم يذبح ولم يقتل من قبل الشيوعيين، فسأله هذا السؤال، فتكلم الرجل وقال: إنه فرض على نفسه الحبس الاختياري أكثر من ستين عاماً، فقد كان تحت جنح الظلام يتسلل إلى قرية من القرى، ويدخل بيتاً من البيوت، ويجلس في هذا البيت ثلاثة أو أربعة شهور، أو أكثر أو أقل، المهم أنه لا يخرج من هذه القرية إلا بعد أن يعلم أطفال القرية القرآن والحديث، والآباء يخرجون الأبناء إليه في سرية تامة، ويظل الفترة التي يظن أنه قد قضى حاجته من هذا البلد، ثم إذا انتهى يخرج تحت جنح الليل إلى قرية أخرى. وهكذا ظل الرجل ستين سنة باختياره محبوساً، وهو يدرس القرآن والسنة، ورضي لنفسه هذا الحبس الاختياري! نحن نهيب بإخواننا أن يكون عندهم مثل هذه العاطفة لهذا الدين، لنتحرك بهذه العاطفة أنت لا تحتاج أن يقول لك أحد: اخدم دينك، فإنك متى احتجت أن يقول لك أحد: اخدم دينك؛ إذاً فابك على نفسك، ولهذا تجد الإسلام ينطلق إليك بتلقائية رجل يحرم نفسه من الدنيا ومن ملذاتها الدنيا، ويفرض على نفسه الحبس الاختياري ليعلم الناس القرآن، وأطول مدة قضاها في بلد هي خمس سنين، ظل في بيت من بيوت البلدة يخدم الكتاب والسنة، ويعلم الناس القرآن والحديث. نحن نحتاج إلى مثل هذا الانتماء، إن صدق الانتماء هو الذي يعطيك قوة النفس، ولا يمكن أن ترتقي هذه الأمة إلا إذا وجدنا رجالاً يحتسبون ويضحون بملذاتهم وشهواتهم، من أجل أن ينصر هذا الدين في زمن الغربة، قال تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} [الحديد:10] .

تأثر الآباء بالهزائم التي منيت بها الأمة

تأثر الآباء بالهزائم التي منيت بها الأمة آباؤنا جيل شهد كل الهزائم التي منيت بها أمتنا المعاصرة، فهؤلاء الآباء الذين شهدوا هذه الهزائم المتوالية حتى فقدوا الثقة في ذواتهم، فصاروا أقزاماً، مهما حاولت أن ترفعه فإنه قزم من الداخل، لا يصدق أن له قيمة، وهذا أقوله على سبيل الإجمال، فلا أقضي على الجيل كله، لكن أقول هذا وأذكره إجمالاًً. فهؤلاء الآباء الذين ورثوا هذه الهزائم -مع قلة العلم- حاولوا أن يورثوا هذا الضعف إلى أبنائهم، فكلما أراد الولد أن يتحرك ليسمع درساً مثلاً -مثل هذا الدرس- وعنده همة عالية، ويريد أن يخدم هذه الأمة، ويريد أن يقوم بالأمانة ولا يلقى الله خائناً لهذه الأمة، يريد أن يفعل شيئاً، فإذا به أمام صخرة عظيمة وهي أبوه، الذي يقول له: وهل أنت ستصلح الكل؟ أو يقول له: نريد أن نأكل العيش، أو يقول: (الحيطان لها آذان) ، هذه العبارات المتكررة التي يحاول الأب أن يغرسها في ابنه، وإذا التزم الولد بهذه النصائح فإنه يعتبر ولداً باراً وفاهماً وذكياً، وإذا خرج هذا الولد وتجاوب مع كلام العلماء وحضر الدروس، وكانت عنده همة عالية ونصر دينه، حدثت المشاكل، وبسبب هذا الأمر حدثت مشاكل كثيرة في البيوت بين الآباء والأبناء. فأمثال ذلك الجيل الذي ظهر فيه الأدباء الذين استهزئوا بالله ورسوله، وظهر فيهم الصحفيون الذين استهزئوا بالله ورسوله، عن طريق القصص التي تكتب، والتي تدعو إلى الدعارة، وتدعو إلى الانحلال، مثل قصص إحسان عبد القدوس، وقصص وليد منصور، وقصص توفيق الحكيم، ونجيب محفوظ، وكل هؤلاء الذين شكلوا عقلية هذا الجيل، هؤلاء الأدباء هم الذين شكلوا عقلية هذا الجيل. وأحيل القراء إلى كتاب يؤرخ تاريخاً صادقاً لهذه الحقبة، وهو من أمتع الكتب التي سوف تقرؤها، وهو كتاب: (أباطيل وأسمار) للشيخ أبي فهر محمود شاكر رحمه الله، هذا الرجل من أفضل المقاتلين عن الدين، الذين قاتلوا وغزوا وانتصروا، وكتاب آخر اسمه: (الطريق إلى ثقافتنا) أيضاً للشيخ محمود شاكر؛ لتعلم هذا البلاء الذي عاشت فيه الأمة ما مبدؤه، فقد أرخ تاريخاً صادقاً بقلمه الرشيق، والشيخ محمود شاكر هو من أفضل من كتب في هذا المجال، وكأن كلماته حبات لؤلؤ منظومات! أحياناً كنت أقرأ له عبارة فأنفجر ضاحكاً؛ من شدة سخريته بهؤلاء المنحرفين، فأنا أحيل القراء، وألح عليهم أن يقرءوا هذا الكتاب؛ لما قرر حقيقة هؤلاء الأدباء، ووصف ذلك الجيل وصفاً دقيقاًَ، ينبغي على الذي تهمه هذه الأمة وينظر في عللها أن ينظر في هذا المرض الضارب بجذوره من أيام محمد علي، الذي يسمونه: باني مصر الحديثة، وستعلم إذا قرأت كتاب: (الطريق إلى ثقافتنا) مدى جناية هذا الرجل على مصر؛ عندما حاول أن يستقل بمصر عن الخلافة العثمانية.

معاملة النبي صلى الله عليه وسلم للناس على حسب أحوالهم

معاملة النبي صلى الله عليه وسلم للناس على حسب أحوالهم كان الرسول عليه الصلاة والسلام -كما في هذا الحديث- يحدث أصحابه، فجاءه أعرابي وهو يتكلم فقال: (يا رسول الله! متى الساعة؟) فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث، فقال بعض الصحابة: سمع ما قال؛ فكره ما قال. وقال بعضهم: بل لم يسمع) ، فلماذا انقسم الصحابة إلى فريقين؟ كل راعى شيئاً لحظه في النبي صلى الله عليه وسلم، فالذين قالوا: سمع ما قال فكره ما قال، كانوا يعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كره شيئاً أعرض عنه، وظهر على وجهه، فإنه عندما جاءه عبد الله بن عمرو وهو يلبس حلة حمراء فأعرض عنه لقد كانت كل حياة الصحابة واهتمامهم بالنبي عليه الصلاة والسلام، وكانت عيونهم (الكاميرا المسجلة) كل شيء يرمقونه حتى اضطراب لحيته، يقول الصحابي (كنا نعرف قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في الظهر باضطراب لحيته) ويقول مثلاً أبو حميد الساعدي (قلت: لأرمقن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم سائر اليوم) ، ويقول صحابي آخر: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم والقمر في ليلة إضحيان -ليلة أربعة عشر- فجعلت أنظر إلى القمر مرة وإلى وجهه مرة، فكان في عيني أحلى من القمر) وهذا كلام شخص محب، ويقول جابر بن سمرة (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة قمراء وعليه حلة حمراء، ما رأيت قط أجمل منها) ، ويقول أنس بن مالك: (ما مسست ديباجاً ولا حريراً ألين من كف رسول صلى الله عليه وسلم) . المهم أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان كل حياتهم، وكان محور ارتكاز عندهم. فكان النبي عليه الصلاة والسلام إذا كره شيئاً ظهر على وجهه، وأعرض إعراضاً لطيفاً، فالصحابة الذين قالوا هذا، رأوا أنه كثيراً ما كان يعرض عن بعض أصحابه إذا ارتكب شيئاً، فلا يحتاج إلى كلام. والذين قالوا: بل لم يسمع؛ بنوا ذلك على أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يواجه أحداً بما يكره أبداً. جاء في صحيح مسلم: (كان في المدينة بنت مصابة بمرض التخلف، وكانت تأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتطوف به المدينة فلا يمتنع منها، ولا ينزع يده منها) ، هذه أشياء لها دلالة، وإن كان بعض الناس قد يعتبرها مواقف صغيرة لكن لها دلالة (وكان النبي صلى الله عليه وسلم أشد حياءً من العذراء في خدرها) ، وكان رفيقاً، كثير احتمال الأذى، لاسيما مع الأعراب، فما كان يعرض عن الأعرابي، حتى ولو قال قولاً جاهلياً، إنما كان يعرض عن أصحابه الذين يعيشون معه في المدينة، وهكذا ينبغي على الشيخ أن يفرق في معاملته بين أهل البلد وبين الغرباء، فيعطي الغرباء من حقه ومن وقته؛ لأنهم غرباء، ولأن هذا الغريب لا يعلم ما قد ينبه عليه الشيخ أكثر من مرة، لكن يعلمه أهل البلد. جاء في الصحيح أن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن، وكان يعجبنا أن يأتي الرجل العاقل من البادية فيسأل ونحن نسمع) ، فلو أن شخصاً من أهل المدينة سأل النبي صلى الله عليه وسلم سؤالاً بعد النهي؛ لكان له أن يعزره، أما هذا الأعرابي فلم يشهد النهي، فقد جاء من بعيد، وسأل النبي عليه الصلاة والسلام؛ فما كان يعنفه، إنما كان يتلطف معه، وهذا هو مستند الذين قالوا: بل لم يسمع؛ لأنه كان يعامل الأعراب معاملة خاصة غير معاملة أهل الحضر. وفي الحقيقة هناك أدلة تبين هذا، أذكر بعضاً منها: في سنن أبي داود والنسائي من حديث خزيمة بن ثابت الأنصاري (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى قعوداً لرجل من الأعراب -والقعود: جمل صغير السن- فقال: بعني جملك. قال: بكم؟ فقال: بكذا. فقال: إذاً. اشتريت منك الجمل، وسأعطيك الثمن عندما نرجع إلى المدينة. وجاء صحابي من الصحابة لم يعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام اشترى الجمل، فأعجبه الجمل، فقال للأعرابي: أتبيع الجمل؟ قال: بكم؟ قال: بكذا. وذكر ثمناً أعلى من ثمن النبي عليه الصلاة والسلام، فعلم النبي عليه الصلاة والسلام أن الأعرابي باع الجمل، فقال: يا أعرابي! أولم تبعني الجمل؟ فقال: ما بعتك شيئاً. قال: كلا يا أعرابي! بل بعتني. قال الأعرابي: هلم شهيداً يشهد أنني بعتك. والصحابة يلوذون برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقولون للأعرابي: ويحك! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا حقاً. وهو يقول: هلم شهيداً يشهد أنني بعتك. وحينئذٍ انبرى خزيمة بن ثابت الأنصاري وقال: أنا أشهد أنك بعته الجمل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بم يا خزيمة؟ قال: بتصديقك) ، أي: أنك لا تكذب، ولو لم أكن حاضراً لهذه الصفقة وهذا البيع فأنت قد اشتريت الجمل، والأعرابي قد باعك الجمل، (بتصديقك) ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين؛ لأجل هذا الأمر، وهذا من خصوصيات خزيمة بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه. والنبي عليه الصلاة والسلام لم يكفر هذا الأعرابي، ولم يقل له: كذبت رسولك فكفرت، فاغتسل إذاً، وجدد الإسلام، وانطق بالشهادتين؛ لأنه راعى هذه المسألة، فكان النبي عليه الصلاة والسلام كثير الاحتمال. وهذا أعرابي يقول: (يا رسول الله! ثيابنا في الجنة ننسجها بأيدينا أم تتفتق عنها ثمار الجنة؟ فضحك الصحابة، فقال عليه الصلاة والسلام: أتضحكون من جاهل يسأل عالماً؟) ، لماذا تضحكون؟ الرجل يسأل: ماذا سوف نلبس في الجنة؟ هل سنخيط ملابسنا، أم سنجد الملابس جاهزة؟ وهذا يدل على أن الصحابة كثيراً ما كانوا يسألون عن الجنة وما فيها، وقد جاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (استأذن رجل ربه في الزرع -أي: أن يزرع في الجنة- فقال الله عز وجل: دونك يا ابن آدم! فإنه لا يشبعك شيء. فرمى البذرة وفي طرفة عين رأى الثمرة والشجرة الكبيرة، فقال الرجل: والله يا رسول الله! لا تجده إلا أنصارياً) ؛ لأن الأنصار هم الذين يحبون أن يزرعوا. إن الجنة لا أحد يعرفها، وهي منتهى الآمال، وكلنا نعمل لكي ندخل الجنة، وأعظم نعيم في الجنة هو رؤية الله عز وجل، ونحن عندما نطلب من الله عز وجل الجنة إنما نطلب أن نرى رب العالمين تبارك وتعالى هناك، فكان الصحابة يسألون عن الجنة، فسأل هذا الرجل عن ملابسه: كيف سنلبس؟ وكيف سنخيطها؟! فضحك الصحابة من هذا السؤال، فقال صلى الله عليه وسلم: (مم تضحكون؟! من جاهل يسأل عالماً، نعم يا أعرابي، تتفتق عنها ثمار الجنة) ، تفتح الثمرة فتجد جلابية جاهزة وعلى مقاسك، والجنة -كما يقول بعض العلماء، وقد استندوا إلى آثار صحيحة موقوفة لها حكم الرفع- لا يسأل الإنسان فيها، وإنما بمجرد أن يتمنى يجد حاجته ماثلة إمامه؛ لأن السؤال ذل، وأهل الجنة معافون من هذا كله، إنما إذا خطر على باله أنه يأكل رماناً فإنه يجد الرمان أمامه يخطر على باله أنه يأكل فاكهة، أو حماماً، أو أي شيء من لحوم الجنة وفواكهها، فإنه يجد ذلك الشيء أمامه في الحال. فالنبي عليه الصلاة والسلام كان كثير الرفق بهؤلاء الأعراب، وكان الصحابة يعلمون ذلك، فقالوا: بل لم يسمع لماذا؟ راعوا حال النبي عليه الصلاة والسلام، وفي هذا ينبغي مراعاة قرائن الأحوال، فإن الصحابة حكموا بما علموه من النبي عليه الصلاة والسلام، ومسألة اعتبار القرائن في الحكم مسألة ضرورية جداً، فإن الصحابة في حكمهم لما انقسموا إلى فريقين كلٌ راعى القرينة التي حضرته، ورآها على النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

في لفظة (إذا أسند الأمر.

في لفظة (إذا أسند الأمر ... ) يقول أبو هريرة رضي الله عنه: حتى إذا قضى حديثه قال: (أين أراه السائل عن الساعة؟) (أين أراه) هكذا على الشك، وليس: (أين السائل عن الساعة؟) وهذا الشك هو من محمد بن فليح؛ لأن كل الذين رووا هذا الحديث عن فليح بن سليمان وهم خمسة: محمد بن سنان، ومحمد بن فليح، ويونس بن محمد، وسريج بن النعمان، وعثمان بن عمر، لم يذكروا هذا الشك في روايته، بل قالو جزماً: (أين السائل عن الساعة؟) -باستثناء محمد بن فليح - ولو كان هذا الاختلاف من فليح بن سليمان لاتفقوا عليه فيه، أما وقد اختلفوا فيه؛ فنحن ننظر إذاً إلى اختلاف الرواة واختلافهم في مثل هذا. اتفق أربعة من الرواة عن فليح بن سليمان على الجزم وترك الشك، ولم يشك فيها -في هذه اللفظة- إلا محمد بن فليح، ولذلك جعل العلماء -ومنهم الحافظ ابن حجر - الشك فيها من محمد بن فليح، قال: (حتى إذا قضى حديثه قال: أين أراه السائل عن الساعة؟ -أو أين السائل عن الساعة؟ - قال: ها أنا يا رسول الله. قال: فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة) . وكان رجلاً عاقلاً، فسأل سؤالاً آخر كشف الأمر وجلاه، فقال: (وكيف إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة) ، ووقع في صحيح ابن حبان: (إذا اشتد الأمر فانتظر الساعة) ، وأنا أظن أن هذا خطأ وفيه تصحيف، فلو كان (إذا اشتد الأمر) إجابة على السؤال الأول لكان له وجه: متى الساعة؟ فيقول: (إذا اشتد الأمر فانتظر الساعة) ، و (اشتد الأمر) أي: زادت الفتن، فهذا الجواب يمكن أن يكون صحيحاً، لكنه قال: (كيف إضاعتها؟) فقال: (إذا اشتد الأمر فانتظر الساعة) ، فهذا الجواب لا يكون جواباً كافياً لهذا السؤال، وكأن الكتاب وقع فيه تصحيف وخطأ، وكلمة (اشتد) هذه يكون أصلها (أُسند) ، وهي نفس الحروف مع اختلاف النقط؛ لأنه إذا أسند الأمر إلى غير أهله فوقع تصحيف فـ (أسند) صارت (أشتد) ، وسقط من الرواية (إلى غير أهله) ليتفق ذلك مع بقية الروايات. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.

شرح صحيح البخاري [5]

شرح صحيح البخاري [5] للساعة علامات، ومن علاماتها إسناد الأمر إلى غير أهله، وما هذه الطعون والسهام الموجهة نحو السنة النبوية، والتشكيك فيها، إلا دليلاً على قرب الساعة، وإن من واجبنا نحو ديننا هو إعداد العدة للدفاع عنه، وعدم الاستسلام أمام هذه الموجات العاتية، فهؤلاء المنحرفون لم يقعوا في الفروع بل تعدوا إلى الأصول، وذلك لضعفنا، فإنه عندما كان الصحابة حراساً لهذا الدين لم يقترب أمثال هؤلاء من الفروع، فضلاً عن الأصول، وما ذلك إلا لقوة الحراسة، واليقظة العالية والمستمرة.

من علامات الساعة إسناد الأمر إلى غير أهله

من علامات الساعة إسناد الأمر إلى غير أهله إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. قال الإمام البخاري رحمه الله: باب من سُئِلَ علماً وهو مشتغل بحديثه فأتم الحديث ثم أجاب السائل. حدثنا محمد بن سنان، قال: حدثنا فليح ح وحدثني إبراهيم بن المنذر، قال: حدثنا محمد بن فليح، قال: حدثني أبي، قال: حدثني هلال بن علي، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة قال: (بينما النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مجلس يحدث القوم جاءه أعرابي، فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث، فقال بعض القوم: سمع ما قال فكره ما قال، وقال بعضهم: بل لم يسمع، حتى إذا قضى حديثه، قال: أين أراه السائل عن الساعة؟ قال: ها أنا يا رسول الله، قال: فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قال: كيف إضاعتها، قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة) . وذكرنا قبل ذلك أن الإمام البخاري رحمه الله ذكر هذا الحديث مختصراً في كتاب الرقاق، من طريق محمد بن سنان، وقد وصلنا إلى آخر جملة في هذا الحديث وهي الجملة التي علل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إضاعة الأمانة، قال: (إذا وسد الأمر) وفي رواية أخرى: (إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة) . قالوا: يضيِّع الدنيا والآخرة رجلان: نصف طبيب، ونصف عالم، نصف طبيب يهلك الأبدان، ونصف عالم يضيع الأديان، فكيف إذا لم يوجد هذا النصف أيضاً؟!

حقيقة القرآنيين وردود العلماء عليهم

حقيقة القرآنيين وردود العلماء عليهم إن الفتنة التي تطل برأسها الآن، هي: فتنة القرآنيين الذين لا يثبتون السنة، إلا من حيث الجملة، أي: أن هناك سنة والنبي عليه الصلاة والسلام تكلم بأحاديث، لكن ليس على سبيل التفصيل، فينكرون الأشياء التي كانت معلومة ومستقرة عند أسلافنا، وهم الذين يقولون: حسبنا القرآن، وقد تولى علماء السنة أهل الحديث الرد عليهم، وغزوهم في معاقلهم، وذلك عندما كان العلماء متوافرين، فقد كانوا يغزون معاقل هؤلاء، ويرجعون مظفرين، لكن الآن لا يوجد لدينا طائفة الفرسان الذين يهاجمون، أو الذين تحققوا من علم السنة جملة وتفصيلاً. الآن يأتي رجل ويخرج علينا برأي سقيم، ويرد عليه كل العلماء، يقول: إن الله تبارك وتعالى قال: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197] ، وقد أجمع أهل العلم على أن أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، والقرآن لم يحدد يوم عرفات، ويكون في الحج زحام شديد، حيث يحج اثنان أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة ملايين، فهذا يؤدي أحياناً إلى الموت من شدة الزحام، فإذا كان الحج يبتدئ من شوال، والإنسان المتمتع مثلاً إذا أراد الحج من عامه وأتى بالعمرة التي هي بين يدي الحج في أول شوال فيتحلل وينتظر إلى يوم التروية، ثم يهل بالحج، فما بين عمرته وما بين إهلاله بالحج شهران وثمانية أيام، وهذا يعتبر داخل في الحج، فما هو المانع إذا كان القرآن لم يحدد لنا يوم عرفة أن نقدمه، طالما أن شهر شوال من أشهر الحج، لماذا لا يكون فيه يوم عرفة وعيد؟! بحيث نقول: إن على أهل شرق آسيا أن يحجوا في شوال، وعلى دول المغرب والشرق الأوسط أن يحجوا مثلاً في ذي القعدة، وبلاد الأعاجم في ذي الحجة وهكذا، فيصبح عندنا سبعون يوم عرفة، وسبعون عيداً، طالما أن القرآن لم يحدد يوم عرفة. هذا رأي رجل حقير جداً، ومع ذلك يشغل الرأي العام، وينبري له أكبر الرءوس العلمية في الكلية الشرعية، هذا ما ينبغي أن يرد عليه أصلاً، ولا ينبغي أن تصبح المسألة قضية، فإن كون المسألة تصبح قضية فهذه هي الخطورة في الموضوع، لأن القضية كلها ساقطة ليس لها قيمة على الإطلاق، أفكلما نعق ناعق يقف كل هؤلاء العلماء طابوراً ليردوا عليه؟! ويقولون: لا تتعصبوا، يجب أن تفتحوا صدوركم للرأي والرأي الآخر! حتى لو كان كفراً!! وهذه امرأة شمطاء تجاوزت سبعين سنة، قالت: لقد كسبنا الجولة الأولى، وهي أنه تم إصدار قانون بمنع ختان الإناث، تقول: وأنا الآن أطالب بمنع ختان الرجال، انظر يا أخي إلى قلة الحياء! هذه المرأة هي التي تطالب بمنع ختان الرجال!! ويقوم العلماء بالرد عليها، ويشغلون الناس بمثل هذه الآراء التافهة الساقطة، مثل ما تفعل المخابرات الأمريكية عندما تحب أن تعمل مصيبة في العالم، تخترع قصة وهمية، ويقوم أفحل العلماء الذين لا يشك أحد في مصداقيتهم من أهل علمهم ويتكلم فيها، مثل: الأطباق الطائرة، أو رجل طويل نازل على طبق ونازل على البحر الميت. وقال شهود عيان ورأينا وسمعنا وكلمنا وكلمناهم ويقول عالمهم: هذه ظاهرة علمية حقيقية، ونحن نصدق هؤلاء في كل ما يقولون، وإذا اعترض أحد منا على هذا الكلام، قالوا: أنت لا تصدق شيئاً، وهذا ليس من تخصصك. نقول: وأنت الذي اعتمدت على شهرتك أنكرت الشفاعة، وقلت: إن الأحاديث التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم كلها مكذوبة، وأنت لا تفقه شيئاً في علم الحديث، ولا في قبول الروايات ولا ردها، ولا تعرف كيف يقبل العلماء الحديث وكيف يصححونه؟! فلماذا تعديت على تخصص هؤلاء، وجزمت بأن كل ما ورد في السنة أو السيرة من الأحاديث التي تتحدث عن شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم للعصاة يوم القيامة غير صحيحة، وهي عند أهل العلم ثابتة ولا يشك فيها أحد؟! لماذا لم تحترم التخصص وتأتي البيوت من أبوابها؟ مثلما تأتي البيوت من أبوابها في عالم الحيوان، وعالم الإيمان وعالم النبات وغيرها، وتقول: إن العالم الفلاني قال كذا، والعالم العلاني قال كذا، ولا تتجاوز اختصاص هؤلاء، فهلا عرجت على واحد من أهل الاختصاص في معرفة الحديث الصحيح والضعيف، وقلت: إن العالم الفلاني قال: إن الحديث ضعيف، وكنت قادراً على أن تثبت حجتك؟! لماذا لا يهاجم هؤلاء الذين يتكلمون في غير فنهم، ويهاجم العلماء إذا تكلم أحد منهم في فنه؟! فتنة القرآنيين بدأت تطل من جديد، وهم الذين يقتصرون على القرآن وحده، وكل حديث يخالف ظواهر الآيات حسب مفهومهم فهو حديث مكذوب.

طعن أهل البدع في صحيح البخاري والرد عليهم

طعن أهل البدع في صحيح البخاري والرد عليهم يقول أحدهم -ممن اشتهر بتكذيب الأحاديث-: لماذا رد البخاري خمسمائة وستة وتسعين ألف حديث، فرده هذا يوحي بأن هناك علة؟ (إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة) ، فالجهل يكون هو الحاكم، فإذا حكم الجهل زاد الشر، ومعلوم أن من علامات قيام الساعة ازدياد الشر، قال أنس رضي الله عنه: (ما من يوم يمر إلا والذي بعده شر منه إلى يوم القيامة) . وقد رد الحافظ ابن حجر على الكرماني في مسألة في علم الحديث، والكرماني كان متوسط الفهم في علم الحديث، ولم يكن من أهل العلم الكبار، فـ الكرماني تكلم بكلمة أخطأ فيها، فقال الحافظ ابن حجر بعد أن ساق كلامه ورد عليه، قال: ومن تكلم في غير فنه أتى بمثل هذه العجائب. فعندما يقول هذا الرجل: لماذا رد البخاري خمسمائة وستة وتسعين ألف حديث؟ هل هذه الرواية أصلاً صحيحة عن البخاري؟ لا، الذي صح عن البخاري أنه قال: أحفظ مائة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف حديث غير صحيح، أي: أن جملة ما كان يحفظه البخاري ثلاثمائة ألف، وكلمة: (غير صحيح) قد تحتمل ما هو أدنى من الصحيح، مثل: الحسن، والإمام البخاري رحمه الله تكلم بمصطلح الحديث الحسن كثيراً، ومنه أخذ تلميذه الإمام الترمذي هذا المصطلح، وجعل له حداً، كما في (العلل الصغير) المطبوع في آخر سننه. فالإمام البخاري عندما يقول: أحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح، يصح أن نقول: إن الأحاديث الضعيفة والموضوعة والمنكرة والباطلة أكثر من خمسمائة ألف وقد تزيد، لكن الشأن فيما اختاره البخاري في صحيحه. إذا كان الإمام البخاري عنده ملكة في تمييز خمسمائة وستة وتسعين ألف حديث غير صحيح، فمعناه أنه صار إماماً ناقداً، فإذا قال: أنا ألفت كتاباً وسميته: (الجامع الصحيح) ، أفيتصور أن يورد في هذا الكتاب الأحاديث الضعيفة والموضوعة والمنكرة؟! على هذا المفهوم يكون هذا الرجل إما أنه غاش للمسلمين، أو أنه أوهمهم بأنه سيورد الأحاديث الصحيحة ولم يفعل، وإما أنه جاهل لا يدري الفرق ما بين الحديث الصحيح والحديث الضعيف والمنكر. ليس علينا بما أنكره البخاري، إنما نقول: لماذا تعديتم على صحيح البخاري، وقلتم: إن فيه أحاديث مكذوبة، وفيه إسرائيليات؟ ثم يقول: إن أبا حنيفة رحمه الله كان يحفظ سبعة عشر حديثاً، فإذا كان أبو حنيفة الإمام الكبير الذي مدار الفقه عليه، محفوظه أقل من عشرين حديثاً، فأين هذه الألوف المؤلفة حتى لا يعلمها أبو حنيفة؟ إذاً: كل الأحاديث هذه مكذوبة ومنكرة، بدليل أنها لو كانت هذه الأحاديث صحيحة لكان عند أبي حنيفة أحاديث كثيرة لمجاله الفقهي، وما من مسألة إلا ونحن نحتاج فيها إلى دليل جذري. يذكرني هذا بما ذكره أهل الأدب عن خالد بن صفوان الخطيب البليغ المشهور، أنه دخل الحمام يوماً فرآه رجل في الحمام وكان ابنه يغتسل في الحمام، وأبوه منتظر له خلف الباب، فلما رأى الوالد خالداً، قال لابنه رافعاً صوته: يا بني! ابدأ بيداك ورجلاك، ثم التفت إلى خالد كالمتباهي، وقال: يا أبا صفوان هذا كلام قد ذهب أهله، فقال له: هذا كلام لم يخلق الله له أهلاً قط. فعلم هؤلاء بالحديث وقبول الروايات مثل علم هذا الرجل باللغة العربية. وهذه الأحاديث السبعة عشر التي ينسبونها لـ أبي حنيفة رحمه الله ليست هكذا، إنما القصة: أن علماء الحديث في المدينة كان بينهم وبين مدرسة الكوفة وعلى رأسها أبي حنيفة مشاكل، وأن أهل الكوفة من منظور أهل الحجاز لم يكونوا يهتمون بالأحاديث، ولم يرحلوا في طلبها، ولذلك تكلموا في حفظ أبي حنيفة، فقال البخاري ومسلم وابن معين في رواية، وأحمد بن حنبل وأبو حاتم الرازي وأبو زرعة الرازي وابن عدي والدارقطني: إن أبا حنيفة سيء الحفظ، ولذلك خلت الكتب الستة، ومسند الإمام أحمد، وابن حبان ومستدرك الحاكم والبيهقي من ذكر أبي حنيفة، ومن رواية أبي حنيفة، على اعتبار أنه سيء الحفظ عندهم. والعلماء من الأحناف أتوا بروايات أخرى عن الأئمة الثقات مثل: ابن معين، وابن المبارك وغيرهم تقول: بأن أبا حنيفة من أحفظ الناس ومن أوثق الناس إلى آخره، حتى قال ابن حبان في المجروحين: إن كل ما لـ أبي حنيفة في الدنيا سبعة عشر حديثاً، ما من حديث إلا قلب إسناده أو متنه، مع قلة ما روى. فالإمام البخاري لو قلنا: إنه أنكر هذا العدد الكبير من الأحاديث ما علينا من هذا العدد، كل الذي نتكلم عنه صحيح البخاري، لماذا تعديتم على صحيح البخاري وقلتم: إن هناك أحاديث مكذوبة؟ إنما كان ذلك لأنكم لم تفهموها، يا ليتكم قرأتم شروح العلماء الذين شرحوا صحيح البخاري، مع أن لصحيح البخاري أكثر من ثلاثمائة شرح وتعليق، وكذلك صحيح مسلم له قرابة مائة شرح وتعليق. يقول السيوطي: وانتقدوا عليهما يسيرا فكم ترى نحوهما نصيرا وليس في الكتب أصح منهما بعد القرآن ولهذا قدما إجماع من العلماء، أنه ليس بعد القرآن أصح من هذين الكتابين، وأن الإمامين لاسيما البخاري رحمه الله وضع كتابه على أتقن القواعد العلمية، وشرط البخاري شديد، ومسلم لما رد على علي بن المديني في مقدمة صحيحه وشن الغارة عليه بسبب ضيق شرطه، أما البخاري رحمه الله فما كان يقبل من الحديث إلا ما ثبت لديه -ولو في إسناد واحد- من أن هذا التلميذ لقي شيخه ولو مرة واحدة، وبلغ من ضيق شرط البخاري أنه أهمل قبول رواية أهل البلد الواحد، ما لم يقف على إسناد فيه أن فلاناً قال: حدثني فلان، فالذي يبني كتابه على هذا الشرط الضيق الشديد كيف ينتقدونه هؤلاء الجهلة؟ وكل المسألة أن ظواهر بعض الأحاديث تتعارض عندهم مع ظواهر بعض الآيات، فيقولون: حسبنا كتاب الله، ولو ردوه إلى أهل العلم لعلموا الوجه الصحيح.

عدم معارضة السنة للقرآن وتبيينها له

عدم معارضة السنة للقرآن وتبيينها له نقل ابن عبد البر -رحمه الله- في كتاب: التمهيد عن الإمام أحمد، قال: إن الذين يعارضون الأحاديث بظاهر القرآن عملهم منكر، لا ينبغي أن تعترض على الأحاديث بظاهر القرآن؛ لأن القرآن حمال ذو وجوه، والسنة بينت القرآن، فينبغي أن يؤخذ بالمبيِّن، وهذا معنى قول يحيى بن أبي كثير رحمه الله: إن السنة قاضية على كتاب الله، وهذا أيضاً كلام الإمام الدارمي، وابن عبد البر، وجماعة من السلف. سئل الإمام أحمد هل تذهب إلى أن السنة قاضية على كتاب الله؟ فقال: ما أجسر أن أقوله، إنما السنة مبينة لكتاب الله، إذاً: المسألة لفظية فقط، كأن الإمام أحمد كره هذا اللفظ الذي يتصور منه تقديم السنة على القرآن، فلأجل هذا تحاشى الإمام أحمد تحاشى إطلاق اللفظ، وأتى بلفظ يفهم منه المعنى تماماً، وهو أن السنة مبينة للقرآن. ومعنى أن السنة قاضية على القرآن أنه إذا اختلف اثنان فيتحاكمان إلى القاضي أليس كذلك؟ كل واحد يدلي بما عنده من دليل، فيقول القاضي: الحق مع فلان، فإذاً: القاضي قضى لفلان بعدما ثبتت حجته وظهرت واستبانت، كذلك السنة. خذ مثالاً: قال الله تبارك وتعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة:223] ، قال الشافعي رحمه الله: هذه الآية حجة لمن ذهب إلى جواز إتيان المرأة في دبرها، ولكن صح عندنا حديثان في منع إتيان المرأة في دبرها فالسنة قضت على أحد المعنيين في كتاب الله، وهذا معنى أن السنة قاضية على كتاب الله. أي: أن هناك لفظة في القرآن تحتمل معنيين، فتأتي السنة فتقضي بين المعنيين، وتقول: المعنى الأول هو المراد، والثاني غير المراد، فتكون السنة قد قامت بدور القاضي بين المعاني، فلذلك صارت قاضية على كتاب الله لا أنها مقدمة على كتاب الله. مثال آخر: قول الله تبارك وتعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] ، فذهب علي بن أبي طالب وابن مسعود رضي الله عنهما وغيرهما من الصحابة، وتابعهما جماهير أهل الكوفة، إلى أن القرء حيض، وذهبت عائشة وأبو هريرة وابن عمر وغيرهم وتابعهم جماهير أهل المدينة، وكذلك الشافعي إلى أن القرء طهر، واللغة العربية تمتاز بهذا الباب الذي هو كلمات الأضداد، فبعض الكلمات تحمل معنى وعكسه، والذي يبين المقصود هو السياق. مثل كلمة: ظن، فالظن معناه الشك، وقد يكون معناه اليقين، كقوله تبارك وتعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ} [البقرة:45-46] فالآية في سياق المدح لهم، فلا يتصور أن الظن شك؛ لأن الشاك في لقاء الله كافر، فالظن بمعنى اليقين الذي لا شك فيه، وكقوله تبارك وتعالى: {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:20] ، وقوله: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية:32] ، وقوله: {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس:36] . كذلك كلمة: وراء، قد تعني: أمام، وقد تعني خلف، أما أنها تعني خلف فعلى بابها، أما (أمام) فكقوله تعالى في قصة الخضر: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف:79] أي: أمامهم، لأنه لو كان وراءهم لتجاوزوه، فما هي الحاجة إلى خرق السفينة، فهذه اللفظة تحمل عكس معنى اللفظ الأصلي. فمن كلمات الأضداد كلمة: قرء، يعني: طهر، وحيض، فأهل الكوفة قالوا: حيض، والدليل على ذلك أن المرأة التي جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشتكي نزول الدم منها بصورة مستمرة، وقال لها النبي عليه الصلاة والسلام: (دعي الصلاة أيام أقراءك) ، أي: اتركي الصلاة في أيام أقراءك، فهذا يدل على أن القرء حيض، فالسنة هنا قضت لأحد المعنيين على الآخر، وهذا هو معنى السنة قاضية في كتاب الله، وهي مبينة. وتصوروا أيها الإخوة! إذا ضاع البيان فهل يستفاد من النص المجمل؟ فهؤلاء يأتون على أحاديث لا يفهمونها على وجهها، فيقولون: هذه مكذوبة، وهذه موضوعة. نقول: إن الحكم على الحديث بالوضع، أو بالنكارة، أو البطلان، أو الشذوذ، أو الصحة، أو الحسن، إنما يخضع أولاً للإسناد، قال ابن المبارك: الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء. نتمنى أن تكون هناك نهضة عملية في علم الحديث، لا يظل الحديث في الدفاتر، لكن يجب أن نمارس علم الحديث على الواقع. لأننا لو مارسنا علم الحديث على الواقع لتقلص كثير من القيل والقال، كل إنسان يكتب كلمة نسأله عن دليله، ثم نسأله من سبقه إلى هذا القول من أهل العلم؟!

وقفة مع كتاب (السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث) للغزالي

وقفة مع كتاب (السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث) للغزالي أحد المشايخ صنف كتاباً -وكان آخر كتاب صنفه غفر الله له- وهو: السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث، جنى فيه على السنة جناية كبيرة وأخطأ، ولو قلت: كذب لما جاوزت الحقيقة؛ لأن الكتاب طبع قرابة خمسة عشر مرة في حياته -وأنا اطلعت على الطبعة الرابعة عشرة- فما تراجع عن حرف واحد، رغم أنه ظهر سبعة عشر رداً على كتابه؛ لأن فيه الكثير من الكذب على أئمة الفتوى. مثلاً: مسالة دية المرأة على النصف من دية الرجل، فيقول معترضاً: من الذي جعل دم المرأة أرخص من دم الرجل؟! بل دية المرأة مثل دية الرجل، فنقول: إن الذي جعل ميراثها مثل نصف ميراث الرجل، وشهادتها نصف شهادة الرجل، هو الذي جعل دمها على النصف من دم الرجل، لاسيما وقد ورد الحديث والإجماع، وقال: إن القول بأن دية المرأة نصف دية الرجل كذب على الفقهاء، فالجماعة الذين ردوا عليه نقلوا له من كتب أهل العلم من كتاب: الأم للشافعي، والمغني لـ ابن قدامة، ونقلوا له من: السنن الكبرى للبيهقي، ونقلوا له من كتاب: التمهيد لـ ابن عبد البر، ومن كتاب: الإجماع لـ ابن المنذر، ومن كتاب: مراتب الإجماع لـ ابن حزم، نقلوا إجماع الأمة، وأنه لم يخالف في هذا إلا رجلان فقط من المعتزلة وهما: الأصم وابن علية، وهذا كلام ابن قدامة في المغني. أظن أن هذا كان كافياً لكي يرجع عن قوله في الطبعة الثانية، أو الثالثة، أو الرابعة، أو العاشرة. لكن لم يرجع وبقي الكلام كما هو، إذاً: المسألة ليست مسألة دليل، وليست مسألة تأصيل علمي، إنما المسألة مسألة انتصار لرأي خطير، وانتقاص لجانب الفقهاء. يقول في رد الروايات: إن رد الروايات لا يخضع للإسناد، وهذا على خلاف اتفاق أهل العلم جميعاً، في أن الحديث إنما يحكم عليه صحة وضعفاً أولاً بالنظر إلى سنده، إنما الذي إذا سمع المتن أنكره أو صححه هم أهل العلم الكبار، الذين كانوا يحفظون الآلاف من الأسانيد، إذا سمع المتن يعرف أن هذا المتن صحيح، وأن له أسانيد صحيحة، لكنه لم يذكرها، كـ أبي حاتم الرازي، وأبي زرعة الرازي، والإمام البخاري، ومسلم، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وسفيان الثوري، وشعبة بن الحجاج وأمثال هؤلاء العلماء. فالاعتداء على صحيح البخاري، القصد منه إهدار بقية السنة، إذا كان هذا أصح كتاب عندنا، ويأتي هؤلاء الجهلة ويخرجون منه أربعمائة حديث ويدّعون أنها موضوعة ومكذوبة، كل أحاديث الشفاعة أنكروها، لأنها تخالف قوله تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} [السجدة:4] وهذا إنكار منهم أنه يوجد شفيع ودليلهم: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر:44] فقط! نقول: وقوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] ، أين ذهبت؟ وقوله: {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} [الزخرف:86] ، فالقرآن أثبت أن هناك شفعاء بإذنه تبارك وتعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه سيشفع، وأن المؤمنين سيشفعون، وأن الرجل قد يشفع لأهل بيته، وهذا كما ورد في الأحاديث الصحيحة، فأي نكير على هذا، وهو لا يعارض القرآن. إن ظاهرة توسيد الأمر إلى غير أهله الآن قائمة على قدم وساق، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة) ، ينبغي علينا نحن أن نقوم بواجبنا تجاه ديننا، أين كتيبة الدفاع عن السنة؟ كان أولى الناس بالدفاع عن السنة الأساتذة الموجودين في أقسام الحديث، وفي كليات أصول الدين، أين دورهم في الرد على هؤلاء؟! لأجل هذا أيها الإخوان! أنا أهيب بكم وأدعوكم إلى دراسة علم السنة، وأن أي أحد يغار على دينه، يجب أن ينتدب نفسه للدفاع عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، الحراسة عندنا ضعيفة جداً، الحراس عندنا نائمون، لا يقومون بواجبهم.

دفاع الصحابة عن السنة النبوية

دفاع الصحابة عن السنة النبوية كان قديماً لا يستطيع رجلٌ مع وجود الحراس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يعتدي على فرع من فروع الدين، فضلاً عن أن يفكر في الاعتداء على أصل من أصول الإسلام، بسبب الحراسة القوية لدين الله عز وجل.

نماذج من دفاع الصحابة عن الدين

نماذج من دفاع الصحابة عن الدين في سنن الدارمي: أن أبا موسى الأشعري لما كان في الكوفة رأى قوماً يسبحون بالحصى فأنكر ذلك، -الآن عندما تنكر السبحة يقولون لك: هناك أناس لا يصلون وهناك أناس زنادقة وملحدون، وأنت تتكلم على السبحة، هؤلاء بالنسبة لأولئك رضي الله عنهم، فانظر إلى تفاوت الهمم، هؤلاء يدورون ما بين بدعة وردة، ينظرون للمبتدع ويقولون: رضي الله عنه بالنسبة للمرتد، وحراس الحدود عندما تكون نظرته هكذا سقطت الحراسة ودخل العدو، نقول: لا يجوز للحارس أن يتساهل مع عدوه وإن كان نملة، فإن معظم النار من مستصغر الشرر- وانطلق أبو موسى الأشعري إلى عبد الله بن مسعود في صلاة الفجر، فوجد تلاميذ عبد الله بن مسعود على الباب، قال: أما خرج أبو عبد الرحمن؟ قالوا: لم يخرج بعد، فجلس معهم حتى خرج ابن مسعود فاكتنفوه، فقال أبو موسى الأشعري: يا أبا عبد الرحمن لقد رأيت شيئاً آنفاً أنكرته، ولم أر والحمد لله إلا خيراً، قال: ماذا رأيت؟ قال: إن عشت فستراه، رأيت قوماً حلقاً حلقاً وأمام كل حلقة حصى، وأحدهم يقول: سبحوا مائة، كبروا مائة، هللوا مائة، فيعدون التسبيح والتكبير والتهليل، فقال ابن مسعود: يا أبا موسى! هلا أنكرت عليهم، وقلت لهم: عدوا سيئاتكم وأنا ضامن أنه لن يضيع من حسناتكم شيء، قال: انتظار أمرك أو انتظار رأيك. فانطلق عبد الله بن مسعود ودخل المسجد، فإذا الأمر كما وصف أبو موسى، فوقف على حلقة من هذه الحلق، وقال: ما أسرع هلكتكم يا أمة محمد، ها هو محمد صلى الله عليه وسلم آنيته لم تكسر، وثيابه لم تبلى، حتى فعلتم شيئاً ما فعله ولا أصحابه، والله إما إنكم لعلى ملة أهدى من ملة محمد أو مفتتحو باب ضلال، قالوا: يا أبا عبد الرحمن والله ما نريد إلا الخير، نحن نذكر الله، وأظن أن هذا محمود عند طوائف كثيرة، ومع ذلك أنكره عبد الله بن مسعود، وما غره هذا الظاهر من الخير؛ لأنه مخالف لما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام. وذلك مثل فعل عبد الله بن عمر فيما رواه مسلم في مطلع صحيحه من حديث يحيى بن يعمر، قال: خرجت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول معبد الجهني في القدر، فظهر لنا عبد الله بن عمر داخلاً المسجد، فاكتنفناه، فقلت: أبا عبد الرحمن إنه ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن ويتقصون العلم، ويكثرون الصلاة، والصيام، والقيام، ويعتزلون والنساء. -وذكر من شأنهم ما ذكر- غير أنهم يقولون: لا قدر، وأن الأمر أنف، لم يقل له عبد الله بن عمر: بارك الله فيهم، وهؤلاء أناس يقرءون القرآن، ويطلبون العلم، لكن عليهم أن يغيروا هذه الصفة، لا، بل أهدر عبد الله بن عمر كل هذا الذي سمعه، وقال: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وهم برآء مني، فطالما أننا اختلفنا في الأصول فلا لقاء. فـ عبد الله بن مسعود لم يغتر بظاهر هذه الحلقة في المسجد، وهم يذكرون الله، ويسبحونه، ويهللونه، ويحمدونه، فعندما قالوا له: والله يا أبا عبد الرحمن ما نريد إلا الخير، قال: كم من مريد للخير لا يبلغه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا عن أناس يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، وايم الله لعل أكثرهم منكم، والله إما إنكم لعلى ملة أهدى من ملة محمد أو مفتتحو باب ضلالة. قال يحيى بن يعمر: فلقد رأيت عامة هؤلاء يطاعنوننا يوم النهروان مع الخوارج. وفي معجم الطبراني الكبير بسند صحيح عن سالم بن عبد الله بن عمر قال: عرست في زمان أبي ودعا أبي الناس، فجاء أبو أيوب الأنصاري، فلما جاء ووقف على الباب رأى ستائر على الجدر، فوقف ولم يدخل، وقال لأبي: أأنتم تسترون الجدر، قال سالم: فخفض أبي رأسه واستحيا، وقال: غلبنا النساء يا أبا أيوب، قال: لئن غلبن النساء أحداً لا يغلبنك، والله لا طعمت لكم طعاماً سائر اليوم، ورجع. الصحابة ما كانوا يفوتون شيئاً من هذا، بل كانوا حراساً أمناء، لذلك ظل الدين نقياً، وخمد ذكر أهل البدع في أيامهم، فنحن في أمّس الحاجة إلى هذا الطراز من الحراس، الذين لا يسمحون بفوات مثل هذه القضايا، مهما انتقدوا من الآخرين: أنتم متشددون! أنتم تهتمون بسفاسف الأمور! أنتم تركتم المسائل الخطيرة! فمسألة إسناد الأمر إلى غير أهله فيها هلاك في الدنيا وضياع الدين، وهي من علامات الآخرة. (إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة) ، وما أسند الأمر إلى رجل غير مؤهل إلا بسبب غياب الرجل المؤهل؛ كما قال سفيان الثوري: لا تحيا بدعة إلا على أنقاض سنة. إذاً: الذين تخلفوا عن حراسة الدين هم السبب، وإلا لا يمكن لقيادة أخرى أن تتبوأ مكانها؛ لأن هناك معركة فاصلة بيننا وبين هؤلاء العلمانيين، الذين كانوا يتسمون قبل ذلك بالقرآنيين، وليس لهم من القرآن شيء. قيل لـ يحيى بن معين: ما تقول في الحديث الذي يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ما حدثتكم من حديث فاعرضوه على القرآن، فما وافق القرآن فخذوه، وما عارضه فردوه) ؟ فقال ابن معين فوراً: لقد عرضناه على القرآن فوجدناه كذباً، فقيل: كيف؟ قال: لأن الله عز وجل يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] .

ذكاء الإمام البخاري وفقهه في التبويب

ذكاء الإمام البخاري وفقهه في التبويب في الباب الثالث قال الإمام البخاري رحمه الله: باب من رفع صوته بالعلم. انظر إلى ذكاء الإمام البخاري وفقهه في التبويب، فأول باب قال: باب فضل العلم، والباب الثاني قال: باب من سئل علماً وهو مشتغل بالحديث فأتم الحديث ثم أجاب السائل، والباب الثالث قال: من رفع صوته بالعلم. أول باب فضل العلم، عندما علمت فضل العلم والعلماء، تاقت نفسك أن تكون من هؤلاء، فبدأت تأخذ خطواتك الأولى لطلب العلم، فقال لك الإمام: قف، فإنه قبل أن تطلب العلم لا بد أن تتأدب بآداب طالب العلم حتى تستفيد منه، فإن الأصل ليس تحصيل المسائل إنما هو العمل بالعلم، فذكر طرفاً من الآداب التي ينبغي أن يتحلى بها طالب العلم، كما ذكرناه في المجالس الماضية، فأنت عندما تكون قد تأدبت بآداب طالب العلم، وتعلمت العلم، فلابد عليك من تبليغ العلم، وهذا هو معنى قول الإمام: باب من رفع صوته بالعلم؛ لأن رفع الصوت مظنة وصوله إلى أكبر عدد، فالرفع هنا معناه: الانتشار، معناه: التعليم، وليس معناه: أن ترفع صوتك فقط، إنما قصد الإمام البخاري تبليغ العلم، والتبليغ يكون عن طريق رفع الصوت. قال الإمام البخاري رحمه الله: حدثنا أبو النعمان عارم بن الفضل، قال: حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن يوسف بن ماهك، عن عبد الله بن عمرو قال: (تخلف النبي صلى الله عليه وسلم في سفرة سافرناها، فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة ونحن نتوضأ، فجعلنا نمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته: ويل للأعقاب من النار. مرتين أو ثلاثاً) . الإمام البخاري روى هذا الحديث مرتين في كتاب العلم في هذا الباب، وفي باب من كرر القول ثلاثاً ليفهم، ورواه مرة في كتاب الوضوء، باب غسل القدمين ولا يكتفى بالمسح. فرواه هنا عن شيخه أبي النعمان عارم بن الفضل، ورواه في كتاب العلم أيضاً عن شيخه مسدد بن مسرهد، ورواه في كتاب الوضوء عن شيخه أبي سلمة التبوذكي، ثلاثتهم قال: حدثنا أبو عوانة، واسمه: وضاح بن عبد الله اليشكري، عن أبي بشر، واسمه: جعفر بن إياس، عن يوسف بن ماهك، عن عبد الله بن عمرو بن العاص. أول ما أذكره في هذا الإسناد هو قوله: حدثنا أبو النعمان عارم بن الفضل: وعارم هذا لقب لشيخ البخاري، واسمه: محمد بن الفضل السدوسي وكنيته أبو النعمان، ولقبه وعارم، وعارم: من العرامة، أي: الشدة والصلابة والشراسة، وكان محمد بن يحيى الذهلي شيخ البخاري إذا حدث عن محمد بن الفضل يقول: حدثنا عارم وكان بعيداً من العرامة.

حكم الألقاب في الإسلام

حكم الألقاب في الإسلام نقف هنا في بحث حول ألقاب المحدثين التي تحمل معنى مذموماً، فهناك بعض الناس أنكر هذا وعده من الغيبة المحرمة، وقال: لا ينبغي أن يلقب الرجل إلا بلقب مستحسن، أو لقب هو يقره، أما أنه ينكره فلا؛ فإن هذا غيبة محرمة، فهل يا ترى ألقاب المحدثين أو ألقاب العلماء أو سائر الناس التي تحمل معنى مذموماً هل هي محرمة؟ وهل تعد من الغيبة أم لا؟ الجواب: أن هذا لا يعد من الغيبة، وقد استثنى العلماء أجناساً لم يعدوها غيبة محرمة، وإنما ساروا مع القصد، ونظم أحد العلماء هذه الأجناس الستة في قوله: القدح ليس بغيبة في ستة متظلم ومعرف ومحذر ومجاهر فسقاً ومستفت ومن طلب الإعانة في إزالة منكر (متظلم) : لو أن جارك ظلمك أو غيره ظلمك فذهبت إلى القاضي، فقلت: إن هذا الرجل فعل بي كذا وكذا، وكشف ظلمه للقاضي مع أن هذا الظالم يكره أن يعرفه الناس، فإن هذا لا يعد من الغيبة المحرمة، حتى وإن كرهه صاحبه؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام (سئل عن الغيبة، قال: ذكرك أخاك بما يكره، فقال: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته) ، فهو إن قال الحقيقة فهو مغتاب، وإن قال غير الحقيقة فهو مفترٍ، وهذا الذي ظلمك وذهبت إلى القاضي وقلت فيه ما قلت مما يكرهه صاحبه، أليس فيه ما قلت؟ بلى هو فيه، أليس النبي عليه الصلاة والسلام قضى أن هذا غيبة؟ بلى قضى أن هذا غيبة، لكن العلماء قالوا: لابد إذا أردت أن تحكم بشيء أن تجمع شتات الأدلة ثم تصدر الحكم، لا تأخذ حديثاً واحداً أو آية واحدة وتبني عليها الحكم. السنة مبيّنة والنبي عليه الصلاة والسلام قد يقول الشيء الجزئي يرد به على شخص، مثلما جاءه رجل وسأله عن الإسلام؟ فقال: (أن تطعم الطعام، وتفشي السلام، وتصلي بالليل والناس نيام) فهل هذا هو الإسلام؟! أم أن هذا من الإسلام؟! مع أن الرجل سأل عن الإسلام، الجواب هنا خرج عن جزئية يسيرة في الإسلام، فالنبي عليه الصلاة والسلام يجيب الرجل على مقتضى حاله. إذا كان هناك شخص ضرب أباه، وجاء إليك -وأنت تعلم حاله مع أبيه- وقال: دلني على عمل إن فعلته دخلت الجنة؟ فقل له: لا تضرب أباك وأحسن إليه تدخل الجنة، نزل الكلام على مقتضى حال السائل، والنبي عليه الصلاة والسلام كان كثيراً ما يجيب على مقتضى حال المخاطب، وهذا مما تعلمناه من هدي النبي عليه الصلاة والسلام. قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته) ، لكن نحن لدينا أدلة تخصص هذا، فالرسول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين من حديث عائشة: (استأذن عليه رجل، فقال: بئس أخو العشيرة) ، لو سمع الرجل هذا الكلام هل سيغضب؟! لاسيما أن هذا الكلام لا يندمل جرحه، من جرحه الله ورسوله لا يستطيع أحد قط أن يرفع له قائمة. (كان النبي عليه الصلاة والسلام مع جماعة من الصحابة وهم يرمون، فقال: ارموا وأنا مع بني فلان، فالآخرون توقفوا، فقال: ما لكم؟ قالوا: كيف نرمي وأنت مع بني فلان؟! فقال: ارموا وأنا معكم جميعاً) . (فلما دخل الرجل بسط النبي صلى الله عليه وسلم له في الكلام وألانه له، فـ عائشة رضي الله عنها رأت وسمعت، فلما انصرف الرجل، قالت: يا رسول الله! قلت ما قلت وفعلت ما فعلت، قال: يا عائشة! إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من ودعه الناس اتقاء فحشه) . فالمسألة إذاً مدارها على النية، فمن قصد بكلامه التنقيص والتحقير، فهذه هي الغيبة المحرمة، أما من قصد أن يدفع ظلماً عنه، أو يعرف بغير قصد التنقيص فلا يكون ذلك داخلاً في الغيبة المحرمة. الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يبني المسجد قال لـ عمار: (ويحك يـ ابن سمية، تقتلك الفئة الباغية) ولا شك أن الإنسان إذا نسب إلى أمه فسوف يغضب، ولكن هذا من باب التشريف، وليس من باب التعيير، فلو كان من باب التعيير لكان حراماً، أما إذا كان من باب التشريف والتعريف فيجوز ذلك، ولا يكون غيبة محرمة، وعلى هذا تحمل جميع الألقاب التي ظاهرها الذم. مثل: الأعرج عبد الرحمن بن هرمز، وهو من أشهر الرواة عن أبي هريرة، وكذلك عاصم بن سليمان الأحول، وكان أحول فعلاً، سليمان بن مهران الأعمش، كان في عينيه عمش، وكان يقول: لو كنت بقالاً لاستقذرتموني، ولكن الله رفعه بالعلم، وغندر لقب لـ محمد بن جعفر الذي لقبه به ابن جريج، وغندر بلغة أهل الحجاز المشاغب، وكذلك صالح جزرة واشتهر بين الحفاظ بـ جزرة؛ لأنه كان في درس من الدروس فسأله الشيخ إلى أي حديث وصلنا؟ فقال: إلى حديث الجزرة، وهو حديث الخرزة، فصار جزرة لقباً عليه. فكل الألقاب التي خرجت على سبيل التعريف لا يعد قائله مغتاباً، أما إذا كان على سبيل الانتقاص فهذا حرام، لحديث عائشة رضي الله عنها لما قالت للنبي عليه الصلاة والسلام في صفية: (حسبك من صفية أنها قصيرة، قال لها: لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته) ، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ما أحب أن يكون لي كذا وكذا وأني حاكيت إنساناً) حرم بهذا أن يحاكي المرء غيره في الكلام. مع أن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر رواه ابن ماجة مختصراً، ورواه البخاري في الأدب المفرد عن ابن مسعود: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحكي نبياً من الأنبياء أدمى الناس وجهه) قال ابن مسعود: (وجعل يحكي النبي) أي: يمثله، وهو يمسح الدم ويتقي الناس، فلا بأس أن يحكي إذا لم يقصد التنقيص. إذاً: هذا هو الضابط ما بين الغيبة المحرمة وما بين القول، سواء كان تظلماً، أو كان إنسان يعرف، أو كان إنسان يستشكل على نحو ما سأذكره تفصيلاً بعد ذلك إن شاء الله تعالى. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.

شرح صحيح البخاري [6]

شرح صحيح البخاري [6] اهتم علماء الحديث في القديم بعلم مصطلح الحديث، وذلك لما له من الأهمية البالغة في معرفة الصحيح من الضعيف، ولأنه بدراسة هذا الفن نستطيع أن نواجه أعداء السنة النبوية، الذين يدبرون المؤامرة تلو المؤامرة للإطاحة بالسنة، وتشكيك المسلمين بها.

الفوائد الإسنادية والحديثية

الفوائد الإسنادية والحديثية إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد؛ كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد قال الإمام البخاري رحمه الله: باب من رفع صوته بالعلم: حدثنا أبو النعمان عارم بن الفضل، قال: حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن يوسف بن ماهك، عن عبد الله بن عمرو قال: (تخلف عنا النبي صلى الله عليه وسلم في سفرةٍ سافرناها، فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة، ونحن نتوضأ، فجعلنا نمسح على أرجلنا فنادى بأعلى صوته: ويلٌ للأعقاب من النار. مرتين أو ثلاثاً) .

ذكر الألقاب للتعريف لا يعد من الغيبة

ذكر الألقاب للتعريف لا يعد من الغيبة وكنا ذكرنا في المجلس الماضي كلاماً حول هذا اللقب الذي هو لشيخ البخاري رحمه الله؛ في هذا الحديث وهو محمد بن الفضل، ولقبه عارم، وكنيته أبو النعمان، وهذا اللقب عارم فيه معنى الشدة وسوء الخلق، ولذلك كان محمد بن يحيى الذهلي رحمه الله -وهو من صغار شيوخ البخاري؛ إذ إن شيوخ البخاري على خمسة أقسام، آخر قسم من هؤلاء منهم: محمد بن يحيى الذهلي رحمه الله، واتفق البخاري معه في كثيرٍ من شيوخه- فكان محمد بن يحيى الذهلي إذا حدَّث عن عارم يقول: حدثنا عارم، وكان بعيداً عن العرامة؛ حتى لا يتوهم المستمع أن لقب عارم فيه شيءٌ من سوء الخلق. وذكرنا أيضاً في المجلس الماضي أن هذا لا يعد من الغيبة المحرمة. القدح ليس بغيبةٍ في ستةٍ متظلمٍِ ومعرِّفٍ ومحذرِ ومجاهرٍ فسقاً ومُسْتَفتٍ ومَن طلب الإعانة في إزالة منكر فالمتظلم لو ذكر سوءَة ظالمه لا يعد مغتاباً، وكذلك ما فعله أهل الكوفة مع سعد بن أبي وقاص، لما شكوه إلى عمر بن الخطاب، وكما حدث كثيراً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، إذا جاء رجلٌ يشكو آخر، منهم: أبو بكر الصديق لما شكا عمر بن الخطاب رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيحين: (أنه حدث بين أبي بكر وعمر شيءٌ، وكان أبو بكر عنده حدة، فقال لـ عمر: اغفر لي، فقال عمر: لا أغفر لك، فتفرقا وبحث أبو بكر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى ظفر به وقد رفع شيئاً من ثيابه، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: أما صاحبكم فقد غامر، فلما جاء أبو بكر قال: يا رسول الله! حدث بيني وبين عمر شيءٌ فقلت: له اغفر لي، قال: لا أغفر لك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يغفر الله لك يا أبا بكر ذكر ذلك ثلاث مرات، ثم إن عمر ندم، فذهب إلى أبي بكر في بيته فلم يجده، فجعل يبحث عنه حتى جاء مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآه عليه الصلاة والسلام احمرَّ وجهه وظهر عليه الغضب، وقال: جئتكم فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت، ومنعتموني فواساني بماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي، قال الراوي: فما أوذي بعدها) . وهكذا مسألة الخصومات كانت كثيرة في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لم يعقب النبي عليه الصلاة والسلام على المتظلم ولم يقل له: هذه غيبة محرمة، ولا يجوز لك. فأي إنسان متظلم يجوز له أن يذهب إلى القاضي، أو يذهب إلى جهة التقاضي، فيقول: فلان ظلمني أو فلانٌ كذا، أو نحو هذه العبارات، فلا يعد هذا من الغيبة المحرمة. والمعرِّف كما ذكرنا في لقب عارم؛ لأننا عرفناه بذلك، وكذلك الأعمى والأعرج، وسليمان الأحول، وعاصم الأحول، وكذلك من وصف بعاهة فيه، ومن نسب إلى غير أبيه، مثل: إسماعيل بن علية مثلاً؛ كل هذا لا يُعَد من الغيبة المحرمة، طالما أن اللقب أو النسبة خرجت مخرج التعريف له لا التنقيص من شأنه. القدح ليس بغيبة في ستة متظلمٍ ومعرفٍ ومحذرٍ ومجاهرٍ فسقاً ومُسْتَفتٍ ومَن طلب الإعانة في إزالة منكر

التحذير من أهل البدع لا يعد من الغيبة

التحذير من أهل البدع لا يعد من الغيبة وهناك شخص من أهل البدع، وأنا أقول لك: لا تقرأ له، ولا تسمع له؛ لأنه مبتدع، وهذا المبتدع له مخالفات كثيرة منها: إنكار الشفاعة، فخالف العالمين جميعاً، ووقف لسوء حظه وحده، لا نصير له على الإطلاق، وكلامه الأخير ومقالاته الأخيرة يضرب بعضها ببعض، هو يقول: مَن الذي يشفع من دون الله؟ هو يتصور أن ربنا سبحانه وتعالى عندما قال: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:167] بأن النبي صلى الله عليه وسلم سيقول: أنا سأخرج هؤلاء من النار، هو يتصور هكذا، فنَقَضَ كلامه، ثم قال: وإن كان جميع المفسرين يقولون كذا وكذا، لكني أقول اجتهاداً والله أعلم، فلما يكون جماهير المفسرين في ناحية، وهو في ناحية، فأي إنسان عاقل سيصدقه حتى نفسه؛ لأن الكبار الذين هم معدن الفتوى والعلم، كان الواحد منهم -كالإمام أحمد أو غيره- إذا سئل عن مسألةٍ يقول: أنا لا أستطيع أن أقول فيها بشيء، ويتوقف، أما هذا المبتدع فإنه مالَ إلى قول المعتزلة، وتبنى قول الخوارج، وخالف أهل السنة جميعاً، فأنا عندما أقول لك: لا تقرأ لهذا الرجل، إنه مبتدع، ومخرف وليس من أصحاب العلم، ومن باب النصيحة نقول له: اجث بركبك في مجالس العلم، فإن آنس أهل العلم منك فهماً، فقالوا لك: تكلم، فتكلم، وإن لم يزكك منهم أحد؛ فخيرٌ لك أن تلقى الله وأنت ساكت، لأنك إن لقيت الله عز وجل بقولٍ مخالفٍ يحاسبك، والغريب في هذا الجريء أنك تجده يقول: والبخاري سيحاسبه الله عن هذه الروايات التي جاء بها! سبحان الله! فلما يكون الإنسان مبتدعاً مثلاً، فلابد أن نقول: لا تقرأ لهذا الإنسان؛ لأنه جاهل ومخرف ولا يفقه شيئاً، ولا يعلم شيئاً، ولا نعلم أحداً من أهل العلم زكاه، فهذا ليس بغيبة؛ لأن الرد على المخالف أصل من أصول الإسلام. فالمحذر الذي يحذر ويكون محقاً في تحذيره لا يقال له: اغتبتَ العلماء، ويجري في هذا المجرى كلام أهل الجرح والتعديل على الرواة، كالإمام يحيى بن معين، وأحمد بن حنبل، وأبو حاتم، وأبو زرعة، والدارقطني، وابن عدي، والفلاس عمرو بن علي، أي واحد من هؤلاء يقول: هذا ضعيف، هذا مغفل، هذا سيئ الحفظ، هذا كذاب، هذا مختلق، كل هذا لا يعد من الغيبة المحرمة.

اعتراض بعض الناس على علماء الجرح والتعديل والرد عليهم

اعتراض بعض الناس على علماء الجرح والتعديل والرد عليهم بعض الناس اعترض على كلام علماء الجرح والتعديل في الرواة، وأنفذ شاعرُهم يقول في أبياتٍ له، سأذكر البداية في هذه الأبيات، يقول: أرى الخير في الدنيا يقل كثيره وينقص نقصاً والحديث يزيدُ فلو كان خيراً كان كالخير كله ولكن شيطان الحديث مريدُ ولـ ابن معين في الرجال مقالةٌ سيُسأل عنها والمليك شهيدُ فإن يكُ حقاً فهو في الأصل غيبةٌ وإن يكُ زوراً فالقصاص شديدُ فهو يريد أن يقول: إن كلام علماء الجرح والتعديل في فلان، الذي هو نقد الرواة لا يصلح سواءً كان حقاً أو باطلاً، فإن كان حقاً فهو غيبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الغيبة، قال: (ذكرُك أخاك بما يكره) ، وأي مصيبة أعظم من أن يُتَكَلَّم في رجل صناعته الحديث وبضاعته الحديث؟ أنت تعرف أن جرح أهل العلم لا يندمل، يظل ينزف دائماً، فلا يتعرضن أحد لأهل العلم، قديماً كان الرواة يخافون من يحيى بن معين؛ لأنه كان معروفاً بالكلام في الرواة، حتى إن شيخاً من أهل مصر ذهب إلى بغداد، ونزل في (فندق) ، فأهل بغداد لما عرفوا أنه وصل بدءوا يتوافدون عليه، أولاً: راوي هذه القصة من أهل بغداد قال: طرقت عليه الباب، فقال: مَن؟ قلت: فلان، قال: ادخل، فلما دخلت قلت: أمْلِ عليَّ، فجعل يملي عليَّ وهو مضطجع والكتاب في يده، فطرق الباب طارق، قال: من؟ قال: أحمد بن حنبل فدخل، والشيخ على هيئته يملي، ودق الباب آخر، قال: من؟ قال: فلان، ادخل فدخل، حتى طرق الباب طارقٌ، فقال: مَن؟ قال: يحيى بن معين، قال: فرأيت يديه ترجفان، وسقط الكتاب من يده، فـ يحيى بن معين لما يتكلم في الراوي كلمة فإن الراوي يسقط رأس ماله، تخيل شخصاً بضاعته الحديث فقط، فإذا جاء شخص كـ يحيى بن معين، أو أحمد بن حنبل، أو الدارقطني وقال: كذاب، أو قال: مغفل، أو متروك، أو سيئ الحفظ، إذاً ذهبت بضاعته. فهذا الشاعر يقول: إن يحيى بن معين له في الرجال مقالة، فإن يكُ محقاً فهو مغتاب، وإن يكُ زوراً فالقصاص شديد. علماء المسلمين كلهم على خلاف هذا القول، فلقد سئل يحيى بن سعيد القطان، ومالك، وعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وأبو زرعة الرازي: هل الكلام في الرواة يعد من الغيبة؟ فأجمعوا أن لا. فهذا معنى ومحذرِ، فإنه يدخل فيه أيضاً كلام أهل العلم في أهل البدع، وفي أهل المعاصي، فكل هذا لا يعد من الغيبة المحرمة، بل هو واجب لابد أن تقوم الأمة به. قوله: ومجاهرٍ فسقاً، أي رجل يجاهر بالفسق، فقلت: احذروا فلاناً، فهذا يدخل في معنى التحذير، ولا يعد من الغيبة المحرمة، ولو كان ذلك يسوء المتكلَّمُ فيه.

ذكر الأشخاص عند الاستفتاء لا يعد من الغيبة

ذكر الأشخاص عند الاستفتاء لا يعد من الغيبة قول: ومستفتٍ، مثل شخص جاء يستفتي عن فتوى كما روى الشيخان في صحيحيهما من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (جاءت امرأة أبي سفيان - هند - إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله! إن أبا سفيان رجلٌ شحيح، فهل لي أن آخذ من ماله بغير إذنه؟ فقال لها: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) ، فلا شك أن أبا سفيان إذا علم أن هنداً جاءت وشكته، بل ووصفته بالشح الذي هو أشد البخل لغضب، فأعظم البخل هو: الشح، فكما ذكر الجاحظ وغيره، أن ثلاثةً من البخلاء تناظروا: أينا أبخل؟ فقال الأول: أما أنا فأبخل بمالي على نفسي. وقال الثاني: وأنا أبخل بمال الناس على نفسي. وقال الثالث: وأنا أبخل بمال الناس على الناس. قالا: لا جرم، أنت أبخلنا. يعني: استكثر المال فيه وهو ماله. فلو أن أبا سفيان علم أن هنداً شكته ووصفته بالشح عند النبي صلى الله عليه وسلم لغضب، ولقال: كيف تفعلين مثل هذا؟ ولم يقل لها النبي صلى الله عليه وسلم: كيف تصفينه بالشح، وأن هذا يغضبه، فسكت عليه الصلاة والسلام، وسكوته إقرار؛ لأنه لا يسكت على باطل أبداً. قال لها: (خذي ما يكفيكِ وولدكِ بالمعروف) . فالفتوى: المستفتي سواءً كان رجلاً أو امرأة قد يذكر مساوئ مَن يستفتي عن حاله أو عنه، فهذا جائزٌ لا شيء فيه، ولا يعد من الغيبة المحرمة. القدح ليس بغيبة في ستةٍ متظلمٍ ومعرِّفٍ ومحذرِ ومجاهرٍ فسقاً ومستفتٍ ومَن طلب الإعانة في إزالة منكرِ قوله: ومن طلب الإعانة في إزالة منكر، مثل أن يأتيك آتٍ ويقول: تعال إلى المكان الفلاني أو البيت الفلان؛ فإن فيه أناساً يشربون الخمر، أو يأتون الزنا، أو يفعلون كذا وكذا، وتسميهم بأسمائهم، فلا بأس بذلك، كل هذا يستثنى من الغيبة المحرمة. إذاً: ما نقابله في الكتب من وصف بعض الرواة بأوصافٍ لا تليق، لكنها جرت مجرى التعريف بهم، فكل هذا لا يعد من الغيبة المحرمة.

أهمية علم المصطلح في الرد على المبتدعة

أهمية علم المصطلح في الرد على المبتدعة هذا الحديث كما ذكرنا رواه البخاري في كتاب العلم عن شيخه عارم بن الفضل، وقد رواه البخاري أيضاً في موضعين آخرين من صحيحه، الموضع الأول سيأتينا في كتاب العلم أيضاً، الذي هو: باب من أعاد الحديث ثلاثاً ليفهم عنه) . روى هذا الحديث بعينه من طريق شيخه مسدد بن مسرهد، قال: حدثنا أبو عوانة، وساق الإسناد بمثل رواية عارم هنا، ثم رواه في كتاب الوضوء، قال: باب غسل الرجلين، قال: حدثنا موسى، قال: حدثنا أبو عوانة وساق الإسناد بمثل رواية عارم هنا، وموسى شيخ البخاري هو: موسى بن إسماعيل التبوذكي أبو سلمة، وهو من كبار شيوخ البخاري، وقال يحيى بن معين: ما هبتُ أحداً قط هيبتي للتبوذكي، وهذه شهادة من بين فكي أسد، فـ ابن معين كلهم كانوا يخافون منه، فعندما يخاف يحيى بن معين من واحد أو يهابه، فكيف تكون جلالته، موسى بن إسماعيل التبوذكي هذا من الثقات ومن كبار شيوخ الإمام البخاري. إذاً: هذا الحديث يرويه ثلاثة من الرواة عن أبي عوانة، هذا التصرف له دلالة، وأرجو أن تعيروني الأسماع، ولا تتضجروا إذا تكلمنا في علم المصطلح، وأنا أعلم أن كثيراً من الجلوس يحب ذلك، لكن قد يكون من الجلوس من لا يشاركهم هذه المحبة، لكن نحن في زمان صارت دراسة مصطلح الحديث متعيِّنة؛ بسبب طعن الجهلة بالسنة، حتى يتعلم الطلبة كيف نقل العلماء سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لم تحظ أمةٌ من الأمم من عناية أهلها بسنة نبيها، والمحافظة عليها، كما حدث لهذه الأمة. وهذا المغبون قليل الحظ، الذي أشرنا إليه في مطلع الكلام لا يفرق بين السيرة والحديث، يقول لك: لا فرق بين كتب السيرة وكتب الحديث. وبعض الطلبة أرسل لي قصاصات من أوراق يذكر فيها: أنه يوجد شخص آخر نشر كتاباً وأنكر أن يكون آدم أبا البشر، وأنه يقول: إن حديث احتجاج آدم وموسى حديث ضعيف، وهذه الأحاديث كلها أحاديث آحاد، ولا يؤخذ بها في العقيدة، وأنا في الحقيقة لن أتكلم عن هذا الكتاب حتى يأتيني وأنظر في كلام صاحبه. لكن الملاحظ أن هناك هجمة شرسة من كل مكان على السنة وفي وقت واحد. بل حدثني من أثق به من الشيوخ، ولم أر هذه المقالة النكراء، أن امرأة شمطاء من فلول المتحللين وكانت واحدة من زعمائهم، كتبت مقالة تقول: لِمَ لَمْ يكن الله أنثى؟ وهذه المقالة نشرت في صحيفة، وقد جاءني أحد الإخوة وقال: ما رأيك لو ترد على المقالة؟ وتخيّل لما تصل الجرأة بهذه المرأة لتكتب هذه المقالة، -وهي قطعاً كافرة- فكيف يمرر هذا العنوان من الرقابة؟! الذي مرَّر هذا ليس عنده دين، هو مثلها في الكفر، وتنظر كل يوم سخائم في الجرائد والمجلات، وكلها عبارة عن سهام موجهة إلى صرح السنة النبوية. والإخوة الرسميون المهتمون بالسنة لم يتكلموا حتى الآن، ولم يردوا حتى الآن؛ لكن الله عز وجل سيحول بينهم وبين ما يريدون، وأن مَن هو أعتى منهم سقط تحت النعال وبقيت السنة شامخة، فنحن على يقين من هذا، فالحمد لله تعالى نحن على يقين أننا لن نهزم في الجولة إن شاء الله؛ لكن الغريب المريب: هو ردُّ فعل الجماهير، ورد الفعل الرسمي على مثل هذا الخبَث، الذي يؤذي العيون والأسماع كل يوم، وكله موجه إلى صرح السنة.

نشر السنة من أهم العوامل لقمع المبتدعة

نشر السنة من أهم العوامل لقمع المبتدعة نحن نفشي علوم السنة بين الناس، ونعلمهم كيف نُقِل إلينا هذا الحديث؛ لأن هذا المغبون الخاسر الذي يتكلم عن أحاديث الشفاعة، يقول: وأما البخاري فسوف يحاسبه الله عن الروايات التي أوردها، والأباطيل والأكاذيب التي أثبتها ونسبها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم! أهذا الكلام يقال للبخاري؟! يقال للبخاري: إنك لا تعرف المكذوب من الضعيف من الصحيح، وسوف يحاسبك الله عن هذا الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا عجب! فقد قال قديماً فرعون عن موسى عليه السلام: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26] ، هذا موسى يظهر في الأرض الفساد؟! رَمَتْني بدائها وانسلَّتْ. فلما يقال للبخاري: أنت رجل جاهل، إذ راجت عليك الأكاذيب، وأنت لم تميز الأحاديث الصحيحة من الضعيفة من الموضوعة، وأثبتَّ الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، وسوف يحاسبك الله. فلما يقال هذا الكلام عن البخاري، الذي يعتبر قمة في الحديث عندنا، فإذا أردنا أن نزن علماء الدنيا فسنضع الإمام البخاري رحمه الله في القمة، وصحيحه له من البركة ما ليس لكتاب في الدنيا بعد القرآن. فسبحان الله! الناس حظوظ وأرزاق، والإخلاص يرفع صاحبه. هذا الإمام البخاري الأعجمي، كيف صار إمام الدنيا وصار أشهر من شيوخه رحمة الله عليه؟! وكان ابن صاعد إذا ذُكر البخاري قال: ذاك الكبش النطاح؛ يعني الذي لا يقف أحدٌ معه في الحلبة، إذا نطح أسقط من يناطحه في الحال، يعني: صاحب حجة بيِّنة دامغة. فلما يقال عن البخاري الذي هو قمة من قممنا: إن هذا الرجل ما كان يدري الصحيح من الضعيف، وينسب الأكاذيب إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-. فأقول: إن دراسة السنة صارت متعينة على شباب المسلمين ممن لهم كفاءة، حتى يردوا ويدفعوا عنها أمثال هؤلاء الحمقى. الإمام البخاري رحمه الله أخرج هذا الحديث عن شيخه عارم، فـ عارم بن الفضل تكلم بعض العلماء فيه، وقالوا: إنه اختلط، وساء حفظه، وأرَّخوا سنة عشرين ومائتين كحدٍ فاصل بين ما حدَّث به قبل الاختلاط، وبين ما حدث به بعد الاختلاط، وهذا مِن الجهود المغمورة التي قام بها علماء الحديث، التي لا تعرفها الجماهير، هؤلاء العلماء لهم جميلٌ في عنق الأمة لم تؤده الأمة لهم، لا بالثناء ولا بالشكر، بل خرج مَن قال: إن المحدثين ليسوا فقهاء، وإن المحدثين مع الفقهاء مثل البنّاء والمناول، وقال: إن الفقيه هو البناء الذي يأخذ اللَّبِنَة ويضعها بجانب اللَّبِنَة، ويزن بالخيط، فهذا هو الفقيه، أما المحدث فهو الذي يناول البناء الطوبة: خذ يا بناء، يعني أن المحدث هذا لا يفقه شيئاً!! كل دوره أن يأخذ الحديث ويقول: تفضل خذ الحديث يا فقيه، أهؤلاء هم المحدثون؟!! فنقول لهم:! البخاري ها هو محدث، وإن أردت أن تدرس الفقه، وتستمتع بالفقه فاقرأ تراجم الإمام البخاري، وكذلك سائر الأئمة الستة، والإمام أحمد كان من ضمن المحدثين، والإمام الشافعي رحمه الله كان يقول لـ أحمد: يا أحمد إذا صح الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم كوفياً كان أو حجازياً أو شامياً، أو بصرياً فأعلمني به حتى أذهب إليه. قال الذهبي: ولم يقل: أو مصرياً؛ لأنه كان أعلم بأحاديث أهل مصر من أحمد، ولما تقرأ كتاب: الرسالة، وتقرأ كتاب: الأم ترى الشافعي في كل جزئية فقهية يحتج بالحديث، والإمام مالك رحمه الله إذا ذُكِر الحديث فـ مالك النجم. فكلهم أهل حديث، ومنَّ الله عليهم بالفقه.

رواية المختلط يحكم عليها بالمتابعة

رواية المختلط يحكم عليها بالمتابعة غالب المحدثين فقهاء، وغالب الفقهاء ليسوا محدثين. إذاً المحدثون كل راوٍ تكلموا فيه رفضوا مروياته، مثل عارم بن الفضل الذي قالوا فيه: إنه اختلط، واختلط بمعنى تغيَّر حفظه، مثال الاختلاط: رجل يدخل على أبيه -هل يلتبس الابن على الأب؟! - فلما يدخل عليه يقول له: أين أبوك؟! هل أبوك بخير؟! ما رأيتُه منذ مدة؟! أهو مسافر أم ماذا؟! فلما يقول هذا الشخص هذا الكلام يكون قد اختلط، فسقط تمييزه، هذا معنى الاختلاط عند المحدثين، أنه يتكلم بكلام غريب مثل المثال الذي ضربته الآن. فالمحدثون يقومون بضبط تاريخ اليوم الذي اختلط فيه؛ لأنه شيخ، وكل يوم له مجلس ويقول: حدثنا، وأخبرنا، فهم يريدون أن يميزوا ما بين أحاديثه وقت الاختلاط، وأحاديثه قبل الاختلاط؛ لأنه لما اختلط سيدخل الأسانيد في بعضها، والمتون في بعضها، وهذا دين وشرع يجب المحافظة عليه. فحينئذٍ لابد من تمييز الوقت الذي اختلط فيه. فـ عارم اختلط سنة (220هـ) فـ أبو حاتم الرازي يقول: من سمع منه قبل سنة (220هـ) فسماعه جيد، وسمع منه أبو زرعة الرازي سنة (222هـ) ، إذاً: سمع منه في الاختلاط أم لا؟ فإذا رأينا في الأسانيد حدثنا أبو زرعة الرازي، قال: حدثنا عارم نقف، ونبحث هل عارم هذا حفظ هذا الحديث، أم كان من جملة ما اختلط فيه؟! إذاً: ربما تقول: وأنا ما أدراني هل اختلط أم لم يختلط، هذا موضوع بعيد؟! نقول لك: يُعْرَف ذلك بما يسميه أهل الحديث بالمتابعة. ما هي المتابعة؟ المتابعة معناها: الموافقة. مثل هذا الإسناد. وأنا أرى يا إخواننا أنكم تساهلتم في طلب العلم، كيف ذلك؟! تأتون إلى الدروس بدون دفاتر وبدون أقلام، وبدون كتب. أقول: إن من حق العلم علينا أننا نأتي بالكتاب وبالأقلام، ونقيد الفوائد بالكتابة، وكما قال الأول: أيها الطالب علماً ائتِ حماد بن زيد فاستفد حلماً وعلماً ثم قيده بقيد أي معلومة لا تقيدها تفر منك في أسرع وقت، ومهما حاولت الإتيان بها فلن تستطيع. فمن حق العلم أنك تأتي إلى مجلس العلم بسمت طالب العلم.

كيفية المتابعة ومعناها

كيفية المتابعة ومعناها نذكر إسناداً ونأتي بأئمة مشاهير لندلك على كيفية المتابعة: نقول: أحمد بن حنبل قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن أنس، هذا إسناد رباعي لماذا؟ لأنه مكون من أربع طبقات. أحمد بن حنبل قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن أنس، هؤلاء أربعة، كل واحد من هؤلاء الرجال نسميه طبقة، فإذا أسقطنا هنا الإمام أحمد أصبحوا ثلاثة، سفيان بن عيينة، والزهري، وأنس. فلو روى هذا الحديث عن سفيان، عن الزهري، عن أنس رجلٌ آخر غير الإمام أحمد، مثل: قتيبة بن سعيد، أو مسدد بن مسرهد، أو عارم مثلاً، أو محمد بن أبي عمر العدني، أو أحمد بن منيع، أو أبي ربيع الزهراني، أو أحمد بن عبدة الضبي، كل هؤلاء من أقران الإمام أحمد بن حنبل، فلو روى واحدٌ مثل: قتيبة بن سعيد أبي رجاء فقال: حدثنا سفيان عن الزهري عن أنس، فنحن نقول: إن قتيبة تابع أحمد بن حنبل على رواية هذا الحديث، أي وافقه على ذكر الحديث بالسند والمتن. يعني: نفترض أننا الآن في زمان الرواية، فأنا رويت حديثاً عن الشيخ الألباني، والشيخ الألباني يرويه عن الشيخ ابن باز، والشيخ ابن باز يرويه عن الشيخ أحمد شاكر، ولنفترض أنه كلام للشيخ أحمد شاكر، فأنا قلت: حدثنا أبو عبد الرحمن ناصر الدين الألباني، قال: حدثنا الشيخ ابن باز قال: حدثنا أحمد شاكر. ، ثم يروي هذا الكلام الشيخ سيد سابق فيقول: حدثنا أبو عبد الرحمن الألباني، قال: حدثنا ابن باز، قال: حدثنا أحمد شاكر. ، فيكون الشيخ سيد تابعني وأنا تابعته، كلانا تابع الآخر على رواية الإسناد والمتن، هذا يسميه علماء الحديث متابعةً تامة، أن يروي جماعةٌ حديثاً عن شيخ مشترك بينهم، مثل المثال الذي ضربناه، أحمد بن حنبل، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن أنس، ففي طبقة أحمد ذكرنا جماعة من الرواة: قتيبة بن سعيد، وأحمد بن منيع، ومحمد بن أبي عمر العدني، وأبي ربيع الزهراني، ومسدد بن مسرهد كل هؤلاء لو قالوا: حدثنا ابن عيينة، فيكون كل واحد منهم تابع الآخر. إذاً عرفنا ما معنى المتابعة!! تعني: الموافقة، وهي موافقة أهل الطبقة لبعضهم، أحمد بن حنبل طبقة، سفيان بن عيينة طبقة، الزهري طبقة، أنس طبقة. فالرواي المُتَكَلَّم فيه لما يروي حديثاً، ونحن نريد أن نعرف هل غلط الراوي في هذا الحديث أم لا، ماذا نعمل؟ ننظر إلى أهل طبقته، هل وافقه الثقات منهم على هذا الحديث، أم هو لوحده أتى به، ولا أحد معه؟ فإذا كان هذا الراوي المُتَكَلَّم فيه تابعه الثقات الكبار، دل ذلك على أنه حفظه، بدليل أن هذا الحديث وُجِد عند العلماء الكبار من أهل طبقته، ومن أصحاب شيخه الذي هو ابن عيينة مثلاً. أما إذا كان هذا الراوي المُتَكَلَّم في حفظه انفرد بهذا الحديث ولم يوافقه أحد، نسأله ونقوم بمحاكمته، هو روى عن سفيان بن عيينة حديثاً، فنقول له: تعال! أنت لست معروفاً بحفظ، ولا مشهوراً بطلب علم، وكلما قالوا لك: حدِّثنا، تقعد فتحدث بما في رأسك، ولا تأتي بالمعلومة إلا بعد ما تتلكأ وتظل ساكتاً برهة، قل لي إذاً: هذا الحديث كيف أتيت به عن سفيان؟ وأين أصحاب سفيان الكبار الذين جلسوا معه ولازموه ليل نهار، حتى يخصك أنت لوحدك بهذا الحديث؟ ماذا يعني هذا؟ فأصحاب سفيان الكبار الذين جلسوا معه ليل نهار، كلهم لا يعلمون شيئاً عن هذا الكلام، وأنت رغم أنكن لست معروفاً بحفظ ولا بفقه ولا بمجالسة طويلة، ولا ولا فتأتي بهذا الحديث عن سفيان؟! هذا منكر، نحن لا نقبله منك. إذاً: الراوي لَمَّا يُتَكَلَّم فيه، ننظر هل تابعه أحد من أهل طبقته أم لا؟

كلام أهل العلم في عارم بن الفضل

كلام أهل العلم في عارم بن الفضل نأتي على عارم بن الفضل المُتَكَلَّم فيه، برغم أن أبا حاتم الرازي زكاه، وتزكية أبي حاتم الرازي مثل المسمار في الساج، كما يقول الدارقطني والدارقطني لا يقصد أبا حاتم، فـ الدارقطني له عبارة هكذا، عندما يحب أن يوثق أحداً يقول: وأوثق الناس ولا أحد يشبهه، هو مثل المسمار في الساج، والساج نوع من الخشب انظر لما تأتي بمطرقة ومسمار كبير وتدقه في الساج، هل تستطيع أن تخرجه؟ لن تستطيع إخراجه. فيريد أن يقول لك: إنه ثبت كثبات المسمار في الساج. وعلماء الجرح والتعديل لهم عبارات كهذه، فـ أبو حاتم الرازي إذا سئل عن راوٍ وقال: بين يدي عدل، يعني على شفيرها، وهذا جرح من أبي حاتم الرازي. وسنأتي على شيء من كلام العلماء، في الجرح والتعديل في مكانه إن شاء الله. أبو حاتم الرازي الذي تعتبر تزكيته مثل المسمار في الساج، يقول الذهبي: إذا وثق أبو حاتم رجلاً فشد يديك به، فإنه لا يوثق إلا صحيح الحديث؛ لأن أبا حاتم الرازي من طبقة المتشددين من أئمة الجرح والتعديل، يعني إذا وثَّق رجلاً فهنيئاً له، لماذا؟ لأنه كان يجرح الراوي في الغلطة والغلطتين، والمفروض أن يفوتها له، يعني: لو أن شخصاً حفظ مائة ألف حديث وغلط في حديث يقوم أبو حاتم -ولا يعطي له فرصة- ويبين غلط هذا المحدث، ويشدد النكير عليه، وأنه سيئ الحفظ وغير ذلك. فلما يكون الشخص متشدداً مثل أبي حاتم ويقول: إن عارم بن الفضل ليس بأقل من عفان بن مسلم. وكان سماك بن حرب يقدمه على حماد بن زيد، فزكى أبو حاتم الرازي عارماً، لكن تكلم فيه العلماء بسبب اختلاطه.

الرد على من يقول: إن بعض رواة الصحيح متكلم فيهم

الرد على من يقول: إن بعض رواة الصحيح متكلم فيهم ورب قائل يقول: ها هو البخاري الذي ما فتئتم تقولون: إنه لا يخرِّج في صحيحه إلا أصح الصحيح، مِن الرواة الذين هم في القمة، فها هو أحد رواته مُتَكَلَّمٌ فيه! كيف خرَّج له البخاري وقد تَكَلَّم فيه أهل العلم؟ نقول له: أولاً: الإمام البخاري لما روى هذا الحديث رواه من طريق شيخين آخرين هما في القمة، إذاً: هاذان الاثنان تابعا عارم بن الفضل أم لا؟ نعم تابعاه. انتهى الإشكال! إذا كنت غضبان من عارم فاجعله جانباً، بقي الحديث الصحيح من الطريق الصحيح؛ لكن هذا يدل على أن عارماً حفظه، ولم يخلط فيه، بدلالة متابعة مسدد بن مسرهد، ومتابعة موسى بن إسماعيل أبو سلمة التبوذكي، كلاهما روى هذا الحديث عن أبي عوانة وضاح بن عبد الله اليشكري، عن أبي بشر، عن يوسف بن ماهك، عن عبد الله بن عمرو بن العاص. فمن الأشياء التي يدفع بها العلماء ضعف الراوي أو الكلام فيه: المتابعات الصحيحة. هذا أولاً. ثانياً: نفترض أن البخاري روى لـ عارم ولم يوجد له متابعة في صحيح البخاري، فما ردك؟ نقول: ننظر إلى هذا الحديث خارج صحيح البخاري، فسوف نجد متابعة لهذا الراوي خارج الصحيح، من الثقات، فيكون لا عتب على البخاري؛ لأن هذا الراوي توبع خارج الصحيح. إذاً نفترض أن هذا الراوي ليس له متابعة داخل الصحيح، ولا خارج الصحيح، والعلماء تكلموا فيه، فما جوابك عن البخاري؟

اعتراض أبي زرعة على بعض رواة مسلم وجواب الإمام مسلم عليه

اعتراض أبي زرعة على بعض رواة مسلم وجواب الإمام مسلم عليه أقول: يبقى الجواب الذي أجاب به الإمام مسلم رحمه الله عن نفس هذا الاعتراض، الذي وجهه إليه سعيد بن عمرو البرذعي وهو أحد الملازمين لإمام الجرح والتعديل عبيد الله بن عبد الكريم، الذي هو أبو زرعة الرازي. الخطيب البغدادي روى في تاريخه عن سعيد بن عمرو البرذعي قال: شهدت أبا زرعة الرازي وعرض عليه كتاب: الصحيح لـ مسلم -هل تعرف أن أبا زرعة الرازي، وأبا حاتم الرازي، والإمام مسلماً، والإمام البخاري أقران -يعني: أقران في كل من الطلب والزمن- فـ سعيد بن عمرو البرذعي جالس عند أبي زرعة الرازي فجاءه رجل وقال له: هذا الكتاب لـ مسلم بن الحجاج ألفه وسماه: الصحيح، وثَمَّ عالم اسمه: الفضل الصائغ أيضاً صنف في ذلك الوقت كتاباً سماه: الصحيح، فقيل لـ أبي زرعة: فما رأيك في هذا الصنيع؟ قال: فرأيت أبا زرعة يستنكر ذلك ويقول: هؤلاء قومٌ أرادوا رئاسة لأنفسهم قبل أوانها، فصنفوا كتباً يتتوقون بها -يتتوقون بها يعني: أنفسهم تتوق إلى شيء- ثم بدأ أبو زرعة الرازي يقلب صفحات صحيح مسلم وإذا حديث لـ أسباط بن نصر، فقال أبو زرعة: أسباط بن نصر يُروَى له في الصحيح؟! ثم قلَّب ورقتين أو ثلاثاً أو أربعاً وإذا به يجد قطن بن نسير وهو من شيوخ مسلم، قال: وقطن يُخَرَّج له في الصحيح؟! هذا أهم من الأول، ثم قلَّب ورقتين أو ثلاثاً وإذا به يجد أحمد بن عيسى المصري، قال: وعيسى المصري؟! ما رأيت أهل مصر يشكون في أنه. وأشار إلى لسانه. ماذا يعني هذا؟ يعني: أن أهل مصر يقولون: إن أحمد بن عيسى يكذب، فكيف يروي أحمد بن عيسى في الصحيح؟! ثم قال: يترك ابن عجلان ونظراءَه ويمهد الطريق لأهل البدع علينا، حتى إذا لم يروِ الحديث قالوا: ليس بالصحيح؟! قال: ورأيته يعظِّم ذلك ويستنكره. قال سعيد بن عمرو البرذعي: فلما رجعتُ إلى مسلم حكيتُ له اعتراض أبي زرعة. فانظر ماذا سيقول الإمام مسلم، هذه الإجابة التي ينبغي أن لا نغفلها، ونحن ننظر إلى الأسانيد التي في الصحيحين، وفي بعضها كلام. قال مسلم: إن ما قلته من الاعتراض صحيح، وأنا أقر به. إذاً: مسلم يعلم أن هؤلاء الرواة مُتَكَلَّم فيهم، ومع ذلك خَرَّج لهم. إذاً: ما عُذْرُك أيها الإمام؟ قال: إن الحديث قد يكون معروفاً بنزولٍ من رواية الثقات، وهو معلومٌ عند أهل العلم، فوقع لي من طريق هؤلاء عالياً، فخرَّجته رجاء العلو، والحديث معروفٌ أصلُه عند أهل العلم من روايات الثقات. ما معنى هذا الكلام؟ هناك في الحديث: العلو والنزول، وأشرف أنواع العلو: هو: تقليل عدد الوسائط، بأن تصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بإسنادٍ (نظيفٍ) وبِعددٍ قليل. يعني مثلاً: عُدَّ معي: أحمد بن حنبل قال: حدَّثنا سفيان بن عيينة -ما شاء الله! حُفَّاظ- عن الزهري عن أنس، فهذا إسناد رباعي. حسن كم هؤلاء؟! أربعة. ولو قلنا: سفيان بن عيينة قال: حدثنا الزهري، عن أنس: كم بين سفيان وبين الرسول صلى الله عليه وسلم؟ اثنان. وكم بين أحمد وبين الرسول صلى الله عليه وسلم؟ ثلاثة. فأيهما أعلى سنداً: سفيان أم أحمد؟ سفيان لماذا؟ لأن عدد الوسائط بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم أقل، وهكذا، كلما كان الإسناد ثلاثياً كان أعلى، أو رباعياً كان أنزل، أما لو كان خماسياً فالرباعي أعلى منه، وهكذا. فأعلى سند في البخاري بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة، يسمونه العلماء: ثلاثيات البخاري.

علو الإسناد وأهميته عند علماء الحديث

علو الإسناد وأهميته عند علماء الحديث فأشرف أنواع العلو أن تصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بإسنادٍ نظيف، يقل فيه عدد الوسائط بينك وبينه صلى الله عليه وسلم، لأنه -صلى الله عليه وسلم- مثل المصباح، كلما اقتربت إلى المصباح ازداد الضوء، وكلما ابتعدت عنه قل هذا الضوء، وإن ابتعدت كثيراً أوغلت في الظلمة، لهذا كان العلماء يتهافتون على العلو. الإمام البخاري أرفع الأسانيد من جهة العلو عنده: بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة، حتى يصل إلى خمسة، فيكون بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم خمسة، فأنت مثلاً لو قُدِّر أن يكون لك سند إلى البخاري، فتعد الوسائط التي بينك وبين البخاري، ثم بعد البخاري وشيوخه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وتنظر كم بينك وبين النبي عليه الصلاة والسلام. السندي كان يقول: لمثلي فليسعَ! بيني وبين البخاري تسعة، وهذا كان أعلى سند موجود في الدنيا، والبخاري كذلك بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة رواة، فيكون بـ البخاري أربعة، فالأربعة مع التسعة يصبحون ثلاثة عشر راوياً فقط، إذاً: السندي متأخر، لما يكون بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر راوياً فقط فهذا أعلى إسناد، في سنن النسائي، والنسائي كما تعرفون من طبقة البخاري، يعني: أدرك أغلب مشايخ البخاري وتسعون بالمائة من مشايخ البخاري أدركهم الإمام النسائي وروى عنهم، بين النسائي في هذا الحديث وبين النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية، فأنزل سند موجود في سنن النسائي: بين النسائي وبين النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية. فالقصد أن الإمام مسلم لرغبته في العلو يقول: رب حديثٍ يكون الراوي المُتَكَلَّم فيه -لو أنني أخذت الإسناد من طريقه إلى النبي صلى الله عليه وسلم- بيني وبين النبي صلى الله عليه وسلم خمسة، أو أربعة، فإذا أردتُ أن آخذه من طريق غيره من الثقات نزلتُ درجة أو درجتين. فيكون بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم إما ستة أو سبعة، أو أكثر. فيقول: لا. أنا علمتُ أن هذا الراوي المُتَكَلَّم فيه لم يغلط في هذا الحديث بدلالة المتابعات من الثقات، والحديث معروفٌ لدى أهل العلم جميعاً أنه صحيح، وأن الثقات رووه، وأنا ثبت لديَّ أن هذا الراوي وإن تُكُلِّمَ فيه لكنه لم يغلط في هذا الحديث، فرغبةً مني في أن أعلو بسندي، اخترت هذا الطريق، وتركتُ الطريق الآخر لنزوله، واكتفاءً بشهرته عند أهل العلم. فالإمام مسلم قال: إن هذا هو عذري في التخريج لمن أخرجت عنه وهو مُتَكَلَّمٌ فيه.

احتياط البخاري ومسلم في الرواية عن المتكلم فيهم

احتياط البخاري ومسلم في الرواية عن المتكلم فيهم ومع ذلك فقد احتاط البخاري قبل مسلم -وهو شيخه-، ومسلم على وجه الخصوص؛ لأن الصناعة الحديثية في صحيح مسلم أكثر منها في صحيح البخاري. فاحتاط مسلم في رواية مَن تُكُلِّمَ فيه، وبالذات هؤلاء الثلاثة الذين اعترض عليهم أبو زرعة الرازي، فـ أسباط بن نصر ليس من شيوخ مسلم، ولكنه من شيوخ شيوخه، يروي عنه بواسطة، ولم يرو مسلم لـ أسباط إلا حديثاً واحداً فقط في الصحيح، وهو الحديث الذي يرويه أسباط بن نصر، عن سماك بن حرب، عن جابر بن سمرة قال: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة الأولى، ثم استقبله صبيان فجعل يمسح خَدَّي أحدِهم، فلما مسح خَدِّي وجدتُ لكفه برداً وليناً كأنها خرجت من جؤنة عطار) هذا هو الحديث الوحيد الذي أخرجه مسلم لـ أسباط بن نصر. أما أحمد بن عيسى المصري الذي تكلم فيه أبو زرعة الرازي وأشار إلى لسانه، كان الخطيب البغدادي يقول فيه: لم أجد حجةً لمن ترك حديث أحمد بن عيسى المصري. وأحمد بن عيسى المصري له في صحيح مسلم اثنان وثلاثون حديثاً تقريباً، لم يرو له مسلم منفرداً في صحيحه، إلا ثلاثة أحاديث، توبع عليها جميعاً، والمتابعون كلهم من خارج مصر، إذاً: لم يتفرد أصلاً بها. وبقية الأحاديث كان مسلم يقرن ما بين رواية أحمد بن عيسى وغيرِه، فكثيراً ما يقول: حدثنا أبو الطاهر -الذي هو أحمد بن عمرو بن السرح - وأحمد بن عيسى، أو يقول: حدثنا حرملة بن يحيى، وأحمد بن عيسى، أو عمرو بن سواد وأحمد بن عيسى، يعني: أن مسلماً يروي لـ أحمد بن عيسى مقروناً بغيره، فقد احتاط، والأحاديث التي أخرجها وانفرد بها أحمد توبع عليها في الكتب الأخرى، في السنن وصحيح ابن حبان ومستدرك الحاكم وغيرها. بقي قطن بن نسير لم يرو له مسلم في صحيحه إلا حديثين: الأول متابعةً، والآخر مقروناً بغيره. في المتابعات أخرج الحديث الذي رواه أنس، لما نزل قوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات:2] : (اعتزل ثابت بن قيس وكان رجلاًَ جهوري الصوت -صوتُه عالٍ-، وقال: أنا من أهل النار؛ لأنني كنت أرفع صوتي على صوت النبي، فافتقده النبي صلى الله عليه وسلم أياماً، فسأل عنه سعد بن معاذ، قال: يا أبا عمرو! ما فعل ثابت، أشتكى؟ -أي: أهو مريض؟ - فقال: يا رسول الله! أنا جاره وما علمته يشتكي، ثم انطلق إليه يسأل عنه، فإذا هو معتزلٌ في داره لا يخرج، قال: ما لك، قال: أنا من أهل النار؛ لأنني كنت أرفع صوتي فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم، فرجع سعد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: قل له: أنت من أهل الجنة) . فهذا الحديث رواه الإمام مسلم رحمه الله أولاً بسندٍ (نظيف) ، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا الحسن بن موسى الأشيب، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك، هذا السند الذي افتتح به مسلم هذا الحديث في صدر الباب، سند كالشمس، صحيحٌ أن حماد بن سلمة مُتَكَلَّمٌ فيه بكلام يسير، لكنه كان أوثق الناس في ثابت البناني، إذا سمعتَ حماد بن سلمة، عن ثابت البناني فاعلم أنه لا غبار عليه؛ لأن حماداً كان أوثق الناس، من الممكن أن يُضَعَّف في بعض الشيوخ الآخرين؛ لكن في ثابت لا. بعد أن أورد الإمام مسلم هذا الحديث بهذا السند (النظيف) : أبو بكر بن أبي شيبة، عن الحسن بن موسى الأشيب، عن حماد بن سلمة، عن ثابت بن أسلم البناني، عن أنس بن مالك قال: الحديث. وحدثنا قطن بن نسير، أليس قطن هذا هو الذي اعترض عليه أبو زرعة؟! الإمام مسلم أخَّرَ رواية قطن ولم يقدمها؛ لأن مسلماً في البداية إنما يعتمد على سندٍ متين، ثم يجيء بعد ذلك بأسانيد قد يكون في بعضها مقال، يريد أن يقول لك: لو اعترضتَ على السند الثاني هذا، فأنا اعتمادي على السند الأول، وبه يثبت الحديث، إنما أوردتُ هذه الأسانيد ليكون نوعاً من التقوية، أي أنه نور على نور. فبعد أن أشرتُ أن الإسناد أولاً جاء بسند (نظيف) ، جاءَ برواية قطن، قال: حدثنا قطن بن نسير، قال: حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي، عن ثابت بن أسلم البناني، عن أنس بن مالك. فانظر إلى السند الأول: حماد بن سلمة، عن ثابت. وهنا: جعفر بن سليمان، عن ثابت. فهذان اثنان عن ثابت. ثالثاً: ثم رواه مسلم بعد ذلك عن سليمان بن المغيرة، عن ثابت. رابعاً: ثم رواه عن سليمان التيمي عن ثابت. إذاً: هؤلاء أربعة يروونه عن ثابت بن أسلم البناني. فـ مسلم روى هذا عن قطن بن نسير متأخراً في المتابعات، فيكون مسلم بهذا قد احتاط.

تقدم البخاري ومسلم في علم الحديث

تقدم البخاري ومسلم في علم الحديث فلا تعترض على البخاري ولا على مسلم؛ لأن هذين الإمامين اتفق أهل العلم على تقدمهما في صناعة الحديث، والمعروف أن كل صنعة لها أهلها. فلما يقال -مثلاً-: اتفق سيبويه والكسائي -مع اختلاف المدرستين- على شيء في اللغة، فمثله وأعظم منه في الحديث إذا قيل: اتفق عليه البخاري ومسلم. فلما يتفق أهل الصنعة على شيء يقال: فلان هذا مقدم، فلا تعترض عليه إذا ظهر لك اختياره. فـ البخاري وإن كان الراوي مُتَكَلَّمٌ فيه، إلا أنه انتقى من أحاديثه ما لم يغلط فيه. إذاً: لا تأت وتقول له: كيف أخرجتَ له والعلماء تكلموا فيه؟ فسيقول لك: أنا أعرف أنهم تكلموا فيه؛ لكن هذا الذي أخرجتُه له مما لم يغلط فيه. وسأورد لكم مثالاً -واعذروني على إتياني بمثال كهذا- لو كان هناك قفص (طماطم) أو قفص (مانجو) وفيه -مثلاً- ستون أو سبعون حبة، منها ثلاثون أو أربعون حبة معطوبة، فماذا ستعمل؟ تنتقي من هذا القفص الحبات السليمة. فأنا يمكنني أن أقول لك: هذا القفص كانت فيه حبات معطوبة. ستقول: أنا أعلم أن فيه حبات معطوبة، ولكن هل أتركُه كلَّه؟ أنا انتقيت ما لم يدركه العَطَب. كذلك علماء الحديث، إذا كان الراوي متكلماً فيه، فالمعروف أن هذا الرجل لم يغلط في كل أحاديثه، إنما غلط في بعض أحاديثه، فأنا بما لي من الخبرة والعلم والدربة والممارسة عرفتُ أن هذا الراوي أخطأ في عشرة أحاديث، أو عشرين حديثاً، أو مائة حديث، أو ألف حديث، والباقي لم يغلط فيها، فأخذت ما لم يغلط فيه وخرَّجته عندي، أي ملامة عليَّ في ذلك؟ فالإمامان البخاري ومسلم عملا هكذا. من أجل هذا لا تنظر في أسانيد الصحيحين، فإن أسانيد الصحيحين صحيحة، إلا بعض أحرف قام الدليل على الغلط فيها، وأهل العلم يعتذرون عن البخاري وعن مسلم بحيث إذا صادفنا شيء من ذلك ذكرناه؛ لكن لا يختلف اثنان في تقدم البخاري رحمه الله، فإذا أخرج البخاري لراوٍ مُتَكَلَّمٍ فيه حديثاً، فهو قد انتقى من حديثه ما لم ينكروه عليه، ويكفي أن نعطي مثلاً بأول حديث في صحيح البخاري الذي قال فيه: حدثنا الحميدي، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، قال: حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري، قال: حدثنا محمد بن إبراهيم التيمي، قال: سمعت علقمة بن وقاص الليثي يقول: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه -وفي رواية للبخاري: على المنبر- يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أيها الناس! إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى ... ) إلى آخر الحديث المشهور. فهذا الإسناد (نظيف) و (مذهَّب) ، ما عدا محمد بن إبراهيم التيمي، سئل عنه الإمام أحمد فقال: له مناكير. فرب واحد يقول لك: إذاً ما دام له مناكير، فكيف خرَّج له الشيخان؟ نقول: الإمام أحمد قال: له مناكير، ولم يقل: كل أحاديثه مناكير، أو هو منكر الحديث، بل قال: له مناكير. فهذا الحديث مما اتفق أهل العلم جميعاً على أن محمد بن إبراهيم التيمي حفظه، وأنه لم يغلط فيه، فلا يقول قائل: هذا الحديث -وإن كان في الصحيحين- في إسناده محمد بن إبراهيم التيمي، وقد قال أحمد: له مناكير، فإنه يسقط. إذاً: أي إسناد في الصحيحين فيه راوٍ مُتَكَلَّمٌ فيه، اعلم أن هذا مما انتقاه صاحب الكتاب، وأن هذا ليس من جملة ما غلط فيه هذا الراوي. إذاً: عندنا ثلاثة رواة عند البخاري يروون هذا الحديث عن أبي عوانة، وثمة آخرون من الثقات يروون هذا الحديث عن أبي عوانة، فهذا الحديث يرويه مسلم في صحيحه أيضاً من طريق شيخيه أبي كامل الجحدري فضيل بن حسين وشيبان بن فروخ، قالا -هذان الاثنان-: حدثنا أبو عوانة. قلنا: البخاري في هذا الموضع قال: حدثنا عارم، أليس كذلك؟! وفي كتاب العلم سيأتي بعد ذلك، قال: حدثنا مسدد، وفي كتاب الوضوء قال: حدثنا موسى بن إسماعيل التبوذكي أبو سلمة، فهؤلاء ثلاثة قالوا: حدثنا أبو عوانة. فكم واحد في البخاري؟ ثلاثة. إذاً: هؤلاء ثلاثة في البخاري. ومسلم روى هذا الحديث من طريق شيبان بن فروخ، وأبي كامل الجحدري فضيل بن حسين، قالا: حدثنا أبو عوانة. فكم شخصاً رواه عن أبي عوانة؟ خمسة. وأحمد قال في المسند: حدثنا عفان بن مسلم، قال: حدثنا أبو عوانة. فكم صاروا؟ صاروا ستة. والطحاوي في: شرح معاني الآثار يرويه من طريق أبي داود الطيالسي. فصار هؤلاء سبعة. وعندنا أبو عوانة يرويه من طريق معلى بن أسد، قال: حدثنا أبو عوانة. كم صار العدد؟ ثمانية. فهذه الأسماء كلها متابعات. إذاً: هذه الطبقة هي طبقة شيخ البخاري، انظر كم واحداً روى الحديث! كلهم يأخذ الحديث عن نفس الشيخ وبنفس السند إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

معنى الحاء الموجودة في بعض الإسناد

معنى الحاء الموجودة في بعض الإسناد ونريد أن ننبه هنا إلى سبب وجود حرف (الحاء) في الإسناد، فهذه (الحاء) : هي حرف تحويل، يعني: الإمام يريد أن يقول لك: أنا سأحول الحديث إلى شيخٍ آخر لي، يعني: بعدما يروي الحديث بسنده عن شيخه، مثل أول حديث في صحيح مسلم الذي افتتح به كتابه، قال: حدثني أبو خيثمة زهير بن حرب، حدثنا وكيع، عن كهمس، عن ابن بريدة، عن يحيى بن يعمر، ثم قال: (ح) ثم قال: وحدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري وهذا حديثه، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا كهمس عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر. فشيخه الأول هو زهير بن حرب أبو خيثمة، وهو هنا كأنما قال: أنا سأحول الإسناد إلى شيخٍ آخر، يعني أن حديثي يسنده إسنادان. وأحياناً يحول إلى ثلاثة أو أربعة. فحرف (ح) أول ما تراها في الأسانيد اعرف أنها حرف تحويل، أي: هو لتحويل الإسناد، وتجدونه بكثرة في صحيح مسلم، وتجدونه بقلة في صحيح البخاري. ثم أخيراً ما يرويه الطحاوي في شرح معاني الآثار عن سهل بن بكار، عن أبي عوانة، فهؤلاء تسعة يروون الحديث عن أبي عوانة، عن أبي بشر، عن يوسف بن ماهك، عن عبد الله بن عمرو بن العاص.

اهتمام البخاري بالفقه ومسلم بالصناعة الحديثية

اهتمام البخاري بالفقه ومسلم بالصناعة الحديثية والبخاري لم يتصد لبيان الأسانيد، إنما كان همه الأكبر المتن والفقه، أما مسلم فقد تفنن في الصناعة الحديثية، يعني: لما تقرأ: صحيح مسلم وأنت فاهم، فإنك تهز رأسك هكذا، وتقول: يا الله! ما هذه البراعة والإتقان؟! هذا عندما تمر على صحيح مسلم تحس بالصنعة. وتفعل نفس الفعل لما تقرأ كتاب: التاريخ الكبير للإمام البخاري. فالتاريخ الكبير للإمام البخاري كتاب معجزة، ويكفي أن إسحاق بن راهويه شيخ البخاري لما صنف البخاري هذا الكتاب، مِن كثرة إعجابه بالكتاب دخل على عبد الله بن طاهر الأمير وقال: أيها الأمير! ألا أريك سحراً؟! ألا أريك عجباً؟! وأراه هذا الكتاب. وربما أن عبد الله بن طاهر لم يفهم منه كلمة واحدة؛ لكن إسحاق بن راهويه بمجرد إطلاعه على الكتاب دخل على عبد الله بن طاهر -مع أن البخاري تلميذه، انظر إلى إنصاف أئمة الزمن الماضي! انظر إلى التواضع، شيخ يشيد بكتاب تلميذه، ويقول: ألا أريك سحراً؟! ألا أريك عجباً؟! فأراه الكتاب. فـ البخاري في الصحيح، وفي كتاب التاريخ يتعامل مع أناس يفهمون، لا تصلح كتب البخاري لغبي، فالغبي لا تنفعه قراءة صحيح البخاري، ولا يمسكه بيده، فهذا يُرِيْحُ نفسَه، ويبحث له عن كتاب متوسط يفهمه. البخاري يقول الكلمة مرة واحدة فقط، مثلاً: المشهور عن البخاري أنه يقول في مسألة ثبوت اللقاء: أنه لا يحدث اتصال راوٍ من راوٍ إلا إذا ثبت سماعه ولو مرةً واحدة، ولو في إسنادٍ واحد، فـ البخاري ينظر هل يوجد راوٍ معين مختلف في سماعه من شيخه، حينها يأتي بعشرة أو خمسة عشر سنداً وراء بعض، فالعلماء أول ما يقرءون الأسانيد بترتيبها، يقولون: هل البخاري يثبت السماع أو ينفيه؟! فـ البخاري له مذهب في ترتيب الأسانيد، وأهل العلم يعرفون هذا المذهب وهو أنه يريد بهذه الأسانيد إثبات السماع. فـ البخاري رحمه الله لم يكن يتصدى في الصحيح لمسألة الأسانيد. بينما مسلم هو الذي تصدى وتفنن، وأظهر براعته وفَهمه العالي لمسألة الإسناد في الصحيح، ولم يتصدَّ لاستنباط الأحكام العملية من الأدلة التفصيلية، ولذلك لم يبوب مسلم صحيحَه، كل التبويب الذي تراه في صحيح مسلم ليس من مسلم. وهذا التبويب هو تبويب النووي رحمه الله، لكن مسلماً رتب الكتب، قال: كتاب الإيمان، كتاب الصلاة، كتاب الطهارة، كتاب الزكاة، فترتيب الكتب من مسلم، أما الأبواب فإنه لم يبوب هذه الأحاديث مثل البخاري، فالبخاري اعتنى بالتبويب، يقول: باب كذا؛ لأن البخاري أودع فقهه في تراجم كتابه، فلذلك لا تجد الصنعة الحديثية المثالية في صحيح البخاري، فإذا أردت الصنعة الحديثية المثالية فاقرأ صحيح مسلم.

قصة إعتاق أبي عوانة من الرق

قصة إعتاق أبي عوانة من الرق إذاً: هذا الحديث رواه ثمانية مع عارم بن الفضل أبي النعمان، كلهم قالوا: حدثنا وأبو عوانة؛ أبو عوانة هذا اسمه: وضاح بن عبد الله اليشكري، ثقة ثبت، إلا أنه كان أحياناً يحدث من حفظه فيهم، وكان أبو عوانة مملوكاً من سبي جرجان، ومالكه كان اسمه: يزيد بن عطاء، وكان ضعيف الحديث، أما أبو عوانة فكان في القمة بالنسبة لمولاه، وكان أبو عوانة هذا القائم على التجارة الخاصة بـ يزيد بن عطاء، ففي يوم من الأيام جاء إلى أبي عوانة شحاذ -أي: متسول- فقال له: أعطني درهمين، وسوف أنفعك، قال له: كيف تنفعني؟ قال: ستعلم، فأعطاه الدرهمين، فذهب هذا الشحاذ وطاف على رؤساء البصرة -لقد كان يزيد بن عطاء رجل له أبهة، وغني، ومن الأكابر، ومعروف في البصرة- فهذا الشحاذ طاف على كل رؤساء البصرة وقال لهم: ألا تذهبون إلى يزيد بن عطاء لتهنئوه وتشكروه؛ لأنه أعتق أبا عوانة، ومعلوم أن هذا لم يحصل، ففوجئ يزيد بن عطاء أن هذا الجمع كلهم جاءوا وقالوا له: هنيئاً لك، لقد أحسنت حيث أعتقت أبا عوانة، فأَنِف الرجل أن يردهم، فكلهم جاءوا ليسلموا عليه، ويهنئوه على فعله، أيعقل بعد هذا أن يقول لهم: أنا لم أفعل؟ فأنف، وأعتق أبا عوانة. فأحياناً قد يوضع الإنسان في مثل هذا الموقف فيحرج. فهذا يزيد بن عطاء عندما جاء إليه أهل البصرة ليهنئوه بأنه قام بإعتاق أبي عوانة لم يجد بداً من إعتاقه، مع أن يزيد بن عطاء خيَّر أبا عوانة بين أن يعتقه وبين أن يكتب الحديث، فاختار كتابة الحديث مع الرق. كم من ضعيفٍ متضعفٍ أعزه الله بالعلم. فهذا يزيد بن عطاء لا أحد يعرفه؛ لكن أبا عوانة في القمة. فكم من ضعيفٍ متضعفٍ أعزه الله بالعلم، (إن الله ليرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع آخرين) . وأبو بشر شيخ أبي عوانة في هذا الحديث، هو جعفر بن إياس وهو ثقة، وكثير من العلماء تكلموا في بعض حفظه، لكن رواية أبي عوانة عنه صحيحة، ويوسف بن ماهك ثقة أيضاً، وعبد الله بن عمرو بن العاص صحابيٌ جليل معروف. بهذا نكون قد وقفنا على عتبة المتن. يعني: تكلمنا عن الإسناد ووقفنا على عتبة المتن.

متابعة شعبة لأبي عوانة

متابعة شعبة لأبي عوانة بقي في هذا الإسناد شيءٌ وهو أن أبا عوانة لم يتفرد بهذا الحديث، فتابَعَه شعبة بن الحجاج أبو بسطام الضخم، الذي يحدث عن الضخام، فـ شعبة هذا لو عرفته تحبه جداً، هو وسفيان الثوري. المعذرة! فأنا لما أتكلم عن العلماء أتكلم كلام محب لهم؛ لأن حياتي معهم، أنا أقضي مع هؤلاء أكثر مما أقضي مع أولادي وأهلي، فأنا أحياناً أقضي مع هؤلاء أربع عشرة ساعة في اليوم، أقرأ في تراجمهم وسيرهم، وأبحث عن أخبارهم، وأتتبع رواياتهم، حتى صار عندي شغف بالغ، فبمجرد أن يمر علي اسم الواحد من هؤلاء أشعر بالأنس مباشرة، فمثلاً: شعبة، أو سفيان، أو أبو عوانة، أو سفيان بن عيينة، أو حماد بن زيد، أو حماد بن سلمة، كل هؤلاء أشعر بأنس معهم، كأنهم أهلي. فـ شعبة بن الحجاج أبو بسطام رحمة الله عليه روى هذا الحديث عن أبي بشر جعفر بن إياس، عن يوسف بن ماهك، عن عبد الله بن عمرو. وقد أخرج هذه المتابعة الإمام أحمد بن حنبل، قال: حدثنا محمد بن جعفر الملقب بـ غُنْدَر، وأول ما ترى اسم غُنْدَر في الإسناد فهو محمد بن جعفر، وغُنْدَر من الألقاب التي يصلح أن توضع كمثال على الألفاظ، ونحن نتكلم عن الرجولة، ومحمد بن جعفر، الذي لقبه بـ غندر هو ابن جريج عبد الملك بن عبد العزيز، فقد كان محمد بن جعفر يعمل (دوشةً) وضوضاء دائماً، فكان يقول له: اسكت يا غندر، (غُنْدَر) بلغة أهل الحجاز أي المشاغب، فأهل الحديث كانوا ينادونه بهذا اللقب مباشرةً، مثل صالح جزرة، فـ صالح هذا لا يوجد مثله في الحفظ والإتقان؛ لكنه معروف بلقبه جزرة؛ لماذا؟ لأنه مرةً كان أحد شيوخه يحدث بحديث الخرزة، ثم قال لهم: أين وقفنا؟ فـ صالح صحَّفها فبدل أن يقول: خرزة قال: جزرة، فضج المجلس بالضحك، وصار من يومها جزرة، وتلقفوها، فعندما يقال: حدثنا جزرة فاعرف أنه صالح مباشرة. فـ غندرمحمد بن جعفر روى هذا الحديث عن شعبة، وغُنْدَر هذا لازم شعبة عشرين سنة، فهنيئاً لشخص يقعد مع شعبة عشرين سنة! وثابت بن أسلم البناني لازم أنس بن مالك أربعين سنة، وحامد بن يحيى البلخي أفنى عمره في مجالسة ابن عيينة، والإمام مسلم لزم البخاري خمس سنوات. فالإمام أحمد روى هذه المتابعة في مسنده عن شعبة بن الحجاج، عن أبي بشر جعفر بن إياس، عن يوسف بن ماهك، عن عبد الله بن عمرو فقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر غندر قال: حدثنا شعبة وساق هذا الإسناد. ورواه أيضاً النضر بن شميل إمام العربية، وإمام الحديث، قال: حدثنا شعبة، وساق هذا الإسناد أيضاً. وهذه المتابعة أخرجها أبو عوانة في مستخرجه على مسلم، وأظن أنها معلقة، وأرجو أن لا أكون واهماً؛ لأني عندما أقول: أخرجه أبو عوانة المفروض أن يكون بسنده المتصل، فكأن الذي في ذهني أن أبا عوانة أخرجها معلقةً في مستخرجه على مسلم. بقي طريقٌ آخر وهو طريق أبي يحيى واسمه الإصبع، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، ويروي هذا الحديث هلال بن يسار، عن أبي يحيى، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وقد أخرج هذه الرواية الإمام مسلم في صحيحه، وكذلك أخرجها أبو داود والنسائي وابن ماجة والدارمي وأحمد وابن خزيمة والطحاوي في معاني الآثار، وآخرون، كلهم من طرقٍ عن هلال بن يسار، عن أبي يحيى المعرقد واسمه: الإصبع، عن عبد الله بن عمرو بن العاص (أن النبي صلى الله عليه وسلم أدرك أصحابه يتوضئون وأعقابهم تلوح. فقال: ويل للأعقاب من النار، اسبغوا الوضوء) .

شرح صحيح البخاري [7]

شرح صحيح البخاري [7] افتتح الإمام البخاري كتاب العلم من صحيحه بباب فضل العلم حتى يكون محفزاً ومشوقاً إلى طلب العلم، وقد بين فيه آداب طالب العلم، فإنه لا علم بلا أدب، بل لابد أن يتأدب الطالب بأدب العلم، لكي يبلَّغ هذا العلم الذي تعلمه, وينتفع به حق الانتفاع.

المعلقات في الصحيحين وحكمها

المعلقات في الصحيحين وحكمها إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار. اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد. قال الإمام البخاري رحمه الله: (باب قول المحدث: حدثنا أو أخبرنا وأنبأنا) . وقال ابن مسعود: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق. وقال شقيق: عن عبد الله: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم كلمة. وقال حذيفة: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين. وقال أبو العالية، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: فيما يرويه عن ربه. وقال أنس: عن النبي صلى الله عليه وسلم يروي عن ربه عز وجل. وقال أبو هريرة: عن النبي صلى الله عليه وسلم: يرويه عن ربكم عز وجل. فالإمام البخاري رحمه الله بعدما ذكر فضل العلم، وذكر بعضاً من آداب طالب العلم، ثم ذكر الباب الثالث: من رفع صوته بالعلم، فأول باب عقده في هذا الكتاب -كتاب العلم- هو فضل العلم، حتى يكون كالحافز للطالب أن يطلب العلم. تكلمنا أنه بعد أن ذكر ما يشوق لطلب العلم، قام فنبهه إلى أن العلم له آداب وله سياسة، وهو ما يسميه العلماء: بأدب الطلب، ويقول العلماء: سياسة العلم أشد من العلم، وهي تعني: الحكمة في طريقة الأداء. فبعد أن يتأدب بأدب طالب العلم فينبغي عليه أن يبلغ هذا العلم الذي درسه. وأشار البخاري رحمه الله بالباب الثالث (باب من رفع صوته بالعلم) لأن رفع الصوت مظنة وصول الكلام إلى أكثر عدد، ومعناه: توصيل العلم إلى الناس مع التأدب بأدب العلم. في مرحلة الأداء، وفي مرحلة التلقي يسمع طالب العلم، فإذا أراد أن يؤدي العلم ويبلغه فبأي صيغةٍ يؤديه؟ الإمام البخاري عقد الباب الرابع لأجل هذا. قال: باب قول المحدث حدثنا أو أخبرنا وأنبأنا. ثم ذكر البخاري عدة معلقات في هذا الباب، الحديث المعلق أشرنا قبل ذلك إلى تعريفه وإلى صورته، فقلنا: إن الحديث المعلق هو ما حذف منه راوٍ أو أكثر، حتى لو شمل الإسناد كله، بشرط: أن يكون الحذف من مبدأ سنده ووصل إلى منتهاه، فالعلماء يسمونه: الحديث المعلق، وهو: ما حذف راوٍ أو أكثر من مصدر إسناده بشرط التوالي في الحذف. فالإسناد له طرفان: طرف علوي، وطرف سفلي. أو طرف أعلى، وطرف أدنى. فإذا كان السند متصلاً من أوله إلى آخره، فيسمى السند متصلاً. فلو قسمنا الإسناد إلى طبقات، والطبقات إلى مدة زمنية، فنقول مثلاً: قال البخاري: حدثنا أحمد بن حنبل، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: … وساق حديثاً بهذا الإسناد، إذاً البخاري في إسناده هذا أحمد، وسفيان بن عيينة، والزهري، وأنس، فيكون إسناداً رباعياً، أي: بين البخاري وبين النبي صلى الله عليه وسلم أربعة، فهذا الإسناد متصل، فكل من أحمد، وسفيان، والزهري، وأنس، يمثل طبقة وكل طبقة تمثل مرحلةً زمنية. فالحديث المعلق: أن يحذف راوٍ من أوله، وقد يصل الحذف إلى الصحابي، وقد يصل إلى التابعي فقط، وقد لا يحذف إلا واحد من أول السند، هذا هو المعلق. فإسناد البخاري الذي يقول فيه: حدثنا أحمد بن حنبل لو أنه قام بحذف ذكر الإمام أحمد من الإسناد. وقال البخاري: وقال سفيان بن عيينة: إذاً حذف من؟ حذف أحمد من الإسناد، إذاً سنحذف المدة الزمنية من الإسناد فيكون الإسناد معلقاً.

كثرة إيراد البخاري للمعلقات في صحيحه وغرضه من ذلك

كثرة إيراد البخاري للمعلقات في صحيحه وغرضه من ذلك الإمام البخاري رحمه الله يعلق كثيراً في صحيحه، بخلاف مسلم، فالأحاديث المقطوعة الإسناد في صحيح مسلم في أربعة عشر موضعاً تقريباً، بينما في صحيح البخاري في عشرات المواضع، أو في مئات المواضع. البخاري رحمه الله عندما يعلق الحديث، هو بذلك يريد أن يمهد للحديث المرفوع، الذي أورده موصولاً في هذا الباب. إن البخاري تصدى لاستنباط الأحكام الجزئية من الأدلة التفصيلية، بخلاف الإمام مسلم؛ الإمام مسلم صنف صحيحه على الكتب، ولم يصنفه على الأبواب، فلم يقل: باب كذا، باب كذا. لا، مسلم لم يفعل هذا، إنما بوّبه جماعة، وأشهر من بوب صحيح مسلم وانتشر تبويبه، هو الإمام النووي رحمه الله، أي: أن التبويب الموجود في صحيح مسلم ليس من صنع مسلم، وإنما من صنع النووي، إنما مسلم -كما قلنا- قسم صحيحه إلى كتب فقط، مثل: كتاب الإيمان، كتاب الصلاة، كتاب الطهارة، كتاب الحج، كتاب الغسل، كتاب التيمم،. إلخ. البخاري رحمه الله قسم صحيحه إلى كتب، وقسم الكتب إلى أبواب، وتصدى لاستنباط الأحكام الجزئية من الأحاديث، فإذا استنبط الإمام البخاري رحمه الله حكماً من الأحكام فإنه يبوب له، ثم يأتي بالأحاديث المعلقة، أو الآثار المعلقة بين يدي الحديث المسند في هذا الباب؛ يمهد لفكرته ورأيه. ونستفيد من هذا ما قاله الإمام أحمد: (لا تقولن بقولٍ ليس لك فيه إمام) عندما تحب أن تتبنى قولاً من الأقوال، فاحذر أن تقول قولاً لم يكن قد قاله غيرك من العلماء، لاسيما في هذه الأزمان المتأخرة؛ لأنك عندما تأتي بقول لم يقل به أحد غيرك على الإطلاق، وتزعم أنه الحق، فمعنى هذا باختصار: أن كل من سبقك ضل طريق الحق، وأنت وحدك الذي عرفته، هذا معنى: لا تقل قولاً ليس لك فيه إمام. فالإمام البخاري كان إذا تبنى قولاً من الأقوال فإنه يذكر من سبقه -لا أقول: على سبيل الاستيعاب، فـ البخاري لم يستوعب أقوال من سبقه- ولكن يذكر بعض أقوال من سبقه في هذا القول، لكنه يحذف إسناده؛ حتى لا يعظم حجم الكتاب، وإلا فـ البخاري عنده أسانيد المعلقات كلها، لكنه صنف كتابه وسماه "الجامع المختصر الصحيح" فلو ذكر أسانيده إلى الصحابة أو إلى التابعين أو إلى من دون التابعين لعظم حجم الكتاب.

صيغتا التعليق عند البخاري

صيغتا التعليق عند البخاري فلذلك هو يعلق بطريقتين: إما أن يعلق بصيغة الجزم، أو بصيغة التمريض. صيغة الجزم: أن يكون الفعل الذي استخدمه البخاري في نسبة القول إلى قائله مبنياً للمعلوم، كأن يقول: قَال، وذَكر، وحَكَى. صيغة التمريض: أن يكون الفعل مبنياً للمجهول: قِيلَ، حُكِي، ذُكِر. فـ البخاري رحمه الله في هذا الباب، أتى بالأحاديث والآثار المعلقة بصيغة الجزم. قال العلماء: كل معلقات البخاري التي جزم فيها بنسبة القول إلى قائله صحيحة. الجزء الثاني، وهو: ما علقه بصيغة التمريض، فبعض الناس يقول: إن البخاري إذا مرّض القول، فهذا قد يكون ضعيفاً. وهذا ليس بشرط، فمعلقات البخاري بعضها ضعيفة، لكنها قليلةٌ جداً، في موضع أو موضعين في كتابه كله، وشخص يقول: هل صحيح البخاري بهذا يكون فيه أحاديث ضعيفة؟ نقول: لا؛ لأن صحيح البخاري هو الأحاديث المسندة، أما الأحاديث المعلقة فليست على شرط البخاري، لأجل هذا إذا روى البخاري في صحيحه بياناً معلقاً وحدثت به فلابد أن تقيد العزو إلى البخاري بالتعليق، مثلاً: لو قال البخاري: قال الحسن البصري: (صلوا وعليه بدعته) كما في باب إمامة المفتون والمبتدع. فهذا الحديث معلق في البخاري، أنت تريد أن تنسب هذا الكلام إلى البخاري، فلا تقل: رواه البخاري وتسكت؛ لأن هذه خطيئة عند العلماء، بل لا بد أن تقول: رواه البخاري معلقاً. لابد أن تذكر كلمة: (معلقاً) ، لماذا؟ لأن المعلقات ليست كلها على شرط البخاري، فمنها ما هو على شرط البخاري، ومنها ما ليس على شرط البخاري، ولكنها لا تدخل من جملة الكتاب؛ لأن صحيح البخاري هو جملة الأحاديث المسندة التي أسندها البخاري إسناداً متصلاً قال فيها: حدثنا فلان عن فلان إلى آخر السند. وكذلك الإمام مسلم له مقدمة مهد بها لصحيحه، وهذه المقدمة ليست على شرط مسلم، فإذا أورد مسلم الحديث في هذه المقدمة، وأردت أن تعزو الحديث إلى مسلم، فلا بد أن تقول: أخرجه مسلم في المقدمة، ولا تقل: أخرجه مسلم، وتسكت، لماذا؟ لأن في هذه المقدمة أحاديث ليست على شرط مسلم. إذاً: علمنا أن البخاري رحمه الله يأتي بالمعلقات ليمهد لأحاديث الباب، ويمهد لفكرته ورأيه في المسألة كما فعل هنا، وكما فعل في بداية أبواب كتابه. فأنت الآن مني، وتريد أن تؤدي القول عني إلى الناس، فكيف تنقل القول عني؟ هل تقول: حدثني، أم تقول: أخبرني، أم تقول: أنبأني، أم تقول: سمعت، أم تقول: قال لي؟ أي صيغة من هذه الصيغ تستخدمها إذا نقلت الكلام عني إلى الناس؟ أنت الآن في وقت التحمل -التحمل: هو أن تسمع مني وتحفظ، للتحمل والأداء بعد ذلك- كما قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} [الجمعة:5] حمل، يعني: أخذ العلم فحمله. أنت الآن تلميذ، بعد مدة قد تصير شيخاً، ولك تلاميذ، فإذا أردت أن تنقل العلم عن شيوخك إلى الناس بعدما صرت شيخاً، فماذا أنت قائل في النقل؟ بأي صيغة من الصيغ تنقل هذا العلم؟ أتقول: حدثني، أم أخبرني؟! فـ البخاري رحمه الله عقد هذا الباب لأجل أن يقول لك: بعد أن سمعت فضل العلم، وتأدبت بآداب طالب العلم، وتحملت العلم وأخذته عن الشيوخ، إذاً حان وقت الأداء.

الفرق عند البخاري بين (قال فلان) وبين (وقال لنا فلان)

الفرق عند البخاري بين (قال فلان) وبين (وقال لنا فلان) فقال: وقال لنا الحميدي. أول ما تسمع: وقال لنا هنا القائل شيخه، بخلاف ما إذا قال البخاري: وقال، ولم يذكر كلمة: لنا، البخاري يقول: (قال) ويستخدمها في المعلقات، كما في الحديث الذي بعده، وقال ابن مسعود، وهل البخاري سمع من ابن مسعود؟ لا. البخاري رحمه الله إذا قال: (قال لنا) فإنها تساوي حدثنا؛ لأنه في مواضع من التاريخ الكبير، يقول: وقال لنا فلان. ويكون روى هذا الحديث في صحيحه، أو في خارج صحيحه (كالأدب المفرد أو خلق أفعال العباد أو غيرهما) ، فيقول في التاريخ الكبير: قال لي، أو قال لنا، ويقول في غيره: حدثنا، وهذا الحديث بعينه هو الذي ذكره في التاريخ الكبير. والحميدي هو عبد الله بن الزبير، وافتتح البخاري صحيحه بالرواية عن الحميدي، كما في حديث: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى ... ) رواه عن الحميدي، عن شيخه سفيان بن عيينة، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن علقمة بن وقاص الليثي، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وسنَّد البخاري هذا الإسناد بالتحديث، قال: حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري، حدثنا محمد بن إبراهيم التيمي، سمعت علقمة، سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى ... ) . والحميدي صاحب المسند المشهور، له مسند مطبوع في مجلدين، وكان من ألزم الناس للإمام سفيان بن عيينة، وأيضاً كان من ألزم الناس للشافعي، وكان من أصحابه الكبار.

أقوال العلماء في صيغ التحديث (حدثنا، أخبرنا، أنبأنا، سمعت.

أقوال العلماء في صيغ التحديث (حدثنا، أخبرنا، أنبأنا، سمعت ... ) قال: وقال لنا الحميدي: كان عند ابن عيينة (حدثنا) و (أخبرنا) و (أنبأنا) و (سمعت) كل هذه الصيغ لا فرق بينها وبين بعضها الإمام سفيان بن عيينة أبو محمد الهلالي -. رحمه الله كما قال الشافعي: لولا سفيان ومالك لذهب علم أهل الحجاز. فـ سفيان بن عيينة إمام ثقة ثبت، وهو الوحيد في الدنيا من بين المدلسين الذين تستوي عنعنته مع تصريحه بالسماع، وإلا فالمدلس لابد أن يقول: حدثني، أو أنبأني، أو سمعت التي تفيد أنه سمع ذلك من شيخه مباشرةً. ولو عنعن المدلس الإسناد ردوا عليه حديثه، ولم يقبلوه إلا أن يصرح بالتحديث، إلا سفيان بن عيينة، فهذا هو الوحيد الذي تستوي عنعنته مع تصريحه بالسماع، كما صرح بذلك ابن حبان في مقدمة صحيحه عند كلامه عن المدلسين. وكتب ابن حبان: أن ليس في الدنيا من له هذه الخصيصة إلا سفيان بن عيينة،وقال: إنه كان لا يحدث إلا عن ثقة مثل نفسه، ولا نعلم هذا لأحدٍ إلا لـ سفيان بن عيينة رحمه الله. فلما نقل الإمام البخاري هذا الكلام عن سفيان بن عيينة، علمنا أنه مراد البخاري من الصياغة، إذاً كأن البخاري يذهب إلى رأي سفيان بن عيينة أنه لا فرق بين هذه الصيغ جميعاً. وهذا هو أصل الوضع اللغوي في الكلمة، كما قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة:4] ، فذكر التحديث وذكر الإخبار بمعنى واحد، وقال تعالى: {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:14] وهذا في الإنباء والإخبار، فالتحديث والإنباء والإخبار وإثبات السماع كله بمعنى واحد، وهذا على أصل الوضع اللغوي. وإلى هذا القول ذهب إمام أهل المدينة في زمانه، وهو محمد بن شهاب الزهري رحمه الله، وذهب إليه مالك وابن عيينة كما سمعتم الآن، ويحيى بن سعيد القطان، وذهب إليه أكثر أهل الحجاز وأكثر أهل الكوفة، وهو الذي اختاره ابن الحاجب في مختصره، في كل هذه الصيغ، ونقل الحاكم أبو عبد الله صاحب: المستدرك عن الأئمة الأربعة: أنهم يقولون بذلك. وذهب آخرون إلى التفصيل ما بين أن يأخذ التلميذ من الشيخ مشافهة، أو أن يقرأ التلميذ على الشيخ، فقالوا: إذا جاءت اللفظة مطلقةً فهذا يدل على أن الشيخ هو الذي قرأ، مثل لو قال التلميذ: حدثنا فلان، أو أخبرنا، أو أنبأنا هكذا بإطلاق؛ فهذا يدل على أن الشيخ هو الذي قرأ. فإذا قُرئ على الشيخ فينبغي أن يغير اللفظة، فيقول: حدثنا فلان بقراءة فلان عليه، أو أنبأنا أو أخبرنا بقراءة فلان عليه، وإلى هذا الرأي ذهب الإمام إسحاق بن راهويه، والإمام النسائي، وابن حبان. ابن حبان لا يقول: حدثنا، إنما يقول: أخبرنا، والنسائي أيضاً، إنما يستخدم لفظة الإخبار، وقلما يستخدم لفظة التحديث كأن يقول: حدثنا أو حدثني، وقلما يستخدم لفظة الإنباء، كأن يقول: أنبأنا أو أنبأني، إنما المشهور عند النسائي أنه كان يختار لفظة الإخبار. ومنهم من قال: إذا قال: حدثنا، يكون هذا من لفظ الشيخ، وإذا قال: أخبرنا، فتكون قراءة على الشيخ، وهذا مذهب ابن جريج، والأوزاعي، واختاره الشافعي، وابن وهب، رحمهم الله، وعليه أكثر أهل المشرق. والذين جاءوا بعدهم كان لهم تفصيل أكثر، قالوا: إذا قال: حدثنا فيكون سمعه التلميذ مع جماعة، وإذا قال: حدثني، يكون سمعه التلميذ وحده من الشيخ، وهكذا في أخبرنا وأخبرني، وأنبأنا وأنبأني، وسمعنا وسمعت. إلخ. وهذه كلها مسائل اصطلاحية ولا مشاحة في الاصطلاح، ولكن ينبغي بعدما استقر عمل العلماء على هذا أن يراعي المتأخرون اصطلاح المتقدمين فيها، لماذا؟ لأنه صار حقيقة عرفية عندهم، فينبغي عليهم أن لا يتجاوزوها، فالذي على المتأخرين أن يراعوا هذا، وليس على سبيل الوجوب. وللطحاوي - أبو جعفر الطحاوي صاحب العقيدة المشهورة، وهو من تلاميذ الإمام النسائي - جزء اسمه: (جزء التسوية بين حدثنا وأخبرنا) أي أن الطحاوي يذهب إلى هذا المذهب الذي ذهب إليه الإمام البخاري رحمه الله، وسبقه إلى ذلك الزهري، ومالك، وابن عيينة، كما بينا ذلك. قلنا: الإمام البخاري رحمه الله له معلقات في صحيحه، وكما قلنا: ليس كل معلقات البخاري على شرطه، بل بعضها على شرطه، وبعضها ليس على شرطه، فعلق البخاري جملةً من الأحاديث التي وصلها في صحيحه كما يأتي ذكره الآن.

لم ترد صيغة السماع في البخاري عن ابن مسعود في المرفوع بل في المعلق

لم ترد صيغة السماع في البخاري عن ابن مسعود في المرفوع بل في المعلق الإمام البخاري روى هذا الحديث في كتاب الجنائز من طريق حفص بن غياث، ورواه في كتاب التفسير من طريق أبي حمزة السكري محمد بن ميمون، ورواه في كتاب الأيمان والنذور من طريق عبد الواحد بن زياد، كلهم يروونه من طريق الأعمش سليمان بن مهران، عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود، وساق حديثاً. قال ابن مسعود -الكلام هذا كله في صحيح البخاري -: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلمة وقلت: كلمة) . ولم يقع في صحيح البخاري الكلمة (سمعت) ، التي أراد البخاري أن يحتج بها، البخاري قال في الحديث المعلق: (وقال شقيق عن عبد الله: سمعت) إنما في صحيح البخاري لم يقع كلمة (سمعت) عندما وقع بدلها كلمة (قال) ، ابن مسعود قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمة وقلت كلمة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مات وهو يدعو من دون الله نداً دخل النار، وقلت أنا -أي: ابن مسعود -: من مات وهو لا يدعو لله نداً دخل الجنة) هناك فرق ما بين قوله وما بين قول النبي صلى الله عليه وسلم، وابن مسعود إنما بنى كلامه على كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وهو يدعو من دون الله نداً دخل النار) معلوم أن من مات وهو لا يدعو لله نداً دخل الجنة، وقد ورد هذا صريحاً بنص النبي صلى الله عليه وسلم، من حديث جابر بن عبد الله كما في صحيح مسلم: (من مات لا يشرك بالله دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله دخل النار) وكما قلنا: إن ابن مسعود إنما بنى كلامه على كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومثله عروة بن الزبير لما روى حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من نبل المرأة تيسير أمرها وقلة صداقها. قال عروة: وأنا أقول من عندي: ومن شؤمها تعسير أمرها وكثرة صداقها) إنما بنى كلامه على كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذلك روى هذا الحديث مسلم من طريق وكيع، ومن طريق عبد الله بن نمير، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود و، مسلم دقيق فرق بين (سمعت) و (قال) ، وقد روى هذا الحديث من طريق شيخه محمد بن عبد الله بن نمير، قال: حدثنا وكيع بن الجراح، وأبي -أبوه عبد الله بن نمير - كلاهما -أي: وكيع وعبد الله بن نمير - عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود، وساق الحديث. انظر إلى التفريق! قال مسلم: وقال ابن نمير: قال ابن مسعود: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم. أما وكيع فقال: قال ابن مسعود: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذاً فرق مسلم. إذاً كلمة (سمعت) هذه لم تقع في صحيح البخاري، إنما وقعت في صحيح مسلم، من رواية عبد الله بن نمير، عن الأعمش فقط. إذاً رواه عن الأعمش حفص بن غياث، وأبو حمزة السكري، وعبد الواحد بن زياد و، وكيع بن الجراح وأبو معاوية. وآخرون، كلهم يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا ابن نمير رواه عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الذي أراده البخاري في التعبير الذي أوردنا، أنه يكفي كلمة: (سمعت) . فهذه الرواية قرأها مسلم كما قلتُ لكم، من طريق شيخه محمد بن عبد الله بن نمير، عن عبد الله بن نمير، عن الأعمش. وروى هذه الكلمة أيضاً ابن خزيمة في كتاب: التوحيد، قال: حدثنا أبو سعيد الأشج قال: حدثنا عبد الله بن نمير، عن الأعمش، عن ابن مسعود قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم فذكر كلمة.

استدلال البخاري على صيغة التحديث

استدلال البخاري على صيغة التحديث فقال البخاري: وقال ابن مسعود: حدثنا -وهذا هو الشاهد (حدثنا) فهو يذكر الصيغ- رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق. وهذا التعليق وصله الإمام البخاري في أربعة مواضع من صحيحه، فحديث ابن مسعود: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكاً فيؤمر بأربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله ورزقه، وأجله، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن الرجل منكم ليعمل حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار. وإن الرجل يعمل حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة) . فهذا الحديث رواه الإمام البخاري في كتاب بدء الخلق، في باب ذكر الملائكة، من طريق أبي الأحوص، عن الأعمش، عن زيد بن وهب، عن عبد الله بن مسعود، وأبو الأحوص هذا اسمه: سلام بن سليم. ثم رواه بعد ذلك في كتاب الأنبياء، باب خلق آدم وذريته، من طريق شيخه عمر بن حفص بن غياث، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا الأعمش، قال: حدثنا زيد بن وهب، قال: سمعت ابن مسعود يقول: (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق) . ثم افتتح الإمام البخاري بهذا الحديث كتاب القدر، ورواه من طريق شيخه أبي الوليد هشام بن عبد الملك، قال: حدثنا شعبة، قال: أنبأني سليمان الأعمش -وهو سليمان بن مهران الأعمش، ولكن غلب لقبه على اسمه- عن زيد بن وهب، عن عبد الله بن مسعود قال: (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق) وكلمة (حدثنا) موجودة في جميع طرق الحديث. ثم -أخيراً- رواه الإمام البخاري في كتاب التوحيد في باب: ((وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ)) ورواه من طريق شيخه آدم بن أبي إياس، قال: حدثنا شعبة، قال: حدثنا الأعمش، عن زيد بن وهب، عن عبد الله بن مسعود، وساق الحديث. إذاً: البخاري علق هذا الحديث مع أنه وصله في صحيحه في أربعة مواضع كما ذكرنا الآن، وهذا الحديث أخرجه أيضاً الإمام مسلم من طريق وكيع بن الجراح، وأبي معاوية، وأبي الأحوص وشعبة بن الحجاج، وآخرين كلهم يروي هذا الحديث من طريق الأعمش، عن زيد بن وهب، عن ابن مسعود رضي الله عنه.

استدلال البخاري على صيغة السماع

استدلال البخاري على صيغة السماع قال البخاري: وقال شقيق: عن عبد الله سمعت النبي صلى الله عليه وسلم كلمة. شقيق هو ابن سلمة، وكنيته أبو وائل الكوفي، أسدي، وهو مشهور بكنيته أكثر من اسمه. (عن عبد الله) ابن من؟ وعبد الله هنا صحابي، إذا قال الكوفي: عن عبد الله فهو ابن مسعود، وإذا قال المصري: عن عبد الله فهو ابن عمرو بن العاص، وإذا قال المدني: عن عبد الله فهو ابن عمر؛ لأن أحياناً يأتي الصحابي عبد الله، فإذا أردت أن تعلم من هو عبد الله الصحابي هذا، فانظر إلى الراوي عنه، فإن كان كوفياً فهو ابن مسعود، وإن كان مصرياً فهو عبد الله بن عمرو بن العاص، وإن كان مدنياً فهو عبد الله بن عمر بن الخطاب. فهذا شقيق بن سلمة أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه لم يره، فهو من المخضرمين، والمخضرمين هم: الذين أدركوا الجاهلية والإسلام. فقول البخاري: وقال شقيق: عن عبد الله: سمعت. ، يريد البخاري أن يقول: كل هذا موصولٌ عند أهل العلم فإن عبد الله بن مسعود مرة يقول: حدثنا، ومرة يقول: سمعت، ولم يقل أحدٌ من أهل العلم: إن هناك فرقاً بين سمعت وحدثني، أي أن البخاري يريد أن يقول: حدثنا، وسمعت، بمعنى واحد. لكن لم يقع هذا اللفظ (سمعت) في صحيح البخاري، إنما أورد المعلقات بالصيغ. البخاري يشير بهذا إلى حديثٍ أخرجه هو في عدة مواضع من صحيحه، فأخرجه في كتاب الجنائز من طريق حفص بن غياث، وأخرجه في كتاب التفسير من طريق أبي حمزة السكري - أبو حمزة السكري اسمه: محمد بن ميمون، وإنما قيل له: (السكري) ليس لأنه كان مريضاً (بالسكري) . لا؛ سمي السكري لحلاوة كلامه، كان كلامه جميلاً، فقيل له: السكري لأجل ذلك، كما ذكر المزي وغيره في ترجمته، وهو مذكور -أظن- في: حلية الأولياء في ترجمة أبي حمزة. يقول: ما بلغني عن جاري أنه مرض قط إلا قوّمت نفقته في مرضه، وتصدقت بها أن الله عافاني مما ابتلاه به. مثلاً: كان إذا مرض جاره نظر كم أنفق على نفسه في ذلك المرض من علاج وأدوية. إلخ فيخرج ذلك المبلغ صدقة شكراً لله عز وجل أن عافاه مما ابتلى به جاره. والعلماء لهم كلام في التداوي: هل هو واجب أم مستحب أم مباح؟ الصحيح أنه ليس بواجب، أي أن الإنسان إذا مرض فترك التداوي اتكالاً على الله تبارك وتعالى -والله هو الذي يرفع العلة- فهذا جائز لا إشكال فيه؛ وذلك لأن أبا بكر رضي الله عنه ترك التداوي في مرضه. لكن إذا كانت هذه العلة تصده عن القيام بحق العبودية، فيجب عليه أن يتداوى، مثلاً: إذا لم يتداو فإنه لا يستطيع أن يصلي، وقال له أهل الطب: إنه إذا تداوى فإنه يشفى بإذن الله، فحينئذ يجب في حقه التداوي، إنما يترك التداوي لمن قوي قلبه وقوي توكله، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول كما في حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب: (هم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون) فتركوا الاسترقاء، وتركوا التداوي اتكالاً على الله تبارك وتعالى. وقد ثبت عن أبي بن كعب رضي الله عنه أنه لما سمع أحاديث في فضل الحمى، وأنها حظ المؤمن من النار؛ دعا على نفسه بالحمى، لكنه اشترط أن لا تصده عن جماعة أو جهاد يقول الرواي: فكنا نضع أيدينا على جبهته فنرى أثر الحمى، ومات بها رضي الله عنه، لماذا اشترط أن لا تصده عن جهاد أو عن جماعة؟ لأن حضور الجماعة وحضور الجهاد أفضل بكثير من أن يبتلى المرء بالحمى ويتخلف عن الجماعة والجهاد. فـ أبو حمزة السكري ذكروا في ترجمته أيضاً: أنه بلغه أن جاره يبيع داره، والجار لما جاءه المشتري قال: أبيعك الدار بأربعة آلاف. فقال المشتري: ولم؟ قال: ألفان ثمن الدار، وألفان ثمن جوار أبي حمزة! فلما بلغ أبا حمزة قوله: ذهب إليه، وقال له: لا تبع الدار، وأعطاه أربعة آلاف على أن لا يبيع داره.

التنبيه على وجود تقديم وتأخير في حديث ابن مسعود

التنبيه على وجود تقديم وتأخير في حديث ابن مسعود بقي أن أنبه على شيء، وهو أن أبا معاوية وهو من أوثق الرواة عن الأعمش، واسمه: محمد بن خازم الضرير، روى هذا الحديث، فخالف عامة أصحاب الأعمش في متنه. ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من مات يشرك بالله دخل النار) هذا وعد أم وعيد؟ وعيد. قال ابن مسعود: (فقلت أنا: ومن مات لا يشرك بالله دخل الجنة) ، فهذا وعد أم وعيد؟ هذا وعد. إذاً: الحديث شقان: وعيدٌ ووعد. الوعيد من كلام النبي عليه الصلاة والسلام، والوعد من كلام ابن مسعود، أبو معاوية قلب الحديث فجعل الوعد من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، والوعيد من كلام ابن مسعود، وخالف عامة الرواة عن الأعمش في ذلك، وغلطه أهل العلم. وإن كان عندما نقول: أبو معاوية، عن الأعمش فحديثه صحيح، وهو موافق لحديث جابر بن عبد الله الذي رواه مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ومن مات لا يشرك بالله دخل الجنة) ، لكن نقول: إن قلب هذا المتن شاذٌ من رواية الأعمش، عن أبي وائل، عن ابن مسعود، وإن صحت رواية غيره من الصحابة، إذاً عامة الرواة عن الأعمش جعلوا الوعد من كلام ابن مسعود، وجعلوا الوعيد من كلام رسول الله صلى الله عليه وآله سلم. وأيضاً ذكر لفظة السماع سيار أبو الحكم العنزي ورواها عن أبي وائل، عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: (خصلتان: إحداهما سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأخرى أقولها) وساق الحديث أيضاً، فجعل الوعد من كلام ابن مسعود، وجعل الوعيد من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الرواية رواها ابن خزيمة في كتاب التوحيد. وروى أيضاً لفظة: (سمعت) مغيرة بن مقسم الضبي عن أبي وائل عن ابن مسعود، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وساق الحديث، هذه الرواية في صحيح ابن حبان. وروى الإمام أحمد في مسنده قال: حدثنا هشيم -وهو ابن بشير - قال: أنبأنا سيار والمغيرة. إذاً ابن خزيمة روى رواية سيار، وابن حبان روى رواية المغيرة، وأحمد جمعهما في رواية واحدة، قال: حدثنا هشيم -وهو ابن بشير - قال: أنبأنا سيار أبو الحكم، ومغيرة بن مقسم الضبي كلاهما عن أبي وائل. فذكر لفظة السماع. وأيضاً روى لفظة: (سمعت) عاصم بن بهدلة، - بهدلة هذه أمه، كان اسمها: بهدلة، وعاصم هذا هو صاحب القراءة المشهورة، رواية عاصم التي أخذها عنه حفص وشعبة، ولكن شعبة الذي أخذ القراءة عن عاصم ليس هو شعبة بن الحجاج الإمام العلم المشهور المحدث. لا، هذا هو شعبة بن عياش أبو بكر المقرئ أخذ الرواية عن عاصم، ولكن الحق أن حفص بن سليمان كان أشهر الرواة عن عاصم بن أبي النجود أو عاصم بن بهدلة. فـ عاصم روى هذا الحديث عن أبي وائل شقيق بن سلمة، وفي مسند الإمام أحمد أورد رواية عاصم من طريق أبي بكر بن عياش، عن عاصم بن أبي النجود، عن أبي وائل الكوفي، عن عبد الله بن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. كل هذه الأحاديث التي في صحيح البخاري، اتفق مسلم مع البخاري في رواية أغلبها.

استدلال البخاري على صيغة القول

استدلال البخاري على صيغة القول قال البخاري: وقال حذيفة: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين. أيضاً حذيفة قال: حدثنا. فـ البخاري يقول: حدثنا وسمعت وأنبأنا. كلها سواء، وأن الصحابة كانوا يضعون صيغ الإخبار مكان بعضها، ولم ينكر أحدٌ على أحد، قلت: إن البخاري لما ساق هذا كله يريد أن يدلل على أن كل هذه الصيغ تقوم بعضها مكان بعض، وأنها متساوية وتؤدي نفس الغرض.

وصل البخاري لحديث حذيفة والفوائد المستنبطة منه

وصل البخاري لحديث حذيفة والفوائد المستنبطة منه فقال: وقال حذيفة: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين. هذه معلقات علقها البخاري رحمه الله، إذاً أين إسناد البخاري؟ نقول: حديث حذيفة وصله البخاري في الموضع الفلاني، أو وصله فلان في الموضع الفلاني. البخاري روى هذا الحديث مسنداً في كتاب الإخلاص، وفي كتاب الفتن، قال في الموضعين: حدثني محمد بن كثير، أخبرنا سفيان، حدثنا الأعمش، عن زيد بن وهب، حدثنا حذيفة بن اليمان، قال: (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين، رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر، حدثنا: أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم علموا من القرآن، ثم علموا من السنة)) الجذر: هو أصل الشيء، والأمانة في هذا الحديث: هي الإيمان، الذي يستلزم العمل بمقتضاه، والمقتضى هو جملة التكاليف الشرعية، وبما أنك رضيت بالله رباً، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً، وبالإسلام ديناً، فبمقتضى هذا التقرير، إذ مطلوب منك أن تلتزم بالتكاليف الشرعية. إذاً عندما نقول: الإيمان هو أصل ومقتضى. وهو المذكور في قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72] فالإيمان نزل في جذر قلوب الرجال، أي: في أصل قلوبهم؛ ثم عملوا من القرآن، ثم علموا من السنة، فأيهما تقدم الآخر: الإيمان أم العلم؟ الإيمان. فهذا هو الفرق الذي ألمح إليه عبد الله بن عمر، وجندب بن عبد الله البجلي، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وآخرون من الصحابة، قالوا: (تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيماناً، ويأتي أقوامٌ يتعلمون القرآن، ثم يتعلمون الإيمان، يشربونه شرب الماء) كلام عبد الله بن عمر: يشربونه شرب الماء، كم من واحد حافظ للقرآن من أوله إلى آخره، ولا يفقه منه شيئاً، وهذا كثير. قوله: يشربونه شرب الماء، بمعنى: أنهم أقاموا حروفه وضيعوا حدوده، تجد الواحد منهم يقول لك: أنت لم تفخم الحرف الفلاني، وأنت رققت في غير موضع الترقيق، وأنت أتيت بصلة كبرى وهي صغرى، يفتي في كل هذه الأشياء، هذا أقام حروفه، نعم، لكن ما أقام حدوده الشرعية التي أناطها الله بهم. إذاً: هناك فرق بين الصحابة وبين من أتى بعدهم. ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه حفظ سورة البقرة في عشر سنوات. لماذا؟ لأنه كما روى أبو عبد الرحمن السلمي - أبو عبد الرحمن السلمي هذا أخذ القراءة عن عبد الله بن مسعود، وعن عثمان بن عفان رضي الله عنهما، وظل يقرئ القرآن أربعين سنة، والذي جعله يمكث يقرئ الناس القرآن أربعين سنة حديث: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) . قال أبو عبد الرحمن: فهذا الذي أقعدني من خلافة عثمان إلى زمن الحجاج بن يوسف الثقفي. أربعون عاماً وهو جالس يقرئ الناس القرآن- قال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا من كانوا يقرئوننا، قالوا: (كنا نأخذ العشر آيات فلا نتجاوزها إلى غيرها حتى نعمل بما فيها، فتعلمنا العلم والعمل جميعاً) . فالفرق ما بين الصحابة والذين جاءوا بعد ذلك: أن الإيمان سبق القرآن -أعني سبق تعلم العلم- فازدادوا بالقرآن والسنة إيماناً وتسليماً بالله ورسوله. فإذا قيل: قال رسول الله؛ سلَّم في الحال، لماذا؟ لأن عنده إيماناً سابقاً؛ لكن اجعل العلم هو الأول قبل الإيمان، ما النتيجة؟ أنه كلما جاءه أمر من القرآن أو السنة فإنه يعترض عليه، لماذا؟ لأنه لا يوجد إيمان. قال حذيفة رضي الله عنه: (حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم علموا من القرآن، ثم علموا من السنة، وحدثنا عن رفعها -أي: عن رفع الإيمان من القلب- قال: ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر الوكت) الوكت: هو ما يخلفه الجرح على الجلد من لون داكن أسود. : (ثم ينام النومة فتقبض فيبقى فيها أثرها مثل أثر المجل -ثم بين حذيفة رضي الله عنه معنى: المجل، قال: كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبراً) يعني عندما تأتي بجمر تدحرجه على رجلك أو يدك، فإنه سيصير له أثر، يكون عبارة عن انتفاخ مائي. (كجمر دحرجته على رجلك فنفط -أي: علا وبرز- فتراه منتبراً وليس فيه شيء -أي: منتفخاً، وهو مأخوذ منه المنبر، لأن الخطيب يصعد عليه فيبرز- ويصبح الناس يتبايعون -أي: يبيع أحدهما ويشتري الآخر، المقصود بالتبايع هنا البيع والشراء- فلا يكاد أحدٌ يؤدي الأمانة) لماذا؟ لأن هذه فرع عن الإيمان الموجود في القلب، كل التكاليف إنما هي فرعٌ عن الإيمان الموجود في القلب. فالإنسان الخائن ليس عنده إيمان. ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم يقول -كما في حديث عياض بن حمار الذي رواه مسلم وأحمد - قال في نهاية الحديث: (وأهل النار خمسة: فذكر منهم: ورجلٌ لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك -إنسان خائن- وقال: ورجلٌ خائن لا يخفى له طمعٌ وإن دق إلا خانه) النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وأهل النار خمسة) فذكر منهم هذا. لماذا؟ لأنه ليس عنده إيمان، لو كان عنده إيمان لما خان الناس، وخادعهم. فيقول حذيفة -بعدما تنزع الأمانة المرة الثانية-: (ويصبح الناس يتبايعون فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة، فيقال: إن في بني فلان رجلاً أميناً) . يقول لك: في بني فلان رجل أمين! كلمة: (رجل أمين) هذه تدل على فساد الزمان. (قال: للرجل: ما أعقله! ما أظرفه! وما أجلده! وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان. ولقد أتى عليّ زمان ولا أبالي أيكم بايعت، لئن كان مسلماً رده عليّ الإسلام، وإن كان نصرانياً رده عليّ ساعيه) . قوله: (رده علي الإسلام) يعني الإيمان، مثلاً: أنا بعت واشتريت معك، وحدث أثناء البيع والشراء خطأ في الحساب، فالبائع الذي اشتريت منه رأى أن زدته على قيمة سلعته عن طريق الخطأ، فالإسلام والإيمان الذي في قلبه يجعله يردها إليّ، من الذي جعله يرجعها لي؟ الإيمان والإسلام الذي معه. وقوله: (ولئن كان نصرانياً رده عليّ ساعيه) أي: أذهب إلى الرجل الذي هو المسئول عنه وأقول له: أنا لي كذا عند فلان، إذاً أرجع لي حقي. وهذا الحديث أخرجه الإمام البخاري أيضاً مختصراً حتى قوله: روى أوله: (إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم يعلمونه من القرآن، ثم يعلمونه من السنة) وساق الحديث إلى هذا، ورواه من طريق شيخه علي بن عبد الله قال: حدثنا سفيان عن الأعمش عن زيد بن وهب عن حذيفة.

كيفية معرفة الرواة عند تشابه أسمائهم

كيفية معرفة الرواة عند تشابه أسمائهم البخاري روى هذا الحديث -كما سبق وذكرت- في كتاب الإخلاص وفي كتاب الفتن- قال: حدثني محمد بن كثير قال: حدثنا سفيان عن الأعمش. سفيان من في هذا الحديث؟ وفي أخبار الآحاد قال: وحدثنا علي بن عبد الله قال: حدثنا سفيان. سفيان الأول -في السند الأول- هو سفيان الثوري؛ لأن محمد بن كثير مشهورٌ بالرواية عن الثوري دون ابن عيينة، وسفيان في السند الثاني هو ابن عيينة وليس الثوري. وعندما نرى في الإسناد (سفيان) -ونريد أن نعرف من هو، هل هو سفيان الثوري، أو ابن عيينة؟ - ننظر إلى الرواة عنه، فإن كان الرواة عنه كباراً -أي: من طبقة عالية- فهو سفيان الثوري مثل إذا كان الراوي عنه أبو نعيم الفضل بن دكين أو عبيد الله بن معاذ العنبري أو محمد بن يوسف الفريابي مثلاً، أو الضحاك بن مخلد الشيباني، أو محمد بن كثير العبدي إذا رأينا كل هؤلاء يروون ويقولون: سفيان فهو الثوري، وهذا على الغالب الأعم. لكن إذا قال القائل: حدثنا سفيان، مثل: أحمد بن حنبل، أو علي بن المديني، أو مسدد بن مسرهد، أو أبو الربيع الزهراني أو سليمان بن داود أو قتيبة بن سعيد، أو عمرو بن علي الفلاس مثلاً، أو أحمد بن منيع، أو كل هؤلاء، فيكون الراوي هو سفيان بن عيينة؛ لأن كل هؤلاء لم يدركوا الثوري لماذا؟ لأن ابن عيينة تلميذ الثوري، أخذ عن الثوري. فنحن إذا أردنا أن نحدد الرواة نسند الراوة، ننظر إلى الرواة عنهم، الذين هم غير منسوبين إلى أسانيد مثل (حماد) ، هل هو حماد بن سلمة، أو حماد بن زيد؟ سفيان بن عيينة أو الثوري ننظر في الرواة عنهما. وروى مسلم رحمه الله هذا الحديث من طريق وكيع بن الجراح وأبي معاوية وعبد الله بن نمير، وعيسى بن يونس كلهم عن الأعمش عن زيد بن وهب عن حذيفة بن اليمان.

استدلال البخاري على العنعنة

استدلال البخاري على العنعنة ثم ذكر البخاري تعليقاً آخر، فقال: وقال أبو العالية: عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل. فهذه صيغة من الصيغ السالفة؛ لأن البخاري يقول: باب قول المحدث: حدثنا أو أخبرنا وأنبأنا، لم يكن هناك (عن) ، البخاري أتى بهذا التعبير: وقال أبو العالية: عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه. كل هذه عنعنة، والبخاري إنما يتكلم عن صيغة السماع، ومع ذلك فهو ذكر العنعنة هنا. وحديث أبي العالية هذا وصله البخاري في كتاب التوحيد، فقال: حدثنا حفص بن عمر، قال: حدثنا شعبة عن قتادة. ثم حول الإسناد، قال: (ح) -تحويلة سند- ثم قال: وقال لي خليفة: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة، عن أبي العالية، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: (لا ينبغي لعبدٍ أن يقول: أنا خيرٌ من يونس بن متى) ونسبه إلى أبيه.

اختلاف الرواة في حديث ابن عباس (لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى)

اختلاف الرواة في حديث ابن عباس (لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى) نبين هنا طريقة من طرق المحدثين: البخاري روى الحديث من طريق شيخين له، عن قتادة عن أبي العالية عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى، روى الحديث من طريق شعبة عن قتادة، ومن طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة. فلما نظرنا في رواية شعبة وحده وجدنا أن شعبة ما رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه، إنما وقف بالحديث عند النبي صلى الله عليه وسلم وصار القول (لا ينبغي لرجلٍ أن يقول: أنا خير من يونس. إلخ) صار من قول النبي صلى الله عليه وسلم، لا من قول رب العزة تبارك وتعالى. فـ البخاري روى هذا الحديث في كتاب الأنبياء، وكذلك أبو داود، قال البخاري وأبو داود: حدثنا حفص بن عمر، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن أبي العالية، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: وساق الحديث. من الذي قال؟ النبي عليه الصلاة والسلام، والبخاري في هذا الموضع من كتاب التوحيد جعله عن النبي صلى الله عليه وسلم عن رب العزة تبارك وتعالى. فهل هذا الحديث قدسي أو حديث نبوي؟ أما رواية شعبة التي رأيتها في كل الكتب التي عندي فما تجاوز فيها شعبة النبي صلى الله عليه وسلم، أي: أن البخاري رواه -كما قلت لكم- في كتاب حديث الأنبياء، وأبو داود، كلاهما من طريق حفص بن عمر عن شعبة عن قتادة. فجعلاه من قول النبي صلى الله عليه وسلم. ثم رواه البخاري من حديث شيخه محمد بن بشار، قال البخاري: حدثنا محمد بن بشار، ومسلم أيضاً قال: حدثنا محمد بن بشار، لكن زاد مسلم: ومحمد بن المثنى، قالا -كلاهما-: حدثنا غندر - غندر من هو؟ محمد بن جعفر - قال: حدثنا شعبة بهذا الإسناد، فجعله من قول النبي صلى الله عليه وسلم. ورواه أحمد في مسنده، قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة. وجعله من قول النبي صلى الله عليه وسلم. ورواه أيضاً عن شعبة أبو داود الطيالسي في مسنده، وعفان بن مسلم عند أحمد وابن أبي شيبة وابن حبان، وعمرو بن مخزوم عند الطبراني في المعجم الكبير وآخرون، كلهم يروي هذا الحديث عن شعبة، عن قتادة، عن أبي العالية، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما ينبغي لعبدٍ أن يقول: أنا خيرٌ من يونس بن متى) . إذاً رواية شعبة إنما وصل بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يرفعها إلى رب العزة تبارك وتعالى. إذاً فمن الذي رفع الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى رب العزة؟ الرجل الثاني عن قتادة الذي هو سعيد بن أبي عروبة. إذاً البخاري لما روى الروايتين حمل رواية سعيد على رواية شعبة، وأسند البخاري إسنادين مع بعض، ولم يبين لفظ من الذي رفع الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم إلى رب العزة تبارك وتعالى، نحن نعرف الألفاظ اللفظ الفلاني عن فلان إذا اختبرنا طرقه في الكتب الأخرى، فلما نظرنا إلى رواية شعبة عن قتادة، لأن البخاري حول الإسناد من بعدها، فقال: وقال لي خليفة، هو خليفة بن خياط صاحب التاريخ والمسند، ولقبه شباب، ذاك اسمه ولقبه شباب، أول ما تقرأ كلمة شباب إذاً هو خليفة بن خياط عند البخاري. قال البخاري: وقال لي خليفة: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي العالية عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه. إذاً رَفْعُ الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم إلى رب العزة إنما هو في رواية سعيد بن أبي عروبة دون الروايات السابقة. وقد يقول قائل: عندما ينفرد سعيد بن أبي عروبة بهذه الرواية، فلعل هذا من اختلاطه، فنقول: إن رواية يزيد عن سعيد قبل الاختلاط، والبخاري يتحرى في هذا الباب، يزيد بن زريع من قدماء أصحاب سعيد بن أبي عروبة. إذاً: ما هو محل الشاهد هنا؟ رواية أبي العالية، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، عن رب العزة. إذاً هل يشك أحدٌ في ثبوت رواية النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه، إذا صح الإسناد إليه؟! لا. فكأن البخاري أراد أن يقول: إن العنعنة إذا ثبت السماع والاتصال تكون كسمعت وحدثنا وأخبرنا، أنه لا يشك أحدٌ أن العنعنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه تبارك وتعالى قائمةٌ مقام السماع، فإذا كانت العنعنة بين الراوي وشيخه بمثل هذه القوة، فحينئذٍ نحكم بالاتصال. الإمام البخاري مختلف مع مسلم في مسألة اشتراط اللقاء، وعنعنة المعاصر، هل تحمل على السماع أم لا؟ البخاري قال: لا تحمل على السماع حتى يثبت في سندٍ من الأسانيد أنه قال: حدثنا. مثلاً: أنت تروي عن الشيخ الألباني رحمه الله، إذا ثبت لدينا أنك لقيت الألباني ولو مرة، وثبت لك إسناد أنك أنت قلت: حدثني محمد ناصر الدين الألباني. كل كلام منك عن الألباني بعد هذا سنأخذه؛ لأنه ثبت لدينا أنك لقيته يقيناً. والإمام مسلم يقول بالمعاصرة -إذا كانوا يعيشون في وقت واحد- وجائزٌ ممكن. فقرن الإمام مسلم الجواز بالإمكان؛ لأنه ممكن المعاصرة ولا يمكن اللقاء. فالإمام مسلم قال: وجائزٌ ممكن، فكأن مسلماً أراد معاصرةً بينة، وليست معاصرة مطلقة كما فهم عنه بعض العلماء، إن نقطة التعاصر كأنه أراد معاصرة بينة، كرواية مصريٍ عن مصري، وحجازي عن حجازي، وشامي عن شامي، وكوفي عن كوفي، وبصري عن بصري. وهكذا، فاحتمال اللقاء قوي جداً، إذ يتعذر أن يكون هناك طالبٌ للعلم، ويكون هناك شيخ مشهور، ومع ذلك لا يذهب هذا التلميذ ولا يلتقي مع هذا الشيخ أبداً، هذه مسألة متعذرة للعالم، قد نقول: مصري مع كوفي لا يلتقيان مع بعض وإن كانا متعاصرين. فالإمام البخاري يريد أن يقول: إن العنعنة إذا احتف بها ما يثبت اللقاء حملت على الاتصال، ولذلك أورد العنعنة هنا وألحقها بصيغ السماع.

إيراد البخاري لحديثين معلقين يدلان على العنعنة ووصلهما

إيراد البخاري لحديثين معلقين يدلان على العنعنة ووصلهما بقي لنا حديثان معلقان: قال أنس: عن النبي صلى الله عليه وسلم يروي عن ربه عز وجل. وقال أبو هريرة: عن النبي صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربكم عز وجل. أما التعليق الذي هو عن أنس رضي الله عنه فوصله البخاري أيضاً في كتاب التوحيد، في نفس الموضع الذي روى فيه حديث أبي العالية عن ابن عباس، والحديث الذي عناه البخاري هو حديث النبي صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربه تبارك وتعالى: (إذا تقرب العبد إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإذا تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً، وإذا أتاني مشياً أتيته هرولة) ، وهذا الحديث انفرد به البخاري عن مسلم من حديث أنس رضي الله عنه. أما حديث أبي هريرة رضي الله عنه -هذا التعليق عن أبي هريرة - فوصله البخاري في نفس الباب في كتاب التوحيد، وهو (باب ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وروايته عن ربه تبارك وتعالى) وأورد نفس الحديث الذي هو (إذا تقرب العبد مني شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإذا تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً أو بوعاً) . وقد ذكر البخاري هذا التعليق في كتاب التوحيد، واتفق معه الإمام مسلم في رواية هذا الحديث، أما حديث أنس فقد انفرد به البخاري. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.

شرح صحيح البخاري [8]

شرح صحيح البخاري [8] سنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم للعلماء خاصة وللأمة عامة كيفية طرح الأسئلة لمن يرأسونهم، وما ذلك إلا لاستخراج الكفاءات، لاهتمام بأصحابها، ورعايتهم حتى ينتفع الناس بهم، وسنّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مراعاة القرائن عند الحكم على الآخرين، وعدم إهمالها.

الفوائد الحديثية المستنبطة من حديث ابن عمر

الفوائد الحديثية المستنبطة من حديث ابن عمر إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. قال الإمام البخاري رحمه الله: حدثنا قتيبة، حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن من الشجر شجرةً لا يسقط ورقها، وإنها مِثْلُ المسلم، فحدثوني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبد الله: ووقع في نفسي أنها النخلة فاستحييت، ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: هي النخلة) . الإمام البخاري رحمه الله يحتج بهذا الحديث على إثبات أن صيغ السماع واحدة، وفي أول الباب قال: باب قول المحدث: حدثنا أو أخبرنا أو أنبأنا) وذكر عدة معلقات ذكرنا من وصلها في المرة الماضية، فالإمام البخاري رحمه الله قال بعد أن ذكر الباب السابق: (وقال لنا الحميدي: -الذي هو عبد الله بن الزبير - كان عند ابن عيينة: حدثنا وأخبرنا وأنبأنا وسمعت شيئاً واحداً) . فلما ابتدأ الإمام بذكر كلام ابن عيينة في ذلك، علمنا أنه يذهب هذا المذهب وهو: أن الراوي إذا تحمل من شيخه كلاماً فنقله عنه بأي صيغة من صيغ السماع، كأن يقول: حدثني أو حدثنا، أخبرني أخبرنا، أنبأني أنبأنا، سمعت، أن هذه الصيغ كلها بمعنى واحد، ولا فرق بينها، وقد تكلمنا في المرة الماضية عن مذاهب أهل العلم في التفريق. ف البخاري رحمه الله يأتي بحديث ابن عمر المسند، ليؤيد به وجهة نظره، فأورد في هذا الحديث من طريق إسماعيل بن جعفر، عن عبد الله بن دينار لفظ التحديث، النبي عليه الصلاة والسلام قال: (فحدثوني ما هي؟) . لا يتم الانتصار لرأي البخاري إلا بجمع طرق الحديث، فقد وقع في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أو أن الرواة نقلوا عنه أنه قال مرة: حدثوني، ومرة: أنبئوني، ومرة: أخبروني، وأبو جعفر الطحاوي رحمه الله ألَّف في هذه المسألة جزءاً سماه: جزء التسوية بين حدثنا وأخبرنا، وأورد فيه هذا الحديث محتجاً به لمذهب البخاري. فالرسول عليه الصلاة والسلام قال: (حدثوني أنبئوني أخبروني) وقد وقع لفظ حدثوني وأخبروني في الصحيح، وعند الإسماعيلي في: المستخرج على صحيح البخاري أتى بلفظ: أنبئوني، وكلها من حديث عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

متابعة الرواة لعبد الله بن دينار

متابعة الرواة لعبد الله بن دينار بقي أن نأتي بمتابعات لمن؟ للتابعي الذي هو عبد الله بن دينار، فقد تابَع عبد الله بن دينار جماعة أيضاً منهم، الإمام نافع وهو مولى ابن عمر ومن أوثق الناس عن ابن عمر، حتى إن بعض أهل العلم كان يفضله في ابن عمر على سالم بن عبد الله بن عمر ولكن الصواب أن سالماً أوثق من نافع، وقد اختلف سالم ونافع في أربعة أحاديث فقط، كان الظفر فيها لـ سالم، رجَّح أهل العلم رواية سالم بن عبد الله بن عمر على نافع، فانظر مع كثرة ما روى نافع عن ابن عمر لم يخالف سالماً إلا في أربعة أحاديث فقط، ونافع لا نطنب في ذكر ثقته وفضله. سنأتي بمتابعات لـ عبد الله بن دينار: فأول متابع له هو نافع، وهذه المتابعة عن نافع أخرجها الإمام البخاري ومسلم، كلاهما من طريق أبي أسامة حماد بن أسامة. وأخرجه البخاري وابن جرير وابن مندة في كتاب الإيمان والرامهرمزي في كتاب: الأمثال من طريق يحيى بن سعيد القطان، فعندنا اثنان: الأول: أبو أسامة حماد بن أسامة، والثاني: هو يحيى بن سعيد القطان. وأخرجه البزار، أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار صاحب: المسند الكبير الجليل المسمى: البحر الزخار، الذي طُبع منه تسعة مجلدات، وتوفي محققه الدكتور محفوظ الرحمن زين الله رحمة الله عليه -أظن أنه يقصد قبل أن يتم تحقيقه- وكان من خيار من عرفتهم خلقاً وديناً -رحمه الله- فطبع تسعة مجلدات من هذا المسند العظيم الكبير، مسند البزار. وأخرجه الخطيب البغدادي في كتابه: الفقيه والمتفقه من طريق البزار، والبزار من طريق وهيب بن خالد، وابن جرير من طريق إسماعيل بن زكريا، أربعتهم قالوا: حدثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر. المتابعة الثانية لـ إسماعيل بن جعفر عن محارب بن دثار عن ابن عمر وهذه المتابعة أخرجها الإمام البخاري في صحيحه وأحمد وابن مندة في كتاب: الإيمان، كلهم من طريق شعبة بن الحجاج، عن محارب بن دثار، عن عبد الله بن عمر. المتابعة الثالثة لـ عبد الله بن دينار هي لـ حفص بن عاصم، عن ابن عمر، وهذه المتابعة أخرجها الإمام البخاري أيضاً، قال: حدثنا آدم بن أبي إياس، عن شعبة، حدثنا خبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، ثم المتابعة الرابعة لرجل لم يُسَم، وهذه المتابعة أخرجها ابن جرير في كتاب: التفسير. فهذه جملة المتابعات التي وقفت عليها ل عبد الله بن دينار.

عدم وجود متابعة للصحابي ابن عمر

عدم وجود متابعة للصحابي ابن عمر وأخيراً يبقى معنا ابن عمر، نقول: ليس لـ ابن عمر متابع في هذا السياق. أتينا بالمتابعات كلها لكل طبقة من طبقات الإسناد حتى وصلنا إلى ابن عمر، فلم يرو هذا الحديث بهذا السياق إلا ابن عمر، وإنما وافقه أبو هريرة على شطر من الحديث وهو قوله: (مثل المؤمن كمثل النخلة) ، لكن لم يذكر بقية الحديث. إذاً ابن عمر تفرد بهذا السياق، وبذلك جزم البزار بأن ابن عمر تفرد بهذا السياق.

متابعة الرواة لشيخ شيخ البخاري

متابعة الرواة لشيخ شيخ البخاري هذا الحديث يرويه إسماعيل بن جعفر، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما، وقد تابَع إسماعيل بن جعفر جماعة آخرون، أنا كتبتهم لكم، منهم الإمام مالك، عن عبد الله بن دينار، ف مالك تابع إسماعيل بن جعفر، ومتابعة الإمام مالك أخرجها الإمام البخاري في كتاب العلم، وستأتي هذه الرواية، قال: حدثنا إسماعيل شيخ البخاري، الذي هو إسماعيل بن أبي أُويس، وأخرجه الترمذي من طريق معن بن عيسى، وهو أحد أصحاب مالك، وأخرجه أحمد في مسنده قال: حدثنا عبد الملك بن عمرو، وأخرجه ابن مندة في كتاب: الإيمان، وابن عبد البر في كتاب: جامع بيان العلم وفضله، كلاهما من طريق القعنبي، كلهم قالوا: حدثنا مالك بهذا الإسناد، عندك مالك وإسماعيل عن عبد الله بن دينار، هذه موافقة. فالآن عندنا الإمام البخاري روى متابعة مالك التي رواها عن عبد الله بن دينار، في كتاب العلم قال: حدثنا إسماعيل ابن أبي أويس، ورواها الترمذي من طريق معن بن عيسى، صارا اثنين: إسماعيل بن أبي أويس ومعن بن عيسى، ورواها أحمد في مسنده قال: حدثنا عبد الملك بن عمرو، فصاروا ثلاثة ورواها ابن مندة في كتاب: الإيمان، وابن عبد البر في: جامع العلم، من طريق القعنبي، ما اسم القعنبي؟ عبد الله بن مسلمة القعنبي، هؤلاء الأربعة قالوا جميعاً: حدثنا مالك، عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر، وساقوا الحديث بمثله سواء. إذاً عندنا ابن أبي أويس ومعن وعبد الملك بن عمرو والقعنبي، هذه اسمها متابعات ماذا؟ تامة، عن من؟ عن مالك. هؤلاء الأربعة عندما يروون عن مالك عن عبد الله بن دينار، فهم تابع بعضهم بعضاً متابعة تامة. فلو أردنا أن نرجع للإسناد الذي قلناه قبل قليل فسنقول: علي بن حُجْر، ويحيى بن أيوب المقابري، وقتيبة بن سعيد، الثلاثة هؤلاء يروون الحديث عن إسماعيل بن جعفر عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر، والأربعة الآخرون رووا الحديث عن مالك عن عبد الله بن دينار، إذاً الثلاثة هؤلاء تابعوا الأربعة عن مالك متابعة ناقصة؛ لأنه اختلف الشيخ، الثلاثة الأوَل شيخهم من؟ إسماعيل بن جعفر، والأربعة الآخرون شيخهم مالك، ثم مالك وإسماعيل بن جعفر شيخهم من؟ عبد الله بن دينار. إذاً الثلاثة الأوَل شيخهم يختلف عن شيخ الأربعة الآخرين، الثلاثة الأُوَل شيخهم إسماعيل بن جعفر، والأربعة الآخرون شيخهم مالك، واتفقوا في شيخ الشيخ الذي هو عبد الله بن دينار، فإذاً مالك تابَع إسماعيل متابعة تامة، والأربعة هؤلاء تابعوا الثلاثة هؤلاء متابعة ناقصة. والمتابعة الثانية لـ إسماعيل بن جعفر تابَعه سفيان بن سعيد الثوري، وهذه المتابعة أخرجها الإمام عبد بن حميد في كتاب: المنتخب من المسند، عبد بن حميد كما نعرف له: المسند، وله: التفسير، ولكن المسند كله لم نظفر به ولا نعلم عنه شيئاً، إنما وصلنا المنتخب من هذا المسند، والتفسير أيضاً غير موجود، لكن بالنسبة للتفسير رأيت مختصراً أو منتخباً من تفسير عبد بن حميد مكتوباً على حاشية تفسير ابن أبي حاتم، كأن الناسخ انتخب من تفسير عبد بن حميد آثاراً وأحاديث، وكتبها على حاشية تفسير ابن أبي حاتم. عبد بن حميد روى هذه المتابعة أي: متابعة سفيان الثوري في كتاب: المنتخب من المسند، قال عبد بن حميد: حدثنا عمر بن سعد - وعمر بن سعد مشهور بكنيته أكثر من اسمه، كنيته أبو داود الحفري - قال: حدثنا سفيان، نحن نعرف أنه سفيان الثوري وليس سفيان بن عيينة بالنظر إلى الراوي عن سفيان، وقد قلت قبل ذلك: كيف نميز بين رواية السفيانين؟ قلنا: ننظر إلى أصحابه، فإذا رأينا أصحاب سفيان كباراً فهو الثوري، وإذا وجدناهم صغاراً فهو ابن عيينة، يعني: إذا نظرنا في الراوي عن سفيان فوجدنا مثلاً أن الراوي عنه: أبو داود الحفري أو عبيد الله بن موسى أو أبو نعيم الفضل بن دكين، أو أبو عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني، أو يحيى بن سعيد القطان، أو محمد بن يوسف الفريابي أو وكيع بن الجراح أو عبد الرحمن بن مهدي أو يزيد بن هارون، كل هؤلاء حين يقولون: حدثنا سفيان، في الغالب هو سفيان الثوري. إنما إذا رأينا الذي يقول: حدثنا سفيان مثل: أحمد بن حنبل، أو الحميدي، أو قتيبة بن سعيد، أو علي بن المديني، أو أحمد بن منيع، أو محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني، أو محمد بن حاتم كل هؤلاء إذا قالوا: حدثنا سفيان، فهو ابن عيينة. والمجموعة الذين سميناهم قبل ذلك إذا قالوا: حدثنا سفيان فهو من؟ الثوري. نحن نعرف كيف نميز بين الاثنين بمعرفة الطبقات، وقد روى هذا الحديث أيضاً سفيان بن عيينة، قال: حدثنا عبد الله بن دينار، إذاً روى السفيانان هذا الحديث عن ابن دينار، وهذه المتابعة ل سفيان بن عيينة رواها الإمام الحميدي في مسنده مختصرة جداً، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا عبد الله بن دينار وساق الإسناد بمثله سواء. أنا أحس أنني أثقل عليكم، أليس كذلك؟! ولكن إن شاء الله مع تتابع الدروس؛ ستصبح هذه المسائل واضحة بالنسبة لكم، لماذا؟ لأننا نعطيكم المفاتيح، فحتى تستطيع أن تدافع عن السنة وتكون فارساً حقاً، وكيف إذا جاء شخص يطعن في البخاري، وتستطيع أن ترد عليه؟ فلا بد أن تعرف كيف صنف البخاري كتابه! وكيف رتب كتابه، وكيف تتم المتابعات! وهل هذا اختلاف تضاد أم اختلاف تنوع؟! إذا فهمت هذه المسائل فإنه لا يستطيع أحد أن يغلبك. وعلم الحديث علم غريب، فلا تغرك مئات الكتب والأجزاء التي تظهر الآن، كل هؤلاء الذين خرجوا فلان وفلان وفلان لا يمتون إلى علم الحديث إلا بصلة ضعيفة، علم الحديث لم يكن مجرد أن تقول: أخرجه فلان وفلان وفلان وما شابه ذلك، لا. علم الحديث هو علم النقد ومعرفة العلل. إذا عرف الشخص والطرق، وعرف كيف يميز الأحاديث المضطربة عن غيرها، واستطاع أن يرجِّح ترجيح العلماء، فهذا هو الذي نال شرف خدمة حديث الرسول صلى الله عليه وسلم. ويروي أيضاً هذا الحديث عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، كل هؤلاء طبقة واحدة أي: إسماعيل بن جعفر، ومالك، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، هؤلاء أربعة إلى الآن تابع كل منهما أصحابه في الرواية عن من؟ عن عبد الله بن دينار. هذه المتابعة ل عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون أخرجها الإمام أحمد في مسنده قال: حدثنا هاشم - هاشم هو ابن القاسم، كنيته أبو النضر - والإمام أحمد مرة يقول: حدثنا أبو النضر، ومرة يقول: حدثنا هاشم، وكلاهما واحد، وحجين بن المثنى، فكم عندنا؟ اثنان: هاشم بن القاسم وحجين بن المثنى. وأخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره من طريق يحيى بن حماد، يعني: ثلاثة، الثلاثة هؤلاء قالوا: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر. المتابعة الرابعة أو الخامسة: يرويها عبد العزيز بن مسلم القسملي، وهذه المتابعة أخرجها ابن حبان في صحيحه من طريق أبي عمر الضرير، وأخرجها ابن جرير الطبري من طريق عاصم بن علي قالا: -الذين هم أبو عمر الضرير وعاصم بن علي - قالا: حدثنا عبد العزيز بن مسلم القسملي، عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر. المتابعة السادسة: هي لـ موسى بن عبيدة الربذي، وهذا يُضعَّف

متابعة الرواة لمشايخ البخاري

متابعة الرواة لمشايخ البخاري ثم رواه مسلم رحمه الله قال: حدثنا علي بن حُجْر، ها هو مسلم والنسائي وابن خزيمة في حديث علي بن حُجْر ثلاثتهم قالوا: حدثنا علي بن حُجْر، عن إسماعيل بن جعفر بذات الإسناد، يعني عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، فسيكون الإمام مسلم والنسائي وابن خزيمة، كل واحد منهم تابع صاحبيه في الرواية عن علي بن حُجْر. حسناً! علي بن حُجْر تابع من؟ تابع قتيبة أنا واضع الطبقات مرتبة) علي بن حُجْر تابع قتيبة بن سعيد، فيكون علي بن حُجْر تابع قتيبة متابعة تامة، لماذا؟ لأن علي بن حُجْر وقتيبة رووا عن نفس الشيخ وأخذوا الإسناد فصاعداً إلى منتهاه. إذا رجعنا هكذا سنقول أن النسائي تابع البخاري متابعة ناقصة، لأنهم اختلفوا في الشيخ واتفقوا في شيخ الشيخ، أليس كذلك؟! إذاً النسائي تابع البخاري لكن اختلفا في الشيخ، النسائي يرويه عن علي بن حُجْر، والبخاري يرويه عن قتيبة، ثم اتفقا في شيخ الشيخ فصاعداً إلى الصحابي انتهينا، فهذه الأشياء تعتبر متابعات، لكن هناك متابعة تامة، ومتابعة ناقصة. نحن قلنا: إن هناك أربعة رووا هذا الحديث عن علي بن حُجْر. مسلم في صحيحه، والنسائي في كتاب التفسير من السنن الكبرى، وابن خزيمة في كتاب اسمه: حديث علي بن حُجْر عن إسماعيل بن جعفر، يعني: هذا الحديث في صحيح ابن خزيمة، وابن خزيمة ذكره في أكثر من كتاب. فهذا الحديث وقع في هذا الكتاب لـ ابن خزيمة، هؤلاء الثلاثة يروون الحديث عن علي بن حُجْر بالإسناد. ثم رواه مسلم رحمه الله، وابن حبان في صحيحه من طريق يحيى بن أيوب المقابري، قال: حدثنا إسماعيل بن جعفر وساق الإسناد بمثله سواء، إذاً يحيى بن أيوب تابع من؟ تابع علي بن حُجْر، وتابع قتيبة بن سعيد، إذاً صار هناك ثلاثة من الرواة يروون هذا الحديث عن إسماعيل بن جعفر، هذه كلها اسمها: متابعات تامة، والمعروف أن المتابعات التامة من أقوى أنواع المتابعات. المتابعة التامة: أن يتفق الراوي مع أخيه في الرواية عن نفس الشيخ بشرط أن يتفق الإسناد إلى منتهاه. لكن لو نفترض أن مسلماً يروي الحديث عن قتيبة، عن إسماعيل بن جعفر، عن نافع، عن ابن عمر. والبخاري روى عن قتيبة عن إسماعيل عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر. هنا اتفقوا في الشيخ وشيخه واختلفوا في الراوي عن ابن عمر، هذه اسمها: متابعة ناقصة، وتسمى مخالفة. نوضح المسألة أكثر. مسألة المتابعات والمخالفات هذه مسألة دقيقة، وهي روح علم الحديث، ولا يُعلم الطالب إذا كان فاهماً لها في علم الحديث أم لا إلا إذا علم وجوه الترجيح، ليس معنى ذلك أن يأتي إلى الحديث ويخرِّجه من مائة مصدر عن رواة كلهم من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة!! أي شخص يستطيع أن يفعل ذلك؛ لأن الفهارس سهلت المسألة، ولأن كل كتاب له فهارس، وكذلك كتب أطراف الحديث سهلت المسألة. فمهما خرَّج الطالب وقال لك: عن فلان وعِلان، فإنه لا يفهم شيئاً في علم الحديث، إلا إذا دخل في باب المعلل والشاذ واستطاع أن يفصل بينهما، واستطاع أن يميز الأسانيد من بعضها ويرجِّح كترجيح أهل الحديث. إذاً مسألة المتابعات والمخالفات مسألة مهمة، مثلاً هذا الحديث يرويه ابن عمر ويرويه عن ابن عمر، عبد الله بن دينار، وعنه إسماعيل بن جعفر. وسنزيد هنا مثلاً قتيبة وعلي بن حُجْر، أول إسناد عن قتيبة يروي الحديث عن إسماعيل بن جعفر، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، ونفترض أن علي بن حُجْر يروي الإسناد عن إسماعيل بن جعفر عن نافع عن ابن عمر. من الراوي المشترك؟ إسماعيل، ننظر فوق إسماعيل بن جعفر، كم شيوخه واحد أم اثنان؟ اثنان، الأول: عبد الله بن دينار، والثاني: نافع وهذان الاثنان يرويان عن ابن عمر، يعني: هذان الاثنان رجعا إلى واحد، بهذا نعرف أن هناك اختلافاً في الإسناد، هذا الاختلاف قادح أم غير قادح؟ ننزل تحت الراوي المشترك، ننظر من الذي رواه على هذا الوجه، ومن الذي رواه على هذا الوجه؟! إذاً الخطوة الأولى ننظر في هذا الراوي المشترك، إذا وجدنا شيوخه أكثر من شيخ؛ نعرف أن هناك اختلاف في الإسناد، الاختلاف هذا قد يكون قادحاً وقد يكون غير قادح. بمعنى: أن هناك اختلافَ تضادٍ، واختلافَ تنوعٍ، اختلاف التضاد هو الذي لا يحتمل إلا وجهاً واحداً، ولا ينفع فيه غير الترجيح، واختلاف التنوع يُحمل على الوجهين، وأن إسماعيل سمعه مرة من عبد الله بن دينار، وسمعه مرة من نافع، إنما اختلاف التضاد لا بد أن يكون واحداً أو اثنين، الأول صحيح والثاني ضعيف. اختلاف التضاد لا يصلح فيه إلا الترجيح، إنما اختلاف التنوع يحمل على الوجهين معاً، يعني: كلاهما صحيح. لكن نحن إذا أردنا أن نعرف هل هو اختلاف تضاد أو تنوع ماذا نفعل؟ ننظر من الذي روى الوجه الأول عن إسماعيل، ومن الذي روى الوجه الثاني عن إسماعيل، نظرنا فوجدنا أن قتيبة بن سعيد -وهو من هو ثقة وجلالة وحفظاً- هو الذي روى الوجه الأول عن إسماعيل، وأن علي بن حُجْر هو كـ قتيبة في الثقة والجلالة والحفظ، هو الذي روى الوجه الثاني عن إسماعيل، إذاً العلماء هنا ماذا يقولون؟ يقولون: صح الطريقان جميعاً. لأنك أنت عندما تروي الحديث عن راوٍ مهما تعددت طرقه وهو ثقة ثبت، فإن العلماء يقولون: لأن يُحْمل هذا على التنوع أولى لثقة الذين رووا الوجهين جميعاً، إذاً هذه تسمى: مخالفة، لكن مخالفة غير قادحة. وهذا في الصحيحين كثير، إذاً لا تقل: إنه حصل اختلاف، لا، الذي سيرجح لك المسألة ويحل لك الإشكال هم الرواة الذي رووا الوجهين عن الراوي المشترك، الذي هو إسماعيل بن جعفر، ننظر إلى قدر كل واحد منهما من حيث الضبط والإتقان والعدالة والحفظ. إذاً كل هذه اسمها ماذا؟ اسمها: متابعات تامة، فالحديث الذي نقوم بشرحه الآن يرويه الإمام البخاري عن قتيبة بن سعيد، عن إسماعيل بن جعفر، عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر، ومسلم وافقه في الرواية عن قتيبة، عن إسماعيل بن جعفر بهذا الإسناد، ثم رواه مسلم وابن خزيمة والنسائي والبغوي عن علي بن حُجْر عن إسماعيل بن جعفر بسنده سواء، ثم رواه مسلم وابن حبان عن يحيى بن أيوب المقابري قال: حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر، وساق الإسناد بمثله سواء، فهذه كلها اسمها ماذا؟ متابعات تامة، التي هي عن إسماعيل بن جعفر، إذا رجعنا للوراء فإننا قلنا: إن هناك متابعات تامة ومتابعات ناقصة.

متابعة أئمة الحديث للإمام البخاري

متابعة أئمة الحديث للإمام البخاري وهذا الحديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا إسماعيل بن جعفر وساق الإسناد كـ البخاري. فـ مسلم تابع البخاري، والمتابعة التامة: أن يتفق اثنان على الرواية عن شيخ واحد بالإسناد فصاعداً إلى الصحابي. هذه يسميها العلماء: المتابعة التامة، أي: أن البخاري هنا يروي الحديث عن قتيبة بن سعيد، وهو إمام ثقة كبير، قال: حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر. ومسلم روى هذا الحديث عن نفس الشيخ الذي هو قتيبة، فـ مسلم تابع البخاري على نفس الرواية، إذاً الاثنان يتفقان في الرواية عن نفس الشيخ بذات الإسناد فصاعداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرجه الإمام مسلم والنسائي في كتاب التفسير، وابن خزيمة من حديث علي بن حُجْر، والبغوي في كتاب: شرح السنة، من طريق أحمد بن علي الإسفراييني، قال أربعتهم: حدثنا علي بن حُجْر، قال: حدثنا إسماعيل بن جعفر، من هم الأربعة؟ هم مسلم والنسائي وابن خزيمة، ومن؟ البغوي؟ لو قلنا: نعم، لصارت غلطة؛ لأن هذا أبا الحسين البغوي متأخر، ألم أقل: والبغوي من طريق أحمد بن علي الإسفراييني. إذاً الأربعة هم مسلم، والنسائي، وابن خزيمة، وأحمد بن علي الإسفراييني، أليس كذلك؟ أنا قلت: البغوي من طريق أحمد بن علي الإسفراييني، قال هؤلاء الأربعة: حدثنا علي بن حُجْر، قال: حدثنا إسماعيل بن جعفر. أين المتابعة التامة والمتابعة الناقصة؟! البخاري رحمه الله يقول: حدثنا قتيبة، عن إسماعيل بن جعفر، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر. مسلم يقول: حدثنا قتيبة، فاتفق البخاري مع مسلم في رواية هذا الحديث عن نفس الشيخ بذات الإسناد فصاعداً إلى عبد الله بن عمر، فهكذا يكون مسلم تابَعَ البخاري، والبخاري تابَعَ مسلماً.

مكانة الإمام البخاري وكتابه الصحيح عند الأمة

مكانة الإمام البخاري وكتابه الصحيح عند الأمة ثم قال البخاري: باب طرح الإمام المسألة على أصحابه ليختبر ما عندهم من العلم، قال: حدثنا خالد بن مخلد الذي هو القطواني، تعرفون من روى حديث: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) ، والذهبي ذكر هذا الحديث في ترجمة خالد بن مخلد القطواني في كتاب: ميزان الاعتدال، وللذهبي كلام معروف في هذه المسألة، قال: حدثنا خالد بن مخلد -وهو من كبار شيوخ البخاري على لين في حفظه، لكن كما قلنا قبل ذلك: إن البخاري إذا أخرج عن راوٍ متكلّم فيه، فإنه إنما انتقى من حديثه ما لم ينكروه عليه، انتبه لهذه المسألة؛ لأنه قد يأتي شخص يقول لك مثلاً: إن هذا الراوي تكلموا فيه وهو في البخاري، وأنتم ترددون أن البخاري لا يروي إلا أصح الصحيح وما إلى ذلك، وأن رواة البخاري هم أوثق الرواة، كيف ترد عليه؟ الرواة الذين روى لهم البخاري وتكلم بعض أهل العلم فيهم، فإن البخاري ينتقي من أحاديثهم ما لم ينكر أهل العلم على هذا الراوي هذا الحديث، إذاً لا تتعرض للحديث الذي في صحيح البخاري، حتى وإن كان أحد رواته قد تكلم فيه أهل العلم، يعني: لا نعامل البخاري ك الطبراني لأن الطبراني في معاجمه يورد الأحاديث الغريبة دون انتقاء، أما البخاري فإن له انتقاء واختياراً، والاختيار هذا لا يُهدر أبداً؛ لأنه من أقوى المرجحات، فكلما كان الإمام أفهم وأعلم وأذكى وشهد له الكل فإن ترجيحه له قيمة، وهذا متفق عليه بين أهل الدنيا جميعاً في كل الصناعات، يعني: عندما يكون هناك طبيب متخصص في مرض معين، وممارس عمله خلال خمسين سنة، واختلف هو وممارس للطب مدة عام فقط، الذي خبرته خمسون سنة هل يتساوى مع هذا الذي خبرته سنة؟ لا، لا يستويان أبداً. والقاعدة الأغلبية تقول: إننا نرجح كلام الذي له خمسون سنة على الذي له سنة واحدة، وأقول القاعدة الأغلبية لماذا؟ لاحتمال أن يصيب هذا أحياناً، لكن الغالب لا يصيب إلا الممارس لمهنته لمدة طويلة، اتفق العلماء جميعاً على جلالة البخاري، وأنه ذو بصرٍ ثاقب، وهذا ليس فيه أدنى استرابة في أن البخاري في القمة. وهذا أبو محمد يحيى بن محمد بن صاعد -وهو من الأئمة الفحول في معرفة العلل- كان إذا ذكر البخاري يقول: ذاك الكبش النطاح! يعني: أنه لا يغلبه أحد إذا واجهه، والإمام مسلم رحمه الله في الحكاية المشهورة التي أوردها ابن حجر العسقلاني أكثر من مرة: لما سأل مسلم البخاري -ومسلم معروف أنه من تلاميذ البخاري، تتلمذ عليه خمس سنوات- عن حديث كفارة المجلس، البخاري قال: هذا حديث مليح وله علة، فارتعد مسلم وتغير وجهه، وقال: أخبرنيها، فلما أخبره الإمام البخاري بهذه العلة، قال له مسلم: دعني أقبل قدميك يا أستاذ الأستاذين، وطبيب الحديث في علله، أشهد أنه لا يبْغضك إلا حاسد. فعندما يكون الإمام بهذه الجلالة يكون ترجيحه واختياره له قيمة. الذين يتكلمون على البخاري لو وجدوا في زمانه لما صلحوا أن يصبوا على البخاري وضوءه، لماذا؟ لأنهم أقل من ذلك. البخاري كان يحضر مجلسه مائة ألف وليس في وجهه شعر، لم يكن نمت له لحية بعد، فصحيح البخاري ليس ملكاً للبخاري، لقد قُرئ مئات الألوف من المرات على مئات الألوف من العلماء عبر القرون، واتفق الكل على هذا الكتاب، ولم يعارضه معارض مع الحاجة إلى معارضة مثله، ونحن نخرج له عيوباً ونقول له: أنت مخطئ في هذه وفي هذه وفي هذه فعندما يقرأ الكتاب على مئات الآلاف عبر القرون، فالكتاب لم يعد ملك البخاري، إنما صار ملك الأمة جميعها، كأن عقول الأمة جميعاً نقحت كتاب البخاري، وكل عالم من هؤلاء العلماء نظر في كتاب البخاري، حتى قال ابن خزيمة -وابن خزيمة من طبقة البخاري وإن كان توفي بعده- قال: نظرت في هذه الكتب فلم أر أجود من كتاب محمد بن إسماعيل، الذي هو البخاري، وقال: ما تحت أديم السماء أعلم بالحديث من محمد بن إسماعيل، وحسبك هذه الشهادات! والأئمة كلهم كما قلت لكم: البخاري عندهم محل اتفاق، إذاً البخاري عندما يروي عن شيخ له، أو عن راوٍ في السند تكلم بعض أهل العلم فيه، فاعلم أن البخاري انتقى من حديث هذا المتكلم ما لم ينكره أهل العلم عليه.

طرح الأسئلة لكشف المواهب هدي نبوي

طرح الأسئلة لكشف المواهب هدي نبوي

سؤال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه لأبي ذر عن حق الله على العباد

سؤال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه لأبي ذر عن حق الله على العباد وكان صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يلقي مثل هذه الأسئلة، مثل الحديث المتفق عليه من حديث معاذ بن جبل، ومن حديث أنس بن مالك، فـ أنس يرويه مرة عن معاذ، ومرة يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم. (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يركب حماراً يقال له: عفير، وأردف معاذ بن جبل خلفه، ثم قال: يا معاذ! فقال: لبيك رسول الله وسعديك، فتركه، ثم سار ساعة، ثم قال: يا معاذ بن جبل! فقلت: لبيك يا رسول الله! وسعديك! فسار ساعة ولم يتكلم، ثم قال: يا معاذ! قلت: لبيك رسول الله وسعديك! قال: هل تدري ما حق الله على العباد؟ قلت: الله ورسوله أعلم) . وهذا السؤال لو سئل أي واحد منا لأجاب في الحال؛ لأن السؤال سهل: حق الله على العباد ماذا؟ أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، لكن الصحابة رضي الله عنهم ما كانوا ليتقدموا بالقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأنه صلى الله عليه وسلم قد يجيب بجواب أطول وأكمل وأفضل، فهو يتركه ليجيب، قال: (أتدري ما حق الله على العباد، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، ثم قال: يا معاذ بن جبل! قلت: لبيك رسول الله وسعديك، قال: أتدري ما حق العباد على الله إذا هم فعلوا ذلك؟ قال: الله ورسوله أعلم) . هذا نظير الحديث الذي سيأتينا أيضاً (أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أصحابه يوم النحر، قال: أي شهر هذا؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم) ، ما الذي جعلهم لا يتكلمون؟ في بعض الروايات قالوا: (فظننا أنه سيسميه بغير اسمه) ؛ لأنهم ظنوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يسأل عن حاجة بديهية، كونهم يعرفون أنهم في ذي الحجة، انظر: الفطنة والذكاء. ولأن السؤال خرج عن أصله، وهو لا يقصد الجواب المباشر، يعني أنا لو قلت لكم: أين نحن جالسون الآن؟ لو أساء رجل الظن وقال: لعل الأخ هذا غير منتبه أم ماذا؟ أو اختلط؟، طالما ونحن ندرس في علم الحديث، سيقول: ألسنا جالسين في المسجد؟!! ، هل هذا مما يتوه المرء فيه عندما أسأل أين نحن جالسون؟ وأنا أعرف أننا في المسجد، يجب أن تعلم أني أقصد بهذا السؤال شيئاً غير مباشر، لا أريد الإجابة المباشرة التي نعرفها جميعاً، هذا هو ما فهمه الصحابة. (أي شهر هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أليس ذا الحجة -لاحظ أنه لم يغير شيئاً- قالوا: بلى، قال: فأي بلد هذا؟ -كان بإمكانهم أن يقولوا: البلد الحرام؛ لأنه لم يغير شيئاً في الإجابة الأولى- قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أليس البلد الحرام؟ قالوا: بلى، قال: فأي يوم هذا؟ -أظن كان لهم أن يقولوا: يوم النحر؛ لأنها الإجابة الثالثة، أليس كذلك- قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أليس يوم النحر؟ قالوا: بلى -لاحظ الرسول صلى الله عليه وسلم ماذا سيقول الآن؟! - قال: فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا) الثلاث القضايا التي أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينبه عليها كانت مهدرة في الجاهلية. كما في قصة المغيرة بن شعبة مع نفر من بعض قبائل العرب قبل أن يسلم، فلما شربوا الخمر قام وذبحهم كلهم، وأخذ أموالهم، وفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلماً، فقال: (يا رسول الله! قد أسلمت، والمال هذا حكايته كذا وكذا، وذبحتهم وأخذت أموالهم وأتيت، وخذ المال، فقال عليه الصلاة والسلام: أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيءٍ) ، لأنه أُخذ غدراً. ومسألة قتل النفوس وقتل الرجال والنساء فإن العرب قبل الإسلام كانوا يفعلونه، فمسألة الدماء والأموال والأعراض كانت مسألة غير مستقرة عند العرب، ولم يكن لها قيمة، لكنهم كانوا يعظمون الشهر الحرام والبلد الحرام ويوم النحر، فالنبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يقرب لهم المعنى، ووجه لهم الأسئلة بالطريقة التي سمعتموها، يعني: إذا كنتم تعظمون المكان والشهر واليوم وتحرمونها فكذلك الدماء والأموال والأعراض، حرام عليكم كحرمة تلك الأشياء. فالنبي صلى الله عليه وسلم كان ما بين الفينة والفينة يختبر أصحابه، يقول لـ معاذ: (يا معاذ بن جبل أتدري ما حق العباد على الله إذا هم فعلوا ذلك؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: أن لا يعذبهم) .

سؤال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه عن الشجرة التي تشبه المؤمن

سؤال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه عن الشجرة التي تشبه المؤمن قال البخاري: حدثنا خالد بن مخلد، حدثنا سليمان وهو ابن بلال - قال: حدثنا عبد الله بن دينار -يعني: سليمان هذا متابع لـ إسماعيل بن جعفر، ومالك، وابن عيينة، والثوري، وعبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، وعبد العزيز بن مسلم القسملي، وموسى بن عبيدة الربذي - قال القطواني: حدثنا سليمان، عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من الشجر شجرةً لا يسقط ورقها وإنها مِثلُ المسلم، حدثوني ما هي؟ قال: فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبد الله: فوقع في نفسي أنها النخلة، ثم قالوا: حدِّثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: هي النخلة) . ابن عمر نظر إلى أسنان القوم فوجد الكبار أمثال: أبي بكر، وعمر، فحمله هذا الحياء على أن لا يتكلم، يستفاد من هذا أن على الشيخ أن يطرح المسألة على الطلبة بقصد استخراج الكفاءات والمواهب، كما قال عبد الله بن المعتز: كما أن الشمس لا يخفى ضوءها وإن كان دونها سحاب، فكذلك لا تخفى غريزة عقل الغلام وإن غلفت بالحداثة. حديث السن ممكن يكون ذكياً، ابن الأبار في معجم أصحاب أبي علي الصفدي يقول: ذات مرة كنا جالسين نستمع لمسند البزار، وكان هناك أب جاء بابنه، قال: لا أشك أنه دون خمس سنوات، فقرءوا حديثاً من مسند البزار، قال: (إن أحدهم ليشتهي اللحم فيخر الطير بين يديه مشوياً) في الدنيا قد ترغب في أكل اللحم، ولكن لا تقدر عليه، أما في الآخرة فإذا رغبت في أكل شيءٍ معين، فإنك تجده أمامك مشوياً على طبق. هذا الولد الصغير ابن أربع أو خمس سنوات، أول ما سمع الحديث: (إن أحدهم ليشتهي اللحم فيخر بين يديه مشوياً) ، قال الطفل: على طبق؟! انظر إلى هذا الطفل الذكي يقول: هل الديك هذا سينزل هكذا على الأرض، أم سينزل على رغيف خبز أو شيء، الجالسون اندهشوا من ذكاء الولد، قالوا: كيف علم أن اللحم يحتاج إلى خبز وهو ابن ثلاث أو أربع سنوات؟! ممكن تظهر نباهة الولد، فالشيخ والأستاذ والمربون يستغلون الصغار وتربيتهم تربية حسنة، وينمون فيهم الذكاء والفطنة، وذلك بالاستفادة من فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، وبسبب إهمال هذه المسألة ضاعت كثير من الكفاءات. ولكن ليس معنى أن هذا الصبي حين استخرج فائدة أن أكبره قبل أوانه، يقول بعض السلف: إذا تكلم الغلام مع الشيوخ فاغسل يديك منه. لقد كان سفيان بن عيينة الإمام الكبير قاعداً في الحلقة، فدخل شاب صغير لابساً عمامة ويحمل القرطاس، فمنظره لا بأس به، لكن العمامة كبيرة عليه قليلاً، نعم هو لابس عمامة، لكن نحن ما تعودنا أبداً نرى ولداً عمره خمس سنين لابساً عمامه، فمنظره كان ملفتاً، فالذين كانوا جالسين مع سفيان بن عيينة ضحكوا منه، فقرأ سفيان: {كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [النساء:94] ، ثم التفت إلى أحمد بن النضر -وهو الذي يحكي الحكاية- ثم قال: (يا ابن النضر لو رأيتني وطولي خمسة أشبار، أكمامي قصار، وثيابي صغار، ووجهي كالدينار، آتي علماء الأمصار، كـ الزهري وعمرو بن دينار، أجلس بينهم كالمسمار، محبرتي كالجوزة، مقلمتي كالموزة! فإذا دخلت قالوا: أوسعوا للشيخ الصغير) ، ممكن يكون صغير السن، لكن لا يصح أن طوله خمسة أشبار وتجعله يصعد على المنبر، وتقول له: اخطب لنا الجمعة، لا ينفع هذا الكلام، أنت هكذا حرقته، ولأنه لم يتعلم أدب الطلب، لابد أولاً أن يتعلم أدب الطلب، وبعد ذلك تعلمه العلم. المسألة ليست مسألة لسان منطلق، المسألة مسألة قدوة، أنت حين تأخذ العلم من الشيخ لا تأخذ كلاماً فقط، إنما تأخذ سمتاً، وعادة لا يكاد المرء يخضع لصغير السن، عبد الله بن المبارك كان يقول: عالِم الشباب محقور! يعني: لو أن الشيخ الألباني حفظه الله أتى وجلس مكاني هكذا، أنت ممكن ما تسمع ولا كلمة، وذلك بسبب كثرة كونك لأول مرة تنظر في وجهه وتتأمل فيه، وتلاحظ سمته وكلامه، وصدق لهجته وهو يتكلم، وبسبب المهابة التي عليه، فيشغلك مراقبة سمته عن متابعة لسانه، فإذاً العلم ليس مجرد لسان ينطلق، ولا شخص يتكلم، العلم سمت ولسان، فلا يرجى خير الصبي الصغير عندما يجلس في وسط الشيوخ ويتكلم، ولسانه طويل فهذا لا يصح. فالرسول عليه الصلاة والسلام كما قلنا: سن للشيوخ الذين يمشون على دربه، والذين ينصرون سنته، أن يختبروا طلابهم، طلاب العلم ما بين الفينة والفينة، بأن يلقي مسألة ما.

من الأقوال الشنيعة للمعتزلة في مسألة حق العباد على الله

من الأقوال الشنيعة للمعتزلة في مسألة حق العباد على الله مسألة حق العباد على الله لابد أن نبينها؛ لأن المعتزلة لهم كلامٌ قبيح في هذه المسألة، يقولون: يجب على الله أن يفعل الأصلح لعبده! لاحظ سخافة العبارة: (يجب على الله أن يفعل الأصلح لعبده) . ليس لأحد على الله حق أصلاً إلا بمقتضى الوعد. الله سبحانه وتعالى وعد من أطاعه أن يدخله الجنة، فصار حقاً له بوعد الله، إذ أنه لا يخلف الميعاد، بهذا فقط. مقتضى كلامهم إنما ليس للعباد حق على الله تبارك وتعالى ابتداءً، ولذلك يجب على الله أن يفعل الأصلح لعباده، هذه الكلمة هي التي أخرجت أبا الحسن الأشعري من مذهب المعتزلة، فمرةً كان يناقش أبا علي الجبائي وكان زوج أمه، فافترضوا مسألة الإخوة الثلاثة: أن هناك إخوة ثلاثة الأول: عاش وعمل الصالحات فأدخله الله الجنة في منزلة معينة، والثاني: مات صغيراً، فأدخله الله الجنة في منزلة تحت منزلة أخيه، والثالث: عاش وعمل بالمعاصي فأدخله الله النار، فالصغير يقول لربنا: يا رب! ارفعني إلى منزلة أخي، قال: إن أخاك عمل من الصالحات ما لم تعمل أنت فلَزِم أن يكون أعلى منك، قال: يا رب! أنت قبضتني صغيراً -ما ذنبي!! - ولو تركتني لآمنت وعملت الصالحات، وصرت بمنزلة أخي، فقال له: لو تركتك فكبرت لكفرت، فرحمتك وراعيت مصلحتك وقبضتك صغيراً، حينئذٍ صاح الذي في النار، وقال: يا رب! فلم تركتني كبرت؟ ولم لم تقبضني صغيراً؟ فإنه ليس من مصلحتي أن أدخل النار. فلما ألقى أبو الحسن الأشعري هذه المسألة على أبي علي الجبائي لم يستطع جواباً وانقطع، قال: وقف حمار الشيخ! وتركه وخرج إلى أبي محمد البربهاري، الذي كان إمام الحنابلة في بغداد في ذلك الوقت وكان له قصة عجيبة وهي: أن الخليفة في بغداد مرة كان جالساً في قصره فسمع رجة كالزلزال، ففزع وسأل عن ذلك، قالوا: لا شيء، إلا أن أبا محمد البربهاري عطس وأصحابه يقولون له: يرحمك الله، فيرحمك الله هذه خرجت كالرعد ففزع منها الخليفة، مما جعل الخليفة يقول: لا يساكنني في البلد، وأخرجه إلى خارجها. ف أبو محمد البربهاري كان ذا جلالة عظيمة في بغداد، وهو الذي كان يقف لـ أبي الحسن الأشعري عندما كان إمام الاعتزال فـ أبو الحسن لما رجع ودخل على أبي محمد البربهاري، وقال له: أنا تبت ورجعت إلى مذهب أبي عبد الله أحمد بن حنبل، فلم يقبل منه البربهاري مع كثرة ما فعل بأهل السنة، فخرج أبو الحسن الأشعري من عنده وصنف آخر كتبه، على ما يذكر أهل العلم وهو كتاب: الإبانة. فالمقصود أنه لا حق للعباد على الله إلا بمقتضى وعد الله إياهم، أنه من عمل الصالحات يدخل الجنة.

سؤال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بن كعب عن أعظم آية في القرآن

سؤال النبي صلى الله عليه وسلم لأُبي بن كعب عن أعظم آية في القرآن وكذلك أيضاً من جملة ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل أصحابه (أنه سأل أبي بن كعب عن أعظم آية في القرآن، حتى كرره عليه ثلاث مرات، فقال أبي: هي {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيده على صدره، وقال: ليهنك العلم أبا المنذر) ، يعني: هنيئاً لك العلم، إذاً من الفوائد التي يجنيها الطالب هو الثناء الكثير عليه، فأول فائدة نستفيدها من هذا الحديث هي: أن يتفقد الشيخ تلاميذه بأن يطرح عليهم المسألة، حتى يستخرج الكفاءات فيرعاها، ولا شك أن الطالب إذا تربى على عين شيخه أفضل من أن يترعرع في غيابه، قال ابن عباس رضي الله عنهما ل سعيد بن جبير: قم فتكلم، فقال: يا أبا العباس! أأتكلم بين يديك؟! قال: نعم تخطئ فأسددك. أتعرف ما هي محنة اليتيم؟ أنه لا يجد من يسدده كأبيه، ولا يرعاه كأبيه، ولا يحنو عليه كأبيه، ولا يخاف عليه كأبيه، والولد إذا تربى في كنف أبيه يكون رجلاً. لاحظ إبراهيم عليه السلام لما أخذ إسماعيل وقص عليه الرؤيا: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102] نستفيد من هذا أن الوالد عندما يطرح المسألة على ابنه يكبِّر عقله. أنت بطرح الأسئلة على ابنك تستطيع أن تعرف أن عقله ينمو أم لا، فمثلاً أحياناً الولد يقول لك: نريد أن نفتح دكان حلاوة، بدلاً من أن نشتري من عند الناس نأكل من دكاننا، بمعنى نأكل مجاناً، فكثير من الأولاد يقولون هكذا، فأنت عليك أن تتفقد عقل الولد وإلى أي مرحلة معينة وصل، لكن كثيراً من الآباء يترك ابنه هكذا، عقله يكبر، ينقص، ليس له علاقه بالمسألة هذه، هو يطعمه ويلبسه، يعامله معاملة البغل، ينمِّي جسمه ويربيه فقط، ويترك عقله بلا رعاية ولا اهتمام. اطرح عليه مسائل وقل له مثلاً: ما رأيك في يوم العيد أعطيك عشرة جنيهات، ماذا تعمل بها؟ يقول: أشتري بها بالونات وأفجرها، بعض الآباء عندما يسمع جواب ولده، فإنه يشتمه ويوبخه، وليس بعيداً أن يضربه ويشبهه بكذا وكذا، لا يا أخي! هو تفكيره وصل إلى هذا الحد، ولكن أنت بإمكانك أن تطرح له قضية، تقول له مثلاً: افترض أننا جالسان هنا، وشخص فتح الباب ومعه سكيناً ويريد أن يعمل فينا كذا وكذا، ماذا نعمل؟ ما بين الفينة والفينة تطرح عليه قضية، حتى تعرف إذا كان عقل ولدك يكبر أم أن عقله واقف كما هو، لو وجدت الولد ميوله عدوانية فهنا لا بد أن توجهه إلى الصواب، كثير من الآباء أو الأمهات يقول لهم الولد: ضربوني في المدرسة، فيكون ردهم له: وأنت أليس لديك يدان؟ الذي يضربك اضربه، يعلمون الولد الحقد، لا، هذا خطأ، فأنت لا بد أن تعلمه أن يكون مسالماً، قل له: اتق الله، فالمسألة هذه تَكْبُر معه. فالقصد أنه لا يرعى الولد أبداً بهذا الصبر إلا أبوه، لذلك كانت محنة اليتيم محنة كبيرة، وكان كافل اليتيم مع النبي صلى الله عليه وسلم هكذا، بعض الناس يظن أن كافل اليتيم هو أن يعطيه عشرة جنيهات أو عشرين جنيهاً وانتهى، لا، لا يكون كافلاً حتى يكون حفيظاً، لا بد أن يكون حفيظاً. فالقصد أن الإنسان إذا تربى على عين شيخه، أو على عين أبيه، فهذا فرق كبير بينه وبين الذي يتربى هكذا. فإذاً أول الفوائد مسألة الاختبار حتى نستخرج الكفاءات. وفي رواية مجاهد عن ابن عمر قال: (كنا جلوساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أُتي بجُمّارٍ فقال: من الشجر شجرة بركتها كالمسلم، قال: فأريت أنها النخلة) للجمّار. فلاحظ الذكاء! أول ما رأى الجمّار في يده وقال: (من الشجر شجرة بركتها كالمسلم) ، فربط ما بين الجمّار وبين النخلة، وفي هذا دلالة على أنه ينبغي للمُلْغِز أي: المختبر أن لا يعمي ويغلق الباب على الملغز له، يعني: لا تغلق عليه كل الأبواب، يلزم أن تفتح له باباً يفهم منه السؤال، القصد ليس التعجيز والاختبار، القصد أنك تدربه، فإن لم تفتح له باباً لا يستطيع أن يصل إلى الصواب، فينبغي أن يلتفت المرء إلى قرائن الأحوال حتى يعلق الحكم الصحيح على القرينة.

كيفية الحكم على الإنسان بالظاهر وأهمية القرائن في ذلك

كيفية الحكم على الإنسان بالظاهر وأهمية القرائن في ذلك أنا قلت في خطبة الجمعة كلاماً مجملاً، وهذه المناسبة لتفصيله، مسألة رعاية قرائن الأحوال حتى للحكم، قلت: إن الذين يتكلمون في السنة والصحابة غير معصومين، وفي قلوبهم غش، فمعروف أن أعمال القلوب لا يطلع عليها إلا الله، نحن كبشر لا يجوز لنا أن نقول: فلان في قلبه كذا، أو مخلص أو غير مخلص، أو غاش للمسلمين، أو في قلبه مرض، هذا لا يجوز، لكن يجوز لنا أن نحكم بهذا إذا رأينا من القرائن الظاهرة ما تدل على ما في القلب. حديث مالك بن الدخشن، أو الدخشن أو الدخشن كلها صحيحة، عندما قال عتبان بن مالك للنبي صلى الله عليه وسلم: (إنه قد ضعف بصري فتعال صل في بيتي حتى أتخذه مسجداً، فقال: سأفعل إن شاء الله، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه إلى بيت عتبان بن مالك، فدخل فلم يجلس، فقال: أين تحب أن أصلي من بيتك؟ قال: في هذا الموضع، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فالصحابة يكلموا بعضهم فقال قائل: أين مالك بن الدخشن؟ قال آخر مجيباً: ذاك منافق، ودَعَوا عليه، وقالوا: لو يدعو عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهلك، ونخلَص منه، ذاك منافق لا نرى وده إلا للمنافقين، ولا نصحه ولا وجهه إلا للمنافقين، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته فقال لهم: لا تقل له ذلك: ألا تراه قد قال: لا إله إلا الله يريد بذلك وجه الله؟ -انتبه لهذا الكلام- ألا تراه قد قال: لا إله إلا الله يريد بذلك وجه الله؟، قالوا: الله ورسوله أعلم، إنما نرى وجهه ونصيحته للمنافقين) ، من الذي قال: (يبتغي بها وجه الله) ؟ هل لامهم وأنكر عليهم وقال لهم: لماذا قلتم إنه منافق؟ لا. عذَرهم ولم يعنِّفهم، فدل ذلك على صحة نظرهم، وأن الرجل إذا كان وده للمنافقين، ويمشي دائماً مع المنافقين، وكذلك لو أن شخصاً يبيع الخمر في محل، وتجد شخصاً دائماً معه في المحل، ويقول له: إن المحل لا بد أن تعيد ترتيبه وتصليحه فأنا سأحضر لك أفضل أصحاب المِهَن، وسأحضر لك البضاعة بأرخص الأسعار، ويجلس يضحك معه، وطوال اليوم في المحل، أهذا الرجل جيد؟ ولا أحد منا سيقول: إن هذا الرجل مخلص أبداً. إذاً النبي صلى الله عليه وسلم وحده؛ لأنه رسول الله ويعلم بالوحي، ولذلك قال: (إنه يقول لا إله إلا الله يريد بذلك وجه الله) ، ولم يعنّف الصحابة؛ لأنهم علقوا الحكم على ما ظهر من حال مالك بن الدخشن، إن وده للمنافقين، ووجهه ونصيحته للمنافقين، ونحن لا نحكم إلا بالظاهر، فالذي ظهر لنا أنه مع المنافقين، لا يمكن أن يكون هناك شخص في قلبه إخلاص لله ورسوله، وهو يلقي بالود إلى أهل النفاق أبداً، إلا أن يكون جاهلاً إن هذا منافق. أما أن يعلم أنه منافق ويذهب يلقي له بالمودة والمساعدة والكلام ويصاحبه ليل نهار، فهذا لا يكون مخلصاً، ولا يكون محباً للمؤمنين. إذاً الذي حكم على ما في قلب مالك بن الدخشن هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه ما أنكر على الصحابة، لماذا؟ لأنهم علقوا الحكم على ما ظهر من الأمارة والقرينة. إذاً رعاية القرائن والأحوال من المسائل المهمة، ويجوز لنا أن نعلق الحكم على ما يظهر من القرينة، ومثل حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم في صحيحه، وأن أبا هريرة رضي الله عنه قال: (كنا قعوداً حول رسول الله صلى الله عليه وسلم معنا أبو بكر وعمر في نفر، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين أظهرنا، فأبطأ علينا وخشينا أن يقتطع دوننا، وفزعنا فقمنا، فكنت أول من فزع، فخرجت أبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتيت حائطاً للأنصار لبني النجار، فدرت به أجد له باباً فلم أجد، فإذا ربيع يدخل في جوف حائط من بئر خارجة -والربيع الجدول- فاحتفزت كما يحتفز الثعلب فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أبو هريرة! فقلت: نعم يا رسول الله! قال: ما شأنك؟ قلت: كنت بين أظهرنا فقمت فأبطأت علينا، فخشينا أن تقطع دوننا ففزعنا، فكنت أول من فزع، فأتيت هذا الحائط فاحتفزت كما يحتفز الثعلب، وهؤلاء الناس ورائي، فقال: يا أبا هريرة! وأعطاني نعليه، قال: اذهب بنعلي هاتين فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة، فكان أول من لقيت عمر فقال: ما هاتان النعلان يا أبا هريرة؟ فقلت: هاتان نعلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني بهما من لقيت يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه بشرته بالجنة، فضرب عمر بيده بين ثديي فخررت لأستي، فقال: ارجع يا أبا هريرة، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجهشت بكاءً، وركبني عمر فإذا هو على أثرى، فقال لي رسول الله عليه وسلم: ما لك يا أبا هريرة؟ قلت: لقيت عمر فأخبرته بالذي بعثتني به، فضرب بين ثديي ضربة خررت لأستي، قال: ارجع، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عمر! ما حملك على ما فعلت؟ قال: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي، أبعثت أبا هريرة بنعليك من لقي يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه بشره بالجنة؟ قال: نعم، قال: فلا تفعل، فإني أخشى أن يتكل الناس عليها فخلهم يعملون، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فخلهم) . أبو عوانة صاحب: المستدرك على صحيح مسلم، يرى أن هذه خاصة بـ عمر بن الخطاب، لأن أبا هريرة لم يلق إلا عمر، إذاً كأن هذه بشارة أن عمر قلبه مستيقن بالإيمان، فهذه قرينة، إذاً القرينة أنه لم يلق إلا عمر فعلق الحكم عليه. وكذلك ما رواه أبو داود (أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه خرج، فكان هناك جماعة جلوس على الباب فقاموا، فقال لهم: اجلسوا فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من سره أن يتمثل الرجال له قياماً فليتبوأ مقعده من النار) ، فكلمة: سرّه، أليس السرور أمر قلبي؟ فكيف نحكم إذاً على سرّه أو ضرّه؟ ننظر لقرائن الأحوال، مثل أن يدخل الفصل أستاذ، فإذا بالطلاب قيام، وإذا بقي طالب لم يقم، وقال له: تعال يا قليل الأدب! وهات ولي أمرك، وأعطاه لفت نظر، وما إلى ذلك، أهذا غضِبَ أم لا؟ أهذا يسره أن يتمثل الرجال له قياماً أم لا؟ فهو لما غضِب أن طالباً لم يقم له ساغ لنا أن نعلق الحكم بهذه القرينة أن قلبه يُسر بذلك، لا يعني أننا مطلعون على أعمال القلوب، لا، لا نحكم على ما في القلب، ولكن نلاحظ قرائن الأحوال ويسوغ لنا أن نعلق الحكم بالقرينة. لا يأتي شخص ويقول: إن أبا هريرة كان يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا أطعمته -كما يقول الشيعة- يكذب لك، والمسألة هذه أظهرها محمود أبو رية، والطيب صالح أبو بكر، وأحمد صبحي منصور، وهؤلاء هم الطابور الخامس، هذا الذي ابتلي المسلمون به، يقول لك: إن أبا هريرة هذا كان رجلاً مزاحاً، وغير ذلك من الافتراءات، هل يقول هذا رجل في قلبه حب للصحابة؟! أنا أذكر لك كلام الإمام مالك رحمه الله لما بلغه أن جماعة يطعنون في الصحابة قال: هؤلاء قصدوا أن يطعنوا في رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنهم لم يجرءوا على ذلك، فطعنوا في أصحابه، حتى يقول الناس: هو رجل سوء، لأنه لو كان رجلاً خيراً لقيّض الله له رجال خير. إذاً كأن الذي يتكلم في الصحابة أراد رسول الله لكن لا يستطيع أن يقول الذي في قلبه، الذي يتضور غيظاً على الصحابة كالرجل الذي كتب: الصحابة في مجتمع يثرب، ويتكلم عن الصحابة والجنس وغير ذلك من الكلام التافه، وأن حياة الصحابة كانت كلها نساء!! كل أحاديثهم: هل تزوجت فلانة؟! ما رأيت فلانة أو عِلاّنة؟! وأن حياتهم كلها كانت جنابة! حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم اضطر -لاحظ الكلام- أن يسمح لهم أن يمروا في المسجد جنباً، لماذا؟ لأنهم جُنب باستمرار، فتخيل هذا الشخص المأفون عندما يقول هذا الكلام على الجيل الذي مُكِّن له بإذن الله، وصنع دولة في عشر سنوات فقط، عشر سنوات فقط!! لا نعلمها لأي جيل من لدن آدم عليه السلام حتى الآن، هل علمتم جيلاً في عشر سنوات كَوَّن دولة، وصاروا يرعبون فارس والروم؟! هذا هو جيل الصحابة، فتخيل عندما يأتي شخص ويتكلم بهذا الأسلوب عن الصحابة، معنى ذلك أن هذا الرجل في قلبه غِلٌ، كيف نعرف أن في قلبه غلاً؟ هل فتحنا قلبه وعرفناه؟ لا، نظرنا إلى كلامه: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:30] يتغامزون بالمؤمنين ويستهزئون بهم، فهذه قرينة يسوغ لنا أن نعلق الحكم عليها، وأن نحكم على ما في صدر هؤلاء المستهزئين. فلما جيء لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالجمّار، ف ابن عمر فهمها وظن أنها النخلة، وبهذا تتم هذه الفائدة، وهي أنه ينبغي على الطالب أن يراعي القرائن، يعني مثلاً: إذا دخل فوجد وجه شيخه متهيِّجاً على غير العادة، فلا يتصرف وكأن شيخه مبتهج ومسرور، ويظل يسأله فيُضجِّره، لا. لم تجر عادته أن يتغير وجهه، ولا أن يستقبلك إلا بالبشر فتغيرت عادته يوماً ما، فينبغي أن يلاحظوا مثل هذه القرائن حتى لا يقعون في هذا. لاحظ حديث بريدة بن الحصيب في صحيح مسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم الفتح الصلوات بوضوء واحد، فقال له عمر بن الخطاب: يا رسول الله! فعلت شيئاً ما كنت تفعله قبل ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: عمداً فعلته يا عمر) فلما خالف النبي صلى الله عليه وسلم جاري عادته، لفت ذلك نظر عمر بن الخطاب، فسأله، فلربما كان هن

شرح صحيح البخاري [9]

شرح صحيح البخاري [9] كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعاهد أصحابه بالأسئلة، ليختبر ما عندهم من العلم، فيثني على المصيب، ويصوب المخطئ، وهذا الأسلوب النبوي الراقي ما هو إلا لون من ألوان التعليم والتهذيب، ولقد استفاد الصحابة الكرام من هذا الأسلوب النبوي، وسارع كل واحد منهم إلى إبراز كفاءته أمام النبي صلى الله عليه وسلم، لعله يحظى بدعوة من النبي صلى الله عليه وسلم، تكون سبباً في نجاته في الدنيا والآخرة، إذاً على العلماء والقادة والآباء أن يقتدوا بالنبي صلى الله عليه وسلم في استعمال مثل هذه الأساليب في تربية من يحكمونهم، ويتعاهدونهم.

اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه وتعاهده إياهم

اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه وتعاهده إياهم إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد. قال البخاري رحمه الله: (باب طرح الإمام المسألة على أصحابه ليختبر ما عندهم من العلم) حدثنا خالد بن مخلد، حدثنا سليمان، حدثنا عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من الشجر شجرةً لا يسقط ورقها، وإنها مَثَلُ المسلم، حدثوني ما هي؟ قال: فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبد الله: فوقع في نفسي أنها النخلة، ثم قالوا: حدِّثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: هي النخلة) . وسليمان في هذا الحديث هو سليمان بن بلال. قال الإمام البخاري: (باب طرح الإمام المسألة على أصحابه ليختبر ما عندهم من العلم) . يستفاد من هذا الحديث أن هذا لونٌ من ألوان التعليم والتهذيب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يُعنى بتربية أصحابه تربية علمية أدبية، وكما أشرت إلى هذا المعنى قبل ذلك: أن التربية الأدبية في غاية الأهمية، إذ لا يحصل العلم إلا بأدب. والآن تجد أن التربية الكمِّية غطت على التربية النوعية. هذا الكم الكبير الهائل الذي يتبع هذه الصحوة المباركة، مع الأسف لا يصحبه كبير أدب، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يتعلمون الأدب من النظر إلى سمت النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عليه الصلاة والسلام يتعاهدهم في ذلك، وكان يترك لهم الفرصة أن يناظر بعضهم بعضاً أمامه، ثم هو يصوِّب أو يسكت، فسكوته دالٌ على استقامة الأمر على الجهتين، أو إذا أخطأ أحدهم كان يعقِّب عليه. فمثلاً في حديث أبي هريرة الذي رواه الشيخان وابن حبان وغيرهم، قال صلى الله عليه وسلم: (تسلف رجلٌ من رجلٍ ألف دينار، فقال: ائتني بكفيلٍ قال: كفى بالله كفيلاً، فقال: ائتني بشهيد. قال: كفى بالله شهيداً، قال: صدقت، فأعطاه الألف دينار، يتاجر بها في البحر على أجل -يعني مدة زمنية-، فلما حان موعد الوفاء، وجاء الرجل المدين بالألف دينار حتى يؤديها إلى صاحبه، وكان بينهما بحراً، فحيل بينهما، ثم إن الرجل وضع الألف دينارٍ في خشبة وقذف بها في البحر، وذلك لما عجز أن يصل إلى صاحبه، وقال: ربّ جعلتك كفيلاً ووكيلاً فأوصل هذا الدَّين إلى صاحبه، ورمى بالخشبة في البحر، وصاحبه على الشاطئ الآخر ينتظر أي مركب، فلما لم يجد ووجد خشبةً تتأرجح أمامه في البحر قال: آخذها استدفئ بها أنا وعيالي، فأخذها وانطلق إلى داره، فلما وصل إلى الدار ضربها بقدومٍ، فإذا بالصرة تنزل من الخشبة، ففتحها فإذا برسالة من المدين إلى صاحبه: إنني عجزت عن الوصول إليك. وبعد ذلك انتظر الرجل مركباً حتى وجدها، فركب وذهب إلى صاحبه بألف دينارٍ أخرى، فقال: ما منعني أن آتي إليك في الموعد إلا أنني لم أجد مركباً، وهذا أول مركبٍ أجده، قال: هل أرسلت إلي شيئاً، قال: أقول لك هذا أول مركب، فقال: ارجع راشداً فقد أدى الله عنك -وفي رواية ابن حبان - قال: فقد أدى عنك وكيلك) . الشاهد من الحديث قال أبو هريرة: (قد رأيتنا تتعالى أصواتنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أيهما آمن من صاحبه) ، هم يتناظرون فيما بينهم من أكثر إيماناً من الآخر؟ هل هو الذي رمى بالألف دينارٍ في البحر، وهي ليست وسيلة معهودة لإيصال المال، لاسيما في بحر أمواجه كالجبال، رمى خشبة في بحرٍ لجي، يعني: كان معهوداً بالأمواج أن تبتلع هذه الخشبة، لكن قوة قلبه ويقينه جعلته يرمي بالألف دينار في البحر فهل هو أقوى إيماناً أم صاحبه الذي أعطاه الألف دينار بلا مستند لمجرد أنه قال: كفى بالله وكيلا، كفى بالله شهيداً، فعظّم أمر الله عز وجل، وعظم اسمه، وأعطى الألف دينار بلا مستند، وقال له: صدقت. أيهما آمن؟ أهذا الذي أعطى بلا مستند، لمجرد أنه قال: كفى بالله كفيلا، أم الذي رمى بالألف دينارٍ في البحر؟ لم أقف في طريق من طرق الحديث على تصوير النبي صلى الله عليه وسلم أيهما آمن من صاحبه: هذا أو ذاك؟ لكن الشاهد أن الصحابة كانوا يتناظرون في وجود النبي عليه الصلاة والسلام، وكان هو يصوّب، كمثل حديث: (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة) . فجماعة قالوا: لا، لا بد أن نصلي الصلاة على وقتها، وقال الآخرون: لا نصلي العصر إلا في بني قريظة، فلما رجعوا، وقصوا ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، تبسم ولم يخطّئ أو لم يعاتب أحداً من الفريقين جميعاً، فدل ذلك على أن كلا الفريقين مأجور -يعني: يدور ما بين أجرين، وما بين أجرٍ واحد- فالرسول عليه الصلاة والسلام إنما طرح المسألة كما ذكرنا في الدرس الماضي؛ ليختبر ما عندهم من العلم. لماذا؟ لأنه قد يكتشف موهبة، كما يقول عبد الله بن المعتز: كما أن الشمس لا يخفى ضوءها، وإن كان تحتها سحاب، كذلك الصبي لا تخفى غريزة عقله وإن كانت مغمورةً بأطمار الحداثة. يعني هو حدث وصغير، لكنه قد يكون ذكياً عاقلاً

الحياء من الإيمان

الحياء من الإيمان في الحديث السابق عبد الله بن عمر رضي الله عنهما برغم صغر سنة، يقول: كنت عاشر عشرة فيهم أبو بكر وعمر. فلما سأل النبي صلى الله عليه وسلم السؤال؛ قال: فنظرت فإذا أنا أصغر القوم. أي: هاب أن يتكلم وفي القوم أبو بكر وعمر، وهذا الحياء أصله محمود، وأصل الحياء محمود: لأن الحياء غريزة تمنع صاحبها من مقارفة القبائح، وفي الصحيحين من حديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يعاتب أخاه في الحياء حتى كأنه قال له: إنه أضر بك. لماذا؟ من شدة حيائه. يمنعه ذلك أن يستوفي حقه من الناس، وبعض الناس عنده جرأة، يقول: يا أخي! المبلغ الذي علي لك دعه لي، أنت تملك مالاً كثيراً فدع لي المبلغ هذا، اعتبره هدية، فيُحرِجه، فيسكت ولا يستطيع أن يتكلم، فمن كثرة الناس الذين يتعاملون بهذه الطريقة ضاعت الحقوق، وبعض الناس يقول لك: قال صلى الله عليه وسلم: (ما أخذ بوجه الحياء فهو حرام) ، والحرام أن يروي هذا الحديث؛ لأنه كذب ولا يصح عن النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا الرجل من كثرة حيائه ضاعت حقوقه، فصاحبه يعاتبه، يقول له: لا تستحي؛ لأنه أضر بك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (دعه فإن الحياء من الإيمان) ، أي: دعه على هذا الخلق الحسن المحمود؛ فإن الحياء من الإيمان، لماذا من الإيمان؟ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (الإيمان بضع وسبعون شعبة) ، -وفي رواية البخاري -: (بضع وستون) ، وبضعٌ وسبعون أقوى وأصح، بضع وسبعون شبعة، أعلاها: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) ، أي ما بين أعلى وأدنى، فنص على الحياء للدلالة على أهميته وخطورته، وإنما اختصّه بالذكر دون سائر الشعب لأهميته البالغة. والإنسان إذا استحيا حتى ضاع حقه من كثرة الحياء؛ لا يمكن أن يقارف حدود الله أبداً، إذا وصل حياءه إلى هذا الحد، الذي يضر به، ويمنعه من استيفاء حقوقه، فهذا لا يجرؤ على مقارفة ما حرم الله سبحانه وتعالى فاتركه. وأنا أعرف شخصاً كان شديد الحياء، وكان رجلاً عنده أرض كثيرة، وكان يزرع قطناً، فوجد شخصاً يسرق القطن، ويجمعه في كيس، وصاحب القطن هذا كان يمشي في مصرف في الأرض، والآخر ما زال يسرق من أرضه، فلما رآه، جلس في المصرف حتى ينتهي السارق من تعبئة الكيس ويذهب، يعني: أنه استحيا منه بالرغم أنه سارق، لماذا؟ لا يريد أن يوقعه في الحرج. هذه فضيلة، الرجل سُرِق القطن من أرضه ومع ذلك استحيا، لكن هذه فضيلة برغم ضياع هذا القطن. كلما تدرب شخصاً على أنه يكون قليل الحياء، شيئاً فشيئاً فشيئاً يعتدى على حقوق الناس، ويكون بلا حياء مثل الذي يقول: المال الذي عندي لك اجعله لي هدية. فلا يزال يقل حياؤه حتى يتجرأ على حدود الله. أما صاحب الحياء فاتركه؛ لأنه في هذه الحالة سيكون بينه وبين حدود الله عز وجل مسافةٌ طويلة، فأصل الحياء محمود. وجاء في حديث أبي سعيد في الصحيحين: (كان النبي أشد حياءً من العذراء في خدرها) ، وما قال قط: لا. أبداً، يعني في حياته المباركة هذه ما قال: لا. أبداً، لأي واحد يطلب منه أي طلب، حتى إنه ذات مرة أعطى رجل النبي صلى الله عليه وسلم بُردة، فآخر أول ما رأى البردة قال: أعطنيها يا رسول الله؟! فأعطاها إياه فلاموه، قالوا: أنت تعلم أنه لا يقول: لا، أبداً، وأنت تعلم حاجته إليها، فكيف طابت نفسك أن تأخذ منه ما هو محتاج إليه، وأنت تعلم أنه لا يقول: لا؟ فقال: والله ما رغبت فيها لألبسها، ولكن أردت أن أُكفَّن فيها. فهذا أيضاً يلتقي مع حديث ابن عمر الذي يُعَاتب فيه صاحبه فيقول له: إنه أضر بك الحياء. كذلك النبي صلى الله عليه وسلم كان محتاجاً إلى البردة، ومع ذلك لما قال: أعطنيها يا رسول الله: فأعطاها إياه. إذاً: الحياء أصله محمود؛ لكن هناك نوعٌ من الحياء لا يُحمد، وهو: الحياء في العلم وفي الفقه؛ بحيث يفوت عليك الحكم الشرعي، فأنت عندما تسأل إنما تسأل عن مراد الله تعالى، وكلما فعلت مراد الله فعلت محبوباً إلى الله سبحانه وتعالى، وكلما استحييت ضيعت على نفسك أن تتقرب إلى ربك، فالذنب إنما هو بسبب تفويت محبوب الله تبارك وتعالى؛ فهذا النوع من الحياء لا يُحمد، ولذلك صح عن مجاهد بن جبر رحمه الله، أنه قال: لا يتعلم اثنان، مستحيٍ ومتكبر. فالمستحيي لا يريد أن يظهر بين إخوانه أنه قليل الفهم، يقال لهم وهو معهم هل أنتم فاهمين؟ فيقولون: فاهمون جداً، وتراه يهز رأسه للدلالة على أنه فاهم ومنشرح مع أنه قد يكون غير فاهم، فهذا ضيع على نفسه فرصة الفهم، لماذا؟ بسبب الحياء، والمستكبر أيضاً لا يتعلم، يقول لك: ابن من هذا الذي يريد أن آتي إليه؟ أنا ابن فلان، وأبي فلان، وعندي المال الفلاني، وعندي العمارة الفلانية، وجد جدي كان المفتي، فيزدري أهل العلم. وكم في الزوايا خبايا! وكم في الناس بقايا! كم من ضعيف متضعِّف أعزه الله بالعلم! فأنت لا تعرف أقدار الناس، فسبحان من لا يعلم أقدار خلقه إلا هو!!

حرمة احتقار الناس

حرمة احتقار الناس الشافعي رحمه الله لما دخل بغداد، دخل الرصافة -مدينة في العراق- وكان الشافعي في العراق مشهوراً قبل أن يأتي إلى مصر، فعندما دخل الرصافة هذه فلم يُفطن إليه، والإمام الشافعي لم يكن من الذين يعتنون بهيئته ولبسه، بينما كان الإمام مالك صاحب هِندام، والشافعي لم يكن كذلك. المهم: أن الشافعي دخل المسجد وكان غريباً، فما دعاه أحد، والكل يصلي ويخرج، وتركوه، فأنشد بيتين من الشعر يعزي نفسه بها فقال: علي ثيابٌ لو يباع جميعها بفلس لكان الفلس منهن أكثرا وفيهن نفسٌ لو يقاس ببعضها نفوس الورى كانت أجل وأكبرا فأنت لا تنظر إلى هذه الأطمار البالية، فقد يكون بداخل هذه الأطمار نفس نفيسة وثمينة وغالية، فإياك أن تزدري أحداً بنظرك، وتخترقه هكذا بنظرك فتتصور أنه لا يعرف شيئاً! لا، قد يكون هذا من الصنف الذي لو أقسم على الله لأبرّه، فلا يمنعنك الكبر والحياء أن تستفيد من كل إنسان. أقص عليكم تجربة حدثت لي. كنت حين لا يكون عندي خطبة جمعة، وأذهب أبحث عن أي مسجد أصلي فيه، وأصلي، ولكن كنت أصلي بنفس ناقد، فأدخل لكي أسمع بأُذُن ناقد لا بأُذُن مستفيد، فأقول: لا يعجبني هذا الرجل، الخطبة لم تعجبني اليوم، إنه لا يعرف أن يتكلم، فكان هناك رجل خطيب في كل مرة يقابلني يقص لي الخطبة التي خطبها، وقد أكون مستعجلاً وهو يوقفني لأسمعه، ويمنعني الحياء أن أقول له: إنني مشغول، فكنت أقف متبرماً منه، وحين أراه أعرف أنني لن أعود اليوم، لماذا؟ سيسرد لي الخطبة التي فاتت، وممكن يقول لي: فهرس الخطبة القادمة كذا وكذا، فالمهم كنت أذهب إلى المساجد، ومساجد متنوعة، وكنت كلما ذهبت إلى مسجد أجد ذلك الرجل أمامي فيراني فأعرف أني لن أستطيع أن أفلت منه، فقلت لنفسي في ذات يوم: لماذا لا أقف واستفيد منه؟ لماذا أنا متململ دائماً ولا أريد أن أسمع؟ وفي يوم من الأيام قابلني في المسجد، فقلت في نفسي: سأقف وأستفيد وأَسمع. والله إن الكلام المختصر الذي قاله كتبت منه حوالي أربع خطب، فقد فتّح لي أبواباً من العلم.

مواصفات جيل التمكين

مواصفات جيل التمكين إذا كنا نبحث عن التمكين، فلابد أن نبني جيلاً بعمل بالإسلام ويطبقه في الواقع، ولابد له من مواصفات، لكن ماهي مواصفات جيل التمكين؟

من أجل جيل يسعى إلى التمكين

من أجل جيل يسعى إلى التمكين إن جيل التمكين يدور على ثلاثة أركان: الأب، والأم، والولد. وسنذكر مواصفات الأب الذي يمكن أن ينشئ ولداً محترماً، والأم التي تنجب ولداً محترماً، والولد المحترم هذا له مواصفات. فمن ضمن الأمور التي أتكلم عنها: استشارة إبراهيم عليه السلام لولده، فهذا خلق من الأخلاق التي ينبغي أن يربي الأبُ ابنه عليها، وهو أن يستشيره وهو صغير، (يعامله معاملة الكبار) ، لا أنه مجرد أن يأتي ليتكلم يقول له: اسكت أنت صغير ولا تفهم شيئاً، بهذا يظل ابنك لا يفهم شيئاً حتى ينهي الجامعة، وما زال لا يفهم شيئاً، فيكون الولد هذا ليس لديه ثقة في نفسه، لأنه لا يعرف من أبيه إلا أنه لا يفهم شيئاً، فهو قد يحصل له أزمة وانتكاسة في أنه فعلاً لا يفهم شيئاً. يا أخي! اجعل منه كبيراً، هذا ابنك، إذا أصاب لا بد أنك تشيد به وتقول له: أحسنت يا ولدي لقد أصبت، وإذا أخطأ تقول له: أنت لو كنت عملت هكذا لما أخطأت، إذاً: لا بد أن تربي ابنك. فهذا إبراهيم عليه السلام، يقول لابنه إسماعيل عليه السلام: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102] ، ما رأيك في هذا الموضوع؟ يأخذ رأيه في الموضوع مع أن المسألة لا تقدم ولا تؤخر، لأنه سيذبحه، فكانت إجابة إسماعيل عليه السلام عالية جداً {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات:102] ، كلمة: تؤمر، تدل على أن إبراهيم له آمر. يعني: المسألة لم تأت من تلقاء نفسه، لأن هذا ابنه الوحيد فبعد ما بلغ معه السعي -يعني: الكسب والمشي- كان إسماعيل عليه السلام صغيراً، ومعلوم أن الولد في هذا السن يشفق عليه والده جداً، وإذا كان الأب يحب ابنه، فأحسن سن يحب فيها الأب ابنه حين يبدأ الولد يكلمه ويتعلق به. وهذا مذكور في قصة إبراهيم عليه السلام في قوله تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ} [الصافات:103-105] ، لاحظ ما قال له: (صدّقت) إلا بعدما شرع في الأسباب، {أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} ، وأحضر السكينة وبدأ يذبح. أي: باشر العمل فيكون التصديق عملاً، وهذه فتحت ذهني إلى دليل في الرد على المرجئة، الذين يقولون: إن الإيمان قولٌ بلا عمل، وأن الإيمان هو التصديق، فنحن نقول: إن التصديق لا بد أن يكون معه عمل، لأنه قال له: {قَدْ صَدَّقْتَ} [الصافات:105] هو آمن أولاً ثم بدأ يتخذ الأسباب: (تله للجبين، وأحضر السكين، وبدأ يذبح) فهذا عمل بعد الإيمان، وتسليمه لله فيما قضى ولو كان مراً عليه هذا عمل، وقد سبقه إيمان. إذاً: هذا هو التصديق. فبدأت أستفيد منه، وكلما دخلت أصلي الجمعة وأسمعه يخطب، فلا أجعل سماعي له نقداً، بل للاستفادة. لذلك الشيخ حين يسمح للتلاميذ بالمناظرة أمامه؛ يعرف من هو أقوى ومن هو أقوم، ومن الذي استطاع أن يناظر مناظرة صحيحة بأن يؤصل بحيث يأتي بالقاعدة، ثم يأتي بالفرع للقاعدة، وكثير من الناس يبدأ بالفرع، ولذلك لا يستطيعون أن يصلوا إلى القاعدة، وقديماً حين كانت جماعة التكفير في أول مدها، عندما كنا نتناظر معهم يكون أول سؤال نبدأ به في المناظرة: ما رأيك في الحكام؟ مع أن مسألة الحكام فرع، وكان الأولى أن نبدأ بالأصل: ما هو الكفر وما هو الإيمان وما هو الإسلام؟ لأن هذا هو الأصل الذي سنرد إليه الفرع، ونحن أصلاً مختلفون في الفرع، فإذا اختلفنا فإلى أي أصلٍ سنرد هذا الفرع؟ فلا بد من وضع أصلٍ ابتداءً، وإذا اختلفنا في الأصول، فكل واحد يبقى كما هو؛ لأننا لن نلتقي في فرع أبداً، إذا اختلفنا في الأصل فغير ممكن أن نلتقي في فرع. فنحن عندما نتناظر يجب أن نعمل بالكتاب والسنة بفهم السلف الصالح، هو يقول: نعم نعمل بالكتاب والسنة، ثم لا يكون فهمه للكتاب والسنة موافقاً للسلف، يقول: كيف تلزموننا بفهم السلف الصالح، وأبو حنيفة يقول: كيف أسلم لأقوام لو كنت بينهم لناظرتهم ولعارضتهم؟! فنحن رجال، وهم رجال. وإذا اختلفنا في هذا الضابط الثالث، فكل واحد يرجع من حيث أتى؛ لأن كثيراً من النصوص لا نفهمها إلا بفهم السلف الصالح، وتواترهم على هذا الفهم. ولا يستقيم الظل والعود أعوج، فالعود هو الأصل، والظل فرعٌ عن هذا الأصل. إذاً: من الأشياء الذي ينبغي أن يعتني بها الشيخ: مسألة النظر إلى التلاميذ، ولأنه قد يرى تلميذاً عنده حياء، وهذا الحياء لا يبلغه، فيقوم ويجرِّئُه في باب المناظرة، ويعرفه أن هذا النوع من الحياء ليس بمحمود، فإن الحياء الذي يجعلك لا تعرف مراد الله تبارك وتعالى ليس بمحمود.

الحياء وطلب العلم

الحياء وطلب العلم يقول البخاري رحمه الله في الصحيح: (باب ما لا يستحيا منه في الفقه في الدين) ، وذكر حديث أم سليم، لما قالت: (يا رسول الله! هل على المرأة من غسل إن هي احتلمت؟ قال:: (نعم إذا رأت الماء) ، وفي رواية أخرى: قالت عائشة: (فضحت النساء يا أم سليم، أوتحتلم المرأة؟) ، وقد أخذ بعض العلماء من هذا أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن لا يحتلمن؛ لأنهن تحت النبي عليه الصلاة والسلام، والاحتلام من الشيطان، قالوا: إنها عندما قالت: (أوتحتلم المرأة؟) دلالة على أنها لا تحتلم، ولا تعرف الاحتلام، وإلا لما أنكرت عليها ولما قالت لها: (فضحت النساء يا أم سليم) ، فقالت أم سليم: (حتى أعلم أفي حلال أنا أم في حرام) . والمرأة التي جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تسأله عن غسلها من المحيض، قال: (خذي فرصة ممسكةً فتطهري بها) ، (الفرصة الممسكة) : قطعة من القطن فيها مسك، فقالت: المرأة: كيف أتطهر بها يا رسول الله؟ فقال: (سبحان الله! تطهري بها) ، تقول له: كيف أتطهر بها يا رسول الله؟! ففطنت عائشة رضي الله عنها للمسألة، قالت: (فأخذتها فعلمتها) . المقصود: أن الحياء المذموم هو الذي يصدك عن معرفة أحكام الله تبارك وتعالى، أما فيما دون ذلك، فإن الحياء محمود وقد حدث عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحياء كله خير) ، فقال بشير بن كعب: يا أبا نجيد! إننا نقرأ في الكتب أن منه ضعفاً، فغضب عمران غضباً شديداً، وقال: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدثني عن كتبك، وأبى أن يحدثهم، فما زالوا يقولون: يا أبا نجيد! ، إنه طيب الهوى، إنه كذا وكذا، حتى سكن ورضي. في بعض الروايات فقال: إن منه وقاراً وإن منه حكمة، فغضب عمران. فإذا كان الحياء منه وقارا ومنه حكمة؛ فما الذي يُغضِب عمران في المسألة؟ القول الذي ورد في الطريق الآخر: إن منه ضعفاً. والحياء فعلاً منه ضعف، كالرجل الذي يستحيي حتى تضيع حقوقه، فهذا نوع من الضعف، إذاً ما الذي أغضب عمران رضي الله عنه؟ أغضبه أن هذا المتكلم جعل هذا معارضةً لكلام النبي صلى الله عليه وسلم، هذا هو الذي أغضب عمران رضي الله عنه. النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الحياء كله خير،) و (كل) من صيغ العموم، ومن أقوى صيغ العموم، فإذا جاء أحد وقال: إن منه ضعفاً. فكأنه يستدرك على النبي عليه الصلاة والسلام، الذي قال: كله. فقال هذا: ليس كله، بل منه ضعف، فهذا هو الذي أغضب عمران، أنه جعل قول الناس في مقابل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، مهما كان كلامه صحيحا. إذاً: (الحياء كله خير) ، أما قوله: وإن منه ضعفاً، فإنه يمكن أن يكون منه ضعف ولكن ليس في مقابل الحديث، فقد يكون منه ضعف في حالة ما إذا كان هناك رجل يستحيي أن يسأل عن حكم الله عز وجل في مسألة من المسائل، حتى يضيع عليه هذا الحكم، فهذا ضعف بلا شك، وهذا هو النوع المذموم من الحياء، فـ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لما نظر إلى أسنان الناس استحيا، فقال لأبيه عمر بعد ذلك: (وقع في نفسي أنها النخلة، فلما نظرت إلى أسنان القوم استحييت، قال: أما لو قلتها لكان أحب إلي من كذا وكذا) أو (أحب إلي من حمر النعم) ، كما عند ابن حبان. قول عمر: (أما لو قلتها لكان أحب إلي من كذا وكذا) لأن ابنه عبد الله لو تكلم بهذا مع صغر سنه في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، ربما حصّل دعوةً صالحة، وربما قال النبي صلى الله عليه وسلم: زادك الله فهماً، وكانت هذه شهادة من النبي عليه الصلاة والسلام، وهي شهادة عظيمة.

استماع النبي صلى الله عليه وسلم لرؤيا الصحابة وتفسيره لها

استماع النبي صلى الله عليه وسلم لرؤيا الصحابة وتفسيره لها وابن عمر نفسه سعى لمثلها، كما عند البخاري وغيره عن ابن عمر قال: (كنت شاباً عزباً أبيت في المسجد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فكان الناس يرون رؤى فيقصونها على النبي صلى الله عليه وسلم، فيؤولها لهم) ، وكما حصل لـ عبد الله بن سلام، قال قيس بن عباد: (كنت في حلقة فيها سعد بن مالك وابن عمر، فمر عبد الله بن سلام فقالوا: هذا رجل من أهل الجنة، فقلت له: إنهم قالوا كذا وكذا، فقال: سبحان الله! ما كان ينبغي لهم أن يقولوا ما ليس لهم به علم، إنما رأيت كأنما عمود وضع في روضة خضراء، فنصب فيها وفي رأسها عروة، وفي أسفلها منصف -والمنصف الرصيف- فقيل: ارقه، فرقيت حتى أخذت بالعروة، فقصصتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يموت عبد الله وهو آخذ بالعروة الوثقى ... ) . فهي بشارة عظيمة، ولما رأى نفسه على فسطاط (خيمة) في مكان مزروع أو نحوه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أنت تموت على الإسلام) ، فيا لها من بشارة من النبي عليه الصلاة والسلام يقولها لـ عبد الله بن سلام! وانظر إلى ورع الصحابة وخوفهم، فرغم أنه قال له: (أنت على الإسلام حتى تموت) ، إلا أنه كان خائفاً جداً أن لا يدخل الجنة، فقد كان عبد الله بن سلام غنياً، وكان عنده أعبد، أي: خدم كثير، فرأوه مرةً في السوق يحمل شيئاً على كتفه، فقالوا له: أنت لديك خدم كثير وأعبد، فلماذا تحمل هكذا؟ قال: إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرةٍ من كبر) ، فكأنه وجد في نفسه شيئاً، فقام يحمل على ظهره. إذاً: نحن محتاجون ما بين الفينة والأخرى أن نفعل كما فعل هذا الصحابي الجليل، وأن نتواضع، فـ عبد الله بن سلام عندما حدّث نفسه بشيء قام وحمل الكيس على أكتافه، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (أنت تموت على الإسلام) . وكان عبد الله بن عمر يسمع مثل هذه الشهادات النبوية ويتمنى أن تكون هناك له بشارة. ففي يوم من الأيام قال: لو كان فيَّ خير لرأيت رؤيا، فنام في تلك الليلة ورأى رؤيا، لكنها مزعجة، رأى أن ملكين يأخذانه إلى النار، وسحباه وأوقفاه على شفير النار، قال: فإذا هي مطويةٌ كالبئر، وفيها أناس عرفتهم معلقون من أرجلهم، فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار، أعوذ بالله من النار، فجاء ملكٌ فأخذني منهما وقال: لم ترع -أي لا تخف-. فاستيقظ عند هذا القدر من الرؤيا، فاستحيا أن يقصها على النبي صلى الله عليه وسلم، فقصها على أخته حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها، فقصتها حفصة على النبي عليه الصلاة والسلام، فقال عليه الصلاة والسلام: (عبد الله رجل صالح) ، جاءه ما يريد، وفي اللفظ الآخر قال: (نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل) ، فكان عبد الله لا ينام من الليل إلا قليلاً. مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو كان يقوم من الليل) ، يعني: أي قدر من الليل يقومه. فلا تحرم نفسك أن تظفر بأجر القائمين ولو بركعتين ولو بالمعوذتين، وقد يتعذّر شخص ويقول: إن قيام الليل طويل، وأنا عندي عمل، وأستيقظ في الصباح مبكراً. لا يا أخي!! لا تحرم نفسك، وقد تخسر العون الإلهي.

توجيه النبي صلى الله عليه وسلم لابنته إلى ما ينفعها

توجيه النبي صلى الله عليه وسلم لابنته إلى ما ينفعها النبي عليه الصلاة والسلام لما جاءته فاطمة رضي الله عنها، وكانت فاطمة رضي الله عنها تدق النوى، أما نساؤنا في هذه الأيام فتقول: اشتروا غسالة آلية. وكذا، ولا ينقصهن إلا أن نأتي لهن بتمثال آلي يقطِّع (الكوسة) ويطبخ لهن وغير ذلك، ويأتي الواحد من خارج المنزل ومع ذلك يجد الأكل غير جاهز ماذا تعمل طوال النهار وعندها كل شيء؟! ومع ذلك تشتكي، وتقول: أنا متعبة، وأعمل طوال النهار! فهذه فاطمة رضي الله عنها والتي هي ريحانة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمرأة الوفية المجدة المطيعة، كانت تدق النوى لفرس علي، وفم الفرس يستغرق ثلاثة كيلو في اللقمة الواحدة، فكم ستدق لكي يأكل الفرس؟ ستدق عشرة إلى خمسة عشر كيلو، وهذا يحتاج إلى جهد، حتى إن يديها تشققت من كثرة دق النوى، واستعمال الرحا، فلما جاء عبيد من البحرين، قال لها علي بن أبي طالب: لقد وصل أعْبُد من البحرين، فذهبي إلى أبيك، وقولي له: نريد خادماً. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحبها جداً جداً، ولذلك قال: (إن فاطمة بضعة مني، يريبني ما أرابها ويؤذيني ما آذاها) ، فلما ذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وطلبت منه خادماً ثم أوصاها هي وعلي فقال لهما: (ألا أدلكما على ما هو خير لكما من خادم؟ إذا أويتما إلى فراشكما فسبحا ثلاثاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين، وكبرا أربعاً وثلاثين) . فالمؤمن عندما يأوي إلى فراشه بعد تعب النهار ويقول هذه الأذكار، فإن الله عز وجل يذهب التعب عن بدنه ويقوم وهو نشيط، والإنسان عندما يعمل بنفسه أفضل من أن يأمر غيره وإن كان مطيعاً؛ لأن الحاجة إلى الناس ذل، فمهما كان من تأمره مطيعاً، فإن هذا لونٌ من ألوان الذل، فأنت عندما تباشر حاجتك بنفسك وأنت مستغن عن الناس أفضل، وهو خيرٌ لك من خادم.

حرص عمر على ثناء النبي صلى الله عليه وسلم

حرص عمر على ثناء النبي صلى الله عليه وسلم فالقصد من هذا: أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان حريصاً على أن يصل إلى هذه المرتبة، أن يأخذ شهادة من النبي عليه الصلاة والسلام، فالنبي صلى الله عليه وسلم ما أمره أن يقوم الليل كله، إنما قال: (لو كان يقوم من الليل) ، أي: بعض الليل، فـ عبد الله رضي الله عنه كان لا ينام من الليل إلا قليلاً. فلا تحرم نفسك أي عمل من أعمال البر، مثل قيام الليل، فقيام الليل عمل مبارك، ولو بركعتين، ولو بالمعوذتين، وحين يصير قيام الليل سجيةً لك، فستطيل قيام الليل دون مشقة، فقد تقرأ في الركعتين ربعاً، وقد تصلي أربع ركعات أو أكثر، حتى يصير أمراً مألوفاً عندك. وعمر بن الخطاب رضي الله عنه تمنى أن تظهر نجابة ابنه أمام النبي عليه الصلاة والسلام؛ لعله يظفر بدعوةٍ من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وقول عمر رضي الله عنه: (لو كنت قلتها لكان أحب إلي من كذا وكذا) ، فيه إشارةٌ إلى أن الآباء يحبون لأبنائهم أكثر مما يحبونه لأنفسهم، وهذه مسألة واضحة عند الناس، ومعلوم أن الأب دائماً يتمنى لابنه الأفضل والأحسن والأجمل. في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، في الحديث الذي أوله: (لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة) ، فمن ضمن هؤلاء الثلاثة: (وبينا صبي يرضع من أمه فمر رجل راكب على دابة فارهة وشارة حسنة) ، قديماً لم يكن هناك سيارات، فالرجل كان يركب فرساً، وتحيط به قليل من الحمير عند الزفة، فهذا الذي له شارة أي: رجل له مكانه وقدر عند الناس، فقالت الأم: (اللهم اجعل ابني مثل هذا) ، فترك الولد ثديها وقال: (اللهم لا تجعلني مثله) ، ثم أقبل على الثدي يرضع. قال أبو هريرة: (كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يمص إصبعه) ، وضع النبي صلى الله عليه وسلم إصبعه هكذا في فمه ورضع، مع أن الصحابة كانوا يعرفون كيف يرضع الولد، لكن النبي صلى الله عليه وسلم برغم وضوح الصورة إلا أنه أراد أن يمثلها حتى لو كان أمراً بدهياً، فإن هذا يساعد على استحضار المعنى، حتى لو كنت عالماً. فالنبي عليه الصلاة والسلام أخذ أصبعه يمصه كما يمص الصبي، فقالت الأم: (مه) ، أي: ما الذي تقوله يا بني؟ (ثم مروا بجارية وهم يضربونها ويقولون: زنيت سرقت، وهي تقول: حسبي الله ونعم الوكيل، فقالت أمه: اللهم لا تجعل ابني مثلها ... ) . إلى آخر الحديث. فالقصد من هذا الاستطراد: أن هذا الغلام الذي أنطقه الله تبارك وتعالى، علَّم أمه.

غالب الآباء عقبة أمام التزام الأبناء ونصيحتهم

غالب الآباء عقبة أمام التزام الأبناء ونصيحتهم لذلك نقول للآباء دائماً: لا تجبر ولدك على الابتعاد عن طريق الله عز وجل، فإن كثيراً من الشباب يشتكي أن أباه يجبره على أن يقبل عملاً في المكان الفلاني، والعمل فيه حرام، ومع ذلك يجبره أبوه أن يدخل في ذلك العمل، هذا أب يضيع ابنه، مع أن المفروض أن الأب يحرص على نجاة ولده. وسأذكر شيئاً مما حدث لي، حتى أقوي قلب الذي تورط في مثل ما كنت سأتورط فيه قبل ذلك. عندما تخرجت من كلية الألسن، وضغط عليَّ الأهل أن أعمل مرشداً سياحياً، لأن المرشد السياحي في تلك الأيام كان مرتبه كبيراً، قد يصل إلى أربعة ألاف جنيه، وهذا كان سنة تسعة وسبعين، أيام كان الجنية اسمه: (لحلوح) ، والأربعة الآلاف تساوي أربعين ألفاً هذه الأيام؛ لأن المكتب يعطيك تسعمائة جنيه، ثم المجموعة التي ترافقها وتحدثهم عن (خفرع) و (خوفوا) ، وخاصة عندما تكون ظريفاً وخفيفاً، فإنهم يعطونك من تلقاء أنفسهم، كل واحد يعطيك عدداً من الدولارات، والرجل الذي هو رأسهم يشكرك في آخر الجولة، ويقول لك: خذ هذا المبلغ شكراً منا على الجهود التي بذلتها معنا، وعلى حسب المجموعة التي تذهب معهم، فإن كانوا ذا مال كثير، فسيكون حظك جيداً، ثم بعد ذلك تأخذهم إلى خان الخليلي -حيث الخيانة! ٍ- وتحصل على خمسة وعشرين في المائة من المبيعات أو أكثر؛ لأن القارورة العطر التي بخمسة عشر جنيهاً يتم بيعها بثلاثمائة جنيه، بحجة أن (خوفوا) كان يتعطر بها، و (منقرع) كان يحبها، وأنت تتحدث وتوافقهم أن (خوفوا) مثلاً كان يتعطر بها، وهؤلاء أناس جاءوا ليتسلوا، فمسألة الحقائق والكلام هذا لا تهمهم. فتصور عندما يشترون بأربعة آلاف أو بخمسة آلاف جنيه، وأنت معك خمسة وعشرون في المائة، فكل هذا حين يُجَمَع يصير مبلغاً كبيراً محترماً. فهي مرة واحدة فقط التي ذهبتها، وأول ما رأيت ذلك المنظر تركت العمل مباشرة، فقال الأهل: هذه كارثة؛ لأننا علمناك ونريدك أن تؤدي الدَّين الذي عليك، وتصرف على إخوانك الصغار، وتبني كذا، فكيف تأتي أنت بعد أن سُهِّلت أمورك وتتخلى عن العمل، هذه قلة وفاء، وكان المفروض أن تقوم بالدور. وما إلى ذلك، لكنهم لم يستطيعوا، وكنت دائماً أدعو الله تبارك وتعالى أن يجبرني ويرفع خسيستي، ويعلي كعبي، ويوسع عليَّ في الدنيا؛ حتى أريهم أن الذي يعتمد على الله لا يخيبه، فالدعاء هذا كان دائماً على لساني، وكنت أقوله بحرارة؛ لأنه كان هناك ضغوط كثيرة، وكان هناك كارثة قبل هذه الكارثة، فقد كنت أعمل في الكلية معيداً وفُصِلت، ثم مذيعاً في الإذاعة، ثم تركتها، ثم في الإرشاد السياحي، ثم تركته فشل ذريع، وعلى حسب كلامهم: ما تدخل في مكان إلا وتثبت فشلك فيه، وجاءت قاصمة الظهر -كما يقول العلماء- وهي أنني عُيِّنت في آخر الأمر في وظيفة القوى العاملة، عيِّنت مترجماً فورياً في مكتب محافظ كفر الشيخ. أنور السادات في سبعة وسبعين أعطي المحافظون سلطة رئيس الجمهورية في التعاقد مع الدول، ضرباً للروتين؛ لأن المحافظ الآن عندما يريد أن يعمل حاجة فإنه يرفع تلك الحاجة إلى مجلس الوزراء، كأنه يريد الآلات الفلانية من البلد الفلانية، ومجلس الوزراء سيبُت في المسألة إلخ. فقالوا: حتى نضرب هذا الروتين، كل محافظة لها ميزانيتها، والمحافظ يعتبر مثل رئيس الجمهورية فيما يتعلق بالميزانية الخاصة بالمحافظة، فهم يحتاجون إلى مترجم لكل لغة من اللغات الحية في مكتب كل محافظ، فما ذهبت إلى هناك حتى قُضي الأمر، وقد كنت اشتغلت في هذا المجال الذي أنا أشتغل فيه الآن، وما استطعت تركه، فقد كنت مجبراً، وأحببت هذا الطريق جداً وصرت مثل المسحور، لا أستطيع أن أتراجع ولا خطوة، ثم أكرمني ربي سبحانه وتعالى، ووسّع علي في الدنيا توسعة أسأل الله أن يعينني على شكره تبارك وتعالى وعلى حمده. لقد تركت أشياء كان بالإمكان بعد عشرين سنة في المهنة أن أكون الآن رئيس شبكة الإذاعة مثلاً، أو أن أكون وزيراً للإعلام، أو غير ذلك، ومع ذلك منَّ الله عز وجل عليَّ وله الحمد في الأولى والآخرة، فأنا عندما أذكر هذا تحدثاً بنعمة الله تبارك وتعالى، وحتى أقوي قلوب الآباء، وأقوي الأبناء على أن يتخذوا القرار في أن يختاروا ما يرضي الله تبارك وتعالى، وإن أَغضب أهل الأرض جميعاً، وسينصرك الله ويعلي كعبك، ويرفع قدرك. فيا أيها الآباء! لا ينبغي لكم إن كنتم تحبون أبناءكم أن تحيدوا بأبنائكم عن طريق الله سبحانه وتعال؛ لأن على الآباء بما أنهم مفطورون على محبة الولد، أن يحبوا لأبنائهم أكثر مما يحبونه لأنفسهم. فنحن نرجع الآباء إلى هذا الأصل، في كون الأبوين يحبان الابن أكثر من محبتهما لأنفسهما، فهل من تمام هذه المحبة أن يدخله النار؟ أو أن يعرضه لسخط الله عز وجل؟ لا فطالما أنك تحب ابنك فلا تعرضه لسخط الله، واعلم أنك لن تزيد من قدرك، ولن تخرج مما قدره الله لك، فليكن قلبك قوياً، وضع في حسابك أنك لن تموت إلا وقد استوفيت رزقك وأجلك، فنريد أن نترجم هذا الكلام النظري إلى واقع عملي، أول ما ينشرح صدرك لهذا الكلام ترى الدنيا على حقيقتها، ولا يضرك ما فاتك منها. عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما استحيا ابنه عبد الله بن عمر عن أن يقول هذا في حضرة النبي عليه الصلاة والسلام، تمنى أن يقولها ويخسر الدنيا كلها انظر إلى حقارة الدنيا! هي في نظر عمر لا تساوي إجابة مسألة أمام النبي صلى الله عليه وسلم، ولو خير عمر رضي الله عنه بين أن تكون الدنيا جميعاً في كفّه، وبين أن يجيب عبد الله بن عمر أمام النبي صلى الله عليه وسلم فيدعو له بالبركة أو يثني عليه في كفة؛ لاختار أن يجيب ابنه، لأن الصحابة كانت حياتهم كلها إيمانية، أعينهم دائماً تطل على الآخرة، ليس عندهم النظر الموجود عند المسلمين الآن.

حقارة الدنيا وعظمة الجنة

حقارة الدنيا وعظمة الجنة يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لموضع سوط أحدكم في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها) ، وحين تضع العصا على الأرض كم ستأخذ مساحة؟! إذاً الدنيا وما فيها لا تساوي موضع سوط في الجنة. فموضع سوط في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها، انظر إلى حقارة الدنيا! وسأخبرك بشيء آخر أيضاً ليس عن موضع السوط، بل عن آخر رجل يخرج من النار ويدخل الجنة يكون له ملك في الجنة كالدنيا عشر مرات هذا بعدما يأخذ جزاءه نظير تفريطه في الدنيا، ثم يخرج من النار فيقول الله سبحانه وتعالى: ادخل الجنة، فيأتي ليدخلها فيقول: يا رب! وجدتها ملأى، لا يوجد فيها مكان. وفي الحديث الصحيح أن الله عز وجل بعدما يعطي لكل واحد ملكه في الجنة، والجنة ما يزال فيها أماكن شاغرة، فينشئ لها خلقاً لكي يملئوها -كما في الصحيحين- فيأتي هذا الرجل ليدخل فيرجع ويقول: رب! وجدتها ملأى، فيقول له: أيرضيك أن يكون لك مُلْك مَلِكٍ من أهل الدنيا؟ فيقول: رب رضيت. فيقول له: ادخل الجنة ولك عشرة أمثاله) . وفي الصحيحين أيضاً أنه لما قال له: ادخل الجنة ولك مثل الدنيا، قال: أتستهزئ بي وأنت رب العالمي؟! فضحك النبي عليه الصلاة والسلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (ألا تسألوني ممّ ضحكت؟ قالوا: ممَّ ضحكت؟ قال: من ضحك ربي حين قال له: أتستهزئ بي وأنت رب العالمين؟ فيقول: ما أستهزئ بك ولكني على ما أشاء قادر، ادخل الجنة ولك عشرة أمثالها) ، فإذا كان آخر واحد سيدخل الجنة، له عشرة أمثال الدنيا فكم يساوي من الأسواط؟!!! أظن أن العملية واضحة جداً، تخيل عندما يكون موضع سوطٍ في الجنة خيراً من الدنيا وما فيها، وأقل واحد له ملك في الجنة مثل الدنيا عشر مرات. فأنت تقول لابنك: ادخل السياحة والفنادق لكي نتمتع ونعيش!! لقد أضررت بولدك؛ إذ عرضته لعذاب الله سبحانه وتعالى، إذاً: من الأصول المعروفة أن الوالد يتمنى لابنه أكثر مما يتمنى لنفسه، والوالد الذي يدفع ابنه إلى معاصي الله سبحانه وتعالى يكره ابنه ولا يحبه، وقد ضرب الله عز وجل مثلاً لأمثال هؤلاء، قال تعالى: {يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ} [المعارج:11] ، الأب الذي يحب أولاده وارتشى لأجلهم، وركب الحرام لأجلهم، في ذلك الوقت يريد أن يدخلهم النار مكانه: {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وإذا لم يَكْتَفِ بهم: {وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ} [المعارج:11-12] ، يقول: خذو زوجتي وأخي، وإذا لم يكونوا كافين: {وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ} [المعارج:13] ، يدخل أهله كلهم النار فداءً له، وإذا كان هؤلاء غير كافين: {وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [المعارج:14] ، يريد أن يدخل أهل الأرض كلهم النار فداءً له، لكن الله عز وجل قال له: {كَلَّا} [المعارج:15] ، انتهى الأمر. فـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأن نظرته إلى الآخرة، والموازين عنده منضبطة، يقول: لو أن الدنيا كلها في كفة وإجابتك أمام النبي صلى الله عليه وسلم في كفة لاخترت إجابتك على الدنيا. قال: (أما لو قلتها، لكان أحب إلي من كذا وكذا) وكلمة (كذا وكذا) تعني كل شيء تتخيله، فهذا درسٌ نتعلمه. وانظر إلى تعظيم أمر الله ورسوله وتعظيم الآخرة عند عبد الله بن عمر، لماذا؟ لأن أباه عمر بن الخطاب، فهو قدوته بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. رأيت مرة في المصيف شخصاً متجهاً إلى المسجد ليصلي الجمعة بسروال قصير، وهو يقول لابنه: انظر يا بني إلى كرم ربنا، حيث جعل الجمعة ركعتين لأجل هذا الحر أأنت تصلي الجمعة في الشتاء أربع ركعات؟ إن هذا الرجل لا يعرف شيئاً، فإذا كان هذا هو حال الأب، فماذا سيكون حال ابنه؟! وأب آخر يقول لابنه: نحن آخر مرة صلينا الجمعة متى؟ فقال: يوم الأربعاء! وهو يسأله بجدية، فإذا كان الأب هكذا، فكيف سيكون الابن؟! لذلك نحن عندما نقول: لا بد من جيل التمكين، فلا بد أن يكون الأب ملتزماً، لا يتعدى حدود الله، أما الذي يتعدى حدود الله، فإنه لم يشكر المنعم عليه، وتجده مع ذلك مجداً في مخالفته إن هذا رجل خسيس؛ لأنه مخالف لأمر ربه، ومع ذلك يمهله الله ويعذره، ويمد له الحبل أيضاً، وكلما مد له الحبل اغتر فأتى أبواباً من العصيان لم يفعلها قبل ذلك. وأنت تعرف الإنسان الوفي من الخسيس، وذلك عندما تنظر إليه كيف هو مع طاعة الله عز وجل، مهما كان ظريفاً في الدنيا، ومهما كان إنساناً جيداً، فانتبه أول ما تأتي المماحكة بينك وبينه سيضعك تحت رجليه، فهو إنسان جيد ومبتسم وظريف لأنه لا يوجد بينكم مماحكات، إذاً العاصي لربه تبارك وتعالى يجب أن تحذر منه، فأنت لست أغلى من الله تبارك وتعالى عنده. إذاً: الأب لا بد أن يورِّث ولداً يشرِّفه، فيكون الأب دائماً مهتماً بالآخرة. جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عائشة رضي الله عنها في يوم الأضحى أن توزع لحم الشاة، وعائشة رضي الله عنها كانت سخية، فوزعت الشاة كلها ما عدا الذراع، فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم عليها، سألها هل وزّعت الشاة أم لا؟ فقالت: نعم يا رسول الله! وزعتها ولم يبق إلا ذراعها، فقال: (بل بقيت كلها إلا ذراعها) . لاحظ كيف كان نظر النبي صلى الله عليه وسلم مصوباً نحو الآخرة، وذلك عندما قال: (بل بقيت كلها إلا ذراعها) . فنقول للآباء: إذا كنت فعلاً تحب ابنك، وتتمنى أن يكون أحسن منك، فانظر إلى والدك: هل علّمك محبة الله ورسوله؟ ستجد في الغالب أن الوالد مقصِّر؛ بسبب النظام الشمولي الذي كان موجوداً. إذاً: لو أنك تحب ولدك حقاً اجعله عبداً لله تبارك وتعالى، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.

§1/1